الكتاب: شرح السير الكبير المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483هـ) الناشر: الشركة الشرقية للإعلانات الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1971م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- شرح السير الكبير السرخسي الكتاب: شرح السير الكبير المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483هـ) الناشر: الشركة الشرقية للإعلانات الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1971م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [مُقَدِّمَةُ الشَّارِحِ] قَالَ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: اعْلَمْ بِأَنَّ السِّيَرَ الْكَبِيرَ آخِرُ تَصْنِيفٍ صَنَّفَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفِقْهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ أَبُو حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ صَنَّفَهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ الْعِرَاقِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ صَنَّفَهُ بَعْدَ مَا اسْتَحْكَمَتْ النَّفْرَةُ بَيْنَهُمَا، وَكُلَّمَا احْتَاجَ إلَى رِوَايَةِ حَدِيثٍ عَنْهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، وَهُوَ مُرَادُهُ حَيْثُ يَذْكُرُ هَذَا اللَّفْظَ. وَأَصْلُ سَبَبِ تِلْكَ النَّفْرَةِ الْحَسَدُ، عَلَى مَا حَكَى الْمُعَلَّى قَالَ: جَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدٌ فِي مَجْلِسِ أَبِي يُوسُفَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقُلْت لَهُ: مَرَّةً تَقَعُ فِيهِ وَمَرَّةً تُثْنِي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: الرَّجُلُ مَحْسُودٌ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَوَّلِ مَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ كَانَ يَرْكَبُ كُلَّ يَوْمٍ إلَى مَجْلِسِ الْخَلِيفَةِ، فَيَمُرُّ بِهِ طَلَبَةُ الْعِلْمِ، فَيَقُولُ أَبُو يُوسُفَ: إلَى أَيْنَ تَذْهَبُونَ؟ فَيُقَالُ لَهُ: إلَى مَجْلِسِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَبَلَغَ مِنْ قَدْرِ مُحَمَّدٍ أَنْ يُخْتَلَفَ إلَيْهِ؟ وَاَللَّهِ لَأُفَقِّهَنَّ حَجَّامِي بَغْدَادَ وَبَقَّالِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وَعَقَدَ مَجْلِسَ الْإِمْلَاءِ لِذَلِكَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُوَاظِبٌ عَلَى الدَّرْسِ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ حَالِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَأَى الْفُقَهَاءَ يَمُرُّونَ بِهِ بُكْرَةً فَقَالَ: إلَى أَيْنَ؟ فَقَالُوا: إلَى مَجْلِسِ مُحَمَّدٍ. قَالَ: اذْهَبُوا فَإِنَّ الْفَتَى مَحْسُودٌ. وَسَبَبُهَا الْخَاصُّ مَا حُكِيَ أَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدٌ فِي مَجْلِسِ الْخَلِيفَةِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ. فَخَافَ أَبُو يُوسُفَ أَنْ يُقَرِّبَهُ، فَخَلَا بِهِ فَقَالَ: أَتَرْغَبُ فِي قَضَاءِ مِصْرَ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَا غَرَضُك فِي هَذَا؟ فَقَالَ: قَدْ ظَهَرَ عِلْمُنَا بِالْعِرَاقِ فَأُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ بِمِصْرَ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَتَّى أَنْظُرَ. وَشَاوَرَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابَهُ، فَقَالُوا: لَيْسَ غَرَضُهُ قَضَاءَكَ وَلَكِنْ يُرِيدُ أَنْ يُنَحِّيَك عَنْ بَابِ الْخَلِيفَةِ. ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا يُوسُفَ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَهُ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ بِهِ دَاءً لَا يَصْلُحُ مَعَهُ لِمَجْلِسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدَامَةُ الْجُلُوسِ. قَالَ الْخَلِيفَةُ: نَأْذَنُ لَهُ بِالْقِيَامِ عِنْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ خَلَا بِمُحَمَّدٍ وَقَالَ: إنَّ أَمِيرَ الْمُومِنِينَ يَدْعُوك. وَهُوَ رَجُلٌ مَلُولٌ فَلَا تُطِلْ الْجُلُوسَ عِنْدَهُ. فَإِذَا أَشَرْت إلَيْك فَقُمْ. ثُمَّ أَدْخَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَاسْتَحْسَنَ الْخَلِيفَةُ لِقَاءَهُ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا جَمَالٍ وَكَلَامٍ وَاسْتَحْسَنَ كَلَامَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ. فَفِي خِلَالِ ذَلِكَ الْكَلَامِ أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ أَنْ قُمْ. فَقَطَعَ الْكَلَامَ وَخَرَجَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ هَذَا الدَّاءُ لَكُنَّا نَتَجَمَّلُ بِهِ فِي مَجْلِسِنَا. فَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِمَ خَرَجْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ فَقَالَ: قَدْ كُنْت أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَقُومَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَكِنَّ يَعْقُوبَ كَانَ (13 آ) أُسْتَاذِي فَكَرِهْت مُخَالَفَتَهُ. ثُمَّ وَقَفَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا فَعَلَهُ أَبُو يُوسُفَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ الدُّنْيَا مَا نَسَبَنِي إلَيْهِ. فَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ فِيهِ. وَلِذَلِكَ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَلَمَّا مَاتَ أَبُو يُوسُفَ لَمْ يَخْرُجْ مُحَمَّدٌ إلَى جِنَازَتِهِ. وَقِيلَ إنَّمَا لَمْ يَخْرُجْ اسْتِحْيَاءً مِنْ النَّاسِ، فَإِنَّ جَوَارِي أَبِي يُوسُفَ كُنَّ يُعَرِّضْنَ بِهِ فِيمَا يَبْكِينَهُ، عَلَى مَا يُحْكَى أَنَّ جَوَارِيَهُ كُنَّ يَقُلْنَ عِنْدَ الِاجْتِيَازِ بِبَابِ مُحَمَّدٍ: الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يَحْسُدُنَا ... الْيَوْمَ نَتْبَعُ مَنْ كَانُوا لَنَا تَبَعًا الْيَوْمَ نَخْضَعُ لِلْأَقْوَامِ كُلِّهِمْ ... الْيَوْمَ نُظْهِرُ مِنَّا الْحُزْنَ وَالْجَزَعَا فَهَذَا بَيَانُ سَبَبِ النَّفْرَةِ. فَأَمَّا سَبَبُ تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ السِّيَرَ الصَّغِيرَ وَقَعَ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرو الْأَوْزَاعِيِّ عَالِمِ أَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الْكِتَابُ؟ فَقَالَ: لِمُحَمَّدٍ الْعِرَاقِيِّ. فَقَالَ: وَمَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالتَّصْنِيفِ فِي هَذَا الْبَابِ؟ فَإِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالسَّيْرِ. وَمَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ كَانَتْ مِنْ جَانِبِ الشَّامِ وَالْحِجَازِ دُونَ الْعِرَاقِ. فَإِنَّهَا مُحْدَثَةٌ فَتْحًا. فَبَلَغَ مَقَالَةُ الْأَوْزَاعِيِّ مُحَمَّدًا فَغَاظَهُ ذَلِكَ وَفَرَّغَ نَفْسَهُ حَتَّى صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ. فَحَكَى أَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ فِيهِ الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: لَوْلَا مَا ضَمَّنَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَقُلْت إنَّهُ يَضَعُ الْعِلْمَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. وَإِنَّ اللَّهَ عَيَّنَ جِهَةَ إصَابَةِ الْجَوَابِ فِي رَأْيِهِ. صَدَقَ اللَّهُ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] (*) . ثُمَّ أَمَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُكْتَبَ هَذَا الْكِتَابُ فِي سِتِّينَ دَفْتَرًا، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى عَجَلَةٍ إلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ. فَقِيلَ لِلْخَلِيفَةِ: قَدْ صَنَّفَ مُحَمَّدٌ كِتَابًا يُحْمَلُ عَلَى   (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: يناقش الشيخ محمد أبو زهرة وغيره من الباحثين هذا السبب لتأليف الكتاب ويرده؛ إذ لا مجال لتصديقه، لأن الإمام الأوزاعي توفي سنة (157هـ) والإمام محمد ولد سنة (132هـ) فيكون الأوزاعي قد توفي ومحمد عمره خمس وعشرون سنة، ومكث محمد نحو اثنتين وثلاثين سنة لا يؤلف، إذ إنه توفي سنة (189) أي بعد الأوزاعي باثنتين وثلاثين سنة، وهذا غير معقول ولا مقبول، ولا يتفق مع تاريخ الكتاب ولا مع حياة محمد - رضى الله عنه -. وعلى ذلك فإن كلام السرخسي عن سبب تأليف الكتاب غير مقبول. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الْعَجَلَةِ إلَى الْبَابِ. فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَعَدَّهُ مِنْ مَفَاخِرِ أَيَّامِهِ. فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِ ازْدَادَ إعْجَابُهُ بِهِ. ثُمَّ بَعَثَ أَوْلَادَهُ إلَى مَجْلِسِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِيَسْمَعُوا مِنْهُ هَذَا الْكِتَابَ وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ الْقَزْوِينِيُّ مُؤَدِّبَ أَوْلَادِ الْخَلِيفَةِ، فَكَانَ يَحْضُرُ مَعَهُمْ لِيَحْفَظَهُمْ كَالرَّقِيبِ، فَسَمِعَ الْكِتَابَ. ثُمَّ اتَّفَقَ أَنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الرُّوَاةِ إلَّا إسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ، فَهُمَا رَوَيَا عَنْهُ هَذَا الْكِتَابَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 [سَنَدُ السَّرَخْسِيِّ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْحَلْوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ: أَنَا الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ الْخَضِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّسَفِيُّ، أَنَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَأَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الْخَطِيبُ الْمُهَلَّبِيُّ قَالَا: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَارِثِيُّ قَالَ: ثِنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ دَاوُد السَّمْنَانِيُّ، ثِنَا أَبُو إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ الْقَزْوِينِيُّ، ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: كُنَّا نَقْرَأُ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى أَبْوَابِ الْأَمَانِ تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَرَأْنَاهُ عَلَى الْخَطِيبِ الْمُهَلَّبِيِّ، فَإِلَى أَبْوَابِ الْأَمَانِ الرِّوَايَةُ عَنْهُمَا وَالْبَاقِي عَنْ الْخَطِيبِ. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَخْبَرَنَا بِهِ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّغْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ قَالَ: ثِنَا الْحَاكِمُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْكُفِينِيُّ، ثِنَا الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، ثِنَا أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ جَمِّ بْنِ عِصْمَةَ الْبَلْخِيُّ، أَنَا نَصْرُ بْنُ يَحْيَى، أَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَخْبَرَنَا بِهِ الشَّيْخُ الصَّالِحُ الثِّقَةُ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَزَّارُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ قَالَ: أَنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَرَّاقُ قَالَ: أَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إشْكَابَ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْقَزْوِينِيُّ، ثِنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ الْقَزْوِينِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: ثِنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 [فَضِيلَة الرِّبَاط] 1 - عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ رَابَطَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ لَهُ كَصِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ. وَمَنْ قُبِضَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أُجِيرَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى سَلْمَانَ فَهُوَ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ مَقَادِيرَ أَجْزِيَةِ الْأَعْمَالِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ بَلْ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا التَّوْقِيفُ. 2 - وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا: عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ مَرَّ بِشُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ. وَهُوَ مُرَابِطُ قَلْعَةٍ بِأَرْضِ فَارِسَ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُك بِحَدِيثٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ لَكَ عَوْنًا عَلَى مَنْزِلِك هَذَا؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَرِبَاطُ يَوْمٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ. وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ مُرَابِطٌ أُجِيرَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَنُمِّيَ لَهُ عَمَلُهُ كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ حَدِيثٌ مِنْهُمْ فَتَارَةً كَانَ يَرْوِيهِ وَتَارَةً كَانَ يُفْتِي بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْوِي، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَالْمُرَابَطَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُقَامِ فِي ثَغْرِ الْعَدُوِّ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَدَفْعِ شَرِّ الْمُشْرِكِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ (14 آ) . وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ رَبَطَ الْخَيْلَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فَالْمُسْلِمُ يَرْبِطُ خَيْلَهُ حَيْثُ يَسْكُنُ مِنْ الثَّغْرِ لِيُرْهِبَ الْعَدُوَّ بِهِ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ عَدُوُّهُ. وَلِهَذَا سُمِّيَ مُرَابَطَةً، لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ غَالِبًا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الرِّبَاطُ رِبَاطًا لِلْمَوْضِعِ الْمَبْنِيِّ فِي الْمَفَازَةِ لِيَسْكُنَهُ النَّاسُ لِيَأْمَنَ الْمَارَّةُ بِهِمْ مِنْ شَرِّ اللُّصُوصِ. وَجُعِلَ رِبَاطُ يَوْمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَصِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ. 3 - وَقَدْ رُوِيَ بَعْدَ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ فَإِنَّهُ رُوِيَ: عَنْ مَكْحُولٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي وَجَدْت غَارًا فِي الْجَبَلِ فَأَعْجَبَنِي أَنْ أَتَعَبَّدَ فِيهِ وَأُصَلِّيَ حَتَّى يَأْتِيَنِي قَدَرِي. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَمُقَامُ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ سِتِّينَ سَنَةً فِي أَهْلِهِ» . وَهَذَا التَّفَاوُتُ إمَّا بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ، فَكُلَّمَا كَانَ الْخَوْفُ أَكْثَرَ كَانَ الثَّوَابُ فِي الْمُقَامِ أَكْثَرَ. أَوْ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِ بِمُقَامِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ هَذَا الثَّوَابِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِعَمَلِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أَوْ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْأَوْقَاتِ فِي الْفَضِيلَةِ، وَبَيَانُهُ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ مَكْحُولٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ صِيَامِ نَهَارِهَا وَقِيَامِ لَيْلهَا. وَلَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ سَنَةٍ صِيَامِ نَهَارِهَا وَقِيَامِ لَيْلِهَا. وَمَنْ قُتِلَ مُجَاهِدًا وَمَاتَ مُرَابِطًا فَحَرَامٌ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لَحْمَهُ وَدَمَهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَحَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَزَوْجَتَهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَحَتَّى يُشَفَّعَ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَيُجْرَى لَهُ أَجْرُ الرِّبَاطِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَفِي قَوْلِهِ: «أُجِيرَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ» دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَذَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] أَيْ عَذَّبُوا. وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ. يَقُولُ الرَّجُلُ: فَتَنْت الذَّهَبَ إذَا أَدْخَلَهُ النَّارَ لِيَخْتَبِرَهُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] (14 ب) أَيْ لَا يُبْتَلَوْنَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَفَتَنَّاك فُتُونًا} [طه: 40] وقَوْله تَعَالَى: {إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُك} [الأعراف: 155] بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ أَيْضًا. وَمِنْهُ يُقَالُ: فَتَّانَا الْقَبْرِ؛ لِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، فَإِنَّهُمَا يَخْتَبِرَانِ صَاحِبَ الْقَبْرِ بِالسُّؤَالِ عَنْ إيمَانِهِ. وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِ: «أُجِيرَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ» أَيْ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ. فَكُلُّ أَحَدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 يُبْتَلَى بِهَذَا إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا سُوِّيَ التُّرَابُ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ فَارْتَجَّ الْبَقِيعُ بِالتَّكْبِيرِ. فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ؛ فَقَالَ: إنَّهُ ضَغَطَهُ الْقَبْرُ ضَغْطَةً اخْتَلَفَتْ مِنْهَا أَضْلَاعُهُ، ثُمَّ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ لَنَجَا هَذَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ» . وَلَكِنْ فِي حَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: تِلْكَ الضَّغْطَةُ لِلْمُؤْمِنِ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدَةِ الشَّفِيقَةِ يَشْكُو إلَيْهَا ابْنُهَا الْبَارُّ بِهَا الصُّدَاعَ، فَتَضَعُ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهِ تَغْمِزُهُ، وَهِيَ لِلْمُنَافِقِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ تَحْتَ الصَّخْرَةِ» . وَمَعْنَى هَذَا الْوَعْدِ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يُؤَمِّنُ الْمُسْلِمِينَ بِعَمَلِهِ فَيُجَازَى فِي قَبْرِهِ بِالْأَمْنِ مِمَّا يَخَافُ مِنْهُ. أَوْ لَمَّا اخْتَارَ فِي حَيَاتِهِ الْمُقَامَ فِي أَرْضِ الْخَوْفِ وَالْوَحْشَةِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ يُجَازَى بِدَفْعِ الْخَوْفِ وَالْوَحْشَةِ عَنْهُ فِي الْقَبْرِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّائِمِينَ إذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْتَوْنَ بِالْمَوَائِدِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ عِطَاشٌ فِي الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُمْ اخْتَارُوا الْجُوعَ وَالْعَطَشَ فِي الدُّنْيَا فَجَازَاهُمْ اللَّهُ بِإِعْطَاءِ الْمَوَائِدِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: «وَأَجْرَى عَلَيْهِ عَمَلَهُ وَنَمَّى لَهُ عَمَلَهُ» فَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَجَّةً مَبْرُورَةً فِي كُلِّ سَنَةٍ» . فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا لِأَنَّهُ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَابِطِ إلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا فِيمَا يُجْرَى لَهُ فِي الثَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ كَانَ بِنِيَّتِهِ اسْتِدَامَةُ الرِّبَاطِ لَوْ بَقِيَ حَيًّا إلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا، وَالثَّوَابُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ. قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . 4 - وَرَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: حَارِسٌ يَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَرْضِ خَوْفٍ لَعَلَّهُ لَا يَئُوبُ إلَى أَهْلِهِ أَوْ رَحْلِهِ» . فِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى الْحِرَاسَةِ لِلْغُزَاةِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، فَقَدْ جَعَلَ لَيْلَةَ الْحَارِسِ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (15 آ) . وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَارِسَ يَسْعَى لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّذِي يُحْيِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ يَسْعَى فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمُقَامُ سَاعَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ إحْيَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ لَا تَمْسَسْهَا نَارُ جَهَنَّمَ: عَيْنٌ فُقِئَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَوْلُهُ: «لَا يَئُوبُ إلَى أَهْلِهِ» . أَيْ يُسْتَشْهَدُ فِي وَجْهِهِ فَلَا يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْحَارِسَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِدَرَجَةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَا بَاعَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَخْبَرَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعُدَتْ مِنْهُ جَهَنَّمُ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ عَامًا لِلرَّاكِبِ الْمُجِدِّ لَا يَفْتُرُ وَلَا يُعَرِّسُ. لَا يَفْتُرُ أَيْ لَا يَضْعُفُ، وَلَا يُعَرِّسُ أَيْ لَا يَنْزِلُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَهُوَ التَّعْرِيسُ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْجِهَادِ، فَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا سَبِيلُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يُبْتَغَى بِهَا رِضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى. غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْجِهَادُ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ. عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ: أَحْمَزُهَا» ، أَيْ أَشُقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي قَهْرِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ. وَمَا رُوِيَ " عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْمَشْيِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ. فَذَلِكَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجِدَالِ فِي الْحَجِّ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا سَاءَ خُلُقُهُ وَجَادَلَ رَفِيقَهُ وَالْجِدَالُ فِي الْحَجِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَأَمَّا إذَا أَمِنَ ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ. ثُمَّ بَيَّنَ مَسَافَةَ تَبْعِيدِ جَهَنَّمَ خَمْسِينَ عَامًا. 6 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ السُّلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى بُوعِدَ مِنْ النَّارِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَفِي هَذَا اللَّفْظِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْإِجْرَاءُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ جَهَنَّمَ تَبْعُدُ مِنْهُ. وَيُؤَيَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102] . لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّبْعِيدِ الْأَمْنُ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ جَهَنَّمَ كَانَ آمِنًا مِنْهَا. وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي التَّقْدِيرِ بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي نِيَّةِ الْمُجَاهِدِ (15 ب) أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي بَيَانِ تَبْعِيدِ جَهَنَّمَ مِنْهُ لَا حَقِيقَةَ الْمَسَافَةِ، وَذِكْرُ السَّبْعِينَ وَالْخَمْسِينَ وَالْمِائَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَأَيَّدَ هَذَا قَوْله تَعَالَى {إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] . 7 - وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَهْتِفُ بِأَهْلِ مَكَّةَ فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ يَا أَهْلَ الْبَلْدَةِ أَلَا الْتَمِسُوا الْأَضْعَافَ الْمُضَاعَفَةَ فِي الْجُنُودِ الْمُجَنَّدَةِ وَالْجُيُوشِ السَّائِرَةِ. أَلَا وَإِنَّ لَكُمْ الْعُشْرَ وَلَهُمْ الْأَضْعَافُ الْمُضَاعَفَةُ. وَهَذِهِ خُطْبَةُ الِاسْتِنْفَارِ لِتَحْرِيضِ النَّاسِ عَلَى الْجِهَادِ. وَقَدْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاطِنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَحْرِيضِ أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ تَقَاعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ بِمَكَّةَ مَشْرُوعٌ، يَنَالُ بِهَا الثَّوَابُ. أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: أَلَا إنَّ لَكُمْ الْعُشْرَ، وَلَكِنَّ الثَّوَابَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْظَمُ، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ بِبَيَانِ تَحْصِيلِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ لِكَيْ لَا يَتَخَلَّفُوا عَنْ الْجِهَادِ مُتَعَمِّدِينَ عَلَى أَنَّهُمْ جِيرَانُ بَيْتِ اللَّهِ وَسُكَّانُ حَرَمِهِ. وَاعْتَمَدَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْأَضْعَافِ الْمُضَاعَفَةِ عَلَى قَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 261] . إلَى قَوْلِهِ: {وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَوْعُودًا لِمَنْ يُنْفِقُ الْمَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنْ يَبْذُلُ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ أَوْلَى. وَاَلَّذِي يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَرِهَ الْمُجَاوَرَةَ بِمَكَّةَ، فَتَأْوِيلُهُ مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَنْ كَثُرَ مُقَامُهُ بِمَكَّةَ يَهُونُ الْبَيْتِ فِي عَيْنِهِ لِكَثْرَةِ مَا يَرَاهُ، أَوْ لِكَيْ لَا يُبْتَلَى فِي الْحَرَمِ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] . 8 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى شِرْعَةٍ مِنْ الْإِسْلَامِ حَسَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ شَرِيعَةٍ مِنْ الْإِسْلَامِ (16 آ) ، هُمْ فِيهَا لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرُونَ وَعَلَيْهِمْ ظَاهِرُونَ، مَا لَمْ يَصْبُغُوا الشَّعْرَ وَيَلْبَسُوا الْمُعَصْفَرَ وَيُشَارِكُوا الَّذِينَ كَفَرُوا فِي صَغَارِهِمْ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا قَمِنًا أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْهُمْ عَدُوُّهُمْ. فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ النُّصْرَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا دَامُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْجِهَادِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] . وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ إذَا اشْتَغَلُوا بِالدُّنْيَا وَاتَّبَعُوا اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْجِهَادِ يَظْفَرُ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " كَانُوا قَمِنًا " أَيْ خَلِيقًا وَجَدِيرًا. ثُمَّ كَنَّى عَنْ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ بِأَنْ يَصْبُغُوا الشَّعْرَ، يُرِيدُ بِهِ () الْخِضَابَ لِتَرْغِيبِ النِّسَاءِ فِيهِمْ. فَأَمَّا نَفْسُ الْخِضَابِ فَغَيْرُ مَذْمُومٍ بَلْ هُوَ مِنْ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» . وَقَالَ الرَّاوِي: رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِحْيَتُهُ كَأَنَّهَا ضِرَامُ عَرْفَجٍ، بِنَصْبِ الْعَيْنِ وَرَفْعِهِ مَرْوِيَّانِ. يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مَخْضُوبَ اللِّحْيَةِ. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْغُزَاةِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْأَعْدَاءِ كَانَ ذَلِكَ مَحْمُودًا مِنْهُ. فَأَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: كَمَا يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا. وَقَوْلُهُ: " وَيَلْبَسُوا الْمُعَصْفَرَ "، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لُبْسَ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ مَكْرُوهٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ، وَعَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ فَإِنَّهَا زِيُّ الشَّيْطَانِ» . وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ: «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ مِلْحَفَةٌ حَمْرَاءُ فَأَعْرَضَ عَنِّي بِوَجْهِهِ، فَذَهَبْت وَأَحْرَقْتهَا، ثُمَّ رَآنِي فَقَالَ: مَا فَعَلْت بِالْمِلْحَفَةِ؟ قُلْت: أَحْرَقْتهَا حِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 رَأَيْتُك أَعْرَضْت عَنِّي، فَقَالَ: هَلَّا أَعْطَيْتهَا بَعْضَ أَهْلِك» ؟ وَمَا رُوِيَ بَعْدَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ «الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْت ذَا لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ كُرِهَ اسْتِعْمَالُهَا لِلرِّجَالِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَمَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ، فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُمْ أَرَادُوهُ لِلْقَضَاءِ مِرَارًا فَلَبِسَ الْمُعَصْفَرَ وَلَعِبَ الشِّطْرَنْجَ وَكَانَ يَخْرُجُ مَعَ الصِّبْيَانِ لِنَظَرِ الْفِيلِ. حَتَّى رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُ فَتَرَكُوهُ. وَقَوْلُهُ: " وَيُشَارِكُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي صَغَارِهِمْ " أَيْ الْتَزَمُوا الْخَرَاجَ وَاشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ. فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ حُجَّةٌ لِمَنْ كَرِهَ الِاشْتِغَالَ بِالزِّرَاعَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَأَى شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ فِي بَيْتِ قَوْمٍ. فَقَالَ: مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا حَتَّى كَرَّ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ» (16) . وَلَكِنَّ تَأْوِيلَهُ عِنْدَنَا إذَا أَعْرَضُوا عَنْ الْجِهَادِ. فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالِاشْتِغَالِ بِالزِّرَاعَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَزْدَرَعَ بِالْجَرْفِ، هُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ. وَلَا بَأْسَ بِالْتِزَامِ الْخَرَاجِ وَتَمَلُّكِ الْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَإِنَّ الصَّغَارَ فِي خَرَاجِ الرُّءُوسِ لَا فِي خَرَاجِ الْأَرَاضِيِ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ كَانَتْ لَهُمْ أَرَاضٍ خَرَاجِيَّةٌ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ، وَكَانُوا يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ مِنْهَا. 9 - وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ هَذَا عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَامَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ خُذُوا بِحَظِّكُمْ مِنْ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَلَا تَرَوْنَ إلَى إخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ مِصْرَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فَوَاَللَّهِ لَيَوْمٌ يَعْمَلُهُ أَحَدُكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ يَعْمَلُهُ فِي بَيْتِهِ صَائِمًا قَائِمًا لَا يُفْطِرُ وَلَا يَفْتُرُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " قَامَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ " يَعْنِي قَامَ خَطِيبًا، وَهَذِهِ أَيْضًا كَانَتْ خُطْبَةَ اسْتِنْفَارٍ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَهْلِ مَكَّةَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَحْلِفَ صَادِقًا بِاَللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَلَفَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْوَعْدِ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ عَيَّرَهُمْ عُثْمَانُ بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ [وَالْعِرَاقِ] ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَقَاعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ، تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ. وَمَعْنَى هَذَا التَّفْصِيلِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْجِهَادِ إعْزَازَ الدِّينِ وَقَهْرَ الْمُشْرِكِينَ وَدَفْعَ شَرِّهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي عَمَلِ مَنْ يُقِيمُ فِي أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ. 10 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا طَاوُسٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَنِي بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ، وَجَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ رُمْحِي أَوْ ظِلِّ رُمْحِي، وَجَعَلَ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «بَعَثَنِي بِالسَّيْفِ» أَيْ بَعَثَنِي بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ وَخُصَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَصِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ: نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ عَيْنَاهُ حَمْرَاوَانِ مِنْ شِدَّةِ الْقِتَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وَفِي صِفَةِ أُمَّتِهِ: أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، وَسُيُوفُهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «السُّيُوفُ أَرْدِيَةُ الْغُزَاةِ» . وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعَةِ سُيُوفٍ: سَيْفٌ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بَاشَرَ بِهِ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ. وَسَيْفٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] فَقَاتَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (17 آ) بَعْدَهُ فِي حَقِّ مَانِعِي الزَّكَاةِ. وَسَيْفٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} [التوبة: 29] إلَى أَنْ قَالَ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَقَاتَلَ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَسَيْفٌ لِقِتَالِ الْمَارِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فَقَاتَلَ بِهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أُمِرْت بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ. وَقَوْلُهُ: " بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ " أَيْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْقِيَامَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} [القمر: 1] وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] فِيمَ السُّؤَالُ عَنْ السَّاعَةِ وَأَنْتَ مِنْ أَشْرَاطِهَا؟ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " وَجَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ رُمْحِي أَوْ ظِلِّ رُمْحِي "، قِيلَ هَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانَ الْغَازِي إذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ فَرَكَزَ رُمْحَهُ عِنْدَ قَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُضِيفُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحَ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُغَرِّمَهُمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ» . وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ حِلُّ الْغَنَائِمِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّهَا [مَا] كَانَتْ تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُصِّصَتْ بِخَمْسٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا حِلَّ الْغَنَائِمِ. وَلَمْ يُرِدْ بِالظِّلِّ حَقِيقَةَ الظِّلِّ، لَكِنْ أَرَادَ بِهِ الْأَمَانَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. يُرِيدُ بِهِ الْأَمَانَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي» أَيْ ذُلُّ الشِّرْكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فَهَذَا بَيَانُ الذُّلِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الصَّغَارِ صَغَارُ الْجِزْيَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَقَوْلُهُ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» ، أَيْ تَشَبَّهَ بِالْمُجَاهِدِينَ فِي الْخُرُوجِ مَعَهُمْ وَالسَّعْيِ فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِمْ وَتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ، فَيَكُونُ مِنْهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ» . فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ. 11 - وَذُكِرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ «لَمَّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كَانَ أَوَّلَنَا فُصُولًا وَآخِرَنَا قُفُولًا، وَكَانَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا» فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ بِمَا هُوَ فِيهِ. وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِذِكْرِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " أَوَّلَنَا فُصُولًا " أَيْ مِنْ الصَّفِّ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُبَارَزَة " وَآخِرُنَا قُفُولًا " أَيْ رُجُوعًا عَنْ الْقِتَالِ، فَبَيَّنَ شِدَّةَ رَغْبَتِهِ فِي الْجِهَادِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] . وَبَيَّنَ شِدَّةَ صَبْرِهِ عَلَى الْقِتَالِ حَيْثُ (17 ب) كَانَ آخِرَهُمْ رُجُوعًا. وَهُوَ صِفَةُ مَدْحٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، أَيْ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الْقِتَالِ كَانَ يَحْفَظُ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَهُوَ أَشَقُّ مَا يَكُونُ عَلَى الْمُجَاهِدِ، وَهُوَ صِفَةُ مَدْحٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] . وَجَاءَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] أَنَّهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي وَقْتِهَا. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يُجِيز الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ، وَالْجِهَادُ أَبَدًا يَكُونُ فِي حَالِ مَا يَكُونُ مُسَافِرًا. وَمَعَ هَذَا مَدَحَهُ عَلَى مُحَافَظَةِ الصَّلَوَاتِ فِي وَقْتِهَا، وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ جَائِزًا لَمَا اسْتَقَامَ ذَلِكَ. 12 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ مَعْبَدِ قَالَ: إذَا زَرَعَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ نُزِعَ مِنْهُمْ النَّصْرُ وَقُذِفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبُ. وَرُوِيَ بَعْدَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى: {إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149] أَهُوَ التَّعَرُّبُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الزَّرْعُ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ. فَتَأْوِيلُ الْأَوَّلِ: إذَا زَرَعَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 يَعْنِي إذَا اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْجِهَادِ أَصْلًا نُزِعَ مِنْهُمْ النَّصْرُ. فَأَمَّا إذَا اشْتَغَلَ الْبَعْضُ بِالزِّرَاعَةِ وَالْبَعْضُ بِالْجِهَادِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَتَقَوَّى الْمُقَاتِلُ بِمَا يَكْتَسِبُهُ الزَّارِعُ وَيَأْمَنَ الزَّارِعُ [بِمَا] يَذُبُّ الْمُقَاتِلُ عَنْهُ. قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وَهَذَا لِأَنَّ الْكُلَّ إذَا اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ لَا يَتَفَرَّغُونَ لِلْكَسْبِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى مَا يَأْكُلُونَ وَيَعْلِفُونَ دَوَابَّهُمْ، فَلَا يَجِدُونَ فَيَعْجِزُونَ عَنْ الْجِهَادِ، فَيَعُودُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ. ثُمَّ فَهِمُوا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ التَّعَرُّبَ. وَهُوَ الْمُقَامُ بِالْبَادِيَةِ وَتَرْكُ الْهِجْرَةِ لِلْقِتَالِ. وَكَأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97] فَبَيَّنَ لَهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجِهَادِ بِالِاشْتِغَالِ بِالزِّرَاعَةِ، وَأَيَّدَ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْله تَعَالَى: {إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 149] وَهَذَا لِأَنَّ طَاعَةَ الْكُفَّارِ فِيمَا يَطْلُبُونَ مِنَّا، وَهُمْ يَطْلُبُونَ مِنَّا الْإِعْرَاضَ عَنْ الْجِهَادِ لَا نَفْسَ الزِّرَاعَةِ. 13 - وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ «أَنَّ رَجُلًا وَضَعَ قَرْنًا لَهُ، أَيْ جَعْبَةً، وَقَامَ يُصَلِّي. فَاحْتَمَلَ رَجُلٌ قَرْنَهُ. فَلَمَّا انْصَرَفَ نَظَرَ فَلَمْ يَرَ قَرْنَهُ، فَأَفْزَعَهُ ذَلِكَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» . مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي: فَاحْتَلَّ، أَيْ حَلَّهُ لِيُخْرِجَ بَعْضَ مَا فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 يَرْوِي فَاحْتُلَّ بِمَعْنَى احْتَالَ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ رَفَعَهُ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ. وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (18 آ) أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْمِزَاحِ لَا عَلَى قَصْدِ السَّرِقَةِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ حِينَ لَمْ يَرَ قَرْنَهُ أَفْزَعَهُ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي مَازَحَهُ هُوَ الَّذِي أَفْزَعَهُ. فَقَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» . فِيهِ بَيَانُ عِظَمِ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِظَمِ حُرْمَةِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي نَظِيرِهِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ: عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا سَلَّ سَيْفَهُ عَلَى رَجُلٍ فَجَعَلَ يُفَرِّقُهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ: لَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ حَتَّى غَمَدَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَغْمَدَهُ. يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ أَرَادَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَهُوَ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ وِزْرِ مَنْ رَوَّعَ مُسْلِمًا بِأَنْ شَهَرَ عَلَيْهِ سِلَاحًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَضْرِبَهُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ شَهَرَ سِلَاحًا عَلَى مُسْلِمٍ فَقَدْ أَطَلَّ دَمَهُ» . أَيْ أَهْدَرَهُ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ، إشَارَةً إلَى هَذَا. فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِ، وَإِنَّمَا يَلْعَنُونَهُ إذَا تَبَدَّلَتْ صِفَتُهُ. فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا قَتْلَ الْمُسْلِمِ فَيَصِيرُ كَافِرًا أَوْ قَاصِدًا قَتْلَهُ لِإِيمَانِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 قَالَ: وَذُكِرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ. مَا مِنْ رَجُلٍ يُخَالِفُ إلَى امْرَأَةِ رَجُلٍ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ إلَّا وَقَدْ وَقَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا خَانَك فِي أَهْلِك، فَخُذْ مِنْ عَمَلِهِ مَا شِئْت. فَمَا ظَنُّكُمْ؟» : فِيهِ بَيَانُ عِظَمِ حُرْمَةِ الْمُجَاهِدِينَ، لِأَنَّ زِيَادَةَ حُرْمَةِ النِّسَاءِ لِزِيَادَةِ حُرْمَةِ الْأَزْوَاجِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] . وَفِي قَوْله تَعَالَى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] . ثُمَّ إِن مَا اسْتَحَقَّ هَذَا الْوَعِيدَ لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ وَجَعَلَ أَهْلَهُ أَمَانَةً عِنْدَ الْقَاعِدِ، وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا خَانَ فِي أَهْلِهِ فَقَدْ خَانَ فِي أَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ سَعَى إلَى قَطْعِ الْجِهَادِ. لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَخُونُهُ فِي أَهْلِهِ لَا يَخْرُجُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَنَّ حِفْظَ أَهْلِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عَيْنًا، وَالْقِتَالُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ عَيْنًا، وَمَتَى لَمْ يَخْرُجْ يَنْقَطِعُ الْجِهَادُ فَيَكُونُ هُوَ سَاعِيًا فِي قَطْعِ الْجِهَادِ وَتَقْوِيَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ يُحَكَّمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَمَلِهِ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ. ثُمَّ قَالَ: " مَا ظَنُّكُمْ "، يَعْنِي أَتَظُنُّونَ أَنَّهُ يُبْقِي لَهُ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَبَيَانُ هَذَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (18 ب) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تُؤْذُوا الْمُجَاهِدِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْضَبُ لَهُمْ كَمَا يَغْضَبُ لِلْمُرْسَلِينَ وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ كَمَا يَسْتَجِيبُ لِلْمُرْسَلِينَ. وَمَنْ آذَى مُجَاهِدًا فِي أَهْلِهِ فَمَأْوَاهُ النَّارُ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْهَا إلَّا شَفَاعَةُ الْمُجَاهِدِ لَهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ» . 15 - قَالَ وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةٌ، وَرَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ» . وَمَعْنَى الرَّهْبَانِيَّةِ هُوَ التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ وَتَرْكُ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلِ الدُّنْيَا. وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ بِالِاعْتِزَالِ عَنْ النَّاسِ وَالْمُقَامِ فِي الصَّوَامِعِ. فَقَدْ كَانَتْ الْعُزْلَةُ فِيهِمْ أَفْضَلُ مِنْ الْعِشْرَةِ. ثُمَّ نَفَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ» . وَبَيَّنَ طَرِيقَ الرَّهْبَانِيَّةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْجِهَادِ، لِأَنَّ فِيهِ الْعِشْرَةَ مَعَ النَّاسِ، وَالتَّفَرُّغَ عَنْ عَمَلِ الدُّنْيَا، وَالِاشْتِغَالَ بِمَا هُوَ سَنَامُ الدِّينِ. فَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْجِهَادَ سَنَامَ الدِّينِ. وَفِيهِ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَهُوَ صِفَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِ تَعَرُّضٌ لِأَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ. فَكَانَ أَقْوَى وُجُوهِ الرَّهْبَانِيَّةِ. 16 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَامَ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ إلَّا الْفَرَائِضَ» . يُرِيدُ بِهِ الْفَرَائِضَ الَّتِي يَثْبُتُ فَرْضُهَا عَيْنًا، وَهِيَ الْأَرْكَانُ الْخَمْسَةُ. وَالْجِهَادُ فَرْضٌ أَيْضًا لَكِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَالثَّوَابُ بِحَسَبِ وَكَادَةِ الْفَرِيضَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فَمَا يَكُونُ فَرْضًا عَيْنًا فَهُوَ أَقْوَى، فَلِهَذَا اسْتَثْنَى الْفَرَائِضَ مِنْ جُمْلَةِ مَا فَضَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْجِهَادَ عَلَيْهِ. «قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَلْ ذَاكَ مُكَفِّرٌ عَنْهُ خَطَايَاهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ سَاعَةً حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ. إذَا قُتِلَ مُحْتَسِبًا صَابِرًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهِ، كَمَا زَعَمَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» . فِيهِ بَيَانُ عُلُوِّ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَالشَّهَادَةِ حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ [الشَّهَادَةَ] سَبَبًا لِتَمْحِيصِ الْخَطَايَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اُسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَوَّلُ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهِ تُغْفَرُ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ، وَبِالْقَطْرَةِ الثَّانِيَةِ يُكْسَى حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، وَبِالْقَطْرَةِ الثَّالِثَةِ يُزَوَّجُ الْحُورَ الْعِينَ» . وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ إلَّا الدَّيْنَ» وَمِنْ عُلُوِّ حَالِ الشُّهَدَاءِ مَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ أُحُدٍ إنَّ اللَّهَ جَعَلَ أَرْوَاحَ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ إخْوَانِكُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ. فَلَمَّا أَصَابُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ قَالُوا: (19 أ) لَيْتَ إخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَجِدُّونَ فِي الْجِهَادِ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إنِّي مُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ» . وَهُوَ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] . ثُمَّ هَذِهِ الدَّرَجَةُ لِلشَّهِيدِ إذَا كَانَ رَاغِبًا فِيهَا وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَسِبًا صَابِرًا مُقْبِلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ شِدَّةِ الْأَمْرِ فِي مَظَالِمِ الْعِبَادِ. فَإِنَّهُ مَعَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لِلشَّهِيدِ بَيَّنَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالدَّيْنِ، وَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَنْ وَحْيٍ فَإِنَّهُ قَالَ: «كَمَا زَعَمَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» لِيُعْلِمَ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ رِضَا الْخَصْمِ. وَقِيلَ: هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الِاسْتِدَانَةِ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ قَضَائِهِ. وَلِهَذَا كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَيِّتٍ مَدْيُونٍ لَمْ يَخْلُفْ مَا لَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَهُوَ عَلَيَّ» . وَقَدْ وَرَدَ نَظِيرُ هَذَا فِي الْحَجِّ، «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعَا لِأُمَّتِهِ بِعَرَفَاتٍ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا الْمَظَالِمَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. ثُمَّ دَعَا بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ صَبِيحَةَ الْجَمْعِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ حَتَّى الْمَظَالِمَ. وَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُخْبِرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي عَنْ بَعْضِهِمْ حَقَّ بَعْضٍ» . فَلَا يَبْعُدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّهِيدِ الْمَدْيُونِ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ دَخَلَ فِيهِ بَعْضُ الْيُسْرِ. 17 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ يُرِيدُ عَرَضَ الدُّنْيَا. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا أَجْرَ لَهُ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ لَعَلَّكَ لَمْ تُفْقِهْهُ، أَيْ لَمْ تُفْهِمْهُ. فَقَالَ: رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضَ الدُّنْيَا. فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ ثُمَّ أَعَادَ ثَالِثًا، فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلسَّائِلِ أَنْ يُكَرِّرَ السُّؤَالَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُجِيبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أَنْ يَضْجَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَرَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَكْرَارَ السُّؤَالِ، وَالصَّحَابَةُ أَمَرُوهُ بِالْإِعَادَةِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعَظِّمِينَ لَهُ، وَكَانُوا لَا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا فِي تَرْكِ تَعْظِيمِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي إعَادَةِ السُّؤَالِ تَرْكُ التَّعْظِيمِ. ثُمَّ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَرَى الْخَارِجُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ الْجِهَادَ وَمُرَادُهُ فِي الْحَقِيقَةِ إصَابَةُ الْمَالِ. فَهَذَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا لَا أَجْرَ لَهُ. أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ وَيَكُونُ مُعْظَمُ مَقْصُودِهِ تَحْصِيلَ الْمَالِ فِي الدُّنْيَا، لَا نَيْلَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي حَالِ مِثْلِهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» . «وَقَالَ لِلَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْجِهَادِ بِدِينَارَيْنِ: إنَّمَا لَك دِينَارَاكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْظَمُ مَقْصُودِهِ الْجِهَادَ وَهُوَ يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (19 ب) : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يَعْنِي التِّجَارَةَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ. فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَحْرُمُ ثَوَابُ الْحَجِّ فَهَاهُنَا لَا يَحْرُمُ ثَوَابُ الْجِهَادِ. 18 - وَقَالَ: وَعَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: أَتَيْت أَبَا الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُلْت: رَجُلٌ أَوْصَى إلَيَّ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ وَصِيَّتَهُ حَيْثُ تَأْمُرُنِي. فَقَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا لَكُنْت أَضَعُهَا فِي الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَضَعَهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَإِنَّمَا مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي إذَا شَبِعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ صَحِيحَةٌ بِأَنْ تَقُولَ لِلْوَصِيِّ: ضَعْ ثُلُثَ مَالِي حَيْثُ أَحْبَبْت أَوْ حَيْثُ أَحَبَّهُ فُلَانٌ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى فُقَرَاءِ الْمُجَاهِدِينَ أَوْلَى مِنْ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمْ. لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ وَالْجِهَادَ بِالْمَالِ، وَإِيصَالَ مَنْفَعَةِ ذَلِكَ إلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِدَفْعِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ بِقُوَّتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَنَالُ هَذَا الْمُوصِي [مِنْ الثَّوَابِ] مَا كَانَ يَنَالُهُ إنْ لَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ. لِأَنَّ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يُنْفِقُ الْمَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى: مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَقَدْ زَالَتْ حَاجَتُهُ بِمَوْتِهِ. فَهُوَ كَاَلَّذِي يُهْدِي إذَا شَبِعَ. وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ، لَا حَتَّى إذَا بَلَغْت هَذِهِ - وَأَشَارَ إلَى التَّرَاقِي - قُلْت: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا. لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَقُلْ» . 19 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ أَوْ لَمْ يُعِنْ مُجَاهِدًا أَوْ لَمْ يَخْلُفْهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَتْهُ قَارِعَةٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْقَارِعَةُ هِيَ الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا يَحْتَمِلُهَا الْمَرْءُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31] الْآيَةَ. وَفِي هَذَا بَيَانُ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ، وَنَيْلِ الثَّوَابِ بِالْإِعَانَةِ لِلْمُجَاهِدِ، وَعِظَمِ وِزْرِ مَنْ خَانَ الْمُجَاهِدَ فِي أَهْلِهِ. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ الثَّلَاثَةَ يَعْنِي تَرْكَ الْجِهَادِ، وَتَرْكَ إعَانَةِ الْمُجَاهِدِينَ، وَالْخِيَانَةَ لِلْمُجَاهِدِ فِي أَهْلِهِ، وَلَا تَجْتَمِعُ إلَّا فِي مُنَافِقٍ. وَالْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ لَائِقٌ بِحَقِّ الْمُنَافِقِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 - قَالَ: وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ رَبُّكُمْ: مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي فَأَنَا عَلَيْهِ ضَامِنٌ أَوْ هُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ، إنْ قَبَضْتُهُ أَدْخَلْته الْجَنَّةَ، وَإِنْ رَجَعْتُهُ رَجَعْته بِمَا أَصَابَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» . وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَفْظُ الضَّمَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ الْمَوْعُودِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْعِبَارَةِ، وَلَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ (20 آ) تَعَالَى ضَمَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّوَسُّعِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَيُقَالُ: إنَّ اللَّهَ ضَمِنَ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ، أَوْ يُقَالُ: رِزْقُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ وَعَدَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. 21 - قَالَ: وَذَكَر عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: ضَعُفْت عَنْ الْجِهَادِ، وَلِي مَالٌ، فَمُرْنِي بِعَمَلٍ إذَا عَمِلْته كُنْت بِمَنْزِلَةِ الْمُرَابِطِ. قَالَ: مُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأَعِنْ الضَّعِيفَ، وَأَرْشِدْ الْأَخْرَقَ، فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ كُنْت بِمَنْزِلَةِ الْمُرَابِطِ» . فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ عُلُوِّ دَرَجَةِ الْمُرَابِطِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُرْشِدَهُ إلَى مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُرَابِطِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الثَّوَابِ. وَقَدْ أَرْشَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى ذَلِكَ فِيمَا قَالَ، لِأَنَّ الْجِهَادَ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَإِعَانَةُ الضَّعِيفِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَفْعِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، وَإِرْشَادُ الْأَخْرَقِ وَهُوَ الْمُشْرِكُ. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَابِطِ. 22 - قَالَ: وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِيَنِ، وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَكَرِهْتُمْ الْجِهَادَ، ذَلَلْتُمْ حَتَّى يَطْمَعَ فِيكُمْ عَدُوُّكُمْ. الْعِيَنُ جَمْعُ عِينَةٍ وَهُوَ نَوْعُ بَيْعٍ أَحْدَثَهُ الْبُخَلَاءُ مِنْ أَكَلَةِ الرِّبَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ مَحْضِ الرِّبَا. وَقَدْ بَيَّنَّا صُورَتَهُ فِي " الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْبُخْلِ وَتَرْكَ الِانْتِدَابِ إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّرْعُ مِنْ إقْرَاضِ الْمُحْتَاجِ. وَقَوْلُهُ: " وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ "، أَيْ اشْتَغَلْتُمْ بِالزِّرَاعَةِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ أَصْلًا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِطَمَعِ الْعَدُوِّ فِي الْمُسْلِمِينَ وَكَرَّتِهِمْ عَلَيْهِمْ فَيَذِلُّونَ بِذَلِكَ. 23 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ ضَمُرَةَ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «أَعْظَمُ الْقَوْمِ أَجْرًا خَادِمُهُمْ» . وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي خِدْمَةِ الْمُجَاهِدِينَ وَتَعَهُّدِ دَوَابِّهِمْ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْمُجَاهِدِينَ مَعَ اسْتِحْقَاقِ صِفَةِ السِّيَادَةِ فِي الدُّنْيَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سَيِّدُ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ» . هَذَا لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ لَا يَتَفَرَّغُ لِلْجِهَادِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَطْبُخُ وَيَرْبِطُ دَابَّتُهُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ فَيَتَقَاعَدَ عَنْ الْجِهَادِ، فَكَانَ الْخَادِمُ سَبَبًا لِلْجِهَادِ. 24 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَرَدْت الْجِهَادَ فَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ بِرِكَابِي. فَأَبَيْت ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَتَكْرَهُ لِي الْأَجْرَ؟ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنْ خَادِمَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ جِبْرِيلَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ. 25 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ تُبَيْعٍ وَهُوَ ابْنُ امْرَأَةِ كَعْبٍ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: إذَا (20 ب) وَضَعَ الرَّجُلُ رِجْلَهُ فِي السَّفِينَةِ خَرَجَ مِنْ خَطَايَاهُ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. الْمَائِدُ فِيهِ كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْغَرِيقُ فِيهِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدَيْنِ، وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالْمَلِكِ عَلَى رَأْسَهُ التَّاجُ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَبِهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ: لَا بَأْسَ بِغَزْوِ الْبَحْرَ وَهُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ غَيْرِهِ. فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ مُرَادَ كَعْبٍ إذَا رَكِبَ السَّفِينَةَ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ. وَمَا يَقُولُهُ كَعْبٌ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَهُ مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ نَاسِخُهُ فِي شَرِيعَتِنَا، أَوْ يَقُولَهُ سَمَاعًا مِمَّنْ رُوِيَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ثُمَّ] رُكُوبُ السَّفِينَةِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ إنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ أَشَدُّ وَأَخْوَفُ، وَفِيهِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ. فَيَنَالُ بِهِ دَرَجَةَ الشَّهِيدِ فِي تَمْحِيصِ الْخَطَايَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وَقَوْلُهُ: " الْمَائِدُ فِيهِ " يَعْنِي الْمَائِلُ لِمِيلِ السَّفِينَةِ عَنْ تَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ، فَهَذَا كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ بَعْدَ مَا اُسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ مُعَايِنٌ سَبَبَ الْهَلَاكِ، آيِسٌ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. وَالْغَرِيقُ فِيهِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدَيْنِ. لِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ: حِينَ رَكِبَ السَّفِينَةَ وَحِينَ غَرِقَتْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ. وَالصَّابِرُ فِيهِ كَالْمَلِكِ عَلَى رَأْسَهُ التَّاجُ: يَعْنِي إذَا لَمْ يَنْدَمْ عَلَى مَا صَنَعَ مَعَ مَا عَايَنَ مِنْ سَبَبِ الْغَرَقِ، فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَالْمَلِكِ، وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِالْمَلِكِ لِأَنَّ الْمَلِكَ يَنَالُ بَعْضَ شَهَوَاتِهِ وَالشَّهِيدَ فِي الْجَنَّةِ يَنَالُ كُلَّ شَهَوَاتِهِ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] . وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ رُكُوبِ السَّفِينَةِ لِلْجِهَادِ ثَبَتَ جَوَازُ رُكُوبِهَا لِلْحَجِّ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَقْوَى. وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِرُكُوبِهَا عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ إذَا كَانَ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَلْزَمُهُ فِيمَا يَسْتَفِيدُ مِنْ الْمَالِ. 26 - قَالَ: وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا «عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: غَزَوْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي وَلَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ - وَالصَّائِفَةُ اسْمٌ لِلْجَيْشِ الْعَظِيمِ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي الصَّيْفِ، ثُمَّ يَغْزُونَ إذَا دَخَلَ الْخَرِيفُ وَطَابَ الْهَوَاءُ - قَالَ: فَنَزَلْنَا عَلَى حِصْنِ سِنَانٍ، فَضَيَّقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 النَّاسُ الْمَنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ. فَقَالَ رَجُلٌ: إنِّي غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ كَذَا. فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيًا فِي النَّاسِ: أَلَا مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلَا جِهَادَ لَهُ» . مَعْنَى تَضْيِيقِ الْمَنْزِلِ أَنْ يَنْزِلَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ نُزُولِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ الْمَرْبِطُ وَالْمَطْبَخُ وَمَوْضِعُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَزَلَ بِمَوْضِعٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» . فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِي مَنْزِلِهِ إلَّا بِمَا حَوْلَهُ مِنْ مَوَاضِعِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرِيمًا لِمَنْزِلِهِ، وَكَمَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزْعِجَهُ عَنْ مَنْزِلِهِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُ مَرَافِقَ مَنْزِلِهِ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى قَطْعِ الطَّرِيقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى الْمَمَرِّ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَارَّةُ (21 آ) . ثُمَّ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الزَّجْرِ عَنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ فِي الْوَعِيدِ مَا قَالَ إنَّهُ لَا جِهَادَ لَهُ. أَيْ لَا يَنَالُ مِنْ ثَوَابِ الْمُجَاهِدِينَ مَا يَنَالُهُ مَنْ يَتَحَرَّز عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجِهَادَ شَرْعٌ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْحَالُ مُؤْذٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِهِ. 27 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْكُلَاعِيِّينَ، اسْمُ قَبِيلَةٍ، مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: إيَّاكُمْ وَهَذِهِ السَّرَايَا، فَإِنَّهُمْ يَجْبُنُونَ وَيَغُلُّونَ. وَعَلَيْكُمْ بِفُسْطَاطِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 السَّرِيَّةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ قَلِيلٍ يَدْخُلُونَ أَرْضَ الْحَرْبِ، سُمُّوا سَرِيَّةً لِأَنَّهُمْ يَسْرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ. فَكُرِهَ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَجْبُنُونَ فَيَفِرُّونَ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ، وَيَغُلُّونَ إذَا أَصَابُوا شَيْئًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِ أَمِيرِ مُطَاعٍ فِيهِمْ. وَهَذَا مَرْوًى «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَنْزِلَنَّ فِي الْخَيْلِ النَّفَلُ، يُرْوَى مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، فَإِنَّهُمْ إنْ يَغْنَمُوا يَغُلُّوا وَإِنْ يُقَاتِلُوا يَفِرُّوا» . وَالْمُرَادُ الْعَدَدُ الْقَلِيلُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مُتَلَصِّصِينَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْأَمِيرِ. سَمَّاهُمْ نَفْلًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ النَّفَلُ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَتَنَفَّلُونَ فِي الْخُرُوجِ، فَإِنَّ الْخُرُوجَ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ بِأَمْرِ الْإِمَامِ. وَأَمَّا الْفُسْطَاطُ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجَيْشُ الْعَظِيمُ. سُمِّيَ فُسْطَاطًا وَعَسْكَرًا لِكَثْرَةِ مَا يَسْتَصْحِبُونَهُ مِنْ الْفَسَاطِيطِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْغَازِي أَنْ يَخْتَارَ الْخُرُوجَ مَعَ هَؤُلَاءِ لَا مَعَ أَصْحَابِ السَّرَايَا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» . 28 - وَذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيثَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ وَبَيَانِ دَرَجَةِ الْخَارِجِ لِلْمُبَارِزَةِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْبَابِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. 29 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنْ أُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا، فَأُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا، فَأُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أَشْهَدُ لِلَّهِ أَنَّهُ قَالَ ثَلَاثًا. أَشْهَدُ لِلَّهِ، أَيْ بِاَللَّهِ فِيهِ بَيَانُ دَرَجَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِهِ، وَتَمَنَّى تَكْرَارَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الدَّرَجَاتِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ وَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ فَيَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إلَى الدُّنْيَا. وَلَهُ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا إلَّا الشَّهِيدَ» فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ لِيَسْتَشْهِد ثَانِيًا مِنْ عِظَمِ مَا يَنَالُ مِنْ الدَّرَجَةِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهْتَمًّا فَقَالَ: (21 ب) مَا لَكَ؟ فَقُلْت: اُسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالًا. فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُك يَا جَابِرُ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ أَبَاك كِفَاحًا. أَيْ شِفَاهًا فَقَالَ: تَمَنَّ يَا عَبْدَ اللَّهِ. فَقَالَ: أَتَمَنَّى أَنْ أَحْيَا لِأُقَاتِلَ فِي سَبِيلِك ثَانِيًا فَأُقْتَلَ. فَقَالَ: قَدْ سَبَقَ مِنِّي الْقَضَاءُ بِأَنَّهُمْ إلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ. وَلَكِنِّي أُبَلِّغُك الدَّرَجَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا تَتَمَنَّى مَا تَتَمَنَّى» . 30 - وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ جَيْشًا وَفِيهِمْ ابْنُ رَوَاحَةَ. فَغَدَا الْجَيْشُ وَأَقَامَ ابْنُ رَوَاحَةَ لِيَشْهَدَ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ رَآهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ أَلَمْ تَكُنْ فِي الْجَيْشِ؟ قَالَ: بَلَى. وَلَكِنِّي أَحْبَبْت أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أَشْهَدَ مَعَك الصَّلَاةَ. وَقَدْ عَلِمْت مَنْزِلَهُمْ فَأَرُوحُ فَأُدْرِكُهُمْ. فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْت فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ» . وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْجِهَادِ وَالتَّبْكِيرِ لِلْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي حَقِّ ابْنِ رَوَاحَةَ مَا قَالَ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ أَفْضَلُ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «غَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . فَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا. 31 - وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا خَيْرَ النَّاسِ فَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ. فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالُوا لَهُ: يَقُولُ: يَا خَيْرَ النَّاسِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَدْنُ إلَيَّ، لَسْتُ بِخَيْرِ النَّاسِ. أَلَا أُنَبِّئُك بِخَيْرِ النَّاسِ؟ قَالَ: مَنْ هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ صَاحِبُ صِرْمَةِ إبِلٍ أَوْ غَنَمٍ، قَدِمَ بِإِبِلِهِ أَوْ غَنَمِهِ إلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ فَبَاعَهَا ثُمَّ أَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَ مَسْلَحَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ. فَذَاكَ خَيْرُ النَّاسِ. وَالصِّرْمَةُ هِيَ الْقِطْعَةُ. وَالْمَسْلَحَةُ هِيَ الثَّغْرُ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ السِّلَاحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أَوْ مَنْ يَحْمِلُ السِّلَاحَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُلُ الَّذِي يَحْمِلُ السِّلَاحَ بَيْنَ يَدَيْ السُّلْطَانِ: مَسْلَحَةً. وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ: " لَسْت بِخَيْرِ النَّاسِ، إظْهَارًا لِلتَّوَاضُعِ، فَقَدْ كَانَ هُوَ خَيْرَ النَّاسِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ بَعْدَ وَفَاةِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي حَالِ خِلَافَتِهِ: أَقِيلُونِي فَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ. وَقَدْ كَانَ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنَّمَا جَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَاحِبَ الصِّرْمَةِ خَيْرِ النَّاسِ لِأَنَّهُ بَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ نَفَعَ النَّاسَ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَيْرُ النَّاسِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ (22 آ) فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إلَيْهَا» . ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَإِنِّي أَجْفُو عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْعِلْمِ، فَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك رَسُولُ اللَّهِ: فَقَالَ عُمَرُ: أَلَيْسَ تَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: عَلَيْك بِالْعَلَانِيَةِ وَإِيَّاكَ وَالسِّرَّ. عَلَيْك بِكُلِّ عَمَلٍ إذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ مِنْك لَمْ يَفْضَحْك، وَإِيَّاكَ وَكُلَّ عَمَلٍ إذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ مِنْك شَانَكَ وَفَضَحَك. قَوْلُهُ: " أَجْفُو عَنْ أَشْيَاءَ؛ أَيْ أَجْهَلُ - وَلِهَذَا سُمِّيَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ الْقُرَى وَالْمَفَاوِزَ أَهْلَ الْجَفَاءِ؛ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ. فَبَيَّنَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّا ذَكَرَهُ أَنَّهُ عَالِمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَلَيْسَ بِجَاهِلٍ] . فَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ قَوْله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] وَالْمُرَادُ الْمُومِنُونَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " عَلَيْك بِالْعَلَانِيَةِ "، أَيْ بِسُلُوكِ الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّجَنُّبِ عَنْ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ» . وَالسِّرُّ: مَا لَا يَعْرِفُهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَيْك فِي الصُّحْبَةِ مَعَ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الْعَلَانِيَةِ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يَظْهَرُ لَك مِنْ حَالِهِمْ، وَعَلَيْك فِي مُعَامَلَةِ نَفْسِك بِكُلِّ عَمَلٍ إذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ مِنْك لَمْ يُشِنْكَ، يَعْنِي لَا تَكُونُ سَرِيرَتُك مُخَالِفَةً لِعَلَانِيَتِك، وَمَا كُنْت تَمْتَنِعُ مِنْهُ إذَا كُنْت مَعَ النَّاسِ اسْتِحْيَاءً مِنْهُمْ فَامْتَنَعَ مِنْهُ إذْ خَلَوْت اسْتِحْيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ شَانَهُ اللَّهُ وَفَضَحَهُ. 32 - خَتَمَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَابَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ شَهِيدًا» . يَعْنِي لَهُ مِنْ الثَّوَابِ مَا لِلشَّهِيدِ لِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، صَابِرًا عَلَى الْمُرَابَطَةِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ. وَاَللَّهُ الْمُعِينُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 [بَابُ وَصَايَا الْأُمَرَاءِ فِي بَعَثَ السَّرَايَا] [بَابُ وَصَايَا الْأُمَرَاءِ] 33 - رُوِيَ حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ سَرِيَّةً قَالَ لَهُمْ: اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ» . وَقَدْ بَدَأَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " السِّيَرَ الصَّغِيرَ " بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَوَائِدَ الْحَدِيثِ هُنَاكَ. ثُمَّ بَيَّنَ مَعْنَى قَوْلٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: «وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ» . إنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ بَلْ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِخْفَارِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ. فَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ إعْطَاءُ ذِمَّةِ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ، وَيَتَمَسَّكُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. فَمُقْتَضَى مُطْلَقِ النَّهْيِ حُرْمَةُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَذُكِرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي حَدِيثٍ يَرْوِيهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِطَرِيقِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّتِي، فَذِمَّتِي ذِمَّةُ اللَّهِ» وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُمْ عِنْدَنَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَهُوَ أَنَّهُمْ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى النَّقْضِ (22 ب) لِمَصْلَحَةٍ يَرَوْنَهَا فِي ذَلِكَ. وَإِنْ يَنْقُضُوا عُهُودَهُمْ فَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ. وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 «فَإِنَّكُمْ إنْ تَخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ تَعَالَى» . وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10] وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الذِّمَّةُ لِلْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ مَحَلُّ الِالْتِزَامِ بِالْعَهْدِ. وَالْمُرَادُ بِذِمَمِهِمْ وَذِمَمِ آبَائِهِمْ الْحِلْفُ وَالْمُحَالَفَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَعْنَى الْإِخْفَارِ هُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ يُقَالُ: خَفَرُوا إذَا عَاهَدُوا، وَأَخْفَرُوا إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ. وَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ. وَذَلِكَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ. وَفِي قَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ، وَقَالَ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ: رَجُلٌ أُعْطَى ذِمَّتِي ثُمَّ خَفَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» ، فَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ ذِمَّتِهِ وَلَكِنْ يَحْرُمُ الْغَدْرُ، وَأُمَرَاءُ الْجُيُوشِ كَانُوا يُعْطُونَ الْأَمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. 34 - ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى جَيْشٍ، فَخَرَجَ مَعَهُ يَمْشِي وَهُوَ يُوصِيهِ. فَقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَا الرَّاكِبُ وَأَنْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الْمَاشِي، فَإِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا أَنَا بِاَلَّذِي أَرْكَبُ وَلَا أَنْتَ بِاَلَّذِي تَنْزِلُ إنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الْحَدِيثَ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَغْتَنِمَ الْمَشْيَ فِي تَشْيِيعِ الْغُزَاةِ، عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ، كَمَا فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مَا اجْتَمَعَ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ مُسْلِمٍ» . 35 - وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ بَعْدَ هَذَا حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِطَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ أَتَى بِرَاحِلَتِهِ لِيَرْكَبَ. فَقَالَ: بَلْ أَمْشِي، فَقَادُوا رَاحِلَتَهُ وَهُوَ يَمْشِي، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ وَأَمْسَكَهُمَا بِإِصْبَعَيْهِ رَغْبَةً أَنْ تَغَبَّرَ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «هَذَا اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ شَيَّعَهُ وَمَشَى مَعَهُ مِيلًا أَوْ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ» . وَنَظِيرُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَنَجَائِبُهُ تُقَادُ إلَى جَنْبِهِ. فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَرْكَبُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ فَقَالَ: لَا. إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمْ تَمَسَّهُمَا نَارُ جَهَنَّمَ» (23 آ) . فَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُشَيِّعُ الْحَاجَّ أَوْ الْغُزَاةَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ثُمَّ قَالَ: إنِّي مُوصِيك بِعَشْرٍ فَاحْفَظْهُنَّ: (1) إنَّك سَتَلْقَى أَقْوَامًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ فِي الصَّوَامِعِ، فَذَرْهُمْ وَمَا فَرَّغُوا لَهُ أَنْفُسَهُمْ. وَبِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي أَنَّ أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ لَا يُقْتَلُونَ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ قَتْلِ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ فَرَأَى قَتْلَهُمْ حَسَنًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا إذَا كَانُوا يَنْزِلُونَ إلَى النَّاسِ وَيَصْعَدُ النَّاسُ إلَيْهِمْ فَيَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِمْ فِي الْقِتَالِ يُقْتَلُونَ، فَأَمَّا إذَا أَغْلَقُوا أَبْوَابَ الصَّوَامِعِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ. وَهُوَ الْمُرَادُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِتَرْكِهِمْ الْقِتَالَ أَصْلًا. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُبِيحَ لِلْقَتْلِ شَرُّهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمُحَارَبَةُ، فَإِذَا أَغْلَقُوا الْبَابَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ انْدَفَعَ شَرُّهُمْ مُبَاشَرَةً وَتَسْبِيبًا. فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُمْ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ وَهُمْ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِمْ فَهُمْ مُحَارِبُونَ تَسْبِيبًا فَيُقْتَلُونَ. (2) قَالَ: وَسَتَلْقَى أَقْوَامًا قَدْ حَلَقُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ، فَافْلِقُوهَا بِالسَّيْفِ. وَالْمُرَادُ الشَّمَامِسَةُ، وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَوِيَّةِ فِينَا. وَهُمْ أَوْلَادُ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَقَدْ أَشَارَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِطَرِيقٍ آخَرَ: وَتَرَكُوا شُعُورًا كَالْعَصَائِبِ. يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِمْ فِي الْقِتَالِ وَيَحُثُّونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ، قَتْلُهُمْ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ غَيْرِهِمْ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَقَالَ: فَاضْرِبُوا مَقَاعِدَ الشَّيَاطِينِ مِنْهَا بِالسُّيُوفِ أَيْ فِي أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ الْمَحْلُوقَةِ. وَاَللَّهِ لَأَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أَقْتُلَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ سَبْعِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12] وَالْمُرَادُ بِمَقَاعِد الشَّيَاطِينِ شَعْرُ رُءُوسِهِمْ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الرَّأْسِ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي إقَامَةِ الْحَدِّ: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِي الرَّأْسِ. (3) قَالَ: وَلَا تَقْتُلَنَّ مَوْلُودًا. وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَهُوَ مَوْلُودٌ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الصَّبِيُّ، سَمَّاهُ مَوْلُودًا لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْوِلَادَةِ. وَالْمُرَادُ بِهِ إذَا كَانَ لَا يُقَاتِلُ. فَسَّرَهُ فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ فَقَالَ: لَا تَقْتُلَنَّ صَغِيرًا ضَرْعًا. (4) قَالَ: وَلَا امْرَأَةً. وَالْمُرَادُ بِهِ إذَا كَانَتْ لَا تُقَاتِلُ، عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فَقَالَ: هَاهْ، مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ، أَدْرِكْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا» . (5) قَالَ: وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا. وَفِي رِوَايَةٍ: فَانِيًا. يَعْنِي إذَا كَانَ لَا يُقَاتِلُ، وَلَا رَأَى لَهُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُقَاتِلُ أَوْ يَكُونُ لَهُ رَأْيٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِقَتْلِ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ. وَكَانَ ذَا رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ» ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْفَعُوا الظَّعْنَ إلَى عَلْيَاءِ بِلَادِهِمْ. وَأَنْ يَلْقَى الرِّجَالُ الْعَدُوَّ بِسُيُوفِهِمْ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ. فَلَمْ يَقْبَلُوا رَأْيَهُ. وَقَاتَلُوا مَعَ أَهَالِيِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ انْهِزَامِهِمْ. وَفِيهِ يَقُولُ (23 ب) دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرِجِ اللِّوَى ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ حَتَّى ضُحَى الْغَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فَلَمَّا عَصَوْنِي كُنْت مِنْهُمْ وَقَدْ أَرَى ... غَوَايَتَهُمْ وَأَنَّنِي غَيْرُ مُهْتَدٍ فَلَمَّا كَانَ ذَا الرَّأْيِ فِي الْحَرْبِ قَتَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (6 - 8) وَلَا تَعْقِرَنَّ شَجَرًا بَدَا ثَمَرُهُ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَخْلًا وَلَا تَقْطَعَنَّ كَرْمًا. وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِمَّا يَرْجِعُ إلَى التَّخْرِيبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَسَادٌ، {وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205] ، وَلِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَذْكُرُ هَذَا فِي وَصَايَاهُ لِأُمَرَاءِ السَّرَايَا» . ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَقَالَ فِيهِ: إلَّا شَجَرًا يَضُرُّكُمْ، أَيْ يَحُولُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ قِتَالِ الْعَدُوِّ. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَبِرَ بِمَلَكُوتِ الْأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مُلْكِ آلِ دَاوُد وَأَهْلِ فَارِسَ. فَقَالَ ذَلِكَ النَّبِيُّ: أَمَّا أَهْلُ دَاوُد فَهُمْ أَهْلٌ لِمَا أَكْرَمْتهمْ بِهِ، فَمَنْ أَهْلُ فَارِسَ؟ فَقَالَ: إنَّهُمْ عَمَّرُوا بِلَادِي فَعَاشَ فِيهَا عِبَادِي» . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ السَّعْيَ فِي الْعِمَارَةِ مَحْمُودٌ تَبَيَّنَ أَنَّ السَّعْيَ فِي التَّخْرِيبِ مَذْمُومٌ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَمَّا جَازَ قَتْلُ النُّفُوسِ، وَهُوَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ فَمَا دُونَهُ مِنْ تَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ لَأَنْ يَجُوزَ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] . وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " الْكِتَابِ " بَعْدَ هَذَا: أَنَّهُ عَلِمَ بِإِخْبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ الشَّامَ تُفْتَحُ وَتَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَنَهَاهُمْ عَنْ التَّخْرِيبِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ. عَلَى مَا بَيَّنَهُ بَعْدَ هَذَا. وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْضًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِ ثَقِيفٍ وَفِيهِ مِنْ التَّخْرِيبِ مَا لَا يَخْفَى. (9 - 10) قَالَ: وَلَا تَذْبَحَنَّ بَقَرَةً وَلَا شَاةً، وَلَا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاشِي إلَّا لِأَكْلٍ. لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إلَّا لِأَكْلِهِ» . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَانِمِينَ تَنَاوُلُ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَنَّ ذَبْحَ الْمَأْكُولِ لِلْأَكْلِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. ثُمَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَعَادَ هَذَا الْحَدِيثَ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَلَا تَغُلَّنَّ. وَفِيهِ بَيَانُ حُرْمَةِ الْغُلُولِ، وَهُوَ اسْمٌ لِأَخْذِ بَعْضِ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ سِرًّا لِنَفْسِهِ سِوَى الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْغُلُولُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قَالَ: وَلَا تَجْبُنَنَّ. وَهَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا} [آل عمران: 139] أَيْ وَلَا تَضْعُفُوا عَنْ الْقِتَالِ وَإِظْهَارِ الْغُزَاةِ الْجُبْنَ لِضَعْفِهِمْ عَنْ الْقِتَالِ. قَالَ: وَلَا (24 آ) تُفْسِدَنَّ وَلَا تَعْصِيَنَّ. قِيلَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَعْصِينِي فِيمَا أَمَرْتُك بِهِ، فَفَائِدَةُ الْوَصِيَّةِ إنَّمَا تَظْهَرُ بِالطَّاعَةِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إنْ كُنْت تَطْلُبُ النُّصْرَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَعْصِهِ. 36 - ثُمَّ أَعَادَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحَدِيثَ بِطَرِيقٍ ثَالِثٍ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: لَمَّا جَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْجُيُوشَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ جُيُوشٌ عَلَى بَعْضِهَا أَمَّرَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، وَعَلَى بَعْضِهَا يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَلَى بَعْضِهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَخْرُجُوا وَيَجْتَمِعُوا فِي بِيَارِ بَنِي شُرَحْبِيلَ، وَهِيَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يُعَسْكِرُوا خَارِجًا مِنْ الْبَلْدَةِ فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِيَجْتَمِعُوا فِيهِ، لِأَنَّ ارْتِحَالَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بَعْدَ مَا اجْتَمَعُوا فِيهِ أَيْسَرُ مِنْ ارْتِحَالِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ جُمْلَةً. ثُمَّ أَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ، ثُمَّ قَامَ فِيهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنَّكُمْ تَنْطَلِقُونَ إلَى أَرْضِ الشَّامِ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِعَةٌ (بِالسِّينِ) . وَفَسَّرُوهُ بِكَثْرَةِ السِّبَاعِ الْمُؤْذِيَةِ فِيهَا، وَهُوَ تَصْحِيفُ شُبْعَةٍ أَيْ كَثِيرَةُ النِّعَمِ بِهَا يَشْبَعُ الْمَرْءُ مِنْ كَثْرَةِ مَا يَرَى مِنْ النِّعَمِ، فَكَأَنَّهُ رَغَّبَهُمْ فِي التَّوَجُّهِ إلَيْهَا فَقَالَ إنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ مِنْ الْجُوعِ وَاللَّأْوَاءِ بِالْمَدِينَةِ إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمُخَصَّبَةِ. قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ، وَمُمَكِّنٌ لَكُمْ حَتَّى تَتَّخِذُوا فِيهَا مَسَاجِدَ فَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّكُمْ إنَّمَا تَأْتُونَهَا تَلَهِّيًا. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مَعْرُوفٍ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «إنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَى كُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ» . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ التَّخْرِيبِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا كَرِهَ أَنْ يَأْتُوهَا تَلَهِّيًا لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا لِلْجِهَادِ، وَالْجِهَادُ مِنْ الدِّينِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَرْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام: 70] . قَالَ: وَإِيَّاكُمْ وَالْأَشَرَّ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ لِتَأْشَرُنَّ. وَالْأَشَرُّ: نَوْعُ طُغْيَانٍ يَظْهَرُ لِمَنْ اسْتَغْنَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7] . فَلِهَذَا أَقْسَمَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ يُبْتَلَوْنَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يُصِيبُونَ مِنْ الْأَمْوَالِ مَعَ نَهْيِهِ إيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ مَذْكُورٌ فِي الْأَصْلِ، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ إذَا أَنَا انْصَرَفْت مِنْ مُقَامِي هَذَا فَارْكَبُوا ظُهُورَكُمْ، ثُمَّ صُفُّوا إلَيَّ صَفًّا وَاحِدًا حَتَّى آتِيكُمْ. وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ إذَا عَرَضَ الْجَيْشَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قَالَ: فَمَرَّ عَلَى أَوَّلِهِمْ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهِمْ، يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اقْبِضْهُمْ بِمَا قَبَضْت بِهِ بَنِي إسْرَائِيل (24 ب) بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ. انْطَلَقُوا مَوْعِدُكُمْ اللَّهُ. [وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّهُ حَثَّهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا لَا عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ بِهِ يَتِمُّ، وَدَعَا لَهُمْ بِالشَّهَادَةِ فِي قَوْلِهِ: " اللَّهُمَّ اقْبِضْهُمْ بِمَا قَبَضْت بِهِ بَنِي إسْرَائِيلَ "] . [وَقِيلَ] مُرَادُهُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» . وَقَدْ كَانَ يَكْثُرُ ذَلِكَ بِالشَّامِ. فَسَأَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُمْ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ إنْ اُبْتُلُوا بِذَلِكَ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ لِغَيْرِهِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ دُعَاءً بِالْمَوْتِ صُورَةً فَهُوَ دُعَاءٌ بِالْحَيَاةِ مَعْنًى. وَبَيَّنَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ هَذَا آخِرُ الْعَهْدِ بِلِقَائِهِمْ. فَأَمَّا إنْ كَانَ مُرَادُهُ الْإِخْبَارَ بِقُرْبِ أَجَلِهِ أَوْ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْقَاهُمْ قَبْلَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بِالشَّامِ. وَجَمَعَتْ لَهُمْ الرُّومُ جُمُوعًا عَظِيمَةً مِنْ مَدَائِنِ الشَّامِ. فَحُدِّثَ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَأَرْسَلَ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَهُوَ بِالْعِرَاقِ، أَنْ انْصَرِفْ بِثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ فَأَمِدَّ بِهِمْ إخْوَانَك بِالشَّامِ. ثُمَّ قَالَ: الْعَجَلَ الْعَجَلَ. فَوَاَللَّهِ لَقَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الشَّامِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رُسْتَاقٍ عَظِيمٍ مِنْ الْعِرَاقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنَّهُ إذَا بَلَغَهُ كَثْرَةُ جَمْعِ الْأَعْدَاءِ عَلَى جَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمُدَّهُمْ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ، وَأَنْ يَحُثَّ الْمَدَدَ عَلَى التَّعْجِيلِ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِوُصُولِهِمْ إلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَنْهَزِمُوا. فَالْمُنْهَزِمُ لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ الشَّامَ عَلَى الْعِرَاقِ لِأَنَّ الشَّامَ بَلْدَةٌ مُبَارَكَةٌ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْمُرْسَلِينَ. قَالَ: فَأَقْبَلَ خَالِدٌ مُغِذًّا جَوَادًا بِمِنْ مَعَهُ. يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: " مُغِذًّا " أَيْ مُسْرِعًا مُنْقَادًا لِمَا أَتَى مِنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ، يُقَالُ: أَغَذَّ الْقَوْمُ إذَا أَسْرَعُوا السَّيْرَ. ثُمَّ شَقَّ الْأَرْضَ حَتَّى خَرَجَ إلَى ضُمَيْرٍ وذنبة فَوَجَدَ الْمُسْلِمِينَ مُعَسْكِرِينَ بِالْجَابِيَةِ. قَالَ: فَتَسَامَعَ بِخَالِدٍ أَعْرَابُ الْعَرَبِ الَّذِي كَانُوا فِي مَمْلَكَةِ الرُّومِ فَفَزِعُوا لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بِالْجَلَادَةِ. وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَيْفَ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ قَائِلُهُمْ: شِعْرٌ أَلَا فَأَصْبِحِينَا قَبْلَ خَيْلِ أَبِي بَكْرِ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَمَا نَدْرِي وَقِصَّةُ هَذَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمَغَازِي أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْبَيْتِ كَانَ رَجُلًا مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 عُظَمَاءِ الْمُرْتَدِّينَ أَتَتْهُ جَارِيَتُهُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا شَرَابٌ. فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى حَائِطٍ وَذَكَرَ هَذَا الْبَيْتَ. ثُمَّ جَعَلَ يَشْرَبُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ خَالِدٍ تَسَوَّرَ الْحَائِطَ فَلَمَّا سُمِعَ ضُرِبَ عَلَى عَاتِقِهِ ضَرْبَةً نَدَرَ مِنْهَا رَأْسُهُ فِي الْقَصْعَةِ. قَالَ: فَنَزَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ. وَسَارَتْ الرُّومُ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَحَلَبَ وَقِنَّسْرِينَ وَحِمْصَ وَحَمَاةَ وَخَرَجَ هِرَقْلُ كَارِهًا لِمَسِيرِهِمْ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ أَرْضِ الرُّومِ. وَسَارَ بَاهَانُ فِي الْهَرْمِينِيَّةِ إلَى النَّاسِ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَهِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومُ، وَبَاهَانُ صَاحِبُ جَيْشِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَاجْتَمَعَ أُمَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي خِبَاءٍ يُبْرِمُونَ أَمْرَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ، وَعِنْدَهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ قُضَاعَةُ قَدْ بَعَثُوهُ فَاجْتَسَّ لَهُمْ أَمْرَ الْقَوْمِ، ثُمَّ جَاءَهُمْ فَخَلَوْا بِهِ. أَيْ بَعَثُوهُ جَاسُوسًا. وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يَبْعَثَ (25 آ) جَاسُوسًا يَأْتِيهِ بِمَا يَعْزِمُ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ مِنْ الرَّأْيِ، وَأَنْ يَخْلُوَ بِهِ إذَا رَجَعَ لِكَيْ لَا يَشْتَهِرَ هُوَ، وَلِكَيْ لَا يَقِفَ جَمِيعُ الْجَيْشِ عَلَى مَا قَصَدَهُ الْعَدُوُّ، فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِجُبْنِهِمْ. قَالَ: فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَاهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: وَعَلَيْك السَّلَامُ. لَا تَقْرَبْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّهِمُونَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا كُنْت أَرَى أَنَّ أَعِيشَ حَتَّى أَكُونَ بِحَضْرَةِ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ يُبْرِمُونَ أَمْرَ حَرْبِهِمْ وَأَنَا بَيْنَهُمْ وَلَا يُحْضِرُونِي أَمْرَهُمْ. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ بِالرَّأْيِ فِي الْحَرْبِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَلْ لَكُمْ فِي رَأْيِ شَيْخِكُمْ، فَإِنَّ لَهُ رَأْيًا فِي الْحَرْبِ، قَالُوا: نَعَمْ. فَدَعَوْهُ فَدَخَلَ. فَقَالُوا: أَشِرْ عَلَيْنَا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْتُمْ الْأُمَرَاءُ، فَقَالُوا: مَا بِنَا غِنًى عَنْ رَأْيِك، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَأَنِّي أَرَى فِي الْمَرْجِ تَلًّا عَظِيمًا، قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَرْتَحِلُوا حَتَّى تَجْعَلُوا ذَلِكَ التَّلَّ خَلْفَ ظُهُورِكُمْ، ثُمَّ تُؤَمِّرُوا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى خَيْلٍ، وَتَجْعَلُوا مَعَهُ كُلَّ نَابِضٍ بِوِتْرٍ - أَيْ رَامٍ عَنْ قَوْسٍ - فَإِنَّ لِي بِهِ خَبَرًا - أَيْ عِلْمًا بِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ - فَإِذَا نَادَى بِلَالٌ النِّدَاءَ الْأَوَّلَ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ فَلْيَخْرُجْ عِكْرِمَةُ، وَتِلْكَ الرُّمَاةُ مَعَهُ، فَلْيَصِفْ أُولَئِكَ الرُّمَاةُ عِنْدَ صُدُورِ خُيُولِهِمْ، فَإِنْ هَاجَهُمْ هَيْجٌ مِنْ اللَّيْلِ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا رَأْيٌ حَسَنٌ أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ كَانَ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ سَبَبًا لِانْهِزَامِ الْمُشْرِكِينَ لَوْلَا مَا ظَهَرَ مِنْ عِصْيَانِ الرُّمَاةِ وَهُوَ طَلَبُهُمْ الْغَنِيمَةَ، عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قَالَ: فَقَبِلُوا ذَلِكَ مِنْ رَأْيِ أَبِي سُفْيَانَ - لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ قَدْ نَصَحَهُمْ - وَأَقْبَلَتْ خَيْلٌ مِنْ الرُّومِ عَظِيمَةٌ تُرِيدُ بَيَاتَهُمْ فَسَمِعُوا رُغَاءَ الْإِبِلِ، فَلَمْ يَشُكُّوا أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ هَرَبَتْ وَأَقْبَلُوا عَبَادِيدَ أَيْ مُتَفَرِّقِينَ. يُقَالُ: طَيْرٌ عَبَادِيدُ إذَا كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَسَابَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ غَيْرِ تَعْبِيَةٍ، فَوَجَدُوا خَيْلَ عِكْرِمَةَ وَالرُّمَاةَ مُسْتَعِدِّينَ لَمْ تَعْلَمْ الرُّومُ بِهِمْ فَحَمَلُوا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ يَنْصُرُهُمْ بِقَتْلِهِمْ، حَتَّى إذَا كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ وَلَّوْا هَارِبِينَ إلَى عَسْكَرِهِمْ عِنْدَ الْوَاقُوصَةِ. وَانْصَرَفَ عِكْرِمَةُ وَأَصْحَابُهُ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ. فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْفَتْحِ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ بَاهَانُ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ اُخْرُجْ إلَيَّ حَتَّى أُكَلِّمَك. فَبَرَزَ خَالِدٌ وَبَيْنَهُمَا تُرْجُمَانُ. فَقَالَ بَاهَانُ لِخَالِدٍ: هَلُمَّ إلَى أَمْرٍ نَعْرِضُهُ عَلَيْكُمْ: تَنْصَرِفُونَ وَنَحْمِلُ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ رَاجِلًا وَنُوَقِّرُ لَكُمْ ظُهُورَكُمْ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَنُوَفِّرُ لَكُمْ طَعَامًا وَإِدَامًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ - وَنَأْمُرُ لَكُمْ بِدَنَانِيرَ، خَمْسَةً خَمْسَةً. فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّكُمْ فِي أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا حَمَلَكُمْ عَلَى الْمَسِيرِ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: مَا حَمَلَنَا عَلَى الْمَسِيرِ مَا ذَكَرْت مِنْ شِدَّةِ الْعَيْشِ فِي بِلَادِنَا، وَلَكِنْ قَاتَلَنَا مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَرَاءَنَا فِي الْأُمَمِ فَشَرِبْنَا دِمَاءَهُمْ، فَحُدِّثْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ أَحْلَى دَمًا مِنْ الرُّومِ، فَأَقْبَلْنَا إلَيْكُمْ لِنَشْرَبَ دِمَاءَكُمْ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: حَقٌّ وَاَللَّهِ مَا حُدِّثْنَا عَنْهُمْ - يَعْنُونَ مَا أُخْبِرْنَا بِهِ - أَنَّهُمْ لَا يَنْصَرِفُونَ إلَّا بِقَبُولِ الدِّينِ أَوْ الْجِزْيَةِ أَوْ الِانْقِيَادِ لَهُمْ شِئْنَا أَوْ أَبَيْنَا. 37 - ثُمَّ اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى جَوَازِ قَطْعِ النَّخِيلِ وَتَخْرِيبِ الْبُيُوتِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] الْآيَةَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ جَمْعُ أَنْوَاعِ النَّخْلِ مَا خَلَا الْعَجْوَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اللِّينَةُ النَّخْلَةُ الْكَرِيمَةُ، وَالشَّجَرَةُ الَّتِي هِيَ طَيِّبَةُ الثَّمَرَةِ. وَنُزُولُ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ بَنِي النَّضِيرِ، «فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ. ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ يَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي دِيَةِ الْكُلَابِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. فَقَالُوا: اجْلِسْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَتَّى نُطْعِمَك وَنُعْطِيَك مَا تُرِيدُ. ثُمَّ خَلَا بِهِمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فَقَالَ: لَا تَقْدِرُونَ عَلَى قَتْلِهِ فِي وَقْتٍ يَكُونُ عَلَيْكُمْ أَهْوَنَ مِنْهُ الْآنَ. فَهَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَجَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَقَامَ مُتَوَجِّهًا إلَى الْمَدِينَةِ» . وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11] . ثُمَّ سَارَ إلَيْهِمْ فَحَاصَرَهُمْ وَقَالَ: اُخْرُجُوا مِنْ جِوَارِي، عَلَى أَنْ تَأْتُوا كُلَّ عَامٍ فَتَجِدُوا ثِمَارَكُمْ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ. فَحَاصَرَهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَكَانُوا قَدْ سَدُّوا دُرُوبَ أَزِقَّتِهِمْ، وَجَعَلُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 مِنْ وَرَاءِ الْجُدُرِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14] . فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْحَرْبِ. وَكُلَّمَا نَقَبُوا جِدَارَ بَيْتٍ مِنْ جَانِبٍ لِيَدْخُلُوا نَقَبُوا هُمْ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَر لِيَخْرُجُوا إلَى بَيْتٍ آخِر، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] فَلَمَّا لَحِقَهُمْ مِنْ الْعُسْرِ مَا لَحِقَهُمْ، وَلَمْ يَأْتِهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ كَانُوا وَعَدُوا لَهُمْ ذَلِكَ - أَيْ الْمُنَافِقِينَ وَعَدُوا بَنِي النَّضِيرِ النُّصْرَةَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11] . وَقَدْ كَانَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ بِقَطْعِ النَّخِيلِ فَقُطِعَتْ. وَكَانَ الْعَذْقُ أَحَبَّ إلَى أَحَدِهِمْ مِنْ الْوَصِيفِ. «فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَيْسَ لَنَا مُقَامٌ بَعْدَ النَّخِيلِ. فَنَادَوْهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَدْ كُنْت تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ فَمَا لِلنَّخِيلِ تُقَطِّعُ وَتُحَرِّقُ؟ أَتُؤَمِّنَنَا عَلَى دِمَائِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَعَلَى مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلَّا الْحَلْقَةَ - يَعْنِي السِّلَاحَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَفَتَحُوا الْحُصُونَ، وَأَجْلَاهُمْ عَلَى مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ أَبَا لُبَابَةَ عَلَى قَطْعِ نَخِيلِهِمْ. وَكَانَ أَبُو لَيْلَى يَقْطَعُ الْعَجْوَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ يَقْطَعُ اللَّوْنَ. فَقِيلَ لِأَبِي لَيْلَى: لِمَ قَطَعْت الْعَجْوَةَ؟ قَالَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ أَغْيَظَ لَهُمْ. وَقِيلَ لِابْنِ سَلَامٍ: لِمَ قَطَعْت اللَّوْنَ؟ قَالَ: عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ نَبِيَّهُ وَمُغَنِّمُهُ أَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْت إبْقَاءَ الْعَجْوَةِ وَهِيَ خِيَارُ أَمْوَالِهِمْ. فَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] الْآيَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ: نَادَى الْيَهُودَ مِنْ فَوْقِ الْحُصُونِ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُونَ لَا تُفْسِدُونَ (26 آ) ، وَأَنْتُمْ تَعْقِرُونَ النَّخْلَ، وَاَللَّهُ مَا أَمَرَ بِهَذَا، فَاتْرُكُوهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لِمَنْ يَغْلِبُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: صَدَقُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَعْقِرُهَا كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] رِضَاءً بِمَا قَالَ الْفَرِيقَانِ. 38 - وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَهِدَ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى. صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقَ» . وَفِي رِوَايَةٍ: أَبْيَاتٍ صَبَاحًا. وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ كَانَ قُتِلَ أَبُوهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَوْجِدَةً شَدِيدَةً عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِمْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيَشِنُّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُحَرِّقُ. وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَنَفَذَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَيْشَهُ كَمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. 39 - وَعَنْ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا مَرَّ مِنْ أَوْطَاسٍ يُرِيدُ الطَّائِفَ بَدَا لَهُ قَصْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُحَرَّقَ» . وَفِي ذَلِكَ قَالَ حَسَّانُ: وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَقَدْ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِهِ وَلَيْسَ بِمُحَاصِرٍ لَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُ. فَقَدْ كَانَ هُوَ أَمِيرَ الْجَيْشِ فِي حِصْنِ الطَّائِفِ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. 40 - ثُمَّ قَالَ: «انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى الطَّائِفِ، فَأَمَرَ بِكُرُومِهِمْ أَنْ تُقَطَّعَ» . وَفِي ذَلِكَ قِصَّةٌ قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: النَّخْلَةُ لَا تُثْمِرُ إلَّا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَيْفَ الْعَيْشُ بَعْدَ قَطْعِهَا؟ ثُمَّ أَظْهَرَ بَعْضُهُمْ الْجَلَادَةَ، فَنَادَوْا مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ: لَنَا فِي الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ خَلَفٌ مِمَّا تَقْطَعُونَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا إنْ لَوْ تَمَكَّنْت مِنْ الْخُرُوجِ فِي جُحْرِك. «وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَطْعِ نَخِيلِ خَيْبَرَ. حَتَّى مَرَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِاَلَّذِينَ يَقْطَعُونَ، فَهَمَّ أَنْ يَمْنَعَهُمْ، فَقَالُوا: أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَأَتَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَنْتَ أَمَرْت بِقَطْعِ النَّخِيلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَيْسَ وَعَدَك اللَّهُ خَيْبَرَ؟ قَالَ بَلَى، فَقَالَ عُمَرُ: إذًا تُقَطِّعُ نَخِيلَك وَنَخِيلَ أَصْحَابِك، فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِيهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ» . قَالَ الرَّاوِي: فَأَخْبَرَنِي رِجَالٌ رَأَوْا السُّيُوفَ فِي نَخِيلِ النَّطَاةِ وَقِيلَ لَهُمْ: هَذَا مِمَّا قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَالنَّطَاةُ: اسْمُ حِصْنٍ مِنْ حُصُونِ خَيْبَرَ. وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ سِتَّةُ حُصُونٍ: الشِّقُّ، وَالنَّطَاةُ، وَالْقُمُوصُ، وَالْكَتِيبَةُ وَالسُّلَالِمُ، وَالْوَطِيحَةُ. 41 - قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 خَلِيفَتِهِ بِالشَّامِ: اُنْظُرْ مَنْ قِبَلِك، فَمُرْهُمْ فَلْيَنْتَعِلُوا وَلْيَحْتَفُوا أَيْ يَمْشُوا أَحْيَانًا بِغَيْرِ نَعْلٍ، وَأَحْيَانًا فِي النِّعَالِ لِيَتَعَوَّدُوا ذَلِكَ كُلَّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيَنْتَعِلُوا. وَهُوَ صَحِيحٌ. جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُحِبُّ التَّيَامُنَ حَتَّى فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ» . يَعْنِي تَرْجِيلَ الشَّعْرِ أَوْ الْمُرَادُ بِالتَّرَجُّلِ النُّزُولُ عَنْ الدَّابَّةِ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِهَذَا لِلْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ حَتَّى إذَا (26 ب) اُبْتُلُوا بِالْمَشْيِ حُفَاةً فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ. وَفِي قِصَّةِ الْغَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَنَظَرْت إلَى بَطْنِ قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ دَخَلَ الْغَارَ، وَهُوَ يَقْطُرُ دَمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَوَّدْ الْحِفْيَةَ، وَلِهَذَا اسْتَحَبُّوا الِاحْتِفَاءَ فِي الْمَشْيِ بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ. قَالَ: وَلْيَأْتَزِرُوا وَلْيَرْتَدُوا. أَيْ لَا يَخْرُجُوا لِلصَّلَاةِ وَلِلنَّاسِ إلَّا فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ. فَالصَّلَاةُ إنْ كَانَتْ تُجْرَى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ إذَا تَوَشَّحَ بِهِ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالرِّدَاءِ لِأَنَّهُ زِيُّ الْعَرَبِ. قَالَ: وَلِيُؤَدِّبُوا الْخَيْلَ. وَالْمُرَادُ بِهِ رِيَاضَةُ الْخَيْلِ لِتَكُونَ أَلْيَنَ عَطْفًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، أَوْ لِيُؤَدِّبُوا الْخَيْلَ عَلَى النِّفَارِ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «تُضْرَبُ الدَّابَّةُ عَلَى النِّفَارِ وَلَا تُضْرَبُ عَلَى الْعِثَارِ» . لِأَنَّ الْعِثَارَ قَدْ يَكُونُ مِنْ سُوءِ إمْسَاكِ الرَّاكِبِ لِلِّجَامِ، وَالنِّفَارُ مِنْ سُوءِ خُلُقِ الدَّابَّةِ فَتُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: وَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ صَلِيبٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 مَعْنَاهُ: لَا تُمَكِّنُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ إظْهَارِ الصَّلِيبِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُرُورِ بِهِ فِي الطُّرُقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَلَا يُجَاوِرَنَّهُمْ الْخَنَازِيرُ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ إظْهَارِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَبَيْعِهَا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إظْهَارِهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَشَدَّ مِنْ شِرْكِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ. وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ. قَالَ: وَلَا يَقْعُدُونَ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ. وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَقْعُدَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَائِدَةِ، وَلَكِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إنْ أَمْكَنَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَنْ لَا يَجُوزَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تُدَارُ الْكَأْسُ عَلَى مَوَائِدِهِمْ وَاللَّعْنَةُ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ» . قَالَ: وَلَا يَدْخُلَنَّ الْحَمَّامَ إلَّا بِإِزَارٍ. لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرِيضَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِإِزَارٍ، وَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ» . قَالَ: وَإِيَّاكُمْ وَأَخْلَاقَ الْأَعَاجِمِ. يَعْنِي فِي التَّنَعُّمِ وَإِظْهَارِ التَّجَبُّرِ، وَمِمَّا يَكُونُ مُخَالِفًا لِأَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَعَاجِمِ، وَهُمْ الْمَجُوسُ. فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ النَّهْيُ عَمَّا هُوَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ثُمَّ بَيَّنَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَفْسِيرَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَإِنْ أَرَادُوا إظْهَارَ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فَلْيَفْعَلُوهُ خَارِجًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. يَعْنِي فِي الْقُرَى، لِأَنَّ الْمِصْرَ مَوْضِعُ أَعْلَامِ الدِّينِ فَفِي إظْهَارِ ذَلِكَ فِيهَا اسْتِخْفَافٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي الْقُرَى. فَأَهْلُ الْقُرَى كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْكُفُورِ، هُمْ أَهْلُ الْقُبُورِ» . يُشِيرُ إلَى جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ تَعَاهُدِهِمْ لِأَمْرِ الدِّينِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (27 آ) : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْجَوَابِ قُرَى الْكُوفَةِ، فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالرَّوَافِضُ. فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا يُمْنَعُونَ فِي الْأَمْصَارِ، فَإِنَّ الْقُرَى فِي دِيَارِنَا لَا تَخْلُو عَنْ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ، وَعَنْ وَاعِظٍ يَعِظُهُمْ عَادَةً، وَذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ أَيْضًا. 42 - وَذُكِرَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: إذَا كَثَبُوكُمْ فَارْمُوهُمْ، وَلَا تَسُلُّوا السُّيُوفَ حَتَّى تَغْشَوْهُمْ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " كَثَبُوكُمْ " قَرُبُوا مِنْكُمْ وَازْدَحَمُوا عَلَيْكُمْ. وَهُوَ أَدَبٌ حَسَنٌ. أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَدْفَعُوا الْعَدُوَّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالرَّمْيِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَهَذَا حِينَ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ الْقِتَالِ، عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الْعَرِيشَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْمُنَاجَاةِ نَهَى النَّاسَ عَنْ الْقِتَالِ وَقَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا تَسُلُّوا السُّيُوفَ حَتَّى تَغْشَوْهُمْ، بَيَانٌ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْغَازِي أَنْ يَسُلَّ سَيْفَهُ حَتَّى يَصِيرَ مِنْ الْعَدُوِّ بِحَيْثُ تَصِلُ إلَيْهِ ضَرْبَتُهُ، لَا أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ مُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ، فَبَرِيقُ السَّيْفِ مَخُوفٌ لِلْعَدُوِّ فِي أَوَّلِ مَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ إنَّ سَلَّ السَّيْفِ قَبْلَ أَنْ يَقْرَبَ مِنْ الْعَدُوِّ فَشَلٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 [بَابُ الْإِمَارَةِ] 43 - قَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ أَنْ لَا يَبْعَثَهُمْ حَتَّى يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ بَعْضَهُمْ، وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا «اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ دَاوَمَ عَلَى بَعْثِ السَّرَايَا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ» . وَلَوْ جَازَ تَرْكُهُ لَفَعَلَهُ مَرَّةً تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ، وَلِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى اجْتِمَاعِ الرَّأْيِ وَالْكَلِمَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ بَعْضَهُمْ حَتَّى إذَا أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ أَطَاعُوهُ فِي ذَلِكَ، فَالطَّاعَةُ فِي الْحَرْبِ أَنْفَعُ مِنْ بَعْضِ الْقِتَالِ. وَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْإِمَارَةِ بِدُونِ الطَّاعَةِ. قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَطَاعَنِي فَلْيُطِعْ أَمِيرِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» . 44 - ثُمَّ اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا قُلْنَا بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «إذَا اجْتَمَعَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْثَرُهُمْ قُرْآنًا وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَهُمْ» وَإِنَّمَا قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: «إذَا أَمَّهُمْ فَهُوَ أَمِيرُهُمْ» ، فَذَلِكَ أَمِيرٌ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَبِنَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ الصَّحَابَةُ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَقَالُوا: قَدْ اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِأَمْرِ دِينِكُمْ فَكَيْفَ لَا تَرْضَوْنَ [بِهِ] لِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا رَجُلَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَمَّرَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلَا يَخْتَلِفَا. 45 - وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ حَدِيثَ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَأَسْرَى مِنْ تَحْتِ اللَّيْلِ - أَيْ سَارَ - فَتَقَطَّعَ النَّاسُ - أَيْ تَفَرَّقُوا - فِي غَلَبَةِ النَّوْمِ فَمَالَتْ رَاحِلَتَا أَبِي بَكْرٍ (27 ب) وَأَبِي عُبَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِهِمَا إلَى شَجَرَةٍ فَجَعَلَتَا تُصِيبَانِ مِنْهَا وَهُمَا نَائِمَانِ، فَاسْتَيْقَظَا وَقَدْ مَضَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَصْحَابُهُ وَنَزَلُوا، فَلَمَّا كَانَا بِحَيْثُ يَسْمَعُهُمَا النَّبِيُّ نَادَاهُمَا: أَلَا هَلْ أَمَّرْتُمَا؟ قَالَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: أَلَا رَشَّدْتُمَا - أَيْ أَصَبْتُمَا الصَّوَابَ» - وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُونَ إذَا خَافُوا اللُّصُوصَ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا لِيُطِيعُوهُ وَيَصْدُرُوا عَنْ رَأْيِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْقِتَالِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَخَافُوا ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ لَا يُؤَمِّرُوا أَحَدًا. قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى ذَلِكَ الْبَصِيرُ بِأَمْرِ الْحَرْب، الْحَسَنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 التَّدْبِيرِ لِذَلِكَ، لَيْسَ مِمَّنْ يُقْحِمُ بِهِمْ فِي الْمَهَالِكِ، وَلَا مِمَّنْ يَمْنَعُهُمْ عَنْ الْفُرْصَةِ إذَا رَأَوْهَا، لِأَنَّ الْإِمَامَ نَاظِرٌ لَهُمْ، وَتَمَامُ النَّظَرِ أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ مَنْ جَرَّبَهُ بِهَذِهِ الْخِصَالِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْفُرْصَةِ يُفَوِّتُهُمْ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إدْرَاكِهِ، عَلَى مَا قِيلَ: الْفُرْصَةُ خِلْسَةٌ. وَإِذَا اقْتَحَمَ فِي الْمَهَالِكِ مِنْ جُرْأَتِهِ لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ مُتَابَعَتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ هُوَ بِقُوَّتِهِ وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مِثْلِ مَا قَدَرَ هُوَ فَيَهْلِكُونَ. 46 - وَرَوَى فِي تَأْيِيدِ هَذَا حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ: لَا تَسْتَعْمِلُوا الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ عَلَى جَيْشٍ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ هَلَكَةٌ مِنْ الْهُلَّكِ يُقْدِمُ بِهِمْ. وَالْبَرَاءُ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ مِنْ جُمْلَةِ كِبَارِ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ فِي الزُّهْدِ. وَفِي دَرَجَتِهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ بِهِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ» . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَمْرَ اشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَقِيلَ لِلْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ: أَلَا تَدْعُو؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا قَالَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ امْنَحْنَا أَكْتَافَهُمْ. فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ فِي الْحَالِ. وَمَعَ هَذَا نَهَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ تَأْمِيرِهِ لِجُرْأَتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقْتَحِمُ الْمَهَالِكَ وَلَا يُبَالِي بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَيُحْكَى عَنْ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ مُقَرَّبِ الْبَرَامِكَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ مَرْوَ أَنَّهُ قَالَ: اجْتَمَعَ عُظَمَاءُ الْعَجَمِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ صَاحِبَ جَيْشٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ خِصَالِ الْبَهَائِمِ: شُجَاعَةٌ كَشَجَاعَةِ الدِّيكِ، وَتَحَنُّنٌ كَتَحَنُّنِ الدَّجَاجَةِ يَعْنِي الشَّفَقَةَ، وَقَلْبٌ كَقَلْبِ الْأَسَدِ، وَغَارَةٌ كَغَارَةِ الذِّئْبِ، وَحَمْلَةٌ كَحَمْلَةِ الْخِنْزِيرِ، وَصَبْرٌ كَصَبْرِ الْكَلْبِ - أَيْ عَلَى الْجِرَاحَةِ - وَحِرْصٌ كَحِرْصِ الْكُرْكِيِّ، وَرَوَغَانٌ كَرَوَغَانِ الثَّعْلَبِ - أَيْ الْحِيَلِ - وَحَذَرٌ كَحَذَرِ الْغُرَابِ، وَسِمَنٌ كَسِمَنِ الدَّابَّةِ الَّتِي لَا تُرَى مَهْزُولَةً أَبَدًا، وَهِيَ تَكُونُ بِخُرَاسَانَ. 47 - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ لَا بَصَرَ لَهُ بِذَلِكَ فَلْيَجْعَلْ مَعَهُ وَزِيرًا يُبَصِّرُهُ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29] {هَارُونَ أَخِي} [طه: 30] {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] الْآيَةَ. فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ مَعَهُ وَزِيرًا فَلْيَدْعُ الْأَمِيرُ قَوْمًا مِنْ السَّرِيَّةِ يُبْصِرُونَ ذَلِكَ فَيُشَاوِرَهُمْ فَيَأْخُذَ بِقَوْلِهِمْ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ حَتَّى فِي قُوتِ أَهْلِهِ وَإِدَامِهِمْ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ» . قَالَ اللَّه تَعَالَى (28 آ) {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] . وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ عَنْ مَشُورَةٍ» . قَالَ: ثُمَّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَيُطِيعُونَهُ وَلَا يُخَالِفُونَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَحِلُّ الْجَنَّةُ لِعَاصٍ. أَمَرَ بِأَنْ يُنَادَى بِهِ يَوْمَ خَيْبَرَ حِينَ نَهَاهُمْ عَنْ الْقِتَالِ، فَقِيلَ لَهُ: اُسْتُشْهِدَ فُلَانٌ. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أَبْعَدَ مَا نَهَيْتُ عَنْ الْقِتَالِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: لَا تَحِلُّ الْجَنَّةُ لِعَاصٍ» . فَمَعَ دَرَجَةِ الشَّهَادَةِ قَالَ فِي حَقِّهِ مَا قَالَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْعِصْيَانَ فِيمَا لَا يُتَيَقَّنُ فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ الْأَمِيرِ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 [بَابُ مَبْعَثِ السَّرَايَا] 48 - ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَدِيثَ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهِمْ. وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ سَرِيَّةً بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَاجَةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْتَكِرَ لِلسَّعْيِ فِي حَاجَتِهِ، فَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى تَحْصِيلِ مُرَادِهِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: «الْبُكْرَةُ رَبَاحٌ أَوْ نَجَاحٌ» . وَلِأَجْلِ هَذَا اسْتَحَبُّوا الِابْتِكَارَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ. وَقِيلَ إنَّمَا يُنَالُ الْعِلْمُ بِبُكُورٍ كَبُكُورِ الْغُرَابِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ سَرِيَّةً يُنْدَبُ إلَى أَنْ يَبْعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ. وَقَدْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ لِذَلِكَ الْخَمِيسَ وَالسَّبْتَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا سَبْتِهَا وَخَمِيسِهَا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 - وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا قَدْ عَقَلَ رَاحِلَتَهُ. فَقَالَ: مَا يَحْبِسُك؟ قَالَ: الْجُمُعَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: الْجُمُعَةُ لَا تَحْبِسُ مُسَافِرًا، فَاذْهَبْ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْخُرُوجِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْغَزْوِ أَوْ لِلْحَجِّ أَوْ لِسَفَرٍ آخَرَ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْمُتَقَشِّفَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلسَّفَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ الْفِرَارِ عَنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ، لَكِنَّا نَقُولُ: الْخُرُوجُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ فِرَارٌ عَنْ شَطْرِ الصَّلَاةِ. وَالْخُرُوجُ فِي رَمَضَانَ جَائِزٌ، فَقَدْ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ» وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْفِرَارِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ. ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْجُمُعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَهُوَ مُسَافِرٌ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَلَا جُمُعَةَ عَلَى الْمُسَافِرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ سَفَرُهُ فِرَارًا عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ؟ . وَكَمَا يُبَاحُ لَهُ الْخُرُوجُ قَبْلَ الزَّوَالِ يُبَاحُ لَهُ الْخُرُوجُ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ. وَإِذَا كَانَ هُوَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَغَيَّرُ بِالسَّفَرِ عِنْدَهُ. كَمَا يَجِبُ أَدَاءُ الظُّهْرِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَغَيَّرُ بِالسَّفَرِ عِنْدَهُ. فَأَمَّا عِنْدَنَا الْمُعْتَبَرُ آخَرُ الْوَقْتِ فِي حُكْمِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَغَيَّرُ. وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ يَلْزَمُهُ صَلَاةُ السَّفَرِ. فَفِي هَذَا الْيَوْمِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ عُمْرَانِ مِصْرِهِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَلَا بَأْسَ لَهُ بِالْمُسَافَرَةِ لِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ (28 ب) . وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ الظُّهْرِ فَلْيَشْهَدْ الْجُمُعَةَ، لِأَنَّهَا تَلْزَمُ إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ أَدَائِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ: لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ، فَأَصْلُ الْفَرْضِ عِنْدَهُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ الْجُمُعَةُ. وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَعْتَبِرُ آخِرَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ حَالَ تَضْيِيقِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّبَبِيَّةَ لِلْوُجُوبِ تَتَعَيَّنُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ حَتَّى لَا تَسَعُ التَّأْخِيرَ عَنْهُ. وَلِهَذَا قَالَ: لَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ بِاعْتِرَاضِ الْحَيْضِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ حَتَّى يَضِيقَ الْوَقْتُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ. قَالَ: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ يَقُولُ: عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَوْعُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ آخِرِ الْوَقْتِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَنْفَرِدُ هُوَ بِأَدَائِهِ وَهُوَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ، فَأَمَّا الْجُمُعَةُ لَا يَنْفَرِدُ هُوَ بِأَدَائِهَا بَلْ مَعَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتَبِرَ وَقْتَ أَدَائِهِمْ حَتَّى إذَا كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمِصْرِ قَبْلَ أَدَاءِ النَّاسِ الْجُمُعَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ شُهُودُ الْجُمُعَةِ. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تَتَقَرَّرُ عَلَى أَصْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّمَكُّنَ مِنْ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا يُعَيِّنُ السَّبَبِيَّةَ فِي الْجُزْءِ الَّذِي يَتَضَيَّقُ عَقِيبَهُ وَقْتَ الْأَدَاءِ. فَأَمَّا عِنْدَنَا إنَّمَا تَتَعَيَّنُ السَّبَبِيَّةُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ. 50 - قَالَ: وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشْرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةِ إذَا كَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ «خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ» يَعْنِي خَيْرَ أَصْحَابِي، فَيَكُونُ إشَارَةً إلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: بَلْ الْمُرَادُ مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْجُمُعَةَ تَتَأَدَّى بِثَلَاثَةِ نَفَرٍ سِوَى الْإِمَامِ، لِأَنَّ خَيْرَ الْأَصْحَابِ مَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِمُعَاوَنَتِهِمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّرِيَّةَ أَقَلُّ مِنْ الْجَيْشِ، وَإِنَّمَا سُمُّوا سَرِيَّةً لِأَنَّهُمْ يَسْرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ. وَسُمِّيَ الْجَيْشُ جَيْشًا لِأَنَّهُ يَجِيشُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ. وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِ مِائَةٍ لَا يَكُونُ سَرِيَّةً، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُمْ إذَا بَلَغُوا أَرْبَعَ مِائَةٍ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ نَيْلِ الْمُرَادِ. وَقَوْلُهُ: «وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشْرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ» ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْغُزَاةِ أَنْ يَنْهَزِمُوا وَإِنْ كَثُرَ الْعَدُوُّ وَإِذَا بَلَغُوا هَذَا الْمَبْلَغَ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَغْلِبَ فَهُوَ غَالِبٌ وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً. فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] ، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً، لِاخْتِلَاطِ الْمُنَافِقِينَ وَاَلَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُمْ بَعْدُ، فَأَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْكَلِمَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ الْفِرَارُ، لِأَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ جُيُوشٍ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَهُمْ خَيْرُ الْجُيُوشِ، وَمِثْلُ (29 آ) ذَلِكَ فِي الْمَسِيرَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقَلْبِ. وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ يُسَاوِي أَكْثَرَ الْجَمْعِ فِي الْحُكْمِ. 51 - وَذَكَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ أُمَرَاءِ السَّرَايَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَقْسَمُهُ بِالسَّوِيَّةِ وَأَعْدَلُهُ فِي الرَّعِيَّةِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَزَيْدٌ هَذَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَقَدْ كَانَ لِخَدِيجَةَ وَهَبَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ إلَى أَنْ اُنْتُسِخَ حُكْمُ التَّبَنِّي فَهُوَ مَوْلَاهُ. وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]- أَيْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ - ثُمَّ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى ثَمَانِي سَرَايَا، إلَى أَنْ قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ أَنَّهُ خَيْرُ الْأُمَرَاءِ، وَعُيِّنَ لِتَحْقِيقِ صِفَةِ الْخَيْرِيَّةِ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، لِأَنَّ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا، وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ الْمُعَادَلَةَ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَنَالُونَهُ، وَيُنْصِفُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِيمَا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ. فَقَدْ فُوِّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ. وَبَعْضُ النَّاسِ عَابُوا عَلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ هَذَا اللَّفْظِ، فَإِنَّ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: «أَقْسَمُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَأَعْدَلُهُمْ بِالرَّعِيَّةِ» . وَلَكِنَّا نَقُولُ: رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخَبَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ. 52 - قَالَ: وَلَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ سَرِيَّةً أَوْ الِاثْنَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةَ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْخَنْدَقِ سَرِيَّةً وَحْدَهُ. وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً وَحْدَهُ، وَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ سَرِيَّةً وَحْدَهُ، وَبَعَثَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَخَبَّابًا سَرِيَّةً» . وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى أَنْ تُبْعَثَ سَرِيَّةٌ دُونَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ» تَأْوِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِشْفَاقِ بِالْمُسْلِمِينَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا فِي الدِّينِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ الْأَفْضَلِ أَنْ لَا يَخْرُجَ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى هَيْئَاتِهَا بِأَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ وَيَصْطَفَّ الِاثْنَانِ خَلْفَهُ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» . وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى نَقُولُ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثِ السَّرَايَا الْقِتَالَ فَقَطْ، بَلْ تَارَةً يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنْ يَتَحَسَّسَ خَبَرَ الْأَعْدَاءِ فَيَأْتِيَهُ بِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ السِّرِّ. وَتَمَكُّنُ الْوَاحِدِ مِنْ الدُّخُولِ بَيْنَهُمْ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ أَظْهَرُ مِنْ تَمَكُّنِ الثَّلَاثَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْتِيَهُ أَحَدُهُمَا بِالْخَبَرِ وَيَمْكُثَ الْآخَرُ بَيْنَ الْأَعْدَاءِ لِيَقِفَ عَلَى مَا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ مِنْ الرَّأْيِ بَعْدَ مَا يَنْفَصِلُ عَنْهُمْ الْوَاحِدُ. وَهَذَا يَتِمُّ بِالْمُثَنَّى. وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ الْقِتَالَ، أَوْ التَّوَصُّلَ إلَى قَتْلِ بَعْضِ الْمُبَارِزِينَ مِنْهُمْ غِيلَةً، وَبِالثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ. وَلِهَذَا كَانَ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْأَمِيرِ يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 [بَابُ الرَّايَاتِ وَالْأَلْوِيَةِ] 53 - قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَلْوِيَةُ الْمُسْلِمِينَ بِيضًا وَالرَّايَاتُ سُودًا، عَلَى هَذَا جَاءَتْ الْأَخْبَارُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَتْ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوْدَاءَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضَ» . وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (29 ب) : «كَانَتْ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوْدَاءَ مِنْ بُرْدٍ لِعَائِشَةَ يُدْعَى الْعِقَابَ» . وَهُوَ اسْمُ رَايَتِهِ، كَمَا سَمَّى عِمَامَتَهُ السَّحَابَ وَفَرَسَهُ السَّكْبَ وَبَغْلَتَهُ الدُّلْدُلَ. ثُمَّ اللِّوَاءُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ لِلسُّلْطَانِ، وَالرَّايَةُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ لِكُلِّ قَائِدٍ تَجْتَمِعُ جَمَاعَةٌ تَحْتَ رَايَتِهِ. 54 - وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَتَى اتَّخَذَ الرَّايَاتِ. فَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ قَالَ: مَا كَانَتْ رَايَةٌ قَطُّ حَتَّى كَانَتْ يَوْمَ خَيْبَرَ، إنَّمَا كَانَتْ الْأَلْوِيَةُ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ «أَنَّ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ كَانَتْ سَوْدَاءَ» . فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ الرَّايَةَ كَانَتْ قَبْلَ خَيْبَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ فِي الرَّايَاتِ السَّوَادُ لِأَنَّهُ عَلَمٌ لِأَصْحَابِ الْقِتَالِ، وَكُلُّ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَ عِنْدَ رَايَتِهِمْ، وَإِذَا تَفَرَّقُوا فِي حَالِ الْقِتَالِ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى رَايَتِهِمْ، وَالسَّوَادُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ أَبْيَنُ وَأَشْهَرُ مِنْ غَيْرِهِ خُصُوصًا فِي الْغُبَارِ. فَلِهَذَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ. فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُجْعَلَ الرَّايَاتُ بِيضًا أَوْ صُفْرًا أَوْ حُمْرًا، وَإِنَّمَا يُخْتَارُ الْأَبْيَضُ فِي اللِّوَاءِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ أَحَبَّ الثِّيَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْبِيضُ، فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . وَاللِّوَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا فِي كُلِّ جَيْشٍ، وَرُجُوعُهُمْ إلَيْهِ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إلَى رَفْعِ أُمُورِهِمْ إلَى السُّلْطَانِ. فَيُخْتَارُ الْأَبْيَضُ لِذَلِكَ لِيَكُونَ مُمَيَّزًا مِنْ الرَّايَاتِ السُّودِ الَّتِي هِيَ لِلْقُوَّادِ. 55 - وَذَكَرَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتنِي وَإِنِّي لَأَعْدَوْ فِي إثْرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمَا أَدْرَكْته حَتَّى انْتَهَى إلَى الْحِصْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَخَرَجَتْ غَادِيَةُ الْيَهُودِ، يَعْنِي الَّذِينَ يَغْدُونَ مِنْ الْعُمَّالِ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي: عَادِيَةُ الْيَهُودِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَكَابِرُ مِنْ الْمُبَارِزِينَ - قَالَ: فَفَتَحُوا بَابَهُمْ الَّذِي يَلِي الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَتْ لَهُمْ حُصُونٌ مِنْ وَرَائِهَا جُدُرٌ ثَلَاثَةٌ، يَخَافُونَ الْبَيَاتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بِالنَّطَاةِ، عَمِلَهَا أَكَابِرُ الْيَهُودِ، وَلَا تُطِيقُهَا الْخَيْلُ، فَخَرَجُوا مِنْ حِصْنِهِمْ ذَلِكَ وَتِلْكَ الْجُدُرُ حَتَّى أَصْحَرُوا لِلْمُسْلِمِينَ - أَيْ خَرَجُوا إلَى الصَّحْرَاءِ - فَخَرَجَ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِّي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ أَضْرِبُ أَحْيَانَا وَحِينًا أُضْرَبُ ... أَكْفِي إذَا أَشْهَدُ مِنْ يُغَيَّبُ وَمَرْحَبٌ الشَّاعِرُ هَذَا قَتَلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ فِي الْمَغَازِي. وَمَقْصُودُهُ مَا ذُكِرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ الرَّايَاتِ وَإِنَّمَا كَانَتْ الْأَلْوِيَةُ قَبْلَ ذَلِكَ فَجَعَلَ الرَّايَاتِ يَوْمَئِذٍ» . 56 - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ كُلُّ قَوْمٍ شِعَارًا إذَا خَرَجُوا فِي مَغَازِيهِمْ حَتَّى إنْ ضَلَّ رَجُلٌ عَنْ أَصْحَابِهِ نَادَى بِشِعَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ كُلِّ رَايَةٍ شِعَارٌ مَعْرُوفٌ، حَتَّى إنْ ضَلَّ رَجُلٌ عَنْ أَهْلِ رَايَتِهِ نَادَى بِشِعَارِهِ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهِمْ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ فِي الدِّينِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَمْ يَأْثَمُوا، وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ وَأَقْوَى عَلَى الْحَرْبِ، وَأَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ سِنَانِ بْنِ وَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ وَهِيَ غَزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَكَانَ شِعَارُنَا: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ» . مَعْنَاهُ قَدْ ظَفِرْت بِالْعَدُوِّ فَاقْتُلْ مَنْ شِئْت مِنْهُمْ. وَهَذَا كَانَ شِعَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ. وَكَانَ شِعَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ: أَمِتْ أَمِتْ. 57 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَالْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ. وَالْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ. وَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَيْلَةً فِي حَرْبِ الْأَحْزَابِ: إنْ بَيَّتُّمْ اللَّيْلَةَ فَشِعَارُكُمْ: حم. لَا يُنْصَرُونَ» ، وَهُوَ قَسَمٌ لِلتَّأْكِيدِ أَنَّ الْأَعْدَاءَ لَا يُنْصَرُونَ. 58 - وَكَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَ (30 آ) حُنَيْنٍ: «يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبِهِ نَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، فَقَالَ: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إلَيَّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. سَائِرَ الْيَوْمِ. وَجَعَلَ يَتَقَدَّمُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَرَجَعَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ حِينَ سَمِعُوا صَوْتَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَئِذٍ: حم لَا يُنْصَرُونَ. فَلَمَّا ثَابَ الْمُسْلِمُونَ - أَيْ رَجَعُوا إلَيْهِ - تَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْهَزَمُوا وَيَاسِينَ» . وَهَذَا قَسَمٌ أَكَّدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشِّعَارَ هُوَ الْعَلَامَةُ، فَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْتَارَ كَلِمَةً دَالَّةً عَلَى ظَفَرِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ بِطَرِيقِ التَّفَاؤُلِ، فَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 [بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقِتَالِ] 59 - ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَبْلَ أَنْ يُوَاقِعَهُمْ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا عِبَادُك وَهُمْ عِبَادُك، نَوَاصِينَا وَنَوَاصِيهمْ بِيَدِك. اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ غَازٍ أَنْ يَقْتَدِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقِتَالِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالدُّعَاءِ يَسْتَنْزِلُ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ وَيَدْفَعُ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ وَشَرَّ الْأَعْدَاءِ. وَبِذَلِكَ أُمِرْنَا، قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186] وَقَالَ: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] . وَأَخْبَرَ عَنْ الرُّسُلِ أَنَّهُمْ دَعَوْا عَلَى الْأَعْدَاءِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نُوحٍ قَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ، وَعَنْ مُوسَى وَهَارُونَ وَالْخَلِيلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَذَلِكَ. 60 - قَالَ: وَإِذَا لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ كَانُوا قَوْمًا لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَدْعُوهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] . وَبِهِ «أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ فَقَالَ: فَادْعُوهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّنَا نُقَاتِلُهُمْ طَمَعًا فِي أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ رُبَّمَا أَجَابُوا إلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقَعَ الْحَاجَةُ إلَى الْقِتَالِ. وَفِي تَقَدُّمِ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ دُعَاءٌ إلَى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَيَجِبُ الْبِدَايَةُ بِهِ. فَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَهُمْ الْإِسْلَامُ وَلَكِنْ لَا يَدْرُونَ أَنَا نَقْبَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ «لَا نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى نَدْعُوَهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، بِهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ» ، وَهُوَ آخِرُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَفِيهِ الْتِزَامُ بَعْضِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ وَالِانْقِيَادُ لَهُمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَيَجِبُ عَرْضُهُ عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ. إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فَإِذَا أَبَوْا الْإِسْلَامَ قُوتِلُوا غَيْرَ أَنْ يُعْرِضَ عَلَيْهِمْ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ. وَإِنْ قَاتَلُوهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ فَقَتَلُوهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ. لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ يَعْتَمِدُ الْإِحْرَازَ، وَذَلِكَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ الدِّينِ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَأَمَّا مُجَرَّدُ النَّهْيِ عَنْ الْقَتْلِ بِدُونِ الْإِحْرَازِ لَا يُوجِبُ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ كَمَا فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَذَرَارِيِّهِمْ. وَهَذَا لِأَنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ لَا غَيْرُ، وَيَقُومُ الْمَحَلُّ حُكِمَ (؟) وَرَاءَ ذَلِكَ. 61 - فَإِنْ بَلَّغَهُمْ الدَّعْوَةَ فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلِمُونَ دَعَوْهُمْ دُعَاءً مُسْتَقْبَلًا عَلَى سَبِيلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَإِنْ شَاءُوا قَاتَلُوهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ لِعِلْمِهِمْ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ. وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي تَقْدِيمِ الدُّعَاءِ (30 ب) ضَرَرٌ بِالْمُسْلِمِينَ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ. وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ قَالَ: «مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا حَتَّى يَدْعُوهُمْ» . وَعَنْ طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ» . فَتَأْوِيلُهُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ: 62 - إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلُ مَنْ جَاءَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الْوَقْتِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إلَى مَاذَا يَدْعُوهُمْ. فَلِهَذَا كَانَ تَقْدِيمُ الدُّعَاءِ. وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ دُعَاءِ الدَّيْلَمِ فَقَالَ: قَدْ عَلِمُوا الدُّعَاءَ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ زَمَانَنَا مُخَالِفٌ لِزَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحُكْمِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ التَّأَلُّفِ لَهُمْ رَجَاءَ أَنْ يَتُوبُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاجِبًا. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ فَتَحْضُرُ الصَّلَاةُ فَيُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ. ثُمَّ يَعُودُ إلَى مَوْضِعِهِ فَيَدْعُوهُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّأَلُّفِ. 63 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَبْعَثًا فَقَالَ لَهُ: امْضِ وَلَا تَلْتَفِتْ - أَيْ لَا تَدَعْ شَيْئًا مِمَّا آمُرُك بِهِ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَالَ: إذَا نَزَلْت بِسَاحَتِهِمْ فَلَا تُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوك، فَإِنْ قَاتَلُوك فَلَا تُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوا مِنْكُمْ قَتِيلًا، فَإِنْ قَتَلُوا مِنْكُمْ قَتِيلًا فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تُرِيَهُمْ إيَّاهُ، ثُمَّ تَقُولُ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إلَى أَنْ تَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ فَقُلْ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تُصَلُّوا؟ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ فَقُلْ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ الصَّدَقَةَ؟ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ فَلَا تَبْغِ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَاَللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْك رَجُلًا خَيْرٌ لَك مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ التَّأَلُّفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِدٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَعَثَ بَعْثًا قَالَ: تَأَلَّفُوا النَّاسَ وَتَأَنَّوْا بِهِمْ، وَلَا تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَدْعُوهُمْ، فَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ، مِنْ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، إلَّا أَنْ تَأْتُونِي بِهِمْ مُسْلِمِينَ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَأْتُونِي بِأَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَتَقْتُلُوا رِجَالَهُمْ» . وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: كُنَّا نَدْعُو وَنَدَعُ أَيْ نَدْعُو تَارَةً وَنَدَعُ الدُّعَاءَ تَارَةً وَنُغِيرُ عَلَيْهِمْ. فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَسَنٌ يَدْعُونَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إذَا كَانَ يُطْمَعُ فِي إيمَانِهِمْ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يُطْمَعُ فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ. بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حِينَ بَعَثَ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا إلَى غَطَفَانَ فَقَالَ: «شُنُّوا الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا تَقْتُلُوا النِّسْوَانَ وَالصِّبْيَانَ» ثُمَّ ذَكَرَ الرَّاوِي حُسْنَ تَدْبِيرِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا هَجَمْنَا عَلَى حَاضِرٍ مِنْهُمْ عَظِيمٍ لَيْلًا - مَعْنَى (31 آ) قَوْلُهُ: " حَاضِرٍ مِنْهُمْ " أَيْ حَيٍّ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْقَبِيلَةُ - خَطَبَنَا وَأَوْصَانَا فَقَالَ: إذَا كَبَّرْتُ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا حَمَلْتُ فَاحْمِلُوا، وَلَا تُمْعِنُوا فِي الطَّلَبِ - أَيْ لَا تَبْعُدُوا فِي الذَّهَابِ فِي الْغَنِيمَةِ - وَأَلَّفَ بَيْنَ كُلِّ رَجُلَيْنِ وَقَالَ: لَا يُفَارِقُ رَجُلٌ زَمِيلَهُ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَرْجِعَ إلَيَّ فَيُخْبِرَنِي خَبَرَهُ. وَلَا يَأْتِينِي رَجُلٌ فَأَسْأَلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ لَا عِلْمَ لِي بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قَالَ: فَأَحَطْنَا بِالْحَاضِرِ، فَسَمِعْت رَجُلًا يَصْرُخُ " يَا خَضْرَاءُ فَتَفَاءَلَتْ وَقُلْت: لَأُصِيبَنَّ خَيْرًا - «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَفَاءَلُ بِمِثْلِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْغَارِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُرِيدُ الْمَدِينَةَ مَرَّ عَلَى بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ. فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ اسْمِهِ. فَلَمَّا قَالَ: بُرَيْدَةُ، قَالَ: بَرُدَ لَنَا الْأَمْرُ، فَلَمَّا قَالَ: مِنْ أَسْلَمَ، قَالَ: سَلِّمْنَا -» ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّفَاؤُلِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَحِينَ عَبَرَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ جَيْحُونَ سَمِعُوا رَجُلًا يُنَادِي غُلَامَهُ: يَا ظَفَرُ فَقَالُوا: قَدْ ظَفَرْنَا، وَآخَرُ يُنَادِي غُلَامَهُ: يَا عَلْوَانُ فَقَالُوا: قَدْ عَلَوْنَا. ثُمَّ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي سَرِيَّةٍ كَانَ هُوَ أَمِيرَهُمْ، وَقَالَ: حِينَ انْتَهَيْنَا إلَى الْحَاضِرِ فِي غَبَشِ الصُّبْحِ - يَعْنِي حِينَ اخْتَلَطَ الظَّلَامُ بِالضَّوْءِ - وَقَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ وَنَعَمُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَهُمْ، وَسَبَى ذُرِّيَّتَهُمْ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ السَّبْيِ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِث. وَعُهِدَ إلَى أُسَامَةَ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقُ. وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ بِدَعْوَةٍ. 65 - وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ لِلرُّومِ دَعْوَةٌ. فَقَدْ دُعُوا فِي آبَادِ الدَّهْرِ. أَيْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ قَبْلَ زَمَانِنَا. أَوْ مُرَادُهُ قَدْ بَشَّرَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُمْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ إذَا بُعِثَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 [بَابُ الْبَرَكَة فِي الْخَيْلِ وَمَا يَصْلُحُ مِنْهَا] 66 - ذَكَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . يَعْنِي الْجِهَادَ وَإِرْهَابَ الْعَدُوِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، فَأَرَادَ بِهِ الْأَجْرَ لِصَاحِبِهَا، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إلَيْهَا» وَأَرَادَ بِالْخَيْرِ اسْتِحْقَاقَ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ بِالْخَيْلِ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَالَ خَيْرًا فِي قَوْله تَعَالَى: {إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وَالْغَنِيمَةُ خَيْرٌ لِأَنَّهُ مَالٌ مُصَابٌ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَيْرِ. 67 - وَعَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ الْخَيْلِ الشُّقْرُ» . وَهَذِهِ الصِّفَةُ فِي الْخَيْلِ تَبِينُ بِالْعُرْفِ (31 ب) وَالذَّنَبِ، فَإِنْ كَانَا أَحْمَرَيْنِ فَهُوَ أَشْقَرُ، وَإِنْ كَانَا أَسْوَدَيْنِ فَهُوَ كُمَيْتٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 68 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْيُمْنُ فِي الْخَيْلِ فِي كُلِّ أَقَرْحَ، أَدْهَمَ، أَرْثَمَ، مُحَجَّلِ الثَّلَاثَةِ، طَلْقُ الْيُمْنَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكُمَيْتٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ» . فَالْأَقْرَحُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي جَبْهَتِهِ بَيَاضٌ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ فَوْقَ ذَلِكَ فَهُوَ أَغَرُّ. وَالْأَدْهَمُ: اسْمُ الْأَسْوَدِ مِنْهُ. وَالْأَرْثَمُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْبَيَاضُ فِي شَفَتِهِ الْعُلْيَا فَوْقَ الْجَحْفَلَةِ. وَمُحَجَّلُ الثَّلَاثِ طَلْقُ الْيُمْنَى: هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْبَيَاضُ فِي قَوَائِمِهِ الثَّلَاثِ سِوَى الْيُمْنَى، وَهُوَ ضِدُّ الْأَرْجُلِ. وَالْأَرْجُلُ: مَا يَكُونُ الْبَيَاضُ فِي الْيُمْنَى مِنْ قَوَائِمِهِ خَاصَّةً. وَهَذَا يُتَشَاءَمُ بِهِ، وَالْأَوَّلُ يُرْغَبُ فِيهِ. وَهَذَا كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَرَّرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ. وَبَيَّنَ أَنَّ الْبَرَكَةَ فِيمَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الْخَيْلِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَوَامّ مِنْ النَّاسِ. 69 - وَذَكَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُخْصِيَنَّ فَرَسًا وَلَا تُجْرِيَنَّ فَرَسًا فَوْقَ الْمِيلَيْنِ. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَكَرِهَ خِصَاءَ الْفَرَسِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» . أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَتَأَوَّلُوا فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] . وَجَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ خِصَاءُ الدَّوَابِّ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ فَقَدْ تَعَارَفُوا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، [وَلَا مُنَازِعَ] . وَبِالِاتِّفَاقِ لَا بَأْسَ بِشِرَاءِ الْفَرَسِ الْخَصِيِّ وَرُكُوبِهِ. وَقَدْ كَانَ فَرَسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الصَّنِيعُ مَكْرُوهًا لَكَانَ يُكْرَهُ شِرَاؤُهُ وَرُكُوبُهُ؛ لِيَكُونَ زَجْرًا لِلنَّاسِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ. وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ: 70 - أَنَّ صَهِيلَ الْخَيْلِ يُرْهِبُ الْعَدُوَّ، وَالْخِصَاءُ يُذْهِبُ صَهِيلَهُ. فَكُرِهَ الْخِصَاءُ لِذَلِكَ، لَا لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي الدِّينِ. وَالْمُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ الثَّانِي النَّهْيُ عَنْ إجْرَاءِ الْفَرَسِ فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ، أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّلَهِّي بِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُسَابَقَةُ بِالْأَفْرَاسِ لِلرِّيَاضَةِ فَهُوَ حَسَنٌ لَا بَأْسَ بِهِ. 71 - وَذَكَرَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْرَى وَسَبَّقَ. يُرْوَى سَبَّقَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ. فَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالتَّخْفِيفِ أَنَّهُ سَبَقَ صَاحِبَهُ. وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالتَّشْدِيدِ أَنَّهُ الْتَزَمَ عَلَى السَّبْقِ صِلَةً. وَلَا بَأْسَ بِالْمُسَابِقَةِ بِالْأَفْرَاسِ مَا لَمْ تَبْلُغْ غَايَةً لَا تَحْتَمِلُهَا. جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «تَسَابَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (32 آ) وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَسَبَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَى أَبُو بَكْرٍ، وَثَلَّثَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -» . مَعْنَى قَوْلِهِ: " صَلَى " أَيْ كَانَ رَأْسُ دَابَّتِهِ عِنْدَ صِلَاءِ دَابَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ الذَّنَبُ. 72 - وَفِي حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحْضُرُ الْمَلَائِكَةُ شَيْئًا مِنْ الْمَلَاهِي سِوَى النِّضَالِ وَالرِّهَانِ» يَعْنِي الرَّمْيَ وَالْمُسَابَقَةَ. 73 - وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا سَبَقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» . الْمُرَادُ بِالْحَافِرِ الْفَرَسُ، وَبِالْخُفِّ الْإِبِلُ، وَبِالنَّصْلِ الرَّمْيُ. 74 - وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَضْبَاءَ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا شَيْئًا إلَّا وَضَعَهُ» ، لِذَلِكَ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الْأَقْدَامِ لَا بَأْسَ بِهَا؛ لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَتْ الْمُسَابَقَةُ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَالْأَرْجُلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 لِأَنَّ الْغُزَاةَ يَحْتَاجُونَ إلَى رِيَاضَةِ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى إذَا اُبْتُلُوا بِالطَّلَبِ وَالْهَرَبِ وَهُمْ رَجَّالَةٌ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ، لِمَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ فِي رِيَاضَةِ الدَّوَابِّ. 75 - فَإِنْ شَرَطُوا جُعْلًا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْجُعْلُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ خَاصَّةً بِأَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: إنْ سَبَقْتنِي أَعْطَيْتُك كَذَا، وَإِنْ سَبَقَتْك لَمْ آخُذْ مِنْك شَيْئًا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا شَرَطَا اسْتِحْسَانًا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْمَالِ بِالْخَطَرِ وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالُ مَشْرُوطًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ. وَالْقِمَارُ حَرَامٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ. وَصُورَةُ الْمُحَلِّلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ. وَالشَّرْطُ أَنَّ الثَّالِثَ إذَا سَبَقَهُمَا أَخَذَ مِنْهُمَا، وَإِنْ سَبَقَاهُ لَمْ يُعْطِهِمَا شَيْئًا، فَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، أَيُّهُمَا سَبَقَ أَخَذَ الْجُعْلَ مِنْ صَاحِبِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَلِّلُ عَلَى دَابَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَسْبِقَ، فَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي إدْخَالِهِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ شَرْطُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ قِمَارًا. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ عَلَى قِيَاسِ هَذَا بِالْجَرْيِ بَيْنَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، يُفْتِي فِيهِ بِالْجَوَازِ أَيْضًا. وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إلَى الْأُسْتَاذِ وَشَرَطَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْجَوَابُ كَمَا قُلْت أَعْطَيْتُك كَذَا، وَإِنْ كَانَ كَمَا قُلْت لَا آخُذُ مِنْك شَيْئًا فَهَذَا جَائِزٌ. وَإِنْ كَانَ شَرْطٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ الْقِمَارُ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَفْرَاسِ إنَّمَا جُوِّزَ ذَلِكَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْجِهَادِ. فَيَجُوزُ هُنَا أَيْضًا لِلْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ فِي التَّعَلُّمِ. 76 - وَذَكَرَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو السَّكْسَكِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى أَصْحَابِ السَّكْسَكِ يَنْهَاهُمْ عَنْ الرَّكْضِ (32 ب) . وَالْمُرَادُ النَّخَّاسُونَ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ رَكْضٍ يُتْعِبُ الدَّابَّةَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ، أَوْ رَكْضٍ يَكُونُ بِتَكَلُّفٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُغَرِّرُ الْمُشْتَرِيَ، وَالْغُرُورُ حَرَامٌ وَالْمُرَادُ الرَّكْضُ لِلتَّلَهِّي مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ. وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْإِحْسَانِ إلَى الْخُيُولِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ إتْعَابُهَا بِالرَّكْضِ تَلَهِّيًا. 77 - قَالَ: وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا أَحَدًا أَنْ يَرْكَبَ بِمِبْزَغٍ فِي سَوْطِهِ يَبْزُغُ بِهِ دَابَّتَهُ. أَيْ بِحَدِيدَةٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّخَّاسِينَ لِنَخْسِ الدَّابَّةِ عِنْدَ الرَّكْضِ، وَذَلِكَ يَجْرَحُ الدَّابَّةَ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ فِيهِ، وَرُبَّمَا يَسْرِي (؟) . فَلِهَذَا نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنْ اتِّخَاذِ حَدِيدَةٍ فِي ظَاهِرِ الْخُفِّ عِنْدَ الْعَقِبِ لِنَخْسِ الْفَرَسِ بِهِ، فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا قُلْنَا. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَنْهَى عَنْ رَكْضِ الْفَرَسِ إلَّا فِي حَقٍّ، أَيْ عِنْدَ غَرَضٍ صَحِيحٍ فِي الْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 [بَابُ كَرَاهِيَةِ الْجَرَسِ] ِ 78 - ذَكَرَ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: مَا اُسْتُنْفِرَ جَيْشٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يُنَادِي فِي ظُهُورِهِمْ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ظُهُورَهَا شَدِيدًا، وَحَوَافِرَهَا حَدِيدًا، إلَّا ذَاتَ الْجَرَسِ. 79 - وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاحِلَةً عَلَيْهَا جَرَسٌ فَقَالَ: تِلْكَ مَطِيُّ الشَّيْطَانِ» . 80 - وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعِيرُ الَّتِي فِيهَا جَرَسٌ لَا تَصْحَبُهَا الْمَلَائِكَةُ» ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآثَارِ، وَكَرِهُوا اتِّخَاذَ الْجَرَسِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي الْأَسْفَارِ فِي الْغَزْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَرِهُوا أَيْضًا اتِّخَاذَ الْجَلَاجِلِ فِي رِجْلِ الصَّغِيرِ، عَلَى مَا يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا رَأَتْ امْرَأَةً مَعَهَا صَبِيٌّ وَفِي رِجْلِهِ جَلَاجِلُ فَجَعَلَتْ تَقُولُ: نَحِّي عَنْهُ مَا يُنَفِّرُ الْمَلَائِكَةَ. وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْآثَارِ عِنْدَنَا أَنَّهُ كُرِهَ اتِّخَاذُ الْجَرَسِ لِلْغُزَاةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فَإِنَّهُمْ إذَا قَصَدُوا أَنْ يُبَيِّتُوا الْعَدُوَّ عَلِمَ بِهِمْ الْعَدُوُّ بِصَوْتِ الْجَرَسِ فَيَبْدُرُونَ بِهِمْ. فَإِذَا كَانُوا سَرِيَّةً عَلِمَ بِهِمْ الْعَدُوُّ فَأَتَوْهُمْ فَقَتَلُوهُمْ. فَالْجَرَسُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَدُلُّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا مَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِصَاحِبِ الرَّاحِلَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، يَعْنِي قَدْ يَنْتَفِعُ الْمُسْلِمُونَ فِي أَسْفَارِهِمْ بِصَوْتِ الْجَرَسِ يَدْفَعُونَ بِهِ النَّوْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَنْ يَضِلَّ عَنْ الطَّرِيقِ يَتَمَكَّنْ مِنْ اللُّحُوقِ بِهِمْ بِصَوْتِ الْجَرَسِ فَلَا يَضِلُّ. وَمِنْ الدَّوَابِّ مَا يَنْشَطُ فِي السَّيْرِ بِصَوْتِ الْجَرَسِ. فَإِذَا أَمِنُوا اللُّصُوصَ، وَكَانَ فِي الْجَرَسِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِهِ. وَهُوَ نَظِيرُ الْحِدَاءِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِ. «وَقَدْ أَذِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يَسِيرُ بِاللَّيْلِ، وَالْحَادِي يَحْدِي بَيْنَ يَدَيْهِ» . فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ (33 آ) بِمِثْلِهِ، وَمَا يَكُونُ فِي أَرْجُلِ الصِّبْيَانِ عَلَى سَبِيلِ اللَّهْوِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ فَلَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَا بَأْسَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 [بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْحَرْبِ] بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ 81 - قَالَ: وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا مِنْ وَجْهِ الدِّينِ. وَلَكِنَّهُ فَشَلٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ تَحْرِيضٌ وَمَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. يَعْنِي أَنَّ الْمُبَارِزِينَ يَزْدَادُونَ نَشَاطًا بِرَفْعِ الصَّوْتِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ إرْهَابٌ لِلْعَدُوِّ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَوْتُ أَبِي دُجَانَةَ فِي الْحَرْبِ فِئَةٌ» . فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ فَشَلٌ. وَرُبَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَيْشِ فَلِهَذَا لَا يُسْتَحَبُّ. 82 - وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْرَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ: عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ الْجَنَائِزِ، وَعِنْدَ الزَّحْفِ» ، أَيْ الْقِتَالِ. 83 - وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ: الْجَنَائِزِ وَالْقَتَال وَالذِّكْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْوَعْظُ. فَفِي الْحَدِيثَيْنِ كَرَاهَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْوَعْظِ. فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْوَجْدَ وَالْمَحَبَّةَ مَكْرُوهٌ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الدِّينِ. وَيَسْتَبِينُ بِهِ أَنَّهُ تُمْنَعُ الصُّوفِيَّةُ مِمَّا يَعْتَادُونَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَتَخْرِيقِ الثِّيَابِ عِنْدَ السَّمَاعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي الدِّينِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْوَعْظِ، فَمَا ظَنُّك عِنْدَ سَمَاعِ الْغِنَاءِ؟ فَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّوْحُ وَتَمْزِيقُ الثِّيَابِ وَخَمْشُ الْوُجُوهِ، فَذَلِكَ حَرَامٌ، وَالْمُرَادُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْإِفْرَاطِ فِي مَدْحِ الْمَيِّتِ عِنْدَ جِنَازَتِهِ، حَتَّى كَانُوا يَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ شِبْهُ الْمُحَالِ. وَفِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهِنَّ أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا» أَرَادَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ امْنَعُوهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا تَذْكُرُوهُ بِسُوءٍ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 [بَابُ الْعَمَائِمِ فِي الْحَرْبِ] 10 - بَابُ الْعَمَائِمِ فِي الْحَرْبِ 84 - قَالَ: وَلُبْسُ الْعَمَائِمِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا حَسَنٌ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْعَمَائِمَ تِيجَانُ الْعَرَبِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَمَّمُوا تَزْدَادُوا حِلْمًا» . «وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» . فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ. 85 - وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: تَجَهَّزْ، فَإِنِّي بَاعِثُكَ فِي السَّرِيَّةِ - الْحَدِيثَ - إلَى أَنْ قَالَ: وَعَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِمَامَةٌ قَدْ لَفَّهَا عَلَى رَأْسِهِ. فَدَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَقَضَ عِمَامَتَهُ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ عَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ وَأَرْخَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَاعْتَمَّ يَا ابْنَ عَوْفٍ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ إكْرَامًا لَهُ، خَصَّهُ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ إرْخَاءُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ (33 ب) الْكَتِفَيْنِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِشِبْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ يُجَدِّدَ اللَّفَّ لِعِمَامَتِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَهَا مِنْ رَأْسِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، لَكِنْ يَنْقُضُهَا كَمَا لَفَّهَا. فَقَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا بِعِمَامَةِ ابْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّشْرِ غِبَّ الطَّيِّ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ النَّشْرِ وَالْإِلْقَاءِ [عَلَى الْأَرْضِ] دَفْعَةً وَاحِدَةً. [بَابُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ] 11 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بَابُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ 86 - ذَكَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُقَاتِلَ الْكُفَّارَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَبِهِ نَأْخُذُ. 87 - وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا مَنْسُوخٌ، نَاسِخُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] يُفِيدُ إبَاحَةَ قَتْلِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَكَانٍ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] مُضِيُّ مُدَّةِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ لِبَعْضِهِمْ، لَا بَيَانُ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. ثُمَّ صَحَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزَا الطَّائِفَ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ الْمُحَرَّمِ، وَنَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَيْهَا، وَافْتَتَحَهَا فِي صَفَرٍ» ، وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ جَائِزٌ. . [بَابُ هِجْرَةِ الْأَعْرَابِ] 12 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بَابُ هِجْرَةِ الْأَعْرَابِ - وَعَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: هِجْرَةُ الْأَعْرَابِ إذَا ضَمَّهُمْ دِيوَانُهُمْ. وَقَدْ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً فِي الِابْتِدَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] . 89 - «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثُمَّ اُدْعُوهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ» . وَمِنْ مَذْهَبِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ هَذَا الْحُكْمُ، وَأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَعْرَابِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْغُزَاةِ لِيَكُونَ مُهَاجِرًا. فَقَدْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْهِجْرَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْقِتَالَ. وَعَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَرِيضَةُ الْهِجْرَةِ انْتَسَخَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، إنَّمَا هُوَ جِهَادٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَنِيَّةٌ» . وَقَالَ: «الْمُهَاجِرُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ هَجَرَ السُّوءَ، أَوْ قَالَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» . 90 - وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: إذَا وَطَنَ الْأَعْرَابِيُّ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْأَعْرَابِيَّةِ، وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، الْتَحَقَ فِي (34 آ) الدِّيوَانِ أَوْ لَمْ يُلْحَقْ. وَإِنَّمَا شُرِطَ أَنْ يَتَوَطَّنَ مِصْرًا لِيَتَعَلَّمَ شَرَائِعَ الدِّينِ. فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ فِي قَبِيلَتِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَوَطُّنِ الْمِصْرِ، وَلَكِنْ إذَا تَعَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْأَعْرَابِيَّةِ، يَعْنِي مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَعْرَابَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] . [بَابُ صِلَةِ الْمُشْرِكِ] 13 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 بَابُ صِلَةِ الْمُشْرِكِ وَذَكَرَ عَنْ أَبِي مَرْوَانَ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قُلْت لِمُجَاهِدٍ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، وَلِي عَلَيْهِ مَالٌ، أَدَعُهُ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَصِلْهُ. وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَصِلَ الْمُسْلِمُ الْمُشْرِكَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا، مُحَارِبًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا لِحَدِيثِ «سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: صَلَّيْت الصُّبْحَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدْت مَسَّ كَفٍّ بَيْنَ كَتِفِي، فَالْتَفَتّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ وَاهِبٌ لِي ابْنَةَ أُمِّ قِرْفَةَ؟ قُلْت: نَعَمْ. فَوَهَبْتهَا لَهُ. فَبَعَثَ بِهَا إلَى خَالِهِ حَزَنَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، وَهُوَ مُشْرِكٌ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ إلَى مَكَّةَ حِينَ قَحَطُوا، وَأَمَرَ بِدَفْعِ ذَلِكَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ لِيُفَرِّقَا عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ. فَقَبِلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ، وَأَبَى صَفْوَانُ وَقَالَ: مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ بِهَذَا إلَّا أَنْ يَخْدَعَ شُبَّانَنَا» . وَلِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحْمُودٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ وَفِي كُلِّ دِينٍ، وَالْإِهْدَاءَ إلَى الْغَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» . فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ جَمِيعًا. - ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «قَدِمَ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ أَخُو الْبَرَاءِ وَهُوَ مُشْرِكٌ. فَأَهْدَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسَيْنِ وَحُلَّتَيْنِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ» . وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْبَلُ هَدَايَا الْمُشْرِكِينَ» . «وَأَنَّهُ أَهْدَى مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ إلَى أَبِي سُفْيَانَ تَمْرَ عَجْوَةٍ، وَاسْتَهْدَاهُ أَدَمًا، فَقَبِلَ هَدِيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْدَى لَهُ الْأُدْمَ» . «وَأَنَّ نَصْرَانِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرِيرًا يَتَلَأْلَأُ، فَقَبِلَ هَدِيَّتَهُ» . «وَأَنَّ عِيَاضَ بْنَ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيَّ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: أَسْلَمْت يَا عِيَاضُ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَانِي أَنْ أَقْبَلَ زَبْدَ الْمُشْرِكِينَ» ، أَيْ عَطَايَاهُمْ. ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ» ، أَيْ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّتِهِمْ، فَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِمَّنْ كَانَ يَطْمَعُ فِي إيمَانِهِ إذَا رَدَّ هَدِيَّتَهُ لِيَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ ثُمَّ يَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ. أَوْ لَمْ يَقْبَلْ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُطَالِبُ بِالْعِوَضِ وَلَا يَرْضَى بِالْمُكَافَأَةِ بِمِثْلِ مَا أَهْدَى. وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةَ الْأَعْرَابِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا أَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ» (34 ب) . وَأَيَّدَ هَذَا مَا رُوِيَ «أَنَّ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ أَهْدَى إلَيْهِ فَرَسَيْنِ قَدْ كَانَ أَحَدُهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَ فِي أَيْدِيهِمْ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ، فَعَوَّضَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوْقَ هَدِيَّتِهِ، فَجَعَلَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَهْدُونَ مَا نَعْرِفُهُ أَنَّهُ لَنَا. ثُمَّ لَا يَرْضَوْنَ بِالْمُكَافَأَةِ بِالْمِثْلِ» . وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ هَدِيَّةَ عَامِرٍ لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ أَجَارَ سَبْعِينَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَتَلَهُمْ قَوْمُهُ، وَهُمْ أَصْحَابُ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَفِي هَذَا قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَلِهَذَا رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدِيَّتَهُ. - ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُكْرَهُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يَقْبَلَ هَدَايَاهُمْ. فَإِنْ قَبِلَهَا فَلْيَجْعَلْهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَتَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ. فَقِيلَ: هَذَا لَيْسَ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ التَّنْزِيهُ، لِأَنَّهُ إذَا قَبِلَ هَدَايَاهُمْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْهَدِيَّةُ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ» . وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا عَلَى أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا، وَلَكِنَّهُ يَقْبَلُهَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَهَا فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ أَهْدَوْا إلَيْهِ لِمَنَعَتِهِ، وَمَنَعَتُهُ بِالْمُسْلِمِينَ لَا بِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَهْدَوْا إلَى قَائِدٍ مِنْ قُوَّادِ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَهْدَوْا إلَى مُبَارِزٍ، فَإِنَّ عِزَّتَهُ بِقُوَّةٍ فِي نَفْسِهِ فَتُسَلَّمُ لَهُ الْهَدِيَّةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَأَمَّا فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ لَهُ، فَإِنَّ عِزَّتَهُ وَمَنَعَتَهُ لَمْ تَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} [المائدة: 67] . وَمَا كَانَ فِي حَقِّهِ تَوَهُّمُ الرُّكُونِ بِقَلْبِهِ إذَا قَبِلَ هَدَايَاهُمْ، فَلِهَذَا قَبِلَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي جَوَازِ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقْبَلَانِ هَدِيَّةَ الْمُخْتَارِ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يُجَوِّزَانِ ذَلِكَ. حَتَّى رُوِيَ أَنَّ أَمِيرًا أَهْدَى إلَى أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِائَةَ دِينَارٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَلْ أَهْدَى إلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِثْلَ هَذَا؟ فَقِيلَ: لَا، فَرَدَّهَا وَقَالَ: {كَلا إِنَّهَا لَظَى} [المعارج: 15] {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج: 16] . وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لِلسُّلْطَانِ نَصِيبٌ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَإِذَا أَعْطَاك شَيْئًا فَخُذْهُ، فَإِنَّ مَا يُعْطِيهِ حَلَالٌ لَك. وَحَاصِلُ الْمَذْهَبِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ مِنْ الرِّشْوَةِ وَالْحَرَامِ لَمْ يَحِلَّ قَبُولُ الْجَائِزَةِ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ لَهُ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ. وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ تِجَارَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَكْثَرُ مَالِهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِقَبُولِ الْجَائِزَةِ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ لَهُ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٍ، وَفِي قَبُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهَدِيَّةَ مِنْ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. . [بَابُ الْمُبَارَزَةِ] 14 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بَابُ الْمُبَارَزَةِ ذَكَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ يَتَغَنَّى فَقَالَ: أَتَتَغَنَّى؟ (35 آ) فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي وَقَدْ قَتَلْت سَبْعَةً وَسَبْعِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِيَدِي سِوَى مَا شَارَكْت فِيهِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَغَنَّى إذَا كَانَ وَحْدَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ الْوَحْشَةَ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . ثُمَّ كَانَ يَتَغَنَّى فِي مَرَضِهِ حِينَ بَقِيَ وَحْدَهُ، وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَسٌ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا تَلَهِّيًا، وَلَكِنْ يَدْفَعُ الْوَسْوَاسَ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَطْمَعُ فِي الشَّهَادَةِ وَخَشِيَ أَنْ يَمُوتَ فِي مَرَضِهِ فَاسْتَوْحَشَ مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلَ يَتَغَنَّى. فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا الْمَكْرُوهُ مَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ اللَّهْوِ، عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْهَاكُمْ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 صَوْتُ الْغِنَاءِ فَإِنَّهُ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ، وَخَمْشُ الْوُجُوهِ وَشَقُّ الْجُيُوبِ رَنَّةُ الشَّيْطَانِ» . يَعْنِي رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. ثُمَّ صَحَّ أَنَّ الْبَرَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ ثُمَّ اُسْتُشْهِدَ كَمَا كَانَ يَطْمَعُ. [بَابُ مَنْ قَاتَلَ فَأَصَابَ نَفْسَهُ] 15 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بَابُ مَنْ قَاتَلَ فَأَصَابَ نَفْسَهُ وَذَكَرَ عَنْ مَكْحُولٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَاوَلَ رَجُلًا مِنْ الْعَدُوِّ لِيَضْرِبَهُ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ رِجْلَهُ فَنَزَفَ حَتَّى مَاتَ. فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أَشَهِيدٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ» . وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ شَهِيدٌ فِيمَا تَنَاوَلَ مِنْ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ. فَأَمَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِهَذَا فِي الدُّنْيَا يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّ الشَّهِيدَ الَّذِي لَا يُغَسَّلُ مَنْ يَصِيرُ مَقْتُولًا بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ. وَهَذَا صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْعَدُوَّ لَا نَفْسَهُ، فَيَكُونُ شَهِيدًا فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ، وَيُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ فِي الدُّنْيَا. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالنُّفَسَاءُ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَمُوتُ بِجُمْعٍ لَمْ تُطْمَثْ شَهِيدٌ» . يَعْنِي فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ لَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ تَعَمَّدَ قَتْلَ نَفْسِهِ بِحَدِيدَةٍ أَنَّهُ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فِي حَقِّ الَّذِي أَخْطَأَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 يَجَأُ بِهَا نَفْسَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَمَاتَ فَهُوَ يَشْرَبُهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا» . قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَقُولُ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَأَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ إنْ كَانَ تَابَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ فِيمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» . قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَسَمِعْت الْقَاضِيَ الْإِمَامَ (35 ب) عَلِيًّا السُّغْدِيَّ يَقُولُ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لَا لِأَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ بَاغٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْبَاغِي. 96 - وَذَكَرَ عَنْ «سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَنَّ عَامِرَ بْنَ سِنَانِ بْنَ الْأَكْوَعِ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَكَانَ ضَرَبَ يَهُودِيًّا فَقَطَعَ رِجْلَهُ وَرَجَعَ السَّيْفُ عَلَى عَامِرٍ فَعَقَرَهُ فَمَاتَ مِنْهَا. فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. إنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ. إنَّهُ جَاهِدٌ مُجَاهِدٌ وَإِنَّهُ لَيَعُومُ فِي الْجَنَّةِ عَوْمَ الدُّعْمُوصِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَبِهِ نَقُولُ إنَّهُ مَعْذُورٌ فِيمَا أُصِيبَ بِهِ، مُثَابٌ عَلَى مَا صَنَعَ. فَإِنَّهُ جَاهِدٌ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ مُبَالِغٌ فِي ذَلِكَ، مُصَابٌ حِينَ رَجَعَ إلَيْهِ السَّيْفُ فَعَقَرَهُ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ مَاتَ، فَهُوَ جَاهِدٌ صَابِرٌ، و: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] . فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ» . - قَالَ: وَإِذَا الْتَقَتْ السَّرِيَّتَانِ لَيْلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَرَى أَنَّ صَاحِبَتَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَاقْتَتَلُوا فَأَجْلَوْا عَنْ قَتْلَى ثُمَّ عَلِمُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ السَّرِيَّتَيْنِ بَاشَرَتْ دَفْعًا مُبَاحًا، فَقَدْ قَصَدَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ إلَى الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا قَتَلَتْهَا الْأُخْرَى دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَذَلِكَ دَفْعٌ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً. 98 - وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجَتْ طَلِيعَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْخَنْدَقِ لَيْلًا فَالْتَقَتَا تَحْتَ اللَّيْلِ وَلَا يَشْعُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ الْعَدُوُّ. فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ جِرَاحَاتٌ وَقَتْلَى. ثُمَّ تَنَادَوْا بِشِعَارِ الْإِسْلَامِ فَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: جِرَاحَاتُكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَهُوَ شَهِيدٌ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 - وَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ. فَقَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا، ظَنَّ أَنَّهُ مُشْرِكٌ، أَوْ رَمَى إلَى مُشْرِكٍ فَرَجَعَ السَّهْمُ فَأَصَابَ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ هَذَا صُورَةُ الْخَطَأِ. وَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ. 100 - وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رُوِيَ «أَنَّ سُيُوفَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى الْيَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَقَتَلُوهُ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ الدِّيَةَ، فَوَهَبَهَا لَهُمْ حُذَيْفَةُ» . وَكَانَ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ أَنَّ الْمَقْتُولَ هَا هُنَا مَا كَانَ قَاصِدًا قَتْلَ صَاحِبِهِ الَّذِي قَتَلَهُ، وَكَانَتْ حُرْمَةُ نَفْسِهِ بَاقِيَةً فِي نَفْسِهِ، فَيَجِبُ الدِّيَةُ صِيَانَةً لِدَمِهِ عَنْ الْهَدَرِ. وَفِي الْأَوَّلِ الْمَقْتُولُ كَانَ قَاصِدًا إلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فِي حَقِّهِ، فَإِنَّمَا قَتَلَهُ بِدَفْعِ مُبَاحٍ. [بَابُ قَتْلِ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ] 16 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بَابُ قَتْلِ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَبْتَدِئُ بِهِ، إلَّا الْوَالِدَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ وَالِدَهُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جَدُّهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ (36 آ) أَوْ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ وَإِنْ بَعُدَ، إلَّا أَنْ يَضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] فَالْمُرَادُ الْأَبَوَانِ إذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاك} [لقمان: 15] الْآيَةَ، وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْبِدَايَةُ بِالْقَتْلِ. وَأَمَّا إذَا اضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ فَهُوَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْبِدَايَةِ بِنَفْسِهِ فِي الْإِحْسَانِ إلَيْهَا وَدَفْعِ شَرِّ الْقَتْلِ عَنْهَا أَبْلَغَ جِهَاتِ الْإِحْسَانِ. ثُمَّ الْأَبُ كَانَ سَبَبًا لِإِيجَادِ الْوَلَدِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ سَبَبَ إعْدَامِهِ بِالْقَصْدِ إلَى قَتْلِهِ، إلَّا أَنْ يَضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْأَبُ هُوَ الْمُكْتَسِبُ لِذَلِكَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَلْجَأَ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلْمُلْجِئِ. وَلِهَذَا لَا يُحْبَسُ الْأَبُ بِدَيْنِ الْوَلَدِ وَيُحْبَسُ بِنَفَقَتِهِ، لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ نَفَقَتَهُ فَقَدْ قَصَدَ إتْلَافَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ثُمَّ اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ بِمَا رُوِيَ: 102 - «أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اسْتَأْذَنَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ أَبَوَيْهِمَا فَنَهَاهُمَا عَنْ ذَلِكَ» . وَعَنْ عُمَيْرٍ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَقِيت أَبِي فِي الْعَدُوِّ، فَسَمِعْت مِنْهُ مَقَالَةً لَك سَيِّئَةً فَقَتَلْته فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ بِقَتْلِهِ شَيْئًا إذَا قَتَلَهُ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ. وَالسُّكُوتُ عَنْ الْبَيَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ. وَأَوَّلُ الْوُجُوهِ أَنْ لَا يَقْصِدَهُ بِالْقَتْلِ، وَلَا يُمَكِّنَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ فِي الصَّفِّ، وَلَكِنَّهُ يُلْجِئُهُ إلَى مَوْضِعٍ وَيَسْتَمْسِكُ بِهِ حَتَّى يَجِيءَ غَيْرُهُ فَيَقْتُلَهُ. رُوِيَ فِي الْكِتَابِ حَدِيثًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَالَ: فَهُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا. فَأَمَّا إبَاحَةُ قَتْلِ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 [بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْقَتْلَى] 103 رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِبَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَهُمْ يَنْدُبُونَ قَتْلَاهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ. فَقَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ. قَالَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي رَوَتْ: فَخَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَدَبْنَا حَمْزَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَيْتِ، حَتَّى سَمِعْنَا نَشِيجَهُ فِي الْبَيْتِ. فَأَرْسَلَ إلَيْنَا أَنْ قَدْ أَصَبْتُمْ، أَوْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ» . وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ حَمْزَةَ كَانَ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَئِذٍ، لَكِنَّهُ كَانَ غَرِيبًا بِالْمَدِينَةِ فَنَدَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا قَالَ. وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ نِسَاءَ قَوْمِهِ، وَكَذَلِكَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَكَذَلِكَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. فَجَاءَ كُلُّ فَرِيقٍ إلَى بَابِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْدُبُونَ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاسْتَأْنَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبُكَائِهِمْ (36 ب) حَتَّى نَامَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ جَرَى الرَّسْمُ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ إذَا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ يَبْدَءُونَ بِالْبُكَاءِ لِحَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالرِّجَالُ فِي تَعْزِيَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا يَقُولُونَ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ. 104 - ثُمَّ أَعَادَ الْحَدِيثَ بِطَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَزَادَ فِي آخِرِهِ: «فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ يَبْكِينَ. فَقَالَ: يَا وَيْحَهنَّ إنَّهُنَّ لَهَا هُنَا مُنْذُ الْيَوْمِ. فَلْيَرْجِعْنَ وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ» . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: هَذِهِ رُخْصَةٌ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ انْتَسَخَتْ بِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ قَدْ انْتَسَخَ وَلَا رُخْصَةَ فِيهِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «النَّائِحَةُ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ مُسْتَمِعِيهَا عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَأَمَّا الْبُكَاءُ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الصَّوْتِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ إبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَلَيْسَ قَدْ نَهَيْتنَا عَنْ الْبُكَاءِ؟ فَقَالَ: إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ، وَأَمَّا هَذِهِ رَحْمَةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الرُّحَمَاءِ. الْعَيْنُ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبُ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبُّ» . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ سَمِعَ امْرَأَةً وَهِيَ تَبْكِي عَلَى وَلَدِهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَهَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعْهَا يَا عُمَرُ، فَإِنَّ الْقَلْبَ حَزِينٌ، وَالنَّفْسَ مُصَابَةٌ، وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ» . وَلَكِنْ مَعَ هَذَا؛ الصَّبْرُ أَفْضَلُ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 [بَابُ حَمْلِ الرُّءُوسِ إلَى الْوُلَاةِ] ِ 105 وَذَكَرَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرَأْسِ يَنَاقَ الْبِطْرِيقِ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. فَقِيلَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا. قَالَ فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسٍ وَالرُّومِ؟ لَا يُحْمَلُ إلَيَّ رَأْسٌ، إنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهُمْ: لَقَدْ بَغَيْتُمْ. أَيْ تَجَاوَزْتُمْ الْحَدَّ. وَفِي رِوَايَةٍ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ: لَا تَبْعَثُوا إلَيَّ بِرَأْسٍ، وَلَكِنْ يَكْفِينِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ. فَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ: لَا يَحِلُّ حَمْلُ الرُّءُوسِ إلَى الْوُلَاةِ لِأَنَّهَا جِيفَةٌ. فَالسَّبِيلُ دَفْنُهَا لِإِمَاطَةِ الْأَذَى، وَلِأَنَّ إبَانَةَ الرَّأْسِ مُثْلَةٌ، «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» . وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ. وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَبْتٌ وَغَيْظٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَوْ فَرَاغُ قَلْبٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ قُوَّادِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ عُظَمَاءِ الْمُبَارِزِينَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أَلَا تَرَى «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمَلَ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى أَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا رَأْسُ عَدُوِّك أَبِي جَهْلٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا فِرْعَوْنِي وَفِرْعَوْنُ أُمَّتِي. وَكَانَ شَرُّهُ (37 آ) عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي أَعْظَمَ مِنْ شَرِّ فِرْعَوْنَ عَلَى مُوسَى وَأُمَّتِهِ» . وَمَا مَنَعَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ. 106 - وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: «لَمْ يُحْمَلْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسٌ إلَّا يَوْمَ بَدْرٍ» . وَحُمِلَ إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَنْكَرَهُ. وَأَوَّلُ مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ الرُّءُوسُ ابْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. «وَلَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ إلَى سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَضَرَبْت عُنُقَهُ وَأَخَذْت بِرَأْسِهِ فَصَعِدْت إلَى جَبَلٍ فَاخْتَبَأْت فِيهِ. حَتَّى إذَا رَجَعَ الطَّلَبُ وُجِّهْت بِرَأْسِهِ حَتَّى جِئْت بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . «وَحِينَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، جَاءَ بِرَأْسِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ» ، فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآثَارِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 [بَابُ السِّلَاحِ وَالْفُرُوسِيَّةِ] 19 - بَابُ السِّلَاحِ وَالْفُرُوسِيَّةِ «ذَكَرَ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ذُكِرَتْ الْقَوْسُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا سَبَقَهَا سِلَاحٌ قَطُّ إلَى خَيْرٍ» . يَعْنِي أَنَّهُ أَقْوَى آلَاتِ الْجِهَادِ. فِيهِ حَثٌّ لِلْغُزَاةِ عَلَى تَعَلُّمِ الرَّمْيِ. وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ مِنْهَا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] : أَلَا أَنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ قَالَهَا ثَلَاثًا» . وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةً الْجَنَّةَ: صَانِعُهُ الَّذِي يَحْتَسِبُ بِهِ، وَمُنْبِلُهُ، وَالرَّامِي بِهِ» . وَقَالَ: «كُلُّ لَهْوِ ابْنِ آدَمَ بَاطِلٌ إلَّا ثَلَاثَةً: تَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ عَنْ قَوْسِهِ» . «وَمَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَحَدٍ بَيْنَ أَبَوَيْهِ إلَّا لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . 108 - وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ أَنْ وَفِّرُوا الْأَظَافِيرَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهَا سِلَاحٌ. وَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 لِلْمُجَاهِدِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ قَصُّ الْأَظَافِيرِ مِنْ الْفِطْرَةِ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ السِّلَاحُ مِنْ يَدِهِ وَقَرُبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ رُبَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهِ بِأَظَافِيرِهِ. وَهُوَ نَظِيرُ قَصِّ الشَّوَارِبِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ. ثُمَّ الْغَازِي فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُوَفِّرَ شَارِبَهُ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ فَيَحْصُلَ بِهِ الْإِرْهَابُ. 109 - وَذَكَرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ السِّبَاحَةَ، وَالْفُرُوسِيَّةَ، وَمُرُوهُمْ بِالِاحْتِفَاءِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِهِ «عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ السِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ، وَالْمَرْأَةَ الْغَزْلَ» . وَقَالَ «ارْكَبُوا. وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا» . وَالْحَاصِلُ أَنْ مَا يُعِينُهُ عَلَى الْجِهَادِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى تَعَلُّمِهِ، وَإِلَى أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إعْزَازِ الدِّينِ وَقَهْرِ الْمُشْرِكِينَ. - وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: أَفْطِرُوا فَإِنَّهُ يَوْمُ قِتَالٍ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً (37 ب) بِالْقِتَالِ. وَأَنَّ الْأَفْضَلَ لِلْغَازِي إذَا كَانَ يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَنْ يُفْطِرَ. فَإِنَّ الصَّوْمَ رُبَّمَا يُضْعِفُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْقِتَالِ. وَالْخَلَلُ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ. وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَلِهَذَا كَانَ الْفِطْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أَفْضَلَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ. فَلَأَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ لِلْمُسَافِرِ الْمُقَاتِلِ كَانَ أَوْلَى. - وَعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ - يَعْنِي يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - وَرَأَيْت بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدْخَلَ وُضُوءَهُ إلَيْهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ يُهَرِيقهُ. فَرَأَيْت النَّاسَ يَبْتَدِرُونَهُ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ فَتَمَسَّحَ بِهِ» . وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِذَلِكَ، وَلَا يُتَبَرَّكُ بِمَا هُوَ نَجِسٌ فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَذِرُ وَيَقُولُ: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَنْ لَوْ بَلَغَهُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. قَالَ: ثُمَّ «رَأَيْت بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْرَجَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُتَشَمِّرًا. فَصَلَّى إلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ. وَرَأَيْت النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ» . وَالْعَنَزَةُ: شِبْهُ الْحَرْبَةِ كَانَتْ تُحْمَلُ أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَسْفَارِهِ لِتُرْكَزَ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا صَلَّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَمِنْهُ عَادَةُ الْأُمَرَاءِ فِي حَمْلِ السِّلَاحِ أَمَامَهُمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ، وَأَنَّ الْمُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ السُّتْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَتْ السُّتْرَةُ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ خَاصَّةً فَذَلِكَ يَكْفِي. وَلَا تُشْتَرَطُ السُّتْرَةُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ، [لِأَنَّ الْإِمَامَ] بِمَنْزِلَةِ السُّتْرَةِ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي. وَأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ الْمُرُورِ وَرَاءَ السُّتْرَةِ؛ لِأَنَّ السُّتْرَةَ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصَلِّي بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ السُّتْرَةِ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ مَنْ يَكُونُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ فَلَا يَمُرُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْمُرُورِ وَرَاءَهُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ طَوِيلًا غَلِيظًا. فَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طُولُهُ ذِرَاعًا وَغِلْظَتُهُ بِقَدْرِ الْإِصْبَعِ، لِمَا قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُجْزِئُ مِنْ السُّتْرَةِ السَّهْمُ» . وَاَللَّهُ الْمُعِينُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 [بَابُ الْحَرْبِ كَيْفَ يُعَبَّأُ لَهُ] ُ وَفِي نُسْخَةٍ: كَيْفَ تَغْشَاهُ 112 ذَكَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: «لَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ عَمَدَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ إلَى أَصْحَابِهِ فَعَبَّأَهُمْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ - وَهُوَ وَادٍ حَدُورٌ ذُو شِعَابٍ وَمَضَايِقَ. وَفَرَّقَ النَّاسَ فِيهِ، وَأَوْعَزَ إلَى النَّاسِ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَى مُحَمَّدٍ (38 آ) وَأَصْحَابِهِ حَمْلَةً وَاحِدَةً - أَيْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ إِلْيَهِمْ فِيهِ - وَمَالِكٌ هَذَا كَانَ صَاحِبَ الْجَيْشِ يَوْمَ حُنَيْنٍ. فَكَانَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَصْحِبُوا أَهَالِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِيُقَاتِلُوا عَنْهُمْ إنْ لَمْ يُقَاتِلُوا عَنْ دِينِهِمْ فَخَطَّأَهُ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ فِي هَذَا الرَّأْيِ. وَقَالَ لَهُ: رَاعِي الضَّأْنِ مَالَهُ وَلِلْحَرْبِ؟ وَهَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ هَذَا الَّذِي تَسُوقُونَهُ كُلُّهُ غَنَائِمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. قِيلَ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: أَنْ تَحْمِلُوا الظَّعْنَ إلَى عَلْيَاءِ بِلَادِكُمْ. وَأَنْ يَلْقَى الرِّجَالُ بِالسُّيُوفِ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ عَدُوَّهُمْ. فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أُغَيِّرُ مَا صَنَعْت. فَهَلْ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. اجْعَلْ النَّاسَ فَرِيقَيْنِ: يَمْنَةً وَيَسْرَةً، لِيَكْمُنُوا فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْمَضَايِقِ، حَتَّى إذَا دَخَلَهَا الْعَدُوُّ خَرَجُوا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمَلَةً وَاحِدَةً. فَقَالَ: أَمَّا هَذِهِ فَنَعَمْ. وَفَعَلَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ. وَعَبَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فَصَفَّهُمْ صُفُوفًا فِي السَّحَرِ، وَوَضَعَ الْأَوْلَوِيَّةَ فِي أَهْلِهَا. الْحَدِيثِ إلَى أَنْ قَالَ: فَانْحَدَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَادِي حُنَيْنٍ انْحِدَارًا، وَهُوَ وَادٍ حَدُورٌ. وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ دُلْدُلَ، وَاسْتَقْبَلَ الصُّفُوفَ فَطَافَ عَلَيْهِمْ يَحُثُّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَيُبَشِّرُهُمْ بِالْفَتْحِ إنْ صَدَقُوا وَصَبَرُوا» . وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْخَوْفِ. وَبِاللَّيْلِ إذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْ الْعَدُوِّ. قَالَ: «فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ يَنْحَدِرُونَ فِي غَبَشِ الصُّبْحِ إذْ حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ تِلْكَ الشِّعَابِ وَالْمَضَايِقِ. فَانْكَشَفَتْ أَوَّلُ الْخُيُولِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 خَيْلُ بَنِي سُلَيْمٍ مُوَلِّيَةً - يَعْنِي انْهَزَمَتْ رَاجِعَةً - ثُمَّ تَبِعَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَتَبِعَهُمْ النَّاسُ مُدْبِرِينَ فَلَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» . وَفِي الْمَغَازِي أَنَّ إبْلِيسَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ نَادَى: أَلَا إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَلْيَرْجِعْ كُلُّ ذِي دِينٍ دِينَهُ. فَلِهَذَا انْهَزَمُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] وَأَمْعَنَ بَعْضُهُمْ فِي الِانْهِزَامِ حَتَّى انْتَهَى إلَى مَكَّةَ. وَسَمِعَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَاحِدًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْهُ. وَكَانَ صَفْوَانُ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكًا فَقَالَ: بِفِيك الْأَثْلَبِ. لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَبٍّ مِنْ هَوَازِنَ إذَا كُنْت مَرْبُوبًا. قَالَ: «فَاقْتَحَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَابَّتِهِ حَتَّى رَأَى الْمُسْلِمِينَ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. فَثَبَتَ قَائِمًا، وَجَرَّدَ سَيْفَهُ وَطَرَحَ غِمْدَهُ. فَجَعَلَ يَتَقَدَّمُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ وَهُوَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ اللَّهَ اللَّهَ الْكَرَّةُ عَلَى نَبِيِّكُمْ» . وَذَكَرَ فِي الْمَغَازِي «أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا عَمُّهُ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى يَمِينِهِ، وَسُفْيَانُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (38 ب) عَلَى يَسَارِهِ. وَمَا كَانَ كَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، لِكَثْرَةِ مَا كَانَ آذَاهُ بِهِجَائِهِ. فَحِينَ رَأَى ذَلِكَ الْجِدَّ مِنْهُ كَلَّمَهُ وَعَانَقَهُ. وَبَلَّغَ اللَّهُ صَوْتَ رَسُولِهِ إلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَكَبَّرُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَحَمَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَانْهَزَمَ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يَطْعَنُوا بِرُمْحٍ أَوْ يَضْرِبُوا بِسَيْفٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 26] » . الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 [بَابٌ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ] 21 - بَابٌ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ ذَكَرَ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ ذِي حَدَّانِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ أَوْ خَدْعَةٌ» بِالنَّصْبِ. وَكِلَاهُمَا لُغَةٌ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُجَاهِدِ أَنْ يُخَادِعَ قِرْنَهُ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ غَدْرًا مِنْهُ. وَأَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالظَّاهِرِ فَقَالُوا: يُرَخَّصُ فِي الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: فِي الصُّلْحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَفِي الْقِتَالِ، وَفِي إرْضَاءِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ» . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْكَذِبَ الْمَحْضَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا رُخْصَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - كَذَبَ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْمَعَارِيضِ، إذْ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَذِبِ الْمَحْضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وَقَالَ عُمَرُ: إنَّ فِي مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ. وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " الْكِتَابِ ": وَهُوَ أَنْ يُكَلِّمَ مَنْ يُبَارِزُهُ بِشَيْءٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ. وَلَكِنَّهُ يُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُهُ لَهُ. كَمَا فَعَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ بَارَزَهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ ضَمِنْت لِي أَنْ لَا تَسْتَعِينَ عَلَيَّ بِغَيْرِك؟ فَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَوْتهمْ؟ . فَالْتَفَتَ كَالْمُسْتَبْعِدِ لِذَلِكَ، فَضَرَبَ عَلَى سَاقَيْهِ ضَرْبَةً قَطَعَ رِجْلَيْهِ. وَكَانَ مِنْ الْخُدْعَةِ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ قَوْلًا لِيَرَى مَنْ سَمِعَهُ أَنَّ فِيهِ ظَفَرًا أَوْ أَنَّ فِيهِ أَمْرًا يُقَوِّي أَصْحَابَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ كَاذِبًا فِيهِ ظَاهِرًا. عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حُرُوبِهِ كَانَ يَنْظُرُ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ يَقُولُ: مَا كَذَبْت وَلَا كَذَبْت. يُرِي مَنْ حَضَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَهُ بِمَا اُبْتُلِيَ بِهِ، وَأَمَرَهُ فِي ذَلِكَ بِمَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ. وَلَعَلَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعَجَائِزُ. فَلَمَّا سَمِعَتْ الْعَجُوزُ ذَلِكَ جَعَلَتْ تَبْكِي، حَتَّى بَيَّنَ لَهَا صِفَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَ يَدْخُلُونَهَا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُقَيِّدَ كَلَامَهُ بِلَعَلَّ وَعَسَى، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ (39 ا) يَخْرُجُ الْكَلَامُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً عَلَى مَا قَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ» . وَاسْمُ هَذَا الرَّجُلِ مَذْكُورٌ فِي الْمَغَازِي نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ] . «فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ غَدَرَتْ وَبَايَعَتْ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بِهَذَا. فَرَجَعَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَقَالَ: زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ أَمَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ بِهَذَا. فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْته يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَوَاَللَّهِ مَا كَذَبَ» . وَتَمَامُ هَذِهِ الْقِصَّةِ ذُكِرَ فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: «أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنْ جَاءَ الْأَحْزَابُ وَمَعَهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ رَأْسُ بَنِي النَّضِيرِ. فَمَا زَالَ بِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى نَقَضُوا الْعَهْدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَايَعُوا أَبَا سُفْيَانَ. عَلَى أَنْ يُغِيرُوهُمْ عَلَى الْمَدِينَةِ وَالْأَحْزَابُ يُقَاتِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ. فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10] . فَجَاءَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يُخْبِرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ كَانَ مُشْرِكًا يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مِنْ مُوَاطَأَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَتَّى نُحِيطَ بِالْأَحْزَابِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 يُؤْثَرُ عَنْك شَيْءٌ مِنْ أَجْلِ صَنِيعِهِمْ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ يَا عُمَرُ» . فَكَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ سَبَبَ تَفَرُّقِهِمْ وَتَفَرُّقِ كَلِمَتِهِمْ وَانْهِزَامِهِمْ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: «أَنَّهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ قَالُوا لِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: لَا نَأْمَنُ أَنْ يَطُولَ الْأَمْرُ وَتَذْهَبَ الْأَحْزَابُ وَنَبْقَى مَعَ مُحَمَّدٍ فَيُحَاصِرَنَا وَيُخْرِجَنَا مِنْ دِيَارِنَا كَمَا فَعَلَ بِك وَبِأَصْحَابِك. فَقَالَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ: أَنَا أَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا سَبْعِينَ مِنْ أَبْنَاءِ كُبَرَائِهِمْ إلَيْكُمْ لِيَكُونُوا رَهْنًا فِي حِصْنِكُمْ. وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَهُمْ حِينَ جَرَتْ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ، فَحَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالُوا: هُوَ الرَّأْيُ. ثُمَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ. فَجَاءَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَسُولَ بَنِي قُرَيْظَةَ يَسْأَلُهُ الرَّهْنَ. فَقَالَ لَهُ: هَلْ عَلِمْت أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: إنِّي سَمِعْته الْآنَ يَقُولُ كَذَا. وَهَذَا مُوَاطَأَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ، لِيَأْخُذُوا سَبْعِينَ مِنْكُمْ فَيَدْفَعُوهُمْ إلَيْهِ لِيَقْتُلَهُمْ. وَقَدْ ضَمِنَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إصْلَاحَ جَنَاحِهِمْ، يَعْنِي رَدَّ بَنِي النَّضِيرِ إلَى دَارِهِمْ. فَقَالُوا: هُوَ كَمَا قُلْت وَاَلْلَاتِ وَالْعُزَّى. وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَبَعَثَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ اُخْرُجُوا عَلَى تِلْكَ الْمُبَايَعَةِ الَّتِي بَيْنَنَا فَقَدْ طَالَ الْأَمْرُ. فَقَالُوا: غَدًا يَوْمُ السَّبْتِ، وَنَحْنُ لَا نَكْسِرُ السَّبْتَ. وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَخْرُجُ حَتَّى تُعْطُونَا الرَّهْنَ (39 ب) . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ كَمَا أَخْبَرَنَا بِهِ نُعَيْمٌ. وَقَذَفَ اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَانْهَزَمُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ» . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 [بَابُ الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ] ِ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أُحِبُّ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِهِ قُوَّةٌ أَنْ يَفِرَّ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] . وَفِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَعْنَاهُ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ، أَيْ سَرِيَّةٍ، لِلْقِتَالِ بِالْكَرَّةِ عَلَى الْعَدُوِّ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ. أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ: أَيْ يَنْحَازُ فَيَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ. يُقَالُ: تَحَوَّزَ وَتَحَيَّزَ إلَى فُلَانٍ: أَيْ انْضَمَّ إلَيْهِ. وَالْفِئَةُ: الْقُوَّةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. فَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ خَاصَّةً، إذْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إلَيْهَا غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مَعَهُمْ. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ هَذَا الْحُكْمُ. وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ» وَذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ الْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ. وَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُوبِقَاتِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الْقِتَالِ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ» . ثُمَّ إنْ كَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ نِصْفِ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ الْفِرَارُ مِنْهُمْ. وَكَانَ الْحُكْمُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا مِثْلَ عُشْرِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] وَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ غَالِبٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفِرَّ. ثُمَّ خَفَّفَ الْأَمْرَ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] . وَهَذَا إذَا كَانَ بِهِمْ قُوَّةُ الْقِتَالِ بِأَنْ كَانَتْ مَعَهُمْ الْأَسْلِحَةُ. فَأَمَّا مَنْ لَا سِلَاحَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفِرَّ مِمَّنْ مَعَهُ السِّلَاحُ. وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفِرَّ مِمَّنْ يَرْمِي إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ آلَةُ الرَّمْيِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ، وَمِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرْمَى فِيهِ بِالْمَنْجَنِيقِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمُقَامِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؟ وَعَلَى هَذَا لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفِرَّ الْوَاحِدُ مِنْ الثَّلَاثَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْ الْعَدُوِّ وَإِنْ كَثُرُوا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا عَنْ قِلَّةٍ» وَمَنْ كَانَ غَالِبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفِرَّ. 115 - وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ وَأَنَا فِيهِمْ. فَحَاصَ الْمُسْلِمُونَ حَيْصَةً. يَعْنِي انْهَزَمُوا مِنْ الْعَدُوِّ. فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ أَنْتُمْ الْعَكَّارُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَنَا لَكُمْ فِئَةٌ لِتَرْجِعُوا إلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَالْمُرَادُ بِالْعَكَّارِ الرَّاجِعُ إلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. يَعْنِي: كَانَ هَذَا مِنْكُمْ تَحَيُّزًا إلَيَّ. أَنَا لَكُمْ (40 آ) فِئَةٌ لِتَرْجِعُوا مَعِي إلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قُتِلَ أَبُو عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ وَهُوَ أَبُو الْمُخْتَارِ، يَوْمَ قَسّ النَّاطِف - اسْمُ مَوْضِعٍ - وَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى قُتِلَ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدٍ لَوْ انْحَازَ إلَيَّ كُنْت لَهُ فِئَةً. فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالِانْهِزَامِ إذَا أَتَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَدُوِّ مَا لَا يُطِيقُهُمْ. وَلَا بَأْسَ بِالصَّبْرِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ إنَّهُ إلْقَاءُ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ، بَلْ فِي هَذَا تَحْقِيقُ بَذْلِ النَّفْسِ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مِنْهُمْ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ حَمِيُّ الدَّبْرِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 [بَابُ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا] 23 - بَابُ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا قَالَ: وَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ. 118 - وَفِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا، لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ تَقَوُّمِ الدَّمِ لَا بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْقَتْلِ فَقَطْ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِقَتْلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَتَقَوُّمُ الدَّمِ يَكُونُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَنَّهُ الرَّجُلُ يُسْلِمُ فَيُقْتَلُ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مِرْدَاسٌ كَانَ أَسْلَمَ فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِإِسْلَامِهِ. فَأَوْجَبَ اللَّهُ الْكَفَّارَةَ دُونَ الدِّيَةِ. ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْإِحْرَازُ بِالدِّينِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ لِحَقِّ الْعِبَادِ. وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي " السِّيَرِ الصَّغِيرِ " وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَبِهِ الْعَوْنُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 [بَابُ دَوَاءُ الْجِرَاحَةِ] - بَابُ دَوَاءُ الْجِرَاحَةِ 119 - رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاوَى وَجْهَهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِعَظْمٍ بَالٍ» 120 - وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُجَّ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى خَدِّهِ وَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِدَمِهِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللَّهِ؟ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] . ثُمَّ دَاوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجْهَهُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ أَحْرَقَ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَدَاوَى بِهِ وَجْهَهُ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ دَاوَاهُ بِعَظْمٍ بَالٍ وَعَصَبَ عَلَيْهِ. وَكَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبَائِرِ أَيَّامًا» . وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الِاشْتِغَالِ بِالْمُدَاوَاةِ لِلْجِرَاحَاتِ. 121 - وَقَدْ كَرِهَهُ بَعْضُ النَّاسِ لِآثَارٍ جَاءَتْ فِي النَّهْيِ. مِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40 ب) قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرِقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . 122 - وَاعْتِمَادُنَا فِي جَوَازِ الْمُدَاوَاةِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ دَاءً إلَّا وَخَلَقَ لَهُ دَوَاءً. إلَّا السَّامَ وَالْهَرَمَ» . وَمَا رَوَوْا قَدْ اُنْتُسِخَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمِشْقَصٍ حِينَ رُمِيَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقُطِعَ أَكْحَلُهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . ثُمَّ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ: أَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الدَّوَاءَ هُوَ الَّذِي يَشْفِيهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتَّدَاوِي. وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْمُدَوَّاةِ بِعَظْمٍ بَالٍ. وَهَذَا لِأَنَّ الْعَظْمَ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ عَلَى أَصْلِنَا، لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَظْمَ الْإِنْسَانِ أَوْ عَظْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ التَّدَاوِي بِهِ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ نَجِسُ الْعَيْنِ فَعَظْمُهُ نَجِسٌ كَلَحْمِهِ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِحَالٍ مَا. وَالْآدَمِيُّ مُحْتَرَمٌ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ. فَكَمَا يَحْرُمُ التَّدَاوِي بِشَيْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ إكْرَامًا لَهُ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِعَظْمِ الْمَيِّتِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 - وَذَكَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «قَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَسْتَرِقَّ كَافِرٌ مُسْلِمًا» . قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْكَافِرِ لَمْ يُتْرَكْ يَسْتَرِقُّهُ وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ. حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ وَالِاسْتِخْدَامِ قَهْرًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ مُسْتَدَامٌ، وَالِاسْتِدَامَةُ فِيمَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ ابْتِدَاءُ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْحُرِّ الْمُسْلِمِ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ وَاسْتَعْبَدَهُ. وَهَذَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» . وَالْمُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ دُونَ الْإِخْبَارِ عَنْ الْحُسْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ. وَلَا يَجُوزُ الْخَلْفُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ الْمُسْلِمُ مَصُونٌ عَنْ إذْلَالِ الْكَافِرِ إيَّاهُ شَرْعًا، وَفِي تَبْدِيلِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ إذْلَالٌ، وَفِي الِاسْتِخْدَامِ قَهْرٌ، وَاسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهِ إذْلَالٌ أَيْضًا، فَيُصَانُ الْمُسْلِمُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُجْبَرَ الْكَافِرُ عَلَى بَيْعِهِ وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ فِيهِ مَصُونَةٌ عَنْ الْإِتْلَافِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ. وَالسَّبَبُ الَّذِي اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي إيجَابِ الصِّلَةِ لَهُ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ، بِخِلَافِ الْقَرِيبِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى قَرِيبِهِ إذَا مَلَكَهُ. لِأَنَّ لِلْقَرَابَةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ. - قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ عَنْ الْجَنَابَةِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَغْتَسِلُونَ عَنْ الْجَنَابَةِ وَلَا يَدْرُونَ كَيْفَ الْغُسْلُ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَفِي هَذَا بَيَانٌ (41 آ) أَنَّ صِفَةَ الْجَنَابَةِ تَتَحَقَّقُ فِي الْكَافِرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَدَثِ إذَا وُجِدَ سَبَبُهُ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي أَنَّ الْغُسْلَ مَتَى يَلْزَمُهُ. فَمَنْ يَقُولُ: يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ، يَقُولُ: الْغُسْلُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَى بِهِ صَحَّ. وَمَنْ يَقُولُ: لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ، فَيَقُولُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ صِفَةَ الْجَنَابَةِ مُسْتَدَامَةٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَإِنْشَائِهِ. وَصِحَّةُ الِاغْتِسَالِ مِنْهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ. وَلِهَذَا لَوْ انْقَطَعَ دَمُ الْحَائِضِ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ لَا يَلْزَمُهَا الِاغْتِسَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا اسْتِدَامَةَ لِلِانْقِطَاعِ. فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا يَلْزَمُهَا الِاغْتِسَالُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ إنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ الْغُسْلُ، إنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ. وَهُمَا فَرْضَانِ، فَلِهَذَا يُؤْمَرُ إذَا أَسْلَمَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ. 125 - وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ لَمَّا أَسْلَمَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَغْتَسِلَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: زَعَمُوا أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ حَسُنَ إسْلَامُ صَاحِبِكُمْ. وَعَنْ كُلَيْبٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعَهُ فَقَالَ: احْلِقْ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ. فَحَلَقَ رَأْسَهُ» . 126 - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا نَرَى هَذَا مِنْ الْوَاجِبِ عَلَى النَّاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ أَكْثَرَ أَصْحَابِهِ؟ وَلَعَلَّهُ رَأَى كُلَيْبًا مُعْجَبًا بِشَعْرِهِ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لِدَفْعِ الْإِعْجَابِ عَنْهُ، أَوْ اسْتَحَبَّ لَهُ زِيَادَةَ التَّطْهِيرِ بِأَنْ يُزِيلَ عَنْ نَفْسِهِ مَا كَانَ نَابِتًا مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ. بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاغْتِسَالِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِهِ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ لِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 [بَابُ اتِّخَاذِ الْأَنْفِ مِنْ الذَّهَبِ] وَذَكَرَ «عَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ أَنَّهُ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ» . وَبِهَذَا يَأْخُذُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ: - لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ سِنُّهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَّخِذَ سِنًّا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ يُضَبِّبَ أَسْنَانَهُ مِنْ ذَهَبٍ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يُكْرَهُ ذَلِكَ. وَلَا يَرَى بَأْسًا بِأَنْ يَتَّخِذَهُ مِنْ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْفِضَّةِ لِلِانْتِفَاعِ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ دُونَ اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ، بِدَلِيلِ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ عَرْفَجَةَ بِهَذِهِ الرُّخْصَةِ. ثُمَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْخَاصِّ. فَرَجَّحَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الذَّهَبَ بِيَمِينِهِ وَالْحَرِيرَ بِشِمَالِهِ وَقَالَ: «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ» (41 ب) ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 [بَابُ أَمْوَالِ الْمُعَاهِدِينَ] 26 - بَابُ أَمْوَالِ الْمُعَاهِدِينَ [قَالَ] : وَإِذَا أَوْدَعَ الْمُسْلِمُونَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَّا بِطِيبٍ أَنْفُسِهِمْ، لِلْعَهْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَهْدَ فِي حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لِلْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ. فَكَمَا لَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِ الْمُعَاهِدِينَ. وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَخْذِ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ مَعْنَى الْغَدْرِ وَتَرْكَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرَ فِيهِ» . 130 - ثُمَّ اُسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ نَاسًا مِنْ الْيَهُودِ يَوْمَ خَيْبَرَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ تَمَامِ الْعُهُودِ فَقَالُوا: إنَّ حَظَائِرَ لَنَا وَقَعَ فِيهَا أَصْحَابُك فَأَخَذُوا مِنْهَا بَقْلًا أَوْ ثُومًا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَادَى فِي النَّاسِ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: لَا أُحِلُّ لَكُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُعَاهِدِينَ إلَّا بِحَقٍّ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 [بَابُ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ الْمَسْجِدَ] 27 - [بَابُ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ الْمَسْجِدَ] 131 - وَذَكَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فِي الْهُدْنَةِ وَهُوَ كَافِرٌ. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْهُدْنَةِ الصُّلْحُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى الْمَدِينَةِ لِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ بَعْدَ مَا نَقَضُوا هُمْ الْعُهُودَ وَخَشَوْا أَنْ يَغْزُوهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَلِذَلِكَ قِصَّةٌ. فَهَذَا دَلِيلٌ لَنَا عَلَى مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُمَكَّنُ الْمُشْرِكُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ شَيْئًا فِي الْمَسَاجِدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ «أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ لَمَّا جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِأَنْ يُضْرَبَ لَهُمْ قُبَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ. فَقِيلَ: هُمْ أَنْجَاسٌ. فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَجَاسَتِهِمْ شَيْءٌ» . ثُمَّ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً لِلْآيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يُمْنَعُونَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ. وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: الدُّخُولُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانُوا اعْتَادُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً. وَالْمُرَادُ الْقُرْبُ مِنْ حَيْثُ التَّدْبِيرُ وَالْقِيَامُ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَبِهِ نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِمْ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْهُ بِحَالٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 [بَابُ دُخُولِ النِّسَاءِ الْحَمَّامَ وَرُكُوبِهِنَّ السُّرُوجَ] َ] 132 وَذَكَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَتَبَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَمَّامَ إلَّا امْرَأَةٌ نُفَسَاءُ أَوْ مَرِيضَةٌ. وَبِهَذَا يَأْخُذُ مَنْ يَكْرَهُ لِلنِّسَاءِ دُخُولَ (42 آ) الْحَمَّامَاتِ. وَيَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ وَضَعَتْ جِلْبَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا فَعَلَيْهَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَلَمَّا دَخَلَتْ نِسَاءُ حِمْصَ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: أَنْتُنَّ مِنْ اللَّاتِي تَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ. فَأَمَرَتْ بِإِخْرَاجِهِنَّ وَغَسْلِ مَوْضِعِ جُلُوسِهِنَّ. فَأَمَّا عِنْدَنَا لَا بَأْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدْخُلَ الْحَمَّامَ إذَا خَرَجَتْ مُتَعَفِّفَةً وَاِتَّزَرَتْ حِينَ دَخَلَتْ الْحَمَّامَ. لِأَنَّ دُخُولَ الْحَمَّامِ بِمَعْنَى الزِّينَةِ، وَهِيَ لِلنِّسَاءِ أَلْيَقُ مِنْهَا بِالرِّجَالِ. أَوْ لِلْحَاجَةِ إلَى الِاغْتِسَالِ، وَأَسْبَابُ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَكْثَرُ، وَالرَّجُلُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاغْتِسَالِ بِالْحِيَاضِ وَالْأَنْهَارِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ إنَّمَا كُرِهَ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا. وَقَدْ أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] الْآيَةَ. قَالَ: وَلَا تَرْكَبُ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ عَلَى سَرْجٍ. وَهَذَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ثُمَّ الْمُرَادُ إذَا رَكِبَتْ مُتَلَهِّيَةً، أَوْ رَكِبَتْ مُتَزَيِّنَةً لِتَعْرِضَ نَفْسَهَا عَلَى الرِّجَالِ. فَأَمَّا إذَا رَكِبَتْ لِحَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُجَاهِدُ أَوْ يَخْرُجُ لِلْحَجِّ مَعَ زَوْجِهَا فَرَكِبَتْ مُتَسَتِّرَةً فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. قَالَ: وَلَا يُتْرَكُ أَهْلُ الْكِتَابِ يَرْكَبُونَ عَلَى السُّرُوجِ وَلَكِنْ عَلَى الْأَكُفِّ، وَيُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَتَنَطَّقُوا حَتَّى يُعْرَفُوا. أَيْ يَتَّخِذُوا الزَّنَانِيرَ فَوْقَ ثِيَابِهِمْ، وَيَرْكَبُونَ عَلَى السُّرُوجِ الَّتِي عَلَى هَيْئَةِ الْأَكُفِّ. وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي قَرَبُوسِهِ شِبْهُ الرُّمَّانَةِ. وَهَذَا لِأَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْعِزِّ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ» . وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَشُدُّوا عَلَى أَوْسَاطِهِمْ الزَّنَانِيرَ. وَكَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ: مُرُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ بِأَنْ يَخْتِمُوا رِقَابَهُمْ بِالرَّصَاصِ، وَأَنْ يَتَنَطَّقُوا وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ. وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا الْفَصْلِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 [بَابٌ مِنْ الْجَعَائِلِ] 29 - بَابٌ مِنْ الْجَعَائِلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تُكْرَهُ الْجَعَائِلُ مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَوِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] وَحَقُّ الْجِهَادِ أَنْ يُجَاهَدَ بِالْمَالِ أَوْ النَّفْسِ. فَإِذَا كَانَ الَّذِي يَخْرُجُ صَاحِبَ مَالٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِهِ جُعْلًا فِي عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْجِهَادِ. لِيَكُونَ هُوَ مُجَاهِدًا بِنَفْسِهِ وَصَاحِبُ الْمَالِ مُجَاهِدًا بِمَالِهِ. 134 - كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُغْزِي الْعَزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَكَانَ يُعْطِي (42 ب) لِلْغَازِي فَرَسَ الْقَاعِدِ. 135 - وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجَعَائِلِ فَقَالَ: مَنْ جَعَلَهُ فِي كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ إنَّمَا أُعْطِيَ الْمَالَ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْجِهَادِ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ مُجَاهِدًا بِمَالِهِ فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ وَيَتَفَضَّلُ لِنَفْسِهِ. - كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الرَّجُلِ يَجْعَلُ الْجُعَلَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيُجْعَلُ أَقَلَّ مِمَّا اجْتَعَلَ. قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ أَرَادَ الْفَضْلَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ أَنْ يَحْبِسَ الْفَصْلَ لِيَصْرِفَهُ عَلَى حَوَائِجِ نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَيَرُدُّ مَا فَضَلَ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ إذَا رَجَعَ. بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ إذَا رَجَعَ بِفَضْلِ نَفَقَتِهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّهُ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرُدَّ الْفَضْلَ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْأُجْرَةِ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْجِهَادِ بَاطِلٌ. - وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ سَعَةٌ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَهِّزَهُمْ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَأْخُذَ مِنْ النَّاسِ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ سَعَةٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَكَّمَ عَلَى النَّاسِ بِمَا يَتَقَوَّى بِهِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ إلَى الْجِهَادِ. لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا لَهُمْ، وَتَمَامُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ. عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ بَعْثًا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَرَفَعَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَنْ وَلَدِهِ فَقَالَا: لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ نَجْعَلُ مِنْ أَمْوَالِنَا لِلْغَازِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 - وَذَكَرَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ مَثَلَ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ الْجُعَلَ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا» . يَعْنِي أَنَّ الْغُزَاةَ يَعْمَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] ثُمَّ يَأْخُذُونَ الْجُعَلَ مِنْ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَذَلِكَ لَهُمْ حَلَالٌ. كَمَا أَنَّ أُمَّ مُوسَى كَانَتْ تَعْمَلُ لِنَفْسِهَا فِي إرْضَاعِ وَلَدِهَا وَتَأْخُذُ الْأُجْرَةَ مِنْ فِرْعَوْنَ تَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْإِرْضَاعِ، وَكَانَ ذَلِكَ حَلَالًا لَهَا. - قَالَ: وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ رَجُلًا جُعْلًا عَلَى أَنْ يُسْلِمَ فَأَسْلَمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ، لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ. وَبِاشْتِرَاطِ الْجُعَلِ لَا يَتَمَكَّنُ خَلَلٌ فِي ذَلِكَ، فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، سَلَّمَ لَهُ الْجُعَلَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِدُونِ سَلَامَةِ الْجُعَلِ لَهُ: وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ، كَمَنْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا. وَلِلَّذِي شَرَطَ الْجُعَلَ أَنْ يَمْنَعَهُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ، وَإِنْ أَعْطَاهُ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ لَهُ ذَلِكَ. وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ وَخُلْفُ الْوَعْدِ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ إلَّا أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يُسْتَوْجَبُ الْجُعَلُ بِهِ عَلَى (43 آ) غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا اُسْتُوْجِبَ الْجُعَلُ عَلَيْهِ عِوَضَ عَمَلِهِ لَهُ، وَالْمَالُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ لَيْسَ بِعَامِلٍ لَهُ لِيَسْتَوْجِبَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ. فَمَا وَعَدَ لَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رِشْوَةً أَوْ صِلَةً لِتَزْدَادَ بِهِ رَغْبَتُهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. فَإِذَا أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْجُعَلَ فَرَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، إنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً يَنْدَرِئُ بِهَا الْقَتْلُ، فَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْجُعْلِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ فَيَتِمُّ إسْلَامُهُ بِلَا شُبْهَةٍ، فَإِذَا ارْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ. - وَذَكَرَ عَنْ غَالِبِ بْنِ خَطَّافٍ قَالَ: كُنَّا قُعُودًا بِبَابِ الْحَسَنِ فَأَتَانَا شَيْخٌ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَقَعَدَ، ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَى قَوْمٍ إلَّا فَضَلَهُمْ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ وَإِنْ رَدُّوا» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالسَّلَامِ أَفْضَلُ، وَأَنَّ ثَوَابَ الْمُبْتَدِئِ بِهِ أَكْثَرُ، لِأَنَّ الْجَوَابَ يُبْتَنَى عَلَى السَّلَامِ، وَالْبَادِئُ بِالسَّلَامِ هُوَ الْمُسَبِّبُ لِلْجَوَابِ، وَهُوَ الْبَادِئُ بِالْإِحْسَانِ، وَالرَّادُّ يُجَازَى إحْسَانُهُ بِالْإِحْسَانِ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي «عَنْ جَدِّي أَنَّهُ جَعَلَ لِلْقَوْمِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا فَأَسْلَمُوا. فَبَعَثَنِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُخْبِرَهُ بِذَلِكَ وَأَسْأَلَ لَهُ الْعِرَافَةَ. فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: إنَّ أَبِي يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ. فَقَالَ: عَلَيْهِ وَعَلَيْك» . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ بَلَّغَ غَيْرَهُ سَلَامًا مِنْ غَائِبٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمَا السَّلَامَ، لِأَنَّ الْغَائِبَ مُحْسِنٌ إلَيْهِ بِالسَّلَامِ وَالرَّسُولَ بِالْإِيصَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَازِيَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 قَالَ: فَقُلْت: وَإِنَّهُ جَعَلَ لِلْقَوْمِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا فَقَدْ أَسْلَمُوا وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ، أَفَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا أَعْطَاهُمْ؟ قَالَ: إنْ شَاءَ، فَإِنْ ثَبَتُوا عَلَى إسْلَامِهِمْ فَذَلِكَ وَإِلَّا بَعَثْنَا إلَيْهِمْ الْخَيْلَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي شَرَطَهُ لَهُمْ صِلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَأَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ مَا لَمْ يُعَوَّضْ مِنْهَا، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُرَغِّبَ غَيْرَهُ فِي الْإِسْلَامِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ؟ وَقَدْ كَانُوا يُعْطُونَ ذَلِكَ لِلتَّأْلِيفِ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا وَعَدُوا أَنْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا ارْتَدُّوا بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا عَلَى شَرْطِ الْجُعْلِ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَعَثْنَا إلَيْهِمْ الْخَيْلَ» أَيْ لِلْقِتَالِ. «قَالَ: وَأَمَرَنِي أَنْ أَسْأَلَك لَهُ الْعِرَافَةَ. قَالَ: إنْ شَاءَ، وَلَكِنَّ الْعَرْفَاءَ فِي النَّارِ» (43 ب) ، أَيْ لَا أَمْنَعُهُ مَا سَأَلَ، وَلَكِنْ أَخْبِرْهُ أَنَّهُ لَا خَيْرَ لَهُ فِيمَا سَأَلَ. وَالْعِرَافَةُ: هِيَ الرِّئَاسَةُ، وَالْعَرِيفُ: هُوَ الْوَازِعُ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَازِعٍ، وَالْوَازِعُ فِي النَّارِ» يَعْنِي أَنَّهُ يَظْلِمُهُمْ وَيَتَكَبَّرُ عَلَيْهِمْ إذَا تَرَأَّسَ غَالِبًا، وَمَأْوَى الظَّالِمِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ النَّارُ. فَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ طَلَبِ الرِّيَاسَةِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَسْلَمُ. - قَالَ: وَإِنْ أَعْطَى رَجُلٌ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا مَالًا عَلَى قَتْلِ حَرْبِيٍّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فَقَتَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَأُحِبُّ لِلَّذِي أَعْطَاهُ أَنْ يَفِيَ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْحَرْبِيِّ جِهَادٌ، فَمَنْ يُبَاشِرُهُ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ أَوْ عَامِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي إعْزَازِ الدِّينِ أَوْ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَفْعِ فِتْنَةِ الْمُحَارِبِ عَنْهُمْ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى الَّذِي وَعَدَ لَهُ الْمَالَ، لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ لَهُ عَلَى الْخُلُوصِ، وَلَكِنْ إنْ وَفَى بِمَا وَعَدَ لَهُ عَلَى الْخُلُوصِ، فَهُوَ أَفْضَلُ. وَإِنْ أَبِي لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. - ثُمَّ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِيَاسِينَ بْنِ وَهْبٍ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ: أَلَا تَرَى إلَى مَا هَمَّ بِهِ ابْنُ عَمِّك مِنْ قَتْلِي؟ فَقَالَ: أَنَا أَكْفِيك يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ وَجَعَلَ لَهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ يَقْتُلَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: جَعَلَ لَهُ خَمْسَةَ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَهُ، فَقَتَلَهُ. وَهَذَا الْمَقْتُولُ عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ مَا أَعْطَاهُ كَانَ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مَحَالَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 - قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَعْطَاهُ ذَلِكَ مِنْ مَالِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ لَهُ، لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْقَاتِلُ مِنْ وَجْهٍ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَفِيَ لَهُ بِمَا وَعَدَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 [بَابُ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَذَبَائِحِهِمْ وَطَعَامِهِمْ] 144 - قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤْكَلَ وَيُشْرَبَ فِي آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ لِتُغْسَلْ بِالْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ فِيهَا. لِأَنَّ الْأَوَانِيَ لَا يَلْحَقُهَا نَجَاسَةُ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُهَا النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ وَذَلِكَ يَزُولُ بِالْغَسْلِ، فَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ أَوَانِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، إلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُنْعِمُونَ غَسْلَ الْأَوَانِي. فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعِيدَ الْغَسْلَ، وَلَا يُؤْتَمَنُ الْمُشْرِكُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَخَذَ بِالظَّاهِرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَوَانِي الطَّهَارَةُ. وَلَكِنَّ الْغَسْلَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا نَأْتِي أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْهَا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا» وَبَاقِي الْحَدِيثُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ. وَسُئِلَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ آنِيَةِ الْمَجُوسِ وَصِحَافِهِمْ وَبُرَمِهِمْ هَلْ يُطْبَخُ فِيهَا وَيُؤْتَدَمُ فِيهَا؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: انْقِهَا غَسْلًا ثُمَّ اُطْبُخْ فِيهَا وَائْتَدِمْ. وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ (44 آ) أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَظْهَرُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَيَأْكُلُونَ فِي آنِيَتِهِمْ وَيَشْرَبُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِبَاطِيَةٍ قَدْ شُرِبَ فِيهَا خَمْرٌ، فَأَمَرَ بِهَا فَغُسِلَتْ، ثُمَّ شَرِبَ فِيهَا، فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. - قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ مِنْ الذَّبَائِحِ وَغَيْرِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْمَجُوسِ كُلِّهِ إلَّا الذَّبِيحَةَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» . وَهَذَا لِأَنَّ الْمَجُوسَ يَدَّعُونَ إلَهَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ تَسْمِيَةُ اللَّهِ عَلَى الْخُلُوصِ، وَهُوَ شَرْطُ حِلُّ الذَّبِيحَةِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُظْهِرُونَ التَّوْحِيدَ وَإِنْ كَانُوا يُضْمِرُونَ فِي ذَلِكَ شِرْكًا. . 146 - وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْمَجُوسِ إلَّا الذَّبِيحَةَ. وَعَنْ سُوَيْد غُلَامِ سَلْمَانَ قَالَ: أَتَيْت سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ هَزَمَ اللَّهُ أَهْلَ فَارِسَ بِسَلَّةٍ وُجِدَ فِيهَا خُبْزٌ وَجُبْنٌ وَسِكِّينٌ. فَجَعَلَ يَطْرَحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 لِأَصْحَابِهِ مِنْ الْخُبْزِ وَيَقْطَعُ لَهُمْ مِنْ الْجُبْنِ فَيَأْكُلُونَ، وَهُمْ مَجُوسٌ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِطَعَامِهِمْ مَا خَلَا الذَّبِيحَةَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْغَانِمِينَ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. . 147 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَوَارِيزِ الْمَجُوسِ وَكَوَامِخِهِمْ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الذَّبِيحَةِ، وَهُمْ فِي إصْلَاحِ الْأَطْعِمَةِ فِيمَا سِوَى الذَّبِيحَةِ كَالْمُسْلِمِينَ. . 148 - وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ الْأَكْلِ مَعَ مَجُوسِيٍّ وَهُوَ يُزَمْزِمُ فَقَالَ: كُلْ مِنْ طَعَامِ الْمَجُوسِ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا سَأَلَهُ السَّائِلُ. وَهَذَا لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الْمَجُوسَ مِنْ الزَّمْزَمَةِ إذَا أَكَلُوا. وَلَكِنَّهُ أَثَرٌ شَاذٌّ. وَلِأَجْلِ عَقْدَ الذِّمَّةِ نَتْرُكُهُمْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ شُرْبِ الْخُمُورِ وَتَنَاوُلِ الْخَنَازِيرِ. فَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الشَّعْبِيُّ لِهَذَا الْجَانِبِ، وَأَفْتَى لَهُ بِتَنَاوُلِ طَعَامِ الْمَجُوسِ، يَعْنِي مَا خَلَا الذَّبِيحَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 149 - وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَمَّا فَتَحَ أَصْحَابُنَا السَّوَادَ أَكَلُوا مِنْ خُبْزِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُمْ ظَفِرُوا بِمَطْبَخِ كِسْرَى، وَقَدْ أَدْرَكَتْ الْقُدُورُ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ صِبْغٌ، فَجَعَلُوا يُلَطِّخُونَ لِحْيَتِهِمْ بِذَلِكَ. فَقِيلَ: إنَّهُ مَأْكُولٌ. فَأَكَلُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أُتْخِمُوا. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قُدُورَهُ كَانَتْ لَا تَخْلُو عَنْ اللَّحْمِ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِ أَمْثَالِهِمْ عَلَى الْجَوَازِ. . 150 - ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا وَكَرِهَ تَزْوِيجَ نِسَائِهِمْ وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَبْقَى لَهُ نَسْلٌ (44 ب) فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ حَرَامًا عِنْدَهُ فَلَا. 151 - وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ. فَمَنْ أَسْلَمَ قَبِلَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَأَنْ لَا يُؤْكَلَ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا يُنْكَحَ لَهُمْ امْرَأَةٌ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فَكَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِتَخْصِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَجُوسَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَإِنَّهُ بَنَى هَذَا الْكِتَابِ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ. وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. . 152 - ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَجُوسِيَّةَ بِالنِّكَاحِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءَ يُبْتَنَى عَلَى مِلْكِ الْمُتْعَةِ. وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمَجُوسِيَّةِ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِسَبَبِ النِّكَاحِ. فَأَمَّا الصَّابِئُونَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَةِ نِسَائِهِمْ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ، وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَنْ الصَّابِئِينَ مِنْهُمْ. فَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَعْتَقِدُونَ فِي أَنَّ الْكَوَاكِبَ آلِهَةٌ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُضْمِرُونَهُ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيزُونَ إظْهَارَ مَا يَعْتَقِدُونَ قَطُّ، بِمَنْزِلَةِ الْبَاطِنِيَّةِ. فَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ الْجَوَابَ عَلَى مَا يُظْهِرُونَ، وَهُمَا بَنَيَا عَلَى مَا يُضْمِرُونَ. وَعَلَى ذَلِكَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِ أَوْ شَرٌّ مِنْهُمْ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 [بَابُ الْإِسْلَامِ] - ذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنَى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» . قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَاتِلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ قَوْمٌ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ. فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إسْلَامِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إذَا أَقَرَّ بِخِلَافِ مَا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ اعْتِقَادِهِ، لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الِاعْتِقَادِ لَنَا، فَنَسْتَدِلُّ بِمَا نَسْمَعُ مِنْ إقْرَارِهِ عَلَى اعْتِقَادِهِ. فَإِذَا أَقَرَّ بِخِلَافِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ اعْتِقَادِهِ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّهُ بَدَّلَ اعْتِقَادَهُ. وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] ، وَلَكِنْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {َإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] . وَقَالَ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِاعْتِقَادِهِ (45 آ) فَلِهَذَا جُعِلَ ذَلِكَ دَلِيلَ إيمَانِهِ فَقَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . . 154 - وَعَلَى هَذَا الْمَانَوِيَّةُ وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي إلَهَيْنِ، إذَا قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَذَلِكَ دَلِيلُ إسْلَامِهِ. فَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى هُمْ يَقُولُونَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ دَلِيلَ إسْلَامِهِمْ. وَهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِرِسَالَتِهِ. فَكَانَ دَلِيلُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِمْ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. عَلَى مَا رُوِيَ [عَنْهُ] «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى جَارِهِ الْيَهُودِيِّ يَعُودُهُ فَقَالَ: اشْهَدْ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَنَظَرَ الرَّجُلُ إلَى أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ أَبَا الْقَاسِمِ. فَشَهِدَ بِذَلِكَ وَمَاتَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْتَقَ بِي نَسَمَةً مِنْ النَّارِ: ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لُوا أَخَاكُمْ» . 155 - قَالَ: فَأَمَّا الْيَوْمَ بِبِلَادِ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ رَسُولٌ إلَى الْعَرَبِ، لَا إلَى بَنِي إسْرَائِيل. وَيَتَمَسَّكُونَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] . فَمَنْ يُقِرُّ مِنْهُمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِهِ مَعَ ذَلِكَ، أَوْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ. حَتَّى إذَا قَالَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ: أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ أَسْلَمْت لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ. لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ الْمُسْتَسْلِمُ لِلْحَقِّ الْمُنْقَادُ لَهُ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْحَقَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَلَا يَكُونُ مُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظِ فِي حَقِّهِمْ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِهِ مَعَ ذَلِكَ. كَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بَرِئْت مِنْ الْيَهُودِيَّةِ وَلَمْ يَقُلْ مَعَ ذَلِكَ: دَخَلْت فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَبْرَأَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ وَدَخَلَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ. فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: وَدَخَلْت فِي الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إذَا قَالَ: دَخَلْت فِي الْإِسْلَامِ، يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ. لِأَنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولٍ حَادِثٍ مِنْهُ فِي السَّلَامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ. فَتَضَمُّنُ هَذَا اللَّفْظُ التَّبَرِّي مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ الْمَجُوسِيُّ: أَسْلَمْت، أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ، يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ. لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ هَذَا الْوَصْفَ لِأَنْفُسِهِمْ وَيَعُدُّونَهُ شَتِيمَةً بَيْنَهُمْ يَشْتُمُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِهِ وَلَدُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ. . 156 - وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، قَدِمَتْ سَفِينَةٌ مِنْ الْهِنْدِ فَاشْتَرَيْت مِنْهَا عِلْجَةً مَسْبِيَّةً فَجِئْت بِهَا إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 مَنْزِلِي فَمَاتَتْ، أَفَأَنْبِذُهَا أَمْ أَغْسِلُهَا وَأُصَلِّي عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، لَا بَلْ اغْسِلْهَا ثُمَّ كَفِّنْهَا، ثُمَّ صَلِّ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ. وَتَأْوِيلُهُ فِي الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا إذَا سُبِيَتْ وَلَيْسَ مَعَهَا وَاحِدٌ مِنْ أَبَوَيْهَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهَا تَبَعًا لِدَارِ الْإِسْلَامِ إذَا دَخَلَتْ فِيهَا. فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ الَّتِي قَدْ عَقَلَتْ الْكُفْرَ فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهَا، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهَا إذَا مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِفَ الْإِسْلَامَ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ (45 ب) مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَجْلِ إيمَانِهِ. وَلَكِنْ يُصْنَعُ بِهَا مَا سِوَى الصَّلَاةِ مِنْ الْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ وَالدَّفْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ الْمَوْتَى مِنْ بَنِي آدَمَ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ مَاتَ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: إنَّ عَمَّك الضَّالَّ قَدْ تُوُفِّيَ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ» . . 157 - وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: مَاتَتْ أُمِّي وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ، أَأَتْبَعُ جِنَازَتَهَا؟ قَالَ: اتْبَعْ جِنَازَتَهَا وَادْفِنْهَا وَلَا تُصَلِّ عَلَيْهَا. وَبِهِ نَقُولُ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ كَافِرٌ يَقُومُ بِدَفْنِهَا. فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَلَدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ وَلَا يَتْرُكُهَا جَزْرًا لِلسِّبَاعِ. فَقَدْ أُمِرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى وَالِدَيْهِ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكِينَ، وَبِالْمُصَاحَبَةِ مَعَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَلَيْسَ مِنْ الْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ أَنْ يَتْرُكَهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ جَزْرًا لِلسِّبَاعِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِهِمَا الْمُشْرِكِينَ فَالْأَوْلَى لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ لَهُمْ. وَلَكِنْ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ إنْ شَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ مَاتَتْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً، فَتَبِعَ جِنَازَتَهَا فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ دِينِهَا فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْشِيَ نَاحِيَةً مِنْهُمْ، وَلَا يُخَالِطُهُمْ فَيَكُونُ مُكَثِّرًا سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ يَمْشِيَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ لِيَكُونَ مُعْتَزِلًا عَنْهُمْ. 158 - وَذَكَرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصَّبِيِّ إذَا أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ وَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ. قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَبِهِ نَقُولُ، فَإِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ تَمَّ إسْلَامُهُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ نَفْسِ الْإِسْلَامِ. وَعَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْت الشَّعْبِيَّ عَنْ الصَّبِيِّ مَتَى يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ قَالَ: إذَا صَلَّى فَصَلُّوا عَلَيْهِ. وَتَأْوِيلُ هَذَا فِيمَا إذَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ صَلَّى مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 لَا يُصَلُّونَ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى هَيْئَةِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِظْهَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِعْلًا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إظْهَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ قَوْلًا، فَيَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا، حَتَّى إذَا رَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ إنْ كَانَ رَجُلًا. وَأَمَّا إذَا صَلَّى وَحْدَهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ رَوَاهَا دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا صَلَّى إلَى قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا» . فَأَمَّا إذَا صَامَ أَوْ أَدَّى الزَّكَاةَ أَوْ حَجَّ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَفِي رِوَايَةِ دَاوُد بْنِ رَشِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: إذَا حَجَّ الْبَيْتَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ فِعْلٌ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إسْلَامِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 [بَابُ الْجِهَادِ مَعَ الْأُمَرَاءِ] 32 - بَابُ الْجِهَادِ مَعَ الْأُمَرَاءِ وَذَكَرَ عَنْ مَكْحُولٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ (46 آ) : حَدِيثٌ كُنْت أَكْتُمْكُمُوهُ، لَوْلَا مَا حَضَرَنِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، أَيْ لَوْلَا مَا أَخَافُ مِنْ وَعِيدِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ، عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا عِنْدَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . وَقَالَ تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] . ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُكَفِّرُوا أَهْلَ مِلَّتِكُمْ وَإِنْ عَمِلُوا الْكَبَائِرَ، الصَّلَاةَ مَعَ كُلِّ إمَامٍ، الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ، الْجِهَادَ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ» . وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفَّرُ بِارْتِكَابِهِ الْكَبَائِرَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] . وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبَائِرَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ مَنْ دَعَاهُمْ اللَّهُ إلَى التَّوْبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى مَالِكٍ فِي جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْفَاسِقِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: " مَعَ كُلِّ إمَامٍ "، أَيْ فَاسِقًا كَانَ أَوْ عَدْلًا. كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ، أَيْ فَاسِقًا كَانَ أَوْ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا غَيْرَ بَاغٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " الْجِهَادَ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ "، أَيْ عَادِلًا كَانَ أَوْ جَائِرًا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْغَازِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْجِهَادِ مَعَهُ، وَبِجَوْرِ الْأَمِيرِ لَا يَنْقَطِعُ طَمَعُ الْغُزَاةِ فِي النُّصْرَةِ. جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا: «إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» . قَالَ مَكْحُولٌ: وَخَصْلَتَانِ مِنْ رَأْيِي لَمْ أَسْمَعْ فِيهِمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لَا تَذْكُرُوهُمَا إلَّا بِخَيْرٍ. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] . وَالْحَدِيثُ فِي الْكَفِّ عَنْ الصَّحَابَةِ إلَّا بِخَيْرٍ، مَشْهُورٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي» . وَخَصَّ مَكْحُولٌ الْخَتَنَيْنِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الشَّامِ فِيهِمَا مَا يَكْرَهُهُ، فَلِهَذَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ فِي وَصِيَّتِهِ. ثُمَّ سَمَّى عَلِيًّا أَوَّلًا، وَهَكَذَا فِيمَا رَوَاهُ نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: سَأَلْته عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ: أَنْ تُفَضِّلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَتُحِبَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ، وَتَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلَا تُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَلَا تَنْطِقَ فِي اللَّهِ بِشَيْءٍ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: قَبْلَ الْخِلَافَةِ كَانَ عَلِيٌّ مُقَدَّمًا عَلَى عُثْمَانَ، وَبَعْدَ الْخِلَافَةِ عُثْمَانُ أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ، فَأَمَّا الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ عُثْمَانَ أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا -، قَبْلَ الْخِلَافَةِ وَبَعْدَهَا. كَمَا رَوَى جَابِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَتِي بَعْدِي فِي أُمَّتِي، وَعُمَرُ حَبِيبِي، وَعُثْمَانُ مِنِّي، وَعَلِيٌّ أَخِي وَصَاحِبُ لِوَائِي» . فَنُفَضِّلُهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَمْ يُرِدْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (46 ب) بِمَا ذَكَرَ تَقْدِيمَ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ مَحَبَّتَهُمَا مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَالْوَاوُ عِنْدَهُ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَكْحُولٌ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلًا لِأَنَّهُ كَانَ إمَامَ أَهْلِ الشَّامِ. وَأَهْلُ الشَّامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَقَعُ بَعْضُهُمْ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلِهَذَا قَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ حَتَّى يَزْجُرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. 160 - وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مَا تَقُولُ فِي الْغَزْوِ، فَقَدْ صَنَعَ الْأُمَرَاءُ مَا قَدْ رَأَيْت. قَالَ: أَرَى أَنْ تَغْزُوَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْك مِمَّا أَحْدَثُوا شَيْءٌ. يَعْنِي مَا أَحْدَثُوا مِمَّا تَكْرَهُهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وُلِّيَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ يَكُنْ خَيْرًا شَكَرْنَا، وَإِنْ يَكُنْ بَلَاءً صَبَرْنَا، ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] . الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَالُوا: إذَا عَدَلَ السُّلْطَانُ فَعَلَى الرَّعِيَّةِ الشُّكْرُ، وَلِلسُّلْطَانِ الْأَجْرُ. وَإِذَا جَارَ فَعَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ، وَعَلَى السُّلْطَانِ الْوِزْرُ. فَهَذَا كُلُّهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْجِهَادَ بِمَا يَصْنَعُهُ الْأُمَرَاءُ مِنْ الْجَوْرِ وَالْغُلُولِ. قَالَ: فَإِذَا أَرَدْت ذَلِكَ فَاجْعَلْ طَرِيقَك عَلَيَّ. فَمَرَرْت بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ أُعِينَك فِي وَجْهِك هَذَا بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِي. قُلْت: إذًا لَا أَقْبَلُ. إنِّي رَجُلٌ قَدْ وَسَّعَ اللَّه عَلَيَّ. قَالَ: إنَّ غِنَاك لَك. إنِّي أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةٌ مِنْ مَالِي فِي هَذَا الْوَجْهِ. فَانْطَلَقَ يَلْتَمِسُ الْقَرْضَ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُقْرِضُهُ، فَقَالَ: أَتَخَافُونَ أَنْ لَا أَقْضِيَكُمْ؟ ثُمَّ كَتَبَ إلَى قَيِّمٍ لَهُ بِالشَّامِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيَّ دَنَانِيرَ قَدْ سَمَّاهَا أَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى وَجْهِي. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْغَازِي، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ الْمَالِ إذَا عَلِمَ أَنْ الْمُعْطِيَ يُعْطِيَهُ مِنْ حَلَالٍ عَلَى وَجْهِ الرَّغْبَةِ فِي الْجِهَادِ بِالْمَالِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْمَنْعِ مِمَّا هُوَ طَاعَةٌ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ. قَالَ: فَانْطَلَقْت فَلَمْ أَزَلْ مُرَابِطًا فِي جَزِيرَةٍ مِنْ الْبَحْرِ سِنِينَ، ثُمَّ بَدَا لِبَعْضِ أُمَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُخَرِّبُ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ وَيُخْرِجُ أَهْلَهَا مِنْهَا. فَوَاَللَّهِ لِكَأَنَّمَا جِيءَ بِي سَبْيًا حَيْثُ رَجَعْت إلَى أَهْلِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَإِنَّمَا شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ انْقَطَعَ عَنْ ثَوَابِ الْمُرَابِطِينَ حِينَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَأَسُّفُ الْمُؤْمِنِ عَلَى مَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ مِنْ الثَّوَابِ. . 161 - ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ الْجِهَادُ بِجَوْرِ الْأُمَرَاءِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ (47 آ) إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لَا يَصُدُّهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ» . وَلِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَيْسٍ حَيْثُ قَالَ: قُلْت لِجَابِرٍ: أَرَأَيْت إنْ كَانَ عَلَيَّ إمَامٌ جَائِرٌ أَأُقَاتِلُ مَعَهُ أَهْلَ الضَّلَالَةِ وَالشِّرْكِ؟ قَالَ: نَعَمْ {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] . وَلِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَصْلُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةٌ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ أَنْ تُكَفِّرُوهُ بِذَنْبٍ، وَلَا تُخْرِجُوهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ؛ وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ؛ وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ كُلِّهَا» . يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ حِين سَأَلَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَا الْإِيمَانُ؟ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ: وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ عَلَيْهِمَا السَّلَامَ. ثُمَّ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمَا تَكَلَّمَا فِي الْقَدَرِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَسَنَاتُ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَاتُ مِنَّا. وَقَالَ عُمَرُ: الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ كُلُّهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. فَاتَّبَعَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَبَا بَكْرٍ وَطَائِفَةٌ عُمَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَأَقْضِي بَيْنَكُمَا بِمَا قَضَى بِهِ إسْرَافِيلُ بَيْنَ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ. فَإِنَّ جَبْرَائِيلَ قَالَ مِثْلَ مَا قُلْت يَا عُمَرُ، وَمِيكَائِيلُ قَالَ مِثْلَ مَا قُلْت يَا أَبَا بَكْرٍ. ثُمَّ قَالَا: إنَّا إذَا اخْتَلَفْنَا اخْتَلَفَ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ السَّمَاءِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأَرْضِ فَلْنَتَحَاكَمْ إلَى إسْرَافِيلَ. فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْقَدَرَ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَضَائِي بَيْنَكُمَا. يَا أَبَا بَكْرٍ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يُعْصَى مَا خَلَقَ إبْلِيسَ» . فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ. وَلَا يَظُنُّ بِمِيكَائِيلَ وَأَبِي بَكْرٍ، بِمَا نَفَيَا تَقْدِيرَ الشَّرِّ مِنْ اللَّهِ، إلَّا خَيْرًا، لِأَنَّ طَالِبَ الصَّوَابِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ رَأْيُهُ جَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 [بَابُ مَنْ يَحِلُّ لَهُ الْخُمُسُ وَالصَّدَقَةُ] 33 - بَابُ مَنْ يَحِلُّ لَهُ الْخُمُسُ وَالصَّدَقَةُ وَذَكَرَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ الْعَامِلِ عَلَيْهَا، أَوْ الْغَارِمِ، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَى هَذَا الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى إلَى الْغَنِيِّ» . وَأَخَذَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقَالُوا: تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِلْغَازِي وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَلِلْغَارِمِ إذَا كَانَ غُرْمُهُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ عِنْدَنَا: إذَا كَانَ الْغَازِي غَنِيًّا فِي أَهْلِهِ وَلَيْسَ بِيَدِهِ مَالٌ حَيْثُ هُوَ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الصَّدَقَةِ مَا يَتَقَوَّى بِهِ. وَكَذَلِكَ الْغَارِمُ إذَا كَانَ مَالَهُ غَائِبًا عَنْهُ أَوْ دَيْنًا عَلَى ظُهُورِ الرِّجَالِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، فَهُمَا حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ السَّبِيلِ. فَأَمَّا مَنْ يَكُونُ مَالُهُ بِحَضْرَتِهِ وَذَلِكَ فَوْقَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ نِصَابٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» . وَأَمَّا الْعَامِلُ فَمَا يَأْخُذُهُ عِمَالَةً وَلَيْسَ بِصَدَقَةٍ فِي حَقِّهِ، فَغِنَاهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِهِ، وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْفَقِيرِ إنَّمَا يَأْخُذُهُ مَبِيعًا عِوَضًا عَنْ مَالِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَاَلَّذِي أَهْدَى إلَيْهِ الْمِسْكِينُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ هَدِيَّةً لَا صَدَقَةً، عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» . 163 - وَذَكَرَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ التَّهْلُكَةِ أَهُوَ الرَّجُلُ إذَا (47 ب) مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ حَمَلَ فَقَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُذْنِبُ ثُمَّ لَا يَتُوبُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . فَوَقَعَ عِنْدَ السَّائِلِ أَنَّ مَنْ حَمَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَعْدَاءِ يَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ. فَبَيَّنَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ الْمُلْقِي نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ مَنْ يُذْنِبُ ثُمَّ لَا يَتُوبُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُرْتَهِنًا بِصَنِيعِهِ. فَأَمَّا مَنْ حَمَلَ عَلَى الْعَدُوِّ فَهُوَ يَسْعَى فِي إعْزَازِ الدِّينِ، وَيَتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ الَّتِي يَسْتَفِيدُ بِهَا الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ، كَيْفُ يَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ؟ . 164 - ثُمَّ بَيَّنَ الْمَذْهَبَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُحْمَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُقْتَلُ إذَا كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَصْنَعُ شَيْئًا يَقْتُلُ أَوْ يَجْرَحُ أَوْ يَهْزِمُ. فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ وَمَدَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامٍ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ حَمَلَ فَقَاتَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 حَتَّى قُتِلَ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ؟ فَقَالَ: كَلًّا، وَلَكِنَّهُ تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِحَمْلَتِهِ شَيْءٌ مِمَّا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ فَقَطْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْهَى قَوْمًا مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُنْكَرٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ بِنَهْيِهِ، وَأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ لَهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ. وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ هُنَاكَ يَعْتَقِدُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُؤْثَرًا فِي بَاطِنِهِمْ. فَأَمَّا الْكُفَّارُ غَيْرُ مُعْتَقِدِينَ لِمَا يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ، فَالشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ حَمْلَتُهُ بِحَيْثُ تَنْكِي فِيهِمْ ظَاهِرًا فَإِذَا كَانَ لَا يَنْكِي لَا يَكُونُ مُفِيدًا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَلَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 [بَابُ مَا يَجِبُ مِنْ طَاعَةِ الْوَالِي وَمَا لَا يَجِبُ] 34 - بَابُ مَا يَجِبُ مِنْ طَاعَةِ الْوَالِي وَمَا لَا يَجِبُ 165 -[قَالَ:] وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ دَارَ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَمَرَهُمْ أَمِيرُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . وَالْمُرَادُ الْأُمَرَاءُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْعُلَمَاءُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَإِنَّمَا تَجِبُ طَاعَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ لِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُمْ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ. وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرُوهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَدْرُونَ أَيَنْتَفِعُونَ بِهِ أَمْ لَا، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ الطَّاعَةِ ثَابِتَةٌ بِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَمَا تَرَدَّدَ لَهُمْ مِنْ الرَّأْيِ فِي أَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ مُنْتَفَعٌ أَوْ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ الْمَقْطُوعِ. . 166 - وَقَدْ تَكُونُ طَاعَةُ الْأَمِيرِ فِي الْكَفِّ عَنْ الْقِتَالِ خَيْرًا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقِتَالِ. وَقَدْ يَكُونُ الظَّاهِرُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ (48 آ) الْجُنْدُ يَدُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَمِيرِ، وَلَا يَرَى الصَّوَابَ فِي أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَا هُوَ الْحَقِيقَةُ عَامَّةُ الْجُنْدِ. فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الطَّاعَةُ مَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِأَمْرٍ يَخَافُونَ فِيهِ الْهَلَكَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ رَأْيِ جَمَاعَتِهِمْ، لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا طَاعَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا. فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُهُمْ فَأَجَّجَ نَارًا وَقَالَ: قَدْ أُمِرْتُمْ بِطَاعَتِي فَاقْتَحِمُوهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَدْخُلُهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا نَدْخُلُهَا، فَإِنَّا أَسْلَمْنَا فِرَارًا مِنْ النَّارِ. فَلَمَّا رَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، فَإِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ لَا فِي الْمُنْكَرِ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " مَا خَرَجُوا مِنْهَا "، أَيْ يُنْقَلُونَ مِنْهَا إلَى نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ أَكْبَرُ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ. 167 - فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ أَطَاعُوهُ هَلَكُوا، كَانَ أَمْرُهُ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ قَصْدًا مِنْهُ إهْلَاكَهُمْ وَاسْتِخْفَافًا بِهِمْ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الطَّاعَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] 168 - وَإِنْ كَانَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ مُخْتَلِفِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فِيهِ الْهَلَكَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فِيهِ النَّجَاةُ، فَلْيُطِيعُوا الْأَمِيرَ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الطَّاعَةِ فَتْحُ لِسَانِ اللَّائِمَةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي إظْهَارِ الطَّاعَةِ قَطْعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 169 - إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ هَلَكَةٌ، أَوْ أَمَرَهُمْ بِمَعْصِيَةٍ، فَحِينَئِذٍ لَا طَاعَةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَصْبِرُوا وَلَا يَخْرُجُوا عَلَى أَمِيرِهِمْ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَتَاهُ مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّ مَنْ خَالَفَ الْمُسْلِمِينَ قِيدَ شِبْرٍ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةَ الْجَاهِلِيَّةِ» . . 170 - وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدًا إلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَقَاتَلَهُمْ بَعْدَ مَا سَمِعَ الْأَذَانَ مِنْهُمْ، وَبَعْدَ مَا وَضَعُوا السِّلَاحَ. فَأَمَرَ بِهِمْ فَأُسِرُوا، ثُمَّ قَالَ: لِيَقْتُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ أَسِيرَهُ، فَأَمَّا بَنُو سُلَيْمٍ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَخَلُّوا أَسْرَاهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أَرْسَلَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَدَى لَهُمْ مَا أَصَابَهُ خَالِدٌ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَقَدْ مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنْ تَخْلِيَةِ سَبِيلِ الْأَسْرَى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلْأَمِيرِ عَلَى جُنْدِهِ فِيمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَلَا فِيمَا كَانَ وَجْهُ الْخَطَأِ فِيهِ بَيِّنًا. فَأَمَّا فِيمَا سِوَى (48 ب) ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ لِئَلَّا يَفْشَلُوا وَلَا يَتَنَازَعُوا كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46] . - قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَى الْجُنْدِ الْعَاقِلَ الْفَاضِلَ، الْعَالِمَ بِالْحَرْبِ، الرَّفِيقَ. قَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ. نَقُولُ: مَنْ يَكُونُ هَكَذَا فَهُوَ مَوْضِعٌ لِلْإِمَارَةِ، عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ مَوْلًى أَوْ غَيْرَهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَفِيهِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِكُلِّ مَنْ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ مَا لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِالْمُنْكَرِ، فَفِي الْمُنْكَرِ لَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» . - قَالَ: وَإِذَا نَادَى الْأَمِيرُ أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ وَجُنْدُهُ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَفُلَانٌ وَجُنْدُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَفُلَانٌ وَجُنْدُهُ فِي الْمَيْسَرَةِ، وَفُلَانٌ وَجُنْدُهُ فِي السَّاقَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالْكَوْنِ فِيهِ. لِأَنَّ هَذَا مِنْ التَّدْبِيرِ الْحَسَنِ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ، فَإِنَّمَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ بِالطَّاعَةِ. 173 - فَإِنْ عَصَاهُ عَاصٍ فَلْيَتَقَدَّمْ إلَيْهِ الْأَمِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 يَعْنِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ عَثْرَةٌ مِنْهُ - وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» ، وَلَكِنْ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ وَإِلَى الْجُنْدِ جَمِيعًا أَنَّهُ يُؤَدِّبُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إنْذَارًا مِنْهُ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ» . وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] ، فَإِنْ عَصَاهُ عَاصٍ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَمَا أَحْسَنَ أَدَبَهُ فِي ذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ فِطَامًا لَهُ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ عَنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ لِمُخَالِفَةِ أَمْرِهِ، فَإِنَّ امْتِنَاعَ النَّاسِ مِمَّا لَا يَحِلُّ لِمَخَافَةِ الْعُقُوبَةِ أَكْثَرُ مِنْ امْتِنَاعِهِمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَبِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ، «إنَّ اللَّهَ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ فَوْقَ مَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ» . . 174 - وَإِنْ ادَّعَى عُذْرًا يُعْتَذَرُ بِهِ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُحْتَمِلٍ لِلصِّدْقِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ إذْ لَيْسَ هَا هُنَا خَصْمٌ يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا لَا يُجْعَلُ الْيَمِينُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فِي الْخُصُومَاتِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ. وَالشَّرْعُ جَعَلَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُدَّعِي. - وَإِذَا نَادَى مُنَادٍ الْأَمِيرِ أَنَّ السَّاقَةَ غَدًا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ فَلَا يَتَخَلَّفَن رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَلَا مِنْ الْمُطَوَّعَةِ. لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا رَعِيَّتُهُ حِينَ خَرَجُوا لِلْجِهَادِ تَحْتَ رَايَتِهِ، فَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ إذَا نَادَى بِهَذَا يُرِيدُ بِهِ أَهْلَ الدِّيوَانِ خَاصَّةً، فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ دِيوَانُهُ مَعَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَهُوَ مَعَ أَهْلِ دِيوَانِهِ وَلَيْسَ مَعَ أَهْلِ بَلَدِهِ. لِأَنَّ أَمْرَهُ رَاجِعٌ إلَى الْجِهَادِ، وَفِي الْجِهَادِ إنَّمَا يَجْمَعُهُمْ الدِّيوَانُ لَا الْبَلْدَةُ وَلِأَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يَنْضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فِي التَّنَاصُرِ، وَتَنَاصَرُ أَهْلُ الدِّيوَانِ بِالدِّيوَانِ (49 آ) وَلِهَذَا يَتَعَاقَلُونَ بِهِ. 176 - وَلَوْ نَادَى الْمُنَادِي: السَّاقَةُ غَدًا عَلَى أَصْحَابِ الْخَيْلِ، فَهُوَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَيَنْبَغِي لِأَصْحَابِ الْبَرَاذِينِ أَنْ يَكُونُوا مَعَ أَصْحَابِ الْعِرَابِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّهَا مِنْ الْخَيْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] . وَلَمَّا سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ صَدَقَةِ الْبَرَاذِينِ قَالَ: أَوَ فِي الْخَيْلِ صَدَقَةٌ؟ فَأَصْحَابُ الْبَرَاذِينِ فِي ذَلِكَ مَعَ أَصْحَابِ الْعِرَابِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا نَادَوْا بِذَلِكَ يُرِيدُونَ أَصْحَابَ الْعِرَابِ خَاصَّةً، لِأَنَّهَا أَسْرَعُ فِي الطَّلَبِ وَالْحَرْبِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَرَادَ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ. 177 - وَإِنْ قَالَ: الْمَيْمَنَةُ غَدًا عَلَى أَهْلِ الْمِصِّيصَةِ، فَكَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلُ الْكُوفَةِ سَكَنَ الْمِصِّيصَةَ فَإِنْ كَانَ اتَّخَذَهَا مَنْزِلًا، فَهُوَ مِنْ الْمِصِّيصَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَلِأَنَّ مَنْ يَكُونُ سَاكِنًا فِي بِلِدَةٍ مُقِيمًا بِهَا يُعَدُّ فِي النَّاسِ مِنْ أَهْلِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّا إذَا عَدَدْنَا فُقَهَاءَ الْكُوفَةِ ذَكَرْنَا فِي جُمْلَتِهِمْ النَّخَعِيّ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُمْ مَا كَانُوا مِنْ الْكُوفَةِ فِي الْأَصْلِ وَلَكِنَّهُمْ سَكَنُوهَا. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَّخِذْ الْمِصِّيصَةَ مَسْكَنًا فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا النِّدَاءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ دِيوَانُهُ مَعَ أَهْلِ الْمِصِّيصَةِ فَحِينَئِذٍ يَتَنَاوَلُهُ النِّدَاءُ بِاعْتِبَارِ انْضِمَامِهِ إلَى أَهْلِ الْمِصِّيصَةِ فِي الدِّيوَان. - فَإِنْ كَانَ شَدَّ الْعَدُوُّ إلَى السَّاقَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعِينَهُمْ أَهْلُ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ إذَا خَافُوا عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُمْ تَوَاعَدُوا النُّصْرَةَ حِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى مُحَارَبَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ لَا يُعِينُ غَيْرَهُ لَا يُعِينُهُ غَيْرُهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ. وَفِي تَرْكِ التَّعَاوُنِ ظُهُورُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ. فَإِذَا ظَهَرَ الْعَدُوِّ عَلَى السَّاقَةِ يَقْصِدُونَ أَهْلَ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالدَّفْعِ عَنْ إخْوَانِهِمْ 179 - قَالَ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُخِلُّ بِمَرَاكِزِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا. لِأَنَّ الْإِمَامَ فَوَّضَ إلَيْهِمْ حِفْظَ ذَلِكَ عَيْنًا، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ تَضْيِيعُ ذَلِكَ وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ مَا هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى غَيْرِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 - وَإِنْ أَمَرَهُمْ الْإِمَامُ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مِنْ مَرَاكِزِهِمْ وَنَهَى عَنْ أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْصُوهُ، وَإِنْ أَمِنُوا مِنْ نَاحِيَتِهِمْ وَخَافُوا عَلَى غَيْرِهِمْ. لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَمَا يَخَافُونَهُ مَوْهُومٌ، عَلَى مَا قِيلَ: أَكْثَرُ مَا يُخَافُ لَا يَكُونُ. 181 - وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الرُّمَاةَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يَقُومُوا بِمَوْضِعٍ وَلَا يَبْرَحُوا مِنْ مَرَاكِزِهِمْ، فَلَمَّا نَظَّرُوا إلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ انْهَزَمُوا، ذَهَبُوا يَطْلُبُونَ الْغَنِيمَةَ. فَكَانَتْ هَزِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي نَاحِيَتِهِمْ» . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ، وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] . - قَالَ وَإِنْ خَرَجَ عِلْجٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ مِنْ الْإِمَامِ (49 ب) فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ فِي الْمُبَارِزَةِ كَصَرِيحِ الْإِذْنِ، وَتَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ كَانَ لِلْقِتَالِ فَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ فِي الْمُبَارِزَةِ مَا لَمْ يَنْهَهُمْ، فَإِنْ نَهَاهُمْ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 لِأَنَّ الدَّلَالَةَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا، كَمُقَدِّمِ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَيْرِ إذَا نَهَاهُ عَنْ الْأَكْلِ. وَقَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْقِتَالِ فِي بَعْضِ أَيَّامِ خَيْبَرَ فَقَاتَلَ رَجُلٌ فَقُتِلَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَحِلُّ الْجَنَّةُ لِعَاصٍ» . 183 - وَكَذَلِكَ إنْ نَهَى إنْسَانًا بِعَيْنِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِاحْتِمَالِ النَّظَرِ فِي نَهْيِ الْإِمَامِ لَهُ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ غَيْرُهُ لِبَقَاءِ دَلِيلِ الْإِذْنِ فِي حَقِّهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ يَدْعُونَ إلَى الْبِرَازِ. فَخَرَجَ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ فَتَيَانِ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْتَسَبُوا، فَقَالُوا: أَنْتُمْ أَبْنَاءُ قَوْمٍ كِرَامٍ، وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَكْفَاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَرْجِعُوا إلَى مُحَمَّدٍ وَقُولُوا لَهُ: أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا» . هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمَغَازِي. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْخُرُوجِ قَبْلَ نَهْيِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: 184 - فَقَالَ: «فَرَدَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ خَرَجُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْقِتَالِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَمَرَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ فَخَرَجُوا إلَيْهِمْ» . وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] . 185 - فَإِذَا تَبَارَزَ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعِينَ الْمُسْلِمُونَ صَاحِبَهُمْ إنْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ قَاصِدٌ إلَى قَتْلِهِمْ كَمَا هُوَ قَاصِدٌ إلَى قَتْلِ صَاحِبِهِمْ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ. فَلَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا شَرَّهُ، لَوْ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا إلَيْهِمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ لِكَوْنِهِ مُشْرِكًا مُحَارِبًا. وَفِي قِصَّةِ الْمُبَارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ذُكِرَ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَ الْوَلِيدَ، وَحَمْزَةَ قَتَلَ عُتْبَةَ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ، فَأَعَانَ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عُبَيْدَةَ عَلَى شَيْبَةَ حَتَّى قَتَلَاهُ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ الْجَمَاعَةُ الْمُمْتَنِعَةُ إلَى الْعَلَّافَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَالِي فَيَتَعَلَّفُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 لِوُجُودِ دَلَالَةِ الْإِذْنِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ جَرَّهُمْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْعَلَفِ، وَأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ اسْتِصْحَابُ الْعَلَفِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجِدُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَشْتَرُونَهُ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِيمَا فِيهِ كَبْتٌ وَغَيْظٌ لِلْعَدُوِّ. وَفِي أَخْذِ الْعُلُوفَةِ مِنْهُمْ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَعْنَى، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمَنَعَةٍ. فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجُوا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ. وَلَا يَتَفَرَّقُونَ إلَّا بِحَيْثُ يُغِيثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. لِأَنَّهُمْ إذَا تَفَرَّقُوا وَبَعُدَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ (50 آ) كَانَ مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُوهُ. 187 - كَمَا لَا يَحِلُّ لِلْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى أَنْ يَخْرُجَ ابْتِدَاءً خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْبِ مِنْ الْعَسْكَرِ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِمْ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ. فَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا إلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. 188 - وَإِنْ نَادَى مُنَادِي الْأَمِيرِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْعَلَّافَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ مَنَعَةٍ وَلَا لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ تَنْعَدِمُ بِصَرِيحِ النَّهْيِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ فِي هَذَا النَّهْيِ، إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ لِذَلِكَ قَوْمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 189 - وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا لِتَتَّفِقَ كَلِمَتُهُمْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْمُحَارَبَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ إنْ اُبْتُلُوا بِذَلِكَ. 190 - وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجُوا مُتَفَرِّقِينَ قَبْلَ نَهْيِ الْإِمَامِ، فَهَجَمَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا ثُمَّ يُقَاتِلُوا حَتَّى يَلْتَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْجَيْشِ إلَى ذَلِكَ مَاسَةٌ، وَالْإِمَامُ نَاظِرٌ لَهُمْ. فَإِنَّمَا يَتِمُّ النَّظَرُ مِنْهُ إذَا بَعَثَ لِذَلِكَ قَوْمًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا: «هَلْ أَمَّرْتُمَا؟ قَالَا: نَعَمْ، فَقَالَ: أَلَا قَدْ رَشَدْتُمَا» . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسَافِرِينَ يُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، فَمَا ظَنَّكَ فِي الْمُحَارَبِينَ؟ . 191 - وَبَعْدَ مَا نَهَى الْوَالِي النَّاسَ عَنْ الْخُرُوجِ إذَا أَصَابَهُمْ ضَرُورَةٌ مِنْ الْعَلَفِ، وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ عَلَى ظُهُورِهِمْ وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَشْتَرُونَ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجُوا فِي طَلَبِ الْعَلَفِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى عَنْ مُوجَبِ الْأَمْرِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 192 - وَإِنْ قَالَ الْوَالِي: لَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ إلَى الْعَلَفِ إلَّا تَحْتَ لِوَاءِ فُلَانٍ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُرَاعُوا شَرْطَهُ، فَيَخْرُجُوا تَحْتَ لِوَائِهِ فَإِذَا أَتَوْا الْقُرَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا فِيهَا لِطَلَبِ الْعَلَفِ عَلَى وَجْهٍ يُغِيثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ، فَإِذَا أَتَاهُمْ الْعَدُوُّ فَلْيَنْضَمُّوا إلَى صَاحِبِ اللِّوَاءِ حَتَّى يُقَاتِلُوا تَحْتَ لِوَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ اللِّوَاءِ بِحَضْرَتِهِمْ فَلْيُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزُوا عَنْ إلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ بِأَقْصَى مَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . 193 - وَلَا يَنْبَغِي بَعْدَ مَا خَرَجُوا أَنْ يُفَارِقُوا صَاحِبَ اللِّوَاءِ، إلَّا حَيْثُ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُغِيثَهُمْ إذَا اسْتَغَاثُوا؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْإِمَامِ مِنْ قَوْلِهِ: " لَا يَخْرُجُوا إلَّا تَحْتَ لِوَاءِ فُلَانٍ " لَيْسَ الْخُرُوجُ فَقَطْ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ: كُونُوا تَحْتَ لِوَائِهِ إلَى أَنْ تَرْجِعُوا. وَمَنْ يُرَاعِ أَمْرَهُ فِي شَيْءٍ يُرَاعِ صِفَةَ أَمْرِهِ. 194 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ مُنَادِي الْأَمِيرِ: مَنْ أَرَادَ الْعَلَفَ فَلْيَخْرُجْ تَحْتَ لِوَاءِ فُلَانٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ نَهْيٌ وَلَا أَمْرٌ غَيْرُ هَذَا، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّهْيِ. وَقَدْ (50 ب) بَيَّنَّا أَنَّهُ بَنَى هَذَا الْكِتَابِ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ، وَظَاهِرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، مَفْهُومُ الصِّفَةِ وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَلَكِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَقْصُودَ الَّذِي يَفْهَمُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْغُزَاةَ فِي الْعَامِ الْغَالِبِ لَا يَقِفُونَ عَلَى حَقَائِقِ الْعُلُومِ وَأَنَّ أَمِيرَهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ إنَّمَا يَقْصِدُ نَهْيَ النَّاسِ عَنْ الْخُرُوجِ إلَّا تَحْتَ لِوَاءِ فُلَانٍ، فَجَعَلَ النَّهْيَ الْمَعْلُومَ بِدَلَالَةِ كَلَامِهِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأُصُولِ. - قَالَ: وَلَا أُحِبُّ إذَا انْتَهَوْا إلَى الْقُرَى أَنْ يَدْخُلَ الْقَرْيَةَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، لَعَلَّ فِيهَا قَوْمًا مُخْتَفِينَ فَيَقْتُلُونَهُ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ عَدَدٌ الْقَرْيَةَ مُتَأَهِّبِينَ لِلْقِتَالِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَحَدٌ أَعْلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] . 196 - وَإِنْ نَهَى الْأَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْطَعُوا الشَّجَرَ أَوْ يَهْدِمُوا الْأَبْنِيَةَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْصُوهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا النَّهْيِ احْتِمَالَ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْمَنْعُ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ. وَلَوْ نَهَاهُمْ عَنْ الْقِتَالِ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْصُوهُ مَا لَمْ يَأْتِ ضَرُورَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ، فَكَذَلِكَ إذَا نَهَاهُمْ عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 - وَلَوْ عَقَدَ الْأَمِيرُ لِوَاءَ الرَّجُلِ وَقَالَ: لَا يَخْرُجَنَّ مَعَهُ إلَّا ثَلَاثُ مِائَةٍ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَلَا يَخْرُجُ إلَّا الْعَدَدُ الَّذِي قَالَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَيَكُونُ هَذَا تَصْرِيحًا بِالنَّهْيِ عَنْ الزِّيَادَةِ عَنْ الْعَدَدِ الْمُسْتَثْنَى. 198 - وَلَوْ صَرَّحَ لَهُمْ بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ عِصْيَانُهُ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا:. 199 - فَإِنْ خَرَجُوا أَرْبَعَ مِائَةٍ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ لَمْ يُحْرَمُوا الْغَنِيمَةَ مَعَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَسَاءُوا، لِأَنَّهُمْ مُجَاهِدُونَ قَاصِدُونَ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازَ الدِّينِ. فَمُخَالَفَتُهُمْ أَمْرَ الْأَمِيرِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ مُخَالِفَتِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ، فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا غُزَاةً، كَيْفَ وَهَذَا النَّهْيُ بِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَا نَهَاهُمْ عَنْ الْخُرُوجِ لِعَيْنِ الْخُرُوجِ أَوْ الْقِتَالِ أَوْ الِاغْتِنَامِ، وَلَكِنْ لِلْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ. 200 - فَإِنْ كَانَ قَدْ نَفَلَهُمْ الرُّبْعَ بَعْدَ الْخُمْسِ فَخَرَجُوا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَإِنْ كَانَتْ الثَّلَاثُ مِائَةٍ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ قَوْمًا مُسَمِّينَ بِأَعْيَانِهِمْ مَيَّزَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْغَنِيمَةِ، فَأَعْطَى أُولَئِكَ مِنْهَا نَفْلَهُمْ. هَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَلَكِنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهُ يَعْزِلُ الْخُمْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ، ثُمَّ يُعْطِيهِمْ مِنْ رُبْعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مَا بَقِيَ نَفْلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا شَرَطَ لَهُمْ الرُّبْعَ بَعْدَ الْخُمْسِ. وَمُرَادُهُ مِمَّا يُصِيبُونَ، وَمُصَابُهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْغَنِيمَةِ. 201 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: يُقَسَّمُ مَا جَاءُوا بِهِ (51 آ) بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى مَا أَصَابَ الثَّلَاثُ مِائَةٍ فَيُخْرِجُ الْخُمْسَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُعْطِيهِمْ نَفْلَهُمْ مِمَّا بَقِيَ. وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ هُنَاكَ فِيمَا إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ فَارِسًا وَبَعْضُهُمْ رَاجِلًا. وَهَا هُنَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانُوا فُرْسَانًا كُلُّهُمْ أَوْ رَجَّالَةً كُلُّهُمْ، فَلِهَذَا مَيَّزَ لَهُمْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْغَنِيمَةِ؛ لِيُعْطِيَ مِنْهَا نَفْلَهُمْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُرْفَعُ الْخُمْسُ فِي جَمِيعِ الْمُصَابِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْغَنِيمَةِ فَيُعْطِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ نَفْلَهُمْ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَرَّرَ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَجَابَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِجَوَابٍ آخَرَ، فَنَذْكُرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا هُوَ صَوَابٌ مِنْ الْجَوَابِ وَمَا هُوَ غَلَطٌ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إلَى الرُّبْعِ الْبَاقِي فَعَزَلَ خَمْسُهُ ثُمَّ جَمَعَ مَا بَقِيَ مِنْهُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مَعَ غَنَائِمِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ يُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ جَمِيعًا عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَذْكُرُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أَنَّهُ لَا يُخَمِّسُ هَذَا الرُّبْعَ، فَكَأَنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِائَةَ الْعُصَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَلَصِّصِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إذْن الْإِمَامِ، فَلَا يُخَمِّسُ مَا أَصَابُوا، وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا لَا يُخَمَّسُ مُصَابُ الْمُتَلَصِّصِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ. وَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ بِالِانْضِمَامِ إلَى الثَّلَاثِ مِائَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُخَمِّسَ مَا أَصَابُوا. 202 - وَإِنْ كَانَتْ الثَّلَاثُ مِائَةٍ لَيْسُوا قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْغَنِيمَةِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا الْخُمْسَ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى رُبْعِ مَا بَقِيَ فَيُقَسِّمُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ مِائَةٍ بِالسَّوِيَّةِ نَفْلًا لَهُمْ. لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالتَّنْفِيلِ يَثْبُتُ لِثَلَاثِ مِائَةٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ. فَلَا بُدَّ مِنْ قِسْمَةِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ يُخْرِجُ الْخُمْسَ مِنْ الرُّبْعِ الْبَاقِي وَيَجْمَعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ فَيُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْعَسْكَرِ عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. 203 - فَإِنْ كَانَتْ الْمِائَةُ الْعُصَاةُ بِأَعْيَانِهِمْ فَرَأَى الْأَمِيرُ أَنْ يَحْرِمَهُمْ سَهْمَهُمْ مِمَّا أَصَابُوا، فَقَسَّمَ مَا بَقِيَ بَيْنَ الثَّلَاثِ مِائَةٍ وَأَهْلِ الْعَسْكَرِ وَحَرَمَ الْعُصَاةَ، ثُمَّ وَلِيَ آخَرُ يَرَى مَا صَنَعَ الْأَوَّلُ جَوْرًا أَمْضَى صَنِيعَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْضَى بِاجْتِهَادِهِ فِعْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَإِنَّ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يُحْرَمُ الْعُصَاةُ حَظَّهُمْ مِمَّا أَصَابُوا لِيَكُونَ زَجْرًا وَفِطَامًا لَهُمْ عَنْ الْعَوْدِ إلَى مِثْلِهِ، وَرَدُّوا ذَلِكَ إلَى حِرْمَانِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ. وَبَيَانُ هَذَا يَأْتِي فِي بَابِ إحْرَاقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 رَحْلِ الْغَالِّ. وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ يَكُونُ نَافِذًا لَا يُرَدُّ، فَلِهَذَا قَالَ: لَا يَرُدُّ الثَّانِي مَا صَنَعَ الْأَوَّلُ. - قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجِهَادِ وَلَهُ أَبٌ أَوْ أُمٌّ إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ بِرَّهُمَا وَاجِبٌ، وَالتَّحَرُّزَ عَنْ عُقُوقِهِمَا فَرْضٌ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِيَعْمَلْ الْبَارُّ مَا شَاءَ فَلَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلْيَعْمَلْ الْعَاقُّ مَا شَاءَ فَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ» (51 ب) . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَصْبَحَ وَوَالِدَاهُ رَاضِيَانِ عَنْهُ فَلَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إلَى الْجَنَّةِ» ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسُدَّ هَذَا الْبَابَ بِالْخُرُوجِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَنْتَفِعُ بِخُرُوجِهِ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ لَا يَنْتَفِعُ. 205 - وَذُكِرَ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ الْجِهَادَ قَالَ: أَلَك أُمٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: الْزَمْ أُمَّكَ فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِ أُمِّكَ» . وَتَفْرِيعُ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي بَابٍ بَعْدَ هَذَا، فَيُؤَخَّرُ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. 206 - وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْت جَابِرًا أَيُقَاتِلُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ؟ قَالَ: لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وَبِهِ نَأْخُذُ. لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَهَا عَلَيْهِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ. وَمَالِيَّتَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَهَا لِلتَّلَفِ بِالْقِتَالِ؛ إلَّا أَنْ يَجِيءَ حَالَ ضَرُورَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ، بِأَنْ وَقَعَ النَّفِيرُ عَامًّا، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ أَنْ يَخْرُجَ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ لُزُومِ الطَّاعَةِ شَرْعًا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَمْنَعَهُ، بَلْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ دَفْعُ شَرِّ الْمُشْرِكِينَ بِنَفْسِهِ وَبِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مِلْكِهِ. فَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُطِيعَهُ إنْ نَهَاهُ عَنْ الْخُرُوجِ. وَكَذَلِكَ هَذَا الْجَوَابُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ إذَا نَهَاهُ وَالِدَاهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 [بَابُ قِتَالِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَشُهُودِهِنَّ الْحَرْبَ] 207 - قَالَ: لَا يُعْجِبُنَا أَنْ يُقَاتِلَ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقِتَالِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «هَاهْ، مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» . وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي قِتَالِهَا كَشْفُ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَفْرَحُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِجُرْأَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ: احْتَاجُوا إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالنِّسَاءِ عَلَى قِتَالِنَا، فَلْيُتَحَرَّزْ عَنْ هَذَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُسْتَحَبُّ لَهُمْ مُبَاشَرَةُ الْقِتَالِ، إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ الْمُسْلِمُونَ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ دَفْعَ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ. وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِقِصَّةِ حُنَيْنٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا. وَفِي أَوَاخِرِ تِلْكَ الْقِصَّةِ: «قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ بِنْتُ مِلْحَانَ، وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ تُقَاتِلُ شَادَّةً عَلَى بَطْنِهَا بِثَوْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرُّوا مِنْك وَخَذَلُوك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فَلَا تَعْفُ عَنْهُمْ إنْ أَمْكَنَك اللَّهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ عَافِيَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ، فَأَعَادَتْ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَافِيَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ» . وَفِي الْمَغَازِي أَنَّهَا «قَالَتْ: أَلَا نُقَاتِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ (52 آ) هَؤُلَاءِ الْفَرَّارِينَ فَنَقْتُلُهُمْ كَمَا قَاتَلْنَا الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَافِيَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ» . وَأَيَّةُ حَاجَةٍ إلَى قِتَالِ النِّسَاءِ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الْحَاجَةِ حِين فَرُّوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْلَمُوهُ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقِتَالِهِنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَمْنَعْهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ أَذِنَ لِلنِّسَاءِ فِي الْقِتَالِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ. 208 - قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْضُرَ مِنْهُنَّ الْحَرْبَ الْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ فَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَسْقِي الْمَاءَ، وَتَطْبُخُ لِلْغُزَاةِ إذَا احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ الْأَزْدِيِّ قَالَ: كَانَتْ نِسَاءُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَنِسَاءُ أَصْحَابِهِ مُشَمِّرَاتٍ، يَحْمِلْنَ الْمَاءَ لِلْمُجَاهِدِينَ يَرْتَجِزْنَ، وَهُوَ يُقَاتِلُ الرُّومَ، وَالْمُرَادُ الْعَجَائِزُ، فَالشَّوَابُّ يُمْنَعْنَ عَنْ الْخُرُوجِ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَالْحَاجَةِ تَرْتَفِعُ بِخُرُوجِ الْعَجَائِزِ. 209 - وَذُكِرَ عَنْ «أُمِّ مُطَاعٍ، وَكَانَتْ شَهِدَتْ خَيْبَرَ مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: رَأَيْت أَسْلَمَ، حَيْثُ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَلْقَوْنَ مِنْ شِدَّةِ الْحَالِ فَنَدَبَهُمْ إلَى الْجِهَادِ فَنَهَضُوا. وَلَقَدْ رَأَيْت أَسْلَمَ أَوَّلَ مَنْ انْتَهَى إلَى الْحِصْنِ فَمَا غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى فَتَحَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَهُوَ حِصْنُ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ بِالنَّطَاةِ» . فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهَا كَانَتْ خَرَجَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْعَجُوزِ أَنْ تَخْرُجَ لِإِعَانَةِ الْمُجَاهِدِينَ بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ الْعَمَلِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 [بَابُ الْجِهَادِ مَا يَسَعُ مِنْهُ وَمَا لَا يَسَعُ] 36 - بَابُ الْجِهَادِ مَا يَسَعُ مِنْهُ وَمَا لَا يَسَعُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِمْ. فَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: الْقِتَالُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ بِفَرْضٍ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْبِدَايَةُ مِنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ قِتَالُهُمْ دَفْعًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] ، وَقَوْلُهُ: {وَقَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] . وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتَلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وَبِقَوْلِهِ: {وَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190] ، وَبِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} [التوبة: 29] ، وَبِقَوْلِهِ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَالْحَاصِلُ أَنْ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ وَبِالْقِتَالِ نَزَلَ مُرَتَّبًا. فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورًا فِي الِابْتِدَاءِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] . ثُمَّ أَمَرَ بِالْمُجَادَلَةِ بِالْأَحْسَنِ كَمَا قَالَ: {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ، وَقَالَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ بِقَوْلِهِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] ثُمَّ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ إنْ كَانَتْ الْبِدَايَةُ مِنْهُمْ بِمَا تَلَا مِنْ آيَاتٍ. ثُمَّ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ بِشَرْطِ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] (52 ب) ثُمَّ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 244] . فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا. وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي اللُّزُومَ، إلَّا أَنَّ فَرِيضَةَ الْقِتَالِ لِمَقْصُودِ إعْزَازِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، بِمَنْزِلَةِ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ. إذْ لَوْ اُفْتُرِضَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِعَيْنِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَهَذَا فَرْضٌ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ، لَمْ يَتَفَرَّغْ أَحَدٌ لِشُغْلٍ آخَرَ مِنْ كَسْبٍ أَوْ تَعَلُّمٍ. وَبِدُونِ سَائِرِ الْأَشْغَالِ لَا يَتِمُّ أَمْرُ الْجِهَادِ أَيْضًا، فَلِهَذَا كَانَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ. 211 - حَتَّى لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِهِ اشْتَرَكُوا فِي الْمَأْثَمِ. وَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. وَفِي مِثْلِ هَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ لِذَلِكَ نَائِبٌ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ. فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَطِّلَ الثُّغُورَ، وَلَا يَدَعَ الدُّعَاءَ إلَى الدِّينِ وَحَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْجِهَادِ. وَإِذَا نَدَبَ النَّاسَ إلَى ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْصُوهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْخُرُوجِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَعَ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ إلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ إعْطَاءِ جِزْيَةٍ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ. 212 - وَإِنْ كَانُوا قَوْمًا لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَدْعُوهُمْ إلَى إحْدَى هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ إذَا أَجَابُوا إلَى إحْدَاهُمَا، وَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْهُمَا فَحِينَئِذٍ يُقَاتَلُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِيُّ وَغَيْرُ الْعَرَبِيِّ سَوَاءٌ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَكُلُّ مُسْلِمٍ فِي هَذَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ بُعِثَ دَاعِيًا إلَى مَا بَيَّنَّا، وَأُمِرَ بِالْقِتَالِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَنْ أَبَى. - قَالَ: وَإِنْ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: وَادِعُونَا عَلَى أَنْ لَا نُقَاتِلَكُمْ وَلَا تُقَاتِلُونَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْطُوهُمْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139] . وَلِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ، فَإِنَّمَا طَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ عَلَى أَنْ تُتْرَكَ فَرِيضَةٌ، وَلَا يَجُوزُ إجَابَتُهُمْ إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُوَادَعَةِ، كَمَا لَوْ طَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ عَلَى أَنْ لَا يُصَلُّوا وَلَا يَصُومُوا، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ شَدِيدَةٌ لَا يَقْوَى عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُوَادِعَهُمْ إلَى أَنْ يَظْهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ ثُمَّ يَنْبِذُ إلَيْهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] . وَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْجِهَادِ فِي حِفْظِ الْمُسْلِمِينَ قُوَّةُ أَنْفُسِهِمْ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي قَهْرِ الْمُشْرِكِينَ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ، فَإِذَا كَانُوا عَاجِزِينَ (53 آ) عَنْ كَسْرِ شَوْكَتِهِمْ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْفَظُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قُوَّةَ أَنْفُسِهِمْ بِالْمُوَادَعَةِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ قُوَّةُ كَسْرِ شَوْكَتِهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَنْبِذُونَ إلَيْهِمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إنْظَارِ الْمُعْسِرِ إلَى الْمَيْسَرَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . 214 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: وَادِعُونَا عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَالًا مَعْلُومًا عَلَى أَنْ تُجْرُوا عَلَيْنَا أَحْكَامَكُمْ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي الْمُوَادَعَةُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِنَا، وَإِنَّمَا يَنْتَهِي الْقِتَالُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَالرِّضَا مِنْهُمْ بِالْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَقْهُورِينَ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْمُحَارَبَةِ أَصْلًا، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِيمَا طَلَبُوا، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ أُجِيبُوا إلَى ذَلِكَ رُبَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّا إنَّمَا نُقَاتِلُهُمْ طَمَعًا فِي أَمْوَالِهِمْ، بَلْ لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ أَوْ يُظْهِرُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. 215 - إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ شَدِيدَةٌ فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ الْمُوَادَعَةُ مَعَهُمْ بِغَيْرِ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، فَلَأَنْ يَجُوزَ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَانَ أَوْلَى. وَهَذَا الْمَالُ لَا يُؤْخَذُ عِوَضًا عَنْ تَرْكِ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ لِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ لَنَا. فَبِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْإِبَاحَةِ يُؤْخَذُ هَذَا الْمَالُ مِنْهُمْ. - قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الْجِهَادِ وَلَهُ أَبَوَانِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَتَرْكَ مَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ وَالْمَشَقَّةَ بِهِمَا فَرْضٌ عَلَيْهِ عَيْنًا، وَالْجِهَادُ فَرْضُ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا لَمْ يَقَعْ النَّفِيرُ عَامًّا. فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَقْوَى. وَفِي خُرُوجِهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةِ بِهِمَا، فَإِنَّ الْمُجَاهِدَ عَلَى خَطَرٍ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ الرُّجُوعِ. 217 - فَإِنْ أَذِنَّا لَهُ فَلْيَخْرُجْ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْآخَرُ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الَّذِي يَأْبَى مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَبَيَا جَمِيعًا. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي جِئْت أُجَاهِدُ مَعَك، وَتَرَكْت وَالِدَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» . وَأَفْضَلُ الْجِهَادِ مَا كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ لِكَرَاهَةِ الْوَالِدَيْنِ لِخُرُوجِهِ «وَلَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى تَقْدِيمِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْوَالِدَانِ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ لَا يَأْذَنَا لَهُ إذَا كَانَ يَدْخُلُهُمَا مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، لِأَنَّهُمَا يَحْمِلَانِهِ عَلَى مَا هُوَ الْأَقْوَى فِي حَقِّهِ وَهُوَ بِرُّهُمَا. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَسَعُهُ ذَلِكَ لَكَانَا يَأْثَمَانِ فِي مَنْعِهِ، وَلَوْ كَانَا يَأْثَمَانِ فِي مَنْعِهِ لَكَانَ هُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الْخُرُوجِ حَتَّى يَبْطُلَ عَنْهُمَا الْإِثْمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 218 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَاتَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَالْآخَرُ حَيٌّ. لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْبِرِّ فِي حَقِّ الْحَيِّ مِنْهُمَا كَامِلٌ. 219 - وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ (53 ب) وَالْآخَرُ مُسْلِمٌ فَكَرِهَا خُرُوجَهُ لِلْجِهَادِ، أَوْ كَرِهَهُ الْكَافِرُ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَخَافَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْمَشَقَّةِ الَّتِي تُلْحِقُهُ بِخُرُوجِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّهُ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ يَسْتَوِي الْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] ، وَالْمُرَادُ الْأَبَوَانِ الْمُشْرِكَانِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] . 220 - وَإِنْ كَانَا إنَّمَا يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ دِينِهِ، لَا شَفَقَةَ عَلَيْهِ فَلْيَخْرُجْ وَلَا يُطِعْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كُرِهَ خُرُوجُهُ بِسَبَبٍ دَعَاهُ الشِّرْكُ إلَى ذَلِكَ لَا الْوِلَادُ (؟) ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَاعَةٌ فِي دَاعِيَةِ الشِّرْكِ. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِغَالِبِ الظَّنِّ وَالرَّأْيِ، لِأَنَّ فِيمَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ يُبْنَى الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى أَكْثَرِ الرَّأْيِ. وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الضَّيْعَةُ، فَإِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا مُحْتَاجًا إلَى خِدْمَتِهِ فَخِدْمَتُهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا. وَلَيْسَ مِنْ الصَّوَابِ أَنْ يَتْرُكَ فَرْضًا عَيْنًا لِيَتَوَصَّلَ إلَى مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَلِأَنَّ مَا يَفُوتُهُ مِنْ تَضْيِيعِ وَالِدِهِ لَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ. وَهُوَ يَتَمَكَّنُ أَنْ يَتَدَارَكَ الْجِهَادَ فِي وَقْتٍ آخَرَ. - قَالَ: وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْأَبَوَانِ وَلَهُ جَدَّانِ وَجَدَّتَانِ فَكَرِهُوا خُرُوجَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْوَالِدَيْنِ، الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ كَالْأَجَانِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُكْمِ الْحَضَانَةِ وَالْوِلَايَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ هُمْ كَالْأَجَانِبِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْخُرُوجِ لَا أَمْرَ لَهُمْ مَا دَامَ الْوَالِدَانِ حَيَّيْنِ. 222 - فَإِنْ مَاتَ الْأَبَوَانِ فَأَذِنَ لَهُ الْجَدُّ الَّذِي مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَالْجَدَّةُ الَّتِي مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْآخَرَانِ - يَعْنِي أَبَا الْأُمِّ وَأُمَّ الْأَبِ - فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّ أَبَا الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَهُ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لَهُ، وَأُمُّ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ بِمَنْزِلَتِهَا، بِدَلِيلِ ثُبُوتِ حَقِّ الْحَضَانَةِ لَهَا، وَالْآخَرَانِ مَعَهُمَا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجَانِبِ. 223 - وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْآخَرَانِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ هَذَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَدَّةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، وَلَا جَدَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، فَاسْتَأْذَنَ الْآخَرَيْنِ فَلَمْ يَأْذَنَا لَهُ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَحَدُهُمَا، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَضَانَةِ لِأُمِّ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ أُمِّ الْأُمِّ. وَهِيَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَالْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ كَالْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ فَقَدْ جُعِلَ كَالْأَبِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ، وَفِي مَنْعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لَهُ وَحُرْمَةِ وَضْعِ الزَّكَاةِ فِيهِ. فَإِذَا لَمْ يَبْقَ جَدٌّ أَقْرَبَ مِنْهُ كَانَ هُوَ قَائِمًا مَقَامَ الْأَبِ فِي مَنْعِهِ مِنْ الْخُرُوجِ أَيْضًا. 225 - وَإِنْ كَانَ لَهُ أُمُّ وَأَبُو أَبٍ فَأَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَسَعَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يَأْذَنَا لَهُ؛ لِأَنَّ أَبَا الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَكَأَنَّ هَذَا وَمَنْ كَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ حَيَّيْنِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ. 226 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُمٌّ وَكَانَتْ لَهُ (54 آ) جَدَّةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَجَدَّةٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، فَحَقُّ الْإِذْنِ لِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ خَاصَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي الْحَضَانَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُخْرَى، وَالْجَدَّةُ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ لَهَا الْوِلَايَةُ كَمَا تَثْبُتُ لِلْجَدِّ. 227 - وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ حَيَّةً فَحَقُّ الْإِذْنِ إلَيْهَا وَلَيْسَ إلَى الْجَدَّاتِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْحَضَانَةِ، وَكَذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ لَيْسَ لِأَجْدَادِ إذْنٌ فِي هَذَا الْبَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 228 - وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَأُمُّ أَبٍ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يَأْذَنَا لَهُ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ سِوَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّهَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الْحَضَانَةِ لَهَا؟ وَأَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنَّ لَهُ مُخَالِفًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ هُوَ. فَكَأَنَّ هَذَا الْمُخَالِفَ يَقُولُ: أُمُّ الْأَبِ تُدْلِي بِالْأَبِ. وَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرُ إذْنُ الْجَدِّ الَّذِي يُدْلِي بِالْأَبِ مَعَ الْأَبِ لَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ أُمِّ الْأَبِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ، وَأُمُّ أَبٍ، فَأَذِنَتْ لَهُ الْأُمُّ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ، وَلَوْ كَانَ أُمَّ الْأَبِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْإِدْلَاءِ كَالْأَبِ أَوْ كَالْجَدِّ أَبِي الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِمَا. - قَالَ: وَكُلُّ سَفَرٍ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ غَيْرَ الْجِهَادِ لِتِجَارَةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ أَبَوَاهُ، وَهُوَ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذِهِ الْأَسْفَارِ السَّلَامَةُ، وَلَا يَلْحَقُهُمَا فِي خُرُوجِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَإِنَّ الْحُزْنَ بِحُكْمِ الْغَيْبَةِ يَنْدَفِعُ بِالطَّمَعِ فِي الرُّجُوعِ ظَاهِرًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ سَفَرًا مَخُوفًا عَلَيْهِ مِنْهُ، نَحْوُ رُكُوبِ الْبَحْرِ، فَحِينَئِذٍ حُكْمُ هَذَا وَحُكْمُ الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ خَطَرَ الْهَلَاكَ فِيهِ أَظْهَرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 230 - وَالسَّفَرُ عَلَى قَصْدِ التَّعَلُّمِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَالْأَمْنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قَصَدَهُ ظَاهِرًا لَا يَكُونُ دُونَ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ، بَلْ هَذَا فَوْقَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] . فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ وَإِنْ كَرِهَ الْوَالِدَانِ، إذَا كَانَ لَا يَخَافُ الضَّيْعَةَ عَلَيْهِمَا. 231 - قَالَ: وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي التِّجَارَةِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِالْأَمَانِ فَكَرِهَا ذَلِكَ فَإِنْ كَانُوا قَوْمًا يَفُونَ بِالْعَهْدِ مَعْرُوفِينَ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ السَّلَامَةُ، فَصَارَ هَذَا وَالْخُرُوجُ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً. 232 - وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي تِجَارَةٍ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مَعَ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ عَسْكَرًا عَظِيمًا كَالصَّائِفَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ وَإِنْ كَرِهَا خُرُوجَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهِ السَّلَامَةُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ وَالْعَسْكَرُ الْعَظِيمُ يَقْوَوْنَ عَلَى دَفْعِ شَرِّ الْعَدُوِّ عَنْهُ وَعَنْ أَنْفُسِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 233 - وَإِنْ كَانَتْ سُرِّيَّةً أَوْ نَحْوَهَا لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِمَا؛ لِأَنَّ خَطَرَ الْهَلَاكِ أَظْهَرُ فِي خُرُوجِهِ مَعَ قَوْمٍ لَيْسَ لَهُمْ قُوَّةُ الدَّفْعِ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ لِلْجِهَادِ مَعَ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا لِخَطَرِ الْهَلَاكِ فَكَذَلِكَ (54 ب) لَا يَخْرُجُ لِلتِّجَارَةِ. - وَإِنْ كَرِهَ خُرُوجَهُ لِلْجِهَادِ أَوْلَادُهُ أَوْ إخْوَانُهُ أَوْ أَعْمَامُهُ أَوْ عَمَّاتُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ إذَا كَانَ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَةَ، وَإِنَّمَا يَخَافُ مِنْهُمْ الْجَزَعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ وُجُوبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَوْلَادِ وَالْقَرَابَاتِ لَا يُسَاوِيهِمَا فِي ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ، إلَّا أَنْ يَخَافَ الضَّيْعَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَحِينَئِذٍ لَا يَسَعَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَيَدَعَ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، لِأَنَّ الْقِيَامَ بِتَعَاهُدِهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُهُ» . وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، وَالْإِنَاثِ صِغَارًا كُنَّ أَوْ كِبَارًا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ، وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الْكِبَارِ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ، لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، فَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ. 235 - وَأَمَّا بَنُوهُ الْكِبَارُ الْأَصِحَّاءُ وَإِخْوَانُهُ الَّذِينَ لَا زَمَانَةَ بِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ وَيَدَعَهُمْ وَإِنْ خَافَ الضَّيْعَةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى نَفَقَتِهِمْ وَإِنْ ضَاعُوا، فَلَا يَمْتَنِعُ خُرُوجَهُ بِسَبَبِ خَوْفِ الضَّيْعَةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 236 - فَأَمَّا إذَا جَاءَ النَّفِيرُ عَامًّا فَقِيلَ لِأَهْلِ مَدِينَةٍ: قَدْ جَاءَ الْعَدُوُّ يُرِيدُونَ أَنْفُسَكُمْ أَوْ ذَرَارِيَّكُمْ أَوْ أَمْوَالَكُمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] . وَمَا يَفُوتُهُ بِتَرْكِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَمَا يَفُوتُهُ بِالْخُرُوجِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَالِدَيْنِ يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُهُ بَعْدَ هَذَا؛ فَيَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ فِي تَرْكِهِ الْخُرُوجَ أَعَمُّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَعَدَّى إلَيْهِ وَإِلَى وَالِدَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِوَالِدَيْهِ أَنْ يَنْهَيَاهُ عَنْ هَذَا الْخُرُوجِ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِيُسْقِطَ بِهِ الْإِثْمَ عَنْهُمَا، وَلَا طَاعَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ فِيمَا كَانَا عَاصِيَيْنِ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى رَجُلٍ لِيَأْخُذَ مَالَهُ أَوْ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ أَرَادَ امْرَأَةً لِيَفْجُرَ بِهَا. وَهُنَاكَ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَالِدَاهُ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُطِيعَهُمَا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَسَعْهُمَا أَنْ يَمْنَعَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا فَرْضٌ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِيمَا يَكُونُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْإِتْيَانِ وَالتَّرْكِ. فَأَمَّا مَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتُهُ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ لِوَالِدَيْهِ أَنْ يَمْنَعَاهُ مِنْ ذَلِكَ. أَرَأَيْت لَوْ أَرَادَ أَحَدُ وَالِدَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَنَهَاهُ الْوَالِدُ الْآخَرُ أَنْ يُعِينَهُ شَفَقَةً عَلَيْهِ أَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ وَيَدَعَ وَالِدَهُ يَنْتَهِكُ حُرْمَتَهُ؟ ذُكِرَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْبَاحِ لِمُرَاعَاةِ إذْنِ الْوَالِدَيْنِ فِيمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. - قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُجَاهِدَ بِغَيْرِ إذْن مَوْلَاهُ مَا لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ، وَلَيْسَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ (55 آ) الْخُرُوجِ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ كَفَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُسْتَثْنًى لِلْعَبْدِ مِمَّا مَلَكَهُ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فِي الْعَبْدِ، وَلِلْمَوْلَى عَلَيْهِ مِلْكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، تَبَيَّنَ فِي حَقِّ الْوَلَدِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ بِطَرِيقٍ الْأَوْلَى. 238 - وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ إذَا كَانَتْ بِهِنَّ قُوَّةُ الْقِتَالِ فَلْيَخْرُجْنَ إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا صَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ: «لَمَقَامُ نُسَيْبَةَ بِنْتِ كَعْبٍ خَيْرٌ مِنْ مَقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَسَمَّى جَمَاعَةً مِنْ الَّذِينَ فَرُّوا» . وَكَانَ النَّفِيرُ عَامًّا، فَاسْتَحْسَنَ قِتَالَ النِّسَاءِ وَمَدَحَ مِنْ لَمْ يَهْرُبْ مِنْهُنَّ بِمَا قَالَ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ النِّسَاءُ بِالْقِتَالِ. 239 - وَلَا يَنْبَغِي لِلشَّوَابِّ أَنْ يَخْرُجْنَ أَيْضًا فِي الصَّوَائِفِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ مَقَامَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجْنَ مَعَ الصَّوَائِفِ لِمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى. جَاءَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبْعِ غَزَوَاتٍ، فَكُنْت أَطْبُخُ لَهُمْ وَأُدَاوِي الْجَرْحَى وَأَسْقِيهِمْ الْمَاءَ. 240 - وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُبَاشِرْنَ الْقِتَالَ، لِأَنَّ بِالرِّجَالِ غُنْيَةً عَنْ قِتَالِ النِّسَاءِ، فَلَا يَشْتَغِلْنَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِوُقُوعِ النَّفِيرِ عَامًّا لَا بَأْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُقَاتِلَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا وَزَوْجِهَا. بَلَغَنَا «أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَتَلَتْ يَهُودِيًّا تَسَوَّرَ عَلَيْهِمْ حِصْنًا كَانُوا فِيهِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ النِّسَاءَ فِي أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مَعَهُنَّ فَجَاءَ يَهُودِيٌّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَرَادَ أَنْ يَتَسَوَّرَ الْحَائِطَ. فَأَمَرَتْ صَفِيَّةُ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ بِأَنْ يَقُومَ إلَيْهِ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ فَيَقْتُلَهُ، فَقَالَ حَسَّانُ: أَنَا مِنْ أَرْبَابِ اللِّسَانِ لَسْت مِنْ أَرْبَابِ الضَّرْبِ وَالطِّعَانِ فِي شَيْءٍ، فَقَامَتْ بِنَفْسِهَا فَقَتَلَتْهُ. وَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ اسْتَحْسَنَهُ مِنْهَا» . فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. 241 - وَكَذَلِكَ الْغِلْمَانُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا إذَا أَطَاقُوا الْقِتَالَ فَلَا بَأْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بِأَنْ يَخْرُجُوا وَيُقَاتِلُوا فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ. وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، إلَّا أَنْ تَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ. - قَالَ: بَلَغْنَا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ، فَلَوْ حَضَرَ قِتَالًا لَقَاتَلَ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. وَالرِّوَايَاتُ اخْتَلَفَتْ فِي سِنِّ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَسْلَمَ فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ التِّسْعَ وَالْعَشْرَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ. وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَبْتَنِي عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي سِنِّهِ حِينَ قُتِلَ، فَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقَالَ (55 ب) الْجَاحِظُ: قَتَلَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ، وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي أَوَّلِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا بُعِثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً انْتَهَى ذَلِكَ بِقَتْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَلِكَ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ، فَإِنْ كَانَتْ سِنُّهُ حِينَ قُتِلَ مَا قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ظَهَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 خَمْسِ سِنِينَ. وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَهُ الْجَاحِظُ فَقَدْ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُتْبِيُّ فَقَدْ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا حِينَ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْلُهُ: سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا غُلَامًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلْمِ وَإِنَّمَا حَقَقْنَا هَذَا لِاعْتِمَادِ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِ الصَّبِيِّ. - قَالَ: وَإِذَا خَرَجَ الْقَوْمُ إلَى الصَّوَائِفِ فَأَرَادُوا أَنْ يُخْرِجُوا مَعَهُمْ النِّسَاءَ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ إلَّا الْمُبَاضَعَةَ وَالْخِدْمَةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلُوا ذَلِكَ مَخَافَةً عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍّ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُنَّ. وَمَنْ خَرَجَ لِلْقِتَالِ رُبَّمَا يُبْتَلَى بِعَارِضٍ يَشْغَلُهُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الذَّبِّ عَنْ حَرَمِهِ. وَاقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْمُبَاضَعَةِ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّضَ حَرَمَهُ لِلضَّيَاعِ لِأَجَلِهِ، وَلَوْ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ الْخُرُوجُ بِهِنَّ إلَّا لِمَخَافَةِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِنَّ عَنْ الْقِتَالِ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِهِنَّ فَالْإِمَاءُ دُونَ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ فِي حَقِّ الْإِمَاءِ أَخَفُّ. أَلَا تَرَى أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ لَهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِ فِي النَّظَرِ وَالْمَسِّ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْأَمَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَيْسَ لِلْحُرَّةِ ذَلِكَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ. وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَهُ مِنْ الْمُبَاضَعَةِ وَالْخِدْمَةِ يَتِمُّ بِالْإِمَاءِ. 244 - وَلَكِنْ مَعَ هَذَا رُخِّصَ فِي إخْرَاجِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ لِمَنْ يَقْوَى عَلَى حِفْظِهِنَّ إنْ اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِهَزِيمَةٍ، حَتَّى يَخْرُجَهُنَّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إمَّا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ أَوْ بِمَا مَعَهُ مِنْ الظُّهُورِ وَالْخَدَمِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ قَرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ وَأَخْرَجَ مِنْهُنَّ مَعَهُ الَّتِي تُقْرَعُ. قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فَأَصَابَتْنِي الْقُرْعَةُ فِي السَّفَرِ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ مَا أَصَابَنِي حِينَ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْإِفْكِ بِمَا تَكَلَّمُوا» . وَهِيَ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعُ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَأْمَنُ عَلَيْهِنَّ مِنْ الضَّيَاعِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ يَكُون بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا بَأْسَ لَهُ بِأَنْ يُخْرِجُهُنَّ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ هَذَا لِمَنْ إذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِهَزِيمَةٍ لَمْ يَقْوَ عَلَى إخْرَاجِهِنَّ وَاشْتَغَلَ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ مُضَيِّعًا لَهُنَّ. وَالتَّعَرُّضُ لِمِثْلِ هَذَا التَّضْيِيعِ حَرَامٌ شَرْعًا. 245 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا سُرِّيَّةً يَدْخُلُونَ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْعَجَائِزِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ لِمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى؛ لِأَنَّهُمْ جَرِيدَةُ خَيْلٍ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ اشْتَغَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الدَّفْعِ عَنْهَا، وَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فِي الصَّوَائِفِ الَّتِي أَكْبَرُ الرَّأْيِ فِيهَا أَنَّهُمْ قَاهِرُونَ لَا يَنْهَزِمُونَ مِنْ الْعَدُوِّ فَيَتَمَكَّنُونَ مِنْ الدَّفْعِ عَنْهَا وَعَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُكْمَ يُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ (56 آ) فِيمَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فِيهِ. - وَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِ الْمَصَاحِفِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَسْكَرِ الْعَظِيمِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ فِي سَرِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْغَازِيَ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمُصْحَفِ إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، أَوْ يَتَبَرَّكُ بِحَمْلِ الْمُصْحَفِ، أَوْ يَسْتَنْصِرُ بِهِ، فَالْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ مَنْ اعْتَصَمَ بِهِ نَجَا، إلَّا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَعْرِيضِ الْمُصْحَفِ لِاسْتِخْفَافِ الْعَدُوِّ بِهِ. وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ ذِمِّيٌّ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الْعَسْكَرِ الْعَظِيمِ يَأْمَنُ هَذَا لِقُوَّتِهِمْ، وَفِي السَّرِيَّةِ رُبَّمَا يُبْتَلَى بِهِ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ. فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُسَافِرَ بِالْقُرْآنِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ» . تَأْوِيلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ مَعَ جَرِيدَةِ خَيْلٍ لَا شَوْكَةَ لَهُمْ، هَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْمَصَاحِفَ لَمْ تَكْثُرْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ لَا يُؤْمَنُ إذَا وَقَعَتْ الْمَصَاحِفُ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ أَنْ يَفُوتَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤْمَنُ مِنْ مِثْلِهِ فِي زَمَانِنَا لِكَثْرَةِ الْمَصَاحِفِ وَكَثْرَةِ الْقُرَّاءِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَلَوْ وَقَعَ مُصْحَفٌ فِي يَدِهِمْ لَمْ يَسْتَخِفُّوا بِهِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ فَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ أَفْصَحُ الْكَلَامِ بِأَوْجَزِ الْعِبَارَاتِ وَأَبْلَغِ الْمَعَانِي فَلَا يَسْتَخِفُّونَ بِهِ، كَمَا لَا يَسْتَخِفُّونَ بِسَائِرِ الْكُتُبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 لَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَصَحُّ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مُغَايَظَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ الْقَرَامِطَةِ حِينَ ظَهَرُوا عَلَى مَكَّةَ، جَعَلُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَصَاحِفِ إلَى أَنْ قَطَعَ اللَّهُ دَابِرَهُمْ. وَلِهَذَا مُنِعَ الذِّمِّيُّ مِنْ شِرَى الْمُصْحَفِ، وَأُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ كَمَا أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ. وَكَذَلِكَ كُتُبُ الْفِقْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُصْحَفِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. فَأَمَّا كُتُبُ الشَّعْرِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ مَعَ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَاهُ الْكَافِرُ لَا يُجْبِرُ عَلَى بَيْعِهِ. 247 - وَإِنْ دَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ بِأَمَانٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُدْخِلَ مَعَهُ الْمُصْحَفُ إذَا كَانُوا قَوْمًا يُوفُونَ بِالْعَهْدِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْأَمْنُ مِنْ تَعَرُّضِ الْعَدُوِّ لِمَا فِي يَدِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانُوا رُبَّمَا لَا يُوفُونَ بِالْعَهْدِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمُصْحَفَ مَعَ نَفْسِهِ إذَا دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانٍ. 248 - وَإِذَا قَالَ الْحَرْبِيُّ أَوْ الذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ: عَلِّمْنِي الْقُرْآنَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعَلِّمَهُ وَيُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَلِّبُ قَلْبَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَبِهِ أُمِرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] . وَقَالَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 تَعَالَى {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَمَامَ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْحِكْمَةُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] . وَفَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِالْفِقْهِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ دُعَاؤُهُ (56 ب) بِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا عَلَّمَهُ ذَلِكَ وَفَهَّمَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] يَعْنِي يَسْمَعَ فَيَفْهَمَ فَرُبَّمَا يَرْغَبُ فِي الْإِيمَانِ لِمَا يَقِفُ عَلَيْهِ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَعَلَّ اللَّهَ يُقَلِّبُ قَلْبَهُ. وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» . وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ تَعْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْلِيمِ الْكُفَّارِ. وَإِذَا كَانَ يُنْدَبُ إلَى تَعْلِيمِ غَيْرِ الْمُخَاطَبِينَ رَجَاءَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِ إذَا خُوطِبُوا، فَلَأَنْ يُنْدَبَ إلَى تَعْلِيمِ الْمُخَاطَبِينَ رَجَاءَ أَنْ يَهْتَدُوا بِهِ وَيَعْلَمُوا كَانَ أَوْلَى. - وَإِذَا دَخَلَ الْمُشْرِكُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ وَالذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِمْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَا يَسَعُهُمْ إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِالتَّنَاصُرِ، وَفِي تَرْكِ التَّنَاصُرِ ظُهُورُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ ذَلِكَ. وَفِعْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُنْكَرٌ قَبِيحٌ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِينَ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ صَارُوا مَظْلُومِينَ، وَيُفْتَرَضُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الْمُسْلِمِينَ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ وَالْأَخْذُ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَا، حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» . 250 - فَإِنْ دَخَلُوا بِهِمْ دَارَ الْحَرْبِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ ذَرَارِيُّ الْمُسْلِمِينَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ إذَا كَانَ غَالِبُ رَأْيِهِمْ أَنَّهُمْ يَقْوَوْنَ عَلَى اسْتِنْقَاذِ الذَّرَارِيِّ مِنْ أَيْدِيهِمْ إذَا أَدْرَكُوهُمْ، مَا لَمْ يَدْخُلُوا حُصُونَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا مَلَكُوا الذَّرَارِيَّ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَكَوْنُهَا فِي أَيْدِيهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ. وَالْمُعْتَبَرُ تَمَكُّنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الِانْتِصَافِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ قَائِمٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا حُصُونَهُمْ. 251 - فَأَمَّا إذَا دَخَلُوا حُصُونَهُمْ فَإِنْ أَتَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يُقَاتِلُوهُمْ لِاسْتِنْقَاذِ الذَّرَارِيِّ فَذَلِكَ فَضْلٌ أَخَذُوا بِهِ، وَإِنْ تَرَكُوهُمْ رَجَوْت أَنْ يَكُونُوا فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ بَعْدَ مَا وَصَلُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ وَدَخَلُوا حُصُونَهُمْ يَعْجِزُ الْمُسْلِمُونَ عَنْ اسْتِنْقَاذِ الذَّرَارِيِّ مِنْ أَيْدِيهِمْ، إلَّا بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْجَهْدِ وَبَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلُوهُ فَهُوَ الْعَزِيمَةُ، وَإِنْ تَرَكُوهُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ رُخْصَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ فِي يَدِ الْكُفَّارِ بِالرُّومِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَالْهِنْدِ بَعْضَ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا الْخُرُوجُ لِقِتَالِهِمْ لِاسْتِنْقَاذِ الْأُسَارَى مِنْ أَيْدِيهِمْ. 252 - فَأَمَّا إذَا كَانَ مَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ الْمَالَ دُونَ الذَّرَارِيِّ فَإِذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ وَسِعَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَتْبَعُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا تَبِعُوهُمْ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا الْأَمْوَالَ بِالْإِحْرَازِ، وَانْتَهَتْ الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ فِيهَا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْتُحِقَتْ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ. وَالْمُسْلِمُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا أَتْبَاعَهُمْ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَقَهْرِ الْمُشْرِكِينَ كَانَ أَفْضَلَ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ. 253 - وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا ظَهَرَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى ذَرَارِيِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَعْطَوْهُمْ الذِّمَّةَ فَقَدْ الْتَزَمُوا دَفْعَ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِحْرَازَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لِلْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَالْعُقُوبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَازِ الَّذِي لِلْمُسْلِمِ. فَيَسْتَوِي الْحُكْمُ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّرَارِيِّ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا سُلِّمَتْ لَهُمْ الْأَمْوَالُ، وَأُمِرُوا بِرَدِّ الذَّرَارِيِّ، وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَوْ أَسْلَمُوا أُمِرُوا بِرَدِّ الْأَمْوَالِ وَالذَّرَارِيِّ. وَالْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَيَتَّضِحُ الْفَرْقُ. 254 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ بَلَغَهُمْ هَذَا النَّفِيرُ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ خَرَجُوا فِي إثْرِهِمْ لَمْ يُدْرِكُوهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا حُصُونَهُمْ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الذَّرَارِيِّ، أَوْ حَتَّى يَدْخُلُوا دَارَ الْحَرْبِ فِي الْأَمْوَالِ، رَجَوْت أَنْ يَكُونُوا فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِ الِاتِّبَاعِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ جَائِزٌ فِي مِثْلِ هَذَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ فِي الْخُرُوجِ يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَإِنَّمَا الَّذِي يُفْتَرَضُ فِيهِ الْخُرُوجُ بِعَيْنِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَبْلُغُهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ أَدْرَكَهُمْ، وَقَوِيَ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِمَنَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا بَيَّنَّا. - قَالَ: وَلَا بَأْسَ لِلَّذِينَ يَسْكُنُونَ الثُّغُورَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا فِيهَا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الثُّغُورِ وَبَيْنَ أَرْضِ الْعَدُوِّ أَرْضٌ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُمْ يُنْدَبُونَ إلَى الْمُقَامِ فِي الثُّغُورِ. وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْمُقَامِ بِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، فَالنِّسَاءُ سَكَنٌ لِلرِّجَالِ. وَلِأَنَّهُمْ إذَا أَقَامُوا فِي (57 آ) ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ كَثُرُوا بِمُرُورِ الزَّمَانِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَّخِذُ الْمُسْلِمُونَ وَرَاءَ ذَلِكَ ثَغْرًا بِالْقُرْبِ مِنْ الْعَدُوِّ. وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَوْ نَزَلَتْ بِهِمْ جَلَبَةُ الْعَدُوِّ قَدَرُوا عَلَى دَفْعِ شَرِّهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ ذَرَارِيِّهِمْ. وَتَمَكَّنُوا مِنْ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. أَيْ كَانُوا عَدَدًا قَلِيلًا لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ دَفْعِ جَلَبَةِ الْعَدُوِّ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى إخْرَاجِ الذَّرَارِيِّ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا النِّسَاءَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الثُّغُورِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يُضَيِّعُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الثُّغُورِ، وَيَأْمَنُونَ الضَّيَاعَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الصَّائِفَةِ وَالسَّرِيَّةِ. إلَّا أَنَّ هُنَاكَ كُرِهَ إخْرَاجُ النِّسَاءِ مَعَ الْجَيْشِ الْعَظِيمِ لِلْمُبَاضَعَةِ، وَلَمْ يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الثَّغْرِ إذَا كَثُرَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ. لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ لَا يَطُولُ مُقَامُهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى النِّسَاءِ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ فِي الظَّاهِرِ. فَأَمَّا أَهْلُ الثُّغُورِ يَطُولُ مُقَامَهُمْ فِي الثَّغْرِ، بَلْ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ لَا يَبْرَحُوا مِنْهَا. وَإِذَا كَانُوا عُزَّابًا ضَجِرُوا بِالْمُقَامِ فِيهَا، فَلِهَذَا لَمْ يَرَ بَأْسًا بِأَنْ يَتَّخِذُوا فِيهَا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيِّ. 257 - فَإِنْ قَالَ أَهْلُ الثَّغْرِ: لَا نَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْعَدُوِّ بِأَنْفُسِنَا إنْ أَتَانَا وَلَكِنْ نَسْتَغِيثُ بِالْمُسْلِمِينَ فَيَأْتِينَا الْغِيَاثُ مِنْهُمْ فَنَدْفَعُ بِهِمْ الْعَدُوَّ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ إلَى مِثْلِ هَذِهِ الثُّغُورِ أَيْضًا. لِأَنَّهُمْ لَا يَقْوَوْنَ عَلَى الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلُحُوقُ الْغَوْثُ بِهِمْ لِلدَّفْعِ مَوْهُومٌ. وَلَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الْمَوْهُومِ خُصُوصًا فِيمَا يَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهِ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ أَوْ عَصَبِيَّةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَشْتَغِلُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا عَلَى إغَاثَةِ تِلْكَ الثُّغُورِ، فَيَضِيعُ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فِيهَا مِنْ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ. فَلِهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ الْبِنَاءُ عَلَى الْغَوْثِ. وَإِنَّمَا يَبْنُونَ ذَلِكَ عَلَى شَوْكَةِ أَنْفُسِهِمْ. - وَذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ تَرَكَ دَابَّةً بِمَهْلَكَةٍ فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا» . وَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: إذَا تَرَكَ الْغَازِي دَابَّتَهُ فِي هَزِيمَةِ فَأَخَذَهَا مُسْلِمٌ آخَرُ وَأَخْرَجَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَرَكَهَا مُعْرِضًا عَنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَالِكًا لَهَا لِكَوْنِهِ مُحْرِزًا لَهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الْتَحَقَتْ بِالصَّيُودِ، فَهِيَ لِمَنْ أَخَذَهَا وَأَحْيَاهَا. وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا تَسْيِيبُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ نَفَاهُ الشَّرْعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ.} [المائدة: 103] الْآيَةَ) . وَلَيْسَ التَّسْيِيبُ فِي الدَّوَابِّ نَظِيرَ الْإِعْتَاقِ فِي الْعَبِيدِ. فَبِالْإِعْتَاقِ تَحْدُثُ فِيهِ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ فَتَنْتَفِي الْمَمْلُوكِيَّةُ. وَبِالتَّسْيِيبِ لَا تُحْذَفُ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الدَّوَابِّ. وَإِذَا بَقِيَتْ مَمْلُوكَةً كَانَتْ لِصَاحِبِهَا. وَحُرْمَةُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَالِكِ (57 ب) فَلَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ بِالْأَخْذِ. 259 - وَذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَأْخُذُهَا صَاحِبُهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَى الَّذِي أَحْيَاهَا إنْ كَانَ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَهَمٌّ. فَالشَّعْبِيُّ هُوَ الَّذِي رَوَاهُ، وَمَا كَانَ يُفْتِي بِخِلَافِ مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ثُمَّ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّاذِّ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا بِهِ. إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ فَكَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْمُقَامِ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ» أَوْلَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يَأْخُذُهَا صَاحِبُهَا وَيَرُدُّ عَلَى الْمُنْفِقِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ إنْ كَانَ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَبِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ نَأْخُذُ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ. فَأَمَّا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَقُولُ: دَلَالَةُ الْإِذْنِ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ صَاحِبِهَا مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ. لِأَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِهَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ رَاضِيًا بِأَنْ يَنْفُقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ. وَدَلَالَةُ الْإِذْنِ كَصَرِيحِ الْإِذْنِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الِاسْتِعَانَةُ وَالرِّضَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا يُنْفِقُ. وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِيجَابِ الدَّيْنِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُودِعِ يُنْفِقُ عَلَى الْوَدِيعَةِ فِي حَالِ غَيْبَةِ صَاحِبهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهَا بِمَا أَنْفَقَ لِهَذَا الْمَعْنَى، كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 [بَابٌ صَاحِبُ السَّاقَةِ إذَا وَجَدَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ رَجُلًا مَعَ دَابَّتِهِ] 260 - وَإِذَا جَعَلَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ عَلَى السَّاقَةِ رَجُلًا يَلْحَقُ مَنْ تَخَلَّفَ بِالْمُعَسْكَرِ فَهُوَ حَسَنٌ فِي دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ وَالِانْصِرَافِ مِنْهَا. لِأَنَّ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَاَلَّذِي يَغْلِبُهُ النَّوْمُ أَوْ يَعِي رُبَّمَا يَجْلِسُ أَوْ يَنَامُ لِلِاسْتِرَاحَةِ فِي مَوْضِعِ الْخَوْفِ ثُمَّ لَا يَلْتَحِقُ بِالْجَيْشِ فَيَضِيعُ. - وَإِذَا كَانَ عَلَى السَّاقَةِ مَنْ يُكَلِّفُهُ اللُّحُوقَ بِالْعَسْكَرِ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الضَّيَاعُ. وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ. - فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبُ السَّاقَةِ رَجُلًا قَامَتْ عَلَيْهِ دَابَّتُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتْرُكَ الدَّابَّةَ وَيَلْتَحِقَ بِالْعَسْكَرِ كَيْ لَا يَهْلِكَ، فَأَخَذَهُ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَسْكَرِ وَتَرَكَ دَابَّتَهُ فَهَلَكَتْ، لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا. لِأَنَّهُ مَا تَعَرَّضَ لِلدَّابَّةِ بِشَيْءٍ، إنَّمَا أَحْسَنَ إلَى صَاحِبِهَا حِينَ أَلْحَقَهُ بِالْعَسْكَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وَلَوْ أَسَاءَ إلَى صَاحِبِهَا بِأَنْ حَبَسَ صَاحِبَ الْمَوَاشِي حَتَّى ضَاعَتْ مَوَاشِيه لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا. فَإِذَا أَحْسَنَ إلَيْهِ كَانَ أَوْلَى. وَلِأَنَّ الرَّجُلَ ابْتَلَى بِبَلِيَّتَيْنِ: إمَّا يُضَيِّعُ دَابَّتَهُ أَوْ يُضَيِّعُ نَفْسَهُ (58 آ) إنْ وَقَفَ مَعَهَا. وَمَنْ دُفِعَ إلَى شَرَّيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا. وَذَلِكَ تَرْكُ الدَّابَّةِ. فَصَاحِبُ السَّاقَةِ أَمْرٌ يَحِقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ شَرْعًا فَيَكُونُ مُحْسِنًا، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. - وَإِنْ كَانَ أَخَذَ الدَّابَّةَ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا فَنَحَّاهَا عَنْهُ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنْ أَخْذِهَا، فَهَلَكَتْ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ قِيمَتَهَا. لِأَنَّهُ فَوَّتَ لَهُ يَدَهُ بِصُنْعٍ أَحْدَثَهُ فِي الدَّابَّةِ، وَذَلِكَ غَصْبٌ مِنْهُ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِزَالَةِ يَدِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ عَنْ الدَّابَّةِ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِلْحَاقِهِ بِالْعَسْكَرِ. وَهُوَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى التَّعَرُّضِ لِدَابَّتِهِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهَا إذَا أَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ كَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ ذَبَحَهَا صَاحِبُ السَّاقَةِ أَوْ ضَرَبَهَا فَقَتَلَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ. وَهَذَا أَظْهَرُ. - فَإِنْ أَخَذَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ فَفَكَّ صَاحِبُ السَّاقَةِ يَدَهُ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَسْكَرِ وَتَرَكَ الدَّابَّةَ فِي مَوْضِعِهَا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا. لِأَنَّ صُنْعَهُ حَلَّ بِيَدِ صَاحِبِهَا لَا بِالدَّابَّةِ. وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ صُنْعٍ فِي الْمَغْصُوبِ يُفَوِّتُ يَدَ الْمَالِكِ بِتَحْوِيلِهِ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يَدُ الْمَالِكِ عَلَيْهِ ثَابِتًا فِيهِ. فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ لِجَامَ الدَّابَّةِ وَنَحَّاهَا كَانَ ضَامِنًا، وَإِذَا فَكَّ يَدَ صَاحِبِهَا عَنْ اللِّجَامِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، وَتَلَفُ الدَّابَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 حَاصِلٌ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُسَلِّمُ هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ: يُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ ثَمَرَاتِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ، كَمَا تُشْتَرَطُ الْإِشَارَةُ فِي الدَّعْوَى، وَالشَّهَادَةِ إلَى الْعَيْنِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، ثُمَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ يُقَامُ ذِكْرُ الْحُدُودِ مَقَامُهُ لِلتَّيْسِيرِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّجُلُ رَاكِبًا فَأَنْزَلَهُ كُرْهًا وَأَلْحَقَهُ بِالْعَسْكَرِ لَمْ يَضْمَنْ دَابَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ فِيهَا شَيْئًا، إنَّمَا صَنَعَهُ فِي صَاحِبِهَا. - وَإِنْ أَخَذَ صَاحِبُ السَّاقَةِ الرَّجُلَ فَأَلْحَقَهُ بِالْعَسْكَرِ وَتَرَكَ دَابَّتَهُ فَمَرَّ بِهَا سَرِيَّةٌ كَانُوا عَلَى إثْرِهِمْ فَعَلَفُوهَا وَقَامُوا عَلَيْهَا حَتَّى أَلْحَقُوهَا بِالْعَسْكَرِ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَيَكُونُ أَحَقُّ بِهِ. وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقُوا، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. وَحُكِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَهُ رُمْحٌ طَوِيلٌ. وَكَانَ إذَا شَقَّ عَلَيْهِ حَمْلُهُ أَلْقَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَمُرُّ بِهِ بَعْضُ الْأَعْرَابِ مِمَّنْ يَكُونُ فِي آخِرِ الْعَسْكَرِ فَيَأْخُذُهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ قِصَّتَهُ، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْمَنْزِلَ، فَيَجِيءُ الزُّبَيْرُ وَيَقُولُ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا فِيمَا حَمَلْت مِنْ رُمْحِي. فَيَأْخُذُهُ. فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. - فَإِنْ كَانُوا حِينَ أَتَوْا بِهَا الْعَسْكَرَ أَخْبَرُوا الْأَمِيرَ خَبَرَهَا فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهَا حَتَّى يَجِدُوا صَاحِبَهَا فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهَا، أَخَذَهَا وَأَعْطَاهُمْ مَا أَنْفَقُوا بَعْدَ أَمْرِ الْأَمِيرِ (58 ب) . وَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِمَّا أَنْفَقُوا قَبْلَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 لِأَنَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ نَظَرًا لِصَاحِبِهَا بِإِحْيَاءِ مِلْكِهِ وَإِمْسَاكِهِ عَلَيْهِ، وَالدَّابَّةُ لَا تَبْقَى بِدُونِ النَّفَقَةِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَرْضَى بِالتَّبَرُّعِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ. وَلِلْأَمِيرِ وِلَايَةُ النَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْجُنْدِ، فَكَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ كَأَمْرِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ حِينَ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ. - فَإِنْ قَالُوا: أَنْفَقْنَا عَلَيْهَا بَعْدَ الْأَمْرِ كَذَا، وَذَلِكَ نَفَقَةُ مِثْلِهَا، وَقَالَ صَاحِبُهَا: لَمْ يُنْفِقُوا عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبُهَا. لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا لِأَنْفُسِهِمْ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ، لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَهُوَ إنْفَاقُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الثَّبَاتِ. - فَإِنْ أَقَامُوا شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَلَى مَا ادَّعَوْا، أَوْ كَانَ إنْفَاقُهُمْ بِعِلْمِ الْأَمِيرِ رَجَعُوا عَلَى صَاحِبِهَا. وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ لِثُبُوتِ مَا ادَّعَوْا بِحُجَّةٍ حُكْمِيَّةٍ: وَذَلِكَ عِلْمُ الْأَمِيرِ أَوْ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ. - فَإِنْ كَانُوا - حِينَ رَفَعُوهَا إلَى الْأَمِيرِ وَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ وَجَدُوهَا - لَا يَدْرُونَ لِمَنْ هِيَ. إنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَبِيعَهَا فَبَاعَهَا جَازَ. لِأَنَّ ذَلِكَ نَظَرٌ مِنْهُ لِصَاحِبِهَا. فَالْإِنْفَاقُ رُبَّمَا يَأْتِي عَلَى مَالِيَّتِهَا، وَحِفْظُ ثَمَنِهَا أَيْسَرُ مِنْ حِفْظِ عَيْنِهَا. وَلِلْأَمِيرِ وِلَايَةُ النَّظَرِ عَلَى جُنْدِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَلَيْسَ لِصَاحِبِهَا إذَا حَضَرَ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي ثَمَنِهَا. 271 - فَإِنْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ زَمَانًا ثُمَّ بَاعَهَا، فَقَالُوا: أَعْطِنَا مِنْ الثَّمَنِ مَا أَنْفَقْنَا، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَوْا مِنْ النَّفَقَةِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُهَا أَوْ بَعْدَ مَا حَضَرَ أَعْطَاهُمْ مَا أَنْفَقُوا بَعْدَ أَمْرِهِ. لِأَنَّهُمْ اسْتَوْجَبُوا ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهَا بِإِحْيَائِهِمْ مَالِيَّةَ هَذِهِ الدَّابَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ حَضَرَ صَاحِبُهَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوهَا حَتَّى يَأْخُذُوا مَا أَنْفَقُوا، بِمَنْزِلَةِ رَادِّ الْآبِقِ يَحْبِسُهُ بِالْجُعَلِ. وَالثَّمَنُ بَدَلُ تِلْكَ الْمَالِيَّةِ، فَيُعْطِيهِمْ الْأَمِيرُ مِقْدَارَ حَقِّهِمْ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْهُمْ قَبْلَ حُضُورِ صَاحِبِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَمِيرَ خَصْمٌ فِيهِ عَنْ صَاحِبِهَا، كَمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ مِنْهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لِلْأَمِيرِ: وَجَدْنَا هَذِهِ الدَّابَّةَ وَلَا نَعْرِفُ صَاحِبَهَا، أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوهُ بِشُهُودٍ عَلَى ذَلِكَ، وَيَقْبَلُ بَيِّنَتَهُمْ لِيَأْمُرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ. - فَإِنْ لَمْ يَأْتُوهُ بِشُهُودٍ وَرَأَى الْأَمِيرُ النَّظَرَ فِي أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقُولَ: أَمَرْتهمْ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا رَجَعُوا عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِلَّا فَلَسْت آمُرُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيُشْهِدُ عَلَى هَذَا، أَوْ يَقُولُ: أَمَرْتهمْ بِبَيْعِهَا وَإِنْفَاقِ ثَمَنِهَا إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرُوا. وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى غَيْرِ مَا زَعَمُوا فَلَسْت آمُرُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْإِشْهَادَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَتَمَحَّصُ نَظَرًا لِصَاحِبِهَا بِأَنَّهُمْ إنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 كَانُوا صَادِقِينَ يَحْيَا مِلْكُهُ بِهَذَا، وَإِنْ كَانُوا غَاصِبِينَ لَا يَسْتَفِيدُونَ الْبَرَاءَةَ عَمَّا لَزِمَهُمْ مِنْ الضَّمَانِ بِهَذَا. وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ (59 آ) بِاعْتِبَارِ هَذَا الْأَمْرِ إذَا كَانَ مَنْ فِي يَدِهِ غَاصِبًا. - فَإِنْ حَضَرَ صَاحِبُهَا وَقَدْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِ مَنْ بَاعَهَا بَعْدَ أَمْرِ الْأَمِيرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنْ أَقَرَّ بِمَا أَخْبَرَ الْمُخْبِرُ بِهِ الْأَمِيرَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ وَضَمَانِ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ. - وَإِنْ جَحَدَ صَاحِبُهَا ذَلِكَ فَالْبَائِعُ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِي، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِي، فَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمِ. 275 - فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبُهَا الدَّابَّةَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ. - فَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَهُ الْوَاجِدُ وَعَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ الْأَمِيرُ سَلَّمَ لَهُ مَا اشْتَرَى؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ مِلْكٍ صَحِيحٍ لِنَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ. - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَخَذَ الدَّابَّةَ صَاحِبُهَا وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ. لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 - فَإِنْ أَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى، مِنْ أَنَّهُ وَجَدَهَا ضَائِعَةً وَأَنَّ الْأَمِيرَ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا بَرِيءَ هُوَ مِنْ الثَّمَنِ. بِمَحْضَرٍ مِنْ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ. وَهَذَا التَّقْيِيدُ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِي إذَا اسْتَحَقَّ مِنْهُ الْمَبِيعَ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، فَأَقَامَ الْبَائِعُ بَيِّنَةً عَلَى أَمْرٍ يَبْطُلُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمُسْتَحِقِّ إنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمُسْتَحِقِّ تُقْبَلُ، وَإِلَّا فَلَا، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهَا مِنْ الْمُسْتَحِقِّ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ. وَأَيُّ قَاضٍ رُفِعَ إلَيْهِ هَذِهِ الْحَادِثَةُ وَسُئِلَ إجَازَةَ الْبَيْعِ لَمْ يُجِزْهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ عَلَى جَمِيعِ مَا بَيَّنَّا. لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِجَازَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ إذَا ظَهَرَ جَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَلَا يَظْهَرُ إلَّا بِالْحُجَّةِ. وَاَللَّهُ الْمُعِينُ. [بَابُ سَجْدَةِ الشُّكْرِ] 38 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 38 - بَابُ سَجْدَةِ الشُّكْرِ - وَإِذَا أَتَى الْأَمِيرَ أَمْرٌ يَسُرُّهُ فَأَرَادَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُكَبِّرَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَخِرَّ سَاجِدًا يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَشْكُرُهُ، وَيُسَبِّحُ وَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ. وَهَذِهِ سَجْدَةُ الشُّكْرِ وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ سِمَاعَةَ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَكَانَ لَا يَرَاهَا شَيْئًا، أَيْ شَيْئًا مَسْنُونًا، أَوْ لَا يَرَاهَا شُكْرًا تَامًّا، فَإِنَّ تَمَامَ الشُّكْرِ فِي أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا «فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُهَا. وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مَنْ يَكُونُ مَنْظُورًا إلَيْهِ رُبَّمَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ عِنْدَ حُدُوثِ النِّعَمِ، فَيَكُونُ مُدْخِلًا فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» . وَمَا مِنْ سَاعَةٍ إلَّا وَفِيهَا نِعْمَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ صِحَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْ اشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ عِنْدَ كُلِّ نِعْمَةٍ لَمْ يَتَفَرَّغْ لِشُغْلٍ آخَرَ. وَلَمَّا وُفِّقَ حَتَّى سَجَدَ كَانَ ذَلِكَ نِعْمَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ لَهَا ثَانِيًا. وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي الْبَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 - مِنْهَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بُشِّرَ بِبُشْرَى تَسُرُّهُ يَخِرُّ سَاجِدًا لِلَّهِ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّ بِرَجُلٍ بِهِ زَمَانَةٌ فَسَجَدَ» . وَمَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ (59 ب) فَفَعَلَا ذَلِكَ. وَفِي كُتُبِ الْحَدِيثِ يُرْوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّ بِنُغَاشِي فَسَجَدَ» . يَعْنِي نَاقِصَ الْخَلْقِ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَتَاهُ فَتْحُ الْيَمَامَةِ سَجَدَ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالنَّهْرَوَانِ فَقَالَ: الْتَمِسُوهُ، يَعْنِي ذَا الثُّدَيَّةِ. فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَجَعَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 يَعْرَقُ جَبِينُهُ وَيَقُولُ: مَا كَذَبْت وَلَا كُذِّبْت. فَوَجَدُوهُ فِي سَاقِيَةٍ أَوْ بِئْرٍ فَسَجَدَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَجْدَةً. وَأَصْلُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَاتَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَرُورِيَّةَ قَالَ: اُنْظُرُوا. فَإِنَّ فِيهِمْ رَجُلًا إحْدَى ثَدْيَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ. حَدَّثَنِي نَبِيُّ اللَّهِ أَنِّي صَاحِبُهُ. فَقَلَّبُوا الْقَتْلَى فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَقَالَ: اُنْظُرُوا، فَوَاَللَّهِ مَا كَذَبْت وَلَا كُذِّبْت. قَالُوا: فَإِنَّ سَبْعَةَ نَفَرٍ تَحْتَ نَخْلٍ لَمْ نُقَلِّبْهُمْ بَعْدُ. قَالَ: اُنْظُرُوا. قَالَ الرَّاوِي: فَرَأَيْت فِي رِجْلَيْهِ حَبْلًا جَرُّوهُ بِهِ حَتَّى أَلْقَوْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا، وَقَالَ: أَبْشِرُوا. إنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَهُ بِأَنَّ الْقَوْمَ الَّذِي فِيهِمْ رَجُلٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُقَاتِلُونَك وَهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ. فَحِينَ وَجَدُوهُ كَانَ ذَلِكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ. فَلِهَذَا خَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا. وَبِاَللَّهِ الْعَوْنُ وَالتَّوْفِيقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 [بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ] - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَأَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ فِيهَا مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَجَامَعَهُمَا عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ. وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ فَتَقِفُ طَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَيُصَلِّي بِطَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ. ثُمَّ تَذْهَبُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَيُصَلِّي بِطَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ. ثُمَّ تَذْهَبُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ شَطْرَ الصَّلَاةِ. ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ. وَتَذْهَبُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أَوَّلَ الصَّلَاةِ، فَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِينَ فِي جَمِيعِهَا. ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ بِقِرَاءَةٍ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ فِيهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ اخْتِلَافِ الْآثَارِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَمَا فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ لِأَبِي يُوسُفَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ فِي دُبُرِ الْقِبْلَةِ فِي حُكْمِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. - وَذُكِرَ هَاهُنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ سَجْدَةً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ رَكْعَةً. وَهَذِهِ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ. يَقُولُونَ: سَجَدَ فُلَانٌ سَجْدَةً: أَيْ صَلَّى رَكْعَةً. - وَذُكِرَ فِي حَدِيثِهِ أَيْضًا: فَإِنْ كَانَ خَوْفًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا رِجَالًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ إذَا كَانُوا قِيَامًا لَا مُشَاةً، فَإِنَّ الْمَشْيَ عَمَلٌ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهُ بِمَنْزِلَةِ السِّبَاحَةِ فِي الْبَحْرِ وَالْمُسَايَفَةِ فِي زَمَانِ الْقِتَالِ. 284 - وَذُكِرَ عَنْ (60 آ) مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» . وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ أَتَمُّ مِنْ هَذَا، لِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ كَانَ يُعَيِّنُ مَكَانَ الصَّلَاةِ أَوَّلًا فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَإِنَّ النُّزُولَ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَذَلِكَ نَصِيبُ الْبَدَنِ، فَالْأُولَى أَنْ يُقَدِّمَ أَمْرَ الدِّينِ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ كَانَ يُصَلِّي وَيَسْعَى فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ» ، وَبِهِ أَمَرَ أُمَّتَهُ فَقَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا» . قِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تُصَلُّوا فِيهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: بِأَنْ تَنَامُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَأَنْ تُعِينُوا أَهَالِيَكُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ، وَقُرَّةُ عَيْنِ أُمَّتِهِ فِيمَا فِيهِ قُرَّةُ عَيْنِهِ. فَالْبِدَايَةُ بِهِ عِنْدَ النُّزُولِ فِي الْمَنْزِلِ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 - قَالَ: وَإِذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِالْقَتْلِ صَبْرًا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عِنْدَ ذَلِكَ رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ بَعْدَهُمَا ذُنُوبَهُ. لِيَكُونَ آخِرَ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ وَالِاسْتِغْفَارُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ خُتِمَ كِتَابُهُ بِالطَّاعَةِ غُفِرَ لَهُ مَا سَلَفَ» . وَقَالَ: «الْأُمُورُ بِخَوَاتِيمِهَا» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ وَآخِرُ كَلَامِهِ قَوْلَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ» . فَلِهَذَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يُلَقَّنَ الصَّبِيُّ فِي أَوَّلِ مَا يَقْدِرُ عَلَى التَّكَلُّمِ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَيُلَقَّنُ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَيْضًا لِيَكُونَ أَوَّلُ كَلَامِهِ وَآخِرُ كَلَامِهِ هَذَا. - ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ «خُبَيْبٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُسِرَ فَبِيعَ بِمَكَّةَ خَرَجُوا بِهِ إلَى الْحِلِّ لِيَقْتُلُوهُ. فَقَالَ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. فَقَالُوا: صَلِّ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَظُنُّونِي جَزِعْت مِنْ الْمَوْتِ لَزِدْت. وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْجَزَهُمَا وَقَالَ: لَوْلَا خَشْيَةَ أَنْ يَقُولُوا: جَزَعَ مِنْ الْمَوْتِ لَطَوَّلْت صَلَاتِي. ثُمَّ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَرَ إلَّا شَامِتًا أَوْ شَاتِمًا أَوْ إنْسَانًا فِي يَدِهِ حَجَرٌ أَوْ عَصًا. فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَى إلَّا وَجْهَ عَدُوٍّ اللَّهُمَّ لَيْسَ هَاهُنَا أَحَدٌ يُبَلِّغُ رَسُولَك عَنِّي السَّلَامَ، فَأَقْرِئْ رَسُولَك وَأَصْحَابَهُ مِنِّي السَّلَامَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْمَدِينَةِ. ثُمَّ قَالَ خُبَيْبٌ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَالْعَنْهُمْ بَدَّدَا، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا. زَادَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ الْتَمَسَ مِنْهُمْ أَنْ يُكِبُّوهُ عَلَى وَجْهِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِيَقْتُلُوهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ. فَجَعَلَ يَقُولُ: وَلَسْت أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي ثُمَّ صَلَبُوهُ بَعْدَ الْقَتْلِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ، فَتَحَوَّلَتْ خَشَبَتُهُ حَتَّى صَارَ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ. وَقَدْ اسْتَحْسَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَنَعَهُ خُبَيْبٌ عِنْدَ الْقَتْلِ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ وَسَمَّاهُ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ: هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» فَصَارَتْ سُنَّةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ - قَالَ: وَصَلَاةُ الْخَوْفِ إنَّمَا تَكُونُ إذَا كَانُوا (60 ب) مُوَاقِفِينَ لِلْعَدُوِّ. فَأَمَّا فِي حَالَةِ الْمُسَايَفَةِ وَالْمُطَاعَنَةِ وَالرَّمْي فَلَا تَسْتَقِيمُ الصَّلَاةُ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ، وَلَا تَسْتَقِيمُ الصَّلَاةُ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ لَيْسَ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ إلَى أَنْ يَفْرُغُوا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ يُمْكِنُهُمْ تَدَارُكُهُ بَعْدَ هَذَا، وَمَا يَفُوتُهُمْ بِالِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْقِتَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُمْكِنُهُمْ تَدَارُكُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 - وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ الصَّلَاةِ إلَى هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى كُفِينَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] . فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا فَأَمَرَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَصَلَّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ الْعَصْرَ فَصَلَّاهَا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ الْعِشَاءَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] » . 289 - وَفِي رِوَايَةِ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى، ثُمَّ أَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَ الْأُولَى. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَبِأَيِّ ذَلِكَ أَخَذْت فَهُوَ حَسَنٌ» . وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِشُغْلِ الْقِتَالِ، وَأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي الْفَوَائِتِ أَنْ تُقْضَى بِالْجَمَاعَةِ كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانُوا قِيَامًا عَلَى أَرْجُلِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا صَلَّوْا بِالْإِيمَاءِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، الْفَرْضُ يَتَأَدَّى بِالْإِيمَاءِ، وَعَجْزُهُمْ ظَاهِرٌ. - وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ حَتَّى صَلَّى الْمَغْرِبَ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فَصَلَّاهَا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. ثُمَّ يَوْمُ الْأَحْزَابِ هُوَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ أَيْضًا، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَرَكَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ذُكِرَ أَنَّهُ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا» يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ. فَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فِي يَوْمٍ عَلَى حِدَةٍ، لِأَنَّهُمْ بَقُوا فِي الْخَنْدَقِ سَبْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا. وَكَانُوا مَشْغُولِينَ بِالْقِتَالِ فِي أَكْثَرِ تِلْكَ الْأَيَّامِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. 40 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 [بَابُ الشَّهِيدِ وَمَا يُصْنَعُ بِهِ] - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشَّهِيدُ إذَا قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ لَمْ يُغَسَّلْ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ. وَبِهِ نَأْخُذُ وَفِي قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَلَكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِلتَّرْجِيحِ طَرِيقًا سِوَى مَا ذَكَرَهُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ (61 آ) ، وَهُوَ أَنَّهُ نَظَرَ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَأَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْحِجَازِ، فَرَجَحَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ فَرِيقَانِ وَأَخَذَ بِهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ فَرِيقٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا خِلَافُ مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الظَّاهِرُ لِأَصْحَابِنَا فِي التَّرْجِيحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ. وَعَلَيْهِ دَلَّ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْت بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] . وَوَجْهُ مَا اعْتَبَرَهُ هَاهُنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اشْتِبَاهِ الْأَثَرِ فِيمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَغَازِي وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا. فَتُهْمَةُ الْغَلَطِ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ فَرِيقٌ وَاحِدٌ يَكُونُ أَظْهَرُ مِنْ تُهْمَةِ الْغَلَطِ فِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَرِيقَانِ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 - فَإِنَّ جَابِرًا رَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ» . وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ يَرْوُونَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ. حَتَّى رَوَوْا «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبْعِينَ صَلَاةً، كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا أَتَى رَجُلٌ صَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى حَمْزَةَ مَعَهُ» . وَكَانَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَئِذٍ قُتِلَ أَبُوهُ وَخَالُهُ. فَكَانَ مَشْغُولًا بِهِمَا، لَمْ يَشْهَدْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الشُّهَدَاءِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ حَمَلَهُمَا إلَى الْمَدِينَةِ «فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَضَاجِعِهِمْ» . فَرَدَّهُمَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ تَوَهُّمَ الْغَلَطِ فِي رِوَايَتِهِ أَظْهَرُ. - ثُمَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ اسْتِغْفَارٌ لَهُ وَتَرَحُّمٌ عَلَيْهِ، وَالشَّهِيدُ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَرَامَةً لَهُ، وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ. وَلَا إشْكَالَ أَنَّ دَرَجَةَ الشَّهِيدِ دُونَ دَرَجَةِ مَنْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ فِي الصَّلَاةِ، فَعَلِمَنَا أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ الشَّهِيدُ دَرَجَةً يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ اسْتِغْفَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ لَهُ. وَمَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ إنَّ الشَّهِيدَ حَيٌّ بِالنَّصِّ وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْحَيِّ فَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ حَيٌّ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهُوَ مَيِّتٌ فِي حَقِّنَا، يُقَسَّمُ مِيرَاثُهُ، وَيَجُوزُ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ لِيَكُونَ مَا عَلَيْهِ شَاهِدًا لَهُ عَلَى خَصْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 - قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» . وَلِهَذَا لَا يُنْزَعُ عَنْهُ جَمِيعُ ثِيَابِهِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُفِّنَ فِي نَمِرَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ حِينَ اُسْتُشْهِدَ، وَلَكِنْ يُنْزَعُ عَنْهُ السِّلَاحُ لِأَنَّهُ كَانَ لَبِسَهُ لِدَفْعِ الْبَأْسِ فَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ دَفْنَ الْقَتْلَى (61 ب) مَعَ الْأَسْلِحَةِ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا لُبِسَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ كَالسَّرَاوِيلِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْمِنْطَقَةِ وَالْخَاتَمِ وَالْخُفِّ. هَكَذَا ذُكِرَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ. وَلِأَهْلِهِ أَنْ يَزِيدُوا فِي أَكْفَانِهِ مَا أَحَبُّوا. وَبِهَذَا اللَّفْظِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَوْ بِثَوْبَيْنِ فِي كَفَنِ الرِّجَالِ غَيْرُ لَازِمٍ. - وَإِنْ صَارَ مُرْتَثًّا فَهُوَ شَهِيدٌ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَلَكِنْ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى مِنْ الْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ. وَالْمُرْتَثُّ مَنْ يَصِيرُ خَلَقًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: ثَوْبٌ رَثٌّ أَيْ خَلَقٌ. - فَإِذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ حَيًّا فَمَاتَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ أَوْ مَرِضَ فِي خَيْمَتِهِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ. لِأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ الرَّاحَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فَأَمَّا إذَا جُرَّ بِرِجْلِهِ مِنْ بَيْنِ صَفَّيْنِ لِكَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ. لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنْ مَصْرَعِهِ لَمْ يَكُنْ لِإِيصَالِ الرَّاحَةِ إلَيْهِ وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ لِأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ الرَّاحَةِ بِذَلِكَ. - قَالَ: وَذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ قَالَ: لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا إلَّا الْخُفَّيْنِ، وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، وَارْمُسُونِي فِي الْأَرْضِ رَمْسًا، فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَنِي. فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْزَعُ عَنْ الشَّهِيدِ مِنْ ثِيَابِهِ إلَّا مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ، وَأَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ لِيَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّمِ شَاهِدًا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ بِالْقَادِسِيَّةِ فَقَالَ: إنَّا لَاقُونَ غَدًا فَمُسْتَشْهِدُونَ. فَلَا تَغْسِلُوا عَنَّا دَمًا، وَلَا تُكَفِّنُونَا فِي ثَوْبٍ إلَّا مَا عَلَيْنَا. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ كَرِهَ شَيْئًا مِمَّا يَرْجِعُ إلَى الزِّينَةِ فِي كَفَنِهِ، لَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَحِلُّ. - وَذُكِرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 هَؤُلَاءِ كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ. وَكَانَ يَدْفِنُ فِي الْقَبْرِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِدَفْنِ الْجَمَاعَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. «فَالْأَنْصَارُ يَوْمَئِذٍ أَصَابَهُمْ قَرْحٌ وَجَهْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: إنَّ الْحَفْرَ عَلَيْنَا لِكُلِّ إنْسَانٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ: أَعْمِقُوا وَأَوْسِعُوا وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ» . - وَلَكِنْ يَنْبَغِي عِنْدَ الْحَاجَةِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَ كُلِّ مَيِّتَيْنِ حَاجِزًا مِنْ التُّرَابِ كَيْ يَصِيرَ فِي حُكْمِ قَبْرَيْنِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا بَأْسَ بِدَفْنِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَيُقَدَّمُ إلَى جَانِبِ الْقِبْلَةِ أَفْضَلُهُمَا وَهُوَ الرَّجُلُ. فَإِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ تَقَدَّمَ أَفْضَلُهُمَا أَيْضًا عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ» . فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ كَانَ أَفْضَلُهُمْ يَوْمَئِذٍ. لِأَنَّهُمْ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ بِأَحْكَامِهِ. - ثُمَّ رُوِيَ حَدِيثُ جَابِرٍ «أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَادَى يَوْمَئِذٍ: ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَضَاجِعِهِمْ» وَهَذَا حَسَنٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَإِنَّمَا صَنَعَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ كَرِهَ الْمَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ بِالنَّقْلِ مَعَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْقَرْحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 - وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: اُسْتُعْمِلَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَى جَيْشٍ، فَكَرِهَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ الْخُرُوجَ مَعَهُ، ثُمَّ نَدِمَ نَدَامَةً شَدِيدَةً فَغَزَا مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَضَرَ، فَأَتَاهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَعُودُهُ فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. إذَا أَنَا مِتُّ فَاغْسِلُونِي وَكَفِّنُونِي ثُمَّ احْمِلُونِي حَتَّى تَأْتُوا بِلَادَ الْعَدُوِّ مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَأْمُرُهُمْ فَيَدْفِنُونِي. وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ أَحَبَّهُ إمَّا لِيَكُونَ أَقْرَبَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ فَيَنَالَ ثَوَابَ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا، أَوْ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الشُّهْرَةِ بِكَثْرَةِ الزِّيَارَةِ. فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي بَعْدِي مَعْبَدًا» . وَقَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ وَدَفَنُوهُ لَيْلًا، فَصَعِدَ مِنْ قَبْرِهِ نُورٌ إلَى السَّمَاءِ، وَرَأَى ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَجَاءَ رَسُولُهُمْ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ: مَنْ كَانَ هَذَا الْمَيِّتُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: صَاحِبٌ لِنَبِيِّنَا. فَأَسْلَمُوا لَمَّا رَأَوْا. - وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَبَشِيِّ فَنُقِلَ مِنْهُ وَدُفِنَ بِمَكَّةَ. فَجَاءَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَاجَةً أَوْ مُعْتَمِرَةً فَزَارَتْ قَبْرَهُ وَقَالَتْ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنْ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا أَنَا وَاَللَّهِ لَوْ شَهِدْتُك مَا زُرْتُك، وَلَوْ شَهِدْتُك مَا دَفَنْتُك إلَّا فِي مَكَانِك الَّذِي مِتَّ فِيهِ. وَإِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَيْهِ حِينَ مَاتَ فِي الْغُرْبَةِ، وَلِإِظْهَارِ عُذْرِهَا فِي زِيَارَتِهِ. فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» يَمْنَعُ النِّسَاءَ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ. وَالْحَدِيث وَإِنْ كَانَ مُؤَوَّلًا فَلِحِكْمَةٍ ظَاهِرَةٍ قَالَتْ مَا قَالَتْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُدْفَنَ الْقَتِيلُ وَالْمَيِّتُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فِي مَقَابِرِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مَاتَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - دُفِنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؟ - قَالَ: وَلَوْ نُقِلَ مِيلًا أَوْ مِيلَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ النَّقْلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدِ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّهُ قَدْرُ الْمَسَافَةِ الَّتِي لَا يُكْرَهُ النَّقْلُ فِيهَا بِمِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ (62 ب) فَالْأَرْضُ كُلُّهَا كِفَاتٌ لِلْمَيِّتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] . إلَّا أَنَّ الْحَيَّ يَنْتَقِلُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهِ إلَّا تَأْخِيرُ دَفْنِهِ أَيَّامًا كَانَ كَافِيًا فِي الْكَرَاهَةِ. - وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إذَا وُجِدَ مَا يَلِي صَدْرَ الْقَتِيلِ إلَى رَأْسِهِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ. يَعْنِي إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ نِصْفُ الْبَدَنِ مَعَهُ الرَّأْسُ، وَبِهِ نَأْخُذُ. فَإِنَّهُ لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ. فَلَوْ صَلَّى عَلَى النِّصْفِ أَوْ مَا دُونَهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يُوجَدَ النِّصْفُ الْبَاقِي. وَهَذَا لَا يَكُونُ فِيمَا إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ. - فَأَمَّا الْقَتِيلُ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُغَسَّلْ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ غُسِّلَ. لِأَنَّ الْغُسْلَ سُنَّةُ الْمَوْتَى مِنْ بَنِي آدَمَ، إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ فِي حَقِّ الشَّهِيدِ لِمَقْصُودٍ قَدْ بَيَّنَّاهُ. فَمَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ وَجَبَ غُسْلُهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمَوْتَى. - وَذُكِرَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ. ثُمَّ انْسَلَّ قِيَادُ فَرَسِهِ مِنْ يَدِهِ. فَمَضَى الْفَرَسُ عَلَى الْقِبْلَةِ وَتَبِعْهُ أَبُو بَرْزَةَ حَتَّى أَخَذَ بِقِيَادِ فَرَسِهِ. ثُمَّ رَجَعَ نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ فَصَلَّى بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا لِهَذَا الشَّيْخِ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فَانْصَرَفَ أَبُو بَرْزَةَ مِنْ صَلَاتِهِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا الشَّاتِمُ لِي آنِفًا؟ إنَّا صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَيْنَا مِنْ يُسْرِهِ. وَلَوْ كُنْت تَرَكْت فَرَسِي حَتَّى تَبَاعَدَ ثُمَّ طَلَبْته شَقَّ عَلَيَّ. فَقَالَ الْقَوْمُ لِلرَّجُلِ: مَا كَانَ يَنْتَهِي بِك خُبْثُك حَتَّى تَتَنَاوَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسُبُّهُ. فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْغَازِي أَنْ يَأْخُذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي الصَّلَاةِ. لِأَنَّهُ يَبْتَلِي بِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ سَائِسٌ. وَإِنْ مَشَى فِي صَلَاتِهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ يَسِيرًا وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَبَّرَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَرَكَعَ وَدَبَّ رَاكِعًا حَتَّى الْتَحَقَ بِالصَّفِّ. وَلَوْ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ فِي مَشْيِهِ حَتَّى جَعَلَهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ كَانَ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ لَا لِمَشْيِهِ بَلْ لِتَفْوِيتِ شَرْطِ الْجَوَازِ وَهُوَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ. وَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَعْظَمَ مَشْيَهُ فِي الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْفَرَسِ فَنَالَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَاسْتَعْظَمَ فِعْلَهُ. ثُمَّ بَيَّنَ أَبُو بَرْزَةَ أَنَّهُ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَى مِنْ يُسْرِهِ، يُرِيدُ مِنْ تَيْسِيرِهِ عَلَى النَّاسِ فِعْلًا وَقَوْلًا عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَيْرُ دِينِكُمْ الْيُسْرُ» فَبَيَّنَ عُذْرَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِمُكَافَأَةِ مَنْ نَالَ مِنْهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ الْقَوْمُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْمَحْمُودُ فِي الْمُعَاشَرَةِ مَعَ النَّاسِ. - قَالَ: وَلَا بَأْسَ لِلْغُزَاةِ (63 آ) وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسَافِرِينَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى دَوَابِّهِمْ حَيْثُ مَا كَانَتْ وُجُوهُهُمْ تَطَوُّعًا يُومُونَ إيمَاءً. وَهَذَا لِأَنَّ التَّطَوُّعَ مُسْتَدَامٌ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي النُّزُولِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَذَلِكَ يُشْبِهُ الْعُذْرَ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ لَهُ إذَا أَرَادَ اسْتِدَامَةَ الصَّلَاةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ» ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَصْنَعُ ذَلِكَ أَيْضًا. وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ أَبْوَاءَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَوَجْهُهُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ. وَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إلَى خَيْبَرَ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ مُقْبِلًا أَوْ مُدْبِرًا» . فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. - ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْغُزَاةِ الَّذِينَ لَا ثِيَابَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا وُحْدَانًا كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ يُومُونَ إيمَاءً. وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 310 - قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنَا أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً، فَإِنْ صَلَّوْا جَمَاعَةً قَعَدَ الْإِمَامُ فِي وَسَطِ الصَّفِّ لِكَيْ لَا يَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَى عَوْرَتِهِ كَمَا هُوَ السُّنَّة فِي صَلَاةِ النِّسَاءِ بِالْجَمَاعَةِ. - ثُمَّ ذَكَرَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْفَارِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فِعْلًا لَا وَقْتًا، بِأَنْ يُؤَخِّرَ الْأُولَى إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّيهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ. هَكَذَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ هَكَذَا إذَا جَهِدَ بِهِ السَّيْرُ. وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. 41 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 [بَابُ صَلَاةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ إلَى الْعَسْكَرِ وَيُرِيدُونَ الْعَدُوَّ] - قَالَ: إذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَدِينَتَانِ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَاحِدٍ هُمَا أَقْرَبُ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ، فَكَتَبَ وَالِي الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ إلَى وَالِي الْمَدِينَةِ الْبَعِيدَةِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ كَتَبَ إلَيَّ يَأْمُرُنِي بِالْغَزْوِ فَأَعْلِمْ مَنْ قِبَلَك ذَلِكَ لِيَقْدَمُوا عَلَيَّ فَإِنِّي شَاخِصٌ مِنْ مَدِينَتِي يَوْمَ كَذَا، فَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ الْمَدِينَةِ الْبَعِيدَةِ عَلَى قَصْدِ الْغَزْوِ مَعَ وَالِي الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ وَلَا يَدْرُونَ أَيْنَ يُرِيدُ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ الْبَعِيدَةِ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ كَمَا خَرَجُوا مِنْ مَدِينَتِهِمْ. لِأَنَّهُمْ يَتَيَقَّنُونَ السَّفَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ مِنْ الْمَدِينَةِ الْبَعِيدَةِ إلَى الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَمِنْهَا إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ، وَالْغُزَاةُ يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لَا مَحَالَةَ فَلِهَذَا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ. - وَإِنْ كَانَتْ الْمَسِيرَةُ مِنْ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ دُونَ يَوْمَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ. لِأَنَّهُمْ (63 ب) لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يُرِيدُ الْوَالِي، فَلَعَلَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُجَاوِزَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أَوَّلَ دَارِ الْحَرْبِ. وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ فِي الْعِبَادَةِ بِالِاحْتِيَاطِ. وَطَرِيقُ الْعِبَادَةِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ بِهِ دُونَ الْمُحْتَمَلِ، وَالْغُزَاةُ تَبَعٌ لِلْوَالِي فِي نِيَّةِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ، لِأَنَّ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ مَعَ مَوْلَاهُ وَالزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا. - وَإِنْ كَانَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ أَيْنَ يُرِيدُ الْمَسِيرَ إلَيْهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ الِاشْتِبَاهُ بِبَيَانِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَسِيرُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا مِنْ مَدِينَتِهِمْ قَصَرُوا الصَّلَاةَ وَإِلَّا أَتَمُّوا. - وَإِنْ قَدِمُوا عَلَى وَالِي الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ أَيَّامًا فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ مَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْإِقَامَةِ خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً فِي الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُسَافِرِينَ، فَمَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعِهَا أَوْ فِي مُدَّةِ الْإِقَامَةِ كَانُوا مُسَافِرِينَ عَلَى حَالِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» ، وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَان سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ؟ - وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ فَإِنَّهُمْ يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يُخْبِرُهُمْ الْأَمِيرُ أَنَّهُ يُرِيدُ سَفَرَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَإِذَا أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ فَمَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ مَدِينَتِهِمْ يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وَإِنْ خَرَجُوا إلَى الْعَسْكَرِ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَخْرُجَ الْأَمِيرُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَا يَعْزِمُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى مَنْزِلِهِ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَإِنْ أَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ شَهْرًا. لِأَنَّهُ صَارَ مُسَافِرًا حِينَ فَارَقَ عُمْرَانَ مِصْرِهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَنْزِلِهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ. لِأَنَّ عَزْمَهُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ إذَا كَانَ هُوَ فِي فِنَائِهَا بِمَنْزِلَةِ مَقَامِهِ فِي جَوْفِهَا، فَيُتِمُّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَدِينَةِ رَاجَعَا إلَى الْعَسْكَرِ. وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ إلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَغْزُوَ، فَإِذَا جَعَلَهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ قَصَرَ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَافِرًا بِهَذَا الْخُرُوجِ. وَإِنْ عَزَمُوا عَلَى الْإِقَامَةِ فِي الْمُعَسْكَرِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً أَتَمُّوا الصَّلَاةَ لِأَنَّهُمْ نَوَوْا الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعِهَا، فَإِنَّ فِنَاءَ الْمِصْرِ كَجَوْفِ الْمِصْرِ فِي صِحَّةِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهِ. - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ الْبَعِيدَةِ قَصُرُوا الصَّلَاةَ إلَى أَنْ يَنْتَهُوا إلَى الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ فَقَالَ الْوَالِي: إنَّ الْخَلِيفَةَ كَتَبَ إلَيَّ أَنْ تَغْزُوَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ مَدِينَتِكُمْ إلَيَّ فَصَلَاتُهُمْ الَّتِي أَدَّوْهَا تَامَّةً لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ وَمَا لَمْ يَعْرِفُوا فَسْخَ الْوَالِي عَزِيمَةَ السَّفَرِ لَا يَصِيرُونَ مُقِيمِينَ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ ثُمَّ عَلَيْهِمْ مِنْ حِينَ سَمِعُوا هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ لِأَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِمْ الْأَصْلِيِّ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وَطَنِهِمْ (64 آ) مَسِيرَةُ يَوْمٍ فَكَانُوا مُقِيمِينَ فِي الْحَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 - وَإِنْ سَمِعَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَعَلَى الَّذِينَ سَمِعُوا أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ، وَقَصَرَ الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا، فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا. لِأَنَّ مَا يَبْتَنِي عَلَى السَّمَاعِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَسْمَعْ بِهِ أَصْلُهُ خِطَابُ الشَّرْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ إنَّمَا يَلْزَمُ الْمُخَاطَبَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ السَّمَاعِ. فَكَانُوا مُسَافِرِينَ مَا لَمْ يَسْمَعُوا السَّبَبَ الَّذِي هُوَ فَاسِخٌ لِعَزِيمَةِ سَفَرِهِمْ. - فَإِنْ كَانَ وَالِي الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْبَعِيدَةِ: مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ الْغَزْوَ فَلْيُوَافِنِي فِي مَوْضِعِ كَذَا، وَلَمْ يُخْبِرْ أَيْنَ يُرِيدُ، وَذَلِكَ الْمَكَانُ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ مِنْ الْمَدِينَةِ الْبَعِيدَةِ، فَإِنَّ أَهْلَهَا يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَنْتَهُوا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا أَقَلَّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَلَعَلَّ مِنْ رَأْيِ الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيَبْعَثَ السَّرَايَا وَالْجُيُوشَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَيُتِمُّونَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَصِيرُوا مُسَافِرِينَ بِالْقَصْدِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَصِيرُونَ مُسَافِرِينَ بِالْمَقَامِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَيْضًا. - فَإِنْ أَخْبَرَهُمْ الْوَالِي بَعْدَ مَا نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُمْ يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ مَا دَامُوا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِيهِ وَهُمْ مُقِيمُونَ، فَبِمُجَرَّدِ نِيَّةِ السَّفَرِ لَا يَصِيرُونَ مُسَافِرِينَ مَا لَمْ يَرْتَحِلُوا مِنْهُ، بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ يَنْوِي السَّفَرَ وَهُوَ فِي مِصْرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 - فَإِنْ قَصُرُوا الصَّلَاةَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَعَلَيْهِمْ إعَادَةَ الصَّلَاةِ. لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْهَا قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ. - ثُمَّ إنْ خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ وَقْتُهَا وَقَبْلَ أَنْ يُعِيدُوهَا صَلَّوْهَا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ خَرَجُوا بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا صَلَّوْهَا أَرْبَعًا. لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْوُجُوبِ بِاعْتِبَارِ آخِرِ الْوَقْتِ. - فَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُمْ مُسَافِرُونَ كَانَ عَلَيْهِمْ صَلَاةَ السَّفَرِ. وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُمْ مُقِيمُونَ كَانَ عَلَيْهِمْ صَلَاةَ الْمُقِيمِينَ، وَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِمَا أَدَّوْا. لِأَنَّ الْمُؤَدَّاةَ كَانَتْ فَاسِدَةً حِينَ سَلَّمُوا عَلَى رَأْسِ رَكْعَتَيْنِ وَهُمْ مُقِيمُونَ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوهَا أَصْلًا. - فَإِنْ سَبَقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْبَعِيدَةِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَمْ يَأْتِهِمْ وَالِي الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ مِنْ مَدِينَتِهِمْ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ أَتَمُّوا الصَّلَاةَ لِمَا بَيَّنَّا. - وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَصَرُوا الصَّلَاةَ فِيهَا وَإِنْ أَقَامُوا شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُسَافِرِينَ بِالْخُرُوجِ إلَيْهَا، فَلَا يَصِيرُونَ مُقِيمِينَ مَا لَمْ يَعْزِمُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 عَلَى إقَامَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً (64 ب) وَهُمْ مُنْتَظِرُونَ لِلْوَالِي فِي هَذَا الْمَكَانِ غَيْرُ عَازِمِينَ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. - فَإِنْ قَصَرُوا الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ أَتَاهُمْ كِتَابُ الْوَالِي أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِالْمَقَامِ فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ عَلَى حَالِهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى مَدِينَتِهِمْ. لِأَنَّهُمْ انْصَرَفُوا وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَوَاضِعِ إقَامَتِهِمْ مَسِيرَةُ سَفَرِ، فَلَا يَصِيرُونَ مُقِيمِينَ حَتَّى يَدْخُلُوا وَطَنَهُمْ. - قَالَ: وَإِنْ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ أَرْضَ الْحَرْبِ فَانْتَهَوْا إلَى حِصْنٍ وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ شَهْرًا إلَّا أَنْ يَفْتَحُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَخْبَرَهُمْ الْوَالِي بِذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى إقَامَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لِمَكَانِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالْفَتْحُ قَبْلَ مُضِيِّ خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً مُحْتَمَلٌ. - وَإِنْ أَخْبَرَهُمْ الْوَالِي أَنَّهُ لَا يُقِيمُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَتَحُوا أَوْ لَمْ يَفْتَحُوا فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ أَيْضًا. لِأَنَّهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُحَارِبُونَ لِأَهْلِهَا، وَالْمُحَارِبُ بَيْنَ أَنْ يَقْهَرَ عَدُوَّهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْمَقَامِ، وَبَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ عَدُوُّهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمَقَامِ. وَمِثْلُ هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ فِي حَقِّهِ، وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا هَدَرٌ، كَأَهْلِ السَّفِينَةِ إذَا نَوَوْا الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ لُجَّةِ الْبَحْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 - وَلَوْ أَطَالُوا الْمُقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى وَقَعَ الثَّلْجُ فَصَارُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ، فَعَزَمُوا عَلَى الْإِقَامَةِ سَنَتَهُمْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُمْ الثَّلْجُ فَيَخْرُجُونَ، وَهُمْ فِي غَيْرِ أَمَانٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ أَيْضًا. لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ مِنْ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ الْعَدُوُّ فَيَمْنَعُوهُمْ مِنْ الْقَرَارِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنْ كَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَشَوْكَةٌ عَلَى وَجْهٍ يَنْتَصِفُونَ مِنْ الْعَدُوِّ إنْ أَتَاهُمْ، يَصِحُّ بَيْنَهُمْ الْإِقَامَةُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إذَا كَانُوا فِي الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ لَمْ يَصِحَّ بَيْنَهُمْ الْإِقَامَةُ. وَإِنْ كَانُوا فِي الْأَبْنِيَةِ وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ صَحَّتْ مِنْهُمْ الْإِقَامَةُ. وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِمَا قُلْنَا إنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ مَا يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ مِنْ الْمَقَامِ فِيهِ بِقَدْرِ مَا نَوَى. - وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ زَائِدَةَ بْنِ عُمَيْرٍ: قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنَّا نُطِيلُ الثَّوَاءَ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ، يَعْنِي الْقَرَارَ، فَكَيْفَ أَنْوِي فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَهْلِك. قُلْت: كَيْفَ تَقُولُ فِي الْعَزْلِ؟ قَالَ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ وَإِلَّا فَإِنَى أَقُولُ فِيهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] مَنْ شَاءَ عَزَلَ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْعَزْلِ. وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْضًا. وَالْيَهُودُ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ إنَّهُ الْمَوْءُودَة الصُّغْرَى فَنَزَلَتْ الْآيَةُ رَدًّا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَزْلِ فَقَالَ: إذَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ نَسَمَةٍ مِنْ صُلْبِ رَجُلٍ فَهُوَ خَالِقُهَا، وَإِنْ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى صَخْرَةٍ. فَإِنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا وَإِنْ شِئْتُمْ فَاتْرُكُوا. وَهَكَذَا يَرْوِيه أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّهُ فِي الْعَزْلِ عَنْ الْحُرَّةِ يَحْتَاجُ إلَى رِضَاهَا لِيَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ، وَفِي الْعَزْلِ عَنْ أَمَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ. - قَالَ: وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَنَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحَارَبٍ لَهُمْ، بَلْ هُوَ فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْمَقَامِ بِقَدْرِ مَا نَوَاهُ كَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. - وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَأْسِرُوهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِهِ فَهُوَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ أَيْضًا مَا دَامَ فِي مَنْزِلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَرْتَحِلْ مِنْهُ. - وَإِنْ سَافَرَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَصَرَ الصَّلَاةَ ثُمَّ انْتَهَى إلَى مَقْصِدِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ نَوَى أَنْ يُقِيمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَرَارِ فِي مَوْضِعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحَارِبٍ لَهُمْ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَأْمَنِ فِيهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 - قَالَ: وَالْأَسِيرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيْدِيهِمْ إنْ أَقَامُوا بِهِ فِي مَوْضِعٍ يُرِيدُونَ الْمَقَامَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ الْمَقَامَ مَعَهُمْ بَلْ يَكُونُ عَازِمًا عَلَى الْفِرَارِ مِنْهُمْ إنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ مَغْلُوبٌ فِي أَيْدِيهمْ، فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ نِيَّتُهُمْ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ لَا نِيَّتَهُ، بِمَنْزِلَةِ عَبْدِ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمَا نِيَّةُ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ لَا نِيَّتُهُمَا. وَكَذَلِكَ مَنْ بَعَثَ إلَيْهِ الْخَلِيفَةُ مِنْ عُمَّالِهِ لِيُؤْتَى بِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ تَنْفِيذِ قَصْدِهِ. فَمَنْ بَعَثَهُ الْخَلِيفَةُ لَا يُمْكِنُهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ حَالُ الْأَسِيرِ فِي أَيْدِيهِمْ. - وَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ انْفَلَتَ مِنْهُمْ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى إقَامَةِ شَهْرٍ فِي غَارٍ أَوْ غَيْرِهِ قَصَرَ الصَّلَاةَ. لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ لَهُمْ، فَلَا تَكُونُ دَارُ الْحَرْبِ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. - وَكَذَا الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِهِمْ إذَا عَلِمُوا بِإِسْلَامِهِ فَطَلَبُوهُ فَخَرَجَ هَارِبًا يُرِيدُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ مُسَافِرٌ، وَإِنْ أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ مُخْتَفِيًا شَهْرًا مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ صَارَ مُحَارِبًا لَهُمْ حِينَ طَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 - وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ (65 ب) إذَا غَدَرُوا بِهِ فَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ لِأَنَّهُ صَارَ مُحَارِبًا لَهُمْ، وَحَالُ هَؤُلَاءِ كَحَالِ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مُتَلَصِّصًا فَنَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعٍ شَهْرًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسَافِرًا. وَنِيَّتُهُ الْإِقَامَةُ لَغْوٌ، لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ إقَامَتِهِ. - قَالَ: وَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مُقِيمًا بِمَدِينَةٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمَّا طَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ اخْتَفَى فِيهَا مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ أَيْضًا لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا. 339 - وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ مِنْهَا يُرِيدُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ إلَى مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ، بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَخْرُجُ إلَى ضَيْعَتِهِ فِي بَعْضِ الْقُرَى. 340 - وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَيْشٍ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَلَا يُرِيدُونَ أَنْ يَسِيرُوا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ إلَّا يَوْمًا آخَرَ فَلَقُوا الْعَدُوَّ وَقَاتَلُوهُمْ فَإِنَّهُمْ يُكْمِلُونَ الصَّلَاةَ وَإِنْ طَالَ مَقَامُهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُسَافِرِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَبِالْقِتَالِ لَا يَصِيرُونَ مُسَافِرِينَ. - أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ مَدِينَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَوْ أَسْلَمُوا فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ وَهُمْ مُقِيمُونَ فِي مَدِينَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وَكَذَلِكَ إنْ غَلَبَهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى مَدِينَتِهِمْ فَخَرَجُوا مِنْهَا يُرِيدُونَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ فَإِنَّهُمْ يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ. وَإِنْ خَرَجُوا مِنْهَا يُرِيدُونَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَدْ صَارُوا مُسَافِرِينَ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ. فَإِنْ أَقَامُوا فِي مَوْضِعٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ مَدِينَتِهِمْ قَصَرُوا الصَّلَاةَ أَيْضًا. لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ، وَمَنْ حَصَّلَ مُسَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ مُحَارِبًا لِلْمُشْرِكِينَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا. 342 - وَإِنْ رَجَعُوا إلَى مَدِينَتِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ عَرَضُوا لَهَا فَعَادُوا فِيهَا أَتَمُّوا الصَّلَاةَ لِأَنَّ مَدِينَتَهُمْ كَانَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ حِين أَسْلَمُوا فِيهَا. وَكَانَتْ مَوْضِعَ إقَامَةٍ لَهُمْ، فَمَا لَمْ يَعْرِضْ لَهَا الْمُشْرِكُونَ فَهِيَ وَطَنٌ أَصْلِيٌّ فِي حَقِّهِمْ. فَيُتِمُّونَ الصَّلَاةَ إذَا وَصَلُوا إلَيْهَا. - وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ غَلَبُوا عَلَيْهَا وَأَقَامُوا فِيهَا ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمِينَ رَجَعُوا إلَيْهَا وَخَلَا الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا، فَإِنْ كَانُوا اتَّخَذُوهَا دَارًا وَمَنْزِلًا لَا يَبْرَحُونَهَا فَصَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ يُتِمُّونَ فِيهَا الصَّلَاةَ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ دَارِ الْحَرْبِ حِينَ غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهَا، فَحِينَ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا وَعَزَمُوا عَلَى الْمُقَامِ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ. وَنِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَحِيحَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 - وَإِنْ كَانُوا لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوهَا دَارًا وَلَكِنْ يُقِيمُونَ فِيهَا شَهْرًا ثُمَّ يَخْرُجُونَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَصَرُوا الصَّلَاةَ. لِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ، (66 أ) وَهُمْ مُحَارِبُونَ لَهُمْ، فَلَا يَصِيرُونَ مُقِيمِينَ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهَا. - وَكَذَلِكَ عَسْكَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ فَغَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ. فَإِنْ اتَّخَذُوهَا دَارًا فَقَدْ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ يُتِمُّونَ فِيهَا الصَّلَاةَ، فَإِنْ لَمْ يَتَّخِذُوهَا دَارًا وَلَكِنْ هُمْ أَرَادُوا الْإِقَامَةَ بِهَا شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ لِأَنَّهَا دَارُ الْحَرْبِ وَهُمْ فِيهَا مُحَارِبُونَ. فَهَذَا التَّخْرِيجُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا، لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ أَحْكَامِ الشِّرْكِ فِي بَلْدَةٍ عِنْدَ غَلَبَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَيْهَا تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيُشْتَرَطُ مَعَ هَذَا أَنْ تَكُونَ مُلَاصِقَةً لِدَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَأَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ، وَبَيَانُ هَذَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا بَابَ مَنْ يُغَسَّلُ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَبَابَ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْخَطَأِ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا شَرَحَ مَسَائِلِ الْبَابَيْنِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ، فَإِنَّهُ أَعَادَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ بِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 [بَابُ أَمَانِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ] 42 - بَابُ أَمَانِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اعْلَمْ بِأَنَّ أَدَقَّ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ وَأَلْطَفَهَا فِي أَبْوَابِ الْأَمَانِ. فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ دَقَائِقِ عِلْمِ النَّحْوِ وَدَقَائِقِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَكَانَ شَاوَرَ فِيهَا عَلِيَّ بْنَ حَمْزَةَ الْكِسَائِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالَتِهِ وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقِيلَ: مَنْ أَرَادَ امْتِحَانَ حُفَّاظِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَعَلَيْهِ بِبَابِ الْأَذَانِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَمَنْ أَرَادَ امْتِحَانَ الْمُتَبَحِّرِينَ فِي الْفِقْهِ فَعَلَيْهِ بِأَيْمَانِ الْجَامِعِ، وَمَنْ أَرَادَ امْتِحَانَ الْمُتَبَحِّرِينَ فِي النَّحْوِ وَالْفِقْهِ فَعَلَيْهِ بِأَمَانِ السِّيَرِ. - قَالَ: ثُمَّ أَمَانُ الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ جَائِزٌ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كُلِّهِمْ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» . وَالْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ الْعَهْدِ، مُؤَقَّتًا كَانَ أَوْ مُؤَبَّدًا، وَذَلِكَ الْأَمَانُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ. فَإِنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 اللَّفْظُ مُشْتَقًّا مِنْ الْأَدْنَى الَّذِي هُوَ الْأَقَلُّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ} [المجادلة: 7] فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْوَاحِدِ. وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ الدُّنُوِّ وَهُوَ الْقُرْبُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْمُسْلِمِ الَّذِي يَسْكُنُ الثُّغُورَ فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْعَدُوِّ. وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ الدَّنَاءَةِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْفَاسِقِ لِأَنَّ صِفَةَ الدَّنَاءَةِ (66 ب) بِهِ تَلِيقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْأَمَانِ مَعْنَى النُّصْرَةِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ فَتْحًا مُبِينًا وَنَصْرًا عَزِيزًا. وَكُلُّ مُسْلِمٍ أَهْلٌ أَنْ يَقُومَ بِنُصْرَةِ الدَّيْنِ، وَيَقُومَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ النُّصْرَةُ مِنْهُ بِالْقِتَالِ عَلَى وَجْهٍ يَدْفَعُ شَرَّ الْمُشْرِكِينَ سَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ مِنْهُمْ النُّصْرَةَ بِعَقْدِ الْأَمَانِ وَالصُّلْحِ كَانَ ذَلِكَ كَالْمَوْجُودِ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. - وَلِهَذَا يَصِحُّ أَمَانُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا بِنْيَةٌ صَالِحَةٍ لِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ، وَالْأَمَانُ نُصْرَةٌ بِالْقَوْلِ، وَبِنْيَتُهَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُجَاهِدُ بِمَالِهَا. لِأَنَّ مَالَهَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ كَمَالِ الرَّجُلِ. 348 وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ أَمَانِهَا أَنَّ «زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَارَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانَهَا» . وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: «أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ قَرِيبَيْنِ، فَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَفَلَّتَ عَلَيْهِمَا لِيَقْتُلَهُمَا أَيْ قَصْدَهُمَا فَجْأَةً، وَقَالَ: أَتُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا تَقْتُلُهُمَا حَتَّى تَبْدَأَ بِي قَبْلَهُمَا. ثُمَّ خَرَجْت وَقُلْت: أَغْلِقُوا دُونَهُ الْبَابَ. فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَسْفَلِ الثَّنِيَّةِ. فَلَمْ أَجِدْهُ وَوَجَدْت فَاطِمَةَ فَقُلْت: مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمِّي عَلِيٍّ. أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَفَلَّتَ عَلَيْهِمَا لِيَقْتُلَهُمَا. فَكَانَتْ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ زَوْجِهَا. إلَى أَنْ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ رَهْجَةُ الْغُبَارِ. فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ فَاخِتَةَ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمِّي عَلِيٍّ مَا كِدْت أَنْفَلِتُ مِنْهُ. أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فَتَفَلَّتَ عَلَيْهِمَا لِيَقْتُلَهُمَا. فَقَالَ: مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ. فَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت. ثُمَّ أَمَرَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَسَكَبَتْ لَهُ غُسْلًا فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَذَلِكَ ضُحَى فَتْحِ مَكَّةَ» . فَقَدْ صَحَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانَهَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا كَانَ لِعَلِيٍّ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمَا بَعْدَ أَمَانِهَا. وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ أَنَّ رَكْعَتَيْنِ مِنْهُمَا لِلشُّكْرِ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ، وَرَكْعَتَيْنِ كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِهِمَا عَلَى مَا رَوَاهُ عُمَارَةُ بْنُ رُوَيْبَةَ، فَأَرْبَعًا كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُخَالِفًا بَيْنَ طَرَفَيْهِ: أَيْ مُتَوَشِّحًا بِهِ مِنْ طَرَفَيْهِ. فَيَكُونُ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لِتَأْجُرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ - أَيْ تُعْطِي الْأَمَانَ لِلْمُشْرِكِينَ - وَفِي رِوَايَةٍ: لِتَأْخُذَ - أَيْ تَأْخُذَ الْعَهْدَ بِالصُّلْحِ وَالْأَمَان (67 آ) ، وَهَكَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لِتَأْخُذَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 349 - فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فَلَا أَمَانَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يُقَاتِلُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَانُهُ صَحِيحٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ نُصْرَةِ الدِّينِ بِمَا يَمْلِكُهُ. وَالْأَمَانُ نُصْرَةٌ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِخِلَافِ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ نُصْرَةُ الدِّينِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ. وَلِأَنَّهُ بِالْأَمَانِ يَلْتَزِمُ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ يَتَعَدَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ. وَالْعَبْدُ فِي مِثْلِ هَذَا كَالْحُرِّ أَصْلُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ. لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَعْنَى النُّصْرَةِ فِي الْأَمَانِ مَسْتُورٌ فَلَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ يَكُونُ مَالِكًا لِلْقِتَالِ، وَالْعَبْدُ الْمَشْغُولُ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى غَيْرُ مَالِكٍ لِلْقِتَالِ، فَلَا تَظْهَرُ الْخَيْرِيَّةُ فِي أَمَانِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُقَاتِلًا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ عِنْدَهُ الْخَيْرِيَّةُ فِي الْأَمَانِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ، فَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَمَانِ مُلْتَزِمًا لِلْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُلْزِمًا غَيْرَهُ ابْتِدَاءً لَا مُلْتَزِمًا، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ. 350 - قَالَ: وَالْأَمَةُ كَالْعَبْدِ فِي ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ: أَمَانُ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ جَائِزٌ. وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْعَبْدِ الْمُقَاتِلِ. 351 - وَبِحَدِيثِ الْفَضْلِ الرَّقَاشِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا أَهْلَ حِصْنٍ. فَكَتَبَ عَبْدٌ أَمَانًا فِي سَهْمٍ، ثُمَّ رَمَى بِهِ إلَى الْعَدُوِّ. فَكَتَبْنَا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَكَتَبَ: إنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّ أَمَانَهُ جَائِزٌ. وَإِنَّمَا عَلَّلَ لِصِحَّةِ أَمَانِهِ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا لَا بِكَوْنِهِ مُقَاتِلًا. وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ كَانَ مُقَاتِلًا؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ بِالسَّهْمِ مِنْ عَمَلِ الْمُقَاتِلِينَ، وَأَمَانُ الْمُقَاتِلِ إنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي الْمَغَازِي ذَكَرَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى سَهْمِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ: مترسيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 - فَأَمَّا أَمَانُ الذِّمِّيِّ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِهِمْ لِأَنَّهُ مَائِلٌ إلَيْهِمْ لِلْمُوَافَقَةِ فِي الِاعْتِقَادِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِالْأَمَانِ النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ هُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ نُصْرَةِ الدِّينِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْكِلَابِ، أَوْ كَأَنَّ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قَهْرِ الْمُشْرِكِينَ، حَيْثُ يُقَاتِلُهُمْ بِمَنْ يُوَافِقُهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي تَصْحِيحِ أَمَانِهِمْ بَلْ فِي إبْطَالِهِ. - قَالَ: فَأَمَّا أَمَانُ الْغُلَامِ الَّذِي رَاهَقَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ فَعَقَلَ الْإِسْلَامَ وَوَصَفَهُ. فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِ (67 ب) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. جَائِزٌ. لِأَنَّهُ يَصِحُّ إسْلَامُهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا. وَمَنْ صَحَّ إيمَانُهُ صَحَّ أَمَانُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمَانَ نُصْرَةُ الدِّينِ بِالْقَوْلِ. فَإِذَا اُعْتُبِرَ قَوْلُ مِثْلِهِ فِي أَصْلِ الدِّينِ فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ وَالنَّظَرُ فِي الْأَمَانِ إنَّهُ مَسْتُورٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ اعْتَدَلَ، وَاعْتِدَالُ الْحَالِ لَا يَكُونُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، ثُمَّ هُوَ لَا يَمْلِكُ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْخَيْرِيَّةَ فِي الْأَمَانِ لِمَنْ يَكُونُ مَالِكًا لِلْقِتَالِ مُبَاشِرًا لَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا فِي الْقِتَالِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ: يَصِحُّ أَمَانُهُ لِكَوْنِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ. وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا كَانَ يَقُولُ: لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَدِلِ الْحَالِ، فَلَا يَتِمُّ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَمَانِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 [بَابُ أُعْطِي الْأَمَانِ لِلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ أُصِيبُوا بَعْدَ أَمَانِهِمْ] 43 - بَابُ الْأَمَانِ ثُمَّ يُصَابُ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ أَمَانِهِمْ. 354 - قَالَ: رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَمَّنَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوا الرِّجَالَ وَأَصَابُوا النِّسَاءَ وَالْأَمْوَالَ فَاقْتَسَمُوهَا، وَوُلِدَ مِنْهُنَّ لَهُمْ أَوْلَادٌ، ثُمَّ عَلِمُوا بِالْأَمَانِ، فَعَلَى الْقَاتِلِينَ دِيَةُ الْقَتْلَى. لِأَنَّ أَمَانَ الْوَاحِدِ نَافِذٌ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَظْهَرُ بِهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَالْقَتْلُ مِنْ الْقَاتِلِينَ كَانَ بِصِفَةِ الْخَطَأِ حِين لَمْ يَعْلَمُوا بِالْأَمَانِ، أَوْ بِصِفَةِ الْعَمْدِ إنْ عَلِمُوا بِالْأَمَانِ، وَلَكِنْ مَعَ قِيَامَ الشُّبْهَةِ الْمُبِيحَةِ وَهِيَ الْمُحَارَبَةُ. فَتَجِبُ الدِّيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَالنِّسَاءُ وَالْأَمْوَالُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمْ لِبُطْلَانِ الِاسْتِرْقَاقِ بِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ، وَيَغْرَمُونَ لِلنِّسَاءِ أَصْدُقَهُنَّ لِأَجْلِ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ بَاشَرُوا الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَسَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ، فَيَجِبُ الْمَهْرُ وَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 لِأَنَّهُمْ انْفَصِلُوا مِنْ حَرَائِرَ فَكَانُوا أَحْرَارَ الْأَصْلِ، بِغَيْرِ قِيمَةٍ، مُسْلِمِينَ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَّبِعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا. 355 - وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ قَالَ: حَاصَرْنَا مَدِينَةً بِالْأَهْوَازِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَفَتَحْنَاهَا، وَقَدْ كَانَ صُلْحًا لَهُمْ مِنْ عُمَرَ، فَأَصَبْنَا نِسَاءً فَوَقَعْنَا عَلَيْهِنَّ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْنَا أَنْ خُذُوا أَوْلَادَكُمْ وَرُدُّوا إلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَتْ تُسْتَرَ فُتِحَتْ صُلْحًا - وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ - فَكَفَرَ أَهْلُهَا، فَغَزَاهُمْ الْمُهَاجِرُونَ فَسَبَوْهُمْ، وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ نِسَاءَهُمْ حَتَّى وَلَدْنَ لَهُمْ، فَأَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرَدِّ النِّسَاءِ عَلَى حُرِّيَّتِهِنَّ وَفَرَّقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ سَادَاتِهِنَّ. فَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّ الْقَوْمَ حِينَ كَفَرْوِ لَمْ يَغْلِبُوا عَلَى الدَّارِ وَلَمْ يَجْرِ فِيهَا حُكْمَ الشِّرْكِ وَلَمْ تَصِرْ دَرَاهِمُ دَارَ حَرْبٍ. فَلِهَذَا لَمْ (68 آ) يَرَ عُمَرُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا. وَعَنْ شُوَيْسٍ قَالَ: لَقَدْ خَشِيت أَنْ يَكُونَ مِنْ صُلْبِي بِمَيْسَانَ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ. قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: كُنْت جِئْت بِجَارِيَةٍ فَنَكَحْتهَا زَمَانًا. ثُمَّ جَاءَ كِتَابُ عُمَرَ فَرَدَدْتهَا إذَا رَدَّ النَّاسُ. وَإِنَّمَا خَافَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَدَّهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ عِنْدَهُ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ. وَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهَا حَامِلٌ أَوْ غَيْرُ حَامِلٍ. - وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: «لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَنَعَ خَالِدٌ بِبَنِي جَذِيمَةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاذْهَبْ بِهِ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْك» . يَعْنِي مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ الْخُمَاشَاتِ وَالذُّحُولِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فَدَلَّهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدٌ. فَخَرَجَ إلَيْهِمْ عَلِيٌّ بِذَلِكَ الْمَالِ فَوَدَى لَهُمْ كُلَّ مَا أَصَابَ خَالِدٌ مِنْهُمْ، حَتَّى إنَّهُ أَدَّى لَهُمْ مِيلَغَةَ الْكَلْبِ. حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَطْلُبُونَهُ وَبَقِيَتْ مَعَ عَلِيٍّ بَقِيَّةٌ مِنْ الْمَالِ، قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذِهِ الْبَقِيَّةُ مِنْ الْمَالِ لَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا أَصَابَ خَالِدٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا تَعْلَمُونَهُ. فَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا أَصَابُوا شَيْئًا مِمَّا كَانَ فِي أَمَانٍ أَوْ مُوَادَعَةٍ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ أُصِيبَ لَهُمْ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ. وَكَانَ خَالِدٌ أَصَابَ ذَلِكَ خَطَأً، وَكَانَتْ عَاقِلَتُهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ قُوَّتَهُ وَنُصْرَتَهُ كَانَتْ بِهِ. وَلِهَذَا أَدَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَإِنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ فِي الدِّمَاءِ لَا فِي الْأَمْوَالِ، وَمَا أُطْلِقَ مِنْ لَفْظِ الدِّيَةِ فِي بَذْلِ الْمَالِ إنَّمَا أَطْلَقَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَالِاتِّبَاعُ لِبَذْلِ النَّفْسِ. فَاسْمُ الدِّيَةِ حَقِيقَةٌ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بَذْلَ النَّفْسِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْأَدَاءِ يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ مَجَازًا. وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ. فَإِنَّهُ قَالَ: هَذَا لَكُمْ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا تَعْلَمُونَهُ. وَاسْتَحْسَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْهُ. - قَالَ: وَأَيُّمَا عَسْكَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَاصَرُوا حِصْنًا أَوْ مَدِينَةً فَأَسْلَمَ بَعْضُهُمْ، كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . فَأَمَّا زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا مَعَهُ فَهُمْ فَيْءٌ، لِأَنَّ الصِّغَارَ صَارُوا مُسْلِمِينَ تَبَعًا لَهُ. فَأَمَّا الْكِبَارُ مَا صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ، وَزَوْجَتُهُ كَذَلِكَ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ (68 ب) بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ ثَعْلَبَةَ وَأُسَيْدًا ابْنَيْ سَعْيَةَ وَأُسَيْدَ بْنَ عُبَيْدٍ «قَالُوا لِبَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَاصِرًا لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَسْلِمُوا تَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ. هَذَا وَاَللَّهِ الَّذِي كَانَ أَخْبَرَكُمْ بِهِ بَنُو الْهَيَبَانِ قَالُوا: لَيْسَ بِهِ» . وَقِصَّةُ الْهَيَبَانِ مَذْكُورَةٌ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُ كَانَ حَبْرًا مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ قَدِمَ عَلَى يَهُودِ يَثْرِبَ قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ فَجَمَعَهُمْ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ لَمْ تَرَكْت أَرْضَ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ: يَعْنِي الْخَصِبِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ فَنَزَلْت بِأَرْضِ الْجَدْبِ وَالشِّدَّةِ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: لِأَجْلِ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّ زَمَانَهُ وَهَذَا مُهَاجِرُهُ، وَكُنْت أَرْجُو أَنْ أُدْرِكَهُ، فَمَنْ يُدْرِكُهُ مِنْكُمْ فَلْيُقْرِئْهُ مِنَى السَّلَامَ وَلْيُؤْمِنْ بِهِ، فَإِنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَخَيْرُ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي فِي صَبِيحَتِهَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ ابْنَا سَعْيَةَ وَابْنُ عُبَيْدٍ حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمُوا وَأَمِنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحَاصَرَ يَأْمَنُ بِالْإِسْلَامِ كَمَا يَأْمَنُ غَيْرُ الْمُحَاصَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ الْعَدُوِّ أَشَارَ إلَيْهِ رَجُلٌ بِأُصْبُعِهِ: إنَّك إنْ جِئْت قَتَلَتْك، فَجَاءَهُ فَهُوَ آمِنٌ فَلَا يَقْتُلْهُ. وَبَعْدَ هَذَا نَأْخُذُ فَنَقُولُ: إذَا أَشَارَ إلَيْهِ بِإِشَارَةِ الْأَمَانِ وَلَيْسَ يَدْرِي الْكَافِرُ مَا يَقُولُ فَهُوَ آمِنٌ. لِأَنَّهُ بِالْإِشَارَةِ دَعَاهُ إلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُدْعَى بِمِثْلِهِ الْآمِنُ لَا الْخَائِفُ، وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ: إنْ جِئْت قَتَلْتُك، لَا طَرِيقَ لِلْكَافِرِ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِدُونِ الِاسْتِكْشَافِ مِنْهُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْرَبَ مِنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْأَمَانِ بِظَاهِرِ الْإِشَارَةِ وَإِسْقَاطُ مَا وَرَاءِ ذَلِكَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ. فَإِنَّ ظَاهِرَ إشَارَتِهِ أَمَانٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: إنْ جِئْت قَتَلْتُك، بِمَعْنَى النَّبْذِ لِذَلِكَ الْأَمَانِ. فَمَا لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّبْذِ كَانَ آمِنًا عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أَيْ سَوَاءٌ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالنَّبْذِ، وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى فِيهِ فَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وَمَبْنَى الْأَمَانِ عَلَى التَّوَسُّعِ حَتَّى يَثْبُتَ بِالْمُحْتَمَلِ مِنْ الْكَلَامِ، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ بِالْمُحْتَمَلِ مِنْ الْإِشَارَةِ. 360 - وَبَيَانُ هَذَا فِي حَدِيثِ الْهُرْمُزَانِ. فَإِنَّهُ لَمَّا أَتَى بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ: تَكَلَّمَ. قَالَ: أَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ حَيٍّ أَمْ كَلَامِ مَيِّتٍ؟ فَقَالَ عُمَرُ: كَلَامُ حَيٍّ. فَقَالَ: كُنَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لَمْ يَكُنْ لَنَا وَلَا لَكُمْ دِينٌ. فَكُنَّا نَعُدُّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ بِمَنْزِلَةِ الْكِلَابِ. فَإِذَا أَعَزّكُمْ اللَّهُ بِالدِّينِ وَبَعَثَ رَسُولَهُ مِنْكُمْ لَمْ نُطِعْكُمْ. فَقَالَ عُمَرُ: أَتَقُولُ هَذَا وَأَنْتَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِينَا؟ اُقْتُلُوهُ. فَقَالَ: أَفِيمَا عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ أَنْ تُؤَمِّنُوا أَسِيرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ثُمَّ تَقْتُلُوهُ؟ فَقَالَ: مَتَى أَمَّنْتُك؟ فَقَالَ: قُلْت لِي تَكَلَّمَ بِكَلَامِ حَيٍّ. وَالْخَائِفُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَكُونُ حَيًّا. فَقَالَ عُمَرُ: قَاتَلَهُ اللَّهُ أَخَذَ الْأَمَانَ وَلَمْ أَفْطِنْ (69 آ) بِهِ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي بَابِ الْأَمَانِ. - قَالَ: فَإِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ قَوْمًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . لِأَنَّ الْأَمَانَ كَانَ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَحْفَظُوا قُوَّةَ أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا انْقَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ كَانَ النَّظَرُ وَالْخَيْرِيَّةُ فِي النَّبْذِ إلَيْهِمْ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ قِتَالِهِمْ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ لَهُمْ الشَّوْكَةُ. وَالنَّبْذُ لُغَةً هُوَ الطَّرْحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] . - وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ طَرْحُ الْأَمَانِ بِإِعْلَامِهِمْ وَإِعَادَتِهِمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْأَمَانِ، حَتَّى إنْ كَانُوا لَمْ يَبْرَحُوا حِصْنَهُمْ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ بَعْدَ الْإِعْلَامِ. لِأَنَّهُمْ فِي مَنَعْتهمْ، فَصَارُوا كَمَا كَانُوا. - وَإِنْ نَزَلُوا وَصَارُوا فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ آمِنُونَ حَتَّى يَعُودُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ كَمَا كَانُوا. لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا بِسَبَبِ الْأَمَانِ، فَلَوْ عَمَلَ النَّبْذُ فِي رَفْعِ أَمَانِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا مُمْتَنِعِينَ كَانَ ذَلِكَ خِيَانَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ فَكَانَ يُشِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: حَتَّى نَفِيَ بِالْعَهْدِ ثُمَّ نُغِيرُ عَلَيْهِمْ يَعْنِي أَنَّ الْعَهْدَ كَانَ إلَى مُدَّةٍ، فَفِي آخِرِ الْمُدَّةِ سَارَ إلَيْهِمْ لَيَقْرَبَ مِنْهُمْ حَتَّى يُغِيرَ عَلَيْهِمْ مَعَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. قَالَ: وَإِذَا شَيْخٌ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ. وَكَانَ هَذَا الشَّيْخُ عَمْرَو بْنَ عَنْبَسَةَ السُّلَمِيَّ. تَبَيَّنَ لَهُ بِمَا قَالَ أَنَّ فِي صُنْعِهِ مَعْنَى الْغَدْرِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَدْنُو مِنْهُمْ يُرِيدُ غَارَتَهُمْ، وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَدْنُو مِنْهُمْ لِلْأَمَانِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا قَوْلُك: وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ؟ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يُمْضِيَ أَمَدَهَا وَيُنْبَذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» . وَفِي هَذَا دَلِيلُ وُجُوبِ التَّحَرُّزِ عَمَّا يُشْبِهُ الْغَدْرَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 [بَابُ مَا لَا يَكُونُ أَمَانًا] 44 - بَابُ مَا لَا يَكُونُ أَمَانًا 365 - قَالَ: وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، أَوْ جِئْت أُرِيدُ أَنْ أُقَاتِلَ مَعَكُمْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَ مَنْ أَحَبَّ مِنْهُمْ وَيَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا شَاءَ. لِأَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَ لَيْسَ بِأَمَانٍ مِنْهُ لَهُمْ، إنَّمَا هُوَ خِدَاعٌ بِاسْتِعْمَالِ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ. فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ: أَيْ آدَمِيٌّ مِنْ جِنْسِكُمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: جِئْت لِأُقَاتِلَ مَعَكُمْ الْمُسْلِمِينَ: أَيْ أَهْلَ الْبَغْيِ إنْ نَشِطْتُمْ فِي ذَلِكَ، أَوْ أَضْمَرَ فِي كَلَامِهِ: عَنْ، أَيْ جِئْت لِأُقَاتِلَ مَعَكُمْ دَفْعًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ أَمَانًا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ أَسِيرٌ مَقْهُورٌ فِي أَيْدِيهِمْ فَكَيْفَ يُؤَمِّنُهُمْ، إنَّمَا حَاجَتُهُ إلَى طَلَبِ الْأَمَانِ مِنْهُمْ. وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مِنْ طَلَبِ الْأَمَانِ شَيْءٌ. 366 - ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْآثَارِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ (69 ب) رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً وَحْدَهُ إلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيِّ إلَى نَخْلَةَ أَوْ بِعُرَنَةَ. وَبَلَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَجْمَعُ لَهُ، أَيْ جَمَعَ الْجَيْشَ لِقِتَالِهِ، وَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ وَقَالَ: انْتَسِبْ إلَى خُزَاعَةَ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ سُفْيَانَ كَانَ مِنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَعْرِفُهُ. فَقَالَ: إنَّك إذَا رَأَيْته هِبْتَهُ. وَكُنْت لَا أَهَابُ الرِّجَالِ. فَأَقْبَلْت عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ تَصْغِيرُ الْعَشِيَّةِ، فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَخَشِيت أَنْ أُصَلِّيَ فَأُعْرَفَ فَأَوْمَأْت إيمَاءً وَأَنَا أَمَشَى. وَبِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى أَنَّ (الْمُنْهَزِمَ مَاشِيًا يُومِئُ ثُمَّ يُعِيدُ) . قَالَ: حَتَّى أُدْفَعَ إلَى رَاعِيَةٍ لَهُ. فَقُلْت: لِمَنْ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: لِابْنِ سُفْيَانَ. فَقُلْت: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَتْ: جَاءَك الْآنَ. فَلَمْ أَنْشَبُ أَنْ جَاءَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا - أَيْ لَمْ أَلْبَثْ - فَلَمَّا رَأَيْته وَجَدْتنِي أَقْطُرُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَفْكَلُ، أَيْ تَرْتَعِدُ فَرَائِصِي هَيْبَةً مِنْهُ. فَجَاءَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ نَسَبَنِي فَانْتَسَبْت إلَى خُزَاعَةَ. وَذُكِرَ فِي الطَّرِيقِ الْآخِرِ: كُنْت أَعْتَزَى إلَى جُهَيْنَةَ. أَيْ أَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ثُمَّ قُلْت لَهُ: جِئْت لِأَنْصُرَك وَأُكْثِرَك وَأَكُونَ مَعَك. وَمَعْنَاهُ لِأَنْصُرَك بِالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَبِالْمَنْعِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ قِتَالُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. فَقِيلَ: كَيْفَ يَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ: يَكُفُّهُ عَنْ ظُلْمِهِ» . وَقَوْلُهُ: أُكْثِرَك أَيْ أَجْعَلُك إرَبًا إرَبًا فَأُكْثِرَ أَجْزَاءَك إنْ لَمْ تُؤْمِنْ وَأَكُونُ مَعَك إلَى أَنْ أَقْتُلَك. فَقَالَ لِلْجَارِيَةِ: احْلِبِي، فَحَلَبَتْ. ثُمَّ نَاوَلَتْنِي فَمَصَصْت شَيْئًا يَسِيرًا ثُمَّ دَفَعْته إلَيْهِ، فَعَبَّ فِيهِ كَمَا يَعُبُّ الْجَمَلُ، حَتَّى إذَا غَابَ أَنْفُهُ فِي الرَّغْوَةِ صَوَّبْتُهُ وَقُلْت لِلْجَارِيَةِ: لَئِنْ تَكَلَّمْت لَأَقْتُلَنَّكِ. وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا: فَمَشَيْت مَعَهُ حَتَّى اسْتَحْلَى حَدِيثِي. ثُمَّ أَرَيْته أَنَّى وَطِئْت عَلَى غُصْنِ شَوْكٍ فَشِيكَتْ رِجْلِي. فَقَالَ: الْحَقْ يَا أَخَا جُهَيْنَةَ. فَجَعَلْت أَتَخَلَّفُ وَيَسْتَلْحِقُنِي. فَلَحِقْته وَهُوَ مُوَلًّى. فَضَرَبْت عُنُقَهُ وَأَخَذْت بِرَأْسِهِ. ثُمَّ خَرَجْت أَشْتَدُّ حَتَّى صَعِدْت الْجَبَلَ فَدَخَلْت غَارًا، وَأَقْبَلَ الطَّلَبُ. وَفِي رِوَايَةٍ: خَرَجَتْ الْخَيْلُ تُوَزَّعُ فِي كُلِّ وَجْهٍ فِي الطَّلَبِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وَأَنَا مُتَمَكِّنٌ فِي الْجَبَلِ. فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مَعَهُ إدَاوَةٌ، وَنَعْلَاهُ فِي يَدِهِ، وَكُنْت حَافِيًا. فَجَلَسَ يَبُولُ، فَوَضَعَ إدَاوَتَهُ وَنَعْلَيْهِ. وَضَرَبْت الْعَنْكَبُوتَ عَلَى الْغَارِ. أَوْ قَالَ: خَرَجَتْ حَمَامَةٌ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ. فَنَزَلَ وَتَرَك نَعْلَيْهِ وَإِدَاوَتَهُ. فَخَرَجْت وَلَبِسْت النَّعْلَيْنِ وَأَخَذْت الْإِدَاوَةَ فَكُنْت أَسِيرُ اللَّيْلَ وَأَتَوَارَى بِالنَّهَارِ، حَتَّى جِئْت الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ. فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: أَفْلَحَ الْوَجْهُ - وَهَذَا لَفْظٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ الْعَرَبُ خِطَابًا لِمَنْ نَالَ الْمُرَادَ وَفَازَ بِالنُّصْرَةِ - فَقُلْت: وَجْهُك الْكَرِيمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَخْبَرْته خَبَرِي، فَدَفَعَ إلَيَّ (70 أ) عَصًا وَقَالَ: " تَخَصَّرْ بِهَذِهِ يَا ابْنَ أُنَيْسٍ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّ الْمُتَخَصِّرِينَ فِي الْجَنَّةِ قَلِيلٌ ". قِيلَ مَعْنَاهُ: تَحَكَّمْ بِهَا فِي الْجَنَّةِ كَمَا يَتَحَكَّمُ الْمُلُوكُ بِمَا يَشَاءُونَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لِيَكُنْ هَذَا عَلَامَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أُجَازِيَك عَلَى صَنِيعِك بِسُؤَالِ الزِّيَادَةِ فِي الدَّرَجَةِ لَك، فَإِنَّ مِثْلَك مِمَّنْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَبِيِّهِ عَلَامَةٌ فَيُجَازِيَهُ عَلَى صَنِيعِهِ فِي الْجَنَّةِ. قِيلَ: فَكَانَتْ عِنْدَ ابْنِ أُنَيْسٍ. حَتَّى إذَا مَاتَ أَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُدْرِجُوهَا فِي كَفَنِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وَمُرَادُهُ مِنْ الْقِصَّةِ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ: جِئْت لِأَنْصُرَك وَأُكَثِّرُك، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَمَانًا مِنْهُ. 367 - وَذَكَرَ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُدُومُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَإِعْلَانُهُ بِالشَّرِّ وَقَوْلُهُ الْأَشْعَارَ، وَكَعْبٌ هَذَا مِنْ عُظَمَاءِ الْيَهُودِ بِيَثْرِبَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] وَكَانَ يَسْتَقْصِي فِي إظْهَارِ الْعَدَاوَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ بَعْدَ حَرْبِ بَدْرٍ. وَجَعَلَ يَرْثِي قَتَلَاهُمْ، وَيَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَشْعَارِهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الِانْتِقَامِ. فَمِنْ ذَلِكَ الْقَصِيدَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا: طَحَنَتْ رَحَا بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ يُسْتَهَلُّ وَيُدْمَعُ فَلَمَّا رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ لِي بِابْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَانِي. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وَأَنَا أَقْتُلُهُ: قَالَ: فَافْعَلْ. فَمَكَثَ ابْنُ مَسْلَمَةَ أَيَّامًا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: تَرَكْت الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْت لَك قَوْلًا فَلَا أَدْرِي أَفِي بِهِ أَمْ لَا. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا عَلَيْك بِالْجَهْدِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ تَرَكَ الْإِصَابَةَ مِنْ اللَّذَّاتِ قَبْلَ أَنْ يُوَفِّيَ بِمَا وَعَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ قَصَدَ إلَى خَيْرٍ أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى الْإِصَابَةِ مِنْ اللَّذَّاتِ. إلَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لَهُ أَنَّ نَفْسَهُ لَا تَتَقَوَّى إلَّا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: 8] وَأَنَّ عَلَيْهِ الْجَهْدُ بِالْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ لَا غَيْرُ. قَالَ: فَاجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُحَمَّدٌ وَأُنَاسٌ مِنْ الْأَوْسِ مِنْهُمْ عُبَادَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ سِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ نَقْتُلُهُ. فَأْذَنْ لَنَا فَلِنَقُلْ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا مِنْهُ، أَيْ نَخْدَعُهُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَإِظْهَارِ النَّيْلِ مِنْك. قَالَ: فَقُولُوا. فَخَرَجَ إلَيْهِ أَبُو نَائِلَةَ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَتَحَدَّثَ مَعَهُ وَتَنَاشَدَ الْأَشْعَارَ. ثُمَّ قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلِ عَلَيْنَا مِنْ الْبَلَاءِ. يَعْنِي النَّبِيَّ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذِكْرِ الْبَلَاءِ النِّعْمَةِ. فَالْبَلَاءُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ كَمَا يُذْكَرُ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ، فَإِنَّهُ مِنْ الِابْتِلَاءِ. وَذَلِكَ يَكُونُ بِهِمَا كَمَا قَالَتْ الصَّحَابَةُ: اُبْتُلِينَا (70 ب) بِالضَّرَّاءِ فَصَبْرِنَا، وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ. وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] . أَيْ فِي إنْجَائِكُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ. وَقِيلَ: أَيْ فِي ذَبْحِهِ أَبْنَاءَكُمْ وَاسْتِحْيَائِهِ نِسَائِكُمْ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ. ثُمَّ قَالَ: حَارَبَتْنَا الْعَرَبُ وَرَمَتْنَا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ عَنَّا، حَتَّى جَهِدَتْ الْأَبْدَانُ، وَضَاعَ الْعِيَالُ، وَأَخَذْنَا بِالصَّدَقَةِ، وَلَا نَجِدُ مَا نَأْكُلُ. قَالَ كَعْبٌ: قَدْ وَاَللَّهِ كُنْت أُحَدِّثُك بِهَذَا يَا ابْنَ سَلَامَةَ: إنَّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَى هَذَا. قَالَ سِلْكَانُ: وَمِعَى رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي. وَقَدْ أَرَدْت أَنْ آتِيَك بِهِمْ لِنَبْتَاعَ مِنْك طَعَامًا وَتَمْرًا وَتُحْسِنَ فِي ذَلِكَ إلَيْنَا وَنَرْهَنَك مَا يَكُونُ لَك فِيهِ ثِقَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 قَالَ كَعْبٌ: أَمَا إنَّ رِفَافِي تَتَقَصَّفُ تَمْرًا مِنْ عَجْوَةٍ يَغِيبُ فِيهَا الضِّرْسُ. وَالرِّفَافُ: جَمْعُ الرَّفِّ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْمَعُ فِيهِ التَّمْرُ، شِبْهُ الْخُنْبُقِ. وَقَوْلُهُ تَتَقَصَّفُ: أَيْ تَتَكَسَّرُ مِنْ كَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ التَّمْرِ. وَوَصَفَ جُودَتَهَا بِقَوْلِهِ: يَغِيبُ فِيهَا الضِّرْسُ. قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ يَا أَبَا نَائِلَةَ مَا كُنْت أُحِبُّ أَنْ أَرَى هَذِهِ الْخَصَاصَةِ، يَعْنِي شِدَّةَ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كُنْت لَمِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ عَلَيَّ. فَمَاذَا تَرْهَنُونَ؟ أَتَرْهَنُونَنِي أَبْنَاءَكُمْ وَنِسَائِكُمْ؟ قَالَ: لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تَفْضَحَنَا وَتُظْهِرَ أَمَرَنَا. وَلَكِنَّا نَرْهَنُك مِنْ الْحَلَقَةِ مَا تَرْضَى بِهِ يَا كَعْبُ. قَالَ: إنَّ فِي الْخَلِيعَةِ لَوَفَاءٌ. يَعْنِي السِّلَاحَ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ سِلْكَانُ كَيْلًا يُنْكِرُهُمْ إذَا جَاءُوا إلَى السِّلَاحِ. فَرَجَعَ أَبُو نَائِلَةَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى مِيعَادٍ. فَأَتَى أَصْحَابَهُ وَأَجْمَعُوا أَمَرَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوهُ إذَا أَمْسَوْا. ثُمَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِشَاءً فَأَخْبَرُوهُ. فَمَشَى مَعَهُمْ حَتَّى أَتَى الْبَقِيعَ، ثُمَّ وَجَّهَهُمْ وَقَالَ: امْضُوا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ. ثُمَّ دَعَا لَهُمْ. وَذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ مِثْلَ النَّهَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فَمَضَوْا حَتَّى أَتَوْهُ. فَلَمَّا انْتَهَوْا إلَى حِصْنِهِ هَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ، وَكَانَ ابْنُ الْأَشْرَفِ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ. فَوَثَبَ، فَأَخَذَتْ امْرَأَتُهُ بِنَاحِيَةِ مِلْحَفَتِهِ فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ إنَّك رَجُلٌ مُحَارِبٌ، وَلَا يَنْزِلُ مِثْلُك فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ. قَالَ: إنَّمَا هُوَ أَخِي أَبُو نَائِلَةَ، وَاَللَّهِ لَوْ وَجَدَنِي نَائِمًا مَا أَيْقَظَنِي. ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْمِلْحَفَةَ فَنَزَلَ وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ دُعِيَ الْفَتَى لِطَعْنَةٍ لَأَجَابَا ثُمَّ نَزَلَ إلَيْهِمْ فَحَيَّاهُمْ، وَتَحَدَّثُوا سَاعَةً، ثُمَّ انْبَسَطَ إلَيْهِمْ، فَقَالُوا: وَيْحَك يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ هَلْ لَك أَنْ نَمْشِيَ إلَى شَرْجِ الْعَجُوزِ فَنَتَحَدَّثَ فِيهِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَخَرَجُوا يَتَمَشَّوْنَ. فَلَمَّا تَوَجَّهُوا قِبَلَ الشَّرْجِ أَدْخَلَ أَبُو نَائِلَةَ يَدَهُ فِي رَأْسِ كَعْبٍ وَقَالَ: وَيْحَك يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ مَا أَطْيَبَ عِطْرُك هَذَا. ثُمَّ مَشَى سَاعَةً فَعَادَ بِمِثْلِهَا. حَتَّى إذَا اطْمَأَنَّ إلَيْهِ أَخَذَ بِقُرُونِ رَأْسِهِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: اُقْتُلُوا عَدُوَّ اللَّهِ فَضَرَبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ. فَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا. يَعْنِي رَدَّ بَعْضُهَا بَعْضًا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَذَكَرْت مَغُولًا كَانَ فِي سَيْفِي وَهُوَ يُشْبِهُ الْخَنْجَرَ، فَانْتَزَعْته فَوَضَعْته فِي سُرَّتِهِ، ثُمَّ تَحَامَلْت عَلَيْهِ فَغَطَطْته، أَيْ غَيَّبْته فِيهِ، حَتَّى انْتَهَى إلَى عَانَتِهِ، فَصَاحَ عَدُوُّ اللَّهِ صَيْحَةً مَا بَقِيَ أُطْمٌ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 آطَامِ الْيَهُودِ إلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْيَهُودِ يُوقِدُونَ النَّارَ بِاللَّيْلِ عِنْدَ الْفَزَعِ. قَالَ ابْنُ سُنَيْنَةَ، يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ: إنِّي أَجِدُ رِيحَ دَمٍ بِيَثْرِبَ مَسْفُوحٍ. وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِقْدَارَ فَرْسَخٍ. قَالَ: وَقَدْ أَصَابَ بَعْضُ الْقَوْمِ الْحَارِثَ بْنَ أَوْسٍ بِسَيْفٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَ كَعْبًا فَكَلَمَهُ فِي رِجْلِهِ، أَيْ جَرَحَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ حَتَّى أَخَذُوا عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، ثُمَّ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ عَلَى بُعَاثَ. حَتَّى إذَا كَانُوا بِحَرَّةِ الْعَرِيضِ - وَهَذِهِ أَسْمَاءُ الْمَوَاضِعِ - نَزَفَ الْحَارِثُ الدَّمَ، يَعْنِي كَثُرَ سَيَلَانُ الدَّمِ مِنْ جِرَاحَتِهِ فَعَطَفُوا عَلَيْهِ، أَيْ رَحِمُوهُ أَوْ حَمَلُوهُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى أَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا أَتَوْا الْبَقِيعَ كَبَّرُوا وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ اللَّيْلَةَ يُصَلِّي. فَلَمَّا سَمِعَ تَكْبِيرَهُمْ عَرَفَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ. ثُمَّ أَتَوْا بِصَاحِبِهِمْ الْحَارِثَ بْنَ أَوْسٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَفَلَ عَلَى جُرْحِهِ فَلَمْ يُؤْذِهِ. وَأَخْبَرُوهُ بِخَبَرِ عَدُوِّ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَى أَهْلِهِمْ. فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَجَمَّعُوا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لِلتَّحَدُّثِ بِمَا جَرَى وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ الْحَزْمِ وَالسِّيَاسَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 قَالَ: فَخَافَتْ الْيَهُودُ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَلَمْ يَنْطِقُوا بِشَيْءٍ، وَخَافُوا أَنْ يُبَيَّتُوا كَمَا بُيِّتَ ابْنُ الْأَشْرَفِ. وَكَانَ ابْنُ سُنَيْنَةَ مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ، وَكَانَ حَلِيفًا لِحُوَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ. وَكَانَ أَخُوهُ مُحَيِّصَةُ قَدْ أَسْلَمَ، فَغَدَا مُحَيِّصَةُ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ فَقَتَلَهُ. فَجَعَلَ حُوَيِّصَةُ يَضْرِبُ مُحَيِّصَةَ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْهُ، وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ قَتَلْته. أَمَا وَاَللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِك مِنْ مَالِهِ - لِأَنَّهُ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا - فَقَالَ مُحَيِّصَةُ: وَاَللَّهِ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِك الَّذِي أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتُك. فَقَالَ لَهُ: لَوْ أَمَرَك مُحَمَّدٌ بِقَتْلَى لَقَتَلْتَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ حُوَيِّصَةُ: وَاَللَّهِ إنَّ دِينًا يَبْلُغُ مِنْك هَذَا لَدِينٌ مُعْجِبٌ. فَأَسْلَمَ حُوَيِّصَةُ يَوْمَئِذٍ وَأَنْشَأَ مُحَيِّصَةُ يَقُولُ: يَلُومُ ابْنُ أُمِّي لَوْ أُمِرْت بِقَتْلِهِ ... لَطَبَّقْت دَفْرَاه بِأَبْيَضَ قَاضِبٍ حُسَامٍ كَلَوْنِ الْمِلْحِ أُخْلِصَ صَقْلُهُ ... مَتَى مَا أُصَوِّبُهُ فَلَيْسَ بِكَاذِبِ وَمَا سَرَّنِي أَنَّى قَتَلْتُك طَائِعًا ... وَلَوْ أَنَّ لِي مَا بَيْنَ بُصْرَى وَمَأْرَب ثُمَّ أَعَادَ هَذَا الْحَدِيثَ بِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: 368 - أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ هُوَ الَّذِي أَتَى ابْنَ الْأَشْرَفِ فَقَالَ. يَا كَعْبُ قَدْ جِئْتُك لِحَاجَةٍ. قَالَ: مَرْحَبًا بِحَاجَتِك. قَالَ: جِئْتُك أَسْتَسْلِفُكَ تَمْرًا. قَالَ: مَا بَغَيْتُكُمْ إلَى مَسْأَلَةِ التَّمْرِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَلْفَ وَسْقٍ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يَدَعْ عِنْدَنَا شَيْئًا وَأَصْحَابَهُ. وَأَرَادَ بِهِ لَمْ (71 ب) يَدَعْ عِنْدَنَا شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَضُرُّنَا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ شَيْئًا مِنْ الشِّرْكِ أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إلَّا هَدَانَا إلَيْهِ. قَالَ كَعْبٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَاك النُّصْرَةَ فَانْظُرْ حَاجَتَك، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ رَهْنٍ. قَالَ: أَرْهَنُك دِرْعِي. قَالَ: لَعَلَّهَا دِرْعُ أَبِيك الزَّغْبَاءُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأْتِ بِمَنْ أَحْبَبْته وَخُذْ حَاجَتَك. قَالَ: فَإِنِّي آتِيك فِي خَمْرِ اللَّيْلِ. أَيْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَالْخَمْرُ مَا وَارَاكَ. فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنِّي أَطْلُبُك أَوْ آتِيك فِي حَاجَةٍ أَوْ أَنِّي احْتَجْت. . . الْحَدِيثَ. إلَى أَنْ نَزَلَ إلَى مُحَمَّدٍ وَآنَسَهُ شَيْئًا وَحَادَثَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي رَأْسِهِ. وَكَانَ جَعْدًا فَقَالَ: مَا أَطْيَبَ دُهْنَك. قَالَ: إنْ شِئْت أَرْسَلْت إلَيْك مِنْهُ. ثُمَّ عَادَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: قَدْ تَرَكْت يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ وَأَصْحَابُك هَذَا، يَعْنِي الدُّهْنَ. فَلَمَّا أَنْ خَلَّلَ أَصَابِعَهُ فِي رَأْسِهِ ضَرَبَ بِالْخِنْجَرِ سُرَّتَهُ، الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ. فَقَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ لِيَسْتَسْلِفَهُ تَمْرًا ثُمَّ قَتَلَهُ. وَلَمْ يَكُ ذَلِكَ مِنْهُ غَدْرًا. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمِثْلِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 [بَابُ الْأَمَانِ عَلَى الشَّرْطِ] 45 - بَابُ الْأَمَانِ عَلَى الشَّرْطِ 369 - قَالَ: وَإِذَا أَمَّنَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى كَذَا وَلَا يَخُونَهُمْ، فَإِنْ خَانَهُمْ فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ قَتْلِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَدِينَتِهِ أَوْ حِصْنِهِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ فِي أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ خَانَهُمْ، أَوْ لَمْ يَدُلَّهُمْ، فَاسْتَبَانَتْ لَهُمْ خِيَانَتُهُ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ وَصَارَ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ فَيْئًا. لِأَنَّ الشَّرْطَ هَكَذَا جَرَى بَيْنَهُمْ. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الشَّرْطُ أَمْلَكُ. أَيْ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَلِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحَ الدَّمِ، عَلَّقُوا حُرْمَةَ دَمِهِ بِالدَّلَالَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ، وَتَعْلِيقُ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِنْ انْعَدَمَ الشَّرْطُ بَقِيَ حِلُّ دَمِهِ عَلَى مَا كَانَ. وَلِأَنَّ النَّبْذَ بَعْدَ الْأَمَانِ وَالْإِعَادَةِ إلَى مَأْمَنِهِ إنَّمَا كَانَ مُعْتَبَرًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ، وَبِالتَّصْرِيحِ بِالشَّرْطِ قَدْ انْتَفَى مَعْنَى الْغَدْرِ. 370 - وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْكَتِيبَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا - يَعْنِي حِصْنًا مِنْ حُصُونِ خَيْبَرَ - وَكَانَ آخِرَ حُصُونِهِمْ. فَلَمَّا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ سَأَلُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّلْحَ. فَأَرْسَلَ إلَى ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ: انْزِلْ فَأُكَلِّمَك. فَقَالَ: نَعَمْ. فَصَالَحَهُ عَلَى حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْ خَيْبَرَ وَأَرْضِهَا، وَيُخَلُّونَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ أَوْ أَرَاضٍ، وَعَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْحَلْقَةِ، وَعَلَى الْبَزِّ إلَّا ثَوْبٌ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ. قَالَ: وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا. فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ كَتَمَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ آنِيَةً مِنْ فِضَّةٍ وَمَالًا كَثِيرًا. كَانَ فِي مَسْكِ الْجَمَلِ عِنْدَ كِنَانَةَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ. وَهَذِهِ كَانَتْ أَنْوَاعًا مِنْ الْحُلِيِّ كَانُوا يُعِيرُونَهَا أَهْلَ مَكَّةَ، رُبَّمَا قَدِمَ الْقَادِمُ مِنْ (72 آ) قُرَيْشٍ فَيَسْتَعِيرُهَا شَهْرًا لِلْعُرْسِ، يَكُونُ فِيهِمْ. فَكَانَ ذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ الْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرُ مِنْ آلِ أَبِي الْحُقَيْقِ. حَتَّى ذَكَرَ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُ ضَاعَ مِنْهَا شَيْءٌ مَرَّةً بِمَكَّةَ. فَغَرِمَ مَنْ ضَاعَ عَلَى يَدِهِ قِيمَةَ ذَلِكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَأَيْنَ الْآنِيَةُ وَالْأَمْوَالُ الَّتِي خَرَجْتُمْ بِهَا مِنْ الْمَدِينَةِ حِين أَجْلَيْتُكُمْ؟ فَقَالُوا: ذَهَبَتْ فِي الْحَرْبِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إنَّمَا كُنَّا نُمْسِكُهَا لِمِثْلِ يَوْمِنَا هَذَا، فَلَا وَاَللَّهِ مَا بَقِيَ عِنْدَنَا مِنْهَا شَيْءٌ. وَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إنْ وَجَدْته عِنْدَكُمْ أَقْتُلُكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وَفِي رِوَايَةٍ «قَالَ لِكِنَانَةَ وَرَبِيعَةَ ابْنَيْ أَبِي الْحُقَيْقِ: بَرِئَتْ مِنْكُمَا ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إنْ كَانَ عِنْدَكُمَا؟ قَالَا: نَعَمْ. قَالَ: فَكُلُّ مَا أَخَذْت مِنْ أَمْوَالِكُمْ فَهُوَ حَلَالٌ لِي وَلَا ذِمَّةَ لَكُمَا؟ قَالَا نَعَمْ فَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَعَشَرَةً مِنْ يَهُودَ. فَقَامَ يَهُودِيٌّ إلَى كِنَانَةَ فَقَالَ: إنْ كَانَ عِنْدَك أَوْ تَعْلَمُ عِلْمَهُ فَأَعْلِمْهُ لِتَأْمَنَ عَلَى دَمِك، فَوَاَللَّهِ لَيَطَّلِعَنَّ عَلَيْهِ، فَقَدْ اطَّلَعَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ. فَزَبَرَهُ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ. فَتَنَحَّى الْيَهُودِيُّ فَقَعَدَ. ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمَا الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَنْ يُعَذِّبَهُمَا وَيَسْتَأْصِلَ مَا عِنْدَهُمَا. فَعَذَّبَ كِنَانَةَ حَتَّى أَجَافَهُ، فَلَمْ يَعْتَرِفْ بِشَيْءٍ» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السِّيَاسَةِ لِيَظْهَرَ الْأَمْرُ وَيَتِمَّ الزَّجْرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّلْبِيسِ. قَالَ: «فَاعْتَرَفَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت كِنَانَةَ يَطُوفُ كُلَّ غَدَاةٍ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزُّبَيْرَ حَتَّى حَفَرَهَا وَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا ذَلِكَ الْكَنْزَ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَعْلَبَةَ بْنَ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ رَجُلًا ضَعِيفًا مُخْتَلِطَ الْعَقْلِ، قَالَ: لَيْسَ لِي عِلْمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 غَيْرَ أَنِّي كُنْت أَرَى كِنَانَةَ كُلَّ غَدَاةٍ يَطُوفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ. فَإِنْ كَانَ شَيْئًا دَفَنَهُ فَهُوَ فِيهَا. فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى تِلْكَ الْخَرِبَةِ فَحَفَرَ فَوَجَدَ ذَلِكَ الْكَنْزَ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَدْفَعَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ لِيَقْتُلَهُ بِأَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَقَدْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَلَّى عَلَى مَحْمُودٍ الرَّحَى» . وَإِنَّمَا اسْتَحَلَّ دِمَاءَهُمَا وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمَا لِمَكَانِ الشَّرْطِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، فَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَكَانَتْ تَحْتَ كِنَانَةَ، وَمَعَهَا ابْنَةُ عَمِّهَا، لَمْ يَسْبِ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ غَيْرَهُمَا. وَكَانَ قَدْ وَعَدَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ مِنْ سَبْي خَيْبَرَ. فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ صَفِيَّةَ فَأَعْطَاهُ مَكَانَهَا ابْنَةَ عَمِّهَا. وَأَمْسَكَ صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَهِيَ عَرُوسٌ بِحِدْثَانِ مَا دَخَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا. وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي أَنَّهَا كَانَتْ رَأَتْ فِي مَنَامِهَا فِي بَعْضِ تِلْكَ اللَّيَالِي أَنَّ الْقَمَرَ وَقَعَ فِي حِجْرِهَا مِنْ السَّمَاءِ. فَلَمَّا أَصْبَحَتْ قَصَّتْ رُؤْيَاهَا عَلَى كِنَانَةَ (72 ب) ، فَلَطَمَهَا لَطْمَةً عَلَى وَجْهِهَا وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَكُونِي زَوْجَةَ مُحَمَّدٍ؛ ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إلَى رَحْلِهِ. فَمَرَّ بِهَا وَسَطَ الْقَتْلَى. فَكَرِهَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: ذَهَبْت بِجَارِيَةٍ حَدِيثَةِ السِّنِّ إلَى الْقَتْلَى. لَقَدْ ذَهَبَتْ مِنْك الرَّحْمَةُ. فَاعْتَذَرَ بِلَالٌ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَرَرْت بِهَا إلَّا إرَادَةَ أَنْ تَرَى مَصَارِعَ قَوْمِهَا وَلَمْ أَدْرِ أَنَّك تَكْرَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا. فَأَمَرَ أُمَّ أَيْمَنَ أَنْ تُصْلِحَهَا لَهُ. فَبَنَى بِهَا فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 لَهَا مَنْزِلَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَّبَ بَعِيرَهَا لِتَرْكَبَ بَعْدَ مَا بَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرْكِبَهَا بِنَفْسِهِ فَأَمَرَهَا أَنْ تَضَعَ رِجْلَهَا عَلَى فَخْذِهِ وَتَرْكَبَ فَوَضَعَتْ رُكْبَتَهَا عَلَى رُكْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَعْظَمَتْ وَضْعَ رِجْلِهَا عَلَى رُكْبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ. فَاسْتَحْسَنَ رَسُولُ اللَّهِ ذَلِكَ مِنْهَا، وَبَعْدَ مَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ دَخَلَتْ عَائِشَةُ مُتَنَكِّرَةً مَعَ النِّسَاءِ مَنْزِلَهَا لِتَرَاهَا. فَوَجَدَتْ عِنْدَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَاعَةً مِنْ نِسَاءِ عَشِيرَتِهَا. فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ مِنْ النِّسَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا شَيْئًا حَتَّى عَادَتْ إلَى مَنْزِلِهَا. ثُمَّ جَاءَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْت صَفِيَّةَ؛ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْت شَيْئًا غَيْرَ ابْنَةِ يَهُودِيٍّ بَيْنَ يَهُودِيَّاتٍ، وَلَكِنِّي سَمِعْت أَنَّك تُحِبُّهَا. فَقَالَ: لَا تَقُولِي يَا عَائِشَةُ. فَإِنَى لَمْ أَرَ فِي وَجْهِهَا كَبْوَةً حِينَ عَرَضْت عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ. ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إذَا اجْتَمَعَ نِسَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهَا فِي مَوْضِعٍ يُخَاطِبْنَهَا: يَا ابْنَةَ الْيَهُودِيِّ. فَشَكَتْ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: إذَا قُلْنَ لَك هَذَا فَقُولِي: مَنْ مِنْكُنَّ مِثْلِي؟ أَبَى نَبِيٌّ وَعَمِّي نَبِيٌّ وَزَوْجِي نَبِيٌّ. فَإِنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَوْلَادِ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَلَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ لَهُنَّ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَيْسَ هَذَا مِنْ كَيْسِك يَا ابْنَةَ الْيَهُودِيِّ. وَمَنْ جَوَّزَ التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ اسْتَدَلَّ بِإِعْطَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَحْيَةَ ابْنَةَ عَمِّ صَفِيَّةَ. وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ: 371 - إنَّ الْكَتِيبَةَ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِصًا فَلِذَلِكَ أَعْطَاهُ الْجَارِيَةَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّزَ الْمُعَامَلَةَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ نَحْنُ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا، فَلَا تُخْرِجْنَا. عَامِلْنَا عَلَى النِّصْفِ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 [بَابُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأَمَانِ] 46 - بَابُ الْأَمَانِ 372 - قَالَ: وَإِذَا نَادَى الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِالْأَمَانِ فَهُمْ آمِنُونَ جَمِيعًا إذَا سَمِعُوا أَصْوَاتَهُمْ (73 آ) بِأَيِّ لِسَانٍ نَادَوْهُمْ بِهِ. الْعَرَبِيَّةُ وَالْفَارِسِيَّةُ وَالرُّومِيَّةُ وَالْقِبْطِيَّةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى جُنُودِهِ بِالْعِرَاقِ: إنَّكُمْ إذَا قُلْتُمْ: لَا تَخَفْ، أَوْ مِتْرَسِي، أَوْ لَا تَذْهَلُ فَهُوَ آمِنٌ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْرِفُ الْأَلْسِنَةَ، وَالْمَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ. فَإِنَّ الْأَمَانَ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. ثُمَّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ يُعْتَبَرُ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِلُغَةٍ. وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْعِبَادَاتِ حَيْثُ لَمْ يُجَوِّزَا التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ، لِأَنَّ تَمَامَ الْإِسْلَامِ فِي وُجُوبِ مُرَاعَاةِ النَّصِّ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمُعَامَلَاتِ. وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ يَصِحُّ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ إذَا حَصَلَ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ فَالْأَمَانُ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ تَصِحُّ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. فَالْأَمَانُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَإِنْ نَادَوْهُمْ بِلِسَانٍ لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ آمِنُونَ أَيْضًا. لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ لِذَلِكَ حَقِيقَةً أَمْرٌ بَاطِنًا لَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَهُوَ إسْمَاعُهُمْ كَلِمَةَ الْأَمَانِ. وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْفِقْهِ. وَلِهَذَا شَرَطْنَا الْإِسْمَاعَ حَتَّى إذَا كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمَانًا، لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، فَيُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِحَقِيقَتِهِ. ثُمَّ لَعَلَّهُ كَانَ فِيهِمْ تُرْجُمَانٌ يَعْرِفُ مَعْنَى نِدَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَيُوقِفُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْأَمَانُ بِهِ كَانَ نَوْعَ غَدْرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَالتَّحَرُّزُ عَنْ صُورَةِ الْغَدْرِ وَاجِبٌ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَفْهَمُوا فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنًى مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ نَادَوْهُمْ بِلُغَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا، فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الْأَمَانِ فِي حَقِّهِمْ. 374 - فَأَمَّا إذَا كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمْ. فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى مَقَالَةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْرَبُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلِهَذَا: لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْأَمَانِ لَهُمْ. - قَالَ: وَإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلْحَرْبِيِّ: أَنْتَ آمِنٌ، أَوْ لَا تَخَفْ أَوْ لَا بَأْسَ عَلَيْك، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُ هَذَا، فَهُوَ كُلُّهُ أَمَانٌ. لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاطَبُ الْخَائِفُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَادَةً. وَإِنَّمَا يَزُولُ عَنْهُ الْخَوْفُ بِثُبُوتِ الْأَمَانِ. وَكُلُّ مُسْلِمٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْأَمَانِ لَهُ فَيُجْعَلُ بِهَذَا اللَّفْظِ مُنْشِئًا، كَمَنْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُك، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ، يُجْعَلُ مُنْشِئًا عِتْقَهُ بِمَا وَصَفَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 - ثُمَّ ذَكَرَ أَمَانَ مُخْتَلَطِ الْعَقْلِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَيَصِفُهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ كَمَا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي أَمَانِ الصَّبِيِّ فَكَذَلِكَ مُخْتَلَطُ الْعَقْلِ (73 ب) . 377 - فَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَصِفُهُ لَا يَجُوزُ أَمَانُهُ. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ. وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فِي أَمْرِ مَعِيشَتِهِ إلَّا أَنَّهُ بَالِغٌ لَا يَصِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْقِلُهُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَجُوزُ أَمَانُهُ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا. وَإِنْ كَانَ لَا يَصِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْقِلُهُ فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَعْقِلُ الْأَمَانَ صَحَّ أَمَانُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. 378 - قَالَ: وَإِنْ أَمَرَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ، أَوْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّنَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْأَمَانِ بِنَفْسِهِ، فَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بَعْدَ أَمْرِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ. وَهَذَا لِأَنَّ أَمَانَ الذِّمِّيِّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِتُهْمَةِ مَيْلِهِ إلَيْهِمْ اعْتِقَادًا، وَيَزُولُ ذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ الْمُسْلِمُ بِهِ. وَيَتَبَيَّنُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ أَنَّ فِي أَمَانِهِ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ، لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْقِتَالِ لَا يَتَعَيَّنُ مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ فِي الْأَمَانِ، فَلَوْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِرَأْيِ الْكَافِرِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالْأَمَانِ يَتَعَيَّنُ بِهَذَا الْأَمْرِ مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ فِي الْأَمَانِ بِرَأْيِ الْمُسْلِمِ وَلَا تُهْمَةَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَمِّنْهُمْ، أَوْ يَقُولَ: قُلْ لَهُمْ إنَّ فُلَانًا الْمُسْلِمَ يُؤَمِّنُكُمْ. وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَقُولَ الذِّمِّيُّ لَهُمْ: قَدْ أَمَّنْتُكُمْ، أَوْ يَقُولَ: إنْ فُلَانًا الْمُسْلِمَ قَدْ أَمَّنَكُمْ. فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ: أَمِّنْهُمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فَسَوَاءٌ قَالَ لَهُمْ أَمَّنْتُكُمْ أَوْ أَمَّنَكُمْ فُلَانٌ، فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلْأَمَانِ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَيَكُونُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ آخَرَ، وَالْمُسْلِمُ إذَا قَالَ لَهُمْ: أَمَّنْتُكُمْ أَوْ أَمَّنَكُمْ فُلَانٌ كَانُوا آمِنِينَ فِي الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَمَانَ إلَى مَنْ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إخْبَارًا مِنْهُ بِأَمَانٍ صَحِيحٍ، فَيُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْإِنْشَاءِ لِرَفْعِ الْغَدْرِ. فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ إنَّ فُلَانًا أَمَّنَكُمْ، فَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُمْ آمِنُونَ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ رَسُولًا إلَيْهِمْ، وَقَدْ أَدَّى الرِّسَالَةَ عَلَى وَجْهِهَا. فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَتَبَ إلَيْهِمْ كِتَابَ الْأَمَانِ، وَبَعَثَ بِهِ عَلَى يَدِهِ. فَإِذَا بَلَغَهُمْ كَانُوا آمِنِينَ. وَإِنْ قَالَ لَهُمْ: أَمَّنْتُكُمْ. فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَ بِهِ، لِأَنَّهُ أُمِرَ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَهَذَا لَا يَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَ الْأَمَانِ مِنْهُ. فَإِذَا قَالَ: أَمَّنْتُكُمْ فَهَذَا لَيْسَ بِتَبْلِيغٍ لِلرِّسَالَةِ وَلَكِنَّهُ إنْشَاءُ عَقْدٍ مِنْهُ مُضَافٍ إلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. - قَالَ: وَالْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَمَّنَهُمْ لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ (74 آ) عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ أَمَانَهُ لَا يَقَعُ بِصِفَةِ النَّظَرِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ بَلْ لِنَفْسِهِ، حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ. وَلِأَنَّ الْأَسِيرَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا يُؤَمِّنُ غَيْرَهُ مَنْ يَكُونُ آمِنًا فِي نَفْسِهِ. وَلِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ. فَعَقْدُهُ يَكُونُ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً، وَقَلَّ مَا تَخْلُو دَارُهُمْ عَنْ أَسِيرٍ. فَلَوْ صَحَّحْنَا أَمَانَهُ انْسَدَّ بَابُ الْقِتَالِ عَلَيْنَا. فَإِنَّهُمْ كُلَّمَا حَزَبَهُمْ خَوْفٌ أَمَرُوا الْأَسِيرَ حَتَّى يُؤَمِّنَهُمْ. وَالْقَوْلُ بِهَذَا فَاسِدٌ. إلَّا أَنَّهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ إنْ أَمَّنُوهُ وَأَمَّنَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ لَهُمْ كَمَا يَفُونَ لَهُ، وَلَا يَسْرِقُ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَفِيَ لَهُمْ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ كَانَ سَالِمًا لَهُمْ، فَحُكْمُ هَذَا وَحُكْمُ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ سَوَاءٌ. 381 - وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا وَجَدَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَسِيرٍ حُرٍّ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ مَدِينٍ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ. لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ السَّبْيُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ، فَهُمْ ظَالِمُونَ فِي إمْسَاكِهِمْ، وَهُوَ بِالْأَمَانِ مَا الْتَزَمَ تَقْرِيرَهُمْ عَلَى الظُّلْمِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُزِيلَ ظُلْمَهُمْ بِالسَّرِقَةِ أَوْ الْغَصْبِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُرَاعِيَ بِالْعَهْدِ مَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْعَهْدِ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ عَلَى تَرْكِ هَؤُلَاءِ فِي أَيْدِيهِمْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَخْذِهِمْ مِنْهُمْ. - وَلَوْ حَصَلَ الْمُسْتَأْمِنُونَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ فَبَدَا لِلْأَمِيرِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِمَأْمَنِهِمْ. فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَخْرُجُوا وَقَالُوا: نَكُونُ مَعَ ذَرَارِيِّنَا وَنِسَائِنَا الَّذِينَ أَسَرْتُمُوهُمْ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَيُؤَجِّلُهُمْ إلَى وَقْتٍ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِمْ اللُّحُوقُ بِمَأْمَنِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَا يُرْهِقُهُمْ فِي الْأَجَلِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ، وَيَقُولُ: إنْ لَحِقْتُمْ بِمَأْمَنِكُمْ إلَى أَجَلِ كَذَا وَإِلَّا فَأَنْتُمْ ذِمَّةٌ نَضَعُ عَلَيْكُمْ الْخَرَاجَ وَلَا نَدَعُكُمْ تَرْجِعُونَ إلَى مَأْمَنِكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الرِّضَا مِنْهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً فَيَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ نَصًّا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا إذَا أَطَالُوا الْمُقَامَ. - وَإِنْ خَافَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ إنْ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ عَدُوَّهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى عَسْكَرِهِمْ، أَوْ خَافَ أَنْ يَقْتُلُوا الْمُسْلِمِينَ لَيْلًا، فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يَلْحَقُوا (74 ب) بِمَأْمَنِهِمْ، وَيُوَقِّتُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَقْتًا، كَمَا بَيَّنَّا، نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ يَأْمُرُهُمْ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، حَتَّى يَمْضِيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ، أَنْ يُجْمَعُوا فِي مَوْضِعٍ فَيُحْرَسُوا. لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْهُمْ يَزْدَادُ بِالتَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ فِي الْخُرُوجِ وَمُفَارَقَةِ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، وَالتَّوْقِيتُ كَانَ نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرُ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا يَنْظُرُ لَهُمْ، وَطَرِيقُ النَّظَرِ هَذَا. فَإِنْ مَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ فَصَارُوا ذِمَّةً أَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُجْمَعُوا فِي مَوْضِعٍ كُلَّ لَيْلَةٍ وَيُجْعَلَ عَلَيْهِمْ حُرَّاسًا حَتَّى يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ الْأَمْنَ لَمْ يَقَعْ مِنْ جَانِبِهِمْ، وَإِنْ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، بَلْ ازْدَادَ الْخَوْفُ بِمَا أَلْزَمَهُمْ مِنْ صِغَارِ الْجِزْيَةِ. إلَّا أَنَّ الْخَوْفَ يَكُونُ بِاللَّيْلِ غَالِبًا فَيَجْعَلُ عَلَيْهِمْ حُرَّاسًا كُلَّ لَيْلَةٍ، فَإِذَا أَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ خَلُّوا سَبِيلَهُمْ فِي الْعَسْكَرِ لِيَكُونُوا عِنْدَ ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 384 - وَكَذَلِكَ إذَا حَصَرَ الْمُسْلِمُونَ الْعَدُوَّ جَمَعَهُمْ فِي مَوْضِعٍ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ حُرَّاسًا. لِأَنَّ الْخَوْفَ يَزْدَادُ مِنْهُمْ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ، وَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى أَنْ يَأْمَنُوا مِنْ جَانِبِهِمْ لِيَتَفَرَّغُوا لِقِتَالِ الْعَدُوِّ. وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا جَعَلَ عَلَيْهِمْ حُرَّاسًا يَحْرُسُونَهُمْ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَحْرُسَهُمْ إلَّا بِأَجْرٍ اسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ قَوْمًا يَحْرُسُونَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةٌ لِلْغَانِمِينَ. فَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى حِفْظِ الْغَنَائِمِ، أَوْ عَلَى حِفْظِ مَنْفَعَةِ الْغَانِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا الْحِفْظِ مَعْنَى الْجِهَادِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ. فَالْقَوْمُ ذِمَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرِ مُحَارِبِينَ لَهُمْ. فَلَا يَكُونُ حِفْظُهُمْ جِهَادًا، وَلَكِنْ يُخَافُ مِنْ جَانِبِهِمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْتِعَتِهِمْ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى حِفْظِ الْغَنَائِمِ وَبَيْنَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى حِفْظِ هَؤُلَاءِ وَمَنْعِهِمْ مِنْ أَخْذِ الْغَنَائِمِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ. - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فِي مَنْعَتِهِمْ أَشَارَ إلَى مُشْرِكٍ فِي حِصْنٍ أَوْ مَنَعَةٍ لَهُمْ أَنْ تَعَالَ، أَوْ أَشَارَ إلَى أَهْلِ الْحِصْنِ أَنْ افْتَحُوا الْبَابَ، أَوْ أَشَارَ إلَى السَّمَاءِ، فَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ ذَلِكَ أَمَانٌ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الَّذِي صَنَعَ مَعْرُوفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ أَنَّهُمْ إذَا صَنَعُوا كَانَ أَمَانًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا، فَهُوَ أَمَانٌ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: قَدْ أَمَّنْتُكُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 لِأَنَّ أَمْرَ الْأَمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ. وَالتَّحَرُّزِ عَمَّا يُشْبِهُ الْغَدْرَ وَاجِبٌ. فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ فَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ. فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ أَمَانًا كَانَ غَدْرًا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ (57 آ) مَا يَكُونُ مِثْلَ الْعُرْفِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ امْتِثَالُهُمْ أَمْرُهُ وَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِهِ، فَهُوَ مِنْ أَبْيَنِ الدَّلَائِلِ عَلَى الْمُسَالَمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لَهُمْ: أَخْرَجُوا حَتَّى تَهْدِمُوا هَذَا الْحِصْنَ فَخَرَجُوا كَانُوا آمَنِينَ؟ 386 - ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَشَارَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْعَدُوِّ أَنْ تَعَالَ فَإِنَّك إنْ جِئْت قَتَلْتُك. فَأَتَاهُ، فَهُوَ آمِنٌ. وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْهَمْ قَوْلَهُ: إنْ جِئْت قَتَلْتُك أَوْ لَمْ يَسْمَعْ. فَأَمَّا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَسَمِعَهُ وَجَاءَهُ مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ فَيْءٌ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ وَالْعُرْفِ يُسْقِطُ اعْتِبَارَهُ إذَا صَرَّحَ بِخِلَافِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: تَعَالَ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْقِتَالَ أَوْ إنْ كُنْت رَجُلًا، أَوْ تَعَالَ حَتَّى تُبْصِرَ مَا أَفْعَلُهُ مَعَك، فَإِنَّهُ لَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ هَذَا كَلَامُ تَهْدِيدٍ لَا كَلَامَ أَمَانٍ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: تَعَالَ، مُطْلَقًا فَكَلَامُ مُوَافَقَةٍ. وَكَذَلِكَ إشَارَتُهُ بِالْأَصَابِعِ إلَى السَّمَاءِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّى أَعْطَيْتُك ذِمَّةَ إلَهِ السَّمَاءِ، أَوْ أَنْتَ آمِنٌ مِنَى بِحَقِّ رَبِّ السَّمَاءِ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَمَّنْتُك. - وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَجَدُوا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، فَقَالَ حِينَ وَجَدُوهُ: جِئْت أَطْلُبُ الْأَمَانَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهِ حَتَّى هَجَمُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فَيْءٌ وَلَا يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ فِيمَا يَقُولُ. فَإِنَّهُ كَانَ مُخْتَفِيًا مِنْهُمْ إلَى أَنْ هَجَمُوا عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يَلِيقُ هَذَا بِحَالِ مَنْ يَأْتِيهِمْ مُغِيرًا لَا مُسْتَأْمَنًا. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْتَالُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ بَعْدَ مَا وَقَعَ فِي الشَّبَكَةِ فَلَا يُصَدَّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ إنْ تَكَلَّمَ، فَأَرَادُوهُ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَلَكِنَّهُ أَقْبَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي أَيْدِيهِمْ، فَهُوَ فَيْءٌ. وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَا يَقْبَلَ قَوْلَهُ إنِّي جِئْت أَطْلُبُ الْأَمَانَ. لِأَنَّهُ حِينَ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَسْرَهُ أَوْ قَتْلَهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا عَلَى أَنْ يُنَادِيَ بِالْأَمَانِ فَيَعْلَمَ أَيُؤَمِّنُونَهُ أَمْ لَا. وَقَدْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَحِينَ تَرَكَ النِّدَاءَ بِالْأَمَانِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَقْبَلَ رَادًّا لِقَصْدِ الْمُسْلِمِينَ، فَحِينَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ احْتَالَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ. 389 - وَإِنْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ الْمُسْلِمُونَ بِقَتْلٍ وَلَا أَسْرٍ فَأَقْبَلَ إلَيْهِمْ حَتَّى أَتَاهُمْ فَهُوَ آمِنٌ. لِأَنَّ إقْبَالَهُ إلَيْهِمْ دَلِيلُ الْمُسَالَمَةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّدَاءِ بِالْأَمَانِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَإِقْبَالُهُ بَعْدَ قَصْدِ الْمُسْلِمِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ رَدَّ قَصْدِهِمْ بِالْقِتَالِ. وَأَمَّا إقْبَالُهُ قَبْلَ قَصْدِ الْمُسْلِمِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الْمُسَالَمَةَ. أَلَا تَرَى أَنَّ تُجَّارَهُمْ هَكَذَا يَكُونُ الْحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَادَوْا لِطَلَبِ (75 ب) الْأَمَانِ. 390 - وَإِنْ كَانَ فِي مَنْعَةٍ حَيْثُ لَا يَسْمَعُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ، فَانْحَطَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ وَلَا سِلَاحٌ حَتَّى أَتَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا كَانَ حَيْثُ يَسْمَعُهُمْ نَادَى بِالْأَمَانِ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ آمِنٌ. لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَنَعَةِ وَالنِّدَاءِ بِالْأَمَانِ إذْ كَانَ بِحَيْثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 يَسْمَعُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَلْقَى السِّلَاحَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَاءَ طَالِبًا لِلْأَمَانِ، فَهُوَ آمِنٌ، أَمَّنُوا أَوْ لَمْ يُؤَمِّنُوا. لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَّنَ مِثْلَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] . 391 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ السِّلَاحُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ هَيْئَةُ رَجُلٍ يُرِيدُ الْقِتَالَ. لِأَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَصْحَبَ السِّلَاحَ لِيَبِيعَهُ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ خَافَ ضَيَاعَهُ إنْ خَلَفَهُ عِنْدَهُمْ، فَاسْتَصْحَبَهُ ضِنَةً مِنْهُ بِسِلَاحِهِ. 392 - وَإِنْ كَانَ أَقْبَلَ سَالًّا سَيْفَهُ مَادًّا رُمْحَهُ نَحْوَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْهُمْ نَادَى الْأَمَانَ، فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ أَقْبَلَ مُقَاتِلًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ فِيمَا يُتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ جَائِزٌ. وَغَالِبُ الرَّأْيِ يَجُوزُ تَحْكِيمُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ إلَى إبَاحَةِ الدَّمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَأَى إنْسَانًا يَدْخُلُ بَيْتَهُ لَيْلًا وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ سَارِقٌ أَوْ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ فَإِنَّهُ يُحَكِّمُ: فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا اللُّصُوصِ أَوْ كَانَ مَعَهُ آخَرُ يَجْمَعُ مَتَاعَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا أَهْلِ الْخَيْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤْوِيَهُ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَرْمِيَ إلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَحْكِيمِ السِّيمَاءِ قَوْله تَعَالَى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ إلَى دَلَالَةِ الْحَالِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 - وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرًا نَزَلَ لَيْلًا فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَجَاءَ مُشْرِكٌ عَلَى طَرِيقٍ لَا يَعْدُو عَلَى غَيْرِهِ حَتَّى لَقِيَ أَوَّلَ مَسَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَسَأَلَهُمْ الْأَمَانَ، إلَّا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَانَ آمِنًا. لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا صَارَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْهُمْ، وَالنِّدَاءُ بِالْأَمَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ مُفِيدًا شَيْئًا، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِهِ. وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي أَنَّ «مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَانَ عَلَى حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ اللَّيَالِي حِينَ كَانَ مُحَاصِرًا لِبَنِي قُرَيْظَةَ. فَخَرَجَ رَجُلَانِ وَوَجْهُهُمَا نَحْوَهُ. فَلَمَّا وَصَلَا إلَيْهِ قَالَ: مَا الَّذِي جَاءَ بِكُمَا؛ قَالَا: جِئْنَا بِالْأَمَانِ (76 آ) . فَخَلَّى سَبِيلَهُمَا وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنِي إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ. وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى أَثَرِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُعَاتِبُهُ عَلَى ذَلِكَ» . - وَلَوْ وَجَدُوا رَجُلًا عَلَيْهِ سِلَاحَهُ فِي مُؤَخَّرِ الْعَسْكَرِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ يُعَارِضُ الْعَسْكَرَ، فَلَمَّا بَصُرُوا بِهِ دَعَا إلَى الْأَمَانِ، كَانَ فَيْئًا، وَلِلْأَمِيرِ أَنْ يَقْتُلَهُ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ جَاءَ مُتَجَسِّسًا، أَوْ جَاءَ عَلَى قَصْدِ أَنْ يُبَيِّتَ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي مِثْلِ هَذَا بِغَالِبِ الظَّنِّ وَالرَّأْيِ. 395 - وَإِنْ أَشْكَلَ حَالُهُ وَلَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَأْمَنٌ وَلَا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْمَنٍ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُلُوبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مِنْ حَالِهِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيُخْرِجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَجْعَلَهُ ذِمَّةً. لِأَنَّ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ وَانْعِدَامِ التَّرْجِيحِ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَمِنْ الِاحْتِيَاطِ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ وَلَا يَجْعَلَهُ فَيْئًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ جَاءَ مُسْتَأْمِنًا، وَأَنْ لَا يَرُدَّهُ إلَى مَأْمَنِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ جَاءَ مُغِيرًا، فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ حُرْمَتِهِ بِالْمُحْتَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ إرَاقَةُ دَمِهِ بِهِ أَيْضًا. فَيَبْقَى حُرًّا مُحْتَبِسًا فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ. فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَبَى وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ. وَكَذَلِكَ الْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ يُرِيدُونَ دُخُولَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُنَادُوا بِالْأَمَانِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُونَ فِيهِ مُمْتَنِعِينَ. فَنَادَوْا بِالْأَمَانِ حِينَ انْتَهَوْا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا فِي وُسْعِهِمْ. - وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ جَاءُوا فَاسْتَأْمَنُوا، فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلِمُونَ أَمَّنُوهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُؤَمِّنُوهُمْ. لِأَنَّ أَهْلَ الْمَنَعَةِ فِي دَارِنَا كَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي حُصُونِهِمْ، لِكَوْنِهِمْ مُمْتَنِعِينَ. 397 - وَلَوْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 كَانُوا فِي مَنَعَتِهِمْ. فَيَكُونُ لَهُمْ أَيْضًا أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ إعْطَاءِ الْأَمَانِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَأَمَّا غَيْرُ الْمُمْتَنِعِينَ لَوْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ لَمْ يَجُزْ نَبْذُ الْأَمَانِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَتَّى نُلْحِقَهُمْ بِمَأْمَنِهِمْ. فَكَذَلِكَ إذَا جَاءُوا طَالِبِينَ الْأَمَانَ حَتَّى صَارُوا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ مِنَّا، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ تَقَدَّمَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّهُ لَا أَمَانَ لَكُمْ عِنْدَنَا، فَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَيْنَا. فَإِذَا عَلِمُوا بِذَلِكَ فَلَا أَمَانَ لَهُمْ. وَمَنْ جَاءَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ فَهُوَ فَيْءٌ، لِأَنَّهُ أَعْذَرَ إلَيْهِمْ بِمَا صَنَعَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدْ قَدَّمْت إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] . ثُمَّ الْحَاصِلُ (76 ب) أَنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْمَنَعَةَ عِنْدَ الِاسْتِئْمَانِ فَإِنَّهُ يَكُونُ آمِنًا عَادَةً، وَالْعَادَةُ تُجْعَلُ حُكْمًا إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ، فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ، كَمُقَدِّمِ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ إنْسَانٍ إذَا قَالَ: لَا تَأْكُلْ. - وَلَوْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: دَخَلْت بِأَمَانِ، لَمْ يُصَدَّقْ. لِأَنَّهُ صَارَ مَأْخُوذًا مَقْهُورًا بِمَنْعِهِ الدَّارَ، فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْأَمَانِ، وَقَوْلُ الْمُتَّهَمِ لَا يَكُونُ حُجَّةً. أَرَأَيْت لَوْ أَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَرَقَّهُ ثُمَّ قَالَ: كُنْت دَخَلْت بِأَمَانٍ أَكَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ؟ 399 - وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: أَنَا أَمَّنْته لَمْ يُصَدَّقْ بِذَلِكَ أَيْضًا. لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَنْعِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَاسْتِرْقَاقِهِ. وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي إبْطَالِ الْحَقِّ الثَّابِتِ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَقْبُولٍ. 400 - فَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ غَيْرُ الْمَخْبَرِ أَنَّهُ أَمَّنَّهُ فَهُوَ آمِنٌ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَلَا شَهَادَةَ فِيهِ لِلَّذِي يَقُولُ: أَنَا أَمَّنْته، لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ دَعْوَى لَا شَهَادَةً، وَلَا شَهَادَةَ فِيهِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. 401 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا رَسُولُ الْمَلِكِ إلَى الْخَلِيفَةِ لَمْ يُصَدَّقْ وَكَانَ فَيْئًا. لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ دَعْوَى الْأَمَانِ. فَإِنَّ الرَّسُولَ آمِنٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. هَكَذَا جَرَى الرَّسْمُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. فَإِنَّ أَمْرَ الصُّلْحِ أَوْ الْقِتَالِ لَا يَلْتَئِمُ إلَّا بِالرَّسُولِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ آمِنًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ. فَلَمَّا تَكَلَّمَ رَسُولُ قَوْمٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: «لَوْلَا أَنَّك رَسُولٌ لَقَتَلْتُك» . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الرَّسُولَ آمِنٌ، وَلَكِنْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ لَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ رَسُولٌ. 402 - فَإِنْ أَخْرَجَ كِتَابًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَ مَلِكِهِمْ وَادَّعَى أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ. وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لَهُ هَهُنَا بِغَالِبِ الظَّنِّ. فَلَعَلَّ الْكِتَابَ مُفْتَعَلٌ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ فَوْقَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ مُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيُسْتَصْحَبَهُمَا لِيَشْهَدَا عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ قِبَلِهِ، يُكْتَفَى مِنْهُ بِهَذَا الدَّلِيلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. وَلَوْ لَمْ يَصْحَبْهُ دَلِيلٌ وَلَا كِتَابٌ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وُجِدَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَجِبُ (77 آ) فِيهِ الْخُمُسُ فِيهِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ. وَفِي هَذَا الْفَصْلِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إيجَابِ الْخُمُسِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ فَيْءٌ لِمَنْ أَخَذَهُ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فِي دَارِنَا. فَمَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ يَكُونُ مُحْرَزًا لَهُ مُخْتَصًّا بِمِلْكِهِ كَالصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ. وَفِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِيرُ هُوَ مَقْهُورًا لِمَنْعِهِ الدَّارَ مَأْخُوذًا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ كَانَ فَيْئًا، بِمَنْزِلَةِ الْأَسِيرِ يُسْلِمُ بَعْدَ الْأَخْذِ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الرِّقَّ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مَأْخُوذًا بِالدَّارِ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ مُسْلِمٌ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ كَانَ حُرًّا. لِأَنَّ الْإِحْرَازَ فِي الْحَقِيقَةِ يَكُونُ بِالْيَدِ لَا بِالدَّارِ، وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ إلَى دَارِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ، فَإِذَا أَخَذَهُ إنْسَانٌ كَانَ مُخْتَصًّا بِمِلْكِهِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِإِحْرَازِهِ. فَإِنْ قَالَ: إنِّي أَمَّنْته قَبْلَ أَنْ آخُذَهُ فَهُوَ آمِنٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ عَبْدٌ لَهُ. وَقَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ. وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ لَا يَكُونَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِيهِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي إبْطَالِ حَقِّهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ فِي دَارِنَا حَتَّى رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْجِعْ كَانَ حُرًّا، فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ مَأْخُوذًا لَا يَصِيرُ رَقِيقًا مَا لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهِ الرِّقُّ. فَإِذَا رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ انْعَدَمَ عَرْضِيَّةُ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ، وَتَقَرَّرَ حُرِّيَّتُهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ، فَلَا يُسْتَرَقُّ بَعْدَ ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ الْأَسِيرِ يُسْلِمُ وَيَنْقَلِبُ إلَى عَسْكَرِ أَهْلِ الْحَرْبِ، ثُمَّ يُؤْخَذُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَكَمَا يَكُونُ حُرًّا هُنَاكَ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. - وَإِذَا مَرَّ عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ بِمَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْحَرْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِمْ طَاقَةٌ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْفُذُوا إلَى غَيْرِهِمْ، قَالَ لَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: أُعْطُونَا أَنْ لَا تَمُرُّوا فِي هَذَا الطَّرِيقِ عَلَى أَنْ لَا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا وَلَا نَأْسِرَهُ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطُوهُمْ ذَلِكَ وَيَأْخُذُوا فِي طَرِيقٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ وَأَشَقَّ. لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فَيَقْتُلُوا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ مِمَّنْ فِي أُخْرَيَاتِ الْعَسْكَرِ. وَهَذِهِ الْمُوَادَعَةُ تُؤَمِّنُهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُوَادَعَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الشَّرْطِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ شَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَنْ أَتَى مُسْلِمًا مِنْهُمْ. وَوَفَى لَهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ، إلَى أَنْ انْتَسَخَ. لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ خَيْبَرَ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَوَجَّهَ إلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَغَارَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ عَلَى الْمَدِينَةِ. فَوَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ حَتَّى يَأْمَنَ مِنْ جَانِبِهِمْ إذَا تَوَجَّهَ إلَى خَيْبَرَ. فَعَرَفْنَا (77 ب) أَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ لَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ. 404 - فَإِنْ قَبِلُوهُ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ أَنْ يَمُرُّوا فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَلْيَنْبِذُوا إلَيْهِمْ وَيُعْلِمُوهُمْ بِذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُوَادَعَةِ وَالْأَمَانِ، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْغَدْرِ إلَى أَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ. 405 - فَإِنْ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إنَّ مَمَرَّنَا فِي هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَضُرُّهُمْ شَيْئًا قِيلَ لَهُمْ: لَعَلَّ لَهُمْ فِي هَذَا الطَّرِيقِ زُرُوعًا وَنَخْلًا وَكَلَأً يَحْتَاجُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 إلَيْهِ، وَلَا يُحِبُّونَ أَنْ تَرْعُوهُ، أَوْ لَعَلَّ لَهُمْ مَوَاشِيَ وَلَا يُحِبُّونَ أَنْ تَعْرِضُوا لَهَا. فَإِنْ قَالُوا: نَمُرُّ وَلَا نَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا أَسْهَلَ الطُّرُقِ، قِيلَ لَهُمْ: وَإِنْ لَمْ تَأْخُذُوا شَيْئًا، فَلَعَلَّ الْقَوْمَ يَكْرَهُونَ أَنْ تَرَوْا حُصُونَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَتَعْرِفُوا الطَّرِيقَ إلَيْهِمْ، فَتَأْتُوهُمْ مَرَّةً أُخْرَى. أَوْ تَرَوْنَ لَهُمْ عَوْرَةً مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَتَغْزُونَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى بِمَا رَأَيْتُمْ مِنْ الْعَوْرَةِ. فَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا الْوَفَاءُ بِمَا قُلْتُمْ أَوْ النَّبْذُ إلَيْهِمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . - وَلَوْ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: أُعْطُونَا عَلَى أَنْ لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَاءِ نَهْرِنَا فَأَعْطَيْنَاهُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ شُرْبُنَا يَضُرُّهُمْ فِي مَائِهِمْ، أَوْ لَا نَعْلَمُ أَيَضُرُّ ذَلِكَ بِمَائِهِمْ أَوْ لَا، فَيَنْبَغِي أَنْ نَفِيَ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَإِنْ كُنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِمَاءِ نَهْرِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ وَنَسْقِيَ الدَّوَابَّ بِغَيْرِ عِلْمِهِمْ. لِأَنَّ الشَّرْطَ إنْ كَانَ مُفِيدًا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ. وَمَنْ اشْتَرَطَ مِثْلَهُ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا لَا طَالِبَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَافِعَ ضَرَرٍ. فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَهَذَا شَرْطٌ غَيْرُ مُفِيدٍ فَيُلْغَى. وَإِذَا كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فَهَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ لَهُمْ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي مِنْ الشُّرُوطِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَيَضُرُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 بِهِمْ أَمْ لَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ. 407 - فَإِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى ذَلِكَ الْمَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ أَوْ دَوَابِّهِمْ فَلْيَنْبِذُوا إلَيْهِمْ وَيُخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ فَاعِلُونَ، ثُمَّ يَشْرَبُونَ. وَكَذَلِكَ الْكَلَأُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ. لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُمْ. وَقَدْ أَثْبَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ النَّاسِ شَرِكَةً عَامَّةً فِي الْكَلَأِ وَالْمَاءِ فَلَا تَنْقَطِعُ شَرِكَتُهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ. 408 - فَأَمَّا الزَّرْعُ وَالْأَشْجَارُ وَالثِّمَارُ إذَا أَعْطُوهُمْ أَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَضَرَّ بِأَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ بِهِمْ. لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ (78 آ) لَهُمْ، وَنُفُوذُ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ وَالضَّرَرِ، إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ فَلْيَنْبِذُوا إلَيْهِمْ ثُمَّ يَأْخُذُونَ وَيَأْكُلُونَ وَيَعْلِفُونَ. لِأَنَّ بِهَذَا الشَّرْطِ لَا تَنْعَدِمُ صِفَةُ الْإِبَاحَةِ الثَّابِتَةِ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَلَكِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الْغَدْرِ وَاجِبٌ. وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالنَّبْذِ إلَيْهِمْ. 409 - وَإِنْ قَالُوا أَعْطُونَا عَلَى أَنْ لَا تُحَرِّقُوا زُرُوعَنَا وَلَا كَلَأَنَا فَأَعْطَيْنَاهُمْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَأْكُلَ مِنْهُ وَنَعْلِفَ دَوَابَّنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 لِأَنَّ الْوَفَاءَ إنَّمَا يَلْزَمُنَا بِقَدْرِ مَا قَبِلْنَا مِنْ الشُّرُوطِ. وَذَلِكَ الْإِحْرَاقُ وَالْأَكْلُ لَيْسَ مِنْ الْإِحْرَاقِ فِي شَيْءٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْكُلَ مِلْكَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُحْرِقَهُ؛ وَأَهْلُ الشَّامِ يَكْرَهُونَ الْإِحْرَاقَ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يَكْرَهُونَ التَّنَاوُلَ. وَلَعَلَّهُمْ إنَّمَا شَرَطُوا هَذَا الشَّرْطَ لِمَا فِي الْإِحْرَاقِ مِنْ الْفَسَادِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْطِ نَصًّا لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. 410 - وَإِنْ سَأَلُونَا أَنْ لَا نُخَرِّبَ قُرَاهُمْ فَأَعْطَيْنَاهُمْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَأْخُذَ مَا وَجَدْنَا فِي قُرَاهُمْ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ عَلَفٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِبِنَاءٍ. لِأَنَّ التَّخْرِيبَ يَكُونُ فِي الْأَبْنِيَةِ. أَمَّا أَخْذُ الْأَمْتِعَةِ فَمِنْ الْحِفْظَةِ لَا مِنْ التَّخْرِيبِ. وَلَعَلَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ لِمَا فِي التَّخْرِيبِ مِنْ صُورَةِ الْإِفْسَادِ. وَلَكِنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي قُرَاهُمْ مِنْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ نَعْرِضَ لَهُ. وَمَا كَانَ مِنْ خَشَبٍ مَوْضُوعٍ لَيْسَ فِي بِنَاءٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَأْخُذَهُ وَنُوقِدَ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا انْتِفَاعٌ وَلَيْسَ بِتَخْرِيبٍ. وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَحِلُّ بَعْدَ هَذَا الشَّرْطِ هَدْمُ شَيْءٍ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ أَوْ تَخْرِيبُهُ بِالنَّارِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَوْقَ التَّخْرِيبِ. فَيَثْبُتُ حُكْمُ الشَّرْطِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَإِنْ وَجَدْنَا بَابًا مُغْلَقًا وَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى فَتْحِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَقْلَعَهُ قَبْلَ النَّبْذِ إلَيْهِمْ، لِأَنَّ هَذَا تَخْرِيبٌ. بِخِلَافِ مَا إذَا قَدْرَنَا عَلَى فَتْحِ الْبَابِ، فَإِنَّ فَتْحَ الْبَابِ لَيْسَ بِتَخْرِيبٍ، فَإِنْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى فَتْحِهِ إلَّا بِكَسْرِ الْغَلْقِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَفْعَلَ، لِأَنَّ هَذَا تَخْرِيبٌ، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِيمَا الْتَزَمْنَا بِالشَّرْطِ نَصًّا سَوَاءٌ. 411 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وَإِنْ شَرَطُوا عَلَيْنَا أَنْ لَا نَأْكُلَ مِنْ زُرُوعِهِمْ وَلَا نَعْلِفَ مِنْهَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُحَرِّقَ شَيْئًا مِنْهَا. لِأَنَّ الْإِحْرَاقَ فَوْقَ الْأَكْلِ فِي تَفْوِيتِ مَقْصُودِهِمْ بِالشَّرْطِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى التَّأْفِيفِ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى حُرْمَةِ الشَّتْمِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطُوا بِأَنْ لَا يُحْرَقَ، لِأَنَّ الْأَكْلَ دُونَ التَّحْرِيقِ. فَإِنَّ الْإِحْرَاقَ إفْسَادٌ لِلْعَيْنِ، وَالْأَكْلُ انْتِفَاعٌ بِالْعَيْنِ. فَإِذَا شَرَطُوا أَنْ لَا يَأْكُلَ فَمَقْصُودُهُمْ بَقَاءُ الْعَيْنِ لَهُمْ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالْإِحْرَاقِ كَمَا يَنْعَدِمُ بِالْأَكْلِ. وَإِذَا شَرَطُوا أَنْ لَا نُحَرِّقَ فَمَقْصُودُهُمْ (78 ب) أَنْ لَا يَفْسُدَ شَيْءٌ مِنْ مِلْكِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْأَكْلِ فَسَادٌ. 412 - فَإِنْ اشْتَرَطُوا أَنْ لَا نُحَرِّقَ لَهُمْ زُرُوعًا فَقَدْرَنَا عَلَى أَنْ نُغْرِقَهَا بِالْمَاءِ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إفْسَادٌ. 413 - وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطُوا أَنْ لَا نُغْرِقَهَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُحَرِّقَهَا. 414 - وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطُوا أَنْ لَا نُغْرِقَ سَفِينَتَهُمْ وَلَا نُحَرِّقَهَا لَمْ يَنْبَغِ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ بِهَا. لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنْ هَذَا بَقَاءُ عَيْنِهَا لَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا، وَذَلِكَ يَفُوتُ إذَا ذَهَبْنَا بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أَرَأَيْت لَوْ شَرَطُوا أَنْ لَا نُحَرِّقَ مَنَازِلَهُمْ وَلَا نُغْرِقَهَا أَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَنْقُضَهَا فَنَذْهَبَ بِخَشَبِهَا وَأَبْوَابِهَا؟ هَذَا لَا يَنْبَغِي. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَرَادُوا أَنْ لَا نَسْتَهْلِكَهَا عَلَيْهِمْ. إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ التَّنْصِيصُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الِاسْتِهْلَاكِ، وَذَكَرُوا مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَسْبَابِهِ وَهُوَ التَّغْرِيقُ وَالْإِحْرَاقُ. 415 - وَلَوْ شَرَطُوا أَنْ لَا نَقْتُلَ أَسْرَاهُمْ إذَا أَصَبْنَاهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَأْسِرَهُمْ وَيَكُونُوا فَيْئًا وَلَا نَقْتُلَهُمْ. لِأَنَّ الْأَسْرَ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا شَرَطُوا مِنْ الْقَتْلِ. فَإِنَّ الْقَتْلَ نَقْصُ الْبِنْيَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ نَأْسِرَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ شَرْعًا. 416 - وَإِنْ شَرَطُوا أَنْ لَا نَأْسِرَ مِنْهُمْ أَحَدًا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَأْسِرَهُمْ وَنَقْتُلَهُمْ. لِأَنَّ الْقَتْلَ أَشَدُّ مِنْ الْأَسْرِ. وَمَقْصُودُهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ يَفُوتُ بِالْقَتْلِ كَمَا يَفُوتُ بِالْأَسْرِ. إلَّا أَنْ تَظْهَرَ الْخِيَانَةُ مِنْهُمْ بِأَنْ كَانُوا الْتَزَمُوا أَنْ لَا يَقْتُلُوا وَلَا يَأْسِرُوا مِنَّا أَحَدًا، ثُمَّ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَقْتُلَ أَسْرَاهُمْ وَأَنْ نَأْسِرَهُمْ كَمَا كَانَ لَنَا ذَلِكَ قَبْلَ الْعَهْدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمَّا صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ لِمُسَاعِدَةِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى بَنِي خُزَاعَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وَكَانُوا حُلَفَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ قَصَدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَمِّيَ عَلَيْهِمْ الْأَخْبَارَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً؟ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِنَقْضٍ مِنْهُمْ لِعَهْدِهِمْ. لِأَنَّ فِعْلَ الْوَاحِدِ لَا يَشْتَهِرُ فِي جَمَاعَتِهِمْ عَادَةً، وَلَيْسَ لِهَذَا الْوَاحِدِ وِلَايَةُ نَقْضِ الْعَهْدِ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْلِمًا لَوْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ فِي دِينِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا مِنْهُ لِأَمَانِهِ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَمَاعَتُهُمْ أَوْ أَمِيرُهُمْ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ فَلَا يُغَيِّرُونَهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ مِنْهُمْ. لِأَنَّ فِعْلَ أَمِيرِهِمْ يَشْتَهِرُ لَا مَحَالَةَ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ إذَا فَعَلَهُ مُجَاهِرَةً فَلَمْ يُغِيرُوا عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِذَلِكَ، عَلَى مَا قِيلَ: إنَّ السَّفِيهَ إذَا لَمْ يَنْهَهُ مَأْمُورٌ. وَمُبَاشَرَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهِرَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّبْذِ لِلْعَهْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. 417 - فَإِنْ شَرَطُوا عَلَى أَنْ لَا نَقْتُلَ أَسْرَاهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلُوا أَسْرَانَا، وَأَسَرُوا مِنَّا أُسَارَى فَلَمْ يَقْتُلُوهُمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَأْسِرَ نَحْنُ أَيْضًا أَسْرَاهُمْ وَلَا نَقْتُلَهُمْ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ نَقْضَ (79 آ) الْعَهْدِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ الْتَزَمُوا بِأَنْ لَا يُقْتَلُوا وَمَا الْتَزَمُوا بِأَنْ لَا يَأْسِرُوا، وَإِذَا بَقِيَ الْعَهْدُ نُعَامِلُهُمْ كَمَا يُعَامِلُونَنَا جَزَاءً وِفَاقًا. 418 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارنَا بِأَمَانٍ فَقَتَلَ مُسْلِمًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، أَوْ تَجَسَّسَ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ. فَبَعَثَ بِهَا إلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ كُرْهًا، أَوْ سَرَقَ، فَلَيْسَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ. إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَصِيرُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ بِمَا صَنَعَ. لِأَنَّهُ حِينَ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَقَدْ الْتَزَمَ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَهُ كَانَ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ بِمُبَاشَرَتِهِ، مِمَّا يُخَالِفُ مُوجِبَ عَقْدِهِ، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ نَاقِضَ الْعَهْدِ بِهَذَا رَجَعَ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ فَعَلَ الْمُسْلِمُ شَيْئًا مِنْ هَذَا لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِإِيمَانِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُسْتَأْمَنُ لَا يَكُونُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ. 419 - وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. وَلِذَلِكَ قِصَّةٌ. وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنًا مَعَ مَا فَعَلَهُ. وَكَذَلِكَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ حِين اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ أَنَّهُمْ إنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاذَا يَصْنَعُ بِهِمْ، فَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى حَلْقِهِ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ. وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27] الْآيَةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْإِيمَانِ مِنْ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْأَمَانِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ، وَلَكِنَّهُ إنْ قَتَلَ إنْسَانًا عَمْدًا يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حُقُوقَ الْعِبَادِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ. 420 - وَإِنْ قَذَفَ مُسْلِمًا يُضْرَبُ الْحَدُّ. لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ صِيَانَةً لِعَرْضِهِ. وَلِهَذَا تُسْمَعُ خُصُومَتُهُ فِي الْحَدِّ، وَلَا تُسْتَوْفَى إلَّا بِهِ. فَأَمَّا مَا أَصَابَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، فَالْخِلَافُ فِيهِ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. 421 - وَاسْتَدَلَّ بِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ هُنَا، بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ هَلْ تُقَامُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُدُودُ. فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: لَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، لَكِنْ يُرْفَعُونَ إلَى حَاكِمِهِمْ لَيُقِيمَهَا عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَاخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ، يَكُونُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ بِذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ لِوُرُودِ النَّصِّ. فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِرَجْمِ الْيَهُودِيِّ» ، وَلَكِنَّ وُرُودَ النَّصِّ فِي الذِّمِّيِّ، لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ. لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارنَا، فَيُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ كُلُّهَا إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ شُرْبِهِ، وَبِدُونِ اعْتِقَادِ الْحُرْمَةِ لَا يَتَقَرَّرُ السَّبَبُ. فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ لَا يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلَا الْتَزَمَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِنَا، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَنَا لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ. ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى دَارِهِ. وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 422 - وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الذِّمِّيِّ بِقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ. فَلِهَذَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ مَا كَانَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ. وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَيَغْرَمُ مَا اُسْتُهْلِكَ مِنْ ذَلِكَ وَيَكُونُ عَلَيْهِ صَدَاقُ الَّتِي أَصَابَهَا. لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَخْلُو عَنْ حَدٍّ أَوْ مَهْرٍ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهَا. وَيُوجَبُ عُقُوبَةً عَلَى مَا صَنَعَ وَيَجْلِسُ فِي السِّجْنِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْإِمَامُ. وَيُعَزَّرُ لِأَنَّ فِي لَفْظِ التَّعْزِيرِ مَا يُنَبِّئُ عَنْ مَعْنَى التَّطْهِيرِ وَالتَّعْظِيمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَلِهَذَا قَالَ: يَوْجَعَ عُقُوبَةً بِمَا صَنَعَ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 [بَابُ مَا يُصَدَّقُ الْمُسْتَأْمَنُ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَا لَا يُصَدَّقُ] 423 - وَإِذَا انْتَهَى عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَطْمُورَةٍ أَوْ حِصْنٍ فَأَقَامُوا عَلَيْهَا فَنَادَاهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهَا: أَمِّنُونَا عَلَى أَهْلِينَا وَمَتَاعِنَا عَلَى أَنْ نَفْتَحَهَا لَكُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَفَتَحُوهَا لَهُمْ. فَالْقَوْمُ الَّذِينَ سَأَلُوا ذَلِكَ آمِنُونَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا أَنْفُسَهُمْ بِشَيْءٍ. لِأَنَّ النُّونَ وَالْأَلِفَ أَوْ النُّونَ وَالْيَاءَ فِي قَوْلِهِ أَمِّنُونَا كِنَايَةٌ لِإِضَافَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إلَى نَفْسِهِ. وَكَلِمَةُ عَلَى لِلشَّرْطِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] . وَقَالَ تَعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] أَيْ بِشَرْطِ ذَلِكَ. فَعَرَفْنَا أَنَّ تَقْرِيرَ كَلَامِهِمْ نَحْنُ آمِنُونَ مَعَ أَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا إنْ فَتَحْنَاهَا لَكُمْ، وَقَدْ أَعْطَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ فَإِذَا فَتَحُوا كَانُوا آمِنِينَ. 424 - فَإِذَا خَرَجَ أَهْلُ الْمَطْمُورَةِ، فَقَالَ الَّذِينَ أُومِنُوا: هَذَا مَتَاعُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 لِجَيِّدِ الْمَتَاعِ، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُونَا لِفَرِهَةِ السَّبْيِ فَالْقِيَاسُ فِي هَذَا أَنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعُدُولِ. لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ مَا وُجِدَ فِي الْمَطْمُورَةِ لِظُهُورِ سَبَبِهِ، فَهُمْ يَدَّعُونَ الْمَانِعَ بَعْدَ مَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ بِسَبَبِهِ فَلَا يُصَدَّقُونَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَا حُجَّةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ شَرْطَ خِيَارٍ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. 425 - قَالَ: وَلَكِنَّ الْعَمَلَ (80 أ) بِالْقِيَاسِ يَتَعَذَّرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِي الْمَطْمُورَةِ قَبْلَ فَتْحِ الْبَابِ عُدُولًا مُسْلِمِينَ لِيُشْهِدُوهُمْ عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ. وَكَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ صِفَةِ الذُّكُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ أَصْلِ الشَّهَادَةِ هُنَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَيَجِبُ الْعَمَلُ فِيهِ بِالِاسْتِحْسَانِ فَنَقُولُ: إنْ صَدَّقَهُمْ السَّبْيُ الَّذِينَ ادَّعَوْهُمْ بِمَا قَالُوا فَهُمْ مُصَدَّقُونَ وَهُمْ آمِنُونَ مَعَهُمْ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَطْمُورَةِ جُمْلَةً. فَإِذَا تَصَادَقُوا عَلَى شَيْءٍ فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ، فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى مَا يَظْهَرُ بِتَصَادُقِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وَإِنْ كَذَّبُوهُمْ بِمَا قَالُوا كَانُوا فَيْئًا. لِأَنَّهُ عِنْدَ التَّكْذِيبِ لَمْ يَثْبُتْ السَّبَبُ الَّذِي بُنِيَ الْأَمَانُ عَلَيْهِ، وَدَعْوَى الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي الْمَطْمُورَةِ أَنَّهُمْ أَهْلُونَا إلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ خَبَرِهِمْ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ عَارَضُوهُمْ بِالتَّكْذِيبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَالسَّبَبُ هُنَاكَ قَدْ ثَبَتَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالتَّصَادُقِ، وَعَلَيْهِ بَنَيْنَا الْأَمَانَ فَلِهَذَا كَانُوا آمِنِينَ. 426 - فَإِنْ كَانُوا حِينَ كَذَّبَهُمْ هَؤُلَاءِ ادَّعُوا غَيْرَهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلُونَا لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ كَلَامَهُمْ، وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ. وَلِأَنَّا إنَّمَا نَقْبَلُ قَوْلَهُمْ عِنْدَ التَّصْدِيقِ لِنَوْعٍ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ الَّذِي سَبَقَ إلَى فَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُمْ لَا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى التَّصَادُقِ عَلَى الْبَاطِلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ عِنْدَ التَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى. فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ فِي الْمَطْمُورَةِ فَيْئًا، إلَّا الْمُسْتَأْمَنِينَ وَمَنْ صَدَّقَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِيهِمْ. 427 - وَإِنْ ادَّعَى بَعْضَ السَّبْيِ رَجُلَانِ مِنْهُمْ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذَا مِنْ أَهْلِي. فَإِنْ صَدَّقَ الْمُدَّعَى بِهِ أَحَدَهُمَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَكَانَ آمِنًا، وَإِنْ كَذَّبَهُمَا جَمِيعًا كَانَ فَيْئًا. لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي رَتَّبْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ لَمْ يَثْبُتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. 428 - وَأَهْلُهُ وَامْرَأَتُهُ وَوَلَدُهُ الَّذِينَ كَانُوا فِي عِيَالِهِ مِنْ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وَفِي الْقِيَاسِ أَهْلُهُ زَوْجَتُهُ فَقَطْ. لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ لِمَنْ لَهُ زَوْجَةٌ مُتَأَهِّلٌ، وَلِمَنْ لَا زَوْجَةَ لَهُ غَيْرُ مُتَأَهِّلٍ. وَإِنْ كَانَ يَقُولُهُ جَمَاعَةٌ. وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: اسْمُ الْأَهْلِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَعُولُهُ الرَّجُلُ فِي دَارِهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى فِي قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] وَقَدْ اسْتَثْنَى اللَّهُ الزَّوْجَةَ عَنْ الْأَهْلِ فِي قِصَّةِ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلَّا امْرَأَتَهُ} [الأعراف: 83] وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] (80 ب) يَعْنِي زَوْجَتَهُ. فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْمَ الْأَهْلِ يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الزَّوْجَةِ. وَيُقَالُ فُلَانٌ كَثِيرُ الْأَهْلِ: إذَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى جَمَاعَةٍ. وَهَذَا لِأَنَّ الْأَهْلَ وَالْعِيَالَ مُسَاوَاةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ عُرْفًا. 429 - فَأَمَّا ابْنٌ لَهُ كَبِيرٌ هُوَ مُعْتَزِلٌ عَنْهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ ابْنَةٍ مِنْ بَنَاتِهِ لَهَا زَوْجٌ وَقَدْ ضَمَّهَا زَوْجُهَا إلَيْهِ فَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهِ. لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي نَفَقَتِهِ، وَالْأَهْلُ مَنْ يَكُونُ فِي نَفَقَتِهِ فِي دَارِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَرَابَتِهِ. 430 - فَإِذَا تَصَادَقُوا عَلَى ذَلِكَ كَانُوا آمِنِينَ، وَأَيُّهُمْ ادَّعَى ذَلِكَ وَكَذَّبَهُ الْمُسْتَأْمَنُ أَوْ ادَّعَى الْمُسْتَأْمَنُ وَكَذَّبَهُ الْمُدَّعِي فَهُوَ فَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فَإِنْ رَجَعَ الْمُكَذِّبُ مِنْهُمَا إلَى تَصْدِيقِ صَاحِبِهِ وَقَالَ: أَوْهَمْت. لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ. لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامٍ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ تَقَرَّرَ فِيهِ بِالتَّكْذِيبِ، فَلَا يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ رُجُوعِهِ إلَى التَّصْدِيقِ. 431 - وَلَوْ قَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى أَهْلِ بُيُوتَاتِنَا فَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا. فَأَهْلُ بَيْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَرَابَتُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ فِي بِلَادِهِمْ كَمَا يَكُونُ فِي بِلَادِنَا أَهْلُ بَيْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ آلِ عَبَّاسٍ، وَأَهْلُ بَيْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَهْلُ بَيْتِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ السُّكْنَى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بَيْتُ النَّسَبِ. وَالْإِنْسَانُ مَنْسُوبٌ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ بَيْتُ نَسَبِهِ وَأَنَّ مَنْ يُنَاسِبُهُ إلَى أَقْصَى أَبٍ يُعْرَفُونَ بِهِ فَهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ. 432 - وَلَا يَكُونُ أُمُّ الْمُسْتَأْمَنِ وَلَا زَوْجَتُهُ وَلَا إخْوَتُهُ لِأُمِّهِ، وَلَا خَالَاتُهُ وَأَخْوَالُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ. لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى غَيْرِ مَنْ يُنْسَبُ هُوَ إلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ يَصْلُحُونَ لَهَا؟ 433 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى آلِي. فَالْآلُ وَأَهْلُ الْبَيْتِ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ سَوَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى جِنْسِي. لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أَبِيهِ لَا مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أُمِّهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ قِبْطِيَّةً. وَكَذَا إسْمَاعِيلُ كَانَ مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أَبِيهِ لَا مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أُمِّهِ هَاجَرَ. 434 - وَإِنْ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى ذَوِي قَرَابَتِي، أَوْ عَلَى أَقْرِبَائِي، أَوْ عَلَى أَنْسَابِي. فَهَذَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْوَصَايَا فِي الزِّيَادَاتِ. إلَّا أَنَّهُ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ فِي فَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِحْقَاقَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ. وَهَا هُنَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ فِيهِ سَوَاءٌ. لِأَنَّ ذَلِكَ إيجَابٌ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، وَالْإِنْسَانُ فِي الصِّلَةِ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَقْرَبِ وَالْأَبْعَدِ وَيُرَتِّبُ الْأَبْعَدَ عَلَى الْأَقْرَبِ. وَهَذَا اسْتِنْقَاذٌ. وَالْإِنْسَانُ عِنْدَ اكْتِسَابِ سَبَبِ الِاسْتِنْقَاذِ لَا يُرَتِّبُ الْأَبْعَدَ عَلَى الْأَقْرَبِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي التَّسْوِيَةِ هُنَاكَ إضْرَارًا بِالْأَقْرَبِ فَإِنَّهُ يُنْقِصُ حَقَّهُ وَلَا (81 آ) يَجُوزُ الْإِضْرَارُ بِالْأَقْرَبِ لِمُزَاحَمَةِ الْأَبْعَدِ. وَهَاهُنَا لَيْسَ فِي التَّسْوِيَة إضْرَارٌ بِالْأَقْرَبِ، لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْأَمَانَ لَهُ سَوَاءٌ ثَبَتَ لِلْأَبْعَدِ مَعَهُ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ لِذَوِي قَرَابَتِهِ لَا يَدْخُلُ وَلَدُهُ وَوَالِدُهُ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَرِثُونَهُ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي. وَفِي الْأَمَانِ يَدْخُلُ وَلَدُهُ وَوَالِدُهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى الْغَيْرِ بِوَاسِطَةِ. فَأَمَّا مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْقَرَابَةِ. وَأَيَّدَ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَطَفَ الْأَقْرَبِينَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: 435 - مَقْصُودُهُ مِنْ طَلَبِ الْأَمَانِ لِقَرَابَتِهِ اسْتِنْقَاذُهُمْ لِلشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَشَفَقَتُهُ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ أَظْهَرُ مِنْ شَفَقَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْقَرَابَاتِ. فَلِمَعْرِفَةِ الْمَقْصُودِ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي الْأَمَانِ وَلِأَنَّا إنَّمَا لَا نُدْخِلُهُمْ فِي هَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ الْجَفَاءِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِأَبِيهِ هُوَ قَرِيبِي. وَفِي فَصْلِ الْأَمَانِ الْجَفَاءُ فِي تَرْكِ اسْتِنْقَاذِهِ أَوْ طَلَبِ الْأَمَانِ لِغَيْرِهِ أَظْهَرُ. فَلَوْ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي الِاسْمِ هَا هُنَا يُؤَدِّي إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْبِرِّ لَا إلَى الْجَفَاءِ وَالْعُقُوقِ. فَلِهَذَا أُدْخِلُوا فِي الْأَمَانِ. 436 - قَالَ: وَلَوْ اسْتَأْمَنُوا عَلَى مَتَاعِهِمْ ثُمَّ ادَّعُوا جَيِّدَ الْمَتَاعِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَتَاعُ أُخِذَ مِنْ يَدِ بَعْضِ أَهْلِ الْمَطْمُورَةِ وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ، فَإِنْ صَدَّقُوهُمْ فَهُمْ مُصَدَّقُونَ، وَإِنْ كَذَّبُوهُمْ كَانَ فَيْئًا. لِأَنَّا عَرَفْنَا كَوْنَ الْيَدِ فِي هَذِهِ الْأَمْتِعَةِ لَهُ إلَى أَنْ أُخِذَ مِنْهُ. وَلِصَاحِبِ الْيَدِ قَوْلٌ فِيمَا فِي يَدِهِ، كَمَا أَنَّ لِلْمَرْءِ قَوْلًا مُعْتَبَرًا فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمُدَّعِي؛ فَكَذَلِكَ فِي الْمَتَاعِ يُرْجَعُ إلَى تَصْدِيقِ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ وَلَا يُقَالُ يَدُهُ زَائِلَةٌ فِي الْحَالِ. لِأَنَّ سَبَبَ زَوَالِهَا الْأَخْذُ عَلَى وَجْهِ الِاغْتِنَامِ. وَمَا ثَبَتَ فِي الْأَمَانِ لَا يَكُونُ مَحَلَّ الدَّاخِلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي النُّفُوسِ مَوْجُودٌ أَيْضًا فَقَدْ صَارَتْ مَأْخُوذَةً مِنْهُمْ بِالِاغْتِنَامِ حُكْمًا، وَمَعَ ذَلِكَ اُعْتُبِرَ تَصْدِيقُهُمْ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ. 437 - فَإِنْ ادَّعُوا بَعْدَ هَذَا التَّكْذِيبِ مَتَاعًا آخَرَ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 لِأَنَّ فِي دَعْوَاهُمْ الْأُولَى بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمَطْمُورَةِ سِوَى مَا ادَّعَوْا مِنْ الْمَتَاعِ، وَطَرِيقُ الْمَفْهُومِ الَّذِي نَعْتَبِرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَكَانُوا مُتَنَاقِضِينَ فِيمَا يَدَّعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ. 438 - وَإِنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ كَانَ الْمَتَاعُ فِي يَدِهِ وَقَالَ: هُوَ مَتَاعِي، ثُمَّ صَدَّقَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى هَذَا التَّصْدِيقِ لِلتَّنَاقُضِ، وَلِتَقَرُّرِ حُكْمِ الِاغْتِنَامِ فِيهِ بِالتَّكْذِيبِ، فَيَكُونُ الْمَتَاعُ فَيْئًا. 439 - وَإِنْ وَجَدْنَا الْمَتَاعَ فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْمَنِينَ فَقَالُوا: هُوَ مَتَاعُنَا الَّذِي أَمَّنْتُمُونَا عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُمْ. لِأَنَّ أَصْلَ الْيَدِ لَهُمْ، وَهِيَ شَاهِدَةٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ. فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ. 440 - وَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَسْتَحْلِفُهُ. لِأَنَّ أَكْثَرَ (81 ب) مَا فِيهِ أَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يُخْبِرُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ، فَإِنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ شَرْعًا إنَّمَا تَنْتَفِي بِالْيَمِينِ. وَلَا يَسْتَحْلِفُهُ إلَّا بِاَللَّهِ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» . إلَّا أَنَّهُ يُغْلِظُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ. فَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا اسْتَحْلَفَهُ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا اسْتَحْلَفَهُ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 لِأَنَّ انْزِجَارَهُ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَظْهَرُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِحْلَافِ هَا هُنَا. قَالَ: وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا اسْتَحْلَفَهُ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ. لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا: لَا يُسْتَحْلَفُ الْمَجُوسِيُّ إلَّا بِاَللَّهِ. لِأَنَّ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مَعْنَى تَعْظِيمِ النَّارِ، وَالنَّارُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْجَمَادَاتِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ فِيمَا يَزِيدُ مَعْنَى تَعْظِيمِ الْكِتَابَيْنِ وَالرَّسُولَيْنِ وَذَلِكَ يَسْتَقِيمُ. 441 - فَإِنْ كَانُوا أَمَّنُوهُمْ عَلَى أَهْلِيهِمْ فَقَالَ: هَذَا مِنْ أَهْلِي وَصَدَّقَهُ الْمُدَّعِي ثُمَّ قَالَ الْمُدَّعِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِي وَقَدْ كَذَبْت، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي. لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِادِّعَائِهِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي يُرِيدُ إبْطَالَ الْأَمَانِ الثَّابِتِ لَهُ. 442 - وَهُوَ لَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُنَاقِضًا، وَلَوْ رَجَعَ الْمُدَّعَى دُونَ الْمُدَّعِي كَانَ الْمُدَّعَى فَيْئًا. لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبِكَوْنِهِ مِنْ أَهْل الْمُدَّعِي لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولَ الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لَهُ وَصَدَّقَهُ الْمُدَّعَى ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَسْت بِمَمْلُوكٍ، لَمْ يُصَدَّقْ وَكَانَ مَمْلُوكًا لَهُ. لِأَنَّ بِتَصْدِيقِهِ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ. فَلَا يَبْقَى لَهُ قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَمَمْلُوكُهُ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ فَيَتَنَاوَلُهُ الْأَمَانُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: لَيْسَ مِنْ أَهْلِي، وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِي. وَكَذَّبَهُ الْمُدَّعَى فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ الْمُدَّعَى أَقَرَّ فِي مِلْكِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْغَانِمِينَ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ. إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَقْتُلَهُ. لِأَنَّهُ صَارَ آمِنًا مِنْ الْقَتْلِ بِتَصَادُقِهَا فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَوْ أُبِيحَ قَتْلُهُ إنَّمَا يُبَاحُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي. وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَمْلُوكِهِ فِي إبَاحَةِ دَمِهِ. 444 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُنَاقِضًا؟ وَإِنْ تَصَادَقَا جَمِيعًا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ فَلِلْأَمِيرِ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ كَانَ رَجُلًا إنْ شَاءَ. لِأَنَّ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي انْتَفَى مِلْكُهُ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي وَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمَانُ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ إبَاحَةِ دَمِهِ. 445 - كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ كَانَ إقْرَارُهُ صَحِيحًا، حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا. وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: هُوَ ابْنِي فِي عِيَالِي، وَصَدَّقَهُ الْمُدَّعَى وَهُوَ رَجُلٌ، فَاتَّهَمَهُمَا الْأَمِيرُ، فَإِنَّهُ يُحَلِّفُ الْمُدَّعَى. فَإِنْ حَلَفَ كَانَ حُرًّا وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ كَانَ فَيْئًا. لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ (82 آ) الْغَانِمِينَ فِيهِ، فَإِنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وَلَكِنَّهُ لَا يُقْتَلُ. لِأَنَّهُ آمِنٌ مِنْ الْقَتْلِ بِتَصَادُقِهِمَا. فَلَوْ جَازَ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا يَجُوزُ بِالنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ بِدَلِيلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا غَلَطٌ. لِأَنَّ إبَاحَةَ الْقَتْلِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ النُّكُولِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُبَاحُ الدَّمِ فَبِنُكُولِهِ يَنْتَفِي الْمَانِعُ وَهُوَ الْأَمَانُ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى الْقَاتِلُ الْعَفْوَ عَلَى الْوَلِيِّ وَجَحَدَ الْوَلِيُّ وَحَلَفَ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ وَلَا يَكُونُ هَذَا قَتْلًا بِالْيَمِينِ. وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَصْلِ قَدْ ارْتَفَعَتْ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمُدَّعِي. فَلَوْ جَازَ قَتْلُهُ بَعْدَ هَذَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ نُكُولِهِ. وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِي النُّكُولِ مِنْ الشُّبْهَةِ وَالِاحْتِمَالِ. فَقَدْ يَكُونُ لِلتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ. وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ لَمْ يَحْصُلْ. لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ عَلَى ابْنِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الرِّقِّ وَإِبَاحَةِ الْقَتْلِ. وَالْمَقْصُودُ بِالِاسْتِحْلَافِ هَذَا. 446 - وَإِنْ قَالَ الَّذِي اسْتَأْمَنَ عَلَى مَتَاعِهِ: لَمَتَاعُ هَذَا مِنْ مَتَاعِي وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ قَالَ هَذَا بَعْدَ مَا صَارَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُعْرَفْ فِيهِ يَدٌ لِأَحَدٍ فِيمَا مَضَى وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْيَدِ الظَّاهِرَةِ فِي الْحَالِ، وَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ مُوجِبَةُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُمْ. فَالْمُدَّعِي يُبْطِلُ حَقًّا ظَهَرَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. 447 - وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْمَتَاعُ إلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّ مَا كَانَ فِي الْمَطْمُورَةِ فَيَدُهُ إلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ يَدِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ كَانَ فِي الْمَطْمُورَةِ. فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ حِينَ ادَّعَى ذَلِكَ. 448 - وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ وَيَدِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا فَوَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْأَمِيرِ وَهُمْ مُتَعَلِّقُونَ بِهِ، فَهُوَ لِلْمُسْتَأْمَنِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ. لِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ أَقْرَبَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِينَ يَدٌ مُسْتَحْدَثَةٌ فِيهِ، فَمَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ لَا يُعْتَبَرُ يَدُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّا لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُسْتَأْمَنِ؟ فَهَذَا أَوْلَى. 449 - وَكَذَلِكَ إنْ وَصَلَ إلَى الْأَمِيرِ، وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَطْمُورَةِ وَقَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُتَعَلِّقُونَ بِهِ، وَأَهْلُ الْمَطْمُورَةِ يُقِرُّونَ أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْمَنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْيَدَ فِي الْأَصْلِ كَانَتْ لَهُمْ فَلَا يُعْتَبَرُ يَدُ الْمُسْلِمِينَ (82 ب) بِتَعَلُّقِهِمْ بِهِ. 450 - فَأَمَّا إذَا وَصَلُوا إلَى الْأَمِيرِ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فَقَدْ عَرَفْنَا زَوَالَ الْيَدِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَدْرِي لِمَنْ كَانَتْ حَقِيقَةً: لِلْمُدَّعِي كَانَ، أَوْ لِلْمُصَدِّقِينَ لَهُ، أَوْ لِغَيْرِهِمْ. فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْحَالِ، وَهُوَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ إزَالَتُهَا إلَّا بِبَيِّنَةِ عُدُولٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. 451 - فَإِنْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ ذَلِكَ أَخَذُوهُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ، أَوْ أَقَرَّ الَّذِينَ ذَلِكَ فِي أَيْدِيهِمْ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ، أَوْ أَقَرُّوا أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْمَطْمُورَةِ، وَأَقَرَّ أُولَئِكَ أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ أَوْ شَهِدَ شُهُودٌ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَطْمُورَةِ وَأَقَرَّ أُولَئِكَ أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ فَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَالثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَذَلِكَ. وَالِاسْتِحْقَاقُ لِلْمُسْلِمِينَ الْآنَ بِاعْتِبَارِ يَدِ الْآخِذِينَ فِي بَيَانِ جِهَةِ الْوُصُولِ إلَى أَيْدِيهِمْ. فَلِهَذَا وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الَّذِينَ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ إلَّا بَعْدَمَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ. فَهَذَا وَمَا لَوْ أَقَرُّوا بِهِ قَبْلَ الْأَخْذِ مِنْهُمْ سَوَاءٌ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَصْلَ الْيَدِ لَهُمْ وَتِلْكَ الْيَدُ قَائِمَةٌ حُكْمًا لِمَا وَجَبَ اعْتِبَارُ تَصَادُقِهِمْ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِينَ. فَكَانَ إقْرَارُهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِمْ قَبْلَهُ. 452 - فَإِنْ اقْتَسَمَ الْمُسْلِمُونَ الْمَتَاعَ، أَوْ بِيعَ الْمَتَاعُ، ثُمَّ ادَّعَى الْمُسْتَأْمَنُونَ أَنَّ الْمَتَاعَ مَتَاعُهُمْ، لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهُ أُخِذَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ قَوْمٍ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْمِلْكِ لَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدِيمٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَالْمِلْكُ لَا يُسْتَحَقُّ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ بَلْ بِالْحُجَّةِ التَّامَّةِ. وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَحَاجَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ هُنَا إلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُلَّاكِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَا. 453 - فَإِنْ أَقَرَّ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا أَخَذُوهُ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ أَيْدِي الْمُسْتَأْمَنِينَ، أَوْ مِنْ أَيْدِي قَوْمٍ يُقِرُّونَ أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ، لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِي الْمَتَاعِ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ، فَهُمْ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ. إلَّا أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سَهْمِ الَّذِي أَقَرَّ فَيُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَيُرَدُّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ. لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِ أَوْ أَقْوَى. وَلَكِنْ لَا يُعَوَّضُ. لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ كَانَ بِإِقْرَارِهِ، وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى سَائِرِ الْغَانِمِينَ، فَكَانَ هُوَ فِي حَقِّهِمْ مُتْلِفًا نَصِيبَ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّعْوِيضَ مِنْ الْغَنِيمَةِ. 454 - فَأَمَّا السَّبْيُ فَهُمْ مُصَدَّقُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَإِنْ وَقَعُوا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، مَا لَمْ يَقْتَسِمُوا أَوْ يُبَاعُوا، سَوَاءٌ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ قَدْ أُخْرِجُوا مِنْهَا. لِأَنَّ اعْتِبَارَ يَدِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يَزُولُ إلَّا بِضَرْبِ الرِّقِّ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ أَوْ الْبَيْعِ دُونَ الْإِحْرَازِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ بَعْدَ الْإِحْرَازِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 آ) وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ضَرْبِ الرِّقِّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلَهُمْ. وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ فَيَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانُوا إحْرَازَ الْأَصْلِ. 455 - فَأَمَّا إذَا اُقْتُسِمُوا أَوْ بِيعُوا لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ الرِّقَّ قَدْ تَقَرَّرَ فِيهِمْ، فَلَا قَوْلَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَدَ مُعْتَبَرَةً فِي أَنْفُسِهِمْ. إلَّا أَنْ يَقُومَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ تَصَادَقُوا مَعَ الْمُسْتَأْمَنِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِيهِمْ، فَحِينَئِذٍ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. 456 - وَكَذَلِكَ فِي الْمَتَاعِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُمْ تَصَادَقُوا عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ الْأَخْذِ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْأَخْذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِي الْمَتَاعِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبِ الرِّقِّ عَلَيْهِمْ بِالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي مَتَاعٍ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْيَدِ فِيهِ لِمَنْ كَانَ. 457 - وَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنْ كَانَ مُشْتَرِيًا رَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ غَازِيًا أَصَابَهُ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ، عُوِّضَ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَتْ الْغَنَائِمُ كُلُّهَا قُسِّمَتْ. لِأَنَّ نَصِيبَهُ قَدْ اسْتَحَقَّ، فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعُ بِعِوَضِهِ عَلَى الْغَانِمِينَ. 458 - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ لِتَفَرُّقِهِمْ، فَتَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 هَذِهِ نَائِبَةٌ مِنْ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ يَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهُ كَجَوْهَرَةٍ وَنَحْوِهَا يُوضَعُ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ دَرْكٌ يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ. 459 - وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى هَذَا هُمْ الَّذِينَ اشْتَرَوْا أَوْ وَقَعَ الْمَتَاعُ فِي سِهَامِهِمْ، صُدِّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِإِقْرَارِهِمْ. وَلَا يُصَدَّقُونَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الرُّجُوعِ بِعِوَضٍ وَلَا ثَمَنٍ، فَيُؤْخَذُ مَا فِي أَيْدِيهِمْ فَيُرَدُّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ، وَتُرِكُوا يَرْجِعُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، إلَّا الْكُرَاعُ وَالسِّلَاحُ وَالرَّقِيقُ فَإِنَّهَا قَدْ اُحْتُبِسَتْ فِي دَارِنَا حَتَّى نَفَذَ فِيهَا الْقِسْمَةُ وَالْبَيْعُ. وَهَذَا الِاحْتِبَاسُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى لَا يَتَقَوَّى أَهْلُ الْحَرْبِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ. فَلَا يُصَدَّقُ الْمُلَّاكُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبُوهُ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ أَوْ بَاعُوهُ مِنْهُمْ، فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 460 - وَلَوْ قَالَ الَّذِينَ أُمِّنُوا عَلَى أَهْلِيهِمْ وَمَتَاعِهِمْ: جَمِيعُ مَا فِي الْمَطْمُورَةِ أَهْلُونَا، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا مَتَاعُنَا، وَنَحْنُ بَطَارِقَتُهَا، وَصَدَّقَهُمْ بِذَلِكَ مَنْ فِيهَا فَهُمْ مُصَدَّقُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 لِأَنَّ الْمَعْنَى (83 ب) الَّذِي لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَصْدِيقُهُمْ إذَا ادَّعُوا بَعْضَ مَا فِيهَا، وَذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْكُلِّ. وَلَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافَ ذَلِكَ. بِأَنْ كَانُوا قَوْمًا مَعْرُوفِينَ بِأَنَّهُمْ رُءُوسُ أَهْلِ الْمَطْمُورَةِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يُعْلَمُ خِلَافُ ذَلِكَ لَا يُصَدَّقُونَ. لِأَنَّ التَّصْدِيقَ هُنَا بِاعْتِبَارِ نَوْعٍ مِنْ الظَّاهِرِ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ دَلِيلُ الْكَذِبِ. 461 - قَالَ: وَلَا يَدْخُل فِي الْمَتَاعِ نَقْدٌ وَلَا تِبْرٌ وَلَا حُلِيٌّ وَلَا جَوْهَرٌ. لِأَنَّ الْمَتَاعَ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِمَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْحُلِيَّ اخْتَصَّتْ بِاسْمٍ آخَرَ وَهُوَ الْعَيْنُ أَوْ الْجَوْهَرُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ دُخُولَهَا فِي مُطْلَقِ اسْمِ الْمَتَاعِ وَلِأَنَّ الْمَتَاعَ مَا يَكُونُ مُبْتَذَلًا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَفْنَى بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ لِنَفَاسَتِهَا، وَيَدْخُلُ فِي الْمَتَاعِ مَا سِوَاهَا مِنْ الثِّيَابِ وَالْفُرُشِ وَالسُّتُورِ وَجَمِيعِ مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَوَانِي. لِأَنَّ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ يُعْطَفُ الْأَوَانِي عَلَى الْأَمْتِعَةِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْعَطْفُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوَانِيَ غَيْرُ الْأَمْتِعَةِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْأَوَانِي الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْبُيُوتِ تَدْخُلُ فِي الْمَتَاعِ. لِأَنَّ الْمَفْهُومَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مُطْلَقٍ اسْمِ الْمَتَاعِ مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ فِي الْبُيُوتِ، وَيَتَأَتَّى بِهِ السُّكْنَى وَالْمُقَامُ فِي الْبُيُوتِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْأَوَانِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ السِّلَاحُ وَالْكُرَاعُ وَالسُّرُوجُ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا يُسْتَمْتَعُ بِهَا فِي الْبُيُوتِ، وَإِنَّمَا يُسْتَمْتَعُ بِهَا عِنْدَ الرُّكُوبِ أَوْ الْحَرْبِ. وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى فِي الْبُيُوتِ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْمَتَاعِ، كَمَا لَا يَتَنَاوَلُ النُّقُودَ وَالْمَصَاغَ وَالْجَوَاهِرَ. 462 - وَإِنْ كَانُوا قَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى مَا لَنَا مِنْ شَيْءٍ، دَخَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَعُمُّ كُلَّ مَوْجُودٍ. وَلَوْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى مَا لَنَا أَوْ عَلَى جَمِيعِ مَا لَنَا مِنْ مَالٍ، دَخَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ أَيْضًا. لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُتَمَوَّلٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ دَخَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَمَانِ. وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ فِي النَّذْرِ بِالصَّدَقَةِ لَفْظُ الْمَالِ بِمَالِ الزَّكَاةِ لِنَوْعٍ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْأَمَانِ، بَلْ هَذَا نَظِيرُ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَالْإِرْثُ يَثْبُتْ فِي كُلِّ مَالٍ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ. وَهَا هُنَا إعْطَاءُ الْأَمَانِ عَلَى الْمَالِ نَظِيرُ اغْتِنَامِ الْمَالِ، فَكَمَا أَنَّ الِاغْتِنَامَ يَثْبُتُ فِي كُلِّ مَالٍ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَمَانِ عِنْدَ إعْطَائِهِ بِلَفْظِ الْمَالِ. 463 - وَإِنْ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: أَمِّنُوا أَهْلِينَا فَقَالُوا: نَعَمْ قَدْ أَمَّنَّاهُمْ، فَهُمْ فَيْءٌ، وَأَهْلُوهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْأَمَانَ لَأَهْلِيهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا (84 آ) أَنْفُسَهُمْ بِشَيْءٍ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً وَلَا دَلَالَةً. فَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَهْلُهُ غَيْرُهُ. لِأَنَّ الْمُضَافَ غَيْرُ الْمُضَافِ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَذَا أَمَانَ أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْأَمَانَ إشْفَاقًا عَلَى أَهْلِيهِمْ، وَشَفَقَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَظْهَرُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِيهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وَالثَّانِي. أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَذَا اسْتِبْقَاءَ أَهْلِيهِمْ، وَبَقَاؤُهُمْ بِمَنْ يَعُولُهُمْ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنْفُسُهُمْ. قُلْنَا: نَعَمْ هُمْ قَصَدُوا هَذَا، وَلَكِنْ حُرِمُوا هَذَا الْمَقْصُودَ حِينَ خَذَلَهُمْ اللَّهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا أَنْفُسَهُمْ بِشَيْءٍ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. ثُمَّ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ الْأَمَانُ، بَلْ بِإِعْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُمْ الْأَمَانَ. وَإِنَّمَا أَعْطَوْا أَهْلِيهِمْ فَقَالُوا: أَمَّنَّاهُمْ وَلَوْ يَقُولُوا أَمَّنَّاكُمْ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَقَعَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ. وَكَانَ الَّذِي يَسْعَى فِي طَلَبِ الْأَمَانِ لِلْجَمَاعَةِ قَدْ آذَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللَّهُمَّ أَغْفِلْهُ عَنْ نَفْسِهِ. فَطَلَبَ الْأَمَانَ لِقَوْمِهِ وَأَهْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ. فَأُخِذَ وَقُتِلَ. ثُمَّ الْإِنْسَانُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يَسْعَى فِي اسْتِنْقَاذِ أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، إمَّا لِانْقِطَاعِ طَمَعِهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤَمَّنُ إنْ طَلَبَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَلَّ مِنْ نَفْسِهِ لِفَرْطِ الضَّجَرِ. فَبِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ الدَّلِيلُ مُشْتَرَكٌ، وَبِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ لَا ذِكْرَ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: نَضَعُ أَيْدِيَنَا فِي أَيْدِيكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُوا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَفَعَلَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، لَمْ نُدْخِلْهُمْ فِي الْأَمَانِ. فَإِنَّ مَعْنَى كَلَامِهِمْ: أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا فِي أَيْدِيكُمْ لِتَفْعَلُوا بِنَا مَا شِئْتُمْ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. فَإِنْ قَالُوا: نَخْرُجُ إلَيْكُمْ عَلَى أَنْ نُرَاوِضَكُمْ فِي الْأَمَانِ عَلَى أَهْلِينَا. فَقَالُوا لَهُمْ: اُخْرُجُوا. فَلَمَّا خَرَجُوا أَمَّنُوا أَهْلِيهِمْ. فَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ أَمَّنُوا أَهْلِيهِمْ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ حِينَ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لِلْمُرَاوَضَةِ عَلَى الْأَمَانِ، فَهَذَا أَمَانٌ مِنْهُمْ لَهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَهَيَّأْ بَيْنَهُمْ أَمَانٌ فِي شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ وَلَا يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِشَيْءٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَهُنَاكَ قَالُوا وَهُوَ فِي الْمَطْمُورَةِ: أَمِّنُوا أَهْلِينَا. فَأَمَّنَّا أَهْلِيهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ ذَلِكَ الْكَلَامُ، ثُمَّ خَرَجُوا لَا عَلَى طَلَبِ الْأَمَانِ فَكَانُوا فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وَإِنْ قَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى ذَرَارِيّنَا فَأَمَّنُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَهُمْ آمِنُونَ وَأَوْلَادُهُمْ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، وَإِنْ سَفَلُوا مِنْ أَوْلَادِ الرِّجَالِ. لِأَنَّ اسْمَ الذُّرِّيَّةِ يَعُمُّ جَمِيعَ ذَلِكَ. فَذُرِّيَّةُ الْمَرْءِ فَرْعُهُ الَّذِي هُوَ مُتَوَلَّدٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَصْلٌ لِذُرِّيَّتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ ذُرِّيَّةُ آدَمَ وَنُوحٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم: 58] الْآيَةِ (84 ب) . 465 - قَالَ: وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ. هَكَذَا قَالَ هَا هُنَا وَوُجْهَتُهُ أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آبَائِهِمْ لَا مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمِ الْأُمِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آبَائِهِمْ، كَمَا قَالَ الْمَأْمُونُ: لَا عَيْبَ لِلْمَرْءِ فِيمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... أُمٌّ مِنْ الرُّومِ أَوْ سَوْدَاءُ عَجْمَاءُ فَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ، وَلِلْأَنْسَابِ آبَاءُ 466 - وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُدْخِلُ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ. وَوُجْهَتُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الذُّرِّيَّةَ اسْمُ الْفَرْعِ الْمُتَوَلَّدِ مِنْ الْأَصْلِ. وَالْأَبُ وَالْأُمُّ أَصْلَانِ لِلْوَلَدِ. ثُمَّ الْأُمُّ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبِيهَا. فَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَيْضًا. وَمَعْنَى الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّوَلُّدِ فِي جَانِبِ الْأُمِّ أَرْجَحِ، لِأَنَّ مَاءَ الْفَحْلِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِحَضَانَتِهَا فِي رَحِمِهَا. فَإِنَّمَا يَكُونُ الْوَلَدُ مُتَوَلَّدًا مِنْهَا بِوَاسِطَةِ مَاءِ الْفَحْلِ. فَإِذَا جُعِلَ النَّافِلَةُ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبِ أَبِيهِ، فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبِ أُمِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وَفِيهِ حِكَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ. فَإِنَّ الْحَجَّاجَ أَمَرَ بِهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ لَهُ: لَتَقْرَأَنَّ عَلَيَّ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَصًّا عَلَى أَنَّ الْعَلَوِيَّةَ ذُرِّيَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ، وَلَا أُرِيدُ قَوْله تَعَالَى: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] . فَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] . إلَى أَنْ قَالَ: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام: 85] ثُمَّ قَالَ: فَعِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ مِنْ قِبَل الْأُمِّ؟ فَبُهِتَ الْحَجَّاجُ وَرَدَّهُ بِجَمِيلٍ. وَقَالَ: كَأَنِّي سَمِعْت هَذِهِ الْآيَةَ الْآنَ. 467 - وَلَوْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى أَوْلَادِنَا. فَهَذَا عَلَى أَوْلَادِهِمْ لِأَصْلَابِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ، وَأَمَّا أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فَلَيْسُوا بِأَوْلَادِهِمْ. هَكَذَا ذُكِرَ هَا هُنَا. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْأَمَانِ أَيْضًا. لِأَنَّ اسْمَ الْأَوْلَادِ يَتَنَاوَلُهُمْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا. وَأَيَّدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ أَخَذَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ: «أَوْلَادُنَا أَكْبَادُنَا» . فَأَمَّا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وَمَنْ كَانَ وَلَدَك حَقِيقَةً كُنْت أَبًا لَهُ حَقِيقَةً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 أَوْ كَانَ ذَلِكَ لِأَوْلَادِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى الْخُصُوصِ. كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ الْأَوْلَادِ يَنْتَمُونَ إلَى آبَائِهِمْ، إلَّا أَوْلَادُ فَاطِمَةَ فَإِنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيَّ، أَنَا أَبُوهُمْ» . وَلَكِنَّ هَذَا حَدِيثٌ شَاذٌّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ كَمَا تَلَوْنَا. - وَلَوْ اسْتَأْمَنُوا عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ لِأَنَّ اسْمَ وَلَدِ الْوَلَدِ حَقِيقَةٌ لِمَنْ وَلَدَتْهُ وَهُوَ وَلَدُهُ وَابْنَةُ وَلَدِهِ. فَمَا وُلِدَ لِابْنَتِهِ يَكُنْ وَلَدَ وَلَدِهِ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ ذَكَرَ هُنَاكَ أَوْلَادَهُ وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَدُهُ هُوَ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مَنْ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ وَذَلِكَ أَوْلَادُ الِابْنِ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ. 469 - وَلَوْ قَالَ: أَمِّنُونَا عَلَى مَوَالِينَا. وَلَهُمْ مَوَالٍ وَمَوَالِي (85 آ) مَوَالٍ، فَكُلُّهُمْ آمِنُونَ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَدْخُلُ مَوَالِي الْمَوَالِي، لِأَنَّ الِاسْمَ لِمَوَالِيهِ حَقِيقَةً، وَلِمَوَالِي الْمَوَالِي مَجَازًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ نَفْيُهُ عَنْهُمْ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ مَوَالِيهِ؟ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ لِمَوَالِيهِ، حَتَّى لَا يُزَاحِمُونَ مَوَالِيَهُ. وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: 470 - مَوَالِي الْمَوَالِي يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمَوَالِي، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ مَعَ الْأَوْلَادِ. وَفِي الْوَصِيَّةِ يَدْخُلُ مَوَالِي الْمَوَالِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ، إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْفَرِيقَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 لَوْ أَثْبَتْنَا الْمُزَاحَمَةَ انْتَقَضَ نَصِيبُ الْمَوَالِي، وَلَا يَجُوزُ إدْخَالُ النُّقْصَانِ عَلَى الْأَقْرَبِ بِمُزَاحَمَةِ الْأَبْعَدِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْأَمَانِ، فَسَوَاءٌ دَخَلَ مَوَالِي الْمَوَالِي أَوْ لَمْ يَدْخَلُوا كَانَ الْأَمَانُ لِمَوَالِيهِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَقْصُودَهُ اسْتِنْقَاذُ الْفَرِيقَيْنِ. ثُمَّ لَا نَقُولُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَكِنَّ هَذَا الِاسْمَ لِلْمَوَالِي حَقِيقَةً وَلِمَوَالِي الْمَوَالِي أَيْضًا صُورَةً وَمَجَازًا، فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الصُّورَةِ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةٌ فِي حَقِّهِمْ. وَالْأَمَانُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ حَيْثُ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ صُورَةً، فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَوْلَى. وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ. 471 - وَلَوْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى إخْوَانِنَا وَلَهُمْ إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ فَهُمْ آمِنُونَ. لِاسْمِ الْإِخْوَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} [النساء: 176] وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الصِّيغَةُ لِلذُّكُورِ، إلَّا أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ الْعَرَبِ عِنْدَ اخْتِلَاطِ الذُّكُورِ بِالْإِنَاثِ تَغْلِيبَ الذُّكُورِ وَإِطْلَاقَ عَلَامَةِ الذُّكُورِ عَلَى الْكُلِّ. وَالْمُسْتَعْمَلُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ. نَقُولُ: فَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَخَوَاتٌ لَيْسَ مَعَهُنَّ وَاحِدٌ مِنْ الذُّكُورِ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي الْأَمَانِ. لِأَنَّ الْإِنَاثَ الْمُفْرَدَاتِ لَا تَتَنَاوَلُهُنَّ صِيغَةُ الذُّكُورِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] ، ثُمَّ الْأَخَوَاتُ الْمُنْفَرِدَاتُ يَحْجُبْنَ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ؟ قُلْنَا: لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ بَلْ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَاعْتِبَارِ مَعْنَى الْحَجْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ. وَلَكِنَّ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ، فَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْعِبَادِ يُرَاعَى عَيْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الْمَلْفُوظِ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِتَعْلِيلِهِ. وَاسْمُ الْإِخْوَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِنَاثُ الْمُفْرَدَاتِ حَقِيقَةً وَلَا اسْتِعْمَالًا. 472 - وَلَوْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى أَبْنَائِنَا، وَلَهُمْ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَهُمْ آمِنُونَ جَمِيعًا. لِمَا بَيَّنَّا فِي الْإِخْوَةِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: جَوَابُهُ فِي الْفَصْلَيْنِ قَوْلُهُمَا وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ الْآخَرُ فَيَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ خَاصَّةً، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِبَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٌ أَبُ أَوْلَادٍ، أَوْ لِإِخْوَةِ فُلَانٍ. وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ يُتَوَسَّعُ فِي بَابِ الْأَمَانِ مَا لَا يُتَوَسَّعُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ. فَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الْوَصِيَّةِ اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ فَقَطْ، فَأَمَّا فِي الْأَمَانِ فَيَعْتَبِرُ الْحَقِيقَةَ وَمَا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ بِطَرِيقِ (85 ب) الِاسْتِعْمَالِ. 473 - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذَكَرٌ وَإِنَّمَا لَهُمْ بَنَاتٌ خَاصَّةً، فَهُنَّ فَيْءٌ جَمِيعًا. لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ الْمُفْرَدَاتِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ أَبَا قَبِيلَةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْوَصَايَا أَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ، وَفُلَانُ أَبُو قَبِيلَةٍ، فَالْمُرَادُ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ إلَى الْقَبِيلَةِ. وَالْإِنَاثُ الْمُفْرَدَاتُ فِي النِّسْبَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ كَالذُّكُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فُلَانٌ أَبَا أَوْلَادٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إذَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كَلَامٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْأَمَانَ لَهُنَّ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ لِي إلَّا هَؤُلَاءِ الْبَنَاتُ أَوْ الْأَخَوَاتُ فَأَمِّنُونِي عَلَى بَنِيَّ أَوْ عَلَى أَخَوَاتِي، فَحِينَئِذٍ يُسْتَدَلُّ بِتِلْكَ الْمُقَدَّمَةِ أَنَّ مُرَادَهُ الْإِنَاثُ فَهُنَّ آمِنَاتٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وَإِنْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى أَوْلَادِنَا دَخَلَ فِي هَذَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ الْمُفْرَدَاتُ أَيْضًا. لِأَنَّ الْوِلَادَ حَقِيقَةٌ فِي الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] . ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] فَقَدْ فُسِّرَ ` الْأَوْلَادُ بِالْإِنَاثِ الْمُفْرَدَاتِ. 475 - وَإِنْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى بَنَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا، فَهَذَا عَلَى الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ. لِأَنَّ صِيغَةَ الْكَلَامِ لِلْإِنَاثِ خَاصَّةً، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ حَقِيقَةً وَلَا اسْتِعْمَالًا. وَمِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ قَدْ يَطْلُبُ الْأَمَانُ لِلْإِنَاثِ خَاصَّةً لِضَعْفِهِنَّ، وَلِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُجَابُ إلَى الْأَمَانِ لَوْ طَلَبَهُ لِلذُّكُورِ بَعْدَ مَا اتَّصَلَ مِنْهُمْ أَذًى بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْقِتَالُ. 476 - وَإِنْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى بَنِينَا، فَإِذَا لِكُلِّهِمْ بَنَاتٌ إلَّا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَإِنَّ لَهُ ابْنًا وَاحِدًا، كَانَ الْأَمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. لِأَنَّهُمْ اسْتَأْمَنُوا لِلْكُلِّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ تَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ، وَبِالِابْنِ الْوَاحِدِ لِأَحَدِهِمْ يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَاطُ. 477 - وَإِنْ قَالُوا: أَمِّنُونَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا عَلَى بَنِيهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، كَانَ الْبَنَاتُ كُلُّهُنَّ فَيْئًا إلَّا أَوْلَادَ الرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الِابْنُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 لِأَنَّ كَلِمَةَ " كُلٍّ " تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] . وَبِاعْتِبَارِ انْفِرَادِ اللَّفْظِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظُ إلَّا أَوْلَادَ الرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الِابْنُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ هُنَاكَ لِلْإِحَاطَةِ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ، وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. 478 - وَلَوْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى آبَائِنَا، وَلَهُمْ آبَاءٌ وَأُمَّهَاتٌ، فَهُمْ آمِنُونَ جَمِيعًا. لِأَنَّ اسْمَ الْآبَاءِ يَتَنَاوَلُ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ أَبَوَيْنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 11] وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْأَبُ مِنْهُمْ إلَّا لِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ. فَالْأُمَّهَاتُ وَالْأَبُ الَّذِي مَعَهُنَّ آمِنُونَ، لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ لِلْكُلِّ اسْتِعْمَالًا عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ. 479 - وَلَوْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى أَبْنَائِنَا، وَلَهُمْ أَبْنَاءٌ وَأَبْنَاءُ أَبْنَاءٍ، فَالْأَمَانُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا اسْتِحْسَانًا. وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْأَمَانُ لِلْأَبْنَاءِ خَاصَّةً. لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ لِلْأَبْنَاءِ، مَجَازٌ فِي حَقِّ أَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ. وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. وَلِهَذَا جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةَ لِلْأَبْنَاءِ خَاصَّةً بِهَذَا اللَّفْظِ. إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَبْنَاءٌ، فَحِينَئِذٍ يَتَنَاوَلُ أَبْنَاءَ الْأَبْنَاءِ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَمَّا تَنَحَّتْ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ هَا هُنَا فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 إنَّمَا يَطْلُبُ الْأَمَانُ لِمَنْ يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ، وَبِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ، وَهَذَا يُوجَدُ فِي أَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ. فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً يَثْبُتُ بِهِ الْأَمَانُ لَهُمْ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ بِالصُّورَةِ وَالشُّبْهَةِ، ثُمَّ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ هُنَاكَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إدْخَالُ النَّقْصِ فِي نَصِيبِ الْأَبْنَاءِ. وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَمَانِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِذَوِي قَرَابَتِي. لِأَنَّ طَلَبَ الْأَمَانِ بِهَذَا اللَّفْظِ لِإِظْهَارِ الشَّفَقَةِ عَلَى مَا يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ. وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَبْنَاءِ، عَلَى مَا قِيلَ: النَّافِلَةُ أَحَبُّ إلَى الْمَرْءِ مِنْ الْوَلَدِ. وَلَوْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ أَبْنَاءٌ لِصُلْبِهِ، وَلِبَعْضِهِمْ أَبْنَاءُ أَبْنَاءٍ فَهُمْ آمِنُونَ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا. 481 - وَإِنْ قَالُوا: أَمِّنُونَا عَلَى أَبْنَائِنَا، وَلَيْسَ لَهُمْ آبَاءٌ وَلَهُمْ أَجْدَادٌ، فَلَيْسَ يَدْخُلُ الْأَجْدَادُ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا الْفَصْلُ مُشْكِلٌ. فَإِنَّ اسْمَ الْأَبِ لَا يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ حَقِيقَةً حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ، فَيُقَالُ إنَّهُ جَدٌّ وَلَيْسَ بِأَبٍ، وَلَكِنْ يَتَنَاوَلُهُ مَجَازًا، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: أَيُّ أَبٍ لَك أَكْبَرُ؟ فَلَمْ يَفْهَمْ الرَّجُلُ مَا قَالَ: فَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 31] وَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ كُنْتَ ابْنَهُ فَهُوَ أَبُوك؟ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَجَازِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْأَمَانُ لَهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا فِي أَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ. وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِمَعْنًى آخَرَ فَقَالَ: 482 - الْمَجَازُ تَبَعٌ لِلْحَقِيقَةِ. وَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ هَذَا فِي أَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ. فَإِنَّهُمْ تَفَرَّعُوا مِنْ الْأَبْنَاءِ، فَكَانُوا تَبَعًا لَهُمْ، وَلَا يَأْتِي مِثْلُ ذَلِكَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الْأَجْدَادِ فَإِنَّهُمْ أُصُولُ الْآبَاءِ، مُخْتَصُّونَ بِاسْمٍ، فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُهُمْ اسْمُ الْآبَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّبَاعِ لِفُرُوعِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَمِّنُونِي عَلَى أُمِّي، وَلَيْسَتْ لَهُ أُمٌّ إنَّمَا لَهُ جَدَّةٌ، أَنَّ الْأَمَانَ لَا يَتَنَاوَلُهَا؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَتَنَاوَلُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجَدَّةَ تُسَمَّى أُمًّا، قُلْنَا: قَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْخَالَةَ أُمًّا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] أَيْ أَبَاهُ، وَخَالَتَهُ. وَسَمَّى الْعَمَّ أَبًا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا: نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ: إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا. ثُمَّ أَحَدٌ لَا يَقُلْ إنَّ الْعَمَّ والْخَالَةَ يَدْخُلَانِ فِي الْأَمَانِ لِلْآبَاءِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصٌّ بِاسْمِ آخَرَ، بِهِ يُنْسَبُ إلَيْهِ. فَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ. بِخِلَافِ بَنِي الِابْنِ فَإِنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِاسْمِ الْبُنُوَّة، وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الِابْنِ. فَكَانَ الْأَمَانُ بِهَذَا الِاسْمِ مُتَنَاوِلًا لَهُمْ. وَهَذَا بَيَانُ لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ كُلَّ قَوْمٍ فِي لِسَانِهِمْ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ أَنَّ الْجَدَّ وَالِدٌ، كَمَا أَنَّ ابْنَ الِابْنِ ابْنٌ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْأَمَانِ. وَهَكَذَا فِي لِسَانِ الْفَارِسِيَّةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْجَدِّ بدر بدر كَمَا يُقَالُ لِلْحَفِيدِ بسر بسر، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 [بَابُ الْمَرْأَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ تَخْرُجُ مَعَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَيَقُولُ أَسَرْتهَا وَتَدَّعِي الْأَمَانَ] 48 - بَابُ الْمَرْأَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ تَخْرُجُ مَعَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُ: أَسَرْتهَا. وَهِيَ تَقُولُ: جِئْت مُسْتَأْمَنَةً 483 - وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ دَارَ الْحَرْبِ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ كَانَ أَسِيرًا، أَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ، أَوْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَالْتَحَقَ بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَهُ حَرْبِيَّةٌ فَقَالَتْ: جِئْت مُسْتَأْمَنَةً إلَيْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُ: جِئْت بِهَا قَهْرًا. فَهَذَا إنَّمَا يَكُنْ عَلَى مَا جَاءَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّاةً غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ تَمْشِي مَعَهُ حَتَّى إذَا انْتَهَتْ إلَى أَدْنَى مَسَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، نَادَتْ بِالْأَمَانِ أَوْ لَمْ تُنَادِ، فَهِيَ آمِنَةٌ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا، فَإِنَّهَا جَاءَتْ مَجِيءَ الْمُسْتَأْمَنَاتِ. 484 - وَلَوْ جَاءَتْ وَحْدَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَتْ آمِنَةً، فَكَذَلِكَ إذَا صَحِبَهَا مُسْلِمٌ فِي الطَّرِيقِ. لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الصُّحْبَةِ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهَا لِلْمُسْلِمِ فَهِيَ فِي يَدِ نَفْسِهَا. فَاَلَّذِي يَسْبِقُ إلَى فَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ فِي الْمَجِيءِ مُسْتَأْمَنَةً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ يُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ وَغَالِبُ الرَّأْيِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ جَاءَ بِهَا وَهُوَ قَاهِرٌ لَهَا، قَدْ رَبَطَهَا فَنَادَتْ بِالْأَمَانِ أَوْ لَمْ تُنَادِ فَهِيَ فَيْءٌ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَسَرَهَا وَأَخْرَجَهَا، وَقَدْ كَانَتْ يَدُهُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ ثَابِتَةً عَلَيْهَا. وَذَلِكَ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ نَفْسَهَا، فَإِنَّهَا حَرْبِيَّةٌ لَا أَمَانَ لَهَا، إلَّا أَنَّهُ حِين أَحْرَزَهَا بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ، فَالْجَيْشُ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا، لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدَّارِ حَصَلَ بِهِمْ جَمِيعًا. وَلَوْ لَمْ يُخْرِجْهَا إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ أَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا هُنَا إذَا جَاءَ بِهَا قَاهِرًا لَهَا. لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِإِحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا خُمْسَ فِيهَا لِأَنَّهُ مَا أَصَابَهَا عَلَى وَجْهِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا أَخَذَهُ الْمُتَلَصِّصُ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. 486 - فَإِنْ قَالَتْ تَزَوَّجْته وَخَرَجْت مَعَهُ، وَقَالَ هُوَ: كَذَبَتْ، بَلْ قَهَرْتهَا وَأَخْرَجْتهَا، أَوْ هِيَ أَمَةٌ اشْتَرَيْتهَا، وَوُهِبَتْ لِي، لَمْ يُصَدَّق عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذَا جَاءَتْ مَعَهُ مُخَلَّاةً. لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهَا، فَإِقْرَارُهَا بِأَنَّهُ زَوْجُهَا غَيْرُ مُسْقِطِ حُكْمِ يَدِهَا فِي نَفْسِهَا. فَكَانَتْ مُسْتَأْمَنَةً. إلَّا (86 آ) أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَقْهُورَةً، يُعْرَفُ قَهْرُهُ إيَّاهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْقَهْرِ فِي مَوْضِعِهِ سَقَطَ حُكْمُ يَدِهَا فِي نَفْسِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَ مَعَهُ بِرَقِيقٍ فَقَالُوا: نَحْنُ أَحْرَارٌ. فَقَالَ هُوَ: بَلْ هُمْ عَبِيدِي، وَقَدْ جَاءُوا مَعَهُ غَيْرَ مَقْهُورِينَ وَلَا مَرْبُوطِينَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ سَوَاءٌ نَادَوْا بِالْأَمَانِ حِينَ انْتَهُوا إلَى مَسَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَمْ يُنَادُوا. لِأَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا وَحْدَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانُوا آمِنِينَ. فَكَذَلِكَ إذَا جَاءُوا مَعَهُ. 488 - فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ، عُدُولٍ، أَنَّهُ كَانَ أَسَرَهُمْ وَقَهَرَهُمْ، قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ وَكَانُوا عَبِيدًا لَهُ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ. 489 - وَلَوْ أَقَرُّوا أَنَّهُ قَهَرَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ عَلِمْنَا ذَلِكَ مُعَايَنَةً، كَانُوا عَبِيدًا لَهُ. وَفِي زَعْمِ الْخُصُومِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنُونَ. وَشَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمِنِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ مَقْبُولَةٌ، فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْكُلِّ. 490 - وَإِنْ كَانَ انْتَهَى إلَى أَدْنَى مَسَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ بِقَاهِرٍ لَهُمْ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ فِي يَدِهِ، فَنَادَوْا بِالْأَمَانِ حَيْثُ يُنَادُونَ بِهِ، أَوْ لَمْ يُنَادُوا، فَهُمْ آمِنُونَ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. كَمَا لَوْ جَاءُوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ مُسْلِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُنَادُوا بِالْأَمَانِ، وَكَانُوا رِجَالًا، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ جَاءُوا مُسْتَأْمَنِينَ، وَلَا يُعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أَنَّهُ قَاهِرٌ لَهُمْ أَيْضًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيٍّ خَرَجَ إلَى دَارِنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ عَلَيْهِمْ حِسًّا فَهُمْ فِي يَدِ أَنْفُسِهِمْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، كَانَ خُرُوجُهُمْ مَعَهُ وَخُرُوجُهُمْ دُونَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ. 491 - وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُسْلِمُ خَرَجَ وَمَعَهُ امْرَأَةٌ وَلَمْ يَسْتَأْمِنْ لَهَا، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَخْذَهَا لِتَكُونَ فَيْئًا، فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَتِي، وَصَدَّقَتْهُ بِذَلِكَ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ، لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى النِّكَاحِ فِي حَالٍ لَمْ يَتَقَرَّرْ لِأَحَدٍ فِيهَا حَقٌّ. وَإِذَا ثَبَتَ النِّكَاحُ كَانَتْ حُرَّةً ذِمِّيَّةً. لِأَنَّهُ حِينَ خَرَجَ بِهَا بِنَاءً عَلَى النِّكَاحِ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَمَّنَهَا. وَأَمَانُ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا خَرَجَ مِنْ قَهْرِ أَهْلِ الْحَرْبِ كَأَمَانِ جَمَاعَتِهِمْ. ثُمَّ هِيَ مُسْتَأْمَنَةٌ تَحْتَ مُسْلِمٍ، فَتَصِيرُ ذِمِّيَّةً بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ فِي دَارِنَا لَوْ تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْمُقَامِ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَتَصِيرُ هِيَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا تَبَعًا لَهُ. 492 - وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ بِسَبْيٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ عَبِيدِي وَإِمَائِي، وَصَدَّقُوهُ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَقُّ فِيهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ يَتَحَقَّقُ هَا هُنَا. فَالْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِهِمْ أَوْ الَّذِي أَسْلَمَ يُخْرِجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 عَبِيدَهُ وَزَوْجَتَهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ شَاهِدَيْنِ مَعَ نَفْسِهِ (86 ب) أَنَّهُمْ لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى قَوْلِهِمْ إذَا تَصَادَقُوا عَلَيْهِ. وَإِنْ كَذَّبُوهُ كَانُوا فَيْئًا، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَخَلُوا فِي دَارِنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ. 493 - وَإِنْ قَالُوا نَحْنُ عَبِيدٌ وَإِمَاءٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ خَرَجْنَا نُرِيدُ الْأَمَانَ وَلَسْنَا لِهَذَا الرَّجُلِ. فَإِنْ كَانَ قَاهِرًا لَهُمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ فَهُمْ لَهُ. لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالرِّقِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ يَدِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ ظَهَرَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُمْ وَهُوَ الْقَهْرُ فِي مَوْضِعِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ فِي يَدِهِ. 494 - فَإِذَا كَانُوا نَادَوْا بِالْأَمَانِ حِينَ دَنَوْا مِنْ أَدْنَى الْمَسَالِحِ فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْيَدُ الْقَاهِرَةُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ نَادُوا بِالْأَمَانِ فِي مَوْضِعِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ جَاءُوا مُسْتَأْمَنِينَ. 495 - وَلَوْ جَاءُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَحْدَهُمْ كَانُوا آمِنِينَ، عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى طَلَبِ الْأَمَانِ إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَذَلِكَ إذَا جَاءُوا مَعَهُ. 496 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَهُمْ مِنْ عَلَى مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَا يَسْمَعُونَ فِيهِ النِّدَاءَ بِالْأَمَانِ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْأَمَانَ، فَلَمَّا بَلَغُوا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسْمَعُ فِيهِ النِّدَاءُ بِالْأَمَانِ نَادُوا أَوْ لَمْ يُنَادُوا، فَهُمْ آمِنُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مُنْقَادِينَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ طَالِبُونَ لِلْأَمَانِ، وَالدَّلِيلُ فِي مِثْلِ هَذَا كَالصَّرِيحِ. 497 - فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَهُمْ عَبِيدٌ كَمَا ذَكَرُوا يُمَكَّنُونَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مَوَالِيهِمْ كَمَا هُوَ حُكْمُ الْأَمَانِ. 498 - وَإِنْ قَالُوا جِئْنَا مُرَاغِمَيْنِ لِمَوَالِينَا نُرِيدُ الذِّمَّةَ أَوْ نُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَهُمْ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ لِمَوَالِيهِمْ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ جَاءُوا مُسْتَأْمَنِينَ وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوا أَنْفُسَهُمْ بِدَارِنَا عَلَى مَوَالِيهِمْ، وَلَوْ قَهَرُوا مَوَالِيَهُمْ فَأَحْرَزُوهُمْ بِدَارِنَا مَلَكُوهُمْ، فَكَذَلِكَ إذَا أَحْرَزُوا أَنْفُسَهُمْ يَمْلِكُونَ رِقَابَهُمْ. وَمَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عَتَقَ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الطَّائِفِ: «أَيُّمَا عَبْدٍ خَرَجَ إلَيْنَا مُسْلِمًا فَهُوَ حُرٌّ. فَخَرَجَ إلَيْهِ سَبْعَةُ أَعْبُدٍ فَأَعْتَقَهُمْ» . وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ عُتَقَاءَ اللَّهِ. ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجُوا مُسْلِمِينَ أَوْ ذِمَّةً، لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا كَالْمُسْلِمِ فَيَتِمُّ فِيهِمْ إحْرَازُ أَنْفُسِهِمْ بِالطَّرِيقَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وَإِنْ قَدِمَ مَوَالِيهِمْ فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَذِنُوا لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِلتِّجَارَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوَالِي. لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَمْلُوكِينَ لَهُمْ، ثُمَّ ادَّعَوْا سَبَبَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوَالِي عَنْهُمْ، وَهُوَ الْمُرَاغَمَةُ. فَلَا يُصَدَّقُونَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ (87 آ) يَدَّعِي أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوَالِيَ يَتَمَسَّكُونَ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُرَاغَمٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ مَعَ يَمِينِهِ. فَيَسْتَحْلِفُ الْإِمَامُ الْمَوَالِيَ بِاَللَّهِ إنْ طَلَبَ الْعَبِيدُ ذَلِكَ. ثُمَّ إذَا حَلَفُوا أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَسْلَمُوا، أُجْبِرُوا عَلَى بَيْعِهِمْ. لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ كَمَا لَا يُتْرَكُ فِي يَدِ الذِّمِّيِّ لَا يُتْرَكُ فِي يَدِ الْحَرْبِيِّ لِيَرْجِعَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. وَفِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيْعِ هَا هُنَا مُرَاعَاةُ حَقِّ الْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ إزَالَةُ ذُلِّ الْكَافِرِ عَنْهُ. 500 - وَالْمُسْتَأْمَنُ يُؤْخَذُ بِمِثَالِ هَذَا كَالذِّمِّيِّ. فَأَمَّا مَنْ صَارَ مِنْهُمْ ذِمَّةً فَإِنَّ مَوْلَاهُ يُتْرَكُ يَذْهَبُ بِهِ حَيْثُ شَاءَ. لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ، فَلَا يَصْلُحُ مِنْهُ قَبُولُ الذِّمَّةِ مَقْصُودًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِنَا إذَا كَانَ مَعَهُ عَبْدٌ أَدْخَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَطَلَبَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ ذِمَّةً لَنَا لَا نُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجَ قَبْلُ، رَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْخَرَاجَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ يَبْنِي الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَقُولُ مَا لَمْ يَأْتِ مَنْ يُكَذِّبُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 501 - وَهَذَا كُلُّهُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ بِحُجَّةٍ سِوَى إقْرَارِهِ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلَّا بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ حِينَ نَادَى بِالْأَمَانِ أَوْ رَآهُ الْمُسْلِمُونَ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَبْدٌ جَاءَ غَيْرَ مُرَاغِمٍ لِمَوْلَاهُ صُدِّقَ أَيْضًا، وَدُفِعَ إلَى مَوْلَاهُ. لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَقَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ. 502 - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ حَتَّى صَارَ ذِمَّةً وَأُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ ثُمَّ جَاءَ مُسْتَأْمَنٌ فَادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ بَعَثَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِلتِّجَارَةِ بِأَمَانٍ، وَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ الذِّمِّيُّ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُصَدِّقُهُ عَلَى مَا قَبَضَ مِنْ الْخَرَاجِ لِيَرُدَّهُ، وَلَا عَلَى رَقَبَتِهِ لِيُعِيدَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُهُ عَبْدًا لَهُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ. لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ، فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُقِرِّ فِيمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ. وَفِي صَيْرُورَتِهِ مِلْكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ. فَأَمَّا فِي رَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا مَمْنُوعًا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. فَلَعَلَّهُ وَاضِعٌ هَذَا الرَّجُلَ حِينَ لَمْ يُعْجِبْهُ الْمُقَامُ فِي دَارِنَا حَتَّى يُقِرَّ لَهُ بِالرِّقِّ فَيَرُدُّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَتِهِ عَبْدًا لَهُ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ رَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ذِمِّيًّا فِي دَارِنَا أَوْ أَسْلَمَ عَبْدُهُ فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. وَلَا إشْكَالَ أَنَّ مَا قُبِضَ مِنْهُ مِنْ الْخَرَاجِ قَدْ صَارَ حَقًّا لِلْمُقَاتِلَةِ. فَلَا يُصَدَّقُ هُوَ (87 ب) فِي إيجَابِ رَدِّ ذَلِكَ عَلَى الْحَرْبِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فَإِنْ أَقَامَ الْحَرْبِيُّ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الرِّقِّ فَإِنَّهُ يَدَعُهُ لِيَرُدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْخَرَاجِ. لِأَنَّهُ أَثْبَتَ حَقَّهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 504 - وَإِنْ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنُونَ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ، وَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالرِّقِّ إذَا كَانَ هُوَ مُنْكِرًا لِذَلِكَ. لِأَنَّهُ ذِمِّيٌّ وَشَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الذِّمِّيِّ. 505 - وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَعَلَهُ عَبْدًا لَهُ. لِأَنَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ الشَّهَادَةَ تَقُومُ عَلَيْهِ. وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُجَّةٌ عَلَى الذِّمِّيِّ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ فِي رَدِّ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ وَلَا فِي رَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ الشَّهَادَةَ تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْآخَرِ. 506 - وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ لَمْ يُقْبَلْ عَلَيْهِ إلَّا شُهُودٌ مُسْلِمُونَ. فَإِذَا قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ جَعَلَهُ عَبْدًا لَهُ وَأَجْبَرَهُ عَلَى بَيْعِهِ. كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ. 507 - قَالَ: فَإِذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ إلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّنُوهُ فَخَرَجَ مَعَهُ بِامْرَأَةٍ وَبِأَطْفَالٍ صِغَارٍ فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَتِي، وَهَؤُلَاءِ وَلَدِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وَلَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُمْ فِي الْأَمَانِ فَالْقِيَاسُ فِي هَذَا أَنَّهُمْ فَيْءُ غَيْرِهِ. لِأَنَّهُ طَلَبَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَحُكْمُ الْأَمَانِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَنْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ اسْتِئْمَانٌ لِهَؤُلَاءِ إشَارَةٌ وَلَا دَلَالَةٌ. وَلَكِنَّ هَذَا قَبِيحٌ، فَيُجْعَلُونَ جَمِيعًا آمِنِينَ بِأَمَانِهِ اسْتِحْسَانًا. لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَأْمِنُ إلَيْنَا فِرَارًا مِنْهُمْ لِمَعْنًى هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، أَوْ لِيُقِيمَ فِي دَارِنَا زَمَانًا وَيَتَّجِرَ بِمَا يَتِمُّ لَهُ. هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا خَرَجَ بِزَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ. فَإِنْ قُلْت: الْمَرْءُ مَعَ عِيَالِهِ، فَهَذَا دَلِيلُ اسْتِئْمَانِهِ لَهُمْ، ثُمَّ هُمْ تَبَعٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعُولُهُمْ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَالتَّبَعُ يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَصْلِ، إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ عُرْفٌ يَمْنَعُ مِنْهُ. وَالْعُرْفُ هُنَا مُؤَيِّدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى. أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ فِي دَارِنَا يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى أَتْبَاعِهِ وَذَرَارِيِّهِ مِنْ النِّسَاءِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ؟ . 508 - وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ مَعَهُ بِسَبْيٍ كَثِيرٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ رَقِيقِي. وَصَدَّقُوهُ. أَوْ كَانُوا صِغَارًا لَا يُعَبِّرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ كَانَ مَعَهُ دَوَابُّ عَلَيْهَا مَتَاعٌ وَمَعَهَا قَوْمٌ يَسُوقُونَهَا فَقَالَ: هَؤُلَاءِ غِلْمَانِي. فَصَدَّقُوهُ فِي ذَلِكَ، كَانَ مُصَدَّقًا مَعَ يَمِينِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ. فَإِنَّهُ يَسْتَصْحِبُ مَالَهُ سَوَاءٌ جَاءَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ عَلَى قَصْدِ الْفِرَارِ مِنْهُمْ. وَلَوْ جَاءَ وَحْدَهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ هَلَكَ جُوعًا فِي دَارِنَا وَإِنَّمَا طَلَبَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَرَارِ فِي دَارِنَا زَمَانًا، فَدَخَلَ مَالُهُ فِي ذَلِكَ تَبَعَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَحْلِفُهُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ بِيَمِينِهِ. وَمَنْ كَذَّبَهُ مِنْ الرِّقَابِ الَّذِينَ مَعَهُ كَانَ فَيْئًا (88 آ) وَجَمِيعُ مَا مَعَهُ. لِأَنَّ الرِّقَّ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ إذَا كَذَّبَهُ، وَالتَّبَعِيَّةُ فِي الْأَمَانِ تُبْتَنَى عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا حُرًّا حَرْبِيًّا فِي دَارِنَا لَا أَمَانَ لَهُ، فَيَكُونُ فَيْئًا مَعَ مَا مَعَهُ. 509 - وَإِنْ قَالَ: لَيْسَتْ الدَّوَابُّ دَوَابِّي، وَلَا الَّذِينَ يَسُوقُونَهَا بِغِلْمَانِي، وَلَكِنْ الْمَتَاعَ مَتَاعِي، اسْتَأْجَرْتهمْ لِيُحْمَلَ ذَلِكَ مَعِي فَصَدَّقُوهُ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُمْ فَيْءٌ وَدَوَابَّهُمْ. لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْمِنْ لَهُمْ وَلَا اسْتَأْمَنُوا لِأَنْفُسِهِمْ إشَارَةً وَلَا دَلَالَةً. . وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُمْ آمِنُونَ مَعَ دَوَابِّهِمْ. لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَمْتِعَةِ إلَى دَارِنَا عَلَى ظَهْرِهِ لِيَتَّجِرَ فِيهَا، وَلَكِنَّ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ الْكِرَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا. وَثُبُوتُ الْأَمَانِ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ حَوَائِجِهِ. وَمِمَّا يَتِمُّ بِهِ مَقْصُودُهُ فَيَتَعَدَّى حُكْمُ الْأَمَانِ إلَيْهِمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ، كَمَا يَتَعَدَّى إلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اسْتَأْمَنَ لَهُمْ. 510 - وَإِنْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَوْلَادِي. فَهُمْ فَيْءٌ. لِأَنَّهُمْ أُصُولٌ قَدْ خَرَجُوا بِالْبُلُوغِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لَهُ مِنْ حُكْمِ الْأَمَانِ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الذِّمَّةِ وَالْإِسْلَامِ لَا يَتْبَعُونَهُ. وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسْتَأْمِنُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا كَانُوا فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا يُعَبِّرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ: هُمْ وَلَدِي، وَصَدَّقُوهُ فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ مَا لَمْ يَبْلُغُوا. أَلَا تَرَى لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَ فِي الذِّمَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَمَانِ. وَإِنْ كَذَّبُوهُ فَهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ نَسَبَهُمْ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ عِنْدَ تَكْذِيبِهِمْ إذَا كَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ صَارُوا فَيْئًا حِينَ دَخَلُوا بِغَيْرِ أَمَانٍ. وَقَوْلُ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فِي هَذَا مَقْبُولٌ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، كَمَجْهُولِ الْحَالِ إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ لِإِنْسَانٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ. 512 - وَإِنْ كَانَ مَعَهُ صِغَارٌ لَا يُعَبِّرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: سَرَقْتهمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَأَخْرَجْتهمْ، أَوْ هُمْ أَيْتَامٌ كَانُوا فِي عِيَالِي فَأَخْرَجْتُهُمْ مَعِي، فَهُمْ لَهُ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِمْ مُسْتَقِرَّةٌ إذَا كَانُوا لَا يُعَبِّرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِمْ. وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِطَرِيقِ السَّرِقَةِ، فَهُمْ مَمَالِيكُهُ وَأَتْبَاعٌ لَهُ، أَوْ أَنَّهُمْ فِي عِيَالِهِ أَتْبَاعُهُ بِسَبَبِ إنْفَاقِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا كَانُوا يَجِيئُونَ إلَى دَارِنَا إلَّا مَعَهُ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِهِ. 513 - وَلَوْ خَرَجَ بِنِسَاءٍ قَدْ بَلَغْنَ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي. وَصَدَّقْنَهُ فَهُنَّ فَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ. لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ يَزُولُ بِبُلُوغِهِنَّ حَتَّى لَا يَصِرْنَ مُسْلِمَاتٍ بِإِسْلَامِهِ، فَهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الذُّكُورِ الْبَالِغِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُنَّ آمِنَاتٌ. لِأَنَّهُنَّ فِي عِيَالِهِ وَنَفَقَتِهِ، مَا لَمْ يَتَحَوَّلْنَ إلَى بُيُوتِ الْأَزْوَاجِ. وَبُنِيَ هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ (88 ب) . فَالنِّسَاءُ لَا يَسْتَأْمِنَّ لِأَنْفُسِهِنَّ عَادَةً، وَلَكِنْ يَكُنَّ مَعَ آبَائِهِنَّ أَوْ أَزْوَاجِهِنَّ، بِخِلَافِ الذُّكُورِ مِنْ الْأَوْلَادِ. لِأَنَّ الذُّكُورَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ مُقَاتِلَةٌ فَلَا يَحْصُلُ الْأَمَانُ لَهُمْ إلَّا بِالِاسْتِئْمَانِ مَقْصُودًا. وَالنِّسَاءُ آمِنَاتٌ عَنْ الْقَتْلِ. وَإِنَّمَا حَاجَتُهُنَّ إلَى الْأَمَانِ لِدَفْعِ الِاسْتِرْقَاقِ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَيُمْكِن إثْبَاتُ ذَلِكَ لَهُنَّ بِالْإِتْبَاعِ لِآبَائِهِنَّ فِي حُكْمِ الْأَمَانِ. 514 - وَعَلَى هَذَا الْأُمَّهَاتُ وَالْجَدَّاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْهُنَّ فَهُنَّ آمِنَاتٌ، تَبَعًا لَهُ، بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ. فَإِنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ فِي الْأَمَانِ أَحَدٌ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ إلَّا عَبْدُهُ وَأَجِيرُهُ اسْتِحْسَانًا، لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِ إلَى اسْتِصْحَابِهِمْ مَعَ نَفْسِهِ، إمَّا لِلتِّجَارَةِ فِيهِمْ، أَوْ لِنَقْلِ أَمْتِعَةِ التِّجَارَةِ بِهِمْ. وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ آمِنًا بِأَمَانِهِ نَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا قَالَ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فَهُوَ آمِنٌ، لِتَصَادُقِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ ثُبُوتِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ ثُمَّ صَدَّقَهُ كَانَ فَيْئًا. لِأَنَّ بِتَكْذِيبِهِ يَثْبُتُ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ. فَتَصْدِيقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ صَدَّقَهُ ثُمَّ كَذَّبَهُ كَانَ فَيْئًا أَيْضًا. لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ، وَذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 إلَّا رَقِيقُهُ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ الَّذِينَ يُعَبِّرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. أَمَّا رَقِيقُهُ فَلِأَنَّ مِلْكَهُ تَقَرَّرَ فِيهِمْ بِالتَّصْدِيقِ، فَلَا يَبْقَى لَهُمْ قَوْلٌ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ. وَأَمَّا أَوْلَادُهُ فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُمْ بِالتَّصْدِيقِ وَتَأَكَّدَتْ حُرِّيَّتُهُمْ بِاعْتِبَارِ أَمَانِهِ، وَلَا قَوْلَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ وَحُرِّ الْأَصْلِ إذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. أَمَّا ابْنَتُهُ وَزَوْجَتُهُ وَأُخْتُهُ وَعَمَّتُهُ إذَا كَذَّبَتْ بَعْدَ التَّصْدِيقِ كَانَتْ فَيْئًا، لِإِقْرَارِهَا بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُ الِابْنَةِ مِنْهُ حِينَ صَدَّقَتْهُ. قُلْنَا: نَعَمْ. وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِهَا مِنْهُ بُطْلَانُ إقْرَارِهَا بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهَا. وَالْبَالِغَةُ مَقْبُولَةُ الْقَوْلِ فِيمَا يَضُرُّهَا، بِخِلَافِ الصَّغِيرِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الرِّقِّ بِإِقْرَارٍ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ حُرِّيَّتُهُ بِتَصْدِيقِهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ هَذَا الصَّغِيرَ لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ مَجْهُولُ الْحَالِ فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ عَبْدُهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. وَلَكِنَّهُ لَا بِإِقْرَارِهِ بَلْ بِدَعْوَى ذَلِكَ الرَّجُلِ. إلَّا أَنَّ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ تَكُنْ يَدُ الْغَيْرِ مُسْتَقِرَّةً عَلَيْهِ. فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ وَجَبَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ، وَحِينَ قَالَ: أَنَا عَبْدٌ لَهُ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ يَدُ ذِي الْيَدِ عَلَيْهِ. فَيَثْبُتُ الرِّقُّ بِدَعْوَى ذِي الْيَدِ، وَبِاعْتِبَارِ يَدِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ. فَأَمَّا أَنْ يَثْبُتَ الرِّقُّ بِإِقْرَارِهِ (89 آ) فَلَا. لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ بِمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ لَا يَصِحُّ، فَكَيْفَ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا يَضُرُّهُ؟ . 515 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ حَاصَرُوا حِصْنًا فَطَلَبَ إلَيْهِمْ رَجُلٌ الْأَمَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 عَلَى أَنْ يَنْزِلَ إلَيْهِمْ، فَأَعْطَوْهُ ذَلِكَ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ وَوَلَدُهُ الصِّغَارُ وَرَقِيقُهُ وَمَالُهُ فَذَلِكَ كُلُّهُ فَيْءُ غَيْرِهِ. لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ مَقْهُورًا خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ. وَفِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ لَا حَاجَةَ إلَى اتِّبَاعِ شَيْءٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَعَهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي دَارِهِ غَيْرَ خَائِفٍ. وَإِنَّمَا اسْتَأْمَنَ إلَى دَارِنَا لِيَسْكُنَ فِيهَا، وَيَتَّجِرَ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ هَذَا الْمَقْصُودُ إلَّا بِاسْتِصْحَابِ هَؤُلَاءِ. وَالثَّانِي أَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ مَا فِي الْحِصْنِ هُنَا، فَإِنَّ الْمَحْصُورَ كَالْمَأْخُوذِ. فَلِهَذَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِهِ. فَالْحَاجَةُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ بَعْدَ مَا ثَبَتَ، وَذَلِكَ بِالنَّصِّ يَكُونُ، لَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ. فَأَمَّا الَّذِي اسْتَأْمَنَ إلَى دَارِنَا لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فِيمَنْ اسْتَصْحَبَهُمْ مَعَهُ، وَإِنَّمَا حَاجَتُهُمْ إلَى مَنْعِ ثُبُوتِ حَقِّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِمْ وَدَلَالَةُ الْحَالِ يَكْفِي لِذَلِكَ. وَلَكِنَّ هَذَا الْمَحْصُورَ إنْ خَرَجَ إلَيْنَا بِسِلَاحٍ كَمَا يَلْبِسُ النَّاسُ، رَاكِبًا عَلَى دَابَّةٍ، وَمَعَهُ نَقْدٌ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ فِي حَقْوَيْهِ فَذَلِكَ سَالِمٌ لَهُ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ عُرْيَانًا. وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَنْكَرْنَا مَا عَلَيْهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ السِّلَاحِ أَيْضًا لِيَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى الْقِتَالِ أَوْ يَدْفَعُ شَرَّهُمْ عَنْ نَفْسِهِ إنْ رَمَوْهُ بَعْدَ مَا خَرَجَ. وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ رَاكِبًا عَلَى دَابَّتِهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى نَفَقَتِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُعْطَى شَيْئًا فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ مِنْهُمْ أَنْ يَنْجُوَ رَأْسًا بِرَأْسٍ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَصْحِبْ نَفَقَتَهُ مَاتَ جُوعًا، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ. فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يَصِيرُ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ مَا يَسْتَصْحِبُهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَيُسَلَّمُ لَهُ، كَمَا أَنَّ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ مِمَّا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى عَنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، لِعِلْمِنَا بِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ اسْتِحْسَانًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ثُمَّ أَوْضَحَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَحْصُورِ وَبَيْنَ الَّذِي جَاءَ مُسْتَأْمَنًا إلَى دَارِنَا فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحْصُورَ لَوْ نَادَى بِالْأَمَانِ وَانْحَطَّ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَمِّنُوهُ كَانَ فَيْئًا. وَاَلَّذِي جَاءَ إلَى أَدْنَى مَسَالِحِ الْمُسْلِمِينَ إذَا نَادَى بِالْأَمَانِ وَلَمْ يَقُلْ الْمُسْلِمُونَ لَهُ شَيْئًا كَانَ آمِنًا. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّلَالَةَ هَا هُنَا تَكْفِي وَفِي الْمَحْصُورِ لَا. 517 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ (89 ب) أَمَّنُوا رَجُلًا فِي الْحِصْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ خُرُوجَهُ إلَيْهِمْ لِأَمْرٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَلَالَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَهُوَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ. لِأَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ لِيَسْكُنَ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى لَهُ السُّكْنَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَيَتْبَعُونَهُ فِي الْأَمَانِ بِخِلَافِ النَّازِلِ مِنْ الْحِصْنِ فَإِنَّهُ اسْتَأْمَنَ لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ. 518 - وَلَوْ تَقَدَّمَتْ مَسَالِحُ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّ مَنْ اسْتَأْمَنَ مِنْكُمْ إلَى دَارِنَا أَوْ إلَى عَسْكَرِنَا فِي تِجَارَةٍ فَهُوَ آمِنٌ وَحْدَهُ دُونَ مَا يَأْتِي بِهِ فَعَلِمُوا بِذَلِكَ، فَمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْيٍ لَمْ يُبَيِّنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فَيْءٌ كُلُّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ، إلَّا مَا يُسَلَّمُ لِلْمَحْصُورِ الَّذِي يَخْرُجُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُمْ قَدْ نَبَذُوا إلَيْهِمْ الْأَمَانَ فِيمَا يَأْتُونَ بِهِ. وَإِذَا كَانَ النَّبْذُ بَعْدَ الْأَمَانِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْأَمَانِ فَاقْتِرَانُهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ. وَلِأَنَّا إنَّمَا كُنَّا نُثْبِتُ الْأَمَانَ لَهُ فِيمَا يَأْتِي بِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَلَا دَلَالَةَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 لَوْ أَعْلَمُوهُمْ أَنَّهُ لَا أَمَانَ لِمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ بِطَلَبِ الْأَمَانِ، ثُمَّ جَاءُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَأْمَنُوا، إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ الْأَمَانَ. فَعَرَفْنَا بِأَنَّ حَالَهُمْ بَعْدَ هَذَا النَّبْذِ كَحَالِ الْمَحْصُورِ. 519 - وَلَوْ خَرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ حَرْبِيٌّ يُنَادِي بِالْأَمَانِ، وَمَعَهُمَا مَالٌ، فَهُوَ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ عَلَى دَابَّةٍ مُمْسِكَانِ لَهَا، فَقَالَ: الْمُسْلِمُ: هَذَا عَبْدِي وَالْمَالُ وَالدَّابَّةُ لِي. وَقَالَ الْمُسْتَأْمَنُ: كَذَبَ. بَلْ جِئْت مُسْتَأْمَنًا وَالْمَالُ مَالِي. فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ مَقْهُورًا بِرِبَاطٍ أَوْ غَيْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ. لِأَنَّهُ صَارَ عَبْدًا لَهُ حِينَ جَاءَ بِهِ مَقْهُورًا، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ يَدٌ مُعَارِضَةٌ لِيَدِ مَوْلَاهُ فِي الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْهُورٍ فَهُوَ حُرٌّ مُسْتَأْمَنٌ. لِكَوْنِ الظَّاهِرِ شَاهِدًا لَهُ. ثُمَّ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَالِ مُعَارِضَةٌ لِيَدِ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ الْمَالُ وَالدَّابَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. 520 - وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا عَلَيْهَا وَالْآخَرُ مُمْسِكًا بِلِجَامِهَا فَالْيَدُ لِلرَّاكِبِ دُونَ الْمُمْسِكِ بِاللِّجَامِ أَيُّهُمَا كَانَ. لِأَنَّ الْمَرْكُوبَ نَفْعٌ لِلرَّاكِبِ، وَمَا عَلَى الدَّابَّةِ فَهُوَ فِي يَدِ مَنْ فِي يَدِهِ الدَّابَّةُ. 521 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ ثَوْبًا وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُمْسِكٌ بِهِ، فَالثَّوْبُ لِلَّابِسِ دُونَ الْمُمْسِكِ بِهِ. فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وَكَذَلِكَ الْيَدُ لِلرَّاكِبِ دُونَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ لِلدَّابَّةِ. فَإِذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ دُونَ صَاحِبِهِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَقُودُ الدَّابَّةَ وَالْآخَرُ يَسُوقُهَا فَالدَّابَّةُ وَالْمَالُ لِلْقَائِدِ. لِأَنَّهُ مُمْسِكٌ بِلِجَامِ الدَّابَّةِ فَهِيَ وَمَا عَلَيْهَا فِي يَدِهِ دُونَ السَّائِقِ. 523 - فَإِنْ كَانَا خَرَجَا إلَى مُعَسْكَرِنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَالَ الْمُسْتَأْمَنُ: هُوَ مَالِي، وَقَالَ الْمُسْلِمُ: هُوَ مَالِي وَهَبَهُ لِي أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ اغْتَصَبْته مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِيهِمْ، فَإِنَّ الْمَالَ فِي أَيْدِيهِمَا فَنِصْفُهُ لِلْمُسْتَأْمَنِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ (90 آ) وَنِصْفُهُ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ هَذَا النِّصْفَ فِي يَدِ الْأَسِيرِ، وَقَدْ أَحْرَزَهُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ، فَهُوَ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْهِبَةِ يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ. 524 - وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ عَلَى مَا ادَّعَى، قُضِيَ لَهُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ بِجَمِيعِ الْمَالِ. لِأَنَّ مَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ. وَذَلِكَ الْمَالُ يَكُونُ كُلُّهُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْعَسْكَرِ وَهُوَ فِيهِمْ. لِأَنَّ مَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَثْبُتُ مَا ادَّعَى مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالْمَالُ سَالِمٌ لَهُ. لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مَا ادَّعَى بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيُجْعَلُ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً. 525 - وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْمَنِينَ خَاصَّةً وَشَهِدَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ كَانَ لِلْأَسِيرِ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَهُ هَذَا الْمُسْتَأْمَنُ، فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ رُدَّ الْمَالُ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً. وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ فِي مَنْعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْضَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ كَانَ بَيْنَهُمَا بِالتَّرَاضِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَالْمُسْتَأْمَنُ لَمْ يُلْزَمْ أَحْكَامَنَا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَتَّجِرَ عِنْدَنَا ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى دَارِهِ، فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ جَرَى بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْلِمًا وَمُسْتَأْمَنًا لَوْ دَخَلَا دَارَ الْإِسْلَامِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَدَانَهُ دَيْنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً وَأَقَامَ بَيِّنَةً مُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ، إلَّا أَنْ يُسْلِمَ الْمُسْتَأْمَنُ أَوْ يَصِيرَ ذِمِّيًّا، فَحِينَئِذٍ يَسْمَعُ خُصُومَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا مُلْتَزِمًا لِأَحْكَامِنَا. 526 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنَيْنِ فِي دَارِنَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَيْنًا أَوْ وَدِيعَةً، فَإِنْ كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي دَارِنَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَافِ وَالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا مُدَّةَ مُقَامِهِمَا فِي دَارِنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وَإِنْ كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ تُسْمَعْ الْخُصُومَةُ. فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يُسْلِمَا أَوْ يَصِيرَا ذِمَّةً. وَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ شَيْئًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تُسْمَعْ هَذِهِ الْخُصُومَةُ أَيْضًا لِأَنَّهَا دَارُ نُهْبَةٍ. فَكُلُّ مَنْ اسْتَوْلَى عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا كَانَ سَالِمًا لَهُ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَتْ مُعَامَلَةً جَرَتْ بَيْنَهُمَا بِالتَّرَاضِي. فَتُسْمَعُ الْخُصُومَةُ فِيهِمَا بَعْدَ مَا صَارَا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. 528 - وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَالْمُسْتَأْمَنُ إذَا خَرَجَا وَقَدْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا قَائِمًا بِعَيْنِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُسْتَأْمَنُ، لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنْ كَانَ (90 ب) هُوَ الْغَاصِبُ فَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ. وَالْحَرْبِيُّ إنْ كَانَ هُوَ الْغَاصِبُ فَقَدْ تَمَّ إحْرَازُهُ لَهُ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ. فَإِنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَالْإِحْرَازَ فِيهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَتُسْمَعُ الْخُصُومَةُ فِيهِ لِهَذَا. 529 - وَلَوْ خَرَجَ الْمُسْلِمُ وَالْمُسْتَأْمَنُ وَفِي أَيْدِيهِمَا بَغْلٌ عَلَيْهِ مَالٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: مَالِي وَفِي يَدِي. فَقَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَضَى الْقَاضِي بِهِ لَهُ. لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ. وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَطَأُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا فِيمَا قَالَ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَدَاعِيَيْنِ إذَا قَالَ مِلْكِي وَفِي يَدِي لَا يَسْمَعُ الْقَاضِي هَذِهِ الْخُصُومَةَ وَيَقُولُ: إذَا كَانَ مِلْكُك فِي يَدِك فَمَاذَا تَطْلُبُ مِنِّي؟ فَقَدْ نَصَّ هُنَا عَلَى قَبُولِ الْبَيِّنَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا لِدَفْعِ مُنَازَعَةِ الْآخَرِ. وَالْبَيِّنَةُ لِهَذَا الْمَقْصُودِ مَقْبُولَةٌ، وَهُوَ يَقُولُ لِلْقَاضِي: أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ مُزَاحِمَتِي وَتُقَرِّرَهُ فِي يَدِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يَجْعَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ فِيهِ، وَهُنَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ. فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُسْمَعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ مَا لَمْ يَصِرْ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا؟ قُلْنَا: فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ فِي يَدِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ الْخُصُومَةَ فِيهِ بَيْنَهُمَا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ شَهِدَتْ الشُّهُودُ أَنَّ الْغَاصِبَ وَثَبَ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ حَتَّى تَعَلَّقَ بِالْبَغْلِ مَعَ صَاحِبِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِنَا، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ هَذِهِ الْخُصُومَةَ أَيْضًا وَيَقْضِي بِهِ لِصَاحِبِهِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يُحْرِزْهُ غَاصِبُهُ مَا دَامَتْ يَدُ صَاحِبِهِ مُعَارِضَةً لِيَدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ تَمَّ زَوَالُ يَدِ صَاحِبِهِ. وَقَدْ تَمَّ الْإِحْرَازُ مِنْ الْغَاصِبِ لَهُ. فَلِهَذَا لَا يَقْضِي لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ أَسْلَمَا. 530 - وَإِنْ قَالَ الْمُسْلِمُ الَّذِي كَانَ أَسِيرًا فِي دَارِهِمْ: هَذَا الْبَغْلُ وَهَذَا الْمَالُ كَانَ لِهَذَا الْمُسْتَأْمَنِ، أَخَذْتُهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجْنَا. وَقَالَ الْمُسْتَأْمَنُ: الْبَغْلُ وَمَا عَلَيْهِ لِي وَهَذَا كَاذِبٌ. وَالْبَغْلُ فِي أَيْدِيهِمَا، فَفِي الْقِيَاسِ نِصْفُهُ لِلْمُسْتَأْمَنِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَنِصْفُهُ فَيْءٌ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ إذَا أَخْرَجَهُ إلَيْهِمْ. لِأَنَّ الْأَسِيرَ بِإِقْرَارِهِ يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ بَعْدَمَا ثَبَتَ حَقُّهُمْ. وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِمْ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْتَأْمَنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 لِأَنَّ حَقَّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ يَدِ الْأَسِيرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْأَسِيرِ فِي بَيَانِ جِهَةِ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى هَذَا الْمَالِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ: إنَّ أَصْلَ الْمَالِ كَانَ لِلْمُسْتَأْمَنِ. فَمَا بَقِيَتْ يَدُهُ لَا تَتَقَرَّرُ يَدُ الْأَسِيرِ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا لَهُ، فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُسْتَأْمَنِ. سَوَاءٌ خَرَجَا إلَى الْمُعَسْكَرِ أَوْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. 531 - وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْأَسِيرِ خَاصَّةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُسْتَأْمَنُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْب فَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْتَأْمَنِ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ حِينَ انْقَطَعَ يَدُ الْمُسْتَأْمَنِ عَنْهُ. فَإِنْ أَخْرَجَهُ إلَى الْمُعَسْكَرِ فَهُوَ فَيْءٌ لِجَمَاعَتِهِمْ. وَإِنْ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً. بِمَنْزِلَةِ مَا يُخْرِجُهُ الْمُتَلَصِّصُ، وَلَا خُمْسَ فِيهِ. 532 - وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْمَنُ إنَّمَا أَخَذَهُ مِنِّي فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْمَنِ. لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ كَانَ لِلْمُسْتَأْمَنِ. وَبِأَمَانِهِ صَارَ مِلْكُهُ مَغْصُوبًا مُحْتَرَمًا. فَالْأَسِيرُ يَدَّعِي سَبَبَ تَمَلُّكِ مَالِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ. وَلِأَنَّ أَخْذَهُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ حَادِثٌ، فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ حُصُولِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. كَمَنْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا فِي الْأَخْذِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُوَفِّقُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 [بَابُ مَا يَكُونُ أَمَانًا وَمَا لَا يَكُونُ] 49 - بَابُ مَا يَكُونُ أَمَانًا وَمَا لَا يَكُونُ 533 - وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَنَادَاهُمْ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: أَنْتُمْ آمِنُونَ. وَكَانَ نِدَاؤُهُ إيَّاهُمْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُونَ ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا بِأَمَانٍ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ إسْمَاعُ الْمُخَاطَبِ. فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ كَانَ لَاغِيًا فِي كَلَامِهِ لَا مُعْطِيًا الْأَمَانَ لَهُمْ. وَلَوْ كَانَ هَذَا أَمَانًا لَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ يُؤَمِّنُ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَالْهِنْدَ، فَلَا يَسَعُ لِلْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الْأَمَانِ إسْقَاطُ الْحَدِّ، أَوْ تَحْرِيمُ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَهَذَا يَتِمُّ بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَحْدَهُ، بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، بَلْ فِيهِ إثْبَاتُ صِفَةِ الْأَمْنِ لَهُمْ بِكَلَامٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ رَدُّوا أَمَانَهُ لَمْ يَثْبُتْ الْأَمَانُ. وَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ صِفَةُ الْأَمْنِ لَهُمْ بِكَلَامِهِ فِي مَوْضِعٍ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَهُ. 534 - وَلَوْ نَادَاهُمْ بِالْأَمَانِ بِحَيْثُ يَسْمَعُونَ الْكَلَامَ وَهُوَ النِّدَاءُ، إلَّا أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ أَحَاطَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا، بِأَنْ كَانُوا نِيَامًا أَوْ مُتَشَاغِلِينَ بِالْحَرْبِ، كَانَ ذَلِكَ أَمَانًا، حَتَّى لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ إلَّا بَعْدَ النَّبْذِ إلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 لِأَنَّ حَقِيقَةَ سَمَاعِهِمْ بَاطِنٌ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَفِي مِثْلِهِ إنَّمَا يُعَلِّقُ الْحُكْمَ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُونَ نِدَاءَهُ وَإِذَا قَامَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الْغُرُورِ وَاجِبٌ (92 ب) . وَمَعْنَى الْغُرُورِ يَتَمَكَّنُ إذَا كَانَ الْمُنَادِي مِنْهُمْ بِحَيْثُ يَسْمَعُونَ نِدَاءَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُنَادِي مِنْهُمْ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ نِدَاءَهُ. 535 - قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ انْتَهَيْت إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ نَائِمًا عَلَى فِرَاشِهِ فَنَادَيْته بِالْأَمَانِ وَأَنْتَ قَرِيبٌ مِنْهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَك فَلَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ لِنَوْمِهِ أَوْ لِصَمَمٍ كَانَ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ أَمَانًا؟ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النَّائِمَ كَالْمُنْتَبِهِ، عَلَى مَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْخَلْوَةِ وَالصَّيْدِ الَّذِي يَقَعُ عِنْدَ النَّائِمِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ فَهُوَ حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَنَادَاهُ وَأَيْقَظَهُ. وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَوَاءٌ أَيْقَظَهُ أَوْ لَمْ يُوقِظْهُ إذَا نَادَاهُ وَهُوَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا لَهُ. 536 - وَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا فِيهِ أَمَانٌ وَرَمَى بِهِ إلَيْهِمْ فَنَزَلُوا عَلَى ذَلِكَ كَانُوا آمِنِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 لِأَنَّ الْكِتَابَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ. فَإِنَّ الْبَيَانَ بِالْبَيَانِ كَهُوَ بِاللِّسَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ ثُمَّ كَتَبَ إلَى الْآفَاقِ وَكَانَ ذَلِكَ تَبْلِيغًا مِنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا وَقَفُوا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ نَزَلُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ أَمَانًا لَأَدَّى إلَى الْغُرُورِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 537 - وَإِنْ وَجَدُوا كِتَابًا فِيهِ أَمَانٌ لَمْ يَرْمِ بِهِ إلَيْهِمْ أَحَدٌ فَلَيْسَ هَذَا بِأَمَانٍ. لِأَنَّ الْكِتَابَ جَمَادٌ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْأَمَانُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْكَاتِبِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَالْأَمَانُ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ. ثُمَّ لَعَلَّ الْكِتَابَ مُفْتَعَلٌ، أَوْ كَتَبَهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لَهُمْ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ الرَّامِيَ بِهِ مُسْلِمٌ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِي اسْتِرْقَاقِهِمْ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ تَقُومُ لِإِبْطَالِ حَقِّهِمْ. 538 - فَإِنْ قَالَ مُسْلِمٌ: أَنَا رَمَيْتُ بِهِ إلَيْهِمْ. فَإِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَهُوَ مُصَدَّقٌ. لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي خَبَرِهِ. وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَتَقَرَّرْ فِيهِمْ بَعْدُ، فَيَكُونُ تَأْثِيرُ كَلَامِهِ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ، وَالْوَاحِدُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمْلِكُ ذَلِكَ. 539 - وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَعْطَى الْقَوْمَ بِأَيْدِيهِمْ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى يَشْهَدَ الشَّاهِدَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِوَاهُ أَنَّهُ رَمَى إلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، وَقَصَدَ بِإِخْبَارِهِ إبْطَالَ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا شَهَادَتُهُ. لِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ دَعْوَى لَا شَهَادَةٌ. 540 - فَإِنْ شَهِدَ سِوَاهُ مُسْلِمَانِ، يَثْبُتُ الْأَمَانُ لَهُمْ، وَرُدُّوا حَتَّى يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ. وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بَيِّنَةٌ فَقُسِّمُوا وَوَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي سَهْمِ الْمُقِرِّ، كَانَ حُرًّا لِإِقْرَارِهِ بِحُرِّيَّتِهِ، (92 آ) وَكَوْنِهِ آمِنًا، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مِلْكِهِ صَحِيحٌ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ لِيَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ احْتِبَاسَهُ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ. فَيُجْعَلُ ذِمِّيًّا إنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ. لِأَنَّ مَنْ اُحْتُبِسَ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ يُضْرَبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ. 541 - وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ بَيْعَهُمْ فَاشْتَرَاهُمْ الْمُقِرُّ بِالْأَمَانِ فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ. لِأَنَّهُمْ فِي الظَّاهِرِ أَرِقَّاءُ. ثُمَّ يَكُونُونَ أَحْرَارًا فِي يَدَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِمَا بَيَّنَّا. 542 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا قَالَ لِلْمَحْصُورِينَ: إنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَمَّنَكُمْ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي مَقَالَتِهِ فَفَتَحُوا حِصْنَهُمْ كَانُوا آمِنِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَمَانٍ صَحِيحٍ وَهُوَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ مِثْلِهِ، فَيَكُونُ إخْبَارُهُ بِهِ إظْهَارًا لِأَمَانٍ سَابِقٍ إنْ كَانَ، وَإِنْشَاءً إنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَ الْأَمَانُ، بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. ثُمَّ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ الْأَمِيرِ فَافْتَحُوا الْبَابَ. 543 - وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانُوا آمِنِينَ بِأَمَانِهِ. فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِذَلِكَ لَهُمْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا كَانُوا فَيْئًا. لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ إذَا كَانَ كَذِبًا فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا أَمَانًا مِنْ جِهَتِهِ، بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْأَمَانِ. 544 - وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ: أَمَّنْتهمْ، فِي مَجْلِسِهِ، فَلَمْ يَبْلُغْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى نَهَاهُمْ الْأَمِيرُ أَنْ يُبَلِّغُوهُمْ، فَذَهَبَ رَجُلٌ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ الْأَمِيرِ فَأَبْلَغَهُمْ إيَّاهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا فِي أَصْلِ الْخَبَرِ كَانُوا آمِنِينَ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا بَيَّنَّا. فَإِذَا كَانَ صَادِقًا فِي أَصْلِ الْخَبَرِ إلَّا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ بَعْدَ نَهْيِ الْأَمِيرِ أَوْلَى أَنْ يَكُونُوا آمِنِينَ. 545 - فَإِنْ أَبْلَغَهُمْ ذِمِّيٌّ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ سَمِعَ مَقَالَةَ الْأَمِيرِ الْأُولَى وَلَمْ يَسْمَعْ مَقَالَتَهُ الثَّانِيَةَ الْقَوْمُ آمِنُونَ. لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ أَمْرٌ لِكُلِّ سَامِعٍ بِالتَّبْلِيغِ إلَيْهِمْ دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالْإِفْصَاحِ وَبَعْدَ ثُبُوتِ وِلَايَةِ التَّبْلِيغِ لِلسَّامِعِ لَا يَنْعَزِلُ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ. بِمَنْزِلَةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ، وَالْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَكَانَ هَذَا مُبَلِّغًا أَمَانَ الْإِمَامِ إلَيْهِمْ بِأَمْرِهِ. وَعِبَارَةُ الرَّسُولِ فِي مِثْلِ هَذَا كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وَإِنْ كَانَ سَمِعَ الْمَقَالَتَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَهُمْ فَيْءٌ. لِأَنَّهُ حِينَ بَلَغَهُ النَّهْيُ صَارَ مَعْزُولًا عَنْ التَّبْلِيغِ وَارْتَفَعَ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي حَقِّهِ. وَهَذَا لِأَنَّ النَّهْيَ بِمَنْزِلَةِ النَّبْذِ لِذَلِكَ الْأَمَانِ. إلَّا أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وُصُولِ الْأَمَانِ إلَيْهِمْ لَا يَثْبُتُ النَّبْذُ فِي حَقِّهِمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِمْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَذِنَ (92 ب) لِعَبْدِهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ، لَا يَنْحَجِرُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَهْلُ سُوقِهِ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يَعْلَمَ أَهْلُ سُوقِهِ بِالْإِذْنِ كَانَ ذَلِكَ حَجْرًا. 546 - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ لِذِمِّيٍّ: اذْهَبْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي قَدْ أَمَّنْتهمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ وَلَا تُخْبِرْهُمْ. أَوْ كَانَ كَاتِبُهُ ذِمِّيًّا فَقَالَ: اُكْتُبْ إلَيْهِمْ بِأَمَانِهِمْ. فَأَعْلِمْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَكْتُبْ. فَكَتَبَ إلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَنَزَلُوا، كَانُوا فَيْئًا، وَلَوْ لَمْ يَنْهَ الرَّسُولَ وَالْكَاتِبَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ نَهَاهُ وَلَمْ يَسْمَعْ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِمْ أَوْ بَلَّغَهُمْ فَنَزَلُوا، كَانُوا آمِنِينَ. وَالْفِقْهُ فِي الْكُلِّ التَّحَرُّزُ عَنْ صُورَةِ الْغُرُورِ وَحَقِيقَتِهِ. 547 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا قَالَ لِأَهْلِ الْحِصْنِ: إنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَمَّنَكُمْ، وَأَشَارَ إلَى شَخْصٍ مَعَهُ، فَنَزَلُوا، فَإِذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْتَأْمَنٌ فَهُمْ فَيْءٌ، صُدِّقَ عَلَيْهِ أَوْ كُذِّبَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَمَانٍ بَاطِلٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُعْطِيًا أَمَانًا صَحِيحًا لَهُمْ وَهُوَ لَمْ يَغُرَّهُمْ فِي شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُمْ اغْتَرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ حِينَ لَمْ يَتَفَحَّصُوا عَنْ حَالِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُ بَعْدَ مَا عَيَّنَهُ لَهُمْ مِنْهُ، أَوْ مِنْ الْحَاكِي، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا. 548 - وَإِنْ أَشَارَ لَهُمْ إلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ كَانُوا آمِنِينَ، صَدَقَ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَبَ. لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَمَانٍ صَحِيحٍ فَيَكُونُ مُعْطِيًا الْأَمَانَ لَهُمْ حِينَ أَضَافَهُ إلَى مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ 549 - وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ حِكَايَةً عَنْ مُسْلِمٍ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ صَادِقٌ كَانُوا آمِنِينَ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ كَانُوا فَيْئًا. لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إعْطَاءَ الْأَمَانِ بِنَفْسِهِ، فَهُمْ إذَا اعْتَمَدُوا خَبَرَ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْأَمَانِ بِنَفْسِهِ كَانُوا مُغْتَرِّينَ لَا مَغْرُورِينَ. 550 - وَإِنْ قَالَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ صَدَقَ فِيمَا قَالَ. فَإِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالِ بَقَاءِ مَنَعَتِهِمْ ثُمَّ نَزَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّهُ صَدَّقَ الْمُخْبِرِ فِي حَالٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْأَمَانِ لَهُمْ فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي التَّصْدِيقِ. 551 - وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا فِي أَيْدِينَا غَيْرَ مُمْتَنَعِينَ، لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا التَّصْدِيقِ. فَقَدْ صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْأَمَانِ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا التَّصْدِيقِ إبْطَالَ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِرْقَاقِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 إلَّا أَنَّهُ إذَا قَسَّمَهُمْ الْإِمَامُ فَوَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي سَهْمِ الْمُقِرِّ أَوْ فِيمَا رَضَخَ بِهِ الذِّمِّيُّ عَتَقَ عَلَيْهِمَا. 552 - وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُمْ الْإِمَامُ فَاشْتَرَاهُمْ الذِّمِّيُّ الْمُخْبِرُ أَوْ الْمُسْلِمُ الْمُصَدَّقُ لَهُ، عَتَقُوا جَمِيعًا لِتَصَادُقِهِمَا، عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ آمِنُونَ. وَذَلِكَ عَامِلٌ فِي حَقِّ مَنْ صَارَ مِلْكًا لَهُمَا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ احْتِبَاسَهُمْ فِي دَارِنَا مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ حِينَ قَسَّمَهُمْ الْإِمَامُ إذَا بَاعَهُمْ. وَهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَبِاَللَّهِ الْعَوْنُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 [بَابُ الْحَرْبِيِّ يَدْخُلُ الْحَرَمَ غَيْرَ مُسْتَأْمَنٍ] 50 - بَابُ الْحَرْبِيِّ يَدْخُلُ الْحَرَمَ غَيْرَ مُسْتَأْمَنٍ (93 آ) 553 - وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ الْحَرَمَ فَإِنَّهُ لَا يُهَاجُ لَهُ بِقَتْلٍ وَلَا أَسْرٍ. وَهَذَا أَصْلُ عُلَمَائِنَا أَنَّ مَنْ كَانَ مُبَاحَ الدَّمِ خَارِجَ الْحَرَمِ يَسْتَفِيدُ الْأَمْنَ بِدُخُولِ الْحَرَمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] . وَقَالَ - عَزَّ مَنْ قَائِلٍ -: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ: «إنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي. وَلَمْ تَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَتَلَ مِنْهُمْ أُنَاسًا وَهُمْ غَيْرُ مُقَاتِلِينَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلَوْ كَانُوا مُقَاتِلِينَ لَهُ لَمْ تَظْهَرْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ بِمَا قَالَ، لِأَنَّ مَنْ اسْتَحَلَّ الْحَرَمَ يَسْتَحِلُّ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَوْ وَجَدْت قَاتِلَ عُمَرَ فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقْتَلْ أَبُوهُ. وَلَكِنْ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ أَحَدٍ فِي الْحَرَمِ ابْتِدَاءً، وَكَمَا لَا يُقْتَلُ لَا يُؤْسَرُ لِأَنَّ فِيهِ إتْلَافَهُ حُكْمًا فَالْحُرِّيَّةُ حَيَاةٌ وَالرِّقُّ تَلَفٌ، وَحُكْمُ حُرْمَةِ الْحَرَمِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ كَمَا لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ لَا يُتَمَلَّكُ بِالْأَخْذِ. 554 - فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ كَانَ آمِنًا حُرًّا مَا دَامَ فِي الْحَرَمِ. وَقَدْ تَأَكَّدَتْ حُرِّيَّتُهُ بِالْإِسْلَامِ. وَإِنْ سَأَلَنَا أَنْ يَكُونَ ذِمَّةً لَنَا فَإِنْ شِئْنَا أَعْطَيْنَاهُ ذَلِكَ وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نُعْطِهِ. لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُلْتَزِمًا لِأَحْكَامِنَا اخْتِيَارًا بَلْ اضْطِرَارًا، لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْفِرَارِ. فَالرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ فِي إعْطَاءِ الذِّمَّةِ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ الْمَأْسُورِ قَبْلَ ضَرْبِ الرِّقِّ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَ أَنْ يَكُونَ ذِمَّةً. 555 - وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ وَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يُجَالَسُ وَلَا يُطْعَمُ وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يَضْطَرَّ وَيَخْرُجَ. لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْأَمْنِ الثَّابِتِ بِالْحَرَمِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْنَا التَّعَرُّضُ لَهُ بِالْإِسَاءَةِ، وَلَا يَلْزَمُنَا الْإِحْسَانُ إلَيْهِ. فَإِنَّ مَنْعَ الْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إسَاءَةً، فَلِهَذَا لَا يَجِبُ قَبُولُ الذِّمَّةِ مِنْهُ إنْ طَلَبَ لِأَنَّ ذَلِكَ إحْسَانٌ إلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْكَلَأُ وَمَاءُ الْعَامَّةِ. لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ. فَقَدْ أَثْبَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ شَرِكَةً عَامَّةً بَيْنَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْكَلَأِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ» . وَفِي مَنْعِ حَقِّهِ مِنْهُ إسَاءَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كَانَ لَك أَنْ تَمْنَعَهُ الْمَاءَ كَانَ لَك أَنْ تَقْتُلَهُ. 556 - فَإِنْ قَالَ الْأَمِيرُ: إنِّي لَا آسِرُهُ وَلَكِنْ أَحْبِسُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا. لِأَنَّ فِي الْحَبْسِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أُخْرِجُهُ مِنْ الْحَرَمِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَمْنَ الثَّابِتَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يُحَرِّمُ التَّعَرُّضَ لَهُ بِالْحَبْسِ وَالْإِخْرَاجِ كَمَا فِي حَقِّ الصَّيْدِ. 557 - وَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةً دَخَلُوا الْحَرَمَ لِلْقِتَالِ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ (93 ب) أَنْ يَقْتُلُوهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الْحَرَمُ كُلُّهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. أَيْ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَا تُلْزِمُنَا بِحَمْلِ الْأَذَى عَنْهُمْ، كَمَا لَا يَلْزَمُنَا تَحَمُّلُ الْأَذَى عَنْ الصَّيْدِ حَتَّى إنَّ الضَّبُعَ إذَا صَالَ عَلَى إنْسَانٍ فِي الْحَرَمِ جَازَ قَتْلُهُ دَفْعًا لِأَذَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَانْهَزَمُوا فَأَخَذُوا مِنْهُمْ الْأَسْرَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلُوهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرَاعُوا حُرْمَةَ الْحَرَمِ. فَيَكُونُ الْحَرَمُ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْحِلِّ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. بِخِلَافِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الصِّيَالِ إذَا هَرَبَ لَمْ يَحِلُّ قَتْلُهُ. لِأَنَّ الصَّيْدَ غَيْرُ عَاقِلٍ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ دَفْعُ أَذَاهُ عِنْدَ قَصْدِهِ حِسًّا، وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ بِهَرَبِهِ. فَأَمَّا الْآدَمِيُّ عَاقِلٌ يَجُوزُ دَفْعُ أَذَاهُ بِقَتْلِهِ زَجْرًا. وَلِهَذَا شُرِعَ الْقِصَاصُ لِمَعْنَى الْحَيَاةِ. فَكَمَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ إذَا قَصَدُوا دَفْعًا لِأَذَاهُمْ وَزَجْرًا لَهُمْ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ بَعْدَ الِانْهِزَامِ وَالْأَسْرِ لِمَعْنَى الزَّجْرِ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ. 559 - وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلُوا الْحَرَمَ مُقَاتِلِينَ وَمَعَهُمْ عَيَّالَاتُهُمْ، فَهُزِمُوا وَأُخِذْت عَيَّالَاتُهُمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤْسَرُوا. لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْمُقَاتِلَةِ، وَحِينَ اُلْتُحِقَ الْحُرُمُ بِالْحِلِّ فِي حَقِّ الْأُصُولِ لِهَتْكِهِمْ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَتْبَاعِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ. 560 - وَلَوْ كَانُوا قَاتَلُوا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ انْهَزَمُوا بِعَيَّالَاتِهِمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ الْحَرَمَ فَحَصَلُوا فِي الْحَرَمِ مُنْهَزِمِينَ لَا فِئَةَ لَهُمْ، لَمْ يَحِلَّ أَنْ يُعْرَضَ لَهُمْ وَلَا لِعِيَالَاتِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 لِأَنَّهُمْ الْتَجَئُوا إلَى الْحَرَمِ مُعَظِّمِينَ لَهَا وَكَانُوا آمِنِينَ فِيهَا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْحَرَمَ هَاتِكِينَ حُرْمَتَهَا بِالْقَصْدِ إلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا. 561 - وَلَوْ كَانَتْ فِئَتُهُمْ تَجَمَّعَتْ بِالْحَرَمِ وَصَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَهَرَبَ هَؤُلَاءِ بِعَيَّالَاتِهِمْ إلَى فِئَتِهِمْ فِي الْحَرَمِ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ. لِأَنَّ الْمُلْتَجِئَ إلَى فِئَةٍ يَكُونُ مُحَارِبًا وَلَا يَكُونُ تَارِكًا لِلْحَرْبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنْهَزِمَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ يُتَّبَعُ فَيُقْتَلُ، إذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ. فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. 562 - وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي أَهْلِ الْحَرْبِ هُوَ الْحُكْمُ فِي الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ. إلَّا أَنَّهُ لَا تُسْبَى ذَرَارِيِّهِمْ وَلَا نِسَاؤُهُمْ. لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلِتَأَكُّدِ حُرِّيَّتِهِمْ بِالْإِسْلَامِ كَانُوا آمِنِينَ مِنْ السَّبْيِ. فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يَحِلُّ فِيهِ قَتْلُهُمْ، وَيَحْرُمُ فَهُمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 [بَابٌ مِنْ الْأَمَانِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ] 563 - وَإِذَا أَحَاطَ الْمُسْلِمُونَ بِحِصْنٍ مِنْ حُصُونِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَشْرَفَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ فَقَالُوا: آمِنُونَا عَلَى أَنْ نَخْرُجَ إلَيْكُمْ لِنُرَاوِضَكُمْ عَلَى الصُّلْحِ. فَفُعِلَ ذَلِكَ بِهِمْ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلًا مَعًا، فَإِنْ عَرَفْنَا الْأَرْبَعَةَ بِأَعْيَانِهِمْ كَانُوا آمِنِينَ، وَمَنْ سِوَاهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، إنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهُمْ فَيْئًا لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي أَيْدِينَا بِغَيْرِ أَمَانٍ. فَإِنَّ الْمَحْصُورَ بِمُجَرَّدِ الْخُرُوجِ لَا يَسْتَفِيدُ الْأَمْنَ مَا لَمْ يُعْطَ لَهُ الْأَمَانُ نَصًّا. (آخِرُ ص 136) . وَكَيْفَ يَسْتَفِيدُ الْأَمْنَ وَإِنَّمَا حُصِرَ لِيَخْرُجَ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَبَيْنَ مَنْ سِوَاهُمْ سَبَبٌ يُوجِبُ الْأَمْنَ لَهُمْ بِطَرِيقِ التَّبَعَةِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْأَرْبَعَةِ: 564 - فَإِنْ اسْتَقَامَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ صُلْحٌ وَإِلَّا رَدُّوهُمْ إلَى حِصْنِهِمْ، كَمَا هُوَ مُوجِبُ الْأَمَانِ. وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الْحِصْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجْبِرُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا آمِنِينَ فِينَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ بِحَبْسٍ وَلَا أَسْرٍ. وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ اذْهَبُوا إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ إنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَكُمْ حَتَّى تَبْلُغُوا مَأْمَنَكُمْ. لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْأَمَانِ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ الْعُذْرِ وَاجِبٌ. 565 - فَإِنْ قَالُوا: لَا نُفَارِقُ عَسْكَرَكُمْ. فَالسَّبِيلُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِمَامُ إلَيْهِمْ وَيُؤَجِّلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَذْهَبُوا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً وَأَخْرَجَهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ. وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إنْ ذَهَبْتُمْ إلَى وَقْتِ كَذَا وَإِلَّا جَعَلْنَاكُمْ عَبِيدًا أَوْ وَإِلَّا فَدِمَاؤُكُمْ حَلَالٌ. لِأَنَّهُمْ آمِنُونَ فِينَا، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْأَمَانِ ثُبُوتُ الْعِصْمَةِ عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْقَتْلِ. وَكَمَا لَا يَمْلِكُ تَنْفِيذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الْحَالِ لَا يَمْلِكُ تَعْلِيقَهُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، بِخِلَافِ تَصْيِيرِهِمْ ذِمَّةً عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْأَمَانَ بَلْ يُقَرِّرُهُ. وَالْكَافِرُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إطَالَةِ الْمَقَامِ فِينَا بِدُونِ صَغَارِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ. 566 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لِأَرْبَعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ: انْزِلُوا، فَأَنْتُمْ آمِنُونَ حَتَّى نُرَاوِضَكُمْ عَلَى الصُّلْحِ فَنَزَلَ عِشْرُونَ رَجُلًا فِيهِمْ أُولَئِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الْأَرْبَعَةُ، وَلَكِنْ لَا نَعْلَمُ الْأَرْبَعَةَ بِأَعْيَانِهِمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ: أَنَا مِنْ الْأَرْبَعَةِ. فَهُمْ جَمِيعًا آمِنُونَ، لَا يَحِلُّ قَتْلُ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا أَسْرُهُ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَرَدَّدَ حَالُهُ بَعْدَمَا حَصَلَ فِينَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ آمِنًا مَعْصُومَ الدَّمِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحَ الدَّمِ. فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْعِصْمَةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» وَلِأَنَّ الْأَمَانَ يُتَوَسَّعُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَهُوَ حَلَالٌ لَهُ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى قَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ. ثُمَّ هَذَا التَّجْهِيلُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ لَمْ يُعَلِّمُوا الْأَرْبَعَةَ بِعَلَامَةٍ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ تَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ عَنْ أَغِيَارهمْ، فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ الْأَمَانِ الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الِاحْتِمَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَلَكِنَّهُمْ يَبْلُغُونَ مَأْمَنَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُمِّنُوا جَمِيعًا. 567 - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ أَمَّنَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ بِأَعْيَانِهِمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالنُّزُولِ، ثُمَّ فَتَحَ الْحِصْنَ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا مِنْ الْأَرْبَعَةِ. فَإِنْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ أَمَّنُوهُمْ وَإِلَّا كَانَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَيْئًا. لِأَنَّهُمْ أُخِذُوا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَمَنْ كَانَ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُبَاحُ الْأَخْذِ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ فِيهِ مَانِعٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ الْأَرْبَعَةُ صَارُوا آمِنِينَ، وَهُمْ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ فِي مَنَعَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ مُحَارِبًا لَهُمْ. بِاعْتِبَارِ الْحَالِ، فَمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُحَارِبٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمَانُ لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ أَرْبَعَةٌ فِي الْحِصْنِ، فَأَمَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِالنُّزُولِ، فَنَزَلَ عِشْرُونَ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ فِي الْحِصْنِ، لَمْ يَحِلَّ سَبْيُ أَحَدٍ مِنْهُمْ. 568 - وَلَوْ أَسْلَمَ أَرْبَعَةٌ فِي الْحِصْنِ وَلَمْ يَخْرُجُوا حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْحِصْنِ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ، كَانُوا جَمِيعًا فَيْئًا، إلَّا مَنْ عُرِفَ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ أَسْلَمَ. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُرًّا هُوَ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ، وَيَسْلَمُ لَهُ مَالُهُ. لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْرِزُ لَهُ. فَأَمَّا الْكِبَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ فَلَا يَتْبَعُونَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانُوا فَيْئًا أَجْمَعِينَ. إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْهُمْ هَا هُنَا. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَابِلٌ لِلْإِسْلَامِ أَوْ رَاغِبٌ فِيهِ (ص 137) وَإِسْلَامُ الْأَسِيرِ يُؤَمِّنُهُ عَنْ الْقَتْلِ وَلَكِنَّهُ لَا يُؤَمِّنُهُ عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ. 569 - قَالَ: وَلَوْ لَمْ أَسْبِ هَؤُلَاءِ لَمْ أَسْبِ أَهْلَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ إذَا عَلِمْت أَنَّ فِيهَا مُسْلِمًا وَاحِدًا أَوْ ذِمِّيًّا وَلَا أَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ. فَهَذَا لَيْسَ بِسَبْيٍ، وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الظُّهُورُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ فَيْءٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ الْمَانِعُ فِيهِ. وَاسْتَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقُ بِمَا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 لَوْ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ قَرْيَةً مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَتَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ لِيَأْخُذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْقَرْيَةِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَهُمْ آمِنُونَ كُلُّهُمْ. لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ الْأَمْنِ وَالْعِصْمَةِ. فَلَا يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. 570 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَخَلُوا بَعْضَ حُصُونِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى أَهْلِ الْحِصْنِ، فَكُلُّ مَنْ فِي الْحِصْنِ فَيْءٌ، إلَّا مَنْ عُرِفَ بِالذِّمَّةِ بِعَيْنِهِ. لِأَنَّهُمْ وُجِدُوا فِي مَوْضِعِ النُّهْبَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَكَانُوا فَيْئًا، مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَانِعُ فِي بَعْضِهِمْ. وَتَحْكِيمُ الْمَكَانِ فِي مِثْلِ هَذَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَنْ رَأَى شَخْصًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ يُبَاحُ لَهُ الرَّمْيُ إلَيْهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ. وَلَوْ رَآهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ. 571 - وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا دَخَلَ حِصْنًا مِنْ حُصُونِهِمْ، فَافْتُتِحَ الْحِصْنُ حِينَ دَخَلَ الرَّجُلُ، وَلَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى أُخِذُوا، وَقَدْ أَحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ فِيمَنْ أُخِذَ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمْ هُوَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَقْتُلَهُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ. وَلَوْ قَتَلَهُمْ جَمِيعًا كَانَ مُتَيَقِّنًا بِقَتْلِ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ. وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى التَّحَرُّزِ عَمَّا لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْكَفِّ عَنْ قَتْلِهِمْ جَمِيعًا. وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ قَتْلِ الذِّمِّيِّ فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَقَتْلُ الْحَرْبِيِّ الْأَسِيرِ مُبَاحٌ لَهُ. وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْفَرْضِ. وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ عَلَى الْحِلِّ. فَهُنَا أَوْلَى. 572 - فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ قُتِلَ بَعْضُهُمْ، أَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ، أَوْ جُرِحَ بَعْضُهُمْ، فَلَمْ يُحِطْ الْعِلْمُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الرِّجَالِ كُلِّهِمْ. لِأَنَّهُمْ وُجِدُوا فِي مَوْضِعِ الْحَرْبِ، وَالْمَانِعُ مِنْ قَتْلِهِمْ كَوْنُ الذِّمِّيِّ فِيهِمْ. وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ كَانَ هُوَ الَّذِي مَاتَ أَوْ خَرَجَ مِنْهُمْ. وَهَذَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مُبَاحُ الدَّمِ. وَإِنَّمَا يُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، إلَّا أَنْ يُعَارِضَ الظَّاهِرَ يَقِينٌ بِخِلَافِهِ. فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عَارَضَ الظَّاهِرَ يَقِينٌ وَهُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الذِّمِّيِّ فِيهِمْ، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ لَمْ يُعَارِضْ الظَّاهِرَ يَقِينٌ، فَبُنِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. 573 - فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ ظَنِّ الْإِمَامِ أَنَّ الذِّمِّيَّ فِيهِمْ وَكُلُّهُمْ يَقُولُ: أَنَا الذِّمِّيُّ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْهُمْ. لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ، لَكِنْ يَثْبُتُ بِهِ اسْتِحْبَابُ الِاحْتِيَاطِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ مَاءً وَغَلَبَ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّهُ نَجِسٌ وَلَكِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ أَحَدٌ بِنَجَاسَتِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ أَجْزَأَهُ. فَهَا هُنَا أَيْضًا الْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْهُمْ. 574 - وَإِنْ كَانَ لَوْ قَتَلَهُمْ، جَازَ. بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى صَدْرِكَ وَاسْتَفْتِ قَلْبَكَ، فَمَا حَكَّ فِي صَدْرِكَ فَدَعْهُ، وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ بِهِ» . وَإِنْ كَانَ لَا رَأْيَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُمْ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ. وَإِنْ شَكَّ فِي اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَ الْبَاقِينَ وَيَسْبِيَ الَّذِينَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّ الذِّمِّيَّ فِيهِمْ. 575 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ أَشْرَفَ عَلَى الْحِصْنِ فَدَلَّنَا عَلَى عَوْرَةٍ مِنْ عَوْرَاتِهِمْ فَأَمَّنَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ اُفْتُتِحَ الْحِصْنُ مِنْ سَاعَتِهِ فَهَذَا وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ. لِأَنَّ الَّذِي أَمَّنَّاهُ مَعْصُومٌ عَنْ الْقَتْلِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ بِالْأَمَانِ وَبِالذِّمَّةِ سَوَاءٌ. 576 - وَلَوْ وُجِدَتْ الْمُرَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحِصْنِ (ص 138) عَلَى الصُّلْحِ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: أَخْرِجُوا إلَيْنَا أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَهُمْ آمِنُونَ حَتَّى نُرَاوِضَهُمْ. فَخَرَجَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ مَعًا، فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّ أَرْبَعَةً مِنْ الْعِشْرِينَ قَدْ صَارُوا آمِنِينَ بِإِعْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ الْأَمَانَ. فَإِنَّ إعْطَاءَ الْأَمَانِ لِمَجْهُولٍ صَحِيحٌ. فَإِذَا حَصَلُوا فِي عَسْكَرِنَا وَبَعْضُهُمْ آمِنُونَ ثَبَتَ الْأَمَانُ لَهُمْ جَمِيعًا إذْ لَيْسَ بَعْضُهُمْ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَلَا يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ لِتَرَدُّدِ حَالِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ آمِنًا مَعْصُومًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ قَالُوا: لِيَخْرُجْ إلَيْنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ فَهُوَ آمِنٌ. فَإِذَا فَتَحَ الْبَابَ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ وَيَكُونَ آمِنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فَإِذَا خَرَجَ عَشَرَةٌ مَعًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي صُورَةِ مَنْ سَلَّطَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَوْ خَرَجَ وَحْدَهُ كَانَ آمِنًا. فَخُرُوجُ غَيْرِهِ مَعَهُ لَا يُبْطِلُ مَا أَوْجَبَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْأَمَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: إنْ فَتَحَ رَجُلٌ مِنْكُمْ الْبَابَ فَهُوَ آمِنٌ فَوَثَبَ عَشْرَةٌ مِنْهُمْ فَفَتَحُوهُ مَعًا كَانُوا آمِنِينَ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ فَتَحَهُ وَحْدَهُ كَانَ آمِنًا، فَلَا يَبْطُلُ أَمَانُهُ بِفَتْحِ الْغَيْرِ مَعَهُ. 577 - وَلَوْ قَالَ: إنْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْكُمْ إلَيْنَا لِنُرَاوِضَهُ عَلَى الصُّلْحِ فَهُوَ آمِنٌ. فَخَرَجَ رَجُلٌ، ثُمَّ تَبِعَهُ آخَرُ، ثُمَّ آخَرُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَارَ فِي مَنَعَتِنَا قَبْلَ خُرُوجِ الْآخَرِينَ فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ تَعَيَّنَ فِي الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ فِي مَنَعَتِنَا وَحْدَهُ، ثُمَّ خَرَجَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَإِنَّ النَّكِرَةَ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ. فَبَعْدَمَا تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لَهُ لَا يَمَسُّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ. وَإِنْ لَمْ يَصِلْ الْأَوَّلُ إلَى مَنَعَتِنَا حَتَّى لَحِقَهُ صَاحِبَاهُ فَهَذَا وَخُرُوجُهُمْ مَعًا سَوَاءٌ. لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ إلَيْنَا. وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِوُصُولِهِ إلَى مَنَعَتِنَا، فَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَمَانُ فِي الْأَوَّلِ، فَكَانَ هَذَا وَخُرُوجُهُمْ مَعًا سَوَاءٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى مَنَعَتِنَا ثُمَّ خَرَجَ الْآخَرُ كَانَ آمِنًا إذَا وَصَلَ إلَى مَنَعَتِنَا. وَلَوْ وَصَلَ الْأَوَّلُ إلَى مَنَعَتِنَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ رَجَعَ فَخَرَجَ الْآخَرُ كَانَ فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ الثَّانِيَ عَجَّلَ فَوَصَلَ إلَى مَنَعَتِنَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْأَوَّلُ مِنْ مَنَعَةِ الْمُشْرِكِينَ أَلَمْ يَكُنْ آمِنًا؟ وَهُوَ أَوَّلُ رَجُلٍ وَصَلَ إلَى مَنَعَتِنَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُ الْوُصُولِ إلَى مَنَعَتِنَا، وَقَدْ وَصَلُوا إلَيْنَا مَعًا فَكَأَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعًا فَكَانُوا آمِنِينَ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا خَرَجُوا مَعًا كَيْفَ يَثْبُتُ الْأَمَانُ لَهُمْ وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ لَا تَعُمُّ؟ قُلْنَا: هَذِهِ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ: بِصِفَةٍ عَامَّةٍ وَهِيَ الْخُرُوجُ إلَيْنَا، وَمِثْلُ هَذِهِ النَّكِرَةِ تَعُمُّ، كَالرَّجُلِ يَقُولُ: لَا أُكَلِّمُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا. وَلَكِنْ يَنْتَهِي شَرْطُ الْأَمَانِ بِوُصُولِ أَحَدِهِمْ إلَيْنَا قَبْلَ خُرُوجِ الْآخَرِينَ. فَإِذَا خَرَجُوا مَعًا كَانُوا آمِنِينَ لِهَذَا. 578 - وَلَوْ كَانَ قَالَ: عَشَرَةٌ مِنْكُمْ آمِنُونَ عَلَى أَنْ تَفْتَحُوا الْبَابَ. فَقَالَ الْإِمَامُ: نَعَمْ. فَفَتَحُوا الْبَابَ فَعَشْرَةٌ مِنْهُمْ آمِنُونَ، وَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِهِمْ إلَى الْإِمَامِ. لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الْأَمَانَ لِلْفَاتِحِينَ بِأَعْيَانِهِمْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ لِعَشَرَةٍ مُنَكَّرَةٍ مِنْهُمْ. وَلَكِنَّ إيجَابَ الْأَمَانِ لِلْمَجْهُولِ يَصِحُّ مُنْجَزًا، وَكَذَلِكَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ ثُمَّ الْبَيَانُ يَكُونُ إلَى مَنْ أَوْجَبَ فِي الْمَجْهُولِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لِعَشَرَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عِيَالٍ وَلَا مَالٍ، إلَّا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْكِسْوَةِ وَالسِّلَاحِ اسْتِحْسَانًا. ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَمَانِ لَهُمْ بَعْدَ فَتْحِ الْبَابِ وَتَمَامِ الْقَهْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِيَالَ لَا يَدْخُلُونَ فِي مِثْلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وَإِنْ كَانُوا قَالُوا: عَشَرَةٌ مِنْ أَهْلِ حِصْنِنَا آمِنُونَ عَلَى أَنْ يُفْتَحَ لَكُمْ الْبَابُ. فَقَالَ الْإِمَامُ: نَعَمْ. فَلَهُ الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ جَعَلَ الْعَشَرَةَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمْ مِنْ رِجَالِهِمْ. لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي بِهِ طُلِبَ الْأَمَانُ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَالْكُلُّ (ص 139) مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ. وَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا خَاطَبَ الرِّجَالَ. فَيَثْبُتُ الْأَمَانُ لِعَشَرَةٍ مِنْ الرِّجَالِ يُعَيِّنُهُمْ الْإِمَامُ. 580 - وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْتَاطَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى لَا يُخْتَارَ لِلْأَمَانِ مَنْ تَكُونُ مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِرْقَاقِهِ أَقَلَّ؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا لَهُمْ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ لِيَخْرُجْ إلَيْنَا أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ. وَقَوْلِهِ: لِيَخْرُجْ إلَيْنَا أَحَدٌ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْأَمَانَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمْ بَعْدَمَا وَصَلُوا إلَى مَنَعَتِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ خَرَجَ وَحْدَهُ كَانَ آمِنًا. فَبِانْضِمَامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْأَمَانُ. وَهَذَا الْأَمَانُ لِعَشَرَةٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الْفَتْحِ وَهُمْ فِي الْحِصْنِ. وَحَقِيقَةُ هَذَا الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّكِرَةَ هُنَا غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ، وَهُنَاكَ النَّكِرَةُ مَوْصُوفَةٌ بِالْخُرُوجِ إلَيْنَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ رَمَى رَجُلٌ مِنْكُمْ بِنَفْسِهِ إلَيْنَا وَحْدَهُ كَانَ آمِنًا. فَرَمَى عَشَرَةٌ مَعًا كَانُوا آمِنِينَ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ مَوْصُوفَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ رَمَى بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ كَانَ آمِنًا، فَبِانْضِمَامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ. 581 - وَلَوْ قَالَ: لِيَخْرُجْ إلَيْنَا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ حَتَّى نُرَاوِضَهُمْ عَلَى الصُّلْحِ. فَخَرَجُوا، فَهُمْ آمِنُونَ، سَوَاءٌ قَالَ: وَهُمْ آمِنُونَ أَوْ لَمْ يَقُلْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إلَى الْخُرُوجِ لِطَلَبِ السِّلْمِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَلِأَنَّ الْمُرَاوَضَةَ عَلَى الصُّلْحِ إنَّمَا تَتَأَتَّى مِمَّنْ كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ. فَهَذَا دَلِيلُ الْأَمَانِ لَهُمْ. بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِأَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ: اُخْرُجُوا إلَيْنَا. فَخَرَجُوا. فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمَانِ أَوْ عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَافَقَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا طَلَبُ الْمُبَارَزَةِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: اُخْرُجُوا إلَيْنَا لِلْقِتَالِ إنْ كُنْتُمْ رِجَالًا. 582 - وَلَوْ قَالَ: اُخْرُجُوا إلَيْنَا فَبِيعُوا وَاشْتَرُوا، كَانُوا آمِنِينَ؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِهِ مَا دَلَّ عَلَى الْأَمَانِ وَالْخُرُوجِ إلَى الْمُوَافَقَةِ. فَالتِّجَارَةُ تَكُونُ عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا مَنْ يَكُونُ آمِنًا. 583 - وَلَوْ قَالَ: لِيَخْرُجْ إلَيْنَا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ حَتَّى نُرَاوِضَهُمْ عَلَى الصُّلْحِ. فَخَرَجَ أَرْبَعَةٌ غَيْرُ أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ، فَهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَمَانِ لَا تَكُونُ فَوْقَ التَّصْرِيحِ بِعَيْنِهِ. 584 - وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ: أَمَّنْتُكُمْ، فَخَرَجَ غَيْرُهُمْ كَانُوا فَيْئًا. 585 - وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَدْرُوا أَنَّهُمْ أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةُ أَمْ غَيْرُهُمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ، كَانُوا فَيْئًا لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِحَقِّ الِاسْتِرْقَاقِ. وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا مَنْ أُومِنَ بِعَيْنِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 فَإِنْ اتَّهَمَهُمْ اسْتَحْلَفَهُمْ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ كَانُوا فَيْئًا، وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُونَ. لِأَنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، وَلَكِنْ فِيهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ وَاحْتِمَالٍ، فَلَا يَجِبُ الْقَتْلُ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. 586 - وَإِنْ خَرَجَ عِشْرُونَ رَجُلًا مَعًا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا مِنْ الْأَرْبَعَةِ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُمْ آمِنُونَ جَمِيعًا. لِأَنَّ كُلَّ أَرْبَعَةٍ لَوْ خَرَجُوا وَحْدَهُمْ وَحَلَفُوا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. فَخُرُوجُ غَيْرِهِمْ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْأَمَانِ فِي حَقِّهِمْ. أَوْ لِأَنَّهُ اخْتَلَطَ الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي مَنَعَتِنَا. وَفِي مِثْلِ هَذَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لَهُمْ جَمِيعًا احْتِيَاطًا. فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 [بَابُ الْخِيَارِ فِي الْأَمَانِ] 587 - قَالَ: وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ رَأْسُ الْحِصْنِ فَقَالَ: آمِنُونِي عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْحِصْنِ عَلَى أَنْ أَفْتَحَهُ لَكُمْ. فَقَالُوا: لَك ذَلِكَ. فَفَتَحَ الْحِصْنَ. فَهُوَ آمِنٌ وَعَشَرَةٌ مَعَهُ. لِأَنَّهُ اسْتَأْمَنَ لِنَفْسِهِ نَصًّا بِقَوْلِهِ: آمِنُونِي. فَالْيَاءُ وَالنُّونُ يُكَنِّي بِهِمَا الْمُتَكَلِّمُ عَنْ نَفْسِهِ (ص 140) ، وَقَوْلُهُ عَلَى عَشَرَةٍ، كَلِمَةُ عَشَرَةٍ لِلشَّرْطِ. وَقَدْ شَرَطَ أَمَانَ عَشَرَةٍ مُنَكَّرَةً مَعَ أَمَانِ نَفْسِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَشَرَةَ سِوَاهُ. ثُمَّ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الْعَشَرَةِ إلَى رَأْسِ الْحِصْنِ. لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ مِنْ أَمَانِهِمْ، وَهُوَ لَيْسَ بِذِي حَظٍّ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي أَمَانِهِمْ، فَقَدْ اسْتَأْمَنَ لِنَفْسِهِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلَيْسَ بِذِي حَظٍّ عَلَى أَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِأَمَانِهِمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ ذُو حَظٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا لِمَنْ تَنَاوَلَهُ الْأَمَانُ مِنْهُمْ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّعْيِينَ فِي الْمَجْهُولِ كَالْإِيجَابِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ وَجْهٍ. 588 - وَلَوْ كَانَ قَالَ: آمِنُوا لِي عَشَرَةً مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ. فَلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 عَشَرَةٌ يَخْتَارُ أَيَّ عَشَرَةٍ شَاءَ. فَإِنْ اخْتَارَ عَشَرَةً هُوَ أَحَدُهُمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ اخْتَارَ عَشَرَةً سِوَاهُ فَالْعَشَرَةُ آمِنُونَ وَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّهُ مَا اسْتَأْمَنَ لِنَفْسِهِ عَيْنًا، وَإِنَّمَا اسْتَأْمَنَ لِعَشَرَةٍ مُنَكَّرَةٍ، وَلَكِنْ بِقَوْلِهِ لِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ ذَا حَظٍّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَا حَظٍّ عَلَى وَجْهِ مُبَاشَرَةِ الْأَمَانِ لَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ ذُو حَظٍّ، عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعَيِّنُ لِلْعَشَرَةِ. وَنَفْسُهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَنَفْسِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمَانُ نَصًّا. 589 - فَإِنْ عَيَّنَ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ صَارَ آمِنًا. بِمَنْزِلَةِ التِّسْعَةِ الَّذِينَ عَيَّنَهُمْ مَعَ نَفْسِهِ. 590 - وَإِنْ عَيَّنَ عَشَرَةً سِوَاهُ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانِ فِيهِمْ وَصَارَ هُوَ فَيْئًا. كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ. وَكَانَ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ: آمِنُوا لِأَجْلِي عَشَرَةً، وَأَوْجِبُوا لِي حَقَّ تَعْيِينِ عَشَرَةٍ تُؤَمِّنُونَهُمْ. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا. قَالَ: وَبَلَغَنَا نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ النجير. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْبِدَايَةُ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ بِأَنْ يَقُولَ: فَأَفْتَحُ لَكُمْ الْحِصْنَ عَلَى أَنِّي آمِنٌ عَلَى عَشَرَةٍ. أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ لِي عَشَرَةً آمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ، فَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ، أَوْ عَلَى أَنِّي آمِنٌ فِي عَشَرَةٍ. فَهُوَ سَوَاءٌ، وَهُوَ آمِنٌ وَتِسْعَةٌ مَعَهُ. لِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ. فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ الْتَمَسَ الْأَمَانَ لَهُمْ. فَلَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ إلَّا تِسْعَةٌ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ عَشَرَةً سِوَاهُ كَانَ هُوَ آمِنًا فِي أَحَدَ عَشَرَةَ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ مَا جَعَلَ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلَ الْعَشَرَةَ هُنَا ظَرْفًا لِنَفْسِهِ وَالْمَظْرُوفُ غَيْرُ الظَّرْفِ. قُلْنَا: هُوَ كَذَلِكَ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الظَّرْفُ. وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْعَدَدِ إلَّا بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَدُهُمْ وَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ قَالَ: اجْعَلُونِي أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ تُؤَمِّنُونَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الظَّرْفِ حَقِيقَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى؛ {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أَوْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى عَلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وَبِاعْتِبَارِ الْوَجْهَيْنِ يَثْبُتُ الْأَمَانُ لِعَشَرَةٍ سِوَاهُ. قُلْنَا: الْكَلِمَةُ لِلظَّرْفِ حَقِيقَةً، فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَدُهُمْ دَاخِلًا فِي عَدَدِهِمْ، فَلِهَذَا لَا نَحْمِلُهُ عَلَى الْمَجَازِ. ثُمَّ الْخِيَارُ فِي التِّسْعَةِ الَّذِينَ مَعَهُ إلَى الْإِمَامِ هَا هُنَا، لَا إلَى رَأْسِ الْحِصْنِ. لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ أَحَدَ الْعَشَرَةِ، فَكَمَا لَا خِيَارَ لَهُ لِمَنْ سِوَاهُ مِنْ الْعَشَرَةِ فِي التَّعْيِينِ لَا خِيَارَ لَهُ. وَهَذَا لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ مِنْ أَمَانٍ الْعَشَرَةِ عَلَى أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 يَتَنَاوَلَهُ حُكْمُ أَمَانِهِمْ، لَا أَنْ يَكُونَ هُوَ مُعَيِّنًا لَهُمْ. وَقَدْ نَالَ مَا سَأَلَ. وَبَقِيَ الْإِمَامُ مُوجِبًا الْأَمَانَ لِتِسْعَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ فَإِلَيْهِ بَيَانُهَا. 592 - وَلَوْ قَالَ: آمِنُونِي وَعَشَرَةً، أَوْ أَفْتَحُ لَكُمْ عَلَى أَنِّي آمِنٌ أَنَا وَعَشَرَةٌ. فَالْأَمَانُ لَهُ وَلِعَشَرَةٍ سِوَاهُ. لِأَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ. وَإِنَّمَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ. فَفِي كَلَامِهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْعَشَرَةَ سِوَاهُ هَا هُنَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِصْنِ إلَّا ذَاكَ الْعَدَدُ (ص 141) أَوْ أَقَلُّ، فَهُمْ آمِنُونَ كُلُّهُمْ. لِأَنَّ الْأَمَانَ بِذِكْرِ الْعَدَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانِ لَهُمْ بِالْإِشَارَةِ إلَى أَعْيَانِهِمْ. وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحِصْنِ كَثِيرًا فَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الْعَشَرَةِ إلَى الْإِمَامِ. ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَا جَعَلَ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ فِي أَمَانِ الْعَشَرَةِ، وَإِنَّمَا عَطَفَ أَمَانَهُمْ عَلَى أَمَانِ نَفْسِهِ. فَكَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْأَمَانِ لَهُمْ فَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَشَرَةَ مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فَلَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ اشْتَرَطَ ذَلِكَ مِنْ الرِّجَالِ. 593 - وَلَوْ قَالَ: آمِنُونِي بِعَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ، كَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ: وَعَشَرَةً، سَوَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، فَقَدْ أَلْصَقَ أَمَانَ الْعَشَرَةِ بِأَمَانِهِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْعَشَرَةُ سِوَاهُ. وَلَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ زَلَّ بِهِ قَلَمُ الْكَاتِبِ وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْعَتِيقَةِ (آمِنُونِي فَعَشَرَةً) . لِأَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ وَهُوَ يَقْتَضِي الْوَصْلَ وَالتَّعْقِيبَ، فَيَسْتَقِيمُ عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ أَمِّنُونِي وَعَشَرَةً. فَأَمَّا الْبَاءُ فَتَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَمِّنُونِي بِعَشَرَةٍ؛ بِمَعْنَى عَشَرَةً أُعْطِيكُمْ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ عِوَضًا عَنْ أَمَانِي. وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَسَائِلِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ قَوْلُهُ: أَمِّنُونِي فَعَشَرَةً. 594 - وَلَوْ قَالَ: أَمِّنُونِي ثُمَّ عَشَرَةً. كَانَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءً، فَالْعَشَرَةُ سَوَاءٌ. لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَيْضًا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ فَعَشَرَةً؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِمَا هُوَ لِلْعَطْفِ مُطْلَقًا ثُمَّ بِمَا هُوَ لِلْعَطْفِ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ بِلَا مُهْمَلَةٍ، ثُمَّ إنَّمَا هُوَ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي. 595 - وَلَوْ قَالَ: أَمِّنُوا لِي عَشَرَةً، فَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِهِمْ إلَى الْإِمَامِ. لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يَجْعَلْ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ، وَإِنَّمَا الْتَمَسَ الْأَمَانَ بِعَشَرَةٍ مُنَكَّرَةٍ. فَكَأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ فَقَالَ: عَشَرَةٌ مِنْكُمْ آمِنُونِي عَلَى أَنْ يَفْتَحُوا. فَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِهِمْ إلَى الْإِمَامِ. إنْ شَاءَ جَعَلَ الْمُتَكَلِّمَ أَحَدَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْعَلْ. 596 - وَلَوْ قَالَ: أَمِّنُونِي مَعَ عَشَرَةٍ، فَالْعَشَرَةُ سِوَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلضَّمِّ وَالْقِرَانِ. وَإِنَّمَا يُضَمُّ الشَّيْءُ إلَى غَيْرِهِ لَا إلَى نَفْسِهِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَشَرَةَ سِوَاهُ. وَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِهِمْ إلَى الْإِمَامِ. لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَبْهَمَ الْإِيجَابَ وَالْمُتَكَلِّمُ مَا جَعَلَ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ مِنْ أَمَانِ الْعَشَرَةِ. 597 - وَلَوْ قَالَ: أَمِّنُونِي فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ حِصْنِي. فَهَذَا وَقَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ، سَوَاءٌ. وَالْأَمَانُ لَهُ وَلِتِسْعَةٍ يَخْتَارُهُمْ الْإِمَامُ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ جَعَلَ نَفْسَهُ مَعْرِفَةً بِإِضَافَةِ الْحِصْنِ إلَى نَفْسِهِ؛ وَالْعَشَرَةُ مُنَكَّرَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَعْرِفَةُ فِي النَّكِرَةِ. كَمَا قَالَ فِي " الْجَامِعِ ": إنْ دَخَلَ دَارِي هَذِهِ أَحَدٌ فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَدَخَلَهَا هُوَ لَمْ يَحْنَثْ. قُلْنَا: هُوَ مَعْرِفَةٌ هُنَا بِإِضَافَةِ الْأَمَانِ إلَى نَفْسِهِ قَبْلَ إضَافَةِ الْحِصْنِ إلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ آمِنُونِي. وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ (فِي) . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لِلظَّرْفِ. وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ. وَالْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ هَا هُنَا مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ كَغَيْرِهِ. 598 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، أَوْ فِي عَشَرَةٍ مِنْ بَنِي أَبِي، كَانَ هُوَ وَتِسْعَةً سِوَاهُ. لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْمُرَادُ بَيْتُ النَّسَبِ. وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ بَنِي أَبِيهِ. فَكَانَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الظَّرْفِ هَا هُنَا مُمْكِنًا، فَلِهَذَا كَانَ الْأَمَانُ بِعَشَرَةٍ مِمَّنْ سَمَّاهُمْ هُوَ أَحَدُهُمْ، وَالْبَيَانُ إلَى الْإِمَامِ. 599 - وَلَوْ قَالَ: فِي عَشَرَةٍ مِنْ إخْوَانِي، فَهُوَ آمِنٌ وَعَشَرَةٌ سِوَاهُ مِنْ إخْوَانِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِمَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِحَقِيقَةِ الظَّرْفِ هُنَا. وَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ مِنْ إخْوَانِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ حَرْفُ " فِي " بِمَعْنَى مَعَ، كَمَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلِمَةِ وَلَهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ الْمَجَازِ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ. 600 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فِي عَشَرَةٍ مِنْ وَلَدِي. ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ وَلَدِ نَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ الْعَشَرَةَ سِوَاهُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَمِّنُوا عَشَرَةً مِنْ إخْوَانِي أَنَا فِيهِمْ، أَوْ قَالَ: عَشَرَةً مِنْ أَوْلَادِي أَنَا مِنْهُمْ فَالْأَمَانُ لِعَشَرَةٍ سِوَاهُ. (ص 142) . 601 - وَلَوْ قَالَ: عَشَرَةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي أَنَا فِيهِمْ، أَوْ عَشَرَةً مِنْ أَهْلِ حِصْنِي أَنَا فِيهِمْ، فَالْأَمَانُ لِعَشَرَةٍ وَهُوَ أَحَدُهُمْ. لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْفَرْقِ. 602 - وَلَوْ قَالَ: فِي عَشَرَةٍ مِنْ بَنِيَّ، فَهُوَ عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ بَنِيهِ سِوَاهُ يُعَيِّنُهُمْ الْإِمَامُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ مِنْ أَمَانِهِمْ. 603 - فَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا كُلُّهُمْ أَوْ مُخْتَلِطِينَ فَالْإِمَامُ يُعَيِّنُ أَيَّ عَشَرَةٍ شَاءَ مِنْ ذُكُورِهِمْ أَوْ إنَاثِهِمْ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذَكَرٌ فَهُمْ فَيْءٌ كُلُّهُمْ، سِوَى الرَّجُلِ الْمُسْتَأْمَنِ. لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَأْمَنَ لِبَنِيهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ هَذَا الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ الْمُفْرَدَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ فَعَيَّنَ الْإِمَامُ عَشَرَةً مِنْ الْإِنَاثِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ اسْمُ الْبَنِينَ فَكَيْفَ يُعَيِّنُهُمْ الْإِمَامُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ مَا آمَنَ عَشَرَةً وَهُمْ بَنُوهُ، وَإِنَّمَا آمَنَ عَشَرَةً هُمْ مِنْ بَنِيهِ. وَعِنْدَ الِاخْتِلَاطِ الْبَنَاتُ الْعَشَرَةُ هُمْ عَشَرَةُ مِنْ بَنِيهِ. فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَهُمْ. فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الِاخْتِلَاطِ فَالْإِنَاثُ الْمُفْرَدَاتُ لَسْنَ مِنْ بَنِيهِ فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُهُنَّ الْأَمَانُ؟ . 604 - وَلَوْ كَانُوا بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَبَنِي بَنِينَ وَبَنِي بَنَاتٍ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ عَشَرَةً: إنْ شَاءَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ بَنِي الْبَنِينَ فِي الْأَمَانِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْبَنِينَ اسْتِحْسَانًا. ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ " بَنِي الْبَنَاتِ "، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ، وَالصَّحِيحُ: بَنَاتِ الْبَنِينَ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ صَحِيحٌ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ يُطْلَقُ اسْمُ الْبَنِينَ عَلَى أَوْلَادِ الْبَنَاتِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى أَوْلَادِ الْبَنِينَ. وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ: فِي عَشَرَةٍ مِنْ إخْوَانِي وَلَهُ أَخَوَاتٌ مُنْفَرِدَاتٌ وَبَنُو إخْوَةٍ فَهُمْ فَيْءٌ كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِخْوَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ وَلَا بَنِي الْإِخْوَةِ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، بِخِلَافِ بَنِي الْبَنِينَ. فَالِاسْمُ هُنَاكَ يَتَنَاوَلُهُمْ مَجَازًا، فَإِذَا اخْتَلَطَ ابْنُ الِابْنِ بِالْبَنَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ يَتَنَاوَلُهُمْ اسْمُ الْبَنِينَ مَجَازًا. 605 - وَلَوْ قَالَ: آمِنُونِي فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِي. فَالْعَشَرَةُ سِوَاهُ. لِأَنَّ أَصْحَابَهُ غَيْرُهُ، وَلَا وَجْهَ لِإِعْمَالِ حَرْفِ " فِي " هَا هُنَا لِلظَّرْفِ. 606 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فِي عَشَرَةٍ مِنْ رَقِيقِي، أَوْ فِي عَشَرَةٍ مِنْ مَوَالِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وَلَوْ نَظَرَ الْإِمَامُ إلَى فَارِسٍ مِنْهُمْ فَقَالَ: أَنْتَ آمِنٌ فِي عَشَرَةٍ مِنْ فُرْسَانِكُمْ. فَهُوَ آمِنٌ وَتِسْعَةٌ سِوَاهُ. فَإِنَّ حَرْفَ " فِي " هَا هُنَا لِلظَّرْفِ. فَإِنَّهُ بِصِفَةِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ آمَنَهُمْ الْإِمَامُ. فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ أَحَدُهُمْ. 608 - وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ آمِنٌ فِي عَشَرَةٍ مِنْ الرَّجَّالَةِ. فَالْعَشَرَةُ مِنْ الرَّجَّالَةِ سِوَاهُ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةِ الْعَشَرَةِ، فَإِنَّهُ فَارِسٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ حَرْفَ " فِي " بِمَعْنَى مَعَ هُنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى عَكْسِ هَذَا. قَالَ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ فِي هَذَا بِمَا عَلَيْهِ كَلَامُ النَّاسِ. يَعْنِي الَّذِي سَبَقَ إلَى فَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذُكِرَتْ. 609 - وَلَوْ قَالَ: فِي عَشْرٍ مِنْ بَنَاتِي، وَلَهُ بَنُونَ، فَالْأَمَانُ، لِلْبَنَاتِ خَاصَّةً. لِأَنَّ اسْمَ الْبَنَاتِ لَا يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ بِحَالٍ. 610 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ بَنَاتُ بَنِينَ، فَهُوَ عَلَيْهِنَّ دُونَ الْبَنِينَ. لِأَنَّ اسْمَ الْبَنَاتِ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ مَجَازًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا بَنَاتُ بَنَاتٍ، فَلَيْسَ يَدْخُلْنَ فِي الْأَمَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَظْهَرْ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يُنْسَبُونَ إلَى آبَائِهِمْ لَا إلَى أَبِي أُمِّهِمْ. إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى مُقَدِّمَةٌ بِأَنْ يَقُولَ: لِي بَنَاتُ بَنَاتٍ، وَقَدْ مَاتَتْ أُمَّهَاتُهُنَّ، فَأَمِّنُونِي فِي بَنَاتِي. فَحِينَئِذٍ يُعْرَفُ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَأْمَنَ لَهُنَّ. وَالرُّجُوعُ إلَى دَلَالَةِ الْحَالِ لِمَعْرِفَةِ الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامِ أَصْلٌ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ. 611 - وَلَوْ قَالَ: آمِنُونِي فِي مَوَالِيَّ. وَلَهُ مَوَالٍ وَمَوَالِي مَوَالٍ، كَانُوا آمِنِينَ اسْتِحْسَانًا. لِأَنَّ الِاسْمَ لِمُعْتِقِهِ حَقِيقَةً، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحْيَاهُمْ بِالْإِعْتَاقِ حُكْمًا. أَوْ لِمُعْتِقِ مُعْتِقِهِ مَجَازًا، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حِينَ جَعَلَ الْمُعْتِقِينَ أَهْلًا لِإِيجَابِ الْعِتْقِ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِعْتَاقِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمَانَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ صُورَةِ اللَّفْظِ يَكْفِي لِثُبُوتِ حَقْنِ الدَّمِ بِهِ احْتِيَاطًا، وَإِنَّمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَمَّا فِي مَحَلَّيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ (ص 143) الْمَجَازُ مُعَارِضًا لِلْحَقِيقَةِ فِي إدْخَالِ الْجِنْسِ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِيقَةِ، وَفِي الْأَمَانِ لَا يُؤَدِّي إلَى هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ. وَإِنَّمَا هَذَا نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى؛ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] حَتَّى يَتَنَاوَلَ الْأُمَّ وَالْجَدَّاتِ جَمِيعًا. 612 - وَلَوْ قَالَ: آمِنُونِي فِي مَوَالِيَّ. وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُ وَمَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ، فَالْأَمَانُ لَا يَتَنَاوَلُ الْفَرِيقَيْنِ بِهَذَا اللَّفْظِ. لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ طَلَبِ الْأَمَانِ لِلْأَعْلَى مُجَازَاتُهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَلِلْأَسْفَلِ التَّرَحُّمُ وَالزِّيَادَةُ فِي الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ. وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَغَايَرَانِ. وَلَا عُمُومَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 لِلِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ اجْتِمَاعُ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَلِهَذَا كَانَ الْأَمَانُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ كَالْوَصِيَّةِ، إلَّا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ، فَكَانَتْ بَاطِلَةً بِهَذَا اللَّفْظِ. وَالْأَمَانُ لِلْمَجْهُولِ صَحِيحٌ. فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَا نَوَاهُ الَّذِي أَمَّنَهُمْ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ. فَإِنْ قَالَ: مَا نَوَيْت شَيْئًا. فَهُمْ جَمِيعًا آمِنُونَ اسْتِحْسَانًا. لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ عَمَّهُمْ فَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَمَانَ يَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يُعْرَفُونَ بِأَعْيَانِهِمْ. وَعِنْدَ اخْتِلَاطِ الْمُسْتَأْمَنِ بِغَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ يَثْبُتُ الْأَمَانُ لَهُمْ احْتِيَاطًا كَمَا بَيَّنَّا. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ فِي الْمَجْهُولِ، فَإِلَيْهِ الْبَيَانُ. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ غَيْرُ الْمُجْمَلِ. وَاللَّفْظُ الَّذِي أَوْجَبَ الْأَمَانَ هُنَا لَيْسَ بِمُجْمَلٍ حَتَّى يَرْجِعَ فِي الْبَيَانِ إلَى الْمُجْمَلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ. بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا بَيَانَ لِلْمُوجِبِ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْبَيَانُ بِالتَّأَمُّلِ فِي صِفَةِ الْكَلَامِ. فَإِذَا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ كَانُوا جَمِيعًا آمِنِينَ، لِاخْتِلَاطِ الْمُسْتَأْمَنِ بِغَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ. وَهَذَا لِأَنَّ بَيَانَ الْمُشْتَرَكِ بِمَا يَكُونُ مُقَارِنًا. فَأَمَّا مَا يَكُونُ طَارِئًا فَهُوَ نَسْخٌ، فَلَا جَرَمَ إذَا قَالَ: نَوَيْت الْأَسْفَلِينَ أَوْ الْأَعْلَيْنَ، كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا. لِأَنَّهُ بَيَانٌ بِمَا اقْتَرَنَ بِالْكَلَامِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَخْتَارُ الْآنَ، فَهَذَا لَيْسَ بِبَيَانٍ، إنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وَإِنْ قَالَ الْمُتَكَلِّمُ: أَنَا نَوَيْت الْأَسْفَلَيْنِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: أَنَا نَوَيْت الْأَعْلَيْنَ. فَهُوَ عَلَى مَا عَنَى الْإِمَامُ. لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ بِالصِّيغَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: آمِنِّي عَلَى قَرِيبِي عَبَّاسِ بْنِ عُمَرَ. فَقَالَ: آمَنْتُك. وَلَهُ قَرِيبَانِ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَذَا الِاسْمِ. فَقَالَ الْإِمَامُ: عَنَيْتُ هَذَا. وَقَالَ الْمُسْتَأْمَنُ: عَنَيْت الْآخَرَ. كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا عَنَى الْإِمَامُ. وَإِنْ قَالَ الْأَمِيرُ: لَمْ أَعْنِ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْمُسْتَأْمَنُ كَذَلِكَ فَهُمَا آمِنَانِ. لِاخْتِلَاطِ مَنْ صَارَ آمِنًا بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ. وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْمَنُ: عَنَيْت هَذَا. وَقَالَ الْأَمِيرُ: لَمْ أَعْنِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، إنَّمَا أَجَبْته إلَى مَا طَلَبَ. فَالْأَمَانُ الَّذِي عَنَاهُ الْمُسْتَأْمَنُ. لِأَنَّ الْإِمَامَ بَنَى الْإِيجَابَ عَلَى كَلَامِهِ، وَأَحَدُهُمَا فِي ذَلِكَ عُيِّنَ بِإِرَادَةِ الْمُسْتَأْمَنِ إيَّاهُ. فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمُعَيَّنِ فِي جَوَابِ الْإِمَامِ أَيْضًا. 614 - وَلَوْ قَالَ: آمِنِّي عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ مَوَالِي الْأَسْفَلِينَ. فَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِهِمْ إلَى الْمُسْتَأْمَنِ هُنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ حِصْنِي. لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ مِنْ أَمَانِهِمْ، بِذِكْرِ كَلِمَةِ الشَّرْطِ بَعْدَ أَمَانِ نَفْسِهِ. 615 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلِيٌّ ابْنُ عَمِّي. فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ إذَا كَانَ لَهُ ابْنَا عَمٍّ. وَلَوْ قَالَ: عَلِيٌّ ابْنُ عَمِّي زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو. فَإِذَا كَانَ لَهُ ابْنَا عَمٍّ كُلُّ وَاحِدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 مِنْهُمَا بِهَذَا الِاسْمِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْتَأْمَنُ وَاَلَّذِي أَمَّنَ أَنَّهُمَا لَمْ يُعَيِّنَا وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَهُمَا آمِنَانِ. لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ كَالتَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ الْأَمَانُ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّا لَا نَعْرِفُهُ (ص 144) ، فَاخْتَلَطَ الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ. وَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْأَمَانَ فِي مُنَكَّرٍ مَجْهُولٍ. فَكَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ مِنْ عَبِيدِهِ، ثُمَّ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ. 616 - وَلَوْ قَالَ: آمِنُونِي فِي عَشَرَةِ أَنْفُسٍ مِنْ بَنِيَّ. فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا. إلَّا أَنَّ هُنَا لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَيِّنَ عَشَرَةً مِنْ بَنَاتِهِ لَيْسَ فِيهِنَّ ذَكَرٌ. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْأَمَانَ لِعَشَرَةٍ هُمْ بَنُوهُ. وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ الْمُفْرَدَاتِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَهُنَاكَ أَوْجَبَ الْأَمَانَ لِعَشَرَةٍ هُمْ مِنْ بَنِيهِ، وَالْإِنَاثُ الْمُفْرَدَاتُ مِنْ بَنِيهِ إذَا كَانَ لَهُ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ. 617 - وَلَوْ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى مَوَالِيَّ. وَلَيْسَ لَهُ إلَّا مُوَالِيَاتٌ إنَاثٌ لَا ذَكَرَ فِيهِنَّ. فَهُنَّ آمِنَاتٌ مَعَهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْبَنِينَ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ الْمُفْرَدَاتِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: 618 - وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَسْتَجِيزُونَ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَوَالِي عَلَى الْإِنَاثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الْمُفْرَدَاتِ، وَيَعُدُّونَ قَوْلَ الْقَائِلِ مَوَالِيَاتٍ مِنْ بَابِ التَّكَلُّفِ، بَلْ يَقُولُونَ لِلْمُعْتَقَاتِ: هُنَّ مَوَالِي بَنِي فُلَانٍ، كَمَا يَقُولُونَ لِلْمُعْتَقِينَ، وَلِلْعُرْفِ عِبْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِالِاسْمِ. فَلِهَذَا تَنَاوَلَ هَذَا اللَّفْظُ الْإِنَاثَ الْمُفْرَدَاتِ فِي الْأَمَانِ وَالْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ اسْمِ الْإِخْوَةِ وَالْبَنِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 [بَابُ الْأَمَانِ عَلَى غَيْرِهِ] مَا يَدْخُلُ هُوَ فِيهِ وَمَا لَا يَدْخُلُ وَمَا يَكُونُ فِدَاءً وَمَا لَا يَكُونُ 619 - قَالَ: رَجُلٌ مِنْ الْمَحْصُورِينَ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: أَفْتَحُ لَكُمْ الْحِصْنَ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي عَلَى فُلَانٍ رَأْسِ الْحِصْنِ. فَقَالُوا: نَعَمْ. فَفُتِحَ الْحِصْنُ. فَهُوَ وَالرَّأْسُ آمِنَانِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ الْأَمَانِ لِنَفْسِهِ وَلِلرَّأْسِ عَلَى فَتْحِ الْحِصْنِ. فَإِنَّهُ أَضَافَ الْأَمَانَ إلَى نَفْسِهِ بِالْكِنَايَةِ، وَإِلَى الرَّأْسِ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ وَوَصَلَ كَلِمَةَ عَلَى الَّذِي هُوَ لِلشَّرْطِ بِهِ. 620 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا آمِنٌ عَلَى فُلَانٍ رَأْسِ الْحِصْنِ إنْ فَتَحْت الْبَابَ. فَقَالُوا: نَعَمْ. وَهَذَا لِأَنَّ نَعَمْ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ، فَإِذَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ يَصِيرُ الْخِطَابُ مُعَادًا فِيهِ. فَكَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لَهُ: أَمَّنَّاك عَلَى فُلَانٍ رَأْسِ الْحِصْنِ عَلَى أَنْ تَفْتَحَ الْبَابَ. وَفِي هَذَا إيجَابُ الْأَمَانِ لَهُمَا، بِمَنْزِلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 مَا لَوْ قَالُوا: أَمَّنَّاك عَلَى أَهْلِك وَوَلَدِك، أَوْ عَلَى أَهْلِك وَمَالِك، عَلَى أَنْ تَفْتَحَ الْحِصْنَ. وَلَوْ كَانَ قَالَ: اعْقِدُوا لِي الْأَمَانَ عَلَى فُلَانٍ فَهُمَا آمِنَانِ أَيْضًا. 621 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اجْعَلُوا لِي الْأَمَانَ عَلَى فُلَانٍ. لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ الْأَمَانِ لِنَفْسِهِ وَلِفُلَانٍ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَالَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ آمِنُوا لِي عَشَرَةً. فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمَانُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ هُنَاكَ آمِنُوا لِأَجْلِي، فَلَا يَصِيرُ مُضِيفًا الْأَمَانَ إلَى نَفْسِهِ، بَلْ يَصِيرُ مُلْتَمِسًا الْأَمَانَ لِعَشَرَةٍ مُنَكَّرَةٍ، مُتَشَفِّعًا فِي ذَلِكَ. وَكَمْ مِنْ شَفِيعٍ لَا حَظَّ لَهُ فِيمَا يَشْفَعُ فِيهِ. وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى هُنَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: اعْقِدُوا لِي الْأَمَانَ تَصْرِيحٌ بِإِضَافَةِ الْأَمَانِ إلَى نَفْسِهِ. وَلِأَنَّهُ قَالَ عَلَى فُلَانٍ. وَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ عَلَى مَعْنَى الشَّفَاعَةِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: (عَلَى) فَائِدَةٌ، بَلْ يَصِيرُ كَلَامُهُ اعْقِدُوا أَوْ اجْعَلُوا لِأَجْلِي وَبِشَفَاعَتِي الْأَمَانَ لِفُلَانٍ. وَكَلِمَةُ عَلَى لِلشَّرْطِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إعْمَالِهَا إذَا صَرَّحَ بِهَا. وَذَلِكَ فِي أَنْ يَلْتَمِسَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ وَيَشْتَرِطَ أَمَانَ فُلَانٍ مَعَهُ. وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَذْكُرْ كَلِمَةَ عَلَى، إنَّمَا قَالَ: آمِنُوا لِي عَشَرَةً. 622 - وَلَوْ قَالَ: عَاقِدُونِي عَلَى أَنَّ الْأَمَانَ عَلَى رَأْسِ الْحِصْنِ، فَالرَّأْسُ آمِنٌ وَالْمُتَكَلِّمُ فَيْءٌ. لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ دُونَ الْأَمَانِ. وَكَمْ مِنْ مُبَاشِرٍ لِلْعَقْدِ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، خُصُوصًا فِي هَذَا الْعَقْدِ الَّذِي لَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ فِيهِ بِالْعَائِدِ. وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِضَافَةِ (ص 145) إلَى مَنْ يَقَعُ الْعَقْدُ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ قَالُوا: عَاقَدْنَاكَ الْأَمَانَ عَلَى الرَّأْسِ إنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فَتَحْت. فَكَانَ الْأَمَانُ عَلَى الرَّأْسِ دُونَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَاقَدَةَ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ، فَبِهِ يَصِيرُ الْعَقْدُ مُضَافًا إلَيْهِ دُونَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْأَمَانُ. 623 - ثُمَّ إنَّمَا يَأْمَنُ الرَّأْسُ وَحْدَهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ عِيَالُهُ وَرَقِيقُهُ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ. لِأَنَّ الْأَمَانَ لَهُ بَعْدَ الْفَتْحِ وَتَمَامِ الْقَهْرِ. وَفِي مِثْلِهِ لَا يَدْخُلُ إلَّا مَا عَلَيْهِ مِنْ اللِّبَاسِ. 624 - وَلَوْ قَالَ: عَاقِدُونِي الْأَمَانَ، أَوْ اُكْتُبُوا إلَيَّ الْأَمَانَ عَلَى فُلَانٍ. فَقَالُوا: نَعَمْ. فَالْأَمَانُ لِفُلَانٍ دُونَهُ. ؛ لِأَنَّهُ الْتَمَسَ أَنْ يَكْتُبُوا إلَيْهِ أَمَانَ فُلَانٍ. وَالْمَكْتُوبُ إلَيْهِ قَدْ لَا يَكُونُ ذَا حَظٍّ مِنْ الْمَكْتُوبِ. فَهَذَا وَقَوْلُهُ: عَاقِدُوا لِي سَوَاءٌ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: (اُكْتُبُوا لِي الْأَمَانَ عَلَى فُلَانٍ) . وَهُوَ غَلَطٌ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: اُكْتُبُوا لِي الْأَمَانَ كَقَوْلِهِ: اجْعَلُوا لِي الْأَمَانَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَصْرِيحًا بِإِضَافَةِ الْأَمَانِ الْمَكْتُوبِ إلَى نَفْسِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ: اُكْتُبُوا إلَيَّ. 625 - وَلَوْ قَالَ: اعْقِدُوا لِي الْأَمَانَ، أَوْ عَاقِدُونِي عَلَى الْأَمَانِ عَلَى عِيَالِي، أَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي، أَوْ عَلَى مَالِي، أَوْ عَلَى قَرَابَتِي. فَهُوَ آمِنٌ، وَجَمِيعُ مَنْ اشْتَرَطَ عَقْدَ الْأَمَانِ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 أَمَّا فِي قَوْلِهِ: اعْقِدُوا لِي، فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: عَاقِدُونِي فَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ فِي الْقِيَاسِ، كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ دُونَ الْأَمَانِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ هُنَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي كَلَامِهِ دَلَالَةَ اشْتِرَاطِ الْأَمَانِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْأَمَانَ لِوَلَدِهِ وَلِعِيَالِهِ. وَالْمَقْصُودُ بِهِ إبْقَاؤُهُمْ. وَإِنَّمَا بَقَاؤُهُمْ بِبَقَائِهِ عَلَى وَجْهٍ يَعُولُهُمْ بَعْدَ هَذَا، كَمَا كَانَ يَعُولُهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إلَّا إذَا تَنَاوَلَهُ الْأَمَانُ، فَإِنَّهُ إذَا قُتِلَ أَوْ اُسْتُرِقَّ لَا يَعُولُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا فِي قَوْلِهِ: عَلَى مَالِي، أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ لِمَالِهِ سِوَى أَنْ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ، فَيَصْرِفَهُ إلَى حَوَائِجِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ الْأَمَانُ لَهُ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَفِيرٍ فِي هَذَا الْعَقْدِ. فَالْعَاقِدُ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ سَفِيرًا عَنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِيَالِ وَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ إلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقُومُوا بِمَصَالِحِهِ، أَوْ لِإِظْهَارِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَظْهَرُ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ طَلَبَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ دَلَالَةً بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. 626 - وَلَوْ قَالَ: عَاقِدُونِي عَلَى الْأَمَانِ عَلَى عِيَالِ فُلَانٍ أَوْ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ. فَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ الْأَمَانِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ بَقَاءَ عِيَالِ فُلَانٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِبَقَائِهِ، وَبَقَاؤُهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ أَيْضًا بِقِيَامِهِمْ بِمَصَالِحِهِ. فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ عَلَى رَأْسِ الْحِصْنِ سَوَاءً. وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ فُلَانًا الْمَنْسُوبَ إلَيْهِ الْعِيَالُ وَالْوَلَدُ هَلْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَمَانِ أَمْ لَا؟ وَعَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ الِاسْتِحْسَانُ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ عِيَالِ فُلَانٍ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِأَمَانِ فُلَانٍ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الْمُتَكَلِّمَ أَظْهَرَ الشَّفَقَةَ وَالتَّرَحُّمَ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ وَعِيَالِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى شَفَقَتِهِ عَلَى فُلَانٍ. ثُمَّ أَوْضَحَ هَذَا بِمَا: 627 - لَوْ قَالَ الرَّأْسُ: عَاقِدُونِي الْأَمَانَ عَلَى أَهْلِ مَمْلَكَتِي، أَوْ عَلَى بَيْتِي، فَإِنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّ مُرَادَهُ إبْقَاءُ نَفْسِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مُتَصَرِّفًا فِي مَمْلَكَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَمَانِ. 628 - وَلَوْ قَالَ: اعْقِدُوا لِي الْأَمَانَ عَلَى أَهْلِ حِصْنِي عَلَى أَنْ أَفْتَحَهُ لَكُمْ. فَهُوَ آمِنٌ وَأَهْلُ الْحِصْنِ مِنْ بَنِي آدَمَ. فَأَمَّا الْأَمْوَالُ وَالسِّلَاحُ وَالْمَتَاعُ وَالْكُرَاعُ فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَمَانِ بَعْدَ فَتْحِ الْبَابِ. وَفِي مِثْلِهِ لَا تَدْخُلُ الْأَمْوَالُ تَبَعًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ شَرَطُوا لَهُ ذَلِكَ جَزَاءً عَلَى فَتْحِ الْبَابِ؟ 629 - وَلَوْ تَنَاوَلَ الْأَمَانُ جَمِيعَ مَا فِي الْحِصْنِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِينَ فَائِدَةٌ فِي فَتْحِ الْبَابِ. (ص 146) . فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى اسْتِغْنَامِ الْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ فَتْحِ الْبَابِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الَّذِينَ تَنَاوَلَهُمْ الْأَمَانُ غَيْرُ مُقِرِّينَ عَلَى السُّكْنَى فِي الْحِصْنِ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْأَمْوَالُ فِي الْأَمَانِ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْمَقَامِ بِهَا يَكُونُ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُنَا لَا يَدْخُلُ الْمَالُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وَلَوْ قَالَ: اعْقِدُوا لِي الْأَمَانَ عَلَى أَهْلِ حِصْنِي عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا. فَفَعَلُوا، وَفَتَحَ الْحِصْنَ. فَجَمِيعُ مَنْ فِي الْحِصْنِ، وَجَمِيعُ مَا فِيهِ دَاخِلٌ فِي الْأَمَانِ هُنَا. لِأَنَّ شَرْطَ الْأَمَانِ هُنَا جَزَاءٌ عَلَى الدَّلَالَةِ لَا عَلَى فَتْحِ الْبَابِ، فَفِي كَلَامِهِ بَيَانُ أَنَّهُ يَدُلُّهُمْ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَرَارِ فِي حِصْنِهِ مَعَ أَهْلِ الْحِصْنِ عَلَى مَا كَانُوا مِنْ قَبْلُ. وَفِي مِثْلِ هَذَا الْأَمَانِ تَدْخُلُ الْأَمْوَالُ. 631 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اعْقِدُوا لِي الْأَمَانَ عَلَى أَهْلِ حِصْنِي عَلَى أَنْ تَدْخُلُوهُ فَتُصَلُّوا فِيهِ. فَلَيْسَ لَهُمْ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ مِنْ النُّفُوسِ وَلَا مِنْ الْأَمْوَالِ. لِأَنَّ فِي كَلَامِهِ تَصْرِيحًا بِمَا هُوَ فَائِدَةُ فَتْحِ الْبَابِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ فِيهِ دُونَ إزْعَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ. وَقَدْ يَرْغَبُ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ لِيُفْشُوا الْخَبَرَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ صَلَّوْا بِالْجَمَاعَةِ فِي حِصْنِ كَذَا، فَيَقَعُ بِهِ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ لِيُعْبَدَ اللَّهُ فِي مَكَان لَمْ يَعْبُدْهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَهْلُهُ. وَمَكَانُ الْعِبَادَةِ شَاهِدٌ لِلْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ. 632 - وَلَوْ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى أَهْلِ الْحِصْنِ عَلَى أَنْ تَدْخُلُوهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَهَذَا الْأَمَانُ عَلَى النَّاسِ خَاصَّةً. لِأَنَّ فَائِدَةَ دُخُولِ الْحِصْنِ الِاسْتِغْنَامُ، هُوَ الظَّاهِرُ وَمَا سِوَاهُ مُحْتَمَلٌ. وَلَكِنَّ الْمُحْتَمَلَ لَا يُقَابِلُ الظَّاهِرَ. فَإِذَا انْعَدَمَ التَّصْرِيحُ بِالْوَجْهِ الْمُحْتَمَلِ كَانَ الْكَلَامُ مَحْمُولًا عَلَى الظَّاهِرِ. إلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وَبَعْضُ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ. وَلَكِنَّ هَذَا عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مَعَانِي الْكَلَامِ. 633 - وَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ الْحِصْنَ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي فِي أَهْلِ حِصْنِي، أَوْ مَعَ أَهْلِ حِصْنِي، أَوْ وَأَهْلَ حِصْنِي، لَمْ تَدْخُلْ الْأَمْوَالُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا. لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْأَمَانِ لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى فَتْحِ الْبَابِ مُطْلَقًا. 634 - وَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ الْحِصْنَ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَهُوَ آمِنٌ. وَمَالُهُ كُلُّهُ فَيْءٌ. إنَّمَا لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ. لِأَنَّهُ شَرَطَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُطْلَقًا مَعَ أَمَانِ نَفْسِهِ، جَزَاءً عَلَى الْفَتْحِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا الْأَمَانِ لَا يَدْخُلُ مَالُهُ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ مَا شَرَطَ مِنْ الْأَلْفِ عِوَضًا عَلَى فَتْحِ الْبَابِ. فَإِذَا فَتَحَ أُعْطِيَ مَا شُرِطَ لَهُ مِنْ الْعِوَضِ. 635 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَفْتَحُ الْحِصْنَ وَتُؤَمِّنُونِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَإِنَّ الْوَاوَ هُنَا بِمَعْنَى الْحَالِ، يَعْنِي فِي حَالِ مَا تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَيَكُونُ شَرْطًا. كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ. 636 - فَإِنْ قَالَ: أَفْتَحُ الْحِصْنَ فَتُؤَمِّنُونِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي، أَوْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي. فَإِنَّمَا لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ فَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وَإِنْ لَمْ يَفِ مَالُهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ زِيَادَةً عَلَى مَالِهِ. لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْأَلْفَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا. فَإِنَّهُ أَضَافَ الْأَلْفَ إلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: مِنْ مَالِي. وَمَالُهُ لَا يَسْلَمُ لَهُ عِوَضًا عَنْ فَتْحِ الْبَابِ، بَلْ يَسْلَمُ لَهُ بِأَنْ أُعْطِيَ الْأَمَانَ فِي مَالِهِ كَمَا فِي نَفْسِهِ. وَبِطَرِيقِ الْأَمَانِ لَا يَسْلَمُ لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَالِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ أَطْلَقَ تَسْمِيَةَ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ شَرَطَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عِوَضًا، بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ يَقُولُ: أَعْمَلُ لَك هَذَا الْعَمَلَ عَلَى دِرْهَمٍ، وَلَوْ قَالَ: أَعْمَلُ لَك هَذَا الْعَمَلَ عَلَى دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إجَارَةً. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَلَكِنَّهُ كَانَ عُرُوضًا أُعْطِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُسَاوِي أَلْفًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: مِنْ مَالِي. فَإِنَّمَا جَعَلَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ الْأَمَانُ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ، وَبِصِفَةِ الْمَالِيَّةِ الْأَمْوَالُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ (ص 147) عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ دَرَاهِمِي؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ فِيهِ الْأَمَانُ هُنَاكَ جُزْءٌ مِنْ دَرَاهِمِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَرَاهِمُ لَمْ يُصَادِفْ هَذَا الْأَمَانُ مَحَلَّهُ، فَكَانَ لَغْوًا. وَنَظِيرُهُ الْوَصِيَّةُ إذَا قَالَ: أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي. أُعْطِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَرَاهِمُ. وَإِنْ قَالَ: مِنْ دَرَاهِمِي لَمْ يُعْطَ شَيْئًا. ثُمَّ ذَكَرَ سُؤَالًا فَقَالَ: 637 - إذَا قَالَ عَلَى أَلْفٍ مِنْ مَالِي لِمَاذَا لَا يَجْعَلُ شَرْطًا لِلْأَلْفِ عَلَى نَفْسِهِ لِلْمُسْلِمِينَ عِوَضًا عَنْ الْأَمَانِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ شَرَطَ لَهُمْ فَتْحَ الْحِصْنِ وَأَلْفَ دِرْهَمٍ عَنْ نَفْسِهِ عِوَضًا عَنْ أَمَانِهِ. قُلْنَا: لِأَنَّ فِي هَذَا إلْغَاءَ هَذَا الشَّرْطِ. فَإِنَّهُ لَوْ فَتَحَ الْبَابَ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ كَانَ مَالُهُ كُلُّهُ فَيْئًا. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادَهُ - وَتُؤَمِّنُونِي عَلَى أَلْفٍ مِنْ مَالِي - أَنْ تَكُونَ الْأَلْفُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِهِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ سَالِمًا لَهُ مِنْ مَالِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 بِطَرِيقِ الْأَمَانِ، وَمَا سِوَاهُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَفْتَحُ الْحِصْنَ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي عَلَى رَقِيقِي أَوْ عَلَى مَالِي أَوْ عَلَى سِلَاحِي كَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى طَلَبِ الْأَمَانِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ نَفْسِهِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَى أَلْفٍ مِنْ مَالِي؟ . 638 - وَلَوْ قَالَ: عَلَى عَشَرَةِ أَرْؤُسٍ مِنْ الرَّقِيقِ أَوْ عَلَى عَشَرَةِ أَفْرَاسٍ، كَانَ ذَلِكَ عِوَضًا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ يَصْلُحُ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالدَّرَاهِمِ، وَفَتْحُ الْبَابِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْطُوهُ الْأَرْؤُسَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَحَبُّوا. بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: رَقِيقِي أَوْ كُرَاعِي. 639 - وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَتْحَ الْحِصْنِ. وَلَكِنْ قَالَ: آمِنُونِي حَتَّى أَنْزِلَ إلَيْكُمْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي، فَأَمَّنُوهُ. فَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. لِأَنَّهُ مَا شَرَطَ فِي مُقَابَلَةِ مَا الْتَمَسَ مِنْ الْأَمَانِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ بِذِكْرِ الْأَلْفِ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى أَمَانِهِ سَوَاءً أَطْلَقَ أَوْ قَالَ: مِنْ مَالِي. وَهَذَا لِأَنَّ بِنُزُولِهِ يَتَوَصَّلُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَالِهِ الَّذِي فِي الْحِصْنِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلَالَةَ الْتِمَاسِ الْأَمَانِ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ مَالِهِ. وَإِذَا حَمَلْنَا عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِوَضِ كَانَ مُفِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. 640 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى عَشَرَةِ أَرْؤُسٍ مِنْ الرَّقِيقِ، أَوْ مِنْ رَقِيقِي، فَهَذَا عِوَضٌ. وَقَدْ فَدَى بِهِ نَفْسَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ إلَى الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَهْلِي، أَوْ وَلَدِي، أَوْ مَالِي، فَهُوَ آمِنٌ، وَجَمِيعُ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. لِأَنَّ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يَجْعَلَهُمْ الْمَرْءُ فِدَاءً لِنَفْسِهِ، بَلْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ وِقَايَةً دُونَهُمْ. فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْتِمَاسُ الْأَمَانِ لَهُمْ مَعَ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ الْمَالَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِدَاءً، وَلِأَنَّهُ لَا يَفْدِي نَفْسَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَادَةً، إذًا يَهْلِكُ جُوعًا. 642 - وَلَوْ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى رَقِيقِي عَلَى أَنْ أَنْزِلَ، فَهُوَ آمِنٌ وَرَقِيقُهُ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى نِصْفِ رَقِيقِي، كَانَ هَذَا فِدَاءً. وَبِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمَعْنَى لَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ عُرْفِ النَّاسِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَفْدِي نَفْسَهُ بِبَعْضِ مَا يَأْتِي بِهِ مَعَهُ لِيَتَعَيَّشَ آمِنًا بِمَا بَقِيَ، وَلَا يَفْدِي بِجَمِيعِ مَا يَنْزِلُ بِهِ. فَإِذَا ذَكَرَ نِصْفَ الْمَالِ أَوْ نِصْفَ جِنْسٍ مِنْ الْمَالِ فَالْغَالِبُ أَنَّ مُرَادَهُ الْفِدَاءُ. وَإِذَا ذَكَرَ جَمِيعَ الْمَالِ أَوْ جَمِيعَ جِنْسٍ مِنْ الْمَالِ كَالرَّقِيقِ، فَالْغَالِبُ أَنَّ مُرَادَهُ طَلَبُ الْأَمَانِ لِذَلِكَ الْجِنْسِ مَعَ نَفْسِهِ. فَإِذَا ذَكَرَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ فَالْغَالِبُ أَنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِئْمَانُ لَهُمْ لَا الْفِدَاءُ، سَوَاءً ذَكَرَ عَدَدًا مِنْهُمْ أَوْ ذَكَرَ جَمَاعَتَهُمْ (ص 148) ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ذَكَرَ إنْسَانًا آخَرُ بِقَوْلِهِ: آمِنُونِي عَلَى فُلَانٍ. فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ طَلَبَ الْأَمَانِ لِفُلَانٍ، لَا جَعْلَهُ فِدَاءً لِنَفْسِهِ. 643 - فَإِنْ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ رَقِيقِي حَتَّى أَنْزِلَ، فَهَذَا فِدَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 فَإِنْ نَزَلَ مَعَهُ بِمَالِهِ وَزَوْجَتِهِ فَهُمْ فَيْءٌ أَجْمَعُونَ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي أَمَانِ النَّازِلِ لَا يَدْخُلُ سِوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ اللِّبَاسِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْأَمَانِ بِغَيْرِ فِدَاءٍ لَا يَدْخُلُ الْمَالُ وَالْعِيَالُ؟ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمَانِ بِالْفِدَاءِ. 644 - وَلَكِنَّهُ إنْ نَزَلَ مَعَهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَطَ فِي فِدَائِهِ فَقَالَ: جِئْت بِهِ لِلْفِدَاءِ الَّذِي شَرَطْتُمْ عَلَيَّ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَيْئًا، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِدَاءً آخَرَ. لِأَنَّ الْأَمَانَ لَهُ بَعْدَ النُّزُولِ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ مَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ، فَصَارَ الْمَالُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْفِدَاءِ بِفَيْءٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يُحْسَبُ لَهُ هَذَا مِنْ الْفِدَاءِ. لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ مَا الْتَزَمَهُ بِمَالِهِ، وَهُوَ يَنْزِلُ إلَيْنَا وَلَا مَالَ لَهُ عِنْدَنَا. وَإِذَا لَمْ يَنْزِلْ بِهَذَا الْقَدْرِ مَعَ نَفْسِهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفِدَاءِ. فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْفِدَاءِ عَلَيْهِ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ، كَمَا أَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ يَكُونُ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَتَمْلِيكًا لِلْيَدِ وَالْكَسْبِ مِنْهُ. 645 - فَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ فَجَاءَ بِأَحَدَ عَشَرَةَ، كَانَ لَنَا أَنْ نَأْخُذَ الْكُلَّ: عَشَرَةً بِالْفِدَاءِ وَالْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ فَيْءٌ. لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ فِي مِقْدَارِ حَاجَتِهِ إلَى الْفِدَاءِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ بِعِشْرِينَ رَأْسًا فَقَالَ: جِئْت بِهَا لِتَبِيعُوهَا، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ الْكُلُّ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرْنَا. 647 - وَإِنْ جَاءَ بِصِنْفٍ غَيْرِ الرَّقِيقِ فَقَالَ: أَرَدْت أَنْ أَبِيعَهُ وَأُعْطِيَكُمْ الْقِيمَةَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ اسْتِحْسَانًا. لِأَنَّ الرَّقِيقَ فِي مُعَاوَضَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُطْلَقًا يَثْبُتُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ، وَبِأَيِّهِمَا جَاءَ قُبِلَ مِنْهُ. فَكَانَتْ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْفِدَاءِ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ ثَابِتَةً، بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، فَلِهَذَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ. 648 - وَهَذَا إذَا قَالَ: عَلَى عَشَرَةِ أَرْؤُسٍ مِنْ الرَّقِيقِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: مِنْ رَقِيقِي، ثُمَّ جَاءَ بِالدَّرَاهِمِ، فَذَلِكَ فَيْءٌ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْفِدَاءِ. لِأَنَّهُ بِإِضَافَةِ الرَّقِيقِ إلَى نَفْسِهِ يَصِيرُ مُعَيِّنًا لَهُمْ. فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُمْ بِالْإِشَارَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِيمَةُ مَكَانَ الْعَيْنِ. 649 - فَإِنْ قَالَ: لَمْ يَدَعْنِي أَهْلُ الْحِصْنِ أَنْزِلُ إلَيْكُمْ بِذَلِكَ فَجِئْت بِالْقِيمَةِ الْمُسْتَأْمَن. لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ صَارَ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِمْ بِالْفِدَاءِ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ نُزُولِهِ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ مِنْ النُّزُولِ بِالرَّقِيقِ حَتَّى يَأْذَنُوا لَهُ فِي النُّزُولِ بِالْقِيمَةِ. فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ التَّقْصِيرُ مِنْهُ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَذِنُوا لَهُ فِي النُّزُولِ بِالْقِيمَةِ كَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ فِدَاءً وَلَا يَكُونُ فَيْئًا. 650 - وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْقَلْعَةِ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى قَلْعَتِي، أَوْ عَلَى مَدِينَتِي عَلَى أَنْ أَفْتَحَهَا لَكُمْ. فَإِنْ جَرَى كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ عَيْنُ الْقَلْعَةِ وَالْمَدِينَةِ بِأَنْ قَالَ: إنِّي أَخَافُ إنْ فَتَحْت لَكُمْ أَنْ تَهْدِمُوا قَلْعَتِي أَوْ تُخَرِّبُوا مَدِينَتِي، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ آمِنٌ عَلَى قَلْعَتِك وَمَدِينَتِك. فَهَذَا عَلَيْهِمَا خَاصَّةً دُونَ مَا فِيهِمَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ. لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِمَا سَبَقَ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ. وَإِنَّمَا جَعَلُوا لَهُ الْأَمَانَ جَزَاءً عَلَى فَتْحِ الْبَابِ. وَمَقْصُودُنَا مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِغْنَامُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَمَانَ يَخْتَصُّ بِمَا سُمِّيَ لَهُ، إلَّا أَنَّهُ يَأْمَنُ بِمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَعِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْمَنَ عَلَى قَلْعَتِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَرَارِ فِيهَا، وَتَمَكُّنُهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَفِي هَذَا الْحُكْمِ يُشْبِهُ حَالُهُ حَالَ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى دَارِنَا لِلتِّجَارَةِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْبِقْ كَلَامٌ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى (ص 149) تَخْصِيصٍ فَفِي الْقِيَاسِ الْجَوَابُ كَذَلِكَ أَيْضًا. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ هُوَ الِاسْتِغْنَامُ وَالِاسْتِرْقَاقُ. ثُمَّ لَيْسَ فِي لَفْظَةِ الْقَلْعَةِ وَالْمَدِينَةِ مَا يُنْبِئُ عَنْ أَهْلِهَا أَوْ عَمَّا فِيهَا، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا اسْتَأْمَنَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ لِخَوْفِهِ عَلَى الْقَلْعَةِ أَنْ تُقْلَعَ وَعَلَى الْمَدِينَةِ أَنْ تُحَرَّقَ أَوْ تُخَرَّبَ. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَسْقَطَ رَأْسِهِ وَمَسْكَنَ آبَائِهِ، فَقَصَدَ بِالْأَمَانِ إبْقَاءَهَا دُونَ إبْقَاءِ مَنْ فِيهَا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هَذَا أَمَانٌ عَلَى الْقَلْعَةِ وَالْمَدِينَةِ وَعَلَى جَمِيعِ مَا فِيهَا، لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ هَذِهِ مَدِينَةٌ عَامِرَةٌ أَوْ قَلْعَةٌ حَصِينَةٌ يُفْهَمُ مِنْهُ عِمَارَتُهَا بِكَثْرَةِ أَهْلِهَا لَا بِجُدْرَانِهَا. أَرَأَيْت لَوْ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى مَمْلَكَتِي عَلَى أَنْ أَفْتَحَ لَكُمْ الْقَلْعَةَ أَلَيْسَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ جَمِيعَ مَا فِي مَمْلَكَتِهِ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ؟ وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ تَبْقَى لَهُ الْمَدِينَةُ وَالْقَلْعَةُ عَلَى مَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ، وَيَكُونُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي أَهْلِهَا كَمَا كَانَ. وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا دَخَلُوا فِي الْأَمَانِ. 651 - وَلَوْ أَشْرَفَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ فَقَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي مِنْ مَالِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَلَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ بِطَرِيقِ الْأَمَانِ لَا بِطَرِيقِ الْعِوَضِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي. إذْ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي هَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُقَدِّمَ ذِكْرَ الْأَلْفِ عَلَى أَمَانِ نَفْسِهِ أَوْ يُؤَخِّرَهُ فِي أَنْ يَكُونَ عِوَضًا شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ بِفَتْحِ الْبَابِ. 652 - وَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، كَانَ آمِنًا وَحْدَهُ. وَكَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَكْتَسِبُهَا فَيُؤَدِّيهَا. لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ يَصِيرُ فَيْئًا بِفَتْحِ الْبَابِ لَوْ لَمْ يَقُلْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. وَهَذَا لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ. فَإِذَا وَصَلَ الْأَلْفَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ بِحَرْفِ الْبَاءِ كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ الْأَلْفَ عِوَضٌ عَنْ الْأَمَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وَالْأَمَانُ حَاصِلٌ لَهُ. فَكَانَ الْأَلْفُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: وَهَبْت هَذِهِ الْعَيْنَ مِنْك عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي جَارِيَتَك هَذِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ كَانَتْ الْمِائَةُ عِوَضًا عَنْ الْجَارِيَةِ. 653 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ وَتُؤَمِّنُونِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. 654 - وَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي مِنْ مَالِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَالْأَلْفُ عِوَضٌ عَنْ أَمَانِهِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنْ مَالِهِ مِقْدَارُ الْأَلْفِ إذَا وُجِدَ، مَكَانَ مَا عَلَيْهِ عِوَضًا مِنْ الْأَمَانِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ هَا هُنَا عَيَّنَ لِمَا الْتَزَمَ مِنْ الْعِوَضِ مَحَلًّا مَخْصُوصًا وَهُوَ مَالُهُ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ. وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْفِدَاءِ لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِغْنَامِ. وَفِي الْأَوَّلِ الْتَزَمَ الْعِوَضَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ عَيَّنَ لَهُ مَحَلًّا، فَيَبْقَى مَالُهُ فَيْئًا كَمَا هُوَ مُوجِبُ فَتْحِ الْبَابِ عَلَى وَجْهِ إتْمَامِ الْقَهْرِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُ مَالًا هُنَا فَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ سَلِمَ لَهُ فَيَلْزَمُهُ الْعِوَضُ بِمُقَابَلَتِهِ. وَلَكِنَّهُ كَانَ يُعْطِي ذَلِكَ الْعِوَضَ مِنْ الْمَالِ الْمَوْجُودِ فِي يَدِهِ إنْ كَانَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي يَكْسِبُهُ. 655 - وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فَتْحَ الْبَابِ وَلَكِنْ قَالَ: آمِنُونِي حَتَّى أَنْزِلَ إلَيْكُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي، أَوْ مِنْ مَالِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَهَذَا فِدَاءٌ. لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ. فَإِنَّمَا الْتَمَسَ أَمَانًا بِعِوَضٍ. وَقَدْ نَالَ ذَلِكَ حِينَ نَزَلَ فَعَلَيْهِ إذًا الْأَلْفُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بِحَرْفِ عَلَى هُنَا. لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى نَفْسِهِ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْفَعَةً حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ الْأَلْفِ شَرْطًا شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، عِوَضًا، فَتَكُونُ الْأَلْفُ عِوَضًا عَنْ أَمَانِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ. 656 - وَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَهْلِي وَأَلْفِ دِرْهَمٍ. أَوْ قَالَ: بِأَهْلِي وَأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَهُوَ سَوَاءٌ. وَلَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ أَهْلِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَيْءٌ. لِأَنَّ الْأَهْلَ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهُ الْأَلْفَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ عَنْ أَمَانِهِ، سَوَاءٌ (ص 150) ذَكَرَهُ بِحَرْفِ عَلَى أَوْ بِحَرْفِ الْبَاءِ وَلَكِنَّهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْمَانِ لَهُمْ. ثُمَّ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَحُكْمُ الْعَطْفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ اسْتِئْمَانًا كَانَ الْمَعْطُوفُ كَذَلِكَ. 657 - وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَالِ فَقَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ وَتُؤَمِّنُونِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَلَى أَهْلِي وَوَلَدِي، كَانَ آمِنًا عَلَى أَلْفٍ يُعْطُونَهَا إيَّاهُ، وَعَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَيْءٌ. لِأَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ جَزَاءً عَلَى فَتْحِ الْبَابِ، فَمَا يَصْلُحُ عِوَضًا وَهُوَ الْأَلْفُ يُعْطُونَهُ إيَّاهُ. وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ كَنَفْسِهِ فِي أَنَّهُ شَرَطَ أَمَانَهُمْ جَزَاءً عَلَى الْفَتْحِ. 658 - وَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَبِأَهْلِي وَوَلَدِي. فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ كُلُّهُمْ فَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ مُحْكَمٌ فِي الْأَعْوَاضِ. فَقَدْ قَرَنَهُ بِالْأَلْفِ فَكَانَ عِوَضًا عَنْ أَمَانِهِ، وَقَرَنَهُ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ أَيْضًا، وَعَطَفَهُمَا عَلَى الْعِوَضِ أَيْضًا، فَكَانَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ أَمَانِهِ. 659 - فَإِذَا بَدَأَ بِالْأَهْلِ فَقَالَ: عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي بِأَهْلِي وَأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَالْقِيَاسُ هَكَذَا يَقْتَضِي. وَلَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ: الْأَهْلُ لَيْسَ بِمَالٍ لِيَصْلُحَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا. فَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِئْمَانُ لِلْأَهْلِ جَزَاءً عَلَى الْفَتْحِ، وَقَدْ عَطَفَ الْأَلْفَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءَ الْأَلْفِ مِنْ مَالِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَكُونُ فَيْئًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي بِجَمِيعِ قَرَابَتِي وَبِأَهْلِي وَوَلَدِي وَبِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاَلَّذِي يَسْبِقُ إلَيَّ وَهَمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ اسْتِثْنَاءٌ لَا فِدَاءٌ. 660 - وَلَوْ قَالَ: أَنْزِلُ إلَيْكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَهْلِي وَأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِأَهْلِي وَأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَهُوَ سَوَاءٌ. وَلَهُ أَهْلُهُ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَيْءٌ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي أَمَانِ النَّازِلِ. لِأَنَّهُ عَطَفَ الْأَلْفَ عَلَى الْأَهْلِ وَمُرَادُهُ فِي حَقِّ الْأَهْلِ الِاسْتِئْمَانُ دُونَ الْفِدَاءِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. 661 - وَلَوْ قَالَ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَهْلِي. فَهَذَا فِدَاءٌ. وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَهْلَهُ. لِأَنَّ الْأَلْفَ عِوَضٌ حِينَ قَرَنَ بِهِ حَرْفَ الْبَاءِ ثُمَّ عَطَفَ الْأَهْلَ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى الْفِدَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 قَالَ: وَبَعْضُ هَذَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ. وَلَكِنْ إنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْغَالِبِ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ فِي كُلِّ فَصْلٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ مُرَاوَضَةٌ تَدُلُّ عَلَى فِدَاءٍ أَوْ عَلَى أَمَانٍ عَلَيْهِ، فَيُؤْخَذُ بِذَلِكَ. لِأَنَّ الْكَلَامَ يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ. فَإِذَا سَبَقَ مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ تَرَجَّحَ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ حُمِلَ عَلَى أَغْلِبْ الْوَجْهَيْنِ. كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُشْتَرَكِ إذَا تَرَجَّحَ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَيْنِ فِيهِ بِدَلِيلٍ فِي صِيغَتِهِ. 662 - وَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ وَأُعْطِيكُمْ مِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي. فَعَلَيْهِ بَعْدَ فَتْحِ الْبَابِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِائَةَ دِينَارٍ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُسَلِّمُوا لَهُ عَشَرَةَ آلَافٍ مِنْ مَالِهِ، كَمَا اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسِهِ وَهَذَا لَا يَكُونُ فِدَاءً. ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْمِائَةَ الدِّينَارَ كَانَ ذَلِكَ اسْتِئْمَانًا مِنْهُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ مَالِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ الْمِائَةَ الدِّينَارَ شَرْطًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ فَتْحِ الْبَابِ. 663 - وَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ لَكُمْ وَأُعْطِيكُمْ مِائَةَ دِينَارٍ، عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ مِائَةُ دِينَارٍ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ. لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِكَوْنِ الْأَلْفِ عِوَضًا عَنْ أَمَانِهِ حِينَ وَصَلَ حَرْفَ الْبَاءِ بِذِكْرِهِ، وَصَرَّحَ بِكَوْنِ الدَّنَانِيرِ عِوَضًا عَنْ أَمَانِهِ حِينَ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعْطِيَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَقُولَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ آخُذُهَا، أَوْ تُعْطُونَهَا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَلْفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَا قَالَ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ. يَعْنِي بِقَوْلِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ. أَيْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَلْتَزِمُهَا، أَوْ بِأَلْفِ آخُذُهَا مِنْكُمْ. فَإِذَا جَاءَ دَلِيلٌ أُخِذَ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ دَلِيلٌ أُخِذَ بِمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (ص 151) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 [بَابُ الْحَرْبِيِّ يَسْتَأْمِنُ إلَى مُعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ] 54 - بَابُ الْحَرْبِيِّ يَسْتَأْمِنُ إلَى مُعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ 664 - فَإِذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ إلَى الْعَسْكَرِ مِنْ غَيْرِ حِصْنٍ وَلَا قَلْعَةٍ وَلَا مَطْمُورَةٍ فَقَالَ: أَسْتَأْمِنُ لِأَخْرُجَ إلَيْكُمْ، ثُمَّ أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي، فَآتِيكُمْ بِالتِّجَارَاتِ، فَذَهَبَ ثُمَّ جَاءَ بِتِجَارَةٍ أَوْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا مَالِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهُوَ آمِنٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ. لِأَنَّهُ اسْتَأْمَنَ فِي حَالٍ لَمْ يَصِرْ مَقْهُورًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَأْمَنَ لِيَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ يَدْخُلُ مَالُهُ فِي أَمَانِهِ تَبَعًا. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ، فَكَذَلِكَ الَّذِي اسْتَأْمَنَ إلَى الْعَسْكَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا، وَقَوْلُهُ فِي الْمَالِ مَقْبُولٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْيَدَ لَهُ. فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لَهُ. 665 - وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ بِامْرَأَةٍ فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَتِي، أَوْ ابْنَتِي، أَوْ أُخْتِي، أَوْ جَاءَ بِصِبْيَانٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ وَلَدِي. فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ آمِنُونَ مَعَهُ. بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَأْمَنَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ يَتْبَعُهُ عِيَالُهُ فِي الْأَمَانِ كَمَا يَتْبَعُهُ مَالُهُ. وَمَنْ كَذَّبَهُ مِنْهُمْ فِيمَا قَالَ فَهُوَ فَيْءٌ. لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ حِينَ كَذَّبَهُ فِي سَبَبِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْأَمَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وَإِنْ صَدَّقُوهُ ثُمَّ رَجَعَ الْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ: لَا قَرَابَةَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَكَذَّبُوهُ فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّهُمْ بِالتَّصَادُقِ اسْتَفَادُوا الْأَمَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَيْهِمْ بِالرِّقِّ أَوْ بِمَا يُبْطِلُ أَمَانَهُمْ مَرْدُودٌ. وَإِنْ اتَّهَمَ الْأَمِيرُ أَحَدًا مِنْهُمْ حَلَّفَهُ، فَإِنْ نَكَلَ أُخِذَ مَمْلُوكًا، وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ بِنُكُولِهِ. 666 - وَلَوْ جَاءَ مَعَهُ رِجَالٌ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَوْلَادِي وَإِخْوَانِي. فَهُمْ فَيْءٌ أَجْمَعُونَ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُقَاتِلَةُ لَا يَتْبَعُونَهُ فِي الْأَمَانِ لَوْ اسْتَأْمَنَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْمَنَ إلَى الْعَسْكَرِ وَلَمْ يَسْتَأْمِنْ لَهُمْ نَصًّا وَلَا اسْتَأْمَنُوا لِأَنْفُسِهِمْ. 667 - وَلَوْ جَاءَ بِمَتَاعٍ أَوْ رَقِيقٍ فَقَالَ: هَذَا مَالِي، أَوْ بِامْرَأَةٍ فَقَالَ: هَذِهِ عِيَالِي. فَعُلِمَ أَنَّهُ جَاءَ بِذَلِكَ مِنْ قَرْيَةٍ أَوْ مَطْمُورَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ الْعَسْكَرِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَهْلُ الْعَسْكَرِ فَذَلِكَ كُلُّهُ سَالِمٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمُوا بِهَا كَانُوا قَاهِرِينَ لِأَهْلِهَا أَوْ لَمْ يَكُونُوا. لِأَنَّ مَعْنَى الْقَهْرِ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِمْ، وَالْقَرِيبُ كَالْبَعِيدِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ وَالْمَاءُ قَرِيبٌ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ صَحَّ تَيَمُّمُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ بَعِيدًا؟ 668 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلِمَ بِهِمْ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 لِأَنَّ أَهْلَ الْمَنَعَةِ لَا يَصِيرُونَ مَقْهُورِينَ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِهِمْ مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ بِالْقِتَالِ. فَإِنَّمَا جَاءَ بِذَلِكَ مِنْ مَوْضِعٍ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ قَهْرُ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ سَالِمًا لَهُ. 669 - وَإِنْ جَاءَ بِهِ مِنْ قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ الْعَسْكَرِ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ بِهَا وَبِمَا فِيهَا، أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا بِمَا فِيهَا إلَّا أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوهَا عَلِمُوا ذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ. لِأَنَّ الْعَسْكَرَ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ قَهْرِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا نَزَلُوا بِسَاحَةِ قَوْمٍ غَيْرِ مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ، وَعَلِمُوا بِحَالِهِمْ، كَانُوا قَاهِرِينَ لَهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَرُبَ مِنْ خَيْبَرَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177] » . وَإِذَا ثَبَتَ الْقَهْرُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا جَاءَ بِهَذَا مِمَّا كَانَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْتَ قَهْرِهِمْ، وَلَا يَسْلَمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ، بِمَنْزِلَةِ الْمَحْصُورِ الَّذِي يَسْتَأْمِنُ لِيَنْزِلَ أَوْ لِيَفْتَحَ الْبَابَ. 670 - وَإِنْ كَانَ أَخْرَجَهُ مِنْ مَطْمُورَةٍ فِي قَرْيَةٍ قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ الْقَرْيَةَ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا الْمَطْمُورَةَ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ سَالِمٌ. لِأَنَّ مَا فِي الْمَطْمُورَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُ قَهْرُهُمْ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهَا، دَخَلُوا الْقَرْيَةَ أَوْ لَمْ يَدْخُلُوهَا، فَإِنَّهُمْ عَدِمُوا آلَةَ الْوُصُولِ إلَيْهَا. 671 - وَإِنْ جَاءَ بِذَلِكَ مِنْ حِصْنٍ قَدْ قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ لِيَفْتَحُوهُ فَجَمِيعُ مَا جَاءَ فِيهِ فَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 لِأَنَّ قَهْرَ الْمُسْلِمِينَ يَتَنَاوَلُ مَا فِي الْحِصْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ مُسْتَأْمَنًا لَمْ يَسْلَمْ شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ مَعَ نَفْسِهِ. فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْمِنَ وَهُوَ خَارِجٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْمِنَ لِيَخْرُجَ فِي حَقِّ الْمَالِ الَّذِي يُخْرِجُهُ مِنْ الْحِصْنِ. فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَسْلَمُ لَهُ شَيْءٌ فِي الْمَالِ وَالْعِيَالِ بِدُونِ التَّصْرِيحِ بِالِاسْتِئْمَانِ مِنْهُ لَهُ، كَذَلِكَ هَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 [بَابُ الْحَرْبِيِّ يَسْتَأْمِنُ إلَيْنَا ثُمَّ نَجِدُهُ فِي أَيْدِيهمْ] 55 - بَابُ الْحَرْبِيِّ يَسْتَأْمِنُ إلَيْنَا ثُمَّ نَجِدُهُ فِي أَيْدِيهمْ 672 - وَإِذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ إلَى الْعَسْكَرِ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَلَقِيَ الْمُسْلِمُونَ الْعَدُوَّ فَفَقَدُوهُ. فَلَمَّا هَزَمُوهُمْ وَجَدُوهُ فِيهِمْ وَقَالَ: أَسَرُونِي مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ مِنْ صِدْقِهِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَتْ هَيْئَتُهُ كَهَيْئَةِ الْمَأْسُورِ بِأَنْ كَانَ مَغْلُولًا أَوْ مَرْبُوطًا أَوْ مَضْرُوبًا لَمْ يُعْرَضْ لَهُ، وَكَانَ عِنْدَنَا عَلَى أَمَانِهِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ الظَّاهِرِ، وَإِلَى الْعَلَامَةِ وَالزِّيِّ. فَإِذَا تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَأْسُورًا فِيهِمْ قُلْنَا: أَسْرُهُمْ إيَّاهُ لَا يُبْطِلُ أَمَانَهُ، كَمَا لَوْ أَسَرُوا ذِمِّيًّا لَا يُبْطِلُ ذَلِكَ عَهْدَهُ، وَلَكِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ بِمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ يَصِيرُ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ وَلَكِنْ لَا تَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ كَلَامِهِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْأَسْرِ فَهُوَ فَيْءٌ. وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ فَارَقَ عَسْكَرَنَا بِاخْتِيَارِهِ، وَالْتَحَقَ بِمَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَانْتَهَى بِهِ الْأَمَانُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَحَالُهُ كَحَالِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. 674 - وَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ بِأَنَّ دَلَّ بَعْضُ الْعَلَامَاتِ عَلَى أَنَّهُ أَتَاهُمْ اخْتِيَارًا وَبَعْضُ الْعَلَامَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ أَسَرُوهُ، فَهُوَ فَيْءٌ. وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ. لِأَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْعَلَامَاتِ يُحَكَّمُ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ. وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَفِي مَوْضِعِ إبَاحَةِ الِاسْتِرْقَاقِ. إلَّا أَنَّ تَعَارُضَ الْعَلَامَاتِ يُمَكِّنُ شُبْهَةً فِي أَمْرِهِ، فَمُنِعَ الْقَتْلُ، إذْ الْقَتْلُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: عِنْدَ تَعَارُضِ الْعَلَامَاتِ لِمَاذَا لَا يُتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْأَمَانُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لَهُ مِنَّا؟ قُلْنَا: التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ الْمَعْلُومِ هُوَ لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ لَهُ، لَا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الْمُبْقِي. وَقَدْ ظَهَرَ الدَّلِيلُ لِأَمَانِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ. فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا عَلَى كُلِّ حَالٍ. إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِيمَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ أَسِيرًا فِيهِمْ بِدَلِيلٍ. فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ أَوْ جَاءَ مَا عَارَضَهُ وَجَبَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْحَالِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ وُجِدَ فِي مَنَعَتِهِمْ. 675 - قَالَ: وَلَوْ جَالَتْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ جَوْلَةً ثُمَّ إنَّهُمْ عَطَفُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 فَهَزَمُوهُمْ، فَوَجَدُوهُ فِي أَيْدِيهمْ. ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. إذَا عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَنَعَتِهِمْ قَبْلَ هَزِيمَتِهِمْ. وَإِنْ هَزَمَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدُوهُ لَا يَدْرُونَ أَكَانَ مَعَهُمْ أَوْ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا فَقَدُوهُ. فَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالَ: لَمْ أَبْرَحْ عَسْكَرَكُمْ. فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ قَلِيلًا وَأَحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى مِثْلُهُ إنْ كَانَ فِي الْعَسْكَرِ، فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِأَنَّهُ كَاذِبٌ مُحْتَالٌ، وَأَنَّا حِينَ فَقَدْنَاهُ قَدْ الْتَحَقَ بِمَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَانْتَهَى حُكْمُ الْأَمَانِ. وَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ عَظِيمًا قَدْ يَخْفَى مِثْلُهُ فِيهِ وَلَا يُدْرَى أَصَدَقَ أَمْ كَذَبَ، فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ. لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُزِيلَ لِلْأَصْلِ الْمَعْلُومِ لَمْ يَظْهَرْ هُنَا، وَهُوَ وُصُولُهُ إلَى مَنَعَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَكِنَّا نَدَّعِي ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. 676 - وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَفَقَدُوهُ، فَلَمَّا هَزَمُوا الْعَدُوَّ إذَا هُمْ بِهِ لَا يَدْرُونَ أَكَانَ مَعَ الْعَدُوِّ أَوْ كَانَ مَعَهُمْ. فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ذَهَبْت أَتَعَلَّفُ الْعَلَفَ، أَوْ ضَلَلْت الطَّرِيقَ وَلَمْ أَلْحَقْ بِالْعَدُوِّ. فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ فَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 لِأَنَّا عَلِمْنَا مُفَارَقَتَهُ الْعَسْكَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَدَارُ الْحَرْبِ مَوْضِعُ أَهْلِ الْحَرْبِ. فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وُصُولِهِ إلَى مَنَعَتِهِمْ فِي حُكْمِ انْتِهَاءِ الْأَمَانِ. وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: هُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ. فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمُعَسْكَرِ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ أَوْ لِيَأْتِيَ بِالْعَلَفِ. وَرُبَّمَا يَضِلُّ عِنْدَ الْخَوْفِ وَكَثْرَةِ الزِّحَامِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ. وَقَدْ عَرَفْنَا ثُبُوتَ الْأَمَانِ لَهُ. فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِذَلِكَ الْأَصْلِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مُزِيلُهُ بِدَلِيلٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 [بَابُ الْمُرَاوَضَةِ عَلَى الْأَمَانِ بِالْجُعْلِ وَغَيْرِهِ] 56 - بَابُ الْمُرَاوَضَةِ عَلَى الْأَمَانِ بِالْجُعْلِ وَغَيْرِهِ 677 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا حِصْنًا مِنْ حُصُونِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَنَاهَضُوهُ، وَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ الْحِصْنِ: يَخْرُجُ عَشْرَةٌ مِنَّا يُعَامِلُونَكُمْ عَلَى الْأَمَانِ، وَقَدْ رَضِينَا بِمَا صَنَعُوا. فَلَمَّا خَرَجَ الْعَشَرَةُ سَأَلُوا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُسَلِّمُوا السَّبْيَ وَيَأْخُذُوا مَا سِوَى ذَلِكَ. فَأَبَى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ. وَصَالَحَهُمْ الْعَشَرَةُ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ خَاصَّةً وَعِيَالَاتِهِمْ. فَتَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ دَخَلُوا الْحِصْنَ وَفَتَحُوا الْبَابَ. فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ يَسْبُونَ فَقَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ: أَخْبَرَنَا الْعَشَرَةُ بِأَنَّكُمْ آمَنْتُمْ السَّبْيَ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى كَلَامِهِمْ، سَوَاءٌ صَدَقَهُمْ الْعَشَرَةُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَبُوهُمْ. وَجَمِيعُ مَا فِي الْحِصْنِ فَيْءٌ، سِوَى الْعَشَرَةِ مَعَ عِيَالَاتِهِمْ. لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَمَانٌ لِغَيْرِ الْعَشَرَةِ صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً. وَأَهْلُ الْحِصْنِ لَا يَدْخُلُونَ فِي أَمَانِ الْعَشَرَةِ تَبَعًا. فَإِنَّ فِي أَمَانِ الْمَحْصُورِ لَا يَدْخُلُ مَنْ كَانَ تَبَعًا لَهُ حَقِيقَةً فَكَيْفَ يَدْخُلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ تَبَعًا؟ وَالْعَشَرَةُ وَإِنْ أَخْبَرُوهُمْ بِأَمَانِ السَّبْيِ كَمَا زَعَمُوا فَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وَالْمُشْرِكُونَ إنَّمَا أُتُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ حِينَ نَصَّبُوا الْخَائِنِينَ لِلسِّفَارَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَصَارُوا مُغْتَرِّينَ لَا مَغْرُورِينَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ. 678 - وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي الْحِصْنِ أَنَّ الْعَشَرَةَ أَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ لَمْ تَنْفَعْهُمْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ. لِمَا بَيِّنَا، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. 679 - وَلَوْ عَايَنَّا أَنَّ الْعَشَرَةَ أَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ حِينَ دَخَلُوا الْحِصْنَ لَمْ يَمْنَعْنَا ذَلِكَ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِمْ. ؛ لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُمْ مِنَّا. 680 - وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْحِصْنِ أَخَذُوا الْأَمَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا فِي حُصُونِهِمْ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِمْ الْعَشَرَةُ بِصُلْحٍ أَوْ غَيْرِ صُلْحٍ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمَانَ قَدْ انْتَهَى بِرُجُوعِ الْعَشَرَةِ إلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا. 681 - وَلَوْ كَانُوا أَخَذُوا الْأَمَانَ حَتَّى تَرْجِعَ إلَيْهِمْ الْعَشَرَةُ فَيُخْبِرُوهُمْ بِمَا جَرَى عَلَى وَجْهِهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَقَالَ الْعَشَرَةُ: قَدْ أَخْبَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ: لَمْ تُخْبِرُونَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَهُمْ عَلَى أَمَانِهِمْ. لِأَنَّ الْعَشَرَةَ يَدَّعُونَ انْتِهَاءَ الْأَمَانِ الَّذِي كَانَ مِنَّا لِأَهْلِ الْحِصْنِ، وَأَهْلُ الْحِصْنِ مُنْكِرُونَ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَلَا شَهَادَةَ لِلْعَشْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى إجَازَةِ مَا فَعَلُوا، فَإِنَّهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 يَقُولُونَ: قَدْ أَخْبَرْنَا أَهْلَ الْحِصْنِ وَرَضُوا بِمَا فَعَلْنَا، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمَرْءِ عَلَى إجَازَةِ مَا بَاشَرَهُ. 682 - وَلَوْ شَهِدَ عَلَى مَقَالَتِهِمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، كَانُوا فِي الْحِصْنِ، قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَكَانُوا فَيْئًا. لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْحِصْنِ. فَكَانَ الثَّابِتُ بِشَهَادَتِهِمْ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ أَهْلِ الْحِصْنِ. 683 - فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ فُسَّاقًا رُدَّ السَّبْيُ إلَى الْحِصْنِ، وَأُعِيدَ الْأَمْرُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يُنْبَذُ إلَيْهِمْ وَيُقَاتَلُونَ. لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ حَرْبِيًّا فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْفَاسِقِ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ. وَمَا لَمْ يَثْبُتْ إخْبَارُ الْعَشَرَةِ إيَّاهُمْ بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ كَانُوا آمِنِينَ فَلَا يَحِلُّ سَبْيُهُمْ. 684 - وَإِنْ كَانُوا حِينَ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ كُسِرَ حِصْنُهُمْ فَصَارُوا لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُلْحِقُوهُمْ بِمَأْمَنِهِمْ. لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَّا. فَلَا يَجُوزُ النَّبْذُ إلَيْهِمْ حَتَّى نُبَلِّغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ. 685 - وَلَوْ قَالَتْ الْعَشَرَةُ مَا أَخْبَرْنَاهُمْ بِالصُّلْحِ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَكِنَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 أَخْبَرْنَاهُمْ أَنَّكُمْ أَمَّنْتُمْ السَّبْيَ. فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي الْحِصْنِ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنَّا إلَى غَايَةٍ. وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُمْ الْعَشَرَةُ بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا. 686 - فَإِنْ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: فَنَحْنُ نُسَلِّمُ لَكُمْ السَّبْيَ كَمَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ الْعَشَرَةُ وَنَأْخُذُ مَا سِوَاهُ مِنْ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِذَلِكَ وَفَتَحْتُمْ الْحِصْنَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ: لَا نَرْضَى بِهَذَا الْآنَ. فَذَلِكَ لِأَهْلِ الْحِصْنِ. لِأَنَّ الْأَمَانَ مِنَّا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا فِي الْحِصْنِ، فَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْأَمَانِ، وَإِنْ رَضُوا بِغَيْرِهِ، مَا لَمْ يُنْبَذْ إلَيْهِمْ أَوْ يُنْتَهَى بِوُجُودِ غَايَتِهِ، وَغَايَتُهُ الْإِخْبَارُ بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُعِيدَهُمْ إلَى مَنَعَتِهِمْ كَمَا كَانُوا، أَوْ نُبَلِّغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ ثُمَّ نَنْبِذُ إلَيْهِمْ. 687 - وَلَوْ بَعَثَ الْأَمِيرُ مَعَ الْعَشَرَةِ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ: قَدْ أَخْبَرَهُمْ الْعَشَرَةُ كَيْفَ كَانَ الصُّلْحُ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ الْحِصْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. لِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي الْإِلْزَامِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ كَمَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 688 - وَإِنْ كَانَ بَعَثَ مَعَهُمْ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَشَهِدَا بِذَلِكَ كَانُوا فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ تَامَّةٌ، فَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا مَا يُوجِبُ انْتِهَاءَ الْأَمَانِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا وَهُمَا يَجُرَّانِ بِهَا نَفْعًا إلَى أَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ لَهُمَا نَصِيبًا فِي الْغَنِيمَةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. لَكِنَّ الْحَقَّ فِي الْغَنِيمَةِ لَا يَتَأَكَّدُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. وَلِهَذَا مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَا يُورَثُ نَصِيبُهُ. وَمِثْلُ هَذَا الْحَقِّ الضَّعِيفِ لَا يُورِثُ تُهْمَةً مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْلِمَيْنِ مِنْ الْجُنْدِ لَوْ شَهِدَا عَلَى ذِمِّيٍّ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، أَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ. كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةً وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا لَهُمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِنَاءً عَلَى الشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ. 689 - وَإِنْ كَانَ الرَّجُلَانِ مِمَّنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْقَوْمُ عَلَى أَمَانِهِمْ. لِأَنَّ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْأَمَانُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ بِنَاءٌ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا. 690 - وَلَوْ كَانَ بَعَثَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْعَشَرَةِ وَهُمَا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَهُمْ فَيْءٌ أَيْضًا. لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ، وَلِأَهْلِ الذِّمَّةِ شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 فَإِنْ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَكَانُوا فَيْئًا، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ. لِأَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. لِتَمَكُّنِ شُبْهَةِ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ فِي شَهَادَتِهِنَّ. 692 - وَلَوْ كَانَ بَعَثَ مَعَ الْعَشَرَةِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمِنَيْنِ، فَشَهِدَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الدَّارِ بِأَنْ كَانَا مِنْ التُّرْكِ، وَأَهْلُ الْحِصْنِ نَصَارَى لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا، لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ وِلَايَةَ الشَّهَادَةِ كَمَا يَقْطَعُ وِلَايَةَ التَّوَارُثِ. وَهَذَا لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ قَهْرٍ، لَيْسَ بِدَارِ حُكْمٍ. فَبِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ يَتَبَايَنُ الدَّارُ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمِنِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دُورٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَإِنْ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ فِي دَارِنَا بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَدَارُ الْإِسْلَامِ دَارُ حُكْمٍ، فَإِذَا جَمَعَهُمْ حُكْمٌ وَاحِدٌ قُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُمْ. 693 - وَكُلُّ شَيْءٍ رَدَدْت فِيهِ أَهْلَ الْحِصْنِ إلَى مَأْمَنِهِمْ فَإِنَّى أَرُدُّ فِيهِ الْعَشَرَةَ إلَى مَأْمَنِهِمْ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 لِأَنَّ الْأَمَانَ تَنَاوَلَهُمْ يَقِينًا، فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ قَبْلَ النَّبْذِ إلَيْهِمْ. 694 - وَلَوْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ سِوَى الْعَشَرَةِ مِمَّنْ يَعْدِلُ فِي دِينِهِ أَنَّ الْعَشَرَةَ أَخْبَرُوهُمْ بِالصُّلْحِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا عَبِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ بِزَعْمِهِمْ. فَإِنَّ الشُّهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمَانَ قَدْ انْتَهَى بِإِخْبَارِ الْعَشَرَةِ إيَّاهُمْ بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ، فَهُمْ أَرِقَّاءٌ أَوْ حَالُهُمْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَيَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِينَ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ. 695 - وَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ فَأَهْلُ الْحِصْنِ آمِنُونَ غَيْرُ الْعَشَرَةِ وَأَمْوَالِهِمْ وَرَقِيقِهِمْ. هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ: غَيْرُ الشُّهُودِ عَلَى الْعَشَرَةِ. فَإِنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي أَمَانِ الْعَشَرَةِ، فَكَيْفَ يَسْتَثْنِيهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْآمِنِينَ؟ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا هُمْ مُقِرُّونَ بِانْتِهَاءِ الْأَمَانِ، وَإِقْرَارُهُمْ صَحِيحٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَكَانُوا فَيْئًا مَعَ أَمْوَالِهِمْ وَرَقِيقِهِمْ وَمَنْ صَدَّقَهُمْ مِنْ عِيَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ فِي حِجْرِ الْأُمَّهَاتِ، وَعِنْدَ التَّكْذِيبِ هُنَّ آمِنَاتٌ، فَكَذَلِكَ أَوْلَادُهُنَّ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُمٌّ مِنْ أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ فَهُمْ مُصَدَّقُونَ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا أَرِقَّاءَ وَالْأُمَّهَاتُ حَرَائِرَ فَبِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْأَمَانِ لَهُنَّ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ حِجْرُ الْأُمَّهَاتِ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُمٌّ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ حِجْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الْأَبِ فِي حَقِّهِ. فَيَصِيرُ رَقِيقًا مَعَهُ، وَلَا يُصَدَّقُونَ عَلَى الْكِبَارِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ إلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُمْ فَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ أَرِقَّاءَ بِإِقْرَارِهِمْ. 696 - قَالَ: وَلَوْ كَتَبَ الْأَمِيرُ كِتَابًا إلَى أَمِيرِ الْحِصْنِ يُخْبِرُهُ بِمَا جَرَى، وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ، وَبَعَثَهُ عَلَى يَدَيْ رَسُولٍ مِنْ قِبَلِهِ مَعَ الْعَشَرَةِ فَلَمَّا فَتَحَ الْحِصْنَ قَالَ أَمِيرُهُمْ: لَمْ يَأْتِ بِالْكِتَابِ وَلَمْ يَدْفَعْهُ إلَى الرَّسُولِ. وَقَالَ الرَّسُولُ: قَدْ دَفَعْتُهُ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ بِمَحْضَرٍ مِنِّي. فَأَهْلُ الْحِصْنِ عَلَى أَمَانِهِمْ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ الرَّسُولَ ادَّعَى انْتِهَاءَ الْأَمَانِ بِإِيصَالِ الْكِتَابِ إلَيْهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِانْتِهَاءِ الْأَمَانِ إبَاحَةُ قَتْلِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ، وَهَذَا مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً تَامَّةً وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا. 697 - فَإِنْ كَانَ بَعَثَ مَعَهُ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَشَهِدَا بِأَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا حَتَّى سَمِعَهُ وَعَلِمَ مَا فِيهِ فَهُمْ فَيْءٌ أَجْمَعُونَ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَشَهَادَةُ الْمُسْلِمَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ. 698 - وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَفَعَ الْكِتَابَ إلَيْهِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَتَرْجَمَ لَهُ التُّرْجُمَانُ، وَلَكِنَّهُمَا لَا يَدْرِيَانِ مَا قَالَهُ التُّرْجُمَانُ، فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنَّهُمْ آمِنُونَ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا فِي الْكِتَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 لِأَنَّا نَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، وَالشُّهُودُ لَمْ يَعْرِفُوا مَا قَالَ لَهُ التُّرْجُمَانُ، فَلَا يَثْبُتُ عِلْمُهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَمَا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ لَا يَنْتَهِي الْأَمَانُ وَلَا تَنْتَفِي الشُّبْهَةُ. فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ. 699 - فَقَالَ: فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُسْلِمِينَ فَوْقَ ذَلِكَ إذَا أَرَادُوا النَّبْذَ إلَيْهِمْ. وَإِنْ خَانَ التُّرْجُمَانُ فَذَكَرَ لَهُمْ غَيْرَ مَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ حِينَ اتَّخَذُوا تُرْجُمَانًا هُوَ خَائِنٌ. وَمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً لَا يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ كَمَا شَهِدَ الشُّهُودُ. 700 - وَلَوْ أَنَّ رُسُلَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْضُرُوا مَجْلِسَ أَمِيرِهِمْ إلَّا أَنَّ الْأَمِيرَ رَدَّ جَوَابَ الْكِتَابِ بِكِتَابٍ مَخْتُومٍ ثُمَّ فَتَحَ الْحِصْنَ فَجَحَدَ الْأَمِيرُ الْكِتَابَ فَقَالَ: مَا وَصَلَ إلَيَّ كِتَابٌ، وَلَا أَخْبَرَنِي الْعَشَرَةُ بِمَا جَرَى عَلَى وَجْهِهِ. فَهُمْ عَلَى أَمَانِهِمْ. لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ إلَى أَمِيرِ الْعَسْكَرِ مُحْتَمَلٌ. فَلَعَلَّهُ افْتَعَلَ ذَلِكَ مُفْتَعِلٌ عَلَى لِسَانِ أَمِيرِهِمْ. وَانْتِهَاءُ الْأَمَانِ لَا يَثْبُتُ مُبِيحًا لِلْقَتْلِ وَالِاسْتِغْنَامِ بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُفْتَعَلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ مَلِكِهِمْ الْأَعْظَمِ ثُمَّ أَنْكَرَهُ بَعْدَمَا وَقَعَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَمْلَكَتِهِ. فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْأَمَانُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ قَدْ يُفْتَعَلُ عَلَى لِسَانِ الْأَعْظَمِ كَمَا يُفْتَعَلُ عَلَى لِسَانِ مَنْ هُوَ دُونَهُ. 702 - وَلَا يَحِلُّ إرَاقَةُ الدِّمَاءِ وَالِاسْتِرْقَاقُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَدْرُونَ أَحَقُّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي يُجْعَلُ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ فِيهِ مَوْجُودٌ؟ قُلْنَا: أَمَّا فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يُجْعَلُ حُجَّةً، وَفِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَيْضًا. وَإِنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ اسْتِحْسَانًا، لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ فِيهِ بِشَرَائِطَ يَقَعُ بِهَا الْأَمْنُ عَنْ الِافْتِعَالِ ظَاهِرًا، وَهُوَ الْخَتْمُ، وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا فِيهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ كَبِيرِهِمْ إلَيْنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 [بَابُ أَمَانِ الرَّسُولِ إلَى أَمِيرِ حِصْنٍ فِي حَاجَةٍ] 57 - بَابُ أَمَانِ الرَّسُولِ 703 - قَالَ: فَإِذَا أَرْسَلَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ رَسُولًا إلَى أَمِيرِ حِصْنٍ فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَهُوَ مُسْلِمٌ. فَلَمَّا بَلَّغَ الرِّسَالَةَ قَالَ: إنَّهُ أَرْسَلَ عَلَى لِسَانِي إلَيْكَ الْأَمَانَ، لَكَ وَلِأَهْلِ مَمْلَكَتِك، فَافْتَحْ الْبَابَ. وَأَتَاهُ بِكِتَابٍ افْتَعَلَهُ عَلَى لِسَانِ الْأَمِيرِ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ قَوْلًا، وَحَضَرَ الْمَقَالَةَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا فَتَحَ الْبَابَ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ وَجَعَلُوا يَسْبُونَ. فَقَالَ أَمِيرُ الْحِصْنِ: إنَّ رَسُولَكُمْ أَخْبَرَنَا أَنَّ أَمِيرَكُمْ أَمَّنَنَا وَشَهِدَ أُولَئِكَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَقَالَتِهِمْ. فَالْقَوْمُ آمِنُونَ، يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ. لِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ فَكَأَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ أَمَّنَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: عِبَارَةُ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ فِيمَا جَعَلَهُ رَسُولًا فِيهِ، فَأَمَّا فِيمَا افْتَعَلَهُ فَلَا. قُلْنَا: هَذَا التَّمْيِيزُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِ. لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الَّذِي فِي وُسْعِهِ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ، فَلِهَذَا يُجْعَلُ مَا أَخْبَرَ بِهِ كَأَنَّهُ حَقٌّ بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ رَسُولٌ. وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُرْسِلِ أَنْ يَخْتَارَ لِرِسَالَتِهِ الْأَمِينَ دُونَ الْخَائِنِ، وَالصَّادِقَ دُونَ الْكَاذِبِ. فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ مَا يُخْبِرُ الرَّسُولُ بِهِ كَأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حَقِّهِمْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْغُرُورِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ. أَرَأَيْت لَوْ نَادَاهُمْ الْأَمِيرُ: إنَّ هَذَا رَسُولِي فِي كُلِّ مَا يَجْرِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ثُمَّ أَتَاهُمْ بِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْقَوْمُ آمِنِينَ. وَمَنْ تَأَمَّلَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44] {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] يَتَّضِحُ عِنْدَهُ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ نَحْوَ مُسَيْلِمَةَ وَنُظَرَائِهِ مِمَّنْ ادَّعَى الرِّسَالَةَ، وَلَمْ يُصِبْهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ حَالَ الرُّسُلِ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَمَّنْ أَرْسَلَهُمْ لَا يَكُونُ كَحَالِ غَيْرِهِمْ. 704 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الرَّسُولُ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا.؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْأَمَانِ مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ لَا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ. فَإِنَّ الرَّسُولَ فِي حِصْنِهِمْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْهُمْ، فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. ثُمَّ هَذَا التَّقْصِيرُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْأَمِيرِ حِينَ اخْتَارَ لِرِسَالَتِهِ كَافِرًا خَائِنًا وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِأَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مُرْ كَاتِبَك فَلْيَدْخُلْ الْمَسْجِدَ وَلْيَقْرَأْ هَذَا الْكِتَابَ. فَقَالَ: إنَّ كَاتِبِي لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ. قَالَ: وَلِمَ؟ أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، اتَّخَذْت بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؟ أَمَا سَمِعْت قَوْله تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] . أَيْ. لَا يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أُمُورِكُمْ. 705 - فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: إنِّي قُلْت لَهُمْ هَذَا الَّذِي ادَّعَوْا، وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ، وَقَدْ فُتِحَ الْحِصْنُ وَسَبَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ، لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ، وَادَّعَى مَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّهِمْ، فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ. 706 - وَلَكِنْ مَنْ وَقَعَ سَهْمُهُ مِنْهُمْ صَارَ حُرًّا، لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ آمِنٌ، وَلَا يُتْرَكُ لِيَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. 707 - وَإِنْ شَهِدَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ. لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 708 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُمْ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ رَجُلٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ، وَلَكِنَّهُ افْتَعَلَ كِتَابًا فِيهِ أَمَانُهُمْ، فَدَخَلَ بِهِ إلَيْهِمْ، أَوْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ قَوْلًا، وَقَالَ: إنِّي رَسُولُ الْأَمِيرِ، أَوْ رُسُلُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهُمْ فَيْءٌ كُلُّهُمْ. وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُمْ. لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْأَمَانِ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِ. فَإِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْهُمْ حِينَ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَسِيرِ فِيهِمْ. وَأَمَانُ الْأَسِيرِ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَرْسَلَهُ حَتَّى تَكُونَ عِبَارَتُهُ قَائِمَةً مَقَامَ عِبَارَةِ الْأَمِيرِ. وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى الْغُرُورِ لَا يَتَحَقَّقُ هُنَا لَوْ أَبْطَلْنَا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَإِنَّمَا جَاءَ التَّقْصِيرُ مِنْ جِهَتِهِمْ حِينَ اعْتَمَدُوا قَوْلَ مَجْهُولٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ بِالرِّسَالَةِ، وَلَا كَانَ رَسُولًا إلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْأَمِيرِ، فِي وَقْتٍ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الْأَوْقَاتِ. وَالْأَمِيرُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّرَ عَنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمُفْتَعِلَ لِيَمْنَعَهُ مِنْ الِافْتِعَالِ. وَكَمَا أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُمْ الْوُقُوفُ عَلَى مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، يَسْقُطُ عَنْ الْإِمَامِ التَّحَرُّزُ عَمَّا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ. 709 - وَلَوْ قَالَ لَهُمْ هَذَا الَّذِي لَمْ يَكُنْ رَسُولًا، هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُوَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، نَادَاهُمْ فَفَتَحُوا الْبَابَ، كَانُوا آمِنِينَ حَتَّى يَنْبِذَ إلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ يَجْعَلُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَمَانًا مِنْ جِهَتِهِ حِينَ كَانَ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يَمْلِكُ الْأَمَانَ إذَا أَخْبَرَ عَنْ مَنْ يَمْلِكُ الْأَمَانَ فَذَلِكَ أَمَانٌ صَحِيحٌ لَهُمْ. سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَرُ صِدْقًا أَمْ كَذِبًا. إنْ كَانَ صِدْقًا فَمِنْ جِهَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَمِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِإِبْطَالِ حَقِّهِمْ فِي الِاسْتِغْنَامِ. 710 - وَلَوْ أَنَّ رَسُولَ الْأَمِيرِ حِينَ بَلَّغَ رِسَالَةَ الْأَمِيرِ قَالَ: إنَّ فُلَانًا الْقَائِدَ قَدْ أَمَّنَكُمْ وَأَرْسَلَنِي بِذَلِكَ إلَيْكُمْ، أَوْ إنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَابِ الْأَمِيرِ آمَنُوكُمْ، أَوْ إنِّي كُنْت قَدْ أَمَّنْتُكُمْ، قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ إلَيْكُمْ، وَنَادَيْتُكُمْ بِذَلِكَ. وَشَهِدَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَهُمْ فَيْءٌ أَجْمَعُونَ إذَا كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ كَذِبًا. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولِ الْقَائِدِ حَتَّى يَجْعَلَ عِبَارَتَهُ كَعِبَارَةِ الْقَائِدِ، وَلَا هُوَ رَسُولُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَابِ الْأَمِيرِ حَتَّى تَكُونَ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَتِهِمْ، وَلَا يَمْلِكُ هُوَ أَمَانَهُمْ بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَنَعَتِهِمْ، فَلِهَذَا بَطَلَ حُكْمُ كَلَامِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَرْسَلَ فِي حَاجَتِهِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ أَرْسَلَهُ آمَنَهُمْ. فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. لِأَنَّ رَسُولَ الْوَاحِدِ مِنْ عَرْضِ الْعَسْكَرِ، فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُشْبِهُ رَسُولَ الْأَمِيرِ أَوْ رَسُولَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ ذَلِكَ الْمُرْسَلَ لَوْ كَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ، فَكَذَلِكَ رَسُولُهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي رَسُولِ الْأَمِيرِ وَرَسُولِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصَلَتَيْنِ. لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَنَعَةِ حَيْثُ مَا كَانُوا، وَرَسُولُهُمْ قَائِمٌ مَقَامَهُمْ. فَإِذَا أَضَافَ الْأَمَانَ إلَيْهِمْ كَانَ صَحِيحًا. وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ أَمَانُهُ صَحِيحٌ حَيْثُ يَكُونُ أَمِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَمِيرًا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ. فَلِسَانُ رَسُولِهِ كَلِسَانِهِ فِي الْإِخْبَارِ بِالْأَمَانِ. وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ مِنْ عَرْضِ النَّاسِ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ إخْبَارُ رَسُولِهِ إيَّاهُمْ بِالْأَمَانِ عَنْهُ. 712 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ مَنْ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ آمَنَهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ بِرِسَالَتِهِ، فَهُمْ آمِنُونَ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ بَلَّغَهُمْ. ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ بَعْدَمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرِّسَالَةَ. وَلِأَنَّ فِيمَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ احْتِمَالُ الصِّدْقِ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الصِّدْقِ. وَبِهَذَا الْقَدْرِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمَانَ يَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ. فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ وَالْمُسْلِمُونَ آمَنُوهُمْ ثُمَّ بَعَثُوا رَجُلًا يَنْبِذُ إلَيْهِمْ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ. فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَعْلَمُوا ذَلِكَ. لِأَنَّهُ أَتَاهُمْ بِخَبَرٍ مُحْتَمِلٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً تَامَّةً فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً فِي الْأَمَانِ بِمَعْنَى. وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِنَبْذِ الْأَمَانِ إبَاحَةُ السَّبْيِ، وَاسْتِحْلَالُ الْفَرْجِ وَالدِّمَاءِ. وَهَذَا مِمَّا لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ. وَمُجَرَّدُ الظَّاهِرِ أَوْ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الشُّبْهَةِ. فَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَمَانِ حُرْمَةُ السَّبْيِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ. وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِنَبْذِ الْأَمَانِ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمَانِ إذَا وَقَعَ فِيهِ غَلَطٌ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيَجُوزُ الِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الْخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ رَسُولًا. 714 - فَإِنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ التَّثَبُّتِ فَقَالُوا: لَمْ يَبْلُغْنَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكُمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا نَبْذَ الْأَمَانِ، وَفِيهِ تَمَسُّكٌ بِالْأَصْلِ الْمَعْلُومِ. فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَغْرَمُونَ دِيَاتِ مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَانٍ مَا لَمْ يَعْلَمُوا بِالنَّبْذِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْأَمِيرِ فَوْقَ هَذَا. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، بَلْ فِي وُسْعِهِ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا يَنْبِذُ إلَيْهِمْ، وَيُرْسِلَ لَهُمْ مَعَهُ بِرَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، حَتَّى يَشْهَدَا عَلَى تَبْلِيغِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 النَّبْذَ. فَهَذَا أَدْنَى مَا تَتِمُّ بِهِ الرِّسَالَةُ فِي النَّبْذِ. حَتَّى لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ رَجُلَيْنِ فَرَجَعَا وَشَهِدَا عَلَى تَبْلِيغِ النَّبْذِ إلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ. وَلَا يُقْبَلُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا مَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ. 715 - وَلَوْ جَاءَ رَسُولُ أَمِيرِهِمْ بِكِتَابٍ مَخْتُومٍ إلَى أَمِيرِ الْعَسْكَرِ: إنِّي قَدْ نَاقَضْتُك الْعَهْدَ. فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَجِّلُوا حَتَّى يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ وَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ. 716 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِالْكِتَابِ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَشَهِدَا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ كِتَابُ الْمَلِكِ وَخَاتَمُهُ، جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ.؛ لِأَنَّ الرَّسُولَيْنِ عِنْدَنَا فِي أَمَانٍ، وَالْقَوْمُ كَذَلِكَ، قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ النَّبْذُ. وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ حُجَّةٌ تَامَّةٌ. وَبَعْدَ تَمَامِ النَّبْذِ بِشَهَادَتِهِمْ لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ. 717 - إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّذَانِ شَهِدَا بِالْكِتَابِ مِمَّنْ لَا ` تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَجِّلُوا بِقِتَالِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِحَجَّةٍ فِي الْأَحْكَامِ. وَنَبْذُ الْأَمَانِ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ. فَيَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْأَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسَرُوهُمْ فَجَحَدُوا الْكِتَابَ وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا كَتَبُوهُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ شَرْعًا، وَلَا يَبْطُلُ إنْكَارُهُمْ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُ. فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْعَثَ الْأَمِيرُ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، حَتَّى إذَا أَنْكَرُوا الْكِتَابَ شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِمْ. 718 - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَشْرَةً مَعَهُمْ كِتَابٌ فِيهِ نَقْضُ الْعَهْدِ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ: اقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ لِلْآخَرِينَ: اشْهَدُوا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. فَاجْتَمَعَ أَمِيرُهُمْ مَعَ الْقُوَّادِ وَالْبَطَارِقَةِ. فَقَرَأَ الرَّجُلُ عَلَيْهِمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَتَرْجَمَ التُّرْجُمَانُ بِلِسَانِهِمْ. ثُمَّ رَجَعَ الرُّسُلُ فَأَخْبَرُوا بِمَا كَانَ. فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغِيرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ فَوْقَ هَذَا، وَالتَّكْلِيفُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ. 719 - فَإِنْ أَغَارُوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: إنَّ التُّرْجُمَانَ لَمْ يُخْبِرْنَا بِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَنَا أَنَّ فِي الْكِتَابِ: قَدْ زِدْنَاكُمْ فِي مُدَّةِ الْأَمَانِ كَذَا. فَقَوْلُهُمْ هَذَا بَاطِلٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ أُتُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ حِينَ اخْتَارُوا لِلتَّرْجَمَةِ خَائِنًا، وَلَيْسَ فِي وُسْعِنَا أَنْ نَعْلَمَ حَقِيقَةَ مَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ التُّرْجُمَانُ، إلَّا أَنْ يَسْتَقِرَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ حَضَرُوهُمْ أَنَّ التُّرْجُمَانَ قَالَ لَهُمْ غَيْرَ مَا فِي الْكِتَابِ. فَإِنْ اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَالْقَوْمُ عَلَى أَمَانِهِمْ. أَرَأَيْت لَوْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِينَ أَمَّنَّاهُمْ لَهُمْ لُغَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَانُوا قَوْمًا مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ لُغَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِمْ أَوْ أَعْرَبُوا فِي الْكَلَامِ. فَذَكَرُوا الْغَرِيبَ مِنْ اللُّغَاتِ فَقَالُوا: لَمْ نَفْهَمْ اللُّغَةَ، أَيَنْبَغِي أَنْ نُصَدِّقَهُمْ عَلَى هَذَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ؟ لَا نُصَدِّقُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَسْتَيْقِنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا. فَإِذَا تَيَقَّنَّا بِذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ بِالْيَقِينِ، وَكَانُوا هُمْ عَلَى الْأَمَانِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِيمَا يُبْتَنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا جَاءَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْأَمِيرِ وَهُمْ فِي الْمَفَازَةِ، وَكَانُوا عَلَى حِصْنٍ، حَاصَرُوهُ وَقَالَ: إنِّي كُنْت أَمَّنْت هَذَا. فَأَتَانِي عَلَى أَمَانِي إيَّاهُ، لَمْ يُصَدَّقْ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ سِوَاهُ أَنَّهُ قَدْ أَمَّنَهُ. لِأَنَّهُ صَارَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ حِينَ جَاءَ بِهِ الْأَمِيرُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْهُمْ. وَهَذَا الْمُسْلِمُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُؤَمِّنَهُ ابْتِدَاءً، فَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ مِنْ أَمَانِهِ. وَفِي الْقِيَاسِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ شَاءَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَأْسُورِينَ. وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا، وَلَا يَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ يُمْكِنْ شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ إرَاقَةِ الدَّمِ. وَهَذَا لِأَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرِ الدِّينِ حُجَّةٌ شَرْعًا، خُصُوصًا فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ إلْزَامٌ عَلَى شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا غَيْرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ شَهِدَ أَنَّهُ آمَنَهُ. لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ. وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْهُرْمُزَانِ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ، لَا بَأْسَ عَلَيْك، أَوْ تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ حَيٍّ. ثُمَّ اشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ. فَشَهِدَ لَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ مَعَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَشَهِدَ بِذَلِكَ، فَآمَنَهُ عُمَرُ. فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إذَا شَهِدَا عَلَى أَمَانِ غَيْرِهِمَا. لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ مُنْكِرٌ لِلْأَمَانِ، وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا بِهِ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُ حُجَّةً عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ سِوَاهُ حَتَّى يَثْبُتَ الْأَمَانُ، إلَّا فِي حَقِّ الرَّسُولِ خَاصَّةً إذَا عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِالْأَمَانِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ ائْتَمَنُوهُ عَلَى الرِّسَالَةِ. فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ خِيَانَةٌ فَذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَلَّى قَاضِيًا أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخْطَأَ فِي إقَامَةِ حَدٍّ مِنْ رَجْمٍ أَوْ قَطْعٍ فِي سَرِقَةٍ كَانَ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُمْ وَلَّوْهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَخَطَؤُهُ عَلَيْهِمْ، كَذَلِكَ الرَّسُولُ حِينَ وَلَّوْهُ الرِّسَالَةَ فَخَطَؤُهُ وَجِنَايَتُهُ تَكُونُ عَلَيْهِمْ دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ السَّرِيَّةِ تُؤَمِّنُ أَهْلَ الْحِصْنِ ثُمَّ تَلْحَقُهَا سَرِيَّةُ أُخْرَى] 721 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 58 - بَابُ السَّرِيَّةِ تُؤَمِّنُ أَهْلَ الْحِصْنِ ثُمَّ تَلْحَقُهَا السَّرِيَّةُ الْأُخْرَى قَالَ: وَلَوْ أَنَّ سَرِيَّةً صَالَحُوا أَهْلَ حِصْنٍ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ صَحَّ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ لَوْ أَمَّنُوهُمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ جَازَ فَمَعَ الْعِوَضِ أَجَوْزُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَمَانِ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَهُوَ صَحِيحٌ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاص. 722 - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغِيرُوا بَعْدَ هَذَا الصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهُمْ خَصُّوا بِالْأَمَانِ أَهْلَ الْحِصْنِ. وَدَخَلَ فِي أَمَانِهِمْ أَمْتِعَتُهُمْ وَمَوَاشِيهِمْ تَبَعًا؛ لِأَنَّهُمْ أَمَّنُوهُمْ، لِيُقِيمُوا فِي حِصْنِهِمْ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضُوا لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَّا مَا كَانُوا أَخَذُوهُ قَبْلَ الصُّلْحِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ صَارَ غَنِيمَةً لَهُمْ، وَمَا أَمَّنُوهُمْ لِيَرُدُّوا عَلَيْهِمْ الْغَنَائِمَ إنَّمَا أَمَّنُوهُمْ لِيَتْرُكُوا التَّعَرُّضَ لِأَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فَإِنْ مَضَتْ هَذِهِ السَّرِيَّةُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَدَخَلَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إلَى الْحِصْنِ أَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ الصُّلْحِ، وَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ عَدْلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِأَهْلِ الْحِصْنِ بِشَيْءٍ. لِأَنَّ عَقْدَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى نَافِذٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً. قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ يَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أَوْلَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ» . قِيلَ الْمُرَادُ بِعَقْدِ أَوَّلِ السَّرَايَا الْأَمَانُ. فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 724 - وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ السَّرِيَّةِ حُكْمُ السَّرِيَّةِ الْأُولَى، وَهُمْ لَوْ رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِأَهْلِ الْحِصْنِ بِشَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ بِرَدِّ الدَّنَانِيرِ الْمَقْبُوضَةِ عَلَيْهِمْ. فَكَذَلِكَ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ الدَّنَانِيرَ الَّتِي أَخَذَهَا أَصْحَابُهُمْ ثُمَّ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ. وَهَذَا لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْا الدَّنَانِيرَ لِيَأْمَنُوا إلَى وَقْتِ خُرُوجِ السَّرِيَّةِ الْأُولَى مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَمَا لَمْ يَخْرُجُوا كَانُوا فِي أَمَانٍ. وَلَوْ قَاتَلْنَاهُمْ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ الدَّنَانِيرِ كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ وَغُرُورٌ وَهُوَ حَرَامٌ. وَإِنْ رَدُّوا الدَّنَانِيرَ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى ظَفِرُوا بِهِمْ، ثُمَّ الْتَقَوْا هُمْ وَالسَّرِيَّةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الْأُولَى فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الْحِصْنِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي أَخَذَتْهَا السَّرِيَّةُ الْأُولَى. لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ غَنِيمَةٌ. وَقَدْ اشْتَرَكُوا فِي إحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ سَبَبُ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ فِيهَا. إلَّا أَنَّ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ إنْ كَانُوا غَرِمُوا الدَّنَانِيرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَخَذُوهَا مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحِصْنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. لِأَنَّهُمْ تَوَصَّلُوا إلَى هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِرَدِّ تِلْكَ الدَّنَانِيرِ، وَمَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيمَا أَدَّوْا مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانُوا مُتَطَرِّقِينَ بِهَا إلَى الْوُصُولِ إلَى هَذِهِ الْغَنِيمَةِ، فَيَكُونُ حَقُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْغَانِمِينَ. ثُمَّ الْبَاقِي مَقْسُومٌ بَيْنَ الْكُلِّ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. فَإِنْ كَانُوا غَرِمُوهَا مِنْ غَنِيمَةٍ أَصَابُوهَا لَمْ يَأْخُذُوهَا؛ لِأَنَّ مَا أَدَّوْا مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ مَا تَوَصَّلُوا بِهِ إلَى أَخْذِهِ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَضَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ دَيْنًا بِهِ رَهْنٌ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ. فَإِنْ قَضَاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَى التَّرِكَةِ، وَإِنْ قَضَاهُ مِنْ التَّرِكَةِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْهُ. 725 - وَإِنْ لَمْ تَلْتَقِ السَّرِيَّتَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَلِمَتْ لِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى الدَّنَانِيرُ الَّتِي أَخَذُوهَا وَلِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ غَنَائِمُهُمْ الَّتِي غَنِمُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ اخْتَصَّ بِإِحْرَازِ ذَلِكَ بِدَارِنَا. وَلَيْسَ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَأْخُذُوا الدَّنَانِيرَ مِنْ السَّرِيَّةِ الْأُولَى. وَإِنْ غَرِمُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. لِأَنَّهُمْ اخْتَصُّوا بِمَنْفَعَةِ مَا أَدَّوْا حِينَ سَلِمَتْ لَهُمْ غَنَائِمُ أَهْلِ الْحِصْنِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ اشْتَرَكَتْ السَّرِيَّتَانِ هُنَاكَ فِي الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ غَنَائِمُ أَهْلِ الْحِصْنِ، مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ. فَهُنَاكَ رُجُوعُهُمْ فِي غَنَائِمِ أَهْلِ الْحِصْنِ خَاصَّةً، وَهُنَا غَنَائِمُ أَهْلِ الْحِصْنِ سَالِمَةٌ لَهُمْ. 726 - وَإِنْ لَمْ تَظْفَرْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِالْحِصْنِ فَالْتَقَوْا مَعَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَكُنْ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ دَنَانِيرِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْرَزُوا بِدَارِنَا مِنْ الْغَنَائِمِ. ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى فِيمَا رَدُّوا مِنْ الدَّنَانِيرِ حِينَ لَمْ يَتَوَصَّلُوا بِهَا إلَى غَنَائِمِ أَهْلِ الْحِصْنِ فَكَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِي حَقِّهِمْ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْغُنْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُرْمِ. فَإِذَا ظَهَرَتْ الْمَنْفَعَةُ لَهُمْ جَمِيعًا بِسَبَبِ مَا رَدُّوا مِنْ الدَّنَانِيرِ، نَفَذَ الرَّدُّ فِي حَقِّ الْكُلِّ. وَإِذَا لَمْ تَظْهَرْ الْمَنْفَعَةُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ الَّذِينَ رَدُّوا. 727 - وَإِنْ كَانَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ غَنِمَتْ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحِصْنِ فَأَرَادُوا أَخْذَ دَنَانِيرِهِمْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذِهِ الْغَنَائِمَ كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ إلَيْهَا بِدُونِ رَدِّ الدَّنَانِيرِ، فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ رَدِّ الدَّنَانِيرِ فِي حَقِّهَا، كَمَا لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ مَا أَصَابَ السَّرِيَّةُ الْأُولَى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 بِخِلَافِ مَا إذَا غَنِمُوا مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ، فَإِنَّ وُصُولَهُمْ إلَى تِلْكَ الْغَنَائِمِ بِاعْتِبَارِ رَدِّ الدَّنَانِيرِ فَيَرْفَعُونَ دَنَانِيرَهُمْ مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ. 728 - وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحِصْنِ أَخْبَرُوا السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ بِالْأَمَانِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُمْ. وَلَكِنْ قَاتَلُوهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ، ثُمَّ عَلِمُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَمَانِ فَعَلَيْهِمْ رَدُّ مَا أَخَذُوا وَضَمَانُ مَا اسْتَهْلَكُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدِيَاتُ مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ. لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ كَانَتْ مَعْصُومَةً مُتَقَوِّمَةً. فَكُلُّ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا فَإِنَّمَا قَتَلَهُ خَطَأً، فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. بَلَغَنَا أَنَّ «رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ جَاءَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَأْمِنَيْنِ فَأَجَازَهُمَا بِحُلَّتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَهُمَا قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُمَا. ثُمَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ، فَعَرَفَهُمَا وَعَرَفَ الْحُلَّتَيْنِ، فَوَدَاهُمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ» هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحَدِيثَ. وَفِي كُتُبِ الْمَغَازِي أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا مِنْ بَنِي عَامِرٍ. قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ حِين انْصَرَفَ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَقَدْ فَعَلَ بَنُو عَامِرٍ بِأَصْحَابِهِ مَا فَعَلُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَهْلُ الْحِصْنِ قَالُوا لِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى: آمِنُونَا أَنْتُمْ. فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يُؤَمِّنُونَهُمْ، سَوَاءٌ صَرَّحُوا بِقَوْلِهِمْ أَنْتُمْ أَوْ لَمْ يُصَرِّحُوا. 730 - وَلَوْ قَالُوا: عَلَى أَنْ لَا تَعْرِضُوا أَنْتُمْ لَنَا حَتَّى تَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ. ثُمَّ جَاءَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ، فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا أَهْلَ الْحِصْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَأْمَنُوا مِنْهُمْ خَاصَّةً لِيُزِيلُوا تَعَرُّضَهُمْ عَنْهُمْ. وَمَقْصُودُهُمْ مِنْ أَدَاءِ الدَّنَانِيرِ هُنَا أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْهُمْ السَّرِيَّةُ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِمْ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ لَهُمْ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَهُنَاكَ الْتَمَسُوا أَمَانًا عَامًّا إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وَكَمَا أَنَّ الْأَمَانَ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْوَقْتِ، يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ مِنْ حَيْثُ السَّرَايَا، إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُوجِبَ اللَّفْظِ الْعُمُومُ، وَعِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْخُصُوصَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ خَاصَّةً ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى الْأَمَانِ الْعَامِّ فَقَالَ: 731 - إنْ خَرَجَتْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى قَبْلَ وُصُولِ الثَّانِيَةِ إلَى أَهْلِ الْحِصْنِ. ثُمَّ وَصَلُوا إلَيْهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا أَهْلَ الْحِصْنِ مِنْ غَيْرِ نَبْذِ وَرَدِّ الدَّنَانِيرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 لِأَنَّ الْأَمَانَ كَانَ لَهُمْ إلَى غَايَةٍ، وَهُوَ خُرُوجُ السَّرِيَّةِ الْأُولَى إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. فَانْتَهَى الْأَمَانُ بِوُجُودِ الْغَايَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّرِيَّةَ الْأُولَى لَوْ عَادُوا إلَيْهِمْ بَعْدَ مَا خَرَجُوا كَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ؟ فَكَذَلِكَ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ. 732 - وَلَوْ كَانَ خَرَجَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ خُرُوجُ الْأَمِيرِ مَعَ جَمَاعَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَهُمْ الْمَنَعَةُ. لِأَنَّ الْبَاعِثَ لِأَهْلِ الْحِصْنِ عَلَى الْتِمَاسِ الصُّلْحِ وَأَدَاءِ الدَّنَانِيرِ خَوْفُهُمْ مِنْ السَّرِيَّةِ، وَذَلِكَ كَانَ بِاعْتِبَارِ جَمَاعَتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ. وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ بِدُونِ رَدِّ الدَّنَانِيرِ. لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِجُمْلَةٍ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي ارْتَدَّ أَهْلُهَا وَبَقِيَ فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنٌ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْحَرْبِ. وَلَكِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ هَا هُنَا لِأَجْلِ التَّعَذُّرِ. أَرَأَيْت لَوْ قُتِلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ أَوْ أُسِرَ أَوْ فُقِدَ أَلَمْ يَحِلَّ قِتَالُ أَهْلِ الْحِصْنِ أَيْضًا بَعْدَ خُرُوجِ الْجَمَاعَةِ؟ . 733 - وَلَوْ لَمْ تَخْرُجْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى وَلَكِنَّهُمْ قُتِلُوا حَلَّ قِتَالُ أَهْلِ الْحِصْنِ أَيْضًا. ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا قُتِلُوا فَكَأَنَّهُمْ خَرَجُوا. يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ الْحِصْنِ يَأْمَنُونَ جَانِبَهُمْ إذَا قُتِلُوا فَوْقَ مَا يَأْمَنُونَ جَانِبَهُمْ إذَا خَرَجُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وَإِنْ قُتِلَ مِنْهُمْ نَاسٌ وَبَقِيَ نَاسٌ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمَنَعَةُ كَمَا فِي الْخُرُوجِ. فَإِنْ كَانَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لَا مَنَعَةَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْحِصْنِ. وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ لَمْ يَحِلَّ قِتَالُهُمْ مَا لَمْ يَخْرُجْ هَؤُلَاءِ إلَى دَارِنَا. . وَلَوْ كَانُوا صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ هَذِهِ السَّنَةَ فَهَذَا جَائِزٌ. لِأَنَّهُمْ وَقَّتُوا الْأَمَانَ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ يَقِينًا، وَلَوْ وَقَّتُوهُ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَهُوَ خُرُوجُهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، جَازَ، فَفِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ أَجَوْزُ. ثُمَّ لَمَّا عَرَّفُوا السَّنَةَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَى السَّنَةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، وَمُضِيُّهَا انْقِضَاءُ ذِي الْحِجَّةِ، حَتَّى إذَا كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا شَهْرًا فَلَهُمْ ذَلِكَ خَاصَّةً. 735 - وَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا صَالَحْنَاكُمْ عَلَى مَا نَحْسِبُ نَحْنُ عَلَيْهِ السَّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمْ الَّذِينَ أَعْطَوْهُمْ الْأَمَانَ، وَالْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَكُونُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ مَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَهُمْ. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ. وَقَدْ أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا نَعْرِفُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ} [يونس: 5] . إلَّا أَنْ يَكُونُوا بَيَّنُوا ذَلِكَ فِي صُلْحِهِمْ فَحِينَئِذٍ الشَّرْطُ أَمْلَكُ. 736 - وَإِنْ قَالُوا: لَنَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ وَقْتِ الصُّلْحِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 لِأَنَّهُمْ قَالُوا: هَذِهِ السَّنَةُ، وَاثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مُدَّةُ سَنَةٍ مُنَكَّرَةٍ لَا سَنَةٍ مُعَرَّفَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ يَنْصَرِفُ نَذْرُهُ إلَى سَنَةٍ كَامِلَةٍ؟ وَلَوْ قَالَ: صَوْمُ السَّنَةِ يَنْصَرِفُ إلَى بَقِيَّةِ السَّنَةِ وَمُضِيُّهَا انْقِضَاءُ ذِي الْحِجَّةِ. 737 - وَإِنْ قَالُوا: عَنَيْنَا هَذِهِ السَّنَةَ إلَى انْصِرَافِكُمْ مِنْ صَائِفَتِكُمْ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا مَا هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. فَإِنَّ الظَّاهِرَ مَا يَسْبِقُ إلَى الْأَفْهَامِ، وَاَلَّذِي يَسْبِقُ إلَى الْأَفْهَامِ مِنْ ذِكْرِ السَّنَةِ الْمُدَّةُ دُونَ الِانْصِرَافُ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا. 738 - فَإِنْ بَيَّنُوا فِي الصُّلْحِ فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنُوا. وَإِنْ قَالُوا: عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونَا سَنَةً، فَهَذَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ وَقْتِ الصُّلْحِ. ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا سَنَةً مُنَكَّرَةً، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] يَعْنِي شُهُورَ السَّنَةِ. 739 - وَلَوْ قَالُوا: نُصَالِحُكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونَا عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَمْ يُوَقِّتُوا وَقْتًا، فَهَذَا عَلَى خُرُوجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَبِمَا يُعْلَمُ مِنْ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَعْدَ مَا أَحَاطَتْ بِهِمْ السَّرِيَّةُ يُعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ بِهَذَا الصُّلْحِ الْأَمْنُ مِنْ الْخَوْفِ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِخُرُوجِ السَّرِيَّةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. فَكَأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِهَذَا وَقَالُوا: آمِنُونَا حَتَّى تَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 فَإِنْ خَرَجُوا ثُمَّ عَادُوا، هُمْ أَوْ غَيْرُهُمْ، فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا أَهْلَ الْحِصْنِ مِنْ غَيْرِ رَدِّ الدَّنَانِيرِ. وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ. لِأَنَّ الْأَمَانَ لَهُمْ مُطْلَقٌ. وَالْمَقْصُودُ الَّذِي ذَكَرْنَا يَرْجِعُ إلَى مَا أَدَّوْا مِنْ الدَّنَانِيرِ. فَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ تَتِمُّ سَلَامَةُ الدَّنَانِيرِ لَهُمْ إذَا خَرَجُوا، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْأَمَانِ مُطْلَقًا لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ مَا لَمْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ أَمَّنُوهُمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ: فَهُنَاكَ الْأَمَانُ مُؤَقَّتٌ نَصًّا، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ. 741 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ بَعَثَ إلَيْهِمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الصُّلْحِ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ عَلَى مَالٍ مُطْلَقًا. ثُمَّ بَدَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يَرُدَّ إلَيْهِمْ مَا أَخَذُوا مِنْهُمْ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ هُنَاكَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ إزَالَةُ الْخَوْفِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ، وَهَا هُنَا مَا حَلَّ بِهِمْ خَوْفٌ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ هَا هُنَا تَحْصِيلُ الْأَمْنِ لَهُمْ مُطْلَقًا، حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِجَانِبِهِمْ. وَالْمُطْلَقُ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّأْيِيدَ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَرَّحِ بِذِكْرِ التَّأْيِيدِ. فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: آمِنُونَا أَبَدًا. فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ إلَّا بَعْدَ رَدِّ الْمَالِ عَلَيْهِمْ. 742 - فَإِنْ كَانَتْ السَّرِيَّةُ الَّتِي أَحَاطَتْ بِالْحِصْنِ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى هَذَا شَيْئًا، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ مَا دَامُوا فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ تِلْكَ السَّرِيَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ تِلْكَ السَّرِيَّةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهُمْ عِنْدَ بَذْلِ الْمَالِ شَرَطُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ. وَهَذَا اللَّفْظُ يَخُصُّهُمْ دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ. 743 - وَمِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَأْمَنُوا جَانِبَهُمْ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَتِمُّ بِخُرُوجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيَتِمُّ سَلَامَةُ الدَّنَانِيرِ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ. 744 - فَإِنْ عَادُوا إلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ رَدُّ الدَّنَانِيرِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ. لِأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحِصْنِ أَمَانًا خَاصًّا، وَلَكِنْ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ نَصًّا. وَقَدْ قُلْنَا إنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمَانِ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحِلَّ قِتَالُهُمْ قَبْلَ النَّبْذِ إلَيْهِمْ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ. 745 - فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّرِيَّةِ، حَتَّى أَغَارُوا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ وَأَخَذُوا مِنْهُمْ مَالًا رَدُّوا عَلَيْهِمْ مَا أَخَذُوا. لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ حَتَّى يُنْبَذَ إلَيْهِمْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أُحِلُّ لَكُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُعَاهَدِينَ» . 746 - وَلَوْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعَثَ ثَلَاثَةَ عَسَاكِرَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 فَبَعَثَ أَهْلُ حِصْنٍ لَمْ يَأْتِهِ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ إلَى أَمِيرِ عَسْكَرٍ مِنْ تِلْكَ الْعَسَاكِرِ أَنْ آمِنُوا أَهْلَ حِصْنِ كَذَا - عَلَى أَنْ تَكُفُّوا عَنْهُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا مِنْ غَزَاتِكُمْ هَذِهِ - عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ. وَتَرَاضَوْا عَلَى هَذَا، فَلَيْسَ لِلْعَسْكَرَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَدْخُلُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، حَتَّى تَرْجِعَ الْعَسْكَرُ الثَّلَاثَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ هَذَا الْأَمَانَ نَافِذٌ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُ أَهْلِ الْحِصْنِ بِهَذَا أَنْ يَأْمَنُوا جَانِبَ الْعَسْكَرِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ خَاصَّةً، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنْزِلُوا بِسَاحَتِهِمْ بَعْدُ، بَلْ خَوْفُهُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ الْعَسْكَرَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَمِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ إزَالَةُ هَذَا الْخَوْفِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إلَى غَايَةٍ، وَهُوَ خُرُوجُ الْعَسْكَرِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا عَلِمَ الْأَمَانَ كَافَّةُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ النَّبْذِ وَرَدِّ الدَّنَانِيرِ. 747 - بِخِلَافِ مَا إذَا دَنَا الْعَسْكَرُ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ مِنْ الْحِصْنِ حَتَّى حَاصَرُوهُمْ، أَوْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ. فَإِنَّ هُنَاكَ مَقْصُودَهُمْ الْأَمْنُ مِنْ جَانِبِهِمْ خَاصَّةً. لِأَنَّهُمْ صَارُوا مَحْصُورِينَ مَقْهُورِينَ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِالْمَقْصُودِ، فَلِهَذَا كَانَ لِلْعَسْكَرَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمِيرُ الشَّامِ أَوْ الْخَلِيفَةُ أَوْ وَلِيُّ الْعَهْدِ مَعَ أَحَدِ الْعَسَاكِرِ الثَّلَاثَةِ، فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ أَنْ آمِنُونَا عَلَى أَنْ تَكُفُّوا عَنَّا حَتَّى تَرْجِعُوا عَنْ غَزَاتِكُمْ فَفَعَلَ، أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْعَسَاكِرِ كُلِّهَا، وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَيْضًا، حِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 لَمْ يَذْكُرُوا أَهْلَ حِصْنٍ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، فَيَكُونُ مُوجِبًا الْحُكْمَ فِي كُلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ بِأَنْ يُبَيِّنُوا فَيَقُولُوا: آمِنُوا أَهْلَ حِصْنِ كَذَا. 748 - وَلَوْ كَانَ الْخَلِيفَةُ مَعَ عَسْكَرِهِ أَحَاطَ بِذَلِكَ الْحِصْنِ فَآمَنَهُمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، كَانَ الْأَمَانُ لَهُمْ خَاصَّةً مِنْ الْعَسْكَرِ الَّذِينَ أَحَاطُوا بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. 749 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا بَعَثُوا إلَى أَحَدِ الْعَسَاكِرِ فَقَالُوا: آمِنُونَا أَنْتُمْ خَاصَّةً. فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يُؤَمِّنُونَهُمْ خَاصَّةً، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَلَكِنَّ حُكْمَ أَمَانِهِمْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً. 750 - وَإِنْ قَالُوا: عَلَى أَنْ تَكُفُّوا عَنَّا أَنْتُمْ خَاصَّةً، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا إلَيْهِمْ، فَهَذَا عَلَى ذَلِكَ الْعَسْكَرِ خَاصَّةً. لِوُجُودِ دَلِيلٍ لِلتَّخْصِيصِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا قَالُوا لِلْخَلِيفَةِ: آمِنُونَا نَحْنُ خَاصَّةً. فَالْأَمَانُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. لِلتَّصْرِيحِ بِمَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ فِي الْكَلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 إنْ لَحِقَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَسْكَرِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْعَسَاكِرِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَهُمْ أَهْلَ الْحِصْنِ. لِأَنَّهُمْ اسْتَفَادُوا الْأَمَانَ مِنْ جَانِبِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ. فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مَعَ عَسْكَرِهِ لَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مَعَ عَسْكَرٍ آخَرَ. 752 - وَلَوْ أَنَّ سَرِيَّةً حَاصَرُوا حِصْنًا، فَسَأَلَهُمْ أَهْلُ الْحِصْنِ أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ فَفَعَلُوا، ثُمَّ دَخَلَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فِي دَارِ الْحَرْبِ وَعَلِمُوا بِذَلِكَ، لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ الدَّنَانِيرَ أَوْ يَنْتَهِيَ الْأَمَانُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِنُفُوذِ أَمَانِهِمْ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ رَدُّوا الدَّنَانِيرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ، ثُمَّ خَرَجُوا بِالْغَنَائِمِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي أَدَّوْا، فَيُعْطَوْنَ ذَلِكَ قَبْلَ الْخُمُسِ وَقَبْلَ كُلِّ قِسْمَةٍ. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا تَوَصَّلُوا إلَى هَذِهِ الْغَنَائِمِ بِمَا أَدَّوْا، فَلَا يَكُونُونَ مُتَبَرِّعِينَ فِيمَا أَدَّوْا، بَلْ يَكُونُونَ أَحَقَّ بِمَا أَصَابُوا مِنْ الْحِصْنِ حَتَّى يَأْخُذُوا دَنَانِيرَهُمْ. أَرَأَيْت لَوْ وَجَدُوا فِي الْحِصْنِ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ بِعَيْنِهَا مَا كَانُوا أَحَقَّ بِهَا قَبْلَ الْخُمُسِ وَالْقِسْمَةِ؟ فَكَذَلِكَ إذَا وَجَدُوا فِي الْحِصْنِ مِثْلَهَا. وَهُوَ نَظِيرُ الْمَرْهُونِ إذَا أَسَرَهُ الْعَدُوُّ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ فَأَخْرَجَهُ، وَظَفِرَ بِهِ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَأَخَذَهُ بِالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، إلَّا أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 يَرُدَّ عَلَى الرَّاهِنِ مَا أَعْطَى مِنْ الثَّمَنِ، فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ الْعَبْدَ وَيَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مَا تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ وَإِحْيَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ إلَّا بِمَا أَدَّى، فَلَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ لِإِنْسَانٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ. فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ إذَا فَدَاهُ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي هَذَا الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَصِلُ إلَى خِدْمَتِهِ إلَّا بِهِ، حَتَّى إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْخِدْمَةِ بِيعَ الْعَبْدُ لَهُ فِي الْفِدَاءِ. إلَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ مِثْلَ مَا أَدَّى فَحِينَئِذٍ يَسْلَمُ الْعَبْدَ لَهُ. وَكَذَلِكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ إذَا أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي: إنْ شِئْت فَخُذْهُ بِالثَّمَنَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ. لِأَنَّ الْبَائِعَ مَا كَانَ يَتَوَصَّلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ إلَّا بِأَدَاءِ الْفِدَاءِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَدَّى، فَكَذَلِكَ حَالُ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ فِيمَا أَدَّوْا مِنْ الدَّنَانِيرِ، فَيُسَلَّمُ لَهُمْ هَذَا قَبْلَ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّ الْخُمُسَ فِي الْغَنِيمَةِ، وَمَا أَدَّوْا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَمِثْلُهُ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ لَا يَكُونُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَيْضًا، وَلَكِنْ بِمَنْزِلَةِ النَّفْلِ يَنْفُلُونَهُ قَبْلَ الْخُمُسِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ. 753 - وَلَوْ لَمْ يَظْفَرُوا بِالْحِصْنِ، وَجَعَلُوا يُقَاتِلُونَهُمْ، حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. ثُمَّ ظَفِرُوا بِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ وَلَا مِثْلِهَا قَبْلَ الْخُمُسِ، بَلْ يُخَمَّسُ جَمِيعُ مَا أَصَابُوا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 لِأَنَّ تَمَكُّنَهُمْ مِنْ اغْتِنَامِ مَا فِي هَذَا الْحِصْنِ لَمْ يَكُنْ بِرَدِّ الدَّنَانِيرِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَرُدُّوا حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْأَمَانِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الِاغْتِنَامِ فِي الْمُدَّةِ قَبْلَ رَدِّ الدَّنَانِيرِ، وَلَوْ فَعَلُوا أُمِرُوا بِرَدِّ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِمْ وَإِعَادَتِهِمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ. 754 - وَلَوْ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِنَا حَتَّى الْتَقَوْا، هُمْ وَالسَّرِيَّةُ الْأُولَى، فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانُوا ظَفِرُوا بِأَهْلِ الْحِصْنِ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِيمَا أَصَابُوا، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ دَنَانِيرِهِمْ شَيْءٌ. وَلَوْ كَانُوا ظَفِرُوا بِهِمْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَخَذُوا دَنَانِيرَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْبَاقِي. لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِحْرَازِ بِدَارِنَا، وَذَلِكَ سَبَبُ الشَّرِكَةِ فِي الْغَنِيمَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا ظَفِرُوا بِهِمْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَجَمِيعُ مَا أَصَابُوا غَنِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ رُدَّ الدَّنَانِيرُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْخُمُسِ فَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ السَّرِيَّةِ الْأُولَى مَعَهُمْ. 755 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ بَعْد رَدِّ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَقْدِرُوا فَتْحِ الْحِصْنِ، فَدَخَلُوا أَرْضَ الْحَرْبِ ثُمَّ أَتَى أَهْلَ الْحِصْنِ سَرِيَّةٌ ثَالِثَةٌ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ حُكْمَ أَمَانِهِمْ قَدْ بَطَلَ بِرَدِّ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ الدَّنَانِيرَ عَلَيْهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ. فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلسَّرِيَّةِ الثَّالِثَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 فَإِنْ ظَفِرُوا بِهِمْ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، ثُمَّ الْتَقَتْ السَّرَايَا فِي أَرْضِ الْحَرْبِ. فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي إحْرَازِهَا. وَلَا سَبِيلَ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَخْذِ دَنَانِيرِهِمْ وَإِنْ وَجَدُوهَا بِعَيْنِهَا.؛ لِأَنَّهُمْ مَا ظَفِرُوا بِالْحِصْنِ. فَإِنْ قِيلَ: السَّرِيَّةُ الثَّالِثَةُ إنَّمَا تَمَكَّنُوا مِنْ فَتْحِ الْحِصْنِ فِي الْمُدَّةِ بِرَدِّ تِلْكَ الدَّنَانِيرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. قُلْنَا: نَعَمْ. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ وِلَايَةٌ عَلَى أَهْلِ السَّرِيَّةِ الثَّالِثَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقُوا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا أَصَابُوا. وَمُلَاقَاتُهُمْ إيَّاهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ حَقِّ الشَّرِكَةِ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ لَا فِي غَيْرِهَا. فَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ هَذِهِ الدَّنَانِيرُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَلَا حَقَّ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ فِيهَا. وَإِنْ جُعِلَتْ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ حَقُّ الِاخْتِصَاصِ بِشَيْءٍ مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ كَانَ أَمِيرًا عَلَى السَّرَايَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ بِرَدِّ الدَّنَانِيرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَحِينَئِذٍ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى السَّرَايَا كُلِّهَا. فَاَلَّذِينَ أَدَّوْا بِأَمْرِهِ لَا يَكُونُونَ مُتَبَرِّعِينَ فِي حَقِّ أَحَدٍ. 757 - فَإِنْ ظَفِرَتْ السَّرِيَّةُ الثَّالِثَةُ بِهِمْ فِي الْمُدَّةِ رَدُّوا عَلَى السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ دَنَانِيرَهُمْ أَوَّلًا. لِأَنَّهُمْ مَا تَمَكَّنُوا مِنْ هَذَا الِاغْتِنَامِ إلَّا بِذَلِكَ. وَإِنْ ظَفِرُوا بِهِمْ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الَّذِينَ أَدَّوْا مَالَهُمْ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ مَالٍ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ رَجَعَتْ إلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ دَيْنًا لَهُمْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ خُمُسَ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ سَلِمَ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ مَا غَرِمُوا مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ. 758 - وَلَوْ لَمْ يَأْتِ أَهْلَ الْحِصْنِ سَرِيَّةٌ أُخْرَى حَتَّى رَجَعَتْ إلَيْهِمْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى فَرَدَّتْ عَلَيْهِمْ الدَّنَانِيرَ وَظَفِرُوا بِهَا، فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ عَلَى أَخْذِ الدَّنَانِيرِ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا مِثْلَ مَا أَرَادُوا، وَفَسَخُوا حُكْمَ فِعْلِهِمْ بِالرَّدِّ. فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى ظَفِرُوا بِالْحِصْنِ، فَيَكُونُ لِجَمِيعِ مَا أَصَابُوا حُكْمُ الْغَنِيمَةِ. 759 - وَإِنْ كَانَ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ ضَاعَتْ مِنْهُمْ، وَحِينَ رَجَعُوا أَعْطَوْا مِثْلَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، لَيْسَ مِمَّا غَنِمُوا، فَهُمْ أَحَقُّ بِالْغَنِيمَةِ حَتَّى يَسْتَوْفُوا مِنْهَا مِثْلَ مَا أَعْطَوْا إنْ كَانُوا ظَفِرُوا بِهِمْ فِي الْمُدَّةِ. لِأَنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَرَدِّ الدَّنَانِيرِ كَحَالِ سَرِيَّةٍ أُخْرَى. 760 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ وَادَعَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ سَنَةً عَلَى مَالٍ دَفَعُوهُ إلَيْهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ. إنَّمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَادِعَ إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْقِتَالِ وَالْمِيلُ إلَى أَخْذِ الْمَالِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 ثُمَّ هَذَا الْمَالُ لَيْسَ بِفَيْءٍ وَلَا غَنِيمَةٍ حَتَّى لَا يُخَمَّسَ، وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمُ الْمَالِ مُصَابٌ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَالْفَيْءُ اسْمٌ لِمَا يَرْجِعُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَى أَيْدِينَا بِطَرِيقِ الْقَهْرِ. فَأَمَّا هَذَا فَمَالٌ رَجَعَ إلَيْنَا بِطَرِيقِ الْمُرَاضَاةِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ لِمَنَعَةِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. 761 - فَإِنْ نَظَرَ الْإِمَامُ فَرَأَى هَذِهِ الْمُوَادَعَةَ شَرًّا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا أُخِذَ. لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ الْغَدْرِ وَاجِبٌ. 762 - فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ عَيْنَهُ أَوْ مِثْلَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَنَبَذَ إلَيْهِمْ، ثُمَّ بَعَثَ جُنْدًا حَتَّى ظَفِرُوا بِهِمْ، فَإِنَّهُ يُخَمِّسُ جَمِيعَ مَا أَصَابُوا، وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَ شَيْئًا مِمَّا أَعْطَى مِنْ الدَّنَانِيرِ. ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَخْذِ عَامِلًا لِلْمُسْلِمِينَ. فَقَدْ رَدَّهَا أَوْ مِثْلَهَا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ النَّوَائِبِ. بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي السَّرِيَّةِ الْأُولَى إذَا رَدُّوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بَعْدَ مَا ضَاعَتْ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَأْخُوذَ الَّذِي ضَاعَ مِنْهُمْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَالْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْغَنِيمَةِ، إنَّمَا كَانَ مِنْ خَاصِّ أَمْوَالِهِمْ. وَهَاهُنَا الْمَأْخُوذُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَرْدُودُ أَيْضًا مِنْ مَالِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ عَادَ إلَى مَسْأَلَةِ السَّرِيَّتَيْنِ فَقَالَ: 763 - لَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ رَدُّوا الدَّنَانِيرَ بِأَمْرِ أَمِيرِهِمْ خَاصَّةً ثُمَّ أَدْرَكَتْهُمْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى، فَافْتَتَحَتْ السَّرِيَّتَانِ الْحِصْنَ وَأَخَذُوا مَا فِيهِ، فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ الْمُصَابُ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ مِنْ السَّرِيَّتَيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا أَصَابَ السَّرِيَّةُ الَّتِي رَدَّتْ الدَّنَانِيرَ فَيَبْدَأُ بِدَنَانِيرِهِمْ مِنْ ذَلِكَ. ؛ لِأَنَّ أَمْرَ أَمِيرِهِمْ غَيْرُ نَافِذٍ عَلَى السَّرِيَّةِ الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى أَهْلِ سَرِيَّتِهِ خَاصَّةً. وَأَمْوَالُ أَهْلِ الْحِصْنِ مُصَابُ السَّرِيَّتَيْنِ جَمِيعًا، فَلَا بُدَّ مِنْ قِسْمَتِهَا بَيْنَهُمْ لِيَتَبَيَّنَ مُصَابُ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ، حَتَّى يَرْفَعُوا دَنَانِيرَهُمْ مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَإِنَّمَا قُسِّمَتْ هَذِهِ الْغَنِيمَةُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ. ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهَا سِهَامُ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا قَبْلَ الْخُمُسِ، وَقِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْخُمُسِ. 764 - فَإِذَا دَفَعُوا دَنَانِيرَهُمْ يُضَمُّ مَا بَقِيَ إلَى مَا أَصَابَ السَّرِيَّةُ الثَّالِثَةَ بِالْقِسْمَةِ الْأُولَى. فَيُخَمَّسُ جَمِيعُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ السَّرِيَّتَيْنِ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ إمَامٍ بَعَثَ سَرِيَّتَيْنِ وَنَفَلَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الرُّبُعَ قَبْلَ الْخُمُسِ. وَهُنَاكَ يُقَسَّمُ مَا أَصَابُوا أَوَّلًا عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ نَصِيبُ الْمُنَفَّلِينَ فَيُعْطَوْنَ نَفْلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُضَمُّ مَا بَقِيَ إلَى مَا أَصَابَ السَّرِيَّةُ الْأُخْرَى، فَيُخَمَّسُ وَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْمِائَةِ الْعُصَاةِ إذَا كَانُوا بِأَعْيَانِهِمْ. فَإِنَّ هُنَاكَ الْقِسْمَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الثَّلَاثِ مِائَةٍ عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ الرَّجَّالَةِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ نَصِيبُ الثَّلَاثِ مِائَةٍ فَيُعْطَوْنَ مِنْ ذَلِكَ نَفْلَهُمْ. لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا نَفْلُهُمْ الرُّبُعُ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَالْقِسْمَةُ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ الْخُمُسِ قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ. وَهَذَا وَإِنَّمَا نَفْلُهُمْ الرُّبُعُ قَبْلَ الْخُمُسِ. وَالْقِسْمَةُ الْأُولَى هَا هُنَا لَيْسَتْ بِقِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. فَلِهَذَا قَسَّمَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ الرِّجَالِ. 765 - فَإِنْ كَانَ مَا أَصَابَ السَّرِيَّةُ الرَّادَّةُ لَمْ يُرَدَّ عَلَى دَنَانِيرِهِمْ سَلِمَ لَهُمْ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَيُخَمَّسُ مَا أَصَابَ السَّرِيَّةُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ السَّرِيَّتَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْغَنِيمَةِ. ؛ لِأَنَّ الْمَغْنُومَ هَذَا الْمِقْدَارُ. وَإِنْ لَمْ يَفِ مَا أَصَابَهُمْ بِدَنَانِيرَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. ؛ لِأَنَّهُ لَا أَمْرَ لِأَمِيرِهِمْ فِيمَا أَصَابَ السَّرِيَّةُ الثَّالِثَةَ لِيَأْخُذُوا أَشْيَاءَ مِنْهَا بِحِسَابِ الدَّنَانِيرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الرَّجُلُ فَيَكُونُ أَمَانًا أَوْ لَا يَكُونُ] 766 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 بَابُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الرَّجُلُ فَيَكُونُ أَمَانًا أَوْ لَا يَكُونُ فَإِذَا أَخَذَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَطَلَبَ الْأَسِيرُ مِنْهُ الْأَمَانَ فَآمَنَهُ، فَهُوَ آمِنٌ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لِلْأَمِيرِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ. لِأَنَّ أَمَانَ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ نَافِذٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ. فَكَأَنَّ الْأَمِيرَ هُوَ الَّذِي آمَنَهُ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ مَأْخُوذٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْطُلُ بِأَمَانِ الْوَاحِدِ الْحَقُّ الثَّابِتُ لِجَمَاعَتِهِمْ. وَأَمْنًا مِنْ الْقَتْلِ بِسَبَبِ الْأَمَانِ لَا يَكُونُ فَوْقَ أَمَانِهِ مِنْ الْقَتْلِ بِالْإِسْلَامِ. 767 - وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ مَا أُسِرَ لَمْ يُقْتَلْ، وَلَكِنْ يَكُونُ فَيْئًا، فَكَذَلِكَ إذَا آمَنَهُ بَعْدَ الْأَسْرِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الرَّقِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مَا لَمْ يُقْسَمْ. وَإِسْلَامُ الرَّقِيقِ لَا يُزِيلُ الرِّقَّ عَنْهُ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إسْلَامَهُ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا يُبْطِلُ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ «حَدِيثُ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ بَدْرٍ بَعْدَ مَا أُسِرَ. وَحَسُنَ إسْلَامُهُ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: قَدْ قَتَلْنَا الرِّجَالَ وَأَسَرْنَاهُمْ، فَنَتْبَعُ الْعِيرَ الْآنَ. فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الْعَبَّاسُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي وَثَاقِ الْأَسْرِ: هَذَا لَا يَصْلُحُ. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَك إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. وَقَدْ أَنْجَزَهَا لَك فَارْجِعْ سَالِمًا» . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفِدَاءِ. وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] الْآيَةَ. 768 - فَإِنْ قَالَ: لَا أُسْلِمُ، وَلَكِنْ أَكُونُ ذِمَّةً لَكُمْ. فَلِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ ذَلِكَ وَيَقْتُلَهُ. لِأَنَّهُ صَارَ مَأْخُوذًا مَقْهُورًا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُفْتَرَضُ الْإِجَابَةُ إلَى إعْطَاءِ الذِّمَّةِ فِي حَقِّ مِثْلِهِ. 769 - فَإِنْ كَانَ حِينَ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ خَافُوا أَنْ يُسْلِمَ فَكَعَمُوهُ - أَيْ سَدُّوا فَمَه، وَالْكِعَامُ اسْمٌ لِمَا يُسَدُّ بِهِ الْفَمُ. أَوْ ضَرَبُوهُ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِالضَّرْبِ فَلَا يُسْلِمُ، فَقَدْ أَسَاءُوا فِي ذَلِكَ.؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ فِي صُورَةِ الْمَنْعِ عَنْ الْإِسْلَامِ لِمَنْ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَذَلِكَ لَا رُخْصَةَ فِيهِ. وَلَكِنَّهُمْ إنْ كَعَمُوهُ كَيْ لَا يَنْفَلِتَ وَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَعَمُوهُ حَتَّى لَا يُسْلِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ رَضَوْا بِكُفْرِهِ، وَمَنْ رَضِيَ بِكُفْرِ غَيْرِهِ يَكْفُرُ. قُلْنَا: لِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُسْلِمُ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ تَقِيَّةً لِيَنْجُوَ مِنْ الْقَتْلِ. فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُمْ بِكُفْرِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِقَامُ مِنْهُ وَالتَّشْدِيدُ عَلَيْهِ، لِكَثْرَةِ مَا آذَاهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الرِّضَى بِكُفْرِهِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ قَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] يَتَّضِحُ لَهُ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَيَّدَ هَذَا مَا رُوِيَ «أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَاءَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ (ص 169) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. حَتَّى جَاءَ إلَى كُلِّ جَانِبٍ هَكَذَا، فَقَالَ: بَايَعْنَاهُ فَلْيَنْصَرِفْ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ مَنْ يَقُومُ إلَيْهِ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ أُبَايِعَهُ؟ فَقَالُوا: أَهَلَّا أَوْمَأَتْ إلَيْنَا بِعَيْنِك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» . وَأَحَدٌ لَا يَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْضَى بِكُفْرِهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ فِي ذَلِكَ تَقِيَّةً. فَلِهَذَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ مَا قَالَ. 770 - وَلَوْ أَنَّ الْأَسِيرَ قَالَ لِلْمُسْلِمِ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ: الْأَمَانَ الْأَمَانَ. فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ: الْأَمَانَ الْأَمَانَ. وَإِنَّمَا أَرَادَ رَدَّ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ عَلَى هَذَا. فَهَذَا فِي حَقِّهِ حَلَالُ الدَّمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ. وَلَكِنْ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِهِ، وَلَا يُصَدِّقُهُ فِيمَا ادَّعَى مِنْ مُرَادِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 لِأَنَّ سِيَاقَ كَلَامِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ أَمَانٌ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَا أَرَادَ. إلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي ضَمِيرِهِ فَلَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. فَأَمَّا الْأَمِيرُ وَالنَّاسُ يَتَتَبَّعُونَ الظَّاهِرَ فَلَا يُمَكِّنُونَهُ مِنْ قَتْلِهِ بَعْدَ مَا آمَنَهُ. وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ هُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ. 771 - وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ: الْأَمَانَ الْأَمَانَ تَطْلُبُ؟ أَوْ قَالَ: لَا تُعَجِّلْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا تَلْقَى. فَهَذَا لَا يَكُونُ أَمَانًا، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ. لِأَنَّ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ تَنْصِيصًا عَلَى مَعْنَى التَّهْدِيدِ، وَسِيَاقُ النَّظْمِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ الْحَقِيقَةِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] أَنَّهُ زَجْرٌ وَتَوْبِيخٌ لَا تَخْيِيرٌ بِاعْتِبَارِ سِيَاقِ الْكَلَامِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] تَهْدِيدٌ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ فِي مَالِي مَا شِئْت إنْ كُنْت رَجُلًا، أَوْ افْعَلْ بِي مَا شِئْت إنْ كُنْت صَادِقًا، لَا يَكُونُ إذْنًا بَلْ يَكُونُ زَجْرًا وَتَقْرِيعًا. فَكَذَلِكَ هَا هُنَا إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ: الْأَمَانَ، سَتَعْلَمُ أُؤَمِّنُكَ أَوْ لَا، تَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ رَدَّ كَلَامِهِ. 772 - وَإِذَا قَالَ: الْأَمَانَ وَسَكَتَ. لَا يُعْلَمُ مَا فِي ضَمِيرِهِ فَجُعِلَ ذَلِكَ أَمَانًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ. بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ فِي مَالِي كَذَا وَكَذَا، يَكُونُ إذْنًا، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ التَّهْدِيدَ، لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 وَلَوْ أَنَّ الْمُشْرِكَ نَادَى مِنْ الْحِصْنِ قَبْلَ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ: الْأَمَانَ الْأَمَانَ. فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ: الْأَمَانَ الْأَمَانَ. فَرَمَى بِنَفْسِهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ الَّذِي آمَنَهُ: إنَّمَا أَرَدْت التَّهْدِيدَ، لَا يُلْتَفَتُ إلَى كَلَامِهِ، وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ. لِأَنَّ مَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يَعْرِفُهُ الْمُشْرِكُ. فَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ أَدَّى إلَى الْغُرُورِ وَهَذَا حَرَامٌ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْأَسِيرَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْهُورًا مَأْخُوذًا. فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْغُرُورِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فَيُعْتَبَرُ مَا فِي ضَمِيرِهِ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً. 774 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ قَالَ لِلْمَحْصُورِ: الْأَمَانَ الْأَمَانَ، مَا أَبْعَدَك عَنْ ذَلِكَ أَوْ انْزِلْ إنْ كُنْت رَجُلًا. فَأَسْمَعَهُ الْكَلَامَ كُلَّهُ بِلِسَانِهِ، فَرَمَى الْمُشْرِكُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ فَيْءٌ يَجُوزُ قَتْلُهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يُغْرِهِ فِي شَيْءٍ، فَقَدْ أَسْمَعَهُ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ كَلَامَهُ تَهْدِيدٌ وَلَيْسَ بِإِعْطَاءِ الْأَمَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِآخَرَ: لِي عَلَيْكُمْ أَلْفُ دِرْهَمٍ. فَيَقُولُ الْآخَرُ: لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ؟ مَا أَبْعَدَك مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ إقْرَارًا لِهَذَا الْمَعْنَى. فَأَمَّا إذَا أَسْمَعَهُ ذِكْرَ الْأَمَانِ وَلَمْ يُسْمِعْهُ مَا وَصَلَ بِهِ فَهُوَ آمِنٌ، لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ مَا أَسْمَعَهُ دُونَ مَا لَمْ يُسْمِعْهُ. وَمَا لَمْ يُسْمِعْهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا فِي ضَمِيرِهِ لَوْ اُعْتُبِرَ أَدَّى إلَى الْغُرُورِ، وَالْغُرُورُ حَرَامٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (ص 170) [بَابُ مَا يَكُونُ أَمَانًا مِمَّنْ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ وَالْأَسْرَى وَمَا لَا يَكُونُ أَمَانًا] 775 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 بَابُ مَا يَكُونُ أَمَانًا مِمَّنْ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ وَالْأَسْرَى، وَمَا لَا يَكُونُ أَمَانًا وَلَوْ أَنَّ رَهْطًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا أَوَّلَ مَسَالِحِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَالُوا: نَحْنُ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ. وَأَخْرَجُوا كِتَابًا يُشْبِهُ كِتَابَ الْخَلِيفَةِ، أَوْ لَمْ يُخْرِجُوا، وَكَانَ ذَلِكَ خَدِيعَةً مِنْهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ. فَقَالُوا لَهُمْ: اُدْخُلُوا. فَدَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ. فَلَيْسَ يَحِلُّ لَهُمْ قَتْلُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا دَامُوا فِي دَارِهِمْ. لِأَنَّ مَا أَظْهَرُوهُ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ أَيْضًا لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِشَيْءٍ، هُوَ الْحُكْمُ فِي الرُّسُلِ إذَا دَخَلُوا إلَيْهِمْ كَمَا بَيَّنَّا. 776 - فَكَذَلِكَ إذَا أَظْهَرُوا ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مَا فِي بَاطِنِ الدَّاخِلِينَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى مَا يُظْهِرُونَ لِوُجُوبِ التَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَمْرَ الْأَمَانِ شَدِيدٌ وَالْقَلِيلُ مِنْهُ يَكْفِي. فَيُجْعَلُ مَا أَظْهَرُوهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْمَانِ مِنْهُمْ. وَلَوْ اسْتَأْمَنُوا فَآمَنُوهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفُوا لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ مَا هُوَ دَلِيلُ الِاسْتِئْمَانِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا: جِئْنَا نُرِيدُ التِّجَارَةَ. وَقَدْ كَانَ قَصْدُهُمْ أَنْ يَغْتَالُوهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا تُجَّارًا حَقِيقَةً كَمَا أَظْهَرُوا لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَغْدِرُوا بِأَهْلِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَظْهَرُوا ذَلِكَ لَهُمْ. 778 - وَكَذَلِكَ لَوْ لَقُوهُمْ فِي وَسَطِ دَارِ الْحَرْبِ إلَّا أَنَّ مَا كَانُوا أَخَذُوا قَبْل أَنْ يَلْقَوْهُمْ، فَهُوَ سَالِمٌ لَهُمْ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ حِينَ خَلَّوْا سَبِيلَهُمْ بِنَاءً عَلَى مَا أَظْهَرُوا فَكَأَنَّهُمْ آمَنُوهُمْ الْآنَ. وَذَلِكَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ التَّعَرُّضَ لَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّ شَيْءٍ مِمَّا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ. 779 - وَلَوْ كَانُوا تَشَبَّهُوا بِالرُّومِ وَلَبِسُوا لِبَاسَهُمْ، فَلَمَّا قَالُوا لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ مِنْ الرُّومِ كُنَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ. وَانْتَسَبُوا لَهُمْ إلَى مَنْ يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ لَمْ يَنْتَسِبُوا، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُمْ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلُوا مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَيَأْخُذُوا الْأَمْوَالَ. لِأَنَّ مَا أَظْهَرُوا لَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمَانٌ. فَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَيْسَ فِي أَمَانٍ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَالٍ بِمِلْكِهِ، وَإِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِ كَانَ سَالِمًا لَهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُمْ مَا خَلَّوْا سَبِيلَهُمْ بِنَاءً عَلَى اسْتِئْمَانٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 مِنْهُمْ صُورَةً أَوْ مَعْنًى، وَإِنَّمَا خَلَّوْا سَبِيلَهُمْ عَلَى بِنَاءِ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ. فَهَذَا وَقَوْلُهُمْ: نَحْنُ مِنْكُمْ، سَوَاءٌ. 780 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَتَوْهُمْ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَذِنُوا لَهُمْ فِي الدُّخُولِ. فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُمْ خَلَّوْا سَبِيلَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَأَنَّ الدَّارَ تَجْمَعُهُمْ، وَالْإِنْسَانُ فِي دَارِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُسْتَأْمَنًا. وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ الْمُتَخَصِّرِ فِي الْجَنَّةِ حِينَ قَالَ لِسُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: جِئْت لِأَنْصُرَك وَأُكْثِرَك وَأَكُونَ مَعَك. ثُمَّ قَتَلَهُ. فَدَلَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ أَمَانًا. وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ الْمُتَخَصِّرِ فِيمَا سَبَقَ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْعَامِلِينَ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الْمُتَخَصِّرُونَ» . يَعْنِي الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ الطَّاعَاتِ مَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا فِي الْجَنَّةِ وَيَنَالُونَ بِهَا مِنْ الدَّرَجَاتِ، كَمَا يَتَوَكَّأُ الرَّجُلُ عَلَى عَصَاهُ فِي الدُّنْيَا يَضَعُهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وَلَوْ أَنَّ رَهْطًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسَرَاءَ فِي أَيْدِيهِمْ فَخَلَّوْا سَبِيلَهُمْ، لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ أَحَبُّوا مِنْهُمْ، وَيَأْخُذُوا الْأَمْوَلَ وَيَهْرُبُوا إنْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَقَبْلَ أَنْ يُخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، لَوْ قَدَرُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يَكُونُ دَلِيلَ الِاسْتِئْمَانِ، وَمَا خَلَّوْهُمْ عَلَى سَبِيلِ إعْطَاءِ الْأَمَانِ بَلْ عَلَى وَجْهِ قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِهِمْ وَالِالْتِفَاتِ إلَيْهِمْ. 782 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا لَهُمْ: قَدْ آمَنَّاكُمْ فَاذْهَبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَلَمْ تَقُلْ الْأُسَرَاءُ (ص 171) شَيْئًا. لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ التَّعَرُّضُ لَهُمْ بِالِاسْتِئْمَانِ صُورَةً أَوْ مَعْنًى، فَبِهِ يَلْتَزِمُونَ الْوَفَاءَ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَقَوْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يُلْزِمُهُمْ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمُوهُ. 783 - بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ: اُدْخُلُوا فَأَنْتُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّ هُنَاكَ جَاءُوا عَنْ اخْتِيَارٍ مَجِيءَ الْمُسْتَأْمَنِينَ، فَإِنَّهُمْ حِينَ ظَهَرُوا لِأَهْلِ الْحَرْبِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُونَ مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ بِالْقُوَّةِ، فَكَأَنَّهُمْ اسْتَأْمَنُوهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ. وَأَمَّا الْأُسَرَاءُ فَحَصَلُوا فِي دَارِهِمْ مَقْهُورِينَ لَا عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ لِلِاسْتِئْمَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ. 784 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ لَقُوا الْأُسَرَاءَ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 نَحْنُ قَوْمٌ تُجَّارٌ دَخَلْنَا بِأَمَانِ أَصْحَابِكُمْ. أَوْ قَالُوا: نَحْنُ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ. فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَقْتُلُوا أَحَدًا مِنْهُمْ. لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا مَا هُوَ دَلِيلُ الِاسْتِئْمَانِ. فَيُجْعَلُ ذَلِكَ اسْتِيمَانًا مِنْهُمْ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَغْدِرُوا بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ. مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ. - فَإِنْ عَلِمَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَنَّهُمْ أُسَرَاءُ فَأَخَذُوهُمْ ثُمَّ انْفَلَتُوا مِنْهُمْ حَلَّ لَهُمْ قِتَالُهُمْ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ. لِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِئْمَانِ إلَيْهِمْ يَرْتَفِعُ بِمَا فَعَلُوا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَوْ غَدَرَ بِهِمْ مَلِكُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَحَبَسَهُمْ، ثُمَّ انْفَلَتُوا، حَلَّ لَهُمْ قَتْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ؟ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ مِنْ مَلِكِهِمْ. 786 - وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ رَجُلٌ بِأَمْرِ مَلِكِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّ السَّفِيهَ إذَا لَمْ يُنْهَ مَأْمُورٌ. فَأَمَّا إذَا فَعَلُوا بِغَيْرِ عِلْمِ الْأَمِيرِ أَوْ عِلْمِ جَمَاعَتِهِمْ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ أَنْ يَسْتَحِلُّوا حَرِيمَ الْقَوْمِ بِمَا صَنَعَ هَذَا بِهِمْ. لِأَنَّ فِعْلَ الْوَاحِدِ مِنْ عَرْضِهِمْ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هَذَا ظُلْمٌ مِنْهُ إيَّاهُمْ، فَيَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَنْتَصِفُوا مِنْهُ بِاسْتِرْدَادِ عَيْنِ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ أَوْ مِثْلِهِ إنْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِشَيْءٍ سِوَى هَذَا لِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يُظْلَمُ وَلَكِنْ يُنْتَصَفُ مِنْهُ بِالْمِثْلِ فَقَطْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وَلَوْ كَانَ الْأُسَرَاءُ قَالُوا لَهُمْ حِينَ أَخَذُوهُمْ: نَحْنُ قَوْمٌ مِنْكُمْ: فَخَلَّوْا سَبِيلَهُمْ. حَلَّ لَهُمْ قَتْلُهُمْ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا أَظْهَرُوهُ لَيْسَ بِاسْتِئْمَانٍ. 788 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأُسَرَاءِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. لِأَنَّ حُصُولَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْمَانِ. 789 - وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ مِنْ بُرْجَانِ جِئْنَا مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ بِالْأَمَانِ. أَمَّنَنَا بَعْضُ مَسَالِحِكُمْ لِنَلْحَقَ بِبِلَادِنَا. فَخَلَّوْا سَبِيلَهُمْ، لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَعْرِضُوا بَعْدَ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ. وَبُرْجَانُ هَذَا اسْمُ نَاحِيَةٍ وَرَاءَ الرُّومِ، بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ أَهْلِ الرُّومِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَلَا يَتَمَكَّنُ بَعْضُهُمْ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى بَعْضٍ إلَّا بِالِاسْتِئْمَانِ. فَمَا أَظْهَرُوهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْمَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ؟ 790 - فَكَذَلِكَ إذَا أَظْهَرُوا ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. مَا لَمْ يَرْجِعُوا إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ رَجَعُوا فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ الِاسْتِئْمَانِ وَإِذَا دَخَلُوا دَارَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَصْنَعُوا بِهِمْ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 لِأَنَّهُمْ الْآنَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَلَصِّصِينَ فِيهِمْ، سَوَاءٌ عَلِمُوا بِرُجُوعِهِمْ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا. لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ إنَّمَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ لِتَقْصِيرٍ مِنْهُمْ فِي حِفْظِ حَرِيمِهِمْ، بِخِلَافِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فِيمَا سَبَقَ. 791 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا أُسَرَاءَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَرَادُوا قَتْلَهُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا مُسْلِمٌ. فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ عَنْ الْإِسْلَامِ. لَا لِأَنَّهُ سَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى (ص 172) : {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْت مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94] ، وَلِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ فَيُسْتَفْسَرُ. وَلَيْسَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ الْمُبَادَرَةُ إلَى قَتْلِهِ قَبْلَ الِاسْتِفْسَارِ. 792 - فَإِنْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ حِينَ سَأَلُوهُ عَنْهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ، وَهُوَ فَيْءٌ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ ابْتِدَاءُ الْإِسْلَامِ لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ إسْلَامُهُ قَبْلَ هَذَا. وَذَاكَ يُؤَمِّنُهُ مِنْ الْقَتْلِ دُونَ الِاسْتِرْقَاقِ. 793 - فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَكْبَرُ الظَّنِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى يَجِبَ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِيمَا بُنِيَ أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَفِيمَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ فِيهِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ. 794 - وَلَوْ قَالَ: لَسْت بِمُسْلِمٍ، وَلَكِنْ اُدْعُونِي إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أُسْلِمَ، لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهُ أَيْضًا. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَادْعُوهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَكَانَ لَا يُقَاتِلُ قَوْمًا حَتَّى يَدْعُوَهُمْ وَلَوْ أَرَدْنَا قِتَالَ قَوْمٍ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى نَدْعُوَهُمْ. وَرُبَّمَا يُجِيبُونَ وَرُبَّمَا يَمْتَنِعُونَ. فَهَذَا الَّذِي طَلَبَ مِنَّا أَنْ نَدْعُوَهُ وَأَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْإِجَابَةَ إلَى ذَلِكَ أَوْلَى أَنْ لَا يَحِلَّ قَتْلُهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ. 795 - وَلَوْ قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ: فَاسْتُوْصِفَ الْإِسْلَامَ فَأَبَى أَنْ يَصِفَهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصِفُوا الْإِسْلَامَ، ثُمَّ يَقُولُوا لَهُ: أَنْتَ عَلَى هَذَا؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. فَهُوَ مُسْلِمٌ. وَإِنْ قَالَ: لَسْت عَلَى هَذَا، أَوْ قَالَ: مَا أَعْرِفُ هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ، فَهُوَ حَلَالُ الدَّمِ. إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ لَهُ الْإِمَامُ: أَتَدْخُلُ فِي هَذَا الَّذِي دَعَوْنَاك إلَيْهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. لَمْ نَقْتُلْهُ. وَكَانَ فَيْئًا. وَإِنْ قَالَ: لَا، فَحِينَئِذٍ يُضْرَبُ عُنُقُهُ. وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ أَنَّهُ إذَا اسْتَوْصَفَهَا الْإِسْلَامَ فَلَمْ تُحْسِنْ أَنْ تَصِفَهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصِفَ الْإِسْلَامَ بَيْنَ يَدَيْهَا وَيَقُولُ: أَنَا عَلَى هَذَا. وَظَنِّي بِكِ أَنَّكِ عَلَى هَذَا. فَإِنْ قَالَتْ: نَعَمْ. فَذَلِكَ يَكْفِي. وَتَكُونُ مُسْلِمَةً يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِالنِّكَاحِ وَالْمِلْكِ. [بَابُ أَمْنِ الرَّسُولِ وَالْمُسْتَأْمَنِ إذَا خِيفَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى بَعْضِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ] 796 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 بَابُ أَمْنِ الرَّسُولِ وَالْمُسْتَأْمَنِ إذَا خِيفَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى بَعْضِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ أَنَّ رَسُولَ مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ جَاءَ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ بِمَنْزِلَةِ مُسْتَأْمَنٍ جَاءَ لِلتِّجَارَةِ. لِأَنَّ فِي مَجِيءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ. 797 - فَإِنْ أَرَادَا الرُّجُوعَ فَخَافَ الْأَمِيرُ أَنْ يَكُونَا قَدْ رَأَيَا لِلْمُسْلِمِينَ عَوْرَةً فَيَدُلَّانِ عَلَيْهَا الْعَدُوَّ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْبِسَهُمَا عِنْدَهُ حَتَّى يَأْمَنَ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ فِي حَبْسِهِمَا نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَدَفْعَ الْفِتْنَةِ عَنْهُمْ. وَإِذَا جَازَ حَبْسُ الدَّاعِرِ لِدَفْعِ فِتْنَتِهِ وَإِنْ لَمْ نَتَحَقَّقْ مِنْهُ خِيَانَةً فَلَأَنْ يَجُوزَ حَبْسُ هَذَيْنِ أَوْلَى. 798 - فَإِنْ قَالَا لِلْإِمَامِ: خَلِّ سَبِيلَنَا وَإِنَّا عِنْدَك بِأَمَانٍ. لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا يَدُلَّانِ الْعَدُوَّ عَلَى مَا رَأَيَا مِنْ الْعَوْرَةِ. فَإِنَّ اعْتِقَادَهُمَا يَحْمِلُهُمَا عَلَى ذَلِكَ. وَأَيَّدَ هَذَا الظَّاهِرَ قَوْله تَعَالَى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] . 799 - وَإِنْ قَالَا: نَحْلِفُ أَنْ لَا نُخْبِرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. لَمْ يُصَدِّقْهُمَا فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ شَهِدَ الظَّاهِرُ لَهُ. وَالظَّاهِرُ هُنَا يَشْهَدُ بِخِلَافِ مَا يَقُولَانِ. فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى يَمِينِهِمَا. وَأَيَّدَ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12] أَيْ لَا أَيْمَانَ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْيَمِينُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْتَمِدَهَا، وَلَكِنَّهُ يَحْبِسُهُمَا عِنْدَهُ حَتَّى يَأْمَنَ. إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَيِّدَهُمَا وَلَا أَنْ يَغُلَّهُمَا. لِأَنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا لَهُمَا، وَهُمَا فِي أَمَانٍ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُمَا خِيَانَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْحَبْسِ (ص 173) تَعْذِيبٌ أَيْضًا. قُلْنَا: لَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا يَحْبِسُهُمَا الْحَبْسَ فِي السِّجْنِ. فَإِنَّ ذَلِكَ تَعْذِيبٌ. وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ أَنَّهُ يَمْنَعُهُمَا مِنْ الرُّجُوعِ وَيَجْعَلُ مَعَهُمَا حَرَسًا يَحْرُسُونَهُمَا. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَدْرِ تَعْذِيبٌ لَهُمَا بَلْ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَئِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ تَعْذِيبٍ مِنْ حَيْثُ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وَطَنِهِمَا فَالْمَقْصُودُ دَفْعُ ضَرَرٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ إيصَالِ الضَّرَرِ إلَى بَعْضِ النَّاسِ، تَرَجَّحَ أَهْوَنُ الضَّرَرَيْنِ عَلَى أَعْظَمِهِمَا. ثُمَّ هَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِحَرَسٍ يَجْعَلُهُ مَعَهُمَا. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمَا فَوْقَ ذَلِكَ بِالتَّقْيِيدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 فَإِنْ حَضَرَ قِتَالٌ وَشُغِلَ عَنْهُمَا الْحَرَسُ وَخَافَ انْفِلَاتَهُمَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَيِّدَهُمَا حَتَّى يَذْهَبَ ذَلِكَ الشُّغْلُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الضَّرَرِ. فَإِذَا ذَهَبَ ذَلِكَ الشُّغْلُ حَلَّ قُيُودَهُمَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. 800 - وَإِنْ سَارَ الْإِمَامُ رَاجِعًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِمَا مَعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَأْمَنُ فِيهِ مِمَّا يَخَافُ عَنْهُمَا، ثُمَّ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُمَا. لِأَنَّ النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ دَفْعُ الْفِتْنَةِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ 801 - فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ مِنْهُمَا حَتَّى يَدْخُلَ أَرْضَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُخَلِّ سَبِيلَهُمَا حَتَّى يَدْخُلَ أَرْضَ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ الْفِتْنَةَ فِي تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ تَعْظُمُ عَنْهُمَا. وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَحَرَّزَ وَيَجْتَهِدَ لِدَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْعَسْكَرِ. فَإِنْ أَبَيَا أَنْ يَبْرَحَا مَكَانَهُمَا أَكْرَهَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ فِي مَوْضِعِ النَّظَرِ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْإِكْرَاهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَقَعَ النَّفِيرُ عَامًّا كَانَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ النَّاسَ عَلَى الْخُرُوجِ؟ وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ ". 802 - فَإِنْ وَصَلَ إلَى مَأْمَنِهِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَمَرَهُمَا بِالِانْصِرَافِ فَسَأَلَاهُ أَنْ يُعْطِيَهُمَا مَالًا يَتَجَهَّزَانِ بِهِ إلَى بِلَادِهِمَا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمَا مِنْ النَّفَقَةِ مَا يُبَلِّغُهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَبَيَا أَنْ يَصْحَبَاهُ مِنْهُ. لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِمَا مُكْرَهَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إلَيْهِ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْمُؤْنَةُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ نَائِبَةٍ تَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ. 803 - وَفِيمَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ قَدْ أَتَيَا اخْتِيَارًا مِنْهُمَا، فَلَا يُعْطِيهِمَا لِلرُّجُوعِ نَفَقَةً، وَإِنَّمَا يُعْطِي هَذِهِ النَّفَقَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ تُصِبْ الْجُنْدُ غَنِيمَةً، أَوْ أَصَابُوهَا وَاقْتَسَمُوهَا. فَأَمَّا إذَا أَصَابُوا غَنِيمَةً وَلَمْ تُقْسَمْ بَعْدُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمَا النَّفَقَةَ مِنْ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ أَكْرَهَهُمَا عَلَى ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْجُنْدِ خَاصَّةً. فَيَكُونُ الْمُؤْنَةُ مِنْ مَالٍ هُوَ حَقٌّ لِلْجُنْدِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ لِحَمْلِ الْغَنَائِمِ أَوْ سَوْقِهَا أَوْ حِفْظِهَا. 804 - وَكَذَلِكَ إذَا مَنَعَهُمَا مِنْ الرُّجُوعِ وَأَكْرَهَهُمَا عَلَى الْمُقَامِ مَعَهُ. فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمَا مِنْ غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ 805 - وَإِذَا حَمَلَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَعَ نَفْسِهِ عَلَى الدَّوَابِّ مِنْ غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُمَا آمِنَانِ عِنْدَهُ. وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْغَدْرِ وَاجِبٌ. فَإِذَا حَبَسَهُمَا لِمَنْفَعَةِ الْغَانِمِينَ أَنْفَقَ عَلَيْهِمَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ يُعْطَى الْكِفَايَةَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 مَالِ الصَّدَقَةِ. وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً عِنْدَ الزَّوْجِ لِحَقِّهِ اسْتَوْجَبَتْ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ. 806 - فَإِنْ أَرَادَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهَا بَعْدَ مَا أَمِنَ، وَكَانَ هُوَ فِي مَوْضِعٍ يَخَافَانِ فِيهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ لَهُمَا، وَلَا يُخَلِّي سَبِيلَهُمَا إلَّا فِي مَوْضِعٍ لَا يُخَافُ عَلَيْهِمَا فِيهِ. لِأَنَّهُمَا تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَفِي أَمَانِهِ. وَهُوَ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمَا. فَكَمَا يَنْظُرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا يُزِيلُ الْخَوْفَ عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ يَنْظُرُ لَهُمَا. أَرَأَيْت (ص 174) لَوْ حَمَلَهُمَا مَعَهُ فِي الْبَحْرِ. فَلَمَّا انْتَهَى إلَى جَزِيرَةٍ أَمِنَ فِيهَا، أَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ؟ لَا، وَلَكِنْ يَحْمِلُهُمَا إلَى مَوْضِعٍ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمَا فِيهِ الضَّيْعَةَ. ثُمَّ يُعْطِيهِمَا مَا يَكْفِيهِمَا لِجِهَازِهِمَا وَحُمْلَانِهِمَا. 807 - وَإِنْ كَانَا لَا يَأْمَنَانِ مِنْ اللُّصُوصِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمَا قَوْمًا يُبَلِّغُونَهُمَا مَأْمَنَهُمَا. لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. 808 - فَإِنْ كَانَا لَا يَبْلُغَانِ مَأْمَنَهُمَا حَتَّى يَبْلُغَا مَوْضِعًا يَخَافُ فِيهِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا مَعَهُمَا. فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمَا إلَى أَبْعَدِ مَوْضِعٍ يَأْمَنُ فِيهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 لِأَنَّ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَعْرِيضَ الْمُسْلِمِينَ لِلْهَلَاكِ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ لِدَفْعِ الْخَوْفِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ إنْ أَجْبَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَذْهَبُوا مَعَهُمَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخَافُونَ فِيهِ فَقُتِلُوا كَانَ هُوَ السَّاعِي فِي دَمِهِمْ. وَإِنْ تَرَكَهُمَا لِيَذْهَبَا فَأُصِيبَا لَمْ يَكُنْ هُوَ سَاعِيًا فِي دَمِهِمَا. فَكَانَ هَذَا أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 [بَابُ أَهْلِ الْحِصْنِ يُؤَمِّنُهُمْ الرَّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جُعْلٍ أَوْ غَيْرِ جُعْلٍ] ٍ 809 - وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا وَفِيهَا أَسِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَآمَنَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ بِهِمْ لَيْلًا حَتَّى أَدْخَلَهُمْ الْمُعَسْكَرَ فَهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الَّذِي أَمَّنَهُمْ كَانَ مَقْهُورًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْهُمْ، وَأَمَانُ مِثْلِهِ بَاطِلٌ. وَلِأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِهَذَا الْأَمَانِ النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَخْلِيصَ نَفْسِهِ. وَلَوْ صَحَّحْنَا أَمَانَ مِثْلِهِ لَمْ يَتَوَصَّلْ الْمُسْلِمُونَ إلَى فَتْحِ الْحِصْنِ مِنْ حُصُونِهِمْ قَهْرًا، فَقَلَّ مَا يَخْلُو حِصْنٌ عَنْ أَسِيرٍ فَإِذَا أَيْقَنُوا بِالْفَتْحِ أَمَرُوا الْأَسِيرَ حَتَّى يُؤَمِّنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَسِيرٌ، أَمَرُوا رَجُلًا مِنْهُمْ حَتَّى يُسْلِمَ ثُمَّ يُؤَمِّنَهُمْ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْأَسِيرِ سَوَاءً. فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي قُلْنَا: هُمْ جَمِيعًا فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. 810 - وَفِي الْقِيَاسِ لَا بَأْسَ بِقَتْلِ رِجَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ الْبَاطِلَ لَا يُحَرِّمُ الْقَتْلَ، كَمَا لَوْ حَصَلَ مِنْ صَبِيٍّ لَا يَعْقِلُ أَوْ مِنْ كَافِرٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ رِجَالَهُمْ. لِوَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» الْحَدِيثَ، يَعُمُّ الْأَسِيرَ وَغَيْرَهُ وَهَذَا الظَّاهِرُ وَإِنْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ بِنَفْيِ شُبْهَةٍ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا جَاءُوا إلَى الْمُعَسْكَرِ لِلِاسْتِئْمَانِ لَا لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بِاعْتِبَارِ أَمَانِ الْأَسِيرِ إيَّاهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَحْصُورَ إذَا جَاءَ عَلَى هَيْئَةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلْقِتَالِ بِأَنْ أَلْقَى، السِّلَاحَ وَنَادَى بِالْأَمَانِ وَجَاءَ فَإِنَّهُ يَأْمَنُ الْقَتْلَ. فَهَؤُلَاءِ أَيْضًا يَأْمَنُونَ مِنْ الْقَتْلِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ مِنْ الِاسْتِرْقَاقِ، فَنُخَمِّسُهُمْ وَنَقْسِمُهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي أَمَّنَهُمْ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ، أَوْ كَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَسْلَمَ فَالْمَعْنَى يَجْمَعُ الْكُلَّ. 811 - وَلَوْ أَمَّنَهُمْ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَأَمَانُهُ جَائِزٌ. لِأَنَّهُ آمِنٌ مِنْهُمْ، مُمْتَنِعٌ فِي عَسْكَرِهِ فَأَمَانُهُ كَأَمَانِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. 812 - فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ حِصْنِهِمْ بَعْدَ نَبْذِ الْإِمَامِ إلَيْهِمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَمَّنَهُمْ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ رَأَى النَّظَرَ فِي قِتَالِهِمْ، فَإِنْ خَرَجُوا إلَى الْمُعَسْكَرِ وَقَالُوا: آمَنَنَا فُلَانٌ، لَمْ نُصَدِّقْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَشْهَدَ عَدْلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 لِأَنَّهُمْ صَارُوا فَيْئًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ ادَّعَوْا مَا يُسْقِطُ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ (ص 175) عَدْلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ ذَلِكَ الرَّجُلِ: إنِّي آمَنْتُهُمْ. لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ هُوَ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ. لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْمَرْءِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ 813 - فَإِنْ شَهِدَ عَدْلَانِ سَوَاء وَجَبَ تَبْلِيغُهُمْ مَأْمَنَهُمْ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً. 814 - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ إلَّا قَوْلُ ذَلِكَ الرَّجُلِ، كَانُوا فَيْئًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ رِجَالُهُمْ اسْتِحْسَانًا لِلشُّبْهَةِ الَّتِي تَمَكَّنَتْ فَإِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَخْبَرَ بِحُرْمَةِ قَتْلِهِمْ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِلصِّدْقِ، وَحُرْمَةُ الْقَتْلِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ؛ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي إلْزَامِ الْحُكْمِ. فَلِهَذَا لَا يُقْتَلُونَ. 815 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ آمَنَهُمْ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ أَخَذَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ وَهُمْ فِي حِصْنِهِمْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 إنْ شَاءَ أَجَازَ أَمَانَهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَأَخَذَ الدَّنَانِيرَ، فَكَانَتْ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى النَّظَرَ فِي إنْشَاءِ الْأَمَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا رَأَى النَّظَرَ فِي أَنْ يُجِيزَ أَمَانَ غَيْرِهِ. ثُمَّ الْمَالُ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْعَسْكَرِ فَيَكُونُ فَيْئًا لَهُمْ. وَإِنْ شَاءَ رَدَّ عَلَيْهِمْ الدَّنَانِيرَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ ثُمَّ نَبَذَ إلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ آمَنَهُمْ بِنَفْسِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. - وَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ صَالَحَهُمْ الرَّجُلُ أَوْ خَرَّبُوا حِصْنَهُمْ فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ أَلْفَ دِينَارٍ فَيَجْعَلَهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَرِ هَهُنَا مُتَعَيَّنٌ فِي إجَازَةِ ذَلِكَ الصُّلْحِ ، فَإِنَّهُمْ آمِنُونَ فِي الْعَسْكَرِ وَلَا سَبِيلَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُبْلِغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ وَإِنْ رَدَّ الدَّنَانِيرَ عَلَيْهِمْ. فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي أَخْذِ الدَّنَانِيرِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وَيَسْلَمُ مِنْ الْعَمَلِ. 817 - وَإِذَا قَسَمَ الدَّنَانِيرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ قَالَ لَهُمْ: الْحَقُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ. فَيَتِمُّ بِهِ الْوَفَاءُ لِمَا شُرِطَ لَهُمْ فِي الصُّلْحِ. 818 - وَإِذَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْحِصْنَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إنِّي كُنْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 صَالَحْت الْقَوْمَ قَبْلَ فَتْحِ الْحِصْنِ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ دِينَارٍ. وَصَدَّقَهُ أَهْلُ الْحِصْنِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَدِّقَهُ صَدَّقَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِمَأْمَنِهِمْ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُكَذِّبَهُ كَذَّبَهُ وَلَمْ يَعْرِضْ لِلدَّنَانِيرِ وَجَعَلَهُمْ فَيْئًا. لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ. فَيَنْظُرُ مَا يَكُون أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَعْمَلُ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَأَى النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ، كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. فَهَذَا مِثْلُهُ. إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ رِجَالَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَتْ بِإِخْبَارِ الرَّجُلِ أَنَّهُ آمَنَهُمْ. 819 - وَإِنْ كَانَ حِينَ أَخْبَرَ الرَّجُلُ بِهَذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ فِي حِصْنِهِمْ فَهُمْ آمِنُونَ، وَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ. كَمَا بَيَّنَّا إذَا أَنْشَأَ لَهُمْ الْأَمَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. فَإِنَّ الْإِخْبَارَ بِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 [بَابُ مَا يَكُونُ أَمَانًا وَمَا لَا يَكُونُ عَلَى شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ] ُ 820 - وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمَحْصُورِينَ: آمِنُونِي حَتَّى أَنْزِلَ إلَيْكُمْ عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ السَّبْيِ فِي مَوْضِعٍ. فَآمَنُوهُ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا نَزَلَ أَتَى بِهِمْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَإِذَا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَقَالَ: قَدْ كَانُوا هَا هُنَا، فَذَهَبُوا، وَلَا أَدْرَى أَيْنَ ذَهَبُوا. (ص 176) فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى مَأْمَنِهِ إنْ لَمْ يَفْتَحُوا الْحِصْنَ. فَإِنْ افْتَتَحُوا الْحِصْنَ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُبْلِغُوهُ مَأْمَنَهُ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهُ حَصَّلَ أَمْنًا فِي الْمُعَسْكَرِ. فَإِنَّ الْأَمَانَ شَرْطٌ يَثْبُتُ بِوُجُودِ الْقَبُولِ وَلَا يَتَأَخَّرُ إلَى أَدَاءِ الْمَقْبُولِ. بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ بِجُعْلٍ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَبِلَ كَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا. وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ. 821 - فَهَاهُنَا الْأَمَانُ يَثْبُتُ لَهُ أَيْضًا إذَا نَزَلَ عَنْ مَنَعَتِهِ. عَلَى أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 يَدُلَّ. فَسَوَاءٌ وَفَّى بِمَا قَالَ أَوْ لَمْ يَفِ كَانَ هُوَ فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُبْلِغُوهُ مَأْمَنَهُ. فَإِنْ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إنَّمَا آمَنَّاهُ عَلَى أَنْ يَدُلَّنَا وَلَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ، قِيلَ لَهُمْ: إنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَكُمْ إنِّي إنْ لَمْ أَدُلَّكُمْ فَلَا أَمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْ مُحَمَّدٍ. - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا. وَقَدْ حَكَاهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8] أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ إنْ لَمْ تَشْهَدْ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] . وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إذَا أَتَتْ بِالْفَاحِشَةِ وَلَمْ تُحْصَنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ الْعَذَابُ. وَهَذَا لِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ كَمَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} [الأحزاب: 50] ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ عَلَى حُرْمَةِ اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ مَعَهُ وَقَالَ: تَعَالَى {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الظُّلْمِ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: آمَنَّاك عَلَى أَنْ تَدُلَّنَا لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا أَمَانَ لَك إنْ لَمْ تَدُلَّنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يُعَارِضُ الْمَنْصُوصَ وَلَا يَدْفَعُ حُكْمَهُ، إلَّا أَنْ يَنُصَّ فَيَقُولُ: عَلَى أَنَّى إنْ لَمْ أَدُلَّكُمْ عَلَيْهِمْ فَلَا أَمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. فَحِينَئِذٍ هَذَا نَصٌّ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِذَلِكَ النَّصِّ. وَفِي النَّبْذِ حِلُّ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 بِالشَّرْطِ، فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ، وَلِلْإِمَامِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ فَيْئًا. وَنَظِيرُ هَذَا مَا لَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ إلَى شَهْرٍ لَمْ يَبْرَأْ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ نَفْسَ الْخَصْمِ إلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنَّى بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ بَعْدَ شَهْرٍ كَانَ عَلَى مَا قَالَ. 822 - وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَسِيرًا فِي أَيْدِينَا وَقَالَ: تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، ثُمَّ لَمْ يَدُلَّهُمْ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ. لِأَنَّهُ صَارَ مَقْهُورًا فِي أَيْدِينَا، وَحَلَّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ وَاسْتِرْقَاقُهُ. وَإِنَّمَا عَلَّقَ عَلَى إزَالَةِ ذَلِكَ عَنْهُ بِالدَّلَالَةِ وَلَمْ يَفْعَلْ. فَفِي الْأَوَّلِ كَانَ فِي مَنَعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْصُورًا فَإِنَّمَا نَزَلَ عَلَى أَمَانٍ فَأَخَذَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْتَزَمَ لَهُمْ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ دَلَالَةً فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا الْتَزَمَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ. فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذَا الِالْتِزَامِ فِي الْوَجْهَيْنِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْأَسِيرَ، قَبْلَ هَذَا الِالْتِزَامِ، كَانَ مُبَاحَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فِي أَيْدِينَا، فَيَعُودُ كَمَا كَانَ. وَالْمَحْصُورُ قَبْلَ هَذَا الِالْتِزَامِ كَانَ فِي مَنَعَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا الْتَزَمَ وَجَبَتْ إعَادَتُهُ إلَى مَنَعَتِهِ كَمَا كَانَ. 823 - وَإِنْ كَانَ الْمَحْصُورُ قَالَ: إنِّي إنْ لَمْ أَدُلَّكُمْ كُنْت لَكُمْ فَيْئًا. أَوْ قَالَ: رَقِيقًا، وَلَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ. فَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ. لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ كَانَ آمِنًا مِنْ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ (ص 167) وَإِنْ لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ. فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ دَلِيلٌ مُعَارِضٌ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِي رَفْعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 حُكْمِهِ. وَإِنَّمَا يَعْمَلُ الْمُعَارِضُ حَسَبَ الدَّلِيلِ. وَلِأَنَّهُ شَرَطَ إزَالَةِ ذَلِكَ الْأَمَانِ فِي حُكْمِ الِاسْتِرْقَاقِ خَاصَّةً دُونَ الْقَتْلِ، وَفِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةٌ، فَيَجِبُ مُرَاعَاتُهَا. 824 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنِّي إنْ لَمْ أَفِ كُنْت ذِمَّةً لَكُمْ. فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَإِذَا لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ فَهُوَ ذِمَّةٌ لَا يَقْتُلُونَهُ وَلَا يَسْتَرِقُّونَهُ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالشَّرْطِ وَاجِبٌ. 825 - وَلَوْ قَالَ آمِنُونَا حَتَّى يُفْتَحَ لَكُمْ الْحِصْنُ فَتَدْخُلُونَ، عَلَى أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْنَا الْإِسْلَامَ فَنُسْلِمَ. ثُمَّ أَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوا، فَهُمْ آمِنُونَ. وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ حِصْنِهِمْ حَتَّى يَعُودُوا مُمْتَنِعِينَ كَمَا كَانُوا، ثُمَّ يَنْبِذُونَ إلَيْهِمْ. لِأَنَّهُمْ اسْتَفَادُوا الْأَمَانَ بِقَبُولِ الشَّرْطِ قَبْلَ الْوَفَاءِ بِهِ. ثُمَّ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْأَمَانِ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْوَفَاءِ بِمَا وُعِدُوا، وَبِحُكْمِ الْأَمَانِ يَجِبُ إعَادَتُهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ، ثُمَّ النَّبْذُ إلَيْهِمْ. 826 - فَإِنْ شَرَطَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ إنْ أَبَيْتُمْ الْإِسْلَامَ فَلَا أَمَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا. فَلَا بَأْسَ بِاسْتِرْقَاقِهِمْ، وَقَتْلِ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ إذَا أَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوا. لِأَنَّ الشَّرْطَ هَكَذَا كَانَ، وَفِيمَا يَجْرِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الْوَاجِبُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ فَقَطْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنَيْ أَبِي الْحَقِيقِ حَيْثُ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ الذِّمَّةُ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا» . فَقَبِلُوا ذَلِكَ. ثُمَّ ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَاسْتَخَارَ قَتْلَهُمْ وَاسْتِرْقَاقَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا قِصَّةَ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ حِينَ رَجَعَ الْجَيْشُ ضَلَّ الطَّرِيقَ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَجَاءَ إلَى بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سِرًّا وَكَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ. فَأَتَى عُثْمَانُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأَلَ لَهُ الْأَمَانَ. فَقَالَ: قَدْ آمَنَّاهُ عَلَى أَنَّا إنْ أَدْرَكْنَاهُ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُطْلُبُوهُ، فَإِنَّى أَرْجُو أَنْ تَجِدُوهُ. فَوَجَدُوهُ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، قَدْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّوْمَ. فَأُخِذَ فَقُتِلَ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْأَمَانِ مُعْتَبَرٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى النَّبْذِ وَإِبَاحَةِ الْقَتْلِ. 827 - وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ وَأَبَى الْبَعْضُ كَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَبَى الْإِسْلَامَ فَهُوَ فَيْءٌ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. وَهَذَا لِأَنَّ الْجَمِيعَ الْمُضَافَ إلَى جَمَاعَةٍ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرَطْنَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: إنَّك إنْ أَبَيْت الْإِسْلَامَ فَلَا أَمَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك. 828 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْمَحْصُورِينَ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى أَنْ أَنْزِلَ إلَيْكُمْ فَأُسْلِمَ. ثُمَّ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ يُرَدُّ إلَى حِصْنِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 لِأَنَّهُ آمِنٌ عِنْدَنَا، وَفِي مِثْلِ حَالِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] 829 - وَإِنْ شَرَطُوا عَلَيْهِ: إنَّك إنْ أَبَيْت الْإِسْلَامَ فَلَا أَمَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك، ثُمَّ أَبَى الْإِسْلَامَ. فَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الشَّرْطَ هَكَذَا جَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. 830 - فَإِنْ جَعَلَهُ الْإِمَامُ فَيْئًا بَعْدَ مَا عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَبَى، ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يَقْبَلْهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُهُ فَيْئًا. لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الْأَمَانِ انْتَهَى حِينَ أَبَى الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا عَرَضَ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى هُوَ أَسِيرًا فِي أَيْدِينَا. 831 - فَإِذَا أَسْلَمَ لَمْ يُقْتَلْ وَكَانَ فَيْئًا، وَهَذَا إذَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فَيْءٌ بَعْدَ مَا أَبَى الْإِسْلَامَ. 832 - فَإِنْ جَعَلَ الْإِمَامُ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَأْبَى إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ (ص 178) بِأَنَّهُ فَيْءٌ حِينَ أَسْلَمَ فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ شَرْطَ انْتِبَاذِ الْأَمَانِ قَدْ تَحَقَّقَ بِإِبَائِهِ الْإِسْلَامَ. وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ يَثْبُتُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَبِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إذَا عُلِّقَ بِالشَّرْطِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ. لِأَنَّ الْإِبَاءَ مُتَرَدِّدٌ مُحْتَمَلٌ فِيهِ يَكُونُ لِكَرَاهَةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ إبَاءٌ حَقِيقَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّأَمُّلِ فِيهِ إلَى أَنْ تَزُولَ الشُّبْهَةُ عَنْ قَلْبِهِ فَلَا تُعَيَّنُ جِهَةُ الْإِبَاءِ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِنَا فَإِنَّ الْفُرْقَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إبَاءِ الْآخَرِ الْإِسْلَامَ. ثُمَّ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ النُّكُولُ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ شَرْعًا، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي. 833 - وَلَوْ لَمْ يَأْبَ الْإِسْلَامَ وَلَكِنْ قَالَ: دَعُونِي حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُؤَجِّلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ التَّأَمُّلَ وَإِزَالَةَ الشُّبْهَةِ يَحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ، فَإِذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ الْإِمَامِ أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَإِنَّهَا مُدَّةٌ تَامَّةٌ لِلنَّظَرِ بِدَلِيلِ خِيَارِ الشَّرْطِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْمُرْتَدُّ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَمْهَلَ النَّظَرَ فِي أَمْرِهِ أَمْهَلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَرَدَ بِهِ حَدِيثٌ عَنْ عُمَرَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ - يَعْنِي: أَمْرٌ حَادِثٌ وَخَبَرٌ غَرِيبٌ - فَقَالَ: نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ. فَقَالَ: مَاذَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ فَقَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ. قَالَ: فَهَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ بَيْتًا ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَأَسْقَيْتُمُوهُ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ أَمْرَ اللَّهِ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 وَبِظَاهِرِهِ يَأْخُذُ الشَّافِعِيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَيَقُولُ: يَجِبُ تَأْجِيلُهُ شَرْعًا، طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْهُ. فَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ اسْتَمْهَلَهُمْ فَأَبَوْا، فَلِهَذَا أَنْكَرَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَإِذَا كَانَ الْمُرْتَدُّ الَّذِي وَقَفَ عَلَى مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ يُؤَجَّلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَذَا الَّذِي لَمْ يَقِفْ عَلَيْهَا أَصْلًا أَحْرَى أَنْ يُؤَجَّلَ. 834 - فَإِنْ سَكَتَ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يُجِبْ بِقَبُولٍ أَوْ بِرَدٍّ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُخْبِرُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُجِبْهُ حَكَمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَيْءٌ. وَهَذَا لِأَنَّ سُكُوتَهُ إبَاءٌ مِنْهُ لِلْإِسْلَامِ. إلَّا أَنَّهُ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَيُكَرِّرُ عَلَيْهِ الْعَرْضَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ، وَيُخْبِرُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْذَارِ. فَإِنْ أَبَى حَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فَيْءٌ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَصْمِ إذَا سَكَتَ عَنْ الْجَوَابِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي جَعَلَهُ مُنْكِرًا، وَإِذَا سَكَتَ عَنْ الْيَمِينِ بَعْدَ مَا طُلِبَ مِنْهُ جَعَلَهُ نَاكِلًا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثًا وَأَخْبَرَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَحْلِفْ، ثُمَّ يَحْكُمُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ. 835 - وَلَوْ كَانَ قَالَ حِينَ أَرَادَ النُّزُولَ: آمِنُونِي عَلَى أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيَّ الْإِسْلَامَ. فَإِنْ أَسْلَمْت فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَإِلَّا فَلَا أَمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. ثُمَّ عَرَضُوا عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَلَهُ مُهْلَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا مِنْ حِينِ عَرَضُوا عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ. لِأَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ. فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ يُسْلِمُ بَعْدَ مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وَاسْتَمْهَلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَعَرَفْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ سَاعَةِ الْعَرْضِ. وَذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْإِيَامِ وَاللَّيَالِي بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ. 836 - فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ كَانَ فَيْئًا، وَلَا حَاجَةَ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ. لِأَنَّ الشَّرْطَ هَكَذَا جَرَى. فَاشْتِرَاطُ الْحُكْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ التَّأَمُّلُ مِنْ الْإِبَاءِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالْمُدَّةِ هُنَا. ثُمَّ التَّوْقِيتُ نَصًّا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِمَا بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ حُكْمُ مَا قَبْلَهُ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ. 837 - وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ: وَإِلَّا فَلَا أَمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. (ص 179) . لِأَنَّ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ شَرَطَهُ لِلتَّرَوِّي وَالنَّظَرِ لَا لِلْأَمَانِ. فَبَعْدَ مُضِيِّهَا يَتَحَقَّقُ الْإِبَاءُ. وَلَكِنَّهُ أَمِنَ حِينَ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ نَبْذُ الْأَمَانِ بَعْدَ الْإِبَاءِ، فَيَجِبُ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ مِنْ حِصْنِهِ. 838 - وَإِنْ كَانُوا قَدْ افْتَتَحُوا حِصْنَهُ، بَلَّغُوا أَدْنَى مَأْمَنٍ لَهُ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ. ثُمَّ حَلَّ قِتَالُهُ. 839 - وَإِنْ كَانَ قَالَ: فَإِنْ أَسْلَمْت فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وَإِلَّا كُنْت عَبْدًا لَكُمْ. فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ كَانَ فَيْئًا يُقَسَّمُ مَعَ الْغَنِيمَةِ وَلَا يُقْتَلُ. لِأَنَّ الشَّرْطَ هَكَذَا كَانَ. 840 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَإِلَّا كُنْت ذِمَّةً لَكُمْ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْحِصْنِ، ثُمَّ مَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا، فَهُمْ ذِمَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. كَمَا الْتَزَمُوهُ بِالشَّرْطِ. 841 - وَلَوْ قَالَ الْمَحْصُورُ لِلْمُسْلِمِينَ: تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَنْ أَنْزِلَ إلَيْكُمْ فَأَدُلَّكُمْ عَلَى قَرْيَةٍ فِيهَا مِائَةُ رَأْسٍ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إنْ دَلَلْتنَا عَلَى قَرْيَةٍ فِيهَا مِائَةُ رَأْسٍ فَأَنْتَ آمِنٌ، وَرَضِيَ بِذَلِكَ وَنَزَلَ. ثُمَّ جَاءَ بِهِمْ إلَى قَرْيَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا. فَقَالَ: قَدْ كَانُوا هُنَا وَذَهَبُوا. فَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: رُدُّونِي إلَى مَأْمَنِي بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَّقُوا الْأَمَانَ لَهُ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَفِي الْأَوَّلِ أَوْجَبُوا لَهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَدُلَّ، وَقَدْ قَبِلَ ذَلِكَ. فَيَكُونُ آمِنًا دَلَّ أَوْ لَمْ يَدُلَّ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ. فَقَبِلَ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ. فَقَبِلَ فَهُوَ حُرٌّ، أَدَّى أَوْ لَمْ يُؤَدِّ. فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا لَهُ: إنْ نَزَلْت وَأَسْلَمْت فَأَنْتَ آمِنٌ ثُمَّ نَزَلَ وَلَمْ يُسْلِمْ فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فَأَسْلَمْت مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ، فَيَكُونُ شَرْطًا. وَإِنَّمَا عَلَّقُوا أَمَانَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ. فَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ. 843 - وَإِذَا قَالُوا: أَنْتَ آمِنٌ عَلَى أَنْ تَنْزِلَ فَتُسْلِمَ. فَهُوَ آمِنٌ بَعْدَ النُّزُولِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. فَيَجِبُ أَنْ تُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالُوا: أَنْتَ آمِنٌ عَلَى أَنْ تَنْزِلَ فَتُعْطِيَنَا مِائَةَ دِينَارٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ وَنَزَلَ، ثُمَّ أَبَى أَنْ يُعْطِيَ الدَّنَانِيرَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ آمِنًا. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالُوا: إنْ نَزَلْت فَأَعْطَيْتنَا مِائَةَ دِينَارٍ فَأَنْتَ آمِنٌ. لِأَنَّ هُنَا الْأَمَانَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ أَدَاءِ الدَّنَانِيرِ. وَفِي الْأَوَّلِ بِشَرْطِ أَدَاءِ الْقَبُولِ. 844 - فَإِذَا نَزَلَ وَقَبِلَ، كَانَ آمِنًا وَكَانَتْ الدَّنَانِيرُ عَلَيْهِ. - فَإِذَا أَبَى أَنْ يُعْطِيَهَا أَوْ قَالَ: لَيْسَتْ عِنْدِي، حُبِسَ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا وَلَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَجْلِ الْأَمَانِ الثَّابِتِ لَهُ. فَمَتَى مَا أَعْطَى الدَّنَانِيرَ وَجَبَ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِ، حَتَّى يَلْحَقَ بِمَأْمَنِهِ. - وَإِنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ الْإِمَامُ مَعَ نَفْسِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَعْطَاهَا يُخَلِّي سَبِيلَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 لِأَنَّهُ فِي أَمَانٍ، وَقَدْ كَانَ مَحْبُوسًا فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَضَى الدَّيْنَ لَمْ يَبْقَ لَنَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ. 846 - وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ فِي دَارِنَا وَلَمْ يُعْطِ الدَّنَانِيرَ جَعَلَهُ الْإِمَامُ ذِمَّةً. لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إطَالَةِ الْمُقَامِ فِي دَارِنَا بِدُونِ صَغَارِ الْجِزْيَةِ، وَلِأَنَّهُ اُحْتُبِسَ عِنْدَنَا إلَى أَدَاءِ الدَّنَانِيرِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَنْهُ أَوْ عَاجِزٌ عَنْ الْأَدَاءِ. وَالْكَافِرُ إذَا اُحْتُبِسَ فِي دَارِنَا تُضْرَبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ. 847 - فَإِذَا جَعَلَهُ الْإِمَامُ ذِمَّةً أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ وَأَبْطَلَ عَنْهُ الدَّنَانِيرَ. لِأَنَّ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ كَانَ الْتَزَمَهَا عِوَضًا عَنْ أَمَانِ نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ قَدْ افْتَدَى بِهَا نَفْسَهُ لِيَلْحَقَ بِمَأْمَنِهِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمَانُ (ص 180) فَقَدْ اسْتَفَادَ ذَلِكَ بِأَقْوَى السَّبَبَيْنِ وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ أَوْ الْإِسْلَامِ. إنْ أَسْلَمَ فَيَسْقُطُ عَنْهُ أَدَاؤُهَا، بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى، أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ، يَسْقُطُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَدَائِهَا. وَإِنْ كَانَ فِدَاءً فَقَدْ انْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ يَفْدِي بِهَا نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا فَقَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا مَمْنُوعًا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ أَعْطَى الدَّنَانِيرَ كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْدِي بِهَا نَفْسَهُ لِيَلْحَقَ بِمَأْمَنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ الْمَالُ عَلَيْهِ عِوَضًا عَنْ رَقَبَتِهِ، حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ بِسَلَامَةِ رَقَبَتِهِ لَهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَبْدًا لِلْمُسْلِمِينَ قَطُّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَالُ عِوَضًا عَنْ رَقَبَتِهِ إذَا كَانَ عَبْدًا فِي وَقْتٍ، فَعَتَقَ بِذَلِكَ الْمَالِ. 848 - وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ، رَأْسًا، فَعَلَيْهِ رَأْسٌ وَسَطٌ أَوْ قِيمَتُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ. لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ بِطَرِيقِ الْفِدَاءِ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مَالٍ. وَالرَّأْسُ الْمُطْلَقُ فِي مِثْلِهِ يَثْبُتُ مُقَيَّدًا بِالْوَسَطِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالْعَيْنِ، كَمَا فِي بَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ. 849 - فَإِذَا أَعْطَى مَا الْتَزَمَ وَلَمْ يُفْتَحْ حِصْنُهُ بَعْدُ، فَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. وَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ. لِأَنَّا عَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ الْحِصْنِ وَفَدَى نَفْسَهُ بِالْمَالِ لَا لِيَعُودَ إلَى الْحِصْنِ بَلْ لِيَأْمَنَ مِمَّا كَانَ خَائِفًا مِنْهُ فِي الْحِصْنِ. وَإِنَّمَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الذَّهَابِ إلَى حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 فَإِذَا بَلَغَ مَأْمَنَهُ مِنْهَا حَلَّ قِتَالُهُ. لِأَنَّ مَقْصُودَهُ قَدْ تَمَّ حِينَ وَصَلَ إلَى مَنَعَةٍ أُخْرَى، فَيَنْتَهِي الْأَمَانُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ آمِنٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَذَا كَذَا شَهْرًا. فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ لَهُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ. لِأَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ الْأَمَانَ مُنْتَهِيًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَأْمَنِهِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ خَائِفًا مَحْصُورًا، وَإِنَّمَا قَصَدَ إزَالَةَ ذَلِكَ الْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ دَلَالَةِ الْحَالِ إذَا جَاءَ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهَا. 851 - وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ، ثُمَّ اخْتَارَ الرُّجُوعَ إلَى حِصْنِهِ، فَرَجَعَ حَتَّى صَارَ فِيهِ مُمْتَنِعًا، فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى مَنَعَتِهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِانْتِهَاءِ الْأَمَانِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ أَنَّهُ آمِنٌ كَذَا كَذَا شَهْرًا. أَوْ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْمُسْلِمُونَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَحِينَئِذٍ هُوَ آمِنٌ وَإِنْ دَخَلَ الْحِصْنَ لِبَقَاءِ مُدَّةِ الْأَمَانِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ الْتَحَقَ بِمَنَعَةٍ أُخْرَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْحِصْنِ. خَلَّوْا سَبِيلَهُ لِبَقَاءِ مُدَّةِ الْأَمَانِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعَ إلَى الْحِصْنِ. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فَيْئًا. لِأَنَّهُ بِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ فِي مَأْمَنِهِ يَصِيرُ نَاقِضًا لِلْأَمَانِ الَّذِي كَانَ مِنَّا وَلَا حُكْمَ لِلْأَمَانِ بَعْدَ النَّقْضِ فِي حُرْمَةِ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ. 853 - وَإِنْ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: آمِنُونِي عَلَى أَنْ أَنْزِلَ إلَيْكُمْ فَأُعْطِيَكُمْ مِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ أُعْطِكُمْ فَلَا أَمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. أَوْ قَالَ: إنْ نَزَلْت إلَيْكُمْ فَأَعْطَيْتُكُمْ مِائَةَ دِينَارٍ فَأَنَا آمِنٌ. ثُمَّ نَزَلَ فَطَالَبُوهُ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ. فَهُوَ فَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ. لِوُجُودِ شَرْطِ انْتِبَاذِ الْأَمَانِ فِي أَحَدِ الْفَصْلَيْنِ، وَانْعِدَامِ شَرْطِ الْأَمَانِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي (ص 181) . وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ فَيْئًا حَتَّى يُرْفَعَ إلَى الْإِمَامِ فَيَأْمُرَهُ بِالْأَدَاءِ، وَإِنْ أَبَى حَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ الْأَدَاءِ لِمَا طُلِبَ مِنْهُ احْتِمَالُ الْمَعَانِي. فَلَا تَتَعَيَّنُ جِهَةُ الْإِبَاءِ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. أَرَأَيْت لَوْ قَالَ لَهُمْ: لَا أُعْطِيكُمْ وَإِنَّمَا أُعْطِي الْأَمِيرَ. أَوْ قَالَ: لَا أُعْطِيكُمْ إلَّا بِشُهُودٍ. أَكَانَ فَيْئًا بِهَذَا الِامْتِنَاعِ؟ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ فِي هَذَا قَبِيحٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وَلَوْ رَفَعُوهُ إلَى الْإِمَامِ فَقَالَ: هَاتِ الْمِائَةَ الدِّينَارِ: فَقَالَ: أَجِّلْنِي فِيهَا حَتَّى أَنْحَلَهَا لَهَا. فَلَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْقَدْرِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ، وَالْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ فِي كُلِّ جَانِبٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ إذَا اسْتَمْهَلَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمُدَّةِ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ. فَهَذَا الَّذِي يَفْدِي نَفْسَهُ بِالْمَالِ أَوْلَى بِأَنْ يُمْهِلَهُ وَلَا يُعَجِّلَهُ. 855 - وَإِنْ كَانَ قَالَ: تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَنْ أَنْزِلَ إلَيْكُمْ فَأُعْطِيَكُمْ رَأْسًا أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَنَزَلَ فَهُوَ آمِنٌ: وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ الْوَقْتُ. لِأَنَّهُ شَرَطَ هَذِهِ الْمُدَّةَ مُهْلَةً لِنَفْسِهِ. فَلَا يُحْبَسُ قَبْلَ مُضِيِّهَا، كَمَا لَا يُحْبَسُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ. 856 - فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ فَهُوَ آمِنٌ لِقَبُولِهِ وَلَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا الْتَزَمَ بِهِ، إلَّا أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يَصِيرَ ذِمَّةً، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْمَالُ عَنْهُ. لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وَلَوْ قَالَ: تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَنْ أُعْطِيَكُمْ مِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَجَلِ كَذَا. فَإِنْ لَمْ أُعْطِكُمْ فَلَا أَمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. أَوْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتُكُمْ إلَى أَجَلِ كَذَا فَأَنَا آمِنٌ. ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِمْ حَتَّى مَضَى الْأَجَلُ. فَهُوَ فَيْءٌ، وَلَا حَاجَةَ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي هَا هُنَا. لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ الْوَقْتِ لِنَفْسِهِ، فَلَا يُزَادُ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ، وَلَوْ شَرَطْنَا قَضَاءَ الْقَاضِي بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْوَقْتِ. وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ فِي مَعْنَى النَّسْخِ. 858 - وَلَوْ كَانَ قَالَ: تُؤَمِّنُونِي عَلَى أَنْ أَنْزِلَ فَأَدُلَّكُمْ عَلَى قَرْيَةٍ فِيهَا مِائَةُ رَأْسٍ، عَلَى أَنِّي إنْ لَمْ أَدُلَّكُمْ فَلَا أَمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. ثُمَّ نَزَلَ فَدَلَّهُمْ عَلَى قَرْيَةٍ فِيهَا مِائَةُ رَأْسٍ قَدْ أَصَابَهَا الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ هَذَا الْأَمَانِ أَوْ بَعْدَهُ، قَبْلَ نُزُولِهِ أَوْ بَعْدَ نُزُولِهِ، قَبْلَ أَنْ يَدُلَّهُمْ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِدَلَالَةٍ. فَإِنْ دَلَّهُمْ عَلَى غَيْرِهَا وَإِلَّا كَانَ فَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا قَبْلَ دَلَالَتِهِ وَلَمْ يُصِيبُوهَا. لِأَنَّهُ الْتَزَمَ دَلَالَةً فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا دَلَّ عَلَى مَا كَانَ مَعْلُومًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ التَّوَصُّلُ إلَى الْمَقْصُودِ بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ، وَوُصُولُ الْمُسْلِمِينَ إلَى هَذِهِ الْقَرْيَةِ لَمْ يَكُنْ بِدَلَالَتِهِ حِينَ عَلِمُوا بِمَا قَبْلَ دَلَالَتِهِ، أَصَابُوهَا أَوْ لَمْ يُصِيبُوهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ كَانَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِهِ لَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا لِلْجَزَاءِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ. 859 - وَلَوْ كَانُوا خَرَجُوا مَعَهُ فَدَلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَعَلُوا يَسِيرُونَ أَمَامَهُ حَتَّى عَرَفُوا مَكَانَهَا قَبْل أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْهَا فَيَدُلَّهُمْ عَلَيْهَا. فَهَذِهِ دَلَالَةٌ، وَهُوَ آمِنٌ لَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذُوا فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ بِدَلَالَتِهِ. وَإِنَّمَا عَلِمُوا بِهَا حِينَ أَخَذُوا فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى أَصْلِ السَّبَبِ وَهُوَ دَلَالَتُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ دَلَالَةَ الْمُحْرِمِ عَلَى الصَّيْدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَحَقَّقُ حَتَّى يَلْزَمَهُ جَزَاءُ الصَّيْدِ. 860 - وَكَذَلِكَ لَوْ وَصَفَ لَهُمْ مَكَانَهَا وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمْ فَذَهَبُوا بِصِفَتِهِ حَتَّى أَصَابُوهَا فَهُوَ آمِنٌ. لِأَنَّ الدَّلَالَةَ هَكَذَا تَكُونُ. فَإِنَّ (ص 182) مَنْ يَدُلُّ غَيْرَهُ عَلَى طَرِيقٍ قَدْ يَذْهَبُ مَعَهُ وَقَدْ لَا يَذْهَبُ، وَلَكِنْ يَصِفُ الطَّرِيقَ لَهُ فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِدَلَالَتِهِ، وَيُسَمَّى دَالًّا عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى بِطْرِيقٍ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ فَلَا أَمَانَ لِي عَلَيْكُمْ. فَلَمَّا نَزَلَ وَجَدَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَصَابُوا بِطْرِيقًا فَقَالَ: هَذَا الَّذِي أَرَدْت أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَيْهِ. فَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ. لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الدَّلَالَةَ عَلَى بِطْرِيقٍ مُنْكَرٍ، حَتَّى يَنْتَفِعَ الْمُسْلِمُونَ بِدَلَالَتِهِ. وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ. 862 - وَإِنْ كَانَ قَالَ: عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى بِطْرِيقِ الْحِصْنِ فَإِنَّهُ قَدْ نَزَلَ هَارِبًا مِنْ الْحِصْنِ، ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ وَجَدَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَصَابُوا ذَلِكَ الْبِطْرِيقَ، فَهُوَ آمِنٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الدَّلَالَةَ عَلَى مُعَرَّفٍ مَعْلُومٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِنَسَبِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ. وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْمُعَيَّنِ لَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُعْتَبَرُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ، فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ شَابًّا، فَكَلَّمَ شَيْخًا كَانَ شَابًّا وَقْتَ يَمِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَحُصُولُ الْعِلْمِ لِلْمُسْلِمِينَ بِدَلَالَتِهِ أَوْ انْتِفَاعِهِمْ بِدَلَالَتِهِ وَصْفٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَشْرُوطِ. فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، فَأَمَّا فِي الْمُعَيَّنِ فَلَا يُعْتَبَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. 863 - وَعَلَى هَذَا لَوْ الْتَزَمَ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا لَا تُعْتَبَرُ دَلَالَتُهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ بِهَا، وَفِي الْمُعَيَّنِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ. ثُمَّ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَوْ دَلَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ فِي دَخْلَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 دَخَلُوهَا أَرْضَ الْحَرْبِ قَبْلَ هَذِهِ الدَّخْلَةِ إلَّا أَنَّ مَوْضِعَهَا أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَهُوَ آمِنٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُمْ تَوَصَّلُوا إلَيْهَا بِدَلَالَتِهِ لَا بِمَا كَانَ سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِمْ بِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ فِي مِثْلِ هَذَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى الصَّيْدِ مُلْتَزِمًا لِلْجَزَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَلَالَةٌ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وُجِدَ، فَإِنَّهُمْ انْتَفَعُوا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ فَأَمَّا عَمَلُهُمْ الَّذِي سَبَقَ فَمَا كَانَ يُوَصِّلُهُمْ إلَى هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ أَوْ بَعْدَ مَا نَسَوْهَا. فَيَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 [بَابُ مَنْ يَكُونُ آمِنًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَمِّنَهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ] ِ وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ كِتَابِيَّةً وَأَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ حُرَّةٌ. لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّكَاحَ أَمَانٌ مِنْهُ لَهَا، فَإِنَّ أَمَانَ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ، أَسِيرًا كَانَ أَوْ تَاجِرًا أَوْ رَجُلًا أَسْلَمَ مِنْهُمْ. وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ مَعَهُ مَجِيءَ الْمُسْتَأْمَنَاتِ. فَإِنَّهَا جَاءَتْ لِلْمَقَامِ فِي دَارِنَا مَعَ زَوْجِهَا، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُسْتَأْمَنَةِ. فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ، لِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ. 865 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَةَ فِي دَارِنَا تَزَوَّجَتْ الْمُسْلِمَ صَارَتْ ذِمِّيَّةً فَكَذَلِكَ إذَا بَقِيَتْ فِي دَارِنَا بِنِكَاحِ مُسْلِمٍ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ فِي الْمَقَامِ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَتَصِيرُ هِيَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا تَبَعًا. 866 - وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: قَهَرْتهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَخْرَجْتهَا قَهْرًا. وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: بَلْ خَرَجْت عَلَى النِّكَاحِ وَلَمْ يَقْهَرْنِي. فَهَذَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ. فَإِنْ جَاءَ بِهَا مَرْبُوطَةً فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلزَّوْجِ. فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَهِيَ لَهُ أَمَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وَإِنْ جَاءَتْ مَعَهُ غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهَا فَتَكُونُ حُرَّةً ذِمِّيَّةً، إلَّا أَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ، لِإِقْرَارِهِ بِمَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ. وَهُوَ الْمِلْكُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ. فَإِنَّ إقْرَارَ الزَّوْجِ بِمَا يُنَافِي النِّكَاحَ يُبْطِلُهُ. كَمَا لَوْ زَعَمَ أَنَّ زَوْجَتَهُ قَدْ ارْتَدَّتْ وَأَنْكَرَتْ هِيَ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ قَهَرَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَتْ أَمَةً لَهُ. لِأَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ مِلْكِهِ رَقَبَتَهَا بِالْحُجَّةِ، وَهِيَ ذِمِّيَّةٌ فِي الظَّاهِرِ لِإِقْرَارِهَا أَنَّهَا فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (ص 183) وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ تُقْبَلُ. 867 - ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كُرِهَ لَهُ مَا صَنَعَ، وَأُمِرَ بِأَنْ يُعْتِقَهَا وَيُخَلِّيَ سَبِيلَهَا. لِأَنَّهُ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَقَدْ ضَمِنَ أَنْ لَا يَغْدِرَ بِهِمْ، وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ بِمَا ضَمِنَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ غَدَرَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ خَاصَّةً دُونَ أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. 868 - وَإِنْ كَانَ أَسِيرًا فِيهِمْ أَوْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، لَمْ يُؤْمَرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ شَرْعًا مِنْ اسْتِرْقَاقِهِمْ وَأَخْذِ مَالِهِمْ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَزَوُّجَهُ إيَّاهَا لَا يَكُونُ أَمَانًا مِنْهُ لَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ثُمَّ لَا خُمُسَ فِيهَا. لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا عَلَى وَجْهِ التَّلَصُّصِ. وَلَا تُقْبَلُ عَلَى قَهْرِهِ إيَّاهَا شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ. لِأَنَّهَا ذِمِّيَّةٌ فِي الظَّاهِرِ، وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ. وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ بِالرِّقِّ عَلَى الذِّمِّيَّةِ لَا تُقْبَلُ. 869 - وَإِنْ قَالَتْ: مَا تَزَوَّجَنِي وَلَا قَهَرَنِي، وَلَكِنَّهُ آمَنَنِي فَخَرَجْت مَعَهُ. فَهِيَ حُرَّةٌ إنْ خَرَجَتْ طَائِعَةً لِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَلَا تَكُونُ زَوْجَةً لَهُ. لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهَا النِّكَاحَ وَهِيَ تُنْكِرُ. 870 - وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهَا إذَا ادَّعَتْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ أَرَادَتْ الرُّجُوعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَثْبُتْ حِينَ أَنْكَرَتْ. وَبِهِ تَصِيرُ ذِمِّيَّةً تَابِعَةً لِلرَّجُلِ. 871 - وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى أَنَّهُ قَهَرَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ. لِأَنَّهَا مُسْتَأْمَنَةٌ فِي الظَّاهِرِ وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنَةِ بِالرِّقِّ مَقْبُولَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 وَإِنْ أَخْرَجَهَا مَعَهُ مُقَيَّدَةً فَهِيَ أَمَةٌ لَهُ، وَلَا خُمْسَ فِيهَا. لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ صَنَعَ بِهَا هَذَا إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَنْكَرَتْ النِّكَاحَ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْأَمَانِ فِي دَارِنَا. فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَةَ مَنْ تَجِيءُ لِلْمَقَامِ فِي دَارِنَا. وَلَا نَعْلَمُ لِذَلِكَ سَبَبًا حِينَ أَنْكَرَتْ النِّكَاحَ فَكَانَتْ حَرْبِيَّةً لَا أَمَانَ لَهَا فِي دَارِنَا. وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دَخَلَ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذَهُ مُسْلِمٌ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ لِلْآخِذِ، وَفِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ رِوَايَتَانِ. 873 - وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ امْرَأَةً، أَخْرَجَهَا مَعَ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا اسْتَأْمَنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، فَهِيَ حُرَّةٌ. لِأَنَّهَا جَاءَتْ مَجِيءَ الْمُسْتَأْمَنَاتِ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوهَا حِينَ اسْتَأْمَنَ عَلَيْهَا. ثُمَّ تَكُونُ ذِمِّيَّةً مِنْ أَهْلِ دَارِنَا تَبَعًا لِزَوْجِهَا. بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا تَزَوَّجَتْ الْمُسْتَأْمَنَةُ ذِمِّيًّا فِي دَارِنَا، فَلَا تَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا فِي ذَلِكَ أَوْ طَلَّقَهَا فَالِاسْتِئْمَانُ عَلَيْهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنَّهَا إذَا خَرَجَتْ مَعَهُ طَائِعَةً فَهِيَ آمِنَةٌ. لِأَنَّهَا جَاءَتْ لِلْمَقَامِ مَعَ زَوْجِهَا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 فَإِنْ اسْتَأْمَنَ هَذَا الذِّمِّيُّ عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ فَهِيَ آمِنَةٌ أَيْضًا. لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوهَا. وَلِأَنَّهَا جَاءَتْ مَجِيءَ الْمُسْتَأْمَنَاتِ حِينَ اسْتَأْمَنَ عَلَيْهَا. وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مَتَى شَاءَتْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِأَبِيهَا أَوْ أَخِيهَا الذِّمِّيِّ فَإِنَّهَا بَالِغَةٌ. 875 - وَإِنْ أَخْرَجَهَا مَعَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَسْتَأْمِنْ لَهَا فَهِيَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. لِأَنَّهَا جَاءَتْ مَجِيءَ الْمُسْتَأْمَنَاتِ. فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لَهُ فِي الْمَقَامِ، وَلَمْ يَسْتَأْمِنْ لَهَا نَصًّا. 876 - وَإِنْ قَالَ الذِّمِّيُّ: قَدْ كُنْت قَهَرْتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَخْرَجْتهَا. وَكَذَّبَتْهُ، وَلَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ. لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ يُكَذِّبُهُ فِيمَا قَالَ. فَإِنَّهَا جَاءَتْ غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ مَعَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِيهَا حَقُّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَلَا يُصَدَّقُ الذِّمِّيُّ فِيهِ فِي إبْطَالِ ذَلِكَ. 877 - وَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شُهُودٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ أَمَةً لَهُ. لِأَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ الْمِلْكِ فِيهَا بِالْحُجَّةِ. وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 لِأَنَّهَا تَقُومُ (ص 184) عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ صَارَتْ هِيَ أَمَةً لَهُ فِي الظَّاهِرِ. 878 - وَإِنْ أَخْرَجَهَا مَغْلُولَةً قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ. 879 - وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ قَهَرَهَا إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَهُمَا هِيَ لَهُ. وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصَابَ الذِّمِّيُّ رِكَازًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لَهُ. 880 - وَلَوْ خَرَجَ عِلْجٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مَعَ مُسْلِمٍ إلَى الْمُعَسْكَرِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَخَذْتُهُ أَسِيرًا. قَالَ الْحَرْبِيُّ: جِئْت مُسْتَأْمَنًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَرْبِيِّ. لِأَنَّهُ جَاءَ مَجِيءَ الْمُسْتَأْمَنِينَ. وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لَهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْهُورٍ حِينَ جَاءَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَنْتَصِفُ مِنْ الْوَاحِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ وَحْدَهُ هَكَذَا كَانَ آمِنًا؟ فَكَذَلِكَ إذَا جَاءَ مَعَ مُسْلِمٍ. 881 - وَلَوْ كَانَ جَاءَ بِهِ وَهُوَ مَكْتُوفٌ أَوْ مَغْلُولٌ أَوْ فِي عُنُقِهِ حَبْلٌ يَقُودُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ. لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ تَشْهَدُ لَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي مِثْلِ هَذَا يُحْكَمُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَرْبِيُّ جَاءَ مَعَ عَدَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُخَلًّى عَنْهُ فَقَالُوا: هُوَ أَسِيرُنَا. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: جِئْت مُسْتَأْمَنًا مَعَهُمْ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ لِجَمَاعَتِهِمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِصَافِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْهُمْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْبُوطِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِائَةَ رَجُلٍ قَدْ أَحْدَقُوا بِهِ حَتَّى صَارَ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ أَسِيرٌ لَا مُسْتَأْمَنٌ، فَيَكُونُ فَيْئًا لِجَمِيعِ الْعَسْكَرِ. 883 - وَإِنْ شَهِدَ مُسْلِمَانِ أَنَّهُ جَاءَ مُسْتَأْمَنًا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ. لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. 884 - وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ شَاهِدَانِ وَلَكِنْ أَقَرَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ الْقَوْمِ أَنَّهُ جَاءَ مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْحُكْمِ، وَشَرِكَتُهُمْ فِيهِ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ فَلَا حُكْمَ لِإِقْرَارِ الْوَاحِدِ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَقَعَ فِي سَهْمِهِ بِالْقِسْمَةِ. 885 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ امْرَأَةٌ. فَقَالَ: لَيْسَتْ لِي بِزَوْجَةٍ، وَلَكِنِّي آمَنْتُهَا فَأَخْرَجْتهَا عَلَى الْأَمَانِ فَهِيَ فِي الْقِيَاسِ فَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 لِأَنَّ أَمَانَهُ إيَّاهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ، لِكَوْنِهِ مَقْهُورًا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَكَمَا حَصَلَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ صَارَتْ فَيْئًا مَأْخُوذَةً بِالدَّارِ، فَلَا يَعْمَلُ أَمَانُهُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هِيَ حُرَّةٌ مُسْتَأْمَنَةٌ، تَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مَتَى شَاءَتْ. لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مَعَهَا مُسْتَدِيمًا لِذَلِكَ الْأَمَانِ، صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْشِئِ لِلْأَمَانِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا إذَا حَصَلَتْ فِي دَارِنَا غَيْرَ آمِنَةٍ. وَهِيَ مَا حَصَلَتْ فِي دَارِنَا إلَّا آمِنَةً. فَأَدْنَى الدَّرَجَاتِ أَنْ يَقْتَرِنَ أَمَانُ الْمُسْلِمِ إيَّاهَا بِسَبَبِ ثُبُوتِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا. وَذَلِكَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّهِمْ فِيهَا. يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُمَا لَمَّا وَصَلَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَلَا أَهْلُ الْحَرْبِ، فَقَدْ خَرَجَا مِنْ مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَصَحَّ أَمَانُ الْمُسْلِمِ إيَّاهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهِيَ لَا تَصِيرُ مَأْخُوذَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ مَا لَمْ تَصِلْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَأْمَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ آمَنَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ هِيَ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ أَمَانَهُ إيَّاهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ. وَهُوَ لَيْسَ مَعَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الْأَمَانُ حَتَّى يُجْعَلَ كَالْمُنْشِئِ لِلْأَمَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. فَلِهَذَا كَانَتْ فَيْئًا. 886 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ آمَنَ جُنْدًا عَظِيمًا فَخَرَجُوا مَعَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَظَفِرَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 لِأَنَّ هَذَا الْمُسْلِمَ لَيْسَ مُمْتَنِعًا مِنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، بَلْ هُوَ مَقْهُورٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَنَعَتِهِمْ. فَيَكُونُ (ص 185) أَمَانُهُ لَهُمْ بَاطِلًا. أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْعَسْكَرَ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ بِأَمَانٍ ثُمَّ أَمَّنَهُمْ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؟ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْتَدِيمًا لِذَلِكَ الْأَمَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ آمَنَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَخَرَجَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مَقْهُورًا بِالْوَاحِدِ بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْهُ وَيَنْتَصِفُ فِي الظَّاهِرِ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ لَهُ، كَمَا لَوْ دَخَلَا دَارَ الْإِسْلَامِ. 887 - وَلَوْ كَانَ آمَنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِشْرِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ. ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُمْ آمِنُونَ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْشَأَ الْأَمَانَ لِهَذَا الْعَدَدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ أَيْضًا، بَلْ هُوَ مَقْهُورٌ بِهِمْ فِي الظَّاهِرِ. فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ أَمَانُهُ. قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ مَقْهُورٌ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ قَاهِرٌ مُمْتَنِعٌ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْقُوَّةُ لِلْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مُمْتَنِعِينَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَاهِرًا لَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا لَا مَقْهُورًا بِهِمْ. فَيَصِحُّ أَمَانُهُ لَهُمْ. بِخِلَافِ الْجُنْدِ، فَإِنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ بِشَوْكَتِهِمْ. فَيَكُونُ هُوَ مَقْهُورًا فِيهِمْ فِي دَارِنَا كَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ لَوْ دَخَلُوا دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ وَأَخَذَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ 888 - وَلَوْ أَنَّ جُنْدًا عَظِيمًا مِنْهُمْ دَخَلُوا دَارَنَا، فَقَاتَلَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَهَرُوهُمْ كَانُوا لَهُمْ خَاصَّةً. وَمَا كَانَ الْفَرْقُ إلَّا بِهَذَا. إنَّ الَّذِينَ لَهُمْ مَنَعَةٌ مَا صَارُوا مَقْهُورِينَ بِحُصُولِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ. ثُمَّ تَحَقَّقَ مَا قُلْنَا: إنَّهُمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُمْتَنِعِينَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ أَمَانُ الْوَاحِدِ الَّذِي جَاءَ مَعَهُمْ صَحِيحًا أَدَّى إلَى الْغُرُورِ؛ لِأَنَّهُمْ فَارَقُوا مَنَعَتَهُمْ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْأَمَانِ. وَفِي الْجُنْدِ لَا يُؤَدِّي إلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ مَا فَارَقُوا مَنَعَتَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَمَانِهِ بَلْ هُمْ مُمْتَنِعُونَ بِشَرِكَتِهِمْ فِي دَارِنَا، كَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَخْرَجَهُمْ هَذَا الْمُسْلِمُ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْعَسْكَرِ فَهُمْ آمِنُونَ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْعَسْكَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ. فَيَكُونُ قَاهِرًا لَا مَقْهُورًا إذَا وَصَلَ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كَانُوا بِحَيْثُ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْعَسْكَرِ لِكَثْرَتِهِمْ فَأَمَانُهُ لَهُمْ بَاطِلٌ وَإِنْ خَرَجَ مَعَهُمْ لِمَا بَيَّنَّا. 889 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حَاصَرُوا حِصْنًا وَفِيهِمْ مُسْلِمٌ فَآمَنَ قَوْمًا لَا مَنَعَةَ لَهُمْ وَأَخْرَجَهُمْ مَعَهُ إلَى الْعَسْكَرِ لَمْ يَكُونُوا آمَنِينَ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ الْمَحْصُورِينَ قَدْ صَارُوا مَقْهُورِينَ مِنْ وَجْهٍ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ الْمَأْسُورِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 فَلَا يَصِحُّ، أَمَانُ الْمُسْلِمِ لَهُمْ إذَا كَانَ فِيهِمْ، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا الْأَمَانُ لَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَهْرِهِمْ بِحَالٍ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَيْقَنُوا بِالْقَهْرِ أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ آمَنَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مَعَ كُلِّ نَفَرٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِمَا يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الِاسْتِرْقَاقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمَحْصُورِينَ سَابِقَةٌ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْمُسْلِمِ الْخَارِجِ مَعَهُمْ، فَلَا يَبْطُلُ - بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْقُوَّةِ - حُكْمُ الْيَدِ السَّابِقَةِ. بِخِلَافِ جَمِيعِ مَا سَبَقَ. 890 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيَّةً أَسْلَمَتْ وَزَوْجُهَا حَرْبِيٌّ، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ. لِأَنَّ يَدَ الْإِمَامِ لَا تَصِلُ إلَى الزَّوْجِ لِتَعْرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَتُجْعَلُ ثَلَاثُ حِيَضٍ قَائِمَةً مَقَامَ ثَلَاثِ عَرْضَاتٍ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا إذَا صَارَ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا، كَمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَبِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ يُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ لَهَا. 891 - فَإِنْ لَمْ تَحِضْ حَتَّى خَرَجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ الرَّجُلُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ (ص 186) . لِأَنَّهُ خَرَجَ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْمَانِ. وَلَكِنْ يَبْقَى النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ فِيمَا بَيْنَهُمَا. وَلَا يُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَالرَّجُلُ لَمَّا صَارَ عَبْدًا لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 ثُمَّ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ. لِأَنَّ الْحِيَضَ كَانَتْ خَلَفًا عَنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ، بِاعْتِبَارِ تَعَذُّرِ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَقَدْ زَالَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ. وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ الْخَلَفِ. فَلِهَذَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ. 893 - فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَبَى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. - وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ وَهِيَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ خَرَجَا إلَى دَارِنَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ شَيْئًا، فَهِيَ امْرَأَةٌ آمِنَةٌ حُرَّةٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا. لِأَنَّهَا جَاءَتْ مَجِيءَ الْمُسْتَأْمَنَاتِ. فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ فِي الْمَقَامِ، وَمَنْ جَاءَتْ لِلْمَقَامِ فِي دَارِنَا كَانَتْ مُسْتَأْمَنَةً. فَأَمَّا الرَّجُلُ فَلَيْسَ بِتَابِعٍ لِامْرَأَتِهِ فِي الْمَقَامِ، وَهُوَ إنَّمَا جَاءَ مُغْتَرًّا لَا مُسْتَأْمَنًا، إذَا لَمْ يَطْلُبْ الْأَمَانَ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عَلَامَةٌ لِذَلِكَ. 895 - ثُمَّ إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ ذِمِّيَّةٌ. لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا مُسْتَقِرٌّ، وَذَلِكَ يُلْزِمُهَا الْمُقَامَ فِي دَارِنَا مَعَ زَوْجِهَا. 896 - وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَالنِّكَاحُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَلَا تَصِيرُ ذِمِّيَّةً، وَلَكِنْ يُعْرَضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 لِأَنَّهَا مُسْتَأْمَنَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي " كِتَابِ الطَّلَاقِ " اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا، أَنَّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ، كَمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَيُّ الْأَمْرَيْنِ يَسْبِقُ إمَّا عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْمُصِرِّ مِنْهُمَا أَوْ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِهِ. وَعَلَيْهِ نَصَّ هَا هُنَا؛ لِأَنَّهُمَا تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ فِي الْحَقِيقَةِ. فَيَتَمَكَّنُ مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ. وَالْمُصِرُّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا، فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِمُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ. 897 - فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ وَلَكِنَّهَا تَحَوَّلَتْ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدْ تَقَرَّرَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً فِي الْأَصْلِ فَتَكُونُ ذِمِّيَّةً. وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ إسْلَامِ الزَّوْجِ وَإِسْلَامِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: 898 - الزَّوْجُ لَيْسَ مِنْ عِيَالِ امْرَأَتِهِ إذَا أَسْلَمَتْ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ عِيَالِ الزَّوْجِ إذَا أَسْلَمَ، فَتَكُونُ آمِنَةً إذَا خَرَجَتْ مَعَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ حَرْبِيًّا لَوْ اسْتَأْمَنَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَخْرَجَ مَعَهُ امْرَأَتَهُ كَانَتْ آمِنَةً؟ فَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ. 899 - وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ اسْتَأْمَنَتْ ثُمَّ أَخْرَجَتْ مَعَهَا زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ آمِنًا تَبَعًا لَهَا، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وَلَوْ كَانَتْ الَّتِي أَسْلَمَتْ آمَنَتْ زَوْجَهَا عَلَى أَنْ أَخْرَجَتْهُ إلَى دَارِنَا فَخَرَجَ مَعَهَا كَانَ آمِنًا. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِدَامَةَ ذَلِكَ الْأَمَانِ حِينَ حَصَلَا فِي دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ. 901 - فَإِنْ قَالَتْ هِيَ: آمَنْتُهُ وَأَخْرَجْته مَعِي. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: خَرَجَ مَعَك بِغَيْرِ أَمَانٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا. فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهَا، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ مَعَهَا مُصِرًّا عَلَى الْكُفْرِ إلَّا بِأَمَانِهَا. وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فِيهِ. 902 - وَلَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَحْصُورِينَ وَأَخْرَجَ مَعَهُ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ كَافِرَةٌ، كَانَتْ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْمَنَ وَهُوَ مَحْصُورٌ بِأَمَانٍ لَمْ تَتْبَعْهُ زَوْجَتُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ. وَكَذَلِكَ (ص 187) لَوْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَآمَنَتْ زَوْجَهَا فَخَرَجَ مَعَهَا. لِأَنَّ أَمَانَهَا إيَّاهُ فِي مَنْفَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ، وَهُوَ كَمَا لَا يَأْمَنُ تَبَعًا لَهَا فِي الْأَمَانِ. لَا يَأْمَنُ بِإِيمَانِهَا أَيْضًا. 903 - بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا فَاسْتَأْمَنَ إلَى عَسْكَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الْمُسْلِمِينَ أَوْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ تَتْبَعُهُ زَوْجَتُهُ وَالصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ وَالْكِبَارُ مِنْ الْإِنَاثِ. لِأَنَّ حُكْمَ الْقَهْرِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ هُنَاكَ. وَقَدْ يَتَنَاوَلُ الْمَحْصُورِينَ، فَيُؤَثِّرُ أَمَانُهُ وَإِيمَانُهُ فِي إزَالَةِ الْقَهْرِ عَنْهُ خَاصَّةً. 904 - وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَخْرَجَهَا مَعَ نَفْسِهِ، فَهِيَ حُرَّةٌ ذِمِّيَّةٌ. لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمِّيَّةِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ الْأَمَانِ. - وَلَوْ خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا مَعَ زَوْجَتِهِ كَانَتْ حُرَّةً آمِنَةً. - فَإِذَا خَرَجَ وَهُوَ ذِمِّيٌّ مَعَ زَوْجَتِهِ فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ آمِنَةً، ثُمَّ هِيَ تَابِعَةٌ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِي الْمُقَامِ، وَهُوَ الذِّمِّيُّ، فَتَصِيرُ ذِمِّيَّةً. 907 - وَلَوْ خَرَجَ الذِّمِّيُّ بِابْنَةٍ لَهُ كَبِيرَةٍ، أَوْ أُخْتٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، كَانَتْ فَيْئًا. إلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتَأْمَنَ عَلَيْهَا. لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لَهُ فِي الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَكُونُ خُرُوجُهَا مَعَهُ دَلِيلَ الِاسْتِئْمَانِ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَوْ أَخْرَجَ مَعَ نَفْسِهِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ كَانَتْ آمِنَةً مَعَهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الذِّمِّيِّ هَكَذَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 قُلْنَا: هُنَاكَ الزَّوْجَةُ الَّتِي هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ لَا تَصِيرُ مَمْنُوعَةً مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ نَفْسِهِ، وَيُمْكِنُ إثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ فِي الِابْنَةِ وَالْأُخْتِ أَيْضًا. وَبِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ هُوَ يَعُولُهُمَا كَمَا يَعُولُ زَوْجَتَهُ. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَتَصِيرُ زَوْجَتُهُ ذِمِّيَّةً مَمْنُوعَةً مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ الِابْنَةِ وَالْأُخْتِ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ فِي حَقِّ الِاحْتِبَاسِ فِي دَارِنَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِي التَّابِعِ حُكْمٌ آخَرُ سِوَى الثَّابِتِ فِيمَنْ هُوَ أَصْلٌ. 908 - وَلَوْ أَخْرَجَ الذِّمِّيُّ مَعَهُ امْرَأَةً وَقَالَ: هِيَ امْرَأَتِي، وَصَدَّقَتْهُ. كَانَتْ امْرَأَتُهُ حُرَّةً، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِمَا. لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَا يَجِدَانِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ شُهُودًا عَلَى نِكَاحٍ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُنَازِعُهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ مَعَهُ بِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَقَالَ: هُمْ عَبِيدِي وَإِمَائِي وَصَدَّقُوهُ. قُبِلَ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ. 909 - وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ ذَلِكَ إذَا صَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. - وَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ وَقَالَتْ: لَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَلَا قَرَابَةَ، كَانَتْ فَيْئًا. لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّبَعِيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ تَكْذِيبِهِمَا فَتَبْقَى حَرْبِيَّةً فِي دَارِنَا لَا أَمَانَ لَهَا فَكَانَتْ فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَقَالَ: هَذَا مَمْلُوكِي أَوْ هَذِهِ مَمْلُوكَتِي، وَقَالَ الْآخَرُ: لَيْسَ كَذَا، وَلَكِنَّهُ آمَنَنَا فَخَرَجْنَا مَعَهُ. فَفِي الْقِيَاسِ هُمَا فَيْءٌ. لِأَنَّ مَا ادَّعَى هُوَ مِنْ الْمِلْكِ قَدْ انْتَفَى بِتَكْذِيبِهِمَا، وَمَا ادَّعَيَا مِنْ الْأَمَانِ قَدْ انْتَفَى بِإِنْكَارِهِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُمَا حُرَّانِ مُسْتَأْمَنَانِ يَرْجِعَانِ إذَا أَحَبَّا. لِأَنَّهُمَا مَعَ الِاخْتِلَافِ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمَا. وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا، فَبَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْحُكْمِ لَا يُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي السَّبَبِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ فِي الصُّورَةِ، فَأَمَّا فِي الْمَعْنَى فَالسَّبَبُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَمَانُ الثَّابِتُ لَهُمَا تَبَعًا أَوْ مَقْصُودًا. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَرْضًا، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: هِيَ غَصْبٌ. فَإِنَّ الْمَالَ يَلْزَمُهُ لِهَذَا الْمَعْنَى. 912 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهَا ذِمِّيٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ مُسْتَأْمَنٌ وَقَالَ: هِيَ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: لَسْت بِزَوْجَةٍ لَهُ، وَلَكِنَّهُ آمَنَنِي فَأَخْرَجَنِي. كَانَتْ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَثْبُتْ لِإِنْكَارِهَا، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا خَرَجَتْ بِأَمَانِ الذِّمِّيِّ أَوْ الْحَرْبِيِّ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 وَلَوْ خَرَجَ حَرْبِيٌّ مَعَ مُسْلِمِينَ فَقَالَ: آمَنَنِي (ص 188) هَذَانِ. وَكَذَّبَاهُ، فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِمَا مَا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِي دَارِنَا لَا أَمَانَ لَهُ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِهِ. 914 - فَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ آمِنٌ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ أَحَبَّ. لِأَنَّ الْأَمَانَ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ جِهَةِ مَنْ صَدَّقَهُ بِتَصَادُقِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ. فَكَأَنَّهُ مَا ادَّعَى إلَّا عَلَى هَذَا، وَفِي أَمَانِ الْوَاحِدِ كِفَايَةٌ لَهُ. 915 - وَإِنْ قَالَ: آمَنَنِي هَذَا، وَكَذَّبَهُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا الَّذِي آمَنْته، وَكَذَّبَهُ الْحَرْبِيُّ، وَثَبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَقَالَتِهِ فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ الْأَمَانَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِنْ جِهَةِ مَنْ ادَّعَاهُ حِينَ كَذَّبَهُ، وَلَا مِنْ جِهَةِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ لِتَكْذِيبِ الْحَرْبِيِّ إيَّاهُ. فَكَانَ فَيْئًا. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ الْمُسْلِمُ: أَنَا آمَنْتُك، وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: أَبْطَلْت، بَلْ كَتَبَ إلَيَّ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ رَجُل بِالْأَمَانِ. لَمْ يُصَدَّقْ وَكَانَ فَيْئًا. 916 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: آمَنِّي فُلَانٌ الْمُسْلِمُ، وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 لِأَنَّ الْأَمَانَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ عَلَى الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِالْأَمَانِ. فَقَدْ كَذَّبَهُ الْحَرْبِيُّ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. فَهُنَاكَ الْأَمَانُ مِنْ جِهَةِ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي السَّبَبِ، وَهَهُنَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِيمَنْ كَانَ الْأَمَانُ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَعَ التَّكْذِيبِ. 917 - وَلَوْ كَانَ قَالَ بَعْدَ هَذَا الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالْأَمَانِ: صَدَقْت أَنْتَ آمَنْتَنِي، وَقَدْ غَلِطْتُ فِيمَا قُلْتُ. فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ قَدْ بَطَلَ بِالتَّكْذِيبِ، فَلَا يَعْمَلُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ ذَلِكَ. إذْ الْأَمَانُ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ وَالتَّصْدِيقِ بَعْدَ التَّكْذِيبِ، إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ كَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ آمِنٌ إذَا لَمْ يُصِرَّ عَلَى ذَلِكَ التَّكْذِيبِ. لِأَنَّ الْغَلَطَ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ يَقَعُ، فَإِنَّهُ مَا رَأَى مَنْ آمَنَهُ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ. وَبِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ قَلَّ مَا تَثْبُتُ مَعْرِفَتُهُ. فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْغَلَطُ وَجَبَ اعْتِبَارُ تَصْدِيقِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ الِاسْتِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ تَوَهُّمَ الْغَلَطِ. هُنَاكَ قَدْ انْتَفَى. وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ جَالِسَةٍ إلَى جَنْبِهِ: هِيَ أُخْتِي مِنْ الرَّضَاعَةِ ثُمَّ قَالَ: غَلِطْت، هِيَ امْرَأَتِي. . كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ الِاسْتِثْبَاتِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ غَلِطْت لَا يُصَدَّقُ. وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا. 918 - وَلَوْ قَالَ الْحَرْبِيُّ: مَا آمَنَنِي أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنِّي خَرَجْت بِغَيْرِ أَمَانٍ. بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ: أَنَا آمَنْتُك. ثُمَّ رَجَعَ إلَى تَصْدِيقِهِ، لَمْ يُصَدَّقْ، وَكَانَ فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا يُوهَمُ الْغَلَطُ، فَأَهَمُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى دَارِنَا هُوَ الْأَمَانُ. وَبَعْدَ مَا خَرَجَ بِأَمَانِ مُسْلِمٍ لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ أَصْلُ الْأَمَانِ. فَبَعْدَ إنْكَارِ أَصْلِ الْأَمَانِ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ لَهُ فِيمَنْ كَانَ أَمَانُهُ مِنْ جِهَتِهِ، فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ رُجُوعُهُ إلَى التَّصْدِيقِ وَيُعْذَرُ بِالْغَلَطِ فِي ذَلِكَ. 919 - وَلَوْ خَرَجَ إلَى دَارِنَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَشَهِدَ مُسْلِمَانِ بِأَنَّهُمَا خَرَجَا بِأَمَانِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ. وَهُمَا يَقُولَانِ كَذَبَا: مَا آمَنَنَا أَحَدٌ. فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَرْأَةُ آمِنَةٌ وَالرَّجُلُ فَيْءٌ. لِأَنَّهُمَا صَارَا رَقِيقَيْنِ فِي الظَّاهِرِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ الدَّعْوَى بِالِاتِّفَاقِ، وَعَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا، وَلَا يُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 920 - فَإِنْ كَانَا ادَّعَيَا، ذَلِكَ بَعْدَ الْإِنْكَارِ ثُمَّ شَهِدَ الْمُسْلِمَانِ بِهِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ. لِأَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ فِي الدَّعْوَى. وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ. 921 - وَإِنْ شَهِدَ لَهُمَا ذِمِّيَّانِ (ص 189) أَوْ مُسْتَأْمَنَانِ بِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ. لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 وَبَعْدَ شَهَادَةِ الْمُسْلِمَيْنِ لَوْ أَرَادَا الرُّجُوعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُمْنَعَا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ أَنَّهُمَا مُسْتَأْمَنَانِ. فَإِنْ قِيلَ: هُمَا قَدْ أَقَرَّا بِالرِّقِّ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَيْفَ يُتْرَكَانِ لِيَرْجِعَا حَرْبِيَّيْنِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ حَكَمَ بِكَذِبِهِمَا فِيمَا قَالَا بِالْحُجَّةِ، وَالْمُقِرُّ إذَا صَارَ مُكَذَّبًا فِي إقْرَارِهِ يَسْقُطُ حُكْمُ إقْرَارِهِ. 922 - وَلَوْ قَالَا: خَرَجْنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ. فَشَهِدَ لَهُمَا شَاهِدَانِ بِأَنَّهُمَا أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَا، وَصَدَّقَا الشَّاهِدَيْنِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ مُسْلِمَيْنِ فَهُمَا حُرَّانِ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُمَا رَقِيقَانِ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِسْلَامُهُمَا إنَّمَا ظَهَرَ بَعْدَمَا صَارَا فَيْئًا، فَلَا يَبْطُلُ الرِّقُّ عَنْهُمَا. 923 - وَلَوْ قَالَا لِلشَّاهِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ: كَذَبْتُمَا، مَا أَسْلَمْنَا قَطُّ. أُجْبِرَا عَلَى الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمَا بِالْإِسْلَامِ عَلَيْهِمَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ. 924 - فَإِنْ أَسْلَمَا فَهُمَا حُرَّانِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْتِزَامَ حَقٍّ عَلَى الرَّجُلِ، وَالْمُسْلِمُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 خَصْمٌ فِي ذَلِكَ. فَإِنْكَارُهُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَهُ الْبَيِّنَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْكَرَ الْعِتْقَ وَهُنَاكَ مَنْ يَدَّعِي حَقًّا مِنْ حَدِّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. 925 - وَإِنْ أَبَيَا أَنْ يُسْلِمَا قُتِلَ الرَّجُلُ وَحُبِسَتْ الْمَرْأَةُ حَتَّى تُسْلِمَ. لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ أَنَّهُمَا حُرَّانِ مُرْتَدَّانِ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمَا شَيْءٌ فِي دَارِنَا وَلَكِنَّ الْحُكْمَ فِي الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ مَا بَيَّنَّا. 926 - وَإِنْ قَالَا مَا أَسْلَمْنَا قَطُّ. وَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ أَنَّهُمَا أَسْلَمَا يَوْمَ كَذَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَقَالَا: قَدْ كُنَّا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ. فَإِنَّهُمَا يُجْبَرَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَإِنْ أَسْلَمَا فَالرَّجُلُ حُرٌّ وَالْمَرْأَةُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِمَا ارْتِدَادُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَخُرُوجُهُمَا إلَى دَارِنَا عَلَى ذَلِكَ. وَالْمُرْتَدَّةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تُسْتَرَقُّ، وَلَا يَبْطُلُ الرِّقُّ عَنْهَا بِإِسْلَامِهَا. وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَظْهَرْ هُنَاكَ الرِّدَّةُ مِنْهُمَا بَعْدَ مَا ثَبَتَ إسْلَامُهُمَا إلَّا فِي دَارِنَا. فَإِنْ قِيلَ: هُنَاكَ قَدْ أَقَرَّا أَيْضًا أَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ الْمُسْلِمَانِ عَلَيْهِمَا بِالْإِسْلَامِ. قُلْنَا: نَعَمْ. وَلَكِنَّهُمَا مَا أَقَرَّا بِكُفْرٍ مُتَجَدِّدٍ مِنْهُمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ رِدَّةً، إنَّمَا أَنْكَرَا أَصْلَ الشَّهَادَةِ. فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ أَقَرَّا بِأَنَّهُمَا أَظْهَرَا كُفْرًا حَادِثًا بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ إسْلَامُهُمَا بِالْحُجَّةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ قِيلَ مَعَ هَذَا: هَذِهِ الشَّهَادَةُ إثْبَاتُ حُرِّيَّةِ الْمَرْأَةِ فَلِمَاذَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمَا حَتَّى تُجْعَلَ أَمَةً بَعْدَ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحُرِّيَّتِهَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 قُلْنَا: لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهَا. وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالرِّقِّ مَقْبُولٌ، بِمَنْزِلَةِ اللَّقِيطِ إذَا كَانَتْ أُنْثَى فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ. 927 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيَّةً أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَعُرِفَ إسْلَامُهَا، ثُمَّ أُخِذَتْ فِي الْأُسَرَاءِ فَقَالَتْ: قَدْ ارْتَدَدْت قَبْلَ أَنْ تَأْخُذُونِي. كَانَتْ فَيْئًا، وَصُدِّقَتْ لِإِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالرِّقِّ. - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أُخِذَتْ فِي الْأُسَرَاءِ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدَّةً، فَهِيَ أَمَةٌ، وَإِنْ كَذَّبَهَا أَبُوهَا فِيمَا قَالَتْ. لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِالرِّقِّ بِسَبَبٍ هُوَ ظَاهِرٌ. فَإِنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَحُكْمُ الشِّرْكِ ظَاهِرٌ فِيهَا. 929 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَوْ ذِمِّيَّةً لَحِقَتَا بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أُخِذَا فَقَالَا: خَرَجْنَا نَاقِضَيْنِ لِلْعَهْدِ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا، وَكَانَا فَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالرِّقِّ عَلَى أَنْفُسِهِمَا. وَكُلُّ هَذَا يُوَضِّحُ مَا سَبَقَ أَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمَيْنِ بِأَنَّهَا أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهَا بِالرِّقِّ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِ رِدَّتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. 930 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُرَّةً مَعْرُوفَةَ الْأَبَوَيْنِ تَعَلَّقَ بِهَا رَجُلٌ وَقَالَ: هِيَ أَمَةٌ لِي. فَقَالَتْ: صَدَقْت قَدْ كُنْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 ارْتَدَدْت وَلَحِقْت بِدَارِ الْحَرْبِ (ص 190) فَسَبَانِي وَأَخْرَجَنِي. فَهِيَ أَمَةٌ لَهُ فِي الْقِيَاسِ. لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى سَبَبٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِيهَا. فَيُجْعَلُ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهَا تُقِرُّ عَلَى نَفْسِهَا بِمَا يُتْلِفُهَا حُكْمًا وَهُوَ الرِّقُّ. وَلَوْ أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِمَا يُتْلِفُهَا حَقِيقَةً مِنْ قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهَا؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ. فَهُنَا أَوْلَى. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تُصَدَّقُ، وَهِيَ حُرَّةٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا. لِأَنَّهَا تُقِرُّ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، فَإِنَّ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ تَثْبُتُ لَهَا لِحُرِّيَّةِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى وَجْهٍ وَلَا تَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَهِيَ مُتَّهَمَةٌ فِيمَا أَقَرَّتْ بِهِ مِنْ السَّبَبِ، فَإِنَّ النِّسَاءَ جُبِلْنَ عَلَى الْمَيْلِ إلَى الْهَوَى، فَلَعَلَّهَا أَحَبَّتْ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ لَا يَرْغَبُ فِيهَا بِالنِّكَاحِ فَأَقَرَّتْ لَهُ بِالرِّقِّ بِهَذَا السَّبَبِ كَاذِبَةً لِيَحْصُلَ مُرَادُهَا. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا عُرِفَ لِحَاقُهَا بِدَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ هُنَاكَ الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُمَا فِيمَا قَالَا. فَإِنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَلْحَقُ بِدَارِ الْحَرْبِ مَا دَامَتْ مُصِرَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ عَادَةً. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ اعْتِقَادَهَا بَاطِنٌ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ. فَأَمَّا لُحُوقُهَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَظَاهِرٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَبُولِ قَوْلِهَا فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 تَقْرِيرُهُ: هُوَ أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ سَبْيٍ وَاسْتِرْقَاقٍ. فَإِذَا عَرَفْت لِحَاقَهَا فَإِنَّمَا أَصَابَهَا مِنْ مَوْضِعِ الِاسْتِرْقَاقِ، فَتَكُونُ أَمَةً لَهُ، مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَانِعُ وَهُوَ إسْلَامُهَا عِنْدَ الْأَخْذِ. فَأَمَّا دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ بِدَارِ اسْتِرْقَاقٍ بَلْ دَارُ حُرِّيَّةٍ مُتَأَكِّدَةٍ، فَلَا تَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهَا فِي ذَلِكَ. وَالذِّمِّيَّةُ فِي هَذَا كَالْمُسْلِمَةِ. فَأَمَّا الْحُرُّ الذِّمِّيُّ إذَا قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْرَفْ صِدْقُهُ وَلُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا مَعْنَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي حُرِّيَّةِ الرَّجُلِ كَمَا فِي حُرِّيَّةِ الْمَرْأَةِ، وَلِهَذَا قَبِلَا الشَّهَادَةَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ عَبْدٌ سَوَاءٌ عُرِفَ لِحَاقُهُ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ؛ لِأَنَّ مَعْنَى حَقِّهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي حُرِّيَّتِهِ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى. وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمَيْلِ إلَى الْهَوَى مُنْعَدِمٌ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مَعْنَى حِلِّ الْفَرْجِ بِالْمِلْكِ بِخِلَافِ إقْرَارِ الْمَرْأَةِ. 931 - وَلَوْ خَرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ حَرْبِيٌّ: رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ. فَقَالَ: أَمَّنْته بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَخْرَجْته، وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: أَبْطَلَ وَلَكِنَّهُ آمَنَنِي بِالْفَارِسِيَّةِ، وَثَبَتَا عَلَى الِاخْتِلَافِ فَهُوَ آمِنٌ. لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعِبَارَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَذَا الِاخْتِلَافِ، خُصُوصًا فِي الْأَمَانِ. فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ عِبَارَةٍ. وَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ، فِي الْعِبَارَةِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَكَيْفَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْأَمَانِ؟ 932 - وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي آمَنَهُ فِيهِ، أَوْ فِي الْمَكَانِ أَوْ فِي الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ. وَالْأَمَانُ بِاللِّسَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ. وَالْأَمَانُ مِمَّا يُعَادُ وَيُكَرَّرُ. فَالِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ. 933 - وَلَوْ قَالَ الْمُسْلِمُ: أَسْلَمَ فَخَرَجَ مَعِي. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: بَلْ آمَنَنِي. فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَا بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِالسَّبَبِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يَسْتَفِيدُ الْأَمَانَ مِنْ قِبَلِ إيمَانِهِ، وَالْمُسْتَأْمَنُ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْأَمَانَ مِنْ جِهَةِ مَنْ آمَنَهُ، فَمَعَ اخْتِلَافِهِمَا لَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ 934 - وَإِنْ قَالَ: سَأَلَنِي أَنْ يَخْرُجَ مَعِي وَيَكُونَ ذِمِّيًّا فَأَعْطَيْته ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: بَلْ آمَنَنِي. فَهُوَ آمِنٌ هُنَا. لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمَانِ لَهُ مِنْ جِهَةِ هَذَا الْمُسْلِمِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ (ص 191) وَالْمُسْلِمُ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً وَهُوَ احْتِبَاسُهُ فِي دَارِنَا وَالْتِزَامُهُ الْجِزْيَةَ، فَلَا تَثْبُتُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَيَبْقَى أَصْلُ الْأَمَانِ لَهُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ شَاءَ. 935 - وَلَوْ كَانَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا جَارِيَةٌ لَهُ فَأَعْتَقَهَا كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهَا مُسْتَأْمَنَةٌ تَبَعًا لَهُ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ إعَادَتَهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَانَ مُمَكَّنًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِعْتَاقُهُ إيَّاهَا لَا يُبْطِلُ ذَلِكَ الْحُكْمَ. 936 - وَلَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ صَارَتْ ذِمِّيَّةً تَبَعًا لِمَوْلَاهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. 937 - فَإِنْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ ذِمِّيَّةً لَا تَعُودُ حَرْبِيَّةً بِالْعِتْقِ. 938 - وَلَوْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعُودَ بِهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ ذِمِّيَّةً بِالشِّرَاءِ، وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فِيهَا، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أَمَةٍ ذِمِّيَّةٍ اشْتَرَاهَا الْمُسْتَأْمَنُ. 939 - فَإِنْ كَانَ بَاعَهَا مِنْ مُسْتَأْمَنٍ مِثْلِهِ فَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْبَائِعِ، فَلَهَا أَنْ تَعُودَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَعْتَقَهَا بِنَفْسِهِ. لِأَنَّ حَالَهُمَا سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْ أَهْلِ دَارِ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَعُودَ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ. لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْبَائِعِ انْقَطَعَتْ بِالْبَيْعِ، وَمَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهَا، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِهِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إعَادَةِ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ دَارِهِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ هَذِهِ الْأَمَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 مِنْ دَارِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي السِّلَاحِ فَفِي الْآدَمِيِّ أَوْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا اُحْتُبِسَتْ فِي دَارِنَا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيَّةِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ. وَقَبْلَ الْإِعْتَاقِ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الذِّمِّيَّةِ. 940 - وَإِنْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ عَلَى الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. لِأَنَّهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ ذِمِّيَّةً بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا لَا تَعُودُ حَرْبِيَّةً. 941 - وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَشَهِدَ مُسْلِمَانِ أَنَّ الْحَرْبِيَّ كَانَ أَعْتَقَهَا فِي دَارِنَا قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى حُرْمَةِ الْفَرْجِ، فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَرُدُّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْبَيْعَ لَهَا ظَهَرَ بُطْلَانُهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حُرَّةٌ حَرْبِيَّةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هِيَ تُقِرُّ بِأَنَّهَا أَمَةٌ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهَا إلَى الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ بِبُطْلَانِ إقْرَارِهَا بِذَلِكَ، فَلَا يَبْقَى لِإِقْرَارِهَا حُكْمٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقِرٌّ أَيْضًا بِأَنَّ الثَّمَنَ سَالِمٌ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبَضَهَا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ بِخِلَافِ زَعْمِهِ. 942 - وَلَوْ لَمْ يَبِعْهَا الَّذِي أَخْرَجَهَا وَلَكِنَّهُ قَالَ: كَانَتْ زَوْجَتِي فَقَهَرْتهَا وَأَخْرَجْتهَا، فَهِيَ أَمَةٌ لِي، فَقَالَتْ: كُنْت زَوْجَةً لَهُ فَخَرَجْت مَعَهُ غَيْرَ مَقْهُورَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا. فَإِنَّهَا خَرَجَتْ وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَثَرُ الْقَهْرِ. ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إنْ أَسْلَمَا بِإِقْرَارِهِ. فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهَا صَارَتْ أَمَةً لَهُ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ حَكَمَ الْإِمَامُ هُنَا بِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَلِمَاذَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا وَنَوْعٍ مِنْ الظَّاهِرِ. (ص 192) وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَكْذِيبَ الْمُقِرِّ لَا مَحَالَةَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَقُضِيَ بِهَا أَمَةً لَهُ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَقَدْ حُكِمَ هُنَاكَ بِحُرِّيَّتِهَا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى رِقِّهَا بَعْدَ ذَلِكَ. 943 - وَاسْتَوْضَحَ هَذَا بِمُسْلِمٍ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا إذَا زَعَمَ أَنَّهَا ارْتَدَّتْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَجَحَدَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِهِ، وَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدِّقٍ عَلَيْهَا فِي إبْطَالِ حَقِّهَا، وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرْبِيِّ. فَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ: اسْتَحْلِفْهَا مَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْت. فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا فِي قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهَا الرِّقَّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي دَعْوَى الرِّقِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحْلِفُهَا عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ سَبَبِ الرِّقِّ عَلَيْهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ قُضِيَ بِكَوْنِهَا أَمَةً؛ لِأَنَّ نُكُولَهَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا، وَمِنْ أَصْلِهِمَا الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فِي دَعْوَى الرِّقِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 [بَابٌ مِنْ الْأَمَانِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَبَعْدَ نَهْيِ الْإِمَامِ] - بَابٌ مِنْ الْأَمَانِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَبَعْدَ نَهْيِ الْإِمَامِ - وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤَمِّنَ أَهْلَ الْحِصْنِ وَلَا أَحَدًا مِنْهُمْ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. لِأَنَّهُمْ أَحَاطُوا بِالْحِصْنِ لِيَفْتَحُوهُ، وَالْأَمَانُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَذَا الْمُرَادِ فِي الظَّاهِرِ. وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكْتَسِبَ سَبَبَ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ مُرَادِهِمْ، خُصُوصًا فِيمَا فِيهِ قَهْرُ الْعَدُوِّ. وَلِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ تَجِبُ طَاعَةُ الْأَمِيرِ عَلَيْهِ. فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا يَلْزَمُ الْأَمِيرَ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُ. وَلِأَنَّ مَا يَكُونُ مَرْجِعُهُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ فَالْإِمَامُ هُوَ الْمَنْصُوبُ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ، فَالِافْتِيَاتُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْإِمَامِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّعِيَّةِ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى مَا فِيهِ اسْتِخْفَافٌ بِالْإِمَامِ. - فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ. لِأَنَّ عِلَّةَ (؟) صِحَّةِ الْأَمَانِ ثَابِتٌ وَمُتَكَامِلٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ، عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ قِتَالِهِمْ حَتَّى يَنْبِذَ إلَيْهِمْ بَعْدَمَا يَرُدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أُخْرِجُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 - وَإِنْ رَأَى أَنْ يُؤَدَّبَ الَّذِي آمَنَهُمْ فَعَلَ. لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ حِينَ فَعَلَ مَا يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْإِمَامِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّبْهُ اجْتَرَأَ غَيْرُهُ عَلَى مِثْلِهِ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي السِّيَاسَةِ وَتَدْبِيرِ الْإِمَارَةِ. إلَّا أَنَّهُ إذَا آمَنَهُمْ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَظَهَرَ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّبُهُ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُ قَصَدَ بِفِعْلِهِ تَوْفِيرَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرُبَّمَا تَفُوتُهُمْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ لَوْ أَخَّرَهُ إلَى اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْإِمَامِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُبَاحُ لَهُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ. فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إذَا قَالَ لَهُ سِرًّا: آمِنِّي عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، أَوْ عَلَى أَنْ أَفْتَحَ لَك الْحِصْنَ، وَخَافَ إنْ لَمْ يُؤَمِّنْهُ أَنْ يَفُوتَهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا إشْكَالَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَانِ الْإِمَامِ. لِأَنَّ الْأَمَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ عَلَى ذَلِكَ لَا التَّأْدِيبَ، فَلَا يُؤَدِّبُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا آمَنَ وَاحِدًا مِنْهُمْ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ مِنْ حِصْنِهِ إلَى الْمُعَسْكَرِ. فَلَمَّا قَبَضَ الدَّنَانِيرَ وَجَاءَ بِهِ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ عَلِمَ بِهِ الْإِمَامُ. فَقَدْ أَسَاءَ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ وَأَمَانُهُ جَائِزٌ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. ثُمَّ يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 - فَإِنْ كَانَ شَرَطَ لَهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ آمِنٌ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَدَّ الدَّنَانِيرَ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ إلَى مَأْمَنِهِ، (ص 193) وَإِنْ شَاءَ وَفَّى بِمَا شَرَطَ لَهُ وَأَخَذَ الدَّنَانِيرَ فَجَعَلَهَا غَنِيمَةً لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ الْمُعْطِيَ لِلْأَمَانِ إنَّمَا يُمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الدَّنَانِيرِ بِقُوَّةِ الْعَسْكَرِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهَا وَلَكِنْ يُجْعَلُ فِعْلُهُ لِذَلِكَ كَفِعْلِ الْأَمِيرِ أَوْ فِعْلِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. - وَإِنْ كَانَ شَرَطَ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْعَسْكَرِ فَيَلْقَى رَجُلًا فِي حَاجَةٍ لَهُ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى حِصْنِهِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُمْضِي هَذَا الْأَمَانَ وَيَجْعَلُ الدَّنَانِيرَ غَنِيمَةً لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَرِ هُنَا مُتَعَيَّنٌ فِي تَنْفِيذِ هَذَا الْأَمَانِ. فَإِنَّهُ آمِنٌ فِينَا حَتَّى يَعُودَ إلَى حِصْنِهِ. فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ الدَّنَانِيرَ فَلَا فَائِدَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي رَدِّهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. - فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى حِصْنِهِ حَتَّى فُتِحَ الْحِصْنُ فَهُوَ آمِنٌ فِينَا حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ. وَلَا فَائِدَةَ فِي رَدِّ الدَّنَانِيرِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى مَأْمَنِهِ، وَالدَّنَانِيرُ فَيْءٌ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ آمَنَ أَهْلَ الْحِصْنِ شَهْرًا عَلَى مِائَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 دِينَارٍ وَأَخَذَهَا مِنْهُمْ، فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ الدَّنَانِيرَ وَنَبَذَ إلَيْهِمْ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ أَمَانَهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ حَتَّى يَمْضِيَ شَهْرٌ، وَأَخَذَ الْمِائَةَ الدَّنَانِيرِ فَجَعَلَهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ جَانِبٍ تَوَهُّمَ الْمَنْفَعَةِ عَسَى، فَإِنَّهُ إنْ طَمِعَ فِي فَتْحِ الْحِصْنِ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ فَالْمَنْفَعَةُ فِي رَدِّ الدَّنَانِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي ذَلِكَ فَالْمَنْفَعَةُ فِي أَخْذِ الدَّنَانِيرِ وَإِمْضَاءِ الْأَمَانِ. فَلِهَذَا يُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ. - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي الْعَسْكَرِ: إنَّ مَنْ آمَنَ مِنْكُمْ أَهْلَ الْحِصْنِ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَأَمَانُهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ آمَنَهُمْ مُسْلِمٌ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَأَمَانُهُ جَائِزٌ. لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ مِنْ الْمُسْلِمِ لَمْ تَنْعَدِمْ بِهَذَا النِّدَاءِ. وَوِلَايَةُ الْأَمَانِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ثَابِتَةٌ شَرْعًا كَوِلَايَةِ الشَّهَادَةِ، وَلَا تَنْعَدِمُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ بِنَهْيِ الْإِمَامِ. ثُمَّ أَهْلُ الْحَرْبِ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا النَّهْيَ، فَلَوْ لَمْ يَصْلُحْ أَمَانُ هَذَا الْمُسْلِمِ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ رَجَعَ إلَى الْغُرُورِ وَهُوَ حَرَامٌ، إلَّا أَنَّ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُؤَدِّبَ الَّذِي آمَنَ بِالْحَبْسِ وَالْعُقُوبَةِ إنْ كَانَ لَمْ يُؤَمِّنْهُمْ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ إسَاءَةَ الْأَدَبِ هَهُنَا أَبْلَغُ مِنْهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ جَاهَرَ بِمُخَالَفَةِ الْإِمَامِ فَيَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ وَالْعُقُوبَةَ بِهَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 - فَإِنْ أَمَرَ بِأَنْ يُنَادَى أَهْلُ الْحِصْنِ أَوْ يَكْتُبَ إلَيْهِمْ أَوْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا: إنْ آمَنَكُمْ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَغْتَرُّوا بِأَمَانِهِ، فَإِنَّ أَمَانَهُ بَاطِلٌ. ثُمَّ آمَنَهُمْ رَجُلٌ فَنَزَلُوا عَلَى أَمَانِهِ، فَهُمْ فَيْءٌ. لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَمَانَ الْمُسْلِمِ لَا يَصِحُّ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ وَلَكِنْ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ النَّبْذِ إلَيْهِمْ، وَكَمَا يَصِحُّ نَبْذُهُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْأَمَانِ يَصِحُّ قَبْلَ الْأَمَانِ. إذْ الْمَقْصُودُ بِالنَّبْذِ دَفْعُ الْغُرُورِ. وَذَلِكَ يَنْتَفِي فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، إذَا كَانَ النَّبْذُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الْأَمَانِ دُفِعَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالْأَمَانِ مُنِعَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَهُنَاكَ لَا عِلْمَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِنَهْيِ الْأَمِيرِ. وَالنَّبْذُ إلَيْهِمْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ. وَإِنَّمَا صَحَّ النَّبْذُ قَبْلَ الْأَمَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ تَمَكَّنَ بَعْضُ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فَتْحِ حُصُونِهِمْ بِأَنْ يُؤَمِّنَهُمْ كُلَّمَا نَبَذَ الْأَمِيرُ إلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَلَا يَظْفَرُونَ بِحِصْنٍ أَبَدًا. فَلِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ صَحَّ النَّبْذُ إلَيْهِمْ قَبْلَ الْأَمَانِ لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ. - وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُمْ: لَا أَمَانَ لَكُمْ إنْ آمَنَكُمْ رَجُلٌ مُسْلِمٌ حَتَّى أُؤَمِّنَكُمْ أَنَا. ثُمَّ أَتَاهُمْ مُسْلِمٌ فَقَالَ: إنِّي رَسُولُ (ص 194) الْأَمِيرِ إلَيْكُمْ، قَدْ آمَنَكُمْ، فَنَزَلُوا عَلَى ذَلِكَ. فَهُمْ آمِنُونَ. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ كَذَبَ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إذَا ثَبَتَتْ الرِّسَالَةُ، فَأَمَّا إذَا كَذَبَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْأَمِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْأَمَانِ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ آمَنْتُكُمْ لَا يَصِحُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَمَانُهُ بَاطِلًا. قُلْنَا: نَعَمْ. وَلَكِنْ حِينَ أُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ فَقَدْ تَحَقَّقَ مَعْنَى الْغُرُورِ، إذَا لَا طَرِيقَ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ كَلَامِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ أَوْ كَاذِبٌ. وَإِذَا كَانَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ يَدْعُوهُ إلَى الصِّدْقِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الْكَذِبِ وَسِعَهُمْ أَنْ يَعْتَمِدُوا عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْأَمَانُ أَدَّى إلَى الْغُرُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَ الْأَمَانَ إلَى نَفْسِهِ. - فَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ لَهُمْ: لَا أَمَانَ لَكُمْ إنْ آمَنَكُمْ مُسْلِمٌ أَوْ أَتَاكُمْ بِرِسَالَةٍ مِنِّي، حَتَّى آتِيكُمْ أَنَا فَأُؤَمِّنَكُمْ بِنَفْسِي، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَهُمْ فَيْءٌ. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّبْذِ لِكُلِّ أَمَانٍ إلَيْهِمْ إلَّا أَمَانًا يَسْمَعُونَهُ مِنْ لِسَانِهِ، وَلِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ. وَلَا طَرِيقَ لِلْأَمِيرِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ إلَّا مَا فَعَلَهُ مِنْ التَّقْدِمَةِ إلَيْهِمْ، فَلَوْ لَمْ يُصَحِّحْ ذَلِكَ أَدَّى إلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ الْفَاسِقُ مِنْ إفْسَادِ الْجِهَادِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ إنْ كَانَ الْأَمِيرُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِيُبْلِغَهُمْ الْأَمَانَ فَفَعَلَ فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ، فَكَأَنَّهُ آمَنَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ بِمَا تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ قَصَدَ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى خَبَرِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولٌ، كَاذِبًا، وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى خَبَرِ مَنْ يُرْسِلُهُ إلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا أَبْطَلْنَا الْخَبَرَ إذَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 الرَّسُولُ كَاذِبًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّسُولُ صَادِقًا. يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ بَعْدَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ. فَذَلِكَ رُجُوعٌ مِنْهُ عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَرُجُوعُهُ صَحِيحٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: إذَا آمَنْتُكُمْ فَأَمَانِي بَاطِلٌ. ثُمَّ آمَنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ أَمَانًا صَحِيحًا. بِاعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ عَمَّا قَالَهُ لَهُمْ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ مَا كَانَ مُلْزِمًا إيَّاهُ شَيْئًا فَيَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهُ. - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا وَادَعَ أَهْلَ الْحَرْبِ سَنَةً عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُ، وَلَمْ يَحِلَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوهُمْ، وَإِنْ قَتَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ غَرِمُوا دِيَتَهُ. لِأَنَّ أَمَانَ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ أَمَانِ جَمَاعَتِهِمْ. - وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ حَتَّى مَضَتْ سَنَةٌ أَمْضَى مُوَادَعَتَهُ وَأَخَذَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُسْلِمِينَ مُتَعَيِّنَةٌ فِي إمْضَاءِ الْمُوَادَعَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ وَسَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ الْعَقْدُ وَتَكُونُ الْأُجْرَةُ لِلْمَوْلَى. وَإِنْ كَانَ لَوْ عَلِمَ بِهِ الْمَوْلَى قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 ثُمَّ إنَّمَا أَخَذَ هَذَا الْمَالَ مِنْهُمْ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ خَوْفَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ فَلِهَذَا يَأْخُذُ الْمَالَ مِنْهُمْ فَيَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُعَدًّا لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ. - وَإِنْ عَلِمَ بِمُوَادَعَتِهِ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي إمْضَاءِ تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ أَمْضَاهَا وَأَخَذَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُنْشِئَ الْمُوَادَعَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهَا، فَلَأَنْ يُمْضِيَهَا كَانَ أَوْلَى. وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إبْطَالِهَا رَدَّ الْمَالَ إلَيْهِمْ ثُمَّ نَبَذَ إلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ. لِأَنَّ أَمَانَ الْمُسْلِمِ كَانَ صَحِيحًا وَالتَّحَرُّزَ عَنْ الْغَدْرِ وَاجِبٌ. - فَإِنْ كَانَ مَضَى نِصْفُ السَّنَةِ (ص 195) ، فَفِي الْقِيَاسِ يَرُدُّ نِصْفَ الْمَالِ وَيُمْسِكُ النِّصْفَ لِلْمُسْلِمِينَ. اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَقِيَاسًا لِلْمُوَادَعَةِ، فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ وَقِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ. وَهُنَاكَ إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ يَسْقُطُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ، وَيَتَقَرَّرُ بِحِسَابِ مَا مَضَى. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرُدُّ الْمَالَ كُلَّهُ. لِأَنَّهُمْ مَا الْتَزَمُوا الْمَالَ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ الْمُوَادَعَةَ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 وَالْجَزَاءُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ جُمْلَةً، وَلَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَائِهِ. وَكَلِمَةُ عَلَى، لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً. وَالْمُوَادَعَةُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَجَعَلْنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِيهَا عَامِلَةً بِحَقِيقَتِهَا. فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُمْ الْمُوَادَعَةَ سَنَةً كَامِلَةً وَجَبَ رَدُّ الْمَالِ كُلِّهِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ خَوْفُهُمْ مِنْ بَعْضِ الْمُدَّةِ دُونَ الْبَعْضِ، فَإِنَّهُمْ يَأْمَنُونَ فِي الشِّتَاءِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ الْعَدُوُّ، وَإِنَّمَا يَخَافُونَ ذَلِكَ فِي الصَّيْفِ. فَإِذَا نَبَذَ إلَيْهِمْ فِي وَقْتِ خَوْفِهِمْ، وَمَنْعَهُمْ بَعْضَ الْمَالِ. لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ مَقْصُودِهِمْ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْغُرُورِ، فَلِهَذَا يَرُدُّ الْمَالَ إنْ نَبَذَ إلَيْهِمْ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. - وَإِنْ كَانُوا وَادَعُوهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، كُلُّ سَنَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَبَضَ الْمَالَ كُلَّهُ، ثُمَّ أَرَادَ الْإِمَامُ نَقْضَ الْمُوَادَعَةِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ الثُّلُثَيْنِ. لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ كَانَتْ هَا هُنَا بِحَرْفِ الْبَاءِ، وَهُوَ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ، فَيَكُونُ الْمَالُ عِوَضًا. فَيَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، كَيْفَ وَقَدْ فَرَّقَ الْعُقُودَ هَهُنَا بِتَفْرِيقِ التَّسْمِيَةِ قَالَ: كُلُّ سَنَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْعَقْدُ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَالْمَالُ مَذْكُورٌ بِحَرْفِ عَلَى، وَهُوَ حَرْفُ الشَّرْطِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ بَيِّنٌ أَنْ يُقْرَنَ بِالْبَدَلِ حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ حَرْفُ عَلَى فِي أَنَّهُ يَتَوَزَّعُ الْبَدَلُ عَلَى الْمُدَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي بَابِ الْبَيْعِ، فَلِمَاذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُنَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ مُعَاوَضَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَأَمَّا الْمُوَادَعَةُ فَلَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِحَرْفِ الْبَاءِ الَّذِي يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا ذُكِرَ فِيهَا حَرْفُ الشَّرْطِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الشَّرْطِ حَقِيقَةً. وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَسْتَدِلُّ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ، بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَيُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ حَرْفِ الْبَاءِ وَعَلَى كَمَا فِي الْأَمَانِ. وَلَكِنَّهُمَا قَالَا: الْخُلْعُ مُعَاوَضَةٌ. وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَهَا - وَهُوَ زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْهَا - يَحْصُلُ بِالْوَاحِدَةِ. فَرَجَّحْنَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَمَانِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا. - وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا فَقَالَ أَمِيرَهُمْ لِأَهْلِ الْحِصْنِ: إنِّي لَعَلِّي أَنْ أُؤَمِّنَكُمْ، فَمَتَى آمَنْتُكُمْ فَأَمَانِي بَاطِلٌ. أَوْ قَالَ: فَلَا أَمَانَ لَكُمْ. أَوْ: فَقَدْ نَبَذْت إلَيْكُمْ. ثُمَّ آمَنَهُمْ، فَأَمَانُهُ بَاطِلٌ كَمَا قَالَ. لِأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ عَلَى وَجْهٍ انْتَفَى شُبْهَةُ الْغُرُورِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكَلَامِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ نَبَذَ إلَيْهِمْ الْأَمَانَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يَجْعَلْ إقْدَامَهُ عَلَى الْأَمَانِ رُجُوعًا عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؟ قُلْنَا: هُنَاكَ فِي الْوَضْعِ زِيَادَةٌ هُوَ أَنَّهُ آمَنَهُمْ بَعْدَ مَقَالَتِهِ وَقَالَ: قَدْ أَبْطَلْت قَوْلِي لَكُمْ أَنَّهُ لَا أَمَانَ لَكُمْ. فَهَذَا الْبَيَانُ يُظْهِرُ أَنَّهُ رُجُوعٌ. فَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْمَقَالَةِ الْأُولَى بَلْ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: إنِّي أُقَاتِلُ أَهْلَ هَذَا الْحِصْنِ مَعَكُمْ، وَقَدْ دَعَوْتهمْ إلَى أَنْ أُؤَمِّنَهُمْ فَلَمْ يُجِيبُونِي. فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ لَكُمْ الْأَمَانَ، لَعَلِّي (ص 196) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 إذَا دَعَوْتهمْ أَجَابُونِي. وَهَذَا الْأَمَانُ الَّذِي أُظْهِرُهُ لَكُمْ بَاطِلٌ وَزُورٌ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ. ثُمَّ آمَنَهُمْ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا. وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، فَإِذَا أَعْلَمَهُمْ أَنَّ تَكَلُّمَهُ بِهِ بَاطِلٌ ثُمَّ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ. وَنَظَائِرُ هَذَا فِي فُصُولِ التَّلْجِئَةِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَالْإِقْرَارِ. وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا بَابَ النُّزُولِ عَلَى الْحُكْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ شَرْحِ هَذَا الْبَابِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 [بَابُ الْحُكْمِ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] 962 - قَالَ: وَإِذَا نَزَلَ أَهْلُ حِصْنٍ قَدْ حُوصِرُوا فِيهِ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ، ثُمَّ اُحْكُمُوا فِيهِمْ» . وَلِأَنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ فِي نُزُولِ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى الْحُكْمِ. فَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابْتِدَاءً، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا حَاصَرَهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَكَانَ قَالَ لَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ - حِينَ أَخْبَرَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ يَسُبُّونَهُ -: يَا إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَتَسُبُّونَنِي؟ انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ. فَقَالُوا: لَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا كُنْت فَحَّاشًا. ثُمَّ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرُ عَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ مَنْ شَاءُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْأَوْسِ قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ سَيِّدَ الْأَوْسِ، فَرَضَوَا بِالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِهِ رَجَاءَ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِمْ لِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَنْزَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى حُكْمِهِ» . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. ثُمَّ «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحُكْمَ فِيهِمْ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بِرِضَاهُمْ. فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ أَحَاطُوا بِرَسُولِ اللَّهِ فَكَلَّمُوهُ فِي شَأْنِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَاعَةِ. فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرَاعَاةَ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ: أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيكُمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَذَاكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَصَابَهُ سَهْمٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ وَكَانَ لَا يُرْقَأُ الدَّمُ. فَدَعَا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت أَبْقَيْت مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لِذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قِتَالِ قَوْمٍ أَخْرَجُوا رَسُولَك مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تُبْقِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَاجْعَلْ هَذَا سَبَبَ شَهَادَتِي، وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي فِي بَنِي قُرَيْظَة. فَلَمَّا دَعَا بِذَلِكَ رَقَأَ الدَّمُ. وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَذَا الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ الْأَنْصَارِ حِينَ أُخْبِرَ أَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ لِيَدْعُوَهُمْ إلَى تَجْدِيدِ الْعَهْدِ. فَأَغْلَظُوا لَهُ الْقَوْلَ وَشَتَمُوهُ. فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: أَتَشْتُمُونَنِي؟ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَهَمُّ مِنْ الشَّتْمِ وَهُوَ السَّيْفُ. فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْأَحْزَابَ وَحَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ دَعَا هُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فَلَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ جَعَلَ الْحُكْمَ فِيهِمْ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَهُوَ كَانَ مَرِيضًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ. فَأَتَاهُ الْأَنْصَارُ وَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ لِيَأْتُوا بِهِ مُعَسْكَرَ رَسُولِ اللَّهِ. فَجَعَلُوا يُكَلِّمُونَهُ فِي الطَّرِيقِ وَيَقُولُونَ: حُلَفَاؤُك وَمَوَالِيك، أَمْكَنَك اللَّهُ مِنْهُمْ فَأَحْسِنْ إلَيْهِمْ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُحِبُّ الْإِحْسَانَ وَالْإِبْقَاءَ. وَقَدْ عَلِمْت مَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي تَخْلِيصِ حُلَفَائِهِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعِ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا مِنْ ذَلِكَ مَسَحَ لِحْيَتَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَلَكَتْ قُرَيْظَةُ وَاَللَّهِ. فَانْصَرَفُوا عَنْهُ إلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا أَتَى سَعْدٌ إلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ (ص 197) فَأَنْزِلُوهُ. فَلِمَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: قَدْ جَعَلْت الْحُكْمَ فِيهِمْ إلَيْك فَاحْكُمْ فِيهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 فَأَقْبَلَ سَعْدٌ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيكُمْ مَا حَكَمْت؟ قَالُوا: نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ مُعْرِضٌ إجْلَالًا لِرَسُولِ اللَّهِ: وَعَلَى مَنْ هُنَا بِمِثْلِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ: نَعَمْ. قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي حَكَمْت فِيهِمْ بِأَنْ تُقْتَلَ الرِّجَالُ، وَتُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ، وَتُقَسَّمَ الْأَمْوَالُ. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ، أَيْ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» . وَهَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُمْ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ فَجَعَلَ الْحُكْمَ إلَى غَيْرِهِ بِرِضَاهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْحُكْمَ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ؛ لِأَنَّ سَعْدًا أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِيَسْتَرْضِيَهُمْ بِذَلِكَ. وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ. وَهَذَا الْحُكْمُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ. فَرِضَاهُمْ بِحُكْمِ شَخْصٍ لَا يَكُونُ رِضًا بِحُكْمِ شَخْصٍ آخَرَ، حَتَّى إذَا جَعَلَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَحَكَمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمُحَكَّمُ الْأَوَّلُ بَعْدَ مَا يَعْلَمُ بِهِ. فَحِينَئِذٍ يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَائِهِ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ الْحُكْمُ بِرَأْيِهِ وَقَدْ رَضُوا بِذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ فِيهِمْ بِأَنْ يُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ أَوْ بِأَنْ يُجْعَلُوا ذِمَّةً أَوْ بِأَنْ يُجْعَلُوا فَيْئًا فَذَلِكَ كُلُّهُ نَافِذٌ، اسْتِدْلَالًا بِمَا حَكَمَ بِهِ سَعْدٌ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ سَعْدًا حَكَمَ يَوْمَئِذٍ بِأَنْ يُقْتَلَ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى. وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْبُلُوغَ بِاعْتِبَارِ نَبَاتِ الْعَانَةِ. وَلَسْنَا نَقُولُ بِهَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 لِأَنَّ نَبَاتَ الْعَانَةِ يَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُ النَّاسِ. أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِئُ فِي الْأَتْرَاكِ وَيَسْرُعُ فِي الْهُنُودِ. فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حُكْمًا. وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُ عَلِمَ بِإِخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ إيَّاهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَامَةُ بُلُوغِ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَإِنَّمَا حَكَمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى مِنْهُمْ كَانَ مُقَاتِلًا. وَإِنَّمَا حُكِمَ بِقَتْلِ مُقَاتِلِهِمْ. وَالْمُقَاتِلُ يُقْتَلُ بَالِغًا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ. وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ إنَّمَا يُقْتَلُ قَبْلَ الْأَسْرِ إذَا قَاتَلَ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا أُسِرَ فَلَا يُقْتَلُ. ثُمَّ ذُكِرَ: أَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ فِيهِمْ سِيقُوا حَتَّى حُبِسُوا فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ النَّجَّارِيَّةِ وَأَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُكَتَّفُوا. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْنَعَ بِالْأُسَرَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] . قَالَ: «ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ. وَسُمِّيَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْمَغَازِي: حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَجَمَاعَةٌ. فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السِّلَاحِ. قَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا ثُمَّ اُقْتُلُوا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ» . وَفِي الْمَغَازِي ذُكِرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَامَ وَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: شَأْنُك وَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ» . وَكَانَ الَّذِينَ يَلُونَ قَتْلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 فَقُتِلُوا عِنْدَ مَوْضِعِ دَارِ ابْنِ أَبِي الْجَهْمِ. فَسَالَتْ دِمَاؤُهُمْ حَتَّى بَلَغَ أَحْجَارَ الزَّيْتِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ عَدَدَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ. فَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا سَبْعَ مِائَةِ رَجُلٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَتَلُوا أَرْبَعَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ. وَكَانَ عَدَدُ السَّبْيِ سِتَّ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ. فَكَانَ كُلُّ مَنْ يُشَكُّ فِي أَمْرِهِ يُكْشَفُ عَنْ عَانَتِهِ، عَلَى مَا قَالَ عَطِيَّةُ الْقُرَظِيّ: شَكُّوا فِي أَمْرِي يَوْمَئِذٍ فَكَشَفُوا عَنْ عَانَتِي، فَإِذَا أَنَا لَمْ أَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي (ص 198) فِي الذُّرِّيَّةِ. وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ اُقْتُلُوا مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى، وَلَا تَسْبُوا إلَيْنَا مِنْ الْعُلُوجِ أَحَدًا. وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَقْصِدُوهُمْ بِسُوءٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ حِينَ لَمْ يُبَالِغُوا فِي مُرَاعَاةِ نَهْيِهِ اُبْتُلِيَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا وَكَانَ مَجُوسِيًّا؟ . وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَدَّنِي ثُمَّ عُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَبِلَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ» . وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِي الْبُلُوغِ بِنَبَاتِ الْعَانَةِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَلَامَةُ بِالِاحْتِلَامِ، أَوْ بِأَنْ يَتِمَّ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فِي رِوَايَةٍ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي رِوَايَةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. تَمَّ أَبْوَابُ الْأَمَانِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ آمَنَنَا اللَّهُ مِنْ النَّارِ وَأَسْكَنَنَا دَارَ الْقَرَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 [أَبْوَابُ الْأَنْفَالِ] 963 - الْأَنْفَالُ: الْغَنَائِمُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ. وَأَصْلُهَا نَفْلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَالْعَجَلْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] أَيْ الْغَنَائِمِ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَاءَتْ أَخْلَاقُنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَحُرِمْنَا. فَقِيلَ: وَكَيْفَ سَاءَتْ أَخْلَاقُكُمْ؟ قَالَ: لَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ افْتَرَقْنَا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، يَحْرُسُونَهُ. وَفِرْقَةٌ اتَّبَعُوا الْمُنْهَزِمِينَ، وَفِرْقَةٌ جَمَعُوا الْأَمْوَالَ. ثُمَّ ادَّعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ أَنَّهَا أَحَقُّ بِالْغَنَائِمِ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ سَاكِتٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: {يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ. قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 وَالْمُرَادُ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَنْفَالِ فِي عِبَارَةِ الْفُقَهَاءِ مَا يَخُصُّ بِهِ الْإِمَامُ بَعْضَ الْغَانِمِينَ. فَذَلِكَ الْفِعْلُ يُسَمَّى مِنْهُ تَنْفِيلًا، وَذَلِكَ الْمَحَلُّ يُسَمَّى نَفْلًا. - وَلَا خِلَافَ أَنَّ التَّنْفِيلَ جَائِزٌ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ. فَإِنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالتَّحْرِيضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] فَهَذَا الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ وَلِكُلِّ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، وَالتَّحْرِيضُ بِالتَّنْفِيلِ، فَإِنَّ الشُّجْعَانَ قَلَّ مَا يُخَاطِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ إذَا لَمْ يُخَصُّوا بِشَيْءٍ مِنْ الْمُصَابِ. فَإِذَا خَصَّهُمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَذَلِكَ يُغْرِيهِمْ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ بِأَرْوَاحِهِمْ وَإِيقَاعِ أَنْفُسِهِمْ فِي حَلْبَةِ الْعَدُوِّ. وَصُورَةُ هَذَا التَّنْفِيلِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ. كَمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُنَادِي حِينَ نَادَى يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ. أَوْ يَبْعَثُ سَرِيَّةً فَيَقُولُ: لَكُمْ الثُّلُثُ مِمَّا تُصِيبُونَ بَعْدَ الْخُمُسِ. أَوْ يُطْلِقُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَهُمْ ثُلُثُ الْمُصَابِ قَبْلَ أَنْ يُخَمَّسَ، يَخْتَصُّونَ بِهِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ مَا يُرْفَعُ مِنْهُ الْخُمُسُ، وَعِنْدَ التَّنْفِيلِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا، ثُمَّ يَكُونُ لَهُمْ الثُّلُثُ مِمَّا بَقِيَ يَخْتَصُّونَ بِهِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِيمَا بَقِيَ. وَلَا يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ بِدُونِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ عِنْدَنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَتَلَ مُشْرِكًا عَلَى وَجْهِ الْمُبَارَزَةِ وَهُوَ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ التَّنْفِيلُ مِنْ الْإِمَامِ. لِأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» لِنَصْبِ الشَّرْعِ. وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (ص 199) . - وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا لَوْ أَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَالَ هَذَا إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ. فَإِنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَغَازِيهِ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» إلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَذَلِكَ بَعْدَ مَا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَحْرِيضِهِمْ لِيَكُرُّوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] . وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ أَيْضًا. وَقَدْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّحْرِيضِ يَوْمَئِذٍ مَعْلُومَةً، فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] . فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ. لَا بِطَرِيقِ نَصْبِ الشَّرْعِ وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَاصِرًا وَادِيَ الْقُرَى، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْغَنَائِمِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 فَقَالَ: لِلَّهِ سَهْمٌ وَلِهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ. قَالَ: فَالْغَنِيمَةُ يَغْنَمُهَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: إنْ رُمِيتَ فِي جَنْبِك بِسَهْمٍ فَاسْتَخْرَجْتَهُ فَلَسْتَ بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ» . فَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِدُونِ التَّنْفِيلِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا نَفْلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَأَهْلُ الشَّامِ يُجَوِّزُونَ التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَا قُلْنَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَا بَعْدَهَا. وَلِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِإِثْبَاتِ الِاخْتِصَاصِ ابْتِدَاءً، لَا لِإِبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْغَانِمِينَ، أَوْ الْإِبْطَالُ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْخُمُسِ لِأَرْبَابِهَا وَفِي التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ إبْطَالُ الْحَقِّ. - وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَدِيثُ الْحَسَنِ أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زِمَامًا مِنْ شَعْرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ فَقَالَ: وَيْلَك سَأَلْتنِي زِمَامًا مِنْ نَارٍ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - وَاَللَّهِ مَا كَانَ لَك أَنْ تَسْأَلَنِيهِ، وَمَا كَانَ لِي أَنْ أُعْطِيَكَهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ أَخَذَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ فَقَالَ: هَبْ لِي هَذِهِ فَقَالَ: أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا فَلَكَ» وَعَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَعَهُ زِمَامٌ مِنْ شَعْرٍ. قَالَ: مُرْ لِي بِهَذَا الزِّمَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِرَاحِلَتِي زِمَامٌ فَقَالَ سَأَلْتنِي زِمَامًا مِنْ نَارٍ. مَا لَك أَنْ تَسْأَلَنِيهِ وَمَا لِي أَنْ أُعْطِيَكَهُ فَرَمَى بِهِ فِي الْمَغْنَمِ» . وَلَوْ جَازَ التَّنْفِيلُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَمَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ مَعَ صِدْقِ حَاجَتِهِ. وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَّلَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَى ذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ بَعْضَ الْمُحْتَاجِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ. أَوْ أَعْطَى ذَلِكَ مِنْ سَهْمِ نَفْسِهِ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى مَا قَالَ: «لَا يَحِلُّ مِنْ غَنَائِمِكُمْ إلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» . أَوْ أَعْطَى مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ فَقَدْ كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 أَوْ أَعْطَى ذَلِكَ مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ. فَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهَا مُفَوَّضًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ. وَذُكِرَ: 967 - عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ بْنِ يَزِيدَ أَوْ زَيْدٍ (ص 200) قَالَ: «نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَا أَخَذُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ، قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ عَنْ فُوَاقٍ» . يَعْنِي عَلَى سَوَاءٍ. وَهَكَذَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ {يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]- إلَى قَوْلِهِ - {لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ قَاتِلٍ سَلَبَ قَتِيلِهِ يَوْمَئِذٍ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: أَخَذَ عَلِيٌّ سَلَبَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَخَذَ حَمْزَةُ سَلَبَ عُتْبَةَ، وَأَخَذَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ سَلَبَ شَيْبَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 فَدَفَعَهُ إلَى وَرَثَتِهِ. وَكَانَ عُبَيْدَةُ قَدْ جُرِحَ فَمَاتَ فِي ذَاتِ أَجْدَالٍ بِالصَّفْرَاءِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ. - وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي قَاتِلِ أَبِي جَهْلٍ. فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: «كُنْت: يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ شَابَّيْنِ حَدِيثٍ أَسْنَانُهُمَا أَحَدُهُمَا مُعَوِّذُ ابْنُ عَفْرَاءَ وَالْآخَرُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ فَقَالَ لِي أَحَدُهُمَا: أَيْ عَمُّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْت: وَمَا شَأْنُك بِهِ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاَللَّهِ لَوْ لَقِيته لَمَا فَارَقَ سَوَادِي سَوَادَهُ، حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا مَوْتًا، وَغَمَزَنِي الْآخَرُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ. ثُمَّ لَقِيت أَبَا جَهْلٍ وَهُوَ يُسَوِّي صَفَّ الْمُشْرِكِينَ. فَقُلْت: ذَاكَ صَاحِبُكُمَا الَّذِي تُرِيدَانِهِ. فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَاهُ. وَجَاءَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْته فَلِي سَلَبُهُ. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَمَسَحْتُمَا سَيْفَكُمَا؟ فَقَالَا: لَا: أَرِيَانِي سَيْفَكُمَا. فَأَرَيَاهُ فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ. ثُمَّ أَعْطَى السَّلَبَ مُعَوِّذَ ابْنَ عَفْرَاءَ» . وَذُكِرَ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُ إنَّمَا خَصَّهُ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الطِّعَانِ عَلَى سَيْفِهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ وَأَنَّهُ أَعَانَهُ الْآخَرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 وَرُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ إلَى عِكْرِمَة بْنِ أَبِي جَهْلٍ فَسَأَلَهُ: مَنْ قَتَلَ أَبَاك؟ فَقَالَ: الَّذِي قَطَعْت أَنَا يَدَهُ. وَإِنَّمَا كَانَ قَطَعَ يَدَ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ مِنْ الْمَنْكِبِ. وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ أَثْخَنَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ. عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْت أُفَتِّشُ الْقَتْلَى يَوْمَ بَدْرٍ لِأُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْ أَرَاهُ مَقْتُولًا مِنْهُمْ. فَرَأَيْت أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا بِهِ رَمَقٌ. فَجَلَسْت عَلَى صَدْرِهِ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ، لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى عَظِيمًا. فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَكَّنَنِي مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: لِمَنْ الدَّبْرَةُ؟ فَقُلْت: لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَهُ؟ فَقُلْت: أَحُزُّ رَأْسَك. فَقَالَ: خُذْ سَيْفِي فَهُوَ أَمْضَى لِمَا تُرِيدُ، وَاقْطَعْ رَأْسِي مِنْ كَاهِلِي لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ. وَإِذَا رَجَعْت إلَى مُحَمَّدٍ فَأَخْبِرْهُ أَنِّي الْيَوْمَ أَشَدُّ بُغْضًا لَهُ مِمَّا كُنْت مِنْ قَبْلُ. فَقَالَ: قَطَعْت رَأْسَهُ وَأَتَيْت بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اللَّهُ أَكْبَرُ. هَذَا فِرْعَوْنِي وَفِرْعَوْنُ أُمَّتِي. كَانَ شَرُّهُ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي أَعْظَمَ مِنْ شَرِّ فِرْعَوْنَ عَلَى مُوسَى وَأُمَّتِهِ، ثُمَّ نَفَّلَنِي سَيْفَهُ» . زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «وَأَخْبَرْته بِمَا قَالَ، فَقَالَ: إنَّهُ كَفَرَ فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ مَوْتِهِ، وَسَيَكْفُرُ فِي النَّارِ أَيْضًا. قَالَ: وَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إذَا دَخَلَ النَّارَ جَعَلَ يَنْظُرُ وَيَقُولُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 لِأَصْحَابِهِ أَيْنَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: هُمْ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: كَلًّا، إنَّمَا كَانَ الْيَوْمُ يَوْمَ زَحْمَةٍ ص 201 فَهَرَبُوا» . وَالرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى ابْنَ مَسْعُودٍ سَيْفَهُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَيْضًا أَعْطَاهُ سَلَبَهُ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الَّذِي جَرَحَهُ مَا أَثْخَنَهُ، فَيَكُونُ قَاتِلُهُ مَنْ قَطَعَ رَأْسَهُ. وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ أَعْطَى سَلَبَهُ غَيْرَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ أَثْخَنَهُ وَصَيَّرَهُ بِحَالٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقِتَالُ، فَيَكُونُ السَّلَبُ لَهُ دُونَ مَنْ قَطَعَ رَأْسَهُ. وَإِنَّمَا أَعْطَى سَيْفَهُ ابْنَ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ كَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَيَّنَّا. وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يُجَوِّزُ التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَعْطَاهُ سَيْفَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّنْفِيلِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ بِالتَّنْفِيلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَهُ الْإِمَامُ لِغَيْرِهِ، كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى سَيْفِهِ فِضَّةٌ؟ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ لَا نَفْلَ فِي ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، عَلَى مَا بَيَّنَهُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا تَنْفِيلًا، فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ. - وَذُكِرَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَتَمَامُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ «أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ. فَلَقِيت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَأَتَيْته مِنْ وَرَائِهِ وَضَرَبْت عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً، فَتَرَكَهُ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ ضَمَّةً شَمَمْت مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ. ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعْته يَقُولُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا وَلَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ. لَاهَا اللَّهِ أَيَعْمِدُ أَسَدٌ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ ثُمَّ يُعْطِيك سَلَبَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ. وَأَعْطَانِي سَلَبَهُ.» - وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا مَغْنَمَ حَتَّى يُخَمَّسَ، وَلَا نَفْلَ حَتَّى يُقْسَمَ جُفَّةً. أَيْ جُمْلَةً. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا نَفْيَ التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، نَفَى اخْتِصَاصَ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ بِشَيْءٍ قَبْلَ الْخُمُسِ بِغَيْرِ تَنْفِيلٍ. وَهُوَ مَذْهَبُنَا. - وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا نَفْلَ فِي أَوَّلِ الْغَنِيمَةِ، وَلَا بَعْدَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا يُعْطَى مِنْ الْغَنَائِمِ إذَا اجْتَمَعَتْ إلَّا رَاعٍ أَوْ سَائِقٌ أَوْ حَارِسٌ غَيْرُ مُحَابًى. وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا نَفْلَ فِي أَوَّلِ الْغَنِيمَةِ: أَيْ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا قَبْلَ رَفْعِ الْخُمُسِ وَلَا بَعْدَ رَفْعِ الْخُمُسِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ فِي أَوَّلِ اللِّقَاءِ قَبْلَ الْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ؛ لِأَنَّ الْجَيْشَ فِي أَوَّلِ اللِّقَاءِ يَكُونُ لَهُمْ نَشَاطٌ فِي الْقِتَالِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحْرِيضِ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا طَالَ الْأَمْرُ وَقَلَّ نَشَاطُهُمْ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحْرِيضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّنْفِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ. فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَفِّلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنَفِّلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 فِي الْبُدَاءَةِ الرُّبْعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ» . فَأَهْلُ الشَّامِ حَمَلُوا هَذَا عَلَى التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يُنَفِّلُ أَوَّلَ السَّرَايَا الرُّبْعَ، وَآخِرَ السَّرَايَا الثُّلُثَ، لِزِيَادَةِ الْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ. فَإِنَّ أَوَّلَ السَّرَايَا يَكُونُونَ نَاشِطِينَ فِي الْقِتَالِ (ص 202) فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْإِمْعَانِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ، وَآخِرَ السَّرَايَا قَدْ قَلَّ نَشَاطُهُمْ وَيَحْتَاجُونَ إلَى الْإِمْعَانِ فِي الطَّلَبِ. فَلِهَذَا زَادَ فِيمَا نَفَّلَ لَهُمْ. وَأَمَّا الرَّاعِي وَالسَّائِقُ وَالْحَارِسُ فَهُمْ أُجَرَاءُ يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ أَجْرَهُمْ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " غَيْرُ مُحَابًى "، فَإِنَّمَا يُعْطِيهِمْ الْأَجْرَ بِقَدْرِ عَمَلِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ النَّفْلِ فِي شَيْءٍ. - وَذُكِرَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُخَمِّسَانِ الْأَسْلَابَ. وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَمَكْحُولٍ أَنَّ السَّلَبَ مَغْنَمٌ وَفِيهِ الْخُمُسُ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] . وَالسَّلَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَتَأْوِيلُ مَا نُقِلَ عَنْ خَالِدٍ وَعَوْفٍ إذَا تَقَدَّمَ التَّنْفِيلُ مِنْ الْإِمَامِ لِقَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» . وَعِنْدَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يُخَمَّسُ السَّلَبُ. فَأَمَّا بِدُونِ التَّنْفِيلِ يُخَمَّسُ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَتَلَ مَرْزُبَانَ الزَّارَةِ وَأَخَذَ سَلَبَهُ مُذَهَّبًا بِالذَّهَبِ مُرَصَّعًا بِالْجَوَاهِرِ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا. فَكَتَبَ صَاحِبُ الْجَيْشِ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَكَتَبَ عُمَرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْخُمُسَ وَيَدْفَعَ سَائِرَ ذَلِكَ إلَيْهِ. وَهَذَا مُشْكِلٌ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ سَبَقَ التَّنْفِيلُ فَلَا خُمُسَ فِي السَّلَبِ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْبِقْ التَّنْفِيلُ فَأَعْطَى مَا بَقِيَ إلَى الْبَرَاءِ فَيَكُونُ تَنْفِيلًا بَعْدَ الْإِصَابَةِ. وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا. وَلَكِنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ بِتَنْفِيلٍ مُقَيَّدٍ بِأَنْ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ بَعْدَ الْخُمُسِ. وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُخَمَّسُ السَّلَبُ عِنْدَنَا وَالْبَاقِي لِلْقَاتِلِ. وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْفَرَسُ وَالسَّلَبُ مِنْ النَّفْلِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْقَاتِلَ بَعْدَ التَّنْفِيلِ يَسْتَحِقُّ الْفَرَسَ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ اسْمٌ لِمَا يُسْلَبُ مِنْهُ بِإِظْهَارِ الْجَزَاءِ وَالْعَنَاءِ. وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَرَسِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي السَّلَبِ، فَيَدْخُلُ الْكُلُّ فِي التَّنْفِيلِ بِقَوْلِهِ. - فَإِنْ جَرَحَ الْكَافِرَ رَجُلٌ بَعْدَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَيَّرَهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ قِتَالًا وَلَا عَوْنًا بِيَدٍ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ مَعَ مِثْلِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ فَالسَّلَبُ لِلْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَالسَّلَبُ لِلثَّانِي. ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْإِمَامِ مِنْ هَذَا التَّنْفِيلِ أَنْ يُظْهِرَ الْقَاتِلُ فَضْلَ جَزَاءٍ وَعَنَاءٍ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِ. وَهَذَا إنَّمَا حَصَلَ مِنْ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. لِأَنَّهُ إذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يُتَوَهَّمُ الْقِتَالُ مِنْهُ فَالثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إلَى عَنَاءٍ وَقُوَّةٍ فِي حَزِّ رَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَحَامَلُ مَعَ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَعِيشَ وَيُقَاتِلَ فَقَدْ أَظْهَرَ الثَّانِي بِقَتْلِهِ الْعَنَاءَ وَالْقُوَّةَ فَيَكُونَ السَّلَبُ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ إذَا رَمَاهُ إنْسَانٌ فَأَثْخَنَهُ، ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ كَانَ لِلْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَ يَتَحَامَلُ بَعْدَ رَمْيِ الْأَوَّلِ حَتَّى رَمَاهُ الثَّانِي فَهُوَ لِلثَّانِي. وَاسْتُدِلَّ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ. - قَالَ: «قَطَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رِجْلَيْ مَرْحَبَ وَضَرَبَ عَلِيٌّ عُنُقَهُ. فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَبَهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمَا اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَطَعْت رِجْلَيْهِ إلَّا وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ يَذُوقَ مِنْ الْمَوْتِ مَا ذَاقَ أَخِي مَحْمُودٌ. وَكَانَ مَرْحَبُ قَدْ دَلَّى عَلَيْهِ حَجَرَ الرَّحَّاءِ. فَمَكَثَ ثَلَاثًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ. فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (ص 203) بِسَلَبِهِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رِجْلَيْهِ قَالَ مَرْحَبُ: أَجْهِزْ عَلَيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ: لَا، حَتَّى تَذُوقَ مَا ذَاقَ أَخِي مَحْمُودٌ. وَجَاوَزَهُ. فَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَفَّفَ عَلَيْهِ. أَيْ حَزَّ رَأْسَهُ وَأَخَذَ سَلَبَهُ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَبَهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. قَالَ الرَّاوِي مِنْ أَوْلَادِهِ: وَكَانَ سَيْفُ مَرْحَبَ عِنْدَنَا، وَفِيهِ كِتَابٌ كُنَّا لَا نَعْرِفُهُ حَتَّى جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: هَذَا سَيْفُ مَرْحَبَ، مَنْ يَذُقْهُ يَعْطَبُ. - وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: عَانَقَ رَجُلٌ رَجُلًا، وَجَاءَ آخَرُ فَقَتَلَهُ. فَأَعْطَى سَلَبَهُ لِلَّذِي قَتَلَهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: هُوَ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَظْهَرَ زِيَادَةَ عَنَاءٍ وَقُوَّةٍ، أَحَدُهُمَا بِإِثْبَاتِهِ وَالْآخَرُ بِقَتْلِهِ. وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِإِمْسَاكِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَاتِلًا، وَإِنَّمَا الْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ. فَيَكُونُ السَّلَبُ لَهُ بِالتَّنْفِيلِ. وَقَدْ كَانَ التَّنْفِيلُ مِنْ الْإِمَامِ لِلْقَاتِلِ لَا لِلْمُمْسِكِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 [بَابُ النَّفْلِ وَمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ خَالِصًا] 68 - بَابُ النَّفْلِ وَمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ خَالِصًا قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَ الْإِمَامُ الرَّجُلَ الْمُحْتَاجَ إذَا أَبْلَى مِنْ الْخُمُسِ مَا يُعِينُهُ، وَيَجْعَلُهُ نَفْلًا لَهُ بَعْدَ الْغَنِيمَةِ. ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصَرْفِ الْخُمُسِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ، وَهَذَا مُحْتَاجٌ. وَإِذَا جَازَ صَرْفُهُ إلَى مُحْتَاجٍ لَمْ يُقَاتِلْ فَلَأَنْ يَجُوزَ صَرْفُهُ إلَى مُحْتَاجٍ قَاتَلَ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا كَانَ أَوْلَى. وَهَذَا لِأَنَّ بِقِتَالِهِ وَقِتَالِ أَمْثَالِهِ حَصَلَ هَذَا الْخُمُسُ. وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ وَجَدَ رِكَازًا فَرَآهُ الْإِمَامُ مُحْتَاجًا وَصَرَفَ الْخُمُسَ إلَيْهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ. وَرُدَّ بِنَحْوِهِ أَثَرٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلْوَاجِدِ: خُمُسُهَا لَنَا وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لَك وَسَنُتِمُّهَا لَك. ثُمَّ هَذَا تَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا نَفْلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ» . وَعَنْ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ النَّفَلُ مِنْ الْخُمُسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 يَعْنِي النَّفَلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِلْمُحْتَاجِينَ كَانَ يَكُونُ مِنْ الْخُمُسِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَنْ جَوَّزَ التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَفَّلَ بَعْدَ الْغَنِيمَةِ» ، فَقَدْ أَخْطَأَ. لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّأَمُّلَ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ مَحَلٍّ نَفَّلَ. وَقَدْ كَانَ تَنْفِيلُهُ مِمَّا كَانَ لَهُ خَاصَّةً وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثُ حُظُوظٍ مِنْ الْغَنَائِمِ: الصَّفِيُّ، وَخُمُسُ الْخُمُسِ، وَسَهْمٌ كَسَهْمِ أَحَدِ الْغَانِمِينَ. وَمَعْنَى الصَّفِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَصْطَفِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ سَيْفٍ أَوْ دِرْعٍ أَوْ جَارِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ هَذَا لِوَلِيِّ الْجَيْشِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعَ حُظُوظٍ أُخَرَ. وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ: لَك الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُك وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ فَانْتَسَخَ ذَلِكَ كُلُّهُ سِوَى الصَّفِيِّ. فَإِنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالِاتِّفَاقِ. حَتَّى إنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ الصَّفِيُّ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي سَهْمِهِ مِنْ الْخُمُسِ أَنَّهُ هَلْ بَقِيَ لِلْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ. 977 - وَذُكِرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «كَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْئًا، إلَّا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَسِمَاكَ بْنَ خَرَشَةَ أَبَا دُجَانَةَ فَإِنَّهُمَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا» . وَبَيَانُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] (ص 204) فَإِنَّهُمْ مَا فَتَحُوا بَنِي النَّضِيرِ عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَإِنَّمَا صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ، إلَّا الْحَلْقَةَ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا أَلْقَى اللَّهُ مِنْ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي زَمَانِنَا لَوْ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى مِثْلِ هَذَا هَلْ تَكُونُ الْأَمْوَالُ لَهُ خَاصَّةً أَمْ تَكُونُ غَنِيمَةً لِلْجَيْشِ؟ قُلْنَا: بَلْ تَكُونُ غَنِيمَةً؛ لِأَنَّ خَوْفَهُمْ مِنْ مَنَعَةِ الْإِمَامِ لَا مِنْ نَفْسِهِ، وَمَنَعَتُهُ بِالْجَيْشِ. فَأَمَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَمَنَعَةُ رَسُولِ اللَّهِ مَا كَانَ بِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَأْمَنُونَ بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَللَّهُ يَعْصِمُك مِنْ النَّاسِ} [المائدة: 67] . 978 - وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ فِيمَا صَنَعَ اسْتَرْضَى الْأَنْصَارَ أَيْضًا. فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا نَازِلِينَ مَعَ الْأَنْصَارِ فِي بُيُوتِهِمْ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْأَنْصَارِ: «إمَّا أَنْ أَقْسِمَ بَنِي النَّضِيرِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ بِرِضَاكُمْ لِيَتَحَوَّلُوا إلَيْهَا فَتَسْلَمَ لَكُمْ مَنَازِلُكُمْ، وَإِمَّا أَقْسِمُهَا بَيْنَ الْكُلِّ وَهُمْ يَسْكُنُونَ مَعَكُمْ فِي مَنَازِلِكُمْ عَلَى حَالِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلْ نَرْضَى بِأَنْ تَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ، وَيَكُونُونَ مَعَنَا فِي مَنَازِلِنَا أَيْضًا» . وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] الْآيَةَ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْطَى يَوْمَئِذٍ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، نَفَّلَهُ إيَّاهُ» . وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ تَنْفِيلًا بَعْدَ الْإِصَابَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ خَاصَّةً. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثُ صَفَايَا: بَنُو النَّضِيرِ، وَفَدَكُ، وَخَيْبَرُ» . وَكَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ. أَيْ مَحْبُوسَةً لِذَلِكَ كَالْمَوْقُوفَةِ. وَكَانَتْ فَدَكُ لِابْنِ السَّبِيل. وَالْمُرَادُ بِنَوَائِبِهِ جَوَائِزُ الرُّسُلِ وَالْوُفُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْتُونَهُ. وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءَانِ لِلْمُهَاجِرِينَ وَجُزْءٌ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهُ. فَإِنْ فَضَلَ رَدَّهُ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا بَعْضَ خَيْبَرَ لَا كُلَّهَا. فَقَدْ اتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ قَسَمَ الشِّقَّ وَالنَّطَاةَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي أَوَّلِ الْقِسْمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 وَذُكِرَ عَنْ عُرْوَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ عَامِرًا وَمَوَاتًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ» . وَعَنْ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقْطَعَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَسُهَيْلٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَمْوَالًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ عَامِرَةً» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ غَامِرَةً، وَهِيَ الْخَرَابُ الَّتِي يَبْلُغُهَا الْمَاءُ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَمَنْ يَسْمَعُ هَذِهِ الْآثَارَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ نَفَّلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَلَى وَجْهِ نَصْبِ الشَّرْعِ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَالِصَ حَقِّهِ. فَإِذَا تَأَمَّلَ مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُخَمِّسُ مَا أَصَبْت مِنْ بَنِي النَّضِيرِ كَمَا خَمَّسْت مَا أَصَبْت مِنْ بَدْرٍ؟ قَالَ: لَا أَجْعَلُ شَيْئًا جَعَلَهُ اللَّهُ لِي دُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ مَا هُوَ لَهُمْ. وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] » . ثُمَّ ذُكِرَ: 980 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: لَا نَفْلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ. إنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا كَانَ خَالِصًا لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ مِثْلُ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ لِيُنَفِّلَ مِنْهُ. كَمَا كَانَ يُنَفِّلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَفَّلَ يَوْمَ بَدْرٍ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ سَيْفَ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ» . 982 - وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا نَفَّلَهُ مِنْ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا، أَوْ عَلَى أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ مُفَوَّضَةً إلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] وَعَلَى أَنَّهُ اصْطَفَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَعْطَاهُ سَعْدًا. وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُرْوَى «أَنَّهُ اصْطَفَى يَوْمَ بَدْرٍ ذَا الْفَقَارِ ثُمَّ أَعْطَاهُ عَلِيًّا وَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ سَيْفَ مُنَبَّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ» . وَفِي رِوَايَةِ نُبَيْهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَبِخِلَافِ مَا يَزْعُمُ الرَّوَافِضُ أَنَّ ذَا الْفَقَارِ كَانَ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَلِكَ كَذِبٌ وَزُورٌ. وَمَبْنَى مَذْهَبِ الرَّوَافِضِ عَلَى الْكَذِبِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْفَقَارِ لِكَسْرٍ فِيهِ. 983 - وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُحْمَلُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يَرُدُّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْغَنَائِمِ ثُمَّ جَاءَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ بِسَيْفِ ابْنِ عَائِذٍ الْمَخْزُومِيِّ حَتَّى أَلْقَاهُ فِي الْغَنَائِمِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ. فَجَاءَهُ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ وَعَرَفَ ذَلِكَ السَّيْفَ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ» . 984 - وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «جَاءَ عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 فِي سَفَرٍ. فَأَكَلَ مَعَهُمْ وَخَالَطَهُمْ ثُمَّ ذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْحَقُوهُ فَاقْتُلُوهُ. وَكَانَ سَلَمَةُ سَبَّاقًا يَسْبِقُ الْفَرَسَ عَدْوًا فَلَحِقَهُ وَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ فَقَتَلَهُ. وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِنَاقَتِهِ وَسَلَبِهِ فَنَفَّلَهُ إيَّاهُ» . وَكَأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا مِنْ الْخُمُسِ، ثُمَّ نَفَّلَهُ إيَّاهُ لِحَاجَتِهِ. وَلِلْإِمَامِ رَأْيٌ فِي مِثْلِ هَذَا. 985 - وَذُكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ فِي حِصَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَامَ إلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ. فَقَالَتْ صَفِيَّةُ: وَاحِدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيُّهُمَا عَلَا صَاحِبَهُ يَقْتُلُهُ. فَعَلَاهُ الزُّبَيْرُ فَقَتَلَهُ. وَنَفَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَلَبَهُ» . وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا بِخَيْبَرَ. فَقَدْ كَانَتْ الْمُبَارَزَةُ وَالْقِتَالُ يَوْمَئِذٍ. فَأَمَّا بَنُو قُرَيْظَةَ فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِلْمُبَارَزَةِ وَالْقِتَالِ. وَصَفِيَّةُ كَانَتْ أُمَّ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ سِوَاهُ، فَتَأَسَّفَتْ عَلَيْهِ حِينَ خَرَجَ لِلْمُبَارَزَةِ وَقَالَتْ: وَاحِدِي. أَيْ وَا أَسَفَا عَلَى وَاحِدٍ لِي لَا وَلَدَ لِي سِوَاهُ. فَطَيَّبَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَلْبَهَا بِمَا قَالَ. ثُمَّ نَفَّلَ الزُّبَيْرَ سَلَبَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ جَعَلَهُ مِمَّا كَانَ لَهُ خَاصَّةً ثُمَّ نَفَّلَهُ إيَّاهُ. 986 - وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 بَعَثَ بَعْثًا قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إبِلًا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سِهَامُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا» . وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُمْ نُفِلُوا ذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ لِحَاجَتِهِمْ، أَوْ نُفِلُوا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَقَدْ كَانُوا رَجَّالَةً كُلَّهُمْ، أَوْ فُرْسَانًا كُلَّهُمْ. وَعِنْدَنَا مِثْلُ هَذَا التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ يَجُوزُ. لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِسْمَةِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّفَلُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ إذَا كَانَ فِيهِ تَخْصِيصُ بَعْضِهِمْ. 987 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ إمَامًا نَفَّلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَعْضَ مَنْ كَانَ لَهُ جَزَاءٌ أَوْ عَنَاءٌ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ مِنْهُ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى وَالٍ آخَرَ لَا يَرَى التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنَّهُ يَمْضِي مَا صَنَعَ وَلَا يَرُدُّهُ. لِأَنَّهُ أَمْضَى تَنْفِيلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ. فَإِنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ. 988 - وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: بَارَزْت دِهْقَانًا فَقَتَلْته، فَنَفَّلَنِي أَمِيرِي سَلَبَهُ. فَأَجَازَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُجَوِّزُ التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ: لَا نَفْلَ بَعْدَ الْغَنِيمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 فَلَوْ كَانَ هُوَ الْوَالِي مَا نَفَّلَ إلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ الْإِصَابَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا نَفَّلَهُ الْأَمِيرُ وَأَمْضَاهُ أَجَازَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 989 - وَذُكِرَ عَنْ شَبْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ: بَارَزْت رَجُلًا مِنْ الْأَعَاجِمِ فَقَتَلْته. فَنَفَّلَنِي سَعْدٌ سَلَبَهُ. ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَأَمْضَاهُ. 990 - وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ جَمِيعًا: مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ نَفْلًا بِالسَّوِيَّةِ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ (ص 206) . لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّنْفِيلِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا خَصَّ الْبَعْضَ بِالتَّنْفِيلِ، فَأَمَّا إذَا عَمَّهُمْ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّنْفِيلِ، وَإِنَّمَا فِي هَذَا إبْطَالُ السُّهْمَانِ الَّتِي أَوْجَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِبْطَالُ تَفْضِيلِ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. 991 - وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: مَا أَصَبْتُمْ فَلَكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: بَعْدَ الْخُمُسِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ. لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْخُمُسِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغَنِيمَةِ. 992 - وَذُكِرَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْخُمُسَ. لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى قَوِيِّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى ضَعِيفِهِمْ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ بَعْدَ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إبْطَالًا لِحَقِّ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ، وَآخَرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ أَيُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْغَنِيمَةِ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ» . 993 - قَالَ: وَالنَّفَلُ فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. 994 - وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ رَجُلٌ قَتِيلًا، وَكَانَ مَعَهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، أَوْ فِضَّةُ سَيْفٍ، أَوْ سِوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ قُرْطُ ذَهَبٍ، أَوْ مِنْطَقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَذَلِكَ كُلُّهُ لَهُ. وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ لَا نَفْلَ فِي ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ. وَإِنَّمَا النَّفَلُ فِيمَا يَكُونُ مِنْ الْأَمْتِعَةِ فَأَمَّا فِي أَعْيَانِ الْأَمْوَالِ فَلَا. وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عَيْنُ مَالٍ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ مُقَرَّرًا فِيهَا. وَقَاسُوا هَذَا بِإِبَاحَةِ التَّنَاوُلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ فِي الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ دُونَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَرْفَعَ الدَّرَاهِمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: التَّنْفِيلُ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ بِالرُّوحِ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي الْأَمْوَالُ، بَلْ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاطِرُ بِأَعَزِّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ الْمَالُ النَّفِيسُ يَمْتَنِعُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَاطَرَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّلَبَ اسْمٌ لِمَا يُسْلَبُ. فَكُلُّ مَا يَكُونُ مَعَ الْحَرْبِيِّ إذَا قَتَلَهُ فَقَدْ اسْتَلَبَهُ مِنْهُ. وَيَسْتَحِقُّ كُلَّ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ اسْمِ السَّلَبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 ثُمَّ اُسْتُدِلَّ عَلَيْهِ: بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ قَتَلَ مَرْزُبَانَ الزَّارَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ مِنْطَقَةُ ذَهَبٍ فِيهَا جَوْهَرٌ فَقُوِّمَ فَبَلَغَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا قِيمَةُ الْمِنْطَقَةِ فَقَطْ، وَأَرْبَعُونَ قِيمَةُ جَمِيعِ السَّلَبِ، أَوْ يُقَالُ: مَا سَبَقَ وَهْمٌ مِنْ الرَّاوِي. وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ هُنَا. فَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ: بَعَثْنَا إلَى عُمَرَ بِالْخُمُسِ سِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. فَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ قِيمَةَ السَّلَبِ كَانَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ عَلَيْهِ فِضَّةٌ» . فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنْفِيلُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَذُكِرَ: 995 - عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ لَا سَلَبَ إلَّا لِمَنْ أَسَرَ عِلْجًا أَوْ قَتَلَهُ. وَلَا يَكُونُ السَّلَبُ فِي يَوْمِ هَزِيمَةٍ أَوْ فَتْحٍ. وَيَصْلُحُ فِي السَّلَبِ الثِّيَابُ وَالسِّلَاحُ وَالْمِنْطَقَةُ وَالدَّابَّةُ، وَمَا كَانَ مَعَ الْعِلْجِ بَعْدَ هَذَا فَلَا سَلَبَ فِيهِ. وَلَا سَلَبَ فِي السِّلْعَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ لَا سَلَبَ إلَّا لِمَنْ أَسَرَ عِلْجًا أَوْ قَتَلَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 لِأَنَّ التَّنْفِيلَ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْجَزَاءِ وَالْعَنَاءِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْأَسْرِ وَالْقَتْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (ص 207) لَا سَلَبَ فِي يَوْمِ هَزِيمَةٍ وَلَا فَتْحٍ. فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ الْأَسْلَابَ مِنْ الْقَتْلَى وَالْأَسْرَى فِي الْهَزِيمَةِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا أَوْ أَسَرَ قَبْلَ الْهَزِيمَةِ أَوْ الْفَتْحِ فَلَهُ سَلَبُهُ، وَلْيَتِمَّ النَّظَرُ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي قَتْلِ الْمُنْهَزِمِ إلَى عَظِيمِ جَزَاءٍ وَعَنَاءٍ. وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ. فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ. فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ مَا شَرَطَ الْإِمَامُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْهَزِيمَةِ أَوْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَبِمُجَرَّدِ الْمَقْصُودِ لَا يَثْبُتُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بَلْ يَجِبُ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَسَرُوا كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ؟ بَلْ كَانَتْ عَامَّةُ الْأُسَرَاءِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ. ثُمَّ سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَسْرَى لِمَنْ أَسَرُوهُمْ، حَتَّى أَخَذُوا فِدَاءَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَصْلُحُ مِنْ السَّلَبِ السِّلَاحُ وَالثِّيَابُ وَالْمِنْطَقَةُ وَالدَّابَّةُ، فَمَا كَانَ مَعَ الْعِلْجِ بَعْدَ هَذَا فَلَا سَلَبَ فِيهِ فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَالْمُرَادُ أَنَّ مَا مَعَهُ مِمَّا خَلَّفَهُ فِي الْمُعَسْكَرِ لَيْسَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى فَرَسِهِ الَّذِي خَرَجَ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ السَّلَبِ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ اسْمٌ لِمَا يُسْلَبُ مِنْهُ. فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا مَعَهُ خَاصَّةً مِمَّا إذَا قُتِلَ هُوَ لَا يَبْقَى مَانِعٌ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الْقَاتِلِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا خَلَّفَهُ مِنْ الْمُعَسْكَرِ، فَإِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ مِنْ الْقَاتِلِ. فَلَا يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ أَخْذِهِ بِقَتْلِ الْعِلْجِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهُ بَغْلَةٌ عَلَيْهَا مَتَاعُهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سَلَبِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا سَلَبَ فِي السِّلْعَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَقُودُ هَذَا مَعَ نَفْسِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي الْقِتَالِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ السِّلَعِ الَّتِي يَحْمِلُهَا لِلتِّجَارَةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا سَلَبَ فِي السِّلْعَةِ: مَا يَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ الْعَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الشَّامِ لَا نَأْخُذُ بِهِ. فَأَمَّا عِنْدَنَا مَا مَعَهُ فِي حَقْوِهِ فَهُوَ مِنْ السَّلَبِ يُسَلَّمُ لِلْقَاتِلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 [بَابُ النَّفْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] 69 - بَابُ النَّفْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ 996 - قَالَ: كُلُّ أَمِيرٍ كَانَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ يَلِي سَرِيَّةً أَوْ جُنْدًا فَلَهُ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْهَا أَصْحَابَهُ قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ. لِأَنَّهُ فُوِّضَ إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْقِتَالِ، وَالتَّنْفِيلُ مِنْ تَدْبِيرِ الْقِتَالِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ. فَكُلُّ أَمِيرٍ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ فِي الْقِتَالِ كَانَ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا تَجِبُ طَاعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَكَذَلِكَ فِي التَّنْفِيلِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ. 997 - وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الشَّامِ بَعَثَ جُنْدًا إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَمِيرِهِمْ أَنْ يُنَفِّلَ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَرَأَى أَمِيرُهُمْ أَنْ يُنَفِّلَ جَازَ تَنْفِيلُهُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ تَحْتَ رَايَتِهِ. لِأَنَّهُ مَا أُمِرَ بِأَنْ يَتَّبِعَ رَأْيَهُمْ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ لَا يُخَالِفُوهُ فِيمَا يَرَاهُ صَوَابًا. وَلِأَنَّهُ وَلِيَ الْقِتَالَ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ. 998 - وَإِنْ نَهَاهُ الَّذِي وَجَّهَهُ أَنْ يُنَفِّلَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا. لِأَنَّ سَبَبَ الْإِمَارَةِ التَّقْلِيدُ. وَهُوَ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَبِمَنْزِلَةِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ. وَلِأَنَّا إنَّمَا صَحَّحْنَا تَنْفِيلَهُ قَبْلَ النَّهْيِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا عِنْدَ التَّنْصِيصِ بِخِلَافِهَا. 999 - فَإِنْ رَضِيَ جَمِيعُ مَنْ مَعَهُ جَازَ تَنْفِيلُهُ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ بَعْدَ رَفْعِ الْخُمُسِ. لِأَنَّ لَهُمْ وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا يُعْمِلُ رِضَاهُ فِي حَقِّهِمْ. فَأَمَّا الْخُمُسُ حَقُّ غَيْرِهِمْ، فَلَا يُعْمِلُ فِيهِ رِضَاهُمْ بِالتَّنْفِيلِ. 1000 - وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَأَذِنَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَلَهُ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ حِصَصِ الَّذِينَ أَذِنُوا لَهُ فِي ذَلِكَ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وِلَايَتَهُمْ مَقْصُورَةٌ عَلَى حِصَصِهِمْ دُونَ حِصَصِ الْبَاقِينَ مِمَّنْ كَرِهَ تَنْفِيلَهُ. 1001 - قَالَ (ص 208) وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمِصِّيصَةِ بَعَثَ سَرِيَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ السَّرِيَّةَ مَا أَصَابُوا. 1002 - بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ الْإِمَامُ مَعَ الْجَيْشِ دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةً وَنَفَّلَ لَهُمْ مَا أَصَابُوا فَإِنَّهُ يَجُوزُ. لِأَنَّ السَّرِيَّةَ الْمَبْعُوثَةَ مِنْ الْمِصِّيصَةِ يَخْتَصُّونَ بِمَا أَصَابُوا قَبْلَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْمِصِّيصَةِ مَعَهُمْ شَرِكَةٌ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ الْمِصِّيصَةَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 وَمَنْ يَتَوَطَّنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُشَارِكُ الْجَيْشَ فِيمَا أَصَابُوا، فَلَيْسَ فِي هَذَا التَّنْفِيلِ إلَّا إبْطَالُ الْخُمُسِ. وَأَمَّا السَّرِيَّةُ الْمَبْعُوثَةُ مِنْ الْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَخْتَصُّونَ بِالْمُصَابِ قَبْلَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا هَذَا التَّنْفِيلُ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيضِ لَهُمْ، فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. 1003 - ثُمَّ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا إلَّا بِبَلَاءٍ يُبْلِيهِ. وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ فِي التَّنْفِيلِ لِلسَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَحْصُلُ فِي السَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ الْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا جَمِيعًا لِلْقِتَالِ، ثُمَّ اخْتَصَّتْ السَّرِيَّةُ بِالتَّقَدُّمِ فِي نَحْوِ الْعَدُوِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إظْهَارَ الْبَلَاءِ مِنْهُمْ، فَإِذَا نَفَّلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا، بِمَنْزِلَةِ التَّنْفِيلِ فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا بَرَزَ عِلْجٌ مِنْ الصَّفِّ وَدَعَا إلَى الْبِرَازِ فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ بَرَزَ إلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَذَلِكَ تَنْفِيلٌ صَحِيحٌ؟ لِأَنَّ الَّذِي يَبْرُزُ إلَيْهِ يُظْهِرُ فَضْلَ بَلَاءٍ بِصُنْعِهِ، فَيَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُنَفِّلَهُ عَلَى ذَلِكَ. 1004 - وَكَذَلِكَ لَوْ حَاصَرُوا حِصْنًا فَكَرِهَ الْقَوْمُ التَّقَدُّمَ فَيَقُولُ الْأَمِيرُ: مَنْ تَقَدَّمَ إلَى الْقِتَالِ، أَوْ إلَى الْبَابِ، أَوْ إلَى حَصْرِ الْحِصْنِ فَلَهُ كَذَا، فَذَلِكَ تَنْفِيلٌ مُسْتَقِيمٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّحْرِيضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 وَالْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ مَا سُمِّيَ لَهُ مِنْ الْمُصَابِ قَبْلَ الْخُمُسِ وَالْقِسْمَةِ. فَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي فِيهِ التَّنْفِيلُ. لِأَنَّ لَا مَقْصُودَ فِيهِ سِوَى إبْطَالِ الْخُمُسِ، أَوْ تَفْضِيلِ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ. 1005 - وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَجَّهَ سَرِيَّتَيْنِ بَعْدَ الْخُمُسِ إحْدَاهُمَا يَمْنَةً وَالْأُخْرَى يَسْرَةً، وَنَفَّلَ لِإِحْدَاهُمَا الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ مِمَّا يُصِيبُونَ وَلِأُخْرَى الرُّبْعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَهُوَ جَائِزٌ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْخُرُوجِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّرِيقِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَالْوُعُورَةِ وَالسُّهُولَةِ، وَالْخَوْفِ وَالْأَمْنِ، وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ فِي الْمَنَعَةِ وَالْقُوَّةِ، وَالْأَمِيرُ نَاظِرٌ لَهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يُفَاوِتَ فِي النَّفْلِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. 1006 - فَإِنْ جَاءَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ بِمَالٍ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أُعْطُوا نَفْلَهُمْ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، لَا يُفَضَّلُ فِيهِ الْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِلِ. لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالتَّسْمِيَةِ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ، فَاسْتِحْقَاقُهَا بِاعْتِبَارِ الْعَنَاءِ وَالْقُوَّةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ، وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْوَصِيَّةِ. 1007 - ثُمَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَسَّمُ بَيْنَ أَصْحَابِ السَّرِيَّتَيْنِ وَالْجَيْشِ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي إحْرَازِهَا بِالدَّارِ. 1008 - فَإِنْ ذَهَبَ رَجُلٌ مِمَّنْ بَعَثَهُ فِي سَرِيَّةِ الرُّبْعِ مَعَ أَصْحَابِ سَرِيَّةِ الثُّلُثِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لِهَذَا الرَّجُلِ مِنْ النَّفْلِ. لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْلِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَمَا سَمَّى الْإِمَامُ لَهُ شَيْئًا فِي أَصْحَابِ سَرِيَّةِ الثُّلُثِ، وَهُوَ لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الَّذِينَ سَمَّى لَهُ نَفْلًا مَعَهُمْ، فَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ تَخَلَّفَ مَعَ الْعَسْكَرِ وَلَمْ يَخْرُجْ أَوْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْعَسْكَرِ مَعَ أَصْحَابِ سَرِيَّةِ الثُّلُثِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْخُرُوجِ أَصْلًا فَكَمَا لَا يَسْتَحِقُّ هُنَاكَ النَّفَلَ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَمْ يُبَيَّنْ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ هُنَا. فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا (ص 209) : عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ لَهُ النَّفَلُ مَعَ أَصْحَابِ سَرِيَّةِ الثُّلُثِ. لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْإِمَامِ لَهُمْ مَا كَانَ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهِمْ بَلْ لِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الطَّرِيقِ الَّذِي وُجِّهُوا إلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِي حَقِّ الْوَاحِدِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ لِلِاسْتِحْسَانِ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ فَسَّرَهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ فَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ ذَلِكَ. 1009 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَالَ: مَنْ شَاءَ فَلْيَخْرُجْ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ، وَمَنْ شَاءَ فِي هَذِهِ، فَلِجَمِيعِ مَنْ خَرَجُوا النَّفَلَ الَّذِي نُفِلُوا. لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ ضَعْفُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً، بَيْنَ مَا إذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ لِلْخُرُوجِ قَوْمًا فِي كُلِّ جَانِبٍ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ وَجَعَلَ الْأَمْرَ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 وَلَوْ بَعَثَ سَرِيَّةً وَعَلَيْهِمْ أَمِيرٌ وَنَفَّلَهُمْ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ؛ ثُمَّ إنَّ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ نَفَّلَ قَوْمًا نَفْلًا لِفَتْحِ الْحِصْنِ أَوْ لِلْمُبَارَزَةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَرَهُ الْأَمِيرُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ نَفْلَ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ يَجُوزُ مِنْ حِصَّةِ السَّرِيَّةِ مِنْ النَّفْلِ، وَمِنْ سِهَامِهِمْ بَعْدَ النَّفْلِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ سِهَامِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ مِمَّا أَصَابُوا. لِأَنَّهُ أَمِيرٌ عَلَى السَّرِيَّةِ. فَهُوَ فِي حَقِّ الْعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ، فَلَا يَنْفُذُ تَنْفِيلُهُ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ فِي حَقِّ السَّرِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ، فَيَجُوزُ تَنْفِيلُهُ فِيمَا هُوَ حَقُّهُمْ، وَحَقُّهُمْ مَا نَفَّلَ لَهُمْ وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ السِّهَامِ بِالْقِسْمَةِ، فَيَنْفُذُ تَنْفِيلُ أَمِيرِهِمْ مِنْ ذَلِكَ خَاصَّةً. 1011 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ لَمَّا بَعُدُوا مِنْ الْعَسْكَرِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ فَقَدُوا رَجُلًا مِنْهُمْ. فَقَالُوا لِبَعْضِهِمْ: أَقِيمُوا عَلَى صَاحِبِنَا هَا هُنَا. وَبَعْضُهُمْ ذَهَبُوا حَتَّى أَصَابُوا غَنَائِمَ وَرَجَعُوا إلَى أَصْحَابِهِمْ وَقَدْ وَجَدُوا الرَّجُلَ، كَانُوا شُرَكَاءَ كُلَّهُمْ فِي النَّفْلِ. لِأَنَّهُمْ فَارَقُوا الْمُعَسْكَرَ جُمْلَةً، وَأَحْرَزُوا الْمُصَابَ بِالْمُعَسْكَرِ جُمْلَةً، فَكَانُوا شُرَكَاءَ فِي النَّفْلِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ الْقِتَالَ بَعْضُهُمْ وَالْبَعْضُ كَانُوا رِدْءًا لَهُمْ وَهَذَا لِأَنَّ إحْرَازَ الْمُصَابِ بِالْمُعَسْكَرِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفْلِ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 وَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ لِبَعْضِ الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عِنْدَ إحْرَازِ الْغَنَائِمِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَانُوا شُرَكَاءَ فِي الْغَنِيمَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَصَابَ الرَّجُلُ الْمَفْقُودُ غَنَائِمَ، وَاَلَّذِينَ قَامُوا لِانْتِظَارِهِ غَنَائِمَ. وَالسَّرِيَّةُ كَذَلِكَ، ثُمَّ الْتَقَوْا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا إلَى الْمُعَسْكَرِ، فَلَهُمْ النَّفَلُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا. لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي إحْرَازِ الْمُصَابِ بِالْمُعَسْكَرِ. 1013 - وَلَوْ لَمْ يَلْتَقُوا حَتَّى أَتَى كُلُّ فَرِيقٍ الْمُعَسْكَرَ، فَلِكُلِّ فَرِيقٍ النَّفَلُ مِمَّا أَصَابَ خَاصَّةً. لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِإِحْرَازِ ذَلِكَ بِالْمُعَسْكَرِ. وَالْإِمَامُ إنَّمَا نَفَّلَ لَهُمْ الثُّلُثَ مِمَّا أَصَابُوا، فَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ. ثُمَّ الْبَاقِي يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. 1014 - وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ بَعْدَمَا بَعُدَتْ مِنْ الْمُعَسْكَرِ تَفَرَّقُوا سَرِيَّتَيْنِ، وَبَعُدَتْ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى بِحَيْثُ لَا تَقْدِرُ إحْدَاهُمَا عَلَى عَوْنِ الْأُخْرَى، فَإِنْ الْتَقَوْا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا إلَى الْمُعَسْكَرِ كَانَ لَهُمْ النَّفَلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ حِينَ أَصَابُوا. وَإِنْ لَمْ يَلْتَقُوا حَتَّى أَتَى كُلُّ فَرِيقٍ الْمُعَسْكَرَ، فَلِكُلِّ فَرِيقٍ النَّفَلُ مِمَّا أَصَابُوا خَاصَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 وَكَذَلِكَ لَوْ الْتَقَوْا فِي مَكَان دُونَ الْمُعَسْكَرِ بِحَيْثُ يَرَاهُمْ أَهْلُ الْمُعَسْكَرِ، لَوْ قُوتِلُوا لَنَصَرُوهُمْ. فَهَذَا وَمَا لَوْ الْتَقَوْا فِي الْمُعَسْكَرِ سَوَاءٌ. لِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الْمُعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ جَوْفِ الْمُعَسْكَرِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ إحْرَازَ الْمُصَابِ (ص 210) بِالْمُعَسْكَرِ يَحْصُلُ بِالِاتِّصَالِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ. 1015 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ هَذِهِ السَّرِيَّةَ حِينَ بَعُدُوا مِنْ الْمُعَسْكَرِ وَأَصَابُوا غَنَائِمَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْمُعَسْكَرِ، فَخَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَمْ يَلْتَقُوا مَعَ أَهْلِ الْمُعَسْكَرِ. فَالْغَنِيمَةُ كُلُّهَا لَهُمْ: يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ دُونَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّهُمْ تَفَرَّدُوا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ سَبَبُ تَأَكُّدِ الْحَقِّ. فَإِنْ قَالُوا: سَلِّمْ لَنَا نَفْلَنَا أَوَّلًا، لَمْ يُسَلِّمْ لَهُمْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَمَّا صَارَتْ لَهُمْ كُلُّهَا بَطَلَ التَّنْفِيلُ، بِمَنْزِلَةِ مَا كَانُوا دَخَلُوا مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ. 1016 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَنَفَّلَ لَهُمْ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ أَوْ قَبْلَ الْخُمُسِ كَانَ هَذَا التَّنْفِيلُ بَاطِلًا. لِأَنَّهُ مَا خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالتَّنْفِيلِ، وَلَا مَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّنْفِيلِ سِوَى إبْطَالِ الْخُمُسِ، وَإِبْطَالُ تَفْضِيلِ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ. وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. بِخِلَافِ مَا إذَا الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَفِي التَّنْفِيلِ هُنَاكَ مَعْنَى التَّخْصِيصِ لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 لِأَنَّ الْجَيْشَ شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، فَفِي التَّنْفِيلِ يَخُصُّهُمْ بِبَعْضِ الْمُصَابِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. 1017 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ أَصَابَتْ الْغَنَائِمَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ فِيهِ رِدْءًا لَهُمْ، يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغِيثُوهُمْ إذَا اسْتَغَاثُوا، ثُمَّ خَرَجُوا بِالْغَنِيمَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا الْمُعَسْكَرَ، فَأَهْلُ الْمُعَسْكَرِ شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْمُصَابِ. لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِصَابَةِ حُكْمًا حِينَ كَانُوا رِدْءًا لَهُمْ وَقْتَ الْإِصَابَةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. 1018 - وَإِذَا ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ فَلِأَصْحَابِ السَّرِيَّةِ نَفْلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَجَعُوا بِالْمُصَابِ إلَى الْعَسْكَرِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ يَلْحَقُ الْجَيْشَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي الْمُصَابِ. وَإِنْ كَانَ الْمَدَدُ لَمْ يَلْحَقْ الْجَيْشَ وَلَمْ يَقْرُبُوا مِنْهُمْ حَتَّى خَرَجُوا فَلَا شَرِكَةَ لَهُمْ فِي الْمُصَابِ. وَإِنْ قَرُبُوا مِنْهُمْ بِحَيْثُ لَوْ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ أَغَاثُوهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ الْجَيْشُ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعُوا، فَلَهُمْ الشَّرِكَةُ فِي الْمُصَابِ. لِأَنَّهُمْ حِينَ قَرُبُوا مِنْهُمْ فَكَأَنَّهُمْ خَالَطُوهُمْ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الْإِحْرَازُ بِقُوَّةِ الْجَمَاعَةِ. 1019 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 الْحَرْبِ نَفَّلَ قَوْمًا مَا صَعِدُوا الْحِصْنَ بِالسَّلَالِيمِ حَتَّى فَتَحُوهُ، فَنَفْلُهُ جَائِزٌ فِي حِصَّةِ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ السَّرِيَّةُ إلَى الْمُعَسْكَرِ حَتَّى خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ جَازَ نَفْلُ أَمِيرِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابُوا. لِأَنَّهُمْ لَا شَرِكَةَ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ مَعَهُمْ فِي الْمُصَابِ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لَهُمْ خَاصَّةً. وَنَفْلُ الْأَمِيرِ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يَبْطُلُ نَفْلُ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ لَهُمْ لِفَوَاتِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّنْفِيلِ، حَتَّى اخْتَصُّوا بِالسَّرِيَّةِ فِي الْمُصَابِ دُونَ الْعَسْكَرِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ تَنْفِيلُ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْمُصَابِ وَإِنْ رَجَعُوا إلَى الْعَسْكَرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَرْجِعُوا كَانَ الْمُصَابُ لَهُمْ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْعَسْكَرِ الشَّرِكَةُ مَعَهُمْ بِالرُّجُوعِ، وَقَدْ سَبَقَ تَنْفِيلُهُ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ فَلَا يَتَضَمَّنُ هَذَا التَّنْفِيلُ إبْطَالَ حَقٍّ ثَابِتٍ لَهُمْ. قُلْنَا: هُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الشَّرِكَةَ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ خَاصَّةً، بَلْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الرِّدْءِ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مَعَهُمْ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحَقَّ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ لَمَا اسْتَحَقُّوا، إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُوا عَنْ الْغَنِيمَةِ، بِمَنْزِلَةِ التُّجَّارِ وَالْأُسَرَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. 1020 - وَاَلَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ (ص 211) إذَا الْتَحَقُوا بِالْجَيْشِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَمْ يَسْتَحِقُّوا الشَّرِكَةَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا. وَهَا هُنَا لَمَّا اسْتَحَقُّوا عَرَفْنَا أَنَّ الطَّرِيقَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا. 1021 - وَعَلَى هَذَا لَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْ دَارِ السَّلَامِ وَنَفَّلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 لَهُمْ الثُّلُثَ وَقَالَ: تَقَدَّمُوا حَتَّى نَلْحَقَكُمْ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ تَبِعَهُمْ الْعَسْكَرُ، فَإِنْ الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُمْ النَّفَلُ. وَإِنْ لَمْ يَلْتَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ بِأَنْ أَخْطَأَ الْعَسْكَرُ الطَّرِيقَ أَوْ بَدَا لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَبْعَثَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ فَلَا شَيْءَ لِأَصْحَابِ السَّرِيَّةِ مِنْ النَّفْلِ. لِأَنَّ الْمُصَابَ غَنِيمَةٌ لَهُمْ خَاصَّةً. 1022 - وَإِذَا الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالْمُصَابُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَسْكَرِ، فَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّنْفِيلِ، فَلِهَذَا اسْتَحَقُّوا نَفْلَهُمْ. وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ فَلَا نَفْلَ لِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى الْمَبْعُوثَةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَيَرْوُونَ فِيهِ أَثَرًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا: لَا نَفْلَ لِلسَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يَلْتَحِقْ بِهِمْ الْجَيْشُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ فِي هَذَا التَّنْفِيلِ إبْطَالَ الْخُمُسِ، وَإِبْطَالَ تَفْضِيلِ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ. 1023 - وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ لَهُمْ: لَا خُمُسَ عَلَيْكُمْ فِيمَا أَصَبْتُمْ، أَوْ الْفَارِسُ وَالرَّاجِلُ سَوَاءٌ. فِيمَا أَصَبْتُمْ، كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ كُلُّ تَنْفِيلٍ لَا يُفِيدُ إلَّا ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ فِي قَوْلِ الْأَمِيرِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ إبْطَالَ الْخُمُسِ عَنْ الْأَسْلَابِ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَقِيمًا؟ قُلْنَا: هُنَاكَ الْمَقْصُودُ بِالتَّنْفِيلِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ، أَوْ تَخْصِيصُ الْقَاتِلِينَ بِإِبْطَالِ شَرِكَةِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ عَنْ الْأَسْلَابِ، ثُمَّ تَثْبِيتُ إبْطَالِ حَقِّ أَرْبَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 الْخُمُسِ عَنْ خُمُسِ الْأَسْلَابِ تَبَعًا، وَقَدْ يَثْبُتُ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا، بِمَنْزِلَةِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ فِي الْبَيْعِ، وَالْوُقُوفِ فِي الْمَنْقُولِ، وَيَثْبُتُ تَبَعًا لِلْعَقَارِ وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ ظَهَرَ عَلَى بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا خَرَاجًا، وَيُبْطِلُ مِنْهَا سِهَامَ مَنْ أَصَابَهَا وَالْخُمُسَ. 1024 - وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَيَجْعَلَ حِصَّةَ الْخُمُسِ خَرَاجًا لِلْمُقَاتِلَةِ الْأَغْنِيَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْإِبْطَالِ الْخُمُسُ مَقْصُودًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَفِي الْأَوَّلِ إبْطَالُ الْخُمُسِ يَثْبُتُ تَبَعًا لِإِبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يُخَلِّصُ الْمَنْفَعَةَ لِلْمُقَاتِلَةِ. 1025 - وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ لِلسَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، دُونَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَانَ هَذَا جَائِزًا. لِأَنَّ فِي هَذَا التَّنْفِيلِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ. فَإِنَّ الْمُقَاتِلَ وَالْمُصِيبَ يَخْتَصُّ بِالنَّفْلِ، وَيَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى التَّحْرِيضِ. بِخِلَافِ مَا إذَا نَفَّلَ لَهُمْ الثُّلُثَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ التَّنْفِيلِ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ وَلَا إبْطَالُ حَقِّ أَحَدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ. 1026 - وَلَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ لِقِتَالٍ، وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، خَمَّسَ مَا أَصَابُوا. لِأَنَّهُمْ أَصَابُوا عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدِّينِ، فَإِنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 كَانُوا ظَاهِرِينَ بِقُوَّةِ الْإِمَامِ، فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَمُدَّهُمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ. فَلِهَذَا يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا، بِخِلَافِ مَا يُصِيبُ الْمُتَلَصِّصُ الْخَارِجُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ. 1027 - وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ لَهُمْ: مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ عَلَى سِهَامِكُمْ، (ص 212) وَلَا خُمُسَ فِيهِ، فَهُوَ جَائِزٌ. بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَقَالَ لَهُمْ الْإِمَامُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. لِأَنَّ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ إنَّمَا يَثْبُتُ الْخُمُسُ فِيمَا أَصَابُوا بِاعْتِبَارِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُبْطِلَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ وُجُوبُهُ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ. فَأَمَّا وُجُوبُ الْخُمُسِ فِيمَا أَصَابَ أَهْلُ الْمَنَعَةِ فَلَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا مُغِيرِينَ بِغَيْرِ إذْنِهِ خَمَّسَ مَا أَصَابُوا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَمَعْنَى إعْزَازِ الدِّينِ يَحْصُلُ بِقِتَالِهِمْ. فَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ مِنْ مُصَابِهِمْ بِإِسْقَاطِ الْإِمَامِ أَيْضًا. وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ هُنَاكَ كَالْمُبَيِّنِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا خُمُسَ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَمُدَّهُمْ وَأَنْ يُغِيثَهُمْ إذَا اسْتَغَاثُوا بِهِ، فَالْتَحَقُوا فِي ذَلِكَ بِالْمُتَلَصَّصِينَ، وَانْعَدَمَ بِهِ السَّبَبُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ الْخُمُسُ لِأَجْلِهِ فِي مُصَابِهِمْ. وَفِي حَقِّ أَهْلِ الْمَنَعَةِ لَمْ يَنْعَدِمْ السَّبَبُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قُوَّتُهُمْ، وَمَنَعَتُهُمْ، وَذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ: أَبْطَلْت الْخُمُسَ عَنْكُمْ. 1028 - وَلَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ وَنَفَّلَهُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ كَانَ جَائِزًا. وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّنْفِيلِ تَخْصِيصَ حَقِّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ بِالْإِبْطَالِ دُونَ حَقِّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ. وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ حَقِّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ بِالْإِبْطَالِ بِسَبَبِ التَّنْفِيلِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 أَنْ لَا يَجُوزَ تَخْصِيصُ حَقِّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ بِالْإِبْطَالِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَرْبَابَ الْخُمُسِ يَسْتَحِقُّونَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَلَا عَنَاءٍ مِنْ جِهَتِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّهِمْ إلَّا تَبَعًا لِحَقِّ الْمُقَاتِلَةِ. وَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بِالْعَنَاءِ وَالْقِتَالِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لِفَضْلِ عَنَاءٍ كَانَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ. 1029 - وَلَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ: لَكُمْ مِمَّا أَصَبْتُمْ الرُّبُعُ بَعْدَ الْخُمُسِ. وَبَعَثَ سَرِيَّةً أُخْرَى وَقَالَ: لَكُمْ الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ. فَضَلَّ رَجُلٌ مِنْ كُلِّ سَرِيَّةٍ الطَّرِيقَ وَوَقَعَ مَعَ السَّرِيَّةِ الْأُخْرَى فَذَهَبَ مَعَهُمْ. وَأَصَابَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ الْغَنَائِمَ، ثُمَّ لَمْ يَلْتَقُوا حَتَّى انْتَهَوْا إلَى الْعَسْكَرِ. فَإِنَّ مَا أَصَابَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ يُقْسَمُ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الرَّجُلُ الَّذِي الْتَحَقَ بِهِمْ، عَلَى قَدْرِ مَا جَعَلَ لَهُمْ الْإِمَامُ فِي الِاسْتِحْسَانِ. وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فِيمَا سَبَقَ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ جَعَلَ لَهُ الْإِمَامُ الثُّلُثَ أَخَذَ الثُّلُثَ مِنْ حِصَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ جَعَلَ لَهُ الرُّبُعَ أَخَذَ الرُّبُعَ، وَكَانَ مَا بَيْنَ الرُّبُعِ إلَى الثُّلُثِ مِنْ نَصِيبِهِ غَنِيمَةً لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. يَعْنِي أَهْلَ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ نَفْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْمُصَابِ، فَيُجْعَلُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 مِنْهُمْ كَانَ شُرَكَاؤُهُ كَانُوا فِي مِثْلِ حَالِهِ فِي حُكْمِ النَّفْلِ، حَتَّى إذَا كَانَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ مِائَةَ رَجُلٍ قُسِّمَ مُصَابُ كُلِّ سَرِيَّةٍ عَلَى مِائَةٍ لِيَتَبَيَّنَ مُصَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيَأْخُذُ نَفْلَهُ مِنْ جُزْئِهِ ثُلُثًا كَانَ أَوْ رُبْعًا، ثُمَّ الْبَاقِي يَكُونُ غَنِيمَةً. 1030 - وَإِنْ لَحِقَ رَجُلٌ مِنْ إحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى خَاصَّةً قُسِمَ مُصَابُهُمْ عَلَى مِائَةِ سَهْمٍ وَسَهْمٍ. لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مِائَةٌ وَوَاحِدٌ. فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ. 1031 - ثُمَّ يَأْخُذُ الرَّجُلُ اللَّاحِقُ بِهِمْ مِنْ جُزْئِهِ مَا كَانَ سَمَّى الْإِمَامُ لَهُ مِنْ النَّفْلِ. لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْإِصَابَةِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ جُزْئِهِ (ص213) بِالنَّفْلِ مِقْدَارَ مَا سُمِّيَ لَهُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى نَفْلِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي التَّسْمِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ فِي الْمُسْتَحَقِّ بِالتَّسْمِيَةِ. 1032 - فَإِنْ الْتَقَتْ السَّرِيَّتَانِ قَبْلَ أَنْ يَقْرَبُوا مِنْ الْمُعَسْكَرِ فَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمَا أَصَابَ اللَّاحِقَ بِالسَّرِيَّةِ مِنْ النَّفْلِ ضَمَّهُ إلَى نَصِيبِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانَ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مَعَهُمْ فَاقْتَسَمُوا نَفْلَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى مَا كَانَ جَعَلَ لَهُمْ الْإِمَامُ. وَإِنْ لَمْ تُصِبْ تِلْكَ السَّرِيَّةُ شَيْئًا دَخَلَتْ مَعَهُ فِي نَفْلِهِ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْرَازَ بِالْمُعَسْكَرِ هُنَا حَصَلَ بِهِمْ جَمِيعًا، فَكَأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِصَابَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ضَلَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ الطَّرِيقَ، فَذَهَبَ وَحْدَهُ فَأَصَابَ غَنِيمَةً، وَلَمْ تُصِبْ السَّرِيَّةُ شَيْئًا، ثُمَّ الْتَقَوْا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا إلَى الْمُعَسْكَرِ، فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَعَهُ فِي النَّفْلِ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصَابُوهُ جَمِيعًا. وَلَوْ لَمْ يَلْقَوْهُ حَتَّى انْتَهَوْا إلَى الْمُعَسْكَرِ كَانَ النَّفَلُ لَهُ خَاصَّةً. 1033 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّتَيْنِ أَصَابَتَا الْغَنِيمَةَ وَهُمَا مُتَقَارِبَتَانِ بِحَيْثُ يُغِيثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إلَّا أَنَّ كُلَّ سَرِيَّةٍ أَصَابَتْ غَنِيمَةً عَلَى حِدَةٍ، لَمْ يَدْخُلْ بَعْضُهُمْ فِي نَفْلِ بَعْضٍ. لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْلِ بِالتَّسْمِيَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ سَمَّى النَّفَلَ لِبَعْضِ السَّرِيَّةِ خَاصَّةً لَمْ يَكُنْ لِلْبَاقِينَ مَعَهُمْ شَرِكَةٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ شَارَكُوهُمْ فِي الْإِصَابَةِ حَقِيقَةً. فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 1034 - وَإِنْ شَارَكَتْ إحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ الْأُخْرَى فِي الْإِصَابَةِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَعْضِ أَنْ يَدْخُلَ فِي نَفْلِ الْبَعْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّرِيَّتَيْنِ لَوْ قَاتَلَتَا فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ أَهْلُ الْعَسْكَرِ عَلَى أَنْ يُعِينُوهُمَا، لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ مَعَهُمْ شَرِكَةٌ فِي النَّفْلِ، بِاعْتِبَارِ هَذَا الْقُرْبِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ السَّرِيَّتَيْنِ. 1035 - وَلَكِنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا جَمِيعًا غَنِيمَةً وَاحِدَةً قُسِّمَتْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ لِيَتَبَيَّنَ مَحَلُّ النَّفْلِ لِكُلِّ سَرِيَّةٍ فَإِنَّ مَحَلَّ النَّفْلِ مَا أَصَابَتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ مُصَابُ كُلِّ سَرِيَّةٍ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ. ثُمَّ تَأْخُذُ كُلُّ سَرِيَّةٍ نَفْلَهَا مِمَّا أَصَابَهَا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي النَّفْلِ يَسْتَوِي الْفَارِسُ وَالرَّاجِلُ. إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ بَيَّنَ لَهُمْ بِأَنْ يَقُولَ: لَكُمْ الرُّبْعُ بَعْدَ الْخُمُسِ، لِلْفَارِسِ مِنْكُمْ سَهْمُ الْفَارِسِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمُ الرَّاجِلِ. لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ، فَإِذَا فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي التَّسْمِيَةِ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِتَسْمِيَتِهِ وَإِذَا لَمْ يُفَضِّلْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَلَا يُقَالُ. 1036 - وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْإِمَامُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُمْ فِي هَذَا بِنَاءً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ بِسَبَبِ الْقِتَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفَلَ غَيْرُ الْغَنِيمَةِ. فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ رَضَخَ لَهُمْ الْإِمَامُ بِاعْتِبَارِ جَزَائِهِمْ وَعَنَائِهِمْ. وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَإِنْ كَانَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ التَّقْيِيدُ فِي الْغَنِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّقْيِيدِ فِي النَّفْلِ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ فِي النَّفْلِ إطْلَاقُ التَّسْمِيَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. أَلَا نَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَاعْتَوَرَ الْقَتِيلَ فَارِسٌ وَرَاجِلٌ حَتَّى قَتَلَاهُ، كَانَ سَلَبُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؟ 1037 - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ لِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعَثَهُمْ سَرِيَّةً: لَكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 الرُّبْعُ مِمَّا أَصَبْتُمْ. فَكَانَ فِيهِمْ فُرْسَانٌ وَرَجَّالَةٌ، كَانَ الرُّبْعُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. (ص 214) 1038 - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ سِهَامٌ مَعْرُوفَةٌ لِيُعْتَبَرَ النَّفَلُ بِهَا بِخِلَافِ الْمُسْلِمِينَ. قُلْنَا: أَرَأَيْتُمْ لَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً فِيهَا مِائَتَا رَجُلٍ: مِائَةٌ مُسْلِمُونَ وَمِائَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَنَفَّلَهُمْ الرُّبْعَ. فَإِنْ قَسَمَ النَّفَلَ بَيْنَهُمْ فَجَعَلَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ نِصْفَهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَلِلْمُسْلِمِينَ نِصْفَهُ، وَفَضَّلَ فِيهِ الْفَارِسَ عَلَى الرَّاجِلِ، كَأَنَّ الرَّاجِلَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَدْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ رَاجِلُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ عَمِلَا عَمَلًا وَاحِدًا، وَأَجْزَيَا جَزَاءً وَاحِدًا، فَأَيُّ فِعْلٍ يَكُونُ أَقْبَحَ مِنْ هَذَا. فَكَأَنَّهُ أَشَارَ فِي هَذَا إلَى مُخَالِفٍ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَلَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَنْ الْمُخَالِفُ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ لَهُ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَإِنْ كَانَا فِي حَادِثَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 [بَابُ النَّفْلِ الَّذِي يُنَفِّلُهُ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ] 70 - بَابُ النَّفْلِ الَّذِي يُنَفِّلُهُ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ وَإِذَا خَرَجَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ مَعَ السَّرِيَّةِ وَخَلَّفَ الضَّعَفَةَ فِي الْمُعَسْكَرِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، فَابْتُلُوا بِالْقِتَالِ فَنَفَّلَ لَهُمْ أَمِيرَهُمْ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ نَفْلُ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ. لِأَنَّ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ فِي الْمُعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ سَرِيَّةٍ وَجَّهَهُمْ مِنْ الْمُعَسْكَرِ إلَى نَاحِيَةٍ، فَكَمَا أَنَّ لِأَمِيرِهِمْ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً دُونَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ. فَهُنَا لِأَمِيرِ الضَّعَفَةِ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً دُونَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ فِي حُكْمِ التَّنْفِيلِ. 1040 - وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ الَّذِينَ نَفَّلَ لَهُمْ الْإِمَامُ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ بَعُدَ مِنْ الْمُعَسْكَرِ، ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ سَرِيَّتِهِ وَنَفَّلَهُمْ أَقَلَّ مِنْ النَّفْلِ الْأَوَّلِ وَأَكْثَرَ، فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حِصَّةِ أَصْحَابِ سَرِيَّتِهِ. ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصِيبَ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ غَنِيمَةٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى السَّرِيَّةِ الْأُولَى. ثُمَّ يَلْحَقُونَ جَمِيعًا بِأَهْلِ الْمُعَسْكَرِ. وَفِي هَذَا يَجُوزُ النَّفَلُ لِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى، وَيُرْفَعُ ذَلِكَ مِمَّا جَاءُوا بِهِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حِصَّةَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَنْفُذَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ نَفْلُ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ تَنْفِيلَ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ الْأُولَى إنَّمَا يَجُوزُ فِي حِصَّةِ أَصْحَابِهِ خَاصَّةً مِنْ النَّفْلِ وَالْغَنِيمَةِ جَمِيعًا دُونَ حِصَّةِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ حِصَّتَهُمْ يُعْطِي مِنْ ذَلِكَ نَفْلَ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ. فَإِنْ كَانَ يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ حِصَّتِهِمْ وَيَفْضُلُ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَمِيرِهِمْ عَلَى حِصَّةِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ أَذِنَ لَهُ فِي التَّنْفِيلِ، فَحِينَئِذٍ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الْأَمِيرِ يَنْفُذُ تَنْفِيلُهُ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا إذَا لَمْ يَلْقَوْا أَهْلَ الْعَسْكَرِ حَتَّى خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. فَهَاهُنَا يَبْطُلُ نَفْلُ السَّرِيَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُصَابِ لَهُمْ خَاصَّةً، وَالنَّفَلُ الْعَامُّ فِي مِثْلِهِ بَاطِلٌ. كَمَا لَوْ كَانُوا بَعَثُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَجَازَ نَفْلُ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ سَرِيَّةٍ مَبْعُوثَةٍ مِنْ جَيْشٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَقَدْ نَفَّلَ لَهُمْ أَمِيرُهُمْ. فَيُعْطِيهِمْ النَّفَلَ مِنْ الْمُصَابِ أَوَّلًا ثُمَّ يَقْسِمُ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ السَّرِيَّةِ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. 1041 - وَلَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ مِنْ الْمُعَسْكَرِ سَرِيَّةً وَنَفَّلَ لَهُمْ الرُّبْعَ قَبْلَ الْخُمُسِ، فَهُوَ تَنْفِيلٌ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابُوا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ مَتَاعٍ. لِأَنَّهُ سَمَّى لَهُمْ بِلَفْظٍ عَامٍّ. 1042 - فَإِنْ خَصَّ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا خَصَّ. لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَهُمْ بِالتَّسْمِيَةِ، فَيُرَاعِي صِفَةَ التَّسْمِيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 فَإِنْ جَاءَتْ السَّرِيَّةُ بِغَنَائِمَ فِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، فَأَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ السَّرِيَّةِ بَعْضَ السَّبْيِ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ. لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ (ص 215) لَهُمْ بِطَرِيقِ الِاغْتِنَامِ، كَاسْتِحْقَاقِ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ لِلْجَيْشِ. فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْعِتْقُ مِنْ بَعْضِ الْغَانِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، بَلْ الِاسْتِحْقَاقُ لِلنَّفْلِ بِالتَّسْمِيَةِ. وَقَدْ صَحَّتْ مِنْ الْإِمَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ. قُلْنَا: تَسْمِيَةُ الْإِمَامِ لِقَطْعِ شَرِكَةِ الْجَيْشِ مَعَهُمْ فِي مِقْدَارِ مَا نَفَّلَ لَهُمْ، لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ بَعْدَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ بِالْإِصَابَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمْ لَا يُفَضَّلُ فِي هَذَا الْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِلِ؟ وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْإِصَابَةِ لَثَبَتَ التَّفْضِيلُ. قُلْنَا: الْإِمَامُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ كَمَا قَطَعَ شَرِكَةَ الْجَيْشِ مَعَهُمْ قَطَعَ حَقَّ الْفَارِسِ فِي التَّفْضِيلِ، لِضَرُورَةِ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي النَّفْلِ. ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ انْقِطَاعِ الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ وَاخْتِصَاصِهِمْ فِي النَّفْلِ أَنْ يَتَأَكَّدَ حَقُّهُمْ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَيَكُونُ الْمُنَفَّلُ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَوْ أَنَّ الْجَيْشَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنَائِمِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَعْضَ السَّبْيِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَقَعُ نَصِيبُهُ مِنْهَا بِالْقِسْمَةِ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمَ الثَّمَنَ بَيْنَهُمْ. وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ مِنْ السَّبْيِ. فَهَذَا مَوْجُودٌ فِي النَّفْلِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ أَيْضًا. ثُمَّ خَرَّجَ الْمَسَائِلَ عَلَى هَذَا فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 وَلَوْ كَانَ فِي السَّبْيِ قَرِيبٌ لِبَعْضِ أَهْلِ السَّرِيَّةِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. 1045 - وَلَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ فَلَيْسَ لِأَصْحَابِ السَّرِيَّةِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ نَفْلِهِمْ. كَمَا لَا يَكُونُ لِلْجَيْشِ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. 1046 - وَلَوْ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْغَنِيمَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السَّرِيَّةُ فَأَحْرَزُوهَا ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمِينَ قَاتَلُوهُمْ حَتَّى اسْتَنْقَذُوا ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ رَدُّوا النَّفَلَ إلَى أَهْلِهِ. لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَأَكَّدَ فِي الْمُنَفَّلِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ فَأَحْرَزُوهَا ثُمَّ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُمْ جَيْشٌ آخَرُ فَهُنَاكَ الرِّوَايَةُ وَاحِدَةٌ. أَنَّ الْأَوَّلِينَ إنْ ظَفِرُوا بِمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَأَكَّدَ فِيهَا بِالْإِحْرَازِ. وَالْحَقُّ الْمُتَأَكِّدُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا أَحْرَزَهُ الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ الْمُتَأَكِّدِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا إذَا وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَذُكِرَ هُنَا: أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا عَلَى قِيَاسِ الْمَرْهُونِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ لِمَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ الْمُتَأَكِّدِ فِيهِ. وَذُكِرَ بَعْدَ هَذَا: أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْجَيْشِ الْأَوَّلِ إنَّمَا تَأَكَّدَ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمَ الثَّمَنَ بَيْنَهُمْ، فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْقِيمَةِ مُفِيدًا لَهُمْ شَيْئًا بِخِلَافِ الْأَخْذِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَحْرَزَ الْكُفَّارُ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ بِالْمِثْلِ، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَبِخِلَافِ الْمَرْهُونِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِ الْعَيْنِ ثَابِتٌ، فَيَكُونُ الْأَخْذُ مُفِيدًا فِي حَقِّهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُنَفَّلِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ (ص 216) ، فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي لَا نَفْلَ فِيهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ، فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا الْعَدُوُّ وَأَحْرَزُوهَا ثُمَّ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُمْ جَيْشٌ آخَرُ، فَلَا سَبِيلَ لِلْجَيْشِ الْأَوَّلِ عَلَيْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ. لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُمْ كَانَ حَقًّا ضَعِيفًا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَمْ يُورَثْ نَصِيبُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ شَارَكُوهُمْ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ. وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ يُبْطِلُ إحْرَازَ الْمُشْرِكِينَ الْمَالَ بِدَارِهِمْ فَكَأَنَّهَا مَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ حَتَّى الْآنَ. وَأَمَّا فِي الْمُنَفَّلِ فَالْحَقُّ مُتَأَكِّدٌ لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، حَتَّى إنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ يُورَثُ نَصِيبُهُ، وَلَا يَشْرَكُهُمْ الْمَدَدُ فِي ذَلِكَ إذَا لَحِقُوهُمْ. فَلِهَذَا وَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 وَلَوْ قُسِمَتْ الْغَنَائِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِيعَتْ وَلَمْ يُقَسَّمْ الثَّمَنُ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ وَعَلَى الثَّمَنِ فَأَحْرَزُوهَا، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُمْ عَسْكَرٌ آخَرُ، فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَ الْغَنَائِمَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ. لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالشِّرَاءِ، فَيَرُدُّونَ الثَّمَنَ عَلَى الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ كَمَا يَرُدُّونَ عَلَى الْجَيْشِ مِنْ أَمْوَالِ سَائِرِ النَّاسِ. لِأَنَّ بَيْعَ الْإِمَامِ حِينَ نَفَذَ مُوجِبُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، فَهُوَ مُوجِبُ الْمِلْكِ فِي الثَّمَنِ لِمَنْ وَقَعَ الْبَيْعُ لَهُمْ أَيْضًا. 1048 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ لَمَّا جَاءَتْ بِالْغَنَائِمِ وَلَهُمْ فِيهَا النَّفَلُ اسْتَهْلَكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ جَمِيعَ تِلْكَ الْغَنَائِمِ. فَهُوَ ضَامِنٌ لِحِصَّةِ النَّفْلِ خَاصَّةً، إلَّا مَنْ قُتِلَ مِنْ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ النَّفَلَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ. 1049 - وَلَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْغَانِمِينَ اسْتَهْلَكَ الْغَنَائِمَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِضَعْفِ حَقِّهِمْ فِيهَا. وَلَوْ اسْتَهْلَكَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ كَانَ ضَامِنًا لِتَأَكُّدِ الْحَقِّ فِيهَا بِالْإِحْرَازِ، إلَّا مَنْ قُتِلَ مِنْ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا. لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الرِّجَالِ لَا يَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ مَا لَمْ يَضْرِبْ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ الرِّقَّ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَقْتُلَهُمْ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ فَيَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً، فَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْمُنَفَّلِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ جَاءَتْ بِغَنَائِمَ فِيهَا طَعَامٌ وَعَلَفٌ فَلِأَهْلِ الْعَسْكَرِ أَنْ يَأْكُلُوا ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ. لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ لِلسَّرِيَّةِ فِيهَا بِسِهَامِهِمْ. فَكَمَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السَّرِيَّةِ أَنْ يَتَنَاوَلَ فِيهَا مِقْدَارَ حَاجَتِهِ فَكَذَلِكَ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا. لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ أَنَّ الْمُنَفَّلَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ. فَإِنَّ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَمَانٍ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْمُنَفَّلِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ كَذَلِكَ. قُلْنَا: إنَّمَا افْتَرَقَا فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ التَّنَاوُلِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَسْتَصْحِبُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ، وَلَا يَجِدُونَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ شِرَاءً. وَمَا يَأْخُذُونَهُ يَكُونُ غَنِيمَةً. وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تَتَحَقَّقُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِذَا صَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى مِنْ مُوجِبِ الْمُفَاوَضَةِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. ثُمَّ هَذِهِ الضَّرُورَةُ تَتَحَقَّقُ فِي الْغَنَائِمِ الَّتِي فِيهَا نَفْلٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْغَنَائِمِ الَّتِي لَا نَفْلَ فِيهَا فَيَصِيرُ (ص 217) مُسْتَثْنًى مِنْ حُكْمِ النَّفْلِ أَيْضًا. وَلِهَذَا جَازَ لِأَصْحَابِ السَّرِيَّةِ التَّنَاوُلُ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَسَمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَعْطَوْهُمْ النَّفَلَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ كَمَا أَعْطَوْهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ صَارَ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ التَّنْفِيلِ لَمَا اسْتَحَقَّ النَّفَلَ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 قُلْنَا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدَرِ الضَّرُورَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ الَّتِي لَا نَفْلَ فِيهَا إذَا قُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَالطَّعَامُ وَغَيْرُ الطَّعَامِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؟ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ تَكُنْ بَاقِيَةً عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُنَفَّلِ. وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ لِلتُّجَّارِ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْغُزَاةِ الَّذِينَ لَهُمْ شَرِكَةٌ فِي الْقِسْمَةِ دُونَ التُّجَّارِ. وَلَوْ تَنَاوَلَ التُّجَّارُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَوْ عَلَفُوا دَوَابَّهُمْ لَمْ يَغْرَمُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي قُلْنَا لَا يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ فِيهَا، مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَمَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا الْمُنَفَّلَ، وَغَيْرُ الْمُنَفَّلِ فِيهِ سَوَاءٌ، بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الرِّجَالِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا. 1051 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ أَصَابُوا أَرَاضِي بِمَا فِيهَا. فَلَهُمْ النَّفَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِتَعْمِيمِ التَّنْفِيلِ مِنْ الْإِمَامِ. فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَمُنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا وَيَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا، فَرُبَّمَا رَأَى النَّظَرَ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَ لِأَصْحَابِ النَّفْلِ أَنْ يَأْبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهِ. لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي النَّفْلِ كَحَقِّ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ. وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ الْمَنِّ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ هُنَا. 1052 - إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِيَهُمْ بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ عِوَضًا مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِفِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ حِينَ بَعَثَ النَّاسَ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 الْعِرَاقِ قَالَ لِجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ: لَك وَلِقَوْمِك رُبْعُ مَا غَلَبْتُمْ عَلَيْهِ فَفَتَحُوا السَّوَادَ. ثُمَّ جَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْضَ خَرَاجٍ. وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَا نَفَّلَ جَرِيرًا وَقَوْمَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْهُ فَقَالَتْ: إنَّ ذَا قَرَابَةٍ لِي مَاتَ مِنْ الْغُزَاةِ فَتَرَكَ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ مِيرَاثًا، وَلَسْت أُسَلِّمُ مَا صَنَعْت إلَّا أَنْ تُعْطِيَنِي دَنَانِيرَ. فَأَعْطَاهَا كَفًّا مِنْ دَنَانِيرَ. وَفِي الْمَغَازِي يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهَا قَالَتْ: لَسْت أَرْضَى حَتَّى تَمْلَأَ كَفِّي ذَهَبًا وَتَحْمِلَنِي عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ يُورَثُ نَصِيبُهُ. وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَرْضِيَ أَصْحَابَ النَّفْلِ بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا إذَا أَرَادَ الْمَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَرَاضِي بِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 [بَابُ مَا يَبْطُلُ فِيهِ النَّفَلُ وَمَا لَا يَبْطُلُ] 71 - بَابُ مَا يَبْطُلُ فِيهِ النَّفَلُ وَمَا لَا يَبْطُلُ وَإِذَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَسْكَرًا إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَعَلَيْهِمْ أَمِيرٌ فَبَعَثَ أَمِيرَهُمْ سَرِيَّةً وَنَفَّلَ لَهَا الرُّبْعَ. ثُمَّ بَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَسْكَرًا آخَرَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَلَقُوا السَّرِيَّةَ بَعْدَمَا غَنِمَتْ الْغَنَائِمَ، ثُمَّ لَحِقُوا جَمِيعًا بِالْمُعَسْكَرِ الْأَوَّلِ، وَأَخْرَجُوا الْغَنَائِمَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالنَّفَلُ سَالِمٌ لِلسَّرِيَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَا أَصَابُوا عَلَى مَا سَمَّى أَمِيرُهُمْ لَهُمْ. لِأَنَّ أَمِيرَ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ مَبْعُوثُ الْخَلِيفَةِ. فَهُوَ فِيمَا يُنَفِّلُ كَالْخَلِيفَةِ، فَيَنْفُذُ تَنْفِيلُهُ فِي حَقِّ الْعَسْكَرَيْنِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ نَفْلِ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ لِمَنْ بَعَثَهُ مِنْ سَرِيَّتِهِ. لِأَنَّ وِلَايَتَهُ هُنَاكَ مَقْصُورَةٌ عَلَى أَهْلِ سَرِيَّتِهِ (ص 218) . أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْمُعَسْكَرِ هُوَ كَسَائِرِ الرَّعَايَا؟ وَهَا هُنَا لِأَمِيرِ الْعَسْكَرِ وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ، بِاعْتِبَارِ تَقْلِيدِ الْخَلِيفَةِ إيَّاهُ. فَيَنْفُذُ تَنْفِيلُهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ، ثُمَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ النَّفْلِ وَالْخُمُسِ يَشْتَرِكُ فِيهِ أَهْلُ الْعَسْكَرَيْنِ وَالسَّرِيَّةِ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي إحْرَازِ ذَلِكَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. 1054 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ وَالْعَسْكَرَيْنِ لَقَوْهُمْ خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَلْقَوْا الْعَسْكَرَ الْأَوَّلَ فَلِلسَّرِيَّةِ أَيْضًا نَفْلُهَا. لِأَنَّ نَفْلَهُمْ قَائِمٌ مَقَامَ الْخَلِيفَةِ فِي التَّنْفِيلِ لَهُمْ، فَيَسْتَحِقُّونَ النَّفَلَ بِتَسْمِيَتِهِ لَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 سَوَاءٌ رَجَعُوا إلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ يَرْجِعُوا، ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَسْكَرِ الثَّانِي دُونَ الْعَسْكَرِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ أَحْرَزُوهُ. 1055 - وَلَوْ لَمْ تَلْقَ السَّرِيَّةُ وَاحِدًا مِنْ الْعَسْكَرَيْنِ حَتَّى خَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ بَطَلَ نَفْلُهُمْ. لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِالْإِحْرَازِ. وَثُبُوتُ الْحَقِّ فِي الْمُصَابِ هُنَا. وَالنَّفَلُ الْعَامُّ فِي مِثْلِ هَذَا يَكُونُ بَاطِلًا، بِمَنْزِلَةِ السَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. 1056 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَالَ لِلسَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، دُونَ أَصْحَابِهِ كَانَ هَذَا جَائِزًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لَكُمْ الرُّبْعُ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّحْرِيضِ، وَمَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْإِصَابَةِ يَتَحَقَّقُ بِهَذَا التَّنْفِيلِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ قَطْعُ شَرِكَةِ غَيْرِ الْمُصِيبِ مَعَ الْمُصِيبِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فَيَبْطُلُ فِيهِ الْخُمُسُ. وَيُفَضَّلُ الْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِلِ أَيْضًا، تَبَعًا. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا نَفَّلَ لَهُمْ الرُّبْعَ. أَرَأَيْت لَوْ قَالَ لَهُمْ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فَارِسًا فَأَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. أَمَا كَانَ يَصِحُّ هَذَا التَّنْفِيلُ وَفِيهِ تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ، وَلَوْ قَالَ لَهُمْ مَا أَصَبْتُمْ؟ فَلَوْ صَحَّ هَذَا التَّنْفِيلُ كَانَ فِيهِ تَقْلِيلُ نَشَاطِهِمْ فِي الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَزْدَادُ نَصِيبُهُمْ بِالْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ فَقَلَّ مَا يَرْغَبُونَ فِي ذَلِكَ. فَبِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 وَلَوْ أَنَّ الْعَسْكَرَ الثَّانِيَ لَحِقُوا السَّرِيَّةَ الْمَبْعُوثَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبُوا شَيْئًا، ثُمَّ قَاتَلُوا جَمِيعًا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ لَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ الْأَوَّلِ وَخَرَجُوا، فَالْغَنَائِمُ تُقَسَّمُ بَيْنَ السَّرِيَّةِ وَالْعَسْكَرِ الَّذِينَ لَحِقُوهُمْ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. كَأَنَّهُ لَا نَفْلَ فِيهَا. ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى حِصَّةِ السَّرِيَّةِ فَيُخْرَجُ نَفْلُهُمْ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ أَمِيرَهُمْ إنَّمَا نَفَّلَ لَهُمْ الرُّبْعَ مِمَّا أَصَابُوهُمْ دُونَ مَا أَصَابَهُ عَسْكَرٌ آخَرُ. وَلَا يَتَبَيَّنُ مُصَابُهُمْ إلَّا بِالْقِسْمَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْقِسْمَةِ لِيَتَبَيَّنَ مَحَلُّ حَقِّهِمْ، فَيُعْطَوْنَ النَّفَلَ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ يُجْمَعُ مَا بَقِيَ إلَى مَا أَصَابَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَ السَّرِيَّةِ وَالْعَسْكَرَيْنِ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِحْرَازِ. وَلَوْ لَمْ يَلْقَوْا الْعَسْكَرَ الْأَوَّلَ حَتَّى خَرَجُوا قُسِمَ بَيْنَهُمْ أَوَّلًا لِيَتَبَيَّنَ حِصَّةُ السَّرِيَّةِ، ثُمَّ يُعْطَوْنَ نَفْلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ تَنْفِيلَ الْأَمِيرِ لَهُمْ صَحَّ مُطْلَقًا. ثُمَّ يُجْمَعُ مَا بَقِيَ إلَى حِصَّةِ الْعَسْكَرِ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي الْإِحْرَازِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعَثَ سَرِيَّةً وَقَالَ: مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ. فَهَذَا جَائِزٌ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ شَرِكَةِ الْجَيْشِ مَعَهُمْ فِي الْمُصَابِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ، بِخِلَافِ السَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. 1059 - فَإِنْ فَتَحُوا حِصْنًا مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ أَهْلُ الْعَسْكَرِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَجَمِيعُ مَا أَصَابُوا لَهُمْ دُونَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ الْإِمَامَ قَطَعَ شَرِكَةَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ مَعَهُمْ (ص 219) بِتَنْفِيلٍ صَحِيحٍ. 1060 - لَكِنْ لَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ نَصِيبَهُ مِنْ الرَّقِيقِ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ بِالْإِصَابَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَإِنْ انْقَطَعَتْ شَرِكَةُ الْغَيْرِ مَعَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ بِالدَّارِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً، أَوْ رَأَى أَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ. 1061 - قَالَ: وَالنَّفَلُ بِمَنْزِلَةِ رَضْخٍ رُضِخَ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَإِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 كَانَ سِهَامُ الْغَانِمِينَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ هَذَا فَالرَّضْخُ كَيْفَ يَمْنَعُهُ؟ 1062 - وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُمْ: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. ثُمَّ أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَسِيرًا قَدْ أَصَابَهُ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَلَوْ أَصَابَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمِلْكِهِ هُنَا بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا أَمْرٌ آخَرُ مُنْتَظَرٌ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ سِوَى الْإِصَابَةِ، حَتَّى يَتَوَقَّفَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ هُنَاكَ أَمْرًا آخَرَ مُنْتَظَرًا وَهُوَ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ وُجُودِهَا. وَفِي هَذَا الْفَصْلِ لَيْسَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْ رِجَالِ الْأُسَرَاءِ. لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهِ لِلْمُصِيبِ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ. فَكَأَنَّ الْإِمَامَ ضَرَبَ عَلَيْهِ الرِّقَّ. وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا عَلَى الْمُصِيبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَرِمَ لَهُ. فَلَيْسَ لِغَيْرِ الْمُصِيبِ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. وَلَا مِنْ أَهْلِ السَّرِيَّةِ أَنْ يَرُدَّ أَشْيَاءَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ مِنْ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَوْ قُسِمَ بَيْنَهُمْ ثَبَتَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِيمَا أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ إذَا نَفَّلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَصَابَهُ خَاصَّةً، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " مَا أَصَبْتُمْ فَلَكُمْ " قَطْعٌ لِشَرِكَةِ الْجَيْشِ. فَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ. وَالْمِلْكُ فِي الْمُصَابِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ. 1063 - وَلَوْ قَالَ لِلسَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ. فَأَصَابُوا جَمِيعًا أَسِيرًا وَاحِدًا، فَهُوَ لَهُمْ. لِأَنَّ " مَنْ " اسْمٌ مُبْهَمٌ. فَهُوَ عَامٌّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ. فَكَمَا يَتَنَاوَلُهُ الْفَرْدُ مِنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 يَتَنَاوَلُ جَمَاعَتَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الرَّجُلِ لِعَبِيدِهِ: مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ الْعِتْقَ فَهُوَ حُرٌّ. فَشَاءُوا، عَتَقُوا. بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا قَالَ: مَنْ شِئْت عِتْقَهُ مِنْ عَبِيدِي. لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَشِيئَةَ هُنَاكَ إلَى مَنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ " مَنْ " وَهَا هُنَا أَضَافَ الْإِصَابَةَ إلَى مَنْ تَنَاوَلَهُ " مَنْ ". 1064 - وَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُمْ بِالْإِصَابَةِ صَارَ الْأَسِيرُ مَمْلُوكًا لَهُمْ. حَتَّى إذَا كَانَ قَرِيبًا لِبَعْضِهِمْ عَتَقَ حِصَّتُهُ مِنْهُ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ عَتَقَ حِصَّتُهُ. لِأَنَّ الْإِمَامَ حِينَ خَصَّ الْمُصِيبَ بِالْمُصَابِ فَذَلِكَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصِيبَ الْأَسِيرَ جَمَاعَةٌ وَبَيْنَ أَنْ يُصِيبَ الْوَاحِدُ، فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِهِ. فَكَذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ. 1065 - وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُمْ: مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ. وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَمْ يَعْتِقْ الْأَسِيرُ بِإِعْتَاقِ أَحَدِهِمْ إيَّاهُ وَلَا بِقَرَابَتِهِ مِنْهُ. لِأَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقِسْمَةِ مِنْ الْإِمَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصِيبَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُصَابِ، وَلَكِنْ مَا يُصِيبُ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، وَبِدُونِ الْقِسْمَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَخْتَصُّ الْمُصِيبُ بِالْمُصَابِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَتِلْكَ الْإِصَابَةُ فِي مَعْنَى الِاصْطِيَادِ. فَكَمَا أَنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّيْدِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ، لِلْوَاحِدِ كَانَ أَوْ لِلْجَمَاعَةِ، فَكَذَلِكَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلسَّرِيَّةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْإِصَابَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَخْتَصُّ الْمُصِيبُ بِالْمُصَابِ وَلَكِنْ يُشَارِكُهُ فِيهِ أَصْحَابُهُ. فَتِلْكَ الْإِصَابَةُ فِي مَعْنَى إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ. وَمُجَرَّدُ الْأَخْذِ فِي الْغَنِيمَةِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 وَلَوْ بَعَثَ الْأَمِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثَلَاثَةً طَلِيعَةً، وَنَفَّلَ لَهُمْ الرُّبْعَ مِمَّا يُصِيبُونَ، فَأَصَابُوا أَسِيرًا، ثُمَّ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ أَوْ كَانَ (ص 220) قَرِيبًا مِنْهُ، لَمْ يَعْتِقْ. لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ وَأَرْبَابَ الْخَمْسِ شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْمُصَابِ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْبَيْعِ وَقِسْمَةَ الثَّمَنِ، وَأَنَّ نَصِيبَهُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَقَعُ بِالْقِسْمَةِ. 1067 - وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُمْ: لَكُمْ مَا أَصَبْتُمْ. وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، عَتَقَ الْمُصَابُ بِإِعْتَاقِ أَحَدِهِمْ أَوْ بِقَرَابَتِهِ مِنْهُ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَعْتِقُ. لِأَنَّ بِهَذَا التَّنْفِيلِ لَا يَخْتَصُّ الْمُصِيبُ بِالْمُصَابِ، وَلَكِنْ يُشَارِكُهُ فِيهِ أَصْحَابُهُ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ السَّرِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ نَقُولُ قَدْ ثَبَتَ الِاخْتِصَاصُ لَهُمْ بِالْمُصَابِ بِسَبَبِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْإِمَامِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالْمَوْجُودِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ، يَثْبُتُ لَهُمْ الْمِلْكُ حَتَّى يَنْفُذَ الْعِتْقُ فِيهِ مِنْ بَعْضِهِمْ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَسَّمَ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ عَلَى الرَّايَاتِ بَيْنَ الْعُرَفَاءِ، ثُمَّ أَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ رَايَةٍ عَبْدًا مِمَّا أَصَابَ أَهْلُ تِلْكَ الرَّايَةِ، قَبْلَ أَنْ يُقَسِّمَ الْعَرِيفُ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ. وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ أَنَّ الشُّرَكَاءَ مَتَى قَلُّوا فَالشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ تَكُونُ شَرِكَةً خَاصَّةً. وَهِيَ لَا تَمْنَعُ الْمِلْكَ لَهُمْ فِي الْمُشْتَرَكِ، بِمَنْزِلَةِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 وَعِنْدَ الْكَثْرَةِ الشَّرِكَةُ عَامَّةٌ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ ثُبُوتَ الْمِلْكِ. بِمَنْزِلَةِ شَرِكَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَشَرِكَةِ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي ذَلِكَ؟ قُلْنَا: قَدْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا كُلَّهَا مُحْتَمَلَةً. 1068 - أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ جَازَ عِتْقُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا تِسْعَةً فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ تِسْعَةً سَرِيَّةً. وَلِأَنَّ الْجَمْعَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ جَمْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَالتِّسْعَةُ تَكُونُ جَمْعَ الْجَمْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ جَازَ عِتْقُهُمْ. لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَظْهَرَ الدُّعَاءَ إلَى الدِّينِ بِمَكَّةَ حِينَ تَمُّوا أَرْبَعِينَ بِإِسْلَامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْأَرْبَعِينَ أَهْلُ عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ. فَقَدْ كَانَ «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إلَيْك» . وَالْعِزَّةُ وَالْمَنَعَةُ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ جَازَ عِتْقُهُمْ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] فَكُلُّ هَذَا مُحْتَمَلٌ، إنْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ وَسِعَهُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِيهِ. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْت أُوَقِّتُ فِي ذَلِكَ وَقْتًا، وَلَكِنِّي أَقُولُ: إنْ كَانُوا قَوْمًا لَا مَنَعَةَ لَهُمْ جَازَ الْعِتْقُ، وَإِلَّا فَلَا. لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا نَصٌّ. وَالْمَنَعَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يُفَوَّضَ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ لِيَحْكُمَ بِرَأْيِهِ فِيهِ. هَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ إلَى مَعَانِي الْفِقْهِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرِكَةِ الْخَاصَّةِ فِي النَّهْرِ وَالشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ. فَكُلُّ فَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ ثَمَّةَ فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِهِ هُنَا. ثُمَّ فِي كُلِّ فَصْلٍ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَنْفُذُ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ مِنْ الْأُسَرَاءِ. لِأَنَّهُمْ قَدْ مُلِكُوا فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ. وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْعُرَفَاءِ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْ الرِّجَالِ. وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قِسْمَةُ الْجُمَلِ. وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْقِسْمَةُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ بَعْدُ. 1069 - وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ الْقَلِيلُ بَعَثَهُمْ الْإِمَامُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْضُهُمْ الرَّقِيقَ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ فِي الْقِيَاسِ. لِأَنَّ الْمُصَابَ هُنَا غَنِيمَةٌ. أَلَا تَرَى (ص 221) أَنَّهُمْ لَوْ لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُمْ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَلِأَنَّ أَرْبَابَ الْخُمُسِ شُرَكَاؤُهُمْ، وَالْإِمَامُ رَأَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، فَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَقَعُ نَصِيبُ مَنْ أَعْتَقَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ عِتْقُهُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ. لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ شَرِكَةٌ خَاصَّةٌ، لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ. وَقَدْ تَأَكَّدَ حَقُّهُمْ بِالْإِحْرَازِ حَسَبَ مَا يَتَأَكَّدُ حَقُّ الطَّلِيعَةِ الْمَبْعُوثَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالْإِصَابَةِ، بَعْدَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ. فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَنْفُذُ الْعِتْقُ هَا هُنَا يَنْفُذُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَبْعُوثَ لَوْ كَانَ رَجُلًا وَاحِدًا فَأَعْتَقَ السَّبْيَ، أَوْ كَانُوا أَقْرِبَاءَهُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ، لَمْ يَشْكُلْ أَنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ. 1070 - وَإِنْ كَانَ لَوْ أَعْتَقَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ. لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَتَأَكَّدْ فِيهِمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. ثُمَّ بَعْدَ نُفُوذِ الْعِتْقِ إنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ رَجُلًا وَاحِدًا فَهُوَ ضَامِنٌ الْخُمُسَ لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ إنْ كَانَ مُوسِرًا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا نَفَرًا فَهُوَ ضَامِنٌ نَصِيبَ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ أَعْتَقَهُ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الرَّقِيقُ فِي حِصَّةِ أَصْحَابِهِ. كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ. وَأَمَّا فِي حِصَّةِ الْخُمُسِ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَسْتَسْعِيَهُمْ. لِأَنَّ الْخُمُسَ لِلْمُحْتَاجِينَ، وَلَا حَاجَةَ أَظْهَرُ مِنْ حَاجَةِ الْمُعْتَقِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا حَتَّى يَلْزَمَهُمْ السِّعَايَةُ. فَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ حِصَّةَ الْخُمُسِ لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 وَعَلَى هَذَا لَوْ جَاءُوا بِرِجَالٍ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ بَعْدَ الْإِحْرَازِ. لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمُصَابِ خَاصَّةٌ بَيْنَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ. وَقَدْ تَأَكَّدَ حَقُّهُمْ بِالْإِحْرَازِ. وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِالْإِصَابَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، وَالْمُصَابُ غَنِيمَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 [بَابُ النَّفْلِ الَّذِي يَبْطُلُ بِأَمْرِ الْأَمِيرِ وَاَلَّذِي لَا يَبْطُلُ] ُ 1071 - وَلَوْ أَرْسَلَ الْأَمِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَرِيَّةً مِنْ الْمُعَسْكَرِ وَنَفَّلَهُمْ الرُّبْعَ، فَلِمَا بَعُدُوا مِنْهُ خَافَ عَلَيْهِمْ فَأَرْسَلَ سَرِيَّةً أُخْرَى وَقَالَ: الْحَقُوا بِأَصْحَابِكُمْ، فَمَا أَصَبْتُمْ فَأَنْتُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ النَّفْلِ وَغَيْرِهِ. فَأَدْرَكُوهُمْ بَعْدَ مَا أَصَابُوا الْغَنِيمَةَ. وَرَجَعُوا إلَى الْمُعَسْكَرِ جُمْلَةً، فَلَا شَيْءَ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ النَّفْلِ. لِأَنَّ أَصْحَابَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى قَدْ تَأَكَّدَ حَقُّهُمْ فِي الْمُنَفَّلِ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُشْرِكُهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. بِمَنْزِلَةِ تَأَكُّدِ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِالْإِحْرَازِ. وَلَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُثْبِتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمَدَدِ وَالْجَيْشِ بَعْدَ مَا أَحْرَزُوا الْغَنِيمَةَ بِالدَّارِ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. - وَإِنْ غَنِمُوا جَمِيعًا بَعْدَ مَا لَحِقُوهُمْ فَلَهُمْ النَّفَلُ فِي الْغَنِيمَةِ الثَّانِيَةِ. لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ لِلْمُنَفَّلِينَ بِالْإِصَابَةِ، وَقَدْ أُشْرِكُوا جَمِيعًا فِي الْإِصَابَةِ وَالتَّنْفِيلُ مِنْ الْإِمَامِ لَهُمْ جَمِيعًا فِي الدَّفْعَتَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 - قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى مِائَةَ فَارِسٍ وَالثَّانِيَةُ خَمْسِينَ فَارِسًا وَخَمْسِينَ رَاجِلًا فَلَمَّا أَتَوْهُمْ لَمْ يُعْلِمُوهُمْ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ الْإِمَامُ مِنْ النَّفْلِ حَتَّى أَصَابُوا غَنَائِمَ، فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَ السَّرِيَّتَيْنِ أَوَّلًا عَلَى سِهَامِ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا أَصَابَ السَّرِيَّةُ الْأُولَى فَيُعْطَوْنَ مِنْ ذَلِكَ نَفْلَهُمْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِلَى مَا أَصَابَ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ فَيُعْطَوْنَ مِنْهُ نَفْلَهُمْ أَيْضًا، ثُمَّ الْبَاقِي يُخَمَّسُ وَيُقَسَّمُ بَيْنَ السَّرِيَّتَيْنِ وَأَهْلِ الْعَسْكَرِ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ السَّرِيَّةَ الْأُولَى اسْتَحَقُّوا رُبْعَ مَا يُصِيبُونَ بِالتَّنْفِيلِ الْأَوَّلِ. فَكَمَا لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ التَّنْفِيلِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ إدْخَالَ ضَرَرِ النُّقْصَانِ عَلَيْهِمْ، بِاشْتِرَاكِ الْغَيْرِ مَعَهُمْ بِدُونِ عِلْمِهِمْ. لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ وَالْإِبْطَالَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِطَابٌ مِنْ الْإِمَامِ إيَّاهُمْ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، بِمَنْزِلَةِ خِطَابِ الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِينَ. - وَلَوْ أَخْبَرَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ السَّرِيَّةَ الْأُولَى (ص 222) بِمَا جَعَلَ لَهُمْ الْأَمِيرُ مِنْ الشَّرِكَةِ مَعَهُمْ فِي النَّفْلِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبُوا الْغَنِيمَةَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَالنَّفَلُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَهَذَا لِأَنَّ التَّنْفِيلَ الْأَوَّلَ مِنْ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا قَبْلَ الْإِصَابَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْهُ بِعِلْمِهِمْ كَانَ صَحِيحًا؟ فَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَ حَقُّهُمْ بِالِاشْتِرَاكِ بِعِلْمِهِمْ. - وَكَذَلِكَ إذَا أَعْلَمُوا بِذَلِكَ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى. فَإِنَّ إعْلَامَ أَمِيرِهِمْ كَإِعْلَامِ جَمَاعَتِهِمْ، إذْ الْأَمِيرُ نَائِبٌ عَنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 - وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ حَتَّى عَلِمَ بِهِ عَامَّتُهُمْ. لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ إعْلَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِهِمْ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمْ إظْهَارُ ذَلِكَ الْخَبَرِ فِي عَامَّتِهِمْ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاصِلِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَالْخِطَابِ الشَّائِعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَشْتَرِكُ فِي حُكْمِهِ مَنْ عَلِمَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، حَتَّى يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الْمَتْرُوكَةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْفَرْقُ بِاعْتِبَارِ شُيُوعِ الْخِطَابِ. - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ لِلسَّرِيَّةٍ الثَّانِيَةِ: أَنْتُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي النَّفْلِ. لَكُمْ ثُلُثَاهُ وَلَهُمْ ثُلُثُهُ. وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا. فَإِنْ كَانُوا لَمْ يُعْلِمُوهُمْ حِينَ أَدْرَكُوهُمْ حَتَّى أَصَابُوا غَنَائِمَ فَلِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى نَفْلُهُمْ مِمَّا أَصَابُوا كَامِلًا. لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ بِالتَّفْضِيلِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمْ. فَإِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُمْ بِذَلِكَ. - وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمُوهُمْ ذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِمْ، فَيَكُونُ النَّفَلُ بَيْنَهُمْ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ كَمَا بَيَّنَ الْإِمَامُ. 1079 - قَالَ: وَلَوْ جَازَ مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يُنْقِصَ حَقَّ السَّرِيَّةِ الْأُولَى بِغَيْرِ عِلْمِهِمْ لَجَازَ أَنْ يَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ: النَّفَلُ كُلُّهُ لَكُمْ دُونَ الْأُولَى. فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُجِيزَ هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّنْفِيلِ - وَهُوَ التَّحْرِيضُ - يَفُوتُ بِتَجْوِيزِ هَذَا. فَإِنَّ السَّرِيَّةَ لَا يَعْتَمِدُونَ ذَلِكَ التَّنْفِيلَ بَعْدَ مَا بَعُدُوا مِنْ الْإِمَامِ، إذْ كَانَ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إبْطَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِمْ. أَرَأَيْت لَوْ قَالَ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ بَعْدَ مَا مَضَتْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى: قَدْ أَبْطَلْت نَفْلَهَا. كَانَ يَصِحُّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِهِ. فَكَمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِبْطَالُ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَحْوِيلُهُ إلَى السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ عِلْمِ السَّرِيَّةِ الْأُولَى بِهِ. وَلَوْ عَلِمُوا بِهِ صَحَّ ذَلِكَ كُلُّهُ، إبْطَالًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفْلًا إلَى غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ قَتَلْت هَذَا الْقَتِيلَ فَلَكَ سَلَبُهُ. فَلَمَّا خَرَجَ لِلْمُبَارَزَةِ قَالَ: قَدْ أَبْطَلْت نَفْلَهُ، لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُبَارِزُ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. - وَلَوْ بَعَثَ أَمِيرُ الْمِصِّيصَةِ سَرِيَّةً مِنْهَا وَهِيَ اسْمُ بَلْدَةٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي وَسَطِ الرُّومِ فَنَفَّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ دُونَ الرَّجَّالَةِ. لَمْ يَجُزْ. لِأَنَّ هَذِهِ السَّرِيَّةَ مَبْعُوثَةٌ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا تَنْفِيلٌ عَامٌّ. فَإِنَّ أَهْلَ السَّرِيَّةِ أَصْحَابُ الْخَيْلِ كُلُّهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّنْفِيلَ الْعَامَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ لَا يَجُوزُ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا إبْطَالُ الْخُمُسِ وَتَفْضِيلُ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ. - وَلَكِنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ مَعَهُمْ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ الْمَجَانِيقِ وَقَوْمًا يَحْضُرُونَ الْحِصْنَ فَنَفَّلَهُمْ شَيْئًا لِجَزَائِهِمْ وَعَنَائِهِمْ فَهَذَا جَائِزٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 لِأَنَّهُ تَنْفِيلٌ خَاصٌّ لِبَعْضِ أَهْلِ السَّرِيَّةِ. بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ السَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَوْ نَفَّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ جَازَ. لِأَنَّ التَّعْمِيمَ فِي حَقِّهِمْ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّنْفِيلِ إذْ الْمَقْصُودُ قَطْعُ شَرِكَةِ الْجَيْشِ مَعَهُمْ. - وَكَذَلِكَ إنْ نَفَّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعَرَبَ عَلَى الْبَرَاذِينِ جَازَ. وَالْعِرَابُ أَفْرَاسُ الْعَرَبِ وَالْبَرَاذِينُ أَفْرَاسُ الْعَجَمِ. وَأَفْرَاسُ الْعَرَبِ أَقْوَى فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ، وَالْبَرَاذِينُ أَصْبَرُ عَلَى الْقِتَالِ وَأَلْيَنُ عَنْدَ الْعَطْفِ. وَالتَّنْفِيلُ بِحَسَبِ الْعَنَاءِ وَالْجَزَاءِ، فَلَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَصَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْفِعْلِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى فِيهِ مِنْ النَّظَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 [بَابُ نَفْلِ الْأَمِيرِ] 73 - بَابُ نَفْلِ الْأَمِيرِ وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، ثُمَّ لَقِيَ الْأَمِيرُ رَجُلًا فَقَتَلَهُ، فَلَهُ السَّلَبُ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَسْتَحِقُّ. لِأَنَّ الْغَيْرَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِإِيجَابِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْإِيجَابَ لِنَفْسِهِ بِوِلَايَةِ الْإِمَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ أَنْ يَقْضِيَ لِنَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَصَّ نَفْسَهُ فَقَالَ: إنْ قَتَلْت قَتِيلًا فَلِي سَلَبُهُ، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ هُوَ كَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ يَصِحُّ إيجَابُهُ خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا، كَمَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَلِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّحْرِيضِ، وَإِنَّمَا يُحَرِّضُ غَيْرَهُ عَلَى الْقِتَالِ لَا نَفْسَهُ. فَالْإِمَارَةُ تَكْفِيهِ لِذَلِكَ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ وَجَبَ النَّفَلُ لِلْجَيْشِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَيَسْتَحِقُّ كَمَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِيمَا يَجِبُ شَرْعًا وَهُوَ السَّهْمُ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْجَيْشِ، فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا؟ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِيجَابِ. أَرَأَيْت لَوْ بَرَزَ عِلْجٌ وَدَعَا إلَى الْبِرَازِ. فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ فَلَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ عَلَى الْخُرُوجِ، حَتَّى خَرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَتَلَهُ. كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَصَّ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَخُصُّ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ التَّنْفِيلِ، بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي يَكُونُ مُتَّهَمًا فِيمَا يَقْضِي بِهِ لِنَفْسِهِ. فَأَمَّا عِنْدَ التَّعْمِيمِ فَتَنْتَفِي التُّهْمَةُ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِ كَمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ إبَاحَةَ التَّنَاوُلِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ كَمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَسْكَرِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَتُهُ فِيمَا لَا يَخْتَصُّ الْأَمِيرُ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 وَإِذَا خَصَّ غَيْرَهُ بِالتَّنْفِيلِ لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْرُجُ فِعْلُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِصِفَةِ النَّظَرِ. - وَلَوْ كَانَ قَالَ: مَنْ قَتَلَ مِنْكُمْ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. ثُمَّ قَتَلَ الْأَمِيرُ قَتِيلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّهُ خَصَّهُمْ بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ. فَلَا يَتَنَاوَلُهُ حُكْمُ الْكَلَامِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتِقْ مَمَالِيكِي. فَقَالَ الْعَبْدُ لِسَائِرِ الْمَمَالِيكِ: أَنْتُمْ أَحْرَارٌ. لَمْ يَدْخُلْ هُوَ فِي هَذَا الْكَلَامِ. وَلَوْ قَالَ: مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ دَخَلَ هُوَ فِي جُمْلَتِهِمْ لِهَذَا الْمَعْنَى. - وَلَوْ قَالَ: إنْ قَتَلْت قَتِيلًا فَلِي سَلَبُهُ. ثُمَّ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا. حَتَّى قَالَ: وَمَنْ قَتَلَ مِنْكُمْ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. ثُمَّ قَتَلَ الْأَمِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ قَتِيلًا اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ صَارَ عَامًّا، بِاعْتِبَارِ كَلَامَيْهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَنْفِيلِ الْعَامِّ بِكَلَامَيْنِ وَبَيْنَهُ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا لِأَنَّ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لِلتُّهْمَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ بِسَبَبِ التَّخْصِيصِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِكَلَامِهِ الثَّانِي. وَبَعْدَمَا انْعَدَمَ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِيجَابِ يَكُونُ الْإِيجَابُ صَحِيحًا عَامًّا فِي حَقِّهِمْ. - وَلَوْ كَانَ قَتَلَ قَتِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْكَلَامِ الثَّانِي، وَالْآخَرُ بَعْدَهُ، فَلَهُ سَلَبُ الْقَتِيلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا تَمَّ مِنْهُ فِي الْأَوَّلِ قَبْلَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ. فَصَارَ ذَلِكَ السَّبَبُ غَنِيمَةً. ثُمَّ صَحَّ الْإِيجَابُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي، فَيُجْعَلُ عِنْدَ الْكَلَامِ الثَّانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 كَأَنَّهُ أَنْشَأَ تَنْفِيلًا عَامًّا الْآنَ. فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ سَلَبَ مَا نَفَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لَا يَعْمَلُ فِيمَا صَارَ غَنِيمَةً قَبْلَهُ. بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لَهُ، وَلَوْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ تَنْفِيلٌ بَعْدَ الْإِصَابَةِ. - وَلَوْ قَالَ: إنْ قَتَلْت قَتِيلًا فَلِي سَلَبُهُ. وَمَنْ قَتَلَ مِنْكُمْ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. ثُمَّ قَتَلَ الْأَمِيرُ قَتِيلَيْنِ، وَرَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ (ص 224) قَتِيلَيْنِ. فَلِلْأَمِيرِ سَلَبُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِنَفْسِهِ بِحَرْفٍ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَهُوَ حَرْفُ الشَّرْطِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَدَخَلَتْ دَخْلَتَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً. أَوْجَبَ لِلْقَوْمِ بِكَلِمَةِ (مَنْ) وَهِيَ عَامَّةٌ كَمَا بَيَّنَّا. فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ قَتِيلٍ يَقْتُلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، حَتَّى لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ عِشْرِينَ قَتِيلًا كَانَ لَهُ أَسْلَابُهُمْ جَمِيعًا. - وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ: إنْ قَتَلْت قَتِيلًا فَلَكَ سَلَبُهُ فَقَتَلَ رَجُلَيْنِ، كَانَ لَهُ سَلَبُ الْأَوَّلِ خَاصَّةً. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَلَّقَ اسْتِحْقَاقَهُ بِالشَّرْطِ. وَذَلِكَ يَنْتَهِي بِقَتْلِ الْأَوَّلِ. وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ وَالْعُمُومِ. - وَلَوْ قَالَ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ: إنْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْكُمْ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ رَجُلٌ عَشَرَةً مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ أَسْلَابَهُمْ جَمِيعًا. وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْقَتِيلَ الْأَوَّلَ، كَمَا لَوْ خَصَّهُ بِالْإِيجَابِ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْصِدْ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ. فَقَدْ خَرَجَ الْكَلَامُ مِنْهُ عَامًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ. فَكَمَا يَعُمُّ جَمَاعَتَهُمْ يَعُمُّ جَمَاعَةَ الْمَقْتُولِينَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ إذَا قَتَلَ عَشَرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةً مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَلَبَ قَتِيلِهِ؟ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَاحِدُ هُوَ الْقَاتِلُ لِعَشَرَةٍ. وَحَقِيقَةُ مَعْنَى الْفَرْقِ أَنَّ مَقْصُودَ الْإِمَامِ هُنَا تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النِّكَايَةِ فِيهِ. وَفِي مَعْنَى النِّكَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ لِلْعَشَرَةِ عَشَرَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَفِي الْأَوَّلِ مَقْصُودُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَجَلَادَتِهِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِدُونِ إثْبَاتِ مَعْنَى الْعُمُومِ فِي الْمَقْتُولِينَ. - وَلَوْ قَالَ لِعَشَرَةٍ هُوَ أَحَدُهُمْ: مَنْ قَتَلَ مِنَّا قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. أَوْ إنْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنَّا قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. ثُمَّ قَتَلَ بِنَفْسِهِ قَتِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، اسْتَحَقَّ أَسْلَابَهُمْ. لِأَنَّ مَعْنَى التُّهْمَةِ قَدْ انْتَفَى بِاشْتِرَاكِ التِّسْعَةِ مَعَ نَفْسِهِ فِي الْإِيجَابِ، وَصَارَ كَلَامُهُ عَامًّا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا. فَيَسْتَحِقُّ هُوَ مِنْ سَلَبِ الْمَقْتُولِينَ مَا يَسْتَحِقُّهُ تِسْعَةٌ مَعَهُ إذَا قَتَلُوا. - وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ: إنْ قَتَلْت قَتِيلًا فَلَكَ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ قَتِيلَيْنِ مَعًا، فَلَهُ سَلَبُ أَحَدِهِمَا. لِأَنَّ هَذَا الْإِيجَابَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْوَاحِدَ، ثُمَّ يَخْتَارُ أَيَّ السَّلَبَيْنِ شَاءَ. لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَهُ، فَالْخِيَارُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ. وَلَا يُقَالُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُ. وَهَذَا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ السَّبَبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخِيَارُ لِمَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ. وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَخْتَارُ أَفْضَلَهُمَا سَلَبًا، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ إلَّا ذَلِكَ الرَّجُلَ بِضَرْبَتِهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِسَلَبِهِ. فَإِنْ قَتَلَ مَعَهُ غَيْرَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَحْرُومًا، لِأَنَّهُ أَظْهَرَ زِيَادَةَ الْقُوَّةِ بِمَا صَنَعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ أَصَبْت أَسِيرًا فَهُوَ لَك. فَأَخَذَ أَسِيرَيْنِ مَعًا. فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَرْفَعَهُمَا. لِهَذَا الْمَعْنَى. - وَلَوْ خَرَجَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ فِي سَرِيَّةٍ وَنَفَّلَ لَهُمْ الرُّبْعَ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، كَانَ لِلْأَمِيرِ النَّفَلُ مَعَ السَّرِيَّةِ. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ النَّفَلَ لِأَصْحَابِ السَّرِيَّةِ. وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَبَيَّنُ مَا سَبَقَ أَنَّهُ عِنْدَ التَّعْمِيمِ يَكُونُ الْإِمَامُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفْلِ كَغَيْرِهِ. وَالْكَلَامُ فِي فَصْلِ السَّرِيَّةِ أَظْهَرُ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِلنَّفْلِ عَلَى هَيْئَةِ اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاشِرَ مِنْهُمْ وَالرِّدْءَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. ثُمَّ فِي اسْتِحْقَاقِ (ص 225) الْغَنِيمَةِ الْإِمَامُ بِمَنْزِلَةِ الْجَيْشِ. فَكَذَلِكَ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّرِيَّةِ إذَا خَرَجَ وَهُوَ مَعَهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 [بَابٌ مِنْ النَّفْلِ الَّذِي يَصِيرُ لَهُمْ وَلَا يَبْطُلُ إذَا نَفَّلَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ] ٍ وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: إنْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْكُمْ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ رَجُلَانِ قَتِيلًا وَاحِدًا، فَلَهُمَا سَلَبُهُ. لِأَنَّهُ حِينَ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْعُمُومِ فَقَدْ قَصَدَ بِهِ التَّحْرِيضَ عَلَى النِّكَايَةِ. - وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ فَيَقُولَ: إنْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْكُمْ وَحْدَهُ قَتِيلًا. فَحِينَئِذٍ لَا شَيْءَ لِلْقَاتِلَيْنِ مِنْ السَّلَبِ. لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ مَقْصُودَهُ التَّحْرِيضُ عَلَى إظْهَارِ الْجَلَادَةِ بِالِاسْتِبْدَادِ بِالْقَتْلِ وَبِالِاشْتِرَاكِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ. - وَلَوْ بَرَزَ عَشَرَةٌ لِلْقِتَالِ فَقَالَ الْأَمِيرُ لِعَشَرَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إنْ قَتَلْتُمُوهُمْ فَلَكُمْ أَسْلَابُهُمْ. فَقَتَلَ كُلُّ رَجُلٍ رَجُلًا مِنْهُمْ، اسْتَحَقَّ كُلُّ قَاتِلٍ سَلَبَ قَتِيلِهِ خَاصَّةً. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 لِأَنَّ تَعْمِيمَ الْعَشَرَةِ بِالْخِطَابِ بِمَنْزِلَةِ تَعْمِيمِ الْكُلِّ بِقَوْلِهِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. وَهَذَا لِأَنَّ ذَا الْعَدَدِ إذَا قُوبِلَ بِذِي عَدَدٍ يَنْقَسِمُ الْآحَادُ عَلَى الْآحَادِ. كَقَوْلِ الرَّجُلِ: أَعْطِ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةِ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الدَّرَاهِمَ. وَالْفِعْلُ الْمُضَافُ إلَى جَمَاعَةٍ بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي الِانْقِسَامَ عَلَى الْأَفْرَادِ. كَمَا يُقَالُ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ رُكُوبُ كُلِّ أَحَدٍ دَابَّتَهُ. . - وَلَوْ قَتَلَ تِسْعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تِسْعَةً مِنْهُمْ، وَقَتَلَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ الْعَاشِرَ أَوْ هَرَبَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ سَلَبُ قَتِيلِهِ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ جَعْلُ الْقَتْلِ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ لَا اشْتِرَاطَ قَتْلِهِمْ. حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ. إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ فَيَقُولَ: لَكُمْ أَسْلَابُهُمْ إنْ قَتَلْتُمُوهُمْ كُلَّهُمْ، وَلَمْ تُغَادِرُوا مِنْهُمْ أَحَدًا. فَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ بِتَنْصِيصِهِ أَنَّهُ عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِشَرْطِ قَتْلِ الْكُلِّ وَالشَّرْطُ يُقَابِلُ الْمَشْرُوطَ جُمْلَةً وَلَا يُقَابِلُهُ جُزْءًا فَجُزْءًا. وَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْجَزَاءِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَفْهُومُ عَادَةً، وَهُوَ التَّحْرِيضُ عَلَى دَفْعِ شَرِّهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِقَتْلِهِمْ، بِقَدْرِ مَا حَصَلَ مِنْ الْمَقْصُودِ يُسْتَحَقُّ السَّلَبُ. . - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِسَرِيَّةٍ: ائْتُوا حِصْنَ كَذَا، فَإِنْ قَتَلْتُمْ مُقَاتِلَتَهُ وَفَتَحْتُمُوهُ فَلَكُمْ الرُّبْعُ. فَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ أَوْ قَتَلُوا رَأْسَهُمْ وَتَفَرَّقَ جَمِيعُهُمْ وَفَتَحُوا الْحِصْنَ، فَلَهُمْ النَّفَلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِ قَدْ حَصَلَ، وَهُوَ تَفْرِيقُ الْجَمْعِ وَفَتْحُ الْحِصْنِ بِالْقِتَالِ. وَإِنْ فَتَحُوا الْحِصْنَ بِغَيْرِ قِتَالٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَفْلٌ. لِأَنَّ مَا جَعَلَهُ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُمْ وَهُوَ الْقِتَالُ لَمْ يُوجَدْ. أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ: إنْ قَتَلْتُمْ مُقَاتِلَتَهُ وَسَبَيْتُمْ ذُرِّيَّتَهُ فَلَكُمْ كَذَا. فَقَتَلُوا الْبَعْضَ وَسَبَوْا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، كَانَ لَهُمْ النَّفَلُ. وَلَوْ أَخَذُوهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَفْلٌ لِمَا قُلْنَا. - وَلَوْ قَالَ: إنْ قَتَلَ إنْسَانٌ مِنْكُمْ قَتِيلًا. فَقَتَلَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتِيلًا كَانَ سَلَبُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ وَمُشْرِكٌ مُشْرِكًا أَخْطَأَ بِهِ فَقَتَلَهُ مَعَ الْمُسْلِمِ كَانَ نِصْفُ السَّلَبِ لِلْمُسْلِمِ وَنِصْفُهُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْقَاتِلَ مَعَهُ مُسْلِمٌ. وَفِي حِصَّةِ الْمُشْرِكِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْقَاتِلَ مَعَهُ مُشْرِكٌ. وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ بِالتَّنْفِيلِ مِنْ الْإِمَامِ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْلِمُ بِقَدْرِ مَا بَاشَرَ مِنْ السَّلَبِ. وَإِنَّمَا بَاشَرَ هُوَ قَتْلَ نِصْفِ النَّفْسِ حِينَ شَارَكَ غَيْرُهُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً مَعَ غَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. فَإِذَا كَانَ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْغُرْمِ بِالْقَتْلِ يُجْعَلُ هَذَا قَاتِلًا نِصْفَ النَّفْسِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْغُنْمِ بِهِ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ بِطْرِيقًا (ص 226) فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ مُشْرِكًا لَيْسَ بِبِطْرِيقٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّحْرِيضُ عَلَى قَتْلِ مَنْ تَنْكَسِرُ شَوْكَتُهُمْ بِقَتْلِهِ. وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَقْصُودُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ الْمَلِكَ فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ رَجُلًا غَيْرَ الْمَلِكِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؟ . . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ بِطْرِيقًا فَلَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ بِطْرِيقًا اسْتَحَقَّ مَا أَوْجَبَ لَهُ الْإِمَامُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، لِمُبَاشَرَتِهِ سَلَبَهُ، وَلَكِنْ مِمَّا يَغْنَمُونَ بَعْدَ هَذَا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا بَعْدَ هَذَا شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ مِمَّا كَانُوا غَنِمُوا قَبْلَ هَذَا شَيْئًا. لِأَنَّ سِهَامَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ وَهَذَا التَّنْفِيلُ فِيمَا كَانُوا غَنِمُوا، لِأَنَّهُ يَكُونُ تَنْفِيلًا بَعْدَ الْإِصَابَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ مِنْكُمْ صُعْلُوكًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ رَجُلٌ بِطْرِيقًا، أَوْ قَتَلَ الْمَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ سَلَبَ الصُّعْلُوكِ. وَسَلَبُ الْمَلِكِ وَالْبِطْرِيقِ أَفْضَلُ مِنْ سَلَبِ الصُّعْلُوكِ لَا مَحَالَةَ. فَبِإِيجَابِ الْأَدْنَى لَا يَسْتَحِقُّ الْأَعْلَى. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ صُعْلُوكًا فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَقَتَلَ رَجُلٌ بِطْرِيقًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمِائَةَ. لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةٍ. فَانْكِسَارُ شَوْكَتِهِمْ بِقَتْلِ الْبِطْرِيقِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِقَتْلِ الصُّعْلُوكِ. وَالْمُسَمَّى بِمُقَابِلَتِهِ وَهُوَ الْمِائَةُ مَعْلُومٌ. وَالْمَسَائِلُ بَعْدَ هَذَا إلَى آخِرِ الْبَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 - إنْ أَوْجَبَ لَهُ بِالتَّنْفِيلِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا آخَرَ، سَوَاءٌ أَتَى بِأَدْوَنَ مِمَّا شُرِطَ عَلَيْهِ أَوْ أَعْلَى. لِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يُوجَدْ، وَالْإِيجَابُ لَا يَعْمَلُ بِدُونِ الْمَحَلِّ. . 1104 - وَإِنْ كَانَ أَوْجَبَ لَهُ مَالًا مُسَمًّى، فَإِنْ أَتَى بِخِلَافِ مَا شُرِطَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْ الْمُسَمَّى. لِأَنَّ مَعَ مُخَالَفَةِ الْجِنْسِ لَا يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ. . 1105 - وَإِنْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ جِنْسِ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ: فَإِنْ كَانَ أَدْوَنَ مِمَّا شُرِطَ عَلَيْهِ فِي الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. لِأَنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ الْأَمْرَ وَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِكَمَالِهِ. - فَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِمَّا شُرِطَ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى. لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَشْرُوطِ وَزَادَ عَلَيْهِ. . - فَإِذَا قَالَ: مَنْ قَتَلَ شَيْخًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقَتَلَ شَابًّا اسْتَحَقَّهُ. لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَشْرُوطِ وَزِيَادَةٍ، فَإِنَّ النِّكَايَةَ وَإِظْهَارَ الْجَلَادَةِ فِي قَتْلِ الشَّابِّ أَكْثَرُ، وَالسَّلَبُ لَا يَتَفَاوَتُ بِالشَّبَابِ وَالشَّيْخُوخَةِ. - وَإِنْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ شَابًّا فَقَتَلَ شَيْخًا لَمْ يَسْتَحِقَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ أَدْنَى مِمَّا شُرِطَ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى النِّكَايَةِ وَالْجَلَادَةِ. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَهُوَ لَهُ. فَجَاءَ بِوَصِيفٍ، أَوْ عَلَى عَكْسِ هَذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي أَوْجَبَ صِفَةَ النَّفْلِ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ، فَإِنَّ الْأَسِيرَ غَيْرُ الْوَصِيفِ. . 1110 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِوَصِيفٍ فَهُوَ لَهُ، فَجَاءَ بِرَضِيعٍ، أَوْ عَلَى عَكْسِ هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ. لِأَنَّ الْوَصِيفَ غَيْرُ الرَّضِيعِ. فَالْمَحَلُّ الَّذِي أَوْجَبَ حَقَّهُ لَمْ يُوجَدْ. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ مِنْهَا مِائَةٌ. فَجَاءَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ بَعْضَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُخَالَفَةٌ فِي الْجِنْسِ. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِوَصِيفٍ فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَجَاءَ بِوَصِيفَةٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. لِأَنَّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِتَبَايُنِ الْمَقْصُودِ. وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى شَخْصًا عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ لَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ، وَمَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَتَحَقَّقُ الِامْتِثَالُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِشَابٍّ فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَجَاءَ بِشَيْخٍ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. وَلَوْ كَانَ عَلَى عَكْسِ هَذَا اسْتَحَقَّ. لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَالشَّابُّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ هَا هُنَا خَيْرٌ مِنْ الشَّيْخِ. فَإِذَا جَاءَ بِمَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ النَّفَلَ. وَإِنْ جَاءَ بِأَنْقَصَ مِنْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ (ص 227) بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ غَلَّةً فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ. فَجَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ جِيَادٍ أَخَذَ مِائَةَ دِرْهَمٍ غَلَّةً. لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَمَا جَاءَ بِهِ أَفْضَلُ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا قَدْرَ مَا سُمِّيَ لَهُ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ غَلَّةً. . 1114 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ غَلَّةً فَلَهُ عُشْرُهَا فَجَاءَ بِأَلْفِ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ اسْتَحَقَّ عُشْرَهَا مِنْ دَرَاهِمَ غَلَّةً. لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ لَهُ الْفَضْلَ وَالِاسْتِحْقَاقَ بِالتَّسْمِيَةِ، وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَدْرِ الْمُسَمَّى. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ جِيَادٍ فَلَهُ مِائَةٌ. فَجَاءَ بِأَلْفٍ غَلَّةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ. لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ دُونَ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَشْرِ شِيَاهٍ فَلَهُ شَاةٌ. فَجَاءَ بِعَشْرِ بَقَرَاتٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. . 1117 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ أَثْوَابِ دِيبَاجٍ فَلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 كَذَا، فَجَاءَ بِعَشَرَةِ أَثْوَابِ بُزْيُونٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى عَكْسِ هَذَا. لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ أَثْوَابِ بُزْيُونٍ أَحْمَرَ، فَجَاءَ بِالْأَخْضَرِ أَوْ الْأَصْفَرِ فَإِنْ كَانَ الْأَحْمَرُ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا جَاءَ بِهِ أَوْ دُونَهُ اسْتَحَقَّ مَا سُمِّيَ لَهُ. لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الصِّفَةِ هُنَا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبَ بُزْيُونٍ عَلَى أَنَّهُ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ أَخْضَرُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ صَحِيحًا. وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْبَغْلُ وَالْفَرَسُ وَالْحِمَارُ. وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِفَرَسٍ فَلَهُ مِائَةٌ، فَجَاءَ بِبِرْذَوْنٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَكْسِ هَذَا اسْتَحَقَّ. لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَالْفَرَسُ أَفْضَلُ مِنْ الْبِرْذَوْنِ. بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَ بِحِمَارٍ أَوْ بَغْلٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِفَرَسٍ فَلَهُ مِائَةٌ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِفَرَسٍ فَإِنَّمَا يُعْطَى نَفْلَهُ مِمَّا يَغْنَمُونَ بَعْدَ هَذَا. حَتَّى إذَا لَمْ يَغْنَمُوا شَيْئًا آخَرَ فَإِنَّ نَفْلَهُ مِنْ الْفَرَسِ خَاصَّةً دُونَ مَا غَنِمُوا قَبْلَ هَذَا. فَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ لَا يُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَزِدْ لَهُ عَلَى مِقْدَارِ ثَمَنِهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ يُسَاوِي مِائَةً أَوْ أَكْثَرَ فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَجْعَلَ الْفَرَسَ فِيمَا غَنِمُوا قَبْلَ هَذَا وَيُعْطِيَهُ الْمِائَةَ مِنْهَا، فَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ بَيْعِ الْغَنَائِمِ. وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ الْغَنَائِمِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَيَجُوزُ. وَإِنْ كَانَتْ الْمِائَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْفَرَسِ لَمْ يُعْطِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ إلَّا مِقْدَارَ قِيمَةِ الْفَرَسِ. لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْمُبَادَلَةِ بِشَرْطِ النَّظَرِ لَا بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 [بَابُ مَا يَجِبُ مِنْ السَّلَبِ بِالْقَتْلِ وَمَا لَا يَجِبُ] ُ 1121 - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَبَرَزَ عِلْجٌ لِلْقِتَالِ، وَخَرَجَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَبَانَهُ عَنْ فَرَسِهِ وَأَخَذَ فَرَسَهُ وَجَرَّهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ حَيًّا، فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَقَدْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، إلَّا أَنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ ضَرْبَتِهِ، فَلَهُ السَّلَبُ وَالْفَرَسُ وَالسِّلَاحُ مِنْ جُمْلَةِ السَّلَبِ. لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا لَهُ حِينَ مَاتَ مِنْ ضَرْبَتِهِ. وَفِيمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ الْمَقْتُولُ بِضَرْبَتِهِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ مِنْهَا بَعْدَ مُدَّةٍ، فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ لَهُ بِالْقَتْلِ. - وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ مَاتَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهَا، مَا لَمْ يُقْسَمْ. فَأَمَّا إذَا قُسِمَتْ الْغَنَائِمُ أَوْ بِيعَتْ وَالرَّجُلُ حَيٌّ بَعْدُ فَإِنَّ سَلَبَهُ يُقْسَمُ فِي الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ لِلْقَاتِلِ لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ وَهُوَ الْقَتْلُ. فَإِنَّ تَمَامَ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْمَوْتِ، وَالرَّجُلُ حَيٌّ بَعْدُ. وَسَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ الْغَانِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 فِيهِ قَدِيمٌ وَهُوَ الِاغْتِنَامُ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ. وَبِالْقِسْمَةِ يَتَعَيَّنُ الْمِلْكُ، فَمِنْ ضَرُورَتِهِ إبْطَالُ حَقِّ حُكْمِ التَّنْفِيلِ (ص 228) فِيهِ. وَبَعْدَ مَا نَفَذَ الْحُكْمُ مِنْ الْإِمَامِ بِإِبْطَالِ التَّنْفِيلِ فِيهِ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِالتَّنْفِيلِ وَإِنْ تَمَّ السَّبَبُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَا تُؤَخَّرُ الْغَنِيمَةُ وَالْبَيْعُ فِي السَّلَبِ حَتَّى نَنْظُرَ إلَى مَاذَا يَئُولُ حَالُ الرَّجُلِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقِسْمَةِ وَهُوَ الِاغْتِنَامُ قَدِيمٌ فِيهِ، فَلَا يُؤَخَّرُ الْحُكْمُ الَّذِي يَثْبُتُ بِتَقْرِيرِ سَبَبِهِ لِأَجَلٍ مَوْهُومٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَضْرُوبَ نَفْسَهُ يُقْسَمُ فِي الْغَنِيمَةِ، فَكَيْفَ لَا يُقْسَمُ سَلَبُهُ؟ فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ مُنْتَظِرٌ لِأَحَدٍ، فَأَمَّا فِي السَّلَبِ فَحَقٌّ مُنْتَظِرٌ لِلْقَاتِلِ، فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُهُ مِنْهُ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَوْتِ الْمَضْرُوبِ. ثُمَّ لَا يَتَأَخَّرُ قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ لِحَقٍّ أَقْوَى مِنْ هَذَا، وَهُوَ حَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِي الْمَأْسُورِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لَوْ جَاءَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. ثُمَّ لَا تُؤَخَّرُ الْقِسْمَةُ وَالْبَيْعُ لِحَقِّهِ؛ فَلَأَنْ لَا يُؤَخِّرَهَا هَهُنَا لِحَقِّ الضَّارِبِ، وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ، كَانَ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إذَا مَاتَ الْمَضْرُوبُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَنْ يَكُونَ لِلْقَاتِلِ حَقُّ أَخْذِ السَّلَبِ بِالْقِيمَةِ، كَمَا فِي الْمَأْسُورِ إذَا جَاءَ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقِسْمَةِ. قُلْنَا: هُنَاكَ الْمِلْكُ كَانَ ثَابِتًا لِلْمَوْلَى فِي الْأَصْلِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ بِالْقِيمَةِ عَلَى وَجْهِ الْفِدَاءِ لِذَلِكَ الْمِلْكِ، وَهَا هُنَا الْمِلْكُ لِلضَّارِبِ فِي السَّلَبِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَطُّ لِيَفْدِيَهُ بِالْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ ابْتِدَاءً بِسَبَبِ التَّنْفِيلِ إنْ لَوْ مَاتَ الْمَضْرُوبُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حَقِّهِ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ. فَإِنَّمَا وِزَانُ هَذَا مِنْ الْمَأْسُورِ إنْ لَوْ خَرَجَ الْحَرْبِيُّ بِالْعَبْدِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ. وَهُنَاكَ لَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهُ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ السَّلَبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 - وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمَ حِينَ رُمِيَ بِهِ عَنْ فَرَسِهِ اجْتَرَّهُ الْمُشْرِكُونَ فَذَهَبُوا بِهِ حَيًّا فَلَا شَيْءَ لِلضَّارِبِ مِنْ فَرَسِهِ وَسَلَبِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ مِنْ ضَرْبَتِهِ. لِأَنَّ تَمَامَ السَّبَبِ بِهِ يَكُونُ، فَالِاسْتِحْقَاقُ يَثْبُتُ لَهُ ابْتِدَاءً، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّيَقُّنِ بِالسَّبَبِ، وَلَا يَكْفِي وُجُودُهُ ظَاهِرًا، بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ عِتْقٌ أَوْ طَلَاقٌ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِهِ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ. وَإِنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَدْلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ السَّلَبَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِمْ. فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. - فَأَمَّا إذَا مَاتَ الْمَضْرُوبُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ مِنْ السَّلَبِ شَيْءٌ وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ. لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ بِنُفُوذِ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ مِنْ الْإِمَامِ فِيهِ. . 1125 - وَلَوْ كَانَ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ. فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ: وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بِيعَتْ الْغَنَائِمُ ثُمَّ مَاتَ الْمَضْرُوبُ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ هَا هُنَا، مَا لَمْ يُقْسَمْ الثَّمَنُ. أَمَّا إذَا قُسِمَ الثَّمَنُ أَوْ قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ ثُمَّ مَاتَ الْمَضْرُوبُ فَلَا نَفْلَ لَهُ. لِأَنَّ مَحَلَّ حَقِّهِ الْغَنِيمَةُ هَا هُنَا. وَبِالْبَيْعِ لَا يَفُوتُ هَذَا الْمَحَلُّ. فَإِنَّ الثَّمَنَ غَنِيمَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَبِيعِ يُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. فَأَمَّا بِالْقِسْمَةِ يَفُوتُ مَحَلُّ حَقِّهِ فَيَبْطُلُ نَفْلُهُ. وَفِي الْأَوَّلِ مَحَلُّ حَقِّهِ السَّلَبُ، وَهُوَ يَفُوتُ بِالسَّلَبِ. فَإِنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ مِنْ السَّلَبِ فِي شَيْءٍ، فَفِي هَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 [بَابٌ مِنْ النَّفْلِ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ وَالْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَغَيْرِهِمْ] 1126 - وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ ذِمِّيٌّ مِمَّنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ قَتِيلًا اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ. لِأَنَّ الْإِمَامَ أَوْجَبَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ بِلَفْظٍ عَامٍّ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ. وَالْعَامُّ كَالنَّصِّ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ (ص 119) فِي كُلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ. . 1127 - وَلَوْ خَصَّ الذِّمِّيَّ بِهَذَا اسْتَحَقَّ السَّلَبَ بِالْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ الْعَامُّ. وَهَذَا لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَاتَلَ مَعَنَا اسْتَحَقَّ، الرَّضْخَ مِنْ الْغَنِيمَةِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْلِمُ السَّهْمَ. وَمَنْ اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْغَنِيمَةِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ. وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ. . 1128 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ التُّجَّارِ قَتِيلًا سَوَاءٌ كَانَ يُقَاتِلُ قَبْلَ هَذَا أَوْ كَانَ لَا يُقَاتِلُ. لِأَنَّهُ قَاتَلَ الْآنَ، وَبِهِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الْغَنِيمَةِ فَيَتَنَاوَلُهُ حُكْمُ التَّنْفِيلِ. . 1129 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَتْ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ ذِمِّيَّةٌ قَتِيلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 لِأَنَّهَا شَرِيكَةٌ بِمَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الرَّضْخِ. . 1130 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَبْدٌ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ قَبْلَ هَذَا، أَوْ كَانَ لَا يُقَاتِلُ حَتَّى الْآنَ. لِأَنَّهُ شَرِيكٌ بِمَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الرَّضْخِ. فَلْيَسْتَحِقَّ السَّلَبَ بِالتَّنْفِيلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَوْلَاهُ. لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ خَصَّ فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ مِنْ الْأَحْرَارِ قَتِيلًا، أَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتِيلًا، فَحِينَئِذٍ يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى تَخْصِيصِهِ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِإِيجَابِهِ. فَكَمَا يُعْتَبَرُ عُمُومُ كَلَامِهِ يُعْتَبَرُ خُصُوصُهُ. . - وَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الذِّمِّيُّ السَّلَبَ عِنْدَ التَّخْصِيصِ يُرْضَخُ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْإِمَامُ. لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ يَكُونُ تَبَعًا فِي الْقِتَالِ يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ دُونَ السَّهْمِ، كَالْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْطَى شَيْئًا لِيَكُونَ ذَلِكَ تَحْرِيضًا لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ وَلَا وَجْهَ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ التَّبَعِ وَالْمَتْبُوعِ. وَلِهَذَا أَعْطَيْنَاهُ الرَّضْخَ، وَلَا يُزَادُ رَضْخُهُ إنْ كَانَ فَارِسًا عَلَى سَهْمِ فَارِسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا عَلَى سَهْمِ رَاجِلٍ مِنْهُمْ. لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ ذِمِّيٌّ أَبَدًا إلَّا وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ غَنَاءً مِنْهُ. فَإِذَا كَانَ لَا يُزَادُ لِلْمُسْلِمِ الْعَظِيمِ الْغَنَاءُ عَلَى السَّهْمِ فَكَيْفَ يُزَادُ لِلذِّمِّيِّ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 وَظَاهِرُ مَا يَقُولُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِرَضْخِهِ سَهْمَ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ عَظِيمَ الْغَنَاءِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ أَيْضًا وَلَكِنْ يَنْقُصُ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ كَمَا لَا يَبْلُغُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ فِي التَّنْفِيلِ الْعَامِّ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي السَّلَبِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ سَلَبُ قَتِيلِ الذِّمِّيِّ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ سَهْمِ الْمُسْلِمِ فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا أَوْ يَفْضُلَ الذِّمِّيُّ فِيمَا يُرْضَخُ لَهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ السَّلَبِ بَعْدَ التَّنْفِيلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْإِيجَابِ مِنْ الْإِمَامِ. وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ. بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَرَامَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالتَّنْفِيلِ يُسَوَّى بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ. . - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ الْبَعْضِ. ثُمَّ قَتَلَ رَجُلٌ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مَقَالَةَ الْإِمَامِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْإِمَامِ إسْمَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا فِي وُسْعِهِ أَنْ يَجْعَلَ الْخِطَابَ شَائِعًا وَقَدْ فَعَلَ. فَيَكُونُ هَذَا كَالْوَاصِلِ إلَى كُلِّ مَنْ تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ حُكْمًا. أَلَا تَرَى «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ قَتَلَ قَتِيلًا يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ التَّنْفِيلَ، ثُمَّ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَلَبَهُ» عَلَى مَا رَوَيْنَا. وَلِأَنَّ سَمَاعَ الْخِطَابِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُخَاطَبِ وَفِي هَذَا مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 - وَعَلَى هَذَا لَوْ بَعَثَ سَرِيَّةً وَقَالَ لِأَمِيرِهِمْ: لَكُمْ نَفْلُ الرُّبْعِ فَإِنَّ إعْلَامَ أَمِيرِهِمْ كَإِعْلَامِ جَمَاعَتِهِمْ. 1134 - وَكَذَلِكَ لَوْ سَمِعَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْلٌ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّنْفِيلِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ. وَلَا يَحْصُلُ هَذَا إذَا لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ أَحَدٌ. فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَفَكَّرَ (ص 230) هَذَا فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ. فَأَمَّا إذَا سَمِعَ أَمِيرُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ التَّحْرِيضُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ كَلَامَ الْأَمِيرِ يَفْشُو إذَا سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَادَةً. لِأَنَّ السَّامِعَ يُبَلِّغُ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» . وَأَمَّا مَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَحَدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَفْشُوَ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ إشَاعَةَ الْخِطَابِ. . - وَلَوْ قَالَ فِي أَهْلِ عَسْكَرِهِ: قَدْ جَعَلْت لِهَذِهِ السَّرِيَّةِ نَفْلَ الرُّبْعِ. وَلَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ السَّرِيَّةِ، فَفِي الْقِيَاسِ لَا نَفْلَ لَهُمْ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّحْرِيضُ لَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. فَتَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ مَعَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ وَتَكَلُّمُهُ بِهِ مَعَ عِيَالِهِ لَيْلًا أَوْ فِي نَفْسِهِ وَحْدَهُ سَوَاءٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّنْفِيلِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُمْ النَّفَلُ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِمَامُ فِي أَهْلِ عَسْكَرِهِ فَإِنَّهُ يَفْشُو. أَوْ كَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِتَبْلِيغِ أَهْلِ السَّرِيَّةِ بِهِ دَلَالَةً. وَلَيْسَ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّهِمْ قَبْلَ التَّبْلِيغِ إضْرَارٌ بِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى التَّبْلِيغَ لَهُمْ لِيَتِمَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ. وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ أَصْحَابَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 السَّرِيَّةِ قَدْ يَكُونُونَ قَوْمًا لَا يُخَاطِبُهُمْ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ عَادَةً. وَمِنْ عَادَةِ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْ خَوَاصِّهِمْ بِمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَظْهَرَ لِلْعَامَّةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَصِيرُ هَذَا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ إشَاعَةِ الْخِطَابِ وَالْأَمْرِ إيَّاهُمْ بِالتَّبْلِيغِ. . - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. ثُمَّ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ قَتِيلًا، كَانَ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّ الْمَدَدَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشَّرِكَةِ فِي الْغَنِيمَةِ يَكُونُ كَالْحَاضِرِ وَقْتَ التَّنْفِيلِ، فَلَهُ سَلَبُ قَتِيلِهِ، عَلِمَ بِمَقَالَةِ الْأَمِيرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. . 1137 - وَلَوْ كَانَ جَاءَ مَعَ الْمَدَدِ أَمِيرٌ آخَرُ وَعُزِلَ الْأَمِيرُ الْأَوَّلُ، بَطَلَ التَّنْفِيلُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ. لِأَنَّ حِصَّةَ تَنْفِيلِهِ بِاعْتِبَارِ وِلَايَتِهِ، وَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِالْعَزْلِ. وَالْعَارِضُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالشَّيْءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ. . 1138 - وَلَوْ كَانَ مَعْزُولًا حِينَ نَفَّلَ لَمْ يُعْتَبَرْ تَنْفِيلُهُ. فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مَعْزُولًا بَعْدَ التَّنْفِيلِ قَبْلَ الْقَتْلِ، أَوْ بَعْدَ بَعْثِ السَّرِيَّةِ قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنَائِمِ. فَأَمَّا إذَا أَصَابُوا الْغَنَائِمَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الْأَوَّلُ مَعْزُولًا فَلَهُمْ النَّفَلُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ تَمَّ بِالتَّنْفِيلِ قَبْلَ الْعَزْلِ. - ثُمَّ إذَا كَانَ الْأَمِيرُ الْأَوَّلُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْأَمِيرَ الثَّانِيَ قَادِمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 بِعَزْلِهِ فَمَا دَامَ بِالْبُعْدِ مِنْ مُعَسْكَرِهِ لَا يَصِيرُ هُوَ مَعْزُولًا. فَإِذَا صَارَ قَرِيبًا مِنْ الْمُعَسْكَرِ بِحَيْثُ يُغِيثُ أَهْلَ الْعَسْكَرِ إنْ طَلَبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَعْزُولًا وَيَبْطُلُ نَفْلُ الْأَوَّلِ. لِأَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ فَكَأَنَّهُ خَالَطَهُمْ. وَهَذَا لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي بِعَزْلِ الْأَوَّلِ. إنَّمَا لَا يَنْعَزِلُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَقْرُبْ مِنْهُمْ، لِحَاجَةِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ إلَى مَنْ يُدَبِّرُ أُمُورَهُمْ. وَالثَّانِي عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ لِبُعْدِهِ عَنْهُ. فَإِذَا قَرُبَ مِنْهُمْ فَقَدْ ارْتَفَعَ هَذَا الْمَعْنَى. . - وَلَوْ لَمْ يَقْدُمْ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ آخَرُ، وَلَكِنْ مَاتَ أَمِيرَهُمْ فَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا آخَرَ، وَكَانَ الْأَوَّلُ قَدْ نَفَّلَ لَهُمْ، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ تَنْفِيلِهِ. لِأَنَّ الثَّانِيَ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلَا يَبْطُلُ شَيْءٌ مِمَّا صَنَعَهُ الْأَوَّلُ. إلَّا أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ الثَّانِي. فَإِنْ أَبْطَلَهُ بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بَطَلَ. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ أَبْطَلَ الْأَوَّلُ ذَلِكَ بِعِلْمِهِمْ بَطَلَ. فَكَذَلِكَ الثَّانِي. . 1141 - وَلَوْ كَانَ الْخَلِيفَةُ قَالَ لَهُمْ: إنْ مَاتَ أَمِيرُكُمْ أَوْ قُتِلَ فَأَمِيرُكُمْ فُلَانٌ. فَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْإِطْلَاقِ بِالشَّرْطِ. فَيَصِحُّ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ يَوْمَ مُؤْتَةَ: إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ أَمِيرُكُمْ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٍ فَابْنُ رَوَاحَةَ أَمِيرُكُمْ» . الْحَدِيثُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 ثُمَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ إذَا مَاتَ الْأَوَّلُ بَطَلَ تَنْفِيلُهُ، لِأَنَّ الثَّانِيَ (ص 231) نَائِبُ الْخَلِيفَةِ بِتَقْلِيدِهِ مِنْ جِهَتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَلَّدَهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. وَهَذَا لِأَنَّ التَّنْفِيلَ رَأْيٌ رَآهُ الْأَوَّلُ. وَحُكْمُ رَأْيِهِ يَنْقَطِعُ بِرَأْيٍ فَوْقَ رَأْيِهِ، وَهُوَ تَقْلِيدُ الْخَلِيفَةِ لِلثَّانِي. فَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى رَأْيِهِ رَأْيٌ فَوْقَهُ، إنَّمَا نَظَرَ الْجُنْدُ لَهُ وَلِأَنْفُسِهِمْ فِي نَصْبِ خَلِيفَةٍ. فَيَبْقَى حُكْمُ رَأْيِهِ بِاعْتِبَارِ خَلِيفَتِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَخْلَفَ هُوَ بِنَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَبَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ الْقَوْمُ. فَهَذَا مِثْلُهُ. . - وَلَوْ قَالَ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ: مَنْ قَتَلَ مِنْكُمْ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ثُمَّ لَحِقَ بِهِمْ مَدَدٌ أَوْ تُجَّارٌ أَوْ قَوْمٌ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَتِيلًا، فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ. لِأَنَّهُ خَصَّ الْحَاضِرِينَ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَقَدْ عَمَّ الْخِطَابُ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا. وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْحَاضِرَ وَمَنْ يَحْضُرُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ السَّلَبُ. لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ الْحَاضِرِينَ لِأَعْيَانِهِمْ، بَلْ لِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَنْ يَحْضُرُ وَمَنْ حَضَرَ سَوَاءٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ لَحِقُوا بِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ إذَا قَاتَلُوا وَجُعِلُوا كَالْحَاضِرِينَ وَقْتَ الْإِصَابَةِ، فَكَذَلِكَ هُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي حُكْمِ التَّنْفِيلِ، وَجُعِلُوا كَالْحَاضِرِينَ وَقْتَ التَّنْفِيلِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 - وَلَوْ كَانَ فِي الْمُعَسْكَرِ قَوْمٌ مُسْتَأْمَنُونَ، فَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّضْخِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّفْلِ إذَا قَاتَلُوا. 1144 - وَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ مِمَّا يُصِيبُونَ مِنْ السَّلَبِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْمَرَافِقِ الشَّرْعِيَّةِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. فَلَا يَثْبُتَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ اسْتَعَانَ بِهِمْ، فَبِاسْتِعَانَتِهِ بِهِمْ يَلْحَقُونَ بِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حُكْمًا وَنَظِيرُهُ الرِّكَازُ وَالْمَعْدِنُ. فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ إذَا اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ دَارِنَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أُخِذَ كُلُّهُ مِنْهُ، وَإِنْ اسْتَخْرَجَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ يُخَمَّسُ مَا أَصَابَ وَالْبَاقِي لَهُ. . - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلُوا دَارَ حَرْبٍ غَيْرَ دَارِهِمْ، عَلَى إثْرِ جَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا غَنَائِمَ، ثُمَّ خَرَجُوا، فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ وَمَا أَصَابَ الْمُسْتَأْمَنُونَ فَهُوَ لَهُمْ لَا خُمُسَ فِيهِ. لِأَنَّ إصَابَتَهُمْ لِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدِّينِ. إنَّمَا يُخَمَّسُ الْمُصَابُ إذَا أُصِيبَ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ. وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي مُصَابِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ مُصَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 الْمُسْتَأْمَنِينَ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ اكْتِسَابًا مَحْضًا، فَيُسَلَّمُ لَهُمْ كَسْبُهُمْ. بِخِلَافِ مَا سَبَقَهُ، فَالْإِصَابَةُ هُنَاكَ كَانَتْ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ إنَّمَا قَاتَلُوا تَحْتَ رَايَتِهِمْ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْكِلَابِ، فَلِهَذَا خُمِّسَ جَمِيعُ الْمُصَابِ. . 1146 - وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَهُمْ مَنَعَةُ جَمْعِ مَا أَصَابَ الْفَرِيقَانِ. أَخْرَجَ خُمُسَهُ، وَالْبَاقِي غَنِيمَةٌ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، فَإِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِلذَّبِّ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا نَصْرُهُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إنْ قَهَرُوا إنْ قَوِينَا عَلَى نُصْرَتِهِمْ. وَلَيْسَ عَلَيْنَا ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْدَ مَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي السُّكْنَى حِينَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، فَيَكُونُونَ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُصِيبُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَيْضًا. وَقَدْ تَمَّ الْإِحْرَازُ بِالْكُلِّ. فَلِهَذَا يُخَمَّسُ جَمِيعُ الْمُصَابِ. فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُونَ لَا يَكُونُونَ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ (ص 232) فِي السُّكْنَى حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِصَابَةِ. . - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَخَذَ مَالًا مِنْ مَالِهِمْ، ثُمَّ اسْتَأْمَنَ إلَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ، فَلَهُ مَا جَاءَ بِهِ. لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ مَلَكَ الْمَأْخُوذَ لَا بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْأَخْذِ وَصَارَ ذِمِّيًّا وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا مَعَ الْعَسْكَرِ فَذَلِكَ الْمَالُ لَهُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 لِأَنَّهُ مَا أَصَابَ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِيهِ. وَرُوِيَ «أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَتَلَ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي السَّفَرِ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَجَاءَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَسْلَمَ، فَلَمْ يُخَمِّسْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْمَالَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَّا إسْلَامُك فَمَقْبُولٌ، وَأَمَّا مَالُك فَمَالُ غَدْرٍ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ» . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ غَدَرَ بِهِمْ. وَلِذَلِكَ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ. . 1148 - وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ إصَابَةِ الْمَالِ ثُمَّ قَتَلَ بَعْضَهُمْ وَأَخَذَ مَالَهُ وَلَحِقَ بِهِ الْعَسْكَرُ فَهُوَ غَنِيمَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّهُ أَصَابَهُ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَمَّ الْإِحْرَازُ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. . 1149 - وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ سِوَاهُ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ هَذَا، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ فَصَارَ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَصَابَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ الدَّاخِلِ مَعَ الْجَيْشِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ هَذَا الْمَالِ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. . 1150 - وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْمَنَ إلَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ ثُمَّ عَادَ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ وَفَعَلَ ذَلِكَ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بَعْدَ إذْنِ الْأَمِيرِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ فِيمَا يُصِيبُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 - وَلَوْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَمِيرِ كَانَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمَنُ غَيْرَ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُسْتَأْمَنٍ دَخَلَ مَعَ الْعَسْكَرِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ لَهُ، فَإِنَّمَا أَصَابَ ذَلِكَ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ لَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمَنُونَ أَهْلَ مَنَعَةٍ. . - وَلَوْ أَنَّ الْعَسْكَرَ أَسَرُوا الْأُسَرَاءَ مِنْ الْعَدُوِّ، فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ أَسِيرٌ رَجُلًا مِنْ الْعَدُوِّ، فَسَلَبُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ إنْ لَمْ يَقْسِمْ الْأَمِيرُ الْأُسَرَاءَ، وَإِنْ كَانَ قَسَمَهُمْ أَوْ بَاعَهُمْ فَالسَّلَبُ لِمَوْلَى الْقَاتِلِ. لِأَنَّ بِالْقِسْمَةِ صَارَ عَبْدًا لَهُ. وَسَلَبُ قَتِيلِهِ كَسَبْيِهِ. فَأَمَّا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْأَسِيرُ مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَسَلَبُ قَتِيلِهِ يَكُونُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَيْضًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 [بَابٌ مِنْ الشَّرِكَةِ فِي النَّفْلِ وَمَا يُؤْخَذُ بِحِسَابٍ] ٍ إذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ أَصَابَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ. فَأَصَابَ رَجُلٌ أَسِيرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَهُمْ لَهُ. لِأَنَّ صِيغَةَ كَلَامِهِ عَامَّةٌ فِي الْمُصِيبِ وَالْمُصَابِ جَمِيعًا. . 1154 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ أَصَابَ إنْسَانٌ مِنْكُمْ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ. لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْمُصِيبِ وَالْمُصَابِ. وَفِي مِثْلِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَرْفِ الشَّرْطِ وَحَرْفِ مَنْ، وَقَوْلُهُ إنْسَانٌ. لَمَّا لَمْ يَصْمُدْ عَيْنًا بِهِ كَانَ لِلْجَيْشِ، حَتَّى إذَا أَصَابَ جَمَاعَةٌ أَسِيرًا وَاحِدًا فَهُوَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ فَهُمْ لَهُ فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَأْسًا. فَهُمْ لَهُ كُلُّهُمْ. لِلتَّصْرِيحِ بِمَا يُوجِبُ التَّعْمِيمَ. وَهَذَا كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ فَلَهُ عُشْرُهُمْ. فَأَصَابَ رَجُلٌ عِشْرِينَ فَلَهُ عُشْرُ مَا أَصَابَ. وَذَلِكَ رَأْسَانِ. (ص 233) . . 1157 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ فَلَهُ رَأْسٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَصَابَ رَجُلٌ عِشْرِينَ فَلَهُ رَأْسَانِ. وَإِنْ أَصَابَ عَشَرَةً فَلَهُ رَأْسٌ وَإِنَّمَا يُعْطَى الْوَسَطَ مِمَّا أَصَابَ، وَلَا يُعْطَى أَرْفَعَهُمْ وَلَا أَخَسَّهُمْ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ التِّسْعَةُ الَّتِي تَبْقَى لَهُمْ. وَتَسْمِيَةُ الرَّأْسِ مُطْلَقًا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ. كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ. وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي إعْطَاءِ أَرْفَعِهِمْ إيَّاهُ تَرْكُ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَفِي إعْطَاءِ الْأَخَسِّ تَرْكُ النَّظَرِ لَهُ، فَيُعْطِيهِ الْوَسَطَ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ. وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا. . 1158 - وَإِنْ أَصَابَ خَمْسَةَ أَرْؤُسٍ أُعْطِيَ نِصْفَ وَاحِدٍ مِنْ أَوْسَاطِهَا اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِمَامُ شَرَطَ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَجِيءَ بِعَشَرَةِ أَرْؤُسٍ وَالشَّرْطُ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ. فَإِذَا أَتَى بِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِعَمَلِهِ، فَبِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ يُعْطِيهِ مِنْ الْمُسَمَّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّنْفِيلِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ. وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إذَا اعْتَبَرْنَا الشَّرْطَ صُورَةً، لِأَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ تِسْعَةٍ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لَوْ جَاءَ بِهِمْ لَمْ يَرْغَبْ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُعَالَجَةٍ وَمُؤْنَةٍ. فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ نَصِيبَهُ فِيهِ كَنَصِيبِ سَائِرِ الْغَانِمِينَ قَلَّ مَا يَرْغَبُ فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ. فَإِنَّمَا تَمَامُ مَعْنَى التَّحْرِيضِ فِي اعْتِبَارِ مَا قُلْنَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ مَا جَاءَ بِهِ. أَرَأَيْت لَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ مِنْكُمْ عَشَرَةً فَلَهُ عُشْرُ أَسْلَابِهِمْ. فَقَتَلَ تِسْعَةً، أَمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى بِحِسَابِ مَا قَتَلَ؟ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُ الْإِمَامِ اشْتِرَاطَ الْعَشَرَةِ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَلَّ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَتْلِ عَشَرَةٍ مِنْهُمْ أَوْ أَخْذِ عَشَرَةِ أَرْؤُسٍ. - وَلَوْ أَصَابَ رَجُلَانِ عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ فَلَهُمَا وَاحِدٌ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ. لِأَنَّ تَمَامَ الْمَنْفَعَةِ الْمَشْرُوطَةِ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ بِهِمَا. فَالْمُسَمَّى يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا أَيْضًا. . - وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ: إنْ أَصَبْت رَأْسًا فَهُوَ لَك. فَأَصَابَ رَأْسَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْخُصُوصِ فِي الْمُصِيبِ وَالْمُصَابِ، فَيَنْتَفِي مَعْنَى الْعُمُومِ عَنْهُ فِيهِمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 ثُمَّ إنْ أَصَابَهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ فَلَهُ أَوَّلُهُمَا، وَإِنْ أَصَابَهُمَا مَعًا فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَفْضَلَهُمَا. لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُصِبْ إلَّا الْأَفْضَلَ كَانَ سَالِمًا لَهُ، فَلَا يُحْرَمُ ذَلِكَ بِإِصَابَةِ آخَرَ مَعَهُ. - وَلَوْ قَالَ: إنْ أَصَبْت عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ فَلَكَ مِنْهُمْ رَأْسٌ فَأَصَابَ عِشْرِينَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا رَأْسٌ وَاحِدٌ. لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْخُصُوصِ فِي كَلَامِهِ. 1162 - فَإِنْ أَصَابَ بَعْضَهُمْ قَبْلَ بَعْضٍ فَلَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْعَشَرَةِ الْأُولَى مِنْ أَوْسَاطِهِمْ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَعًا فَلَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْأَفْضَلَ هُنَا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ هُنَاكَ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِمُقَابَلَةِ مَا أَوْجَبَ لَهُ، وَهُنَا قَدْ شُرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حِينَ سَمَّى لَهُ جَزَاءً مِمَّا يَأْتِي بِهِ. فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ الْوَسَطُ. هَا هُنَا. . 1163 - وَإِنْ أَصَابَ خَمْسَةً فَلَهُ نِصْفُ رَأْسٍ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ. اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَتَحْقِيقًا لِمُرَاعَاةِ مَعْنَى التَّحْرِيضِ. . 1164 - وَلَوْ قَالَ لِعَشَرَةٍ مِنْ الْعَسْكَرِ: إنْ أَصَبْتُمْ عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ فَلَكُمْ مِنْهَا رَأْسٌ. فَهَذَا وَقَوْلُهُ لِلْوَاحِدِ سَوَاءٌ (ص 234) فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمْ فِي ذِكْرِ الْإِصَابَةِ فَقَدْ خَصَّهُمْ، وَالتَّخْصِيصُ فِي الْمُصِيبِ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ فِي الْمُصَابِ، لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 - وَلَوْ قَالَ لِعَشَرَةٍ: إنْ أَصَابَ رَجُلٌ مِنْكُمْ عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ فَلَهُ مِنْهَا وَاحِدٌ. فَأَصَابَ رَجُلٌ عِشْرِينَ رَأْسًا فَلَهُ رَأْسَانِ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ. لِأَنَّهُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ بِالْإِصَابَةِ وَجَعَلَ خِطَابَهُ عَامًّا فِيهِمْ. فَتَعْمِيمُ الْخِطَابِ فِي الْمُصِيبِينَ يُثْبِتُ حُكْمَ الْعُمُومِ فِي الْمُصَابِ، كَمَا لَوْ خَاطَبَ بِهِ جَمِيعَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَا لَوْ أَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ كَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ مِمَّا أَصَابَ؟ فَكَذَلِكَ إذَا أَصَابَ الْمِائَةَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَكُونُ لَهُ عَشَرَةُ أَرْؤُسٍ. . - وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ: مَا أَصَبْت مِنْ عَشَرَةِ أَرْؤُسٍ فَلَكَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ. فَأَصَابَ عِشْرِينَ. فَلَهُ رَأْسَانِ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ. لِأَنَّ كَلِمَةَ " مَا " تُوجِبُ الْعُمُومَ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْعُمُومِ بِهِ فِي الْمُصِيبِ. لِأَنَّهُ خَصَّ الْوَاحِدَ بِهِ. فَأَثْبَتْنَا بِالْعُمُومِ بِهِ فِي الْمُصَابِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ أَصَبْت. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يُوجِبُ الْعُمُومَ صُورَةً وَلَا مَعْنًى. . - وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ: يَا فُلَانُ: إنْ قَتَلْت هَذَا الَّذِي بَرَزَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَكَ سَلَبُهُ. فَسَمِعَ ذَلِكَ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَبَرَزَ لِلْمُشْرِكِ وَقَتَلَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ خَصَّ بِهِ مَنْ خَاطَبَهُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِاعْتِبَارِ تَنْفِيلِهِ. وَالتَّنْفِيلُ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ، فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَأَنَّ التَّنْفِيلَ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا. . 1168 - فَلَوْ قَتَلَهُ الْمُخَاطَبُ بِالتَّنْفِيلِ مَعَ مُسْلِمٍ آخَرَ كَانَ لِلْمُخَاطَبِ نِصْفُ السَّلَبِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتَلَ نِصْفَهُ، وَالْبَعْضُ يُعْتَبَرُ بِالْكُلِّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 [بَابٌ مِنْ النَّفْلِ الْمَجْهُولِ] ِ وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ فَلَهُ مِنْهُ طَائِفَةٌ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِمَتَاعٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ بِرُءُوسِ، فَذَلِكَ إلَى الْأَمِيرِ يُعْطِيهِ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَرَى، عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْهُ لِمَنْ جَاءَ بِهِ وَلِأَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَمَّا يَأْتِي بِهِ بِأَعَمَّ مَا يَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ اسْمُ الشَّيْءِ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَأْتِي بِهِ. وَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَذَلِكَ اسْمٌ لِجُزْءٍ مَجْهُولٍ. إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيجَابِ فِيمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى التَّوَسُّعِ، وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ الْبَيَانُ إلَى الْمُوجِبِ أَوْ إلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ. وَالْمُوجِبُ الْإِمَامُ هُنَا. وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِلْكُلِّ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ عَلَى وَجْهٍ يُرَاعِي النَّظَرَ فِيهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَيَانُ مَقْبُولًا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ يُعْطِيهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ، لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوجِبِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَمِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَيَكُونُ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ يُعْطِيهِ مَا يَشَاءُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ. . 1180 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ فَلَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ لَهُ مِنْهُ قَلِيلٌ أَوْ يَسِيرٌ. فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ. إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ هُنَا أَنْ يَبْلُغَ مَا يُعْطِيهِ نِصْفَ مَا جَاءَ بِهِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ يَسِيرًا مِمَّا جَاءَ بِهِ أَوْ قَلِيلًا، أَوْ شَيْئًا مُنْكَرًا. وَذَلِكَ دَلِيلُ الْقِلَّةِ أَيْضًا، وَالْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ إنَّمَا تَظْهَرُ بِالْمُقَاتَلَةِ. فَالْقَلِيلُ مِنْ الشَّيْءِ دُونَ نِصْفِهِ، حَتَّى إذَا قُوبِلَ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ كَانَ مَا بَقِيَ أَكْثَرَ. . 1171 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ فَلَهُ مِنْهُ جُزْءٌ، فَذَلِكَ إلَى الْأَمِيرِ أَيْضًا. إلَّا أَنَّهُ لَا يَزِيدُهُ عَلَى النِّصْفِ هُنَا، وَلَهُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ النِّصْفَ. لِأَنَّ أَدْنَى مَا يَكُونُ جُزْءٌ مِنْ جُزْأَيْنِ وَذَلِكَ النِّصْفُ. . 1172 - وَلَوْ قَالَ: بَعْضُهُ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَلَهُ طَائِفَةٌ. لِأَنَّ الْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ (ص 235) يَكُونُ بَعْضَ الشَّيْءِ وَطَائِفَةً مِنْهُ. فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَلِهَذَا كَانَ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ فَلَهُ مِنْهُ سَهْمٌ. فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُعْطِيهِ سُدُسَ مَا جَاءَ بِهِ. لِأَنَّ السَّهْمَ عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ، حَتَّى قَالَ: إذَا أَوْصَى رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ لَهُمْ يَنْقُصُ حَقُّهُ عَنْ السُّدُسِ. وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْوَصِيَّةِ: لَهُ سَهْمٌ كَسِهَامِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْوَصَايَا. وَهُنَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ إذَا قَالَ فَلَهُ سَهْمٌ يُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَرَى بَعْدَ أَنْ لَا يَزِيدَهُ عَلَى النِّصْفِ، بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ، لِأَنَّ الْأَدْنَى سَهْمٌ مِنْ سَهْمَيْنِ، كَجُزْءٍ مِنْ جُزْأَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 - وَإِنْ قَالَ: فَلَهُ سَهْمُ رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ، كَانَ لَهُ مِقْدَارُ سَهْمِ رَاجِلٍ. وَإِنْ كَانَ فِي الْقَوْمِ فُرْسَانٌ وَرَجَّالَةٌ. لِأَنَّهُ لَا يُعْطِي إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ وَقَدْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَخَمْسَ بَنَاتٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ كَسَهْمِ إحْدَى الْبَنَاتِ حَتَّى تَكُونَ الْقِسْمَةُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا. وَلَا يُعْطِي إلَّا الْأَقَلَّ لِكَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا بِهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا. ثُمَّ فِي جَمِيعِ هَذَا إذَا أَخَذَ نَفْلَهُ فَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. وَلَا يُحْرَمُ سَهْمُهُ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْجَبَ لَهُ مِنْ النَّفْلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هُوَ شَرِيكًا بِسَهْمِهِ فِيمَا يَأْتِي بِهِ كَيْفَ يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ؟ قُلْنَا: هَذَا إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا كَانَ النَّفَلُ عِوَضًا، وَالْغَازِي فِيمَا يَنْكَأُ فِي الْعَدُوِّ لَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا بِالشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ ثُمَّ هُوَ شَرِيكُ الْقَوْمِ فِيمَا بَقِيَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَرَامَةِ. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ. لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ وَالنَّظَرِ مُتَعَيَّنٌ فِي إيجَابِ جَمِيعِ مَا يَأْتِي بِهِ لَهُ أَوْ بَعْضِهِ. فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّحْرِيضِ شَيْءٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ. . 1176 - وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ مَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ بِهِ مِمَّا لَا مَقْصُودَ فِيهِ سِوَى الْعَالِيَةِ كَالدَّنَانِيرِ وَالْوُصَفَاءِ وَالْأَفْرَاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَا جَاءَ بِهِ دُونَ مَا أَوْجَبَ لَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا بِقَدْرِ قِيمَةِ مَا جَاءَ بِهِ. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَهُوَ لَهُ وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهَذَا صَحِيحٌ وَيُعْطَى الْخَمْسَمِائَةِ مِمَّا يَغْنَمُونَ بَعْدَ هَذَا. بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ بِأَسْرِ الْمُبَارِزِينَ مِنْهُمْ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ لَا مَقْصُودَ سِوَى الْمَالِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِبِطْرِيقٍ فَهُوَ لَهُ وَأَلْفُ دِينَارٍ؟ أَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِالْمَلِكِ فَهُوَ لَهُ وَعِشْرُونَ رَأْسًا. فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ اسْتَحَقَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَا سَمَّى لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا جَاءَ، لِحُصُولِ مَعْنَى النِّكَايَةِ بِفِعْلِهِ. أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ مَنْ قَتَلَ الْمَلِكَ فَلَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ أُعْطِيَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُسْلِمِينَ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ؟ . - وَلَوْ نَظَرَ إلَى مُشْرِكٍ عَلَى سُورِ الْحِصْنِ يُقَاتِلُ، فَقَالَ: مَنْ صَعِدَ السُّورَ فَأَخَذَهُ فَهُوَ لَهُ وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ اسْتَحَقَّ مَا سُمِّيَ لَهُ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ بِفِعْلِهِ وَقَدْ حَصَلَ. . 1179 - فَإِنْ وَقَعَ الرَّجُلُ مِنْ فَوْقِ السُّورِ إلَى الْأَرْضِ خَارِجًا مِنْ الْحِصْنِ فِي مَوْقِعٍ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 لِأَنَّ الْأَمِيرَ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ إذَا صَعِدَ السُّورَ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ. وَفِي ذَلِكَ مِنْ النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ مَا لَا يَحْصُلُ إذَا قَتَلَهُ بَعْدَ مَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ خَارِجًا مِنْ الْحِصْنِ. أَرَأَيْت لَوْ وَقَعَ وَسَطَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ أَكَانَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؟ 1180 - وَلَوْ وَقَعَ فِي دَاخِلِ الْحِصْنِ فَصَعِدَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخَذَهُ أَوْ قَتَلَهُ اسْتَحَقَّ النَّفَلَ. لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ وَزِيَادَةٍ. فَالصُّعُودُ وَالنُّزُولُ إلَى دَاخِلِ الْحِصْنِ فِي النِّكَايَةِ فِيهِمْ وَفِي إظْهَارِ الْجَلَادَةِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَوْقَ مُجَرَّدِ الصُّعُودِ. . 1181 - وَلَوْ كَانَ عَلَى السُّورِ عَلَى حَالِهِ فَطَعَنَهُ حَتَّى رَمَى بِهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَوْضِعٍ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَخَذَهُ فَقَتَلَهُ كَانَ لَهُ النَّفَلُ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ مَعْنًى، فَإِنَّهُ سَقَطَ مِنْ الْحِصْنِ بِفِعْلِهِ، فَكَانَ هَذَا وَالصُّعُودُ إلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَوَهَّقَهُ حَتَّى جَرَّدَهُ فَأَلْقَاهُ مِنْ السُّورِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ نَفْلَهُ؟ . 1182 - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ: مَنْ أَخَذَهُ فَهُوَ لَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ صُعُودًا إلَيْهِ. فَوَقَعَ مِنْ السُّورِ خَارِجًا مِنْ الْحِصْنِ. فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَمْتَنِعُ فِيهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ كَانَ لَهُ. وَإِلَّا فَهُوَ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَمْتَنِعُ فِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ صَارَ مَأْخُوذًا بِجَمَاعَتِهِمْ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ فِعْلُ الْآخِذِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَمْتَنِعُ فِيهِ فَإِنَّمَا صَارَ مَأْخُوذًا بِالْأَخْذِ فَيَكُونُ لَهُ. . - لَوْ قَالَ: مَنْ صَعِدَ الْحِصْنَ ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَلَهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ اسْتَحَقَّ النَّفَلَ. لِحُصُولِ النِّكَايَةِ. وَإِنْ صَعِدَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْزِلَ فَرَجَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ النَّفْلِ شَيْءٌ. لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ دُونَ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ فِي النِّكَايَةِ. . - وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ثُلْمَةٍ فِي الْحِصْنِ فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ دَخَلَ فِيهَا فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ. فَدَخَلَ رَجُلٌ وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا أَخَذَ الدَّنَانِيرَ. لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا كَانَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ النِّكَايَةُ فِيهِمْ، وَقَدْ حَصَلَ. . 1185 - وَإِنْ دَخَلَ مِنْ ثُلْمَةٍ أُخْرَى أَوْ صَعِدَ حَائِطًا فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعٍ مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْ أَشَدَّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى جُرْأَةِ الدَّاخِلِ وَالنِّكَايَةِ فِيهِمْ وَالْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَهُ نَفْلُهُ. لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَشْرُوطِ مَعْنًى وَزِيَادَةً. 1186 - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَيْسَرَ فِي الدُّخُولِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْ أَشَدَّ، إلَّا أَنَّهُ أَقَلُّ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ النَّفَلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 وَهُوَ الْأَصْلُ فِيمَا ذُكِرَ إلَى آخِرِ الْبَابِ:. 1187 - أَنَّهُ مَتَى أَتَى بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْصُودِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ فَوْقَهُ يَسْتَحِقُّ مِقْدَارَ مَا سُمِّيَ لَهُ، حَتَّى إذَا قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ جِيَادٍ فَلَهُ مِنْهَا مِائَةٌ فَجَاءَ بِأَلْفٍ غَلَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا مَنْفَعَةُ الْمَالِ، وَمَا جَاءَ بِهِ دُونَ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَلْفٍ غَلَّةً فَلَهُ مِنْهَا مِائَةٌ فَجَاءَ بِأَلْفٍ جِيَادٍ أَخَذَ مِنْهَا مِائَةً غَلَّةً. لِأَنَّهُ جَاءَ بِأَنْفَعَ مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْمُسَمَّى. ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَلْفٍ جِيَادٍ فَهِيَ لَهُ فَجَاءَ بِأَلْفٍ غَلَّةً كَانَتْ لَهُ. لِأَنَّهُ مَا شُرِطَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةٌ هَا هُنَا. فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الصِّفَةُ فِيمَا جَاءَ بِهِ لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ اُعْتُبِرَ مَعْنَى الْمَنْفَعَةِ. فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالصِّفَةِ فِيهِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِأَلْفٍ غَلَّةً فَهِيَ لَهُ فَجَاءَ بِأَلْفٍ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ كَانَ لَهُ أَلْفٌ غَلَّةً. لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ غَلَّةً، فَمَا زَادَ عَلَى صِفَةِ مَا أَوْجَبَ لَهُ يَكُونُ فِي الْغَنِيمَةِ. وَعَلَى هَذَا ذُكِرَ هُنَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ جَاءَ بِنُقْرَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 [بَابٌ النَّفَلُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِقَتْلِ الْقَتِيلِ] بَابٌ مِنْ النَّفْلِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِقَتْلِ الْقَتِيلِ وَلَا يُسْتَحَقُّ إذَا اُخْتُلِفَ فِيهِ وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَضَرَبَ مُسْلِمٌ مُشْرِكًا فَصَرَعَهُ، وَاجْتَزَّ آخَرُ رَأْسَهُ (ص 237) فَإِنْ كَانَ الَّذِي ضَرَبَهُ قَتَلَهُ، وَاجْتَزَّ الْآخَرُ رَأْسَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَالسَّلَبُ لِلضَّارِبِ. لِأَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ. فَإِنَّ تَمَامَ فِعْلِ الْقَتْلِ بِالْمَقْتُولِ، وَقَدْ صَارَ مَقْتُولًا بِضَرْبَتِهِ. 1192 - وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَكَانَ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَامُلِ مَعَ ضَرْبَتِهِ أَوْ الْعَوْنِ بِالْكَلَامِ أَوْ غَيْرِهِ فَالسَّلَبُ لِلَّذِي اجْتَزَّ رَأْسَهُ. لِأَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ. فَإِنَّهُ بَعْدَ فِعْلِ الْأَوَّلِ كَانَ مَضْرُوبًا مَقْتُولًا. وَإِنَّمَا صَارَ مَقْتُولًا بَعْدَ فِعْلِ الثَّانِي. وَالْإِمَامُ لَمْ يَقُلْ مَنْ صَرَعَهُ أَوْ ضَرَبَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: مَنْ قَتَلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْلَا فِعْلُ الْأَوَّلِ لَمَا تَمَكَّنَ الثَّانِي مِنْ جَزِّ رَأْسِهِ. قُلْنَا: وَلَوْلَا خُرُوجُهُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مَا تَمَكَّنَ الْقَاتِلُ مِنْ قَتْلِهِ فِيهِ، ثُمَّ بِهَذَا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ يَكُونُ قَاتِلًا نَفْسَهُ. أَرَأَيْت لَوْ تَوَهَّقَهُ إنْسَانٌ فَرَمَى بِهِ عَنْ بِرْذَوْنِهِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ فَوَثَبَ آخَرُ فَجَزَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 رَأْسَهُ أَكَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ؟ لَا، وَلَكِنَّ الْقَاتِلَ مَنْ جَزَّ رَأْسَهُ وَإِنْ كَانَ لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِ الْآخَرِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ. 1193 - . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ ضَرَبَهُ الْأَوَّلُ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّ آخِرَهُ يَكُونُ إلَى الْمَوْتِ إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا عَاشَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَاجْتَزَّ آخَرُ رَأْسَهُ فَالسَّلَبُ لِلثَّانِي. لِأَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ حَقِيقَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي نَظِيرِهِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ يَكُونُ الْقَوَدُ عَلَى الثَّانِي، وَيُجْعَلُ فِعْلُ الثَّانِي فِي حَقِّ الْأَوَّلِ كَالْبُرْءِ، لِأَنَّهُ قَاطِعٌ لِسِرَايَةِ فِعْلِ الْأَوَّلِ. وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ: 1194 - بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِنَّ الَّذِي ضَرَبَهُ فِي الْمِحْرَابِ أَصَابَ مَقْتَلَهُ حَتَّى شَرِبَ اللَّبَنَ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، وَعُلِمَ أَنَّ آخِرَ أَمْرِهِ إلَى الْمَوْتِ. وَمَعَ هَذَا كَانَ حَيًّا مَا لَمْ يَمُتْ. حَتَّى لَوْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ وَرِثَهُ عُمَرُ وَلَمْ يَرِثْ ذَلِكَ الْوَلَدُ مِنْهُ شَيْئًا. 1195 - وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ضَرَبَهُ فَنَثَرَ مَا فِي بَطْنِهِ فَأَلْقَاهُ، أَوْ قَطَعَ أَوْدَاجَهُ إلَّا أَنَّ فِيهِ الرُّوحَ بَعْدُ، فَاجْتَزَّ الْآخَرُ رَأْسَهُ فَالسَّلَبُ لِلَّذِي ضَرَبَهُ. لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ بِفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَاَلَّذِي بَقِيَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ اضْطِرَابِ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّئْبَ لَوْ عَدَا عَلَى شَاةٍ فَقَطَعَ أَوْدَاجَهَا أَوْ نَثَرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ أَدْرَكَهَا صَاحِبُهَا فَذَبَحَهَا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَضْطَرِبُ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَمِثْلُهُ لَوْ عَقَرَهَا الذِّئْبُ عَقْرًا يُعْلَمُ أَنَّ آخِرَ ذَلِكَ الْمَوْتُ إلَّا أَنَّهَا تَعِيشُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَذَبَحَهَا صَاحِبُهَا جَازَ أَكْلُهَا. وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] . وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي شَاةٍ بَقَرَ الذِّئْبُ بَطْنَهَا فَخَرَجَ قَصَبُهَا فَأَدْرَكَهَا صَاحِبُهَا فَذَبَحَهَا. قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ لَا يَتَبَدَّلُ إلَّا بِمِثْلِهِ. فَالرُّوحُ قَبْلَهُ كَانَ مُتَيَقَّنًا بِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ إلَّا بِفِعْلٍ يَتَيَقَّنُ بِهِ بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَهُ، وَمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُجْعَلُ مَقْتُولًا، بَلْ إنَّمَا يُجْعَلُ مَقْتُولًا بِحَزِّ الرَّأْسِ. 1196 - فَإِنْ قَالَ الَّذِي اجْتَزَّ رَأْسَهُ: اجْتَزَزْت رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَقَالَ الضَّارِبُ: بَلْ اجْتَزَزْت رَأْسَهُ بَعْدَ مَا مَاتَ. فَإِنَّهُ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ. فَإِنْ كَانَ فِعْلُ الضَّارِبِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ أَوْ إلْقَاءِ مَا فِي الْبَطْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ فِعْلَهُ قَاتِلُهُ وَفِعْلَ الثَّانِي كَذَلِكَ. وَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْأَثَرِ يَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِالسَّبْقِ. وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الْأَوَّلِ بِحَيْثُ يُعَاشُ مِنْ مِثْلِهِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي وَالسَّلَبُ لَهُ. لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ فِعْلَ الثَّانِي قَتْلٌ، وَلَا نَتَيَقَّنُ بِهِ فِي فِعْلِ الْأَوَّلِ. وَلَا مُعَارَضَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 بَيْنَ الْأَضْعَفِ وَالْأَقْوَى. فَإِنَّمَا يُحَالُ بِزَهُوقِ الرُّوحِ عَلَى الْأَقْوَى (ص 238) الَّذِي نَتَيَقَّنُ بِهِ 1197 - وَإِنْ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ مُشْكِلَةً، أَوْ كَانَ خَفِيَ عَلَيْهِ مَوْضِعُهَا مِنْ الْجَسَدِ، أَوْ أَخَذَهُ أَصْحَابُهُ فَاحْتَمَلُوهُ فَالسَّلَبُ لِلَّذِي اجْتَزَّ رَأْسَهُ. لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِأَنَّ فِعْلَهُ قَتْلٌ. وَفِي فِعْلِ الْأَوَّلِ تَرَدُّدٌ إذَا لَمْ يُوقَفْ عَلَى صِفَتِهِ، وَالْمُتَرَدِّدُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ عُلِمَ حَيَاتُهُ يَقِينًا لَا يُجْعَلُ مَيِّتًا إلَّا بِتَيَقُّنٍ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ فِعْلِ الثَّانِي. . 1198 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا احْتَمَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَنْ فَرَسِهِ حَتَّى جَاءَ بِهِ إلَى صَفِّ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ ذَبَحَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ. لِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِهِ إلَى الصَّفِّ حَيًّا فَقَدْ صَارَ هَذَا أَسِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَحِلُّ قَتْلُ الْأَسِيرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ. لِأَنَّ لِلْإِمَامِ فِي الْأَسِيرِ رَأْيًا بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا. وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُ الْإِمَامِ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ الْأَسِيرَ، وَكَيْفَ يَكُونُ قَصْدُهُ هَذَا وَإِنَّمَا نَفَّلَ لِلتَّحْرِيضِ. وَقَتْلُ الْأَسِيرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَا يَحِلُّ شَرْعًا. 1199 - فَلَوْ كَانَ حِينَ احْتَمَلَهُ أَنْزَلَهُ عَنْ دَابَّتِهِ فَقَتَلَهُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ كَانَ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّهُ قَتَلَ مُقَاتِلًا عَلَى وَجْهِ الْمُبَارَزَةِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَصِرْ أَسِيرًا بِمُجَرَّدِ إنْزَالِهِ عَنْ دَابَّتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا أَخْذُهُ لَكَانَ يَنْتَصِفُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا حَصَلَ فِي صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ صَارَ مَقْهُورًا لَا يَنْتَصِفُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْخُوذَ هَذَا الرَّجُلِ. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ مَا جَاءَ بِهِ إلَى صَفِّ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَبْدًا لِلْمُسْلِمِينَ. 1200 - وَلَوْ أَسْلَمَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ بَعْدَ مَا أَنْزَلَهُ عَنْ دَابَّتِهِ كَانَ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. 1201 - وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَهَّقَهُ حَتَّى أَنْزَلَهُ عَنْ دَابَّتِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَلَهُ سَلَبُهُ. 1202 - فَلَوْ جَرَّهُ بِوَهْقِهِ إلَى صَفِّ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُ مُمْتَنِعًا مَعَ ذَلِكَ يُعَالِجُ نَفْسَهُ وَيُقَاتِلُهُ بَعْدَ مَا أَتَى بِهِ صَفَّ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ أَسْرُهُ بَعْدَ إذْ كَانَ مُمْتَنِعًا مُقَاتِلًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ فَوَقَعَ فِي صَفِّ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يُقَاتِلُ مَعَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ؟ 1203 - وَلَوْ أَسْلَمَ حِينَ وَقَعَ فِي الصَّفِّ وَأَلْقَى سِلَاحَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّهُ صَارَ أَسِيرًا مَقْهُورًا بِمَا صَنَعَهُ. . 1204 - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ حِينَ اصْطَفَّ الْفَرِيقَانِ لِلْقِتَالِ: مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ. فَهَذَا جَائِزٌ، وَهُوَ عَلَى رُءُوس الرِّجَالِ لَيْسَ عَلَى السَّبْيِ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ. وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ. فَكُلُّ مَنْ قَتَلَ إنْسَانًا وَجَاءَ بِرَأْسِهِ اسْتَحَقَّ النَّفَلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ كَمَا سَمَّى لَهُ الْإِمَامُ. 1205 - فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ بِرَأْسٍ وَقَالَ: أَنَا قَتَلْتُهُ. وَقَالَ آخَرُ: بَلْ أَنَا قَتَلْتُهُ، وَهَذَا أَخَذَ بِرَأْسِهِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي جَاءَ بِالرَّأْسِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ. فَإِنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ جَزِّ رَأْسِهِ وَالْمَجِيءِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ قِيلَ: بِالظَّاهِرِ يُدْفَعُ الِاسْتِحْقَاقُ، وَحَاجَتُهُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَهُوَ عِنْدَ قَتْلِ الْمُشْرِكِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ عَادَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْكِيمِ الْعَلَامَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ. وَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ فَالسَّلَبُ لَهُ. لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ مَقْصُودَ الْأَمِيرِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقَتْلِ وَحَثُّ الْمُبَارِزِينَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ فِعْلُ الْقَتْلِ دُونَ جَزِّ رَأْسِ الْمَقْتُولِ. فَكَأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ كِنَايَةً عَنْ هَذَا. وَاللَّفْظُ مَتَى صَارَ مَجَازًا عَنْ غَيْرِهِ بِدَلِيلٍ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ. أَرَأَيْت (ص 239) أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ مُشْرِكًا فَاجْتَرَّهُ أَصْحَابُهُ إلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ ضَرَبَ رَأْسَهُ فَأَنْدَرَهُ فَوَقَعَ فِي نَهْرٍ فَذَهَبَ بِهِ الْمَاءُ أَكَانَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِهَذَا؟ أَرَأَيْت لَوْ ضَرَبَ رَأْسَهُ فَأَنْدَرَهُ فَوَقَعَ فِي كَفِّ آخَرَ أَكَانَ السَّلَبُ لِلَّذِي وَقَعَ فِي كَفِّهِ؟ لَا، وَلَكِنَّهُ لِلْقَاتِلِ. 1206 - . وَلَوْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذَا رَجُلٌ مَاتَ فَاجْتَزَّ رَأْسَهُ. وَقَالَ الَّذِي جَاءَ بِرَأْسِهِ: بَلْ قَتَلْتُهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّا وَجَدْنَا مَعَهُ عَلَامَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ، وَتَحْكِيمُ الْعَلَامَةِ فِي مِثْلِ هَذَا أَصْلٌ. 1207 - وَلَوْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذَا رَأْسُ مُسْلِمٍ. نُظِرَ إلَى السِّيمَاءِ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمُشْرِكِينَ فَلَهُ النَّفَلُ، وَإِلَّا فَلَا. لِأَنَّ تَحْكِيمَ السِّيمَاءِ فِيمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْعَلَامَةِ أَصْلٌ، بِدَلِيلِ مَا إذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ تَحْكِيمَ السِّيمَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَالدَّفْنِ. 1208 - وَإِنْ أُشْكِلَ فَلَمْ يَدْرِ أَرَأْسُ مُسْلِمٍ هُوَ أَوْ رَأْسُ مُشْرِكٍ لَمْ يُعْطَ شَيْئًا حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ رَأْسُ مُشْرِكٍ. لِأَنَّ مَعَهُ عَلَامَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ مُشْرِكٌ. وَبِدُونِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ. فَمَا لَمْ يُعْلَمْ بِمَا هُوَ الْمَشْرُوطُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. 1209 - وَإِنْ جَاءَ بِرَأْسٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَمَعَهُ آخَرُ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَتَلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فِي يَدِهِ الرَّأْسُ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِنْ حَلَفَ أَخَذَ النَّفَلَ، وَإِنْ نَكَلَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا نَفْلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. لِأَنَّ النَّاكِلَ قَدْ صَارَ مُقِرًّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ. وَلَمْ يُجَدْ مَعَ الْآخَرِ عَلَامَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ قَاتِلٌ، إذْ الرَّأْسُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ. وَحَاجَتُهُ إلَى الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَنُكُولُ النَّاكِلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ. 1210 - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ النَّفَلُ لِلْآخَرِ. لِأَنَّ نُكُولَ النَّاكِلِ كَإِقْرَارِهِ. 1211 - وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْقَاتِلَ هَذَا، بَعْدَ مَا جَحَدَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَجْحَدَ كَانَ النَّفَلُ لَهُ. فَكَذَلِكَ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ. وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالرَّأْسِ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّفْلِ بِوُجُودِ الْعَلَامَةِ مَعَهُ. فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ أَوْ نُكُولِهِ حَوَّلَ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ إلَى الثَّانِي، وَذَلِكَ صَحِيحٌ. كَمَنْ أَقَرَّ بِعَيْنِ الْإِنْسَانِ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَيْسَ لِي وَلَكِنَّهُ لِفُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي، وَيُجْعَلُ مُحَوَّلًا إلَيْهِ مَا صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِإِقْرَارِهِ. 1212 - وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ رَجُلَانِ بِرَأْسٍ وَهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ. فَالنَّفَلُ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ الرَّأْسُ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ. لِأَنَّ الْعَلَامَةَ ظَهَرَتْ فِي حَقِّهِمَا بِتَصَادُقِهِمَا، أَوْ بِكَوْنِ الرَّأْسِ فِي أَيْدِيهِمَا. 1213 - وَإِنْ قَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ الرَّأْسُ: قَتَلْتُهُ أَنَا وَهَذَا الرَّجُلُ، وَقَالَ الْآخَرُ: قَتَلْتُهُ دُونَهُ. فَالنَّفَلُ لَهُمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 لِأَنَّ الْعَلَامَةَ لِمَنْ فِي يَدِهِ الرَّأْسُ. وَهُوَ مَا حُوِّلَ بِإِقْرَارِهِ إلَى صَاحِبِهِ، إلَّا بِنِصْفِ مَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ. فَيَبْقَى اسْتِحْقَاقُهُ لِلنِّصْفِ الْآخَرِ. 1214 - وَلَوْ جَاءَ بِالرَّأْسِ وَهُمَا آخِذَانِ بِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: أَنَا قَتَلْتُهُ وَحْدِي. اُسْتُحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا فَالنَّفَلُ لِصَاحِبِهِ خَاصَّةً. فَإِنْ حَلَفَا فَالنَّفَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَلَامَةِ وَهُوَ الْمَجِيءُ بِالرَّأْسِ وَالِاسْتِحْقَاقُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ. . 1215 - وَلَوْ نَظَرَ الْمُسْلِمُونَ إلَى رَجُلٍ يَجْتَزُّ رَأْسَ مَقْتُولٍ فَقَالَ: أَنَا قَتَلْتُهُ. وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ أُعْطِيَ نَفْلَهُ. لِوُجُودِ الْعَلَامَةِ مَعَهُ. فَإِنْ كَانُوا رَأَوْهُ جَاءَ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَا يَقْتُلُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى اجْتَزَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مَقْتُولٌ فَهَذَا لَا نَفْلَ لَهُ. لِأَنَّ تَحْكِيمَ الْعَلَامَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُعَارِضُهُ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَقَدْ عَارَضَهُ دَلِيلٌ هَا هُنَا، وَهُوَ عِلْمُنَا بِأَنَّهُ مَقْتُولٌ (ص 240) حَالَ مَا كَانَ الرَّجُلُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ضَرْبِهِ. وَاَلَّذِي سَبَقَ إلَى وَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ كَاذِبٌ. 1216 - فَإِنْ قَالَ: إنِّي كُنْتُ قَتَلْتُهُ ثُمَّ قَاتَلْت ثُمَّ رَجَعْت إلَيْهِ فَاجْتَزَزْت رَأْسَهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ بِهِ، وَبِمَا لَيْسَ مَعَهُ عَلَامَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِهِ. فَلَوْ أُعْطِيَ شَيْئًا إنَّمَا يُعْطَى بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِالنَّصِّ. 1217 - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ حِينَ انْهَزَمَ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ. فَهَذَا أَيْضًا عَلَى رُءُوس الرِّجَالِ. لِأَنَّ فِي انْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي آثَارِهِمْ يَقْتُلُونَهُمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ التَّحْرِيضُ عَلَى الِاتِّبَاعِ وَالْقَتْلِ. وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ: عَنَيْت السَّبْيَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ. لِأَنَّهُ أَضْمَرَ خِلَافَ مَا أَظْهَرَ، وَلَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي ضَمِيرِهِ. فَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ فِي حَقِّهِمْ عَلَى مَا أَظْهَرَ وَعَلَى مَا عَلَيْهِ الْغَالِبُ مِنْ الْأُمُورِ، إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ فَيَقُولَ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ مِنْ السَّبْيِ فَلَهُ كَذَا. 1218 - وَإِنْ كَانُوا قَدْ انْهَزَمُوا وَتَفَرَّقُوا وَكَفَّ الْمُسْلِمُونَ عَنْ الْقَتْلِ، وَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ كَذَا فَهَذَا عَلَى السَّبْيِ. لِأَنَّهُ قَدْ انْقَضَى وَقْتُ الْقِتَالِ. وَإِنَّمَا الْآنَ وَقْتُ جَمْعِ الْغَنَائِمِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ التَّحْرِيضُ عَلَى الطَّلَبِ وَالْجَمْعِ. وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ رَأْسَ الْقَتِيلِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ يُبْنَى عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ الْمُرَادِ فِي كُلِّ فَصْلٍ. . 1219 - وَلَوْ قَالَ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسَيْنِ فَلَهُ أَحَدُهُمَا فَهَذَا عَلَى السَّبْيِ. لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ بَعْضَ مَا يَأْتِي بِهِ. وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي السَّبْيِ لَا فِي رَأْسِ الْقَتِيلِ. فَإِنَّهُ جِيفَةٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى التَّحْرِيضِ بِخِلَافِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 مَا إذَا قَالَ: فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْقَتْلِ هُنَاكَ يَحْصُلُ بِمَا أَوْجَبَ لَهُ. 1220 - وَلَوْ قَالَ: بِطْرِيقُ الْقَوْمِ قُتِلَ. فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسِهِ فَلَهُ مِائَةٌ. فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ إلَّا بِقِتَالٍ فَقَاتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى جَاءَ بِهِ فَلَهُ النَّفَلُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يُخَافُ فِيهِ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُ فَأَخَذَهُ وَجَاءَ بِهِ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ فَلَهُ النَّفَلُ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْأَمِيرِ التَّحْرِيضُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِرَأْسِهِ، فَقَدْ أُتِيَ بِهِ، وَفِي هَذَا كَبْتٌ وَغَيْظٌ لِلْعَدُوِّ. لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَنْصِبَ رَأْسًا بِطْرِيقِهِمْ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ قُتِلَ فَتَنْكَسِرَ شَوْكَتُهُمْ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْجِهَادِ، فَيَسْتَحِقُّ النَّفَلَ عَلَيْهِ. 1221 - فَإِنْ تَنَحَّى الْعَدُوُّ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَذَهَبَ رَجُلٌ حَتَّى اجْتَزَّ رَأْسَهُ وَجَاءَ بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ لَا يُخَافُ فِيهِ الْعَدُوُّ فَلَيْسَ لَهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. لِأَنَّ فِعْلَهُ هَذَا لَيْسَ بِجِهَادٍ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ الْأَمِيرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْجَارِ بِحَمْلِ الْجِيفَةِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَصْمُدْ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ. إنَّمَا قَالَ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسِهِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِئْجَارِ بَاطِلٌ. 1222 - فَإِنْ عَمَدَ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقَالَ: إنْ جِئْتَنِي بِرَأْسِ الْبِطْرِيقِ فَلَكَ كَذَا. أَوْ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَقَالَ: أَيُّكُمْ جَاءَ بِرَأْسِهِ فَلَهُ كَذَا. وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا. فَلِلَّذِي جَاءَ بِهِ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 لِأَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْجَارِ، وَلَكِنَّهُ إجَازَةٌ فَاسِدَةٌ. فَإِنَّ مِقْدَارَ الْعَمَلِ كَانَ مَجْهُولًا، لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ حِينَ اسْتَأْجَرَهُ. وَالْحُكْمُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ إقَامَتِهِ الْعَمَلَ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا يُسَمَّى لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى. وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَنْصِبَ رَأْسَهُ لِتَنْكَسِرَ قُلُوبُهُمْ فَلَا يَكُرُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ يَسُوقَ الْغَنَمَ أَوْ الرَّمَكَ، أَوْ لِيَحْمِلَ الْأَمْتِعَةَ، وَيُعْطِيَهُ ذَلِكَ مِمَّا غَنِمُوا قَبْلَ هَذَا، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَجْرِ لَا عَلَى وَجْهِ النَّفْلِ. وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَجُوزُ التَّنْفِيلُ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، فَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَنَائِمِهِمْ بَعْدَ الْإِحْرَازِ فَصَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (ص 241) . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 [بَابُ مَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَبُ إذَا قَتَلَهُ وَمَا لَا يَجُوزُ] وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَقَتَلَ رَجُلٌ أَجِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ مَعَهُمْ فَلَهُ سَلَبُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا التَّنْفِيلِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ. فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يُبَاحُ قَتْلُهُ مِنْهُمْ. وَقَتْلُ الْأَجِيرِ مِنْهُمْ مُبَاحٌ، لِأَنَّ لَهُ بِنْيَةً صَالِحَةً لِلْقِتَالِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ. وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ الْقَاتِلُ مِنْ الْقِتَالِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ يُهَيِّئُ لَهُ أَسْبَابَ ذَلِكَ 1224 - وَكَذَلِكَ لَوْ. قَتَلَ تَاجِرًا مِنْهُمْ، أَوْ عَبْدًا كَانَ مَعَ مَوْلَاهُ يَخْدُمُهُ، أَوْ رَجُلًا كَانَ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِهِمْ، أَوْ ذِمِّيًّا نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِهِمْ. لِأَنَّ قَتْلَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ مُبَاحٌ. . 1225 - وَلَوْ قَتَلَ امْرَأَةً مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهَا. لِأَنَّ قَتْلَ النِّسَاءِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ شَرْعًا. عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ فَقَالَ: هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَمِيرَ لَمْ يُرِدْ بِكَلَامِهِ التَّحْرِيضَ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ. إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ تُقَاتِلُ فَحِينَئِذٍ لَهُ سَلَبُهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 لِأَنَّ قَتْلَهَا مُبَاحٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَعْظَمَ قَتْلَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا لَا تُقَاتِلُ. . 1226 - وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ إنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَلَيْسَ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّ قَتْلَ الصِّبْيَانِ مِنْهُمْ لَا يَحِلُّ. فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَمِيرَ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ بِالتَّحْرِيضِ. إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَهُمْ. فَحِينَئِذٍ يُبَاحُ قَتْلُهُ، وَلِلْقَاتِلِ سَلَبُهُ. . 1227 - وَلَوْ قَتَلَ مَرِيضًا أَوْ مَجْرُوحًا مِنْهُمْ فَلَهُ سَلَبُهُ. سَوَاءٌ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ. لِأَنَّهُ مُبَاحُ الْقَتْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ. فَإِنَّهُ يُقَاتِلُ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِتَالِ بِنَفْسِهِ فِي الْحَالِ لِمَا بِهِ مِنْ الْمَرَضِ. . 1228 - فَإِنْ قَتَلَ شَيْخًا مِنْهُمْ. فَإِنْ كَانَ شَيْخًا فَانِيًا لَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ قِتَالٌ بِنَفْسِهِ وَلَا بِرَأْيِهِ وَلَا يُرْجَى لَهُ نَسْلٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ. وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُرْجَى لَهُ نَسْلٌ أَوْ كَانَ لَهُ فِي الْحَرْبِ رَأْيٌ فَهَذَا يُبَاحُ قَتْلُهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَلَكِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ. فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلِقَاتِلِهِ سَلَبُهُ. . 1229 - وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا كَانَ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 لِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُبَاحَ الْقَتْلِ وَلَكِنَّ سَلَبَهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ. لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِ، وَمَالُ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ كَأَمْوَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ. 1230 - فَإِنْ كَانَ السَّلَبُ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْمُشْرِكِينَ أَعَارُوهُ إيَّاهُ فَذَلِكَ لِلَّذِي قَتَلَهُ. لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ السَّلَبِ غَنِيمَةٌ. وَهُوَ مُبَاحُ الْقَتْلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَدْخُلُ فِي تَحْرِيضِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَمَدَ لَهُ نَفْسُهُ فَقَالَ: إنْ قَتَلْتَهُ فَلَكَ سَلَبُهُ، اسْتَحَقَّ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ إذَا عَمَّ بِهِ. . 1231 - وَلَوْ قَتَلَ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً، وَسَلَبُهُ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّلَبُ لِلْقَتِيلِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ، لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاغْتِنَامِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ أَصْلًا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّلَبُ الَّذِي عَلَيْهِ مِلْكًا أَوْ عَارِيَّةً. . 1232 - وَلَوْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَعْلَمُ أَنَّ سَلَبَهُ لِرَجُلٍ آخَرَ مِنْهُمْ، أَوْ امْرَأَةٍ، أَوْ شَيْخٍ، أَوْ صَبِيٍّ، فَالسَّلَبُ لِلْقَاتِلِ. لِأَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ مُبَاحُ الْقَتْلِ. وَالسَّلَبُ الَّذِي عَلَيْهِ مَحَلُّ الِاغْتِنَامِ لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ، فَيَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ بِالتَّنْفِيلِ. 1233 - وَلَوْ كَانَ السَّلَبُ الَّذِي عَلَيْهِ لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ غَيْرِ نَاقِضٍ لِلْعَهْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاغْتِنَامِ. وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ. 1234 - فَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، فَالسَّلَبُ لِلْقَاتِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُ مَالُهُ مَعْصُومًا فِي الْإِثْمِ دُونَ الْحُكْمِ (ص 242) ، بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ. فَأَمَّا التَّقَوُّمُ وَالْعِصْمَةُ عَنْ الِاغْتِنَامِ فَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلَى دَارِنَا وَتَرَكَ أَمْوَالَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ فَيْئًا، وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَعَقَارُهُ وَعُرُوضُهُ فَيْءٌ، إلَّا مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْهُ. لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرَزًا لِسَبْقِ يَدِهِ إلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا أَعَارَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ الْمَقْتُولِ. فَلِهَذَا اسْتَحَقَّهُ الْقَاتِلُ بِالتَّنْفِيلِ. 1235 - وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْحَرْبِيُّ أَخَذَ هَذَا السَّلَبَ غَصْبًا فَقَتَلَهُ هَذَا الْمُسْلِمُ كَانَ لَهُ سَلَبُهُ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ، حَتَّى يَصِيرَ مُحْرَزًا لَهُ بِهَا فَيَكُونُ مَحَلُّ الِاغْتِنَامِ. 1236 - وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ هَذَا الْمُسْلِمِ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ فَأُخِذَ كَانَ فَيْئًا. لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ حَتَّى قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ مُحْرَزَةٌ لَهُ، فَيَكُونُ فَيْئًا كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَهَذَا وَغَاصِبُ السَّلَبِ سَوَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ إنَّمَا غَصَبَ السَّلَبَ مِنْ مُسْلِمٍ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالسَّلَبُ لِلْقَاتِلِ. لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ بِالْغَصْبِ صَارَ مُحْرِزًا لِمَالِ الْمُسْلِمِ. وَهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ، فَيَصِيرُ لِلْقَاتِلِ بِالتَّنْفِيلِ. إلَّا أَنَّ لِصَاحِبِ السَّلَبِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُمْ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ، لِأَنَّ التَّنْفِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ حِينَ اخْتَصَّ الْمُنَفَّلُ لَهُ بِمِلْكِهِ. وَالْمَالِكُ الْقَدِيمُ إذَا وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فِي الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ فَهَذَا قِيَاسُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 [بَابُ السَّلَبِ الَّذِي لَا يُحْرِزُهُ الْمُنَفَّلُ لَهُ] وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَرَمَى مُسْلِمٌ مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّهُ قَتَلَ مُقَاتِلًا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ. وَهُوَ السَّبَبُ لِاسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ. 1239 - فَإِنْ لَمْ يَعْرِضْ الْمُشْرِكُونَ لِسَلَبِهِ حَتَّى انْهَزَمُوا فَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ قَتِيلًا عَلَيْهِ سَلَبُهُ وَعِنْدَهُ دَابَّتُهُ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْقَاتِلِ. لِأَنَّ حَقَّهُ تَأَكَّدَ فِيهِ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ. إنَّمَا تَأَخَّرَ أَخْذُهُ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ، أَوْ لِغَفْلَةٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِحَقِّهِ. 1240 - وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَخَذُوا دَابَّتَهُ وَسِلَاحَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ مِنْ سَلَبِهِ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِزْهُ حَتَّى أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ. وَلَوْ كَانَ مُحْرِزًا لَهُ فَأَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَحْرَزُوهُ بَطَلَ مِلْكُهُ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُحْرِزْهُ؟ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ قَدْ انْفَسَخَ لِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا جَعَلَ الْقَتْلَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ بِالتَّنْفِيلِ. لِأَنَّ الْقَاتِلَ بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ، وَقَدْ زَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 هَذَا التَّمَكُّنُ بِأَخْذِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ. وَبَعْدَ مَا انْفَسَخَ السَّبَبُ لَا يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْحُكْمِ، فَيَبْقَى هَذَا مَا لَهُمْ وَقْعٌ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ. 1241 - وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا سَلَبَهُ أَوْ لَمْ يَأْخُذُوهُ، فَمَا وُجِدَ عَلَيْهِ مِنْ سَلَبِهِ فَهُوَ لِلْقَاتِلِ، وَمَا وُجِدَ وَقَدْ نُزِعَ عَنْهُ فَهُوَ فَيْءٌ، لِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. 1242 - فَإِنْ كَانُوا جَرُّوهُ إلَيْهِمْ حِينَ قُتِلَ وَسَلَبُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْهَزَمُوا فَهُوَ لِلَّذِي قَتَلَهُ. لِأَنَّهُمْ جَرُّوهُ لِكَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ، لَا لِإِحْرَازِ سَلَبِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْرُوحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا جُرَّ بِرَجْلِهِ مِنْ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ لِكَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ فَمَاتَ كَانَ شَهِيدًا لَا يُغَسَّلُ؟ . 1243 - وَهَذَا إذَا كَانَ الَّذِينَ جَرُّوهُ غَيْرَ وَرَثَتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ فَسَلَبُهُ غَنِيمَةٌ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا جَرَّهُ لِإِحْرَازِ سَلَبِهِ. فَإِنَّهُ يَخْلُفُهُ فِيمَا كَانَ لَهُ. وَقَدْ كَانَ هُوَ مُحْرِزًا سَلَبَهُ بِلِبَاسِهِ، فَكَذَلِكَ مَنْ يَخْلُفُهُ يَجُرُّهُ إلَيْهِمْ. فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ فَمَا كَانَ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُحْرِزًا لَهُ إذَا نَزَعَهُ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ ابْتِدَاءً. وَالْمَلْبُوسُ تَبَعُ اللَّابِسِ. فَإِذَا تَرَكَهُ عَلَيْهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَهُ ابْتِدَاءً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 وَإِنْ لَمْ يُدْرَ أَنَّ الَّذِي جَرَّهُ كَانَ وَارِثًا أَوْ وَصِيًّا أَوْ أَجْنَبِيًّا فَالسَّلَبُ لِلْقَاتِلِ. لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ مَعْلُومٌ. فَمَا لَمْ يُعْلَمْ اعْتِرَاضُ (ص 243) مَا يُبْطِلُهُ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي الْحُكْمِ. 1245 - وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدُوا دَابَّتَهُ عِنْدَهُ فَهِيَ لِلْقَاتِلِ. وَإِنْ وَجَدُوهَا فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَانَتْ غَنِيمَةً. لِأَنَّهُ بِاعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى عَلَيْهَا يَنْفَسِخُ حُكْمُ السَّبَبِ الْأَوَّلِ. 1246 - وَلَوْ وُجِدَتْ بَعْدَ مَا سَارَ الْعَسْكَرُ مَنْقَلَةً أَوْ مَنْقَلَتَيْنِ فَهِيَ لِلْقَاتِلِ فِي الْقِيَاسِ. لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ اعْتِرَاضُ يَدٍ أُخْرَى مُبْطِلَةٍ لِحَقِّهِ. وَلَعَلَّهَا اتَّبَعَتْ الْعَسْكَرَ عَابِرَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْخُذَهَا أَحَدٌ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هِيَ غَنِيمَةٌ. لِأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ فِي يَدِ الْقَتِيلِ، وَلَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يَدُ الْقَتِيلِ عَلَيْهَا ثَابِتَةً فِيهِ. وَلَوْ أَخَذْنَا فِيهَا بِالْقِيَاسِ لَزِمَنَا أَنْ نَقُولَ: هِيَ لِلْقَاتِلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 وَإِنْ سَارُوا شَهْرًا فَرَجَعُوا إلَى مَدَائِنِهِمْ، وَهَذَا يَقْبُحُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَمْشِي عَابِرَةً هَكَذَا، وَلَكِنَّهَا تَقِفُ لِلْعَلَفِ أَوْ تَتَحَوَّلُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً عَنْ الطَّرِيقِ. فَإِذَا سَارَتْ مُسْتَوِيَةً عَلَى الطَّرِيقِ عَرَفْنَا أَنَّ سَائِقًا سَاقَهَا، فَكَانَتْ غَنِيمَةً. إلَّا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهَا ذَهَبَتْ عَابِرَةً فَهِيَ لِلْقَاتِلِ حِينَئِذٍ. لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِضْ عَلَيْهَا يَدٌ أُخْرَى. وَفِعْلُهَا جُبَارٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَاسِخًا لِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِلْقَاتِلِ. 1248 - وَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا دَابَّتَهُ فَحَمَلُوا عَلَيْهَا الْقَتِيلَ مَعَ سِلَاحِهِ وَسَاقُوهَا مُنْهَزِمِينَ ثُمَّ ظَفِرْنَا بِهِمْ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْقَاتِلِ. لِأَنَّهُمْ مَا قَصَدُوا إحْرَازَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا حَمَلُوهُ عَلَى دَابَّتِهِ لِيَرُدُّوهُ إلَى أَهْلِهِ. فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ إحْرَازًا لِمَا عَلَيْهِ. 1249 - إلَّا أَنْ يَكُونَ ابْنُ الْقَتِيلِ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ، حِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ غَنِيمَةً. لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مُحْرِزًا لَهُ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَلِيفَةُ الْقَتِيلِ. غَيْرُهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَرُدُّ عَلَى أَحَدٍ. وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَجَمَاعَتِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ وَمِلْكِهِ؟ . 1250 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَفَعَلَ الْوَصِيُّ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 لِأَنَّ الْوَصِيَّ خَلِيفَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَفِعْلُهُ يَكُونُ إحْرَازًا كَفِعْلِ الْوَارِثِ، سَوَاءٌ نَزَعَ مِنْهُ سَلَبَهُ أَوْ لَمْ يَنْزِعْهُ. 1251 - فَإِنْ كَانَ الْأَجَانِبُ حِينَ حَمَلُوهُ عَلَيْهَا مَعَ سِلَاحِهِ حَمَلُوا عَلَيْهَا أَيْضًا أَمْتِعَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَسَاقُوهَا، فَالدَّابَّةُ وَمَا عَلَيْهَا غَنِيمَةٌ، إلَّا مَا عَلَى الْقَتِيلِ مِنْ السَّلَبِ. لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا إحْرَازَ الدَّابَّةِ حِينَ اسْتَعْمَلُوهَا فِي حَوَائِجِهِمْ، وَلَمْ يَقْصِدُوا إحْرَازَ سَلَبِهِ حِينَ لَمْ يَنْزِعُوهُ عَنْهُ. 1252 - فَإِنْ كَانُوا عَلَّقُوا عَلَيْهَا إدَاوَةً أَوْ مِخْلَاةً فَقَطْ، فَالدَّابَّةُ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ سَلَبِ الْقَتِيلِ كُلِّهِ لِلْقَاتِلِ. لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَكُونُونَ مُحْرِزِينَ لَهَا. فَالْإِحْرَازُ بِثُبُوتِ يَدِهِمْ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَى الدَّابَّةِ بِحَمْلٍ مَقْصُودٍ بِتَعْلِيقِ إدَاوَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ وَلِلْآخَرِ إدَاوَةٌ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْحِمْلِ الْمَقْصُودِ؟ . 1253 - وَلَوْ غَيَّرُوا سَرْجَهَا بِإِكَافٍ، أَوْ بِسَرْجٍ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَحْمِلُوا عَلَيْهَا غَيْرَ الْقَتِيلِ وَسَلَبِهِ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْقَاتِلِ. لِأَنَّ تَغْيِيرَ السَّرْجِ بِسَرْجٍ آخَرَ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ قَصَدُوا إحْرَازَهَا، أَوْ أَثْبَتُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ بِمَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الرَّأْيِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ الْعَلَامَاتُ مِنْ أَخْذِهِمْ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 [بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي النَّفْلِ وَالْخَاصُّ مِنْهُ] وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ أَصَابَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الرُّبْعُ. فَهَذَا عَلَى التِّبْرِ وَالْمَضْرُوبِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ضَرْبِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْمُشْرِكِينَ. لِأَنَّ اسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ حَقِيقَةً. وَالِاسْتِحْقَاقُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَثْنَى بِهَذَا الِاسْمِ وَقَالَ: مَنْ أَصَابَ (ص 244) شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، إلَّا ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، كَانَ الْكُلُّ مُسْتَثْنًى بِهَذَا الِاسْمِ. فَكَذَلِكَ إذَا بَنَى الْإِيجَابَ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ؟ وَكَذَلِكَ وُجُوبُ التَّقَايُضِ عِنْدَ مُبَادَلَةِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ، وَحُرْمَةِ الْفَضْلِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ. وَكَانَ التِّبْرُ وَالْمَضْرُوبُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَاشْتَرَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَمْ يَحْنَثْ. لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ هُنَاكَ عَلَى الشَّرْيِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْبَائِعِ. وَبَائِعُ الْمَضْرُوبِ يُسَمَّى صَيْرَفِيًّا. وَإِنَّمَا يُسَمَّى بَائِعُ الذَّهَبِ مَنْ يَبِيعُ غَيْرَ الْمَضْرُوبِ فَأَمَّا هَا هُنَا فَعُلِّقَ الِاسْتِحْقَاقُ بِحَقِيقَةِ الِاسْمِ، فَعُرُوضُهُ مِنْ الْيَمِينِ أَنْ لَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً. وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمَضْرُوبَ وَغَيْرَ الْمَضْرُوبِ. ثُمَّ الْإِيجَابُ بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِالْوَصِيَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 وَلَوْ أَوْصَى لِغَيْرِهِ بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ مِنْ مَالِهِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْمَضْرُوبَ وَغَيْرَهُ. . 1255 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ حَدِيدًا فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَهُ نِصْفُهُ. فَمَا أَصَابَ رَجُلٌ مِنْ الْحَدِيدِ تِبْرًا أَوْ إنَاءً مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ سِلَاحٍ، أَوْ سَكَاكِينَ، أَوْ سُيُوفٍ، فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ. لِأَنَّ اسْمَ الْحَدِيدِ لِذَلِكَ كُلِّهِ. فَإِنَّ بِالصَّنْعَةِ لَا يَتَبَدَّلُ اسْمُ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَيْنِ، بَلْ يَتَقَرَّرُ، وَهُوَ مَعْنَى الْبَأْسِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] . فَأَمَّا جُفُونُ السَّيْفِ وَأَنْصِبَةُ السَّكَاكِينِ وَغُلُفُهَا فَلَهُ نِصْفُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدِيدٍ. فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَصَابَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَهُ نِصْفُهُ. إلَّا أَنَّهُ يُؤْخَذُ نِصْفُ ذَلِكَ مِنْهُ، أَوْ نِصْفُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ نَزْعُ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ. لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْأَصْلِ. وَحَقُّ الْغَانِمِينَ ثَابِتٌ فِي نِصْفِ مَا هُوَ تَبَعٌ. إلَّا أَنَّ الضَّرَرَ مَدْفُوعٌ عَنْهُ. فَإِذَا اُحْتُبِسَ عِنْدَهُ لِوُجُوبِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، بِمَنْزِلَةِ بِنَاءٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي أَرْضِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الْبِنَاءِ بِالْقِيمَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى. . 1256 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ بَزًّا فَهُوَ لَهُ. فَأَصَابَ ثَوْبَ دِيبَاجٍ أَوْ بُزْيُونٍ أَوْ أَكْسِيَةَ صُوفٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ. لِأَنَّ اسْمَ الْبَزِّ لَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. إنَّمَا يَتَنَاوَلُ اسْمَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ خَاصَّةً. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَزَّازَ فِي النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ ثَوْبَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ. وَسُوقُ الْبَزَّازِينَ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ ثَوْبُ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ. دُونَ الدِّيبَاجِ وَالْكِسَاءِ. فَكَأَنَّهُ بَنَى عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَمَنْ يَبِيعُ ثَوْبَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ يُسَمَّى كَرَابِيسِيًّا. فَلَوْ أَصَابَ كَتَّانًا أَوْ قُطْنًا غَيْرَ مَغْزُولٍ. أَوْ مَغْزُولًا غَيْرَ مَنْسُوجٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، لِأَنَّ اسْمَ الْبَزِّ يَتَنَاوَلُ الْمَلْبُوسَ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْغَزْلَ عَادَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ بَائِعَهُ يُسَمَّى قَطَّانًا وَغَزَّالًا وَلَا يُسَمَّى بَزَّازًا؟ . 1257 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ ثَوْبًا فَهُوَ لَهُ. فَأَصَابَ ثَوْبَ دِيبَاجٍ أَوْ بُزْيُونٍ مِمَّا يَلْبَسُهُ النَّاسُ، أَوْ فَرْوًا أَوْ كِسَاءً فَهُوَ لَهُ. لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ عَادَةً يُطْلَقُ عَلَى مَلْبُوسِ بَنِي آدَمَ. فَكُلُّ مَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ عَادَةً فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْإِيجَابِ. مَا خَلَا الْخُفَّ وَالْعِمَامَةَ وَالْقَلَنْسُوَةَ. فَإِنَّهُ لَوْ أَصَابَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ. لِأَنَّ الثَّوْبَ اسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ لِلِاكْتِسَاءِ بِهِ، وَالْعِمَامَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ لَا يَحْصُلُ بِهِمَا الِاكْتِسَاءُ. أَلَا تَرَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ لَا تَتَأَدَّى بِالْكِسْوَةِ إذَا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 قَلَنْسُوَةً أَوْ عِمَامَةً أَوْ خُفَّيْنِ، إلَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مَكَانَ الطَّعَامِ إذَا كَانَ يُسَاوِي ذَلِكَ. وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا فَلَبِسَ عِمَامَةً أَوْ قَلَنْسُوَةً لَمْ يَحْنَثْ. 1258 - وَلَوْ أَصَابَ مِسْحًا أَوْ بِسَاطًا، (ص 245) أَوْ سِتْرًا أَوْ فِرَاشًا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ. لِأَنَّ هَذَا لَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ عَادَةً وَإِنَّمَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الْبُيُوتِ. وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَتَاعِ لَا اسْمُ الثَّوْبِ. حَتَّى لَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ مَتَاعًا فَهُوَ لَهُ، اسْتَحَقَّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَمَلْبُوسُ النَّاسِ أَيْضًا. لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْمَتَاعِ. فَالْمَتَاعُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ. وَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْأَوَانِيَ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَتَاعِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ نَصًّا لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ مَتَاعًا دُونَ الْآنِيَةِ، فَأَصَابَ طَاسًا أَوْ أَبَارِيقَ، وَقَمَاقِمَ، وَقُدُورًا مِنْ نُحَاسٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْآنِيَةِ وَقَدْ اسْتَثْنَاهَا مِنْ الْمَتَاعِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ كُلَّهُ. . 1259 - وَلَوْ قَالَ مَنْ أَصَابَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا فَأَصَابَ سَيْفًا مُحَلًّى بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ كَانَ لَهُ الْحِلْيَةُ. لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الصَّرْفِ يَثْبُتُ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ فِي الْبَيْعِ؟ وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَ سَرْجًا مُفَضَّضًا فَلَهُ الْفِضَّةُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ خَاصَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 وَلَوْ وَجَدَ أَبْوَابًا فِيهَا مَسَامِيرُ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ إنْ نُزِعَتْ تَفَكَّكَتْ الْأَبْوَابُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. قَالَ: لِأَنَّ الْغَالِبَ غَيْرُ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ. يَعْنِي أَنَّ الْمَسَامِيرَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكَةِ حِينَ كَانَتْ مُغَيَّبَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ التَّزَيُّنُ بِهَا، وَفِي الْمَسَامِيرِ الْمَقْصُودُ الِانْتِفَاعُ لَا التَّزَيُّنُ، بِخِلَافِ حِلْيَةِ السَّرْجِ وَالسَّيْفِ، فَهُوَ ظَاهِرًا يُقْصَدُ بِهِ التَّزَيُّنُ. وَلِأَنَّ الْمِسْمَارَ صَارَ تَبَعًا مَحْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إذَا نُزِعَ لَا يَبْقَى اسْمُ الْبَابِ، وَالْمُصَابُ بَابٌ. وَفِي الْعَادَةِ لَا يُسَمَّى هَذَا بَابًا مِنْ ذَهَبٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَسَامِيرُ ذَهَبٍ، بِخِلَافِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ إنَّهُ مُفَضَّضٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفِضَّةِ. 1261 - وَلَوْ وَجَدَ حُلِيَّ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ مُرَصَّعًا بِفُصُوصٍ، أَوْ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِيهِ فَصٌّ، فَالْفُصُوصُ كُلُّهَا غَنِيمَةٌ. لِأَنَّ اسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَتَنَاوَلُهَا حَقِيقَةً وَالْحُلِيُّ لَهُ لِأَنَّ اسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً، وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ اسْمٌ آخَرُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ خَاتَمُ فِضَّةٍ وَخَاتَمُ ذَهَبٍ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى الْفَصِّ، وَإِنْ كَانَ الْفَصُّ مُرْتَفِعًا؟ . 1262 - وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدْنَا صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فِيهِ فُصُوصٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 لِأَنَّهُ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى اسْمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ اسْمٌ آخَرُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلِيبَ يُنْسَبُ إلَى مَا صِيغَ مِنْهُ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ دُونَ مَا فِيهِ مِنْ الْفُصُوصِ. . 1263 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ يَاقُوتًا أَوْ زُمُرُّدًا فَأَصَابَ حُلِيًّا مُفَضَّضًا فِيهِ الْيَاقُوتُ وَالزُّمُرُّدُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْزَعُ وَيُدْفَعُ إلَيْهِ. لِأَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ لَهُ حَقِيقَةً، وَإِنْ رُكِّبَ فِي الْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ اسْمٌ آخَرُ يُزِيلُهُ. 1264 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَ خَاتَمًا فِيهِ فَصُّ يَاقُوتٍ أَوْ زُمُرُّدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْلَعُ وَيُدْفَعُ إلَيْهِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَزْعِهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَهُمْ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ. . 1265 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ حَدِيدًا فَهُوَ لَهُ. فَأَصَابَ سَرْجًا رِكَابَاهُ مِنْ حَدِيدٍ، نُزِعَ الرِّكَابَانِ لَهُ. لِأَنَّ الِاسْمَ فِيهِمَا بَاقٍ حَقِيقَةً. يُقَالُ: رِكَابٌ مِنْ حَدِيدٍ وَرِكَابٌ مِنْ خَشَبٍ. وَلَيْسَ فِي النَّزْعِ ضَرَرٌ. 1266 - وَلَوْ كَانَ فِي السَّرْجِ مَسَامِيرُ حَدِيدٍ، أَوْ ضَبَّةُ حَدِيدٍ إنْ نُزِعَتْ تَفَكَّكَ السَّرْجُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَهْلَكِ فِيهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ لِمَنْفَعَةِ السَّرْجِ، لَا لِلزِّينَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَسَامِيرِ فِي الْأَبْوَابِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ سَفِينَةً مُضَبَّبَةً بِالْحَدِيدِ إنْ نُزِعَتْ تَخَلَّعَتْ السَّفِينَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: إنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي عَيْنٍ آخَرَ، لَا لِلزِّينَةِ بَلْ لِيُنْتَفَعَ بِهِ، بِاسْمٍ غَيْرِ الِاسْمِ الَّذِي أَوْجَبَ بِهِ النَّفَلَ، لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الِاسْمُ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا لِلزِّينَةِ (ص 246) يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ. لِأَنَّ الزِّينَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ. ثُمَّ إنْ كَانَ يُنْزَعُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ فَاحِشٍ نُزِعَ لِحَقِّهِ. وَإِنْ تَفَاحَشَ الضَّرَرُ فِي نَزْعِهِ بِيعَ، فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ النَّفَلُ، وَقِيمَةُ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّفَلُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ انْصَبَغَ ثَوْبُ إنْسَانٍ بِصِبْغِ غَيْرِهِ، وَأَبَى صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَغْرَمَ قِيمَةَ الصِّبْغِ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ الثَّوْبُ، وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. . 1267 - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ قَزًّا. فَهُوَ لَهُ. فَأَصَابَ قَبَاءً أَوْ جُبَّةً حَشْوُهَا قَزٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْحَشْوَ مُغَيَّبٌ. وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ اتِّخَاذِهِ فِي الْقَبَاءِ، وَالْجُبَّةِ الِانْتِفَاعَ بِهِ دُونَ الزِّينَةِ. فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَهْلَكِ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا الْقَبَاءِ لِلرِّجَالِ، وَإِنْ كَانَ لُبْسُ الْقَزِّ حَرَامًا لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: يَسْتَحِقُّ هَذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ: إذَا أَصَابَ ثَوْبًا سُدَاهُ قَزٌّ وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ الْقَزِّ أَلَيْسَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ السُّدَى؟ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا. . 1268 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ ثَوْبَ قَزٍّ فَهُوَ لَهُ. فَأَصَابَ جُبَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 ظِهَارَتُهَا أَوْ بِطَانَتُهَا قَزٌّ، فَلَهُ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ قَزٌّ مِنْهُمَا، وَالْآخَرُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الظِّهَارَةِ وَالْبِطَانَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ. وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ غَالِبٍ عَلَى صَاحِبِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ يُكْرَهُ لِلرِّجَالِ لُبْسُ هَذَا الثَّوْبِ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حِلْيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ يُبَاعُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ كَمَا بَيَّنَّا. لِأَنَّ الضَّرَرَ فَاحِشٌ فِي نَزْعِ الظِّهَارَةِ مِنْ الْبِطَانَةِ. . 1269 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ جُبَّةَ حَرِيرٍ فَهِيَ لَهُ. فَأَصَابَ جُبَّةً ظِهَارَتُهَا أَوْ بِطَانَتُهَا حَرِيرٌ فَالْمُعْتَبَرُ الظِّهَارَةُ هَا هُنَا. لِأَنَّ الْجُبَّةَ مَنْسُوبَةٌ إلَى الظِّهَارَةِ عَادَةً، وَالْبِطَانَةُ فِي النِّسْبَةِ تَبَعٌ لِلظِّهَارَةِ. ثُمَّ الْإِيجَابُ لَهُ كَانَ بِاسْمِ الْجُبَّةِ. وَهَذَا الِاسْمُ لَا يَتَنَاوَلُ الظِّهَارَةَ بِدُونِ الْبِطَانَةِ. فَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْكُلَّ. بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَالْإِيجَابُ هُنَاكَ بِاسْمِ الثَّوْبِ، وَالظِّهَارَةُ بِدُونِ الْبِطَانَةِ تُسَمَّى ثَوْبًا. . 1270 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ ذَهَبًا فَهُوَ لَهُ. فَأَصَابَ دِيبَاجًا مَنْسُوجًا بِالذَّهَبِ. فَإِنْ كَانَ الذَّهَبُ مُسْتَعْمَلًا فِي سُدَى الثَّوْبِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. بِمَنْزِلَةِ الْقَزِّ الَّذِي هُوَ سُدَى الثَّوْبِ. وَإِنْ كَانَ الذَّهَبُ فِيهِ بَيِّنًا يُرَى فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الذَّهَبَ دُونَ غَيْرِهِ وَالطَّرِيقُ فِيهِ الْبَيْعُ كَمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ اللُّحْمَةُ دُونَ السُّدَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَكُونُ سُدَاهُ قَزًّا وَإِبْرَيْسَمًا يَحِلُّ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ كَالْعَتَّابِيِّ، وَمَا يَكُونُ لُحْمَتُهُ إبْرَيْسَمًا لَا يَحِلُّ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ. يُوَضِّحُهُ إنَّهُ بِاللُّحْمَةِ يَصِيرُ ثَوْبًا. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى اللُّحْمَةِ دُونَ السُّدَى. . 1271 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ حَرِيرًا فَأَصَابَ جُبَّةً لَبِنَتُهَا مِنْ حَرِيرٍ، أَوْ ثَوْبًا عَمِلَهُ مِنْ حَرِيرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. لِأَنَّ هَذَا تَبَعٌ مَحْضٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ لِلرِّجَالِ؟ 1272 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ ذَهَبًا فَأَصَابَ يَاقُوتًا فِيهِ مِسْمَارُ ذَهَبٍ، أَوْ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِي فَصِّهَا مِسْمَارُ ذَهَبٍ. لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ مُضَبَّبٌ وَتَبَعٌ مَحْضٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ أَسِيرًا مُضَبَّبَ الْأَسْنَانِ بِالذَّهَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ الذَّهَبُ. وَلَوْ أَصَابَ أَسِيرًا قَدْ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ كَانَ لَهُ الذَّهَبُ. لِأَنَّ الْأَنْفَ بَائِنٌ مِنْ جَسَدِهِ فَإِنَّهُ يَرْبِطُهُ وَيَنْزِعُهُ مَتَى شَاءَ فَلَمْ يَكُنْ تَبَعًا مَحْضًا. بِخِلَافِ الْأَسْنَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِبَقَاءِ الِاسْمِ حَقِيقَةً. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ ثَوْبَ خَزٍّ فَهُوَ لَهُ فَأَصَابَ جُبَّةَ خَزٍّ بِطَانَتُهَا سَمُّورٌ أَوْ فَنَكُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الظِّهَارَةُ. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ بِاسْمِ الثَّوْبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا أَنَّ (ص 247) الْبِطَانَةَ لَا تَكُونُ تَبَعًا لِلظِّهَارَةِ فِي الْقَزِّ. فَكَذَلِكَ فِي الْخَزِّ. وَلَوْ كَانَ التَّنْفِيلُ بِاسْمِ الْجُبَّةِ كَانَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ هَهُنَا. لِأَنَّ السَّمُّورَ وَالْفَنَكَ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْخَزِّ فِي النِّسْبَةِ بِحَالٍ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِهَذِهِ الْجُبَّةِ إنَّهَا جُبَّةُ سَمُّورٍ أَوْ فَنَكٍ، فَبِإِيجَابِ الْخَزِّ لَهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَا لَا يَتْبَعُهُ فِي النِّسْبَةِ بِحَالٍ. 1274 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ ثَوْبَ فَنَكٍ. فَلَهُ الْفَنَكُ دُونَ الظِّهَارَةِ. لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ وَالْجُبَّةِ يَتَنَاوَلُ الْفَنَكَ بِدُونِ الظِّهَارَةِ، وَالظِّهَارَةُ لَا تَتْبَعُ الْبِطَانَةَ فِي النِّسْبَةِ. 1275 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ الْبِزْيَوْنِ. فَأَصَابَ جُبَّةً الْبَدَنُ مِنْهَا بُزْيُونٌ، وَالْكُمَّانِ وَالدَّخَارِيصُ دِيبَاجٌ فَلَهُ الْبَدَنُ خَاصَّةً لِأَنَّ بَعْضَ هَذَا لَيْسَ يَتْبَعُ لِلْبَعْضِ فَلَوْ كَانَتْ كُلُّهَا بُزْيُونًا إلَّا اللَّبِنَةَ فَهِيَ لِلْمُصِيبِ كُلُّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 لِأَنَّ اللَّبِنَةَ تَبَعٌ مَحْضٌ 1276 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ جُبَّةَ بُزْيُونٍ، فَأَصَابَ جُبَّةً بَدَنُهَا بُزْيُونٌ وَمَا سِوَى الْبَدَنِ دِيبَاجٌ، أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ لِأَنَّ مَا أَصَابَ لَيْسَ بِجُبَّةِ بُزْيُونٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا نُزِعَ مِنْهَا الدِّيبَاجُ لَا يُسَمَّى مَا بَقِيَ جُبَّةً، وَإِنَّمَا جَعَلَ الشَّرْطَ إصَابَةَ جُبَّةٍ بُزْيُونٍ. 1277 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا. فَأَصَابَ قَصْعَةً مُضَبَّبَةً بِهِمَا. فَإِنْ كَانَ جَعَلَ ذَلِكَ لِلزِّينَةِ فَلَهُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ نُزِعَتْ تَبْقَى قَصْعَةً. وَإِنْ كَانَتْ الضَّبَّةُ جُعِلَتْ لِكَسْرِ الْقَصْعَةِ بِحَيْثُ لَوْ نُزِعَتْ لَمْ تَكُنْ قَصْعَةً، أَوْ سَقَطَ مِنْهَا كَسْرَةٌ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَسَامِيرِ. لِأَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهَا لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلزِّينَةِ. فَكَانَتْ تَبَعًا مَحْضًا. 1278 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ شَعْرًا فَهُوَ لَهُ، فَأَصَابَ جُلُودَ مَعْزٍ عَلَيْهَا الشَّعْرُ، أَوْ أَنْمَاطَ شَعْرٍ، أَوْ سِتْرَ شَعْرٍ، أَوْ مُسُوحًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 لِأَنَّ اسْمَ الشَّعْرِ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ مِنْ الْجِلْدِ عَادَةً. وَلَا يَتَنَاوَلُ الثَّوْبَ الْمُتَّخَذَ مِنْ الشَّعْرِ، بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الثَّوْبَ الْمُتَّخَذَ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ مِثْلِ هَذَا الثَّوْبِ وَبَيْنَ الْأَصْلِ الَّذِي اتَّخَذَ مِنْهُ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِالصَّنْعَةِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ. 1279 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ خَزًّا. فَأَصَابَ جُلُودَ خَزٍّ، أَوْ خَزًّا قَدْ حَلَقَ مِنْ الْجُلُود، فَلَهُ الْخَزُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. لِأَنَّ اسْم الْخَزِّ يَتَنَاوَلهُمَا حَقِيقَةً. فَإِنْ قِيلَ: بَعْد الْحَلْقِ أَيُنْسَبُ الْجِلْدُ إلَى الْخَزِّ؟ فَيُقَال: هُوَ خَزٌّ، بِخِلَافِ جُلُودِ الْمَعْزِ وَالضَّأْنِ. فَإِنَّهَا لَا تُنْسَب إلَى مَا عَلَيْهَا مِنْ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ. لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ جِلْدُ الصُّوفِ. 1280 - وَلَوْ أَصَابَ ثَوْبَ خَزٍّ فَهُوَ لَهُ. لِأَنَّ الثَّوْبَ مَنْسُوبٌ إلَى الْخَزِّ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: مِنْ أَصَابَ صُوفًا أَوْ بُزْيُونًا، فَأَصَابَ ثَوْبَ بُزْيُونٍ أَوْ ثَوْبَ صُوفٍ لِأَنَّ بَعْدَ النَّسْجِ لَا يُسَمَّى صُوفًا وَلَا بُزْيُونًا مُطْلَقًا، بَلْ مُقَيَّدًا بِالثَّوْبِ. بِمَنْزِلَةِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَلَوْ أَصَابَ خَزًّا مَغْزُولًا كَانَ لَهُ. لِأَنَّ بَعْدَ الْغَزْلِ يُسَمَّى خَزًّا مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ. فَصَارَ الْحَاصِلُ فِي الْخَزِّ أَنَّ الِاسْمَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ عَلَى أَيْ وَجْهٍ كَانَ 1281 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ جُبَّةَ خَزٍّ أَوْ جُبَّةً مَرْوِيَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 فَهِيَ لَهُ، فَأَصَابَ جُبَّةً بِطَانَتُهَا وَظِهَارَتُهَا فَنَكُ أَوْ سَمُّورٌ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ ظِهَارَتُهَا مَرْوِيَّةٌ وَبِطَانَتُهَا مِنْ فَنَكٍ أَوْ سَمُّورٍ. لِأَنَّ هَذِهِ تُنْسَبُ عَادَةً إلَى الْفَنَكِ وَالسَّمُّورِ دُونَ الْخَزِّ وَالْمَرْوِيِّ. عَلَى مَعْنَى أَنَّ الِاسْمَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْفَنَكِ وَالسَّمُّورِ مَقْصُودًا بِدُونِ الظِّهَارَةِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى جُبَّةً، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْخَزِّ وَالْمَرْوِيِّ الَّذِي هُوَ ظِهَارَةٌ بِدُونِ الْبِطَانَةِ. فَإِنَّمَا الْأَصْلُ فِي النِّسْبَةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَحْدَهُ دُونَ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَحْدَهُ. 1282 - وَإِنْ أَصَابَ جُبَّةَ خَزٍّ بِطَانَتُهَا (ص 248) مَرْوِيَّةٌ أَوْ قُوهِيَّةٌ، كَانَتْ لَهُ الظِّهَارَةُ دُونَ الْبِطَانَةِ. مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذِهِ الْجُبَّةَ لَا تُنْتَسَبُ إلَى الْبِطَانَةِ، إذْ الْبِطَانَةُ بِانْفِرَادِهَا لَا تُسَمَّى جُبَّةً. وَقَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْجُبَّةِ عَلَى الظِّهَارَةِ مِنْ الْخَزِّ بِغَيْرِ الْبِطَانَةِ. فَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الظِّهَارَةَ دُونَ الْبِطَانَةِ. وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا فِي الْحَرِيرِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الظِّهَارَةَ وَالْبِطَانَةَ جَمِيعًا. فَقِيلَ: فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، لِأَنَّ الظِّهَارَةَ مِنْ الْحَرِيرِ بِدُونِ الْبِطَانَةِ لَا تُسَمَّى جُبَّةً حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَمِنْ الْخَزِّ تُسَمَّى جُبَّةً، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا. فَإِذَا كَانَتْ الْبِطَانَةُ مِنْ سَمُّورٍ أَوْ فَنَكٍ يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمَجَازِ. وَإِذَا كَانَ مَرْوِيًّا فَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فَيُسْتَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَيُجْعَلُ لَهُ الظِّهَارَةُ خَاصَّةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ جُبَّةَ خَزٍّ أَوْ سَمُّورٍ أَوْ فَنَكٍ، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ظِهَارَتُهُ وَشْيٌ أَوْ حَرِيرٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الظِّهَارَةُ وَكَانَ لَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ؟ لِأَنَّ اسْمَ الْجُبَّةِ يَتَنَاوَلُ مَا سِوَى الظِّهَارَةِ، إمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَالظِّهَارَةُ لَا تَكُونُ تَبَعًا لِلْبِطَانَةِ بِحَالٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ جُبَّةً مَرْوِيَّةً، فَأَصَابَ جُبَّةً ظِهَارَتُهَا مَرْوِيَّةٌ وَبِطَانَتُهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَلَهُ الْكُلُّ. وَهَذَا وَالْحَرِيرُ سَوَاءٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الظِّهَارَةَ بِدُونِ الْبِطَانَةِ هَا هُنَا تُسَمَّى قَمِيصًا دُونَ الْجُبَّةِ؟ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا. لَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ قَلَنْسُوَةً ظِهَارَتُهَا عَلَى مَا قَالَ وَبِطَانَتُهَا وَحَشْوُهَا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الْكُلُّ. لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ قَلَنْسُوَةً بِدُونِ الْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ. 1284 - وَلَوْ صَمَدَ الْجُبَّةَ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ هَذِهِ الْجُبَّةَ الْخَزَّ فَهِيَ لَهُ. فَأَصَابَهَا إنْسَانٌ، فَإِذَا هِيَ مُبَطَّنَةٌ بِفَنَكٍ أَوْ سَمُّورٍ فَالْكُلُّ لِلْمُصِيبِ هَهُنَا. لِأَنَّهُ بَنَى الِاسْتِحْقَاقَ هُنَا عَلَى الْيَقِينِ بِالْإِشَارَةِ دُونَ الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْرِيفِ. إلَّا عِنْدَ التَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ النِّسْبَةِ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ بِخِلَافِ جَمِيعِ مَا سَبَقَ. وَاسْتَوْضَحَ هَذَا بِالْوَصِيَّةِ بِجُبَّةِ الْخَزِّ، وَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي النَّفْلِ. 1285 - وَلَوْ قَالَ مَنْ أَصَابَ جُبَّةً مَرْوِيَّةً فَهَذَا عَلَى الظِّهَارَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الظِّهَارَةِ، وَهِيَ لَا تُسَمَّى جُبَّةً بِدُونِ الْبِطَانَةِ، وَالْحَشْوُ يَتْبَعُ لَهُمَا، فَيَسْتَحِقُّ الْكُلَّ 1286 - وَلَوْ. قَالَ مَنْ أَصَابَ جُبَّةَ خَزٍّ، فَأَصَابَ جُبَّةَ خَزٍّ بِطَانَتُهَا غَيْرُ الْخَزِّ، وَهِيَ مَحْشُوَّةٌ بِقَزٍّ أَوْ قُطْنٍ، فَلَهُ الظِّهَارَةُ خَاصَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 لِأَنَّ الظِّهَارَةَ مِنْ الْخَزِّ تُسَمَّى جُبَّةً بِانْفِرَادِهَا مَجَازًا. فَلَا يَسْتَحِقُّ الْبِطَانَةَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبِطَانَةَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْحَشْوَ. 1287 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ قَبَاءً مَرْوِيًّا، فَأَصَابَ قَبَاءً بِطَانَتُهُ غَيْرُ مَرْوِيٍّ، وَحَشْوُهُ كَذَلِكَ، فَلَهُ الظِّهَارَةُ خَاصَّةً. لِأَنَّ الظِّهَارَةَ وَحْدَهَا تُسَمَّى قَبَاءً. يُقَالُ: قَبَاءٌ طَاقٌ، وَقَبَاءٌ طَاقَيْنِ، بِخِلَافِ الْجُبَّةِ، فَالظِّهَارَةُ وَحْدَهَا هُنَاكَ تُسَمَّى قَمِيصًا لَا جُبَّةً. وَلَوْ كَانَتْ الظِّهَارَةُ وَالْبِطَانَةُ مَرْوِيَّتَيْنِ وَالْحَشْوُ مِنْ غَيْرِهِ اسْتَحَقَّ الْكُلَّ. لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الظِّهَارَةَ وَالْبِطَانَةَ اسْتَحَقَّ الْحَشْوَ تَبَعًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ قَبَاءً، اسْتَحَقَّ الْحَشْوَ تَبَعًا لِلظِّهَارَةِ وَالْبِطَانَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَشْوُ قَبَاءً. فَكَذَلِكَ عِنْدَ التَّقْيِيدِ يَسْتَحِقُّ الْحَشْوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْوِيًّا. وَالسَّرَاوِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبَاءِ فِي جَمِيعِ مَا قُلْنَا، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى سَرَاوِيلَ مُبَطَّنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُبَطَّنٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 [بَابُ النَّفْلِ مِنْ أَسْلَابِ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ] ِ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ (ص 249) - قَالَ: أَمَانُ الْخَوَارِجِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ جَائِزٌ كَأَمَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ فِئَةٍ مُمْتَنِعَةٍ وَبَيَانُ هَذَا الْوَصْفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا. ثُمَّ أَمَانُ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَأَمَانِ جَمَاعَتِهِمْ. لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَقِفُونَ عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقِتَالِ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ، حَتَّى يُمَيِّزُوا أَهْلَ الْعَدْلِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَيَسْتَأْمِنُوا مِنْهُمْ. فَإِذَا اسْتَأْمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَدْ سَالَمُونَا عَلَى أَنْ يَتَّجِرُوا فِينَا وَذَلِكَ أَمَانٌ نَافِذٌ فَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ. إنْ كَانُوا فِي مَنَعَةٍ، أَوْ يُبْلِغُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ إنْ كَانُوا فِي غَيْرِ مَنَعَةٍ. 1289 - وَلَوْ اسْتَعَانَ الْخَوَارِجُ بِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَخَرَجُوا إلَيْهِمْ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ، سَبَوْا أَهْلَ الْحَرْبِ، وَلَا يَكُونُ اسْتِعَانَةُ الْخَوَارِجِ بِهِمْ أَمَانًا لَهُمْ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ أَمَانًا لَهُمْ. وَلَكِنَّهُمْ حِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 صَارُوا نَاقِضِينَ لِذَلِكَ الْأَمَانِ. وَهَذَا غَلَطٌ. فَإِنَّهُمْ لَوْ أَمَّنُوهُمْ ثُمَّ قَاتَلُوا مَعَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْأَمَانِ إذَا كَانُوا تَحْتَ رَايَةِ الْخَوَارِجِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا وَلَكِنَّ. الْوَجْهَ فِيهِ أَنَّهُمْ مَا خَرَجُوا مُسَالِمِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، إنَّمَا خَرَجُوا مُقَاتِلِينَ. أَمَّا فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَدْلِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ فَلِأَنَّهُمْ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ لِيُعِينُوهُمْ لَا لِيَكُونُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَيْشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُعِينُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْ بَعْضٍ. 1290 - فَإِذَا ظَفِرْنَا بِهِمْ كَانُوا فَيْئًا، سَوَاءٌ قَاتَلُونَا مَعَ الْخَوَارِجِ أَوْ لَمْ يُقَاتِلُونَا. وَلَكِنْ إنْ أَرَادَ الْخَوَارِجُ قَتْلَهُمْ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ ضَمِنُوا لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ حِينَ دَعَوْهُمْ إلَى أَنْ يَخْرُجُوا مُقَاتِلِينَ مَعَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ، إذْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِهَذَا. وَمَنْ ضَمِنَ لِغَيْرِهِ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ. 1291 - فَإِنْ سَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ لَمْ يَحِلَّ لَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهَا جُعِلَتْ لَهُمْ بِسَبَبٍ حَرَامٍ شَرْعًا. وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُشْتَرٍ جَازَ شِرَاؤُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ بَلْ لِمَعْنَى الْغَدْرِ. فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ ثُبُوتَ الْمِلْكِ وَصِحَّةَ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُتَمَلَّكِ. 1292 - وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ كَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُعْطِيًا لَهُمْ أَمَانًا بِهَذَا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَسْبِيَ بَعْضَهُمْ وَيَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْغَدْرِ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أُمِرَ بِرَدِّهِ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَالَ جَازَ الشِّرَاءُ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ. 1293 - فَإِنْ قَاتَلُوا فَقَالَ أَمِيرُ أَهْلِ الْعَدْلِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَتَلَ رَجُلٌ قَتِيلًا مِنْ الْخَوَارِجِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَأَمْوَالُهُمْ مُحْرَزَةٌ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا تَكُونُ غَنِيمَةً. 1294 - وَإِنْ قَتَلَ حَرْبِيًّا فَلَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّ مَالَهُ مُبَاحُ الِاغْتِنَامِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. 1295 - فَإِنْ أَخَذَ أَهْلُ الْحَرْبِ رَقِيقًا وَأَمْوَالًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَحْرَزُوهَا بِمَنَعَةِ الْخَوَارِجِ ثُمَّ أَسْلَمُوا فَعَلَيْهِمْ رَدُّ جَمِيعِ مَا أَخَذُوا. لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 1296 - وَلَوْ كَانَتْ الْمَنَعَةُ لَهُمْ فِي دَارِنَا فَأَحْرَزُوا الْمَالَ بِهَا لَمْ يَمْلِكُوهَا. فَإِذَا كَانَتْ لِلْخَوَارِجِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكُوهَا. فَإِنْ كَانُوا أَدْخَلُوهَا دَارَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً فَهِيَ لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِتَمَامِ الْإِحْرَازِ. وَقَالَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» 1297 - وَلَوْ أَصَابُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَصِبْيَانِهِمْ لَمْ يَسَعْ الْخَوَارِجَ تَرْكُهُمْ يَذْهَبُونَ بِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ (ص 250) . لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي حَبْسِ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ الْوَفَاءُ لَهُمْ بِالتَّقْرِيرِ عَلَى الظُّلْمِ، وَلَكِنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُمْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ. فَإِنْ أَبَوْا قَاتَلُوهُمْ لِاسْتِنْقَاذِ ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ. لَمْ يَسَعْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ اسْتِنْقَاذِ ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. 1298 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادُوا إدْخَالَ الْأَمْوَالِ دَارَهُمْ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْخَوَارِجِ أَخْذُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِيَرُدُّوهَا عَلَى أَهْلِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ، فَهُمْ ظَالِمُونَ فِي حَمْلِهَا، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ مَلَكُوا الْمَالَ بِالْإِحْرَازِ، وَهُوَ قَدْ ضَمِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَهَا. وَإِذَا عَلِمَ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْأَمْوَالِ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ فَفِي الْإِحْرَازِ أَوْلَى. 1299 - وَإِنْ كَانُوا اسْتَهْلَكُوا مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وَهُمْ مُحَارِبُونَ. وَلِأَنَّهُمْ حِينَ انْضَمُّوا إلَى أَهْلِ الْبَغْيِ كَانُوا بِمَنْزِلَتِهِمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَأَهْلُ الْبَغْيِ إذَا اسْتَهْلَكُوا أَمْوَالَ أَهْلِ الْعَدْلِ ثُمَّ تَابُوا لَمْ يَضْمَنُوا، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَرْبِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكُونُوا خَوَارِجَ وَلَكِنَّهُمْ لُصُوصٌ غَيْرُ مُتَأَوِّلِينَ. لِأَنَّ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ حُكْمَ سُقُوطِ الضَّمَانِ لَا يَخْتَلِفُ بِالتَّأْوِيلِ وَعَدَمِ التَّأْوِيلِ، إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَلَا يَضْمَنُونَ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وَهُمْ مُحَارِبُونَ. 1300 - وَلَوْ اسْتَعَارَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ السِّلَاحَ، ثُمَّ قَالَ أَمِيرُ أَهْلِ الْعَدْلِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقُتِلَ خَارِجِيٌّ عَلَيْهِ سِلَاحُ حَرْبِيٍّ وَعَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ فِي الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 أَمَّا إذَا كَانَ سِلَاحُ الْخَارِجِيِّ عَلَى الْحَرْبِيِّ فَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاغْتِنَامِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ سِلَاحُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الْخَارِجِيِّ فَلِأَنَّهُ حِينَ اسْتَعَارَهُ مِنْهُ وَأَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَقَدْ ثَبَتَ حُكْمُ الْأَمَانِ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ بَعَثُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَاسْتَعَارُوا مِنْهُمْ سِلَاحًا أَوْ كُرَاعًا فَأَخْرَجُوهُ إلَيْهِمْ أَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ الْأَمَانِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، لِحُصُولِهِ فِي يَدِ الْخَوَارِجِ، حَتَّى لَا يَكُونَ غَنِيمَةً، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ إذَا ظَفِرُوا بِذَلِكَ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُمْ يَبِيعُونَهُ وَيَقِفُونَ ثَمَنَهُ حَتَّى يَجِيءَ أَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَأْخُذُونَ الثَّمَنَ. 1301 - وَمَنْ اسْتَهْلَكَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا وَقَعَتْ فِي يَدِ أَهْلِ الْعَدْلِ. وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَمَانِ فِي هَذَا الْمَالِ بِثُبُوتِ يَدِ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَيْهِ، وَالْيَدُ لَا تَكُونُ فَوْقَ الْمِلْكِ. 1302 - وَلَوْ مَلَكُوهَا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ هَذَا، وَلَوْ لَمْ يَبِعْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعَدْلِ حَتَّى تَفَرَّقَ الْخَوَارِجُ ثُمَّ جَاءَ أَصْحَابُ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ فَفِي الْقِيَاسِ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِيَرُدُّوهُمْ عَلَى دَارِهِمْ. لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ كَانَ ثَابِتًا فِي هَذَا الْمَالِ مِنْ جِهَةِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْخَوَارِجِ وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْبَرُونَ عَلَى بَيْعِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَخْذِ ثَمَنِهِ. لِأَنَّهُ صَارَ مَحْبُوسًا فِي يَدِ أَهْلِ الْعَدْلِ. وَالْكُرَاعُ وَالسِّلَاحُ بَعْدَ مَا صَارَ مُحْتَبَسًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُمَكَّنُ الْكَافِرُ مِنْ رَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ كَانُوا عَبِيدًا فَأَسْلَمُوا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَوْ كَانَ لِلْخَوَارِجِ لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ مَعَ بَقَاءِ تَوَهُّمِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى (ص 251) قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، إنْ كَانَتْ مَنَعَتُهُمْ بَاقِيَةً. فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ رَدُّهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنَعَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ بَاقِيَةٌ. 1303 - وَلَوْ أَنَّ الْخَوَارِجَ أَمَّنُوا تُجَّارًا دَخَلُوا عَسْكَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، ثُمَّ اسْتَعَارُوا مِنْهُمْ كُرَاعًا أَوْ سِلَاحًا، أَوْ أَخَذُوا مِنْهُمْ غَصْبًا، ثُمَّ قُتِلَ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ عَلَيْهِ ذَلِكَ السِّلَاحُ بَعْدَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ سَلَبَهُ لَا يَكُونُ لِلْقَاتِلِ. لِأَنَّ بِأَمَانِهِمْ صَارَ هَذَا الْمَالُ مَعْصُومًا مِنْ الِاغْتِنَامِ، فَإِنَّ أَمَانَهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَمَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ يَبِيعُونَ مَا أَصَابُوا مِنْ ذَلِكَ وَيَقِفُونَ ثَمَنَهُ حَتَّى يَجِيئُوا فَيَأْخُذُوهُ. 1304 - وَإِنْ احْتَاجَ أَهْلُ الْعَدْلِ إلَى أَنْ يُقَاتِلُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِمْ لِيُقَاتِلُوا بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 الْحَاجَةِ. فَإِذَا كَانَ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ فَأَوْلَى. وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ حِينَ أَعَارُوهُمْ هَذَا الْمَالَ لِيُقَاتِلُوا بِهِ أَهْلَ الْعَدْلِ فَقَدْ رَضَوْا بِأَنْ يَكُونَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِ الْخَوَارِجِ فِي حَقِّنَا. وَلَوْ ظَفِرْنَا بِأَمْوَالِ الْخَوَارِجِ جَازَ أَنْ نَفْعَلَ بِهِ هَذَا، فَكَذَلِكَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْتَأْمَنِينَ إذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ أَعَارُوهُمْ. 1305 - وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ غَصْبًا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِإِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ لِيُقَاتِلَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ. لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ الرِّضَا بِأَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ بِمَالِهِمْ. وَالْعِصْمَةُ ثَابِتَةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ بِسَبَبِ الْأَمَانِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ رَضَوْا هُنَالِكَ بِأَنْ يُقَاتَلَ بِمَالِهِمْ. 1306 - وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَدْلِ ذَلِكَ الْمَالَ هُنَا ضَمِنَهُ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَضْمَنْهُ، كَمَا لَا يَضْمَنُ مَالَ الْخَوَارِجِ. وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِأَمِيرِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ هَذَا الْمَالَ هُنَا، إلَّا أَنْ يَخَافَ التَّلَفَ عَلَيْهِ فَيَبِيعَهُ حِينَئِذٍ. لِأَنَّ عَيْنَ الْمَالِ مَحْفُوظٌ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ كَمَا هُوَ مَحْفُوظٌ عَلَى الْمُسْلِمِ. فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي يَدِهِ وَصَاحِبُهُ غَائِبٌ، فَيَحْفَظُ عَيْنَهُ. إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ فَيَبِيعَهُ وَيَحْفَظَ ثَمَنَهُ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 فَإِنْ تَفَرَّقَ الْخَوَارِجُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ الْإِمَامُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُرَدُّ الْمَالُ فِي الْفَصْلَيْنِ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَرُدُّوهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْخَوَارِجِ، وَهُنَاكَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ عَيْنُ مَالِهِمْ بَعْدَ مَا تَفَرَّقُوا. وَلِأَنَّهُمْ أَعْطَوْا الْمَالَ هُنَا إلَى الْخَوَارِجِ بَعْدَ مَا ثَبَتَتْ الْعِصْمَةُ فِيهَا بِالْأَمَانِ، فَلَا يُحْبَسُ فِي دَارِنَا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْأَمَانُ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ ثُمَّ أَعَارُوا الْخَوَارِجَ كُرَاعَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ. 1307 - وَلَوْ أَنَّ الْخَوَارِجَ آمَنُوا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ، فَخَرَجُوا فَقَاتَلُوا، أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا، حَتَّى ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ يَقَعُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ سَبْيٌ وَلَا تَكُونُ أَمْوَالُهُمْ غَنِيمَةً. لِأَنَّهُمْ حِينَ أَعْطَوْهُمْ الْأَمَانَ فَقَدْ ثَبَتَتْ لَهُمْ الْعِصْمَةُ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَبِسَبَبِ الْقِتَالِ لَا يُنْبَذُ ذَلِكَ الْأَمَانُ، لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا بِمَنَعَةِ الْخَوَارِجِ. فَكَمَا أَنَّ الْقِتَالَ مِنْ الْخَوَارِجِ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ، فَكَذَلِكَ الْقِتَالُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ مَعَهُمْ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْأَمَانِ، وَلَكِنَّ حُكْمَهُمْ كَحُكْمِ الْخَوَارِجِ فِيمَا يَحِلُّ مِنْهُمْ وَمَا يَحْرُمُ، وَفِي التَّنْفِيلِ فِي السَّلَبِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ إذَا قَالُوا لَهُمْ: اُخْرُجُوا فَقَاتِلُوا مَعَنَا، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْأَمَانَ. لِأَنَّ أُولَئِكَ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ الْعِصْمَةُ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. فَإِنَّ انْضِمَامَهُمْ إلَى الْخَوَارِجِ لِلْقِتَالِ مَعَنَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 وَلَوْ أَنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا هُمْ الدَّاخِلِينَ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ (ص 252) فَأَمَّنَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ: فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ فِي عِزِّهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ فَهُمْ فَيْءٌ، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّهُمْ فِي عِزِّهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ لَا يَكُونُونَ مُسْتَأْمَنِينَ. وَإِنَّمَا الْخَوَارِجُ هُمْ الْمُسْتَأْمَنُونَ إلَيْهِمْ. وَلِأَنَّهُمْ حِينَ قَاتَلُوا فِي مَنَعَتِهِمْ وَدَارِهِمْ فَقَدْ انْتَبَذَ الْأَمَانُ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَكَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ ظَفِرْنَا بِهِمْ. 1309 - وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا إلَى عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ بِأَمَانٍ، وَكَانُوا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ إلَّا بِمَنَعَةِ الْخَوَارِجِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ سَبْيٌ. لِأَنَّهُمْ مُسْتَأْمَنُونَ فِي مَنَعَةِ الْخَوَارِجِ، وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي حُكْمِ الْعِصْمَةِ. وَلِأَنَّ الْأَمَانَ لَمْ يُنْبَذْ بِقِتَالِهِمْ حِينَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ بِأَنْفُسِهِمْ. 1310 - وَلَوْ أَنَّ الْخَوَارِجَ طَلَبُوا إلَى تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ فِيهِمْ أَنْ يُعِينُوهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، فَأَنْعَمُوا لَهُمْ، وَعَلِمَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعَدْلِ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ التَّعَرُّضُ لَهُمْ بِقَتْلٍ وَلَا أَخْذِ مَالٍ حَتَّى يَنْصِبُوا الْحَرْبَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ. لِأَنَّهُمْ مُسْتَأْمَنُونَ، فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ قَصَدُوا أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَمْ يَظْهَرُوا ذَلِكَ لَا يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ حِينَ أَنْعَمُوا لِلْخَوَارِجِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْخَوَارِجِ، وَالْخَوَارِجُ مَا لَمْ يَنْصِبُوا لِقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَا يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لَهُمْ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 فَإِنْ قَاتَلُوا فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الْخَوَارِجِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ. لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا تَحْتَ رَايَةِ الْخَوَارِجِ، فَلَا يُنْتَبَذُ أَمَانُهُمْ بِذَلِكَ. 1311 - وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ قَالُوا لِمُسْلِمٍ: أَنْتَ آمِنٌ فَادْخُلْ إلَيْنَا. فَدَخَلَ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَوْ مِنْ الْخَوَارِجِ. لِأَنَّهُ ضَمِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ، وَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا ضَمِنَ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَفَاءٌ لَا غَدْرَ فِيهِ» . 1312 - وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَدْخُلْ إلَيْهِمْ حَتَّى آمَنَهُمْ وَآمَنُوهُ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ الْأَوَّلِ فِي حَقِّهِ. لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ صَحِيحٍ مِنْ جِهَتِهِ. إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَيْسَ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ، وَلَا أَخْذِ مَالٍ، حَتَّى يُنْبَذَ إلَيْهِمْ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا لِجَمِيعِ مَا اسْتَهْلَكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ الْقَوْمَ هُنَا فِي أَمَانٍ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّهُ آمَنَهُمْ وَهُوَ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَحَّ أَمَانُهُ. وَفِي الْأَوَّلِ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ لِأَنَّهُ مَا آمَنَهُمْ الْمُسْلِمُ، وَلَكِنَّهُمْ آمَنُوهُ. إلَّا أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ فِي أَمَانِهِمْ أَنْ لَا يَعْرِضَ لَهُمْ كَمَا لَا يَعْرِضُونَ لَهُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونُوا فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 وَلَوْ سَأَلَ الْخَوَارِجُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ يُعِينُوهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَالُوا: لَا نُعِينُكُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ مِنَّا، وَيَكُونُ حُكْمُنَا هُوَ الْجَارِي. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ، فَأَهْلُ الْحَرْبِ وَأَمْوَالُهُمْ فَيْءٌ. أَمَّا إذَا كَانَتْ الْخَوَارِجُ لَمْ يُؤَمِّنُوهُمْ فَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ. لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ لَا أَمَانَ لَهُمْ. وَأَمَّا إذَا كَانُوا أَمَّنُوهُمْ حِينَ خَرَجُوا فَلِأَنَّهُمْ نَقَضُوا ذَلِكَ الْأَمَانَ حِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ لِمَنَعَتِهِمْ وَتَحْتَ رَايَتِهِمْ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَهُنَاكَ إنَّمَا قَاتَلُوا تَحْتَ رَايَةِ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ حُكْمُ الْخَوَارِجِ هُوَ الْجَارِي، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ. وَأَمَّا أَمْوَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمْ إذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارهَا. لِأَنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِلْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ. 1314 - وَحُكْمُ تَنْفِيلِ السَّلَبِ عَلَى هَذَا. حَتَّى إذَا قُتِلَ خَارِجِيٌّ وَعَلَيْهِ سِلَاحُ حَرْبِيٍّ فَهُوَ لِلْقَاتِلِ. لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ هُنَا. فَإِنْ قُتِلَ حَرْبِيٌّ وَعَلَيْهِ سِلَاحُ خَارِجِيٍّ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ عَنْ الِاغْتِنَامِ. وَاسْتُوْضِحَ هَذَا بِمَا: 1315 - لَوْ اجْتَمَعَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، أَوْ امْتَنَعُوا وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ. بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَحُكْمُهُمْ فِي هَذَا كَحُكْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. 1316 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِينَ دَخَلُوا لِإِعَانَةِ الْخَوَارِجِ قَاتَلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَقَاتَلَهُمْ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى. فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَمِيرُهُمْ مِنْهُمْ وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ بِغَيْرِ مَنَعَةِ الْخَوَارِجِ فَهُمْ فَيْءٌ إذَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ بِاعْتِبَارِ مَنَعَتِهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ مَنَعَتُهُمْ بِالْخَوَارِجِ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْخَوَارِجِ، وَإِنْ كَانَ أَمِيرُهُمْ مِنْهُمْ. لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْقِتَالِ بِالْمَنَعَةِ لَا بِالْأَمِيرِ. 1317 - وَلَوْ أَنَّ عَشَرَةً مِنْ الْخَوَارِجِ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ آمَنُوا عَشَرَةً مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا فَيُغِيرُوا مَعَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ السَّبْيُ. وَلَا تَكُونُ أَمْوَالُهُمْ غَنِيمَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانِ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا نَقَضُوا ذَلِكَ الْأَمَانَ بِالْإِغَارَةِ وَالْقِتَالِ حِينَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ. وَلَكِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِجَمِيعِ مَا اسْتَهْلَكُوا مِنْ الْأَمْوَالِ، وَيَقْتُلُونَ بِمَنْ قَتَلُوهُ عَمْدًا. لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَعَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِينَ مَعَهُمْ. 1318 - وَلَوْ كَانُوا لَمْ يُؤَمِّنُوهُمْ وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ: اُخْرُجُوا فَأَغِيرُوا مَعَنَا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا. فَالْجَوَابُ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ فِي هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَهُمْ فَيْءٌ وَجَمِيعُ مَا مَعَهُمْ، وَلَا يُقْتَلُونَ بِمَنْ قَتَلُوا، وَلَا يَضْمَنُونَ مَا اسْتَهْلَكُوا، لِأَنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُمْ لُصُوصٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلُصُوصُ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَعَلَى هَذَا يُبْتَنَى حُكْمُ التَّنْفِيلِ فِي السَّلَبِ، فَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ لَمَّا كَانَتْ فَيْئًا كَانَ لِلْقَاتِلِ مِنْهُمْ السَّلَبُ بِالتَّنْفِيلِ. فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ جِهَةِ الْخَوَارِجِ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ جِهَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 أَهْلِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ التَّلَصُّصِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَفِيمَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ حِينَ قَاتَلُوا. 1319 - وَلَوْ أَنَّ الْخَوَارِجَ صَالَحُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَوَادَعُوهُمْ ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِغَيْرِ أَمَانٍ كَانَ آمِنًا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ. لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ وَإِعْطَاءِ الْأَمَانِ هُمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ؟ فَكَذَلِكَ فِي الْمُوَادَعَةِ. 1320 - وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ. كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ مِنْ جِهَتِهِمْ. فَإِنْ اسْتَعَانَ بِهِمْ الْخَوَارِجُ فَخَرَجُوا وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ فَوَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُسْبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ. لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَادَعَةَ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْأَمَانِ لَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي أَمَانٍ مِنْ الْخَوَارِجِ إذَا قَاتَلَ أَهْلَ الْعَدْلِ تَحْتَ رَايَةِ الْخَوَارِجِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْأَمَانِ. فَهَؤُلَاءِ كَذَلِكَ. وَحَالُهُمْ كَحَالِ الْخَوَارِجِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْهُمْ وَمِنْ أَمْوَالِهِمْ. 1312 - وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ (ص 254) الْأَمِيرُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ يَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ فَيْءٌ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ حِينَ قَاتَلُوا بِمَنَعَتِهِمْ أَهْلَ الْعَدْلِ. وَحُكْمُ التَّنْفِيلِ فِي السَّلَبِ عَلَى هَذَا يُخَرَّجُ فِي الْفَصْلَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا خَرَجُوا هُمْ مِنْ نَاحِيَةٍ لِيُقَاتِلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ، وَالْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ أَمِيرُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْهُمْ فَهُمْ فَيْءٌ. لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا تَحْتَ رَايَتِهِمْ بِمَنَعَتِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْخَوَارِجُ بَعَثُوا إلَيْهِمْ أَمِيرًا مِنْهُمْ فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الْخَوَارِجِ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا تَحْتَ رَايَةِ الْخَوَارِجِ. 1323 - وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمُوَادِعِينَ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ فَأَغَارُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَوَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَالْقِصَاصِ. لِأَنَّهُمْ مَا قَاتَلُوا عَنْ مَنَعَةٍ لَهُمْ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا مِنْهُمْ لِلْمُوَادَعَةِ. 1324 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمَّنَهُمْ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَبَذَ الْإِمَامُ إلَيْهِمْ، فَأَمَّنَهُمْ ذَلِكَ الْمُسْلِمُ أَيْضًا فَهُمْ آمِنُونَ. لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ صَحَّ أَمَانُ الْمُسْلِمِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مَوْجُودٌ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. 1325 - فَإِنْ قَالَ لَهُمْ الْأَمِيرُ: إنَّ هَذَا قَدْ آمَنَكُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَى أَمَانِهِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا آمَنَكُمْ فَقَدْ نَبَذْنَا إلَيْكُمْ، كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 لِأَنَّ نَبْذَ الْأَمَانِ تَأْثِيرُهُ فِي إطْلَاقِ الْأَمَانِ وَالِاسْتِغْنَامِ، فَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ. وَلِأَنَّ النَّبْذَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْيِ الْغُرُورِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنَّبْذِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. . 1326 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا أَمَّنَ حَرْبِيًّا فَكَرِهَ الْإِمَامُ مَقَامَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ فِي الْخُرُوجِ. وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ النَّبْذِ بَعْدَ صِحَّةِ الْأَمَانِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ، فَيَتَقَدَّمُ إلَيْهِ فِي الْخُرُوجِ، وَيُجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمُهْلَةِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ الْخُرُوجِ بِغَيْرِ ضَرَرٍ، بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ إذَا طَالَ الْمَقَامُ فِي دَارِنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِيهِ. 1327 - وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ لِحَرْبِيٍّ: لَا تَدْخُلْ دَارَنَا بِأَمَانِ فُلَانٍ فَإِنَّك إنْ دَخَلْت بِأَمَانِهِ فَأَنْتَ فَيْءٌ، ثُمَّ دَخَلَ بِأَمَانِهِ لَمْ يَكُنْ فَيْئًا. لِأَنَّ حَجْرَ الْمُسْلِمِ عَنْ إعْطَاءِ الْأَمَانِ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا تَنْعَدِمُ بِحَجْرِهِ الْعِلَّةُ الْمُصَحِّحَةُ لِأَمَانِهِ، فَيَكُونُ حَجْرُهُ إبْطَالًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ. وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ كَلَامِهِ نَبْذًا لِأَمَانٍ وَهُوَ فِي دَارِنَا. لِأَنَّ نَبْذَ الْأَمَانِ بَعْدَ إعْطَاءِ الْأَمَانِ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَأْمَنَهُ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ إعْطَاءِ الْأَمَانِ. وَبِهِ فَارَقَ الْمُوَادِعِينَ، لِأَنَّ أُولَئِكَ فِي مَنَعَتِهِمْ، وَنَبْذُ الْأَمَانِ صَحِيحٌ لَوْ حَصَلَ مِنْهُ بَعْدَ الْأَمَانِ، فَكَذَلِكَ قَبْلَهُ. فَأَمَّا هَذَا فِي دَارِنَا فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ نَبْذَ أَمَانِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَأْمَنَهُ. وَالْإِمَامُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ. 1328 - وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ دَارَنَا بِأَمَانِ فُلَانٍ فَهُوَ ذِمَّةٌ لَنَا. فَدَخَلَ رَجُلٌ قَدْ عَلِمَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ بِأَمَانِ فُلَانٍ. فَهُوَ ذِمَّةٌ، وَلَا يُتْرَكُ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 لِأَنَّ دُخُولَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَقَالَةِ الْأَمِيرِ دَلَالَةُ الرِّضَا بِقَبُولِ الذِّمَّةِ، وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا كَالصَّرِيحِ. بِمَنْزِلَةِ مَقَامِ الذِّمِّيِّ الَّذِي يُقَدَّمُ إلَيْهِ الْأَمَانُ فِي دَارِنَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ ذَلِكَ نَبْذُ الْأَمَانِ، فَلَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَتِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْنِ الثَّابِتِ بِذَلِكَ الْأَمَانِ وَلَيْسَ بِنَبْذٍ. 1329 - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِلْمَحْصُورِينَ: إنْ آمَنَكُمْ فُلَانٌ فَقَدْ نَبَذْت إلَيْكُمْ، فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. ثُمَّ آمَنَهُمْ فُلَانٌ، كَانَ مَا تَقَدَّمَ نَبْذًا صَحِيحًا وَحَلَّ بِهِ قِتَالُهُمْ. لِأَنَّهُمْ فِي مَنَعَتِهِمْ. 1330 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ خَرَجَ مِنْكُمْ بِأَمَانِ فُلَانٍ فَهُوَ فَيْءٌ، أَوْ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ. فَخَرَجَ (ص 255) رَجُلٌ فَهُوَ آمِنٌ لِأَنَّ النَّبْذَ إلَيْهِ وَهُوَ فِي مَنَعَتِنَا بَاطِلٌ. 1331 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ خَرَجَ مِنْكُمْ بِأَمَانِ فُلَانٍ فَهُوَ ذِمَّةٌ لَنَا فَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَبْذُ الْأَمَانِ، إنَّمَا فِيهِ تَقْرِيرُ حُكْمِ الْأَمْنِ. فَكَوْنُهُ فِي مَنَعَتِنَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 [بَابٌ مِنْ نَفْلِ الْخَيْلِ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِرَابِ دُونَ الْبَرَاذِينِ] 84 - بَابٌ مِنْ نَفْلِ الْخَيْلِ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِرَابِ دُونَ الْبَرَاذِينِ وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ فَرَسُهُ، فَقَتَلَ مُسْلِمٌ رَاجِلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَلَهُ فَرَسٌ مَعَ غُلَامِهِ. فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فَرَسَهُ. لِأَنَّ إيجَابَ فَرَسِ الْقَتِيلِ لَهُ مِنْ أَبْيَنِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ قَتْلَ مَنْ هُوَ فَارِسٌ فِي حَالِ مَا يَقْتُلهُ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ فَارِسًا فِي حَالِ مَا قَتَلَهُ بِالْفَرَسِ الَّذِي مَعَ غُلَامِهِ. وَالْغُلَامُ لَيْسَ بِحَاضِرٍ عِنْدَهُ. أَلَا تَرَى لَوْ قَتَلَ آخَرُ الْغُلَامَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْفَرَسِ اسْتَحَقَّ الْفَرَسَ بِقَتْلِهِ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا قَتَلَ رَاجِلًا لَا فَارِسًا. وَلِأَنَّ الْإِمَامَ خَصَّ الْفَرَسَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ حَمَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ سِوَى أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْفَرَسَ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَانَ قَصْدُهُ التَّحْرِيضَ عَلَى قَتْلِ فُرْسَانِهِمْ لِتَنْكَسِرَ بِهِ شَوْكَتُهُمْ 1333 - وَإِنْ كَانَ قَدْ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَهُوَ مَعَهُ يَقُودُهُ فِي الْقِتَالِ فَلَهُ فَرَسُهُ. لِأَنَّهُ فَارِسٌ بِمَا مَعَهُ مِنْ الْفَرَسِ. فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ. وَإِنَّمَا كَانَ نُزُولُهُ لِزِيَادَةِ جَدٍّ فِي الْحَرْبِ أَوْ لِضَيِّقِ الطَّرِيقِ، أَوْ كَثْرَةِ الزِّحَامِ. فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا حِينَ قُتِلَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 - وَلَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى بِرْذَوْنٍ أَوْ بِرْذَوْنَةٍ فَلَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ فَارِسٌ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى بِرْذَوْنٍ أَوْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ. أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَرَسَانِ؟ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْفَرَسُ مَعَ غُلَامِهِ فِي الْمُعَسْكَرِ مَوْجُودًا. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِي حَقّ الْمُسْلِمِينَ، غُلَامُهُ بِهَذَا الْفَرَسِ، لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَرَسَانِ، فَيُتَمَكَّنُ أَنْ يَجْعَلَ هُوَ فَارِسًا بِهِ. وَهُنَا فِي حُكْمِ التَّنْفِيلِ غُلَامُهُ فَارِسٌ بِهَذَا الْفَرَسِ فَلَا يَكُونُ هُوَ فَارِسًا بِهِ. - وَلَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ بَعِيرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ. لِأَنَّهُ غَيْرُ فَارِسٍ بِهَذَا الْمَرْكُوبِ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْفَرَسِ لَا يَتَنَاوَلُهُ بِحَالٍ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ فَرَسُهُ. فَقَتَلَ رَاجِلًا أَوْ فَارِسًا فَلَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَرَسٌ عَرَبِيٌّ وَسَطٌ، أَوْ قِيمَتُهُ. وَلَا يَكُونُ لَهُ بِرْذَوْنٌ. لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْفَرَسِ فِيمَا أَوْجَبَهُ نَفْلًا لَهُ. وَمُطْلَقُهُ يَتَنَاوَلُ الْعَرَبِيَّ خَاصَّةً. وَبِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ يَسْتَحِقُّ الْوَسَطَ مِنْ عَيْنِ الْمُسَمَّى، أَوْ قِيمَتَهُ. بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. فَقَدْ أَضَافَ الْفَرَسَ هُنَا إلَى الْقَتِيلِ بِحَرْفِ الْهَاءِ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ مَا يَكُونُ الْقَتِيلُ فَارِسًا بِهِ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْبِرْذَوْنَ وَالْفَرَسَ الْعَرَبِيَّ. - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْ بَابِ الْمَدِينَةِ عَلَى فَرَسِهِ أَوْ مَنْ قَاتَلَ عَلَى فَرَسِهِ فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ. فَهَذَا عَلَى الْعِرَابِ وَالْبَرَاذِينِ جَمِيعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 وَلَوْ قَالَ: عَلَى فَرَسٍ فَهُوَ عَلَى الْعِرَابِ خَاصَّةً. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ فَقَاتَلَ رَاجِلًا فَلَهُ مِائَةٌ. فَهَذَا عَلَى الْعِرَابِ وَالْبَرَاذِينِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى فَرَسٍ، فَفِي الْقِيَاسُ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ إلَّا مَنْ نَزَلَ عَنْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ. لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْفَرَسِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْعَرَبِيَّ، كَمَا فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ كُلُّ مَنْ نَزَلَ عَنْ بِرْذَوْنٍ أَوْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ فَقَاتَلَ رَاجِلًا فَلَهُ نَفْلُهُ. لِأَنَّ مَقْصُودَ الْأَمِيرِ هُنَا التَّحْرِيضُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ رَاجِلًا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَزَلَ عَنْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ وَلَمْ يُقَاتِلْ (ص 256) لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ؟ وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْزِلَ عَنْ بِرْذَوْنٍ أَوْ عَنْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ. وَلِأَنَّهُ وَإِنْ أَطْلَقَ الْفَرَسَ فَقَدْ عِلْمنَا أَنَّ الْمُرَادَ فَرَسُهُ، إذْ الْإِنْسَانُ يَنْزِلُ عَنْ فَرَسِهِ لَا عَنْ فَرَسِ غَيْرِهِ. فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ: عَنْ فَرَسِهِ، سَوَاءً. وَاسْمُ الْبِرْذَوْنِ فِي التَّنْفِيلِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَلَا يَتَنَاوَلُ الْفَرَسَ الْعَرَبِيَّ بِحَالٍ. لِأَنَّ هَذَا اسْمُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الْخَيْلِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ نَوْعًا آخَرَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ عَرَبِيٍّ. فَإِنْ ذَلِكَ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً، دُونَ الْبَرَاذِينِ. بِخِلَافِ الْفَرَسِ، فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَرَاذِينِ وَفُرْسِ الْعَرَبِ جَمِيعًا كَالْخَيْلِ. وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِي الْعَرَبِيِّ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 وَعِنْدَ الْإِضَافَةِ يُعْتَبَرُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ. وَالْفَرَسُ الشَّهْرِيُّ مِنْ نَوْعِ الْبَرَاذِينِ دُونَ الْعِرَابِ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ دَابَّتُهُ. فَاسْمُ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] . وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً يَتَنَاوَلُ الِاسْمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ. 1339 - وَإِنْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى بَعِيرٍ أَوْ ثَوْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا دَوَابُّهُمْ الْإِبِلُ وَالثِّيرَانُ. فَبِاعْتِبَارِ الْحَالِ يَصِيرُ مَعْلُومًا أَنَّ مُرَادَ الْإِمَامِ ذَلِكَ. وَالْكَلَامُ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ. وَاسْمُ الْبَغْلِ فِي التَّنْفِيلِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَكَذَلِكَ اسْمُ الْبَغْلَةِ. لِأَنَّ الْهَاءَ تُسْتَعْمَلُ فِيهِ لِعَلَامَةِ الْوَحَدَانِ لَا لِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، كَاسْمِ الْبَقَرَةِ، يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. وَاسْمُ الْحِمَارِ وَالْبَعِيرِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا. فَأَمَّا اسْمُ الْأَتَانِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْأُنْثَى، وَكَذَلِكَ اسْمُ حِمَارَةٍ، لِأَنَّهُ لَا تُسْتَعْمَلُ الْهَاءُ هُنَا إلَّا لِعَلَامَةِ التَّأْنِيث. وَاسْمُ الْجَمَلِ وَالْبَعِيرِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَيْضًا. فَأَمَّا اسْمُ النَّاقَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْأُنْثَى خَاصَّةً. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْجَامِعِ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ فَارِسًا فَلَهُ دَابَّتُهُ. فَقَتَلَ رَجُلًا عَلَى حِمَارٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ بَعِيرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 لِأَنَّهُ مَا كَانَ فَارِسًا بِدَابَّتِهِ، وَإِنَّمَا شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ أَنْ يَقْتُلَ فَارِسًا. - وَلَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى بِرْذَوْنٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، اسْتَحَقَّ دَابَّتَهُ. . لِأَنَّهُ فَارِسٌ بِدَابَّتِهِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 [بَاب مَنْ يَكُونُ لَهُ النَّفَلُ وَمَنْ لَا يَكُونُ] 85 - بَاب مَنْ يَكُونُ لَهُ النَّفَلُ وَمَنْ لَا يَكُونُ 1342 - وَإِذَا قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ السَّلْبُ لِلْقَاتِلِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. . لِأَنَّ " مَنْ " مِنْ أَسْمَاءِ الْعُمُومِ، فَيَتَنَاوَلُ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ جَمِيعًا. - وَلَكِنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيَاسِ فِي هَذَا قَبِيحٌ إذْ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَسْكَرَ كُلَّهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ اسْتَحَقُّوا سَلَبَهُ. وَقَدْ عِلْمنَا أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ بِالتَّنْفِيلِ. لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ يَفُوتُ بِهِ. . وَلَكِنْ لِلِاسْتِحْسَانِ فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا أَنَّهُ إنْ قَتَلَهُ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ فَلَهُمَا السَّلْبُ. وَإِنْ قَتَلَهُ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَلَبُهُ. لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ وُحْدَانٌ وَتَثْنِيَةٌ وَجَمْعٌ. فِيهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ التَّثْنِيَةِ. ثُمَّ أَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ كَأَعْلَى الْجَمْعِ. وَمُرَادُ الْإِمَامِ بِهَذَا تَحْرِيضُ الْآحَادِ عَلَى الْقِتَالِ لَا تَحْرِيضَ الْجَمَاعَةِ. وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 أَنْ يَفِرَّ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ الْوَاحِدِ وَلَا مِنْ الِاثْنَيْنِ. قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 66] فِيهِ تَبَيَّنَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ حُكْمَ الِاثْنَيْنِ كَحُكْمِ الْوَاحِدِ. وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ مَعَهُ السِّلَاحُ، وَهُوَ يَطْمَعُ (ص 257) فِي أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْ اثْنَيْنِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ وَلَا يَطْمَعُ فِي أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْهُمَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْحَازَ إلَى فِئَةٍ وَلَا يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ. . وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنْ قَتَلَهُ قَوْمٌ لَا مَنْعَة لَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُمْ السَّلَبُ. وَإِنْ قَتَلَهُ قَوْمٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ السَّلَبُ. . لِأَنَّ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْوَاحِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ عَلَى وَجْهِ التَّلَصُّصِ لَمْ يُخَمَّسْ مَا أَصَابُوا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فِي حُكْمِ التَّنْفِيلِ، لِأَنَّهُ بِصِحَّةِ التَّنْفِيلِ فِيهِ يُبْطِلُ حَقَّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ عَنْهُ. . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إنْ قَتَلَهُ قَوْمٌ يَرَى الْإِمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَتِيلَ كَانَ يَنْتَصِف مِنْهُمْ لَوْ خَلَّى بَيْنه وَبَيْنهمْ فَلَهُمْ سَلَبَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْتَصِفُ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَلَبُهُ. . لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّحْرِيضُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى قَتْلِ مَنْ يَنْتَصِفُ مِنْهُمْ دُونَ مَنْ لَا يَنْتَصِفُ. . قَالَ: وَكُلُّ هَذَا وَاسِعٌ إنْ أَمْضَاهُ الْإِمَامُ وَرَآهُ عَدْلًا. . وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ كُلَّ هَذَا حَقٌّ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ كُلَّ هَذَا طَرِيقُ الِاجْتِهَادِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا صَنَعَ مَسْرُوقٌ وَجُنْدُبٌ: " كِلَاكُمَا أَصَابَ "، يَعْنِي طَرِيقَ الِاجْتِهَادِ. . قَالَ: وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ عِنْدِي وَأَقْرَبُهَا مِنْ الْحَقِّ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ. لِأَنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّنْفِيلِ وَهُوَ التَّحْرِيضُ. . أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ انْتَهَوْا إلَى مَطْمُورَةٍ فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ نَاهَضَهَا أَيْ قَامَ بِأَخْذِهَا فَلَهُ مَا فِيهَا بَعْدَ الْخُمْسِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ يَنْتَصِفُ مِنْهُمْ أَهْلُ الْمَطْمُورَةِ اسْتَحَقُّوا النَّفَلَ، وَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَى الْمَطْمُورَةِ مِنْ الْعَسْكَرِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْمَطْمُورَةِ لَا يَنْتَصِفُونَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ النَّفَلُ. . لِمُرَاعَاةِ التَّحْرِيضِ. . - وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ قَتِيلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَهُ سَلَبُهُمْ جَمِيعًا، كَمَا لَوْ قَتَلَهُمْ بِضَرَبَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. . لِأَنَّ كَلِمَةَ " مَنْ " عَامَّةٌ. فَيَتَعَمَّمُ بِهِ الْمَقْتُولُونَ أَيْضًا. . - وَإِذَا دَخَلَ الْأَمِيرُ مَعَ الْعَسْكَرِ أَرْضَ الْحَرْبِ فَقَالَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا: مَنْ قَتَلَ مِنْكُمْ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَهَذَا جَائِزٌ. وَيَبْقَى حُكْمُ هَذَا التَّنْفِيلِ إلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْإِمْعَانِ وَالطَّلَبِ، فَيَتَقَيَّدُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ بِهَذَا الْمَقْصُودِ. . 1346 - حَتَّى إذَا انْتَهَى مُسْلِمٌ إلَى مُشْرِكٍ نَائِمٍ أَوْ غَافِلٍ فِي عَمَلِهِ فَقَتَلَهُ، فَلَهُ سَلَبُهُ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَقُوا الْعَدُوَّ فَقَتَلَهُ فِي الصَّفِّ أَوْ بَعْدَ مَا انْهَزَمُوا. . لِأَنَّ تَنْفِيلَ الْإِمَامِ عَمَّ الْمَقْتُولِينَ عَلَى أَيْ حَالٍّ كَانُوا، بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَحِلُّ قَتْلُهُمْ. . 1347 - وَكَذَلِكَ عَمَّ الْقَاتِلِينَ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُمْ سَهْمٌ فِي الْغَنِيمَةِ أَوْ رَضْخٌ، كَالنِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْعَبِيدِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ الْأَمِيرُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعْدَ مَا اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ فَهَذَا عَلَى ذَلِكَ الْقِتَالِ حَتَّى يَنْقَضِيَ. . لِأَنَّ الْحَالَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَّرَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ حَضَرَ الْقِتَالُ، فَقَدْ عِلْمنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ التَّحْرِيضُ عَلَى ذَلِكَ الْقِتَالِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ حِينَ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ التَّحْرِيضُ عَلَى الْجَدِّ فِي الدُّخُولِ وَالطَّلَبِ. . ثُمَّ إنْ بَقُوا فِي ذَلِكَ الْقِتَالِ أَيَّامًا فَحُكْمَ ذَلِكَ التَّنْفِيلِ بَاقٍ. 1348 - . وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ الْمُنْهَزِمُونَ حِصْنَهُمْ فَتَحَصَّنُوا فِيهِ وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَهُمْ فَقَتَلَ رَجُلٌ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 لِأَنَّ ذَلِكَ الْقِتَالَ بَاقٍ إذَا لَمْ يَتْرُكُوهُ حِينًا، وَلَا حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ بِهِ، وَهُوَ تَمَامُ الْقَهْرِ. . 1349 - وَإِنْ لَمْ يَتْبَعْهُمْ (ص 258) الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ مَا انْهَزَمُوا حَتَّى لَحِقُوا بِحُصُونِهِمْ، ثُمَّ مَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ بِحُصُونِهِمْ فَقَتَلَ مُسْلِمٌ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. . لِأَنَّهُمْ حِينَ تَرَكُوا أَتْبَاعَهُمْ فَقَدْ انْقَضَتْ تِلْكَ الْحَرْبُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالتَّنْفِيلُ كَانَ مُقَيَّدًا بِهَا. . 1350 - وَلَوْ كَانُوا عَلَى إثْرِهِمْ فَمَرُّوا بِحِصْنٍ آخَرِ، فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَتِيلًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. . لِأَنَّ النَّفَلَ كَانَ عَلَى الْحَرْبِ الْأُولَى، وَهِيَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ هَذَا الْحِصْنِ. إنَّمَا كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ حَضَرُوا. فَهَذَا إنْشَاءُ حَرْبٍ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ التَّنْفِيلُ مُتَنَاوِلًا لَهَا. 1351 - وَلَوْ أَنَّ أَصْحَابَ الْحَرْبِ الْأُولَى انْهَزَمُوا، فَدَخَلُوا حِصْنًا آخَرَ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي إثْرِهِمْ. فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْحِصْنِ غَيْرَ الْمُنْهَزِمِينَ، وَالْمَنَعَةُ مَنَعَتُهُمْ، ثُمَّ قَتَلَ مُسْلِمٌ قَتِيلًا، لَمْ يَسْتَحِقَّ سَلَبُهُ. سَوَاءً كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ الْمُنْهَزِمِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. . لِأَنَّ هَذِهِ حَرْبٌ سِوَى الْأُولَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 - وَإِنْ كَانَ عَظْمُ الْقَوْمِ الَّذِينَ انْهَزَمُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَنَعَةُ لَهُمْ، فَحُكْمُ ذَلِكَ التَّنْفِيلِ بَاقٍ، وَأَهْلُ الْحِصْنِ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ مَدَدٍ لَحِقَهُمْ. فَتَبْقَى الْحَرْبُ الْأُولَى. وَمَنْ قَتَلَ مِنْ الْمُنْهَزِمِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَهُ سَلَبُهُ. . وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ. . 1353 - وَلَوْ جَاءَ مَلِكَهُمْ الْأَعْظَمُ بِجُنْدِهِ فَانْحَازَ إلَيْهِ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَتَلَ مُسْلِمٌ مِنْهُمْ قَتِيلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. . لِأَنَّ هَذِهِ مَنَعَةٌ أُخْرَى، وَالتَّنْفِيلُ كَانَ مُفِيدًا بِالْحَرْبِ الْأُولَى، فَبَعْدَ مَا حَدَّثَ لَهُمْ مَنَعَةٌ أُخْرَى تَكُونُ الْحَرْبُ غَيْرَ الْأُولَى. - فَإِذَا لَمْ يُجَدِّدْ الْإِمَامُ تَنْفِيلًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَاتِلُ السَّلَبَ. وَإِنْ جَدَّدَ الْإِمَامُ التَّنْفِيلَ فَسَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ الْبَعْضِ، فَكُلُّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا اسْتَحَقَّ سَلَبُهُ. الَّذِي سَمِعَ وَاَلَّذِي لَمْ يَسْمَعْ فِيهِ سَوَاءٌ. . لِأَنَّ هَذَا مَحْضُ مَنْفَعَةٍ فِي حَقِّ الْقَاتِلِينَ. وَلِأَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ لَمَّا اُشْتُهِرَ فِي النَّاسِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاصِلِ إلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي الْحُكْمِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 [بَابٌ مِنْ النَّفْلِ عَلَى الدَّلَالَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الْأُسَرَاءِ] - وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ دَلَّنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَشْرَةٍ مِنْ الرَّقِيقِ فَلَهُ رَأْسٌ. فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ بِكَلَامٍ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمْ. فَذَهَبُوا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَجَاءُوا بِالرَّقِيقِ كَمَا قَالَ. فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ النَّفْلِ. . وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَسْتَحِقَّ النَّفَلَ. لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ الدَّلَالَةَ وَقَدْ فَعَلَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الصَّيْدِ مِنْ الْمُحَرَّمِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ؟ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ:. 1356 - اسْتِحْقَاقُ النَّفْلِ يَكُونُ بِالْعَمَلِ لَا بِمُجَرَّدِ الْكَلَامِ. وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّحْرِيضُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحْرِيضُ عَلَى عَمَلٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ. وَبِمُجَرَّدِ وَصْفِ الْمَوْضِعِ بِكَلَامِهِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْعَمَلُ إذَا لَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمْ، فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 وَلَوْ آمَنُوا حَرْبِيًّا عَلَى أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى مِثْلِهِ، فَدَلَّهُمْ بِكَلَامِهِ فَهُوَ دَالٌ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ فِي مَنْزِلَةٍ بِالْكُوفَةِ أَوْ الشَّامِ فَقَالَ: إنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى عَشْرَةِ أَرْؤُسٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَدْ مَرَرْت بِهِمْ أَتَجْعَلُونَ لِي رَأْسًا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَدَلَّهُمْ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمْ، أَكَانَ يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ؟ فَكَذَلِكَ إنْ دَلَّهُمْ وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ شَرِيكُهُمْ بِسَهْمٍ فِي الْغَنِيمَةِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ مَعَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ شَرِيكُهُمْ بِسَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ، بِمَنْزِلَةٍ مَا لَوْ لَمْ تَسْبِقْ الدَّلَالَةُ وَالتَّنْفِيلُ. وَلَوْ ذَهَبَ مَعَهُمْ حَتَّى دَلَّهُمْ عَلَى عَشْرَةِ أَرْؤُسٍ فَلَهُ مِنْهُمْ رَأْسٌ. . لِأَنَّهُ بَاشَرَ عَمَلًا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ النَّفَلَ بِهِ وَهُوَ الذَّهَابُ. وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ رَأْسًا وَسَطًا. - وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَهُ مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ رَأْسٌ وَسَطٌ. وَلَوْ دَلَّهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ لَهُ نِصْفُ وَاحِدٍ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ بِمُقَابِلَةِ عَمَلٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: مَنْ جَاءَ بِعَشْرَةِ أَرْؤُسٍ (ص 259) فَلَهُ رَأْسٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ. . - وَلَوْ أَسَرَ الْأَمِيرُ أُسَرَاءَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَالَ: مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 دَلَّنَا مِنْكُمْ عَلَى عَشْرَةِ أَرْؤُسٍ فَهُوَ حُرٌّ. فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ بِكَلَامٍ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمْ، فَوَجَدُوا الْأَمْرَ كَمَا وَصَفَ لَهُمْ، فَهُوَ حُرٌّ. . لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ عِتْقِهِ بِالشَّرْطِ، فَيُرَاعَى وُجُودُ الشَّرْطِ فِيهِ حَقِيقَةً. وَبِالدَّلَالَةِ بِالْوَصْفِ يَتِمُّ الشَّرْطُ حَقِيقَةً. وَهَذَا لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا أَوْجَبَ لَهُ هُنَا شَيْئًا لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِعَمَلٍ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى تَرْكِ حَقِيقَةَ الدَّلَالَةِ هُنَا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ هُنَاكَ نَفْلًا لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْعَمَلِ. فَلِأَجَلِهِ تَرَكْنَا حَقِيقَةَ لَفْظِ الدَّلَالَةِ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ. - ثُمَّ لَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَسِيرُ يَرْجِعُ إلَى دَارِهِ، وَلَكِنَّهُ يَخْرُجُ إلَى دَارِنَا لِيَكُونَ ذِمَّةً لَنَا. لِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ قَدْ اُحْتُبِسَ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُ بِالدَّلَالَةِ الْحُرِّيَّةَ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ التَّمَكُّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِهِ. - وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ إنْ ذَهَبَ مَعَهُمْ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ إلَّا أَنْ يَقُولَ: إنْ دَلَلْتُكُمْ فَأَنَا حُرٌّ وَتَدَعُونِي أَرْجِعُ إلَى بِلَادِي. فَحِينَئِذٍ يُوَفَّى لَهُ بِالشَّرْطِ، وَيُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى بَلَدِهِ إنْ أَحَبَّ. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ صُلْحٍ جَرَى بَيْنَ الْإِمَامِ وَبَيْنَهُ. وَفِي الصُّلْحِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ. - إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَظٌّ لِلْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 لِأَنَّهُ نُصِبَ نَاظِرًا، فَلَا يَدَعْ الْأَسِيرَ لِيَعُودَ حَرْبًا لَنَا إلَّا بِمَنْفَعَةٍ عَظِيمَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ. . نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَدُلّكُمْ عَلَى مِائَةٍ مِنْ بِطَارِقَتِهِمْ، فَذَرُونِي أَرْجِعُ إلَى بِلَادِي. فَيُعْلَمُ أَنَّ حَظَّ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّهِمْ فِي أَسْرِهِ. فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِإِجَابَتِهِ إلَى ذَلِكَ. وَإِنْ دَلَّهُمْ الْأَسِيرُ عَلَى تِسْعَةٍ وَذَهَبَ مَعَهُمْ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ رَقَبَتِهِ. . لِأَنَّ عِتْقَهُ هُنَا بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ يُقَابِلُ الْمَشْرُوطَ جُمْلَةً. فَمَا لَمْ يَأْتِ بِكَمَالِ الشَّرْطِ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِتْقَ. أَوْ هَذَا صُلْحٌ مِنْ رَقَبَتِهِ عَلَى شَرْطٍ الْتَزَمَهُ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِكَمَالِهِ لَمْ يَتِّمْ الصُّلْحُ وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ. بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ. فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلنَّفْلِ كَانَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. فَبِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِعَمَلِهِ يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ. . - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ لِلْأَسِيرِ: إنْ دَلَلْتنَا عَلَى عَشَرَةٍ فَأَنْتَ آمِنٌ مِنْ أَنْ نَقْتُلَك. فَدَلَّ عَلَى تِسْعَةٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ. . لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْأَمَانَ لَهُ بِالشَّرْطِ، فَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَسْتَفِيدُ الْأَمْنَ. . - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ حِصْنٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ قَالُوا: إنْ دَلَلْنَاكُمْ عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ الْبَطَارِقَةِ أَتُؤَمِّنُونَا وَتَرْجِعُونَ عَنَّا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَدَلْوهمْ عَلَى خَمْسَةٍ أَوْ عَلَى تِسْعَةٍ، فَلَيْسُوا بِآمَنِينَ. وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُمْ. لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَتِمَّ، فَلَا يَنْزِلُ شَيْءٌ مِنْ الْجَزَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 - وَلَوْ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: نُعْطِيكُمْ مِائَةً مِنْ الرُّءُوسِ، أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونَا وَتَرْجِعُوا عَنَّا عَامَكُمْ هَذَا. ثُمَّ أَعْطَوْا بَعْضَ الْمَالِ، فَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ. . لِأَنَّ الْأَمَانَ تَعَلَّقَ بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْمَالِ، فَلَا يَثْبُتُ بِأَدَاءِ بَعْضِ الْمَالِ. . وَلَكِنْ إنْ أَرَادُوا قِتَالَهُمْ فَلْيَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مَا أَخَذُوا، ثُمَّ يُنَابَذُوهُمْ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ. فَإِنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْا مَا لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ عَنْ نُفُوسِهِمْ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ الدَّلَالَة عَلَى عَشْرَةٍ مِنْ الْبَطَارِقَةِ. فَإِنَّهُ هُنَاكَ إنْ دَلُّوا عَلَى بَعْضِهِمْ فَلَنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ مِنْ غَيْرِ رَدِّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ. . لِأَنَّا مَا تَمَلَّكْنَا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ بِمُقَابِلَةِ مَا وَعَدْنَا لَهُمْ مِنْ الْأَمَانِ. وَلَوْ قَاتَلْنَاهُمْ مِنْ غَيْرِ رَدِّ شَيْءٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ بِطَرِيقِ إهْدَارِ مُلْكِهِمْ. وَهَا هُنَا تَمَلَّكْنَا الْمَالَ بِمُقَابِلَةِ مَا شَرْطنَا لَهُمْ، فَيَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مَنْفَعَةُ الْأَمَانِ بِهِ. - وَإِنْ أَبَى الْإِمَامُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ (ص 260) فَلْيَرْجِعْ عَنْهُمْ وَلَا يُقَاتِلْهُمْ، إظْهَارًا لِلْمُسَامَحَةِ وَإِتْمَامًا لِلْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ. وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ السَّبْيِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ ثُمَّ أَرَدْنَا قِتَالَهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ مَا بَقِيَ مِنْ السَّبْيِ وَقِيمَةِ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّدِّ دَفْعُ الضَّرَرِ وَالْخَسْرَانِ عَنْهُمْ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، كَمَا يَحْصُلُ بِرَدِّ الْعَيْنِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 - وَلَوْ صَالَحُوهُمْ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ سَنَتَهُمْ هَذِهِ وَيَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ، ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ النَّظَرَ لَهُمْ فِي قِتَالِهِمْ فَلْيَرُدُّوا الْمَالَ ثُمَّ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ وَهُمْ فِي مَنَعَتِهِمْ. . لِأَنَّهُ مَعَ بَقَائِهِمْ حَرْبًا لَنَا لَا يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ لِإِعْزَازِ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْغَدْرُ. وَبِالنَّبْذِ إلَيْهِمْ، وَهُمْ فِي مَنَعَتِهِمْ، يَنْتَفِي مَعْنَى الْغَدْرِ، وَلَكِنَّ الْمَالَ مَأْخُوذٌ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْجُعَلِ. فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ الْمَشْرُوطُ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ. بِمَنْزِلَةِ الْعِوَضِ يَجِبُ رَدُّهُ إذَا لَمْ يَسْلَمْ الْمُعَوَّضُ. -. فَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ السَّبْيُ فَلْيَرُدَّ عَلَيْهِمْ قِيمَتَهُمْ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِمْ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا. . لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَا يَحِلُّ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهُمْ بِالْهَلَاكِ. - وَلَوْ كَانُوا لَمْ يَقْبِضُوا مِنْهُمْ الْمَالَ حَتَّى بَدَا لَهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. . لِأَنَّهُمْ يَخْتَارُونَ مَا فِيهِ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْحَالُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ يَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً. فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي الْقِتَالِ لَمْ يَمِيلُوا إلَى الصُّلْحِ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ النَّظَرُ فِي الْقِتَالِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا الصُّلْحَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَادَعَهُمْ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِمْ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ لِأَنَّهُ رَأَى بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ. . - وَلَوْ وَادَعَهُمْ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ مِائَةً مِنْ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 لِيَرْجِعُوا عَنْهُمْ عَامَهُمْ هَذَا فَأَعْطَوْهُمْ تِسْعِينَ، فَلَا بَأْسَ بِالنَّبْذِ إلَيْهِمْ وَقِتَالِهِمْ، لِانْعِدَامِ تَمَامِ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ الْأَمَانُ بِهِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْمَأْخُوذِ. . لِأَنَّ الْأَحْرَارَ مِنْ الْأُسَرَاءِ مَا كَانُوا فِي مُلْكِهِمْ قَطُّ، وَلَا تَمَلَّكْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْجُعَلِ، فَلَا يَكُونُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الرَّدِّ مَعْنَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ، وَإِنَّمَا فِيهِ كَفٌّ عَنْ الظُّلْمِ. -. وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَوْا ذَلِكَ مِنْ مُدْبِرِينَ، أَوْ مُكَاتِبِينَ، أَوْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ كَانُوا لِلْمُسْلِمِينَ أَسْرَى فِي أَيْدِيهِمْ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَلَّكُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْعِتْقِ فِي الْمَحَلِّ، كَثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ فِي إخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ. وَلَكِنَّا نَرُدُّهُمْ عَلَى مَوَالِيهِمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ. - وَإِنْ أَعْطَوْا ذَلِكَ مِنْ عَبِيدِ مُسْلِمِينَ كَانُوا أَسْرَى فِي أَيْدِيهِمْ رُدَّ عَلَيْهِمْ قِيمَتُهُمْ. . لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَمَلَّكُوا الْعَبِيدَ بِالْإِحْرَازِ، ثُمَّ تَمَلَّكْنَا عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْجُعَلِ. فَيَجِبُ رَدُّهُمْ إذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ الْمَشْرُوطُ. وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ رَدُّ عَيْنِهِمْ لِإِسْلَامِهِمْ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِمْ. - وَإِنْ رَدُّوا الْمِائَةَ كَمَا شَرَطُوا مِمَّنْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ مِنْ الْأُسَرَاءِ فَلِلْأَمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ بَعْدَ النَّبْذِ إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ رَدِّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّا لَمْ نَتَمَلَّكْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا كَانُوا يَمْلِكُونَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَفِيَ لَهُمْ. . كَمَا وُفُّوا لَهُ بِالْمَشْرُوطِ، لِيَطْمَئِنُّوا إلَيْهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرْكَنُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، بِنَاءً عَلَى مَا عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا غَدْرٌ فِي تَخْلِيصِ الْأَسَارَى مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَدْرًا فِي الْحَقِيقَةِ. - وَإِنْ انْصَرَفَ عَنْهُمْ بَعْدَ مَا أَخَذَ الْمَشْرُوطَ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا خَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُدَبَّرِينَ رَدَّهُمْ عَلَى الْمَوَالِي بِغَيْرِ قِيمَةٍ، وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا فَإِنْ وَجَدَهُمْ الْمَوَالِيَ قَبْلَ (ص 261) الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ أَخَذُوهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدُوهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ الْبَيْعِ أَخَذُوهُمْ بِالْقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ إنْ أَحَبُّوا. . لِأَنَّ التَّمْلِيكَ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْجُعَلِ بِمَنْزِلَةِ التَّمَلُّكِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْخُوذَ فَيْءٌ يَجِبُ قِسْمَتُهُ بَيْنَهُمْ فِي الْوَجْهَيْنِ. . - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ لِلْأُسَرَاءِ: مَنْ دَلَّنَا عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ الْمُقَاتِلَة فَهُوَ حُرٌّ. فَدَلَّهُمْ أَسِيرٌ عَلَى عَشَرَةٍ مُمْتَنِعِينَ فِي قَلْعَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَكُنْ حُرًّا. . لِأَنَّا عِلْمنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَقْصُودَ الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ دَلَالَةً فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَمْ يَحْصُلْ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَشْرَةٌ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَالْمُقَاتِلُ مَنْ يَكُونُ مُمْتَنِعًا. قُلْنَا: نَعَمْ. وَلَكِنَّ مَقْصُودَهُ دَلَالَةٌ يَسْتَفِيدُ بِهَا عِلْمًا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 قَبْلَ الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ، فَكَمْ مِنْ عَشَرَةٍ مُقَاتِلَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ يَعْلَمُهُمْ الْأَمِيرُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّ مُرَادَهُ الدَّلَالَةُ عَلَى عَشَرَةٍ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِهِمْ. - فَإِنْ دَلَّهُمْ عَلَى عَشَرَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعِينَ إلَّا أَنَّهُمْ دَرَوْا بِهِمْ فَهَرَبُوا، فَإِنْ كَانُوا هَرَبُوا قَبْلَ وُصُولِ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَوْضِعٍ يَقْدِرُونَ عَلَى أَخْذِهِمْ فَلَيْسَتْ هَذِهِ أَيْضًا بِدَلَالَةِ. . لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَخْذِ لَمْ يَحْصُلْ بِهَا. - وَإِنْ كَانُوا قَدْ قَدَرُوا عَلَى أَخْذِهِمْ فَفَرَّطُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى هَرَبُوا فَالْأَسِيرُ حُرٌّ. . لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ مِنْ الدَّلَالَةِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ أَخْذِ الْعَشَرَةِ فَالتَّفْرِيطُ الَّذِي يَكُونُ مِنَّا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ. - وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي مَوْضِعٍ فَقَاتَلُوا حَتَّى نَجَوَا فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِدَلَالَةٍ. . لِأَنَّهُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى قَوْمٍ مُمْتَنِعِينَ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُمْ بِقُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ أَوْ بِحِصْنٍ كَانُوا فِيهِ. . إلَّا أَنْ يَكُونُوا إنَّمَا نَجَوْا لِتَفْرِيطٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَخْذِهِمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِلدَّالِ مَا شُرِطَ لَهُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 - وَإِنْ قَاتَلَ الْعَشَرَةُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ ثُمَّ ظَفَرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ فَالْأَسِيرُ حُرٌّ. . لِأَنَّهُمْ إنَّمَا تَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِهِمْ وَأَسْرِهِمْ بِدَلَالَتِهِ. - وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَسْرِهِمْ وَلَكِنْ قَاتَلُوهُمْ حَتَّى قُتِلُوا فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِدَلَالَةِ. لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَسْرِ لَمْ يَحْصُلْ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ. وَهَذَا لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعَشَرَةِ كَانُوا يَجِدُونَهُمْ قَبْلَ دَلَالَتِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّلَالَةِ غَيْرُ هَذَا. - وَلَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ وَاحِدًا وَظَفَرُوا بِالْبَقِيَّةِ، فَإِنْ كَانُوا قَتَلُوا ذَلِكَ الْوَاحِدَ وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ لَمْ يَكُنْ الْأَسِيرُ حُرًّا. . لِأَنَّ التَّمَكُّنَ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَالْبَاقُونَ بَعْدَ قَتْلِهِ تِسْعَةٌ. فَكَأَنَّهُ دَلَّهُمْ ابْتِدَاءً عَلَى تِسْعَةِ نَفَرٍ. . وَإِنْ كَانُوا قَتَلُوهُ بَعْدَ مَا ظَفَرُوا بِالْعَشَرَةِ فَهُوَ حُرٌّ. . لِأَنَّهُمْ تَمَكَّنُوا بِدَلَالَتِهِ مِنْ أَخْذِ الْعَشَرَةِ. - وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا قَتَلُوا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ ظَفَرُوا بِهِمْ أَحْيَاءً. . لِأَنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْ أَسْرِ الْعَشَرَةِ بِدَلَالَتِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ جَهْدٍ وَقِتَالٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 1382 - فَإِنْ انْتَهَى إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَلَا سِلَاحَ عَلَيْهِمْ، فَفَرَّطُوا فِي أَخْذِهِمْ حَتَّى تَسَلَّحُوا أَوْ امْتَنَعُوا فَالْأَسِيرُ حُرٌّ. . لِأَنَّهُ مَكَّنَهُمْ بِالدَّلَالَةِ مِنْ أَخْذِ الْعَشَرَةِ، وَإِنَّمَا جَاءَ التَّقْصِيرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. - وَلَوْ كَانَ الْأَسِير قَالَ: أَدُلّكُمْ عَلَى عَشَرَةٍ عَلَى أَنِّي إنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِمْ فَامْتَنَعُوا أَوْ لَمْ يَمْتَنِعُوا فَأَنَا حُرٌّ. فَرَضِيَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَهُوَ حُرٌّ، إذَا دَلَّ عَلَيْهِمْ وَإِنْ امْتَنَعُوا لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ بِالشَّرْطِ نَصًّا. وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ دَلَالَةُ الْحَالِ وَالْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّنْصِيصُ بِخِلَافِهِ. . - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ لِلْأُسَرَاءِ: مَنْ دَلَّنَا عَلَى حِصْنِ كَذَا أَوْ عَلَى عَسْكَرِ فُلَانٍ الْبِطْرِيقِ، أَوْ عَلَى عَسْكَرِ الْمِلْكِ فَهُوَ حُرٌّ. فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ ثُمَّ لَمْ يَظْفَرُوا بِهِمْ فَالْأَسِيرُ حُرٌّ (ص 262) . لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّلَالَةِ. وَالْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ عَلَى قَوْمٍ مُمْتَنِعِينَ هُنَا وَقَدْ أَتَى بِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. وَالْغَالِبُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ الدَّلَالَةُ عَلَى عَشَرَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ دَلَّنَا عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ السَّبْيِ مِنْ نِسَاءٍ أَوْ صِبْيَانٍ فَهُوَ حُرٌّ، فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ جُنْدٍ يَمْنَعُونَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ؟ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُرَادَ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَنَعَةٍ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ مُطْلَقُ الْكَلَامِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ. . - وَلَوْ تَحَيَّرَ الْأَمِيرُ فِي رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: مَنْ دَلَّنَا مِنْكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ فَلَهُ رَأْسٌ، أَوْ قَالَ: فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ بِوَصْفٍ ذَكَرَهُ، فَمَضَوْا عَلَى دَلَالَتِهِ حَتَّى أَصَابُوا الطَّرِيقَ وَلَمْ يَذْهَبْ هُوَ مَعَهُمْ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. . لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ. إذْ التَّنْفِيلُ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ لَا يَجُوزُ. وَإِرْشَادُ الْمُتَحَيِّرِ إلَى الطَّرِيقِ لَيْسَ مِنْ الْجِهَادِ لِيَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ النَّفَلَ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إجَارَةٌ. وَاسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ بِعَمَلٍ لَا بِقَوْلٍ. فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إذَا لَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمْ. - وَإِنْ ذَهَبَ مَعَهُمْ حَتَّى دَلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي ذَهَابِهِ مَعَهُمْ. لِأَنَّهُ أَتَى بِالْعَمَلِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا حِينَ لَمْ يُتَبَيَّنْ إلَى أَيِّ مَوْضِعِ يَذْهَبُ مَعَهُمْ. وَرُبَّمَا يُوَصِّلُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ بِعَشْرَةِ خُطًى، وَرُبَّمَا لَا يُوَصِّلُهُمْ إلَّا بِمَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُفْسِدُ الْعَقْدَ. - ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مِائَةً، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ إذَا كَانَ الْمُسَمَّى مَعْلُومًا. وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ رَأْسًا مِنْ السَّبْيِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الرَّأْسِ مُطْلَقًا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَا يَكُونُ تَسْمِيَةً صَحِيحَةً. وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يُجَاوِزُهُ الْمُسَمَّى لِتَمَامِ الرِّضَا بِهِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمِائَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الرَّأْسِ، لِأَنَّ الرُّءُوسَ تَتَفَاضَلُ فِي الْمَالِيَّةِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ دَلَّنَا عَلَى الطَّرِيقِ حَتَّى يَبْلُغَ بِنَا مَوْضِعَ كَذَا فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ فَلَهُ هَذَا الرَّأْسُ بِعَيْنِهِ. فَذَهَبَ رَجُلٌ مَعَهُمْ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَهُ الْمُسَمَّى. . لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ هُنَا، وَالْبَدَلَ مَعْلُومٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِالْعَقْدِ مَجْهُولٌ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ صَحِيحًا؟ قُلْنَا: إنَّمَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ حِينَ يَأْخُذُ فِي الذَّهَابِ مَعَهُمْ، وَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْعَمَلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ فِيهِ. . - وَلَوْ لَمْ يَتَحَيَّرْ الْإِمَامُ وَلَكِنْ قَالَ: مَنْ سَاقَ هَذِهِ الْأَرْمَاكَ مِنْكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الطَّرِيقَ فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ، اسْتَحَقُّوا أَجْرَ الْمِثْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمِائَةَ. . لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ الْمَسَافَةِ. - وَلَوْ كَانَ قَالَ: إلَى مَوْضِعِ كَذَا. فَلَهُمْ الْمُسَمَّى. لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ وَالْبَدَلُ مَعْلُومٌ. - وَإِنْ خَاطَبَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَسَمِعَ قَوْمٌ آخَرُونَ فَسَاقُوهُمْ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ. لِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ خَاطَبَهُمْ بِهِ، فَغَيْرُهُمْ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 - وَلَوْ نَادَى بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَسَاقَهَا قَوْمٌ سَمِعُوا النِّدَاءَ فَلَهُمْ الْأَجْرُ. . لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا الْعَمَلَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ. - وَلَوْ سَاقَهَا قَوْمٌ لَمْ يَسْمَعُوا النِّدَاءَ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا الْعَمَلَ مُتَطَوِّعِينَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ حِينَ لَمْ يَسْمَعُوا النِّدَاءَ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هُنَا لَيْسَ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ. - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ فَتَحَيَّرَ. فَقَالَ لِأَسِيرٍ فِي يَدِهِ: إنْ دَلَلْتنَا عَلَى الطَّرِيقِ (ص 263) فَلَكَ أَهْلُك وَوَلَدُك. فَدَلَّهُمْ بِصِفَةٍ أَوْ بِذَهَابٍ مَعَهُمْ حَتَّى أَوْقَفَهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، كَانَ عَلَى حَالِهِ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ لَمْ يَذْكُرْ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الْجَزَاءِ، فَيَبْقَى هُوَ أَسِيرًا عَلَى حَالِهِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ عَبْدًا لِلْمُسْلِمِينَ فَمَا يَكُونُ لَهُ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. - وَلَوْ كَانَ قَالَ: لَكَ نَفْسُكَ وَأَهْلُكَ وَوَلَدُكَ. وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ نَفْسَهُ جَزَاءً عَلَى دَلَالَتِهِ. وَقَدْ أَتَى بِهَا فَكَانَ حُرًّا، وَلَهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْأَهْلِ هُنَا إلَّا زَوْجَتُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي فُصُولِ الْأَمَانِ. لِأَنَّهُمْ هُنَا قَدْ صَارُوا مَمْلُوكَيْنِ بِالْأَسْرِ فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهُمْ إلَّا بِيَقِينٍ، وَهَذَا الْيَقِينُ فِي زَوْجَتِهِ خَاصَّةً. - وَكَذَلِكَ فِي اسْمِ الْوَلَدِ لَا يَدْخُلُ هُنَا إلَّا وَلَدٌ لِصُلْبِهِ. وَأَمَّا وَلَدُ وَلَدِهِ فَهُمْ فَيْءٌ. لِأَنَّ الْيَقِينَ فِي وَلَدِ الصُّلْبِ خَاصَّةً. وَهَذَا الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ يُبْتَنَى عَلَى الْمُتَيَقِّنِ بِهِ. - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُسَرَاءِ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ فَلَهُ أَوْلَادُ بَنِيهِ. لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ أَبِيهِمْ فِي هَذَا الِاسْمِ، فَيَتَنَاوَلُهُمْ عِنْدَ عَدَمِ آبَائِهِمْ. - وَلَا يَكُونُ وَلَدُ بَنَاتِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَوْلَادِهِ. - ثُمَّ لَا يُتْرَكُ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَكِنَّهُ يُخْرِجُهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِيَكُونُوا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْأَسْرِ لَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. - وَيَسْتَوِي إذَا كَانَ دَلَّهُمْ بِكَلَامٍ أَوْ ذَهَبَ مَعَهُمْ. بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ دَلَالَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ. فَلَا يَثْبُتُ بِالْكَلَامِ. وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ. فَيُعْتَبَرُ فِيهِ وُجُودُ الشَّرْطِ حَقِيقَةً. - فَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ قَسَّمَ السَّبْيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَاعَهُمْ ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 تَحَيَّرَ فَقَالَ لِلْأُسَرَاءِ: مَنْ دَلَّنَا عَلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ حُرٌّ. أَوْ قَالَ: فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، فَإِنْ كَانَ شَرَطَ لَهُ مِائَةً فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمِائَةَ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَوْلَاهُ. لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَعَيَّنَ فِيهِمْ هُنَا. فَمَا أَوْجَبَهُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ دُونَ الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ. - وَلِهَذَا لَوْ دَلَّهُمْ بِمُجَرَّدِ كَلَامٍ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ قَالَ: فَهُوَ حُرٌّ، فَهَذَا بَاطِلٌ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُعْتِقَ أَرِقَّاءَ الْمُلَّاكِ بَعْدَ مَا تَعَيَّنَ مُلْكُهُمْ فِيهِمْ. - وَلَوْ تَحَيَّرَ قَبْلَ قِسْمَتِهِمْ فَقَالَ: مَنْ دَلَّنَا مِنْكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ حُرٌّ. فَدَلَّهُمْ أَسِيرٌ عَلَى طَرِيقٍ بَيِّنٍ، إلَّا أَنَّهُ طَرِيقٌ يَأْخُذُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ كَانُوا تَحَيَّرُوا فِي الدُّخُولِ فَهَذِهِ دَلَالَةٌ وَالْأَسِيرُ حُرٌّ. وَإِنْ كَانُوا تَحَيَّرُوا فِي الِانْصِرَافِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِدَلَالَةٍ. وَإِنْ دَلَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ يَأْخُذُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَالتَّقْسِيمُ فِيهِ عَلَى عَكْسِ هَذَا. لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَقَدْ عِلْمنَا أَنَّ مُرَادَهُ فِي حَالَةِ الدُّخُولِ الدَّلَالَةُ عَلَى طَرِيقٍ يُوَصِّلُهُ إلَى مَقْصِدِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ. وَفِي الِانْصِرَافِ مَقْصُودُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى طَرِيقٍ يُوَصِّلُهُ إلَى مَقْصِدِهِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 - وَإِنْ قَالَ: إنْ دَلَلْتنَا عَلَى طَرِيقِ حِصْنِ كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلِذَلِكَ الْحِصْنِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ طَرِيقٌ، فَدَلَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ هُوَ أَبْعَدُ مِنْ الطَّرِيقِ الْمَعْهُودِ، فَلَهُ شَرْطُهُ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ طَرِيقُ ذَلِكَ الْحِصْنِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَعْتَادُ النَّاسُ الذَّهَابَ إلَى ذَلِكَ الْحِصْنِ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ. وَالْأَمِيرُ أَطْلَقَ اللَّفْظَ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ ذَلِكَ. - وَإِنْ دَلَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ لَيْسَ بِطَرِيقٍ إلَى ذَلِكَ الْحِصْنِ وَلَكِنَّهُ طَرِيقٌ إلَى غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَدُورُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى يَأْتُوهُ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِدَلَالَةٍ. لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ (ص 264) مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ كَاشْغَرُ ثُمَّ يَدُورُ حَتَّى يَأْتِيَ بُخَارَى. ثُمَّ لَا يَعُدُّ أَحَدٌ الطَّرِيقَ مِنْ هُنَا إلَى كَاشْغَرَ طَرِيقَ بُخَارَى. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا أَتَى بِالْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ. فَلَا يَكُون حُرًّا. - وَإِنْ قَالَ: إنْ دَلَلْتنَا عَلَى طَرِيقِ حِصْنِ كَذَا، وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ كَذَا. فَدَلَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِهِ حَتَّى أَقَامَهُمْ عَلَى الْحِصْنِ. فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي عَيَّنُوا لَهُ مِنْ حَيْثُ قُرْبُ الطَّرِيقِ أَوْ أَمْنُهُ أَوْ كَثْرَةُ الْعُلَّفِ أَوْ كَثْرَة الْقُرَى أَوْ كَثْرَةُ مَا يَجِدُونَ مِنْ السَّبْيِ فَهُوَ فَيْءٌ عَلَى حَالِهِ. لِأَنَّهُ مَا وَفَّى بِالشَّرْطِ. فَإِنَّهُمْ عَيَّنُوا لَهُ طَرِيقًا وَكَانَتْ لَهُمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَالتَّعْيِينُ مَتَى كَانَ مُفِيدًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مَنْفَعَةً مِنْ الَّذِي عَيَّنُوا لَهُ فَهُوَ فَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا. لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِالْمَشْرُوطِ. وَفِي إيجَابِ الْعِبَادِ يَعْتَبِرُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى لِجَوَازِهِ أَنْ يَخْلُوَ كَلَامُهُمْ عَنْ حِكْمَةٍ وَفَائِدَةٍ حَمِيدَةٍ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ حُرٌّ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَقْصُودِهِمْ وَزِيَادَةٍ. وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّعْيِينُ إذَا كَانَ مُفِيدًا. فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ فَائِدَتَهُمْ فِيمَا أُتِيَ بِهِ أَظْهَرُ، سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّهمَا أَنْفَعَ فَهُوَ فَيْءٌ عَلَى حَالِهِ. لِأَنَّ التَّعْيِينَ كَلَامٌ مِنْ عَاقِلٍ. فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الْأَصْلِ، مَا لَمْ يَعْلَمْ بَخِلُوهُ عَنْ الْفَائِدَةِ. وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ. - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَلَّنَا عَلَى طَرِيقِ دَرْبِ الْحَدَثِ فَهُوَ حُرٌّ. فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ عَلَى طَرِيقِ الْمِصِّيصَةِ أَوْ عَلَى طَرِيقِ مَلَطْيَةَ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ وَأَكْثَرَ مَنْفَعَةً فَهُوَ حُرٌّ. وَإِنْ كَانَ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ لَا يَدْرِي أَهْوَ كَذَلِكَ أَمْ لَا فَهُوَ فَيْءٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 لِأَنَّهُ مَا أُتِيَ بِالْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ أَرَأَيْت لَوْ ذَهَبَ بِهِمْ إلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مَا ذَكَرُوا لَهُ، فَكَانَ فِيهِ الْمَلِكُ وَجُنْدُهُ. فَقَاتَلَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ، أَوْ ذَهَبَ بِهِمْ فِي طَرِيقٍ لَا عَلَفَ فِيهِ فَهَلَكَتْ دَوَابُّهُمْ، أَوْ مَاتُوا جُوعًا، أَكَانَ يُوفِي لَهُ بِشَرْطِهِ؟ وَإِنَّمَا قَصْدَ بِهَذَا بَيَانَ أَنَّ التَّقْيِيدَ مَتَى مَا كَانَ مُفِيدًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 [بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ النَّفْلِ فِي السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ] - وَإِذَا رَأَى أَمِيرُ الْعَسْكَرِ دُرُوعَ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلَةً عِنْدَ دُخُولِهِمْ دَارَ الْحَرْبِ فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ بِدِرْعٍ فَلَهُ مِنْ النَّفْلِ كَذَا، أَوْ فَلَهُ بِهِ سَهْمٌ كَسَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ. فَهَذَا جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ. لِأَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ يَقَعُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ، فَالْمُسْلِمُ فِي حَمْلِ الدُّرُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ، وَيَحْصُلُ بِهِ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، فَيَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ عَلَى ذَلِكَ لِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى تَحَمُّلِ هَذِهِ الْمُؤْنَةِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ لِلْغَازِي السَّهْمَ لِفَرَسِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى؟ وَهُوَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمُؤْنَةَ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، فَلِلْأَمَامِ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ النَّفْلِ اعْتِبَارًا بِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ. - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ بِدِرْعَيْنِ فَلَهُ كَذَا. لِأَنَّ الْمُبَارِزَ قَدْ يُظَاهِرُ بَيْنَ دِرْعَيْنِ إذَا أَرَادَ الْقِتَالُ، عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ» . فَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 - وَإِنْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ بِدِرْعٍ وَمَنْ دَخَلَ بِدِرْعَيْنِ فَلَهُ مِئَتَانِ. وَمَنْ دَخَلَ بِثَلَاثَةِ دُرُوعٍ فَلَهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ. وَسَاقَ الْكَلَامَ هَكَذَا. فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ هَكَذَا، وَلَا يَجُوزُ مِنْهُ هَذَا التَّنْفِيلُ فِي أَكْثَرِ مِنْ دِرْعَيْنِ. لِأَنَّ هَذَا لَا يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ، وَالْمُقَاتِلُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَلْبِسَ أَكْثَرَ مِنْ دِرْعَيْنِ عِنْدَ الْقِتَالِ. لِأَنَّ ذَلِكَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَهُ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّنْفِيلِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ دِرْعَيْنِ مَنْفَعَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى الْتِزَامِ الْمُؤْنَةِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ يَتَحَقَّقُ فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَالْخَامِسِ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّ الْإِرْهَابَ بِالدَّارِعِ لَا بِالدِّرْعِ. يُقَالُ انْفَصَلَ (ص 265) كَذَا وَكَذَا دَارِعٍ، وَكَذَا وَكَذَا حَارِسٍ. فَيَحْصُلُ بِهِ الْإِرْهَابُ. وَالدَّارِعُ هُوَ وَحْدُهُ، لِأَنَّهُ مَا حَمَلَ الدُّرُوعَ مَعَ نَفْسِهِ لِيُعْطِيَهَا غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا حَمَلَ لِلُّبْسِ عِنْدَ الْقِتَالِ. وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ فِي أَكْثَرِ مِنْ دِرْعَيْنِ. - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِأَصْحَابِ الْخَيْلِ بِتِجْفَافٍ فَلَهُ كَذَا. فَإِنَّ مَعْنَى الْتِزَامِ الْمُؤْنَةِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ يَحْصُلُ بِالتِّجْفَافِ لِلْخَيْلِ كَمَا يَحْصُلُ بِالدُّرُوعِ لِلْفَارِسِ. فَيَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ عَلَى تِجْفَافٍ وَتِجْفَافَيْنِ. وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 لِأَنَّ التِّجْفَافَ لِلْفَرَسِ، فَالتَّنْفِيلُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّنْفِيلِ عَلَى الْفَرَسِ. - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ مِمَّنْ لَا يَرَى أَنْ يُسْهَمَ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ بِفَرَسَيْنِ فَلَهُ كَذَا، كَانَ ذَلِكَ تَنْفِيلًا صَحِيحًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ فَرَسَيْنِ. لِأَنَّ الْمُبَارِزَ قَدْ يُقَاتِلُ بِفَرَسَيْنِ وَلَا يُقَاتِلُ بِأَكْثَرِ مِنْهُمَا. فَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ تَنْفِيلِهِ مَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ دُونَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مَعْرُوفًا قَدْ يَحْتَاجُ الرَّجُلُ فِيهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ. فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ تَنْفِيلُهُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ تَجَافِيفَ. لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى كُلِّ فَرَسٍ تِجْفَافٌ. وَمَتَى عُلِمَ أَنَّ تَنْفِيلَهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ يَجِبُ تَنْفِيذُهُ مِمَّا أَصَابَ مِنْ الْغَنَائِمِ بَعْدَ التَّنْفِيلِ. - وَلَوْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا لَهُمْ حَتَّى حَاصَرُوا حِصْنًا فَقَالَ: مَنْ تَقَدَّمَ إلَى الْبَابِ دَارِعًا فَلَهُ كَذَا. أَوْ قَالَ: مَنْ تَقَدَّمَ مُتَجَفِّفًا فَلَهُ كَذَا، أَوْ قَالَ: مَنْ تَقَدَّمَ مُظَاهِرًا دِرْعَيْنِ فَلَهُ كَذَا، فَذَلِكَ تَنْفِيلٌ صَحِيحٌ. لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ إظْهَارُ الْجَلَّادَةِ وَالْقُوَّةِ وَإِيقَاعُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ. وَالتَّنْفِيلُ عَلَى مِثْلِهِ يَكُونُ. - وَلَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ حَتَّى فَتَحُوا الْحِصْنَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْهُ لِلدَّارِعِ وَالْمُتَجَفِّفِ عَلَى قَدْرِ الْعَنَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 لِأَنَّ التَّنْفِيلَ مَا يَكُونُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ فَيَكُونُ صِلَةً لَا تَنْفِيلًا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْغَانِمِينَ بِالصِّلَةِ مِنْ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهَا. - فَإِنْ نَفَلَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ عَلَى قَدْرِ الْعَنَاءِ وَالْجَزَاءِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ فَهُوَ نَافِذٌ. لِأَنَّهُ أَمْضَى بِاجْتِهَادِهِ فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ. - وَيَحِلُّ لِلْمُنَفِّلِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ هُوَ مِمَّنْ لَا يَرَى التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ. لِأَنَّ الرَّأْيَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا جَاءَ الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ. فَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي مُلْزِمٌ غَيْرَهُ، وَمُجَرَّدُ الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُلْزِمٍ غَيْرَهُ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ. وَمِنْ رَأْيِهِ أَنَّ ذَلِكَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ. فَقَضَى الْقَاضِي بِأَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَيَسَعُهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا. وَلَكِنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالْمُجْتَهِدُ لَا يَدْعُ رَأْيَهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ فِي آخَرِ الِاسْتِحْسَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 [بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ النَّفْلِ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ وَمَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُ] - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ سَرِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ أَصَابُوا غَنَائِمَ فَعَجَزُوا عَنْ حَمْلِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَرَادَ الْأَمِيرُ إحْرَاقَهَا أَوْ تَرْكَهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: مَنْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. فَهَذَا جَائِزٌ. وَمَنْ تَكَلَّفَ مِنْهُمْ فَأَخْرَجَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، وَلَا خُمُسَ فِيهِ. لِأَنَّ هَذَا تَنْفِيلٌ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ، وَإِنَّمَا كَرِهْنَا التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ بَعْضِ الْغَانِمِينَ بَعْدَ مَا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِي الْمُصَابِ. وَالْإِبْطَالُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْحِفْظِ، وَتَأْكِيدِ حَقِّهِمْ بِالْإِخْرَاجِ. فَأَمَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَكُونُ إبْطَالًا لِحَقِّ أَحَدٍ. يُوضِحُهُ أَنَّ لَهُ إحْرَاقَ الْجَمَادَاتِ (ص 266) مِنْهَا وَذَبْحَ الْحَيَوَانَاتِ، ثُمَّ الْإِحْرَاقُ أَوْ تَرْكُهَا فِي مَضْيَعَةٍ. وَفِي ذَلِكَ إبْطَالُ حَقِّ الْكُلِّ. فَمِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ ذَلِكَ جَوَازُ إبْطَالِ حَقِّ الْبَعْضِ بِتَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ. وَلِأَنَّ فِي الْإِحْرَاقِ إبْطَالَ حَقٍّ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي التَّنْفِيلِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ. فَكَانَ الْمِيلُ إلَى هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى - فَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِخْرَاجِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ الْقِسْمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَى جَمَاعَتِهِمْ. فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ بَعْضِهِمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عِنْدَ الْعَجْزِ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ بَعْدَ الْخُمُسِ. أَوْ قَالَ: فَلَهُ نِصْفُ مَا أَخَذَ قَبْلَ الْخُمُسِ أَوْ بَعْدَهُ. فَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ. يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى النَّظَرِ، ثُمَّ الْقِسْمَةُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْأَمِيرُ بِالتَّنْفِيلِ. وَإِنْ أَحَدٌ وَجَدَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقْدِرُونَ عَلَى إخْرَاجِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ عِلْمٌ بِهِ مِنْ جَوْهَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا التَّنْفِيلِ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ الْإِحْرَازِ. وَالثَّابِتِ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوَاضِعَهَا، فَلَا يُتَنَاوَلُ هَذَا التَّنْفِيلُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ الضَّرُورَةُ. - وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثَبَتَ فِيمَا لَمْ يَأْخُذُوهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، حَتَّى إذَا مَرُّوا بِبِنَاءٍ مِنْ بِنَائِهِمْ فِيهِ السِّلَاحُ وَالرُّخَامُ وَمَاءُ الذَّهَبِ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَخْذِهِ وَإِخْرَاجِهِ فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ. وَمَنْ خَرَّبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ اخْتَصَّ بِهِ. لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى هَدْمِهِ فَقَدْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ إخْرَاجِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 وَلَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُ فَيَصِحُّ تَنْفِيلُ أَمِيرِهِمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْدَرُ عَلَى حَمْلِهِ بَعْدَ الْهَدْمِ أَوْ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ مِنْ الْأَمِيرِ قَبْلَ الْهَدْمِ، وَإِنَّمَا صَارَ بِحَيْثُ يُقْدَرُ عَلَى حَمْلِهِ بِمَا أُحْدِثَ فِيهِ مِنْ الْهَدْمِ بَعْدَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ. - إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَوْضُوعًا نَائِيًا عَنْ الْبِنَاءِ يَقْدِرُونَ عَلَى إخْرَاجِهِ حِينَ نَفَلَ الْإِمَامُ وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِ، فَإِنْ ذَلِكَ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ. - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ لَمْ يُنَفِّلْ أَحَدًا وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ، فَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ إخْرَاجَهَا عَلَى دَوَابِّهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَذَلِكَ يُخَمَّسُ وَيُقَسَّمُ بَيْنَ جَمِيعِ السَّرِيَّةِ. لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْبَعْضِ بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يُوجَدْ، إنَّمَا الْمَوْجُودُ الْأَمْرُ بِالْإِحْرَاقِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ بِشَيْءٍ، وَأَدْنَى الدَّرَجَاتِ أَنَّ الَّذِي أَخْرَجَ أَحْيَا بِفِعْلِهِ مَا كَانَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ مِمَّا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِقَطْعِ الشِّرْكَة وَتَخْصِيصِهِ بِهِ. - وَلَوْ قَسَّمَ مَا أَصَابَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، أَوْ بَاعَهُ مِنْ التُّجَّارِ، أَوْ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَحِقَهُمْ الْعَدُوُّ، وَابْتُلُوا بِالْهَرَبِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّقُوا ذَلِكَ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ مَنْفَعَةُ الْعَدُوِّ عَنْهُ. فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 مَعْنَى الْكَبْتِ لَهُمْ. وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لِلْغُزَاةِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِمَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَتَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِئَلَّا يَنْتَفِعَ بِهِ الْعَدُوُّ، كَمَا فَعَلَهُ جَعْفَرٌ فَإِنَّهُ حِينَ أَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ عَقَرَ فَرَسَهُ. فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِيمَا أَخَذُوا مِنْ أَمْتِعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانَ أَوْلَى. - فَإِنْ نَبَذُوا ذَلِكَ لِيُحَرِّقُوهُ فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، فَأَخَذَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْمُهْلِكَةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مَرْدُودٌ إلَى أَهْلِهِ. لِأَنَّهُ بِالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ قَدْ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ فِيهِ. - وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ التَّنْفِيلِ فِي أَمْلَاكِ النَّاسِ بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ بِالْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَأَكَّدَ الْحَقُّ فِيهِ لَهُمْ عَلَى وَجْهٍ يُورَثُ عَنْهُمْ، فَلَا يَبْقَى لِلْإِمَامِ فِيهِ وِلَايَةُ التَّنْفِيلِ أَصْلًا. بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ. فَالثَّابِتُ هُنَاكَ حَقٌّ ضَعِيفٌ (ص 267) ثَبَتَ بِالْإِحْرَازِ بِالْيَدِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالْإِلْقَاءِ لِلْإِحْرَاقِ، فَيُلْتَحَقُ هَذَا التَّنْفِيلُ بِالتَّنْفِيلِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. فَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ فَالْحَقُّ قَدْ يَتَأَكَّدُ بِتَمَامِ السَّبَبِ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْإِلْقَاءِ لِلْإِحْرَاقِ. فَلَا يَكُونُ لِلْإِمَامِ فِيهِ وِلَايَةُ التَّنْفِيلِ. وَهَذَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ. وَالْبَيْعِ أَظْهَرُ. لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَعَيَّنَ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ طَرَحُوا ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَفْطِنْ بِهَا أَهْلُ الْحَرْبِ حَتَّى دَخَلَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَأَخْرَجُوهَا، وَأَخَذَهَا أَهْلُ الْحَرْبِ، ثُمَّ دَخَلَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى حَقٌّ، بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّتِي لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ. وَلَوْ طَرَحُوهَا لِلْإِحْرَاقِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ ثُمَّ تَرَكُوهَا مَخَافَةَ الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْمُشْرِكُونَ حَتَّى جَاءَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَأَخَذُوهَا وَأَخْرَجُوهَا فَهِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى الْمُلَّاكِ لِبَقَاءِ مُلْكِهِمْ فِيهَا. 1426 - وَإِنْ أَخَذَهَا الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ اسْتَنْقَذَهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ سَرِيَّةٌ. أُخْرَى، فَإِنْ وَجَدَهَا الْمُلَّاكُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ، بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ إذَا أَصَابَهَا أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَحْرَزُوهَا. وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ طَرَحُوهَا ثُمَّ جَاءَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَأَخَذُوهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَهْلُ الْحَرْبِ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى السَّرِيَّةِ الْأُولَى، لِتَأَكُّدِ حَقِّهِمْ فِيهَا. وَإِنْ أَحْرَزَهَا أَهْلُ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُمْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَإِنْ وَجَدَهَا السَّرِيَّةُ الْأُولَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّهَا أَصَحُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. لِأَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوهَا أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ، وَحَقُّهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي الْمَالِيَّةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 إذْ لَا مِلْكَ لِأَحَدِ فِي الْعَيْنِ، وَلِهَذَا كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَهَا وَيُقَسِّمَ الثَّمَنَ، فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْقِيمَةِ مُفِيدًا لَهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الْأَخْذِ إذَا كَانَ مُفِيدًا. - وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِينَ، أَوْ الَّذِينَ وَقَعَ ذَلِكَ فِي سِهَامِهِمْ، أَوْ الَّذِينَ رَمَوْا بِمَتَاعِهِمْ قَالُوا حِينَ رَمَوْا بِهِ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. فَأَخَذَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لَهُمْ، أَخْرَجُوهُ أَوْ لَمْ يُخْرِجُوهُ. لِأَنَّ هَذَا هِبَةٌ مِنْ الْمُلَّاكِ لِلْآخِذِينَ. وَقَدْ تَمَّتْ الْهِبَةُ بِقَبْضِهِمْ. فَإِنْ أَرَادُوا الرُّجُوعَ فِيهِ فَلَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ الْآخِذُونَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْهِبَةِ. - وَإِنْ أَخْرَجُوهُ أَوْ بَلَغُوهُ مَوْضِعًا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى حَمْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ. لِأَنَّهُ حَدَثَ فِيهِ زِيَادَةٌ بِصُنْعِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. فَإِنَّهُ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ فِي مَضْيَعَةٍ، وَقَدْ أَحْيَاهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَالزِّيَادَةُ فِي عَيْنِ الْمَوْهُوبِ تَمْنَعُ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِيمَا إذَا أَخَذَهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ الْمَالِكِ مِنْهُ، أَوْ مِمَّنْ بَلَغَهُ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْمَع ذَلِكَ أَصْلًا إذَا أَخَذَ شَيْئًا فَأَخْرَجَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى مَالِكِهِ. لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ بِمَقَالَتِهِ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ. فَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا مُتَمِّمًا لِلْهِبَةِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَهُوَ إنَّمَا أَخَذَهُ لَا عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْإِعَانَةِ لِمَالِكِهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ بِهَذَا الْأَخْذِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إيجَابٌ لِمَجْهُولٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. فَالْمُلْكُ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 الْأَخْذِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ، الْأَخْذُ مُتَعَيَّنٌ مَعْلُومٌ. وَكَانَ الْمَالِكُ بِهَذَا اللَّفْظِ. أَبَاحَ أَخْذَهُ عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ تَثْبُتُ مَعَ الْجَهَالَةِ. أَصْلُهُ: مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرْطٍ الثُّمَالِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» . يَعْنِي الثَّانِيَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ - لِأَنَّ الْحَاجَّ يَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى. قَالَ: «وَقُرِّبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَنَاتٌ خَمْسًا أَوْ سِتًّا، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ. فَلَمَّا وَجَبَتْ جَنُوبُهَا قَالَ كَلِمَةً لَا أَفْهَمُهَا. فَسَأَلَتْ بَعْضَ مَنْ يَلِيهِ: مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» . فَهَذِهِ إبَاحَةُ الْأَخْذِ عَلَى (ص 268) وَجْهِ التَّمْلِيكِ، وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَأْخُوذِ، أَوْجَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْجَهَالَةِ. فَمَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَتَعَدَّى إلَيْهِ حُكْمُ هَذَا النَّصِّ. يُقَرِّرُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِلْقَاءِ بِغَيْرِ كَلَامٍ يُفِيدُ هَذَا الْحُكْمَ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْثُرُ السُّكْرَ وَالدَّرَاهِمَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ النَّاثِرُ بِشَيْءٍ. وَقِيلَ: بِأَنَّ الْحَالَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْأَخْذِ. فَإِذَا وُجِدَ التَّصْرِيحُ بِالْإِذْنِ فِي الْأَخْذِ؛ فَلَأَنْ يَثْبُتَ هَذَا الْحُكْمُ كَانَ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا لَوْ وَضَعَ الْإِنْسَانُ الْمَاءَ وَالْجَمَدَ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 الشُّرْبُ مِنْهُ لِكُلِّ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ لِوُجُودِ الْإِذْن دَلَالَةً. وَإِذَا غَرَسَ شَجَرَةً فِي مَوْضِعٍ لَا مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ وَأَبَاحَ لِلنَّاسِ الْإِصَابَةَ مِنْ ثِمَارِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ مَرَّ بِهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثِمَارِهَا فَيَتَنَاوَلُهُ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا. . - وَلَوْ أَنْ الْأَمِيرَ بَعْدَ انْهِزَامِ الْمُشْرِكِينَ نَظَرَ إلَى قَتْلَى مِنْهُمْ، عَلَيْهِمْ أَسْلَابُهُمْ، وَهُوَ لَا يَدْرِي مَنْ قَتَلَهُمْ، فَقَالَ: مَنْ أَخَذَ سَلَبَ قَتِيلٍ فَهُوَ لَهُ. فَأَخَذَهَا قَوْمٌ، فَذَلِكَ لَهُمْ نَفْلٌ. لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَأْخُذُوهَا، فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى التَّنْفِيلِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ. وَالْأَصَحُّ أَنْ تَقُولَ: هَذَا تَنْفِيلٌ بَعْدَ الْإِصَابَةِ. وَلَكِنَّ الْإِمَامَ أَمْضَاهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ بِإِمْضَاءِ الْإِمَامِ بِاجْتِهَادِهِ يَصِيرُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، حَتَّى إذَا مَاتَ أَوْ عُزِلَ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ لَمْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْآخَرِينَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. - وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا حَتَّى عُزِلَ الْأَوَّلُ وَجَاءَ أَمِيرٌ آخَرُ ثُمَّ أَخَذُوا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِعَزْلِهِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الثَّانِيَ يَأْخُذُ كُلَّهُ مِنْهُمْ فَيَرُدُّهُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ الْأَوَّلَ قَدْ بَطَلَ بِعَزْلِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ. فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْأَخْذُ، فَإِذَا بَطَلَ تَنْفِيلُهُ قَبْلَ حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ صَارَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِيمَا إذَا نَفَّلَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَاسْتَعْمَلَ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ ذَلِكَ التَّنْفِيلِ. فَفِي التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ هَذَا أَوْلَى. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءٍ لَمْ يُنَفِّذْهُ قَاضٍ حَتَّى عُزِلَ وَاسْتَقْضَى غَيْرُهُ مِمَّنْ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ التَّنْفِيلَ عِنْدَ حَضْرَةِ الْقِتَالِ يَكُونُ عَلَى ذَلِكَ الْقِتَالِ خَاصَّةً، وَعِنْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُلْقُوا قِتَالًا يَكُونُ بَاقِيًا إلَى أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَقُولُ:. - فَإِنْ خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَفَلُوا إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ رَجُلٌ قَتِيلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَا سَلَبَ لَهُ. لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ التَّنْفِيلِ قَدْ انْتَهَى بِخُرُوجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ دُخْلَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ الْإِمَامُ تَنْفِيلًا غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ السَّلَبُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَقَامُوا سَنَةً ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ السَّلَبُ بِالتَّنْفِيلِ الْأَوَّلِ؟ . - وَلَوْ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَخَرَجُوا يُرِيدُونَهُمْ، فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. فَهَذَا عَلَى مَا أَصَابُوا فِي وَجْهِهِمْ ذَلِكَ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ، إلَى أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَنَازِلِهِمْ. وَإِنْ لَقُوا الْعَدُوَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَالَ الْأَمِيرُ ذَلِكَ فَهَذَا عَلَى ذَلِكَ الْقِتَالِ خَاصَّةً. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ فِي كُلِّ فَصْلٍ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ بَعَثَ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَرِيَّةً إلَى حِصْنٍ وَقَالَ: مَا أَصَبْتُمْ مِنْهُ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِنْ ذَلِكَ. فَأَقَامُوا عَلَيْهِ أَيَّامًا يُقَاتِلُونَ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ الْعَسْكَرُ فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى فَتَحُوا الْحِصْنَ فَلَا نَفْلَ لِلْأَوَّلِينَ. لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ لَهُمْ النَّفَلَ فِيمَا يُصِيبُونَ مِنْ قِتَالِهِمْ دُونَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الْعَسْكَرِ. وَالْمَقْصُودُ كَانَ تَحْرِيضَهُمْ (ص 269) عَلَى فَتْحِ الْحِصْنِ وَالْإِصَابَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ بِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَسْكَرَ لَوْ فَتَحُوا الْحِصْنَ دُونَ أَهْلِ السَّرِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ السَّرِيَّةِ مِنْ النَّفْلِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الْفَتْحُ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْفَتْحُ بِقِتَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. - قَالَ: وَلَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِمْ أَمِيرٌ ثُمَّ عَزَلَ أَمِيرَهُمْ وَبَعَثَ أَمِيرًا آخَرَ. وَقَدْ نَفَلَ الْأَوَّلُ قَوْمًا نَفْلًا فَأَخَذُوهُ فَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا ذَلِكَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِعَزْلِهِ فَذَلِكَ سَالِمٌ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ ابْتِدَاءُ التَّنْفِيلِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ. لِأَنَّهُ أَمِيرٌ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِعَزْلِهِ أَوْ يَأْتِيهِ مَنْ هُوَ صَارِفُهُ وَيُخْبِرُهُ بِعَزْلِهِ. - فَأَمَّا إذَا نَفَّلَ الْأَوَّلُ بَعْدَ مَا جَاءَ الثَّانِي وَأَخْبَرَهُ بِعَزْلِهِ فَتَنْفِيلُهُ بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ اُلْتُحِقَ بِسَائِرِ الرَّعَايَا. - وَإِنْ جَاءَهُ الْكِتَابُ بِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ بَعَثَ فُلَانًا أَمِيرًا عَلَى السَّرِيَّةِ، فَمَا لَمْ يَقْدُمْ عَلَيْهِ فُلَانٌ فَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى حَالِهِ يَجُوزُ تَنْفِيلُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمِيرُ مِصْرَ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ إلَى أَنْ يَقْدُمَ صَارِفُهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمُسْلِمِينَ سُدًى لَيْسَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُدَبِّرُ أُمُورَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَمَا لَمْ يَقْدُمْ الثَّانِي كَانَ التَّدْبِيرُ إلَى الْأَوَّلِ، فَيَصِحُّ مِنْهُ التَّنْفِيلُ. إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ كَتَبَ إلَيْهِ: إنَّا قَدْ عَزَلْنَاك وَاسْتَعْمَلْنَا فُلَانًا، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هُوَ مَعْزُولًا لَا يَجُوزُ تَنْفِيلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ صَارَ أَمِيرًا بِخِطَابِ الْأَمِيرِ إيَّاهُ، عِنْدَ التَّقْلِيدِ. فَيَصِيرُ مَعْزُولًا بِخِطَابِهِ إيَّاهُ بِالْعَزْلِ. وَالْخِطَابُ مِمَّنْ نَأَى كَالْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا. - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ الْأَوَّلُ حِينَ اُسْتُعْمِلَ أَمَرَ بِأَنْ يَدْخُلَ بِالْقَوْمِ أَرْضَ الْحَرْبِ فَلَمْ يَدْخُلْ بِهِمْ حَتَّى جَاءَهُ كِتَابُ الْإِمَامِ: إنَّا قَدْ أَمَّرْنَا فُلَانًا، فَلَا تَبْرَحْ حَتَّى يَأْتِيَك. فَعَجَّلَ فَدَخَلَ بِهِمْ أَرْضَ الْحَرْبِ وَنَفَلَ لَهُمْ نَفْلًا، فَذَلِكَ بَاطِلٌ. لِأَنَّ نَهْيَ الْإِمَامِ إيَّاهُ عَنْ دُخُولِ أَرْضِ الْحَرْبِ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ بِكِتَابِهِ. فَصَارَ كَمَا لَوْ وَاجَهَهُ بِهِ. - وَلَوْ وَاجَهَهُ بِذَلِكَ فَدَخَلَ بِهِمْ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَمِيرًا، فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيلُهُ. وَلَوْ كَانَ الْكِتَابُ أَتَاهُ: إنَّك الْأَمِيرُ فَادْخُلْ بِهِمْ. فَإِذَا أَدْرَكَك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 فُلَانٌ فَهُوَ الْأَمِيرُ دُونَك، فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ الْأَوَّلُ مِنْ النَّفْلِ جَائِزٌ حَتَّى يَلْقَاهُ الْأَمِيرُ الْآخَرُ. لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَزْلَهُ بِالْتِقَائِهِ مَعَ الثَّانِي، فَمَا لَمْ يَلْتَقِيَا فَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى حَالِهِ. وَبَعْدَ مَا الْتَقَيَا صَارَ الْأَمِيرُ هُوَ الثَّانِي، إنْ نَفَلَ جَازَ تَنْفِيلُهُ دُونَ الْأَوَّلِ. - وَلَوْ كَتَبَ إلَيْهِ: أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى يَلْقَاكَ فُلَانٌ. فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُ جَعَلَ لِوِلَايَتِهِ غَايَةً، وَمِنْ حُكْمِ الْغَايَةِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَلَّدَهُ قَبْلَ هَذَا مُطْلَقًا أَوْ لَمْ يُقَلِّدْهُ. لِأَنَّ بَعْدَ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا لَهُ وِلَايَةُ الْعَزْلِ، فَلَهُ وِلَايَةُ التَّوْقِيتِ فِي ذَلِكَ التَّقْلِيدِ أَيْضًا. وَإِذَا ثَبَتَ التَّوْقِيتُ بِهَذَا الْكِتَابِ صَارَ كَأَنَّهُ هُوَ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا أَتَاك فُلَانٌ فَهُوَ الْأَمِيرُ دُونَك. - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ مَنَعَةٌ أَمَّرُوا أَمِيرًا وَدَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرِينَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ خُمُسَ مَا أَصَابُوا وَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَنَعَتِهِمْ يَكُونُ الْمَالُ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدَّيْنِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ. - فَإِنْ نَفَلَ أَمِيرُهُمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْهُ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يَجُوزُ مِنْ أَمِيرِ سَرِيَّةٍ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ وَبَعَثَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِهِ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ، وَرِضَاهُمْ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمْ، فَصَارَ أَمِيرُهُمْ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى، كَمَا تَثْبُتُ بِاسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ تَثْبُتُ بِاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَاحِدٍ؟ وَالْأَصْلُ فِيهِ إمَامَةُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (ص 270) فَكَذَلِكَ الْإِمَارَةُ عَلَى أَهْلِ السَّرِيَّةِ تَثْبُتُ بِاتِّفَاقِهِمْ كَمَا تَثْبُتُ بِتَقْلِيدِ الْإِمَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ لَوْ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَمِيرًا وَدَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ فَنَفَلَ أَمِيرَهُمْ شَيْئًا ثُمَّ تَابُوا جَازَ مَا نَفَلَهُ أَمِيرُهُمْ؟ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا. . - وَلَوْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ غَزَا بِجُنْدٍ فَمَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ قُتِلَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْجُنْدِ: نُؤَمِّرُ فُلَانًا. فَأَمَّرُوهُ وَاعْتَزَلُوا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: نُؤَمِّرُ فُلَانًا فَأَمَّرُوهُ، وَاعْتَزَلُوا. فَأَخَذَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ وَجْهًا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، وَنَفَلَ كُلُّ أَمِيرٍ نَفْلًا لِقَوْمِهِ قَبْلَ الْخُمُسِ أَوْ بَعْدَ الْخُمُسِ، ثُمَّ الْتَقَوْا فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَاصْطَلَحُوا، فَالْخَلِيفَةُ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ يُنَفِّذُ تَنْفِيلَ كُلِّ أَمِيرٍ. بِاعْتِبَارِ أَنَّ قَوْمَهُ قَدْ رَضُوا بِهِ أَمِيرًا عَلَيْهِمَا، وَهُمْ الَّذِينَ أَصَابُوا مَا أَصَابُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَيَجُوزُ تَنْفِيلُ كُلِّ أَمِيرٍ سَوَاءٌ الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. إلَّا أَنَّهُمْ إذَا الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ النَّفْلِ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِحْرَازِ. . - وَلَوْ بَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَامِلًا عَلَى الثُّغُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ النَّفَلَ بِشَيْءٍ، فَلَهُ أَنْ يُنَفِّلَ قَبْلَ الْخُمُسِ وَبَعْدَ الْخُمُسِ. لِأَنَّهُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى الثُّغُورِ لِيَحْفَظَهَا وَيَغْزُوَ أَهْلَ الْحَرْبِ حَتَّى يَنْقَطِعَ طَمَعُهُمْ عَنْهَا. وَالنَّفَلُ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ. فَمِنْ ضَرُورَةِ تَفْوِيضِ أَمْرِ الْحَرْبِ إلَيْهِ، وَجَعْلِ التَّدْبِيرِ فِي ذَلِكَ إلَى رَأْيِهِ، أَنْ يَكُونَ أَمْرُ التَّنْفِيلِ مُفَوَّضًا إلَيْهِ. - إلَّا أَنْ يَنْهَاهُ الْخَلِيفَةُ عَنْ النَّفْلِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ. لِأَنَّ الدَّلَالَةَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا إذَا جَاءَ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهَا. بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ إذْنٌ فِي التَّنَاوُلِ دَلَالَةً، إلَّا أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. - فَإِنْ اسْتَعْمَلَ هَذَا الْعَامِلُ عَامِلًا آخَرَ فَنَفَلَ الثَّانِي فَإِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ لَمْ يَنْهَ الْأَوَّلَ عَنْ التَّنْفِيلِ جَازَ التَّنْفِيلُ مِنْ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ نَهَى الْأَوَّلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّنْفِيلُ مِنْ الثَّانِي. لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْأَوَّلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا اسْتَخْلَفَ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ الْقَضَاءِ فِي الْحُدُودِ لَمْ يَكُنْ لِخَلِيفَتِهِ أَنْ يَقْضِيَ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُنْهَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ لِخَلِيفَتِهِ أَنْ يَقْضِيَ فِيهَا فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 - وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْعَامِلَ بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ الثُّغُورِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا فَنَفَلَ أَمِيرَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلسَّرِيَّةِ سَلَبَ الْقَتْلَى فَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْهُ، كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْعَامِلِ لَوْ غَزَا بِنَفْسِهِ. لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ أَمْرَ الْحَرْبِ وَجَعَلَهُ نَافِذَ الْأَمْرِ عَلَى أَهْلِ السَّرِيَّةِ. وَإِنَّمَا بَعَثَهُمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. فَكَانَ أَمِيرُهُمْ كَأَمِيرِ الْعَسْكَرِ، وَتَنْفِيلُ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ نَصًّا. لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُصَابِ لِمَنْ تَجِبُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً، فَكَذَلِكَ تَنْفِيلُ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ. - وَلَوْ نَهَاهُ الْعَامِلُ أَنْ يُنَفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا فَنَفَّلَ لَمْ يَجُزْ تَنْفِيلُهُ. لِأَنَّ مَنْ قَلَّدَهُ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّنْفِيلِ، فَيَكُونُ حَالُهُ فِي التَّنْفِيلِ كَحَالِ الْعَامِلِ إذَا نَهَاهُ الْخَلِيفَةُ عَنْ التَّنْفِيلِ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِيرٍ عَلَيْهِمْ فِيمَا لَمْ يُوَلِّهِ الْعَامِلُ، فَكَانَ تَنْفِيلُهُ كَتَنْفِيلِ سَائِرِ الرَّعَايَا. - وَيَسْتَوِي إنْ رَضِيَ الْجُنْدُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرْضَوْا. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ تَنْفِيلُهُ إذَا رَضُوا بِهِ، كَمَا تَثْبُتُ الْإِمَارَةُ لَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَوْتِ أَمِيرِهِمْ إذَا رَضُوا بِهِ. وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ رِضَاهُمْ لَمْ يَحْصُلْ عَلَى مُخَالِفَةِ أَمْرِ الْعَامِلِ، بَلْ حَصَلَ فِيمَا لَمْ يَأْمُرْ الْعَامِلَ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا. وَهَا هُنَا حَصَلَ رِضَاهُمْ عَلَى مُخَالِفَةِ مَا أَمَرَ بِهِ الْعَامِلَ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا. كَمَا لَوْ أَرَادُوا عَزْلَ أَمِيرِهِمْ وَتَقْلِيدَ غَيْرِهِ. - فَإِنْ نَفَلَ أَمِيرَهُمْ ثُمَّ لَمْ يُقَسِّمُوا الْغَنَائِمَ حَتَّى أَخْرَجُوهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 (ص 271) وَأَخْبَرَ أَمِيرُهُمْ الْعَامِلَ بِمَا نَفَلَ فَرَأَى أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ. . لِأَنَّ إجَازَتَهُ بِمَنْزِلَةِ تَنْفِيلِهِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ. - فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ جَازَ النَّفَلُ وَحَلَّ لِمَنْ أَصَابَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَصَابَ. لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، وَهُوَ التَّنْفِيلُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، فَيَكُونُ نَافِذًا. فَإِنْ قِيلَ: أَصْلُ التَّنْفِيلِ كَانَ بَاطِلًا، وَإِجَازَةُ مَا كَانَ بَاطِلًا يَلْغُو، وَإِنْ حَصَلَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ. كَمَا لَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَةَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ بَلَّغَ الصَّبِيَّ فَأَجَازَ ذَلِكَ كَانَتْ إجَازَتُهُ لَغْوًا. وَإِنْ كَانَ هُوَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ الْآنَ. وَعَنْ هَذَا الْكَلَامِ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هُنَاكَ أَصْلَ الْإِيقَاعِ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا، لِأَنَّهُ لَا مُجِيزَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَهَا هُنَا أَصْلُ التَّنْفِيلِ حِينَ وَقَعَ كَانَ مَوْقُوفًا، حَتَّى لَوْ أَجَازَهُ الْعَامِلُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبُوا الْغَنَائِمَ كَانَ صَحِيحًا. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُجِيزَهُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا. وَالثَّانِي: أَنَّ إجَازَتَهُ هَا هُنَا إنَّمَا تَتِمُّ بِالتَّسْلِيمِ إلَى مَنْ نَفَلَ لَهُ الْأَمِيرُ، فَيَجْعَلُ هَذَا التَّسْلِيمَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ، لَا قَوْلَهُ أَجَزْت. وَوِزَانُهُ مِنْ الطَّلَاقِ أَنْ لَوْ قَالَ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ: جَعَلْت ذَلِكَ تَطْلِيقَةً وَاقِعَةً، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ ذَلِكَ إنْشَاءً لِلطَّلَاقِ مِنْهُ. وَأَوْضَحُ هَذَا لِمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا إلَى الْعَطَاءِ. فَإِنَّ الشِّرَاءَ فَاسِدٌ. فَإِنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يُجِيزَ هَذَا الْبَيْعَ حِينَ خُوصِمَ فِيهِ إلَيْهِ نَفَذَ الْبَيْعُ بِإِجَازَتِهِ وَحَلَّ لِلْمُشْتَرِي إمْسَاكُهُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْبَيْعِ فَاسِدًا عِنْدَنَا. . - وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِيِّ مَعَ الْعَسْكَرِ ثُمَّ بَعَثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 سَرِيَّةً وَلَمْ يَأْمُرْ أَمِيرَهُمْ بِالتَّنْفِيلِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَنَفَلَ أَصْحَابُ السَّرِيَّةِ نَفْلًا، ثُمَّ جَاءُوا بِالْغَنِيمَةِ إلَى الْعَسْكَرِ فَإِنَّ تَنْفِيلَ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ يَجُوزُ فِي نَصِيبِ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ خَاصَّةً. لِأَنَّ الْجَيْشَ شُرَكَاءُ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ فِي الْمُصَابِ هُنَا، وَلَيْسَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ وِلَايَةٌ عَلَى الْجَيْشِ، إنَّمَا وِلَايَتُهُ عَلَى أَهْلِ السَّرِيَّةِ خَاصَّةً، فَيَجُوزُ تَنْفِيلُهُ فِي نُصِبْهُمْ خَاصَّةً. - وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ حِينَ بَعَثَهُمْ نَفَلَ لَهُمْ نَفْلًا، ثُمَّ نَفَلَ أَمِيرُهُمْ أَيْضًا نَفْلًا، فَجَاءُوا بِالْغَنَائِمِ، فَمَا نَفَلَ لَهُمْ الْعَامِلُ يُرْفَعُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ، وَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ حِينَ تَبِينُ حِصَّةُ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ، ثُمَّ يَنْفُذُ مَا نَفَلَ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ مِنْ حِصَّتِهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَمِمَّا نَفَلَ لَهُمْ الْعَامِلُ. لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَهُمْ خَاصَّةً، وَلِأَمِيرِهِمْ وِلَايَةٌ عَلَيْهِمْ. فَيَنْفُذُ تَنْفِيلُهُ فِيمَا لَهُمْ خَاصَّةً. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ السَّرِيَّةُ مَبْعُوثَةٌ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا شِرْكَةَ لِغَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِي الْمُصَابِ، حَتَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ السَّرِيَّةَ لَمْ تَرْجِعْ إلَى الْعَسْكَرِ وَلَكِنَّهُمْ خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَانِبٍ آخَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ كَالْحُكْمِ فِي السَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُ لَا شَرِيكَ فِي الْمُصَابِ. وَفِي الْوَجْهَيْنِ لَوْ أَصَابُوا طَعَامًا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبُّوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ بَعْدَ مَا رَجَعُوا إلَى الْعَسْكَرِ يُبَاحُ لَهُمْ التَّنَاوُلُ مِنْ الطَّعَامِ كَمَا يُبَاحُ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ؟ وَفِي إبَاحَةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ الْمُصَابِ كَالْبَاقِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ بِخِلَافِ حُكْمِ التَّنْفِيلِ. . - وَلَوْ أَنَّهُمْ أَصَابُوا غَنَمًا أَوْ بَقَرًا أَوْ رَمَكًا، فَاسْتَأْجَرَ الْأَمِيرُ مَنْ يَسُوقُهَا إلَى الْعَسْكَرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ وَحَقِّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُمْ فِيمَا صَنَعَ. وَمَنْفَعَةُ فِعْلِهِ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ جَمِيعًا، بِخِلَافِ النَّفْلِ فَالْمَنْفَعَةُ فِيهِ لِلْمُنَفِّلِينَ خَاصَّةً. فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَنْفِيلُهُ فِي حِصَّةِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. - وَلَوْ أَنَّ الْعَامِلَ كَانَ نَفَلَهُمْ الرُّبُعَ، ثُمَّ نَفَلَهُمْ أَمِيرَهُمْ حِينَ لَقُوا الْعَدُوَّ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعُوا إلَى الْعَسْكَرِ حَتَّى رَجَعُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ نَفْلَ الْعَامِلِ لَهُمْ (ص 272) بَاطِلٌ، وَنَفْلَ أَمِيرِهِمْ لَهُمْ جَائِزٌ. لِأَنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَلْقَوْا الْعَسْكَرَ مِنْهُمْ فِي الْمُصَابِ بِمَنْزِلَةِ السَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا نَفَلَ الْعَامِلُ لِجَمَاعَتِهِمْ بِالسَّرِيَّةِ. وَهَذَا التَّنْفِيلُ بَاطِلٌ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ. وَلَا نَفْلَ لِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى. فَأَمَّا نَفْلُ أَمِيرِهِمْ لَهُمْ فَحَصَلَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ لِبَعْضِ الْخَوَاصِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْحَقِّ فِي الْمُصَابِ. - وَإِنْ رَجَعُوا إلَى الْعَسْكَرِ جَازَ نَفْلُ الْعَامِلِ لَهُمْ. لِأَنَّ الْعَسْكَرَ شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْمُصَابِ. فَكَانَ فِي هَذَا التَّنْفِيلِ إبْطَالُ شَرِكَةِ الْعَسْكَرِ مَعَهُمْ، فَيَصِحُّ وَإِنْ كَانَ يَتَعَدَّى إلَى إبْطَالِ الْخُمُسِ وَتَفْضِيلِ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 وَأَمَّا نَفْلُ أَمِيرِهِمْ فَإِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا هُوَ حَقُّهُمْ خَاصَّةً دُونَ مَا يَكُونُ حِصَّةَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. - وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ نَهَى أَمِيرَ السَّرِيَّةِ عَنْ التَّنْفِيلِ فَنَفْلُهُ بَاطِلٌ لِنَهْيِ الْعَامِلِ إيَّاهُ عَنْ ذَلِكَ. وَنَفْلُ الْإِمَامِ لَهُمْ جَائِزٌ إنْ رَجَعُوا إلَى الْعَسْكَرِ. وَإِنْ خَرَجُوا مِنْ جَانِبٍ آخَرِ إلَى دَارِ السَّلَامِ، فَذَلِكَ أَيْضًا بَاطِلٌ. وَيُخَمَّسُ جَمِيعُ مَا أَصَابُوا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُصَابِ لَهُمْ خَاصَّةً، فَلَيْسَ فِي هَذَا التَّنْفِيلِ إلَّا إبْطَالُ الْخُمُسِ وَتَفْضِيلُ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 [بَابُ مِنْ النَّفْلِ الَّذِي يَكُونُ لِلرَّجُلِ فِي الشَّيْءِ الْخَاصِّ وَلَا يَدْرِي مَا هُوَ] - وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَلَهُ ثَوْبٌ فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَشَرَةِ أَثْوَابٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَجْنَاسِ فَلَهُ عُشْرُ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ بِالتَّنْفِيلِ عُشْرَ مَا يَأْتِي بِهِ. فَإِنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ فَلَهُ ثَوْبٌ مِنْهَا. وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ إلَّا هَذَا. فَإِنَّ إيجَابَ الثَّوْبِ مُطْلَقًا لَا يَصِحُّ فِي شَيْءِ مِنْ الْعُقُودِ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الثِّيَابِ ثُمَّ لَبِسَ بَعْضَ الْأَثْوَابِ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ نَفْلًا بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ. وَالثِّيَابُ إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةُ الْأَجْنَاسِ لَا تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً. فَلِهَذَا كَانَ لَهُ عُشْرُ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا. . - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ مِنْ الدَّوَابِّ فَلَهُ دَابَّةٌ. لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْأَجْنَاسَ الْمُخْتَلِفَةَ كَالثِّيَابِ. - وَلَوْ جَاءَ بِالْكُلِّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَسَطٌ. لِأَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ. وَعَلَى الْأَمِيرِ أَنْ يُرَاعِي النَّظَرَ لِلْغَانِمِينَ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ. وَتَمَامُ النَّظَرِ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ الْوَسَطَ مِمَّا جَاءَ بِهِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِدَابَّةٍ فَلَهُ ثُلُثُهَا. فَجَاءَ بِبَقَرَةٍ أَوْ جَامُوسٍ أَوْ بَعِيرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْحِمَارَ وَالْفَرَسَ وَالْبَغْلَ اسْتِحْسَانًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً لَا يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ غَيْرَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ؟ وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ. هَا هُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِلَا شُبْهَةٍ. فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ: لَوْ جَاءَ بِجَارِيَةٍ يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ مِنْهَا. وَاسْمُ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُهَا فِي قَوْلِهِ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يُبْنَى هَذَا عَلَى مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ. - فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ فِي مَوْضِعِ دَوَابِّهِمْ الْجَوَامِيسِ أَوْ الْبَقَرِ إيَّاهَا يَرْكَبُونَ وَإِيَّاهَا يُسَمُّونَ الدَّوَابَّ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَهُ. فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَالدَّوَابُّ هِيَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ. . - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ أَصَابَ جَزُورَةً فَهِيَ لَهُ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِجَزُورٍ أَوْ بَقَرَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَإِنْ جَاءَ بِشَاةٍ مَاعِزٍ أَوْ ضَأْنٍ فَهِيَ لَهُ. لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ مَا يُجْزَرُ، لَكِنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا اسْتِعْمَالَهُ فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً. فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: " أَجْزِرْنِي مِنْ نَعَمِك " فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ سُؤَالُ الشَّاةِ دُونَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِجَزُورٍ فَهُوَ لَهُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذَا اللَّفْظِ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِبِلَ خَاصَّةً. وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُجْزَرُ وَلَكِنَّ اسْمَ الْجَزُورِ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْإِبِلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ إذَا جَاءَ بِبَعِيرٍ قَدْ رُكِبَ أَوْ نَاقَةٍ قَدْ رُكِبَتْ لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهَا شَيْئًا. 98. لِأَنَّ الْجَزُورَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُعَدًّا مِنْ هَذَا النَّوْعِ لِلْكَرِّ دُونَ الرُّكُوبِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُرْكَبَ. فَأَمَّا مَا رُكِبَ فَهُوَ لَا يُنْحَرُ لِلْأَكْلِ عَادَةً بَعْدً ذَلِكَ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ النَّفَلُ إذَا جَاءَ بِذَلِكَ كُلِّهِ. لِأَنَّ الِاسْمَ يُطْلَقُ اسْتِعْمَالًا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْعُرْفِ. . - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِبَعِيرٍ أَوْ جَمَلٍ فَهُوَ لَهُ، فَجَاءَ بِبُخْتِيٍّ فَهُوَ لَهُ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِبُخْتِيٍّ أَوْ بُخْتِيَّةٍ، فَجَاءَ بِجَمَلٍ عَرَبِيٍّ أَوْ نَاقَةٍ. لِأَنَّ الْبُخْتِيَّ اسْمٌ خَاصٌّ لِجَمَالِ الْعَجَمِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْعَرَبِيَّ. كَمَا أَنَّ اسْمَ الْعَجَمِيِّ فِي التَّنْفِيلِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَرَبِيَّ، وَاسْمُ الْبُخْتِيِّ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. كَمَا أَنَّ اسْمَ الْجَمَلِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ الْإِبِلِ الْعَرَبِيِّ. وَاسْمُ الْبَقَرِ فِي التَّنْفِيلِ لَا يَتَنَاوَلُ الْجَامُوسَ. فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكَمَّلُ نَصَّابُ الْبَقَرِ بِهِ فِي الزَّكَاةِ، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ» . لَكِنَّهُ اعْتَبَرَ الْعُرْفَ. وَفِي الْعُرْفِ يَنْفِي عَنْ الْجَامُوسِ اسْمَ الْبَقَرِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ إلَّا مُقَيَّدًا كَمَا يُقَالُ بِالْفَارِسِيَّةِ كاؤميش بِخِلَافِ اسْمِ الْبَعِيرِ وَالْجَمَلِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْبُخْتِيِّ فِي كُلِّ لِسَانٍ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 814 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِشَاةٍ فَهِيَ لَهُ. فَلِذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مَعْزًا كَانَ أَوْ ضَانًّا. وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ الْمَاعِزُ. لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِاسْمٍ آخَرِ. وَيَنْفِي عَنْهُ اسْمَ الشَّاةِ كَمَا فِي الْجَامُوسِ. وَلَكِنْ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ يُخْلَطُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ عَادَةً. وَيُعَدُّ الْكُلُّ شَيْئًا وَاحِدًا، فَيُطْلَقُ اسْمُ الشَّاةِ وَالْغَنَمِ عَلَى الْكُلِّ. وَهَذَا الْوَجْهُ بِخِلَافِ الْجَوَامِيسِ. وَاسْمُ الْكَبْشِ وَالتَّيْسِ لَا يَتَنَاوَلُ النَّعْجَةَ لِأَنَّهُ اسْمُ نَوْعٍ خَاصٍّ. وَاسْمُ الدَّجَاجِ يَتَنَاوَلُ الدِّيكَ وَالدَّجَاجَةَ جَمِيعًا. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ لَبِيدٍ بَاكَرَتْ حَاجَتَهَا الدَّجَاجَ بِسَحَرَةٍ ... لِأُعَلَّ مِنْهَا حِينَ هَبَّ نِيَامُهَا وَقَالَ آخَرُ: لَمَّا مَرَرْت بِدَيْرِ الْهِنْدِ أَرَّقَنِي ... صَوْتُ الدَّجَاجِ وَضَرْبٌ بِالنَّوَاقِيسِ فَأَمَّا اسْمُ الدَّجَاجَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الدِّيكَ. وَاسْمُ الدِّيكِ لَا يَتَنَاوَلُ الدَّجَاجَةَ أَيْضًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي أَيْمَانِ الْجَامِعِ فِيمَا إذَا قَالَ: لَا آكُلَ لَحْمَ دَجَاجٍ. فَأَكَلَ لَحْمَ دِيكٍ حَنِثَ وَلَوْ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الدَّجَاجَةِ لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الدِّيكِ لَمْ يَحْنَثْ إذَا أَكَلَ دَجَاجَةً. فَحُكْمُ التَّنْفِيلِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ قِيَاسِ الْيَمِينِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 [بَابٌ مِنْ التَّنْفِيلِ فِي الْعَسْكَرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ] - وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَرْضَ الْحَرْبِ مِنْ طَرِيقَيْنِ، فَبَعَثَ أَمِيرُ كُلِّ عَسْكَرٍ سَرِيَّةً وَنَفَلَ لَهُمْ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ فَالْتَقَتْ السَّرِيَّتَانِ عِنْدَ حِصْنٍ وَأَصَابُوا الْغَنَائِمَ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَتَفَرَّقُوا حَتَّى تَرْجِعَ كُلُّ سَرِيَّةٍ إلَى عَسْكَرِهِمْ. . فَإِنَّ الْغَنِيمَةَ تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. كَأَنَّهُ لَا نَفْلَ فِيهَا وَلَا مُسْتَحِقَّ لَهَا سِوَاهُمْ. لِأَنَّ كُلَّ أَمِيرٍ إنَّمَا نَفَلَ سَرِيَّتَهُ مِمَّا أَصَابَتْ، وَلَا يَتَبَيَّنُ مُصَابُ كُلِّ سَرِيَّةٍ إلَّا بِالْقِسْمَةِ. فَلِهَذَا يُقَسَّمُ بَيْنَ السَّرِيَّتَيْنِ عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْفَعَ الْخُمُسُ أَوَّلًا. إذْ لَيْسَتْ إحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ بِأَنْ تَذْهَبَ بِالْخُمُسِ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، ثُمَّ تَرْجِعُ كُلُّ سَرِيَّةٍ بِمَا أَصَابَهَا مِنْ الْقِسْمَةِ إلَى الْعَسْكَرِ، فَيُعْطِيهِمْ أَمِيرُهُمْ النَّفَلَ مِنْ ذَلِكَ وَيَضُمُّ مَا بَقِيَ إلَى غَنَائِمِهِمْ، فَيُخْرِجُ الْخُمُسَ مِنْهَا وَيَقْسِمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ السَّرِيَّةِ وَأَهْلِ الْعَسْكَرِ. حَتَّى إذَا كَانَتْ إحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ ثَمَانَ مِائَةٍ: أَرْبَعَ مِائَةٍ فُرْسَانٍ وَأَرْبَعَ مِائَةِ رَجَّالَةٍ، وَالسَّرِيَّةُ الْأُخْرَى أَرْبَعُ مِائَةٍ: مِائَةٌ فُرْسَانٌ وَثَلَاثُ مِائَةٍ (ص 274) رَجَّالَةٌ. فَإِنَّمَا يُقَسَّمُ الْمُصَابُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى خَمْسِ مِائَةٍ فُرْسَانٍ وَسَبْعِ مِائَةٍ رَجَّالَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 ثُمَّ مَا أَصَابَ الْفُرْسَانُ يُقَسَّمُ أَخْمَاسًا: خُمُسُ ذَلِكَ لِلسَّرِيَّةِ الَّتِي هِيَ قَلِيلَةُ الْعَدَدِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلسَّرِيَّةِ الْأُخْرَى. وَمَا أَصَابَ الرَّجَّالَةُ يُقَسَّمُ أَسْبَاعًا: ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ لِلْقَلِيلَةِ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهِ لِلْأُخْرَى. فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَبَيَّنُ حِصَّةُ كُلِّ سَرِيَّةِ مِنْ الْمُصَابِ - وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ إنْ كَانَ الْأَمِيرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفَّلَ لِسَرِيَّتِهِ أَوْ لَمْ يُنَفِّل وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْ نَفَّلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ. لِأَنَّ تَنْفِيلَ كُلِّ أَمِيرٍ لَا يَجُوزُ فِيمَا هُوَ حِصَّةُ السَّرِيَّةِ الْأُخْرَى. فَإِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 [بَابُ النَّفْلِ لِمَنْ يَجِبُ إذَا جَعَلَهُ الْأَمِيرُ جُمْلَةً] 91 - بَابُ النَّفْلِ لِمَنْ يَجِبُ إذَا جَعَلَهُ الْأَمِيرُ جُمْلَةً وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَأَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الرُّبْعُ. فَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ سَهْمٌ أَوْ رَضْخٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيِّ، رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، صَغِيرٍ أَوْ بَالِغٍ، تَاجِرٍ أَوْ مُقَاتِلٍ، قَاتَلَ قَبْلَ هَذَا أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ وَالْإِصَابَةِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَتَحَقَّقُ فِيهِمْ مَعْنَى التَّحْرِيضِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ أَوْ الرَّضْخَ مِنْ الْغَنِيمَةِ لِلتَّحْرِيضِ؟ وَالتَّاجِرُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ قَبْلَ هَذَا فَقَدْ قَاتَلَ الْآنَ حِينَ أَصَابَ شَيْئًا وَجَاءَ بِهِ. فَلِهَذَا اسْتَحَقَّ النَّفَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. - فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَإِنْ كَانَ خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ رَضْخًا وَلَا سَهْمًا. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ فِي ذَلِكَ. - وَلَوْ أَنَّ أَسِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ سَمِعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ الْأَمِيرِ فَخَرَجَ وَأَصَابَ شَيْئًا فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 835 لِأَنَّ الْأَسِيرَ فَيْءٌ لَهُمْ، وَمَا أَصَابَهُ فَهُوَ كَسْبُهُ، وَكَسْبُ الْعَبْد لِمَوْلَاهُ. فَلِهَذَا كَانَ هُوَ مَعَ مَا جَاءَ بِهِ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. - وَلَوْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ، فَلَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ خَرَجُوا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فَأَتَوْا بِهَا الْعَسْكَرَ. فَإِنْ كَانُوا وَصَلُوا إلَى مَوْضِعٍ قَدْ أَمِنُوا فِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَصَابُوا هَذَا الْمَالَ فَعَادُوا وَاسْتَأْمَنُوا عَلَيْهَا أَمَانًا مُسْتَقْبَلًا فَذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ، لَا خُمْسَ فِيهَا. لِأَنَّهُ بِوُصُولِهِمْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْأَمَانِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ أَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمَلَكُوهَا ثُمَّ اسْتَأْمِنُوا عَلَيْهَا. - وَإِنْ كَانُوا أَصَابُوا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَبْلُغُوا فِيهِ مَأْمَنَهُمْ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْلِمِينَ إنْ كَانُوا خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا بِإِذْنِهِ فَلَهُمْ النَّفَلُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَمَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بَاقٍ مَا لَمْ يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ. فَحُكْمُهُمْ فِي هَذَا كَحُكْمِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي عَسْكَرِنَا مِنْ أَهْلِ دَارٍ أُخْرَى. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَ الَّذِينَ خَرَجُوا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ وَاَلَّذِينَ خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأَمِيرِ وَالْمُسْلِمِينَ نُصْرَةُ الْخَارِجِينَ بِإِذْنِهِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ إذَا بَلَغَهُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ أَحَاطُوا بِهِمْ، كَمَا يَجِبُ نُصْرَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ نُصْرَةُ الْخَارِجِينَ بِغَيْرِ إذْنِهِ. فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّنْفِيلِ الَّذِينَ خَرَجُوا بِإِذْنِهِ، بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ دُونَ الَّذِينَ خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 836 [بَابُ النَّفْلِ فِي دُخُولِ الْمَطْمُورَةِ] 92 - بَابُ النَّفْلِ فِي دُخُولِ الْمَطْمُورَةِ وَإِذَا وَقَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَابِ مَطْمُورَةٍ فِيهَا الْعَدُوُّ يُقَاتِلُونَ. فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ دَخَلَ مِنْ بَابِ هَذِهِ الْمَطْمُورَةِ فَلَهُ نَفْلُ مِائَةِ دِرْهَمٍ. فَاقْتَحَمَ الْبَابَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا لِلْمَطْمُورَةِ بَابٌ آخَرُ دُونَ ذَلِكَ الْبَابِ (ص 275) مُغْلَقٌ. وَإِذَا لَيْسَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَحَدٌ. فَقَاتَلَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْبَابِ الثَّانِي حَتَّى اقْتَحَمُوا، فَلِلَّذِينَ اقْتَحَمُوا الْبَابَ الْأَوَّلَ نَفْلُهُمْ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ. لِأَنَّ الْإِمَامَ أَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ. فَإِنَّ كَلِمَةَ (مَنْ) تُوجِبُ الْعُمُومَ، عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ. فَإِنْ قَالَ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ: لَا نُعْطِيهِمْ النَّفَلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَحَدٌ، وَقَدْ اجْتَمَعْنَا عَلَى الْقِتَالِ عَلَى بَابِ الْمَطْمُورَةِ. قِيلَ لَهُمْ: إنَّ الْأَمِيرَ حَرَّضَ الدَّاخِلِينَ عَلَى دُخُولِ الْبَابِ الْأَوَّلِ بِمَا أَوْجَبَ لَهُمْ، فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّنْفِيلِ مَاسَّةً يَوْمَئِذٍ. فَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَدْرُونَ أَنَّ وَرَاءَ الْبَابِ بَابًا آخَرَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَحَدٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَوْ قَالَ الْإِمَامُ مَنْ دَخَلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَهُوَ مَا صَمَدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 لَبَابٍ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْ بَابِ الْمَطْمُورَةِ. وَبَابُ الْمَطْمُورَةِ الْبَابُ الْأَقْصَى. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ بَابَ الْمَطْمُورَةِ عِنْدَ الْأَمِيرِ وَالْمُسْلِمِينَ حِينَ نُفِلَ كَانَ الْبَابَ الْأَوَّلَ، وَكَانُوا لَا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، فَاَلَّذِينَ دَخَلُوهُ بَعْدَ التَّنْفِيلِ خَاطَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَتَوْا بِمَا أَوْجَبَ لَهُمْ الْإِمَامُ النَّفَلَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى جَمَاعَتُهُمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْإِمَامُ ذَلِكَ لِلدَّاخِلَيْنِ. قُلْنَا: مُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَسَارَعُ إلَى الْأَفْهَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ الْمِائَةُ نَفْلًا. فَإِنَّهُ نَكَّرَ الْمِائَةَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ لِصَاحِبِهِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ فَلَهُ رَأْسٌ - بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ فَلَهُ الرُّبْعُ مِنْ الْغَنِيمَةِ - فَدَخَلَ عَشْرَةٌ، فَلَهُمْ الرُّبْعُ بَيْنَهُمْ. لِأَنَّ هُنَاكَ عُرْفًا مَا أَوْجَبَ لِلدَّاخِلَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْغَنِيمَةِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ مُرَادَهُ الْإِشْرَاكُ بَيْنَ الدَّاخِلِينَ فِي الْجُزْءِ الْمُسَمَّى. أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّاخِلِينَ يَزِيدُونَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ عَادَةً، وَلَا تَكُون الْغَنِيمَةُ إلَّا أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ؟ فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ الْإِشْرَاكُ بَيْنَهُمْ فِي الرُّبْعِ وَإِنْ كَثُرُوا. - وَإِنْ دَخَلَ وَاحِدٌ ثُمَّ وَاحِدٌ هَكَذَا (ص 191) حَتَّى كَمُلُوا عَشْرَةً. فَالرُّبْعُ بَيْنَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَخَلُوا مَعًا. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ النَّفَلَ عَلَى الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ بِجَمْعٍ أَوْ تَرْتِيبٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 838 - وَلَكِنَّ هَذَا لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ قَبْلَ أَنْ يَتَنَحَّى الْعَدُوُّ مِنْ الْبَابِ. فَإِذَا تَنَحَّوْا أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَحَدٌ فَلَا نَفْلَ لِمَنْ يَدْخُلُ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّحْرِيضُ عَلَى الدُّخُولِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَالِ بَقَاءِ الْخَوْفِ. - وَكَذَلِكَ إنْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبَابَ وَهَابُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَخَافَةَ كَمِينٍ خَلْفَ الْبَابِ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّحْرِيضُ عَلَى الدُّخُولِ فَيَتَقَيَّدُ بِحَالِ بَقَاءِ الْخَوْفِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ فَلَهُ بِطْرِيقُ الْمَطْمُورَةِ. فَدَخَلَ الْعَشَرَةُ مَعًا أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ حَالَ قِيَامِ الْخَوْفِ. . لِأَنَّهُ عَرَّفَ الْبِطْرِيقَ بِالْإِضَافَةِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْإِشْرَاكُ بَيْنَ الدَّاخِلِينَ فِيهِ. - وَلَوْ قَالَ: فَلَهُ بِطْرِيقٌ مِنْ بِطَارِقَتِهِمْ. فَلِكُلِّ دَاخِلٍ بِطْرِيقٌ. لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ هُنَاكَ مُنْكَرٌ. إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَطْمُورَةِ إلَّا بِطْرِيقَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لَا يُعْطَوْنَ شَيْئًا آخَرَ. لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِيجَابِ بِاعْتِبَارِ الْمَحِلِّ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي مِقْدَارِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحِلِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 839 - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: فَلَهُ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِمْ. ثُمَّ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمْ إلَّا ثَلَاثَ جِوَارٍ، فَذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُهُمْ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ. وَلَا يُعْطَوْنَ شَيْئًا آخَرَ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لَمْ يُوجَدْ فِيمَا سِوَى الْجَوَارِي الْمَوْجُودَاتِ فِيهَا. - بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: فَلَهُ جَارِيَةٌ. وَلَمْ يَقُلْ مِنْ جَوَارِيهِمْ. فَإِنَّ هُنَاكَ يُعْطَى، كُلُّ دَاخِلٍ جَارِيَةً أَوْ قِيمَةَ جَارِيَةٍ وَسَطٍ مِنْ الْمَالِ الْمَوْجُودِ فِيهَا. لِأَنَّهُ سَمَّى لِكُلِّ دَاخِلٍ جَارِيَةً مُطْلَقًا. وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ تُوجِبُ الْحَقَّ فِي مَالِيَّةِ جَارِيَةٍ إمَّا عَيْنُهَا أَوْ قِيمَتُهَا. وَلَكِنْ يَتَقَيَّدُ بِالْمَالِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَطْمُورَةِ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُ الْمَنْفَعَةِ إلَى الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا تَقَيَّدَ النَّفَلُ بِالْمَالِ الْمَوْجُودِ فِيهَا. حَتَّى إذَا لَمْ يَجِدُوا فِي الْمَطْمُورَةِ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلدَّاخِلِينَ. لِانْعِدَامِ الْمَحِلِّ الَّذِي أَوْجَبَ الْإِمَامُ حَقَّهُمْ فِيهِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ بِالْوَصِيَّةِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 فَإِنَّ مَنْ قَالَ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِجَارِيَةٍ مِنْ جَوَارِيَّ، فَمَاتَ وَلَيْسَ لَهُ جَوَارٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ بِجَارِيَةٍ. أُعْطِيَ قِيمَةَ جَارِيَةٍ مِنْ مَالِهِ. فَإِنْ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ. فَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّنْفِيلِ. إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَطْمُورَةِ شَيْءٌ وَأَصَابُوا غَنَائِمَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ النَّفَلُ. لِأَنَّ مَا يُقَيَّدُ مِنْ الْكَلَامِ بِمَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَتَقَيَّدُ بِتَنْصِيصِ الْمُتَكَلَّمِ عَلَيْهِ. - فَإِنْ دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (ص 191) وَنَادَى أَنَّهُ لَيْسَ خَلْفَ هَذَا الْبَابِ أَحَدٌ ثُمَّ دَخَلَ جَمَاعَةٌ فَالنَّفَلُ لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً. لِأَنَّهُ تَقَيَّدَ بِحَالِ بَقَاءِ الْخَوْفِ، وَقَدْ زَالَ حِينَ سَمِعُوا النِّدَاءَ مِنْ الْأَوَّلِ. بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَطْمُورَةُ مُظْلِمَةً وَلَمْ يُسَمُّوا مِنْ الْأَوَّلِ كَلَامًا حَتَّى دَخَلُوا عَلَى إثْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ لَهُمْ شَيْءٌ. لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي حَالِ بَقَاءِ الْخَوْفِ، فَهُمْ كَالدَّاخِلِ أَوَّلًا فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفْلِ. - وَلَوْ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ بَابِهَا، وَتَدَلَّى قَوْمٌ مِنْ فَوْقِهَا. دَلَّاهُمْ غَيْرُهُمْ بِإِذْنِهِمْ، حَتَّى دَخَلُوا وَسَطَهَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ النَّفَلُ إذَا كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ: مَنْ دَخَلَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 841 لِأَنَّهُ شَرَطَ الدُّخُولَ مُطْلَقًا. وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَنْ دَخَلَ مِنْ بَابِ الْمَطْمُورَةِ، لِأَنَّ هُنَاكَ قَيَّدَ الْكَلَامَ بِاشْتِرَاطِ الدُّخُولِ مِنْ الْبَابِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ خَرَجْت مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَخَرَجَتْ مِنْ جَانِبِ السَّطْحِ، لَمْ يَقَع عَلَيْهَا شَيْءٌ. بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ. - فَإِنْ كَانَ الَّذِينَ تَدَلَّوْا جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي قُدُورٍ مِنْ حَدِيدٍ ثُمَّ أَمَرُوا أَصْحَابَهُمْ فَدَلُّوهُمْ، وَكَانُوا مُعَلَّقِينَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْمَطْمُورَةِ، حَتَّى فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْحِصْنَ. فَلَهُمْ النَّفَلُ. لِأَنَّهُمْ انْتَهَوْا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مَقْصُودَ الْأَمِيرِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْقِتَالِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجُرْأَةُ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْفَتْحِ بِاشْتِغَالِ الْعَدُوِّ بِالْقِتَالِ مَعَ الَّذِينَ تَدَلَّوْا. - فَإِنْ كَانُوا دَلُّوهُمْ ذِرَاعًا أَوْ ذِرَاعَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجُوهُمْ لَمْ يَكُنْ هَذَا دُخُولًا. لِأَنَّهُمْ مَا وَصَلُوا إلَى مَوْضِعِ الْقِتَالِ وَمَا انْتَفَعَ الْمُسْلِمُونَ بِمَا صَنَعُوا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ مِنْ النَّفْلِ. - وَلَوْ انْقَطَعَتْ الْحِبَالُ حِينَ دَلُّوهُمْ، فَوَقَعُوا فِي الْحِصْنِ، أَخَذُوا النَّفَلَ. لِأَنَّهُمْ دَلُّوهُمْ بِأَمْرِهِمْ. فَكَأَنَّهُمْ طَرَحُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، فَيَسْتَحِقُّونَ النَّفَلَ لِإِتْيَانِهِمْ بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 842 - فَإِنْ كَانَ الَّذِينَ دَلُّوهُمْ قَطَعُوا الْحِبَالَ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ، فَوَقَعُوا فِي الْمَطْمُورَةِ فَقَاتَلُوا حَتَّى فَتَحُوا، لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّفْلِ شَيْءٌ. لِأَنَّهُمْ مَا دَخَلُوهَا، وَإِنَّمَا أُلْقُوا فِيهَا. فَإِنَّ الْقَطْعَ إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لَا يَكُونُ فِعْلُ الْقَاطِع مُضَافًا إلَيْهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ عَطَبُوا فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ وَقْعَتِهِمْ ضَمِنَ الْقَاطِعُونَ دِيَاتِهِمْ. وَفِي الْأَوَّلِ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا. فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ النَّفْلِ وَالدِّيَاتِ. - وَلَوْ زَلِقَتْ رِجْلُ أَحَدٍ مِنْ الْوَاقِفِينَ فَوْقَ الْمَطْمُورَةِ وَهُوَ يُقَاتِلُ فَوَقَعَ فِيهَا فَلَهُ النَّفَلُ. لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ قَدَمَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَمَا طَرَأَ عَلَى فِعْلِهِ فِعْلٌ آخَرُ مُعْتَبَرٌ. فَيَكُونُ حُصُولُهُ فِيهَا مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ، كَأَنَّهُ دَخَلَهَا قَصْدًا. - وَلَوْ دَفَعَهُ إنْسَانٌ فِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ النَّفْلِ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَى فِعْلِهِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ، فَيَكُونُ هُوَ مُلْقًى فِيهَا لَا دَاخِلًا. إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا. فَإِنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ الْجُرْأَةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِيمَا فَعَلَ بِهِ غَيْرُهُ (ص 277) بِأَمْرِهِ، وَلَا يَحْصُلُ إذَا فَعَلَ بِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. - وَلَوْ أَنَّ أَصْحَابَهُ دَلُّوهُ فِيهَا، فَقَطَعَ أَهْلُ الْحَرْبِ الْحِبَالَ بِالسُّيُوفِ، فَوَقَعَ فِيهَا وَقَاتَلَ حَتَّى فُتِحَتْ الْمَطْمُورَةُ فَلَهُ النَّفَلُ. لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مَوْضِعَ الْقِتَالِ حَيْثُ وَصَلَتْ السُّيُوفُ إلَى الْحِبَالِ فَقَطَعُوهَا، أَوْ إلَى الْقُدُورِ فَكَسَرُوهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 843 - فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْهَوَاءِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَصِلَ سِلَاحُ الْعَدُوِّ إلَيْهِ فَتُوهِقُهُ أَهْلُ الْحَرْبِ بِوَهَقٍ حَتَّى رَمَوْا بِهِ فِي الْمَطْمُورَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ النَّفْلِ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ مُلْقَى فِي الْمَطْمُورَةِ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُعْتَبَرٍ، وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إظْهَارُ الْجُرْأَةِ. فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ. - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْمَطْمُورَةِ طَلَبُوا الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوا الرِّجَالَ وَيَأْخُذُوا الْأَمْوَالَ وَالذُّرِّيَّةَ، وَأَدْخَلُوا النَّاسَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَنَظَرُوا فَإِذَا عِدَّةُ الرِّجَالِ خَمْسُونَ. فَأَجَابُوهُمْ إلَى مَا الْتَمَسُوا مِنْ الصُّلْحِ. ثُمَّ لَمَّا دَخَلُوا وَجَدُوا فِيهَا أَلْفَ رَجُلٍ. فَإِذَا الْمَطْمُورَةُ أَمْيَالٌ فِي الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ بَابَهَا الَّذِي يَخْرُجُ أَهْلُهَا مِنْهُ إلَى الْأَرْضِ وَاحِدٌ. فَهَذِهِ مَطْمُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَجَمِيعُ مَنْ فِيهَا مِنْ الرِّجَالِ آمِنٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ بَابَ الْمَطْمُورَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاحِدٌ. فَتَكُونُ مَطْمُورَةً وَاحِدَةً، بِمَنْزِلَةِ دَارٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فِيهَا حُجَرٌ وَمَقَاصِيرُ، وَلَكِنَّ بَابَهَا إلَى السِّكَّةِ وَاحِدٌ. فَإِنَّهَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ دَارٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ قَدْ آمَنُوا الرِّجَالَ الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَطْمُورَةِ. وَإِنَّمَا ظَنُّوا قِلَّةَ عَدَدِهِمْ. وَلَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الظَّنِّ، وَإِنَّمَا يُبْنَى عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ. فَكَانُوا جَمِيعًا آمَنِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 844 - وَإِنْ كَانَ لِأَقْصَى الْمَطْمُورَةِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ بَابٌ يَخْرُجُ إلَى أَعْلَى الْأَرْضِ فَهَاتَانِ مَطْمُورَتَانِ، بِاخْتِلَافِ الْمَدْخَلِ. بِمَنْزِلَةِ دَارٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَظِيمَةٍ، لِكُلِّ جَانِبٍ مِنْهَا بَابٌ، فَإِنَّهَا تُجْعَلُ فِي حُكْمِ دَارَيْنِ. - ثُمَّ الْأَمَانُ أَيْضًا وَقَعَ عَلَى الْمَطْمُورَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ وُجِدَ فِيهَا مِنْ الرِّجَالِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وُجِدَ فِي الْمَطْمُورَةِ الْأُخْرَى مِنْ الرِّجَالِ فَهُوَ فَيْءٌ. 1498 - فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ مِنْ الْمَطْمُورَةِ الْأُولَى لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى كَلَامِهِمْ. لِأَنَّهُمْ وُجِدُوا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْأَمَانِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِيمَا يَدَّعُونَ مِنْ الْأَمَانِ. إلَّا أَنْ يُعْرَفُوا بِأَعْيَانِهِمْ. بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً مِنْ قُرَى أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا فَهُمْ فَيْءٌ أَجْمَعُونَ إلَّا مِنْ عُرِفَ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ. - وَمَنْ وُجِدَ فِي الْمَطْمُورَةِ الْأُولَى، فَهُوَ آمِنٌ. لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي مَوْضِعِ الْأَمْنِ. إلَّا مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمَطْمُورَةِ الْأُخْرَى. بِمَنْزِلَةِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَخَلُوا قَرْيَةً مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَا سَبِيلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 845 لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى اسْتِرْقَاقِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، إلَّا مَنْ عُرِفَ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. - ثُمَّ إنْ كَانَ بَيْنَ الْمَطْمُورَتَيْنِ حَائِطٌ. وَعَلَيْهِ بَابٌ يَصِلُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، فَالْحَائِطُ هُوَ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَطْمُورَتَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَائِطٌ فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى مَوْضِعٍ يَنْقَطِعُ مِنْهُ وُصُولُ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ، فَمِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ تَفْتَرِقُ الْمَطْمُورَتَانِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ يَنْقَطِعُ مِنْهُ وُصُولُ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ فَهَذِهِ كُلُّهَا مَطْمُورَةٌ وَاحِدَةٌ. بِمَنْزِلَةِ مَدِينَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَهَا أَبْوَابٌ. فَإِنَّ بِاخْتِلَافِ الْأَبْوَابِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مَدِينَةً وَاحِدَةً. وَالْمَطَامِيرُ تَحْتَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبْنِيَةِ فَوْقَهَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ جَمِيعُ مَنْ فِيهَا مِنْ الرِّجَالِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 846 [بَابٌ مِنْ النَّفْلِ يُفَضَّلُ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالتَّقَدُّمِ] 93 - بَابٌ مِنْ النَّفْلِ يُفَضَّلُ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالتَّقَدُّمِ وَإِذَا وَقَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَابِ حِصْنٍ. فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ أَوَّلًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْؤُسٍ، وَلِلثَّانِي رَأْسَانِ، وَلِلثَّالِثِ رَأْسٌ. فَهَذَا تَنْفِيلٌ صَحِيحٌ حَصَلَ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ، بِحَسَبِ الْجَزَاءِ وَالْعَنَاءِ. فَعَنَاءُ الدَّاخِلِ أَوَّلًا (ص 278) أَكْثَرُ مِنْ عَنَاءِ الثَّانِي، وَعَنَاءُ الثَّانِي أَكْثَرُ مِنْ عَنَاءِ الثَّالِثِ. 1502 - فَإِذَا دَخَلَ ثَلَاثَةٌ تِبَاعًا كَانَ لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَرْؤُسٍ، وَلِلثَّانِي رَأْسَانِ، وَلِلثَّالِثِ رَأْسٌ. 1503 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْؤُسٍ، وَلِلثَّانِي رَأْسَانِ، وَلِلثَّالِثِ رَأْسٌ. لِأَنَّ بِالْعَطْفِ بِلَفْظِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ أَوَّلٌ، فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ. - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَيُّكُمْ دَخَلَ. لِأَنَّ أَيَّ كَلِمَةٍ جَمْعٍ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ. بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةِ مَنْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 847 - وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الثَّانِي وَالثَّالِثُ النَّفَلَ إذَا دَخَلُوا فِي الْفَصْلَيْنِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْخَوْفِ. فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ بَعْدَ زَوَالِ الْخَوْفِ فَلَا شَيْءَ لَهُ. 1506 - وَإِنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلَاثِ جَمِيعًا مَعًا بَطَلَ نَفْلُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي. وَإِنَّمَا لَهُمْ نَفْلُ الثَّالِثِ وَهُوَ رَأْسٌ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ، وَالثَّانِي اسْمٌ لِفَرْدٍ هُوَ تَالٍ لِلسَّابِقِ، وَالثَّالِثَ اسْمٌ لِفَرْدٍ هُوَ تَالٍ لِلسَّابِقِ وَالثَّانِي. هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ. وَلَكِنَّ مَقْصُودَ الْإِمَامِ التَّنْفِيلُ. بِحَسَبِ إظْهَارِ الْجَلَّادَةِ وَالْقُوَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْجَلَّادَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِدُخُولِ أَوَّلِ الْقَوْمِ لَا تَحْصُلُ إذَا دَخَلَ مَعَهُ اثْنَانِ. فَلِهَذَا يَبْطُلُ نَفْلُ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْجَلَّادَةِ بِدُخُولِهِ بَعْدَ وَاحِدٍ لَا يَحْصُلُ بِدُخُولِهِ مَعَ اثْنَيْنِ. فَأَمَّا مَا يَحْصُلُ بِدُخُولِهِ بَعْدَ اثْنَيْنِ يَحْصُلُ بِدُخُولِهِ مَعَهُمَا بِيَقِينٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا يَجِبُ نَفْلُ الثَّالِثِ. - ثُمَّ لَيْسَ أَحَدُهُمْ بِأَنْ يُجْعَلَ ثَالِثًا بِأَوْلَى مِنْ صَاحِبِيهِ، فَلِهَذَا كَانَ نَفْلُ الثَّالِثِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَا يُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ عَلَى أَنَّهُ ثَالِثٌ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِمَامَ أَوْجَبَ لِلثَّالِثِ رَأْسًا وَاحِدًا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْمَ الثَّالِثِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْفَرْدَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْإِيجَابُ بِهَذَا اللَّفْظِ عَامًّا أَوْ مُتَنَاوِلًا لَهُمْ جَمِيعًا. وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ. ثُمَّ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْمُسْتَحَقِّ بِاعْتِبَارِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 848 - وَلَوْ دَخَلَ اثْنَانِ مَعًا ثُمَّ ثَالِثٌ بَعْدَهُمَا بَطَلَ نَفْلُ الْأَوَّلِ. لِأَنَّهُ لَا أَوَّلَ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ لَهُمَا نَفْلُ الثَّانِي. وَذَلِكَ رَأْسَانِ. لِأَنَّ الثَّانِي فِيهِمَا يَتَعَيَّنُ، فَجَزَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الدُّخُولِ مَعَ صَاحِبِهِ أَظْهَرُ مِنْ جَزَائِهِ فِي الدُّخُولِ بَعْدَ صَاحِبِهِ. وَلِلثَّالِثِ رَأْسٌ. لِأَنَّهُ دَخَلَ بَعْدَ اثْنَيْنِ فَهُوَ الثَّالِثُ بِعَيْنِهِ. - وَلَوْ دَخَلَ اثْنَانِ مَعًا، ثُمَّ اثْنَانِ مَعًا، فَلِلْأَوَّلَيْنِ نَفْلُ الثَّانِي. لِمَا قُلْنَا. وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرَيْنِ. لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَ الثَّالِثِ رَابِعٌ. وَالثَّالِثُ اسْمٌ لِفَرْدٍ يَدْخُلُ بَعْدَ اثْنَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لِكَوْنِ صَاحِبِهِ مَعَهُ. 1510 - وَلَوْ دَخَلَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْقَوْمِ مَعًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ أَوَّلٌ وَلَا ثَانٍ وَلَا ثَالِثٌ، فَإِنَّ الرَّابِعَ مُزَاحِمٌ لَهُمْ. أَرَأَيْت لَوْ دَخَلَ عِشْرُونَ مَعًا، أَوْ دَخَلَ الْعَسْكَرُ جَمِيعًا مَعًا أَكَانُوا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 849 - وَلَوْ دَخَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَاحِدٌ، ثُمَّ اثْنَانِ، فَالدَّاخِلُ أَوَّلًا يَسْتَحِقُّ نَفْلَ الْأَوَّلِ. لِأَنَّهُ فَرْدٌ سَبَقَ بِالدُّخُولِ. وَبَطَلَ نَفْلُ الثَّانِي. لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الْآخَرَيْنِ. وَلَكِنْ لَهُمَا نَفْلُ الثَّالِثِ. لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الثَّالِثَ فِيهِمَا. - وَلَوْ دَخَلَ وَاحِدٌ ثُمَّ وَاحِدٌ ثُمَّ اثْنَانِ فَلَا شَيْءَ لِلْآخَرَيْنِ. لِأَنَّهُ لَا ثَالِثَ فِيهِمَا. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَابِعٌ مَعَ صَاحِبِهِ. وَالْإِمَامُ مَا أَوْجَبَ لِلرَّابِعِ شَيْئًا. - وَلَوْ صَمَدَ الْأَمِيرُ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقَالَ: لَسْت أَطْمَعُ فِي أَنْ تَدْخُلَ أَوَّلًا، وَلَكِنْ إنْ دَخَلَتْ ثَانِيًا فَلَكَ رَأْسَانِ. فَدَخَلَ أَوَّلَ الْقَوْمِ. فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ. لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا أَوْجَبَ لِلْأَوَّلِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُ التَّنْفِيلَ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ ثَانِيًا. وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الشَّرْطُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ رَأْسَانِ. لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ صَنَعَ مَا طَلَبَ الْإِمَامُ مِنْهُ وَزِيَادَةً فِي إظْهَارِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَّادَةِ. فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 850 لَسْت أَطْمَعُ فِي أَنْ تَدْخُلَ أَوَّلًا. يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ ثَانِيًا. وَإِنَّمَا مُرَادُهُ التَّحْرِيضُ عَلَى إظْهَارِ الْجِدِّ فِي الْقِتَالِ. وَقَدْ أَتَى بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ. - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، وَلَكِنْ قَالَ: إنْ دَخَلَتْ ثَانِيًا فَلَكَ رَأْسَانِ فَدَخَلَ أَوَّلًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. لِأَنَّ مَقْصُودَ الْإِمَامِ هَا هُنَا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ أَوَّلًا إبْقَاءً عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَقْتَحِمُ الْمَهَالِكَ، فَأَرَادَ أَنْ لَا يَدْخُلَ وَحْدَهُ حَتَّى يَدْخُلَ غَيْرُهُ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ، لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُ. فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ. ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا مُحْتَمَلٌ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا. وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْمُحْتَمَلِينَ إلَّا بِالدَّلِيلِ. وَقَدْ وُجِدَ الدَّلِيلُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَهُوَ الْمُقَدِّمَةُ الَّتِي جَرَتْ، وَلَمْ يُوجَدْ الدَّلِيلُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَيَبْقَى الِاحْتِمَالُ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ. - وَلَوْ دَخَلَ مَعَ آخَرَ فَلَهُ رَأْسَانِ. لِأَنَّهُ دَخَلَ ثَانِيًا كَمَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ. - وَلَوْ دَخَلَ ثَلَاثَةٌ هُوَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِإِيجَابِ النَّفْلِ لَهُ إذَا دَخَلَ ثَانِيًا، فَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَفْلًا إنْ دَخَلَ ثَالِثًا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ ثَالِثٌ فِي الدُّخُولِ إذَا دَخَلَ مَعَ اثْنَيْنِ، كَمَا هُوَ ثَالِثٌ إذَا دَخَلَ بَعْدَهُمَا. - وَلَوْ قَالَ لِلْقَوْمِ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ ثَانِيًا فَلَهُ رَأْسٌ. فَدَخَلَ وَاحِدٌ أَوَّلًا، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 851 لِأَنَّهُ أَوْجَبَ النَّفَلَ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ إنَّ مَعْنَى الْعَنَاءِ وَالْقُوَّةِ فِي الدُّخُولِ أَوَّلًا أَكْثَرُ. فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَتَى بِأَفْضَلَ مِمَّا كَانَ شُرِطَ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْإِيجَابُ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ الَّذِي رُتِّبَ الْإِيجَابُ عَلَيْهِ. أَرَأَيْت لَوْ اسْتَحَقَّ هَذَا النَّفَلَ لِأَنَّهُ صَنَعَ خَيْرًا مِمَّا طُلِبَ مِنْهُ. ثُمَّ دَخَلَ الثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ، هَلْ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؟ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ، لِأَنَّهُ أَتَى بِالْوَصْفِ الَّذِي أَوْجَبَ الْإِمَامُ النَّفَلَ بِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا كَانَ التَّنْفِيلُ لِمُعَيَّنٍ. - وَلَوْ قَالَ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ بِأَعْيَانِهِمْ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ أَوَّلًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْؤُسٍ. فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَعَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ. فَلِلدَّاخِلِ مِنْ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْؤُسٍ. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ النَّفَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الثَّلَاثَةِ دُخُولًا. لَا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ النَّاسِ دُخُولًا. وَهُوَ أَوَّلُ الثَّلَاثَةِ حِينَ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ صَاحِبَاهُ. فَلَا يَبْطُلُ نَفْلُهُ بِدُخُولِ قَوْمٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ. - وَلَوْ كَانَ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ قَبْلَ النَّاسِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْؤُسٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا. لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا بِالدُّخُولِ، سَابِقًا عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَلَمْ يُوجَدْ حِينَ دَخَلَ مَعَهُ غَيْرُهُ. وَفِي الْأَوَّلِ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 852 - وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ اثْنَانِ مِنْ الثَّلَاثَةِ مَعًا فِي هَذَا الْفَصْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَيْءٌ. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ النَّفَلَ لِفَرْدٍ يَسْبِقُ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِالدُّخُولِ وَلَمْ يُوجَدْ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْ الشُّبَّانِ أَوَّلًا فَلَهُ رَأْسَانِ، وَلِلثَّانِي رَأْسٌ. وَمَنْ دَخَلَ مِنْ الشُّيُوخِ أَوَّلًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْؤُسٍ، وَلِلثَّانِي رَأْسَانِ. فَدَخَلَ شَابٌّ وَشَيْخٌ مَعًا كَانَ لِلشَّابِّ رَأْسَانِ. لِأَنَّهُ أَوَّلُ شَابٍّ دَخَلَ. فَإِنَّ الَّذِي مَعَهُ لَيْسَ بِشَابٍّ، فَعَرَفْنَاهُ أَنَّهُ أَوَّلُ الشَّبَابِ دُخُولًا. وَلِلشَّيْخِ ثَلَاثَةُ أَرْؤُسٍ. لِأَنَّهُ أَوَّلُ الشُّيُوخِ دُخُولًا، وَاَلَّذِي مَعَهُ لَيْسَ بِشَيْخٍ. - وَلَوْ دَخَلَ شَابَّانِ وَشَيْخٌ فَلِلشَّيْخِ ثَلَاثَةُ أَرْؤُسٍ. لِأَنَّ أَوَّلَ شَيْخٍ دَخَلَ. وَبَطَلَ نَفْلُ الشَّابِّ الْأَوَّلِ (ص 280) . . لِأَنَّهُ لَا أَوَّلَ فِيهِمَا. فَصَاحِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُزَاحِمُهُ. وَلَكِنْ لَهُمَا نَفْلُ الثَّانِي رَأْسٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. لِأَنَّ فِيهِمَا الثَّانِيَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 853 وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ شَابَّانِ وَشَيْخَانِ مَعًا فَلِلشَّيْخَيْنِ أَيْضًا نَفْلُ الثَّانِي مِنْ الشُّيُوخِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُزَاحِمٌ لِصَاحِبِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِمَا أَوَّلُ شَيْخٍ دُخُولًا. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا. فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ دَخَلَ شَامِيٌّ فَلَهُ النَّفَلُ. لِأَنَّهُ أَوَّلُ شَامِيٍّ دَخَلَ، وَهُوَ الَّذِي شَرَطَهُ الْإِمَامُ. إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ فِي كَلَامِهِ أَوَّلُ النَّاسِ. فَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوَّلِ النَّاسِ دُخُولًا. - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْ الْأَحْرَارِ أَوَّلًا، أَوْ قَالَ: مِنْ أَوَّلِ النَّاسِ. أَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا، أَوْ قَالَ: أَوَّلُ النَّاسِ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ مُسْلِمٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ، فَاشْتَرَى نَصْرَانِيًّا، ثُمَّ اشْتَرَى مُسْلِمًا، عَتَقَ الْمُسْلِمُ. وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ مُسْلِمٍ أَشْتَرِيهِ أَوَّلُ الْعَبِيدِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَمْ يَعْتِقْ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْ عَبِيدِ الْأَتْرَاكِ أَوَّلًا الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ، فَدَخَلَ هِنْدِيٌّ ثُمَّ دَخَلَ تُرْكِيٌّ، عَتَقَ التُّرْكِيُّ. وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبِيدِي لَمْ يَعْتِقْ. وَكَانَ الْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 854 - وَلَوْ قَالَ: أَيُّ فَارِسٍ دَخَلَ أَوَّلًا فَلَهُ رَأْسٌ. فَدَخَلَ رَاجِلٌ ثُمَّ فَارِسٌ، كَانَ لَهُ النَّفَلُ. لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِأَوَّلِ فَارِسٍ يَدْخُلُ. وَهَذَا أَوَّلُ فَارِسٍ. وَإِنْ قَالَ: أَوَّلُ النَّاسِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوَّلِ دَاخِلٍ مِنْ النَّاسِ، فَالرَّاجِلُ الَّذِي دَخَلَ قَبْلَهُ مِنْ النَّاسِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَيُّ حَاسِرٍ دَخَلَ أَوَّلَ. فَدَخَلَ دَارِعٌ ثُمَّ حَاسِرٌ فَلَهُ النَّفَلُ. لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ الْحَسْرَ بِالتَّنْفِيلِ. وَهُوَ أَوَّلُ حَاسِرٍ دَخَلَ. بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَوَّلُ النَّاسِ. فَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَيُّ دَارِعٍ دَخَلَ أَوَّلًا. لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا الْقُوَّةَ فِي الْقِتَالِ. فَإِنَّ الدَّارِعَ يَعْمَلُ مَا لَا يَعْمَلُ الْحَاسِرُ، فَسَوَاءٌ دَخَلَ دَارِعٌ أَوْ حَاسِرٌ مَعًا، أَوْ دَخَلَ الدَّارِعُ بَعْدَ الْحَاسِرِ، فَلِلدَّارِعِ النَّفَلُ. إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ: أَوَّلُ النَّاسِ. 1527 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَيُّ نَاشِبٍ رَمَى أَوَّلَ، فَرَمَى نَابِلٌ ثُمَّ نَاشِبٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 855 لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ نَاشِبٍ رَمَى. إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ: أَوَّلُ النَّاسِ، فَحِينَئِذٍ لَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. - وَلَوْ قَالَ: أَيُّ فَارِسٍ دَخَلَ أَوَّلَ فَلَهُ رَأْسٌ، وَأَيُّ رَاجِلٍ دَخَلَ أَوَّلَ فَلَهُ رَأْسٌ. فَدَخَلَ فَارِسٌ وَرَاجِلٌ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسٌ، سَوَاءٌ دَخَلَا مَعًا أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ. لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَوَّلُ فَارِسٍ دَخَلَ، وَالْآخَرَ أَوَّلُ رَاجِلٍ دَخَلَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. 1529 - فَلَوْ دَخَلَ فَارِسَانِ وَرَاجِلَانِ مَعًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ. لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ، وَلَيْسَ فِي الْفَارِسَيْنِ فَرْدٌ سَابِقٌ مِنْ الْفُرْسَانِ وَلَا فِي الرَّاجِلَيْنِ فَرْدٌ مِنْ الرَّجَّالَةِ. 1530 - وَلَوْ قَالَ: أَيُّ فَارِسٍ أَوْ رَاجِلٍ دَخَلَ أَوَّلًا، فَدَخَلَ فَارِسٌ وَرَاجِلٌ مَعًا، لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا فَرْدٌ سَابِقٌ مُطْلَقٌ. وَقَوْلُهُ: أَيُّ فَارِسٍ أَوْ رَاجِلٍ، إنَّمَا يَتَنَاوَلُ فَرْدًا سَابِقًا مُطْلَقًا. بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَأَحَدُ الْكَلَامَيْنِ هُنَاكَ يَتَنَاوَلُ فَرْدًا سَابِقًا مُقَيَّدًا بِالْفُرْسَانِ خَاصَّةً، وَالْآخَرُ مُقَيَّدًا بِالرَّجَّالَةِ خَاصَّةً. وَعَلَى هَذَا مِثْلُهُ الشَّامِيُّ وَالْخُرَاسَانِيُّ. - وَلَوْ قَالَ: لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلَ فَلَهُ رَأْسٌ، فَدَخَلَ خَمْسَةٌ مَعًا. فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 856 لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تَجْمَعُ الْأَسْمَاءَ عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ فَعِنْدَ ذِكْرِهِ يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّاخِلِينَ، كَأَنَّ اللَّفْظَ تَنَاوَلَهُ خَاصَّةً، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ. 1532 - وَلَوْ دَخَلُوا مُتَوَاتِرِينَ كَانَ لِلْأَوَّلِ النَّفَلُ خَاصَّةً. لِأَنَّ كُلَّ الدَّاخِلِ أَوَّلًا هُوَ. فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ بَعْدَهُ لَيْسَ بِأَوَّلٍ حِينَ سَبَقَهُ غَيْرُهُ بِالدُّخُولِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْبِقْ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَهُ بِالدُّخُولِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا هُوَ مُوجِبُ كَلِمَةِ كُلٍّ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوَّلَ دَاخِلٍ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ أَوَّلَ. فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا دَخَلَ الْخَمْسَةُ مَعًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ. لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ تُوجِبُ عُمُومَ الْجِنْسِ، وَلَا تُوجِبُ إفْرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ (ص 281) مِنْ الدَّاخِلِينَ. كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. وَعَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُمُومِ لَيْسَ فِيهِمْ أَوَّلُ. فَأَمَّا كَلِمَةُ كُلٍّ فَتُوجِبُ تَنَاوُلَ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ رَجُلٍ دَخَلَ أَوَّلَ. فَدَخَلَ خَمْسَةٌ مَعًا، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ. وَكَلِمَةُ كُلٍّ قَدْ تُوجِبُ الْعُمُومَ أَيْضًا. وَلَكِنْ لَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ لَمْ يَبْقَ لَهَا فَائِدَةٌ. لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ. وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا زِيَادَةُ فَائِدَةٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا مَا قُلْنَا. وَهُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْجَمْعَ فِي كُلِّ دَاخِلٍ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ، عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ. وَهَذَا بِخِلَافِ كَلِمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 857 أَيُّ. فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ الْجَمْعَ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الْعُمُومَ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَيُّ رَجُلٍ دَخَلَ أَوَّلَ، وَقَوْلُهُ: مَنْ دَخَلَ أَوَّلًا سَوَاءٌ، حَتَّى إذَا دَخَلَ خَمْسَةٌ مَعًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ. - وَلَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ أَوَّلَ. فَدَخَلَ خَمْسَةٌ مَعًا. فَلَهُمْ رَأْسُ وَاحِدٍ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوِيَّةِ. لِأَنَّ مَا أُلْحِقَ بِكَلِمَةِ مَنْ هَا هُنَا يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ دُونَ الْإِفْرَادِ، فَيَصِيرُ بِاعْتِبَارِهِ جَمِيعُ الدَّاخِلِينَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُمْ أَوَّلُ. فَلَهُمْ رَأْسٌ وَاحِدٌ. فَكَلِمَةُ كُلُّ تَقْتَضِي الْجَمْعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ، فَيُجْعَلُ بِاعْتِبَارِهَا كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّاخِلِينَ تَنَاوَلَهُ الْإِيجَابُ خَاصَّةً. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ خَامِسًا فَلَهُ رَأْسٌ. فَدَخَلَ خَمْسَةٌ مَعًا. فَلَهُمْ رَأْسٌ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا. لِأَنَّ الْخَامِسَ فِيهِمْ بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ بِالنَّفْلِ الَّذِي أَوْجَبَهُ لِلْخَامِسِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ. 1535 - وَإِنْ دَخَلُوا مُتَوَاتِرِينَ فَالرَّأْسُ لِلْخَامِسِ خَاصَّةً. لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالِاسْمِ الَّذِي أَوْجَبَ النَّفَلَ لَهُ لَا مُزَاحَمَةً مَعَهُ فِيهِ لِمَنْ سَبَقَهُ بِالدُّخُولِ. 1536 - وَإِنْ دَخَلَ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اثْنَانِ فَالرَّأْسُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ. لِأَنَّ الْخَامِسَ فِيهِمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ. 1537 - وَإِنْ دَخَلَ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 858 لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَادِسٌ، دَاخِلٌ بِانْضِمَامِ صَاحِبَيْهِ إلَيْهِ، وَمَا أَوْجَبَ النَّفَلَ لِلسَّادِسِ. - وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ خَامِسًا. فَدَخَلَ خَمْسَةٌ مُتَوَاتِرَيْنِ. كَانَ النَّفَلُ لِلْخَامِسِ. لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِاسْمِ الْخَامِسِ حِينَ سَبَقَهُ أَرْبَعَةٌ بِالدُّخُولِ. 1539 - وَإِنْ دَخَلَ الْخَمْسَةُ مَعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ. لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلُّ تُوجِبُ الْجَمْعَ عَلَى وَجْهِ الْإِفْرَادِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَامِسًا لِوُجُودِ الْأَرْبَعَةِ مَعَهُ، كَمَا يَكُونُ خَامِسًا إنْ دَخَلُوا قَبْلَهُ. - وَلَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ خَامِسًا. فَدَخَلَ خَمْسَةٌ مَعًا. كَانَ لَهُمْ رَأْسٌ وَاحِدٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُوجِبُ إفْرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُمْ الْإِيجَابُ جُمْلَةً. وَذَلِكَ رَأْسٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمْ، بِخِلَافِ كَلِمَةِ كُلُّ. - وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ خَامِسًا فَلَهُ رَأْسٌ. فَدَخَلَ خَمْسَةٌ مَعًا، ثُمَّ خَمْسَةٌ مَعًا، وَالْخَوْفُ قَائِمٌ عَلَى حَالِهِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ حَتَّى يَأْخُذُوا عَشَرَةَ أَرْؤُسٍ. لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: كُلُّ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ خَامِسُ خَمْسَةٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقِ الثَّانِي خَامِسُ خَمْسَةٍ. وَإِنَّمَا جَعَلْنَا تَقْدِيرَ كَلَامِهِ هَذَا لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْخَامِسِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْخَامِسُ إلَّا فِي خَمْسَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 859 وَلَوْ دَخَلَ أَرْبَعَةٌ ثُمَّ دَخَلَ اثْنَانِ مَعًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمْ شَيْءٌ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ سَادِسُ سِتَّةٍ. 1543 - فَإِنْ دَخَلَ اثْنَانِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعًا، ثُمَّ دَخَلَ وَاحِدٌ. فَلِهَذَا الْآخَرِ النَّفَلُ. لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأُولَى لَا يُحْتَسَبُ لَهُمْ إذْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُمْ خَامِسٌ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ دُخُولِهِمْ، بَقِيَ اثْنَانِ ثُمَّ اثْنَانِ ثُمَّ وَاحِدٌ، فَهَذَا الْوَاحِدُ خَامِسُ خَمْسَةٍ، فَلَهُ النَّفَلُ. 1544 - وَلَوْ دَخَلَ أَرْبَعَةٌ مَعًا فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ خَمْسَةٌ مَعًا. كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَمْسَةِ رَأْسٌ. لِأَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِالْأَرْبَعَةِ لِمَا بَيَّنَّا. فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ دُخُولِهِمْ صَارَ كَأَنَّ الْخَمْسَةَ دَخَلُوا ابْتِدَاءً، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَامِسُ خَمْسَةٍ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ عَاشِرًا، فَدَخَلَ تِسْعَةٌ مَعًا، أَوْ مُتَوَاتِرَيْنِ. ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمْ اثْنَانِ، لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ لَا عَاشِرَ فِيهِمْ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ مَعَ أَصْحَابِهِ وَاحِدٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ، لَا مِنْ عَشْرَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا دَخَلَ تِسْعَةٌ مَعًا، فَأَمَّا إذَا دَخَلُوا مُتَوَاتِرِينَ (ص 282) فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْأَوَّلِ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ عَشْرَةٍ كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْأَرْبَعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 860 قُلْنَا: فَعَلْنَا فِي الْأَرْبَعَةِ ذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي تَأَخَّرَ دُخُولُهُ وَحْدَهُ فَيَكُونُ خَامِسَ خَمْسَةٍ. فَأَمَّا هَا هُنَا فَإِنَّمَا دَخَلَ اثْنَانِ مَعًا آخِرًا، وَكَمَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ عَاشِرِ الْعَشَرَةِ مِنْهُمْ بِإِلْغَاءِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِإِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَيْسَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. - فَإِنْ دَخَلَ بَعْدَ الِاثْنَيْنِ ثَمَانِيَةٌ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّمَانِيَةِ رَأْسٌ. لِأَنَّ التِّسْعَةَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُمْ حِينَ لَمْ يَجِئْ بَعْدَهُمْ الْعَاشِرُ. بَقِيَ اثْنَانِ ثُمَّ ثَمَانِيَةٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّمَانِيَةِ عَاشِرُ عَشْرَةٍ. - وَلَوْ دَخَلَ بَعْدَ الِاثْنَيْنِ عَشَرَةٌ مَعًا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَشَرَةِ رَأْسٌ. لِأَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الِاثْنَيْنِ هَا هُنَا كَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِسْعَةٍ؛ يَبْقَى دُخُولُ الْعَشَرَةِ مَعًا، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَاشِرُ عَشَرَةٍ. فَيَسْتَحِقُّ النَّفَلَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 861 [بَابٌ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَالنَّفَلِ فِيهِ] 94 - بَابٌ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَالنَّفَلِ فِيهِ 1548 - وَلَوْ أَقَامَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَطْمُورَةٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، فَقَالَ الْأَمِيرُ: كُلُّ رَجُلٍ يَحْفَظُ الْمَطْمُورَةَ اللَّيْلَةَ حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْهَا الْعَدُوُّ فَلَهُ دِينَارٌ. وَأَقَامَ عَلَيْهَا مِائَةُ رَجُلٍ حَتَّى أَصْبَحُوا. فَإِنْ كَانَ الدِّينَارُ جَعَلَهُ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِمَّا يُصِيبُونَ مِنْ الْمَطْمُورَةِ فَهُوَ نَفْلٌ صَحِيحٌ. لِأَنَّ أَهْلَ الْمَطْمُورَةِ مُمْتَنِعُونَ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّحْرِيضِ عَلَى حِفْظِهِمْ بِالتَّنْفِيلِ مَاسَّةٌ، وَحِفْظُهُمْ حَتَّى لَا يَهْرُبُوا مِنْ الْجِهَادِ. فَلِهَذَا صَحَّ التَّنْفِيلُ. 1549 - وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ جَعَلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ الْغَنَائِمِ الَّتِي أَصَابَهَا الْمُسْلِمُونَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ لَهُمْ بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ. فَإِنَّ التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَا يَجُوزُ وَلَا بِطَرِيقِ الْأُجْرَةِ. لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ الْجِهَادِ. وَاسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْجِهَادِ بَاطِلٌ. وَهَذَا لِأَنَّهُمْ عَلَى عَمَلِ الْجِهَادِ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّونَ الْأَجْرَ مَعَ ذَلِكَ؟ وَلِأَنَّ الْجِهَادَ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، فَكُلُّ مَنْ بَاشَرَهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا فَرْضًا. وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرْضِ بَاطِلٌ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الصَّلَاةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 862 1550 - وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْأَمِيرُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ يُعْطِيهِمْ ذَلِكَ فَهَذَا تَنْفِيلٌ صَحِيحٌ مِنْ الْمَطْمُورَةِ. لِأَنَّ مُطْلَقَ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ شَرْعًا لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ بَاطِلًا شَرْعًا. 1551 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَطْمُورَةِ مُقَاتَلَةٌ، وَإِنَّمَا فِيهَا الذَّرَارِيُّ وَالْأَمْوَالُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارٌ فِي الْغَنِيمَةِ هَا هُنَا. لِأَنَّ حِفْظَهُمْ لَيْسَ بِجِهَادٍ هَا هُنَا، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ، بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ الْأَمِيرِ وَأَقَامَ الْعَمَلَ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ مَقَالَتَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ. لِأَنَّهُ مَا أَقَامَ الْعَمَلَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ حِينَ لَمْ يَسْمَعْ بِمَقَالَةِ الْأَمِيرِ. وَإِنَّمَا هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ سَاقَ هَذِهِ الْأَرْمَاكَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَهُ دِينَارٌ. فَسَاقَهَا قَوْمٌ سَمِعُوا مَقَالَتَهُ. فَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُجْرَةُ دِينَارٍ، يَبْدَأُ بِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ كُلِّ نَفْلٍ وَقِسْمَةٍ. وَإِنْ ذَهَبَتْ الْغَنَائِمُ كُلُّهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأُجَرَاءِ عَلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ مِنْهُ لِمَنْفَعَةِ الْغَانِمِينَ، فَإِنَّمَا أَجْرُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَالْإِمَامُ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلْعَهْدِ، فَلَا يَلْزَمُهُ إذًا شَيْءٌ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 863 وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَنِيمَةِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهِمْ مُقَيَّدَةٌ بِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْإِضْرَارِ بِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا الْغَنِيمَةَ بَعْدُ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأُسَارَى، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْبَدَلُ عَلَيْهِمْ بِالْعَقْدِ إذَا سَلَّمَ الْعَمَلَ إلَيْهِمْ. وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا بِالتَّسْلِيمِ (ص 283) إلَى مُلْكِهِمْ. - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ مَنْ نَصَبَ رِمَاحَ الْمُسْلِمِينَ حَوْلَ الْعَسْكَرِ فَلَهُ دِينَارٌ. فَفَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْحَرْبِ، وَلَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْإِمَامِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ. 1553 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ نَصَبَ رُمْحَهُ فَلَهُ دِينَارٌ أَجْرًا لَهُ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. لِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ فِيهِ أَجِيرًا لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ نَصْبَ رُمْحِهِ مِنْ عَمَلِ الْحَرْبِ كَالطَّعْنِ بِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ. بِخِلَافِ نَصْبِ رِمَاحِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. - وَلَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا وَجَاءَ بِرَأْسِهِ فَلَهُ دِينَارٌ. فَهَذَا تَنْفِيلٌ صَحِيحٌ، وَيُعْطَى الدِّينَارَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْغَنَائِمِ الَّتِي تُصَابُ بَعْدَ هَذَا، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ. فَأَمَّا مِمَّا أُحْرِزَ مِنْ الْغَنَائِمِ قَبْلَ هَذَا فَلَا. لِأَنَّهُ لَا تَنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ. فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الدِّينَارَ مِنْ ذَلِكَ نَفْلًا وَلَا أُجْرَةً، لِأَنَّ قَتْلَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْجِهَادِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 864 1555 - وَكَمَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ التُّجَّارِ وَالْعَبِيدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ مِنْ الْجِهَادِ أَيْضًا، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ التَّاجِرُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ السَّهْمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالْعَبْدُ الرَّضْخَ. 1556 - وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ الْإِمَامُ وَأَوْجَبَ لَهُمْ مَالًا مَعْلُومًا عَلَى عَمَلٍ مِنْ ذَلِكَ مَعْلُومٍ فَلَهُمْ الْأَجْرُ. لِأَنَّ فِعْلَهُمْ لَيْسَ بِجِهَادٍ، فَإِنَّ الْجِهَادَ يُنَالُ بِهِ الثَّوَابُ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ. وَالْجِهَادُ مَا يَتَقَرَّبُ الْعَبْدُ بِهِ إلَى رَبِّهِ، وَهُمْ لَا يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ. بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ خَرَجَ بِآخَرَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَدِيلًا عَنْ إنْسَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ. لِأَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُتَقَرِّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ الْأَجْرُ عَلَى غَيْرِهِ. وَعِنْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ السَّهْمُ يَكُونُ لَهُ دُونَ مَنْ اسْتَأْجَرَهُ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ: الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْجِهَادِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ، وَعَلَى الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 865 - وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا، وَلِأَهْلِ الْحِصْنِ مَلَاعِبُ وَكَنَائِسُ خَارِجَ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ. فَاسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ عَلَى تَخْرِيبِهَا قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّ تَخْرِيبَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَحْتَاجُ فِي التَّخْرِيبِ إلَى قِتَالٍ. 1558 - بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُمْ عَلَى تَخْرِيبِ حِصْنٍ أَهْلُهُ مُمْتَنِعُونَ فِيهِ أَوْ كَسْرِ بَابٍ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ يَحْتَاجُ فِي إقَامَتِهِ إلَى الْقِتَالِ. - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَقْبَلُوا فِي سُفُنِهِمْ يُرِيدُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَحْرَارِهِمْ، أَوْ عَبِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ كُفَّارًا أَوْ مُسْلِمِينَ، يَرْمُونَهُمْ بِالْمُحَرِّقَاتِ فَلَا أَجْرَ لَهُمْ. لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ. وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ دَيْنُ الْمَوْلَى لَا دَيْنُ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَكُونُ مُجَاهِدًا بِعَبِيدِهِ كَمَا يَكُونُ مُجَاهِدًا بِفَرَسِهِ. وَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ نَفْلًا لَهُمْ مِمَّا يُصِيبُونَ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا فِي الْبَرِّ يَرْمُونَ بِالْمَجَانِيقِ الْحُصُونَ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى ذَلِكَ جَازَ. لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَيْسَ بِجِهَادٍ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 866 - وَلَوْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَجْذِفُونَ بِهِمْ فِي الْبَحْرِ فَهَذَا جَائِزٌ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ، وَهُوَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إذَا لَقُوا الْعَدُوَّ أَوْ لَمْ يَلْقَوْهُمْ، وَأَنَّ الْمَلَّاحِينَ يَأْخُذُونَ الْأَجْرَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ. - وَلَوْ ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِغَنَائِمَ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَيْسَ مَعَهَا مَنْ يَمْنَعُهَا. فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ جَمَعَهَا فَلَهُ دِينَارٌ. فَهَذَا جَائِزٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ. فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ. - وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مُسْلِمًا بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ لِيَبِيعَهَا فَهَذِهِ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ (ص 284) ، إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُدَّةَ فَيَقُولُ: اسْتَأْجَرْتُكَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ بِكَذَا لِتَبِيعَ الْغَنَائِمَ. لِأَنَّ عِنْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ، الْعَقْدُ يَتَنَاوَلُ مَنَافِعَهُ. وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ، بَاعَ أَوْ لَمْ يَبِعْ. وَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَقَدْ يَتِمُّ الْبَيْعُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ لَا يَتِمَّ بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ. فَكَذَلِكَ لَا يَتَهَيَّأُ مِنْهُ الْبَيْعُ بِدُونِ مُسَاعِدَةِ الْمُشْتَرِي، فَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْبَيْعِ فَاسِدًا. وَلَيْسَ هَذَا فِيمَنْ يَبِيعُ الْغَنَائِمَ خَاصَّةً، وَلَكِنْ فِي جَمِيعِ الْبَاعَةِ الْحُكْمُ هَكَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 867 - وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ يَتِمُّ بِالْقِسَامِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ. عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاسِمٌ يُقَسِّمُ بِالْأَجْرِ. وَيَسْتَوِي أَنْ يُبَيِّنَ الْمُدَّةَ هَا هُنَا أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ. لِأَنَّ الْعَمَلَ مَعْلُومٌ بِنَفْسِهِ. ثُمَّ يَبْدَأُ بِأَجْرِهِ قَبْلَ النَّفْلِ وَالْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ، وَقِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ كَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ. وَالنَّفَلُ فِيهِ كَالْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمَا. 1565 - فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ نَظَرَ. فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا مِقْدَارَ أَجْرِ مِثْلِهِ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ نَاظِرٌ. فَتَتَقَيَّدُ وِلَايَتُهُ بِشَرْطِ النَّظَرِ، كَوِلَايَةِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِلْيَتِيمِ. 1566 - فَإِنْ اسْتَرَدَّ مِنْهُ الْفَضْلَ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ. فَقَالَ الْأَجِيرُ: أَنَا أَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَنِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مَا عَقَدَ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا عَقَدَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ مِنْهُ. إلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ الْعُهْدَةِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 868 بِالِاسْتِئْجَارِ، فَإِنَّهُ إذَا بَاشَرَ الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ فَذَلِكَ كُلُّهُ لَازِمٌ عَلَيْهِ، لَيْسَ عَلَى الْأَمِيرِ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ صَارَ مُخَالِفًا بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ فِي الِاسْتِئْجَارِ فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ، وَأَمَّا الْأَمِيرُ فَالْعَقْدُ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ الْأَمِيرُ هَا هُنَا الْقَاضِي إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَعْمَلُ لِلْيَتِيمِ عَمَلًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَإِذَا فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّهُ يُعْطِي الْأَجِيرَ أَجْرَ مِثْلِهِ وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ عَلَى الْيَتِيمِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاضِي، لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُ مِنْهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ مِنْهُ. 1567 - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ وَالْقَاضِي: فَعَلْنَا ذَلِكَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ. فَجَمِيعُ الْأَجْرِ عَلَيْهِمَا فِي مَالَيْهِمَا. قَالَ: لِأَنَّهُمَا تَعَمَّدَا الْجَوْرَ فَصَارَا فِيهِ غَيْرَ حَاكِمَيْنِ. وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْعَزِلُ بِالْجَوْرِ. وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبٍ لَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا أَمْلَيْنَا مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ " فِي بَابِ التَّحْكِيمِ. وَإِنَّمَا تَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ هَا هُنَا أَنَّ حُكْمَهُ إنَّمَا يَنْفُذُ إذَا صَدَرَ عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهَذَا الْحُكْمُ خَلَا عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِغَيْرِ حُجَّةٍ، أَوْ قَضَى بِرَأْيِهِ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ. لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ. وَهُوَ قَاضٍ عَلَى حَالِهِ. فَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ نَفَذَ عَقْدُهُ عَلَيْهِ، عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ يَنْفُذُ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَغُرْمُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَضَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ اللَّهِ فَخَطَؤُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَإِنْ قَالَ: تَعَمَّدْتُ ذَلِكَ كَانَ الْغُرْمُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. فَكَذَا مَا صَنَعَهُ الْأَمِيرُ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ذَلِكَ. - وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَمِيرُ قَوْمًا يَسُوقُونَ الْأَرْمَاكَ، فَسَاقُوهَا فَعَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ سِيَاقِهِمْ، أَوْ هَلَكَتْ فِي أَيْدِيهِمْ. فَإِنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 869 ذَلِكَ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِعَمَلِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ عَمَلِهِمْ. لِأَنَّهُمْ لَوْ اسْتَهْلَكُوا الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ (ص 285) لَمْ يَضْمَنُوهَا، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَتَأَكَّدْ فِيهَا لِلْغَانِمَيْنِ بَعْدُ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا وَصَلُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَحَالُهُمْ كَحَالِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ " أَنَّ مَا تَلِفَ فِي يَدِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ تَلِفَ بِسَبَبٍ يَتَأَتَّى الِاحْتِرَازُ عَنْهُ أَوْ لَا يَتَأَتَّى. وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ لَهُ، إلَّا أَنْ يَتْلَفَ بِسَبَبٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. وَمَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ يَدِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ، فَهَا هُنَا أَيْضًا مَا عَطِبَ بِسِيَاقِهِمْ أَوْ بِتَنَاطُحِهَا فَذَلِكَ مِنْ جِنَايَةِ يَدِ الْأُجَرَاءِ، فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ قِيمَةِ ذَلِكَ. وَلَكِنْ إنَّمَا يَضْمَنُونَ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَلِفَ فِيهِ، وَيَكُونُ لَهُمْ الْأَجْرُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. بِخِلَافِ الْقَصَّارِ وَغَيْرِهِ، فَهُنَاكَ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ مَتَاعِهِ غَيْرَ مَعْمُولٍ، وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَعْمُولًا وَلَهُ الْأَجْرُ. لِأَنَّ هُنَاكَ فَسْخُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْعَاقِدِ مُمْكِنٌ. فَإِنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَجِيرِ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَأَتَّى، لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ عِنْدَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا. فَأَمَّا هُنَا لَا يُمْكِنُ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ التَّسْلِيمِ إلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ اسْتَهْلَكُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَضْمَنُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 870 شَيْئًا. فَلَا بُدَّ مِنْ إبْقَاءِ الْعَقْدِ بِقَدْرِ مَا أَوْفَوْا مِنْ الْعَمَلِ، لِيَتَأَتَّى إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ. فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ الْأَجْرُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ هَذَا الْفَرْقُ لَهُمَا فِيمَا يَتْلَفُ بِغَيْرِ صُنْعِهِمْ فِيمَا يَتَأَتَّى الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. وَلَوْ تَلِفَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ لِمَا قُلْنَا، وَلَكِنْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ تَلِفَ بِغَيْرِ صُنْعِهِمْ فَلَهُمْ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا أَتْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ. لِأَنَّهُمْ مَا صَارُوا مُسْتَرِدِّينَ لِمَا سَلَّمُوا حِينَ هَلَكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِمْ. وَإِنْ هَلَكَ بِصُنْعِهِمْ فَلَا أَجْرَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا كَالْمُسْتَرَدِّينَ لِلْعَمَلِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْغَانِمِينَ بِعَمَلِهِمْ شَيْءٌ حِينَ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ أَيْضًا لَهُمْ. بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَبَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالضَّمَانُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ هَا هُنَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَمَلَ قَدْ سَلِمَ لِلْغَانِمِينَ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا أَجْرَ لَهُمْ فِيمَا يَتْلَفُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ صُنْعِهِمْ أَيْضًا، لِأَنَّهُ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ يَكُونُ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ حُكْمًا، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ضَمِنُوا قِيمَتَهُ. فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَثْبُتُ اسْتِرْدَادُ مَا أَقَامُوا مِنْ الْعَمَلِ حُكْمًا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ الْأَجْرُ عَلَى ذَلِكَ. وَشُبِّهَ هَذَا بِمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَحْمِلُ لَهُ جُلُودَ مَيْتَةٍ لِيَدْبَغَهَا. فَحَمَلَهَا، فَعَثَرَ فِي الطَّرِيقِ فَسَقَطَتْ فَاحْتَرَقَتْ، أَوْ أَحْرَقَهَا الَّذِي حَمَلَهَا بِالنَّارِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَا أَجْرَ لَهُ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِعَمَلِهِ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْإِتْلَافِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ. فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْغَنَائِمِ فِيمَا وَصَفْنَا إذَا تَلِفَ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَيْءٌ مِنْهَا. بِصُنْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ. 1569 - وَإِنْ كَانَ أَخَذَ الْعَدُوُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُجَاهَرَةً فَلَهُمْ الْأَجْرُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 871 لِأَنَّ التَّلَفَ هَا هُنَا حَصَلَ بِمَا لَا يَتَأَتَّى لَهُمْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. فَلَا يَكُونُوا بِهِ مُسْتَرِدِّينَ لِمَا أَقَامُوا، إلَّا أَنَّهُمْ إذَا ادَّعَوْا ذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ الْيَمِينِ. لِأَنَّ أَصْلَ قَبْضِهِمْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ عِنْدَهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ. وَعِنْدَهُمَا لَا يُصَدَّقُونَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. لِأَنَّ قَبْضَهُمْ (ص 286) قَبْضُ ضَمَانٍ عِنْدَهُمَا. وَلِهَذَا لَوْ تَلِفَ بَعْدَ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانُوا ضَامِنِينَ، وَالضَّامِنُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ. - وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ رَجُلًا يَحْمِلُ رَقِيقًا وَسَبْيًا مِنْ الْغَنِيمَةِ، صِغَارًا أَوْ كِبَارًا، عَلَى دَوَابِّهِ، إلَى مَكَان مَعْلُومٍ، فَحَمَلَهُمْ. فَعَطَبُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ سِيَاقِهِ أَوْ لَا مِنْ سِيَاقِهِ، بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ أَوْ بِمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. 1571 - وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ جِهَتِهِ اسْتِهْلَاكٌ أَوْ تَضْيِيعٌ أَوْ عُنْفٌ فِي سَوْقِ الدَّابَّةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَحْمُولُ مَتَاعًا سِوَى بَنِي آدَمَ، فَهُنَاكَ يَضْمَنُ مَا عَطِبَ مِنْ سِيَاقِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ فِي الْآدَمِيِّ ضَمَانُ جِنَايَةٍ. وَهُوَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ الْعَقْدِ. وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ فِي ضَمَانٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ الْعَقْدِ. بِخِلَافِ ضَمَانِ الْأَمْتِعَةِ. وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُسْلِمًا إلَى الرَّاكِبِ إذَا كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ فَيَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِ الْأَجِيرِ، بِخِلَافِ الْأَمْتِعَةِ. ثُمَّ يَكُونُ لَهُ الْأَجْرُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي حَمَلَهُمْ إلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 872 لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مُسْلِمًا إلَى مَنْ أَمَرَ الْمُسْتَأْجِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَرِدًّا شَيْئًا. 1572 - وَأَمَّا إذَا عَنُفَ عَلَيْهِمْ فِي السَّوْقِ، أَوْ اسْتَهْلَكَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ لِلْغَانِمِينَ. وَلَا أَجْرَ لَهُ. لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِمَا سَلَّمَ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ فِعْلِ الِاسْتِهْلَاكِ. وَالْأَمِيرُ يُؤَدِّبُهُ فِيمَا صَنَعَ. لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِإِتْلَافِ مَا ثَبَتَ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهِ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَةَ مَا اسْتَهْلَكَ. لِتَأَكُّدِ الْحَقِّ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ. وَلَهُ الْأَجْرُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي حَمَلَهُمْ إلَيْهِ. لِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَذَلِكَ يُقَرِّرُ تَسْلِيمَهُ لَا أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَرِدًّا. إلَّا الرِّجَالَ مِنْ الْأُسَرَاءِ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِمْ. لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِمْ لَا يَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ؟ فَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَفِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءً، وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي حِمْلَانِهِمْ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِعَمَلِهِ فِي حَمْلِهِمْ حَتَّى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 873 - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا مُيَاوَمَةً أَوْ مُشَاهَرَةً لِسَوْقِ الْأَرْمَاكِ فَهُوَ جَائِزٌ. لِأَنَّهُ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ. ثُمَّ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ هَا هُنَا فِيمَا يَعْطَبُ مِنْ سِيَاقِهِ أَوْ لَا مِنْ سِيَاقِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُ أَجِيرُ الْوَحْدِ، وَأَجِيرُ الْوَحْدِ لَا يَضْمَنُ مَا جَنَتْ يَدُهُ إذَا كَانَ فِعْلُهُ حَاصِلًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ النَّفْسَ فِي الْمُدَّةِ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ وَمَنَافِعَهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ؟ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ سَلَامَةِ الْعَمَلِ عَنْ الْعَيْبِ. بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. 1574 - فَإِنْ عَنُفُوا فِي السُّوقِ أَوْ اسْتَهْلِكُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانُوا ضَامِنِينَ. لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُمْ بَعْدَ تَأَكُّدِ الْحَقِّ. وَلَهُمْ أُجُورُهُمْ لِمَا مَضَى. لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ الْأَجْرُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الْمُدَّةِ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُمْ بِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُمْ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْأَمِيرِ هُنَا أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِمْ أَرْمَاكًا بَعْدَ أَرْمَاكٍ بِقَدْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 874 مَا يُطِيقُونَ، وَلَوْ مَاتَ بَعْضُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَخْلُفَ مَكَانَهَا مِثْلُهَا، وَفِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ يَتَنَاوَلُ الْعَمَلَ، وَبِقَضِيَّةِ الْمُفَاوَضَةِ (ص 278) تَثْبُتُ صِفَةُ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ. وَهَا هُنَا الْعَقْدُ يَتَنَاوَلُ الْمَنْفَعَةَ دُونَ الْعَمَلِ. - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ لِمُسْلِمٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ: إنْ قَتَلْت ذَلِكَ الْفَارِسَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَكَ عَلَيَّ أَجْرُ مِائَةٍ دِينَارٍ. فَقَتَلَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ. لِأَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِالْأَجْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى التَّنْفِيلِ. وَالْفِعْلُ الَّذِي حَرَّضَهُ عَلَيْهِ جِهَادٌ. وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْجِهَادِ لَا يَجُوزُ. 1576 - وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلذِّمِّيِّ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْقَتْلِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ. حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ وَلِيُّ الدَّمِ رَجُلًا لِيَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ عِنْدَهُمَا. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ يُقَدَّرُ الْأَجِيرُ عَلَى إقَامَتِهِ. فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَذَبْحِ الشَّاةِ، وَقَطْعِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ. فَإِنَّ الْإِمَامَ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ أَوْ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ الْوَصْفِ أَنَّ الْقَتْلَ يَكُونُ بِجَزِّ الرَّقَبَةِ، وَفِي قُدْرَةِ الْأَجِيرِ عَلَى ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ إبَانَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْبَدَنِ وَبَيْنَ إبَانَةِ الطَّرَفِ مِنْ الْجُمْلَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِزَهُوقِ الرُّوحِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 875 وَذَلِكَ مُصَانٌ عَنْ مَحِلِّ قُدْرَتِهِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ عَمَلِهِ، بِمَنْزِلَةِ حُصُولِ الْوَلَدِ. وَنَبَاتِ الزَّرْعِ، وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِكَسْبِهِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلَهُ الضَّرْبَ بِالسَّيْفِ، وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ الْقَتْلُ بِهِ؟ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى مَنَافِعِهِ، أَوْ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ عَمَلِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الذَّبْحِ. لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ هُنَاكَ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ يُمَيِّزُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ، وَذَلِكَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ. وَكَذَلِكَ قَطْعُ الْأَطْرَافِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنْ إزْهَاقِ الرُّوحِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّهُ فَصْلُ الْجُزْءِ مِنْ الْجُمْلَةِ. وَهَذَا مِنْ عَمَلِهِ بِمَنْزِلَةِ قَطْعِ الْحَبْلِ وَالْخَشَبَةِ. - وَلَوْ كَانَ الْأُسَرَاءُ قَتْلَى. فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَطَعَ رُءُوسَهُمْ فَلَهُ أَجْرُ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ وَهُوَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ فِي مَحِلِّ قُدْرَةِ الْأَجِيرِ. فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ عَلَيْهِ كَقَطْعِ الْخَشَبَةِ أَوْ الْحَبْلِ. - وَلَوْ نَظَرَ الْأَمِيرُ إلَى فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَالَ لِمُسْلِمٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ: إنْ جِئْتَنِي بِسَلْبِهِ فَلَكَ أَجْرُ عَشْرَةِ دَنَانِيرَ، فَقَتَلَهُ وَجَاءَ بِسَلْبِهِ. وَأَفَلْت مِنْهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلِ الْجِهَادِ. 1579 - وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لِذِمِّيٍّ فَلَهُ الْأَجْرُ مِنْهُ. لِأَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِجِهَادٍ. 1580 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ قَطَعْت يَدَهُ فَلَكَ كَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 876 لِأَنَّ قَطْعَ يَدِ الْمُمْتَنِعِ الْمُقَاتِلِ مِنْ الْجِهَادِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ أَجْرًا، وَيَكُونُ عَلَيْهِ لِلذِّمِّيِّ الْأَجْرُ، لِأَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِجِهَادٍ. - وَلَوْ أَرَادَ قَتْلَ الْأُسَارَى فَاسْتَأْجَرَ عَلَى ذَلِكَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى قَتْلِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ. - وَلَوْ قَالَ الْأَمِيرُ لِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ: احْفِرُوا هَذَا الْمَوْضِعَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا حَتَّى يَنْبَثِقَ الْمَاءُ فَيَغْرَقُ أَهْلُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَلَكُمْ أَجْرُ مِائَةِ دِينَارٍ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ يُقَاتِلُونَ وَيَمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لِلْأُجَرَاءِ إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ. لِأَنَّ مَا اُسْتُؤْجِرُوا عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ. وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَهُمْ الْأَجْرُ. وَإِنْ كَانُوا عِشْرِينَ نَفَرًا: عَشْرَةً مُسْلِمِينَ، وَعَشْرَةً ذِمِّيِّينَ فَلِأَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ الْأَجْرِ. لِأَنَّهُ يُجْعَلُ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ كَانَ الْفَرِيقُ الثَّانِي مِثْلَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 877 1583 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَنْ يُقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَهُمْ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى. لِأَنَّ حَفْرَ الْأَرْضِ (ص 288) لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ، فَيَسْتَوْجِبُ الْمُسْلِمُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ كَمَا يَسْتَوْجِبُ الذِّمِّيُّ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَخْرِيبِ الْمَلَاعِبِ وَالْكَنَائِسِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْحِصْنِ بَعْدَ مَا صَارَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ. - وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُمْ لِقَطْعِ الْأَشْجَارِ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ. لِأَنَّ مَا اُسْتُؤْجِرُوا عَلَيْهِ عَيْنَهُ لَيْسَ بِجِهَادٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْجِهَادِ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُك عَنْهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى أَنْ تُجَاهِدَهُ فِي إتْمَامِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُنَابِذُك لَمْ يَكُنْ مِنْ الْجِهَادِ فِي شَيْءٍ. - وَلَوْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَرْمُونَ بِالْمَنْجَنِيقِ. فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَهُمْ الْأَجْرُ، وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَحْرَارًا أَوْ عَبِيدًا فَلَا أَجْرَ لَهُمْ. لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ. فَالرَّمْيُ بِالْمَنْجَنِيقِ لِتَخْرِيبِ الْحِصْنِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُمْتَنِعُونَ، وَعَلَى الدَّفْعِ عَنْهُ يُقَاتِلُونَ، بِمَنْزِلَةِ الرَّمْيِ بِالسَّهْمِ لِإِصَابَةِ النُّفُوسِ. وَلَا يُقَالُ إنَّهُمْ يَرْمُونَ فِي مَنْعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ جِهَادًا، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي مَنْعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَالرَّمْيَةُ وَقَعَتْ فِي مَنْعَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي حَفْرِ النَّهْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُ، يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى. لِأَنَّ الْمَاءَ يَسِيلُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى يُغْرِقَهُمْ فِي مَنْعَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَا يُرْمَى مِنْ الْمَنْجَنِيقِ يَذْهَبُ حَتَّى يُخَرِّبَ وَيَقْتُلَ فِي مَنْعَتِهِمْ. قُلْنَا: نَعَمْ. وَلَكِنَّ الْمَنْجَنِيقَ وَالسَّهْمَ عَمَلُ الْقَوْمِ بِأَيْدِيهِمْ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا يَحْصُلُ يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ بِالْمُبَاشَرَةِ. وَأَمَّا الْغَرَقُ فَلَا يَصِيرُ مُضَافًا إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 878 حَافِرِ النَّهْرِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَإِنَّمَا عَمَلُهُمْ هُنَاكَ الْحَفْرُ فَقَطْ. وَتَبَيُّنُ هَذَا الْفَرْقِ فِي فِعْلٍ هُوَ جِنَايَةٌ. فَإِنَّ مَنْ وَقَفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَرَمَى سَهْمًا وَرَمَى سَهْمًا إلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ كَانَ قَاتِلًا لَهُ مُبَاشَرَةً مُسْتَوْجِبًا لِلْقِصَاصِ. وَبِمِثْلِهِ مَنْ حَفَرَ نَهْرًا فِي مِلْكِهِ فَغَلَبَهُ الْمَاءُ وَانْبَثَقَ عَلَى أَرْضِ جَارٍ لَهُ فَغَرَقَ الزَّرْعُ، لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَافِرِ فِي ذَلِكَ ضَمَانٌ. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 879 [بَابُ الْأَنْفَالِ بِالْأَثْمَانِ وَالْهِبَاتِ] 95 - بَابُ الْأَنْفَالِ بِالْأَثْمَانِ وَالْهِبَاتِ 1586 - وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ جَاءَ بِرَمَكَةٍ فَهِيَ لَهُ بَيْعًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ. فَذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ وَجَاءُوا بِذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْبَيْعِ الْغَرَرِ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ. فَإِنَّ الْمُرَادَ بَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، وَالْأَمِيرُ هَا هُنَا بَاعَ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَلَا فِي يَدِهِ، وَهُوَ عَلَى خَطَرِ الْحُصُولِ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فِيهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَجْهُولًا؟ 1587 - وَلَكِنْ إنْ رَغِبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْعًا مِنْهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ. لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ، وَالْقَصْدُ تَحْرِيضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَجِيءِ بِهَا. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ التَّنْفِيلِ بَعْدَ مَا أَتَوْا بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ. وَلَكِنْ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمْ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ شَرْعًا، وَهُوَ الْبَيْعُ ابْتِدَاءً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 880 1588 - وَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَخَذَهُ الْأَمِيرُ مِنْهُ فَجَعَلَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهِ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ. وَأَصْلُ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ السَّبَبِ. وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي رَدِّهِ. لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ صَحِيحًا أَصْلًا. ثُمَّ لَا نَفْلَ لَهُ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ كَانَ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ، فَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ. بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ بَطَلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ بِالرَّدِّ. - وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِرَمَكَةٍ بِعْنَاهَا إيَّاهُ بِعَشَرَةٍ. فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُ وَعَدَ الْبَيْعَ هَا هُنَا. وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى التَّنْفِيلِ. فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ إذَا رَغِبَ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهَا. 1590 - أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَهَبْنَاهَا لَهُ أَوْ وَهَبْنَا لَهُ نِصْفَهَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفِيَ لِمَنْ جَاءَ بِذَلِكَ بِمَا وَعَدَ لَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ (ص 289) مَالِكًا لِذَلِكَ مَا لَمْ يَجْعَلْهَا الْأَمِيرُ لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: فَهِيَ لَهُ. لِأَنَّهُ إذَا قَالَ فَهِيَ لَهُ فَهَذَا تَنْفِيلٌ مُنْفَذٌ، فَبِنَفْسِ الْإِصَابَةِ يَصِيرُ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 881 1591 - وَإِذَا قَالَ: وَهَبْنَاهَا لَهُ. فَهَذَا تَنْفِيلٌ مَوْعُودٌ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا وَعَدَ. وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَهَبَهَا مِنْهُ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً وَأَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ، وَإِنْ قَالَ: فَهِيَ لَهُ هِبَةً، أَوْ فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةً، فَذَلِكَ لِمَنْ جَاءَ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ جَدِيدٍ مِنْ الْأَمِيرِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَهِيَ لَهُ، تَنْفِيلٌ تَامٌّ. وَقَوْلَهُ هِبَةً يَكُونُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ فَهِيَ لَهُ، فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ. - وَإِنْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِسَيْفٍ وَهَبْنَاهُ لَهُ، أَوْ بِعْنَاهُ مِنْهُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ لَهُ لِشِدَّةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ. وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ إذَا كَانَ الْمَوْعُودُ هِبَةً، وَإِذَا كَانَ بَيْعًا يُعْطِيهِ قِيمَتَهُ، لَكِنْ يَرْفَعُ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ. لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مَوْعُودٌ هَا هُنَا غَيْرُ مُنْفَذٍ. وَالْإِمَامُ نَاظِرٌ لِلْكُلِّ. فَإِذَا رَأَى بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إلَى ذَلِكَ. فَلَوْ أَعْطَاهُ الْمَشْرُوطَ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَوْ أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ تَوَفَّرَ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ وَارْتَفَعَتْ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْنِ، فَيَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. 1593 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ فَلْيُسَلِّمْهُ لَهُ عَلَى مَا شَرَطَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 882 لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . - وَلَوْ جُمِعَتْ الْغَنَائِمُ فَقَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ أَخَذَ جُبْنَةً فَعَلَيْهِ ثَمَنُهَا دِرْهَمٌ، وَمَنْ أَخَذَ شَاةً فَعَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَمَنْ أَخَذَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَأَخَذَ رَجُلٌ شَاةً فَذَبَحَهَا وَأَكَلَهَا، وَأَخَذَ آخَرُ جُبْنَةً فَأَكَلَهَا، وَأَخَذَ آخَرُ جَارِيَةً فَأَعْتَقَهَا. فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ قِيمَةُ مَا أَخَذَهُ. لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ الْأَمِيرِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ، فَإِنَّ التَّنْفِيلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَكِنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْعَقْدِ. فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا وَلَمْ يَسْتَهْلِكْهُ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، لِفَسَادِ الْبَيْعِ، أَوْ يُسَلِّمَهُ لَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ بَيْعًا مُسْتَقْبَلًا إنْ رَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي. لِأَنَّهُ بِأَخْذِهِ قَدْ تَعَيَّنَ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ ابْتِدَاءً، وَلَكِنَّ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا إذَا اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ. وَلِهَذَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِي الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِحُكْمِ بَيْعٍ فَاسِدٍ فَتَمَلَّكَهَا، حَتَّى لَوْ بَاعَهَا جَازَ الْبَيْعُ وَغَرِمَ قِيمَتَهَا. فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَهُوَ لَوْ أَكَلَ الْجُبْنَةَ أَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ فَأَكَلَهَا قَبْلَ هَذَا كَانَ مُبَاحًا لَهُ؟ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ الْجَارِيَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا شَيْئًا. قُلْنَا: لِأَنَّ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَمْ يَتَأَكَّدْ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهَا. فَأَمَّا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ تَأَكَّدَ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهَا، لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ، وَبَيْعُ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَازِ فِي تَأَكُّدِ حَقِّ الْغَانِمِينَ فِيهَا. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَدْ تَمَلَّكَ الْمَأْخُوذَ هَاهُنَا بِالْأَخْذِ بِجِهَةِ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ جَازَ بَيْعُهُ فِيهِ. وَالتَّمْلِيكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِعِوَضٍ، وَذَلِكَ بِالْقِيمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 883 إذَا لَمْ يَجِبْ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ الْبَيْعِ. فَأَمَّا قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ لَا يَتَمَلَّكُهُ بِالْأَخْذِ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهِ. فَإِذَا أَتْلَفَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ لَمْ يَتَأَكَّدْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ (ص 290) . 1595 - وَلَوْ كَانَ الْآخِذُ لَمْ يَسْمَعْ مَقَالَةَ الْأَمِيرِ حَتَّى أَكَلَ الشَّاةَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَلَوْ بَاعَهَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ. لِأَنَّهُ مَا أَخَذَهَا عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ حِينَ لَمْ يَسْمَعْ مَقَالَةَ الْأَمِيرِ، فَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَهَا قَبْلَ مَقَالَةِ الْأَمِيرِ. فَأَمَّا السَّامِعُ فَإِنَّمَا أَخَذَهَا عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ وَالْمِلْكِ. 1596 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ: مَنْ جَاءَ بِجَارِيَةٍ فَهِيَ لَهُ بَيْعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِجَارِيَةٍ فَأَعْتَقَهَا، لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا أَصْلًا، لِأَنَّ الْبَيْعَ بِدُونِ الْمَحِلِّ لَا يَنْعَقِدُ لَا جَائِزًا وَلَا فَاسِدًا. وَهَاهُنَا الْمَحِلُّ كَانَ مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَجْهُولًا حِينَ أَوْجَبَ الْبَيْعَ، فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ. 1597 - وَلَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِشَاةٍ فَهِيَ لَهُ بَيْعًا بِدِرْهَمٍ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِشَاةٍ فَذَبَحَهَا وَأَكَلَهَا، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا ضَمَانٌ. لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا هَاهُنَا. فَكَأَنَّهُ أَخَذَهَا قَبْلَ مَقَالَةِ الْأَمِيرِ وَأَكَلَهَا، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 884 [أَبْوَابٌ سُهْمَانُ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ فِي الْغَنَائِمِ] 96 - أَبْوَابٌ سُهْمَانُ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ 1598 - وَإِذَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ الْغَنَائِمَ فَأَحْرَزُوهَا وَأَرَادُوا قِسْمَتَهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُعْطَى الْفَارِسُ سَهْمَيْنِ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمًا لِفَرَسِهِ، وَالرَّاجِلُ سَهْمًا. وَقَالَ: لَا أَجْعَلُ سَهْمَ الْفَرَسِ أَفْضَلَ مِنْ سَهْمِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ. لِأَنَّ تَفْضِيلَ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ فِيمَا يَسْتَحِقُّ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ لَا وَجْهَ لَهُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِاعْتِبَارِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَذَلِكَ بِالرَّجُلِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِالْفَرَسِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَرَسَ لَا يُقَاتِلُ بِدُونِ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ بِدُونِ الْفَرَسِ؟ وَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الرَّجُلِ قَدْ تَزْدَادُ عَلَى مُؤْنَةِ الْفَرَسِ. فَالْفَرَسُ يُجْتَرَى بِالْحَشِيشِ وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ. وَمَطْعُومُ الْآدَمِيِّ لَا يُوجَدُ إلَّا بِثَمَنٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِالْمُؤْنَةِ. فَإِنَّ السَّهْمَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْبَغْلِ وَالْبَعِيرِ وَالْحِمَارِ. وَصَاحِبُهُ يَلْتَزِمُ مُؤْنَةً مِثْلَ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ أَوْ أَكْثَرَ، وَبِالْفِيلِ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ، وَمُؤْنَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ بِالْفَرَسِ ثَابِتٌ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ. لِأَنَّ الْفَرَسَ آلَةٌ لِلْحَرْبِ، وَبِالْآلَةِ يُسْتَحَقُّ السَّهْمُ. وَمُجَرَّدُ حُصُولِ إرْهَابِ الْعَدُوّ بِهِ لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ بِهِ كَالْفِيلِ. وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 885 فِي الْفَرَسِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَتْ الْأَخْبَارُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ وَاحِدٍ بِالْفَرَسِ، فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا. وَفِيمَا تَعَارَضَ فِيهِ الْأَثَرُ يُؤْخَذُ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الشَّامِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَيْسَ فِي هَذَا تَفْضِيلُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ. فَإِنَّ السَّهْمَيْنِ لَا يُعْطَيَانِ لِلْفَرَسِ، وَإِنَّمَا يُعْطَيَانِ لِلْفَارِسِ. فَيَكُونُ فِي هَذَا تَفْضِيلُ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ. وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ. ثُمَّ هُوَ يَسْتَحِقُّ أَحَدَ السَّهْمَيْنِ بِالْتِزَامِ مُؤْنَةِ فَرَسِهِ وَالْقِيَامِ بِتَعَاهُدِهِ، وَالسَّهْمَ الْآخَرَ لِقِتَالِهِ عَلَى فَرَسِهِ، وَالسَّهْمَ الثَّالِثَ لِقِتَالِهِ بِبَدَنِهِ. وَقَالَ: أُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَرِيقَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُرَجِّحُ بِهَذَا فِي مَسَائِلِ الْكِتَابِ، وَعَلَّلَ فِيهِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ أَقْوَى مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ فَرِيقٌ وَاحِدٌ. يَعْنِي طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَرِيقَانِ أَظْهَرُ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ إذَا أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ، وَأَخْبَرَ اثْنَانِ بِطَهَارَتِهِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الِاثْنَيْنِ، لِأَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ فِي خَبَرِ الِاثْنَيْنِ أَظْهَرُ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ صَحِيحَةً مَشْهُورَةً لِكُلِّ قَوْلٍ. وَرَوَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 886 الْأَخْبَارَ بِالْأَسَانِيدِ فِي الْكِتَابِ فَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْفِيقِ وَالتَّرْجِيحِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: أُوَفِّقُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ فَأَحْمِلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ السَّهْمَيْنِ لِلْفَارِسِ لِفَرَسِهِ وَالْآخَرَ كَانَ مِنْ الْخُمْسِ لِحَاجَتِهِ، أَوْ كَانَ نَفَلَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، أَوْ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْفَرَسِ الْفَارِسُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَى الْفَارِسَ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ حَدِيثُ خَيْبَرَ فِي قَوْلِهِ: «وَكَانَتْ الرِّجَالُ أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ» فَقَالَ: الْمُرَادُ بِالرِّجَالِ الرَّجَّالَةُ وَبِالْخَيْلِ الْفُرْسَانُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] أَيْ بِفُرْسَانِك وَرَجَّالَتِك. وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ أَنَّ السَّهْمَيْنِ لِلْفَارِسِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ لِاتِّفَاقِ الْآثَارِ عَلَيْهِ. وَفِيمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَهُمَا قَالَا: الْمُثَبِّتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ أَوْلَى مِنْ النَّافِي. وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا يُرْوَى أَنَّهُ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ بَيَانُ مَا فُضِّلَ الْفَارِسُ بِهِ عَلَى الرَّاجِلِ، لَا بَيَانُ جُمْلَةِ مَا أَعْطَاهُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ قِسْمَةِ غَنَائِمِ خَيْبَرَ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقَالَ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ: وَلَمْ يَكُنْ قَسَمَهَا النَّبِيُّ، إنَّمَا كَانَتْ فَوْضَى، وَكَانَ الَّذِي قَسَمَهَا وَأَرَّفَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 887 وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَوْضَى أَيْ مُتَسَاوِيَةٌ. وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْمُفَاوَضَةِ. قَالَ الْقَائِلُ: لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَرَّفَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَيْ أَخْرَجَ الْقُرْعَةَ وَوَضَعَهَا عَلَى كُلِّ سَهْمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا سَهْمَ لِلرَّجُلِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ حَضَرَ بِأَفْرَاسٍ. وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ. لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ. فَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ فَيَقُولُونَ بِسَهْمٍ لِفَرَسَيْنِ وَيُجْعَلُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ جَنِيبَةً. وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمُبَارِزَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى فَرَسَيْنِ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِمَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: لَا يُقَاتِلُ عَادَةً إلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّ الثَّانِي وَالثَّالِثَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ عَادَةً. وَهَذَا نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي نَفَقَةِ الْخَادِمِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَاضِي: لَا يَفْرِضُ النَّفَقَةَ إلَّا لِخَادِمٍ وَاحِدٍ مِنْ خَدَمِ الْمَرْأَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَفْرِضُ لَهَا نَفَقَةَ خَادِمَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ ". ثُمَّ قَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِمَا يَشْهَدُ لِكُلِّ قَوْلٍ عَلَى مَا رَوَاهَا فِي الْكِتَابِ بِالْأَسَانِيدِ وَالتَّوْفِيقِ وَالتَّرْجِيحِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 888 عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَذُكِرَ: عَنْ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيِّ قَالَ: كُنْت بِالْمَدِينَةِ، فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: هَلْ هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَحَدٌ؟ فَقُلْت: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَإِذَا أَتَيْت مُعَاوِيَةَ فَأْمُرْهُ إنْ فَتْحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ يَكْتُبَ فِي أَحَدِهَا اللَّهَ، ثُمَّ يُقْرِعُ، فَحَيْثُ مَا وَقَعَ فَلْيَأْخُذْهُ. وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَتَخَيَّرَ إذَا مَيَّزَ الْخُمُسَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، وَلَكِنَّهُ يُمَيِّزُ بِالْقُرْعَةِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَتْ الْغَنَائِمُ تُجَزَّأُ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ يُسْهَمُ عَلَيْهَا، فَمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ فَهُوَ لَهُ، وَلَا يَتَخَيَّرُ. فَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ أَمِيرٍ مَنْدُوبٌ إلَى مُرَاعَاةِ قُلُوبِ الرَّعِيَّةِ، وَإِلَى نَفْيِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ وَالْأَثَرَةِ عَنْ نَفْسِهِ. وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ. وَلِهَذَا تُسْتَعْمَلُ الْقُرْعَةُ فِي قِسْمَةِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْعُرَفَاءِ، ثُمَّ يَسْتَعْمِلُ كُلُّ عَرِيفٍ الْقُرْعَةَ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ مَنْ تَحْتَ رَايَتِهِ. فَكَذَلِكَ يَسْتَعْمِلُ الْقُرْعَةَ فِي تَمْيِيزِ الْخُمُسِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 889 وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ (ص 292) «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ» . وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ إقْرَاعٍ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقَسْمِ عِنْدَ سَفَرِ الزَّوْجِ. وَمَعَ هَذَا كَانَ يُقْرِعُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ. فَكَذَا يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْقِسْمَةِ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 890 [بَابُ سُهْمَانِ الْبَرَاذِينِ] 97 - بَابُ سُهْمَانِ الْبَرَاذِينِ 1599 - قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: الْبِرْذَوْنُ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِهِ كَالْفَرَسِ. وَكَذَا الْهَجِينُ وَالْمَقْرِفُ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ. فَالْفَرَسُ اسْمٌ لِلْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ. وَالْبِرْذَوْنُ لِلْفَرَسِ الْعَجَمِيِّ. وَالْهَجِينُ مَا يَكُونُ الْفَحْلُ عَرَبِيًّا وَالْأُمُّ مِنْ أَفْرَاسِ الْعَجَمِ. وَالْمَقْرِفُ عَلَى عَكْسِ هَذَا. ثُمَّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ مِنْ الْغَنِيمَةِ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ سَوَاءٌ. فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالْخَيْلِ. وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْخَيْلِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وَاسْمُ الْخَيْلِ يَتَنَاوَلُ الْبَرَاذِينَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ صَدَقَةِ الْبَرَاذِينِ فَقَالَ: أَوَ فِي الْخَيْلِ صَدَقَةٌ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْفَرَسُ وَالْبِرْذَوْنُ سَوَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 891 إذْ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَرْبِ يَقُولُونَ: الْبِرْذَوْنُ أَفْضَلُ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنْ الْفَرَسِ. فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَطْفًا وَأَشَدُّ مُتَابَعَةً لِصَاحِبِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَأَصْبَرُ فِي الْقِتَالِ. فَمَا يَفْضُلُهَا الْعَرَّابُ إلَّا لِلطَّلَبِ وَالْهَرَبِ. فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعُ زِيَادَةٍ فِيمَا هُوَ مِنْ أَمْرِ الْقِتَالِ، فَيَسْتَوِيَانِ، إذْ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ، وَمُؤْنَةُ الْبِرْذَوْنِ لَا تَكُونُ دُونَ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ. 1600 - فَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ فَيَقُولُونَ: لَا سَهْمَ لِلْبِرْذَوْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقَارِبًا لِلْفَرَسِ وَيَسْتَدِلُّونَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَتَبَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا بَعْدُ. فَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ خَيْلِ الْقَوْمِ خَيْلًا دُكًّا عِرَاضًا، فَمَا يَرَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي إسْهَامِهَا؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى الْبَرَاذِينَ، فَانْظُرْ، فَمَا كَانَ مِنْهَا مُقَارِبًا لِلْخَيْلِ فَأَسْهِمْهَا سَهْمًا، وَأَلْغِ مَا سِوَاهَا. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَإِنَّهُ قَالَ لِعَامِلِهِ: فَإِنْ كَانَ بِرْذَوْنًا رَائِعَ الْجَرْيِ وَالْمَنْظَرِ فَأَسْهِمْ لَهُ، وَلَا تُسْهِمْ لِمَا سِوَى ذَلِكَ. وَأُتِيَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِهَجِينٍ. فَقَالَ: لَأَنْ أَسْتَفَّ التُّرَابَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْسِمَ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 892 وَعَنْ كُلْثُومِ بْنِ الْأَقْمَرِ قَالَ: أَغَارَتْ الْخَيْلُ بِالشَّامِ فَأَدْرَكْتُ الْعِرَابَ مِنْ يَوْمِهَا، وَأَدْرَكْت الكودان ضُحَى الْغَدِ وَعَلَيْهِمْ الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي حِمَّصَةَ الْوَادِعِيُّ. فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَا أُدْرِكَ سَابِقًا كَمَا لَا يُدْرَكُ. فَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَبِلَتْ الْوَادِعِيَّ أُمُّهُ لَقَدْ أَذْكَتْ بِهِ، أَيْ أَتَتْ بِهِ ذَكِيًّا. وَفِي رِوَايَةٍ: لَقَدْ أَذَكَرَتْهُ. أَيْ أَتَتْ بِهِ ذَكَرًا. فَامْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ. إلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْآثَارُ تُحْمَلُ عَلَى مَا لَا يَكُونُ صَالِحًا لِلْقِتَالِ مِمَّا يُعَدُّ لِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ عَلَيْهِ دُونَ الْقِتَالِ بِهِ. وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ فَرَسٍ ضَرْعٍ أَوْ بَغْلٍ فَاجْعَلُوا صَاحِبَهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجَّالَةِ. ثُمَّ فِي حَدِيثِ الْمُنْذِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْهَامَ لِلْبَرَاذِينِ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ. فَإِنَّ عُمَرَ تَعَجَّبَ مِنْ صَنِيعِهِ، وَمَا تَعَجَّبَ إلَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَنَعَ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا. ثُمَّ الْمُنْذِرُ كَانَ عَامِلًا فَحَكَمَ فِيمَا هُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، وَأَمْضَى عُمَرُ حُكْمَهُ لِهَذَا، لَا لِأَنَّ رَأْيَهُ كَانَ مُوَافِقًا لِذَلِكَ. وَنَحْنُ هَكَذَا نَقُولُ: إنَّ الْحَاكِمَ إذَا قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ بِشَيْءٍ فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ. - ثُمَّ قَالَ: بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: يُسْهِمُ لِلْبِرْذَوْنِ سَهْمًا وَلِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ. وَهَكَذَا ذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ (ص 293) مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ الْمُنْذِرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 893 وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ أَصْلًا. كَمَا ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَقَالَ: صَاحِبُ الْبِرْذَوْنِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلَةِ. - وَذَكَرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا جَاوَزَ الْفَرَسُ الدَّرْبَ ثُمَّ نَفَقَ أُسْهِمَ لَهُ. وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: مَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ يَحْصُلُ بِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَارِسًا، فَإِنَّ الدَّوَاوِينَ إنَّمَا تُدَوَّنُ، وَالْأَسَامِيَ إنَّمَا تَكْتُبُ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ. ثُمَّ يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِأَنَّهُ جَاوَزَ كَذَا كَذَا فَارِسٌ وَكَذَا كَذَا رَاجِلٌ. فَلِحُصُولِ مَعْنَى الْإِرْهَابِ بِهِ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ. وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. لِأَنَّ عِنْدَنَا مَنْ نَفَقَ فَرَسُهُ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْغَنِيمَةَ إذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ. عَلَى أَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ الْوَقْعَةِ فَارِسًا، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا لِلْمَدَدِ شَرِكَةً مَعَ الْجَيْشِ فِي الْمُصَابِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ. وَهَذَا لِأَنَّ إعْزَازَ الدِّينِ يَحْصُلُ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ. قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلَّا ذَلُّوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 894 - وَلَا يُسْهَمُ عِنْدَنَا لِصَبِيٍّ وَلَا لِامْرَأَةٍ وَلَا لِعَبْدٍ وَلَا لِذِمِّيٍّ وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِلْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ، قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَيُرْضَخُ لِمَنْ سِوَاهُمْ إذَا قَاتَلُوا، وَلِلنِّسَاءِ إذَا خَرَجْنَ لِمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى وَالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ لِلْغُزَاةِ. وَأَهْلُ الشَّامِ يَقُولُونَ: يُسْهَمُ لِلْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ. وَاسْتَدَلُّوا فِيهِ بِحَدِيثِ مَكْحُولٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ نَظَرٌ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقِسْمَةَ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ عَلَى أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَهْمٍ، فَكَانَ الرِّجَالُ أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ، لَمْ يُذْكَرْ فِي ذَلِكَ امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ. وَلَوْ كَانُوا لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: كَانَتْ الرِّجَالُ كَذَا وَكَذَا، وَالصِّبْيَانُ كَذَا، وَالنِّسَاءُ كَذَا، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُقَالَ ذُكِرَتْ الْخَيْلُ وَلَمْ تُذْكَرْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ قَوْلِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ نَصِيبٌ. 1604 - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَا يُسْهَمُ لِلنِّسَاءِ، وَلَكِنْ يُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنَائِمِ. أَيْ يُعْطَى لَهُنَّ رَضْخًا» . هَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 895 وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُسْهِمُ لِلْمَمْلُوكِينَ» . وَرَوَى «أَنَّ شُقْرَانَ غُلَامَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَهِدَ بَدْرًا مَعَهُ فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْأَسَارَى فَجَزَاهُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ الْأَسَارَى، حَتَّى كَانَ حَظُّهُ كَحَظِّ رَجُلٍ مِنْ الثَّمَانِيَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ فِي الْكِتَابِ» . وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: «شَهِدْت خَيْبَرَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ، فَلَمْ يُسْهِمْ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْطَانِي مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ» . فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ رَضَخَ لِهَؤُلَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ. وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهُ يُرْضَخُ لَهُمْ. وَهَذَا لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ، وَلَا يُسَوَّى بَيْنَ التَّبَعِ وَالْمَتْبُوعِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، بِخِلَافِ الْخَيْلِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ التَّبَعِ وَالْمَتْبُوعِ. وَكَذَلِكَ (ص 294) أَهْلُ الذِّمَّةِ أَتْبَاعٌ، فَإِنَّ فِعْلَهُمْ لَا يَكُونُ جِهَادًا فَيُرْضَخُ لَهُمْ وَلَا يُسْهَمُ، إلَّا أَنَّ عَطَاءً كَانَ يَقُولُ: إنْ خَرَجَ الْإِمَامُ بِهِمْ كُرْهًا فَلَهُمْ أَجْرُ مِثْلِهِمْ. وَابْنُ سِيرِينَ كَانَ يَقُولُ: يَضَعُ عَنْهُمْ الْجِزْيَةَ. وَمُرَادُهُمْ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ الرَّضْخِ أَنَّهُ يَكُونُ بِحَسَبِ الْعَنَاءِ وَالْقِتَالِ. وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: يُسْهَمُ لَهُمْ كَمَا يُسْهَمُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزَا بِأُنَاسٍ مِنْ الْيَهُودِ فَجَعَلَ لَهُمْ سُهْمَانًا مِثْلَ سُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ» . وَلِأَجْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 896 1605 - وَلَوْ أَنَّ وَالِيًا جَعَلَ لِهَؤُلَاءِ السَّهْمِ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ نَفَذَ حُكْمُهُ، حَتَّى لَوْ رُفِعَ إلَى وَالٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْضِيَ ذَلِكَ الْحُكْمَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ. لِأَنَّهُ أَمْضَى الْحُكْمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ بِهِ وَالْحُكْمُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ بِالْإِجْمَاعِ فَفِي إبْطَالِهِ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. - وَلَا يُسْهَمُ لِلْأَجِيرِ الَّذِي يَسْتَأْجِرُهُ غَازٍ فَيَخْدُمُهُ لِأَنَّهُ أَخَذَ عَلَى خُرُوجِهِ مَالًا فَلَا يَسْتَوْجِبُ لِهَذَا الْخُرُوجِ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، فَلَمَّا طَلَبَ سَهْمَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذِهِ الدَّنَانِيرُ حَظُّك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَعَنْ عِكْرِمَةَ «أَنَّ أَجِيرًا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُ شَيْئًا» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْأَجِيرِ. وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُ إذَا قَاتَلَ وَتَرَكَ الْعَمَلَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيَسْتَحِقُّ السَّهْمَ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ، وَحَالُهُ كَحَالِ التَّاجِرِ فِي الْعَسْكَرِ: إنْ قَاتَلَ اسْتَحَقَّ السَّهْمَ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ لَا يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 897 [بَابُ سُهْمَانِ الْخَيْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] 98 - بَابُ سُهْمَانِ الْخَيْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ نَفَقَ فَرَسُهُ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. 1607 - قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عُقِرَ فَرَسُهُ فِي الْقِتَالِ أَوْ قُتِلَ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. وَإِنْ كَانَتْ إصَابَةُ الْغَنَائِمِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَالِ مَا كَانَ هُوَ رَاجِلًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ الْعَدُوُّ فَرَسَهُ وَأَحْرَزُوهُ. إذْ لَوْ قُلْنَا: يَحْرُمُ سَهْمُ الْفَرَسِ بِهَذَا، امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْخَيْلِ مَخَافَةَ أَنْ تَبْطُلَ سِهَامُهُمْ بِهَا. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ مَا فِيهِ زِيَادَةُ تَحْرِيضٍ لِلْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْتِزَامِ مُؤْنَةُ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ فَارِسًا. أَلَا تَرَى أَنَّ قِتَالَهُمْ لَوْ كَانَ فِي الْمَغَائِضِ أَوْ عَلَى أَبْوَابِ الْحُصُونِ أَوْ فِي السُّفُنِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ فَارِسًا مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ؟ وَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 898 «أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ لِلْفُرْسَانِ، وَكَانَتْ حُصُونًا افْتَتَحُوهَا بِالْقِتَالِ رَجَّالَةً» فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْتِزَامُ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا الْقِتَالُ عَلَيْهِ. - وَلَوْ ضَنَّ بِفَرَسِهِ فَرَبَطَهُ فِي الْمُعَسْكَرِ عَلَى آرِيٍّ فَقَاتَلَ رَاجِلًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. فَإِذَا أُصِيبَ فَرَسُهُ فِي الْقِتَالِ لَأَنْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ كَانَ أَوْلَى. - وَلَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا فَقَاتَلَ فَارِسًا لَمْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُؤْنَةَ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الدَّرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْقِتَالِ حُكْمًا. فَإِذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ بِهِ سَهْمَ الْفُرْسَانِ فَلَأَنْ يَسْتَحِقَّ بِحَقِيقَةِ الْقِتَالِ فَارِسًا كَانَ أَوْلَى. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ انْعِقَادَ (ص 295) سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يَكُونُ مُجَاوَزَةَ الدَّرْبِ، وَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الرَّاجِلِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَى الْإِمَامِ مُرَاعَاةُ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغُزَاةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. فَيَجِبُ اعْتِبَارُ حَالِ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ تَيْسِيرًا، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ عَرَضَ الْجَيْشِ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ فِي حَالِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ. فَمَنْ أُثْبِتَ فَارِسًا فِي الدِّيوَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 899 عِنْدَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ وَإِنْ تَغَيَّرَ حَالُهُ. وَمَنْ أُثْبِتَ فِي دِيوَانِ الرَّجَّالَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا سَهْمَ رَاجِلٍ وَإِنْ تَغَيَّرَ حَالُهُ. - فَإِنْ دَخَلَ بِفَرَسٍ لَا يُسْتَطَاعُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، لِضَعْفِ كِبَرٍ، أَوْ مُهْرٍ لَمْ يُرْكَبْ، لَمْ يُضْرَبْ لَهُ بِسَهْمِ فَارِسٍ. لِأَنَّ مَا دَخَلَ بِهِ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ دَخَلَ رَاجِلًا، وَحَالُهُ دُونَ حَالِ مَنْ دَخَلَ بِبَغْلَةٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ بَعِيرٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ إلَّا سَهْمُ رَاجِلٍ. - فَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ مَرِيضًا لَا يُسْتَطَاعُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ بِهِ فَلَمْ يَغْنَمْ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً حَتَّى صَحَّ الْفَرَسُ، فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ. لِأَنَّهُ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَرَسٌ صَالِحٌ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ حِينَ صَحَّ، فَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى فَرَسًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَوْ دَخَلَ بِمُهْرٍ ثُمَّ طَالَ مَقَامُهُمْ حَتَّى صَارَ بِحَالٍ يُرْكَبُ. وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: 1612 - يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمِ فَارِسٍ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ أَصَابُوهَا قَبْلَ بُرْئِهِ أَوْ بَعْدَ بُرْئِهِ. لِأَنَّ مَا دَخَلَ بِهَذَا الْفَرَسِ إلَّا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ، وَمَا الْتَزَمَ مُؤْنَتَهُ إلَّا لِذَلِكَ. فَإِنَّهُ كَانَ صَالِحًا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ. فَإِذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. بِخِلَافِ الْمُهْرِ، فَإِنَّهُ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 900 وَإِنَّمَا صَارَ صَالِحًا لِذَلِكَ ابْتِدَاءً فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ اشْتَرَى فَرَسًا فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقَ أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا، لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِخِدْمَةِ الزَّوْجِ، وَالْمَرِيضَةُ الَّتِي لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ صَالِحَةً لِخِدْمَتِهِ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ. فَكَذَلِكَ الْفَرَسُ إذَا ضَلَعَ أَوْ مَرِضَ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَعْفُهُ لِكِبَرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ. - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَقُتِلَ فَرَسُهُ وَأُخِذَ أَسِيرًا قَبْلَ أَنْ تُصَابَ الْغَنَائِمُ، ثُمَّ أَصَابَ الْجَيْشُ الْغَنَائِمَ فَلَمْ يُخْرِجُوهَا حَتَّى انْفَلَتَ فَلَحِقَ بِهِمْ، فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّهُ انْعَقَدَ لَهُ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ، وَشَارَكَهُمْ فِي إحْرَازِ الْغَنَائِمِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ. كَأَنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُمْ. لِأَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِمُفَارَقَتِهِمْ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. - وَلَوْ كَانَ خَرَجَ ذَلِكَ الْجَيْشُ وَدَخَلَ جَيْشٌ آخَرُ فَانْفَلَتَ إلَيْهِمْ رَاجِلًا، ثُمَّ أَصَابُوا غَنَائِمَ بَعْدَ مَا لَحِقَ بِهِمْ. فَلَهُ فِي ذَلِكَ سَهْمُ رَاجِلٍ، وَلَا يُشْرِكُهُمْ فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقَ بِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 901 لِأَنَّهُ مَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ السَّبَبُ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ بِخُرُوجِ ذَلِكَ الْجَيْشِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مَعَهُمْ، فَبَطَلَ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ. ثُمَّ قَدْ انْعَقَدَ لَهُ بِاللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ الثَّانِي سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ الْآنَ ابْتِدَاءً، فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ. 1615 - فَإِنْ لَحِقَ بِهِمْ رَاجِلًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ، وَإِنْ لَحِقَ فَارِسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ، أَوْ كَانَ تَاجِرًا مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ. وَلِهَذَا لَا شَرِكَةَ لَهُ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ مَا كَانَ مُنْعَقِدًا لَهُ حِينَ أُصِيبَ ذَلِكَ. 1616 - إلَّا أَنْ يُبْتَلَى الْمُسْلِمُونَ بِقِتَالٍ فَيُقَاتِلَ مَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، (ص 269) فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّ الشَّرِكَةَ فِيهِمْ بِسَهْمِ رَاجِلٍ إنْ الْتَحَقَ بِهِمْ رَاجِلًا، وَبِسَهْمِ فَارِسٍ إنْ الْتَحَقَ بِهِمْ فَارِسًا عَلَى فَرَسٍ اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ وَهَبُوهُ لَهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَرَسَ لَهُ عَلَى الْخُلُوصِ فَيَكُونُ بِهِ فَارِسًا. 1617 - وَإِنْ كَانَ أَخَذَ ذَلِكَ الْفَرَسَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ رَاجِلٌ، وَذَلِكَ الْفَرَسُ يَكُونُ فَيْئًا. لِأَنَّهُ أَحْرَزَهُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَيُشَارِكُهُ فِيهِ الْجَيْشُ، وَهُوَ لَا يَكُونُ فَارِسًا بِفَرَسٍ هُوَ مِنْ الْغَنِيمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 902 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ عَلَى ذَلِكَ الْفَرَسِ؟ - وَلَوْ كَانَ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْعَدُوِّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَحِقَ بِالْعَسْكَرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَسِيرِ، وَاَلَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. 1619 - فَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا إلَى الْعَسْكَرِ حَتَّى نَفَقَتْ خُيُولُهُمْ فَهُمْ رَجَّالَةٌ. لِأَنَّ حَالَةَ اللُّحُوقِ بِالْعَسْكَرِ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فِي حَقِّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ. إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَرُبُوا مِنْ الْعَسْكَرِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْعَسْكَرُ رِدْءًا لَهُمْ يُغِيثُونَهُمْ إنْ طَلَبُوا الْغِيَاثَ، ثُمَّ نَفَقَ الْفَرَسُ فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمَ الْفُرْسَانِ،. لِأَنَّهُمْ وَصَلُوا إلَى الْعَسْكَرِ فُرْسَانًا، فَكَأَنَّهُمْ خَالَطُوهُمْ. ثُمَّ نَفَقَتْ أَفْرَاسُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. - وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمْرِ الْإِمَامِ فَارِسًا عَلَى إثْرِ الْعَسْكَرِ فَنَفَقَ فَرَسُهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُمْ رَاجِلًا يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمِ فَارِسٍ. لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ غَازِيًا عَلَى فَرَسٍ، فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ لُحُوقِهِ بِالْجَيْشِ فِي اسْتِحْقَاقِ أَصْلِ الشَّرِكَةِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَدَدَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَهَذَا مَدَدٌ حِينَ دَخَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 903 - فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ نَهَى النَّاسَ أَنْ يَدْخُلُوا بَعْدَ الْعَسْكَرِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّمَا يَنْظُرُ الْآنَ إلَى حَالِهِ يَوْمَ لُحُوقِهِمْ. لِأَنَّهُ دَخَلَ لِصًّا مُغِيرًا، وَمَا دَخَلَ غَازِيًا حِينَ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ وَحْدَهُ شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَنْ دَخَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَأَنَّ هَذَا لَا يُشَارِكُ الْجَيْشَ فِيمَا أَصَابُوهُ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقَ بِهِمْ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ حَالُ هَذَا كَحَالِ الْأَسِيرِ، وَاَلَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُهُ وَقْتَ اللُّحُوقِ لِأَنَّهُ صَارَ غَازِيًا حِينَئِذٍ. - وَلَوْ أَنَّ التُّجَّارَ فِي عَسْكَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَانُوا فُرْسَانًا فَقَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى حَالِهِمْ حِينَ قَاتَلُوا. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْعَقِدُ لَهُمْ ابْتِدَاءً فِي هَذَا الْوَقْتِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا تُجَّارًا قَبْلَ هَذَا لَا غُزَاةً. فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَارِسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَارِسًا اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ رَاجِلًا اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ بِسَبَبِ ذَلِكَ. 1623 - وَلَوْ أَسْلَمُوا ثُمَّ قَاتَلُوا مَعَهُمْ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالُهُمْ فِي صِفَةِ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ حِينَ قَاتَلُوا مَعَهُمْ. لِأَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْأُسَرَاءِ وَاَلَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ حَيْثُ إنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْعَقِدُ لَهُمْ الْآنَ. 1624 - وَلَوْ لَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ وَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَجَعَلُوا يُقَاتِلُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 904 مَعَهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا حِينَ لَحِقُوا بِالْمُسْلِمِينَ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْجَيْشِ لِلْقِتَالِ فُرْسَانًا أَوْ رَجَّالَةً، ثُمَّ أَسْلَمُوا قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنَائِمِ أَوْ بَعْدَهَا، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ رَاجِلًا حِينَ دَخَلَ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. وَقَدْ طَعَنُوا فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَقَالُوا: قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَا انْعَقَدَ لَهُمْ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِذَلِكَ. وَانْعِقَادُ السَّبَبِ بِدُونِ أَهْلِيَّةِ الْمُسْتَحِقِّ لَا يَكُونُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا حَالُ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ وَحَالُ اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ (ص 297) إذَا كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ. لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقُّوا شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَسْتَحِقُّونَ الرَّضْخَ، وَذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ انْعِقَادُ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُمْ عِنْدَ اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ أَوْ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ. ثُمَّ إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ بِإِحْرَازِ الْغَنَائِمِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ فِي صِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ تَتْبَعُ الْأَصْلَ فَيُبْتَنَى عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلُوا مَدَدًا لِلْجَيْشِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ثُمَّ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَلْحَقُوا الْجَيْشَ أَوْ بَعْدَ مَا لَحِقُوهُمْ، قَبْلَ الْإِحْرَازِ. - وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مَعَ مَوْلَاهُ فَارِسًا يُرِيدُ الْقِتَالَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ، وَوَهَبَ لَهُ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 905 الْفَرَسَ، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَرْضَخُ لِمَوْلَاهُ، مِمَّا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ الْعَبْدُ، وَلَا يَبْلُغُ بِذَلِكَ الرَّضْخِ سَهْمَ فَارِسٍ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُزَادَ عَلَى سَهْمِ الرَّاجِلِ. لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ الرَّضْخِ كَالذِّمِّيِّ، وَلَا يَبْلُغُ بِرَضْخِ الذِّمِّيِّ إذَا كَانَ فَارِسًا سَهْمَ فَارِسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ مُقَاتِلٌ إلَّا وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. فَكَذَلِكَ حَالُ الْعَبْدِ. إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ الرَّضْخُ، لَا يَتَغَيَّرُ بِعِتْقِهِ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْمُسْتَحَقُّ لِلذِّمِّيِّ يَتَغَيَّرُ حِينَ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. لِأَنَّ بِإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ لَا يَتَبَدَّلُ الْمُسْتَحَقُّ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلسَّهْمِ وَالرَّضْخِ جَمِيعًا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إسْلَامُهُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ. وَبِعِتْقِ الْعَبْدِ يَتَبَدَّلُ الْمُسْتَحَقُّ، لِأَنَّ الرَّضْخَ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ مُسْتَحِقًّا بِالْعَبْدِ، كَمَا يَكُونُ السَّهْمُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْفَرَسِ. وَبَعْدَ الْعِتْقِ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْعَبْدِ. فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْعِتْقُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَ الْمَوْلَى أَصْلًا. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا يَبْقَى حُكْمُ الرَّضْخِ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ عِتْقِهِ، وَفِيمَا يُصَابُ بَعْدَ الْعِتْقِ يَكُونُ لِلْعَبْدِ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، لِأَنَّهُ كَانَ فَارِسًا عِنْدَ انْعِقَادِ أَصْلِ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ لِغَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَخَلَ فَارِسًا عَلَى فَرَسٍ عَارِيَّةٍ، أَوْ هُوَ بَعْدَ الْعِتْقِ حِينَ وَهَبَ لَهُ الْمَوْلَى الْفَرَسَ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ الْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ فَارِسًا مِنْ أَسِيرٍ أَوْ تَاجِرٍ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. - قَالَ: وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ وَالْمُكَاتَبُ يَدْخُلَانِ فَارِسَيْنِ. ثُمَّ يُصِيبُ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ، ثُمَّ يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ وَيُسْلِمُ الذِّمِّيُّ، ثُمَّ يُصِيبُونَ غَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُرْضَخُ لَهُمَا فِي الْغَنِيمَةِ الْأُولَى رَضْخَ فَارِسَيْنِ، وَيُعْطَيَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ سَهْمَيْ فَارِسَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 906 وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الذِّمِّيِّ. فَقَدْ أَجَابَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ لَهُ السَّهْمَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِذَلِكَ. وَهُوَ تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ. وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ مِنْ الْكَاتِبِ. وَالصَّحِيحُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْجَوَابُ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَسْبِهِ دُونَ مَوْلَاهُ، فَبِعِتْقِهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمُسْتَحَقُّ بَلْ يَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ الذِّمِّيِّ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا فِي الْبَابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ صَحِيحٌ. لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةُ مِلْكِ الْمَوْلَى بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ فَيَثْبُتُ مَعْنَى تَبَدُّلِ الْمُسْتَحَقِّ بِعِتْقِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؟ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ الرَّضْخُ فِيمَا كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ. وَأَمَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ (ص 298) ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفَرَسُ مِلْكًا لَهُ حَقِيقَةً حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، لِأَنَّ لَهُ مِلْكَ الْيَدِ فِي مَكَاسِبِهِ، فَلَا يَكُونُ فَرَسُهُ دُونَ الْفَرَسِ الْمُسْتَعَارِ. - وَلَوْ جُعِلَ رَاجِلًا بَعْدَ الْعِتْقِ أَدَّى إلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ دُونَ اسْتِحْقَاقِهِ قَبْلَهُ. لِأَنَّ رَضْخَ الْفَارِسِ قَدْ يَزْدَادُ عَلَى سَهْمِ الرَّاجِلِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِتْقَ يَزِيدُهُ خَيْرًا لَا شَرًّا. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ بَعْدَ الْعِتْقِ. - وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ لِلْخِدْمَةِ مَعَ مَوْلَاهُ فَقَاتَلَ، فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَهْلًا لَهُ عِنْدَ إذْنِ الْمَوْلَى، فَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ إنْ قَاتَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ، وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 907 1629 - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُرْضَخُ لَهُ. لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الِاكْتِسَابِ، وَعَمَّا يَتَمَحَّصُ مَنْفَعَتُهُ، وَاسْتِحْقَاقُ الرَّضْخِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَيَكُونُ هُوَ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى دَلَالَةً. وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ وَسَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ: - الْمُكَاتَبَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْزُوَ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ كَالْقِنِّ. لِأَنَّهُ فِي الْغَزْوِ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْخَطَرِ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَاطِرَ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَالْعَبْدِ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ لِلتِّجَارَةِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ، فَيَلْتَحِقُ هُوَ بِالْحُرِّ. وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ فِي الْكِتَابَةِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ شَرْطَهُ لَغْوٌ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ. - فَإِنْ قَاتَلَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَأَبْلَى بَلَاءً فَإِنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ عَلَى قَدْرِ بَلَائِهِ، إنْ كَانَ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا. لِأَنَّ فِعْلَهُ هَذَا كَانَ اكْتِسَابًا لِلْمَالِ، وَعِنْدَ الْكِتَابَةِ يُطْلَقُ ذَلِكَ لَهُ. فَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إذَا قَاتَلَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ. - وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مَعَ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ وَوَهَبَ لَهُ فَرَسًا، ثُمَّ لَحِقَ بِالْجُنْدِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالُهُ حِينَ لَحِقَ بِهِمْ. فَإِنْ كَانَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ فِيمَا يُصِيبُونَ بَعْدَ مَا يَلْحَقُ بِهِمْ، وَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ مَعَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 908 لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ مَا انْعَقَدَ لَهُ حِينَ دَخَلَ لَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ لَهُ السَّبَبُ حِينَ يَلْتَحِقُ بِالْجَيْشِ، فَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ التَّاجِرِ وَاَلَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. - وَلَوْ كَانَ مُكَاتَبًا حِينَ دَخَلَ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى، أَوْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى حَالِهِ حِينَ دَخَلَ. فَإِنْ كَانَ فَارِسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ عِتْقِهِ وَبَعْدَهُ. لِأَنَّ دُخُولَهُ كَانَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي الْغَزْوِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ. إذْ لَا خِدْمَةَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ. وَقَصْدُهُ إلَى الْقِتَالِ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ، فَانْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ بِالدُّخُولِ. وَقَدْ كَمُلَ حَالُهُ قَبْلَ تَمَامِ الْإِحْرَازِ، فَيَلْتَحِقُ بِمَا لَوْ كَانَ كَامِلَ الْحَالِ عِنْدَ الدُّخُولِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْجَوَابِ قَبْلَ هَذَا فِي الْمُكَاتَبِ غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ. 1634 - فَإِنْ لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى قُسِمَتْ الْغَنَائِمُ أَوْ بِيعَتْ، فَلَيْسَ لَهُ فِي تِلْكَ الْغَنَائِمِ إلَّا الرَّضْخُ. لِأَنَّ الْحَقَّ تَأَكَّدَ فِيهَا قَبْلَ كَمَالِ حَالِهِ. فَإِنَّ الْقِسْمَةَ وَالْبَيْعَ فِي تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِي الْغَنِيمَةِ كَالْإِحْرَازِ. وَلِهَذَا يَنْقَطِعُ بِهَا شَرِكَةُ الْمَدَدِ. فَيَكُونُ هَذَا وَمَا لَوْ عَتَقَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ. وَالرَّضْخُ الْوَاجِبُ يَكُونُ لَهُ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْمُكَاتَبِ، فَيُسَلَّمُ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ. - وَإِنْ خَاصَمَهُ مَوْلَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي الْمُكَاتَبَةِ (ص 299) يَفْسَخُ الْقَاضِي الْكِتَابَةَ. لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِبَعْضِ النُّجُومِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 909 وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إنْ كَانَ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ. لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمَّا انْفَسَخَتْ صَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَكَأَنَّ كَحَالِ الْعَبْدِ الدَّاخِلِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْتَحِقُّ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَوْلَاهُ فَهَذَا مِثْلُهُ. - وَلَوْ مَاتَ عَاجِزًا أَوْ عَنْ وَفَاءٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ أَوْ الْإِخْرَاجِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا لِمَوْلَاهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنْ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ. لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرَّضْخِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ، وَمَوْتُ الْغَازِي قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَالْقِسْمَةِ يُبْطِلُ سَهْمَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَمَوْتُ الْمُكَاتَبِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ الْبَيْعِ وَالْإِخْرَاجِ فَلَهُ نَصِيبُهُ مِنْهَا. كَمَا لَوْ مَاتَ الْحُرُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَاتَ عَاجِزًا كَانَ ذَلِكَ لِمَوْلَاهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ وَفَاءٌ بِالْمُكَاتَبَةِ، فَيَقْبِضُهُ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ وَيَحْكُمُ بِحُرِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: عِتْقُهُ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَتَقَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فِي حَيَاتِهِ. قُلْنَا: عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَيْنِ لَا يَسْتَنِدُ عِتْقُهُ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ هُوَ حَيًّا حُكْمًا إلَى وَقْتِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الْأُخْرَى هَذَا الْإِسْنَادُ لِأَجْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 910 الضَّرُورَةِ. فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الضَّرُورَةُ وَهُوَ حُكْمُ الْكِتَابَةِ. فَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ السَّهْمِ فَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ. - وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ فَمَاتَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَالْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ لِمَوْلَاهُ مِنْ ذَلِكَ، اعْتِبَارًا بِمَوْتِ مَنْ لَهُ سَهْمٌ. فَإِنْ قِيلَ: اسْتِحْقَاقُ الرَّضْخِ هَاهُنَا لِلْمَوْلَى بِسَبَبِ عَبْدِهِ كَاسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ لِلْفَارِسِ بِفَرَسِهِ. ثُمَّ بِمَوْتِ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُبْطِلُ سَهْمَ الْفَارِسِ فَكَذَلِكَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْطِلَ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الرَّضْخِ. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْعَبْدِ هَاهُنَا، ثُمَّ يَخْلُفُهُ الْمَوْلَى فِي مِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا يَخْلُفُهُ فِي سَائِرِ أَكْسَابِهِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَنْعَقِدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى أَنْ يَخْلُفَهُ مَوْلَاهُ فِي مِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ قَبْلَ الْقِتَالِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَوْلَاهُ الرَّضْخَ؟ بِخِلَافِ الْفَرَسِ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَالْقِسْمَةِ فَرَضْخُهُ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ. لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ قَدْ تَأَكَّدَ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَلَكِنْ يَخْلُفُهُ مَوْلَاهُ فِيهِ كَمَا يَخْلُفُ الْوَارِثُ الْمُوَرِّثَ. 1638 - وَإِنْ بَاعَهُ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ رَضْخُهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ تَحَوَّلَ الْمِلْكُ فِيهِ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَيَكُونُ رَضْخُهُ لِمَوْلَاهُ الْأَوَّلِ. أَمَّا إذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ انْعَقَدَ لَهُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ. وَيَثْبُتُ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْإِصَابَةِ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْمَوْلَى فِيهِ بِبَيْعِهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَكْسَابِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْذُونَ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ بَاعَهُ مَوْلَاهُ فَإِنَّ الْمُشْتَرَى يَكُونُ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 911 1639 - فَإِنْ غَنِمُوا غَنِيمَةً أُخْرَى بَعْدَ مَا بَاعَهُ مَوْلَاهُ فَنَصِيبُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ الثَّانِيَةِ لِلْمُشْتَرِي. لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فَيَخْلُفُهُ الْمُشْتَرِي فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ. - وَلَوْ كَانَ حُرًّا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ عَاقِلًا ثُمَّ صَارَ مَعْتُوهًا قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ نَصِيبَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهَا أُحْرِزَتْ (ص 300) وَهُوَ حَيٌّ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ مَعْتُوهًا. بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. - وَلَوْ لَمْ يَصِرْ مَعْتُوهًا وَلَكِنَّهُ ارْتَدَّ وَخَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّ نَصِيبَهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، يُرْضَخُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ رَضْخًا كَمَا يُصْنَعُ بِالذِّمِّيِّ. لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ. وَإِنَّمَا أُحْرِزَتْ الْغَنَائِمُ وَهُوَ أَهْلٌ لِاسْتِحْقَاقِ الرَّضْخِ دُونَ السَّهْمِ، لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ، أَوْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنَائِمِ أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُمَا بِسَهْمٍ كَامِلٍ. لِأَنَّهُ إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى حَالِهِمَا يَوْمَ تُحْرَزُ الْغَنَائِمِ بِالدَّارِ أَوْ تُقْسَمُ أَوْ تُبَاعُ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ جَوَابَهُ الْأَوَّلَ فِي الذِّمِّيِّ وَالْمُكَاتَبِ جَمِيعًا غَلَطٌ كَمَا بَيَّنَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 912 - وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا قَبْلَ الْإِحْرَازِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِحَرْبِيِّ الْأَصْلِ، وَالْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ وَلَحِقَ بِالْجَيْشِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ أَوْ قَبْلَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِكَةٌ فِي الْمُصَابِ، فَالْمُرْتَدُّ مِثْلُهُ. وَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ الشَّرِكَةَ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ صَارَ بِحَالٍ لَوْ أُصِيبَ مَالُهُ كَانَ فَيْئًا، وَلَوْ أَخَذَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا فَأَحْرَزَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ كَانَ لَهُ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ كَحَرْبِيِّ الْأَصْلِ. - وَلَوْ لَمْ يَلْتَحِقْ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ الرِّدَّةِ حَتَّى أُحْرِزَتْ الْغَنَائِمُ أَوْ قُسِمَتْ أَوْ بِيعَتْ فَنَصِيبُهُ مِنْهَا مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ. لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَأَكَّدَ فِيهَا، فَهُوَ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ. وَلَحَاقُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا كَمَوْتِهِ. - وَلَوْ لَمْ يَرْتَدَّ وَلَكِنْ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَلَمْ يَقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْزِلُوا نَصِيبَهُ فِيمَا غَنِمُوا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ. لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِيهِ، وَبِالْأَسْرِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِتَقَرُّرِ حَقِّهِ بِالْإِحْرَازِ. وَلَا شَيْءَ لَهُ فِيمَا غَنِمُوا بَعْدَ مَا أُسِرَ. لِأَنَّ الْمَأْسُورَ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ مَعَ الْجَيْشِ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا. فَهُوَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي إصَابَةِ هَذَا وَلَا فِي إحْرَازِهِ بِالدَّارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 913 - فَإِنْ لَمْ يَدْرِ مَا فَعَلُوا بِهِ حِينَ أُسِرَ قُسِمَتْ الْغَنَائِمُ وَلَمْ يُوقَفْ لَهُ مِنْهَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِحْقَاقِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِخْرَاجِ. وَالْمَفْقُودُ كَالْمَيِّتِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ ابْتِدَاءً، حَتَّى إذَا مَاتَ قَرِيبٌ لَهُ لَمْ يَرِثْهُ، وَلَمْ يُوقَفْ لِأَجْلِهِ شَيْءٌ. فَهَذَا مِثْلُهُ. - وَإِنْ قُسِمَتْ الْغَنَائِمُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ. لِأَنَّ حَقَّ الَّذِينَ قُسِمَ بَيْنَهُمْ قَدْ تَأَكَّدَ بِالْقِسْمَةِ وَثَبَتَ مِلْكُهُمْ فِيهَا. وَمِنْ ضَرُورَتِهِ إبْطَالُ الْحَقِّ الضَّعِيفِ. - وَإِنْ بِيعَتْ الْغَنَائِمُ أَوْ أُخْرِجَتْ وَتَخَلَّفَ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِحَاجَةِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَأُسِرَ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُهُ حَتَّى يَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ، أَوْ يَظْهَرُ مَوْتُهُ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ. لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَأَكَّدَ فِي الْمُصَابِ بِالْإِحْرَازِ فِي الْبَيْعِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 914 [بَابُ سُهْمَانِ الْخَيْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالشَّرِكَةِ فِي الْغَنِيمَةِ] 99 - بَابُ سُهْمَانِ الْخَيْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالشَّرِكَةِ فِي الْغَنِيمَةِ وَلَوْ أَنَّ جَيْشًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ، فَقَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى ظَفِرُوا بِهِمْ، فَإِنَّمَا الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْجِهَادِ، وَالْمُجَاهِدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ خَاصَّةً. بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دَارَ الْحَرْبِ، فَهُنَاكَ لِلْمَدَدِ شَرِكَةٌ فِي الْمُصَابِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ. لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ وَكَانُوا مُجَاهِدِينَ بِذَلِكَ. وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ مَوْضِعُ الْقِتَالِ (ص 301) ، فَكُلُّ مَنْ حَصَّلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَدَارُ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِمَوْضِعِ الْقِتَالِ، فَإِنَّمَا الْمُقَاتِلُ فِيهَا مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ خَاصَّةً. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَفَ فِي الْمَسْجِدِ بِالْبُعْدِ مِنْ الْإِمَامِ وَاقْتَدَى بِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَكَانُ الصَّلَاةِ، فَيُجْعَلُ هُوَ كَالْوَاقِفِ خَلْفَ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ. - وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ افْتَتَحُوا بَلْدَةً وَصَيَّرُوهَا دَارَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِمْ مَدَدٌ قَبْلَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَلَا شَرِكَةَ لَهُمْ فِي الْمُصَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 915 لِأَنَّ الْغَنَائِمَ بِمَا صَنَعُوا صَارَتْ مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ. فَكَأَنَّهُمْ أَخْرَجُوهَا ثُمَّ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ. وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشَّرِكَةِ لِلْمَدَدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ شَارَكُوهُمْ فِي الْإِحْرَازِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا. - وَكَذَلِكَ لَوْ قَسَمُوا الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَاعُوهَا ثُمَّ أَصَابَهُمْ مَدَدٌ. لِأَنَّ بِالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ كَمَا بِالْإِحْرَازِ. وَإِنَّمَا الشَّرِكَةُ لِلْمَدَدِ فِيمَا إذَا لَحِقُوا بِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَتَأَكَّدَ حَقُّهُمْ فِيهَا، اسْتِدْلَالًا بِالْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَهْلِ النجير بِالْيَمَنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ ". - وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَانْتَهَوْا إلَى مَدِينَةٍ مِثْلِ الْمِصِّيصَةِ أَوْ الْمَلْطِيَّةِ، فَخَرَجَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهَا وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى ظَفِرُوا بِهِمْ، فَالْغَنِيمَةُ لَهُمْ دُونَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: قَدْ كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُجَاهِدِينَ، إنَّمَا كَانُوا مُسْتَوْطِنِينَ فِي مَسَاكِنِهِمْ. وَالشَّرِكَةُ فِي الْمُصَابِ لِمَنْ كَانَ مُجَاهِدًا. وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي الْإِصَابَةِ وَلَا فِي الْإِحْرَازِ. - فَإِنْ كَانُوا تَسَلَّحُوا وَرَكِبُوا الْخَيْلَ وَأَتَوْا بَابَ الْمَدِينَةِ فَتَضَايَقَ النَّاسُ عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجَ بَعْضُهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْمُصَابِ هَاهُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 916 لِأَنَّهُمْ قَدْ شَهِدُوا الْوَقْعَةَ، وَكَانُوا مُجَاهِدِينَ حِينَ تَسَلَّحُوا وَأَتَوْا بَابَ الْمَدِينَةِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ يَلْقَوْنَ الْعَدُوَّ مُحْصَرِينَ فَلَا يَلِي الْقِتَالَ مِنْهُمْ إلَّا قَوْمٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ تَكُونُ الْغَنِيمَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ. لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا شَهِدُوا الْوَقْعَةَ فَهَذَا مِثْلُهُ. - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بَلَغُوا بَابَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَرَجَ مِنْ دَارِهِ مُتَسَلِّحًا فَمَنَعَهُ ذَلِكَ الزِّحَامُ مِنْ الْمُضِيِّ إلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِي الْمُصَابِ. لِأَنَّهُ مُجَاهِدٌ فِيمَا صَنَعَ، شَاهِدٌ لِلْوَقْعَةِ. - وَإِنْ كَانَ وَاقِفًا عَلَى بَابِ دَارِهِ، أَوْ فِي جَوْفِ دَارِهِ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا، إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْمُضِيِّ إلَّا الزِّحَامُ. فَإِنْ كَانَ بَابُ دَارِهِ مَفْتُوحًا كَانَ لَهُ سَهْمٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ بَابُ دَارِهِ مُغْلَقًا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ. لِأَنَّ هَذَا مُتَحَصِّنٌ بِمَنْزِلِهِ لَيْسَ بِمُتَوَجِّهٍ إلَى مَوْضِعِ الْقِتَالِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَابُ دَارِهِ مَفْتُوحًا. - قَالَ: وَلَوْ كَانَ لِهَذَا سَهْمٌ لَكَانَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مَعَ امْرَأَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 917 فِي جَوْفِ بَيْتِهِ يُجَامِعُهَا. وَبَعْضُ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْبَعْضِ. وَلَكِنْ إنَّمَا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ أُمُورُ النَّاسِ. 1656 - وَإِنْ كَانُوا عَلَى سُورِ الْمَدِينَةِ يَرْمُونَ أَوْ يَصِيحُونَ بِمَا فِيهِ تَحْرِيضٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِرْهَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ كَانُوا شُرَكَاءَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَجَاهَدَ نَوْعًا مِنْ الْجِهَادِ. - وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ أَمَرَهُمْ بِالْكَيْنُونَةِ عَلَى سُورِهَا لِيَمْنَعُوا الْعَدُوَّ مِنْ دُخُولِ الْمَدِينَةِ إنْ هَزَمُوا الْمُسْلِمِينَ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يُعِينُوا الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْغَنِيمَةِ أَيْضًا. لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ شَهِدُوا الْوَقْعَةَ وَاشْتَغَلُوا بِمَا فِيهِ قُوَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ فَرَاغُ قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْ يَظْفَرَ الْعَدُوُّ بِمَدِينَتِهِمْ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (ص 302) أَنَّهُ أَمَرَ الرُّمَاةَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مَرَاكِزَهُمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، شُرَكَاءَ فِي الْمُصَابِ أَنْ لَوْ أَصَابُوا الْغَنَائِمَ. - وَلَوْ خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَقَاتَلُوهُمْ رَجَّالَةً وَقَدْ سَرَّجُوا خُيُولَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، لَمْ يُضْرَبْ لَهُمْ إلَّا بِسَهْمِ الرَّجَّالَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 918 لِأَنَّهُمْ مَا قَاتَلُوا عَلَى الْأَفْرَاسِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، فَإِسْرَاجُ الْفَرَسِ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْقِتَالِ فِي شَيْءٍ. - وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ عَلَى الْخَيْلِ ثُمَّ نَزَلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ وَقَاتَلُوا رَجَّالَةً اسْتَحَقُّوا سَهْمَ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا الْوَقْعَةَ فُرْسَانًا، وَإِنَّمَا تَرَجَّلُوا لِضِيقِ الْمَكَانِ أَوْ لِزِيَادَةِ جِدٍّ مِنْهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَلَا يُحْرَمُونَ بِهِ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. - وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَ الْمَعْرَكَةَ رَاجِلًا وَمَعَهُ غُلَامٌ يَقُودُ مِنْ فَرَسِهِ إلَى جَنْبِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّهُ مُقَاتِلٌ بِفَرَسِهِ حُكْمًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ يَدِ الْغُلَامِ، وَالْقِتَالُ عَلَيْهِ. - وَلَوْ حَضَرَ فَارِسًا ثُمَّ أَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يَرُدَّ فَرَسَهُ إلَى مَنْزِلِهِ، فَرَدَّهُ وَقَاتَلَ رَاجِلًا، فَلَهُ سَهْمُ الرَّاجِلِ فَقَطْ. لِأَنَّ الْغُلَامَ حِينَ رَدَّ فَرَسَهُ فَكَأَنَّهُ مَا أَحْضَرَهُ مَوْضِعَ الْقِتَالِ أَصْلًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ احْتَاجَ إلَى الْقِتَالِ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ. - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَدْنُوَا مِنْ الْمَدِينَةِ وَلَكِنَّهُمْ عَسْكَرُوا عَلَى أَمْيَالٍ مِنْهَا، فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ رَجَّالَةً وَفُرْسَانًا حَتَّى هَزَمُوهُمْ وَأَصَابُوا الْغَنَائِمَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ سَوَاءٌ قَاتَلَ رَاجِلًا أَوْ فَارِسًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 919 لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْضَرَ فَرَسَهُ الْعَسْكَرَ فَقَدْ صَارَ مُقَاتِلًا بِفَرَسِهِ حُكْمًا. - وَإِنْ بَاشَرَ الْقِتَالَ رَاجِلًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْفَرَسُ فِي مَنْزِلِهِ عَلَى آرِيِّهِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُجَاهِدًا بِهِ. لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا. - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ عَسْكَرُوا بِحِذَائِهِمْ تَنَحَّى الْمُشْرِكُونَ عَنْ مُعَسْكَرِهِمْ، فَأَتْبَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى لَحِقُوهُمْ فَقَاتَلُوهُمْ رَجَّالَةً، وَخُيُولُهُمْ فِي الْمُعَسْكَرِ، فَإِنْ كَانُوا لَقُوهُمْ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ مَنْ فِي الْمُعَسْكَرِ عَلَى أَنْ يُعِينَهُمْ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَبْعَثُوا إلَى خَيْلِهِمْ بَعَثُوا إلَيْهِمْ، فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْمُصَابِ، لِلْفَارِسِ مِنْهُمْ سَهْمُ الْفَارِسِ. لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا فِي الْحُكْمِ قَدْ شَهِدُوا الْوَقْعَةَ لِقُرْبِ الْمُعَسْكَرِ مِنْ مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ. - وَإِنْ كَانُوا قَدْ تَبَاعَدُوا مِنْ الْمُعَسْكَرِ فَلَيْسَ لِمَنْ فِي الْمُعَسْكَرِ مَعَهُمْ شَرِكَةٌ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ إلَّا لِمَنْ حَضَرَ الْمَعْرَكَةَ عَلَى فَرَسِهِ. لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ رَكِبُوا الْإِبِلَ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى سَارُوا أَيَّامًا كَانُوا رَجَّالَةً وَلَمْ يُنْظَرْ إلَى مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الْخَيْلِ فِي الْمُعَسْكَرِ؟ لِأَنَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ الِاسْتِحْقَاقَ بِشُهُودِ الْوَقْعَةِ، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ. وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شُهُودُ الْوَقْعَةِ بِالْحُضُورِ حَقِيقَةً، أَوْ بِأَنْ كَانُوا بِالْقُرْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 920 مِنْهُ حُكْمًا عَلَى وَجْهٍ لَوْ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يُغِيثُوهُمْ. فَيَكُونُونَ كَالرِّدْءِ لَهُمْ. فَأَمَّا إذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. - وَلَوْ خَرَجُوا إلَى عَسْكَرِهِمْ فُرْسَانًا فَنَفَقَ فَرَسُ بَعْضِهِمْ كَانَ لَهُمْ سَهْمُ الْفَارِسِ. لِأَنَّهُ حَضَرَ الْمُعَسْكَرَ فَارِسًا فَيَصِيرُ بِهِ مُجَاهِدًا بِفَرَسِهِ، إذَا كَانَ الْقِتَالُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ. وَهَذَا فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَارِسًا أَنْ لَوْ كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ إلَى الْعَسْكَرِ رَاجِلًا فَلَمْ يَلْقَ قِتَالًا حَتَّى أَتَى بِفَرَسِهِ، (ص 303) أَوْ اشْتَرَى فَرَسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ لَوْ اصْطَفَّ الْفَرِيقَانِ لِلْقِتَالِ وَهُوَ رَاجِلٌ ثُمَّ أَتَى بِفَرَسِهِ أَوْ اشْتَرَى فَرَسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا شُهُودُ الْوَقْعَةِ. وَحَقِيقَةُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الْقِتَالِ. فَحُضُورُ الْمُعَسْكَرِ وَإِنْ أُقِيمَ مَقَامَهُ حُكْمًا لَا يَسْقُطُ بِهِ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ. - فَإِنْ الْتَحَمَ الْقِتَالُ وَهُوَ رَاجِلٌ ثُمَّ أَصَابَ فَرَسًا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا سَهْمُ رَاجِلٍ. لِأَنَّ شُهُودَ الْوَقْعَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا قَدْ وُجِدَ مِنْهُ وَهُوَ رَاجِلٌ، فَلَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بِإِصَابَةِ الْفَرَسِ بَعْدَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 921 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ وَأَخَذَ فَرَسَهُ فَقَاتَلَ عَلَيْهِ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ إلَّا بِسَهْمِ رَاجِلٍ. - وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قُتِلَ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِمْ بِالْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَزِمَ الْعَدُوُّ فَلَا شَرِكَةَ لَهُمْ فِي الْمُصَابِ. لِأَنَّ الْإِصَابَةَ لَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ الْقِتَالِ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مُمْتَنِعُونَ بَعْدُ، دَافِعُونَ عَنْ أَمْوَالِهِمْ. - وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ بَعْدَ مَا انْهَزَمُوا ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمٍ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الْقِتَالَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَبِانْهِزَامِ الْعَدُوِّ يَتَأَكَّدُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَتَصِيرُ الْغَنَائِمُ فِي حُكْمِ الْمُحْرَزَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ لَا يَبْطُلُ نَصِيبُهُ. فَهَذَا مِثْلُهُ. - وَلَوْ أَصَابَ مُسْلِمٌ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِمْ بِالْقِتَالِ فَرَسًا، هِبَةً أَوْ شِرَاءً، فَقَاتَلَ عَلَيْهِ وَغَنِمُوا غَنِيمَةً وَرَجَعُوا إلَى عَسْكَرِهِمْ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ فِيهَا إلَّا بِسَهْمِ رَاجِلٍ. لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ. وَذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ الْقِتَالِ. وَقَدْ كَانَ رَاجِلًا. - فَإِنْ عَادُوا مِنْ الْغَدِ لِلْقِتَالِ وَعَادَ مَعَهُمْ فَارِسًا وَأَصَابُوا غَنِيمَةً ضُرِبَ لَهُ فِيهَا بِسَهْمِ فَارِسٍ. لِأَنَّ هَذِهِ وَقْعَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْأُولَى، وَقَدْ شَهِدَهَا فَارِسًا. فَالْأُولَى قَدْ انْقَضَتْ حِينَ كَفَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 922 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصَابَ الْفَرَسَ قَبْلَ الْقِتَالِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى كَانَ لَهُ سَهْمُ فَارِسٍ فِي الْمُصَابِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. - وَلَوْ قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يُصِيبُوا شَيْئًا حَتَّى جَاءَ قَوْمٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مَدَدًا لَهُمْ، فُرْسَانًا أَوْ رَجَّالَةً، فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ، أَوْ وَقَفُوا رِدْءًا لَهُمْ، حَتَّى أَصَابُوا غَنِيمَةً شَارَكُوهُمْ فِيهَا. فَمَنْ كَانَ فَارِسًا ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِ فَارِسٍ، وَمَنْ كَانَ رَاجِلًا ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِ رَاجِلٍ. لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا الْوَقْعَةَ قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ، فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ خَرَجَ مَعَ الْجَيْشِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ انْتَهَوْا إلَى عَسْكَرِهِمْ فَأَقَامُوا فِيهِ وَلَمْ يَأْتُوا مَوْضِعَ الْقِتَالِ، أَوْ عَسْكَرُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ حَيْثُ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغِيثُوهُمْ. لِأَنَّهُمْ فَارَقُوا مَنَازِلَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونُوا مَدَدًا لِلْجَيْشِ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ. فَإِذَا وَصَلُوا إلَى مَوْضِعٍ لَوْ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ أَغَاثُوهُمْ قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ كَانُوا رِدْءًا لَهُمْ، وَالرِّدْءُ كَالْمُبَاشِرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُصَابِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا غَنِمُوا غَنَائِمَ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُمْ وَغَنَائِمَ بَعْدَ مَا أَتَوْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 923 لِأَنَّ الْقِتَالَ مَا دَامَ قَائِمًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَالْإِصَابَةُ لَا تَتِمُّ. إذْ الْمُشْرِكُونَ قَاصِدُونَ إلَى الِاسْتِنْقَاذِ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّمَا تَمَّتْ الْإِصَابَةُ فِي الْكُلِّ بِقُوَّةِ الَّذِينَ أَتَوْهُمْ رِدْءًا. - وَلَوْ كَانُوا حِينَ غَنِمُوا غَنَائِمَ كَفُّوا عَنْ الْقِتَالِ، فَأَتَى كُلُّ فَرِيقٍ عَسْكَرَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْمَدَدُ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّ الْوَقْعَةَ الَّتِي أُصِيبَ فِيهَا تِلْكَ الْغَنَائِمُ قَدْ انْقَضَتْ، فَإِنَّمَا الشَّرِكَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ (ص 304) حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَلِأَنَّ الْإِصَابَةَ قَدْ تَمَّتْ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ. حَقِيقَةً بِتَفْرِيقِ الْفَرِيقَيْنِ. وَحُكْمًا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَا شَرِكَةَ لِلْمَدَدِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. - فَإِنْ عَادُوا إلَى الْعَدُوِّ مِنْ الْغَدِ وَقَاتَلُوهُمْ وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، شَارَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ الثَّانِيَةِ. لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا الْوَقْعَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا صَارَتْ مُحْرَزَةً بِمُبَاشَرَتِهِمْ الْقِتَالَ أَوْ قُرْبِهِمْ بِأَنْ كَانُوا رِدْءًا لِلْجَيْشِ. - وَإِنْ كَانُوا حِينَ لَقُوا الْعَدُوَّ مِنْ الْغَدِ قَاتَلُوهُمْ فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ إلَى خَنْدَقِهِمْ، فَمَنَعَهُمْ الْمَدَدُ الَّذِينَ جَاءُوا حَتَّى هَزَمُوا عَنْهُمْ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالُوا نُشَارِكُكُمْ فِي الْغَنَائِمِ الْأُولَى لِأَنَّا دَفَعْنَا الْمُشْرِكِينَ عَنْهَا بِالْقِتَالِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمْ. لِأَنَّهَا صَارَتْ مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ هَذَا الْقِتَالِ. وَالْقِتَالُ لِلدَّفْعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 924 عَنْ الْمَالِ فِي الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ بِالدَّارِ، كَالْقِتَالِ لِلدَّفْعِ عَنْ ثِيَابِ الْجَيْشِ وَأَسْلِحَتِهِمْ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لَهُمْ الشَّرِكَةَ فِيهَا. - وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ هَزَمُوا الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا تِلْكَ الْغَنَائِمَ فَاسْتَنْقَذَهَا مِنْهُمْ الْمَدَدُ فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَهَا إلَى أَهْلِهَا. لِأَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ تَأَكَّدَ فِيهَا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْتَحَقَتْ بِأَمْوَالِهِمْ، فَيَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ أَخَذُوهَا لَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ، فَبَقِيَتْ حَقًّا لِلْأَوَّلِينَ كَمَا كَانَتْ. بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِينَ هُنَاكَ لَمْ يَتَأَكَّدْ لِانْعِدَامِ الْإِحْرَازِ. وَإِحْرَازُ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهَا بِالْأَخْذِ يَتِمُّ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْأَوَّلِينَ عَنْهَا وَيَلْتَحِقُ بِالْغَنَائِمِ الَّتِي يُصِيبُونَهَا الْآنَ ابْتِدَاءً. - وَلَوْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ فَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ فِي السُّفُنِ وَحَمَلُوا مَعَهُمْ الْخَيْلَ رَجَاءَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى الْبَرِّ فَيُقَاتِلُوهُمْ، فَالْتَقُوا فِي الْبَحْرِ فَاقْتَتَلُوا، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَإِنَّهُمْ يَقْسِمُونَهَا عَلَى الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ. لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا مُؤْنَةَ الْفَرَسِ لِقَصْدِ الْجِهَادِ عَلَيْهِ، فَلَا يُحْرَمُونَ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِقِتَالِهِمْ رَجَّالَةً فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ لَقُوهُمْ فِي بَعْضِ الْمَضَايِقِ فَتَرَجَّلُوا أَوْ قَاتَلُوا رَجَّالَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 925 اسْتَحَقُّوا سَهْمَ الْفُرْسَانِ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَاتَلُوهُمْ عَلَى بَابِ حِصْنٍ رَجَّالَةً اسْتَحَقُّوا سَهْمَ الْفُرْسَانِ لِهَذَا الْمَعْنَى كَذَلِكَ هُنَا. - فَإِنْ كَانُوا تَرَكُوا الْخَيْلَ عَلَى السَّاحِلِ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَرَكِبُوا السُّفُنَ رَجَّالَةً، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ كَانُوا تَبَاعَدُوا مِنْ خُيُولِهِمْ، حَتَّى لَوْ كَانُوا فِي الْبَرِّ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَفْرَاسِهِمْ إنْ احْتَاجُوا إلَى الْقِتَالِ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَهْمُ الْفَرَسِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ تَخَلَّفَ فِي الْمُعَسْكَرِ عَلَى السَّاحِلِ شَرِكَةٌ مَعَهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَلَى الْبَرِّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ لِمَنْ تَخَلَّفَ فِي الْمُعَسْكَرِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانُوا فِي الْبَحْرِ. - وَإِنْ كَانُوا لَقُوا الْعَدُوَّ قَرِيبًا مِنْ الْمُعَسْكَرِ حَيْثُ يُغِيثُونَهُمْ إنْ أَرَادُوا غَنَائِمَهُمْ فَلَهُمْ الشَّرِكَةُ، وَيُضْرَبُ لِأَصْحَابِ الْخَيْلِ فِيهَا بِسِهَامِ الْخَيْلِ. لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا الْوَقْعَةَ وَصَارُوا بِقُرْبِهِمْ مِنْ مَوْضِعِ الْقِتَالِ كَأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ الْقِتَالِ. وَإِنَّمَا انْهَزَمَ الْعَدُوُّ وَظَفِرَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ بِقُوَّةِ مَنْ كَانَ فِي الْمُعَسْكَرِ فَيُشَارِكُونَهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَوْ كَانُوا فِي جَزِيرَةٍ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 926 عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِثْلُ عَرْضِ الدِّجْلَةِ، فَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي السُّفُنِ حَتَّى أَصَابُوا غَنَائِمَ، فَإِنَّ مَنْ فِي الْمُعَسْكَرِ يُشَارِكُهُمْ فِيهَا إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ (ص 305) ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَوَّلِ. - وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ غَيْضَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ غِيَاضِ طَبَرِسْتَانَ، فَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوهَا عَلَى الْخَيْلِ، فَدَخَلُوهَا رَجَّالَةً، وَقَاتَلُوا الْعَدُوَّ قَرِيبًا مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ حَيْثُ يَسْمَعُونَ صَهِيلَ خُيُولِهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ شُرَكَاؤُهُمْ فِيمَا غَنِمُوا، وَلِأَصْحَابِ الْخَيْلِ سَهْمُ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّ الْكُلَّ، لِلْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْقِتَالِ، كَالْحُضُورِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. - وَإِنْ أَمْعَنُوا فِي الْغَيْضَةِ عَلَى إثْرِ الْعَدُوِّ حَتَّى اقْتَتَلُوا فِي مَوْضِعٍ لَوْ طَلَبُوا الْغِيَاثَ لَمْ يُغِثْهُمْ أَصْحَابُهُمْ فَلَا شَرِكَةَ لِمَنْ فِي الْمُعَسْكَرِ مَعَهُمْ فِي الْمُصَابِ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا لِبُعْدِهِمْ مِنْ مَوْضِعِ الْقِتَالِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ تَحَصَّنَ الْمُسْلِمُونَ فِي قَلْعَةٍ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ. أَوْ فِي جَبَلٍ لَا تَقْدِرُ الْخَيْلُ عَلَى صُعُودِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، أَوْ تَحَصَّنُوا فِي حِصْنٍ وَجَعَلُوا الْمَاءَ فِي الْخَنْدَقِ، حَتَّى صَارَ مَا حَوْلَ الْمَدِينَةِ شَبَهَ الْبُحَيْرَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 927 فَرَكِبُوا السُّفُنَ حَتَّى انْتَهَوْا إلَى الْحِصْنِ، وَصَعِدُوا الْقَلْعَةَ رَجَّالَةً حَتَّى فَتَحُوا الْقَلْعَةَ، وَأَصَابُوا الْغَنَائِمَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهَا، وَلِأَصْحَابِ الْخَيْلِ سَهْمُ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّ الَّذِينَ ظَفِرُوا بِالْعَدُوِّ إنَّمَا ظَفِرُوا بِقُوَّةِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ حِينَ كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ. - إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعَسْكَرُ نَائِيًا عَنْ الْقَلْعَةِ وَالْحِصْنِ بِحَيْثُ لَا يُغِيثُونَهُمْ وَلَا يَكُونُونَ رِدْءًا لَهُمْ، فَحِينَئِذٍ لَا شَرِكَةَ مَعَهُمْ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ تَمَكُّنَهُمْ مِنْ الْإِصَابَةِ بِقُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ لَا بِقُوَّةِ مَنْ فِي الْمُعَسْكَرِ، وَالْإِصَابَةُ تَتِمُّ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَى الْمُعَسْكَرِ هَاهُنَا، وَتَصِيرُ الْغَنِيمَةُ مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا هَذَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعُوا إلَى الْمُعَسْكَرِ، وَلَكِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْمُعَسْكَرِ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا، إلَّا إذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ. حِينَ اقْتَتَلُوا وَأَصَابُوا عَلَى وَجْهٍ لَوْ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ أَغَاثُوهُمْ؟ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. إلَّا أَنَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ خَلَّفَ فَرَسَهُ فِي الْمُعَسْكَرِ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِصَابَةُ بَعْدَ مَا بَعِدُوا مِنْ الْمُعَسْكَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ هُنَاكَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ قَدْ انْعَقَدَ بِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَارِسًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَفَقَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ؟ فَكَذَلِكَ إذَا خَلَّفَهُ فِي الْمُعَسْكَرِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ الْجُنْدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ بِسَهْمٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 928 فَلِهَذَا لَا شَرِكَةَ لِمَنْ تَخَلَّفَ فِي الْمُعَسْكَرِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّرِيَّةِ خَلَّفَ فَرَسَهُ فِي الْمُعَسْكَرِ اسْتَحَقَّ السَّهْمَ بِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ هَاهُنَا بِشُهُودِ الْوَقْعَةِ فَارِسًا، وَحِينَ كَانَ فَرَسُهُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ إنْ لَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ، فَهُوَ مَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ إلَّا رَاجِلًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 929 [بَابُ دُخُولِ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ بِالْخَيْلِ وَمَنْ يُسْهَمُ لَهُ مِنْهُمْ] 100 - بَابُ دُخُولِ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ بِالْخَيْلِ وَمَنْ يُسْهَمُ لَهُ مِنْهُمْ فِي الْغَصْبِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْحَبْسِ قَالَ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَعْرِضَ الْجَيْشَ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَيَكْتُبَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ (ص 306) بِأَسْمَائِهِمْ، وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، وَحِلَاهُمْ، وَيَكْتُبَ الرَّجَّالَةَ كَذَلِكَ. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْعَقِدُ لَهُمْ الْآنَ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. ثُمَّ إذَا رَجَعُوا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَرَضَهُمْ أَيْضًا. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِضَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ عَرْضُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَلِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ يَكْتَفِي بِالْعَرْضِ عِنْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ ابْتِدَاءً وَعِنْدَ تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِالْإِحْرَازِ. - فَمَنْ مَرَّ بِهِ فِي الْعَرْضِ الثَّانِي رَاجِلًا وَقَدْ كَانَ فِي الْعَرْضِ الْأَوَّلِ فَارِسًا سَأَلَهُ عَنْ فَرَسِهِ مَا حَالُهُ. فَإِنْ قَالَ: عُقِرَ أَوْ نَفَقَ أَوْ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 930 لِأَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ، وَانْعِقَادُ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مَعْلُومٌ. وَأَصْحَابُهُ بِقَوْلِهِمْ إنَّهُ بَاعَ فَرَسَهُ يَدَّعُونَ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَهُ مِنْ مَعْنَى هُوَ عَارِضٌ وَهُوَ مُنْكِرٌ. لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، حَتَّى يَثْبُتَ الْعَارِضُ الْمُسْقِطُ. - فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ بَاعَ فَرَسَهُ قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ الْعَارِضُ الْمُسْقِطُ لِاسْتِحْقَاقِهِ. وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَلَوْ عَايَنَاهُ أَنَّهُ بَاعَ فَرَسَهُ قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ السَّهْمَ. إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ ". وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ أَوْ مِنْ التُّجَّارِ. لِأَنَّ شَرِكَتَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ. فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَبِمِثْلِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي الشَّهَادَةِ، كَمَا فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ. - فَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ بِفَرَسِهِ لِيَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ غَازِيًا فَغَصَبَ مُسْلِمٌ فَرَسَهُ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ فَرَسَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ فَأَخَذَهُ، فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ إلَّا سَهْمُ الرَّجَّالَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 931 لِأَنَّهُ كَانَ رَاجِلًا حِينَ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ فَرَسٌ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ إنْ لَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَقَدْ أُثْبِتَ اسْمُهُ فِي دِيوَانِ الرَّجَّالَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَوْدِ الْفَرَسِ إلَى يَدِهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى فَرَسًا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُؤْنَةَ الْفَرَسِ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ، حِينَ خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ فَارِسًا وَقَاتَلَ وَهُوَ فَارِسٌ أَيْضًا، فَلَا يُحْرَمُ سَهْمَهُ بِعَارِضِ غَصْبٍ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، يُزِيلُ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ مَرِضَ فَرَسُهُ. أَرَأَيْت أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مِقْدَارُ نِصْفِ مِيلٍ، فَنَزَلَ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، فَاسْتَوَى رَاجِلٌ عَلَى فَرَسِهِ فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ دَخَلَ صَاحِبُ الْفَرَسِ عَلَى إثْرِهِ فَأَخَذَهُ مِنْهُ، أَكَانَ يُحْرَمُ سَهْمَ الْفَرَسِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّهُ عَارَ الْفَرَسُ حِينَ نَزَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، فَاتَّبَعَهُ الرَّجُلُ فَأَخَذَهُ، أَكَانَ يُحْرَمُ سَهْمَ الْفَرَسِ؟ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّهُ حِينَ عَارُ الْفَرَسُ أَخَذَهُ مُسْلِمٌ فَرَكِبَهُ أَوْ لَمْ يَرْكَبْهُ، حَتَّى دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ وَجَدَ صَاحِبَهُ فَأَخَذَهُ مِنْهُ، أَكَانَ يُحْرَمُ سَهْمَ الْفَرَسِ؟ لَا يَسْتَجِيزُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: بِهَذَا الْقَدْرِ يُحْرَمُ سَهْمَ الْفَرَسِ. فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ، وَلَكِنَّهُ إنْ مَرَّ بِاَلَّذِي يَعْرِضُهُمْ وَهُوَ رَاجِلٌ وَأَخْبَرَهُ هَذَا الْخَبَرَ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى قَوْلِهِ، وَكَتَبَهُ رَاجِلًا، لِأَنَّهُ يَعْلَمُهُ رَاجِلًا حَقِيقَةً، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَلَا يَدَعُ الْحَقِيقَةَ لِأَجْلِهِ. فَإِنْ كَتَبَهُ رَاجِلًا ثُمَّ مَرَّ بِهِ فِي الْعَرْضِ الثَّانِي وَهُوَ فَارِسٌ، فَقَالَ: هَذَا الْفَرَسُ الَّذِي كُنْت أَخْبَرْتُكَ خَبَرَهُ، لَمْ يُصَدِّقْهُ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 932 سَهْمِ الْفَرَسِ بِسَبَبٍ لَمْ يُعْرَفْ. وَالِاسْتِحْقَاقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لَا يَثْبُتُ، فَيَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ (ص 307) الْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. - وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ حِينَ أَدْخَلَ فَرَسَ الْغَازِي دَارَ الْحَرْبِ قَاتَلَ عَلَيْهِ حَتَّى غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ وَخَرَجُوا، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ بِسَهْمِ الْفَارِسِ. لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُؤْنَةَ الْفَرَسِ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ وَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالْقِتَالِ، فَإِنَّ مُؤْنَةَ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ مَا لَمْ يَرُدَّهُ. - وَلَا فَرْقَ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ الْقِتَالِ حِسًّا بَيْنَ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ وَالْفَرَسِ الْمَمْلُوكِ لَهُ. ثُمَّ يُرَدُّ الْفَرَسُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَغْرَمُ لَهُ مَا نَقَصَ إنْ كَانَ نَقَصَهُ شَيْءٌ. لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ مِنْ السَّهْمِ إنَّمَا اسْتَحَقَّهُ لِقِتَالِهِ عَلَى الْفَرَسِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ الْمَغْصُوبَ وَأَخَذَ الْأَجْرَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى الْأَجْرِ سَبِيلٌ، وَإِنَّمَا لَهُ نُقْصَانُ الْفَرَسِ إنْ تَمَكَّنَ فِيهِ نُقْصَانٌ، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَا يُضْرَبُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ فِي الْغَنِيمَةِ إلَّا بِسَهْمِ رَاجِلٍ. لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ بِالْفَرَسِ الْوَاحِدِ لَا يَسْتَحِقُّ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السَّهْمَ الْكَامِلَ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْغَاصِبُ السَّهْمَ بِهَذَا الْفَرَسِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَالِكُ بِهِ شَيْئًا. - وَلَوْ كَانَ غَصَبَهُ مِنْهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَلِصَاحِبِ الْفَرَسِ سَهْمُ فَارِسٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 933 لِأَنَّ زَوَالَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ بِالْغَصْبِ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الدَّرْبَ كَزَوَالِ تَمَكُّنِهِ بِمَوْتِ الْفَرَسِ. وَالْغَاصِبُ لَا يُضْرَبُ لَهُ إلَّا بِسَهْمِ رَاجِلٍ. لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا جُعِلَ فَارِسًا بِهَذَا الْفَرَسِ فَغَيْرُهُ لَا يَكُونُ فَارِسًا بِهِ أَيْضًا. وَلِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى فَرَسًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، فَإِذَا غَصَبَ فَرَسًا أُخْرَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهِ سَهْمَ الْفُرْسَانِ أَوْلَى. - وَلَوْ غُصِبَ الْفَرَسُ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ ثُمَّ أَصَابُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ غَنَائِمَ وَالْفَرَسُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ الْمَالِكُ، وَأَصَابُوا غَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقِتَالٍ أَوْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَفِي الْغَنَائِمِ الْأُولَى يُضْرَبُ لِلْغَاصِبِ بِسَهْمِ فَارِسٍ. لِأَنَّهُ انْفَصَلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا، وَقَاتَلَ حِينَ أُصِيبَتْ تِلْكَ الْغَنَائِمُ وَهُوَ فَارِسٌ، فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. وَيُضْرَبُ فِيهَا لِصَاحِبِ الْفَرَسِ بِسَهْمِ رَاجِلٍ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْفَرَسِ الْوَاحِدِ فَارِسَانِ. وَمَا أَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ بَعْدَ مَا اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الْفَرَسِ فَرَسَهُ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ فِيهِ بِسَهْمِ الْفَارِسِ. لِأَنَّهُ اسْتَرَدَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ اسْتَرَدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُضْرَبُ لِلْغَاصِبِ فِيهَا بِسَهْمِ رَاجِلٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 934 الْفَرَسِ لَمَّا كَانَ فَارِسًا فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ بِهَذَا الْفَرَسِ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ فَارِسًا بِهَا، وَلِأَنَّ الْفَرَسَ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ كَانَ سَابِقًا عَلَى دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ. وَلَوْ أُخِذَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ اعْتَرَضَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِأَنْ بَاعَهُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَكَذَلِكَ إنْ لَقُوا قِتَالًا فَقَاتَلَ صَاحِبُ الْفَرَسِ عَنْ الْغَنَائِمِ الْأُولَى بَعْدَمَا اسْتَرَدَّ فَرَسَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُضْرَبُ لَهُ فِيهَا إلَّا بِسَهْمِ رَاجِلٍ، لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي الْغَنَائِمِ الْأُولَى بِقَدْرِ سَهْمِ رَاجِلٍ، فَهُوَ مَا قَاتَلَ إلَّا دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ الْحَقِّ، فَلَا يَزْدَادُ بِهِ حَقُّهُ (ص 308) وَلَا يَبْطُلُ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْغَاصِبِ مِنْ سَهْمِ فَرَسِهِ. - وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْفَرَسِ حِينَ جَاءَ يُرِيدُ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ أَعَارَ مُسْلِمًا فَرَسَهُ وَقَالَ: قَاتِلْ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَلَمَّا أَدْخَلَهُ الْمُسْتَعِيرُ دَارَ الْحَرْبِ بَدَا لِلْمُعِيرِ فَأَخَذَهُ مِنْهُ قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَلِصَاحِبِ الْفَرَسِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ سَهْمُ رَاجِلٍ. لِأَنَّهُ أَزَالَ الْفَرَسَ عَنْ يَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ وَهُوَ رَاجِلٌ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِاسْتِرْدَادِ الْفَرَسِ، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ بِشِرَاءِ الْفَرَسِ. وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ مَا اسْتَحْسَنَّا فِيهِ مِنْ فَصْلِ الْغَصْبِ، فَإِنَّ هُنَاكَ مَا أَزَالَ يَدَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا ثُمَّ أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ فَرَسَهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ؟ وَلَوْ بَاعَ فَرَسَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. وَمَا كَانَ الْفَرْقُ إلَّا بِهَذَا، أَنَّ تَمَكُّنَهُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ زَالَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا بِاخْتِيَارِهِ. وَفِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ أَزَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 935 - وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَلَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ رَدِّهِ الْفَرَسَ عَلَى الْمُعِيرِ. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ بِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ انْعَقَدَ لَهُ وَهُوَ فَارِسٌ، وَالْإِصَابَةُ وُجِدَتْ وَهُوَ فَارِسٌ أَيْضًا، وَقَدْ قَرَّرَنَا هَذَا فِي الْغَاصِبِ، فَفِي الْمُسْتَعِيرِ أَوْلَى. - وَأَمَّا مَا أُصِيبَ بَعْدَ رَدِّ الْفَرَسِ فَلَهُ فِي ذَلِكَ سَهْمُ رَاجِلٍ. لِأَنَّ الْفَرَسَ أُخِذَ مِنْهُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ سَابِقًا عَلَى دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ ذَلِكَ. - وَلَوْ نَفَقَ الْفَرَسُ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ ضُرِبَ لَهُ فِي الْغَنَائِمِ كُلِّهَا بِسَهْمِ فَرَسٍ. لِأَنَّهُ كَانَ فَارِسًا حِينَ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ، ثُمَّ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ بِحَقٍّ حَتَّى نَفَقَ فِي يَدِهِ، فَيَكُونُ هُوَ كَالْمَالِكِ فِي ذَلِكَ. - وَإِنْ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ يَدِهِ فَأَحْرَزُوهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ إلَى يَدِهِ كَمَا كَانَ. حَتَّى إذَا أَصَابُوا غَنَائِمَ ثُمَّ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُعِيرِ كَانَ لَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ رَدَّهُ إلَى الْمُعِيرِ ثُمَّ أُصِيبَتْ الْغَنَائِمُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ الْمُشْرِكُونَ أَصْلًا. 1699 - وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْفَرَسِ دَخَلَ بِالْفَرَسِ أَرْضَ الْحَرْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 936 ثُمَّ أَعَارَهُ غَيْرَهُ. فَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ حَتَّى نَفَقَ وَقَدْ أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ، فَلِصَاحِبِ الْفَرَسِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَهْمُ فَارِسٍ. لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ الْفَرَسِ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ بِإِعَارَتِهِ الْفَرَسَ مِنْ غَيْرِهِ لِلْقِتَالِ بَعْدَ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ الْقِتَالَ عَلَى الْفَرَسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ، فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِالْبَيْعِ أَنَّ قَصْدَهُ كَانَ التِّجَارَةَ لَا الْقِتَالَ عَلَيْهِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْمُعِيرِ سَهْمَ الْفَارِسِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْفَرَسِ الْوَاحِدِ فَارِسَانِ، وَلِأَنَّ اسْتِعَارَةَ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَكُونُ فَوْقَ شِرَاءِ الْفَرَسِ. 1700 - وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ صَاحِبُ الْفَرَسِ دَارَ الْحَرْبِ حَتَّى أَعَادَ فَرَسَهُ لِيَرْكَبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَاتِلَ عَلَيْهِ، فَرَكِبَهُ حَتَّى دَخَلَ أَرْضَ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَصَاحِبُ الْفَرَسِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَارِسٌ. لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ (ص 309) مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ. إنْ لَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّهُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ مَتَى شَاءَ. وَقَدْ اسْتَرَدَّهُ وَقَاتَلَ فَارِسًا فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. وَالْمُسْتَعِيرُ رَاجِلٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ، فَإِنَّهُ اسْتِعَارَةٌ لِلرُّكُوبِ لَا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا قَاتَلَ حَتَّى أُصِيبَتْ الْغَنَائِمُ قَبْلَ الرَّدِّ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، لِكَوْنِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ أَيْضًا فِي حَقِّ الْمُعِيرِ. فَإِنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَعِيرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 937 لَمَّا كَانَ فَارِسًا بِهَذَا الْفَرَسِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُعِيرَ لَيْسَ فَارِسًا بِهِ. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ الْإِعَارَةُ لِلرُّكُوبِ، الْمُسْتَعِيرُ لَمْ يَصِرْ فَارِسًا بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ، فَجَعَلْنَا الْمُعِيرَ فَارِسًا بِهِ، لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهِ مَتَى شَاءَ. - وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ ادَّعَى أَنَّ الْفَرَسَ لَهُ وَجَحَدَ حَقَّ صَاحِبِهِ، وَقَاتَلَ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى أُصِيبَتْ الْغَنَائِمُ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُعِيرُ الْبَيِّنَةَ وَأَخَذَ فَرَسَهُ، فَصَاحِبُ الْفَرَسِ فَارِسٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ بِالْجُحُودِ صَارَ غَاصِبًا، وَإِنَّمَا جَحَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَ الْفَرَسَ مِنْ صَاحِبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ابْتِدَاءً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَاحِبَ الْفَرَسِ بِهَذَا الْغَصْبِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا وَالْغَاصِبُ بِهِ لَا يَصِيرُ فَارِسًا، فَكَذَلِكَ هَهُنَا. - وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْفَرَسِ آجَرَهُ مِنْ رَجُلٍ أَيَّامًا لِيَرْكَبَهُ حِينَ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ، وَانْقَضَتْ الْإِجَارَةُ قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنَائِمِ أَوْ بَعْدَهَا، فَصَاحِبُ الْفَرَسِ رَاجِلٌ فِي جَمِيعِهَا. لِأَنَّهُ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ، فَقَدْ أَوْجَبَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا، وَبِهِ فَارَقَ الْإِعَارَةَ. 1703 - فَإِذَا اسْتَرَدَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرِي لِلْفَرَسِ الْآنَ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ فَارِسًا. وَالْمُسْتَأْجِرُ رَاجِلٌ أَيْضًا فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 938 لِأَنَّهُ مَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ لِلرُّكُوبِ. فَلَمْ يَصِرْ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ أَنْ لَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ ثِقَلَهُ. - وَلَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ لِيَرْكَبَهُ وَيُقَاتِلَ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَصَاحِبُ الْفَرَسِ رَاجِلٌ فِي جَمِيعِ مَا يُصَابُ إلَى أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، وَلِغَيْرِهِ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ فِي فَرَسِهِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ. - وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ فَارِسٌ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ. . لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ عَلَى فَرَسٍ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَأُصِيبَتْ الْغَنَائِمُ فِي حَالِ بَقَاءِ تَمَكُّنِهِ. 1706 - فَأَمَّا مَا أُصِيبَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا إلَّا سَهْمُ رَاجِلٍ. لِأَنَّ الْفَرَسَ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ كَانَ سَابِقًا عَلَى دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا بِهِ. - وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْفَرَسِ دَخَلَ بِهِ أَرْضَ الْحَرْبِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ آجَرَهُ مِنْ رَجُلٍ لِلرُّكُوبِ أَوْ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ رَاجِلٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 939 لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُ الْفَرَسَ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ شِرَائِهِ. 1708 - وَأَمَّا صَاحِبُ الْفَرَسِ فَهُوَ فَارِسٌ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ أَنْ يُؤَاجِرَ فَرَسَهُ. لِأَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ فَارِسًا، وَأُصِيبَتْ تِلْكَ الْغَنَائِمُ، وَهُوَ فَارِسٌ أَيْضًا. فَاسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. ثُمَّ إجَارَةُ الْفَرَسِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ بَيْعِهِ. 1709 - وَهُوَ فَارِسٌ أَيْضًا فِيمَا أُصِيبَ (310) بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. لِأَنَّ بِالْإِجَارَةِ لَمْ يَخْرُجْ الْفَرَسُ مِنْ مِلْكِهِ، وَقَدْ بَاشَرَ الْقِتَالَ عَلَيْهِ فَارِسًا كَمَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ حِينَ جَاوَزَ الدَّرْبَ. 1710 - فَأَمَّا فِيمَا أُصِيبَ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهُوَ رَاجِلٌ. لِأَنَّ الْفَرَسَ أُخِذَ مِنْهُ بِحَقٍّ أَوْجَبَهُ لِلْغَيْرِ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ زَالَ بِهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَاعَهُ فِيمَا أُصِيبَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، إذْ الْإِجَارَةُ كَالْبَيْعِ فِي إزَالَةِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ. 1711 - وَكَذَلِكَ إنْ لَقُوا قِتَالًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَقَاتَلَ فَارِسًا عَنْ ذَلِكَ الْمُصَابِ. لِأَنَّ لَهُ فِيهَا سَهْمَ رَاجِلٍ، وَإِنَّمَا قَاتَلَ دَفْعًا عَنْ سَهْمِهِ، فَلِهَذَا لَا يَزْدَادُ حَقُّهُ فِي تِلْكَ الْغَنَائِمِ بِهَذَا الْقِتَالِ. - وَإِذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ فَرَسًا وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِ صَاحِبِهِ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ بِالْفَرَسِ، فَأَدْخَلَهُ الْغَاصِبُ دَارَ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 940 ثُمَّ بَدَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَأَتْبَعَهُ وَأَخَذَ الْفَرَسَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانُوا أَصَابُوا غَنَائِمَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فَرَسَهُ، وَأَصَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَاحِبُ الْفَرَسِ رَاجِلٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا، ثُمَّ اسْتِرْدَادُهُ الْفَرَسَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَحْسَنِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، فَإِنَّ هُنَاكَ كَانَ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ الْفَرَسِ لِأَجْلِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ حَتَّى دَنَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَخَذَهُ الْغَاصِبُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَإِذَا اسْتَرَدَّهُ مِنْهُ جُعِلَ مَا اعْتَرَضَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَاهُنَا مَا كَانَ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ الْفَرَسِ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ وَلَا عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ، فَلَمْ يَكُنْ فَارِسًا بِهِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا صَارَ مُلْتَزِمًا مُؤْنَتَهُ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ حِينَ اسْتَرَدَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ الْآنَ. - وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَهُوَ فَارِسٌ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ اسْتِرْدَادِ الْفَرَسِ مِنْهُ. لِأَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ فَارِسًا وَأُصِيبَتْ هَذِهِ الْغَنَائِمُ وَهُوَ فَارِسٌ، فَثَبَتَ لَهُ فِيهَا سَهْمُ الْفُرْسَانِ. ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقِ الْفَرَسِ مِنْ يَدِهِ، وَهُوَ رَاجِلٌ فِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْفَرَسَ أُخِذَ مِنْهُ بِحَقٍّ. - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْفَرَسِ أَعَارَهُ إيَّاهُ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَغَزَا بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا الْتَقَيَا فِي دَارِ الْحَرْبِ اسْتَرَدَّ الْفَرَسَ مِنْهُ، فَهَذَا كَالْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 941 لِأَنَّ صَاحِبَ الْفَرَسِ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا، فَيَكُونُ رَاجِلًا إلَى أَنْ يَخْرُجَ. وَهَذَا لِأَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الْغَزْوَ لَمْ يَكُنْ الْفَرَسُ فِي يَدِهِ أَصْلًا، وَلَا كَانَ هُوَ مُلْتَزِمًا مُؤْنَتَهُ. فَإِنَّ مُؤْنَةَ الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ حَتَّى يَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ. - وَلَوْ كَانَ أَعَارَهُ إيَّاهُ لِلرُّكُوبِ لَا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْفَرَسِ سَوَاءٌ. وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَهُوَ رَاجِلٌ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ هَاهُنَا. لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى هَذَا الْفَرَسِ، فَقَدْ اسْتَعَارَهُ لِلرُّكُوبِ لَا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ. - فَإِنْ غَدَرَ بِصَاحِبِهِ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَاتَلَ عَلَيْهِ فَهُوَ رَاجِلٌ أَيْضًا. لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لِلْفَرَسِ بِالْقِتَالِ عَلَيْهِ، بَعْدَ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ غَصَبَ فَرَسًا بَعْدَ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. 1717 - وَأَمَّا صَاحِبُ الْفَرَسِ فَهُوَ رَاجِلٌ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّ الْإِعَارَةَ لِلرُّكُوبِ وَالْإِعَارَةَ لِلْقِتَالِ قَبْلَ قَصْدِ الْغَزْوِ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ. فَإِنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَصِرْ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ الْفَرَسِ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ. فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا سَهْمُ رَاجِلٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ حِينَ قَصَدَ الْغَزْوَ مَا كَانَ يَدْرِي أَنَّهُ يُصِيبُ فَرَسَهُ أَوْ لَا يُصِيبُهُ. وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّا فِيمَا إذَا حَضَرَ لِيَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ غَازِيًا ثُمَّ أَعَارَهُ غَيْرَهُ لِيَرْكَبَهُ (ص 311) ، فَجَعَلْنَاهُ فَارِسًا إذَا اسْتَرَدَّهُ مِنْهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 942 وَجَعَلْنَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَرَّ بِرَاجِلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسِهِ أَمْيَالًا. حَتَّى دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَنْزَلَهُ وَأَخَذَ فَرَسَهُ، فَلَا إشْكَالَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ هُوَ فَارِسًا. فَكَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ. - وَلَوْ كَانَ آجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ وَلَا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ، أَوْ يُقَاتِلُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَصَاحِبُ الْفَرَسِ رَاجِلٌ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا إذَا حَضَرَ يُرِيدُ الدُّخُولَ لِلْقِتَالِ ثُمَّ أَجَّرَ فَرَسَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ دَارَ الْحَرْبِ، أَنَّ صَاحِبَ الْفَرَسِ يَكُونُ رَاجِلًا فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. فَهَاهُنَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ مَا بَدَا لَهُ قَصْدُ الْغَزْوِ إلَّا وَالْفَرَسُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ. 1719 - وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِلرُّكُوبِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ فَهُوَ فَارِسٌ فِيمَا يُصَابُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، رَاجِلٌ فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْفَرَسَ أُخِذَ مِنْهُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ. 1720 - إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنَعَ الْفَرَسَ مِنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ جَحَدَهُ إيَّاهُ فَحِينَئِذٍ هُوَ فَارِسٌ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ. لِأَنَّهُمَا دَخَلَا فَارِسَيْنِ، فَكَانَا فَارِسَيْنِ حَتَّى يُؤْخَذَ الْفَرَسُ مِنْهُمَا بِحَقٍّ. وَهَذَا لِأَنَّهُمَا صَارَا غَاصِبَيْنِ بِالْمَنْعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ابْتِدَاءَ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْعَقِدُ لَهُ بِالْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ إذَا قَاتَلَ عَلَيْهِ، فَلَأَنْ يَبْقَى لَهُ مَا كَانَ مُنْعَقِدًا مِنْ السَّبَبِ بِالْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ كَانَ أَوْلَى، فَإِنَّ حَالَةَ الْبَقَاءِ أَسْهَلُ مِنْ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ. - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا آجَرَ فَرَسًا يَغْزُو عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الْفَرَسِ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ، فَهَذِهِ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 943 لِأَنَّ مَا يُصَابُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ. وَإِنَّمَا السَّهْمُ لِلْغَازِي عَلَى الْفَرَسِ لَا لِلْفَرَسِ، فَهُوَ إنَّمَا اسْتَأْجَرَ الْفَرَسَ بِبَدَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ. ثُمَّ الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ تُعْتَبَرُ بِالْجَائِزَةِ فِي الْحُكْمِ، فَيَكُونُ سَهْمُ الْفَرَسِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَلِصَاحِبِ الْفَرَسِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ. 1722 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعَارَهُ إيَّاهُ بِهَذَا الشَّرْطِ. لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاطُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ اشْتِرَاطِ الْأَجْرِ لَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظِ الْإِجَارَةِ وَلَفْظِ الْإِعَارَةِ. 1723 - وَلَوْ لَمْ يُصِيبُوا شَيْئًا حَتَّى خَرَجُوا كَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مِثْلُهُ أَيْضًا. لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ، فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ أَصَابَ شَيْئًا أَوْ لَمْ يُصِبْ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ إذَا عَمِلَ، فَإِنَّهُ اسْتَوْجَبَ أَجْرَ الْمِثْلِ، حَصَلَ الرِّبْحُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ. - وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَغْزُو عَنْهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مُسَمًّى أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْمُدَّةَ وَقَالَ: هَذِهِ الْغَزْوَةُ إلَى حَيْثُ يَبْلُغُ الْمُسْلِمُونَ. فَهَذَا الْعَقْدُ بَاطِلٌ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ سَنَامُ الدِّينِ. وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّاعَاتِ بَاطِلٌ. وَهُوَ إنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ فَمَنْ بَاشَرَهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا فَرْضًا عَلَيْهِ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرْضِ بَاطِلٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 944 ثُمَّ السَّهْمُ لِلْأَجِيرِ، شَرَطَهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِنَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ. لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ لَمَّا بَطَلَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. فَيَكُونُ السَّهْمُ لِلْغَازِي. - وَإِنْ كَانَ أَخَذَ الْأَجْرَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ رَدَّهُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، وَبِالْعَقْدِ الْبَاطِلِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ أَصْلًا. وَلِأَنَّهُ فِي الْغَزْوِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ. - وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ سِلَاحَهُ وَفَرَسَهُ فَعَلَى الْأَجِيرِ أَجْرُ مِثْلِ فَرَسِهِ وَأَجْرُ مِثْلِ سِلَاحِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، إنْ كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّهْمَ لِلْمُسْتَأْجِرِ. لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ وَالسِّلَاحِ عِوَضًا مَجْهُولًا، وَقَدْ اسْتَوْفَى الْأَجِيرُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ (ص 312) بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ. - وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَشْتَرِطْ السَّهْمَ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ عَلَى الْأَجِيرِ مِنْ أَجْرِ السِّلَاحِ وَالدَّابَّةِ شَيْءٌ. لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا مَالِيًّا، فَيَكُونُ هُوَ مُعِيرَ الْفَرَسِ وَالسِّلَاحِ مِنْهُ، أَوْ بَاذِلًا لِيُقَاتِلَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ أَجْرًا عَلَى مَنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْقِتَالِ. - وَلَوْ اسْتَأْجَرَ فَرَسًا لِيَرْكَبَهُ وَيُقَاتِلَ عَلَيْهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً. أَوْ اسْتَأْجَرَ غُلَامًا لِيَخْدُمَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، فَهُوَ جَائِزٌ سَوَاءٌ سَمَّى لِكُلِّ يَوْمٍ أَجْرًا عَلَى حِدَةٍ أَوْ لَمْ يُسَمِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 945 لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَالْبَدَلَ مَعْلُومٌ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْعَقْدِ مِنْ مَعْنَى الطَّاعَةِ وَإِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَيَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ. 1729 - وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ وَلَكِنْ قَالَ: أَسْتَأْجِرْهُ لِغُزَاتِي هَذِهِ حَتَّى أَرْجِعَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا، فَهَذَا فَاسِدٌ. لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي إلَى أَيْنَ يَبْلُغُ الْمُسْلِمُونَ، وَيَطُولُ مَقَامُهُمْ أَوْ يَقْصُرُ. 1730 - وَلَوْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَلَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. لِأَنَّ الْعَقْدَ هَاهُنَا مُنْعَقِدٌ لِوُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ فَاسِدٌ لِلْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ، فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، لِأَنَّ الْأَجْرَ وَإِنْ كَانَ مُسَمًّى فَصَاحِبُ الدَّابَّةِ يَقُولُ: أَنَا مَا رَضِيتُ بِهَذَا الْمُسَمَّى إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي انْتَهَيْتُمْ إلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ عِنْدِي أَنَّكُمْ تَرْجِعُونَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي يَدِهِ أَفْرَاسٌ حُبْسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَعْطَى أَقْوَامًا مِنْهَا أَفْرَاسًا يَغْزُونَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ كَانَ الْقَيِّمَ فِي ذَلِكَ، يُعْطِي مَنْ شَاءَ وَيَأْخُذُ مِمَّنْ شَاءَ. فَلَمَّا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ أَخَذَهَا مِنْهُمْ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَصَابُوا غَنَائِمَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 946 وَغَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَلَهُمْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ أَخْذِ الْأَفْرَاسِ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ فِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِالْأَفْرَاسِ الْحُبْسُ الْمَوْقُوفَةُ لِلْجِهَادِ. وَذَلِكَ جَائِزٌ. أَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يُجِيزُ الْوَقْفَ فِي الْمَنْقُولَاتِ. وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ كَذَلِكَ فِيمَا فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ، كَثِيَابِ الْجِنَازَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي يُغَسَّلُ بِهَا الْمَوْتَى، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْأَفْرَاسِ الَّتِي يُقَاتَلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حِينَ قُبِضَ، كَانَ فِي يَدِهِ ثَلَاثُ مِائَةِ فَرَسٍ مَكْتُوبٍ عَلَى أَفْخَاذِهَا: حُبْسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ الْغَازِي عَلَى مِثْلِ هَذَا الْفَرَسِ قَدْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ، وَدَامَ تَمَكُّنُهُ إلَى أَنْ أُصِيبَتْ الْغَنَائِمُ، فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَرَسِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ. ثُمَّ أُخِذَ الْفَرَسُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ، فَلَا يَبْقَى فَارِسًا فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْمُسْتَعِيرِ. وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْقَيِّمُ هُوَ الَّذِي يَسْتَرِدُّهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ الْوَاقِفُ. ثُمَّ لَا يَصِيرُ الْوَاقِفُ وَلَا الْقَيِّمُ بِهِ فَارِسًا. لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَرَدَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ أَقْوَى فِي حَقِّهِ مِنْ شِرَاءِ الْفَرَسِ، فَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهُ إلَى رَاجِلٍ آخَرَ لَمْ يَصِرْ بِهِ فَارِسًا، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 947 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي يَدِهِ خَيْلٌ حُبُسٌ آجَرَهَا لِيُقَاتَلَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهِيَ لَهُ أَوْ لَيْسَتْ لَهُ، فَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ. لِأَنَّ مَنْ جَعَلَهَا حَبْسًا فَقَدْ جَعَلَهَا لِلَّهِ خَالِصًا. بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْإِجَارَةِ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا أَعَدَّهَا لِاكْتِسَابِ (ص 313) الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ بِالْقِتَالِ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاكْتِسَابُ الْقَيِّمِ الْمَالَ بِهَا فِي الدُّنْيَا يَكُونُ تَغْيِيرًا لِلشَّرْطِ. 1733 - وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] . فَإِنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْجِرُونَ فَلَهُمْ سِهَامُ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فُرْسَانًا وَتَمَكَّنُوا مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهَا وَاسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَرَسِ بِهِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ أُجُورُ الْخَيْلِ لِأَنَّهُمْ اسْتَوْفَوْا الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ، وَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ اسْتَأْجَرَ الْخَيْلَ مِنْ الْغَاصِبِ، لِأَنَّ الْقَيِّمَ أَوْ الْوَاقِفَ فِيمَا صَنَعَ لَا يَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ الْغَاصِبِ، وَالْغَاصِبُ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ إذَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدِهِ. وَيَنْبَغِي لِلَّذِي آجَرَهَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَجْرِهَا وَلَا يَأْكُلُهُ، لِأَنَّهُ اكْتَسَبَهُ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ هَذِهِ الْإِجَارَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَسَبِيلُ مِثْلِهِ التَّصَدُّقُ بِهِ. - وَإِنْ عَطِبَتْ تَحْتَ بَعْضِ مَنْ اسْتَأْجَرَهَا، أَوْ عَقَرَهَا الْعَدُوُّ، ضَمِنَ الَّذِي آجَرَهَا قِيمَةَ الْفَرَسِ، إنْ شَاءَ الْوَالِي ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ الْقِيمَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 948 لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ، بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ يُؤَاجِرُ الْمَغْصُوبَ، فَيَتْلَفُ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ. - فَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ رَجَعَ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْآجِرِ. لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِسَبَبِ عَقْدِ ضَمَانٍ. وَإِنْ ضَمِنَ الْآجِرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَذِهِ الْقِيمَةِ فَرَسًا مَكَانَهُ فَيُجْعَلُ حَبِيسًا. لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تُسَمَّى قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ. وَالْعَيْنُ كَانَ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُجْعَلُ بَدَلَهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَيْضًا. كَمَا لَوْ قُتِلَ وَغَرِمَ الْقَاتِلُ الْقِيمَةَ. وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْبَدَلُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ إذَا اُشْتُرِيَ بِهِ الْفَرَسُ فَجُعِلَ حَبِيسًا. لِأَنَّ الْفَرَسَ وَالسِّلَاحَ لَا يَكُونُ حَبِيسًا حَتَّى يُخْرِجَهُ صَاحِبُهُ مِنْ يَدِهِ. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ، وَالتَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطٌ لِتَمَامِ الْوَقْفِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. - فَإِذَا سَلَّمَهُ إلَى الْقَيِّمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ الَّذِي جَعَلَهُ حَبِيسًا أَنَّ التَّدْبِيرَ فِيهِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْقَيِّمِ، أَوْ يَكُونُ هُوَ الْقَيِّمُ فِيهِ حَتَّى يَمُوتَ فَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّ التَّسْلِيمَ شَرْطٌ لِإِتْمَامِ الْوَقْفِ، وَقَدْ وُجِدَ. فَالْعَوْدُ إلَى يَدِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَضُرَّ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْحَبْسِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إنَّمَا أَجَازُوا ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 949 - فَإِنْ أَعْطَى رَجُلًا فَرَسًا حَبِيسًا يَغْزُو عَلَيْهِ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ أُخِذَ الْفَرَسُ مِنْهُ، ثُمَّ أَصَابُوا غَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُضْرَبُ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ الْأُولَى بِسَهْمِ الْفَارِسِ، وَفِي الْغَنِيمَةِ الثَّانِيَةِ بِسَهْمِ الرَّاجِلِ. لِأَنَّ الْفَرَسَ أُخِذَ مِنْهُ بِحَقٍّ. - وَأَمَّا الْقَيِّمُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي وَجْهِ فَرَسٍ آخَرَ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمِ رَاجِلٍ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ رَاجِلًا، فَلَا يَصِيرُ فَارِسًا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَخْذِ الْفَرَسِ مِنْ يَدِ الْغَازِي، كَمَا لَا يَصِيرُ فَارِسًا بِشِرَاءِ فَرَسٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 950 [بَابُ مَا يَبْطُلُ فِيهِ سَهْمُ الْفَارِسِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَا لَا يَبْطُلُ] 101 - بَابُ مَا يَبْطُلُ فِيهِ سَهْمُ الْفَارِسِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَا لَا يَبْطُلُ 1739 - (ص 315) رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ فَرَسًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَدَخَلَ بِهِ مَعَ الْمُعَسْكَرِ دَارَ الْحَرْبِ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَرْجِعَ فِي فَرَسِهِ فَلَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ قَائِمٌ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى حَالِهِ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى الْوَاهِبِ عِوَضٌ مِنْ جِهَتِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ، لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِهِ. 1740 - فَإِنْ رَجَعَ فِيهِ ثُمَّ أَصَابُوا غَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْوَاهِبُ دَخَلَ الدَّارَ رَاجِلًا فَالْوَاهِبُ رَاجِلٌ فِي الْغَنَائِمِ كُلِّهَا. لِأَنَّهُ انْفَصَلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ رَاجِلًا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَحْصِيلِ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِهِ. 1741 - وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَهُوَ فَارِسٌ فِي الْغَنَائِمِ الْأُولَى. لِأَنَّهُ انْفَصَلَ فَارِسًا وَأُصِيبَتْ تِلْكَ الْغَنَائِمُ وَهُوَ فَارِسٌ. وَهُوَ رَاجِلٌ فِي الْغَنَائِمِ الْأُخْرَى. لِأَنَّ الْفَرَسَ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ. فَإِنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ ثَابِتٌ فِي الرُّجُوعِ شَرْعًا، مَا لَمْ يَتَّصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 951 فَإِنْ قِيلَ: قَدْ انْفَصَلَ هُوَ عَلَى فَرَسٍ مَمْلُوكٍ لَهُ، ثُمَّ أُزِيلَ مِلْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا بِاخْتِيَارِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْرُجَ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا، كَمَا لَوْ أَخَذَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَأَحْرَزُوهُ. قُلْنَا: إنَّمَا أُخِذَ الْفَرَسُ مِنْهُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ شَرْعًا. وَذَلِكَ الْحَقُّ كَانَ سَابِقًا عَلَى دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا كَانَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ مُقَيَّدًا بِمَا قَبْلَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ. 1742 - وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبُوا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَارِسًا بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ بَعْدَ مَا أُصِيبَ بَعْضُ الْغَنَائِمِ. 1743 - وَلَوْ جُعِلَ هُوَ فَارِسًا بِهَذَا الْمِقْدَارِ أَدَّى إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ أَفْرَاسٍ فَوَهَبَ مِنْ كُلِّ رَاجِلٍ مِنْ الرَّجَّالَةِ فَرَسًا حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهَا دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ اسْتَرَدَّ الْأَفْرَاسَ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا فُرْسَانًا بِذَلِكَ الْقَدْرِ فِيمَا يُصِيبُونَ. وَهَذَا بَعِيدٌ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْبُعْدِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ إذَا أَعَادَ الْأَفْرَاسَ مِنْهُمْ ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ: كَانُوا فُرْسَانًا أَيْضًا، إذْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَ الِانْفِصَالِ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْأَفْرَاسِ، إلَى أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا صَاحِبُهَا. وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى فَرَسًا شِرَاءً فَاسِدًا فَقَبَضَهُ وَدَخَلَ عَلَيْهِ دَارَ الْحَرْبِ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ثَابِتٌ لِفَسَادِ الْبَيْعِ، كَحَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ، بَلْ أَظْهَرُ. فَالْبَائِعُ هَاهُنَا مَأْمُورٌ بِالِاسْتِرْدَادِ شَرْعًا، وَالْوَاهِبُ مَنْهِيٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 952 مِنْ الرُّجُوعِ نَدْبًا. ثُمَّ هُنَاكَ بِالِاسْتِرْدَادِ يَخْرُجُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَاهُنَا أَوْلَى. 1744 - وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْفَرَسَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالْحُجَّةِ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْهُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَنَّهُ كَانَ غَاصِبًا لِلْفَرَسِ، فَإِذَا اسْتَرَدَّهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ يَخْرُجُ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا بِهِ. 1745 - وَكَذَلِكَ رَجُلَانِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَرَسًا بِبَغْلٍ وَتَقَايَضَا، فَلَمَّا دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ وُجِدَ الْعَيْبُ بِأَحَدِهِمَا، فَرُدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَمَا كَانُوا غَنِمُوا قَبْلَ التَّرَادِّ يُضْرَبُ فِيهِ لِمُشْتَرِي الْفَرَسِ سَهْمُ الْفَرَسِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّادُّ أَوْ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِ. وَمَا أُصِيبَ بَعْدَ التَّرَادِّ يُضْرَبُ لَهُ (316) فِيهِ بِسَهْمِ رَاجِلٍ. لِأَنَّهُ إنْ كَانَ هُوَ الرَّادُّ فَقَدْ أَزَالَ الْمِلْكَ عَنْ فَرَسِهِ بِاخْتِيَارِهِ. 1746 - وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ أُخِذَ الْفَرَسُ مِنْ يَدِهِ بِحَقٍّ. فَأَمَّا مُشْتَرِي الْبَغْلِ فَهُوَ رَاجِلٌ فِي الْغَنِيمَتَيْنِ جَمِيعًا. لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا. 1747 - وَعَلَى هَذَا لَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 953 مَا اشْتَرَى فَرَدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ كَانَ مُشْتَرِي الْفَرَسِ قَبَضَ الْفَرَسَ وَلَمْ يُسَلِّمْ الْبَغْلَ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ فَرَدَّ الْفَرَسَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا أَصَابَ بَعْضَ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّ مِلْكَهُ أُزِيلَ بِسَبَبٍ مُسْتَحَقٍّ، فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فِيمَا يُصَابُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. 1748 - وَلَوْ رَهَنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ مَعَ الْعَسْكَرِ، فَقَضَى الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ مَا لَهُ وَأَخَذَ الْفَرَسَ فَقَاتَلَ عَلَيْهِ، فَهُمَا رَاجِلَانِ: أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ الْمَرْهُونِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ فَارِسًا بِهِ. وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى فَرَسِهِ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ. لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يُوجِبُ مِلْكَ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ، حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ الرَّاهِنُ مِنْ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَى الْمَرْهُونِ، مَا لَمْ يَقْضِ دَيْنَهُ. 1749 - وَلَوْ كَانَ إنَّمَا رَهَنَ الْفَرَسَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إصَابَةِ بَعْضِ الْغَنَائِمِ ثُمَّ أُصِيبَتْ أُخْرَى، ثُمَّ قَضَى الدَّيْنَ وَاسْتَرَدَّ الْفَرَسَ، ثُمَّ أُصِيبَتْ غَنِيمَةٌ أُخْرَى، فَهُوَ فَارِسٌ فِي الْغَنِيمَةِ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، رَاجِلٌ فِي الْغَنِيمَةِ الْوُسْطَى. لِأَنَّهُ أَزَالَ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ بِاخْتِيَارِهِ، مَعَ قِيَامِ مِلْكِهِ، فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ آجَرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْإِجَارَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 954 وَقَرَّرْنَا الْمَعْنَى فِيهِ، فَالرَّهْنُ قِيَاسُهُ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَى صَاحِبِ الْفَرَسِ مَعَ قِيَامِ مِلْكِهِ. - وَلَوْ بَاعَ فَرَسَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إصَابَةِ بَعْضِ الْغَنَائِمِ، ثُمَّ أُصِيبَتْ غَنِيمَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا وَرَدَّهُ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ أُصِيبَتْ غَنِيمَةٌ أُخْرَى، فَصَاحِبُ الْفَرَسِ فَارِسٌ فِي الْغَنِيمَةِ الْأُولَى وَالْأُخْرَى، رَاجِلٌ فِي الْغَنِيمَةِ الْوُسْطَى. لِأَنَّهُ أَزَالَ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ. فَسَوَاءٌ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّهِ، بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ حِينَ أُصِيبَتْ الْغَنِيمَةُ الْوُسْطَى. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَاجِلًا فِي الْغَنِيمَةِ الثَّالِثَةِ أَيْضًا. لِأَنَّ بِالْبَيْعِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْتِزَامَهُ مُؤْنَةَ الْفَرَسِ كَانَ لِقَصْدِ التِّجَارَةِ لَا لِقَصْدِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ. فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ عَادَ الْفَرَسُ إلَى يَدِهِ يُجْعَلُ كَالْمُشْتَرِي لِلْفَرَسِ الْآنَ ابْتِدَاءً. وَلَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا لَمْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. قُلْنَا بَيْعُهُ الْفَرَسَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُحْتَمَلٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ التِّجَارَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ اسْتِبْدَالِ هَذَا الْفَرَسِ بِفَرَسٍ آخَرَ يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْقِتَالِ عَلَيْهِ. فَمَا انْعَقَدَ لَهُ مِنْ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَبْطُلُ بِهَذَا الْمُحْتَمَلِ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِمَا هُوَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَهُوَ زَوَالُ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ. وَإِنَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ الْوُسْطَى خَاصَّةً. وَعَلَى هَذَا قَالَ: 1751 - لَوْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفَرَسَ وَلَكِنْ اشْتَرَى فَرَسًا آخَرَ مَكَانَهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ فَرَسٌ آخَرُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ رَاجِلًا إلَّا فِي الْغَنِيمَةِ الْوُسْطَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 955 لِأَنَّهَا (317) أُصِيبَتْ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ يَوْمَئِذٍ. فَأَمَّا فِي الْغَنِيمَةِ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ فَهُوَ فَارِسٌ. لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ حِينَ أُصِيبَتْ بَعْدَ مَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالِانْفِصَالِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا. 1752 - وَكَذَلِكَ إنْ قَاتَلَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْغَنِيمَةِ الْوُسْطَى لِيَسْتَرِدُّوهَا فَقَاتَلَ هُوَ مَعَهُمْ عَلَى الْفَرَسِ الثَّانِي. لِأَنَّهُ قَاتَلَ وَلَهُ فِيهَا نَصِيبٌ، وَهُوَ سَهْمُ الرَّاجِلِ، فَلَا يَزْدَادُ بِهَذَا الْقِتَالِ حَقُّهُ فِيهَا. 1753 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْفَرَسُ الَّذِي اشْتَرَى دُونَ الَّذِي بَاعَهُ إلَّا أَنَّهُ بِحَيْثُ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ عَلَى هَذَا دَارَ الْحَرْبِ فِي الِابْتِدَاءِ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَحَالَةُ الْبَقَاءِ أَسْهَلُ. فَإِذَا جَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِهَذَا الْفَرَسِ فَالْبَقَاءُ بِهِ يَكُونُ أَجْوَزَ. 1754 - وَلَوْ كَانَ رَجُلَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرَسٌ فَتَبَادَلَا، أَوْ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَرَسًا بِدَرَاهِمَ، فَهُمَا فَارِسَانِ عَلَى حَالِهِمَا. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا، وَدَامَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ. إمَّا بِمَا بَاعَهُ أَوْ بِمَا اشْتَرَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 956 وَلَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَقَتَلَ مُسْلِمٌ فَرَسَهُ وَضَمِنَ لَهُ قِيمَتَهُ فَلَمْ يَشْتَرِ بِهَا صَاحِبُ الْفَرَسِ فَرَسًا حَتَّى أَصَابُوا غَنَائِمَ فَصَاحِبُ الْفَرَسِ فَارِسٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَدْ انْعَقَدَ لَهُ، وَمَا أَزَالَ الْفَرَسَ عَنْ مِلْكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا تَلِفَ بِغَيْرِ صُنْعٍ مِنْ جِهَتِهِ. فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ. فَإِنْ قِيلَ: حِينَ ضَمِنَ الْمُتْلِفُ قِيمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْ الْقِيمَةِ، فَلِمَاذَا لَا يُجْعَلُ هَذَا كَبَيْعِهِ مِنْهُ؟ قُلْنَا: هُوَ مَا قَصَدَ التَّمْلِيكَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْخُسْرَانِ عَنْ نَفْسِهِ بِاسْتِرْدَادِ الْقِيمَةِ مِنْهُ، بَعْدَ تَعَذُّرِ اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ. إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ تَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِي الْقِيمَةِ انْعِدَامَ مِلْكِهِ فِي الْأَصْلِ، لِكَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ. فَكَانَ التَّمْلِيكُ هَاهُنَا ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَا بِاعْتِبَارِ قَصْدٍ أَوْ فِعْلٍ كَانَ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْفَرَسِ، فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّهُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ فَرَّ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ فَغَيَّبَهُ وَضَمِنَ لَهُ قِيمَتَهُ، أَوْ هَرَبَ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. 1756 - وَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ غَيَّبَهُ فَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْفَرَسُ فِي يَدِهِ، وَقَدْ كَانُوا أَصَابُوا غَنَائِمَ قَبْلَ غَصْبِ الْفَرَسِ وَبَعْدَهُ، وَبَعْدَ مَا ظَهَرَ الْفَرَسُ، فَمَا كَانَ مِنْ غَنِيمَةٍ قَبَلَ غَصْبِ الْفَرَسِ وَبَعْدَهُ، قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ الْقِيمَةَ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فَارِسٌ. لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْغَصْبِ لَمْ يَزُلْ، وَإِنَّمَا زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ لَا بِاخْتِيَارِهِ. وَمَا أُصِيبَ بَعْدَ مَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْقِيمَةَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْفَرَسُ أَوْ بَعْدَهُ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَهْمُ رَاجِلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 957 لِأَنَّ زَوَالَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَتَلَوَّمَ وَلَا يُعَجِّلَ بِتَضْمِينِ الْقِيمَةِ لَعَلَّ فَرَسَهُ يَظْهَرُ فَيَأْخُذُهُ. فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ الْقِيمَةَ وَقُضِيَ لَهُ بِهَا، فَقَدْ صَارَ فِي حُكْمِ الْبَائِعِ لِفَرَسِهِ. فَيُجْعَلُ زَوَالُ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى فَرَسِهِ مُضَافًا إلَى اخْتِيَارِهِ. أَرَأَيْت لَوْ غَصَبَهُ إنْسَانٌ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْفَرَسُ لَكَانَ هَذَا فَارِسًا بَعْدَ هَذَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حِينَ اسْتَوْفَى الْقِيمَةَ اشْتَرَى بِهَا فَرَسًا آخَرَ قَبْلَ إصَابَةِ الْغَنَائِمِ، فَحِينَئِذٍ هُوَ يَكُونُ فَارِسًا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، لِقِيَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ. 1757 - (318) وَلَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ وَاسْتَأْجَرَ فَرَسًا وَقَاتَلَ عَلَيْهِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ أَيْضًا، فَهُوَ فَارِسٌ فِي الْغَنَائِمِ الْأُولَى رَاجِلٌ فِي الْغَنَائِمِ الثَّانِيَةِ. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ إنَّمَا انْعَقَدَ لَهُ بِفَرَسٍ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَالْمُسْتَأْجَرُ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ الْأَوَّلِ فِي إبْقَاءِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ الْمُنْعَقِدِ بِالْفَرَسِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ سَبَبٌ آخَرُ ابْتِدَاءً، لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. 1758 - وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَعَارَ فَرَسًا. فَإِنَّهُ مِثْلُ الِاسْتِئْجَارِ أَوْ دُونَهُ. 1759 - فَأَمَّا إذَا وُهِبَ لَهُ فَرَسٌ، أَوْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ وَقَبَضَهُ فَهُوَ فَارِسٌ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 958 لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَمْلُوكٌ لَهُ، فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ الْأَوَّلِ فِي إبْقَاءِ مَا انْعَقَدَ بِهِ مِنْ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بِاسْتِئْجَارِ الْفَرَسِ وَالِاسْتِعَارَةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ التِّجَارَةَ بِالْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ الْأَوَّلِ، وَبِالشِّرَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ، فَيُمْكِنُ إقَامَةُ الْمُشْتَرَى مَقَامَ مَا بَاعَ. ثُمَّ يُجْعَلُ الْمَوْهُوبُ كَالْمُشْتَرَى، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ يُثْبِتُ لَهُ الْمِلْكَ فِي غَيْرِ الْفَرَسِ. 1760 - وَلَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ دَخَلَ عَلَى فَرَسٍ مُسْتَأْجَرٍ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ فَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ، ثُمَّ أَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَ فَرَسًا آخَرَ فَقَاتَلَ عَلَيْهِ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَهُوَ فَارِسٌ فِي الْغَنَائِمِ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ، رَاجِلٌ فِي الْغَنِيمَةِ الْوُسْطَى. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ انْعَقَدَ لَهُ بِاعْتِبَارِ فَرَسٍ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِعَيْنِهِ. وَالثَّانِي مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي هَذَا، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي إبْقَاءِ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ، كَمَا قَامَ الْمُشْتَرَى مَقَامَ الْفَرَسِ الَّذِي كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ. وَإِنَّمَا لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ فِيمَا أُصِيبَ فِي حَالٍ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ الْوُسْطَى. ثُمَّ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ أَنْ يَنْتَهِيَ الْعَقْدُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ يُنْتَقَضُ بِمَوْتِ الْمُؤَاجِرِ، أَوْ بِتَقَايُلِ الْإِجَارَةِ فِي الْمُدَّةِ. 1761 - وَلَوْ كَانَ اسْتَعَارَ فَرَسًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا سَهْمُ رَاجِلٍ فِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 959 لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ دُونَ الِاسْتِئْجَارِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. فَإِنَّ بِالِاسْتِئْجَارِ يَثْبُتُ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْمَنْفَعَةِ وَبِالِاسْتِعَارَةِ لَا يَثْبُتُ، فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ مَا انْعَقَدَ لَهُ مِنْ السَّبَبِ بِاعْتِبَارِ الْفَرَسِ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ بِهَذَا الْفَرَسِ الْمُسْتَعَارِ. 1762 - وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى فَرَسًا حِينَ انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ، فَهُوَ فَارِسٌ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ كَانَ فَارِسًا، فَإِذَا اشْتَرَى أَوْ وُهِبَ لَهُ كَانَ أَوْلَى. إذْ قَدْ وُجِدَ فِي الثَّانِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَزِيَادَةٌ. 1763 - وَلَوْ كَانَ الْفَرَسُ فِي يَدِهِ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ عَارِيَّةً وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمُعِيرُ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ اسْتَعَارَ فَرَسًا آخَرَ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَعَارَهُ الْفَرَسَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ بِسَبَبِ الْفَرَسِ الَّذِي أَعَارَ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْإِعَارَةِ لِلْقِتَالِ. لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ بِهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ، فَإِذَا بَقِيَ هُوَ مُسْتَحِقًّا لِلسَّهْمِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْفَرَسِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَعِيرُ بِاعْتِبَارِهِ شَيْئًا، لِأَنَّ بِالْفَرَسِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ رَجُلَانِ فَارِسَيْنِ، وَإِنَّمَا يُضْرَبُ لِلْمُسْتَعِيرِ بِسَهْمِ الْفَارِسِ فِي الْغَنِيمَةِ الْأُولَى خَاصَّةً. 1764 - وَإِنْ كَانَ الْمُعِيرُ مَعَهُ خَيْلٌ كَثِيرٌ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَرَسِ بِغَيْرِ هَذَا الْفَرَسِ، فَلِلْمُسْتَعِيرِ سَهْمُ الْفَرَسِ فِي الْغَنَائِمِ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ، وَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ فِي الْغَنِيمَةِ الْوُسْطَى. لِأَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِاعْتِبَارِهِ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ السَّبَبُ بَاقِيًا بِبَقَاءِ مَا هُوَ مِثْلُهُ، كَمَا يُجْعَلُ بَاقِيًا بِبَقَاءِ عَيْنِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 960 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَعَارَ ذَلِكَ (ص 319) الْفَرَسَ بِعَيْنِهِ ثَانِيًا وَقَاتَلَ عَلَيْهِ كَانَ فَارِسًا؟ 1765 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى فَرَسًا أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ. لِأَنَّ الثَّانِي فَوْقَ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ، فَيَبْقَى ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِاعْتِبَارِهِ. وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فَرَسًا، كَانَ صَاحِبُهُ بِهِ فَارِسًا أَوْ لَمْ يَكُنْ. لِأَنَّ بِالْإِجَارَةِ يَخْرُجُ صَاحِبُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَارِسًا بِهِ، بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْإِجَارَةِ يَزُولُ تَمَكُّنُ صَاحِبِهِ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ، بِمَا أَوْجَبَ مِنْ الْحَقِّ لِلْمُسْتَأْجَرِ، وَبِالْإِعَارَةِ لَا يَزُولُ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّهُ آجَرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَهْمٌ؟ وَلَوْ أَعَانَ غَازِيًا وَخَدَمَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَبْطُلُ بِهِ سَهْمُهُ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَهْمِ فَرَسِهِ. 1766 - وَلَوْ اشْتَرَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَرَسًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ، حَتَّى دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ نَقَدَ الثَّمَنَ وَقَبَضَ الْفَرَسَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاجِلٌ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. أَمَّا الْبَائِعُ فَلِأَنَّ الْفَرَسَ زَالَ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ، فَهُوَ قَدْ دَخَلَ وَلَيْسَ لَهُ فَرَسٌ. وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ دَخَلَ وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى فَرَسِهِ. لِكَوْنِهِ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَرْهُونِ، وَإِنَّمَا صَارَ مُتَمَكِّنًا حِينَ نَقَدَ الثَّمَنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ابْتِدَاءً، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى الْفَرَسَ الْآنَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 961 1767 - وَلَوْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ وَلَمْ يَقْبِضْ الْفَرَسَ حَتَّى دَخَلَ، أَوْ كَانَ الثَّمَنُ إلَى أَجَلٍ، فَفِي الْقِيَاسِ: الْمُشْتَرِي رَاجِلٌ فِيمَا أُصِيبَ مِنْ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّ الْقِتَالَ عَلَى الْفَرَسِ تَصَرُّفٌ. وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَبْضِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا مَلَكَ الْقِتَالَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَمَا قَبَضَهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْفَرَسَ فِي ضَمَانِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ يَهْلَكُ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْبَائِعُ إذَا وَجَدَ الثَّمَنَ زُيُوفًا فَرَدَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ سَهْمَ الْفَارِسِ، كَمَا قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لِلْمُشْتَرِي سَهْمُ الْفَرَسِ. لِأَنَّ انْعِقَادَ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَخُلُوِّهِ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ مَتَى شَاءَ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ لَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ هَذَا التَّمَكُّنُ بِقَبْضِهِ، فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَرَسِ بِهِ، كَمَا لَوْ أَعَارَ فَرَسَهُ غَيْرَهُ لِلرُّكُوبِ أَوْ أَوْدَعَهُ مِنْهُ. 1768 - وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ بِفَرَسٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، فَهُمَا رَاجِلَانِ فِي الْغَنَائِمِ كُلِّهَا. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، فَلَا يَكُونُ فَارِسًا بِاعْتِبَارِهِ. 1769 - فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَجَّرَهُ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فَارِسٌ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 962 لِأَنَّهُ انْفَصَلَ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ. إلَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمُعِيرُ حِصَّتَهُ أَوْ تَنْقَضِيَ الْإِجَارَةُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ رَاجِلًا فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ كَانَ سَابِقًا عَلَى دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ. 1770 - وَلَوْ دَخَلَا بِفَرَسَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَطَيَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنْ يُقَاتِلَ عَلَى فَرَسٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَهُمَا رَاجِلَانِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْفَصَلَ وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ، وَإِنَّمَا صَارَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَهُ طَيَّبَ لَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ شَيْئًا. 1771 - وَلَوْ كَانَ طَيَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ فَهُمَا فَارِسَانِ، إلَى أَنْ يَرْجِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا أَذِنَ لِصَاحِبِهِ فِيهِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْفَصَلَ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ، فَيَنْعَقِدُ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ مَا بَقِيَ تَمَكُّنُهُ. فَإِذَا رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ زَالَ التَّمَكُّنُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاجِلًا بَعْدَ ذَلِكَ. 1772 - وَكَذَلِكَ إذَا تَهَايَئَا عَلَى الرُّكُوبِ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي التَّهَايُؤِ عَلَى رُكُوبِ الدَّابَّتَيْنِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 963 وَلَا خِلَافَ أَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ وَأَبَى صَاحِبُهُ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ عَلَى الرُّكُوبِ لِلْقِتَالِ. لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُعَادَلَةِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْإِجْبَارُ. وَلَكِنْ إنْ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فَلَهُمَا ذَلِكَ بِوُجُودِ التَّرَاضِي مِنْهُمَا، وَيُجْبَرَانِ عَلَى التَّهَايُؤِ عَلَى الرُّكُوبِ لِغَيْرِ الْحَرْبِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُعَادَلَةِ فِيهِ مُمْكِنٌ. فَإِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِقِسْمَةِ الْمَنْفَعَةِ بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ. ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِذَلِكَ سَهْمَ فَارِسٍ. لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يَصِيرُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ بِالْمُهَايَأَةِ عَلَى الرُّكُوبِ. 1773 - وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَذِنَ لِصَاحِبِهِ فِي رُكُوبِ أَيِّ الْفَرَسَيْنِ شَاءَ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَى صَاحِبِهِ فَرَسًا بِعَيْنِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاجِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْإِذْنُ مِنْهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ إعَارَةَ نَصِيبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ لَا تَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ. 1774 - وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَفْرَاسٍ فَبَاعَهَا كُلَّهَا إلَّا وَاحِدًا مِنْهَا لَمْ يُحْرَمْ سَهْمَ الْفَارِسِ. لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُ، وَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِمَا صَنَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 964 أَنَّهُ قَصَدَ التِّجَارَةَ فِيمَا بَاعَ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِهِ، وَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ حِينَ دَخَلَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا هَذَا الْفَرَسُ. وَهَذَا لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ فَضْلٌ هُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُبْنَى حُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ ثُبُوتًا وَبَقَاءً عَلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ خَاصَّةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بَعْضُ الشُّهُودِ لَمْ يُنْتَقَصْ نِصَابُ الشَّهَادَةِ بِرُجُوعِ مَنْ رَجَعَ. فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاجِعِينَ. 1775 - وَلَوْ نَفَقَ مِنْهَا وَاحِدٌ أَوْ عُقِرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ بَاعَ بَقِيَّةَ خَيْلِهِ فَهُوَ فَارِسٌ أَيْضًا. لِأَنَّهُ لَوْ نَفَقَ بَعْدَ بَيْعِ الْبَعْضِ بَقِيَ فَارِسًا بِاعْتِبَارِهِ، فَكَذَلِكَ قَبْلَهُ. وَهَذَا لِأَنَّ مَا بَاعَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. فَكَأَنَّهُ دَخَلَ بِفَرَسٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ نَفَقَ قَبْلَ الْقِتَالِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ فِي هَذَا. 1776 - وَلَوْ دَخَلَ مُرَاهِقٌ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فَلَهُ الرَّضْخُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَا: فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقْسِمُوا الْغَنَائِمَ حَتَّى بَلَغَ الْغُلَامُ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِ فَارِسٍ إنْ كَانَ فَارِسًا، وَبِسَهْمِ رَاجِلٍ إنْ كَانَ رَاجِلًا، سَوَاءٌ لَقُوا قِتَالًا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْقَوْا. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَدْ انْعَقَدَ لَهُ حِينَ جَاوَزَ الدَّرْبَ، ثُمَّ قَبْلَ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ كَمُلَ حَالُهُ، فَيُجْعَلُ مَا اعْتَرَضَ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ السَّهْمَ الْكَامِلَ، بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى. أَشَارَ هَاهُنَا إلَى حَرْفٍ آخَرَ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 965 مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: يُسْهَمُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ. وَلِلذِّمِّيِّ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ. فَاخْتِلَافُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ الْكَامِلِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْإِسْلَامِ يَكُونُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَالِغًا مُسْلِمًا عِنْدَ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 966 [بَابُ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ صَاحِبُ الْفَرَسِ وَصَاحِبُ الْمَقَاسِمِ فِيمَا يَجِبُ لِلْفَرَسِ] 102 - بَابُ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ صَاحِبُ الْفَرَسِ وَصَاحِبُ الْمَقَاسِمِ فِيمَا يَجِبُ لِلْفَرَسِ 1778 - وَلَوْ أَنَّ غَازِيًا بَاعَ فَرَسَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ بَيْعِهِ، وَفِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ الْبَيْعِ لَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ فَإِنْ قَالَ الَّذِي يَلِي الْمَقَاسِمَ: إنَّمَا بِعْتَ فَرَسَكَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَقَالَ (ص 321) الْغَازِي: مَا بِعْته إلَّا بَعْدَ الْإِصَابَةِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يَلِي الْمَقَاسِمَ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْغَازِي. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَدْ انْعَقَدَ لَهُ بِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ حَادِثٌ، فَإِنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، مَا لَمْ يَثْبُتْ سَبْقُ التَّارِيخِ بِالْحُجَّةِ وَلَكِنَّهُ قَالَ: سَبَبُ الْحِرْمَانِ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ، وَهُوَ بَيْعُ الْفَرَسِ. فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. 1779 - أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْلِمًا لَوْ مَاتَ وَلَهُ أَخٌ مُسْلِمٌ، فَجَاءَ ابْنُهُ مُرْتَدًّا، وَزَعَمَ أَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، فَالْمِيرَاثُ لَهُ، وَقَالَ الْأَخُ: إنَّمَا ارْتَدَّ فِي حَيَاتِهِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَخِ. وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي رِدَّتِهِ. لِأَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِ ظَاهِرٌ، فَلَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 967 1780 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ابْنُهُ نَصْرَانِيًّا فَزَعَمَ أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ لِأَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِ وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ فِي الدِّينِ مَعْلُومٌ، فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ إلَّا بِحُجَّةٍ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ الْتِزَامُ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَبِالْبَيْعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَدْ صَارَ مُحْتَمَلًا فَلَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ إلَّا بِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْقَصْدِ إلَى الْقِتَالِ. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاعَهُ بَعْدَ الْقِتَالِ وَإِصَابَةِ الْغَنَائِمِ. فَمَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَثْبُتُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ. 1781 - فَأَمَّا الْإِحَالَةُ بِالْبَيْعِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الظَّاهِرِ، وَبِالظَّاهِرِ يُدْفَعُ الِاسْتِحْقَاقُ، وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ. 1782 - وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْجُنْدِ عَلَى أَنَّهُ بَاعَهُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ. 1783 - وَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَالْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِشَهَادَتِهِ. فَإِنْ قَالَ الْمَشْهُودُ لَهُ: أُشَارِكُ هَذَا الْفَارِسَ الَّذِي شَهِدَ لِي فِي نَصِيبِهِ لِإِقْرَارِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَإِقْرَارُ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا صَادَفَ مِلْكَهُ أَوْ كَانَ أَقَرَّ بِمِلْكٍ لِلْغَيْرِ فِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هَاهُنَا، فَلِهَذَا لَا يُشَارِكُهُ فِي نَصِيبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 968 وَإِنْ قَالَ الْفَارِسُ: نَفَقَ فَرَسِي أَوْ عُقِرَ. وَقَالَ الَّذِي يَلِي الْمَقَاسِمَ: أَرَاك بِعْته. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْفَارِسِ، وَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مَعْلُومٌ. وَمَا يُبْطِلُ حَقَّهُ وَهُوَ بَيْعُ الْفَرَسِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ: صَاحِبُ الْمَقَاسِمِ يَدَّعِيهِ وَالْغَازِي يُنْكِرُهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى الْأَخُ الْمُسْلِمُ عَلَى الِابْنِ أَنَّهُ ارْتَدَّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَالَ الِابْنُ: مَا ارْتَدَدْت قَطُّ. فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الِابْنِ، وَالْمِيرَاثُ لَهُ. 1785 - فَإِنْ قَالَ: دَخَلْت بِفَرَسٍ فَنَفَقَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَقَاسِمِ: مَا أَدْخَلْتَ بِفَرَسٍ أَمْ لَا؟ فَهُوَ رَاجِلٌ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ دَخَلَ بِفَرَسٍ. لِأَنَّ الْغَازِيَ هَاهُنَا يَدَّعِي سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَرَسِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إلَّا بِحُجَّةٍ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ مِيرَاثَ مَيِّتٍ وَزَعَمَتْ أَنَّهُ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي حَيَاتِهِ، لَمْ تُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ. 1786 - وَإِنْ عَلِمَ صَاحِبُ الْمَقَاسِمِ وَالْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ كَانَ فَارِسًا، وَأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ فَرَسَهُ بَعْدَ إصَابَةِ بَعْضِ الْغَنَائِمِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا أَصَابُوا قَبْلَ اسْتِهْلَاكِهِ، وَلَا مَا أَصَابُوا بَعْدَهُ، فَلَهُ فِي ذَلِكَ سَهْمُ رَاجِلٍ، إلَّا مَا عُلِمَ أَنْ إصَابَتِهِ كَانَ قَبْلَ اسْتِهْلَاكِهِ. لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبْطِلَ لِحَقِّهِ هَاهُنَا عَنْ الْبَعْضِ مَعْلُومٌ، فَلَا يُعْطَى إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ. وَلِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْمُصَابِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُصَابًا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 969 وَيَحْتَمِلُ (322) أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ، وَبِالِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ. وَصَارَ كُلُّ جُزْءٍ هَاهُنَا كَجَمِيعِ الْمُصَابِ فِي مَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ. وَلَا يَمِينَ عَلَى صَاحِبِ الْمَقَاسِمِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ، إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ. 1787 - وَإِنْ كَانَ بَاعَ فَرَسَهُ وَاشْتَرَى فَرَسًا آخَرَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فَارِسٌ فِي كُلِّ مُصَابٍ، إلَّا مَا كَانَ بَعْدَ بَيْعِهِ الْفَرَسَ قَبْلَ شِرَائِهِ الْفَرَسَ الثَّانِيَ. فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ إلَّا بِسَهْمِ رَاجِلٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِبَقَاءِ الِاحْتِمَالِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمُصَابِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ بَيْعِهِ الْفَرَسَ الْأَوَّلَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْفَرَسَ الثَّانِي، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ حَقُّهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ رَاجِلًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي وَقْتٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْإِصَابَةَ كَانَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ. بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا فِي وَقْتٍ فَجَاءَ مُسْلِمًا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ، لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ أَنَّ الِابْنَ كَانَ مُرْتَدًّا فِي وَقْتٍ فَقَالَ: أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ. وَقَالَ الْأَخُ: أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ. فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ مَا لَمْ يُثْبِتْ بِالْبَيِّنَةِ إسْلَامَهُ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ. 1788 - وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَادَلَ فَرَسَهُ بِهَذَا الْفَرَسِ الَّذِي فِي يَدِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 970 وَقَالَ صَاحِبُ الْمَقَاسِمِ: أَظُنُّك بِعْت فَرَسَك ثُمَّ اشْتَرَيْتَ هَذَا الْفَرَسَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَازِي مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَم. كَوْنَهُ رَاجِلًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ. فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُبَادَلَةَ الْفَرَسِ بِفَرَسٍ آخَرَ لَا تَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الرَّاجِلِ. فَصَاحِبُ الْمَقَاسِمِ هَاهُنَا يَدَّعِي السَّبَبَ الْمُبْطِلَ لِحَقِّهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. 1789 - وَمَنْ لَحِقَ بِالْجَيْشِ مِنْ تَاجِرٍ، أَوْ حَرْبِيٍّ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ عَبْدٍ كَانَ يَخْدُمُ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ الشَّرِكَةَ فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ مَا الْتَحَقَ بِهِمْ، وَلَا شَرِكَةَ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ. إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فِيهِ، فَيُقَاتِلَ دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا أَصَابُوا قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ، وَلَا مَا أَصَابُوا بَعْدَ مَا لَحِقَ بِهِمْ، وَلَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ، مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى شَيْءٍ أَنَّهُ قَدْ أُصِيبَ بَعْدَ مَا لَحِقَ بِهِمْ. لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ فِي كُلِّ جُزْءٌ مِنْ الْمُصَابِ، وَبِالِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ ابْتِدَاءً. 1790 - فَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَأَرَادَ أَنْ يُشَارِكَ الشَّاهِدَ فِيمَا أَصَابَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِمِلْكٍ لَهُ فِي شَيْءٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 971 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا قَبْلَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ؟ وَحَقُّ الِاشْتِرَاكِ يَنْبَنِي عَلَى الْمِلْكِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ. أَلَا تَرَى أَنَّ جَيْشًا لَوْ اقْتَسَمُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْضُ الْجَيْشِ لَمْ يُشَارِكِ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي نَصِيبِهِ؟ وَهَذَا مِمَّا لَا يُشْكِلُ فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْجَيْشِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى مَا أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتِحْسَانًا، وَلَكِنْ إنْ بَقِيَتْ مِنْ الْغَنِيمَةِ بَقِيَّةٌ. أَعْطَاهُ الْإِمَامُ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ أَعْطَاهُ عِوَضَ نَصِيبِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ كَانَ أَوْلَى. وَهَذَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ. وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ تَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ سَهْوٌ يُجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. 1791 - وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى هَذَا الرَّجُلُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَقُوا قِتَالًا بَعْدَ مَا لَحِقَ بِهِمْ، وَأَنَّهُ قَاتَلَ دَفْعًا عَنْ الْمُصَابِ مَعَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ (ص 323) أَنَّهُمْ لَقُوا قِتَالًا بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَلَكِنْ لَا يَدْرُونَ أَنَّ ذَلِكَ الْقِتَالَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ هَذَا الرَّجُلُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا شَرِكَةَ لَهُ مَعَهُمْ، حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ هَاهُنَا الْمُقَاتَلَةُ مَعَهُمْ دَفْعًا عَنْ الْمُصَابِ، وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ بِقَوْلِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 972 [بَابُ دَفْعِ الْفَرَسِ بِاشْتِرَاطِ السَّهْمِ وَإِعَادَتِهِ وَإِيدَاعِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] 103 - بَابُ دَفْعِ الْفَرَسِ بِاشْتِرَاطِ السَّهْمِ وَإِعَادَتِهِ وَإِيدَاعِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ 1792 - قَالَ: وَإِذَا دَخَلَ الْغَازِي فِي دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا، ثُمَّ دَفَعَ فَرَسَهُ إلَى رَجُلٍ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ لِصَاحِبِهِ فَهَذَا جَائِزٌ. لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إعَارَةَ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا كَانَ لَهُ سَهْمُ الْفَرَسِ، وَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً. 1793 - وَلَوْ كَانَ شَرَطَ أَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ الَّذِي قَاتَلَ عَلَيْهِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ فَهَذَا فَاسِدٌ. لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَا هُوَ حَقُّ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَى فَرَسِهِ. فَيَكُونُ هَذَا إجَارَةً مِنْهُ لِفَرَسِهِ بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْبَدَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ. فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الَّذِي قَاتَلَ عَلَيْهِ، وَلَا سَهْمَ لِلْفَرَسِ هَاهُنَا. أَمَّا الَّذِي قَاتَلَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ اسْتَأْجَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إجَارَةً فَاسِدَةً، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً أَوْ اشْتَرَاهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ شَيْئًا، فَهَذَا أَوْلَى. وَأَمَّا صَاحِبُ الْفَرَسِ فَلِأَنَّهُ لَوْ آجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً بَطَلَ بِهِ حَقُّهُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ إذَا آجَرَهُ إجَارَةً فَاسِدَةً. لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي الْحُكْمِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ فَرَسِهِ وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ السَّهْمَ مَعَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 973 وَلَوْ كَانَ مَعَ صَاحِبِ الْفَرَسِ فَرَسٌ غَيْرُ هَذَا فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ بِاعْتِبَارِ الْفَرَسِ الْآخَرِ سَوَاءٌ بَقِيَ فِي يَدِهِ أَوْ نَفَقَ. لِأَنَّ الَّذِي آجَرَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. 1795 - وَلَوْ لَمْ يَدْخُلُوا دَارَ الْحَرْبِ حَتَّى أَعْطَى فَرَسَهُ رَاجِلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الْفَرَسِ لِصَاحِبِهِ، فَإِنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ هَاهُنَا لِلَّذِي أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَدْ انْعَقَدَ لَهُ وَهُوَ الِانْفِصَالُ فَارِسًا. فَيَكُونُ صَاحِبُ الْفَرَسِ مُؤَاجِرًا فَرَسَهُ بِبَدَلٍ مَجْهُولٍ فَيَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَهْمِ الْفَرَسِ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ انْفَصَلَ رَاجِلًا. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ فَرَسَانِ فَصَنَعَ هَذَا بِأَحَدِهِمَا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ بِاعْتِبَارِ فَرَسِهِ الَّذِي بَقِيَ لَهُ. وَأَمَّا سَهْمُ الْفَرَسِ الْآخَرِ فَهُوَ لِلَّذِي قَاتَلَ عَلَيْهِ، وَلِصَاحِبِ الْفَرَسِ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْغَازِيَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا بِفَرَسٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ قَادَ بِأَفْرَاسٍ، فَكَانَ فِي هَذَا الشَّرْطِ مَعْنَى إجَارَةِ الْفَرَسِ كَمَا بَيَّنَّا. فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِسَهْمٍ لِفَرَسَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ صَحِيحًا وَالسَّهْمُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ، لِأَنَّهُ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ كَانَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَرَسَيْنِ، فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 974 796 - وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ الْإِعْطَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَسَهْمُ الْفَرَسِ لِلَّذِي قَاتَلَ عَلَيْهِ، وَلِصَاحِبِ الْفَرَسِ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّهُ مَا انْعَقَدَ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِهَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فَارِسًا بِهِ (ص 324) عِنْدَ الِانْفِصَالِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْإِجَارَةِ مُتَقَرِّرًا بَيْنَهُمَا هَاهُنَا. 1797 - وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلَيْنِ فَرَسٌ غَيْرُ الْفَرَسِ الَّذِي أَعْطَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ. فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يُسْهَمُ لِهَذَا الْفَرَسِ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِهِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَارِسٌ عِنْدَ الِانْفِصَالِ بِالْفَرَسِ الْآخَرِ، دُونَ هَذَا الْفَرَسِ. وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلِلَّذِي قَاتَلَ عَلَى الْفَرَسِ سَهْمُ فَرَسَيْنِ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ فَرَسَانِ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ، بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. 1798 - وَإِذَا أَوْدَعَ الْمُسْلِمُ فَرَسَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، ثُمَّ خَرَجَ رَاجِلًا فِي سَرِيَّةٍ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ وَرَجَعُوا إلَى الْعَسْكَرِ، أَوْ خَرَجُوا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَصَاحِبُ الْفَرَسِ فَارِسٌ فِي ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 975 لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَرَسِ قَدْ انْعَقَدَ لَهُ، ثُمَّ يَبْطُلُ ذَلِكَ بِإِيدَاعِهِ إيَّاهُ مِنْ رَجُلٍ مَعَهُ فِي الْمُعَسْكَرِ لِبَقَاءِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ بَعْدَ الْإِيدَاعِ، وَقَدْ قَرَّرَنَا هَذَا فِي الْإِعَارَةِ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَرَكَهُ مَعَ غُلَامِهِ فِي الْمُعَسْكَرِ. فَكَمَا لَا يَبْطُلُ هُنَاكَ سَهْمُهُ لَا يَبْطُلُ هَاهُنَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَدُوَّ لَوْ حَضَرُوا الْعَسْكَرَ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ رَاجِلًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى فَرَسِهِ، وَلَكِنْ تَرَكَهُ إبْقَاءً عَلَيْهِ. كَانَ لَهُ سَهْمُ الْفَرَسِ؟ فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ فِي سَرِيَّةٍ وَتَرَكَهُ فِي الْمُعَسْكَرِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لِيَقُومَ عَلَيْهِ وَيُسَمِّنَهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ أَوْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ. 1799 - وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ نَفَلَ لِلْفُرْسَانِ مِنْ السَّرِيَّةِ نَفْلًا فَلَيْسَ لِهَذَا الرَّجُلِ مِنْ النَّفْلِ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالتَّنْفِيلِ تَحْرِيضَهُمْ عَلَى إخْرَاجِ الْأَفْرَاسِ مَعَهُمْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجْهُهُمْ إلَيْهِ. فَمَنْ تَرَكَ فَرَسَهُ فِي الْمُعَسْكَرِ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّنْفِيلِ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ رَجَّالَةً وَتَرَكُوا الْأَفْرَاسَ فِي الْمُعَسْكَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ نَفْلِ الْفُرْسَانِ شَيْءٌ لِهَذَا الْمَعْنَى. 1800 - وَلَوْ مَرَّ عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ بِحِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ مُمْتَنِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَوْدَعَ مُسْلِمٌ فَرَسَهُ مِنْ رَجُلٍ كَانَ سَاكِنًا فِي الْحِصْنِ مُسْلِمًا مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ أَسِيرًا أَوْ حَرْبِيًّا، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، ثُمَّ قَاتَلَ رَاجِلًا وَهُوَ بِالْقُرْبِ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ أَوْ بِالْبُعْدِ مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ فِيمَا يُصَابُ إلَّا سَهْمُ رَاجِلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 976 لِأَنَّهُ صَارَ مُضَيِّعًا فَرَسَهُ حِينَ جَعَلَهُ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَهْلَكَ فَرَسَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَزَالَ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ بِاخْتِيَارِهِ. فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا مَنَعُوهُ مِنْهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَى الْفَرَسِ بِقُوَّتِهِ، وَلَا بِقُوَّةِ الْإِمَامِ، إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مَنْ هُوَ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. فَهُنَاكَ إنَّمَا جُعِلَ الْفَرَسُ فِي يَدِ مُسْلِمٍ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، فَلَا يَزُولُ بِهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ. 1801 - فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِمْ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنَائِمِ وَأَخْذِ فَرَسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا إلَّا سَهْمُ رَاجِلٍ، سَوَاءٌ لَقُوا قِتَالًا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْقَوْا. أَمَّا إذَا لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَلَا إشْكَالَ، وَحَالُهُ كَحَالِ مَنْ بَاعَ فَرَسَهُ ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ. وَأَمَّا إذَا لَقُوا قِتَالًا فَلِأَنَّ لَهُ فِي الْمُصَابِ سَهْمُ رَاجِلٍ. وَإِنَّمَا قَاتَلَ دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَزْدَادُ بِهِ سَهْمُهُ. 1802 - وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِهِمْ بِأَمَانٍ مَعَ فَرَسِهِ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمُعَسْكَرِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا نَصِيبَ لَهُ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَاتِلًا حِينَ دَخَلَ فِي مَنَعَتِهِمْ بِأَمَانٍ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مِمَّنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ (ص 325) حَقِيقَةً لَا حُكْمًا. وَلَكِنْ: حَالُهُ كَحَالِ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَأْمَنًا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ وَالْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ، فَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ هَاهُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 977 إنْ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ قِتَالًا فَقَاتَلَ مَعَهُمْ دَفْعًا كَانَ لَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمُصَابِ حَتَّى يَكُونَ قِتَالُهُ دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ، فَيَثْبُتُ الْحَقُّ لَهُ بِهَذَا الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا الْتَحَقَ بِهِمْ فَارِسًا فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. 1803 - وَلَوْ كَانَ أُسِرَ عَلَى فَرَسِهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، كَانَ لَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ، سَوَاءٌ الْتَحَقَ بِهِمْ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا. لِأَنَّهُ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ، ثُمَّ لَمْ يَعْتَرِضْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُبْطِلُهُ، فَإِنَّهُ أُسِرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُمْ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَهُمْ بِاخْتِيَارِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُمْ وَلَا أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ مَا دَامَ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ. 1804 - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ بَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا فِي بَعْضِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا دَخَلَ الرَّسُولُ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ الرَّسُولُ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ مَعَهُمْ إنْ كَانَ فَارِسًا، سَوَاءٌ خَرَجَ إلَيْهِمْ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا. لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَتْرُكْ الْمُحَارَبَةَ مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا أَتَاهُمْ لِيُدَبِّرَ أَمْرَ الْحَرْبِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَكُونُ فِي الْمُعَسْكَرِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ إلَيْهِمْ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 978 أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّسُولَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَكُونُ آمِنًا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَانٍ لِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى؟ وَلِأَنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا أَتَاهُمْ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ يَكُونُ سَاعِيًا فِيمَا تَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ مُفَارِقًا لَهُمْ حُكْمًا، وَالْمُسْتَأْمَنُ مَا أَتَاهُمْ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِمَنْفَعَةٍ لَهُ خَاصَّةً، فَيَصِيرُ بِهِ مُفَارِقًا لِلْعَسْكَرِ حُكْمًا. الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ. وَقَدْ كَانَ وَجَّهَهُ إلَى نَاحِيَةِ الشَّامِ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا عِنْدَ الْقِتَالِ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ بَعَثَ مُحَيِّصَةَ الْأَنْصَارِيَّ إلَى أَهْلِ فَدَكَ، وَهُوَ مُحَاصِرٌ خَيْبَرَ، فَفَتَحَهَا وَهُوَ غَائِبٌ، ثُمَّ جَاءَ فَضُرِبَ لَهُ سَهْمٌ» . فَعَرَفْنَا أَنَّ مَنْ كَانَ سَعْيُهُ فِي تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ مَعَهُمْ. 1805 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَخَلَا يُرِيدَانِ الْقِتَالَ فَقَاتَلَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُصِيبُوا شَيْئًا حَتَّى اسْتَأْمَنَا إلَى الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ رَجَعَا إلَى الْعَسْكَرِ، بِآخَرَيْنِ لَا يُرِيدَانِ قِتَالًا، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا شَيْءٌ. لِأَنَّهُمَا حِينَ اسْتَأْمَنَا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَدْ تَرَكَا الْمُحَارَبَةَ مَعَهُمْ، وَيَكُونُ حَالُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ كَحَالِ مَنْ كَانَ تَاجِرًا فِيهِمْ بِأَمَانٍ وَالْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ عَلَى قَصْدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 979 الْقِتَالِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا رَجَعْنَا إلَى الْعَسْكَرِ لَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ ثَبَتَ فِيمَا إذَا كَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَسْتَأْمِنَا إلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُمَا تَرَكَا الْقِتَالَ وَاشْتَغَلَا بِالتِّجَارَةِ فِي الْمُعَسْكَرِ، وَتَبَيَّنَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ الْغَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَرِكَةٌ فِيهَا. فَبَعْدَ الِاسْتِئْمَانِ إلَيْهِمْ أَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا شَرِكَةٌ. 1806 - وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ فَارِسًا مَعَ الْجَيْشِ وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ فِي الدِّيوَانِ، فَلَمَّا أَصَابُوا غَنَائِمَ قَالَ: دَخَلْت لِلْقِتَالِ مُتَطَوِّعًا. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: دَخَلْت تَاجِرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُحَارِبٌ لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْأَصْلِ. فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُ إيَّاهُمْ فِي الدِّينِ وَالدَّارِ تَحْمِلُهُ عَلَى الْمُحَارَبَةِ مَعَهُمْ، فَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ يَكُونُ هُوَ مُحَارِبًا، وَالْمُسْلِمُونَ بِقَوْلِهِمْ: دَخَلْت تَاجِرًا عَلَيْهِ سَبَبُ الْحِرْمَانِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. (ص 326) . 1807 - وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلَا شَيْءَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ دَخَلَ لِلْقِتَالِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ دَخَلَتْ لِمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى. لِأَنَّ هَؤُلَاءِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ غَيْرُ مُقَاتِلِينَ. فَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ بَيِّنَةٌ صَالِحَةٌ لِلْمُحَارَبَةِ. وَالْعَبْدُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ. وَالذِّمِّيُّ مُوَافِقٌ لَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُحَارَبَةِ مَعَهُمْ. فَمَا لَمْ يُعْلَمْ بِالْحُجَّةِ قَصْدُهُمْ إلَى الْمُحَارَبَةِ أَوْ مُبَاشَرَةِ الْمُحَارَبَةِ لَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْمُصَابِ شَيْءٌ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. 1808 - وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ مَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 980 إذَا كَانَ رَجُلًا بَالِغًا يُبَاحُ قَتْلُهُ. وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِكَوْنِهِ مُحَارَبًا، وَمَنْ كَانَ صَبِيًّا مِنْهُمْ أَوْ امْرَأَةً لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ الْقِتَالِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مُقَاتِلًا فِي الْأَصْلِ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ، إلَّا الرَّضْخَ. وَإِنْ قَاتَلُوا فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُقَاتِلِينَ فِي الْأَصْلِ. 1809 - وَلَوْ أَنَّ فَارِسًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَعَارَ فَرَسَهُ بَعْضَ التُّجَّارِ، أَوْ رَسُولًا أَرْسَلَهُ الْأَمِيرُ إلَى الْخَلِيفَةِ، فَرَكِبَ الْمُسْتَعِيرُ وَانْطَلَقَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَصَابَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ غَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ إصَابَةِ تِلْكَ الْغَنَائِمِ فَلَيْسَ لِلْمُعِيرِ فِيهَا إلَّا سَهْمُ رَاجِلٍ. لِأَنَّهُ جَعَلَ فَرَسَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِاخْتِيَارِهِ، فَيَزُولُ بِهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا بِفَرَسٍ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْفَرَسَ مَعَ غُلَامِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَتَى بِهِ أَهْلَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَارِسًا بِهِ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. 1810 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ لَمْ يَخْرُجْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فَارِسٌ فِيمَا أُصِيبَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 981 لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَرَسِ قَدْ انْعَقَدَ لَهُ بِالِانْفِصَالِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ، فَمَا بَقِيَ فَرَسُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَبْقَى ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً لِبُعْدِهِ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعَارَهُ فِي الْمُعَسْكَرِ ثُمَّ خَرَجَ فِي سَرِيَّةٍ رَاجِلًا وَبَعُدَ مِنْ الْمُعَسْكَرِ كَانَ لَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ فِي الْمُصَابِ؟ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِمْ. فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. أَرَأَيْت لَوْ بَدَا لِلْمُسْتَعِيرِ فَرَجَعَ إلَى الْعَسْكَرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. فَرُدَّ الْفَرَسُ عَلَيْهِ، أَمَا كَانَ لَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ رُجُوعِهِ؟ وَهُوَ فَارِسٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؟ وَهَذَا لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ فِي حُكْمِ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ الْغَنِيمَةِ. وَلِهَذَا يُشَارِكُ الْمَدَدُ الْجَيْشَ وَالْعَسْكَرُ أَصْحَابَ السَّرِيَّةِ فِي الْمُصَابِ إذَا الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَهَاهُنَا مَا دَامَ فَرَسُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَعَهُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ إخْرَاجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَسْجِدِ فِي حُكْمِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً مَعَ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ خَارِجُ الْمَسْجِدِ. 1811 - وَلَوْ عَادَ الْمُسْتَعِيرُ بِالْفَرَسِ إلَى الْمُعَسْكَرِ بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِلْمُعِيرِ سَهْمُ الْفَارِسِ فِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ دُخُولِ الْمُسْتَعِيرِ دَارَ الْحَرْبِ، كَمَا أَنَّ لَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ خُرُوجِ الْمُسْتَعِيرِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا فِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ خَاصَّةً. لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 982 فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ مَتَى كَانَتْ الْإِصَابَةُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْفَرَسَ وَصَلَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لِلْمُعِيرِ إلَّا سَهْمُ الرَّاجِلِ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ فِيهِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ إصَابَتُهُ بَعْدَ مَا حَصَّلَ الْفَرَسَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُعْطَى إلَّا قَدْرَ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ. 1812 - وَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الْفَرَسِ: لَمْ يَخْرُجْ الْفَرَسُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ. وَصَدَّقَهُ الْمُسْتَعِيرُ (ص 327) فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ مَعْلُومٌ، وَمَا يُبْطِلُهُ وَهُوَ حُصُولُ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بَلْ هُوَ مُنْكِرٌ. لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَكَمَا لَا يُصَدَّقُ صَاحِبُ الْمَقَاسِمِ عَلَيْهِ فِيمَا يُبْطِلُ حَقَّهُ لَا يُصَدَّقُ الْمُسْتَعِيرُ إذَا كَذَّبَهُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُسْتَعِيرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ عِنْدَهُ، وَبِدُونِ الْحُجَّةِ لَا يَثْبُتُ سَبَبُ الْحِرْمَانِ. وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَهُوَ يَكُونُ فَارِسًا بِهَذَا الْفَرَسِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْغَنَائِمِ سَوَاءٌ حَصَلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ. لِأَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ لِلرُّكُوبِ لَا لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ أَصْلًا. 1813 - وَلَوْ كَانَ الْفَرَسُ نَفَقَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْمُعِيرُ فَارِسٌ فِي الْغَنَائِمِ كُلِّهَا. لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ فِي يَدِ الْمُعِيرِ، فَإِنَّ بِالْإِعَارَةِ لَا يَصِيرُ مُبْطِلًا اسْتِحْقَاقَهُ بِالْفَرَسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 983 1814 - وَإِنْ كَانَ نَفَقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فَارِسٌ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ أُصِيبَتْ قَبْلَ إخْرَاجِ الْفَرَسِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ حُصُولَ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِاخْتِيَارِهِ مَانِعٌ مِنْ اسْتِحْقَاقِهِ السَّهْمَ بِهِ، غَيْرُ مُبْطِلٍ لِمَا اسْتَحَقَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ. فَإِنَّمَا يَكُونُ هُوَ رَاجِلًا فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. 1815 - وَإِنْ كَانَ نَفَقَ بَعْدَ مَا رَدَّهُ الْمُسْتَعِيرُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ فَارِسٌ فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ مَا رَدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. لِزَوَالِ الْمَانِعِ. وَمَوْتُ الْفَرَسِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ كَمَوْتِهِ فِي يَدِ الْمُعِيرِ. وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُعِيرِ كَانَ هُوَ فَارِسًا، إلَّا فِيمَا أُصِيبَ حَالَ كَوْنِ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. 1816 - وَأَمَّا بَيَانُ سَهْمِ الْمُسْتَعِيرِ فَنَقُولُ: إنْ بَعَثَ رَسُولًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَهُ السَّهْمُ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ يَعُدْ. لِأَنَّهُ وَإِنْ بَعُدَ مِنْ الْعَسْكَرِ فَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ لِمَنْفَعَةِ الْعَسْكَرِ فَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ مَعَهُمْ، سَوَاءٌ عَادَ إلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَعُدْ. 1817 - وَمَا أُصِيبَ بَعْدَ مَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ عَادَ هُوَ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 984 دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَسِمُوا أَوْ يَبِيعُوا فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِيهَا، بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ أَوْ عَادَ بَعْدَ مَا اقْتَسَمُوهَا أَوْ بَاعُوهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِكَةٌ فِيهَا. لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا حَصَلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ الْتَحَقَ هُوَ بِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ دَارَ الْحَرْبِ قَبْلَ هَذَا فِي الشَّرِكَةِ فِيمَا يُصَابُ، وَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ الشَّرِكَةُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ فِي مَنْزِلِهِ حَيْثُ أُصِيبَ ذَلِكَ؟ 1818 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فَلَهُ سَهْمُهُ فِيمَا أُصِيبَ حَالَ كَوْنِهِ مَعَ الْجَيْشِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، عَلَى وَجْهٍ يُمَكِّنُهُ أَنْ يُغِيثَهُمْ لَوْ احْتَاجُوا إلَيْهِ. فَأَمَّا مَا أُصِيبَ بَعْدَ مَا بَعُدَ مِنْهُمْ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا سَهْمَ لَهُ فِي ذَلِكَ إذَا لَمْ يَعُدْ إلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ فَارَقَهُمْ لَا لِمَنْفَعَةٍ تَرْجِعُ إلَيْهِمْ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لِلْوَقْعَةِ مَعَهُمْ حُكْمًا. كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالتِّجَارَةِ وَتَرَكَ الْقِتَالَ. إلَّا أَنْ يَعُودَ إلَيْهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ يُشَارِكُهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا كَانَ الْقِيَاسُ فِي الرَّسُولِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا بَعُدَ عَنْهُمْ فِي أَمْرٍ تَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَيْهِمْ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قُلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 985 فِيمَا إذَا دَخَلَ مَنَعَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ رَسُولًا أَوْ مُسْتَأْمَنًا إلَيْهِمْ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، فَالْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْنَا هُنَاكَ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ هَا هُنَا. 1819 - وَلَوْ أَوْدَعَ الْغَازِي فَرَسَهُ بَعْضَ مَنْ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَصِيرُ مُضَيِّعًا فَرَسَهُ بِمَا صَنَعَ، فَلَا يُضْرَبُ لَهُ فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِسَهْمِ رَاجِلٍ. كَمَا لَوْ بَاعَ (ص 328) فَرَسَهُ وَإِنْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ فَرَسَهُ فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، أَوْ بَاعَهُ الْإِمَامُ فَأَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، ثُمَّ غَنِمُوا غَنَائِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ فَارِسٌ فِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ عَوْدِ الْفَرَسِ إلَيْهِ، رَاجِلٌ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى فَرَسًا ابْتِدَاءً. لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ فِي الِابْتِدَاءِ صَارَ مُبْطِلًا اسْتِحْقَاقَهُ حِينَ أَزَالَ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ، فَمَا لَمْ يَعُدْ الْفَرَسُ إلَى يَدِهِ لَا يَعُودُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ. 1820 - وَلَوْ كَانَ لَمْ يُودِعْ الْفَرَسَ أَحَدًا وَلَكِنَّهُ غَنِمَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهُوَ فَارِسٌ فِيمَا يُصَابَ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ مَا زَالَ تَمَكُّنُهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَفَقَ الْفَرَسُ فِي يَدِهِ. 1821 - وَكَذَلِكَ إنْ أَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَهُوَ فَارِسٌ حُكْمًا فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالثَّمَنِ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى إعْطَاءِ الثَّمَنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 986 بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَفَقَ فَرَسُهُ فَلَمْ يَشْتَرِ فَرَسًا آخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ. 1822 - وَلَوْ أَعَارَ فَرَسَهُ مُسْلِمًا لِيَخْرُجَ بِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى أَهْلِهِ، فَأَخْرَجَهُ الْمُسْتَعِيرُ، ثُمَّ رَكِبَهُ رَاجِعًا إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَالْمُعَيَّرُ رَاجِلٌ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ أُصِيبَتْ، وَالْمُسْتَعِيرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا رَجَعَ إلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ الْفَرَسُ إلَى يَدِهِ. أَمَّا مَا أُصِيبَ وَالْفَرَسُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِيهِ. وَأَمَّا فِي الْمُصَابِ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَلِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْفَرَسِ. لِأَنَّهُ مَدَدٌ الْتَحَقَ بِالْجَيْشِ عَلَى فَرَسٍ مَغْصُوبٍ، فَإِنَّهُ بِالرَّدِّ صَارَ غَاصِبًا ضَامِنًا مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى صَاحِبِهِ. 1823 - وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَعِيرُ فَارِسًا بِهِ فَالْمُعِير لَا يَكُونُ فَارِسًا بِهِ وَفِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ مَا أَخَذَ الْمُعِيرُ فَرَسَهُ فَالْمُسْتَعِيرُ رَاجِلٌ. لِأَنَّ الْفَرَسَ أُخِذَ مِنْهُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ. وَالْمُعِيرُ فَارِسٌ لِأَنَّهُ عَادَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى فَرَسًا آخَرَ. 1824 - وَلَوْ لَمْ يَرُدَّهُ الْمُسْتَعِيرُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَزُوهُ، فَالْمُعِيرُ رَاجِلٌ فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ حُصُولِ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَ إحْرَازِ أَهْلِ الْحَرْبِ إيَّاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 987 لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَعُودُ تَمَكُّنُهُمْ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ. 1825 - إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغَنِيمَةِ فَيَرُدُّوهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ فَارِسًا فِيمَا يُصَابُ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ عَادَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَيْهِ. كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. 1826 - وَلَوْ كَانَ الْغَازِي خَلَّفَ فَرَسَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ مَعَ الْجَيْشِ رَاجِلًا، ثُمَّ أَحْرَزَ الْمُشْرِكُونَ فَرَسَهُ بِدَارِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْفَرَسِ فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ فَهُوَ رَاجِلٌ. لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ انْعَقَدَ لَهُ بِالِانْفِصَالِ وَهُوَ رَاجِلٌ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوُصُولِ الْفَرَسِ إلَى يَدِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. كَمَا لَوْ اشْتَرَى فَرَسًا ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ وَهُوَ فَارِسٌ، ثُمَّ اعْتَرَضَ مَانِعٌ بِاخْتِيَارِهِ فَزَالَ بِهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْمَانِعُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. 1827 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّهُ دَخَلَ رَاجِلًا، ثُمَّ كَتَبَ إلَى أَهْلِهِ حَتَّى بَعَثُوا إلَيْهِ فَرَسَهُ، فَهُوَ رَاجِلٌ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى فَرَسًا آخَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 988 وَهَذَا لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُغَيِّرًا لِمَا انْعَقَدَ مِنْ السَّبَبِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَرَّرًا لَهُ رَافِعًا لِلْمَانِعِ الَّذِي كَانَ يَمْنَعُ ظُهُورَ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ. 1828 - وَلَوْ كَانَ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ رَدَّ فَرَسَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَاشْتَرَى فَرَسًا آخَرَ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ (ص 329) فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ بَعْدَ مَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ. 1829 - وَإِنْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَقَاسِمِ فَقَالَ هُوَ: مَا وَصَلَ فَرَسِي إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى اشْتَرَيْتُ هَذَا الْفَرَسَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَقَاسِمِ: لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَانَ وَصَلَ فَرَسُك إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَرِيَ هَذَا الْفَرَسَ فَأَصَبْنَا غَنَائِمَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَازِي مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلُ فَرَسُهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَصِيرُ هُوَ فِي حُكْمِ الرَّاجِلِ. 1830 - وَصَاحِبُ الْمَقَاسِمِ يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا يَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الرَّاجِلِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ فَرَسَهُ وَاشْتَرَى فَرَسًا ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الْفَرَسَ قَبْلَ أَنْ أَبِيعَ فَرَسِي، أَوْ بَادَلْتُ بِفَرَسِي هَذَا الْفَرَسَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِكَوْنِهِ رَاجِلًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، فَهُوَ مُنْكِرٌ مَا يُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ سَبَبِ الْحِرْمَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 989 وَلَوْ دَخَلَ مَعَ الْعَسْكَرِ رَاجِلًا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ ثُمَّ رَجَعَ وَحْدَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَكَرَّ إلَى الْعَسْكَرِ رَاجِعًا فَهُوَ فَارِسٌ فِي جَمِيعِ مَا أُصِيبَ، إلَّا فِي غَنِيمَةٍ أُصِيبَتْ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ رَاجِلٌ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالدُّخُولِ الثَّانِي. وَإِنْ صَارَ هُوَ مَدَدًا لِلْجَيْشِ مُلْتَحِقًا بِهِمْ. لِأَنَّ الْتِحَاقَ الْمَدَدِ بِالْجَيْشِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْقِتَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ لَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ فِي غَنِيمَةٍ فَقَاتَلَ عَلَيْهَا فَارِسًا لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. 1832 - وَإِذَا قَاتَلَ فَارِسًا عَنْ غَنِيمَةٍ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْتِحَاقِهِ بِالْجَيْشِ. فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا أُصِيبَ بَعْدَ خُرُوجِهِ، فَيَسْتَحِقُّ بِهَذَا الِالْتِحَاقِ سَهْمَ الْفُرْسَانِ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ الْخُرُوجِ كَانَ لَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ: 1833 - لَوْ دَخَلَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَارِسًا فَإِنَّ لِهَذَا الثَّانِي سَهْمُ الْفَارِسِ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ حَقٌّ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْجَيْشِ. فَإِذَا الْتَحَقَ بِهِمْ فَارِسًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 990 اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَادَ لِيُحْرِزَ مَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَالثَّانِي جَاءَ لِيُحْرِزَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ هُوَ شَرِيكًا الْآنَ ابْتِدَاءً، فَيُرَاعَى فِي صِفَةِ الشَّرِكَةِ حَالُهُ الْآنَ. 1834 - وَلَوْ أَعَارَ الْغَازِي فَرَسَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا لِيَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ ثُمَّ يَرُدَّهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْتَعِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيُبَلِّغَهُ صَاحِبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَجَاءَ بِهِ الرَّجُلُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ بَعْضُ مَنْ فِي عِيَالِ الْمُسْتَعِيرِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الَّذِي جَاءَ بِهِ. لِأَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَيَدِهِ فِي الْحِفْظِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ. 1835 - وَلَوْ رَدَّ بِنَفْسِهِ كَانَ الْمُعِيرُ فَارِسًا فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ، إلَّا فِيمَا أُصِيبَ حَالَ كَوْنِ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَهَذَا مِثْلُهُ. 1836 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ عِيَالِ الْمُسْتَعِيرِ فَالْمُعِيرُ رَاجِلٌ فِي كُلِّ مَا أُصِيبَ بَعْدَ خُرُوجِ الْفَرَسِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَعُودَ إلَى يَدِهِ. لِأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْآنَ غَاصِبٌ لِلْفَرَسِ، فَلَا تَكُونُ يَدُهُ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَيَدِ الْمُعِيرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 991 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَفَقَ الْفَرَسُ فِي يَدِ الَّذِي جَاءَ بِهِ كَانَ لِلْمُعِيرِ الْخِيَارُ؛ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَيَرْجِعُ هُوَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَعَلَّلَ فَقَالَ: لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ لَهُ فِي يَدِهِ. فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُودِعَ. وَإِذَا فَعَلَهُ صَارَ ضَامِنًا، بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ. فَإِنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي " شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَرَّرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ فِي حَقِّ الْمُسْتَعِيرِ. 1837 - وَأَمَّا الَّذِي جَاءَ بِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ رَاجِلٌ فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الْقِتَالَ حِينَ دَخَلَ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَارِسًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْفَرَسِ كَالْغَاصِبِ وَلَكِنْ قَالَ: هُوَ مَا أَدْخَلَ الْفَرَسَ لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَدْخَلَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَلِأَنَّ الضَّمَانَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إذَا ضَمِنَهُ، فَكَيْفَ يَصِيرُ هُوَ فَارِسًا بِفَرَسٍ لَوْ لَحِقَهُ فِيهِ ضَمَانٌ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ رَاجِلًا مِنْ الْغُزَاةِ إذَا أَوْدَعَهُ رَجُلٌ فَرَسًا فَأَدْخَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَارِسًا بِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 992 1838 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ أَعَارَهُ هَذَا الدَّاخِلَ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَالدَّاخِلُ فَارِسٌ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ، إلَّا فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ خُرُوجِ الْفَرَسِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ الدَّاخِلَ الْآنَ ضَامِنٌ لِلْفَرَسِ ضَمَانًا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ فَيَكُونُ هُوَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فَارِسًا لِيُقَاتِلَ عَلَى الْفَرَسِ. فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ، إلَّا أَنَّ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ حُصُولِ الْفَرَسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِلْمُسْتَعِيرِ سَهْمُ الْفَارِسِ بِسَبَبِ هَذَا الْفَرَسِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْغَاصِبُ فِيهِ سَهْمَ الْفَارِسِ أَيْضًا بِهَذَا الْفَرَسِ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَسْتَحِقَّ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السَّهْمَ بِفَرَسٍ وَاحِدٍ. 1839 - وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْغَنَائِمِ إلَّا فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ أَنْ يَبْعُدَ هُوَ مِنْ الْعَسْكَرِ، فَإِنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ سَهْمَ رَاجِلٍ. لِأَنَّهُ كَانَ دَخَلَ مَعَ الْجَيْشِ رَاجِلًا. وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ لَا حَقَّ لَهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَى الْعَسْكَرِ وَلَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي الْإِصَابَةِ وَلَا فِي الْإِحْرَازِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا. 1840 - وَلَوْ أَرَادَ الْأَمِيرُ أَنْ يُرْسِلَهُ رَسُولًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ فَارِسًا أَنْ يُعْطِيَهُ فَرَسَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 993 الْفَرَسِ طَائِعًا، ثُمَّ أَصَابُوا غَنَائِمَ وَالْفَرَسُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْمُعِيرُ رَاجِلٌ فِي تِلْكَ الْغَنَائِمِ؛ رَجَعَ إلَيْهِ فَرَسُهُ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ. لِأَنَّهُ أَزَالَ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ بِاخْتِيَارِهِ. 1841 - وَإِنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْفَرَسَ وَلَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ الْفَرَسَ مِنْهُ فَيَدْفَعَهُ إلَى الرَّسُولِ لِضَرُورَةٍ جَاءَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ كُرْهًا. لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا، وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْغَيْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَمَنْ أَصَابَهُ مَخْمَصَةٌ. ثُمَّ الْمُعِيرُ يَكُونُ فَارِسًا فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ هَا هُنَا. لِأَنَّهُ مَا زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ الْفَرَسُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُضَيِّعًا لِلْفَرَسِ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ، بَلْ أَوْلَى. لِأَنَّ هُنَاكَ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْأَخْذِ، وَهَا هُنَا لَهُمْ مَنْفَعَةٌ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ هُنَاكَ سَهْمُهُ وَإِنْ زَالَ تَمَكُّنُهُ، فَهَا هُنَا أَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ سَهْمُهُ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 994 [بَابُ مَنْ يُرْضَخُ لَهُ وَمَنْ لَا يُرْضَخُ لَهُ مِنْ الْأَدِلَّاءِ وَغَيْرِهِمْ] 104 - بَابُ مَنْ يُرْضَخُ لَهُ وَمَنْ لَا يُرْضَخُ لَهُ مِنْ الْأَدِلَّاءِ وَغَيْرِهِمْ 1842 - وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ دَارَ الْحَرْبِ وَمَعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَدُلُّونَهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ وَلَا يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرْضِخَ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يُسْهِمَ لَهُمْ كَسِهَامِ الْخَيْلِ. وَلَا كَسِهَامِ الرَّجَّالَةِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُجَاهِدِينَ حُكْمًا، وَلَا مُقَاتِلِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِسًّا، وَلَكِنَّهُمْ جَاءُوا لِأَمْرٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَيَرْضِخُ لَهُمْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِحَسَبِ عَمَلِهِمْ، لِيَرْغَبُوا فِي مِثْلِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، حَتَّى إذَا كَانَتْ فِي دَلَالَتِهِمْ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْضِخَ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سِهَامِ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ. لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمْ هَا هُنَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السَّبَبِ فِي حَقِّ الْمُقَاتِلِينَ، وَلَكِنَّهُ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى، فَإِنَّمَا يَرْضِخُ لَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِدَلَالَتِهِمْ. 1843 - وَإِنْ كَانَ جَعَلَ لَهُمْ عَلَى (ص 331) الدَّلَالَةِ نَفْلًا مُسَمًّى مِنْ الْغَنِيمَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 995 لِأَنَّ التَّنْفِيلَ فِي الْأَصْلِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. 1844 - فَإِنْ أَصَابُوا غَنَائِمَ بَدَأَ بِنَفْلِهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. لِأَنَّ النَّفَلَ فِي الْغَنَائِمِ كَالْوَصِيَّةِ فِي التَّرِكَةِ يُبْدَأُ بِهَا قَبْلَ الْمِيرَاثِ. 1845 - وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا شَيْئًا إلَّا قَدْرَ النَّفْلِ فَذَلِكَ سَالِمٌ لَهُمْ. لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ فِي جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ فِي التَّرِكَةِ. 1846 - وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا شَيْئًا أَصْلًا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ؛ لِانْعِدَامِ حَقِّهِمْ، كَمَا لَا شَيْءَ لِلْغَرِيمِ وَالْمُوصَى لَهُ إذَا لَمْ تُوجَدْ التَّرِكَةُ أَصْلًا. 1847 - فَإِنْ خَرَجُوا فِي غَزَاةٍ أُخْرَى وَسَمَّوْا لَهُمْ أَيْضًا نَفْلًا عَلَى الدَّلَالَةِ، وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، أَعْطَوْهُمْ مِنْ ذَلِكَ النَّفْلِ الْآخَرِ دُونَ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ بِالتَّسْمِيَةِ الثَّانِيَةِ، فَأَمَّا الْأُولَى فَقَدْ بَطَلَتْ الْغَنَائِمُ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهَا حِينَ رَجَعُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبُوا شَيْئًا. 1848 - إلَّا أَنْ يَكُونُوا شَرَطُوا لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ مِمَّا يَغْنَمُونَ النَّفَلَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ. لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ تَنْصِيصًا عَلَى تَسْمِيَةِ الْكُلِّ، فَيَسْتَحِقُّونَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ. كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ. 1849 - وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الذِّمِّيُّ وَالْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 996 عَلَى الدَّلَالَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَدُلَّهُمْ بِخَبَرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُمْ إذَا وَجَدُوا الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَ. لِأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ عَلَى الدَّلَالَةِ، وَالدَّلَالَةُ بِالْخَبَرِ تَتَحَقَّقُ. 1850 - إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمْ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ رَضْخًا وَلَا نَفْلًا مِمَّا أُصِيبَ قَبْلَ دَلَالَتِهِ. لِأَنَّهُ لَا نَفْلَ مِمَّا أُصِيبَ مِنْ الْغَنَائِمِ قَبْلَ التَّنْفِيلِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْأَجْرِ مِنْ ذَلِكَ، وَبِالدَّلَالَةِ بِالْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ ذَهَابٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ. 1851 - فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْلِمُونَ بِأَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ أَعْطَاهُ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ دُونَ الْخُمُسِ. لِأَنَّ رِضَاهُمْ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ. 1852 - وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ الْإِمَامُ عَلَى أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَوْضِعِ كَذَا فَدَلَّهُ بِخَبَرِهِ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ لَا بِمُجَرَّدِ الْكَلَامِ، وَهُوَ لَمْ يَعْمَلْ لِلْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، إنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِخَبَرٍ. 1853 - فَإِنْ أَصَابُوا غَنَائِمَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَرْضِخَ لَهُ لِلدَّلَالَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْأَجْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 997 وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرْضِخَ لَهُ مِمَّا أَصَابَ بِدَلَالَتِهِ قَدْرَ مَا يَرَى، فَهَذَا مِثْلُهُ. 1845 - فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ مَعَنَا إلَى مَوْضِعِ كَذَا، وَلَك مِنْ الْأَجْرِ كَذَا، فَذَهَبَ مَعَهُمْ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى. لِأَنَّهُ وَفِي بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ. ثُمَّ يُعْطِيهِ الْإِمَامُ أَجْرَهُ مِمَّا أَصَابُوا بَعْدَ دَلَالَتِهِ أَوْ قَبْلَ دَلَالَتِهِ، بِخِلَافِ النَّفْلِ وَالرَّضْخِ. فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هَا هُنَا بِعَقْدٍ لَازِمٍ وَهُوَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْمُصَابِ دُونَ الْبَعْضِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا لِسَوْقِ الْغَنَمِ وَالرِّمَاكِ. فَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ الرِّضْخِ وَالنَّفَلِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَعَيَّنُ لَهُ الْمُصَابُ بِدَلَالَتِهِ وَعَمَلِهِ. لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْفَعَةُ عَمَلِهِ. 1855 - وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الْأَجِيرَ أَجْرَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّهُ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ كَانَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ لَا يَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ فِيمَا يُبَاشِرُ مِنْ الْعُقُودِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ. 1856 - وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا لِيَدْخُلَ مَعَهُمْ دَارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 998 الْحَرْبِ فَيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ عَلَى هَذَا، بِخِلَافِ التَّنْفِيلِ. لِأَنَّ فِي الْإِجَارَةِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ (ص 332) عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يُسَمِّ لَهُ مَكَانًا فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا. وَفِي التَّنْفِيلِ لَا حَاجَةَ إلَى إعْلَامِ الْمِقْدَارِ فِيمَا سُمِّيَ النَّفَلُ لِلتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ. 1857 - ثُمَّ إذَا ذَهَبَ مَعَهُمْ عَلَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ فَلَا سَهْمَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا. لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ. وَلَكِنْ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ. لِأَنَّهُ أَقَامَ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الرِّضَى بِالْمُسَمَّى، فَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ. 1858 - وَلَوْ أَنَّ الْأَجِيرَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَبُوا مِنْهُ وَلَكِنْ هَجَمَ بِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ فَلَا أَجْرَ لَهُ، سَوَاءٌ ذَهَبَ مَعَهُمْ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ. لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ. 1859 - وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ فَعَلَ هَذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِإِيمَانِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعَهْدِ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 999 وَلَكِنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَدِّبَهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى، إنْ رَأَى أَنَّهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، كَمَا يُؤَدَّبُ الْمُسْلِمُ عَلَى مِثْلِهِ. لِأَنَّهُ قَصَدَ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ. 1860 - إلَّا أَنْ يَكُونُ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إنَّمَا آمَنُوهُ عَلَى شَرْطِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ آمِنًا قَبْلَ ذَلِكَ. فَحِينَئِذٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ. لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَاقِضٌ لِلْأَمَانِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْأَمَانَ كَانَ مُعَلَّقًا بِالشُّرُوطِ، فَيَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ الشَّرْطِ. 1861 - وَإِنْ جَعَلَ الْإِمَامُ لِلدَّلِيلِ نَفْلًا مِنْ غَنِيمَةٍ وَقَدْ أَصَابَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُ إلَى مَوْضِعِ كَذَا، حَتَّى يَدُلَّهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَى الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. 1862 - وَلَوْ دَلَّهُ بِخَبَرٍ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ فِيمَا أُصِيبَ قَبْلَ الدَّلَالَةِ شَيْئًا، إلَّا بِرِضَى الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ وُجُودِ الرِّضَى يُعْطِيهِ ذَلِكَ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ دُونَ الْخُمُسِ. لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ إلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُمْ. 1863 - وَلَوْ بَعَثَ الْأَمِيرُ بَشِيرًا إلَى الْخَلِيفَةِ لِيُخْبِرَهُ بِمَا صَنَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1000 بِالْعَدُوِّ بَعْدَ مَا أَصَابُوا الْغَنَائِمَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْبَشِيرَ إلَّا سَهْمَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا. لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ قَدْ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْغَانِمِينَ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهَا أَحَدًا شَيْئًا بِغَيْرِ رِضَى الْمُسْلِمِينَ. 1864 - وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الْكُبَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا فَهُوَ لَك. فَحِينَ تَحَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْكُبَّةَ مِنْ الشَّعْرِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَسُؤَالِهِ إيَّاهُ، وَكَانَ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا شَيْئًا سَأَلَهُ، عَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، إلَّا أَنَّ الْبَشِيرَ إنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَلَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا لِحَاجَتِهِ. لِأَنَّ الْخُمُسَ مَصْرُوفٌ إلَى الْمُحْتَاجِينَ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ. وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْسِلَهُ بَشِيرًا، فَبَعْدَ إرْسَالِهِ أَوْلَى. 1865 - فَإِنْ رِضَى الْمُسْلِمُونَ بِمَا يُعْطِي الْإِمَامُ الْبُشَرَاءَ، فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ دُونَ الْخُمُسِ. لِأَنَّ رِضَاهُمْ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي نَصِيبِهِمْ دُونَ الْخُمُسِ. 1866 - وَإِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ فَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ بِغَيْرِ رِضَا الْغَانِمِينَ، وَرِضَاهُمْ مُعْتَبَرٌ فِي نَصِيبِهِمْ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1001 فَإِذَا قَدِمَ الْبُشَرَاءُ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَرَأَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ جَائِزَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجِيزُ الرُّسُلَ وَالْوُفُودَ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ عَلَيْهِ» . وَهَذَا لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّرْفِ إلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِلْغَانِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَا يَقْسِمُ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُ يُعِدُّهُ (ص 333) لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ؟ 1768 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَى أَمِيرُ الْعَسْكَرِ رَسُولٌ مِنْ مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُجِيزَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ إلَّا بِرِضَى الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلَأَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخُصَّ حَرْبِيًّا بِذَلِكَ كَانَ أَوْلَى. 1869 - فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ أَجَازَهُ مِنْ أَنْصَائِهِمْ دُونَ الْخُمُسِ. لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْحَرْبَيَّ فِي الْخُمُسِ، وَرِضَاهُمْ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي نَصِيبِهِمْ خَاصَّةً. 1870 - فَإِنْ أَجَازَ الْأَمِيرُ الْبُشَرَاءَ وَالرُّسُلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ عَلَى وَجْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1002 الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مَا صَنَعَ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ مُخَالِفًا لِذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَقَدْ أَمْضَاهُ بِاجْتِهَادِهِ، فَلَا يُبْطِلُهُ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا لَوْ جَعَلَ الْأَمِيرُ لِلْمُقَاتِلِينَ مِنْ أَسْلَابِ الْقَتْلَى مِنْ غَيْرِ تَنْفِيلٍ، ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِمَّا فَعَلَهُ. لِأَنَّهُ أَمْضَى بِاجْتِهَادِهِ فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ حُرْمَةُ الْفَرْجِ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ، حَتَّى إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِّيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَتَّةٌ، فَإِنَّ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: يَقَعُ بِهِ رَجْعِيَّةٌ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ. فَإِنْ قَضَى قَاضٍ بِأَحَدِ الْقَضَاءَيْنِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى مَنْ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ قَضَاؤُهُ، لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَإِبْطَالُ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ يَكُونُ قَضَاءً، بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي تَحْرِيمِ الْفَرْجِ مَعَ كَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ ثَبَتَ فِي النَّفْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1003 [بَابُ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ وَبَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ] 105 - بَابُ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ وَبَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ 1871 - وَإِذَا وَقَعَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فَالْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، وَلَا شَيْءَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ. لِأَنَّ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ تَصِيرُ مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ يَلْحَقُ بَعْدَ ذَلِكَ مَدَدًا فَهُوَ لَمْ يُشَارِكْ الْجَيْشَ فِي الْإِصَابَةِ وَلَا فِي الْإِحْرَازِ. 1872 - وَكَذَلِكَ لَوْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى صَارَتْ فِي أَيْدِيهِمْ وَهَرَبَ أَهْلُهَا عَنْهَا. لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، فَتَصِيرُ الْغَنَائِمُ مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ لُحُوقِ الْمَدَدِ. 1873 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابُوا غَنَائِمَ فَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1004 لِأَنَّ بِالْإِحْرَازِ بِالْيَدِ قَدْ تَأَكَّدَ حَقُّهُمْ فِيهَا، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ كَانَ نَصِيبُهُمْ مِيرَاثًا. 1874 - فَأَمَّا إذَا أَصَابُوا الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْمُصَابِ عِنْدَنَا. لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَأَكَّدُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، فَإِنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْقَهْرُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، لِأَنَّهُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْقَرَارِ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَتَصْيِيرِهَا دَارَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا تَمَّ السَّبَبُ بِقُوَّةِ الْمَدَدِ، وَكَانُوا شُرَكَاءَهُمْ وَلِهَذَا قُلْنَا: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُورَثُ نَصِيبُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. لِأَنَّ الْإِرْثَ فِي الْمَتْرُوكِ بَعْدَ الْوَفَاةِ، وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ لِيَكُونَ مَتْرُوكًا عَنْهُ. وَعَلَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (ص 334) يُورَثُ نَصِيبُهُ. لِأَنَّ وَارِثَهُ يَخْلُفُهُ فِيمَا كَانَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لَهُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْآثَارِ مِنْهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي خَمْسِ مِائَةِ نَفَرٍ مَدَدًا لِأَبِي أُمَيَّةَ وَزِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ الْبَيَاضِيِّ فَأَدْرَكُوهُمْ حِينَ افْتَتَحُوا النُّجَيْرَ. فَأَشْرَكَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1005 وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إنَّ لِلْمُدَدِ شَرِكَةً وَإِنْ أَدْرَكُوهُمْ بَعْدَ الْفَتْحِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: النُّجَيْرُ هَذَا اسْمُ قَرْيَةٍ وَهِيَ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْبَلْدَةِ، فَمَا لَمْ تُفْتَحْ الْبَلْدَةُ لَا تَصِيرُ الْقَرْيَةُ دَارَ الْإِسْلَامِ. أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا عَلَى أَثَرِ الْفَتْحِ قَبْلَ إظْهَارِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيهَا. وَفِي مِثْلِ هَذَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ عِنْدَنَا. فَأَمَّا بَعْدَ تَمَامِ الْفَتْحِ فَلَا. عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مَاهَ دِينَارٍ أَمَدَّ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِأُنَاسٍ عَلَيْهِمْ عَمَّارٌ. فَأَرَادَ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُطَارِدَ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الْأَجْدَعُ أَتُرِيدُ أَنْ تُشَارِكَنَا فِي غَنَائِمِنَا؟ فَقَالَ: خَيْرُ أُذُنَيَّ سَبَبٌ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ إحْدَى أُذُنَيْهِ قُطِعَتْ فِي الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَتَبَ فِيهِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ عُمَرُ: إنَّ الْغَنِيمَةَ بَيْنَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَاهَ دِينَارٍ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1006 أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: مَنْ وَافَاك مِنْ الْجُنْدِ مَا لَمْ تَتَفَقَّأْ الْقَتْلَى فَأَشْرِكْهُ فِي الْغَنِيمَةِ. أَيْ مَا لَمْ يَتَشَقَّقْ الْقَتْلَى بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ، أَوْ مَعْنَاهُ مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ بِالدَّفْنِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: مَا لَمْ تُتَقَفَّا الْقَتْلَى، أَيْ تَجْعَلُهُمْ عَلَى قَفَاك بِالِانْصِرَافِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالْأَشْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْفَقْءَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمْيِيزِ وَالتَّشَقُّقِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَقِيهُ. لِأَنَّهُ يُمَيِّزُ الصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَفْقَأَ فَوْقَهُ الْقَلَعُ السَّوَارِي ... وَجُنَّ الْخَازِبَازِ بِهِ جُنُونًا وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِجَعْفَرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ السَّفِينَتَ وَالدَّوْسِيِّينَ، فِيهِمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو مَعَ سُهْمَانِ أَهْلِ خَيْبَرَ. وَإِنَّمَا قَدِمُوا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ. وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ فِي حُقُوقِهِمْ أَنْ يُدْخِلُوهُمْ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ» . هَكَذَا رُوِيَ مُفَسَّرًا. وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ مَنْ لَحِقَ بَعْدَ الْفَتْحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِكَةٌ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرِيكًا مَا احْتَاجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنْ يَسْتَرْضِيَ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنْ يُسْهِمَ لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1007 وَرُوِيَ «أَنَّ أَبَانَ بْنَ سَعِيدٍ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَرِيَّةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قَبْلَ نَجْدٍ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ بِخَيْبَرَ بَعْدَ الْفَتْحِ. فَقَالَ أَبَانُ: اقْسِمْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: اجْلِسْ يَا أَبَانُ. وَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ» . فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ بَعْدَ الْفَتْحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِكَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا بَعَثَهُ الْإِمَامُ فِي بَعْضِ حَوَائِجِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَالْحَاضِرِ مَعَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ أَسْهَمَ لِمُحَيِّصَةَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ» . لِأَنَّهُ كَانَ أَرْسَلَهُمْ إلَى فَدَكَ حِينَ كَانَ مُحَاصِرًا أَهْلَ خَيْبَرَ فَرَجَعُوا إلَيْهِ بَعْدَ الْفَتْحِ. فَأَسْهَمَ لَهُمْ فِي الشِّقِّ وَالنَّطَاةِ، وَأَطْعَمَهُمْ طُعْمَةً سِوَى ذَلِكَ. مِنْ الْخُمُسِ فِي الْكَتِيبَةِ، جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ غَنَائِمَ أَهْلِ خَيْبَرَ كَانَتْ عِدَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] . فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ أَسْهَمَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ، مَنْ شَهِدَ فَتْحَهَا وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ. وَذُكِرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1008 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ، وَكَانَ تَخَلَّفَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُقَيَّةَ لِيُمَرِّضَهَا وَأَسْهَمَ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَلِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ بَعَثَهُمَا نَحْوَ الشَّامِ، يَتَجَسَّسَانِ أَخْبَارَ عِيرِ قُرَيْشٍ وَأَسْهَمَ لِخَمْسَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ - وَقَدْ سَمَّاهُمْ فِي الْكِتَابِ - وَقَدْ كَانَ رَدَّهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ لِخَبَرٍ بَلَغَهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ» (ص 335) . وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَدِينَةَ يَوْمَئِذٍ مَا كَانَ لَهَا حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مِنْهَا، لِكَثْرَةِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ بِهَا. فَكَانُوا جَمِيعًا فِي دَارِ الْحَرْبِ مَشْغُولِينَ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبِمَا فِيهِ فَرَاغُ قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ إنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَ الْأَمْرُ فِيهَا مُفَوَّضًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي مَنْ شَاءَ وَيَحْرِمُ مَنْ شَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] فَلِهَذَا أَسْهَمَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّ الْمُنْهَزِمِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ كَانُوا بَلَغُوا إلَى مَكَّةَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1009 ثُمَّ جَاءَتْ النُّصْرَةُ، فَرَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْهَمَ لَهُمْ. وَأَنَّ حَرْبَ حُنَيْنٍ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَدْ وَصَلُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْهَمَ لَهُمْ. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ لِلْمَدَدِ شَرِكَةً مَعَ الْجَيْشِ إذَا أَدْرَكُوا قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. 1875 - قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ وَلَا يَبِيعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ بِالْقِسْمَةِ تَنْقَطِعُ الشَّرِكَةُ فِي حَقِّ الْمَدَدِ، فَيَكُونُ فِيهَا تَقْلِيلُ رَغْبَةِ الْمَدَدِ فِي اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ، وَفِيهَا تَعْرِيضُ الْمُسْلِمِينَ لِوُقُوعِ الدَّبْرَةِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَشْتَغِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَمْلِ نَصِيبِهِ، فَيَكُرُّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ. ثُمَّ الْقِسْمَةُ وَالْبَيْعُ تُصْرَفُ، وَالتَّصَرُّفُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِتَمَامِ السَّبَبِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ. 1876 - وَإِنْ قَسَمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بِالْمَدِينَةِ مَعَ غَنَائِمِ أَهْلِ نَخْلَةَ وَكَانَتْ تِلْكَ غَنِيمَةٌ أُصِيبَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1010 قَبْلَ بَدْرٍ، فَوَقَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَضَى إلَى بَدْرٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَسَمَ الْغَنِيمَتَيْنِ بِالْمَدِينَةِ جُمْلَةً» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: قَسَمَهَا بِسِيَرِ وَهِيَ شِعْبٌ بِمَضِيقِ الصَّفْرَاءِ. فَإِنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالْمَدِينَةِ فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لِمَا قُلْنَا. وَإِنْ كَانَتْ بِسَيْرِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ كَانَ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ. لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ مَنَعَةٌ سِوَى ذَلِكَ. فَأَمَّا غَنَائِمُ خَيْبَرَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْسِمْهَا حَتَّى أَتَى الْجِعْرَانَةَ. وَرُوِيَ «أَنَّهُمْ طَالَبُوهُ بِالْقِسْمَةِ حَتَّى أَلْجَئُوهُ إلَى سَمُرَةَ فَتَعَلَّقَ بِهَا رِدَاؤُهُ ثُمَّ جَذَبُوا رِدَاءَهُ فَتَخَرَّقَ. فَقَالَ: اُتْرُكُوا إلَيَّ رِدَائِي، فَوَاَللَّهِ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِضَاهُ إبِلًا وَبَقَرًا وَغَنَمًا لَقَسَمْتهَا بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي جَبَانًا وَلَا بَخِيلًا» . فَقَدْ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ مَعَ كَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ جِعْرَانَةَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى مَكَّةَ وَقَدْ صَارَتْ مَفْتُوحَةً بِفَتْحِ مَكَّةَ. فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهَا لَا تُقْسَمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1011 ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ: 1877 - مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْغَنِيمَةِ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، مَرِيضًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ وَيَدْفَعُ عَنْ أَصْحَابِهِ، أَيَكُونُ نَصِيبُهُ مِثْلَ نَصِيبِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك يَا ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ. وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ» . وَنَظِيرُ هَذَا مَا رُوِيَ «عَنْ (ص 336) النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ: لَوْلَا الصِّبْيَانُ الرُّضَّعُ وَالشُّيُوخُ الرُّكَّعُ لَصَبَبْت عَلَيْكُمْ الْعَذَابَ صَبًّا» وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَطْيَبُ كَسْبِ الْمُؤْمِنِ سَهْمُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصَفْقَةُ يَدِهِ، وَمَا تُعْطِيهِ الْأَرْضُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1012 فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْغَازِي أَنْ يُظْهِرَ الرَّغْبَةَ فِي سَهْمِهِ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، قَلَّ سَهْمُهُ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّهُ أَطْيَبُ كَسْبِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُصَابٌ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ الدِّينِ. وَذَلِكَ أَشْرَفُ جِهَاتِ إصَابَةِ الْمَالِ. وَالْمُرَادُ بِصَفْقَةِ يَدِهِ التِّجَارَةُ، وَلَكِنَّهَا بِشَرْطِ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَمُرَاعَاةِ حُدُودِ الشَّرْعِ. وَمَا تُعْطِيهِ الْأَرْضُ الْمُرَادُ الزِّرَاعَةُ، فَهِيَ تِجَارَةٌ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ» . 1878 - وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَدْلًا وَصِيًّا عَالِمًا بِالْأُمُورِ مُجَرِّبًا لَهَا. فَإِذَا مَيَّزَ الْخُمُسَ جَعَلَ عَلَى الْخُمُسِ أَيْضًا رَجُلًا أَمِينًا حَافِظًا كَاتِبًا عَالِمًا. لِأَنَّهُ يَعْجَزُ بِنَفْسِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْقِسْمَةِ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ فَيَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ وَيَخْتَارُ لِذَلِكَ مَنْ يَكُونُ أَقْدَرَ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحِفْظِ وَالْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَجْمِعًا لِلشَّرَائِطِ الَّتِي قَالَهَا. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ مَحْمِيَّةَ بْنَ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ عَلَى خُمُسِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. وَكَانَتْ تُجْمَعُ إلَيْهِ الْأَخْمَاسُ، وَكَانَتْ الصَّدَقَاتُ عَلَى حِدَةٍ لَهَا أَهْلٌ، وَلِلْفَيْءِ أَهْلٌ، وَكَانَ يُعْطِي مِنْ الصَّدَقَةِ الْيَتِيمَ وَالضَّعِيفَ وَالْمِسْكِينَ. فَإِذَا احْتَلَمَ الْيَتِيمُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ نُقِلَ إلَى الْفَيْءِ، وَإِنْ كَرِهَ الْجِهَادَ لَمْ يُعْطَ مِنْ الصَّدَقَةِ شَيْئًا، وَأُمِرَ بِأَنْ يَكْسِبَ لِنَفْسِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْنَعُ سَائِلًا شَيْئًا فَأَتَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1013 رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ مِنْ خُمُسِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهُ وَلَا حَظَّ فِيهِ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيَّ كَانَ يَقْسِمُ أَعْطِيَاتِ قَوْمِهِ، فَفَضَلَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دِرْهَمٌ فَقَالَ: اقْتَرِعَا أَيُّكُمَا يَأْخُذُهُ. فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَسَارَهُ. فَقَالَ: أَتَأْمُرُهُمَا أَيُّهُمَا يَذْهَبُ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ. فَقَالَ: اذْهَبَا فَاشْتَرِيَا بِهِ شَيْئًا بَيْنَكُمَا فَاقْتَسِمَاهُ. وَبِهِ نَقُولُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ فِي تَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ، وَأَنَّ الْمُشْتَرَكَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِنَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهُ الشَّرِيكَانِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَوْ يَشْتَرِيَا بِهِ شَيْئًا فَيَقْسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ. وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ لِأَيِّهِمَا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَذُكِرَ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنَّا بِبَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمَرَّتْ جَارِيَةٌ فَتَخَشْخَشَ لَهَا الْقَوْمُ، أَيْ تَحَرَّكُوا وَأَوْسَعُوا لَهَا. فَقَالُوا: لَعَلَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَتْ: إنِّي لَا أَحِلُّ لِأَمِيرٍ، إنِّي مِنْ خُمُسِ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقُلْنَا فِيمَا بَيْنَنَا: مَا يَحِلُّ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى. الْحَدِيثَ. . . إلَى أَنْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنِّي أَسْتَحِلُّ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى حُلَّتَيْنِ حُلَّةً بِالشِّتَاءِ وَحُلَّةً بِالصَّيْفِ. وَظَهْرِي الَّذِي أَحُجُّ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1014 وَأَعْتَمِرُ، وَقُوتُ أَهْلِي، وَقُوتِي قُوتُ أَهْلِ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، ثُمَّ أَنَا شَرِيكُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدُ. فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَأْخُذُ مِقْدَارَ الْكِفَايَةِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ هُوَ يُسَاوِيهِمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] (ص 337) . 1879 - ثُمَّ ذُكِرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بِخَيْبَرَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَتَّى كَلَّمَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَجُبَيْرُ بْن مُطْعِمٍ» . وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ ذَلِكَ فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ. وَاَلَّذِي زَادَ هَا هُنَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمَا: إنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ كَانُوا دَخَلُوا مَعَنَا الشَّعْبَ، وَكَانُوا مَعَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يُفَارِقُونَا وَإِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . فَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبُ النُّصْرَةِ بِالِانْضِمَامِ إلَيْهِ. حَالَ مَا هَجَرَهُ النَّاسُ لِأَقْرَبَ الْقَرَابَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1015 وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَشَارَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَيْنَ بَنِي الْمُطَّلِبِ» . وَذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ خُمُسُ الْخُمُسِ لِذَوِي الْقُرْبَى. لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ بِطَرِيقِ الْإِكْرَامِ لَهُمْ فَمَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إلَى عِوَضِ ذَلِكَ، ثُمَّ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ فِي حَقِّ بَنِي هَاشِمٍ خَاصَّةً. وَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي الْمُطَّلِبِ أَيْضًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ السَّبَبَ قُرْبُ النُّصْرَة لِمَا بَيِّنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1016 [بَابُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ] 106 - بَابُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ 1880 - وَإِنْ أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ إلَّا الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ، لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَذْبَحُوا الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ لِيَأْكُلُوا بِغَيْرِ خُمُسٍ. لِأَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ حَاجَةٌ مَاسَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَصْحِبُوا ذَلِكَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجِدُونَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِشِرَاءٍ، وَمَا يَأْخُذُونَ يَكُونُ غَنِيمَةً. فَلِأَجْلِ الْحَاجَةِ يَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ. وَهُوَ نَظِيرُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، فَإِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا مَا يَشْتَرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، حَتَّى يَخْتَصَّ بِذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الشَّرِكَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ كَتَبَ إلَى عَامِلِهِ جَوَابَ كِتَابِهِ أَنْ دَعْ النَّاسَ يَأْكُلُوا وَيَعْلِفُوا، فَمَنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ فِيهِ خُمُسُ اللَّهِ وَسِهَامُ الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَبِهِ نَأْخُذُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1017 فَنَقُولُ: إنَّمَا يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ دُونَ التِّجَارَةِ، فَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ يَكُونُ بَدَلُهُ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ سَلْمَانَ حِينَ أَتَاهُ غُلَامُهُ بِسَلَّةٍ يَوْمَ نَهَاوَنْدَ. فَقَالَ: هَاتِهَا، فَإِنْ كَانَ مَالًا دَفَعْنَاهُ إلَى هَؤُلَاءِ، وَإِنْ كَانَ طَعَامًا أَكَلْنَاهُ. فَإِذَا فِيهَا أَرْغِفَةُ حُوَّارَى وَجُبْنَةٌ وَسِكِّينٌ. فَجَعَلَ سَلْمَانُ يَطْرَحُ لِأَصْحَابِهِ مِنْ ذَلِكَ الْخُبْزِ وَيَقْطَعُ لَهُمْ مِنْ جُبْنِهِ فَيَأْكُلُونَ، وَيُخْبِرُهُمْ كَيْفَ يُصْنَعُ الْجُبْنُ. 1881 - ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْأَكْلِ. وَقَالَ: فَإِنْ خَرَجُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ تَصَدَّقُوا بِهِ. وَالْمُرَادُ إنَّمَا يَتَصَدَّقُونَ إذَا قُسِمَتْ الْغَنَائِمُ، فَأَمَّا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيُرَدُّ ذَلِكَ فِي الْمَغْنَمِ، لِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يَتَيَسَّرُ إيصَالُهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِالْإِلْقَاءِ فِي الْغَنِيمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ كَاللُّقَطَةِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا فَيَأْكُلُهُ، وَإِنْ أَكَلَهُ وَهُوَ غَنِيٌّ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي اللُّقَطَةِ (ص 338) وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 1882 - وذكر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ وَكُلُوا وَاعْلِفُوا وَلَا تَحْمِلُوا» . فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ يَكُونُ غَنِيمَةً لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِشَيْءٍ مِنْهُ. فَأَمَّا الْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ فَمُسْتَثْنًى فِي حُكْمِ الْأَكْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1018 خَاصَّةً لَا فِي حُكْمِ الْحَمْلِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ. وَلِهَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: بَيْعُ الطَّعَامِ إذَا خَرَجَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ مِنْ الْغُلُولِ. وَكَذَلِكَ بَيْعُهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ مِنْ الْغُلُولِ إنْ لَمْ يُرَدَّ ثَمَنُهُ فِي الْغَنِيمَةِ. وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: لَمْ يُخَمَّسْ الطَّعَامُ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ. فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلِ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ، حَتَّى لَا يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمَا يَعِزُّ وُجُودُهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: إنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ تَخْتَصُّ بِطَعَامٍ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى يَكُونَ تَافِهًا، فَأَمَّا مَا يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ إلَيْهِ فَهُوَ مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى حَدِيثِ مَكْحُولٍ: أَنَّ رَجُلًا نَحَرَ جَزُورًا بِأَرْضِ الرُّومِ، ثُمَّ نَادَى فِي النَّاسِ: هَلُمُّوا إلَى هَذَا اللَّحْمِ فَخُذُوا مِنْهُ. فَقَالَ مَكْحُولٌ لِلرَّجُلِ مِنْ غَسَّانَ: أَلَا تَقُومُ فَتَأْتِينَا مِنْ لَحْمِ هَذَا الْجَزُورِ؟ فَقَالَ: إنَّهَا نُهْبَى، أَيْ لَمْ تُخَمَّسْ. فَقَالَ مَكْحُولٌ: إنَّهُ لَا نُهْبَى فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِبِلَ مِمَّا لَا يَكُونُ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَقَدْ جُوِّزَ نَحْرُهَا وَالْأَكْلُ مِنْهَا. فَدَلَّ أَنَّ الْأَكْلَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: كُلُّ مَا حُمِلَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1019 هُنَاكَ فَحَمَلَهُ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ لَهُ. وَهَذَا عِنْدَنَا صَحِيحٌ فِيمَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي دَارِنَا أَيْضًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لَمْ تَتَبَدَّلْ الْعَيْنُ وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِهِ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنَائِمِ. وَكَأَنَّ مَكْحُولًا جَعَلَ النَّقْلَ مُحْدِثًا صِفَةَ التَّقَوُّمِ فِيهِ، بِمَنْزِلَةِ الصَّنْعَةِ حَتَّى قَالَ: فَمَا اقْتَطَعْت مِنْ شَجَرِ الْعَدُوِّ فَعَمِلْته قَدَحًا أَوْ مِرْزَبَّةً أَوْ مَزَادَةً فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا وَجَدْت مِنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا فَرُدَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ. وَبِهَذَا نَأْخُذُ. فَإِنَّ الْمَعْمُولَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بِصَنْعَتِهِ، وَقَبْلَ الْعَمَلِ لَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا. فَإِذَا صَيَّرَهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِصَنْعَتِهِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً، بِمَنْزِلَةِ مَنْ اتَّخَذَ الْكُوزَ مِنْ تُرَابِ غَيْرِهِ، لَكِنَّا نُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّنْعَةِ وَالنَّقْلِ، لِأَنَّ بِالصَّنْعَةِ تَتَبَدَّلُ الْعَيْنُ، فَيَكُونُ الْمُتَقَوِّمُ شَيْئًا آخَرَ، هُوَ حَادِثٌ بِصَنْعَتِهِ، فَأَمَّا بِالنَّقْلِ فَلَا تَتَبَدَّلُ الْعَيْنُ. 1883 - ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إيَّاكُمْ وَرِبَا الْغُلُولِ» . وَفُسِّرَ ذَلِكَ بِأَنْ يَرْكَبَ دَابَّةً مِنْ الْفَيْءِ، حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِي الْمَغْنَمِ، أَوْ يَلْبَسَ ثَوْبًا حَتَّى إذَا خَلُقَ رَدَّهُ فِي الْمَغْنَمِ، أَوْ يَنْكِحَ الْجَارِيَةَ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1020 وَبِهَذَا نَأْخُذُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَلِكَ بِمَنَافِعِهَا. وَبِالْجُزْءِ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ عَيْنِهَا لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ بِاسْتِعْمَالِهِ. 1884 - وَذُكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِمَا أَصَابَتْ السَّرِيَّةُ مِنْ الطَّعَامِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ إلَى أَهْلِهِمْ فَيَأْكُلُونَ وَيُهْدُونَ مَا لَمْ يَبِيعُوا. فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْإِهْدَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَاجَةِ كَالْأَكْلِ. وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا. فَإِنَّ الْأَكْلَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ (ص 339) تَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّرُورَةُ، وَالْإِهْدَاءُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ، فَهُوَ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. 1885 - وَذُكِرَ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ أَخَذَ سَيْفًا مِمَّا أَصَابُوا يَوْمَ الزَّارَةِ وَقَاتَلَ بِهِ. وَبِهِ نَأْخُذُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، بِأَنْ يَنْكَسِرَ سِلَاحُهُ. فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْإِبْقَاءَ عَلَى سِلَاحِهِ وَالْقِتَالَ بِسِلَاحٍ أَخَذَهُ مِنْ الْعَدُوِّ فَهُوَ مِنْ رِبَا الْغُلُولِ. لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ يَكُونُ غَنِيمَةً، وَلَكِنْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعْمِلَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي الْقِتَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ الْمُشْرِكُ بِسَيْفٍ فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ وَضَرَبَهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ. 1886 - قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُوَقِّحَ دَابَّتَهُ، وَيَدْهُنَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1021 وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَا يُؤْكَلُ مِنْ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ الْعَيْنِ أَكْلًا، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ انْتِفَاعًا بِوَجْهٍ آخَرَ. فَأَمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَدْهَانِ كَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَالْخَيْرِيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْهُنَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُؤْكَلُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ غَالِيَةً أَوْ بَانًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذَا. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُؤْكَلُ. وَأَمَّا الزَّيْتُ وَنَحْوُهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَهُ أَوْ يَسْتَصْبِحَ بِهِ فِي السِّرَاجِ فَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْهُنَ بِهِ. 1887 - وَذُكِرَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجَدَ يَوْمَ خَيْبَرَ دَرَاهِمَ فِي خَرِبَةٍ، فَأَخَذَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُمُسَ» . وَبِهَذَا نَأْخُذُ. فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْ الْغَانِمِينَ إذَا وَجَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ رِكَازًا أَوْ مَعْدِنًا فَهُوَ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهُ مَا تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَاسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ الْمَالِ إلَّا بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. 1888 - فَإِنْ نَهَى الْإِمَامُ الْجَيْشَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَأَقْسَمَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفْعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى يَقْسِمَ فَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِشَيْءٍ مِنْهُ. لِأَنَّ الْإِمَامَ مُجْتَهِدٌ، فِيمَا يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ بِهِ، وَبِتَنْصِيصِهِ يَنْعَدِمُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذَا الْمَالِ مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ سَائِرِ الْغَنَائِمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1022 1889 - إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ. فَإِذَا عَرَفَ حَاجَتَهُمْ إلَى ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُ الْخُمُسَ وَقَسَمَ مَا بَقِيَ، لِيَتَنَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ نَصِيبِهِ. فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذَلِكَ قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1023 [بَابُ قَتْلِ الْأَسَارَى وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ] 107 - بَابُ قَتْلِ الْأَسَارَى وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ 1890 - قَالَ: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ فِي الرِّجَالِ مِنْ أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَخْمِسَهُمْ وَيَقْسِمَ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهُمْ. وَكَانَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكْرَهُ قَتْلَ الْأَسِيرِ إلَّا فِي الْحَرْبِ لِيُهِيبَ بِهِ الْعَدُوَّ. وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَكْرَهُ قَتْلَ الْأَسِيرِ بَعْدَ مَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ إبَاحَةَ الْقَتْلِ لِدَفْعِ مُحَارَبَتِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ بِالْأَسْرِ وَانْقِضَاءِ الْحَرْبِ، فَلَيْسَ فِي الْقَتْلِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا إبْطَالُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا ثَبَتَ فِي رِقَابِهِمْ حَقٌّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ بَعَثَ إلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِأَسِيرٍ لِيَقْتُلَهُ فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ مَصْرُورًا فَلَا أَقْتُلُهُ. يَعْنِي: بَعْدَ مَا شَدَدْتُمُوهُ وَأَسَرْتُمُوهُ فَلَا أَقْتُلُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1024 وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ، حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} [محمد: 4] الْآيَةَ وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِالْقِتَالِ إلَى غَايَةِ الْأَسْرِ، ثُمَّ جَعَلَ الْحُكْمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَنَّ أَوْ الْفِدَاءَ. وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْأَسْرِ قِصَّةُ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَقَدْ قَتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْأَسْرِ، وَبَعْدَ مَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. «وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بِالْأَثِيلِ وَكَانَا مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ» . (ص 340) وَقَتَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعْبَدَ بْنَ وَهْبٍ وَقَدْ كَانَ أَسَرَهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: يَا عُمَرُ أَتَحْسِبُونَ أَنَّكُمْ غَلَبْتُمْ، كَلًّا وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى. فَقَالَ: أَتَقُولُ هَذَا وَأَنْتَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِينَا؟ ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْ أَبِي بُرْدَةَ وَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَلِأَنَّ الْأَمْنَ عَنْ الْقَتْلِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْأَمَانِ أَوْ بِالْإِيمَانِ، وَبِالْأَسْرِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَبَقِيَ مُبَاحَ الدَّمِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْأَسْرِ. وَهُوَ بِالْأَسْرِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحَارَبًا، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُحَارَبَةِ لِكَوْنِهِ مَقْهُورًا فِي أَيْدِينَا مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ فِي الدِّينِ. فَيَجُوزُ قَتْلُهُ كَالْمُرْتَدِّ الْمَقْهُورِ فِي أَيْدِينَا، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فَمَنْسُوخٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1025 هَكَذَا نُقِلَ عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّهُ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . 1891 - وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ قَتْلَهُ مَشْدُودَ الْيَدَيْنِ، لَا أَنْ يُقَالَ تَحَرَّزَ عَنْ قَتْلِهِ بَعْدَ مَا أُسِرَ. وَنَحْنُ هَكَذَا نَقُولُ: الْأُولَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مَشْدُودَ الْيَدَيْنِ إذَا كَانَ لَا يُخَافُ أَنْ يَهْرُبَ أَوْ يَقْتُلَ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَمَا قَبْلَهُ. لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِحُرْمَةِ دِمَائِهِمْ. فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَأَكَّدُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْأَسَارَى بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ أَحْرَارَ الْأَصْلِ بِأَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالسَّوَادِ. 1892 - وَإِذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ الْحَقُّ فِيهِمْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمْ بَعْدَ الْإِحْرَازِ كَالْحُكْمِ قَبْلَهُ، وَالْإِمَامُ نَاظِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ رَأَى الصَّوَابَ فِي قِسْمَتِهِمْ قَسَمَهُمْ، وَإِنْ رَأَى الصَّوَابَ فِي قَتْلِهِمْ قَتَلَهُمْ. لِدَفْعِ فِتْنَتِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] . وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ حَرُمَ قَتْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] . وَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1026 خَرَجَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» . وَلَكِنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُؤَمِّنُهُ مِنْ الْقَتْلِ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقِسْمَةِ فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا بِالْإِسْلَامِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ. 1893 - وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ قَتَلَ أَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يُبَاعَ أَوْ يُقْسَمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ أَرَاقَ دَمًا مُبَاحًا فَهُوَ كَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا أَوْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ. وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَسِيرُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ بِالْقَتْلِ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ يَدَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ. بِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ إذَا أَخَذَهُ قَبْلَهُ فَيَقْتُلَهُ» . وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ أَزَالَ يَدَهُ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ لِحَقِّهِ. فَهُوَ كَمَنْ أَرَاقَ خَمْرًا عَلَى مُسْلِمٍ وَهُوَ يُمْسِكُهُ لِلتَّخْلِيلِ. 1894 - وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَسَرَهُ فَهُوَ فِي الْقَتْلِ يَفْتَاتُ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَيُبْطِلُ الْخِيَارَ الثَّابِتَ لَهُ. وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1027 1895 - إلَّا أَنْ يُعَالِجَهُ الْأَسِيرُ وَيَقْصِدَ الِانْفِلَاتَ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يُعْجِزَهُ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامُ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. 1896 - وَإِنْ أَسْلَمَ فِي يَدِهِ فَهُوَ آمِنٌ مِنْ الْقَتْلِ. هَكَذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ أَمِنَ مِنْ الْقَتْلِ وَهُوَ رَقِيقٌ. 1897 - فَإِنْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْأَسَارَى أَوْ بَاعَهُمْ حُرِّمَتْ دِمَاؤُهُمْ. (ص 341) . لِأَنَّهُ آمَنَهُمْ بِمَا صَنَعَ، فَإِنَّهُ مَلَّكَهُمْ مِنْ الَّذِينَ وَقَعُوا فِي سِهَامِهِمْ، وَالْمِلْكُ يَكُونُ مُحْتَرَمًا بِحُرْمَةِ الْمَالِكِ. 1898 - فَمَنْ قَتَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ خَطَأً فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَنْ قَتَلَ. وَالْكَفَّارَةُ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي قَتْلِ غَيْرِهِمْ مِنْ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ. فَهُنَاكَ الْمِلْكُ لَمْ يَثْبُتْ لِمَنْ فِي يَدِهِ الْأَسِيرُ، فَإِذَا قَتَلَهُ غَيْرُهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كُرِهَ ذَلِكَ لِحُرْمَةِ يَدِ الْمُسْلِمِ. «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ: لَا تُخْبِرُوا سَعْدًا بِقَتْلِ أَخِيهِ فَيَقْتُلَ كُلَّ أَسِيرٍ فِي أَيْدِيكُمْ» . 1899 - وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: رُدَّتْ الْغَنَائِمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1028 فِي الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأُقِرَّتْ الْأَسَارَى فِي أَيْدِي مَنْ أَسَرَهُمْ، وَالْأَسْلَابُ فِي أَيْدِي مَنْ قَتَلَهُمْ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ كَانَ قَدْ سَبَقَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ» . فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْبِقْ التَّنْفِيلُ مِنْ الْأَمِيرِ بِذَلِكَ فَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ فِي الْمَغْنَمِ. 1900 - وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَ الْأَسَارَى فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِالْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُهُمْ قَتْلًا كَرِيمًا. يَعْنِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَثِّلَ بِهِمْ. فَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ مَا احْتَرَقَ النَّهَارُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ: لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ وَحَرَّ السِّلَاحِ. قَيِّلُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا. فَقَيَّلُوهُمْ حَتَّى أَبْرَدُوا، ثُمَّ رَاحُوا بِبَقِيَّتِهِمْ فَقَتَلُوهُمْ. وَقَدْ كَانَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَحْمَالِ التَّمْرِ فَنُثِرَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَكَانُوا يَكْدُمُونَهَا كَدْمَ الْحُمُرِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1029 قَالَ: وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْقَتِيلِ فَيَتْرُكَهُ وَلَا يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْسِمُهُ. لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ بِأَنْ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. فَإِذَا أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ. وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِ تَمْكِينَهُ مِنْ أَنْ يَعُودَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الظُّهُورِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ. 1902 - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْمَنِّ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . قَدْ انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ. فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ انْتِسَاخِ حُكْمِ الْمَنِّ» . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا «وَقَعَ أَسِيرًا يَوْمَ أُحُدٍ وَطَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ أَبَى وَقَالَ: لَا تُحَدِّثْ الْعَرَبَ بِأَنِّي خَدَعْت مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ» . وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْحَدِيثِ تَأْوِيلًا آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَاتِلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ. وَأُولَئِكَ مَا كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ السَّبْيِ، وَإِنَّمَا مَنَّ عَلَى بَعْضِ الْأُسَرَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي رِقَابِهِمْ. وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فِي مِثْلِهِمْ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، الَّذِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا السَّيْفُ أَوْ الْإِسْلَامُ، فَإِنَّهُمْ إنْ أَسْلَمُوا كَانُوا أَحْرَارًا، وَإِنْ أَبَوْا قُتِلُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1030 وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِمْ عَلَى بَعْضِ الْأَسَارَى، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ الْحَنَفِيِّ حِينَ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ وَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِدِ. فَخَرَجَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا وَرَاءَك يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: إنْ عَاقَبْتَ عَاقَبْتَ ذَا ذَنْبٍ، وَإِنْ مَنَنْتَ مَنَنْتَ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْمَالَ فَعِنْدِي مِنْ الْمَالِ مَا شِئْتَ. فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ص 342) بِشَرْطِ أَنْ يَقْطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى قَحَطُوا» . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الرِّقَابِ تَبَعًا لَلْأَرَاضِي، لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَذُكِرَ: عَنْ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا لِلْمَقِيلِ، ثُمَّ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجِئْته وَعِنْدَهُ رَجُلٌ جَالِسٌ. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنَّ هَذَا جَاءَ وَأَنَا نَائِمٌ، فَسَلَّ سَيْفِي ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ: مَنْ يَمْنَعُك مِنِّي الْيَوْمَ؟ فَقُلْت: اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَمْنَعُك مِنِّي الْيَوْمَ؟ فَقُلْت: اللَّهُ. ثُمَّ شَامَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1031 السَّيْفَ. وَهَا هُوَ جَالِسٌ. فَمَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا وَلَا عَاقَبَهُ» . وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ سَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ أَسْلَمَ. فَلِهَذَا لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَأْيِيدٍ إلَهِيٍّ لَا بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَرَأَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ. 1904 - وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ. فَوُجِدَ الْأَسِيرُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ عَقَرَهُ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ، وَأَخَذَهُ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ عُقِرَ عَقْرًا لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الْبَرَاحِ فَهُوَ لِلَّذِي عَقَرَهُ. لِأَنَّهُ صَارَ مَأْخُوذًا بِفِعْلِهِ. وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَارِ فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَأْخُوذًا بِفِعْلِ الْأَوَّلِ. وَنَظِيرُهُ الصَّيْدُ إذَا رَمَاهُ إنْسَانٌ فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُ. وَرُوِيَ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَمَيْت يَوْمَ بَدْرٍ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَانْقَطَعَ نَسَاهُ ثُمَّ اتَّبَعْتُ أَثَرَ الدَّمِ حَتَّى وَجَدْته فِي يَدِ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ وَقَدْ جَزَّ نَاصِيَتَهُ، فَاخْتَصَمْنَا فِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1032 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَّا» . وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِسَائِرِ الْغَنَائِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَمْرَ فِيهَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي مَنْ شَاءَ وَيَحْرِمُ مَنْ شَاءَ. وَذُكِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: 1905 - قَالَ: قُلْت لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَرَأَيْت رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اشْتَرَى أَسِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَيَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَرْبَحَ فِيهِ؟ قَالَ: لَا. وَبِهِ نَأْخُذُ. فَإِنَّ الْمُسْلِمَ وَإِنْ وَقَعَ أَسِيرًا فَهُوَ حُرٌّ عَلَى حَالِهِ، وَمَنْ اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ لَا يَمْلِكُهُ، فَكَيْفَ يَرْبَحُ عَلَيْهِ؟ وَلَكِنْ إنْ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِيمَا أَدَّى مِنْ فِدَائِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ. وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ نَصًّا. لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ مُتَنَوِّعٌ، قَدْ يَكُونُ لِطَلَبِ الْإِحْسَانِ وَالْأَخْذِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِقْرَاضِ، وَلَكِنَّهُ عَيَّنَ جِهَةَ الِاسْتِقْرَاضِ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فِيهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَمَرَ غَيْرُهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. ثُمَّ يَصِيرُ هَذَا رِوَايَةً فِي فَصْلٍ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ، وَهُوَ أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا صَادَرَ رَجُلًا فَأَمَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ فَقَدْ قَالَ هُنَاكَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ إلَّا بِالشَّرْطِ، لِأَنَّ الْمَالَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْآمِرِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَظْلُومًا فِيهِ، وَمَنْ دَفَعَ ظُلْمًا عَنْ غَيْرِهِ بِسُؤَالِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلَكِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1033 الْأَصَحُّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ ظَالِمُونَ فِي حَبْسِ الْأَسِيرِ أَيْضًا. وَمَنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ فَقَدْ دَفَعَ ظُلْمَهُمْ عَنْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ. وَذُكِرَ عَنْ بِشْرِ بْنِ غَالِبٍ: 1906 - قَالَ: سُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مَتَى يَجِبُ السَّهْمُ لِلْمَوْلُودِ؟ قَالَ: إذَا اسْتَهَلَّ (ص 343) . يُرِيدُ بِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ. فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إذَا انْفَصَلَ حَيًّا، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالِاسْتِهْلَالِ. 1907 - وَسُئِلَ عَنْ فِكَاكِ الْأَسِيرِ فَقَالَ: عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُقَاتِلُ عَنْهَا. يَعْنِي مِنْ خَرَاجِ تِلْكَ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَسْرِ كَانَ يَذُبُّ عَنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَرْضِ، فَهُمْ أَوْلَى بِفِكَاكِهِ، لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ، وَإِنَّمَا يُفَكُّ مِنْ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَسَدِّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُ. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ. 1908 - وَسُئِلَ عَنْ الشَّرَابِ قَائِمًا، فَحَلَبَ نَاقَةً ثُمَّ شَرِبَ قَائِمًا وَإِنَّمَا قَصَدَ الْبَيَانَ بِفِعْلِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَقَدْ اقْتَدَى فِيهِ بِأَبِيهِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ حِينَ بَلَغَهُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا تَوَضَّأَ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ بِالْكُوفَةِ ثُمَّ أَخَذَ الْإِنَاءَ وَشَرِبَ فَضْلَةً فِيهَا قَائِمًا. وَكَانَ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ رَدَّ قَوْلِهِمْ فِي كَرَاهَةِ شُرْبِ الْمَاءِ قَائِمًا. 1909 - وَذُكِرَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِأَسِيرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1034 يَوْمَ صَفَّيْنِ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلْنِي. قَالَ: لَا أَقْتُلُك صَبْرًا، إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ سِلَاحَهُ لِلَّذِي جَاءَ بِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ، حَتَّى إذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ حَيًّا، وَعَلَى وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا. وَهُوَ أَيْضًا تَأْوِيلُ مَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَغْنَمْ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْجُمَلِ إلَّا الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ. أَيْ دَفَعَ ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِهِ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمَلِّكَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يَصِيرُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُخَمِّسْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا طَالَبُوهُ الْقِسْمَةَ بَيْنَهُمْ قَالَ: فَمَنْ يَأْخُذُ مِنْكُمْ عَائِشَةَ؟ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا دَفَعَ السِّلَاحَ إلَى مَنْ دَفَعَ لِحَاجَتِهِ، حَتَّى يُقَاتِلَ بِهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. 1910 - وَإِذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ رِجَالِهِمْ إلَّا السَّيْفُ أَوْ الْإِسْلَامُ. فَأَمَّا نِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَهُمْ فَيْءٌ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ» . وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِحْيَاءِ الِاسْتِرْقَاقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49] وَالْمُرَادُ بِالشَّرْخِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ، وَالنِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَا صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ يُسْتَرَقُّونَ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ إلَّا أَنَّ أُولَئِكَ يُجْبَرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1035 عَلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ قَدْ لَزِمَهُمْ. فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهُمْ الْإِقْرَارُ بِالْإِسْلَامِ، فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ. 1911 - ثُمَّ كُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ مِنْ الرِّجَالِ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ. وَمَنْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ. لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إبْقَاءَ الْكَافِرِ بِمَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْمَالِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ الْجِزْيَةَ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ الْقَتْلَ. وَالثَّانِي حَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَوْ ثَبَتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ وَلَاءٌ أَوْ رِقٌّ لَثَبَتَ الْيَوْمَ، وَلَكِنْ إنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ أَوْ الْفِدَاءُ» . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْفِدَاءِ قَدْ انْتَسَخَ، فَبَقِيَ الْقَتْلُ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1036 وَإِذَا وَقَعَ السَّبْيُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَخْرَجَ مَالًا كَانَ مَعَهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَيَنْبَغِي لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ (ص 344) أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ إنَّمَا مَلَّكَهُ بِالْقِسْمَةِ رَقَبَةَ الْأَسِيرِ لَا مَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْعَدْلُ إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا مَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُ. 1913 - فَإِنْ تَفَرَّقَ الْغَانِمُونَ وَذَلِكَ السَّبْيُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِقِلَّتِهِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ. لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إيصَالِهِ إلَى صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ. هَكَذَا نُقِلَ عَنْ مَكْحُولٍ: أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ اُبْتُلِيَ بِذَلِكَ: مَا أَرَى وَجْهًا أَحْسَنَ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَعْطَى ذَلِكَ مَنْ وَقَعَ الْأَسِيرُ فِي يَدِهِ. فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلَّذِي قَسَمَ الْغَنِيمَةَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَإِنَّمَا حَسِبَ أَنَّ الَّذِي قَسَمَ أَعْطَاهُ ذَلِكَ بِنَصِيبِهِ مَعَ الْأَسِيرِ الَّذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1037 وَذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا قَدْ خَلَصَتْ لَهُ أَخْرَجَتْ حُلِيًّا كَانَ مَعَهَا. فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَدْرِي هَذَا وَأَتَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: اجْعَلْهُ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ وَانْطَلَقَ آخَرُ يَغْتَسِلُ، فَأَمَرَّ الْمَاءُ التُّرَابَ عَنْ لَبِنَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَتَى سَعْدًا فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: اجْعَلْهَا فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهِ نَأْخُذُ. فَإِنَّ الْمَالَ الَّذِي مَعَ الْأَسِيرِ كَانَ غَنِيمَةً، وَبَيْعُ الْأَمِيرِ إنَّمَا تَنَاوَلَ الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَالِ، فَيَبْقَى الْمَالُ غَنِيمَةً. 1915 - وَمَنْ وَجَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَنْزًا وَقَدْ دَخَلَ مَعَ الْجَيْشِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ غَنِيمَةً. لِأَنَّهُ مَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ إلَّا بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. 1916 - وَإِذَا وَقَعَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ السَّبْيِ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَقَالَتْ: أَنَا جَارِيَةٌ ذِمِّيَّةٌ سَبَانِي أَهْلُ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخَذَنِي الْمُسْلِمُونَ. وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا. لِأَنَّهَا صَارَتْ رَقِيقَةً حِينَ سُبِيَتْ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي إسْقَاطِ الرِّقِّ عَنْهَا. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَهَا مَوْلَاهَا بِالْمِلْكِ وَيَبِيعَهَا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ عَلَى مَا قَالَتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1038 لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ غَيْرَ ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ. وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: لَا تَقَعْ عَلَيْهَا وَبِعْهَا. فَإِنَّمَا كَرِهَ مُوَاقَعَتَهَا عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّهِ، لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا حَلَالًا لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا، وَلَوْ رَآهَا حُرَّةً كَمَا زَعَمَتْ مَا أَمَرَ بِبَيْعِهَا. 1917 - وَإِذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَرْضٍ مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَمَّسَهَا وَخَمَّسَ أَهْلَهَا وَقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهَا، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِخَيْبَرَ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَتْ الْأَرَاضِي أَرْضَ عُشْرٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ. وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَأَهْلَهَا يُؤَدُّونَ مِنْهَا الْخَرَاجَ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَرْضِ السَّوَادِ وَأَرْضِ الشَّامِ. وَمَا خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ وَلَمْ يُحْمَدُوا عَلَى خِلَافِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ. فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَفِيهِمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. يَعْنِي مَاتُوا فِي الطَّاعُونِ. وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ. 1918 - وَذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1039 أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُك يَذْكُرُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ سَأَلُوا أَنْ تَقْسِمَ بَيْنَهُمْ غَنَائِمَهُمْ. فَانْظُرْ مَا أَجْلَبَ النَّاسُ عَلَيْك مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ فَاقْسِمْهُ بَيْنَ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَاتْرُكْ الْأَرْضَ وَالْأَنْهَارَ لِعُمَّالِهَا. وَبِهِ نَأْخُذُ. وَإِنَّمَا أُصِيبَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَالظُّهُورِ. وَقَدْ تَحَقَّقَ انْفِصَالُهُ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَخُرُوجُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَيَجِبُ قِسْمَةُ ذَلِكَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِفَتْحِ الْأَرْضِ وَالْمَنِّ عَلَى أَهْلِهَا. قَالَ: وَانْظُرْ أَنْ لَا تُوَلِّهَ وَالِدَةً عَنْ وَلَدِهَا. أَيْ لَا تُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَوَالِدَتِهِ. وَبِنَحْوِ هَذَا جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ص 345) حِينَ «رَأَى جَارِيَةً وَالِهَةً فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ: مَا حَالُهَا؟ فَقَالَ: بِيعَ وَلَدُهَا. قَالَ: لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا» . قَالَ: وَلَا تَمَسَّ امْرَأَةً حَتَّى يَطِيبَ رَحِمُهَا. أَيْ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا. وَهُوَ نَظِيرُ مَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: وَلَا الْحَبَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ. قَالَ: وَلَا تَتَّخِذْ أَحَدًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَاتِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ فِي دِينِهِمْ، وَلَا رِشْوَةَ فِي دِينِ اللَّهِ. وَبِهِ نَأْخُذُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1040 فَإِنَّ الْوَالِيَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] . ثُمَّ قَالَ: وَلَا عُشْرَ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا عَلَى صَاحِبِ ذِمَّةٍ، إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا اسْتَأْذَنُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي أَرْضِنَا. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، فَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ عُمَّالَهُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعُشْرُ الْكَامِلُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ إذَا مَرُّوا بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ خَاصَّةً. فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الْعُشْرِ. 1919 - وَذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَيُّمَا مَدِينَةٍ فُتِحَتْ فَأَسْلَمَ أَهْلُهَا قَبْلَ أَنْ تُقْسَمَ فَهُمْ أَحْرَارٌ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ أَوْ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ، أَوْ كَانَ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَدَعَهُمْ فِي أَرْضِهِمْ يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ. فَأَمَّا إذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَقْسِمَهُمْ وَأَرْضَهُمْ فَهُمْ عَبِيدٌ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا بَعْدَ تَمَامِ الْقَهْرِ، وَذَلِكَ يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رِقَابِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1041 [بَابُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْفَيْءُ وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِالْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] - بَابُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْفَيْءُ وَمَا يَرْكَبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الدَّوَابِّ وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِالْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْقِسْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: 1920 - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَبِيعَهَا، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ نَفَذَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا. فَعِنْدَ الْحَاجَةِ تُقْسَمُ الثِّيَابُ وَالسِّلَاحُ بَيْنَهُمْ بَعْدَ رَفْعِ الْخُمُسِ. لِأَنَّ مَا يُشْبِهُ الْقِسْمَةَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهُوَ التَّنْفِيلُ، فَالْقِسْمَةُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَجْوَزُ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَقْسِمُ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَدَدِ، كَيْ لَا تَقِلَّ رَغْبَتُهُمْ فِي اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الَّذِينَ هُمْ مَعَهُمْ أَوْلَى 1921 - فَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى قِسْمَتِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ فِيهِمْ أَيْضًا، حَتَّى حَلَّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُمْ. فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْسِمَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ. 1922 - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ظَهْرٌ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْغَنَائِمَ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَتْ فِي الْغَنَائِمِ دَوَابُّ فَلْيَحْمِلْ عَلَيْهَا الْغَنَائِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ مَعَ عَامَّةِ الْجَيْشِ فَضْلُ حُمُولَةٍ حَمَلَ الْغَنَائِمَ عَلَيْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1042 لِأَنَّ الْغَنَائِمَ حَقُّهُمْ وَالدَّوَابَّ كَذَلِكَ لَهُمْ، فَفِي الْحَمْلِ عَلَيْهَا مُرَاعَاةُ النَّظَرِ لَهُمْ، فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْخُمُسِ. فَإِنَّهُ تَبَعٌ لِحَقِّ الْغَانِمِينَ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِإِصَابَتِهِمْ. وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ كَثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَتْ فَضْلُ الْحُمُولَةِ مَعَ خَوَاصَّ مِنْهُمْ فَإِنْ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنْ تُحْمَلَ الْغَنَائِمُ عَلَيْهَا فُعِلَ، وَإِنْ أَبَوْا لَمْ يُكْرِهْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ الدَّوَابَّ لِلْخَاصِّ مِنْهُمْ، وَالْغَنِيمَةَ لِعَامَّتِهِمْ، فَاعْتِبَارُ جَانِبِ غَيْرِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ يَمْنَعُهُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى دَابَّتِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَيْسَ حَقُّ الْبَعْضِ تَبَعًا لِحَقِّ الْبَعْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ بَعْضَهُمْ عَلَى دَوَابِّ الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ حَمْلِ الْغَنَائِمِ. 1923 - ثُمَّ إذَا أَبَوْا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْسِمَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَتَوَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمْلَ نَصِيبِهِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يُمْكِنُهُ. لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ، إذْ لَوْ لَمْ يَقْسِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ احْتَاجَ إلَى تَرْكِهَا وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْهَا أَصْلًا. 1924 - وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ تُجَّارٌ يَشْتَرُونَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُمْ. لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ الْقِسْمَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (ص 346) جَازَ الْبَيْعُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ تَصَرُّفٌ يَبْتَنِي عَلَى تَأَكُّدِ الْحَقِّ. ثُمَّ بَعْدَ الْبَيْعِ يَقْسِمُ الثَّمَنَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَلَا يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1043 لِأَنَّ بِنُفُوذِ الْبَيْعِ يَتَأَكَّدُ حَقُّ الْغَانِمِينَ وَتَنْقَطِعُ شَرِكَةُ الْمَدَدِ مَعَهُمْ فِي الثَّمَنِ، فَلَا مَعْنَى لِتَأَخُّرِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. 1925 - وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْحُمُولَةَ مِنْ أَصْحَابِهَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَيَكُونُ الْأَجْرُ مِنْ الْغَنَائِمِ يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الْخُمُسِ. لِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةً لِلْغَانِمِينَ، فَهُوَ كَالِاسْتِئْجَارِ لِسَوْقِ الْغَنَمِ وَالرِّمَاكِ. وَحَقُّ أَصْحَابِ الْحُمُولَةِ فِي ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ. لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُمْ فِيهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَالْقِسْمَةِ، وَشَرِكَةُ الْمِلْكِ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ، لَا شَرِكَةُ الْحَقِّ كَمَا فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إنْ رَضِيَ بِهِ أَصْحَابُ الْحُمُولَةِ أَوْ أَبَوْا إذَا كَانَ بِهِمْ غِنًى عَنْ تِلْكَ الْحُمُولَةِ. لِأَنَّهُمْ بِهَذَا الْإِبَاءِ قَصَدُوا التَّعَنُّتَ. فَإِنَّ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةً لَهُمْ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ الْأُجْرَةُ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ لَا تَبْقَى لَهُمْ بِدُونِ هَذَا الِاسْتِئْجَارِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْغَانِمِينَ أَيْضًا. فَكَانُوا مُتَعَنِّتِينَ فِي الْإِبَاءِ، وَالْقَاضِي لَا يَلْتَفِتُ إلَى إبَاءِ الْمُتَعَنِّتِ. وَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ الِاسْتِئْجَارِ وَبَقَاءَ الْإِجَارَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ الْأَمِيرِ، فَمِنْ الْأَمِيرِ أَوْلَى. وَبَيَانُهُ فِي اسْتِئْجَارِ السَّفِينَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، إذَا انْتَهَتْ الْمُدَّةُ أَوْ مَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ وَالسَّفِينَةُ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ. وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الْأَوْعِيَةِ لِحَمْلِ الْمَائِعِ فِيهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً إذَا انْتَهَتْ الْمُدَّةُ وَهُمْ فِي الْمَفَازَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِحَمْلِ أَمْتِعَةٍ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَانْتَهَتْ الْمُدَّةُ وَهُمْ فِي الْمَفَازَةِ، أَوْ مَاتَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ، فَإِنَّهُ يُبْتَدَأُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1044 فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، وَبِالْمُسَمَّى فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ. وَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ إذَا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى حَمْلِهَا. 1926 - إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ الْغَنِيمَةِ بِغَيْرِ إجْبَارٍ مِنْهُ لِأَصْحَابِ فَضْلِ الْحُمُولَةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَتَعَرَّضُ لِحُمُولَتِهِمْ. لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَلَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» . 1927 - وَإِنْ كَانَتْ الْغَنِيمَةُ سَبْيًا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُمَشِّيَهُمْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُجْبِرْ أَصْحَابَ الْحُمُولَةِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ السَّبْيَ يَلْحَقُهُمْ تَعَبٌ فِي الْمَشْيِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ إجْبَارُ أَصْحَابِ الْحُمُولَةِ عَلَى مَا لَا تَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهُمْ. 1928 - وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدٍ فَضْلُ حُمُولَةٍ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَرِّقَ بِالنَّارِ مَا يَحْتَرِقُ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَمَا لَا يَحْتَرِقُ كَالْحَدِيدِ يَدْفِنُهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ رِجَالِ السَّبْيِ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ خَلَّى سَبِيلَهُمْ فِي مَوْضِعٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَضِيعُونَ فِيهِ. وَمَا كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ ذَبَحَهُ ذَبْحًا ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْرِقَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ الرُّوحُ. لِأَنَّ ذَلِكَ مُثْلَةٌ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا» . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بَعْدَ مَا وَقَعَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1045 أَحَدُهُمَا: قَطْعُ مَنْفَعَةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ ذَلِكَ أَصْلًا. وَالْآخَرُ: إيصَالُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا فَلْيَأْتِ بِهِمَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا فَلْيَأْتِ بِالْآخَرِ. وَهَا هُنَا قَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْآخَرِ. وَهُوَ قَطْعُ مَنْفَعَتِهِمْ عَنْهَا لِكَيْ لَا يَتَقَوَّوْا بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ. وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا فِيهِ الْكَبْتَ وَالْغَيْظَ لِلْعَدُوِّ. وَفِي جَمِيعِ مَا قُلْنَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْغَيْظِ وَالْكَبْتِ لَهُمْ. ثُمَّ لَا يَكُونُ هُوَ مُتْلِفًا لِلصِّبْيَانِ وَلِلنِّسَاءِ بِتَرْكِهِمْ فِي مَضْيَعَةٍ، وَلَكِنْ يَكُونُ مُمْتَنِعًا (ص 347) مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِالنَّقْلِ إلَى الْعُمْرَانِ. وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إسَاءَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَرَّ بِامْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ فِي مَفَازَةٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِهِ إلَى الْعُمْرَانِ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا شَيْئًا مِنْ بَدَلِهِ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِمَا قَامَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَوَابِّهِمْ وَبِمَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَتَاعِهِمْ. 1929 - وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَابَّةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَغَزَا عَلَيْهَا، فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَعَهُ فِي الْعَسْكَرِ خَاصَمَهُ حَتَّى يَرُدَّهَا عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ صَارَ مَظْلُومًا مِنْ جِهَتِهِ بِتَدْلِيسِ الْعَيْبِ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَرْكَبَهَا، وَلَكِنْ يَسُوقُهَا مَعَهُ حَتَّى يُخْرِجَهَا فَيَرُدَّهَا. لِأَنَّ الرُّكُوبَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَكُونُ رِضًى مِنْهُ بِهَا، فَلْيُتَحَرَّزْ مِنْ ذَلِكَ. 1930 - إلَّا أَنْ يَرْكَبَهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَسُوقَهَا إلَى مَعْلَفِهَا، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا عَلَفَهَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ رِضًى مِنْهُ بِالْعَيْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1046 لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا إلَّا بِأَنْ يَسْقِيَهَا وَيَعْلِفَهَا، فَرُبَّمَا لَا تَنْقَادُ لَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَرْكَبْهَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الرِّضَى مِنْهُ. وَأَمَّا الرُّكُوبُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ لِحَمْلِ أَمْتِعَتِهِ عَلَيْهَا فَدَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةَ رِضَاهُ بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ. 1931 - وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ يَجِدْ دَابَّةً أُخْرَى أَوْ وَجَدَهَا. لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي لَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْبَائِعِ، وَالرُّكُوبُ لِحَاجَتِهِ دَلِيلُ الرِّضَا، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالرِّضَا. 1932 - فَإِنْ أَتَى الْإِمَامَ وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ: ارْكَبْهَا فَرَكِبَهَا بِأَمْرِهِ، لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهَا أَيْضًا. لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَمَسَ ذَلِكَ مِنْ الْإِمَامِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ قَبْلَ أَمْرِهِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِهِ أَمْرَهُ بَعْدَ أَنْ يَرْكَبَهَا طَائِعًا. 1933 - فَإِنْ أَكْرَهَهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ حِينَ خَافَ الْهَلَاكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ نَقَصَهَا رُكُوبُهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ يُنْقِصْهَا رُكُوبُهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ. لِأَنَّ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الْفِعْلُ مِنْ الْمُكْرَهِ، وَيَصِيرُ آلَةً لَهُ، إنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ. وَإِنْ كَانَ بِالْحَبْسِ وَالْقَيْدِ يَنْعَدِمُ بِهِ الرِّضَا. وَإِنَّمَا كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ رَدَّهَا بَعْدَ الرُّكُوبِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا. فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي الرُّكُوبِ مُكْرَهًا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1047 1934 - وَإِنْ لَمْ يُكْرِهْهُ وَلَكِنْ قَالَ: ارْكَبْهَا وَأَنْتَ عَلَى رَدِّك لَهَا. فَرَكِبَهَا، لَزِمَتْهُ. وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْأَمِيرِ بَاطِلًا. لِأَنَّهُ فَتْوَى بِخِلَافِ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ مِنْ جِهَتِهِ. لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُسْتَدْعٍ مَقْضِيًّا لَهُ وَمَقْضِيًّا عَلَيْهِ. 1935 - فَإِذَا رَفَعَهَا إلَى قَاضٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَدَّهَا بِالْعَيْبِ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَمَّا قَالَ لَهُ الْأَمِيرُ ذَلِكَ، ثُمَّ رُفِعَتْ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى مَا صَنَعَ الْأَوَّلُ خَطَأً فَإِنَّهُ يَمْضِي قَضَاءُ الْأَوَّلِ وَلَا يَرُدُّهُ. لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ. فَإِنَّ ظَاهِرَ النُّصُوصِ الْمُوجِبَةِ لِطَاعَةِ الْأَمِيرِ تُخْرِجُ رُكُوبَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِضًا بِالْعَيْبِ. 1936 - وَكَذَلِكَ التَّنْصِيصُ مِنْ الْأَمِيرِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتَ عَلَى رَدِّك. يُسْقِطُ اعْتِبَارَ دَلِيلِ الرِّضَا بِالْعَيْبِ مِنْهُ عِنْدَ الرُّكُوبِ. لِأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّنْصِيصُ بِخِلَافِهِ. 1937 - ثُمَّ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ لِنُقْصَانٍ دَخَلَهَا، بِأَنْ كَانَ رَكِبَهَا مُكْرَهًا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ. وَهَذَا لِأَنَّ دَلِيلَ الرِّضَا كَصَرِيحِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرِيحًا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ حَقُّهُ فِي الرَّدِّ. فَكَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى مَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1048 فَإِذَا انْعَدَمَ الرِّضَا بَقِيَ اعْتِبَارُ النُّقْصَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ حَصَلَ بِغَيْرِ صَنِيعِ أَحَدٍ، وَذَلِكَ يُمَكِّنُهُ مِنْ الرُّجُوعِ (ص 348) بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ. 1938 - وَإِذَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ فَكَانَ فِيهَا مُصْحَفٌ لَا يُدْرَى أَنَّ الْمَكْتُوبَ فِيهِ تَوْرَاةٌ أَوْ إنْجِيلٌ أَوْ زَبُورٌ أَوْ كُفْرٌ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مَخَافَةَ أَنْ يَضِلُّوا بِهِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُسَبِّبُ لِفِتْنَتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ مِنْ مُسْلِمٍ. لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَيْضًا فَيَضِلُّوا بِسَبَبِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَقْسِمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيَضِلُّوا بِسَبَبِهِ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَرِّقَ بِالنَّارِ ذَلِكَ أَيْضًا. لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَفِي إحْرَاقِهِ بِالنَّارِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ مَا لَا يَخْفَى. وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَصَاحِفِ الْمُخْتَلِفَةِ حِينَ أَرَادَ جَمْعَ النَّاسِ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ. فَاَلَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ تَعْظِيمِ الْحُرْمَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى تِلَاوَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1049 وَلَكِنَّهُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ لِوَرَقِهِ قِيمَةٌ مُحِيَ الْكِتَابُ وَجُعِلَ الْوَرِقُ فِي الْغَنِيمَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَرَقِهِ فَلْيَغْسِلْ وَرَقَهُ بِالْمَاءِ حَتَّى يَذْهَبَ الْكِتَابُ ثُمَّ يُحْرِقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَحَبَّ. لِأَنَّهُ لَا كِتَابَ فِيهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي إحْرَاقِهِ بَعْدَ غَسْلِهِ الْمَكْتُوبَ فِيهِ مَعْنَى الْغَيْظِ لَهُمْ، وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْفِنَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ مَحْوِ الْكِتَابِ. لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَطْلُبَهُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسْتَخْرِجُوهُ، وَيَأْخُذُوا بِمَا فِيهِ، فَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ ضَلَالًا إلَى ضَلَالِهِمْ. وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ يَأْمَنُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْفِنَهُ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا انْقَطَعَ أَوْرَاقُ الْمُصْحَفِ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِدَفْنِهِ فِي مَكَان طَاهِرٍ. وَالْغَسْلُ بِالْمَاءِ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ. وَإِنْ أَرَادَ شِرَاءَهُ رَجُلٌ ثِقَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ الْإِمَامُ. لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ. وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ جَازَ بَيْعُهُ، إلَّا أَنَّ كَرَاهَةَ بَيْعِهِ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ هَا هُنَا. فَهُوَ نَظِيرُ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَّخِذُهُ خَمْرًا. قَالَ مَشَايِخُنَا: وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيمَا يَجِدُهُ الْمُسْلِمُ مِنْ كُتُبِ الْبَاطِنَةِ وَأَهْل الْأَهْوَاء الْمُضِلَّةِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي يَدِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَيُفْتَتَنُوا بِهِ؛ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِهِ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1050 وَلَوْ وَجَدُوا فِي الْغَنَائِمِ صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ تَمَاثِيلَ، أَوْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ فِيهَا التَّمَاثِيلُ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَكْسِرَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَجْعَلَهُ تِبْرًا. لِأَنَّهُ لَوْ قَسَمَهُ أَوْ بَاعَهُ كَذَلِكَ، رُبَّمَا يَبِيعُهُ مَنْ يَقَعُ فِي سَهْمِهِ مِنْ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَزِيدُوا لَهُ فِي ثَمَنِهِ رَغْبَةً مِنْهُمْ فِي لِبَاسِهِ، أَوْ فِي أَنْ يَعْبُدُوهُ. فَلْيُتَحَرَّزْ عَنْ ذَلِكَ بِكَسْرِ الصَّلِيبِ وَالتَّمَاثِيلِ. وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ بِهَا لِتُبَاعَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ. فَقَدْ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ مَسْرُوقٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ. فَأَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَلَا بَأْسَ بِقِسْمَتِهَا وَبَيْعِهَا قَبْلَ أَنْ تُكْسَرَ. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُلْبَسُ، وَلَكِنَّهُ يُبْتَذَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَبَايَعُونَ بِدَرَاهِمِ الْأَعَاجِمِ فِيهَا التَّمَاثِيلُ بِالتِّيجَانِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ عَنْ الْمُعَامَلَةِ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا يُكْرَهُ هَذَا فِيمَا يُلْبَسُ أَوْ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ الصَّلِيبِ وَنَحْوِهَا. 1940 - وَحُكْمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَحُكْمِ مَا لَوْ أَصَابُوا بَرَابِط وَغَيْرَهَا مِنْ الْمَعَازِفِ. فَهُنَاكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْسِرَهَا ثُمَّ يَبِيعَهَا أَوْ يَقْسِمَهَا حَطَبًا. قَالَ: إلَّا أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ أَنْ يَكْسِرَهَا مِمَّنْ هُوَ ثِقَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَرْغَبُ فِيهَا لِلْحَطَبِ لَا لِلِاسْتِعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحِلُّ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ. فَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ شَرْعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1051 وَمَا وَجَدُوا فِي الْغَنَائِمِ مِنْ كَلْبِ صَيْدٍ أَوْ فَهْدٍ أَوْ بَازِي فَلَا بَأْسَ بِقِسْمَةِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ شَرْعًا. وَلِهَذَا جَوَّزَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَيْعَهُ. وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْبَيْتِ الْقَاصِي فِي الْكَلْبِ يَتَّخِذُونَهُ» . يَعْنِي لِلْحَرَسِ. ثُمَّ شُبِّهَ الْكَلْبُ بِالْهِرَّةِ. وَبَيْعُ الْهِرَّةِ جَائِزٌ. لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ فَالْكَلْبُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ مِثْلُهُ. 1942 - وَمَنْ وَجَدَ مِنْ الْغُزَاةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهْدًا أَوْ بَازِيًا أَوْ صَقْرًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ هَذَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بَعْدَ إخْرَاجِهِ، وَهُوَ لَمْ يَتَوَصَّلْ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَخَذَ ذَلِكَ فِيهِ إلَّا بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ. وَنَظِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا وَجَدَ كَنْزًا أَوْ مَعْدِنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ مَالًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1052 1943 - وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَخْرَجَ مِنْ الْبَحْرِ لُؤْلُؤًا أَوْ عَنْبَرًا فِي مَوْضِعٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ مَا تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. 1944 - وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَ سَمَكًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. إلَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ السَّمَكَ وَيُطْعِمَ أَصْحَابَهُ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي طَعَامِ الْغَنِيمَةِ. 1945 - وَكَذَلِكَ لَوْ اصْطَادَ بِكَلْبٍ أَوْ فَهْدٍ أَوْ بَازِيٍّ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّ مَا يُصَادُ بِهِ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ. إلَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَنَاوَلَهُ كَسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ. 1946 - وَأَهْلُ الشَّامِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لِلْعَدُوِّ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، وَبَيْنَ مَا لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا. فَيَقُولُونَ فِيمَا لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا: هُوَ سَالِمٌ لَهُ. لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» . وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَالٍ مُصَابٍ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِعْزَازُ الدِّينِ، وَذَلِكَ فِيمَا يُتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ. أَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَالِ الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ تَافِهٌ بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً. وَبِهَذَا الْحَرْفِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِتَافِهٍ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِمَّا يَكُونُ تَافِهًا كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ لَا يَجِبُ فِيهِ الْخَمْسُ، وَمَا لَا يَكُونُ تَافِهًا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ الْمَعَادِنِ يَجِبُ فِيهَا الْخَمْسُ. وَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِخِلَافِ السَّمَكِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1053 إلَّا أَنَّا نَقُولُ: مَا أُصِيبَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ. وَفِي هَذَا يَسْتَوِي مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُمْ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُمْ. لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ مَوْضِعُ وِلَايَتِهِمْ، وَفِي إصَابَةِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ وِلَايَتِهِمْ مَعْنَى الْمُغَايَظَةِ لَهُمْ. فَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْإِصَابَةُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْغَنِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْغُزَاةَ لَوْ اسْتَخْرَجُوا مِنْ بَعْضِ جِبَالِهِمْ الْيَاقُوتَ وَالزَّبَرْجَدَ فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ غَنِيمَةً، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَوْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي جِبَالِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَمْسٌ، عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ فِي الْحَجَرِ زَكَاةٌ» وَهَذَا كُلُّهُ حَجَرٌ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْأَحْجَارِ أَضْوَأُ مِنْ بَعْضِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَخْرُجُ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ لَا يَكُونُ قِيَاسَ مَا يُوجَدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. 1947 - وَلَوْ أَرَادَ الْغَازِي أَنْ يَصْطَادَ بِكَلْبٍ أَوْ فَهْدٍ أَوْ بَازِي مِنْ الْغَنِيمَةِ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ لَهُ. لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمَا هُوَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَإِنْ أَرْسَلَهُ فَذَهَبَ وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ. لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ بِالْإِرْسَالِ مُسْتَهْلَكٌ لَهُ، وَمَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَضْمَنْ. وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَمِيرِ. فَهَذَا مِثْلُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1054 وَلَوْ وُجِدَ (ص 350) فِي الْغَنَائِمِ فَرَسٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ كَانُوا إنَّمَا وَجَدُوا ذَلِكَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ بِحَيْثُ يَكُونُ أَغْلَبُ الرَّأْيِ فِيهِ أَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، فَالسَّبِيلُ فِيهِ التَّعْرِيفُ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَا يَكُونُ حَبِيسًا بِمَا عَلَيْهِ مِنْ السِّمَةِ. لِأَنَّ السِّمَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ حَكِيمَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمِلْكَ وَلَا الْيَدَ. وَإِنْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ هُوَ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّا يَكُونُ غَالِبُ الرَّأْيِ فِيهِ أَنَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ هَذَا غَنِيمَةٌ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ. لِأَنَّ بِهَذِهِ السِّمَةِ لَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ شَيْءٍ فِي الْحُكْمِ. فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُونَ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيَلْبَسُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا خَرَجَ بَعْضُهُمْ إلَى الْمُعَسْكَرِ عَيْنًا يَتَجَسَّسُ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفَرَسِ لَوْ كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ يَبِيعُهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ بَيْعِهِ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ السِّمَةِ، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ السِّمَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ. وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مِنْ الْخَيْلِ الْحُبْسِ، وَقَدْ حَضَرَ صَاحِبُهُ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرُدُّهُ إلَيْهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ، بِغَيْرِ شَيْءٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1055 لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْوَقْفَ: الْفَرَسُ الْحَبِيسُ، كَالْوَقْفِ فِي الْحُكْمِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يَتَمَلَّكُهُ الْمُشْرِكُونَ بِالْإِحْرَازِ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بِالْأَخْذِ مِنْهُمْ، فَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْقَيِّمِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ، وَتَعْوِيضُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَرَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ بَاعَهُ الْإِمَامُ. وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُدَبَّرِ يَأْسِرُهُ الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ يُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْحُكْمُ فِي هَذَا كَالْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَفْرَاسِ الْمُسْلِمِينَ يُحْرِزُهَا الْمُشْرِكُونَ. لِأَنَّ عِنْدَهُ هَذَا مَحَلٌّ لِلتَّمْلِيكِ بِالْإِرْثِ وَالْبَيْعِ، فَيَكُونُ مَحَلَّ التَّمْلِيكِ بِالِاغْتِنَامِ أَيْضًا. 1949 - وَإِذَا قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَزَلَ الْخُمُسَ ثُمَّ أَغَارَ الْعَدُوُّ عَلَى مَا عَزَلَهُ لِلْخَمْسِ فَأَحْرَزُوهُ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ عَرَفَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رَدَّ فِي الْخُمُسِ كَمَا كَانَ. لِأَنَّ حَقَّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ تَأَكَّدَ فِي الْخُمُسِ، كَمَا أَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ قَدْ تَأَكَّدَ فِي الْأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ حَتَّى قَسَمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَهُوَ سَالِمٌ لَهُمْ. لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَخَذَهُ لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ وَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. 1950 - وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْخُمُسِ فَإِنْ كَانَ بَاعَهُ بِقِسْمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ سَالِمٌ لِلْمُشْتَرِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1056 لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ، وَلَا فَائِدَةَ لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ. وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ. لِأَنَّ الْأَخْذَ هَا هُنَا مُفِيدٌ لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ، فَإِنَّهُ يُعْطِي الثَّمَنَ مِنْ الْخُمُسِ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ. 1951 - وَمَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَتَاعٍ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ أَوْ وَجَدُوا سَفِينَةً قَدْ ضَرَبَتْهَا الرِّيحُ فَرَمَتْ بِهَا عَلَى السَّاحِلِ، وَفِيهَا أَمْتِعَةٌ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ فَهُوَ فَيْءٌ يُخَمَّسُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَتَاعُ مِمَّا يَتَّخِذُهُ الْمُسْلِمُونَ أَوْ الْمُشْرِكُونَ. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا تَوَصَّلُوا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، فَيَكُونُ الْمُصَابُ غَنِيمَةً، وَبِأَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَنِيمَةً. كَمَا لَوْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي حِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ. وَهَذَا لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونُوا اشْتَرَوْا ذَلِكَ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَخَذُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَهْرًا، أَوْ أَحْرَزُوهُ. 1952 - وَإِنْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ السَّاحِلِ هُوَ مِنْ أَرْضِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي اللُّقَطَةِ. وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعٍ يَتَّخِذُهُ الْمُسْلِمُونَ أَوْ الْمُشْرِكُونَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ (ص 351) أَكْثَرُ الرَّأْيِ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ لِلْعَدُوِّ، فَحِينَئِذٍ يُخَمَّسُ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِلْغَانِمِينَ لِأَنَّ مَا يُوجَدُ عَلَى ظَاهِرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُوجَدُ فِي بَاطِنِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1057 وَلَوْ اسْتَخْرَجُوا كَنْزًا مِنْ مَوْضِعٍ هُوَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ. 1954 - وَإِنْ اسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، يَجِبُ الْخَمْسُ فِيهِ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ لِمَنْ أَصَابَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْجُودُ مِنْ دَارِهِمْ الْأَعَاجِمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ فِيمَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَغَالِبِ الرَّأْيِ، بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِيمَا لَا يُمْكِنَ إثْبَاتَهُ بِحُجَّةٍ أُخْرَى. 1955 - فَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دَارَ الْحَرْبِ فَدُلُّوا عَلَى قُبُورِ الْكُفَّارِ، فِيهَا الْأَمْوَالُ وَالسِّلَاحُ قَدْ دُفِنَتْ مَعَهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْفِرُوا تِلْكَ الْقُبُورَ وَيَسْتَخْرِجُوا مَا فِيهَا. وَهَذِهِ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّهُمْ يَدْفِنُونَ الْأَبْطَالَ مِنْهُمْ بِأَسْلِحَتِهِمْ وَأَعْيَانِ أَمْوَالِهِمْ. ثُمَّ فِي اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِتِلْكَ الْأَسْلِحَةِ عَلَى قِتَالِهِمْ. وَحُرْمَةُ قُبُورِهِمْ لَا تَكُونُ فَوْقَ حُرْمَةِ بُيُوتِهِمْ. فَإِذَا جَازَ الْهُجُومُ عَلَيْهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ لِأَخْذِ مَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ حَفْرُ قُبُورِهِمْ. وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ ضَائِعَةٌ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي تُدْفَنُ فِيهِ الْأَمْوَالُ يَكُونُ كَنْزًا لَا قَبْرًا، وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ أَرَادُوا حَفْرَ الْقُبُورِ لِنَبْشِ أَكْفَانِ الْمَوْتَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ ضَائِعٍ، بَلْ هُوَ مَصْرُوفٌ إلَى حَاجَةِ الْمَيِّتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1058 ثُمَّ مَنْ اسْتَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُخَمَّسُ. لِأَنَّهُ مَا تَوَصَّلَ إلَيْهَا إلَّا بِقُوَّةِ الْعَسْكَرِ. 1956 - وَمَا وَجَدُوا مِنْ مَتَاعِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا قَدْ سَقَطَ مِنْهُمْ، مِثْلُ السَّوْطِ وَالْحِذَاءِ وَالْحَبْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمَنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ مَتَاعِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقْطَةِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ انْتَفَعَ بِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَهُ إذَا جَاءَ صَاحِبُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَتْ الرُّخْصَةُ فِي السَّوْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَعْبَدٍ الضَّبِّيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ. قُلْنَا: تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي السَّوْطِ الْمُنْكَسِرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا يَطْلُبُهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ مَا سَقَطَ مِنْهُ، وَرُبَّمَا أَلْقَاهُ وَاسْتَبْدَلَ بِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ وَيَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ مَا أَلْقَاهُ بَلْ سَقَطَ عَنْهُ. وَهُوَ فِي طَلَبِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ. اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ. فَقِيلَ لَهُ: إنَّ فُلَانًا أَخَذَ قِبَالَيْنِ مِنْ شَعْرٍ. فَقَالَ: قِبَالَيْنِ مِنْ نَارٍ» . وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْغَنِيمَةِ فَمَا ظَنُّك فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَقَدْ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنَّ لَهُ مُخَالِفًا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ. فَإِنَّهُمْ يُرَخِّصُونَ فِي السَّوْطِ وَنَحْوِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ فَسَادَ مَذْهَبِهِمْ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1059 أَرَأَيْت لَوْ كَانَ سَوْطًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَكَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ، وَهُوَ بِحَيْثُ لَوْ سَرَقَهُ مِنْ صَاحِبِهِ قُطِعَتْ يَدُهُ فِيهِ. أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عِشْرُونَ سَوْطًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّ الَّذِي لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ هُوَ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، وَلَا يَطْلُبُهُ صَاحِبُهُ، مِثْلُ النَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَبَعْرِ الْإِبِلِ وَجِلْدِ الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَطْلُبُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ. 1957 - وَالدَّابَّةُ الْعَجْفَاءُ الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا تَرَكَهَا إذَا أَخَذَهَا إنْسَانٌ فَأَخْرَجَهَا فَعَلَيْهِ رَدُّهَا، وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ السَّوْطِ يُلْقِيهِ صَاحِبُهُ. وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي السَّوْطِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَلْقَاهُ رَغْبَةً عَنْهُ. فَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى حَمْلِهِ، وَمَا تَرَكَ الدَّابَّةَ رَغْبَةً عَنْهَا وَإِنَّمَا تَرَكَهَا لِعَجْزِهِ عَنْ إخْرَاجِهَا، فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهَا بِذَلِكَ. أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً مَرِيضَةً تَرَكَهَا لِعَجْزِهِ عَنْ إخْرَاجِهَا فَأَخَذَهَا إنْسَانٌ وَأَحْسَنَ إلَيْهَا حَتَّى بَرَأَتْ مِنْ مَرَضِهَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا؟ فَلِهَذَا وَشَبَهِهِ أَخَذْنَا فِي الْحَيَوَانِ بِالْقِيَاسِ. 1958 - وَلَوْ ادَّعَى الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّابَّةُ عَلَى صَاحِبِهَا: إنَّك قُلْت حِينَ خَلَّيْت سَبِيلَهَا: مَنْ أَخَذَهَا فَهِيَ لَهُ. وَجَحَدَ ذَلِكَ صَاحِبُهَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّ دَعْوَاهُ هَذَا السَّبَبَ عَلَيْهِ كَدَعْوَاهُ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1060 فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْ نَكَلَ صَاحِبُهَا عَنْ الْيَمِينِ سُلِّمَتْ الدَّابَّةُ لِلَّذِي أَخَذَهَا. سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا حِينَ قَالَ صَاحِبُهَا هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. لِلْحَدِيثِ الَّذِي رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ فِي الْهَدَايَا: مَنْ شَاءَ فَلْيَقْتَطِعْ.» وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَسَائِلِ. وَبَعْدَ صِحَّةِ الْهِبَةِ لَمَّا صَلُحَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَسَمِنَتْ فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1061 [بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْخَطَأُ] 109 - بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْخَطَأُ 1959 - وَإِذَا رَأَى صَاحِبُ الْمَقَاسِمِ أَنْ يَقْسِمَ الْأَجْنَاسَ الْمُخْتَلِفَةَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جِنْسًا بِنَصِيبِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، بَعْدَ أَنْ يَعْتَبِرَ الْمُعَادَلَةَ فِي الْمَالِيَّةِ. لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْكُلَّ وَيَقْسِمَ الثَّمَنَ بَيْنَهُمْ، وَفِي الْقِسْمَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُمْ. 1960 - وَهَذَا بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ الْمَوْرُوثِ وَالْمُشْتَرَى، فَإِنَّ هُنَاكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يُجِيزُ الْقَاضِي الشُّرَكَاءَ عَلَى الْقِسْمَةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً. لِأَنَّ الشَّرِكَةَ هُنَاكَ ثَابِتَةٌ فِي الْعَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الْعَيْنَ وَيَقْسِمَ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ دُونَ رِضَاهُمْ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ جِنْسٍ، وَلِهَذَا لَوْ عَتَقَ بَعْضُهُمْ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي نَصِيبِهِ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي قِسْمَةِ الْأَجْنَاسِ جُمْلَةً وَاحِدَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1062 1961 - وَهَا هُنَا لَا مِلْكَ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْ الرَّقِيقِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلَكِنْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ هَا هُنَا تَمْلِيكًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يُعْطِيهِ بِحَقِّهِ ابْتِدَاءً، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ وَالْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ. فَإِنْ وَقَعَتْ جَارِيَةٌ مِنْهَا فِي سَهْمِ رَجُلٍ، فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا حُرَّةٌ ذِمِّيَّةٌ قَدْ سَبَاهَا الْمُشْرِكُونَ، فَإِنْ كَانَ شُهُودُهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ. لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ. وَإِنْ كَانَ شُهُودُهَا مُسْلِمِينَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَقُضِيَ بِأَنَّهَا حُرَّةٌ. ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عَلَى الْجُنْدِ فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ مِمَّا أَخَذُوا، كَمَا فِي قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ إذَا اُسْتُحِقَّ نَصِيبُ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: الْإِمَامُ يُعَوِّضُ الَّذِي وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُنْتَقَضُ بِتِلْكَ الْقِسْمَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا مُدَبَّرَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ. وَهَذَا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ رُجُوعُهُ عَلَيْهِمْ بِحِصَّتِهِ لِكَثْرَتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ، وَالْمُتَعَذِّرُ كَالْمُمْتَنِعِ. ثُمَّ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يُعَوِّضَ لَهُ قِيمَتَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1063 شَيْءٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهُ (ص 353) فَإِنَّهُ يُوضَعُ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَهُ غُرْمٌ يُجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ. وَلِأَنَّ هَذَا خَطَأٌ مِنْ الْإِمَامِ فِيمَا عَمِلَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. 1962 - وَكَذَلِكَ إنْ اُسْتُحِقَّتْ جَارِيَتَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَغْفَلَ رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، فَهَذَا وَمَا لَوْ اُسْتُحِقَّ نَصِيبُهُمْ سَوَاءٌ فَأَمَّا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَلْفِ رَأْسٍ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَقُضِيَ بِحُرِّيَّتِهِمْ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُعَوِّضُ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُمْ: ائْتُونِي بِمَنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْجُنْدِ حَتَّى أَرُدَّكُمْ عَلَيْهِمْ بِحِصَصِكُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِمْ يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْتِزَامِ التَّعْوِيضِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، عِنْدَ كَثْرَةِ الْمُسْتَحَقِّ، إضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ. وَرُبَّمَا يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ مَالِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. فَلِهَذَا أَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ إذَا قَلَّ الْمُسْتَحَقُّ، وَعَادَ إلَى الْقِيَاسِ إذَا كَثُرَ الْمُسْتَحَقُّ. 1963 - وَأَيُّ رَجُلٍ جَاءُوا بِهِ قَدْ أَخَذَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا أَعْطَاهُمْ بِحِصَّتِهِمْ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَأَعْطَى أَيْضًا نَصِيبَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ إنْ لَمْ يَقْسِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1064 ذَلِكَ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كَانَ قَسَمَ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا فِيمَا يَأْتِيهِ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ ثَابِتًا فِيمَا دَفَعَهُ لِلْخُمُسِ وَفِيمَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِمْ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِسَلَامَةِ نَصِيبِهِمْ لَهُمْ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ. 1964 - فَإِنْ جَاءُوا بِقَوْمٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ أَخَذُوا الْغَنَائِمَ وَقَالُوا لِلْأَمِيرِ: اجْمَعْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ فَاقْسِمْهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لِأَنَّا وَإِيَّاهُمْ شَرْعًا سَوَاءٌ، لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى حِصَّتِهِمْ مِمَّا فِي أَيْدِي الَّذِينَ أَحْضَرُوهُمْ فَيُعْطِيهِمْ ذَلِكَ الْقَدْرَ. لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْإِمَامِ بِالْقِسْمَةِ قَدْ صَحَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ إلَّا فِي قَدْرِ مَا يُتَيَقَّنُ بِالسَّبَبِ الْمُبْطِلِ فِيهِ، وَذَلِكَ مِقْدَارُ حِصَّتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمْ فِي يَدِ سَائِرِ الْغَانِمِينَ، فَمَا لَمْ يُحْضِرُوهُمْ لَا يَقْضِي لَهُمْ بِهِ. 1965 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَقْسُومُ بَيْنَهُمْ جِنْسًا وَاحِدًا مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَقْسِمُ مَا فِي يَدِ الَّذِينَ أَحْضَرُوهُمْ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، كَأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَمْ تَكُنْ إلَّا ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُمْ الْغَانِمُونَ خَاصَّةً. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تَمْيِيزٌ مَحْضٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِهِ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1065 لَا تَمْنَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ مُرَابَحَةً، فَاَلَّذِينَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ قَدْ أَخَذُوا مِقْدَارَ حَقِّهِمْ وَزِيَادَةً، فَتُجْعَلُ الزِّيَادَةُ كَالتَّسَاوِي. فَأَمَّا فِي الْعُرُوضِ وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَتَمَكَّنُ مَعْنَى الْمُعَارِضَةِ فِي الْقِسْمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِينَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى قَدْرِ مَا غَرِمَ فِيهِ مِنْ الثَّمَنِ؟ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِقْدَارُ نَصِيبِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِمْ فِيمَا فِي يَدِ الَّذِينَ أَحْضَرُوهُمْ فِي الْأَصْلِ، فَيَرُدُّهُمْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ. 1966 - قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ مَاتَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَعْبُدَ وَثَلَاثِ بَنِينَ، فَقَسَمَ الْقَاضِي الْعَبِيدَ بَيْنَهُمْ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَبْدًا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ، أَوْ ظَهَرَتْ حُرِّيَّتُهُ، فَوَجَدَ (ص 354) أَحَدُ صَاحِبَيْهِ لَمْ يَأْخُذْ مِمَّا فِي يَدِهِ إلَّا قَدْرَ نَصِيبِهِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الثُّلُثُ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي فِي يَدِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمَوْزُونُ بَيْنَهُمْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقِسْمَةِ الَّتِي تَبْتَنِي عَلَى الْمِلْكِ وَهِيَ لَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ ابْتِدَاءً فَفِي، الْقِسْمَةِ الَّتِي تَبْتَنِي عَلَى الْحَقِّ وَفِيهَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ابْتِدَاءً أَوْلَى. 1967 - وَلَوْ سَمِعَ بِهَذَا الِاسْتِحْقَاقِ بَقِيَّةُ الْجُنْدِ الَّذِينَ أَخَذُوا الرَّقِيقَ فَهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ بَيْعِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَجِمَاعِ الْأَمَةِ الَّتِي أَصَابَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1066 كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، مَا لَمْ يَقْضِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِمَنْ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ بِحِصَّتِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ. لِأَنَّهُ تَمَلَّكَهَا بِالْقِسْمَةِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ ابْتِدَاءً مِنْهُ، فَلَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِإِبْطَالِ ذَلِكَ التَّمْلِيكِ عَلَيْهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَحِلُّ لِمَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ نَصِيبَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَلَا يَبِيعَهَا بَعْدَ مَا اُسْتُحِقَّ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ، لِأَنَّ هُنَاكَ الْقِسْمَةُ كَانَتْ تَمْيِيزًا لِلْمِلْكِ لَا تَمْلِيكًا ابْتِدَاءً، وَيُمْكِن فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، بِحَيْثُ إنَّ مَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخَذَ بَعْضَهُ بِنَصِيبِهِ فِيهَا وَبَعْضَهُ عِوَضًا عَنْ نَصِيبِهِ فِيمَا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ. 1968 - فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ أَوْ الِاسْتِحْقَاقُ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَقَدْ بَطَلَتْ تِلْكَ الْقِسْمَةُ وَعَادَ الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا بَيْعُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْهَا. وَحَقِيقَةُ هَذَا الْفَرْقِ تَتَبَيَّنُ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ بَعْضَهُمْ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَ لَمْ يَصِحَّ اسْتِيلَادُهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ ابْتِدَاءً، وَفِي الْمَوْرُوثِ الْمِلْكُ ثَابِتٌ لِلشُّرَكَاءِ حَتَّى يَنْفُذَ الْعِتْقُ وَالِاسْتِيلَادُ فِيهِ مِنْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. فَإِذَا بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ بِالِاسْتِحْقَاقِ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مَالِكًا لِنَصِيبِهِ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَفِي الْغَنِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ بَعْدَ بُطْلَانِ الْقِسْمَةِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1067 يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي الْغَنِيمَةِ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ لَا تَبْطُلَ الْقِسْمَةُ وَأَنْ يُعَوَّضَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ. وَفِي الْمِيرَاثِ لَوْ أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ، وَكَانَ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِنَصِيبِهِ فِيمَا أَخَذَهُ شَرِيكُهُ، شَاءَ الْحَاكِمُ أَوْ أَبَى. وَبِهِ اتَّضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ. 1969 - وَلَوْ أَنَّ الْمُوَلَّى لِقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ عَزَلَ الْخُمُسَ وَالْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا حَتَّى سُرِقَ الْخُمُسُ أَوْ هَلَكَ، أَوْ سُرِقَتْ الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِسْمَةَ فِيمَا بَقِيَ وَيَجْعَلُ مَا هَلَكَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَتِمُّ بِتَمْيِيزِهِ الْبَعْضَ مِنْ الْبَعْضِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَالْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مُقَاسِمًا مَعَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَتِمُّ الْقِسْمَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. فَلِهَذَا كَانَ هَلَاكُ مَا هَلَكَ قَبْلَ التَّمْيِيزِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ. 1970 - وَلَوْ أَعْطَى الْمَسَاكِينَ الْخُمُسَ ثُمَّ سُرِقَتْ الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ فَقَدْ سَلَّمَ لِلْمَسَاكِينِ مَا أَخَذُوا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَانِمِينَ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَدَأَ بِالْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْجُنْدِ ثُمَّ سَرَقَ الْخُمُسَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَانِمِينَ بِشَيْءٍ. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَمَّتْ هُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْبَابِ الْخُمُسِ بِدَفْعِ نَصِيبِهِمْ إلَيْهِمْ، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ كَالْوَكِيلِ مِنْ جِهَةِ الْغُزَاةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَانِمِينَ، إذَا سَلَّمَ نَصِيبَهُمْ إلَيْهِمْ، عَلَى اعْتِبَارِ (ص 355) أَنَّهُ كَالْوَكِيلِ لِلْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1068 لِلنِّيَابَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْصَى الرَّجُلُ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمَسَاكِينِ فَقَسَمَ الْقَاضِي وَأَعْطَى الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ، ثُمَّ ضَاعَ الثُّلُثُ فِي يَدِهِ، أَوْ أَعْطَى الْمَسَاكِينَ الثُّلُثَ ثُمَّ ضَاعَ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ فِي يَدِهِ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ مَاضِيَةً، وَلَا رُجُوعَ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَاضِيَ كَالنَّائِبِ عَنْ الَّذِينَ بَقِيَ نَصِيبُهُمْ فِي يَدِهِ، فَوُصُولُ نَصِيبِهِمْ إلَى نَائِبِهِمْ بِمَنْزِلَةِ وُصُولِهِ إلَيْهِمْ، فَيَكُونُ هَلَاكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. 1971 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَسَمَ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ وَجَزَّأَهَا عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ وَلَكِنْ لَمْ يُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا حَتَّى ضَاعَ بَعْضُ مَا عَزَلَ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تُنْتَقَضُ وَيَقْسِمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً مُسْتَقْبَلَةً. فَالْقِسْمَةُ لَا تَتِمُّ. لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُقَاسِمًا بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ مَا هَلَكَ يَهْلَكُ مِنْ نَصِيبِ جَمَاعَتِهِمْ وَمَا بَقِيَ يَبْقَى لِجَمَاعَتِهِمْ. 1972 - وَلَوْ كَانَ أَعْطَى الرَّجَّالَةَ سِهَامَهُمْ، وَبَقِيَتْ سِهَامُ الْخَيْلِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ الْخَمْسَ أَيْضًا، ثُمَّ ضَاعَتْ سِهَامُ الْخَيْلِ جَازَ لِلرَّجَّالَةِ مَا أَخَذُوا. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي حَقِّهِمْ تَمَّتْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ عَنْ أَصْحَابِ الْخَيْلِ. 1973 - ثُمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْسِمَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْخُمُسِ عَلَى حَقِّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ وَعَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَتِمَّ فِيمَا بَيْنَ أَرْبَابِ الْخُمُسِ وَأَصْحَابِ الْخَيْلِ حِينَ لَمْ يُعْطِ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ نَصِيبَهُ، فَمَا يُتْوَى يُتْوَى عَلَيْهِمْ، وَمَا يَبْقَى يَبْقَى لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1069 1974 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي ضَاعَ مَا عَزَلَهُ لِلْخُمُسِ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ مَا عَزَلَهُ لِأَصْحَابِ الْخَيْلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَرْبَابِ الْخُمُسِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمْ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّجَّالَةِ بِشَيْءٍ. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَمَّتْ فِي حَقِّهِمْ حِينَ قَبَضُوا نَصِيبَهُمْ، وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبَيْنَ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نَصِيبَ الْبَعْضِ لِحُرِّيَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْقَاسِمَ أَخْطَأَ، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ كَانَتْ فَاسِدَةً. وَأَمَّا هَا هُنَا فَبِهَلَاكِ الْبَعْضِ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَأُ الْقَاسِمِ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَاقِيَةً فِي نَصِيبِ مَنْ تَمَّتْ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1070 [بَابُ أَثْمَانِ الْغَنَائِمِ الَّتِي يُبَرِّئُ الْإِمَامُ مِنْهَا أَهْلَهَا] 1975 - قَالَ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَاعَهَا ثُمَّ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِيهَا. لِأَنَّ بِالْقِسْمَةِ قَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَصِيبِهِ، فَلَوْ ثَبَتَ لِلْمَدَدِ شَرِكَةٌ لَثَبَتَ بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ، فَالْمُسْلِمُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ. وَكَذَلِكَ بِالْبَيْعِ قَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ لِلْمَدَدِ فِي الْمَبِيعِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ الشَّرِكَةُ فِي الثَّمَنِ أَيْضًا، سَوَاءٌ قَبَضَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْ. لِأَنَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ لِلْغَانِمِينَ بِالْبَيْعِ. وَالشَّرِكَةُ فِي الْغَنِيمَةِ لَا فِيمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُمْ بِالْعَقْدِ. وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي تَقَابُلَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمِلْكِ، وَكَمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ يَثْبُتُ لِلْغَانِمِينَ فِي الثَّمَنِ. فَكَانَ ذَلِكَ أَقْوَى فِي قَطْعِ الشَّرِكَةِ مِنْ تَأَكُّدِ حَقِّهِمْ بِالْإِحْرَازِ. وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي الْبَيْعِ، فَكَأَنَّهُمْ بَاعُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَنُفُوذُ الْبَيْعِ مِنْ جِهَتِهِمْ آيَةُ تَأَكُّدِ حَقِّهِمْ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ، وَبَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصِيبَهُ. 1976 - فَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِينَ لَمْ يَنْقُدُوا الثَّمَنَ وَقَبَضُوا مَا اشْتَرَوْا، ثُمَّ لَحِقَهُمْ الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ عَلِمَ الْأَمِيرُ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لِلْمُسْلِمِينَ (ص 356) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1071 بِهِمْ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ اشْتَرَى مِنَّا شَيْئًا فَلْيَطْرَحْهُ. وَتَجَمَّعُوا حَتَّى تَبْلُغُوا مَأْمَنَكُمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ طَالَبَهُمْ الْأَمِيرُ بِالثَّمَنِ بَعْدَ مَا خَرَجُوا، فَقَالُوا: قَدْ طَرَحْنَا مَا اشْتَرَيْنَا بِأَمْرِك، فَلَا ثَمَنَ لَك عَلَيْنَا. أَوْ قَالُوا: اضْمَنْ لَنَا قِيمَتَهُ. فَإِنْ كَانُوا طَرَحُوا ذَلِكَ طَائِعِينَ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ عَلَى الْأَمِيرِ، وَعَلَيْهِمْ مَا الْتَزَمُوا مِنْ الثَّمَنِ. لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي الْمَبِيعِ قَدْ انْتَهَى بِالتَّسْلِيمِ وَالْتَحَقَ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ، فَهُمْ قَوْمٌ أَتْلَفُوا مِلْكَهُمْ طَوْعًا. وَالْأَمِيرُ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِمَشُورَةٍ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ غُرْمًا لَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ الثَّمَنُ الَّذِي تَقَرَّرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمْ. 1977 - وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ نَظَرَ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ نَظَرًا لَهُمْ لَمْ يَضْمَنْ لَهُمْ شَيْئًا مِمَّا طَرَحُوا. لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِالنَّظَرِ لَهُمْ، وَقَدْ فَعَلَ. وَلِأَنَّهُ أَكْرَهَهُمْ عَلَى مَا يَحِقُّ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ شَرْعًا، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ وِقَايَةً لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَا أَمَرَهُمْ إلَّا بِذَلِكَ، وَالْمُكْرَهُ بِحَقٍّ يَكُونُ مُحْسِنًا، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. 1978 - وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَكْرَهَهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَهُمْ ضَمِنَ لَهُمْ قِيمَةَ مَا طَرَحُوا. لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِيمَا أَكْرَهَهُمْ عَلَيْهِ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لَهُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُمْ وَطَرَحَهُ، فَيَضْمَنُ لَهُمْ قِيمَتَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1072 وَالثَّمَنُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُشْتَرِينَ فِي الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمْ، وَإِتْلَافُ الْبَيْعِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الثَّمَنِ وَانْتِهَاءِ الْعَقْدِ لَا يُسْقِطُ الثَّمَنَ، سَوَاءٌ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ. 1979 - وَلَوْ كَانَ قَالَ: لِيَطْرَحْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا اشْتَرَى مِنِّي وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الثَّمَنِ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ الثَّمَنِ، أَوْ إنْ طَرَحَهُ فَقَدْ أَبْرَأْته مِنْ الثَّمَنِ، فَطَرَحُوا طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ، فَالثَّمَنُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ الْأَمِيرِ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ فِيمَا بَاعَهُ لِلْغَانِمِينَ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَوْ الْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ، فَيَكُونُ كَالرَّسُولِ فِي الْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ مِنْ الثَّمَنِ. 1980 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ فَاحْتَاجُوا إلَى أَنْ يُخَفِّفُوهَا فَأَمَرَهُمْ بِالطَّرْحِ فِي الْمَاءِ، فَهُوَ كَالْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. 1981 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَائِعُ الْأَطْعِمَةِ فِي السَّفِينَةِ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ ثُمَّ نَادَاهُمْ: مَنْ طَرَحَ شَيْئًا مِمَّا اشْتَرَاهُ مِنِّي فِي الْمَاءِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَمَنِهِ، أَوْ اطْرَحُوا عَلَى أَنَّكُمْ بُرَآءُ مِنْ الثَّمَنِ، فَهَذَا بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِمْ الثَّمَنُ لَهُ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الثَّمَنُ هُنَا. لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ. وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّهُ عَلَّقَ الْإِبْرَاءَ بِالشَّرْطِ، وَالْإِبْرَاءُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالْعَقْدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1073 1982 - وَلَوْ قَالَ لَهُمْ رَجُلٌ آخَرُ: اطْرَحُوهُ عَلَى أَنَّ عَلَيَّ ثَمَنَهُ، أَوْ قِيمَتِهِ لَكُمْ، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْبَائِعُ ذَلِكَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ صَارَ فِي مِلْكِهِمْ وَضَمَانِهِمْ، فَمَنْ يُنَادِيهِمْ بِالطَّرْحِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُشِيرًا عَلَيْهِمْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِي مِلْكِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ سَبَبًا فِي الضَّمَانِ عَلَيْهِ، إذَا فَعَلَ الْمَرْءُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ فَيَبْقَى الْإِبْرَاءُ أَوْ الْعَقْدُ مُتَعَلِّقًا بِالشَّرْطِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَّضِحُ الْكَلَامُ فِي بَيْعِ الْأَمِيرِ الْغَنِيمَةَ. 1983 - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ أَمَرَ الْمُنَادِيَ فَنَادَى: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا قَدْ أَقَلْنَا الْمُشْتَرِينَ الْعَقْدَ فِيمَا اشْتَرَوْا مِنَّا فَمَنْ كَانَ اشْتَرَى شَيْئًا فَلْيَطْرَحْهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ أَقَالَهُمْ الْبَيْعَ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، كَأَصْلِ الْبَيْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَصِحُّ مِنْهُمَا الْإِقَالَةُ فِيمَا بَاعَهُ لِلْيَتِيمِ كَمَا يَصِحُّ أَصْلُ الْبَيْعِ، وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ لَا يَبْقَى الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ الْبَيْعُ عَادَ كَمَا كَانَ غَنِيمَةً، وَقَدْ طَرَحُوهُ بِأَمْرِ الْأَمِيرِ، فَكَأَنَّهُ طَرَحَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَ رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: قَدْ أَقَلْتُك الْبَيْعَ، فَاقْطَعْهُ لِي قَمِيصًا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى طَعَامًا فَقَالَ: قَدْ أَقَلْتُك الْبَيْعَ فِيهِ فَتَصَدَّقْ بِهِ عَنِّي عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْإِقَالَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَصْلِ الْعَقْدِ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الطَّعَامَ بِكَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ عَنِّي، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَاقْطَعْهُ لِي قَمِيصًا، فَفَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الْآمِرِ الثَّمَنُ، فَكَذَلِكَ الْإِقَالَةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1074 أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِينَ وَجَدُوا عَيْبًا بِالْمَبِيعِ فَقَبِلَ الْأَمِيرُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَحِيحًا، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ فِيهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِقَالَةُ مِنْهُ مَعَهُمْ فِي حَقِّ الْغَانِمِينَ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُمْ قَدْ تَأَكَّدَ فِي الثَّمَنِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِلْأَمِيرِ كَمَا فِي الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ بِالدَّارِ، وَكَمَا فِي مَالِ الْخَرَاجِ إذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ ثِيَابًا أَوْ بَاعَهَا، ثُمَّ رَأَى أَنْ يُقِيلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِيهَا صَحَّتْ الْإِقَالَةُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. 1984 - وَإِنْ لَمْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ حِينَ سَمِعُوا النِّدَاءَ حَتَّى إذَا سَارُوا مَنْقَلَةً أَوْ مِنْقَلَتَيْنِ عَمِلُوا عَمَلًا آخَرَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قَطْعِ الْمَجْلِسِ ثُمَّ طَرَحُوا ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ الثَّمَنُ. لِأَنَّ الْإِقَالَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَصْلِ الْبَيْعِ، وَكَمَا أَنَّ إيجَابَ الْبَيْعِ يَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبُولِ فَكَذَلِكَ إيجَابُ الْإِقَالَةِ، وَقَبُولُ الْإِقَالَةِ مِنْهُمْ هَا هُنَا يَكُونُ بِالطَّرْحِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ تَثْبُتْ الْإِقَالَةُ وَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمْ. 1985 - وَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرُونَ أَنَّهُمْ طَرَحُوا كَمَا سَمِعُوا وَلَا يَعْلَمْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِمْ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا مَا يُسْقِطُ الثَّمَنَ عَنْهُمْ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ ادَّعَوْا قَبُولَ الْإِقَالَةِ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إلَّا بِحُجَّةٍ. 1986 - وَلَوْ كَانَ أَمَرَ الْمُنَادِينَ حَتَّى قَالَ: مَنْ طَرَحَ مِنْكُمْ الْمَتَاعَ الَّذِي اشْتَرَى مِنَى فَقَدْ أَقَلْته الْبَيْعَ فِيهِ. فَهَذَا فِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1075 لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْإِقَالَةِ بِالشَّرْطِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ صَحِيحٌ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْقِيقُ الْإِقَالَةِ وَالْحَثُّ لَهُمْ عَلَى الطَّرْحِ. 1987 - وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَقَلْتُكُمْ عَلَى أَنْ تَطْرَحُوا، أَوْ اطْرَحُوا عَلَى الْإِقَالَةِ مِنْكُمْ لِي، وَكَذَا غَيْرُ الْأَمِيرِ مَنْ بَاعَ مَتَاعَهُ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ الْأَمِيرِ. وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ. وَالِاسْتِحْسَانُ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ إذَا قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ كَذَا دِرْهَمًا ثَمَنَ الثَّوْبِ فَقَدْ بِعْته مِنْك، فَأَدَّى الثَّمَنَ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ بَيْعًا صَحِيحًا اسْتِحْسَانًا، فَكَذَلِكَ الْإِقَالَةُ. 1988 - وَلَوْ كَانَ سَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ الْمُنَادِي بَعْضُ النَّاسِ، ثُمَّ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ النِّدَاءَ فَهَذَا وَمَا لَوْ سَمِعُوا جَمِيعًا مِنْ الْمُنَادِي سَوَاءٌ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ أَذِنَ بِتَبْلِيغِ كَلَامِهِ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ دَلَالَةً لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ، كَمَا أَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُنَادِي فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ تَاجِرًا بَاعَ مَتَاعَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ فِي إيجَابِ الْإِقَالَةِ بَعْضُ الْمُشْتَرِينَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ سَمِعَ فَطَرَحَ مَعَهُمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، لِأَنَّ الْمُبَلِّغَ لَمْ يُرْسِلْهُ الْبَائِعُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّبْلِيغِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَصْلًا فَأَمَّا الْأَمِيرُ فَإِنَّهُ أَذِنَ فِي التَّبْلِيغِ دَلَالَةً لِأَنَّ مَبْنَى كَلَامِ الْأَمِيرِ فِيمَا يُخَاطِبُ بِهِ رَعِيَّتَهُ عَلَى الِانْتِشَارِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ التَّاجِرِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ الْإِقَالَةُ تُعْتَبَرُ بِالْعَقْدِ. وَلَوْ قَالَ التَّاجِرُ: قَدْ بِعْت عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا. فَبَلَّغَهُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ رَسُولًا إلَيْهِ، فَقَبِلَ، لَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: فَأَبْلِغْهُ يَا فُلَانُ. فَذَهَبَ فَأَبْلَغَهُ كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا صَحِيحًا إذَا قَبِلَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1076 وَكَذَلِكَ لَوْ ذَهَبَ رَجُلٌ آخَرُ فَأَبْلَغَهُ، لِأَنَّهُ حِينَ قَالَ: فَأَبْلِغْهُ يَا فُلَانُ فَقَدْ أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ الرِّضَا بِالتَّبْلِيغِ إلَيْهِ، فَكُلُّ مَنْ بَلَّغَهُ فَقَبِلَ الْبَيْعَ، كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِقَالَةِ. وَبِهِ يَتَّضِحُ فَصْلُ الْأَمِيرِ حِينَ أَمَرَ الْمُنَادِيَ بِهِ. لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ لِلْمُنَادِي، فَتَبْلِيغُهُ وَتَبْلِيغُ غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ. 1989 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ بِنَفْسِهِ: قَدْ أَقَلْتُكُمْ الْبَيْعَ، فَاطْرَحُوا مَا اشْتَرَيْتُمْ مِنِّي وَلْيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ. فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ، فَعِبَارَةُ كُلِّ مُبَلِّغٍ تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عِبَارَتِهِ. 1990 - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَبْرَأُ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ الْأَمِيرِ، كَمَا فِي حَقِّ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: هُمْ بُرَآءُ مِنْ الثَّمَنِ إذَا طَرَحُوا حِينَ بَلَّغَهُمْ مَقَالَةَ الْأَمِيرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَبْنَى كَلَامِ الْأَمِيرِ عَلَى الِانْتِشَارِ وَالظُّهُورِ عَادَةٌ، وَالْعَادَةُ تُعْتَبَرُ فِي تَقْيِيدِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ. فَكَانَ هَذَا وَالتَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: فَلْيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ سَوَاءً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1077 [بَابُ قِسْمَةِ الْخُمُسِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ] 111 - بَابُ قِسْمَةِ الْخُمُسِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ 1991 - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَزَلَ الْخُمُسَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَى أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى أَتَاهُمْ جَيْشٌ آخَرُ مَدَدٌ أَقَلَّهُمْ الشَّرِكَةَ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمِيرَ لَا يُقَاسِمُ نَفْسَهُ، وَأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ بِهَذَا الْعَزْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سُرِقَ الْمَعْزُولُ لِلْخُمْسِ كَانَ الْبَاقِي مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَأَرْبَابِ الْخُمُسِ أَخْمَاسًا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سُرِقَ الْبَعْضُ قَبْلَ الْعَزْلِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ قِسْمَةً فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَدَدَ لَحِقُوهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ، وَكَانُوا شُرَكَاءَ الْجَيْشِ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ. 1992 - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ أَعْطَى الْخُمُسَ الْمَسَاكِينَ، وَلَمْ يَقْسِمْ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ بَيْنَ الْجُنْدِ حَتَّى لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ، فَلَا شَرِكَةَ لَهُمْ مَعَ الْجَيْشِ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ هَا هُنَا. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ بِتَسْلِيمِ الْخَمْسِ إلَى أَرْبَابِ الْخُمُسِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْغَانِمِينَ رُجُوعٌ عَلَى أَرْبَابِ الْخُمُسِ بِشَيْءٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1078 وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لِلْمَدَدِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: شَرِكَةُ الْمَدَدِ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ الْخُمُسِ، وَلَمْ تُوجَدْ الْقِسْمَةُ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ حَقِّهِمْ فَكَيْفَ تَنْقَطِعُ شَرِكَتُهُمْ بِقِسْمَةٍ وَقَعَتْ لَا فِي مَحَلِّ حَقِّهِمْ؟ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَمِنْ ضَرُورَةِ تَقَرُّرِ الْقِسْمَةِ فِي الْمَصْرُوفِ إلَى أَرْبَابِ الْخُمُسِ ثُبُوتُ حُكْمِ الْقِسْمَةِ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَدَدَ لَوْ اسْتَحَقُّوا الشَّرِكَةَ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ وَإِذَا صَارَ نَصِيبُهُمْ كَالْغَنِيمَةِ ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ الْخَمْسِ فِيهَا، إذْ الْخُمُسُ يَجِبُ فِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ هَا هُنَا، ثُمَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ (ص 359) هَا هُنَا أَنْ تُجْعَلَ الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّنْفِيلِ. لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْخَمْسِ فِيمَا يُجْعَلُ لِلْمَدَدِ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّفْلِ. 1993 - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ نَفَلَ سَرِيَّةً بَعْضَ مَا أَصَابُوا، ثُمَّ لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِكَةٌ مَعَ السَّرِيَّةِ فِي النَّفْلِ، وَكَذَلِكَ هَا هُنَا، لَا يَكُونُ لِلْمَدَدِ شَرِكَةٌ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ إذَا لَحِقُوهُمْ بَعْدَ مَا صَرَفَ الْخَمْسَ إلَى أَرْبَابِهَا. 1994 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْأَمِيرُ قَسَمَ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ بَيْنَ أَهْلِهَا وَلَمْ يَقْسِمْ الْخُمُسَ حَتَّى لَحِقَ الْمَدَدُ، أَوْ كَانَ أَخَذَ بَعْضُ الْقَوْمِ سِهَامَهُمْ وَبَقِيَ الْخُمُسُ وَسِهَامُ بَعْضِهِمْ، فَلَا شَرِكَةَ لِلْمَدَدِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْقِسْمَةِ بِمَا صَنَعَهُ الْأَمِيرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1079 1995 - وَلَوْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ عَجَّلَ لِرَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ نَصِيبَهُمَا مِنْ الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ جَيْشٌ آخَرُ شَرَكُوهُمْ فِي الْمُصَابِ. 1996 - وَلَوْ عَجَّلَ ذَلِكَ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُشْرِكْهُمْ الْمَدَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ. أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لِلْمَدَدِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ نَوْعُ قِسْمَةٍ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ، إذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي نَصِيبِ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ الْقِسْمَةُ، وَيُعَوَّضُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نَصِيبَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، فَلِمَا فَصَلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي بَعْضِ الْقِسْمَةِ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَكَذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْقِسْمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَ لِنَفَرٍ يَسِيرٍ نَصِيبَهُمْ أَوْ لِجَمْعٍ كَثِيرٍ، فَلَا يَجْعَلُ تَعْجِيلَهُ لِلْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى قِسْمَةً، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْغَنِيمَةِ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَا صَنَعَهُ مَعَ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ إذَا صَنَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّ جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْهُمْ، لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْعُمُومِ فِيمَا صَنَعَهُ. أَرَأَيْت لَوْ أَعْطَى نَصِيبَ الْفُرْسَانِ وَبَقِيَتْ الرَّجَّالَةُ، أَوْ أَعْطَى نَصِيبَ أَكْثَرِ الْجُنْدِ وَبَقِيَ فِي يَدِهِ نَصِيبُ مِائَةِ رَجُلٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَكَانَ لِلْمَدَدِ شَرِكَةٌ إذَا لَحِقُوا بَعْدَ ذَلِكَ؟ هَذَا مِمَّا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ. 1997 - وَلَوْ أَنَّ الْمَدَدَ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إلَى الْجَيْشِ حَتَّى قَسَمَ الْإِمَامُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَلَا شَرِكَةَ لِلْمَدَدِ إذَا لَحِقُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ لِلْمَدَدِ عِنْدَ اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ وَلَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَدَدِ مَعَهُمْ شَرِكَةٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبِرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1080 حَالَ لُحُوقِهِمْ بِهِمْ لَا حَالَ دُخُولِهِمْ دَارَ الْحَرْبِ، وَعِنْدَ اللُّحُوقِ بِهِمْ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ الشَّرِكَةَ فِي الْغَنِيمَةِ لَا فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ، وَقَدْ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ بِالْقِسْمَةِ هَا هُنَا قَبْلَ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ. - وَلَوْ كَانُوا نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يَكُونُوا عَوْنًا لَهُمْ إنْ احْتَاجُوا إلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِطُوهُمْ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهَا. لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ لِلْمَدَدِ فِي الْغَنِيمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجَيْشَ يَتَقَوَّوْنَ بِهِمْ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا خَالَطُوهُمْ وَبَيْنَ مَا إذَا نَزَلُوا بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ. 1999 - فَإِذَا قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْطِ الْعَسْكَرَ الثَّانِيَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ رَفَعَ الْعَسْكَرُ الثَّانِي الْأَمْرَ إلَى الْخَلِيفَةِ فَإِنَّهُ يُمْضِي مَا صَنَعَ الْأَوَّلُ. لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ لِلْمَدَدِ مَعَ الْجَيْشِ إذَا لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَمِيرُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَصْنَعُ مِنْ الْقِسْمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الْمُجْتَهَدِ نَافِذٌ إذَا رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ لَمْ يَنْقُضْهُ، فَكَذَلِكَ مَا صَنَعَهُ الْأَمِيرُ هَا هُنَا. 2000 - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ بَاعَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَشَرَطَ الْمُشْتَرُونَ الْخِيَارَ لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا فَرَدُّوا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ (ص 360) أَوْ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، أَوْ رَدُّوا ذَلِكَ بِعَيْبٍ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرِكَةٌ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الْبَيْعَ فِيهَا قَدْ نَفَذَ وَلَزِمَ مِنْ الْأَمِيرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1081 أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِينَ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَمَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُشْتَرُونَ إنْ لَمْ يَمْلِكُوا فَقَدْ صَارُوا أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِحُكْمِ الشِّرَاءِ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ غَنِيمَةً وَالْتَحَقْت بِسَائِرِ أَمْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَكُونُ لِلْمَدَدِ فِيهَا شَرِكَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ لَحِقُوا بِهِمْ، وَالْمُشْتَرُونَ عَلَى خِيَارِهِمْ لَمْ يَنْقُضُوا الْبَيْعَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرِكَةٌ فِي الثَّمَنِ إذَا تَمَّ الْبَيْعُ؟ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُمْ شَرِكَةٌ فِي الْمَبِيعِ إذَا نُقِضَ الْبَيْعُ وَصَارَ عَوْدُهُ إلَى يَدِ الْإِمَامِ، يُنْقَضُ الْبَيْعُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، بِمَنْزِلَةِ الْعَوْدِ بِالْإِقَالَةِ إذَا الْتَمَسَ ذَلِكَ الْمُشْتَرُونَ مِنْهُ. 2001 - وَلَوْ قَسَمَ الْأَمِيرُ الْخُمُسَ وَأَعْطَى لِلْمَسَاكِينِ، ثُمَّ رَأَى أَنْ يَبِيعَ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ وَيَقْسِمَ ثَمَنَهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْهُ. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَإِنْ تَحَقَّقَتْ بَيْنَ الْغُزَاةِ وَأَرْبَابِ الْخُمُسِ فَالْمِلْكُ لَمْ يَثْبُتْ لِلْغُزَاةِ فِي نَصِيبِهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ بَاعُوا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمْ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُمْ كَانَتْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فِي الْبَيْعِ وَقِسْمَةِ الثَّمَنِ بَاقِيَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَسَمَ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ بَاعَ الْخُمُسَ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مِنْهُ؟ فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ. 2002 - وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْبَيْعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ بَعْدَ نَقْضِ الْبَيْعِ أَوْ قَبْلَهُ، فَهُمْ شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِي الْمَبِيعِ إنْ اُنْتُقِضَ الْبَيْعُ فِي الثَّمَنِ، وَفِي الثَّمَنِ إنْ تَمَّ الْبَيْعُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1082 لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْبَائِعِ، فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ فَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الْغَنِيمَةِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ ابْتِدَاءً عَنْ إسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، فَيَكُونُ هُوَ كَالْبَائِعِ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ. 2003 - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ عَزَلَ الْخُمُسَ وَأَعْطَاهُ الْمَسَاكِينَ وَلَمْ يَقْسِمْ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ حَتَّى أَعْتَقَ رَجُلٌ جَارِيَةً مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ اسْتَوْلَدَهَا لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُ. لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ لِلْغَانِمِينَ، وَبِدُونِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَاءُ وَالْإِعْتَاقُ. وَبِأَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَدَدِ شَرِكَةٌ إذَا لَحِقُوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ، كَمَا يُعَدُّ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْعِتْقُ وَالِاسْتِيلَادُ. 2004 - وَإِنْ كَانَ لَوْ لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْعُقْرُ عَلَى الْوَطْءِ هَا هُنَا. لِأَنَّ بِمَا صَنَعَ الْإِمَامُ صَارَتْ هَذِهِ كَالْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ بِالدَّارِ فِي تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِيهَا، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْوَاطِئِ لِلشُّبْهَةِ، فَيَجِبُ الْعُقْرُ، وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ مَعَ وَلَدِهَا فِي الْغَنِيمَةِ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ. وَلِأَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْلِ، وَالِاسْتِيلَادُ وَالْإِعْتَاقُ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّفْلِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1083 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَدَدِ مِنْهُمْ شَرِكَةٌ فَكَذَلِكَ هَذَا. 2005 - وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ قَسَمَ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ بَيْنَ الْعُرَفَاءِ وَأَهْلِ الرَّايَاتِ، ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْضَهُمْ عَبْدًا، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَهُ يَنْفُذُ هَا هُنَا اسْتِحْسَانًا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يُعْتِقُهُ بَعْضُهُمْ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ مَاتَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ بَعْدَ مَا أَعْطَى الْأَمِيرُ الْخُمُسَ لِلْمَسَاكِينِ فَإِنَّ نَصِيبَهُ يَصِيرُ مِيرَاثًا. لِأَنَّ نُفُوذَ (ص 361) الْقِسْمَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ أَوْ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ وَالْإِرْثُ يَجْرِي فِي الْحَقِّ الْمُتَأَكِّدِ كَمَا يَجْرِي فِي الْمِلْكِ. 2006 - وَكَذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ وَأَحْرَزُوهَا بِالدَّارِ، ثُمَّ ظَهَرَ جَيْشٌ آخَرُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَهَا الْجَيْشُ الْأَوَّلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْغَنَائِمِ الْمُحْرَزَةِ بِالدَّارِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْجَيْشَ الثَّانِيَ مَلَكُوهَا بِالْقِسْمَةِ، وَالْجَيْشَ الْأَوَّلَ مَا كَانُوا يَمْلِكُونَهَا، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْأَخْذِ مَجَّانًا وَلَا بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا. فَأَمَّا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْجَيْشُ الثَّانِي لَا يَمْلِكُونَهَا، وَإِنْ تَأَكَّدَ حَقُّهُمْ فِيهَا بِالْإِحْرَازِ، وَقَدْ كَانَ حَقُّ الْأَوَّلِينَ مُتَأَكِّدًا فِيهَا فَيُتَرَجَّحُونَ بِالسَّبَقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1084 2007 - وَإِنْ كَانَ حُضُورُ الْجَيْشِ الْأَوَّلِ بَعْدَ قِسْمَةِ الْأَمِيرِ الْخُمُسَ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ فَهُمْ أَحَقُّ بِالْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ. لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِلْجَيْشِ الثَّانِي بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ. وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى مَا أَخَذَهُ الْمَسَاكِينُ. لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لَهُمْ. 2008 - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ قَسَمَ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ بَيْنَ الْجُنْدِ الثَّانِي وَبَقِيَ الْخُمُسُ فَالْجَيْشُ الْأَوَّلُ يَأْخُذُونَ الْخُمُسَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَى الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ. لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا لِلْجُنْدِ الثَّانِي. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ بَاعَ الْغَنَائِمَ كُلَّهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ حَضَرَ الْجَيْشُ الْأَوَّلُ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا. لِأَنَّهَا بِالْبَيْعِ صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِينَ، فَنَفَذَ فِيهَا عِتْقُهُمْ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِينَ وِلَايَةُ إبْطَالِ الْمِلْكِ الْمُتَعَيِّنِ لِمَكَانِ مِلْكِ حَقٍّ كَانَ لَهُمْ فِيهَا وَلَمْ يَصِرْ مِلْكًا بَعْدُ. 2009 - وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ خَمَّسَهَا وَقَسَمَهَا بَيْنَ أَهْلِ الرَّايَاتِ وَبَيْنَ الْأَشْخَاصِ مِنْ الْجُنْدِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهَا وَأَحْرَزُوهَا، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ جَيْشٌ آخَرَ فَأَخْرَجُوهَا، وَحَضَرَ أَصْحَابُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1085 الْأَوَّلُونَ، فَإِنْ حَضَرُوا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ حَضَرُوا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا. لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَبَتَ لَهُمْ بِالْقِسْمَةِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ أَوْ بَيْنَ أَهْلِ الرَّايَاتِ، حَتَّى كَانَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا وَالِاسْتِيلَاءُ الْوَارِدُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيلَاءِ الْوَارِدِ عَلَى سَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1086 [بَابُ الْعَيْبُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ قَبْلَهَا] 112 - بَابُ الْعَيْبُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ قَبْلَهَا 2010 - وَإِذَا عَزَلَ الْأَمِيرُ الْخُمُسَ عَلَى حِدَةٍ وَالْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَعَدَلَ فِي الْقِسْمَةِ، ثُمَّ وَجَدَ بِبَعْضِ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَيْبًا قَبْلَ دَفْعِ نَصِيبِ كُلِّ فَرِيقٍ إلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَسِيرًا أَمْضَى الْقِسْمَةَ عَلَى حَالِهَا. لِأَنَّ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَالْعَيْبُ الْيَسِيرُ فِيمَا بُنِيَ عَلَى التَّوَسُّعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، كَمَا فِي الصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ هَذَا الْعَيْبُ بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ؟ فَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ. قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِأَجْلِهِ إتْمَامُ الْقِسْمَةِ. 2011 - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا فَاحِشًا وَجَدَهُ بِبَعْضِهِمْ، أَوْ عُيُوبًا كَثِيرَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ وَجَدَهَا بِجَمَاعَةِ الرَّقِيقِ، بِحَيْثُ إذَا جُمِعَتْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْقِسْمَةَ أَيْضًا، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى هَذَا النُّقْصَانِ فَيَجْمَعُهُ ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ حَتَّى تَحْصُلَ الْمُعَادَلَةُ. لِأَنَّ الْعَيْبَ الْفَاحِشَ مُعْتَبَرٌ لِمَا فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ الْفَائِدَةِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى التَّوَسُّعِ (ص 362) ، وَفِيمَا بُنِيَ عَلَى الضِّيقِ، إلَّا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى نَقْضِ مَا بَاشَرَهُ مِنْ عَمَلِ الْقِسْمَةِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمُعَادَلَةُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالزِّيَادَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1087 مِنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُضَ مَا صَنَعَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْقِسْمَةُ لَا تَقَعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ بِالِاسْتِئْنَافِ عَلَى وَجْهٍ يَعْتَدِلُ فِيهِ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. قُلْنَا: مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْعَزْلِ هُوَ مِنْ عَمَلِ الْقِسْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ، فَبِظُهُورِ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَامَ بَعْضَ الْعَمَلِ دُونَ الْبَعْضِ، فَإِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِمُبَاشَرَةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ لَا بِنَقْضِ مَا قَدْ أَتَى بِهِ. 1012 - وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ لِلْخُمُسِ حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ مَا صَنَعَ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ مِقْدَارَ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ هَذَا الَّذِي وَجَدَهُ حُرًّا. لِأَنَّ الْمُعَادَلَةَ بِذَلِكَ تَحْصُلُ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ. فَإِنَّ خُمُسَ هَذَا الَّذِي وَجَدَهُ حُرًّا مِنْ نَصِيبِ أَرْبَابِ الْخُمُسِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ مِنْ نَصِيبِ الْغَانِمِينَ، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إذْ الْقِسْمَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ. فَأَمَّا إذَا أَخَذَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ مِمَّا بَقِيَ وَجَعَلَهُ لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ يَزْدَادُ نَصِيبُهُمْ، لَا أَنْ يَحْصُلَ بِهِ الْمُعَادَلَةُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: هُوَ حِينَ جَعَلَ هَذَا فِي حِصَّةِ أَرْبَابِ الْخُمُسِ فَقَدْ جَعَلَ خُمُسَهُ لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ، بِاعْتِبَارِ أَصْلِ حَقِّهِمْ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُمْ عِوَضًا عَمَّا سَلَّمَهُ لِلْغَانِمِينَ مِنْ نَصِيبِ أَرْبَابِ الْخُمُسِ فِيمَا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمُعَوَّضِ بِالْعِوَضِ. 2013 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ وَجَدَ هَذَا بَعْدَ إتْمَامِ الْقِسْمَةِ بِتَسْلِيمِ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ إلَى الْغَانِمِينَ وَقِسْمَتِهِ بَيْنَهُمْ، أَوْ وَجَدَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَسَمَ الْخُمُسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1088 بَيْنَ أَهْلِهِ دُونَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْقِسْمَةَ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمُعَادَلَةُ عِنْدَ الْكَثْرَةِ، وَعِنْدَ الْقِلَّةِ يَصِيرُ إلَى التَّعْوِيضِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ إنْ كَانَ وَقَعَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْغَانِمِينَ، وَإِنْ كَانَ وَقَعَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْخُمُسِ يَرْجِعُ بِحِصَّتِهِ فِيمَا صَارَ لِلْغَانِمِينَ. ثُمَّ إنْ شَاءَ أَعْطَى ذَلِكَ مَنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِسْكِينًا آخَرَ. لِأَنَّ بِظُهُورِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ دَفْعُهُ فِيمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ، فَيَبْقَى رَأْيُهُ فِي اخْتِيَارِ الْمَصْرِفِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ فِي الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ، فَالرَّأْيُ إلَيْهِ فِي أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى ذَلِكَ الْمِسْكِينِ أَوْ غَيْرِهِ. وَمَا بَعْدَ هَذَا إلَى آخَرِ الْبَابِ مُعَادٌ كُلُّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1089 [بَابُ مَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْمَقَاسِمِ لِلْغَنَائِمِ وَمَا لَا يَجُوزُ] 113 - بَابُ مَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْمَقَاسِمِ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ وَمَا يَكُونُ قَبْضًا فِي الْبَيْعِ وَمَا لَا يَكُونُ 2014 - وَإِذَا بَاعَ الْمُوَلَّى لِلْقِسْمَةِ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا، فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِقَدْرِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ. لِأَنَّ فِعْلَ الْمُوَلَّى كَفِعْلِ الْإِمَامِ بِنَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ حَقُّ الْغَانِمِينَ، وَنُفُوذُ الْبَيْعِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَالْبَيْعُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى النَّظَرِ. فَأَمَّا بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى النَّظَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ عَادَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ بَيْعَ مَالِ (ص 363) الصَّغِيرِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ، وَلَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَنْ بَاشَرَ الْبَيْعَ فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ وَلَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فِي نَصِيبِهِ مُطْلَقًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ بَيْعُهُ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. قُلْنَا: لَا مِلْكَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ فِي شَيْءٍ إذَا لَمْ يُوَلِّهِ الْإِمَامُ ذَلِكَ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَنْفِيذَ بَيْعِهِ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّظَرِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُحَابَاةَ الْفَاحِشَةَ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَهُوَ لَوْ وَهَبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ هِبَتُهُ فِي الْكُلِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1090 فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِنَّهُ حِينَ افْتَتَحَ الْعِرَاقَ بَاعَ مِنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ طَسْتًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهَا الْمِسْوَرُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: لَا تَتَّهِمْنِي، وَرَدَّ الطَّسْتَ. فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَرَى أَنِّي قَدْ حَابَيْتُك؛ فَرَدَّهُ. ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ رَعِيَّتِي. تَخَافُنِي فِي آفَاقِ الْأَرْضِ. وَمَا زَادَنِي عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ هَذَا الْبَيْعُ. جَائِزًا لَأَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرَدِّ الطَّسْتِ عَلَيْهِ. 2015 - فَإِنْ اشْتَرَى الْمُوَلَّى شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لِنَفْسِهِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا بَائِعًا مِنْهَا. فَإِنَّ الْوَاحِدَ لَا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضَادِّ الْأَحْكَامِ. مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هَذَا الْجَوَابُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْغَانِمِينَ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ بَيْعَهُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ هَذَا قَضَاءً مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَلَوْلَا هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْبَيْعُ عِنْدَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1091 جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ إنَّمَا لَا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ تَلْحَقُهُ فَيُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. 2016 - فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَارِيَةً وَأَشْهَدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِنَفْسِهِ بِثَمَنٍ قَدْ سَمَّاهُ فَحَبِلَتْ مِنْهُ وَوَلَدَتْ رُدَّتْ فِي الْغَنِيمَةِ مَعَ عُقْرِهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بَاطِلًا وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ 2017 - وَفِي الْقِيَاسِ الْوَلَدُ مَرْدُودٌ فِي الْغَنِيمَةِ أَيْضًا، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ. كَمَا لَوْ كَانَ فَعَلَ هَذَا قَبْلَ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ. 2018 - وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَ الْوَلَدَ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ. لِأَجْلِ الْغُرُورِ الثَّابِتِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، أَوْ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُجْعَلُ هُوَ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ، بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِيمَا يَشْتَرِي مِنْ مَالِ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّ وِلَايَةَ الْبَيْعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْغُرُورِ، فَلِهَذَا كَانَ ابْنُهُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ. 2019 - فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْغَنِيمَةِ إنْ لَمْ يَقْسِمْهَا، وَإِنْ كَانَ قَسَمَهَا وَقَسَمَ الثَّمَنَ الَّذِي غَرِمَ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يُعْطِيهِ الثَّمَنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ الَّذِي غَرِمَ، وَمِنْ الْعُقْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1092 لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ عَلَيْهِ لِلْغَانِمِينَ وَالثَّمَنُ الَّذِي فِي الْغَنِيمَةِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، فَيُجْعَلُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْآخَرِ. 2020 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ بَاعَ الْجَارِيَةَ فَأَوْفَاهُ بَقِيَّةَ الثَّمَنِ، ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ قِسْمَتُهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ لِتَفَرُّقِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ الْحِيلَةَ لِلْمُوَلَّى (ص 364) إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا لِنَفْسِهِ. 2021 - فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ بِأَقْصَى ثَمَنِهِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا يَقْبِضُ الثَّمَنَ مِنْهُ كُلَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَبْضِ الثَّمَنِ. لِأَنَّ فِي هَذَا كَحَالِ الْقَاضِي فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِنَّ إبِلًا مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ أَتَى بِهَا عُثْمَانُ فَأَعْجَبَتْهُ، فَأَقَامَهَا فِي السُّوقِ حَتَّى بَلَغَتْ أَقْصَى ثَمَنِهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا بِذَلِكَ. فَأَتَى النَّاسُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعَ. فَأَتَاهُ وَقَالَ لَهُ: هَلْ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟ وَأَمَرَهُ بِرَدِّ ذَلِكَ. وَكَانَ هَذَا أَوَّلُ مَا عِيبَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِذَا كَانَ هَذَا يُرَدُّ عَلَى مِثْلِ عُثْمَانَ فَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلِي الْمَقَاسِمَ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1093 وَلَوْ أَنَّ الْمُوَلَّى لِلْقِسْمَةِ جَزَّأَهَا وَبَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ رَجُلٍ، وَأَقْرَعَ عَلَيْهَا فَخَرَجَ نَصِيبُهُ فِيمَا خَرَجَ جَازَ قَبْضُ الْمُوَلَّى لِنَصِيبِ نَفْسِهِ، وَإِنْ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْقِسْمَةَ، كَمَا يَجُوزُ الْقَبْضُ مِنْ غَيْرِهِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ. لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي تَمْيِيزِ نَصِيبِ نَفْسِهِ بِالْقُرْعَةِ، وَإِنَّمَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِيمَا يَخُصُّ بِهِ نَفْسَهُ، لَا فِيمَا تَسْتَوِي نَفْسُهُ فِيهِ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي التَّنْفِيلِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ أَنَّ الْقِسْمَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا تَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، بَلْ بِهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ يَقْبِضُونَ أَنْصِبَاءَهُمْ كَمَا يَقْبِضُ هُوَ نَصِيبَهُ، وَلَا تَتِمُّ الْقِسْمَةُ إلَّا بِالْقَبْضِ. فَإِذَا كَانَ تَمَامُ الْقِسْمَةِ بِهِمْ جَمِيعًا كَانَ مُسْتَقِيمًا. فَأَمَّا الْبَيْعُ لَوْ صَحَّ كَانَ تَمَامُهُ بِهِ وَحْدَهُ، وَالْبَيْعُ لَا يَتِمُّ بِالْوَاحِدِ مُبَاشَرَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ لَوْ قَسَمَ التَّرِكَةَ بِرِضَاءِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَقَبَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصِيبَهُ بَعْدَ الْإِقْرَاعِ جَازَ؟ وَبِمِثْلِهِ لَوْ اشْتَرَى أَحَدُ الْوَرَثَةِ نَصِيبَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِنْ التَّرِكَةِ مِنْ نَفْسِهِ بِرِضَاهُمْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُوَلَّى لِلْقِسْمَةِ فِي الْغَنِيمَةِ. 2023 - وَلَوْ أَنَّ الْمُوَلَّى لِبَيْعِ الْغَنَائِمِ جَعَلَ رَمَكًا فِي حَظِيرَةٍ ثُمَّ بَاعَ رَمَكَةً بِعَيْنِهَا وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: اُدْخُلْ الْحَظِيرَةَ فَاقْبِضْهَا، فَقَدْ خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهَا. فَدَخَلَ الرَّجُلُ وَعَالَجَهَا، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ. وَخَرَجَتْ مِنْ بَابِ الْحَظِيرَةِ. فَيُطَالِبُهُ الْمُشْتَرِي بِرَدِّ الثَّمَنِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهَا. فَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ قَبْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَكُونُ مِنْ الْمُشْتَرِي، تَارَةً بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ بَعْدَ تَخْلِيَةِ الْبَائِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَتَارَةً يَكُونُ بِمُبَاشَرَةِ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ. فَفِي التَّخْلِيَةِ يُعْتَبَرُ التَّمَكُّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ لِيَصِيرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1094 قَابِضًا، وَفِي مُبَاشَرَةِ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ التَّمَكُّنُ مِنْ تَقْرِيرِ الْيَدِ فِيهِ، لِأَنَّ هَذَا تَسْلِيمٌ حَقِيقَةً، وَحَقِيقَةُ الشَّيْءِ تَثْبُتُ بِوُجُودِهِ. وَالْأَوَّلُ تَسْلِيمٌ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَيَسْتَدْعِي التَّمَكُّنَ مِنْ قَبْضِهِ. 2024 - إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا كَانَتْ الرَّمَكَةُ فِي الْحَظِيرَةِ بِحَيْثُ يَقْدِرُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِهَا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ إلَّا بِتَوْهِيقٍ أَوْ نَحْوِهِ وَكَانَتْ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْحَظِيرَةِ قَبْلَ فَتْحِ الْبَابِ فَهَذَا قَبْضٌ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِتَمَامِ التَّسْلِيمِ مِنْ الْبَائِعِ بِالتَّخْلِيَةِ. فَإِنَّهُ صَارَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِهَا 2025 - وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا، أَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ تَقْدِرُ أَنْ تَنْفَلِتَ مِنْهُ وَلَا يَضْبِطَهَا فَلَيْسَ هَذَا بِقَبْضٍ (ص 365) مِنْ الْمُشْتَرِي. لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ لَمْ تُوجَدْ حُكْمًا فَإِنَّهَا تَمْكِينٌ مِنْ الْقَبْضِ، وَالتَّمْكِينُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّمَكُّنِ. 2026 - وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا وَحْدَهُ وَيَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهُ أَعْوَانٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِهَا. فَإِنْ تَمَكَّنَ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ عِنْدَ وُجُودِ أَعْوَانٍ لَهُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بِنَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْلِ الْخَشَبَةِ الثَّقِيلَةِ بِأَعْوَانٍ يُعِينُونَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بِنَفْسِهِ؟ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا وَحْدَهُ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ حَبْلٌ وَإِنَّمَا انْفَلَتَتْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حَبْلٌ فَهَذَا لَا يَكُونُ قَبْضًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1095 لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الشَّيْءِ بِوُجُودِ آلَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ مَعَ انْعِدَامِ تِلْكَ الْآلَةِ. 2027 - فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ حَبْلٍ وَلَا عَوْنٍ. أَوْ بِحَبْلٍ وَمَعَهُ حَبْلٌ، أَوْ بِعَوْنٍ وَمَعَهُ عَوْنٌ، وَقَدْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، فَالثَّمَنُ لَازِمٌ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهَا، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى انْفَلَتَتْ كَانَ مُضَيِّعًا لَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَتَهْلَكُ مِنْ مَالِهِ. 2028 - وَإِنْ كَانَتْ الرَّمَكَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ هُوَ مُمْسِكٌ لَهَا فَقَالَ الْمُشْتَرِي: هَاكَ الرَّمَكَةُ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِهِ فَهِيَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي. لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهَا حَقِيقَةً حِينَ وَضَعَهَا فِي يَدِهِ، وَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْقَبْضِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُشْتَرِي لِإِبْقَاءِ يَدِهِ فِيهَا. 2029 - فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ عَلَى حَالِهَا وَيَدِ الْمُشْتَرِي جَمِيعًا وَالْبَائِعُ يَقُولُ: قَدْ خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهَا، وَلَسْتُ أُمْسِكُهَا مَنْعًا مِنِّي لَهَا، إنَّمَا أُمْسِكُهَا حَتَّى تَضْبِطَهَا، فَانْفَلَتَتْ فَهَذَا أَيْضًا قَبْضٌ مِنْ الْمُشْتَرِي. لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ فِي اسْتِدَامَةِ يَدِ نَفْسِهِ مُعِينٌ لِلْمُشْتَرِي عَلَى تَقْرِيرِ يَدِهِ عَلَيْهَا، لَا مَانِعَ لَهَا مِنْهُ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ قِيلَ: كَانَتْ الرَّمَكَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَبَقَاءُ يَدِهِ فِيهَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْيَدِ لِلْغَيْرِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ يَدُ الْمَالِكِ عَلَيْهَا لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ. قُلْنَا: بَقَاءُ يَدِهِ عَلَيْهَا يَمْنَعُ يَدَ الْغَيْرِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، فَأَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1096 عَلَى طَرِيقِ التَّمْكِينِ إيَّاهُ فَلَا، ثُمَّ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَفْوِيتِ يَدِ الْمَالِكِ لَا بِمُجَرَّدِ إثْبَاتِ الْيَدِ لِنَفْسِهِ، وَهَاهُنَا دُخُولُ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ قَبْلَ النَّقْلِ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ وَلَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالتَّخْلِيَةِ فِي حُكْمِ الْغَصْبِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ النَّقْلِ ثُمَّ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ شَيْئًا 2030 - وَإِنْ كَانَتْ الرَّمَكَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَلَمْ تَصِلْ إلَى يَدِ الْمُشْتَرِي فَقَالَ الْبَائِعُ: قَدْ خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهَا فَاقْبِضْهَا فَإِنِّي أُمْسِكُهَا لَك فَانْفَلَتَتْ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَبْضًا مِنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا وَضَبْطِهَا. لِأَنَّ لِلْبَائِعِ فِيهَا يَدًا حَقِيقَةً، وَلَا يَنْسَخُ حُكْمَ تِلْكَ الْيَدِ إلَّا مَا هُوَ مِثْلُهَا، وَتَمَكُّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهَا بِالتَّخْلِيَةِ لَا يَكُونُ مِثْلَ حَقِيقَةِ يَدِ الْبَائِعِ فِيهَا. 2031 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَضَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُشْتَرِي بِأَنْ كَانَ نَائِيًا فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهَا. ثُمَّ هَلَكَتْ. لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَبْقَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهَا يَدٌ حَقِيقَةً، وَقَدْ صَارَ الْمُشْتَرِي مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِهَا، حَتَّى إذَا كَانَ الْبَائِعُ يُمْسِكُهَا بِيَدِهِ وَقَالَ (ص 366) لِلْمُشْتَرِي: خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهَا فَاقْبِضْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا، إلَّا أَنْ تَصِلَ إلَى يَدِ الْمُشْتَرِي، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ يَدُهُ فِيهَا حَقِيقَةً مُعَارِضَةً لِيَدِ الْبَائِعِ، فَيُجْعَلُ قَابِضًا لِذَلِكَ. 2032 - وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ وَضَعَ الثَّوْبَ بِالْبُعْدِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَنَادَاهُ أَنْ قَدْ خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهُ فَاقْبِضْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا حَتَّى يَقْرُبَ مِنْهُ فَيَصِيرَ بِحَيْثُ تَصِلُ يَدُهُ إلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1097 لِأَنَّ هَذَا تَسْلِيمٌ بِطَرِيقِ التَّمْكِينِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّمَكُّنِ، وَتَمَكُّنُهُ مِنْ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقْرُبَ مِنْهُ، فَقَبْلَ ذَلِكَ وُجُودُ التَّخْلِيَةِ كَعَدَمِهَا 2033 - وَلَوْ أَنَّ الْمُوَلَّى بَاعَ جَمِيعَ الرَّمَكِ الَّتِي فِي الْحَظِيرَةِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا بَعْدَ فَتْحِ الْبَابِ فَفَتَحَ الْبَابَ لِيَأْخُذَ بَعْضَهَا، فَغَلَبَتْهُ وَخَرَجَتْ مِنْ الْحَظِيرَةِ، فَالثَّمَنُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا إذَا دَخَلَ الْحَظِيرَةَ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْرَزَةً بِالْبَابِ الْمَسْدُودِ، وَقَدْ تَنَاوَلَ الْبَيْعُ كُلَّهَا، ثُمَّ صَارَ الْمُشْتَرِي بِفَتْحِ الْبَابِ مُسْتَهْلِكًا لَهَا، وَاسْتِهْلَاكُ الْمُشْتَرِي لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ مِنْهُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَإِنَّ فَتْحَ الْبَابِ عِنْدَهُ اسْتِهْلَاكٌ بِطَرِيقِ الْمُتَسَبِّبِ، حَتَّى قَالَ: إذَا فَتَحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ فَنَدَّتْ الدَّابَّةُ مِنْ سَاعَتِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ مِنْ قِيمَتِهَا لِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ فَتْحَ الْبَابِ اسْتِهْلَاكًا، وَإِنَّمَا يُحِيلُ بِهَلَاكِ الدَّابَّةِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا. وَلِهَذَا لَا يُضْمَنُ بِهِ مِلْكُ الْغَيْرِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُ فِعْلَهُ تَسَبُّبًا، وَلَكِنْ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ يَقُولُ: قَدْ طَرَأَ عَلَى ذَلِكَ التَّسَبُّبِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ. لِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ يُعْتَبَرُ فِي إزَالَةِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سَاقَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَجَالَتْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، وَالسَّائِقُ لَيْسَ مَعَهَا. فَأَصَابَتْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ السَّائِقُ ضَامِنًا لَهَا؟ بِاعْتِبَارِ مَا أَحْدَثَتْ الدَّابَّةُ مِنْ السَّيْرِ بِاخْتِيَارِهَا، لَا عَلَى نَهْجِ سَوْقِ السَّائِقِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَتْحَ الْبَابِ كَانَ تَسَبُّبًا مِنْهُ لِإِتْلَافِ الدَّابَّةِ فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، ثُمَّ فِعْلُ الدَّابَّةِ لَا يَصْلُحُ مُزِيلًا لِذَلِكَ فَيَبْقَى ضَامِنًا لِلثَّمَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1098 2034 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَتَحَ الْبَابَ رَجُلًا آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ صَارَ بِحَالٍ لَوْ دَخَلَ الْحَظِيرَةَ وَاجْتَهَدَ تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهَا فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لَوْ فَتَحَ الْبَابَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الثَّمَنُ. لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ تَسَبُّبًا وَلَا مُبَاشَرَةً، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ لِتَقَرُّرِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ قَبْضِهَا بِتَخْلِيَةِ الْبَائِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قَبْلَ فَتْحِ الْبَابِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي فَتَحَ الْبَابَ وَلَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِ شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ؟ فَكَذَلِكَ إذَا فَتَحَ الْبَابَ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ بَاعَ طَيْرًا فِي بَيْتٍ عَظِيمٍ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي فَتَحَ الْبَابَ فَطَارَ، كَانَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَإِنْ فَتَحَ غَيْرُهُ الْبَابَ أَوْ فَتَحَتْ الرِّيحُ الْبَابَ فَخَرَجَ الطَّيْرُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ، إذْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهَا. فَكَذَلِكَ الرَّمَكُ. وَبَعْضُ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ. وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالِاسْتِحْسَانِ فِي كُلِّ فَصْلٍ. 2035 - وَلَوْ أَنَّ الْمُوَلَّى بَاعَ الْغَنَائِمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ، فَسَأَلَهُ الْإِمَامُ أَنْ (ص 367) يَضْمَنَ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا ضَمِنَ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ عَنْ الْمُشْتَرِي. لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ أَوْ الْعَيْبُ كَانَتْ الْخُصُومَةُ مَعَهُ. فَإِذَا ضَمِنَ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي فَهُوَ إنَّمَا يَضْمَنُ لِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. 2036 - فَأَمَّا الْمُوَلَّى فَهُوَ نَائِبٌ مَحْضٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ شَيْءٌ، بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ هُوَ فِي ضَمَانِ الثَّمَنِ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1099 الْمُشْتَرِي كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ إنْ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ إذَا أَدَّى وَإِنْ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إذَا أَدَّى. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْمُوَلَّى لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَنْ الثَّمَنِ هَاهُنَا لَمْ يَصِحَّ إبْرَاؤُهُ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الثَّمَنِ صَحَّ إبْرَاؤُهُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ كَانَ يَصِيرُ ضَامِنًا مِثْلَهُ لِلْمُوَكِّلِ. ثُمَّ الْمُوَلَّى فِي هَذَا الْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِي بَيْعِ مَالِ الْيَتِيمِ. وَالْوَكِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ فِي بَيْعِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا بَاعَ مَالَ الْيَتِيمِ ثُمَّ عُزِلَ وَاسْتُقْضِيَ آخَرُ فَضَمِنَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ لِلْقَاضِي الثَّانِي الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَبِرَ الْيَتِيمُ فَضَمِنَ لَهُ الْقَاضِي الْأَوَّلُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَاضٍ عَلَى حَالِهِ، كَانَ ضَمَانُهُ جَائِزًا. وَلَوْ كَانَ الْوَصِيُّ هُوَ الَّذِي بَاعَ مَالَ الْيَتِيمِ، ثُمَّ ضَمِنَ الثَّمَنَ لِلْقَاضِي عَنْ الْمُشْتَرِي أَوْ لِلْيَتِيمِ بَعْدَ مَا كَبِرَ، فَإِنَّ ضَمَانَهُ يَكُونُ بَاطِلًا. وَكَذَلِكَ الْوَالِدُ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي بَاعَ ثُمَّ ضَمِنَ الثَّمَنَ. وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَلْزَمُهُمَا الْعُهْدَةُ، وَيَكُونُ خُصُومَةُ الْمُشْتَرِي فِي الْعَيْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمَا، وَالْقَاضِي لَا يَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مَعَهُ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمِينُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِي أَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ، فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ عَنْ الْمُشْتَرِي. فَكَذَلِكَ الْمُوَلَّى يَبِيعُ الَّذِي وَقَعَ الْحَقُّ لَهُ، لِيَأْخُذَ مِنْهُ الثَّمَنَ. وَفِي الْعَيْبِ الْإِمَامُ يُنَصِّبُ لِلْمُشْتَرِي خَصْمًا إنْ شَاءَ ذَلِكَ الْمُوَلَّى، وَإِنْ شَاءَ غَيَّرَهُ، حَتَّى إذَا ثَبَتَ حَقُّ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِالثَّمَنِ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، إنْ كَانَتْ لَمْ تُقْسَمْ، وَإِنْ قُسِمَتْ غَرِمَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي بَاشَرَ الْبَيْعَ عُهْدَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا صَحَّ ضَمَانُهُ لِلثَّمَنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1100 [بَابُ الْمُسْلِمِ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ مَالٌ فِيمَا يُصَدَّقُ فِيهِ وَمَا لَا يُصَدَّقُ] 114 - بَابُ الْمُسْلِمِ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ مَالٌ فِيمَا يُصَدَّقُ فِيهِ وَمَا لَا يُصَدَّقُ 2037 - وَلَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ الْتَحَقَ بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَهُ مَالٌ، فَزَعَمَ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ مَلَّكُوهُ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ، أَوْ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ مَعَهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: لِأَنَّ يَدَهُ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَالِ، وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، فَإِنَّهُ دَخَلَ إلَيْهِمْ تَاجِرًا لِيُعَامِلَهُمْ، وَالتَّاجِرُ لَا يَدْخُلُ إلَيْهِمْ إلَّا مَعَ مَالٍ فِي الْعَادَةِ. 2038 - وَمَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِمْ فَإِنَّمَا يَكُونُ وُصُولُهُ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُبْتَنَى عَلَى الْمُرَاضَاةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْأَمَانِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ. 2039 - وَإِنْ قَالَ غَصَبْته مِنْهُمْ فَهُوَ فَيْءٌ، وَيَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ فَيَرُدَّهُ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهُ تَمَلَّكَهُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، وَإِنَّمَا تَمَّ ذَلِكَ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ حِينَ الْتَحَقَ بِهِمْ، وَشَارَكُوهُ فِي الْإِحْرَازِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ غَنِيمَةً بَيْنَهُمْ، وَبِثُبُوتِ حَقِّ الْجَيْشِ فِيهِ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْأَمِيرِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَقَدْ حَصَّلَهُ بِسَبَبٍ حَرَامٍ شَرْعًا، وَهُوَ غَدْرُ الْأَمَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1115 لِأَنَّهُ حِينَ اسْتَأْمَنَ إلَيْهِمْ فَقَدْ لَزِمَهُ أَلَّا يَغْدِرَ بِهِمْ، وَأَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، بِغَيْرِ طِيبَةِ أَنْفُسِهِمْ. 2040 - وَمَا حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ فَالسَّبِيلُ رَدُّهُ، فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْأَمِيرِ أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجُوا، فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْضُ الرَّقِيقِ بَاعَهُ الْأَمِيرُ، وَبَعَثَ بِالثَّمَنِ إلَيْهِمْ، أَوْ كَتَبَ إلَيْهِمْ حَتَّى يَأْتُوهُ فَيَأْخُذُوهُ. لِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ عَلَيْهِمْ، فَيَجِبُ بَيْعُهُ وَرَدُّ ثَمَنِهِ عَلَيْهِمْ، كَالْمُسْتَأْمَنِ إذَا أَسْلَمَ عَبْدَهُ فِي دَارِنَا وَهُوَ هَا هُنَا، أَوْ قَدْ رَجَعَ إلَى دَارِهِ. 2041 - وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا، وَقَدْ أَخَذَهُمْ قَهْرًا فَأَخْرَجَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ مَا تَمَّ قَهْرُهُ حِينَ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ أَخْذِهِمْ شَرْعًا بِسَبَبِ الْأَمَانِ فَيَكُونُ حُكْمُهُمْ فِي حَقِّهِ كَحُكْمِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا لَا يَمْلِكُونَ بِالْقَهْرِ، فَإِذَا أَسْلَمُوا فَقَدْ تَأَكَّدَتْ حُرِّيَّتُهُمْ بِالْإِسْلَامِ. 2042 - وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا أَوْ قَالُوا نَصِيرُ ذِمَّةً فَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَلَهُمْ ذَلِكَ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ لَهُمْ بَعْدَ مَا حَصَّلُوا فِي دَارِنَا، وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا لِأَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمْ. لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِمْ لِمَوَالِيهِمْ، وَوُجُوبُ الرَّدِّ لَحِقَ الْمَوْلَى فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ تُرَدُّ عَلَيْهِمْ الْعَيْنُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1116 فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، أَوْ خِيفَ الضَّيْعَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُبْعَثُ إلَيْهِمْ بِثَمَنِهِ أَوْ يُوقَفُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ فَيَأْخُذَهُ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُسْتَأْمَنُ أَخَذَ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا أَحْرَزُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُمْ بِالْإِحْرَازِ قَدْ مَلَكُوهُ حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا كَانَ لَهُمْ، فَحُكْمُهُ كَحُكْمِ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، إلَّا أَنَّ الرَّقِيقَ يُبَاعُ هَا هُنَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُرَدُّ إلَيْهِمْ أَعْيَانُهُمْ وَإِنَّمَا يَمْلِكُونَ بِالْقَهْرِ، وَلَكِنْ يُبَاعُ وَيُبْعَثُ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ. 2044 - وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِمَّا لَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ. لِأَنَّهُمْ بِالْقَهْرِ مَا تَمَلَّكُوهُ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَصْرُ الْيَدِ عَنْهُ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مُحْسِنٌ فِيمَا صَنَعَ، حَيْثُ قَصَرَ عَنْهُمْ يَدَ الظُّلْمِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ غَدْرِ الْأَمَانِ فِي شَيْءٍ. 2045 - وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُسْتَأْمَنُ أَحْرَزَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ غَصْبًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْرَازِ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُمْ، وَمَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1117 وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ وَكَانَ بِحَيْثُ يُسَلَّمُ لَهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يُفْتِيهِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ. لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِإِتْمَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ هَا هُنَا وَهُوَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ، وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ فِيهِ تُبْتَنَى عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الرَّدِّ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. 2047 - إلَّا أَنَّهُ حَصَّلَ هَذَا الْمَالَ بِسَبَبٍ حَرَامٍ شَرْعًا، فَيُفْتِيهِ بِالرَّدِّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَخْفَرَ ذِمَّةَ نَفْسِهِ لَا ذِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ مَا كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُ خَاصَّةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ يُبَاحُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَخْذُ هَذَا الْمَالِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا أَخْفَرَ أَمَانَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ فِي الرَّدِّ، لِمُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْأَمَانِ، وَلَكِنَّهُ أَخْفَرَ أَمَانَ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَالطَّرِيقُ فِي مِثْلِهِ الْفَتْوَى دُونَ الْإِجْبَارِ، فَإِنَّ الْإِجْبَارَ يُبْتَنَى عَلَى الْخُصُومَةِ، وَلَا خُصُومَةَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِي ذَلِكَ 2048 - وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ خَبِيثٌ، وَفِي شِرَائِهِ مِنْهُ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى الْخُبْثِ فِيهِ. وَلِأَنَّهُمْ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ الشِّرَاءِ كَانَ فِيهِ زَجْرٌ [لَهُ] عَنْ الْعَوْدِ إلَى مِثْلِ هَذَا الصُّنْعِ، وَحَثٌّ لَهُ عَلَى الرَّدِّ كَمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1118 وَإِنْ اشْتَرَى إنْسَانٌ مِنْهُ ذَلِكَ جَازَ الشِّرَاءُ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا. لِأَنَّهُ مَلَّكَ نَفْسَهُ فَإِنَّ فَسَادَ السَّبَبِ شَرْعًا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ هَذَا الشِّرَاءِ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ. 2050 - وَبَعْدَ مَا جَازَ الشِّرَاءُ يُؤْمَرُ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ مَا كَانَ يُؤْمَرُ بِهِ الْبَائِعُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلرَّدِّ لَا يَزُولُ بِهَذَا الشِّرَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ بَيْعًا صَحِيحًا، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ لَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ. لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلرَّدِّ قَدْ زَالَ بِبَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ. لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ لِفَسَادِ الْبَيْعِ حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَقَدْ انْقَطَعَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ أَمَّا هُنَا فَوُجُوبُ الرَّدِّ إنَّمَا كَانَ لِمُرَاعَاةِ مِلْكِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَلِأَجْلِ غَدْرِ الْأَمَانِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي كَمَا هُوَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ الَّذِي أَخْرَجَهُ، فَلِهَذَا يُفْتِي بِالرَّدِّ كَمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ الْبَائِعُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ إذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ لِلْمُكْرَهِ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الثَّانِي كَمَا هُوَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ شِرَائِهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِبَيْعِ الْمُشْتَرِي، وَثُبُوتُ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ كَانَ لِعَدَمِ رِضَاهُ بِهِ. 2051 - وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ آمَنَهُمْ وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1119 فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمَتَاعُ مِنْهُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ أَمَانَهُ، وَهُوَ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، كَأَمَانِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ إنَّمَا أَخَذَ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِينَ بِالْقَهْرِ وَلَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ بِالْقَهْرِ، فَكَانَ مُجْبَرًا عَلَى رَدِّهِ وَفِي الْأَوَّلِ هُوَ مَا أَخَذَ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِينَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ بِأَمَانٍ، وَمَا كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ مِنْهُ إلَّا أَنَّ غَدْرَ ذَلِكَ الْأَمَانِ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ شَرْعًا، وَتَمَكَّنَ الْخُبْثُ بِهَذَا السَّبَبِ وَلَكِنْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمَالِ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى رَدِّهِ فِي الْحُكْمِ، وَلِأَنَّهُ غَدْرٌ بِأَمَانِ الْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الْأَمَانِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى لَا يَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ الْمَنْعِ لِلْغَادِرِ بِأَمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي دَخَلَ إلَيْهِمْ فَإِنَّمَا غَدَرَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ خَاصَّةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ حَقُّ أَخْذِ هَذَا الْمَالِ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَلِهَذَا يُفْتِيهِ بِالرَّدِّ وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ. 2052 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ هَذَا الْمُسْتَأْمَنُ إلَيْهِمْ مَتَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ أَحْرَزُوهُ بِدَرَاهِمَ فَأَرَادَ صَاحِبُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ لَمْ يَقْضِ لَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1120 لِأَنَّ فِي الْقَضَاءِ بِهِ تَقْرِيرَ مِلْكِهِ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ لَا تُسَلَّمُ لَهُ إلَّا عَلَى وَجْهِ قِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ، وَمِلْكُهُ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ شَرْعًا مَا دَامَ هُوَ مَأْمُورًا بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَرِّرَهُ بِقَضَائِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، (كَانَ سَالِمًا لَهُمْ) وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبُوهُ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ هُنَاكَ مِلْكٌ مُتَقَرِّرٌ شَرْعًا، فَلِهَذَا كَانَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ بِالْأَخْذِ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَمَا يُعْطِي مِنْ الْقِيمَةِ هُوَ فِدَاءٌ يَفْدِي بِهِ مِلْكَهُ، بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي يَفْدِيهِ مَوْلَاهُ بِالدِّيَةِ، وَفِي إعَادَتِهِ إلَى مِلْكِهِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ، وَفِيهِ تَقْرِيرُ مَا كَانَ مِنْهُ غَدْرٌ مِنْ الْأَمَانِ. 2035 - وَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَإِذَا خُوصِمَ فِيهِ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُنَفِّذُ ذَلِكَ الْبَيْعَ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ، فَإِنَّ الثَّانِيَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُهُ مِلْكًا جَدِيدًا وَيُؤْمَرُ مَنْ فِي مِلْكِهِ بِالرَّدِّ، كَمَا كَانَ يُؤْمَرُ بِهِ الْبَائِعُ، وَأَمَّا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ إنَّمَا يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ سَابِقٌ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّهِمْ فِيهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي الْقَضَاءِ بِهِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ، ثُمَّ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ إنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لَمْ يَقْضِ لَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْقَضَاءِ إعَادَتَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ كَمَا بَيَّنَّا. 2054 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1121 لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ، وَمَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُمْ عَنْ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ لَا يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَوْلِيَ لَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَمَعَهُ ذَلِكَ الْعَبْدُ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِإِسْلَامِهِ، وَلَا يَكُونُ لِمَوْلَاهُ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِقِيمَةٍ وَلَا ثَمَنٍ. 2055 - وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُسْتَأْمَنُ أَحْرَزَ هَذَا الْمَتَاعَ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا سَبِيلَ لِمَالِكِهِ الْقَدِيمِ عَلَى أَخْذِهِ بِثَمَنٍ وَلَا قِيمَةٍ. لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يَبِيعُ الرَّقِيقَ وَيَقِفُ الثَّمَنَ مَعَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ حَتَّى يَأْتُوهُ فَيَأْخُذُوهُ. لِأَنَّ بَقَاءَ حَقِّهِمْ هَا هُنَا أَبْيَنُ مِنْ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هَا هُنَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يُفْتَى بِذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ وَلَا بِالثَّمَنِ فَهَا هُنَا أَوْلَى. 2056 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْخَارِجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَسِيرًا فِيهِمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَجَمِيعُ مَا أُخْرِجَ سَالِمٌ لَهُ. لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ بَلْ كَانَ مَقْهُورًا وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَتْلِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ لَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَمَا أَحْرَزَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَكُونُ طَيِّبًا لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1122 وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا أَحْرَزُوهُ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَلِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّ حَقَّهُمْ انْقَطَعَ بِإِحْرَازِهِ عَلَيْهِمْ وَاخْتَصَّ هُوَ بِمِلْكِهِ فَيَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصَابَ بِسَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَيَأْخُذُهُ مَوْلَاهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ. 2058 - وَإِنْ كَانَ جَاءَ بِهِ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَالَ: وَهَبَهُ لِي أَهْلُ الْحَرْبِ، أَوْ اشْتَرَيْته مِنْهُمْ لَمْ يُصَدَّقْ، وَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ فَيْئًا لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ فِيمَا يَقُولُ، فَإِنَّهُ كَانَ مَقْهُورًا فِيهِمْ، وَهُمْ لَا يُعَامِلُونَ الْأُسَرَاءَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ عَادَةً، فَلِهَذَا لَا يُصَدَّقُ. 2059 - وَيُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخْرَجَهُ غَصْبًا فَيَكُونُ فَيْئًا. لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ يُشَارِكُونَهُ فِي الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَمَامُ الْقَهْرِ بِهِ يَكُونُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَادِلَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَدَّعِي، فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. 2062 - وَلَوْ عَايَنَاهُمْ وَهَبُوا لَهُ شَيْئًا وَخَلَّوْا سَبِيلَهُ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ مَعَهُ شَرِكَةٌ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُ بِطَرِيقِ الْمُرَاضَاةِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْمُصَابِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ،؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ يَتِمُّ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، فَأَمَّا تَمَامُ الْهِبَةِ وَالشِّرَاءِ لَا يَكُونُ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1123 وَلَوْ كَانَ الْخَارِجُ إلَى الْعَسْكَرِ أَسِيرًا أَوْ مُسْتَأْمَنًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَفِيمَا فِي يَدِ الْمُسْتَأْمَنِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْهِبَةِ وَالشِّرَاءِ إذَا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيمَا فِي يَدِ الْأَسِيرِ لَا يُصَدَّقُ هُوَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اعْتِبَارًا لِحَالِ اجْتِمَاعِهِمَا بِحَالِ انْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ قَالَا دَخَلْنَا بِهَا مَعَنَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْمُسْتَأْمَنُ يُصَدَّقُ فِيمَا فِي يَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْأَسِيرُ لَا يُصَدَّقُ سَوَاءٌ، أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ. لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ، وَأَحْرَزُوا مَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ أَيْضًا، فَيَمْلِكُونَ بِهَذَا الْإِحْرَازِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ، وَيَلْتَحِقُ هَذَا الْمَالُ بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِي الْأَصْلِ. 2062 - فَإِذَا أَحْرَزَهُ الْأَسِيرُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ كَانَ فَيْئًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَيْئًا يَخْفَى عَلَيْهِمْ نَحْوَ دُرَّةٍ قَالَ الْأَسِيرُ: كَانَتْ فِي فَمِي أَوْ كُنْت ابْتَلَعْتهَا فَكَانَتْ فِي بَطْنِي، فَإِنَّهُ فِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. لِأَنَّهُ مَالٌ مُحْتَمَلٌ لِلتَّمْلِيكِ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ حِينَ صَارَ مَقْهُورًا، وَحِينَ تَمَّ إحْرَازُهُمْ فِيهِ، فَلَا يَبْقَى مَمْلُوكًا لَهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يُسَلَّمُ لَهُ ذَلِكَ الْمَالُ إذَا أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ مَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. ؛ لِأَنَّ إحْرَازَهُمْ يَكُونُ بِالْقَهْرِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ حِسًّا لَا حُكْمًا، فَإِنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ حُكْمٍ وَمِنْ حَيْثُ الْحِسُّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ قَهْرُهُمْ فِيمَا يَعْلَمُونَ بِهِ دُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1124 مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَمَا كَانَ فِي فَمِهِ أَوْ بَطْنِهِ فَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُمْ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فِي الْأَصْلِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ الْمِلْكِ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْجَيْشِ مَعَهُ فِيمَا كَانَ فِي الْأَصْلِ مَمْلُوكًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إذَا ثَبَتَ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي بَطْنِهِ أَوْ فِي فَمِهِ. قُلْنَا: هُوَ أَمِينٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِمَّا يَكُونُ مُحْتَمَلًا وَلَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ فِيهِ. 2063 - وَلَوْ كَانَ الْخَارِجُ إلَى الْعَسْكَرِ رَجُلًا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَقُولُ إنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ وَهَبُوهُ لِي، أَوْ أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِي فِي الْأَصْلِ. لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ فِيمَا فِي يَدِهِ فَيَكُونُ الثَّابِتُ بِخَبَرِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَلَوْ عَايَنَا ذَلِكَ كَانَ الْمَالُ سَالِمًا لَهُ وَلَا شَرِكَةَ لِلْجَيْشِ مَعَهُ فِيهِ. 2064 - وَإِنْ قَالَ: قَدْ اغْتَصَبْته مِنْهُمْ، فَالْمَالُ فَيْءٌ، لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ، لَا يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ. ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ الْغَدْرِ بِهِمْ، وَأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ بِغَيْرِ طِيبَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَأَمَّا الَّذِي أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ فِيهِمْ عَلَى مَا كَانَ فِي الْأَصْلِ، وَقَبْلَ الْإِسْلَامِ مَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْ بَعْضٍ. وَلَكِنْ كَانَ لَا يَتَعَرَّضُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لِأَجْلِ الْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ، فَيَكُونُ هُوَ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ غَصْبًا بِمَنْزِلَةِ الْأَسِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَانَ يَنْبَغِي أَلَّا يُصَدَّقَ فِي قَوْلِهِ: وَهَبُوهُ لِي، كَمَا لَا يُصَدَّقُ الْأَسِيرُ فِي ذَلِكَ. قُلْنَا: إنَّمَا لَا يُصَدَّقُ الْأَسِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1125 لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ فِيمَا يَقُولُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَقْهُورًا فِيهِمْ، فَأَمَّا الَّذِي أَسْلَمَ مِنْهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ فَالظَّاهِرُ غَيْرُ مُكَذِّبٌ لَهُ فِيمَا يَقُولُ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا كَانُوا يَعْلَمُونَ بِإِسْلَامِهِ، وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَا كَانُوا قَاصِدِينَ إلَى التَّعَرُّضِ لَهُ وَلِمَالِهِ، بَلْ كَانُوا يُعَامِلُونَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعَامِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلِهَذَا صَدَّقْنَاهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ. 2065 - وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَجَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ سَالِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بِإِحْرَازِهِ بِالدَّارِ. 2066 - وَإِنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ كَانُوا أَحْرَزُوهُ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ كَتَمَلُّكِ مُسْلِمٍ آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى ذَلِكَ الْمَتَاعِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ سَالِمًا لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» . وَلِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ بِإِسْلَامِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى الْقَدِيمَ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا انْقَطَعَ حَقُّ الْمُسْتَوْلَى. (يُوَضِّحُهُ) : الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَسِيرِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ ظَهَرُوا عَلَى الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْأَسِيرُ وَهَذَا الَّذِي أَسْلَمَ، فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ مَالِ الَّذِي أَسْلَمَ فِي يَدِهِ يَكُونُ سَالِمًا لَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ مَالِ الْأَسِيرِ يَكُونُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ قَدْ تَمَلَّكُوا ذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ، فَيَكُونُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ قَهَرُوا هَذَا الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِمْ وَاسْتَعْبَدُوهُ فَحَالُهُ كَحَالِ الْأَسِيرِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1126 وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ خَرَجُوا فِي الْعَلَّافَةِ وَجَاءُوا بِمَتَاعٍ فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ وَهَبُوهُ لَنَا، لَمْ يَصَدَّقُوا، وَكَانَ ذَلِكَ فَيْئًا. لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُمْ، فَإِنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، قَصَدُوهُمْ لِلْغَارَةِ عَلَيْهِمْ، لَا لِلْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ، فَإِذَا أَقَامُوا بَيِّنَةً عَادِلَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا قَالُوا فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ فَعَلُوا ذَلِكَ بِهِمْ، وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنْهُمْ، فَذَلِكَ سَالِمٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْحُجَّةِ أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِسَبَبٍ تَمَّ بِالْمُرَاضَاةِ. 2068 - فَإِنْ قَالُوا: فَعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ غَيْرُ مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ فَيْئًا. ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ فَقَدْ تَثْبُتُ الْيَدُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَتَثْبُتُ الشَّرِكَةُ فِيهِ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالْهِبَةِ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. 2069 - فَإِنْ قَالُوا: قَدْ كُنَّا آمَنَّاهُمْ، وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ، ثُمَّ فَعَلُوا ذَلِكَ بِنَا لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُمْ الْأَمَانَ حِينَ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ كَدَعْوَاهُمْ الْهِبَةَ حِينَ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا 2070 - فَإِنْ شَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَرُدَّتْ شَهَادَاتُهُمْ لِفِسْقِهِمْ كَانَ ذَلِكَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ مَا قَامَتْ لَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1127 2071 - فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سِهَامِ الَّذِينَ شَهِدُوا أَخَذَهُ مِنْهُمْ الْمَشْهُودُ لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا مَا أَقَرُّوا بِمِلْكِهِ لِغَيْرِهِمْ، وَمَنْ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِآخَرَ فِي عَيْنٍ ثُمَّ مَلَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. 2072 - وَلَوْ قَالُوا: هَذَا الْمَتَاعُ مِمَّا كَانَ مَعَنَا أَدْخَلْنَاهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ حِينَ دَخَلْنَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْكُلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُدْرَى لَعَلَّهُمْ صَادِقُونَ فِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُكَذِّبٍ لَهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، فَإِنَّ الْغَازِيَ - يَسْتَصْحِبُ طَائِفَةً مِنْ مَالِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ. 2073 - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَشْكُلُ فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ. 2074 - وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فِي الْعِلَافَةِ لَعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ، وَمَنْ أَخْبَرَ بِمَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُصَدَّقًا. فَإِنْ كَانَ فِيمَا جَاءُوا بِهِ رَقِيقٌ، وَهُمْ مُشْكِلُونَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الرَّقِيقِ، فَإِنْ صَدَّقُوهُمْ بِمَا قَالُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. لِأَنَّهُمْ فِي أَيْدِي أَنْفُسِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِهِمْ إذَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مِلْكُهُمْ أَدْخَلُوهُمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1128 أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ ادَّعَوْا ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ يَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ الرَّقِيقِ. 2075 - وَإِنْ قَالَ الرَّقِيقُ: نَحْنُ قَوْمٌ أَحْرَارٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَدْ أَسَرْنَا هَؤُلَاءِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ، وَهُمْ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُمْ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ عَلَيْهِمْ. 2076 - وَلَوْ كَانُوا ادَّعَوْا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَذَّبُوهُمْ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ، فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَوْا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِمْ إنَّهُمْ أَحْرَارٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانُوا فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مَقْهُورِينَ فِي أَيْدِينَا بِغَيْرِ أَمَانٍ. 2077 - وَإِنْ قَالُوا كُنَّا عَبِيدًا لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَأَخَذْنَا هَؤُلَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِمْ. لِأَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ أَرِقَّاءُ وَأَنَّهُمْ لَا يَدَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا قَوْلَ، فَلَا يُصَدَّقُونَ عَلَى أَنْ يَصْرِفُوا مِلْكَهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولِ الْحَالِ، وَهُوَ فِي يَدِهِ، أَنَّهُ مِلْكُهُ، فَقَالَ مَجْهُولُ الْحَالِ: أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا حُرٌّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1129 وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ الْفَرْقَ أَنَّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا فِي الْوَجْهَيْنِ فَوَقَعَ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ رَأْيُ الْمَنِّ كَانُوا أَحْرَارًا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَكَانُوا عَبِيدًا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي يُرَدُّونَ عَلَى مَوَالِيهِمْ، فِيهِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ. 2078 - وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، كَالْبَالِغِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فِي يَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ مَتَاعٍ آخَرَ: وَإِنْ كَانَ مَعَ الصَّبِيِّ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَالِدِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ وَالِدِهِ، وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إذَا سُبِيَ مَعَ وَالِدِهِ. 2079 - وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ قَوْلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ إلَى قَوْلٍ آخَرَ، فَالْأَمْرُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي مُنَاقِضٌ. وَلِأَنَّهُ إنْ قَالَ أَوَّلًا: أَنَا حُرٌّ، فَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْعَسْكَرِ، فَلَا يُصَدَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ حَقٍّ لَهُمْ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا عَبْدٌ، فَقَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ مِلْكُ ذِي الْيَدِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ. 2080 - وَلَوْ قَالَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْمَتَاعِ: قَدْ اشْتَرَيْنَا فِي دَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1130 الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ، كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ أَوْ أَسِيرًا، أَوْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا خِلَافَ مَا يَشْهَدُ بِهِ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُمْ ذَهَبُوا لِلْإِغَارَةِ لَا لِلْمُعَامَلَةِ، وَلِأَنَّ وُجُودَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ عَامَلُوهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُ ظَاهِرٍ. فَلَا يُصَدَّقُونَ إلَّا بِحُجَّةٍ. 2081 - فَإِذَا أَقَامُوا بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْمَتَاعُ لَهُمْ إنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ اشْتَرَوْا ذَلِكَ الْمَتَاعَ مِنْ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ. لِأَنَّ ثُبُوتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثُّبُوتِ بِالْمُعَايَنَةِ. 2082 - وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ اشْتَرَوْا ذَلِكَ مِنْ أَسِيرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ فَيْءٌ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ الْمُشْتَرِينَ فِي إخْرَاجِ هَذَا الْمَتَاعِ قَامُوا مَقَامَ الْبَائِعِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا. 2083 - وَلَوْ كَانُوا قَالُوا لَقِينَا قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مُسْتَأْمَنِينَ أَوْ أُسَرَاءَ، أَوْ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَأَوْدَعُونَا هَذَا، وَأَمَرُونَا أَنْ نُخْرِجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَصَدَّقَهُمْ الرَّقِيقُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقُوا. لِأَنَّ الرَّقِيقَ قَدْ أَقَرُّوا بِرِقِّهِمْ، فَلَا قَوْلَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَلَّذِينَ جَاءُوا بِهِمْ أَخْبَرُوا بِمَا لَا ظَاهِرَ يُصَدِّقُهُمْ فِيهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إلَّا بِحُجَّةٍ. 2084 - فَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَمَا كَانَ مِنْ وَدِيعَةٍ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1131 عَارِيَّةٍ، لِلْمُسْتَأْمَنِينَ أَوْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا سَبِيلَ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ لَا يَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْمَنِينَ، وَكَذَلِكَ فِي مِلْكِ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ يَدَ مُودِعِهِ كَيَدِهِ، فَيَكُونُ إحْرَازُهُ فِي هَذَا الْمَالِ أَسْبَقَ مِنْ إحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ أَوْدَعَهُمْ الْأَسِيرُ أَوْ أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ مُرْتَدُّونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ فَيْءٌ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَوْ أَحْرَزَ ذَلِكَ بِمَنْعِهِ الْجَيْشَ كَانَ فَيْئًا، فَكَذَلِكَ إذَا جَاءَ بِهِ مُودِعُهُ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ إنْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ آمَنُوهُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، ثُمَّ أَوْدَعَهُمْ فَحِينَئِذٍ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مَالُ مُسْتَأْمَنٍ، وَهُوَ لَوْ جَاءَ بِنَفْسِهِ مُسْتَأْمَنًا إلَيْنَا لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَعْرِضَ لِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا جَاءَ بِهِ مُودِعُهُ. 2085 - وَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ آمَنَهُ حِينَ دَفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ، فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ أَمَانَ الْأَسِيرِ إيَّاهُ، وَهُوَ مَقْهُورٌ فِي أَيْدِيهِمْ، بَاطِلٌ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، أَوْ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْأَسِيرَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِنَفْسِهِ فَأَوْدَعَهُمْ هَذَا الْمَالَ حَتَّى رَجَعَ. 2086 - وَلَوْ زَعَمَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْمَالِ أَنَّهُمْ غَصَبُوهُ مِنْ مُسْتَأْمَنٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1132 مُسْلِمٍ أَوْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ أَوْ مِنْ حَرْبِيٍّ، فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ. لِأَنَّ مَالَهُ لَيْسَ بِغَرَضِ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمَغْصُوبُ مِنْ الْحَرْبِيِّ فَيْءٌ، وَالْمَغْصُوبُ مِنْ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ إسْلَامَهُ يُوجِبُ الْعِصْمَةَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي الْآثَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ إذَا كَانَ خَطَأً، وَلَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ إنْسَانٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ يَتَبَيَّنُ هَذَا الْحُكْمُ. وَكَذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَإِنَّ عَقَارَهُ يَكُونُ فَيْئًا، وَمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَلَا فِي يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ قَائِمَةٍ مَقَامَ يَدِهِ فَهُوَ فَيْءٌ أَيْضًا فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ فَيْئًا مَا يَكُونُ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَنْقُولِ، أَوْ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ قَدْ أَوْدَعَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ إحْرَازُهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ، فَأَمَّا مَا يَكُونُ فِي يَدِ غَاصِبٍ غَصَبَهُ مِنْهُ فَهُوَ فَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَاصِبُ مُسْلِمًا، أَوْ مُعَاهَدًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ لَا تَكُونُ كَيَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْإِحْرَازِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِيمَا غَصَبَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ مُعَاهَدٌ فَكَذَلِكَ فِيمَا غَصَبَهُ مِنْهُ الَّذِينَ لَقُوهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا غَصَبُوا ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَارَ فِي مَنَعَتِهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا لِذَلِكَ الْمَالِ بِمَنَعَتِهِمْ، فَكَانَتْ يَدُهُ إلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1133 أَسْبَقَ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَالٍ فِي يَدِهِ حِينَ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَفِقْهُهُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُقَوَّمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِالْيَدِ لَا بِالدَّيْنِ وَتَمَامُ الْإِحْرَازِ بِالْيَدِ إنَّمَا يَكُونُ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِدَارِهِمْ، وَبِدُونِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ لَا يَخْرُجُ الْمَالُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلِاغْتِنَامِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَحَالُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحَالِ الْمُسْتَأْمَنِ فِيهِمْ فِي ظُهُورِ حُكْمِ الْعِصْمَةِ فِي مَالِهِ، وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ مُعَامَلَةُ مَنْ عَامَلَ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الرِّبَا، وَفِيمَا يَغْصِبُهُ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي الْعِلَافَةِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا يَثْبُتُ حَقُّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا يَغْصِبُونَهُ مِنْ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَنْقُولِ، أَوْ مَا غَصَبَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ مُعَاهَدٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، إلَّا مَا غَصَبَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ فَيْئًا. لِأَنَّهُمْ قَدْ تَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا كَانَ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُمْ، فَأَمَّا مَا أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهَدًا أَوْ حَرْبِيًّا فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ كَانَ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَ أَمْوَالَهُ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَلِلْمُسْلِمِ جَمِيعُ مَالِهِ، فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَالِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1134 لِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِزْ مَالَهُ بِإِسْلَامِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مَالِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْرَازُ بِدُونِ الْوِلَايَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْمَالِ، وَفِي الْأَوَّلِ صَارَ مُحْرِزَ الْمَالِ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ حِينَ أَسْلَمَ، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ فِي دَارِنَا فَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ الَّذِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُحْكَمُ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا لَهُ، حَتَّى إذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ كَانُوا فَيْئًا، وَلَكِنْ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَمَا حَصَلُوا فِي دَارِنَا لَزِمَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلْأَبِ. 2087 - وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ كَانُوا أَحْرَارًا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. وَبِأَنْ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ مَا لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْرِزًا لَهُ بِإِسْلَامِهِ كَرَقَبَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَلْزَمْهُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ مُحْرِزًا رَقَبَتَهُ بِإِسْلَامِهِ. حَتَّى لَا يَمْلِكَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ أَمْوَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ وَرِقَابُهُمْ لَا يَمْلِكُهَا أَهْلُ الْعَدْلِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَضْمَنُونَ أَوْ أَتْلَفُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَاَلَّذِي مَكَثَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا يَكُونُ أَعْظَمَ جُرْمًا مِنْ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ. وَأَيَّدَ جَمِيعَ مَا قُلْنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اتَّبَعَهُ مَالُهُ فَهُوَ لَهُ» وَالْمُرَادُ بِمَالِهِ هَا هُنَا عَبْدُهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِزًا لَهُ بِإِسْلَامِهِ لَكَانَ عَبْدُهُ حُرًّا إذَا خَرَجَ بَعْدَهُ، كَمَا يَكُونُ حُرًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1135 إذَا خَرَجَ قَبْلَ إسْلَامِهِ مُسْلِمًا مُرَاغَمًا لَهُ. وَالْحَرْفُ الَّذِي ذَكَرْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجِيبُ عَنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ دَفْعَ التَّمَلُّكِ فِي الْأَمْوَالِ يَكُونُ بِالْإِحْرَازِ الْمُقَوِّمِ لِلْمَالِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ، بِخِلَافِ النُّفُوسِ، فَإِنَّهَا فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ بِعُرْضَةِ التَّمَلُّكِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ عُرْضَةً لِلتَّمَلُّكِ جَزَاءً عَلَى الْجَرِيمَةِ، وَبِالْإِسْلَامِ تَنْعَدِمُ تِلْكَ الْجَرِيمَةُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُحْرِزًا لِمَالِهِ بِإِسْلَامِهِ لَكَانَ الْمُتْلِفُ لَهُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا اسْتَهْلَكَ إنْسَانٌ مَالَهُ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ وَبَيْنَ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ، كَمَا فَرَّقَ الْكُلُّ بَيْنَهُمَا فِي قَتْلِ النَّفْسِ، فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُوجِبُ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ عَمْدًا قَتَلَهُ أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ مَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْقَوَدُ لَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ الدَّمِ وَالْمَالِ يَكُونُ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ فَإِنَّ الدَّيْنَ دَافِعٌ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ، وَمَنَعَةُ الدَّارِ دَافِعَةٌ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُ وَمَنْ لَا يَعْتَقِدُ. وَبِدُخُولِ الْمُسْلِمِ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ لَا يَسْقُطُ سَبَبُ إحْرَازِهِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ بِالدَّارِ، وَاَلَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إحْرَازُ النَّفْسِ وَالْمَالِ بِالدَّارِ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ وَعَلَى هَذَا قَالَ: 2088 - لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ أَغَارَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَ مَالًا مِنْ مَالِ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمَ الْمَأْخُوذَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1136 مَالُهُ لَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ فَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُونَ مَالَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ اسْتِهْلَاكِ ذَلِكَ الْمَالِ أَشَدَّ الْمَنْعِ، إلَى أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ فَيَأْخُذَهُ. 2089 - وَلَوْ جَاءَ صَاحِبُهُ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اسْتَهْلَكَ إنْسَانٌ ذَلِكَ الْمَالَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ. لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمَّا صَارَ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ تَقَوَّمَتْ نَفْسُهُ، حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَغْرَمُ لَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَكَذَلِكَ يَغْرَمُ مَالَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ لُحُوقِ الْمُسْلِمِ بِالْعَسْكَرِ فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْمَالُ صَارَ مُحْرَزًا بِمَنْعِهِ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِحْرَازُ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ مُتْلِفُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَهُوَ إحْرَازٌ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فَيْئًا لَهُمْ، وَالْقِيَاسُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَحْسَنَ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَبَدًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ فَقَالَ: 2090 - قَدْ كَانَ هُوَ مَأْمُورًا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْ مَالِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ، إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ، وَيَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ وَرَثَتِهِ إذَا مَاتَ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ حُكْمُ الزَّكَاةِ وَالتَّوْرِيثِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْوَرَثَةِ وَحُكْمُ الِاغْتِنَامِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1137 وَلَوْ أَنَّ رَسُولًا لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَخَذَ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِهِمْ غَصْبًا، أَوْ رَقِيقًا وَأَخْرَجَهُ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَخَذَهُ الْأَمِيرُ وَرَدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ. لِأَنَّ الرَّسُولَ فِيهِمْ كَالْمُسْتَأْمَنِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي الْمُسْتَأْمَنِ إذَا أَحْرَزَهُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ فَكَذَلِكَ الرَّسُولُ. 2092 - فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَمِيرُ بِذَلِكَ حَتَّى قَسَّمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ مَعَ الْغَنَائِمِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيَرُدُّهُ. لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الرَّدُّ مُسْتَحَقًّا فِيهِ وَهُوَ غَدْرُ الْأَمَانِ لَا يَنْعَدِمُ بِقِسْمَتِهِ. 2093 - فَإِنْ كَانَ أَعْتَقَهُ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ حُرًّا مِنْ أَحْرَارِهِمْ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ، وَيُقَالُ لِلْمُعْتَقِ: الْحَقُّ حَيْثُ شِئْت. لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ غَدْرِ الْأَمَانِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ يُمْنَعُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِحَالِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَ حُرًّا آمِنًا يُخَلَّى سَبِيلُهُ حَتَّى يَعُودَ إلَى بِلَادِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا عُلِمَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، كَانَ بَاطِلًا فِيمَا لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1138 2094 - وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ الْمُشْرِكِينَ فَالْعِتْقُ نَافِذٌ مِنْ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ. لِأَنَّ الْإِمَامَ مَلَكَهُ بِالْقِسْمَةِ، وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ، وَيَبْعَثَ ثَمَنَهُ إلَى مَوْلَاهُ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِحَالِهِ إذْ مَلَكُهُ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْقِسْمَةِ غَيْرُهُ يَكُونُ ذَلِكَ تَمْلِيكًا صَحِيحًا وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ مِنْ الْمِلْكِ فِيهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِقِيمَتِهِ إلَى مَوْلَاهُ لِمُرَاعَاةِ أَمَانِهِ. 2095 - فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَبَضَ مَوْلَاهُ الْقِيمَةَ لَمْ يُتْرَكْ الْمُعْتَقُ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسَلِّمِ قَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ حِينَ انْتَهَى بِالْعِتْقِ، وَقَدْ وَصَلَ عِوَضُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَارْتَفَعَ بِهِ حُكْمُ غَدْرِ الْأَمَانِ حَسْبَمَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. 2096 - فَإِنْ أَبَى مَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَتَهُ قِيلَ لِلْمُعْتَقِ إنْ شِئْت فَأَقِمْ وَإِنْ شِئْت فَالْحَقْ بِأَرْضِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ رَدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْأَمَانِ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِعِوَضٍ قَائِمٍ مَقَامَهُ، إلَّا أَنَّهُ صَارَ حُرًّا بِإِعْتَاقِ الْمُسَلِّمِ إيَّاهُ كَمَا بَيَّنَّا، فَيَكُونُ الرَّأْيُ إلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1139 أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ إذَا أَبَى مَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ فَإِنَّ الْأَمِيرَ يَنْقُضُ فِيهِ الْقِسْمَةَ وَالْبَيْعَ وَيَرُدُّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ يَكُونُ الرَّأْيُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ. 2097 - وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ لَمْ يُحْرِزْهُ بِمَنْعِهِ الْجَيْشَ وَلَكِنَّهُ أَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَهُ، وَيُفْتَى بِرَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا أَخْفَرَ بِذِمَّتِهِ خَاصَّةً. 2098 - فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ وَلَكِنْ بَاعَهُ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا مَكْرُوهًا سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ حُرًّا مِنْهُمْ أَوْ مَمْلُوكًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. لِأَنَّهُ تَمَّ إحْرَازُهُ لَهُ، وَهُوَ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَهُنَاكَ وِلَايَةُ الْأَمِيرِ فِي رَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثَابِتَةٌ، فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ تَمَامُ الْإِحْرَازِ فِيهِ. 2099 - فَإِنْ أَعْتَقَهُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَوْ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ نَفَذَ عِتْقُهُ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّ رَدَّهُ كَانَ مُسْتَحَقًّا شَرْعًا، وَلِهَذَا كَانَ هُوَ مَأْمُورًا بِرَدِّهِ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَإِذَا صَارَ الْمُعْتَقُ مَالِكًا أَمَرَ نَفْسَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1140 2100 - وَلَوْ كَانَ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَمْنَعْهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ مَنَعَهَا مَوْلَاهَا لَمْ يَحِلَّ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ. لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ بَعْدَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، فَهُنَاكَ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ، فَيَكُونُ هُوَ ظَالِمًا فِي مَنْعِهَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الظُّلْمِ. 2101 - وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَذْهَبَ بِوَلَدِهَا لَمْ تُتْرَكْ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا مُسْلِمٌ عَلَى دِينِ أَبِيهِ. 2102 - وَصَارَ حَاصِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَصَلَ الْعِوَضُ إلَى الْمَوْلَى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى لِلْمُعَوَّضِ حَقُّ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِحَالٍ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَصِلْ عِوَضُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إلَّا أَنَّ مَالِكَهُ إذَا مَنَعَهُ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى رَدِّهِ فِي الْحُكْمِ لَا يَلْتَفِتُ إلَى مَنْعِهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يُجْبَرُ عَلَى رَدِّهِ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْعِ إبْقَاءٌ لِمِلْكِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَنْعِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1141 [بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ] 115 - بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ 2103 - وَإِذَا قَسَّمَ الْأَمِيرُ غَنِيمَةً فَبَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ يَسِيرٌ، لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَسَّمَ لِكَثْرَةِ الْجُنْدِ وَقِلَّةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَا يَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَشَارَ قَبْلَ هَذَا فِي تَعْلِيلِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ، فَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ فِيمَا إذَا لَمْ يَأْخُذْ الْخُمُسَ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَصْلًا، حَتَّى لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا تَحْتَ الْقِسْمَةِ. وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ هَهُنَا فِيمَا إذَا أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بَقِيَ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِمَّا هُوَ نَصِيبُ الْجُنْدِ، وَهَذَا قَدْ دَخَلَ تَحْتَ الْقِسْمَةِ وَصَارَ حَقًّا لِلْجُنْدِ خَاصَّةً، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيصَالُهُ إلَيْهِمْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِ الْإِمَامِ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ إلَّا أَنَّ فِي اللُّقَطَةِ يُعَرِّفُهَا سَنَةً؛ لِأَنَّهُ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهَا فَيَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجُو مِثْلَ ذَلِكَ هَا هُنَا، فَلَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِ التَّصَدُّقِ بِهِ أَوْ الِاشْتِغَالِ بِتَعْرِيفِهِ، فَلِهَذَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فِي الْحَالِ. 2104 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا صَاحِبَ الْمَقَاسِمِ وَقَالُوا: إنَّ مَنَازِلَنَا بَعِيدَةٌ، وَلَسْنَا نَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ إلَى أَنْ تَقْسِمَ فَأَعْطِنَا حِصَصَنَا مِنْ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَأَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَعْطَاهُمْ وَذَهَبُوا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1142 ثُمَّ تَبَيَّنَ بِالْقِسْمَةِ أَنَّ حِصَّةَ الْقَوْمِ كَانَتْ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَخَذُوا، فَإِنَّ مَا تَبَقَّى مِنْ فَضْلِ نَصِيبِهِمْ فِي يَدِ صَاحِبِ الْمَقَاسِمِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا الْإِمَامُ فِي يَدِهِ أَوْ يَأْخُذَهَا فَيُعَرِّفَهَا حَوْلًا، وَيُخْبِرَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ، لَعَلَّ ذَلِكَ يَنْتَهِي إلَى أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَضْلَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ حَقُّ الَّذِينَ غَابُوا وَيُرْجَى حُضُورُهُمْ إذَا انْتَهَى الْخَبَرُ إلَيْهِمْ. 2105 - فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ اللُّقَطَةِ فِي التَّعْرِيفِ ثُمَّ التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، وَالرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْأَمِيرِ، لَا إلَى صَاحِبِ الْمَقَاسِمِ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ إنَّمَا وَلَّاهُ الْقِسْمَةَ فَقَطْ، وَقَدْ انْتَهَتْ وِلَايَتُهُ بِإِتْمَامِ الْقِسْمَةِ فَيَكُونُ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فِيمَا يَجْعَلُهُ الْأَمِيرُ فِي يَدِهِ مِنْ نَصِيبِ بَعْضِ الْغَانِمِينَ، لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ. 2106 - إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْأَمِيرُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَمِيرِ كَانَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُضَمِّنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا بَاشَرَ فِيهِ فِعْلًا سِوَى مَا أَمَرَهُ بِهِ كَانَ خَائِنًا ضَامِنًا فِي حَقِّ مَنْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ إذَا أَتْلَفَ الْمَالَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْمُودِعِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُهُ، وَإِنْ أَخَذَ الْأَمِيرُ مِنْهُ ذَلِكَ وَتَصَدَّقَ بِهِ كَانَ جَائِزًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1143 2107 - فَإِذَا حَضَرَ أَصْحَابُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْأَمِيرَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ الْأَمِيرُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُلْتَقِطِ إذَا تَصَدَّقَ بِاللُّقَطَةِ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالضَّمَانِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ الْأَمِيرُ بِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ تَصَدُّقَهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ تَصَدُّقِ الْمُلْتَقِطِ بِاللُّقَطَةِ. 2108 - وَلَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ يَعْزِلُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ فَيَأْخُذَهُ أَوْ يَبْقَى فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَبَدًا. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ التَّصَدُّقِ بِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ يَرْجِعُ لَا عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ عَامِلًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا لَحِقَهُ فِيهِ ضَمَانٌ لَا الْأَمِيرُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ. 2109 - فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَقْرِضَهُ لِلْمَسَاكِينِ وَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْهُ. لِأَنَّهُ فِي هَذَا الِاسْتِقْرَاضِ نَاظِرٌ لِأَصْحَابِ هَذَا الْمَالِ وَلِلْمَسَاكِينِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ لِلنَّظَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1144 فَإِنْ جَاءَ لَهُ طَالِبٌ بَعْدَ هَذَا رَجَعَ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمَسَاكِينِ، حَتَّى يَدْفَعَ ذَلِكَ إلَى طَالِبِهِ. لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ نَفَذَ عَنْ وِلَايَةٍ، وَالْأَمِيرُ فِي هَذَا كَالْقَاضِي، إذَا وَصَلَتْ اللُّقَطَةُ إلَى يَدِهِ فَكَمَا أَنَّ تَصَدُّقَهُ هُنَاكَ لَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ حَتَّى إذَا صَاحَبَهُ ضَمِنَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَضْمَنُ عَلَى أَحَدٍ فَكَذَلِكَ حَالُ الْأَمِيرِ؛ لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ هُوَ الَّذِي وَلَّاهُ فَهُوَ فِيمَا وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ كَالْقَاضِي، بِخِلَافِ صَاحِبِ الْمَقَاسِمِ فَإِنَّ مَا فَعَلَ لَيْسَ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا وَلَّاهُ لِأَخْذِ ذَلِكَ. 2111 - وَلَوْ أَنَّ جُنْدًا عَظِيمًا أَصَابُوا غَنَائِمَ يَسِيرَةً فَأَخْرَجُوهَا ثُمَّ تَفَرَّقُوا لِقِلَّةِ غَنَائِمِهِمْ وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ فَإِنَّ الْأَمِيرَ يُعْطِي مَنْ بَقِيَ حِصَّتَهُ وَيَقِفُ حِصَّةَ الْبَاقِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ الْغَنِيمَةِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ مِثْلُ مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ. 2112 - وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُمْضِيَ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ حَقِيقَةً، فَلْيَضَعْهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَوْقُوفًا وَيَكْتُبْ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلِمَنْ هُوَ، وَمَا قَضِيَّتُهُ، فَيَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَبَدًا إلَى أَنْ يَحْضُرَ طَالِبُهُ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِيهِ حَقِيقَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1145 لِأَنَّ جَوَازَ التَّصَدُّقِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ بِاللُّقَطَةِ رُخْصَةٌ فَأَمَّا الْعَزِيمَةُ فَهُوَ الْكَفُّ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ وَحِفْظُهُ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ فَيَأْخُذَهُ. 2113 - وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِمَّا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ بَاعَهُ، وَوَقَفَ ثَمَنَهُ. لِأَنَّ حِفْظَهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ، ثُمَّ هَذَا الْبَيْعُ يَكُونُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ، حَتَّى إذَا حَضَرَ صَاحِبُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ بِخِلَافِ التَّصَدُّقِ بِهِ، فَإِنَّ بَيْعَهُ تَقْرِيرٌ لِمَا هُوَ الْحُكْمُ فِيهِ، وَهُوَ حِفْظُ الْمَالِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهِ، بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّ التَّصَدُّقَ بِهِ لَا يَكُونُ تَقْرِيرًا لِحِفْظِ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إيصَالٌ لِثَوَابِهِ إلَيْهِ إنْ رَضِيَ بِهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاقِعًا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ. 2114 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا غَلَّ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ ثُمَّ نَدِمَ، فَأَتَى بِهِ الْإِمَامُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَتَفَرَّقَ الْجَيْشُ، فَلِلْإِمَامِ فِي ذَلِكَ رَأْيٌ إنْ شَاءَ كَذَّبَهُ فِيمَا قَالَ، وَقَالَ: أَنَا لَا أَعْرِفُ صِدْقَك، وَقَدْ الْتَزَمْت وَبَالًا بِزَعْمِك، وَأَنْتَ أَبْصَرُ فِيمَا الْتَزَمْته، حَتَّى تُوَصِّلَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَ خُمُسَهُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى. لِأَنَّهُ وَجَدَ الْمَالَ فِي يَدِهِ، وَصَاحِبُ الْمَالِ مُصَدَّقٌ شَرْعًا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ حَالِ مَنْ فِي يَدِهِ، وَبِاعْتِبَارِ صِدْقِهِ خُمُسُهُ لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ فَيَصْرِفُ إلَيْهِمْ وَالْبَاقِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1146 يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ، إنْ طَمِعَ فِي أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَهْلِهِ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي ذَلِكَ قَسَمَهُ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ إنْ أَحَبَّ، وَإِلَّا جَعَلَهُ مَوْقُوفًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَشَأْنَهُ. 2115 - وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْغُلُولِ لَمْ يَأْتِ بِهِ الْإِمَامُ، وَلَكِنَّهُ تَابَ مِنْ الْغُلُولِ، وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَهْلِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ طَمِعَ فِي ذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي اللُّقَطَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَدَفْعُهُ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ أَحَبُّ إلَيَّ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي اللُّقَطَةِ أَيْضًا، وَبَعْدَ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ فِي تَصْدِيقِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَدَعَ الْخُمُسَ فِي يَدِهِ. لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ أَنَّ خُمُسَ مَا فِي يَدِهِ لِمَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَإِقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُمُسَ مِنْهُ، وَيَصْرِفَهُ إلَى الْمَصَارِفِ، حَتَّى لَا يَكُونَ مُضَيِّعًا حَقَّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1147 [بَابُ الْحُكْمِ فِي الْأُسَارَى عَبِيدِهِمْ وَأَحْرَارِهِمْ فِي أُمُورِهِمْ] 116 - بَابُ الْحُكْمِ فِي الْأُسَارَى عَبِيدِهِمْ وَأَحْرَارِهِمْ فِي أُمُورِهِمْ 2116 - حُكْمُ الْأُسَارَى بَعْدَ الْأَخْذِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ حُكْمُ الْعَبِيدِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ. لِأَنَّ الرِّقَّ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمْ بِالْقَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْمِلْكُ، فَإِنَّ الرِّقَّ عِبَارَةٌ عَنْ الضَّعْفِ، وَقَدْ كَانَ الضَّعْفُ مَوْجُودًا فِيهِمْ قَبْلَ الْأَخْذِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ عُرْضَةٌ لِلتَّمَلُّكِ لَكِنَّهُ كَانَ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِلْقُوَّةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْ طَرِيقِ الْحِسِّ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْأَسْرِ، فَثَبَتَ الرِّقُّ فِيهِمْ. 2117 - وَإِنْ تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى الْقِسْمَةِ أَوْ الْبَيْعِ حَتَّى وُجِدَ قَتِيلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَشَهِدَ مِنْهُمْ نَفَرٌ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ عَمْدًا فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُقْبَلْ. لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا نَوْعُ وِلَايَةٍ وَالرِّقُّ يَعْدَمُ الْوِلَايَةَ. 2118 - وَلَكِنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ أَسِيرٌ لَا أَمَانَ لَهُ، حَتَّى إذَا قَسَمَهُ أَوْ بَاعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِشَيْءٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1148 2119 - وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْهَا الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ حَالُهَا بَعْدَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَحَالِهَا قَبْلَهَا وَوَاضِحٌ هَذَا بِمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْجُنْدِ لَوْ أَعْتَقَ مِنْهُمْ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ اسْتَوْلَدَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفُذُ مِنْهُ فِي الْقِيَاسِ، وَلَا يَنْفُذُ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الرِّقُّ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ وَالِاسْتِيلَادِ لَهُمْ مَعْنًى. 2120 - وَلَوْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى دَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَصَيَّرَهَا دَارَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُخَمِّسَهَا وَيَقْسِمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَبَيْنَ أَنْ يَمُنَّ عَلَى أَهْلِهَا، فَيَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ. وَالْخَرَاجَ عَنْ أَرَاضِيِهِمْ، كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -[بِالسَّوَادِ فَإِنْ لَمْ يَفْرُقْ لَهُ فِيهِمْ رَأْيٌ حَتَّى شَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَتَلَ امْرَأَةً مِنْهُمْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، ثُمَّ فَرَقَ لَهُ فِيهِمْ أَحَدُ الرَّأْيَيْنِ فَشَهَادَتُهُمْ الْأُولَى بَاطِلَةٌ. لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَبِيدِ لِكَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ. 2121 - وَإِنْ أَعَادُوا تِلْكَ الشَّهَادَةَ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ قَسَمَهُمْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا. ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَعَيَّنَ فِيهِمْ بِالْقِسْمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1149 2122 - وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِيهِمْ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ جَعَلَهُمْ أَحْرَارَ الْأَصْلِ، وَالْعَبْدُ إذَا شَهِدَ فِي حَالِ رِقِّهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَجَبَ قَبُولُهَا، ثُمَّ يَغْرَمُ الْقَاتِلُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولَةِ فِي مَالِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِأَوْلِيَائِهَا عَلَى الْقَاتِلِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً، وَلَا قَوَدَ فِي ذَلِكَ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْهَدْرِ فِي دَمِهَا حِينَ قَتَلَهَا، وَلِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقَوَدِ حِينَ قَتَلَهَا لِتَرَدُّدِ حَالِهَا. ثُمَّ حَالُ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ عِنْدَ الْقَتْلِ كَحَالِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَقِيقٌ مُتَرَدِّدُ الْحَالِ. بَيْنَ أَنْ يَتَقَرَّرَ الْمِلْكُ فِيهِ بِالْقِسْمَةِ أَوْ الْحُرِّيَّةِ بِالْمَنِّ فَيَكُونُ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتِبُ إذَا قَتَلَ مُكَاتَبًا عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْقَاتِلِ وَمِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي كَسْبِ الْقَاتِلِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ إذَا حَكَمَ بِحُرِّيَّتِهِ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَتَلَ حُرًّا مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَطَأً فَإِنْ قَسَمَهُمْ الْإِمَامُ دَفَعَ بِهِ وَإِنْ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً غَرِمَ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُكَاتَبِ يَقْتُلُ حُرًّا خَطَأً. 2123 - وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَى قَاتِلِهِ. ؛ لِأَنَّ دَمَهُ حَلَالٌ وَمَنْ أَرَاقَ دَمًا حَلَالًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1150 وَلَوْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ قَبْلَ أَنْ يَفْرُقَ لَهُ فِيهِمْ رَأْيٌ فَشَهِدُوا شَهَادَةً لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَحَدٍ. لِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِمْ بِالْقَهْرِ لَا يَزُولُ بِالْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَهُمْ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مُكَاتَبٍ مُسْلِمٍ، شَهِدَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِذَا رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُمْ ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِي أَرَاضِيِهِمْ، يُؤَدُّونَ عَنْهَا الْخَرَاجَ فَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهِمْ هَذَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا، فَبَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَضَعُ الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَالْمُسْلِمُ لَا يُبْتَدَأُ بِالْخَرَاجِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجَ فِي الْأَرَاضِي، وَلَكِنْ يَجْعَلُهَا أَرْضَ عُشْرٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا مُسْلِمُونَ. قُلْنَا: لِأَنَّهُ إذَا قَسَمَهَا فَقَدْ مَلَّكَهَا الْغَانِمِينَ ابْتِدَاءً، فَكَانَ هَذَا تَوْظِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً فِي أَرْضِهِ فَأَمَّا إذَا مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَقَدْ قَرَّرَ مِلْكَهُمْ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ، وَقَدْ كَانَ ثَبَتَ بِهِ حَقُّ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى هَذِهِ الْأَرَاضِي فِي مِلْكِ أَهْلِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا، فَيَكُونَ هَذَا إبْقَاءً لِمَا ثَبَتَ مِنْ الْحَقِّ، وَإِبْقَاءُ الْخَرَاجِ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِ مُسْتَقِيمٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَظَّفَ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجَ ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُمْ خَرَاجُ الرُّءُوسِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ خَرَاجُ الْأَرَاضِي، فَكَذَلِكَ هَذَا. 2125 - فَإِنْ أَعَادُوا تِلْكَ الشَّهَادَةَ قَبِلَهَا الْإِمَامُ. لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ قَدْ تَقَرَّرَتْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَسَمَهُمْ، ثُمَّ أَعْتَقَهُمْ الْمَوَالِي فَأَعَادُوا تِلْكَ الشَّهَادَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1151 فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُقَ لَهُ فِيهِمْ الرَّأْيُ وَفِيمَنْ أَسْلَمَ رَجُلٌ لَهُ أَبٌ مُسْلِمٌ، مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ غَيْرَ الْأَسِيرِ مِنْهُمَا لَمْ يَرِثْهُ الْأَسِيرُ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْأَسِيرُ مِنْهُمَا وَرِثَهُ الْمُسْلِمُ الْآخَرُ. لِأَنَّ الْأَسِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لِتَرَدُّدِ حَالِهِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ [وَالْمُكَاتَبُ] لَا يَرِثُ أَحَدًا وَيَرِثُهُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ إذَا حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ مُكَاتَبٍ يَمُوتُ عَنْ وَفَاءٍ فَيُؤَدِّي كِتَابَتَهُ وَيَحْكُمُ بِحُرِّيَّتِهِ. 2127 - وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأُسَرَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَاتَ، وَوَارِثُهُ أَسِيرٌ فِي الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَالَ الْمَيِّتِ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ الْمُسْلِمِ. لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْوَارِثِ وَالْمَوْرُوثِ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مُكَاتَبٍ يَمُوتُ، وَلَهُ وَلَدٌ مَوْلُودٌ فِي كِتَابَتِهِ، ثُمَّ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ حِينَ مَاتَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَحُرِّيَّتُهُ حِينَ مَاتَ مُتَقَرِّرَةٌ، وَالْأَسِيرُ مُتَرَدِّدٌ فِي الْحَالِ فَلَا يُمْكِنُ تَوْرِيثُهُ عَنْهُ، وَإِنْ ظَهَرَتْ حُرِّيَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1152 لِأَنَّ حُكْمَ التَّوْرِيثِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ يَتَقَرَّرُ بِنَفْسِ الْمَوْتِ، وَهَا هُنَا الْمَيِّتُ كَانَ مُتَرَدِّدَ الْحَالِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَالْوَارِثِ، فَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا وَحُكْمُ الْإِرْثِ فِي الْمَالِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الْمُكَاتَبِ الْحُرِّيَّةُ تَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ، أَوْ يُجْعَلُ هُوَ كَالْحَيِّ حُكْمًا، إلَى وَقْتِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هَا هُنَا، فَكَيْفَ يَجْرِي الْإِرْثُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: ذَلِكَ الْمَعْنَى هَا هُنَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ هَا هُنَا إذَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَقَدْ قَرَّرَ فِيهِمْ حُرِّيَّةً كَانَتْ، وَهُنَاكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ ثَبَتَتْ حُرِّيَّةٌ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَطُّ فِي الْمُكَاتَبِ، فَإِذَا صَحَّ أَنْ يُجْعَلَ حَيًّا حُكْمًا لِإِثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ ابْتِدَاءً لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، فَلَأَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ هَا هُنَا لِتَقْرِيرِ حُكْمِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ كَانَ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ مُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا مَعَ هَذَا الْأَسِيرِ، فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ، وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ وَوَلَدٌ مَوْلُودٌ فِي الْكِتَابَةِ. 2128 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ رَجُلًا مِنْ الْأُسَرَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً، فَإِنَّ الْقَاتِلَ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ، إنْ كَانَ عَمْدًا، فَفِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ. ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْحِلِّ فِي دَمِهِ قَدْ زَالَتْ بِإِسْلَامِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْقَاتِلِ لِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَحِقِّ فَإِنَّ الْإِمَامَ إنْ يَجْعَلُهُمْ ذِمَّةً كَانَ الْمُسْتَحِقُّ وَرَثَتَهُ، وَإِنْ بَدَا لَهُ الْقِسْمَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ فِي اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ فَلِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَحِقِّ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ وَلَكِنْ تَجِبُ قِيمَتُهُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ خَطَأً. وَيَكُونُ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْلَاكِهِ فِي التَّوْرِيثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1153 فَإِنْ مَاتَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَهُ وَمَاتَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ مِنْ الْأُسَرَاءِ بَعْدَهُ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً فَإِنَّ مَا تَرَكَهُ الْأَسِيرُ الْأَوَّلُ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْأُسَرَاءِ، وَمِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا عِنْدَ مَوْتِهِ، وَبَعْدَ مَا حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ يَسْتَنِدُ الْإِرْثُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ. 2130 - وَلَا يَرِثُ الْأَسِيرَ الَّذِي مَاتَ آخَرُ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلَا يَرِثُهُ أَيْضًا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. لِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ، فَكَيْفَ يَرِثُهُ؟ وَالْأَسِيرُ وَإِنْ كَانَ حَيًّا عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُتَرَدِّدَ الْحَالِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَلَا يَرِثُ شَيْئًا مِمَّنْ هُوَ مُتَيَقَّنُ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مُكَاتَبٍ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ، وَتَرَكَ ابْنًا حُرًّا وَابْنًا مَوْلُودًا فِي الْكِتَابَةِ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ الْحُرُّ عَنْ مَالٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ عَنْ مَالٍ، ثُمَّ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ، فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ كَسْبِ الْأَبِ يَرِثُهُ الِابْنَانِ جَمِيعًا، وَلَا يَرِثُ وَاحِدٌ مِنْ الِابْنَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ لِمَا بَيَّنَّا. 2131 - وَلَوْ أَنَّ بَعْضَ الْأُسَرَاءِ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ أَوْ بَاعَهُ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ مَوْقُوفٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1154 لِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَسْلَمَ بِالْمَنِّ وَبَيْنَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْقِسْمَةِ، فَيَتَوَقَّفَ تَصَرُّفُهُ لِتَوَقُّفِ مِلْكِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي كَسْبِهِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَوْلَى جَعَلَهُ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَأَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ، وَهَا هُنَا الْحَجْرُ بِسَبَبِ الْقَهْرِ ثَابِتٌ فِي كَسْبِهِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ فَلِهَذَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ فِي كَسْبِهِ، فَإِنْ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً نَفَذَ تَصَرُّفُهُ. 2132 - فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ أَدَّى إلَيْهِ الْكِتَابَةَ ثُمَّ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ فِي يَدِ الْمَوْلَى لَمْ يَسْتَهْلِكْهَا فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ قَبْضِهِ كَانَ مَوْقُوفًا وَقَدْ نَفَذَ ذَلِكَ بِالْمَنِّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ الْمَقْبُوضُ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ بَعْدَ الْمَنِّ، فَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ. 2133 - وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْمَقْبُوضَ لَمْ يُعْتَقْ الْمُكَاتَبُ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إنَّمَا نَفَذَتْ بَعْدَ الْمَنِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، بَعْدَ نُفُوذِ الْعَقْدِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا؛ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَإِنَّ حُكْمَ التَّوَقُّفِ لَا يَبْقَى فِي الْمَقْبُوضِ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ لَا إلَى بَدَلٍ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْقَابِضِ، سَوَاءٌ قَسَمَهُمْ الْإِمَامُ أَوْ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1155 2134 - وَإِنْ كَانَ أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ أَوْ دُونَهُ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ، وَجِهَةُ الْبُطْلَانِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْمُكَاتَبِ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَلَيْسَ لَهُ بِحَقِيقَةِ الْمِلْكِ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَكَذَلِكَ مِنْ الْأَسِيرِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ. 2135 - وَلَوْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى دَارَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَقْسِمْهُمْ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ ذِمَّةً حَتَّى مَاتَ بَعْضُهُمْ، وَتَرَكَ وَرَثَةً مِنْ أَهْلِ دَارِهِ وَوَرَثَةً مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الْأُخْرَى، ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً، فَمِيرَاثُ الْمَيِّتِ لِوَرَثَتِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِهِ خَاصَّةً. ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الدَّارَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، لِانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ بِتَبَايُنِ الْمَنَعَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَبْقَى إلَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً، أَوْ يَقْسِمَهُمْ. 2136 - وَإِنَّمَا حَالُهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ كَحَالِ الْمُكَاتَبِينَ، هُمْ إخْوَةٌ وَمُكَاتَبَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَلِبَعْضِهِمْ ابْنٌ مُكَاتَبَتُهُ عَلَى حِدَةٍ، فَمَاتَ الْأَبُ عَنْ مَالٍ ثُمَّ أَدَّى ابْنُهُ فَعَتَقَ ثُمَّ أُدِّيَتْ مُكَاتَبَةُ الْمَيِّتِ، فَإِنَّ إخْوَتَهُ يَرِثُونَهُ دُونَ ابْنِهِ. لِأَنَّ الِابْنَ كَانَ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ، فَلَا تَسْتَنِدُ حُرِّيَّتُهُ إلَى مَا اسْتَنَدَتْ إلَيْهِ حُرِّيَّةُ أَبِيهِ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1156 2137 - وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ صَيَّرَهُمْ ذِمَّةً قَبْلَ مَوْتِ الرَّجُلِ تَوَارَثُوا جَمِيعًا. لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ. 2138 - وَإِنْ صَيَّرَ مِنْ إحْدَى الدَّارَيْنِ ذِمَّةً، ثُمَّ مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الْأُخْرَى ثُمَّ صَيَّرَهُمْ ذِمَّةً بَعْدَ ذَلِكَ، وَرِثَ الْمَيِّتُ جَمِيعَ وَرَثَتِهِ مِنْ أَهْلِ الدَّارَيْنِ. أَمَّا مَنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِ دَارِهِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الْأُخْرَى فَلِأَنَّهُمْ صَارُوا أَحْرَارًا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَيَرِثُونَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1157 [بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الْغَنِيمَةِ] 117 - بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الْغَنِيمَةِ 2139 - وَإِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى حِصْنٍ، وَسَرِيَّةٍ أُخْرَى إلَى حِصْنٍ آخَرَ، فَدَخَلَتْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى وَظَفِرُوا بِأَهْلِ حِصْنِهِمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ مَرَّتْ بِهِمْ السَّرِيَّةُ الْأُخْرَى وَظَفِرُوا بِأَهْلِ حِصْنِهِمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ لَمْ تَلْتَقِ السَّرِيَّتَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى خَرَجَتَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَجَمِيعُ مَا غَنِمَتْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى يَشْتَرِكُ فِيهِ السَّرِيَّتَانِ، وَمَا غَنِمَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ فَهُوَ لَهُمْ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ حِينَ الْتَقَتْ بِالسَّرِيَّةِ الْأُولَى فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ لَهُمْ الشَّرِكَةُ فِي الْمُصَابِ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لَهُمْ، ثُمَّ لَا تَبْطُلُ تِلْكَ الشَّرِكَةُ بِإِمْعَانِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَخُرُوجُ السَّرِيَّةِ الْأُولَى قَبْلَهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَمَا أَصَابَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ فَهُمْ الَّذِينَ تَفَرَّدُوا فِيهَا بِالْإِصَابَةِ وَالْإِحْرَازِ، وَمَا لَقِيَهُمْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى بَعْدَ هَذِهِ الْإِصَابَةِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا. 2140 - وَلَوْ كَانُوا الْتَقَوْا جَمِيعًا فِي دَارِ الْحَرْبِ اشْتَرَكُوا فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1158 لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي إحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِصَابَةِ فِي حَقِّ كُلِّ غَنِيمَةٍ. 2141 - وَلَوْ كَانَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ لَمْ يَبْعَثْهَا الْإِمَامُ تُقَاتِلُ الرُّومَ، وَلَكِنَّهُ بَعَثَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَدُوًّا غَيْرَ الرُّومِ وَطَرِيقُهُمْ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَمْ يُشْرِكْ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِيمَا أَصَابُوا هَا هُنَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَيَسْتَوِي إنْ الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ يَلْتَقُوا. لِأَنَّ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ هَا هُنَا مَا قَصَدُوا قِتَالَ الرُّومِ، فَلَا يَكُونُونَ فِي حُكْمِ الْمَدَدِ لِلسَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ لِقِتَالِ الرُّومِ، بَلْ كُلُّ سَرِيَّةٍ فِي حَقِّ مَا أَصَابَتْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ التُّجَّارِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، فَلَا يُشْرِكْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمُصَابِ، وَإِنْ الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَصْدُ كُلِّ سَرِيَّةٍ قِتَالُ أَهْلِ الدَّارِ الَّتِي تُقَاتِلُهَا السَّرِيَّةُ الْأُخْرَى، فَكَانَ بَعْضُهُمْ مَدَدًا لِبَعْضٍ إذَا الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ إذَا قَهَرَ بَعْضُهُمْ يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ الْقَهْرِ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ، وَأَهْلُ الدَّارَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ لَا يَصْبِرُ بَعْضُهُمْ مَقْهُورَيْنِ بِقَهْرِ الْبَعْضِ، وَرُبَّمَا يَزْدَادُونَ قُوَّةً بِذَلِكَ. 2142 - فَإِذَا بُعِثَتْ السَّرِيَّتَانِ لِقِتَالِ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ يُمْكِنُ جَعْلُ إحْدَاهُمَا مَدَدًا لِلْأُخْرَى، بِاعْتِبَارِ أَنَّ قَصْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَهْرُ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِيمَا إذَا بُعِثَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ لِقِتَالِ أَهْلِ دَارٍ أُخْرَى، فَإِذَا الْتَقَتْ السَّرِيَّتَانِ فِي دَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1159 الْحَرْبِ بِغَنَائِمَ فَلَقَوْا جُنْدًا مِنْ الرُّومِ فَقَاتَلُوهُمْ عَنْ غَنَائِمِهِمْ، فَهَزَمُوا أَهْلَ الرُّومِ وَأَصَابُوا غَنَائِمَ ثُمَّ خَرَجُوا اشْتَرَكُوا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ مُحْرَزًا بِقِتَالِهِمْ، وَنُصْرَتِهِمْ جَمِيعًا وَحَالُهُمْ الْآنَ كَحَالِ التُّجَّارِ إذَا لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ دَفْعًا عَنْ الْغَنَائِمِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ لِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى شَرِكَةٌ مَعَ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ، فِيمَا أَصَابُوا مِنْ غَيْرِ الرُّومِ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوا ذَلِكَ مِنْ الدَّارِ الَّتِي أَصَابُوا فِيهَا، قَبْلَ أَنْ تَلْحَقَ بِهِمْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى، فَلَا يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ الْتَحَقَ الْمَدَدُ بِالْجَيْشِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَاتَلُوا مَعَهُمْ الْعَدُوَّ دَفْعًا عَنْ تِلْكَ الْغَنَائِمِ قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ حَقَّهُمْ لَا يَتَأَكَّدُ فِي الْمُصَابِ بِالْإِخْرَاجِ إلَى تِلْكَ الدَّارِ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ حَقُّهُمْ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ اخْتِلَافِ الدَّارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الْكُلُّ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ إذَا تَمَّ السَّبَبُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرُوا قَاهِرِينَ يَدًا وَدَارًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ، وَإِنْ أَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ حَرْبٍ أُخْرَى، مَا لَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ بَعَثَ جُنْدًا إلَى عَدُوٍّ خَلْفَ الرُّومِ ثُمَّ عَمِيَ عَلَيْهِمْ خَبَرُهُمْ فَبَعَثَ جُنْدًا آخَرَ فِي طَلَبِهِمْ لِنُصْرَتِهِمْ، فَوَجَدُوهُمْ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَمَعَهُمْ الْغَنَائِمُ قَدْ جَاءُوا بِهَا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي بُعِثُوا إلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا، لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1160 وَلَوْ بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى أَرْضِ الرُّومِ، فَأَصَابُوا فِيهَا غَنَائِمَ، ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةً أُخْرَى إلَى عَدُوٍّ خَلْفَ الرُّومِ، فَلَقُوا السَّرِيَّةَ الْأُولَى، وَحَضَرَ الشِّتَاءُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الذَّهَابِ، وَكَتَبَ إلَيْهِمْ الْإِمَامُ يَأْمُرُهُمْ بِالرَّجْعَةِ مَعَ أَصْحَابِهِمْ، وَبِنُصْرَتِهِمْ، فَخَرَجُوا جَمِيعًا بِغَنَائِمِ السَّرِيَّةِ الْأُولَى، فَلَا شَرِكَةَ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ مَا دَخَلُوا لِنُصْرَتِهِمْ، فَكَانُوا كَالتُّجَّارِ فِي حَقِّهِمْ، إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فَحِينَئِذٍ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ التُّجَّارِ. 2144 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ مَبْعُوثَةً إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الرُّومِ أَيْضًا. لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ السَّرِيَّتَيْنِ إنَّمَا بُعِثَتْ لِقِتَالِ الرُّومِ، فَكَانَتْ [كُلُّ] وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْمَدَدِ لِلْأُخْرَى، سَوَاءٌ عَلِمُوا بِمَكَانِهِمْ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا. 2145 - فَإِذَا الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانُوا شُرَكَاءَ فِيمَا أَصَابُوا. 2146 - وَلَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَخَلَّفُوا مَعَهَا أُنَاسًا، وَمَضَوْا أَيَّامًا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، وَدَخَلَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَأَخَذَتْ الْغَنَائِمَ الَّتِي خَلَّفُوا، وَخَرَجُوا بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1161 أَقْبَلَ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْغَنَائِمِ الْأُخْرَى حَتَّى خَرَجُوا بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْغَنِيمَةَ الْأُولَى تَشْتَرِكُ فِيهَا السَّرِيَّتَانِ جَمِيعًا. لِأَنَّ السَّرِيَّةَ الْأُولَى أَصَابُوهَا وَالثَّانِيَةَ أَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ. 2147 - فَأَمَّا الْغَنِيمَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ لِلَّذِينَ مَضَوْا خَاصَّةً، لَا شَرِكَةَ فِيهَا لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَلَا لِأَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ كَانُوا تَخَلَّفُوا مَعَ الْغَنَائِمِ الْأُولَى. لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ أَصَابُوهَا وَأَحْرَزُوهَا بِالدَّارِ، لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. 2148 - وَلَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ أَسْلَمَ رَجُلٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَتَلَ قَوْمًا مِنْهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَالْتَحَقَ بِالسَّرِيَّةِ، ثُمَّ خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا، فَلِلسَّرِيَّةِ شَرِكَةٌ مَعَ الرَّجُلِ فِيمَا أَصَابَ. ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزَهُ بِمَنَعَتِهِمْ، وَشَارَكُوهُ فِي إحْرَازِ ذَلِكَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. 2149 - وَلَا شَرِكَةَ لِلرَّجُلِ مَعَ السَّرِيَّةِ فِيمَا أَصَابُوا. لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِهِمْ عَلَى قَصْدِ النَّجَاةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ حَالُهُ كَحَالِ التَّاجِرِ يَلْتَحِقُ بِالسَّرِيَّةِ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ. 2150 - وَإِنْ لَقَوْا قِتَالًا بَعْدَ مَا الْتَحَقَ بِهِمْ الرَّجُلُ اشْتَرَكُوا فِي الْمُصَابِ كُلِّهِ. لِأَنَّ الرَّجُلَ قَاتَلَ عَنْ غَنَائِمِهِمْ فَيُشْرِكُهُمْ فِيهَا كَالتَّاجِرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1162 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي الْتَحَقَ بِهِمْ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أُسِرَ قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ. لِأَنَّ كَحَالِ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا قَصَدَ النَّجَاةَ بِالِالْتِحَاقِ بِهِمْ. 2152 - وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا مِنْ هَذِهِ السَّرِيَّةِ وَالْمَسْأَلَةِ بِحَالِهَا، فَإِنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا أَصَابُوا، وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ، ثُمَّ اعْتَرَضَ لَهُ عَارِضٌ غَيْرُ قَادِحٍ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ، فَإِذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. 2153 - فَإِنْ لَمْ يَلْتَحِقْ هَذَا الْأَسِيرُ بِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا شَرِكَةَ لِلسَّرِيَّةِ مَعَ الْأَسِيرِ فِيمَا أَصَابَ. لِأَنَّهُمْ مَا شَارَكُوهُ فِي الْإِصَابَةِ وَلَا فِي الْإِحْرَازِ. 2154 - وَلَا شَرِكَةَ لَهُ مَعَهُمْ فِيمَا أَصَابُوا بَعْدَ مَا أُسِرَ هُوَ. ؛ لِأَنَّهُ مَا شَارَكَهُمْ فِي الْإِصَابَةِ وَلَا فِي الْإِحْرَازِ. 2155 - وَلَكِنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا كَانُوا أَصَابُوا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ. لِأَنَّهُ شَارَكَهُمْ فِي الْإِصَابَةِ فَثَبَتَ حَقُّهُ فِيهَا. 2156 - ثُمَّ بِالْأَسْرِ لَا يَبْطُلُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1163 وَحَالُهُ فِي ذَلِكَ كَحَالِ السَّرِيَّةِ الَّتِي امْتَنَعَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ. 2157 - وَلَوْ أَنَّ سَرِيَّةً حَاصَرُوا أَهْلَ حِصْنٍ لَهُمْ كَنَائِسُ خَارِجَةٌ مِنْ حِصْنِهِمْ فَأَرَادُوا هَدْمَهَا فَقَالُوا نَفْدِيهَا مِنْكُمْ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَأَخَذُوهَا وَمَضَوْا فِي أَرْضِ الرُّومِ، ثُمَّ جَاءَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَأَرَادُوا هَدْمَ الْكَنَائِسِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُخَرِّبُوهَا، وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ مَا جَرَى بَيْنَ أَهْلِ الْحِصْنِ وَبَيْنَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا بَذَلُوا الدَّنَانِيرَ لِيَدْفَعُوا أَهْلَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى عَمَّا قَصَدُوا مِنْ الْهَدْمِ، وَلِيَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ، فَكَانَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ فِي سَعَةٍ مِنْ هَدْمِهَا. 2158 - إلَّا أَنْ يُصَالِحُوهُمْ أَيْضًا، فَإِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ أُخْرَى وَأَخَذُوهَا ثُمَّ الْتَقَتْ السَّرِيَّتَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، اشْتَرَكُوا فِي الْفِدَاءَيْنِ مَعَ الْغَنَائِمِ كُلِّهَا. لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَى سَبِيلِ الْفِدَاءِ فَيْءٌ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحِصْنِ مَا دَفَعُوا ذَلِكَ إلَّا لِيُزِيلُوا قَهْرَهُمْ عَنْهُمْ، وَالْمَأْخُوذُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ غَنِيمَةً. 2159 - فَإِنْ مَرَّتْ السَّرِيَّتَانِ بِذَلِكَ الْحِصْنِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُخْرِبُوا شَيْئًا مِنْهُ مَا لَمْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1164 فِيمَا سَبَقَ أَنَّ صُلْحَ كُلِّ سَرِيَّةٍ مُطْلَقًا يَتَقَيَّدُ بِمُدَّةِ بَقَائِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْخَوْفَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ إنَّمَا كَانَ بِذَلِكَ السَّبَبِ. فَإِنْ خَرَجُوا ثُمَّ رَجَعُوا غُزَاةً فَلَا بَأْسَ بِتَخْرِيبِهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الصُّلْحِ قَدْ انْتَهَى بِخُرُوجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، إذْ حَالُهُمْ فِي الرَّجْعَةِ كَحَالِ جَيْشٍ آخَرَ، فَلَا بَأْسَ بِهَدْمِ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ. 2160 - إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْعَدُوُّ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنْ كَانُوا حِينَ انْصَرَفُوا عَنْهَا دَاخِلِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَدْ صَارَ الْعَدُوُّ دُونَهَا، وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، وَمَنَعُوهَا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى أَجْلَوْهُمْ عَنْهَا، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُخَرِّبُوهَا؛ أَهْلُ السَّرِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ حِينَ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ دَفْعًا عَنْهَا فَقَدْ أَحْرَزُوهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَانْتَبَذَ مَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ أَمَانٍ بِهَذَا الْإِحْرَازِ. 2161 - وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ صَالَحُوهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ مَجَانِيقَهُمْ، وَيَنْصَرِفُوا عَنْ حِصْنِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْهِمْ، فَوَجَدُوهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ الْحِصْنِ وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى انْهَزَمُوا وَدَخَلُوا الْحِصْنَ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ وَهَدْمُ حِصْنِهِمْ. وَلَوْ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْحِصْنِ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1165 حَتَّى مَرُّوا بِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا مِنْهُمْ الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ وَعَنْ حِصْنِهِمْ مَا دَامُوا فِي حِصْنِهِمْ حَلَّ قِتَالُهُمْ أَيْضًا، لِانْتِهَاءِ الصُّلْحِ بِخُرُوجِهِمْ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ وَقَعَ الْفِدَاءُ عَلَى أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ وَعَنْ حِصْنِهِمْ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَلِكُهُمْ بَعَثَ قَوْمًا فَأَنْزَلَهُمْ الْحِصْنَ فَقَاتَلَهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ بُعِثُوا وَسِعَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُ أَهْلِ الْحِصْنِ وَتَخْرِيبُ الْحِصْنِ وَالْكَنَائِسِ. ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا نَزَلُوا حِصْنَهُمْ لِيَنْصُرُوهُمْ، وَلِيَزْدَادُوا قُوَّةً بِهِمْ، فَكَانَ قِتَالُهُمْ كَقِتَالِ أَهْلِ الْحِصْنِ. 2162 - وَلَوْ كَانَتْ السَّرِيَّةُ مَبْعُوثَةً مِنْ الْجُنْدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَأَخَذُوا مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ الْفِدَاءَ مِنْ كَنَائِسِهِمْ، ثُمَّ مَضَتْ وَجَاءَ الْعَسْكَرُ فَأَرَادُوا هَدْمَ الْكَنَائِسِ، وَعَلِمُوا مَا صَنَعَتْ السَّرِيَّةُ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ عِنْدَ الصُّلْحِ بِالْقُرْبِ مِنْ الْحِصْنِ، عَلَى وَجْهٍ لَوْ اسْتَعَانَتْ بِهِمْ السَّرِيَّةُ قَدَرُوا عَلَى أَنْ يُعِينُوهُمْ، فَلَيْسَ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ أَنْ يُخَرِّبُوا كَنَائِسَهُمْ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا رِدْءًا لِلسَّرِيَّةِ، وَالرِّدْءُ فِي الْحُكْمِ كَالْمُبَاشِرِ، فِيمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1166 2163 - وَلَوْ كَانُوا مَعَ السَّرِيَّةِ حِينَ وَقَعَ الصُّلْحُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَهْدِمُوا الْكَنَائِسَ بِدُونِ رَدِّ الْمَالِ، كَمَا لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلسَّرِيَّةِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ حَالَهُمْ الْآنَ كَحَالِ جَيْشٍ آخَرَ جَاءَ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّرِيَّةَ لَوْ خَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الِالْتِحَاقِ بِالْجَيْشِ كَانَ لِلْجَيْشِ مَعَهُمْ الشَّرِكَةُ فِي الدَّنَانِيرِ الْمَقْبُوضَةِ، فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ. 2164 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ الْمَبْعُوثَةَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ أَصَابَتْ غَنَائِمَ وَخَلَّفُوهَا مَعَ أُجَرَائِهِمْ، وَخَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ دَخَلَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَلَقَوْا الْأُجَرَاءَ، وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، وَخَرَجُوا مَعَ الْأُجَرَاءِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَغَنِيمَةُ السَّرِيَّةِ الْأُولَى تَشْتَرِك فِيهَا السَّرِيَّتَانِ، لِوُجُودِ الْإِصَابَةِ مِنْ إحْدَاهُمَا، وَالْإِحْرَازِ مِنْ الْأُخْرَى، وَلَا شَرِكَةَ لِلسَّرِيَّةِ الْأُولَى فِيمَا أَصَابَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي الْإِصَابَةِ وَلَا فِي الْإِحْرَازِ. 2165 - وَلَوْ كَانَتْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى بَعَثُوا الْغَنَائِمَ مَعَ الْأُجَرَاءِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ دَخَلَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَأَصَابَتْ غَنَائِمَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1167 ثُمَّ الْتَقَتْ السَّرِيَّتَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَخَرَجُوا فَلَا شَرِكَةَ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ فِي غَنَائِمِ السَّرِيَّةِ الْأُولَى. لِأَنَّهُمْ مَا شَارَكُوهُمْ فِي الْإِصَابَةِ وَلَا فِي الْإِحْرَازِ. 2166 - وَلِأَهْلِ السَّرِيَّةِ الْأُولَى الشَّرِكَةُ فِي غَنَائِمِ السَّرِيَّةِ الْأُخْرَى. لِأَنَّهُمْ شَارَكُوهُمْ فِي إحْرَازِهَا بِالدَّارِ حِينَ الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَخَرَجُوا مَعَهُمْ. 2167 - فَإِنْ لَمْ يَلْتَقُوا فَلَا شَرِكَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا. لِأَنَّ السَّرِيَّةَ الْأَخِيرَةَ تَفَرَّدَتْ بِالْإِصَابَةِ وَالْإِحْرَازِ، فَإِنَّ أَهْلَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى مَا كَانُوا مَعَهُمْ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَلَا بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ بِحَيْثُ لَوْ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ أَغَاثُوهُمْ. 2168 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ الْأُولَى خَلَّفُوا غَنَائِمَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَضَوْا حَتَّى الْتَقَوْا مَعَ السَّرِيَّةِ الْأُخْرَى، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ ثُمَّ خَرَجُوا، قَبْلَ أَنْ يَلْقَوْا الَّذِينَ خَلَّفُوهُمْ مَعَ غَنَائِمِهِمْ، الْأُولَى لِأَهْلِ السَّرِيَّةِ الْأُولَى خَاصَّةً. لِأَنَّ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ مَا شَارَكُوهُمْ فِي الْإِصَابَةِ، وَلَا فِي الْإِحْرَازِ، وَالْغَنِيمَةُ الثَّانِيَةُ بَيْنَ الَّذِينَ أَحْرَزُوهَا مِنْ أَهْلِ السَّرِيَّتَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1168 2169 - وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ مَضَوْا لَقَوْا السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ الَّذِينَ خَلَّفُوا عَلَى الْغَنَائِمِ اشْتَرَكَ الْكُلُّ فِي جَمْعِ مَا أَصَابُوا. لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُغِيثَ الْبَعْضَ لَوْ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ جَيْشٍ وَاحِدٍ، بَعْضُهُمْ رِدْءٌ لِلْبَعْضِ وَإِنْ كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْهُمْ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ عَسْكَرَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ دَخَلُوا أَرْضَ الرُّومِ مِنْ جَانِبَيْنِ. 2170 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ الَّتِي حَاصَرَتْ حِصْنًا أَصَابُوا غَنَائِمَ فِيهِمْ سَبَايَا، ثُمَّ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى فَتْحِ الْحِصْنِ، فَسَأَلَهُمْ أَهْلُ الْحِصْنِ الْمُفَادَاةَ بِالْمَالِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا انْتِسَاخُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ. 2171 - فَإِنْ فَعَلُوا جَازَ ذَلِكَ. لِأَنَّ فِعْلَهُمْ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ ظَاهِرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ. 2172 - فَإِنْ دَخَلَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَالْتَقَوْا مَعَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي فِدَاءِ أُولَئِكَ السَّبْيِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ فِدَاءِ الْكَنَائِسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1169 لِأَنَّ مَا أَخَذُوهُ عِوَضًا عَنْ السَّبْيِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ، فَقَدْ كَانُوا أَثْبَتُوا الْيَدَ عَلَى السَّبْيِ، ثُمَّ سَلَّمُوهُمْ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ بِمَا أَخَذُوا مِنْهُمْ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْجَيْشِ أَصَابُوا غَنَائِمَ وَبَاعُوهَا أَوْ قَسَمُوهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ. وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فَلَمْ تَصِرْ مُحْرَزَةً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ فِيهَا، فَكَانَ مَا أَخَذُوا مِنْ الْفِدَاءِ فِي حُكْمِ مَالِ غَنِيمَةٍ ابْتِدَاءً، وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقَ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ بَاعَ السَّبْيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ بَيْعُهُ، وَلَوْ بَاعَ كَنَائِسَهُمْ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ الْأَرْضُ دَارَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ. 2173 - وَلَوْ كَانَتْ السَّرِيَّةُ مَبْعُوثَةً مِنْ الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ الْعَسْكَرُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ حِينَ أَخَذَتْ السَّرِيَّةُ السَّبْيَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ شَرَكُوهُمْ فِي فِدَاءِ السَّبْيِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانُوا حَضَرُوا مَعَهُمْ. وَإِنْ كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْهُمْ فَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ قَدْ نَهَى أَمِيرَ السَّرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ السَّبْيِ، أَوْ يُفَادِيَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِدَاءُ السَّبْيِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ، فَفِعْلُهُ لَا يَكُونُ بَيْعًا لَكِنَّهُ يَكُونُ رَدًّا لِلسَّبْيِ عَلَيْهِمْ، فَكَأَنَّ رَدَّهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ. فَلَوْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانُوا شُرَكَاءَ فِي الْمَالِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ حِينَ فَوَّضَ إلَيْهِ تَدْبِيرَ السَّرِيَّةِ مُطْلَقًا فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ، وَيَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1170 الْفِدَاءُ مِنْهُمْ مَأْخُوذًا بِطَرِيقِ الثَّمَنِ، فَلَا شَرِكَةَ فِيهِ لِمَنْ يَلْحَقُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِكَتُهُ ثَابِتَةً فِي السَّبْيِ قَبْلَ الْبَيْعِ، بِأَنْ كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ. 2174 - وَلَوْ قَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ لِلسَّرِيَّةِ نَهَبُ لَكُمْ أَلْفَ دِينَارٍ نَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَيْكُمْ، عَلَى أَنْ تَنْصَرِفُوا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِمْ الْعَسْكَرُ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْمَالِ. لِأَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ بِطَرِيقِ الْفِدَاءِ حِينَ شَرَطُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ بَعْدَ مَا قَبَضُوا الْمَالَ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُمْ إلَّا أَنْ يَرُدُّوا الْمَالَ عَلَيْهِمْ. 2175 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبُوا لَهُمْ الْمَالَ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ. لِأَنَّ الْمَالَ هُنَاكَ مَأْخُوذٌ بِجِهَةِ التَّبَرُّعِ الْمَحْضِ أَوْ بِسَبَبِ تَعَمُّدِ الْمُرَاضَاةِ بِأَنْ كَانُوا اشْتَرَوْا مِنْ السَّرِيَّةِ شَيْئًا بِهَا فَلَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ. 2176 - وَلَوْ بَاعَتْ السَّرِيَّةُ مِنْهُمْ شَيْئًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْحِصْنِ فِي الشِّرَاءِ الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لِلسَّرِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ قِيمَةِ مَا بَاعُوا، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْمُعَسْكَرِ. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْا الزِّيَادَةَ بِإِزَاءِ مَا شَرَطُوا عَلَيْهِمْ مِنْ الِانْصِرَافِ فَكَانَ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1171 غَنِيمَةً، وَأَمَّا مِقْدَارُ الْقِيمَةِ فَإِنَّمَا أَعْطَوْهُ عِوَضًا عَمَّا أَخَذُوا مِنْ تِلْكَ السَّرِيَّةِ فَيَخْتَصُّونَ بِهِ. 2177 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ الْمَبْعُوثَةَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ أَصَابَتْ سَبْيًا وَغَنَائِمَ فَجَعَلُوهَا فِي الْكَنِيسَةِ، وَقَيَّدُوا السَّبْيَ فِيهَا، وَأَغْلَقُوا الْبَابَ عَلَيْهِمْ، وَدَفَنُوا الْأَمْوَالَ، ثُمَّ مَضَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَجَاءَتْ سَرِيَّةٌ أُخْرَى فَفَتَحُوا بَابَ الْكَنِيسَةِ، وَأَخَذُوا الْأُسَارَى، وَاسْتَخْرَجُوا الْأَمْوَالَ، وَخَرَجُوا بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَاءَتْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى، فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ يَشْتَرِك فِيهَا أَهْلُ السَّرِيَّتَيْنِ. لِأَنَّ إحْدَاهُمَا أَصَابَتْ وَالْأُخْرَى أَحْرَزَتْهَا بِالدَّارِ. 2178 - فَإِنْ لَمْ تَنْتَهِ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ إلَى تِلْكَ الْكَنِيسَةِ حَتَّى خَرَجَتْ السَّرِيَّةُ الْأُولَى إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَتِلْكَ الْأَمْوَالُ كُلُّهَا لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ خَاصَّةً. لِأَنَّ أَهْلَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى حِينَ تَرَكُوهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَخَرَجُوا فَقَدْ سَقَطَتْ يَدُهُمْ عَنْهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْتَحَقَتْ بِسَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، مِمَّا هُوَ ضَائِعٌ لَيْسَ فِي يَدِ إحْدَاهُمَا، فَإِنَّمَا أَصَابَهَا السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ وَهُمْ الَّذِينَ أَحْرَزُوهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1172 2179 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا لَمْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِحَالِ تِلْكَ الْكَنِيسَةِ فَجَاءُوا، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ مِنْهَا، ثُمَّ جَاءَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ فَاسْتَنْقَذُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، قَبْلَ أَنْ يَلْتَقُوا مَعَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلسَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ خَاصَّةً. لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ بِالْأَخْذِ صَارُوا مُحْرِزِينَ لَهَا، فَتَلْحَقُ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، الَّتِي لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، حَتَّى الْآنَ وَقَدْ تَفَرَّدَتْ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ خَاصَّةً بِالْأَخْذِ وَالْإِحْرَازِ مِنْهَا. 2180 - وَلَوْ كَانَ بَعْضُ السَّرِيَّةِ الْأُولَى تَرَكَ فِي تِلْكَ الْكَنِيسَةِ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ أَهْلُ الْحَرْبِ حَتَّى أَخَذَتْهُ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالٍ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ مَا أَحْرَزُوهُ وَلَا عَلِمُوا بِهِ، حَتَّى يَزُولَ مِلْكُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ قَدْ أَخَذُوهُ ثُمَّ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ. لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ صَارُوا مُحْرِزِينَ لَهُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، لِكَوْنِهِ فِي دَارِهِمْ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1173 [بَابُ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ أَهْلُ الْعَسْكَرِ فِيهِ شُرَكَاءَ] - بَابُ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ أَهْلُ الْعَسْكَرِ فِيهِ شُرَكَاءَ وَمَا لَا يَكُونُ 2181 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ صَارَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ عَسَلًا، أَوْ لُؤْلُؤًا أَوْ جَوْهَرًا، أَوْ مَعْدِنَ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، فَذَلِكَ كُلُّهُ فَيْءٌ. لِأَنَّهُ مَالٌ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، وَالْجَيْشُ حِينَ دَخَلُوا فَقَدْ كَانَ قَصْدُهُمْ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازَ الدَّيْنِ، فَكُلُّ مَالٍ يَصِلُ إلَى يَدِ بَعْضِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهِمْ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ. وَتَحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى هَذَا الْمَالِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى هَذَا الْمَكَانِ، وَمَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَكَانِ إلَّا بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، فَكَانُوا رِدْءًا لَهُ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ أَخْذِ هَذَا الْمَالِ. - وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْأَمِيرُ بِهِ مِنْ تَاجِرٍ، وَأَخَذَ ثَمَنَهُ، فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُجِيزَ بَيْعَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الثَّمَنَ فَيَجْعَلُهُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ كَانُوا شُرَكَاءَهُ فِيمَا بَاعَ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَيَكُونُ لَهُمْ الشَّرِكَةُ فِي الثَّمَنِ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1174 - وَلَوْ كَانَ احْتَشَّ حَشِيشًا وَبَاعَهُ جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ الثَّمَنُ طَيِّبًا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ دَابَّتِهِ فَيَبِيعُهُ. لِأَنَّ الْحَشِيشَ وَالْمَاءَ مُبَاحٌ لَيْسَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَثْبَتَ فِيهِمَا شَرِكَةً عَامَّةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» . فَإِذَا لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ بِأَخْذِهِ كَانَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِإِحْرَازِهِ، فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، فَإِذَا بَاعَهُ طَابَ ثَمَنُهُ لَهُ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. - وَلَوْ كَانَ قَطَعَ خَشَبًا أَوْ حَطَبًا وَبَاعَهُ مِنْ تَاجِرٍ فِي الْعَسْكَرِ أَخَذَ الْأَمِيرُ الثَّمَنَ مِنْهُ فَجَعَلَهُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الْحَطَبَ وَالْخَشَبَ مَالٌ مَمْلُوكٌ فَيَكُونُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ مِنْ أَرْضِ رَجُلٍ كَلَأً أَوْ مِنْ بِئْرِهِ مَاءً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَوْ بَاعَهُ كَانَ الثَّمَنُ طَيِّبًا لَهُ، فَإِذَا أَخَذَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ. وَلَوْ أَخَذَ خَشَبًا أَوْ حَطَبًا مِنْ شَجَرٍ نَابِتَةٍ فِي أَرْضٍ، لَمْ يُنْبِتْهُ أَحَدٌ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَحَقَّ بِهِ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الْآخِذُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَطَبَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْإِحْرَازُ بِالْمَكَانِ، وَأَنَّ الْكَلَأَ وَالْمَاءَ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهِمَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِحْرَازُ فِيهِمَا بِالْيَدِ خَاصَّةً. - وَلَوْ كَانَ بَاعَ الْحَطَبَ مِنْ جُنْدِيٍّ لِلْوَقُودِ أُمِرَ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1175 لِأَنَّ مَا بَاعَ كَانَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى السَّوَاءِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ تَاجِرٍ. - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ طَعَامًا مِنْ الْحِنْطَةِ وَالْعَسَلِ، أَوْ عَلَفَ الدَّوَابِّ، مِنْ الشَّعِيرِ، وَالْقَتِّ، وَالتِّبْنِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَتَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْجَارِ لَا مِنْ الْحَشِيشِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ مِنْ أَرْضِ غَيْرِهِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفْتِي بِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَشِيشِ، فَإِنَّهُ تَافِهٌ لَا قِيمَةَ لَهُ قَبْلَ الْأَخْذِ، فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَحُّ، فَإِنَّ الْحَشِيشَ مَا يَنْبُتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ، وَالشَّجَرَ مَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ وَالْقَتَّ مِنْ جِنْسِ مَا يَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ. - وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] النَّجْمُ مَا يَنْتَشِرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالشَّجَرُ مَا يَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ، وَالْقَتُّ مِنْ جِنْسِ مَا يَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ. - وَلَوْ ظَفِرَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ بِحَشِيشٍ لِلْمُشْرِكَيْنِ، قَدْ احْتَشَوْهُ وَأَحْرَزُوهُ، فَأَخَذَ ذَلِكَ رَجُلٌ وَبَاعَهُ، وَاسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي تَاجِرًا كَانَ الثَّمَنُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ كَانَ الثَّمَنُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1176 لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَحْرَزُوا هَذَا وَمَلَكُوهُ، فَإِذَا ظَفِرَ بِهِ الْعَسْكَرُ فَأَخَذُوهُ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَنِيمَةِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِمَّا لَمْ يُحْرِزْهُ أَحَدٌ حَتَّى أَخَذَهُ هَذَا الْبَائِعُ وَأَحْرَزَهُ. - وَلَوْ كَانَ فِي الْجُنْدِ تَاجِرٌ وَجَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ هَذَا الْخَشَبِ الخلنج فَعَمِلَ مِنْهُ قِصَاعًا وَأَخْوِنَةً ثُمَّ أَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ ذَلِكَ وَيَبِيعُهُ وَيَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْخَشَبِ، غَيْرَ مَعْمُولٍ، وَإِلَى قِيمَتِهِ مَعْمُولًا، فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعْطِيهِ حِصَّةَ عَمَلِهِ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِي فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الْخَشَبَ الَّذِي أَخَذَهُ قَبْلَ الْعَمَلِ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ هَذِهِ الصَّنْعَةُ فِيهَا مِنْهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ بِالْمَغْصُوبِ كَانَ مُتَمَلِّكًا لَهُ بِالضَّمَانِ، إلَّا أَنَّ هَا هُنَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْغَاصِبُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ اسْتِهْلَاكَ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لَا يَمْلِكُ أَصْلَ الْخَشَبِ، ثُمَّ الصَّنْعَةُ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِهِ حَقُّهُ لَيْسَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي شَيْءٍ، وَأَصْلُ الْخَشَبِ غَنِيمَةٌ وَلَا يُمْكِنُ تَمَيُّزُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ بِالْقِسْمَةِ، فَيُصَارُ فِيهِ إلَى الْبَيْعِ، وَقِسْمَةُ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي صِبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ، ثُمَّ أَبَى صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَغْرَمَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ قِيمَةَ صِبْغِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَ جُلُودَ الْغَنَمِ الَّتِي كَانَتْ تُذْبَحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1177 فَجَعَلَهَا فَرْوًا، أَوْ اصْطَادَ سَمَكًا وَمَلَّحَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا يَجْمَعُ الْفُصُولَ كُلَّهَا. - وَلَوْ كَانَ الَّذِي عَمِلَ ذَلِكَ عَمَلًا بَعْدَ إخْرَاجِ الْغَنَائِمِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَةَ الْخَشَبِ، وَكَانَ الْمَعْمُولُ لَهُ. لِأَنَّ بَعْدَ الْإِحْرَازِ هُوَ ضَامِنٌ لِمَا يُسْتَهْلَكُ مِنْ الْمَالِ، فَيَتَمَلَّكُ مَحَلَّ الْعَمَلِ بِالضَّمَانِ، قَبْلَ الْعَمَلِ، ثُمَّ إنَّمَا اتَّخَذَ الْمَعْمُولَ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ. - وَعَلَى هَذَا لَوْ قُسِمَتْ الْغَنَائِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخَذَ الْخَشَبَ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ وَعَمِلَ ذَلِكَ مِنْهُ. لِأَنَّهُ صَارَ [غَاصِبًا] ضَامِنًا، وَبِالْعَمَلِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ، فَيُقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِصَاحِبِهِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ بِمَا لَوْ أَخَذَ جُلُودًا ذَكِيَّةً لِرَجُلٍ فَدَبَغَهَا وَجَعَلَهَا فَرْوًا كَانَ الْفَرْوُ لَهُ، وَغَرِمَ قِيمَةَ الْجُلُودِ لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَالٌ مَضْمُونٌ قَبْلَ الْعَمَلِ. - وَلَوْ أَخَذَ جُلُودًا مَيِّتَةً فَدَبَغَهَا وَجَعَلَهَا فَرْوًا قُوِّمَ الْفَرْوُ جِلْدًا غَيْرَ مَعْمُولٍ وَقُوِّمَ مَعْمُولًا، فَإِنْ شَاءَ الْعَامِلُ أَعْطَاهُ قِيمَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1178 جِلْدِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَعْمُولٍ، وَإِنْ شَاءَ بِيعَ الْفَرْوُ وَقُسِّمَ ثَمَنُهُ عَلَى قِيمَةِ الْجِلْدِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَعْمُولٍ، وَعَلَى قِيمَتِهِ (فَرْوًا) مَعْمُولًا. لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلْجِلْدِ هَا هُنَا وَإِنَّهُ مَا كَانَ مُتَقَوِّمًا قَبْلَ الدَّبْغِ، وَلَوْ كَانَ دَبَغَ [الْجِلْدَ] دِبَاغًا لَا يَزِيدُ فِيهِ شَيْئًا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِهِ، فَلِصَاحِبِ الْجِلْدِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الدَّبْغُ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ جِلْدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الدَّبْغِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا. 2293 - فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْأَحْرَازِ إذَا صَنَعَ مِنْهَا شَيْئًا أَلَا تَرَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْعَسْكَرِ فِي أَرْضِ التُّرْكِ لَوْ أَصَابَ دَوَابَّ مِنْ هَذِهِ السُّمُورِ مَوْتَى فَسَلَخَهَا ثُمَّ دَبَغَهَا وَجَعَلَ مِنْهَا فَرْوًا يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ إلَّا بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، فَلَا يَسْلَمُ لَهُ وَلَكِنَّهُ يُبَاعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. 2194 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَ مَعْدِنَ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ فَجَعَلَ مِنْهُ أَبَارِيقَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْدِنَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَاِتَّخَذَ مِمَّا اسْتَخْرَجَ مِنْهُ الْأَبَارِيقَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1179 فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيُرَدُّ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ بِسَبَبِ صَنْعَتِهِ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الصَّنْعَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَصِيرُ الْعَيْنُ بِهَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ، كَمَا قَالَ فِيمَنْ غَصَبَ نُقْرَةً وَاتَّخَذَ مِنْهَا قَلْبًا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1180 [بَابُ التُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ مَا يَحِلُّ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَة] 2195 - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ بِسَهْمٍ أَوْ رَضْخٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ مِنْ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْغُزَاةِ، وَحِلُّ ذَلِكَ لِلْغُزَاةِ كَانَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجِدُونَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ شِرَاءً؛ لِأَنَّهُمْ مُقَاتِلُونَ لِلْعَدُوِّ، لَا مُعَامِلُونَ مَعَهُمْ. 2196 - فَأَمَّا التُّجَّارُ لَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي حَقِّهِمْ. لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ. 2197 - ثُمَّ الْغُزَاةُ يَتَقَوَّوْنَ بِمَا يَأْكُلُونَ وَيَعْلِفُونَ دَوَابَّهُمْ عَلَى نُصْرَةِ الدِّينِ وَتَحْصِيلِ الْغَنَائِمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ التُّجَّارِ. وَمَعَ هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى التُّجَّارِ فِيمَا أَكَلُوا مِنْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهُمْ لَوْ اسْتَهْلَكُوا ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ لَمْ يَضْمَنُوا فَعَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1181 2198 - وَكَمَا أَنَّ لِلْغُزَاةِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْ ذَلِكَ فَلَهُمْ أَنْ يُطْعِمُوا مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ مِنْ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ، إذَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ حَاجَةَ هَؤُلَاءِ إلَى النَّفَقَةِ كَحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يُطْعِمُوهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ احْتَاجُوا إلَى أَنْ يَكْتَسِبُوا لِإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ. 2199 - وَمَا كَانَ مِنْ أَجِيرٍ لَا يُقَاتِلُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْزَأَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَوْجِبٍ نَفَقَتَهُ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ الْأَجْرُ فَقَطْ. 2200 - وَالْمَدَدُ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ فَلَهُمْ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ بَعْدَ مَا لَحِقُوا بِهِمْ. 2201 - فَإِنْ قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ أَوْ بِيعَتْ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا (بِدُونِ إذْنِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْلَاكِهِ. وَلَوْ أَخَذَ جُنْدِيٌّ شَيْئًا) مِنْ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ فَأَهْدَاهُ إلَى تَاجِرٍ فِي الْعَسْكَرِ، لَا يُرِيدُ الْقِتَالَ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَأْكُلَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1182 لِأَنَّ التَّنَاوُلَ مِنْهُ مُبَاحٌ لِلْجُنْدِيِّ وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْإِهْدَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ الطَّعَامُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُهْدِيَهُ إلَى غَيْرِهِ؟ وَلِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لِلْجُنْدِيِّ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْإِهْدَاءِ إلَى الْغَيْرِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ إهْدَائِهِ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ أَخَذَهُ التَّاجِرُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ، وَيَسْتَوِي أَنْ لَوْ كَانَ الْجُنْدِيُّ الْمُهْدِي هُوَ الَّذِي أَتَى بِذَلِكَ الطَّعَامِ مِنْ بَعْضِ الْمَطَامِيرِ أَوْ غَيْرُهُ أَتَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ. 2202 - بِخِلَافِ مَا لَوْ احْتَشَّ الْجُنْدِيُّ أَوْ اسْتَقَى مَاءً ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إلَى تَاجِرٍ فَلَا بَأْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ صَارَ مِلْكًا خَالِصًا لِمَنْ أَحْرَزَهُ، فَلَهُ أَنْ يُهْدِيَهُ إلَى مَنْ أَحَبَّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ؟ بِخِلَافِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْغُزَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ؟ 2203 - وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ رِضَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1183 لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ لِحَاجَتِهِ، وَقَدْ تَعَيَّنَ لِحَاجَةِ صَاحِبِهِ، وَبَعْدَ مَا اسْتَوَيَا فِي الْمَعْنَى، التَّرْجِيحُ يَقَعُ بِالسَّبْقِ، وَقَدْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» . وَاسْتِدْلَالًا بِمَنْ حَضَرَ الْجَامِعَ، وَجَلَسَ فِي مَوْضِعٍ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُزْعِجَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَجْلِسَ فِيهِ بِنَفْسِهِ. 2204 - وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَشِيشِ وَالطَّعَامِ أَنَّ الْحَشِيشَ لَوْ أَخَذَهُ إنْسَانٌ مِنْ الْمُحْرِزِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَالطَّعَامُ لَوْ أَخَذَهُ جُنْدِيٌّ أَوْ تَاجِرٌ مِمَّنْ جَاءَ بِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ لَهُ. لِأَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالْغَنِيمَةُ لَا تُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. - وَلَوْ أَنَّ جُنْدِيًّا ذَبَحَ شَاةً مِنْ الْغَنِيمَةِ فَسَلَخَهَا وَطَبَخَ لَحْمَهَا، أَوْ أَخَذَ حِنْطَةً مِنْ الْغَنِيمَةِ [فَطَحَنَهَا وَخَبَزَهَا] ثُمَّ دَعَا تَاجِرًا إلَى طَعَامِهِ حَتَّى أَكَلَهُ مَعَهُ، أَوْ أَهْدَاهُ إلَيْهِ لَمْ أَرَ بَأْسًا بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَهْلَكَ طَعَامَ الْغَنِيمَةِ بِمَا صَنَعَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ كَانَ مُتَمَكِّنًا ضَامِنًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1184 لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَإِذَا فَعَلَهُ بِالْغَنِيمَةِ أَوْلَى أَنْ يَصِيرَ مُتَمَلِّكَهُ. ثُمَّ الْمِلْكُ يُطْلِقُ لَهُ الْإِبَاحَةَ وَالْإِهْدَاءَ إلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الطَّعَامُ عَنْ حَالِهِ، وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، أَنَّ بَعْدَ التَّغَيُّرِ لَوْ جَاءَهُ إنْسَانٌ فَأَتْلَفَهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، ثُمَّ مَبْنَى الطَّعَامِ الْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ عَلَى التَّوَسُّعِ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا إلَيْهِ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ بِأَكْلِ ذَلِكَ بَأْسٌ وَكَسْبُهُ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ، فَهَذَا الَّذِي لَا مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ. - وَلَوْ أَنَّ تَاجِرًا ذَهَبَ مَعَ الْجُنْدِ إلَى بَعْضِ الْمَطَامِيرِ وَهِيَ نَائِيَةٌ عَنْ الْعَسْكَرِ فَجَاءَ مِنْهَا بِطَعَامٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ وَيَعْلِفَ دَابَّتَهُ. لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ سَائِرِ الْغَانِمِينَ فِيهِ بِإِصَابَتِهِ، فَلَا يَكُونُ حَقُّهُمْ فِي ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ مَالًا آخَرَ كَانَ هُوَ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا أَحْرَزُوهُ دُونَهُ وَكَذَلِكَ فِي الطَّعَامِ، وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ. لِأَنَّ مَا كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ الْعَسْكَرِ فَقَدْ صَارَ مَأْخُوذًا بِقُوَّةِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ قَبْلَ إصَابَتِهِ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمُحْرَزِ بِأَخْذِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ دُونَهُ. - وَالْغَنَمُ وَالْبَقَرُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَطْعِمَةِ، لَا بَأْسَ لِكُلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1185 وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ أَنْ يَذْبَحَهُ وَيَتَنَاوَلَ مِنْهُ لِحَاجَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا لَمْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ فَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ. لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَأَكَّدُ فِي الْغَنِيمَةِ بِالْإِحْرَازِ، فَحُكْمُ الشَّرِكَةِ يَتَقَرَّرُ فِي الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ بِتَأَكُّدِ الْحَقِّ، كَمَا يَتَقَرَّرُ الْمِلْكُ بِالْقِسْمَةِ وَالْحَقُّ بِالْبَيْعِ. 2208 - وَإِنْ كَانُوا فُصِلُوا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُمْ فِي الدَّرْبِ بَعْدُ، فِي مَوْضِعٍ لَا يَأْمَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إلَّا بِالْجُنْدِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَقْدِرُ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ أَيْضًا، فَهَذَا وَمَا لَوْ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ، فِي إبَاحَةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ. لِأَنَّ هَذِهِ الْبِقَاعَ كَانَتْ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَأْمَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ. وَلِأَنَّ إبَاحَةَ التَّنَاوُلِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِعَوَزِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ فِيهِ بِالشِّرَاءِ. 2209 - فَإِذَا أُخْرِجُوا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَأْمَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الْحَاجَةُ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَتَنَاوَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ. 2210 - قَالَ: (ثُمَّ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا فَرْقَ فِي إبَاحَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1186 التَّنَاوُلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُتَنَاوَلِ طَعَامٌ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَبَيْنَ أَلَّا يَكُونَ. لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ صَارَ الطَّعَامُ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ، مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، بَاقِيًا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَبِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ يَسْتَوِي فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ الْمُسْتَغْنِي عَنْهُ وَالْمُحْتَاجُ إلَيْهِ. - قَالَ: وَإِذَا ذَبَحُوا غَنَمًا أَوْ بَقَرًا لِلْأَكْلِ فَلْيَرُدُّوا، جُلُودَهَا فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَصْلَحَةِ الْأَكْلِ، خُصُوصًا بَعْدَ مَا جَفَّ، وَيَسْتَوِي فِي إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ مَا يُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ الْغِذَاءِ عَادَةً، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ مِمَّا يُنْقَلُ إلَيْهِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ بِخِلَافِ بَعْضِ أَهْلِ الشَّامِ فِي هَذَا. - وَمَا يَكُونُ مِنْ التَّوَابِلِ لِلْقُدُورِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَتَغَدَّى بِهِ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ فِي النَّاسِ عَادَةً. 2213 - وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْوُقُودِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الطَّعَامِ. لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا، وَإِصْلَاحُ الطَّعَامِ لِلْأَكْلِ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ. - وَكُلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يُوقِدُوا بِهِ لِطَبْخِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَطَبِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِبَرْدٍ أَصَابَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1187 لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَوْقَدُوا لِلطَّبْخِ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ الِاصْطِلَاءِ بِهَا؟ 2215 - فَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَدُوا لِلِاصْطِلَاءِ بِهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَكُلُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَدْهَانِ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا كَالزَّيْتِ وَنَحْوِهِ وَلَهُمْ أَنْ يَسْتَصْبِحُوا بِهِ. لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْعَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا فِيهِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ، فَأَمَّا الْبِزْرُ لِلسِّرَاجِ فَهُوَ كَالْحَطَبِ لِلْوَقُودِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْلَمُ وُقُوعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ. 2216 - فَأَمَّا الْبَنَفْسَجُ وَالْخَيْرِيُّ وَالزَّنْبَقُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسْتَصْبِحُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً. لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ الِادِّهَانُ بِهِ، إذْ الِادِّهَانُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ، فَهُوَ كَالْغَالِيَةِ وَالطِّيبِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَطَيَّبُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَحِلَّ الِادِّهَانُ بِهِ فَالِاسْتِصْبَاحُ بِهِ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1188 وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَاوَلُوا شَيْئًا مِنْ الزَّنْجَبِيلِ الْمُرَبَّى وَالْإِهْلِيلِجِ الْمُرَبَّى وَكَذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ، وَقَدْ صَنَعَهَا الْعَدُوُّ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِأَطْعِمَةِ النَّاسِ. يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا بَقَاءُ النَّفْسِ، فَلَا تَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَوْجِبُ عَلَى زَوْجِهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ النَّفَقَةَ، وَلَا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الدَّوَاءَ. 2218 - إلَّا أَنْ يَبِيعَ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ. لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمِلْكِهِ حِينَ بَاشَرَ سَبَبَهُ. 2219 - فَإِنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ نَابِتًا فِي أَرْضِهِمْ فَأَخَذَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَأْخُوذِ قِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ. لِأَنَّ مَأْخُوذَهُ وَمَأْخُوذَ غَيْرِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ. - وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَدَاوَى بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1189 لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَشِيشِ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا، وَإِنْ كَانَ لَوْ نَقَلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ يَصِيرُ مُتَقَوِّمًا. - وَعَلْفُ الدَّوَابِّ فِيمَا ذَكَرْنَا قِيَاسُ طَعَامِ بَنَى آدَمَ. لِأَنَّ حَاجَةَ الْغَازِي إلَى عَلْفِ دَابَّتِهِ أَصْلِيَّةٌ، بِمَنْزِلَةِ حَاجَتِهِ إلَى الطَّعَامِ. 2222 - وَمَا جَازَ لَهُ أَكْلُهُ جَازَ أَنْ يَعْلِفَ دَابَّتَهُ أَيْضًا. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّمْنَ لَمَّا جَازَ لَهُ أَكْلُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُوَقِّحَ دَابَّتَهُ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ لَهُ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِالْخَلِّ؛ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ، وَهُوَ إدَامُ الطَّعَامِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوَابِلِ فِي إصْلَاحِ الْمَرَقَةِ بِهِ، فَأَمَّا الثِّيَابُ وَالْأَوَانِي وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وُقُوعُهَا، فَلَا يَصِيرُ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ وَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ الِانْتِفَاعُ بِالْغَنِيمَةِ أَوْلَى. 2223 - ثُمَّ إذَا ذَهَبَتْ الضَّرُورَةُ يَرُدُّهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي النُّقْصَانِ - بِخِلَافِ مِلْكِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَيَضْمَنُ بِإِدْخَالِ النُّقْصَانِ فِيهِ بِاسْتِعْمَالِهِ، أَمَّا الْغَنِيمَةُ [فَلَا] يَضْمَنُهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إلَّا أَنَّ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1190 الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ يُؤَدِّبُهُ الْأَمِيرُ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ يُعَذِّرُهُ. وَالضَّرُورَةُ فِي الثِّيَابِ أَنْ يُصِيبَهُ الْبَرْدُ، حَتَّى يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْأَوَانِي بِأَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا، وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ رُكُوبُ الدَّابَّةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ «رُكُوبَ دَوَابِّ الْغَنِيمَةِ مِنْ الْغُلُولِ» ، فَإِنْ وَجَدَ حِمَارًا أَوْ فَرَسًا أَوْ بَغْلًا أَوْ بِرْذَوْنًا، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى رُكُوبِهَا بِأَنْ كَانَ عِنْدَهُ غَيْرُهَا، أَوْ كَانَ رَاجِلًا وَلَكِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ عَنَاءٌ شَدِيدٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا، وَإِنْ رَكِبَ شَيْئًا مِنْهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَلَفًا، أَوْ عَلَفَ الْغَنِيمَةَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. لِأَنَّ هَذَا مِنْ حَاجَةِ مَا هُوَ غَنِيمَةٌ، وَهَذِهِ الدَّالَّةُ فِي نَفْسِهَا غَنِيمَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا بِحَاجَةِ نَفْسِهِ. - وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ أَوْ عَلَفِ دَوَابِّهِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَلَا يُقَاتِلُ عَلَيْهَا أَيْضًا حَتَّى تَجِيءَ الضَّرُورَةُ. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَثَرِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغُلُولِ. - وَالضَّرُورَةُ فِي الرُّكُوبِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْيَا وَهُوَ يَخَافُ الْعَدُوَّ إنْ لَمْ يَرْكَبْ، أَوْ لَا يَخَافُ الْعَدُوَّ وَلَكِنَّهُ قَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1191 بَلَغَ مِنْهُ الْجُهْدُ، بِحَيْثُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونُ قَدْ قَتَلَ فَرَسَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقَاتِلَ رَاجِلًا، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْكَبَهُ، وَإِنْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. لِأَنَّ الرُّكُوبَ مُبَاحٌ لَهُ شَرْعًا. 2226 - بِخِلَافِ مَا يَسْتَهْلِكُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا فِي الْحُكْمِ لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِيهِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَغْرَمَ قِيمَةَ ذَلِكَ، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. لِأَنَّهُ آثِمٌ فِي الِاسْتِهْلَاكِ فَيُفْتَى بِأَدَاءِ الضَّمَانِ. 2227 - وَالِانْتِفَاعُ بِالْأَسْلِحَةِ بِمَنْزِلَةِ رُكُوبِ الدَّابَّةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مَتَى كَانَ مُبَاحًا لَهُ شَرْعًا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، فَهُوَ غَيْرُ ضَامِنٍ لِمَا يُتْلِفُ بِهِ فِي الْحُكْمِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى كَانَ آثِمًا فِي الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ يُفْتَى بِالْغُرْمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَلْزَمُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَتَمَامُ التَّوْبَةِ بِرَدِّ قِيمَةِ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ. 2228 - وَالْجَلَالُ لِلدَّوَابِّ بِمَنْزِلَةِ الثِّيَابِ لِلنَّاسِ، وَاللُّجُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1192 وَالسُّرُوجُ لِلدَّوَابِّ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ لِلرِّجَالِ فِي جَمِيعِ مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ وَجَدُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أُشْنَانًا أَوْ صَابُونًا فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ غَسْلَ ثِيَابِهِ بِذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ، فَبِاعْتِبَارِهِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ. 2229 - إلَّا أَنَّ الْأُشْنَانَ إنْ كَانَ نَابِتًا فِي مَوْضِعٍ لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَا بَأْسَ لِمَنْ أَخَذَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَهُ قِيمَةٌ فَبِأَخْذِهِ يَصِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَأْخُوذِ غَيْرِهِ، وَمَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فِي بُيُوتِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يُوقِدَ النَّارَ بِالْحَطَبِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلِمَاذَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي غَسْلِ الرَّأْسِ بِالْخِطْمِيِّ، وَغَسْلِ الْيَدِ وَالثِّيَابِ بِالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ. قُلْنَا: لِأَنَّ فِي الْوُقُودِ مَعْنَى إصْلَاحِ الطَّعَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ، فَبِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَصِيرُ مُسْتَثْنًى 2230 - وَلَوْ وَجَدَ مِجْمَرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَجَمَّرَ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1193 لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ كَالطِّيبِ. 2231 - وَكَذَلِكَ لَا يُوقِدُ بِهِ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْوَقُودِ فِي النَّاسِ. 2232 - فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَذَلِكَ خَشَبُهُمْ الَّذِي يُوقِدُونَ بِهِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُوقِدُوا بِهِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَجَمَّرُ بِهِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. - وَلَوْ وَجَدُوا أَخْوِنَةً وَقِصَاعًا وَأَوْتَادًا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا لِلْوَقُودِ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَمْتِعَةِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَقُودِ عَادَةً. 2234 - فَأَمَّا الْخَشَبُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَعْمُولٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا لِلْوَقُودِ وَإِنْ كَانَ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ اتِّخَاذِ الْقِصَاعِ وَالْأَقْدَاحِ مِنْهُ بَعْدَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا قَبْلَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، إذَا أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. لِأَنَّ قَبْلَ الصَّنْعَةِ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مُبَاحًا لَهُ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّمٍ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَصَنْعَتُهُ لَا تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1194 2235 - وَإِنْ أَرَادَ الْأَمِيرُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِلِ فَيَجْعَلُهُ فِي الْغَنِيمَةِ، بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ عَمَلِهِ، بِأَنْ يُقَوَّمَ الْخَشَبُ مَعْمُولًا وَغَيْرَ مَعْمُولٍ، فَإِنْ كَانَ بَاعَهَا أَعْطَاهُ فَضْلَ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْخَشَبُ الْمَعْمُولُ لَا قِيمَةَ لَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ سَالِمٌ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ بِعَمَلِهِ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَيَكُونُ كَسْبًا لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ كُوزًا مِنْ تُرَابِ غَيْرِهِ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَالطِّينُ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْقُدُورُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الَّذِي تُعْمَلُ مِنْهُ الْقِصَاعُ، عَلَى مَا بَيَّنَّا. - وَإِذَا ذَهَبَ قَوْمٌ فِي طَلَبِ الْغَنَائِمِ فَوَجَدُوا أَرْمَاكًا لِلْمُشْرِكِينَ وَأَمْتِعَةً وَطَعَامًا وَسَبْيًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْأَرْمَاكِ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ الْعَسْكَرَ. لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْغَانِمِينَ، الْحِمْلَ وَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْأَمْتِعَةِ فَكَذَلِكَ فِي الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَأْتُونَ بِالطَّعَامِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْجَيْشُ كُلُّهُمْ. 2237 - وَإِنْ وَجَدُوا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ، فَأَخَذُوهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1195 لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الْأَرْمَاكِ الَّتِي لِلْعَدُوِّ، وَلَا عَلَى حُمُرِهِمْ وَبِغَالِهِمْ، وَلَا عَلَى عِجْلِهِمْ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ. لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ الطَّعَامِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِمْ. 2238 - فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَدْخَلُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لِحَاجَتِهِمْ. وَلَوْ وَجَدُوا بَقَرًا وَثِيرَانًا وَإِبِلًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلُوا عَلَيْهَا مَا أَخَذُوا مِنْ الطَّعَامِ لِحَاجَةِ، أَنْفُسِهِمْ. لِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الطَّعَامِ أَيْضًا. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ لِلْأَكْلِ وَيَكُونَ أَخَصَّ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلُوا عَلَيْهَا مَا أَخَذُوا مِنْ الطَّعَامِ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. 2239 - فَإِنْ وَجَدُوا الطَّعَامَ الْيَسِيرَ عَلَى الْأَرْمَاكِ، وَذَلِكَ لَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ عَنْهَا وَيَحْمِلُوهَا عَلَى دَوَابِّهِمْ ثُمَّ يَسُوقُونَ الْأَرْمَاكَ عَرَبًا إلَى الْمُعَسْكَرِ. لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْحِمْلِ عَلَيْهَا كَإِنْشَائِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1196 2240 - وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ طَعَامٌ أَدْخَلُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَرَادُوا أَنْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَطْعِمَةً فَهِيَ مِنْ الْغَنِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَفْضُلُ مِنْهَا عَنْ حَاجَتِهِمْ فَلِسَائِرِ الْغَانِمِينَ أَخْذُهُ مِنْهُمْ، وَالْمَحْمُولُ مِلْكٌ خَاصٌّ لَهُمْ، لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَا هُوَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِنْ وَجْهٍ فِيمَا لَيْسَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوُجُوهِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ الَّذِي أَخَذُوهُ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا يَحْمِلُ طَعَامَهُمْ وَمَتَاعَهُمْ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ رُكُوبِهِمْ إيَّاهَا. 2241 - وَإِنْ وَجَدُوا غَرَائِرَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فِيهَا الطَّعَامُ فَهَذَا وَالْأَرْمَاكُ الَّتِي يُوجَدُ عَلَيْهَا الطَّعَامُ سَوَاءٌ. لِأَنَّ الْغَرَائِرَ ظُرُوفٌ فَهِيَ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا مِنْ الطَّعَامِ كَالْأَرْمَاكِ، وَإِنْ وَجَدُوا الْأَرْمَاكَ فَأَرَادُوا ذَبْحَهَا وَأَكْلَهَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ) . وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَحْمُ الْخَيْلِ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، فَلَا يَكُونُ الْخَيْلُ مِنْ جُمْلَةِ الطَّعَامِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُ مُبَاحًا لِمَالِكِهِ وَلَكِنْ مَا يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ لَا يُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ الطَّعَامِ، الَّذِي يُرَخَّصُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الِاخْتِصَاصِ بِهِ أَكْلًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِذَلِكَ عُرْفًا. أَوْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ شَرْعًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1197 وَمَنْفَعَةُ الْأَكْلِ فِي الْأَنْعَامِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] . وَفِي الْخَيْلِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ غَالِبًا أَيْضًا، وَإِنَّمَا الْغَالِبُ عَلَيْهَا الرُّكُوبُ فَلِهَذَا يُكْرَهُ ذَبْحُهَا وَأَكْلُهَا فِي الْغَنَائِمِ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ. - وَإِنْ رَأَى الْأَمِيرُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ مِنْهُ لَهُمْ بِأَنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ عَنْ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ يَقْسِمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ ذَلِكَ نَافِذًا مِنْهُ، وَيَرْتَفِعُ بِهِ حُكْمُ إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ، فَكَذَلِكَ إذَا رَأَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ التَّنَاوُلِ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إلَى ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ التَّنَاوُلِ أَصْلًا وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّنَاوُلِ إلَّا بِثَمَنٍ. لِأَنَّهُ يَقْصِدُ إلَى رُخْصَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيُرِيدُ رَفْعَهَا بِرَأْيِهِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَنَعَهُمْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لِلْعَامَّةِ، أَوْ التَّطَرُّقِ فِي الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ. 2243 - فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهُمْ الثَّمَنَ فَجَعَلَهُ فِي الْغَنِيمَةِ ثُمَّ رَفَعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ فَإِنَّهُ يُمْضِي قَضَاءَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَضَاءَ مِثْلِهِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ. قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1198 وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَعْرِضَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ عَنْهُ أَغْنِيَاءَ. وَلَمْ يَتَبَيَّنْ هَذَا الْمُخَالِفُ مَنْ هُوَ، فَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّكْتَةِ أَنَّهُ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَكِنَّ عُلَمَاءَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا: بِثُبُوتِ الرُّخْصَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، فَعِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ هُوَ فِي مَنْعِهِمْ عَنْ الرُّخَصِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ، لَا إلَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، كَانَ هُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا، فَأَمَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فَهُوَ نَاظِرٌ لَهُمْ، وَلَهُ وِلَايَةُ النَّظَرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سِوَى أَنَّ عِنْدَ الْمَنْعِ لَا يُسْرِفُونَ فِي التَّنَاوُلِ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُسْرِفُونَ فِي التَّنَاوُلِ مِنْ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ لَكَانَ هَذَا كَافِيًا، فِي سَعَةِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ لَهُ فِي الْمَنْعِ. - وَمَا وَجَدُوا فِي مَنَازِلِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ طِينٍ قَدْ أَحْرَزُوهُ لِغَسْلِ الرَّأْسِ، أَوْ مِنْ الطِّينِ الَّذِي لِلدَّوَاءِ، فَلَيْسَ أَحَبَّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. لِأَنَّ بِالْإِحْرَازِ صَارَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُمْ، وَمَا يُصَابُ مِنْ مِلْكِهِمْ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ يَكُونُ غَنِيمَةً، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ. 2245 - فَإِنْ وَجَدُوا طِينًا لَمْ يُحْرِزُوهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ. وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَائِرِهِ سَوَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1199 - وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا وَجَدُوا مِنْ دَمِ الْأَخَوَيْنِ وَالْحَرْمَلُ، بِخِلَافِ الْوَقُودِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ وَجَدُوا مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ أَحْرَزُوهُ فَلَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ. وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوُقُودَ يَتَحَقَّقُ فِيمَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ. - فَإِنْ وَجَدُوا أَوْتَادًا أَوْ عَمُودًا لِفُسْطَاطٍ، قَدْ جَعَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، فَهَذَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَكَذَلِكَ مَا وَجَدُوا مِنْ خَشَبٍ أَحْرَزَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ لِغَيْرِ الْوُقُودِ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْتَادًا أَوْ قِصَاعًا، لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ ثَابِتٌ فِي أَصْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الصَّنْعَةِ، حَتَّى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ وَيَقْسِمَ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتِهِ غَيْرَ مَعْمُولٍ، وَعَلَى قِيمَتِهِ مَعْمُولًا، فَيُعْطِيَهُ حِصَّةَ عَمَلِهِ، وَيَجْعَلَ الْبَاقِيَ فِي الْغَنِيمَةِ، أَوْ يُعْطِيَهُ حِصَّةَ قِيمَةِ عَمَلِهِ، وَيَجْعَلَ ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ. 2248 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الصَّانِعُ هُوَ الَّذِي أَخَذَ الْخَشَبَ مِنْ شَجَرِهِمْ، وَكَانَ لَهُ قِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1200 فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَحُكْمُهُ كَحُكْمِ مَا سَبَقَ. لِأَنَّ الْأَصْلَ غَنِيمَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّمَا صَارَ غَنِيمَةً بِأَخْذِهِ، وَهُوَ مَا قَصَدَ بِأَخْذِهِ سِوَى الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَجُعِلَ انْتِفَاعُهُ بِهِ مُقَدَّمًا بِاعْتِبَارِ قَصْدِهِ، وَهُنَاكَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ غَنِيمَةً بِاعْتِبَارِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، بَعْدَ إحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَ الْعَسْكَرِ إذَا فَصَلُوا مِنْ الدَّرْبِ أَنْ يَرُدُّوا الْأَوْتَادَ فِي الْغَنِيمَةِ. - قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْهُنُوا سُرُوجَهُمْ وَجُلُودَهُمْ الَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَيْهَا بِالزَّيْتِ وَالشَّحْمِ الَّذِي يُصِيبُونَهُ، فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا مَا حَمَلُوا مِنْ ذَلِكَ مَعَهُمْ لِلتِّجَارَةِ لَا لِلْقِتَالِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْهُنُوا بِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، لِأَنَّ مَا أَصَابُوهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: 2250 - لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا ذَلِكَ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى الْقِتَالِ، فَكَذَلِكَ لَهُمْ أَنْ يَدْهُنُوا بِهِ مَا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْقِتَالِ بِادِّهَانٍ فَأَمَّا [دِهَانُ] مَا حَمَلُوهُ لِلتِّجَارَةِ مَعَهُمْ لَيْسَ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْقِتَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1201 فَهُوَ نَظِيرُ التُّجَّارِ فِي الْعَسْكَرِ لَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَتَنَاوَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. - وَلَوْ أَوْدَعَ الْأَمِيرُ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا. لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، فَاسْتِهْلَاكُهُ قَبْلَ الْإِيدَاعِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ إذْ الْإِيدَاعُ لَيْسَ مِنْ الْإِحْرَازِ فِي شَيْءٍ. - وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَدِّبَهُ؛ لِأَنَّهُ خَانَ فِيمَا ائْتَمَنَهُ. 2252 - وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الْإِيدَاعِ أَدَّبَهُ عَلَى ذَلِكَ فَبَعْدَهُ أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُؤَدِّبُهُ فِيهِ، إذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَانِمِينَ، كَمَا لَوْ أَكَلَهُ قَبْلَ الْإِيدَاعِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ: إنْ اسْتَهْلَكْته فَأَنْتَ ضَامِنٌ لَهُ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا. لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ، وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ قَبْلَ تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ. 2253 - وَإِنْ قَالَ حِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِ: هُوَ عَلَيْك بِقِيمَتِهِ، أَوْ هُوَ عَلَيْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَرَضِيَ بِهِ الْقَابِضُ فَهَذَا بَيْعٌ. لِأَنَّهُ صَرِيحٌ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ، أَوْ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالْبَيْعُ فَاسِدًا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1202 أَوْ صَحِيحًا بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَازِ مِنْ الْإِمَامِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُ إمَّا بِنَصِيبِهِ أَوْ عِنْدَ الْقَبْضِ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ. - وَلَوْ نَقَلَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ لِسَرِيَّةٍ بَعَثَهَا الرُّبْعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فَجَاءُوا بِطَعَامٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ عَنْهُ، أَهْلُ الْعَسْكَرِ وَأَهْلُ السَّرِيَّةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي حُكْمِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُنْفَلِ بِمَنْزِلَةِ سِهَامِ الْغَانِمِينَ، وَفِي السِّهَامِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ ثَابِتٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ، فَكَذَلِكَ النَّفَلُ. - وَلَوْ نَفَلَ لِلسَّرِيَّةِ جَمِيعَ مَا أَصَابَتْ فَلَا بَأْسَ لِأَهْلِ السَّرِيَّةِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْهَا، لِقِيَامِ شَرِكَتِهِمْ فِيهَا بِسِهَامِهِمْ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهِ فَحَالُهُمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ أَهْلُ السَّرِيَّةِ بَعْدَ التَّنْفِيلِ كَحَالِ التُّجَّارِ فِي الْغَنِيمَةِ. - وَلَوْ كَانَ الْأَمِيرُ قَالَ لِلسَّرِيَّةِ: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ طَعَامٍ قَدْ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ إلَّا بِالثَّمَنِ، أَوْ أَنْ يُعْطِيَهُ صَاحِبُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1203 لِأَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ، فَكُلُّ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا بَعْدَ هَذَا فَقَدْ اخْتَصَّ بِمِلْكِهِ، وَلَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ تَنَاوَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا بِغَيْرِ رِضَاءِ مَنْ أَصَابَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْغَنَائِمِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ أَصَابَ جَارِيَةً فَاشْتَرَاهَا بِحِصَّتِهِ فَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ. - وَلَوْ لَمْ يَنْفُلْ الْأَمِيرُ لِلسَّرِيَّةِ شَيْئًا فَاسْتَأْجَرَ أَمِيرَهُمْ قَوْمًا يَسُوقُونَ الْغَنَائِمَ إلَى الْعَسْكَرِ جَازَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَصَابُوا. لِأَنَّ الْأَمِيرَ إنَّمَا أَرْسَلَهُ لِلْقِتَالِ وَإِحْرَازِ الْغَنَائِمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ [إذْنًا لَهُ] فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ وَهُوَ السَّوْقُ دَلَالَةً، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ. 2258 - ثُمَّ يَنْبَغِي لِأَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَنْ يَبِيعَ مِمَّا جَاءُوا بِهِ مِنْ الطَّعَامِ مَا يُؤَدِّي أَجْرَ الْأُجَرَاءِ وَيُخَلِّي مَا بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا يَبْقَى حَتَّى يَأْكُلُوا، وَهَذَا إذَا لَمْ يُصِبْ أَهْلُ الْعَسْكَرِ غَنِيمَةً أُخْرَى، فَإِنْ كَانُوا أَصَابُوا أَعْطَى [أَجْرَ] الْأُجَرَاءِ مِنْ ذَلِكَ، وَخَلَّى بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ أَهْلُ السَّرِيَّةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ لِيَأْكُلُوا بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ. فَإِنْ أَكَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ فَلِلْأُجَرَاءِ مِقْدَارُ أَجْرِهِمْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ فِيمَا يَأْكُلُ مِنْهُ، وَلَكِنْ إنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1204 غَنِمُوا أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ أَجْرَ الْأُجَرَاءِ وَإِلَّا أَعْطَاهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْضِيهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1205 [بَابُ مَا جَاءَ فِي الْغُلُولِ] 2259 - وَإِذَا وُجِدَ الْغُلُولُ فِي رَحْلِ رَجُلٍ أُوجِعَ ضَرْبًا، وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا. لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ عَلَيْهَا، وَلَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ شَيْئًا مِنْ الْحَدِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» . 2260 - وَلَا يُحْرَقُ رَحْلُهُ بِمَا صَنَعَ. لِأَنَّهُ خَائِنٌ، وَالْخِيَانَةُ لَا تُوجِبُ عَلَيْهِ إحْرَاقَ رَحْلِهِ. - وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ أَيْضًا. لِأَنَّ لَهُ فِيهَا نَصِيبًا، وَمَنْ سَرَقَ مَالًا لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعٌ لِلشُّبْهَةِ. 2261 - وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ كَانُوا يَقُولُونَ يُحْرَقُ رَحْلُ الْغَالِّ، وَيَرْوُونَ فِيهِ حَدِيثًا عَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «يُؤْخَذُ الْغُلُولُ مِنْ رَحْلِهِ ثُمَّ يُحْرَقُ رَحْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُصْحَفٌ» ، وَأَصْحَابُ الْحَسَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1206 يَرْوُونَ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الْحَسَنِ هَذَا الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُصَحِّحُوا هَذَا الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّهُ شَاذٌّ يَرْوِيهِ مَجْهُولٌ، لَا يُعْرَفُ، فَإِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ الرَّجُلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَسَنِ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ بَعْضَهَا. 2262 - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِكُلِّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ غُلُولٌ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِإِحْرَاقِ رَحْلِ أَحَدٍ. فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ مِدْعَمٍ عَبْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَدْ وَهَبَهُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَبَيْنَا هُوَ بِحِذَاءِ رَحْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ، أَيْ لَا يَدْرِي مَنْ رَمَى بِهِ؛ فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «كَلًّا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْغَنَائِمِ، لَمْ تُصِبْهَا الْقِسْمَةُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ» . «وَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: اُسْتُشْهِدَ فُلَانٌ فَقَالَ: كَلًّا إنِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1207 رَأَيْته يُجَرُّ إلَى النَّارِ بِعَبَاءَةٍ غَلَّهَا» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إلَّا أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبُ وَلَا فَشَا الرِّبَا فِي قَوْمٍ إلَّا كَثُرَ فِيهِمْ الْمَوْتُ، وَلَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلَّا قُطِعَ عَنْهُمْ الرِّزْقُ، وَلَا حَكَمَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا فَشَا فِيهِمْ الدَّمُ، وَلَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ. وَلَمَّا قَالَ رَجُلٌ لِسَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنِّي أَخَذْت خَيْطًا مِنْ الْغَنِيمَةِ فَخِطْت بِهِ ثَوْبِي قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ وَقَدْرُهُ. فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ الْوِزْرِ فِي الْغُلُولِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إحْرَاقُ الرَّحْلِ. لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ فِي الْغُلُولِ قَطْعٌ وَلَا نَكَالٌ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ إحْرَاقِ الرَّحْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ النَّكَالِ. 2263 - وَكَمَا لَا يُحْرَقُ رَحْلُ الْغَالِّ لَا يُحْرَمُ سَهْمَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا مِنْ الْعَطَاءِ. لِأَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مَالًا، لَا نَصِيبَ لَهُ فِيهِ، لَا يُحَرَّمُ سَهْمُهُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ أَوْلَى. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِحْرَاقِ رَحْلِهِ يَقُولُونَ لَا يُحْرَقُ الْمُصْحَفُ وَلَا الْحَيَوَانُ وَلَا السِّلَاحُ، فَبِهِ يُقَاسُ سَائِرُ الْأَمْتِعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1208 فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا لَا يُحْرَقُ الْحَيَوَانُ لِمَعْنَى الْمُثْلَةِ. فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ ثُمَّ يَحْرُقُوهُ. وَإِنْ قَالُوا: لَا يُحْرَقُ السِّلَاحُ؛ لِأَنَّهُ يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْقِتَالِ. فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْتِعَةِ) . لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَسْتَصْحِبُ فِي الْعَادَةِ إلَّا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ. 2264 - وَالدَّلِيلُ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ أَنَّ الْغُلُولَ فِيمَا نَرَى مَا كَانَ فِي زَمَنٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، لِكَثْرَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَغْزُونَ مَعَهُ، وَهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ غُلُولٍ وَكَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِمَا يَفْعَلُونَ وَمَا يَعْتَقِدُونَ. وَأَهْلُ الْمَغَازِي لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا مِمَّا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فِي مَغَازِيهِ إلَّا رَوَوْهُ، فَلَوْ كَانَ أَحْرَقَ رَحْلَ أَحَدٍ لَنَقَلُوا ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا، وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ عَرَفْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ فِيهِ إثْبَاتُ حَدٍّ بِحَدِيثٍ شَاذٍّ وَإِثْبَاتُ مَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ، مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّاذِّ لَا يَجُوزُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ؟ أَرَأَيْتُمْ - ثِيَابَهُ الَّتِي عَلَيْهِ؟ أَتُحْرَقُ وَيُتْرَكُ عُرْيَانًا فَلَعَلَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ مِنْ الْبَرْدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1209 أَرَأَيْتُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحْلٌ؟ أَيُحْرَقُ مَتَاعُهُ الَّذِي فِي بَيْتِهِ بِالثَّغْرِ أَوْ مَا عِنْدَهُ مِنْ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ لِإِنْسَانٍ فِي رَحْلِهِ؟ أَرَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ أَعَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مَتَاعًا، ثُمَّ غَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَيُحْرَقُ مَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَتَاعِ صَاحِبِهِ؟ أَرَأَيْتُمْ قَوْمًا مُجْتَمَعِينَ فِي رَجُلٍ غَلَّ بَعْضَهُمْ، وَعَلِمَ بِهِ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ يُخْبِرُوا بِمَا صَنَعَ أَيُحْرَقُ مَتَاعُهُ خَاصَّةً أَوْ مَتَاعُهُمْ بِكِتْمَانِهِمْ عَلَيْهِ؟ وَاسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ فِي تَبْعِيدِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِحَرْقِ رَحْلِ الْغَالِّ ثُمَّ ذَكَرَ الْأَصْلَ الَّذِي بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ. - إنَّ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ، رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، كَانُوا لَا يَعْمَلُونَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ غَيْرُهُ مَعَهُ أَوْ حَتَّى يَحْلِفَ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَذْهَبُهُمْ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، كَالْمِيرَاثِ، وَفِي الِاسْتِئْذَانِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مُلْزِمٌ، فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَى حَدِيثٍ شَاذٍّ فِي إقَامَةِ حَدٍّ عَظِيمٍ، وَهُوَ إحْرَاقُ رَحْلِ الْغَالِّ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1210 أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ، رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، اتَّفَقُوا عَلَى حَدِّ الْخَمْرِ، ثُمَّ كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، يَقُولُ: مَا كُنْت لِأُقِيمَ عَلَى رَجُلٍ حَدًّا فَيَمُوتُ فَيَكُونُ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَسُنَّاهُ. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ بِإِحْرَاقِ رَحْلِ الْغَالِّ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1211 [بَابُ الشِّرَاءِ فِيمَنْ يَزِيدُ وَبَيْعِ السِّهَامِ مِنْ الغنمة] 121 - بَابُ الشِّرَاءِ فِيمَنْ يَزِيدُ وَبَيْعِ السِّهَامِ 2266 - وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْغَنَائِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بَاعَ قَعْبًا وَطَسْتًا - بَيْعَ مَنْ يَزِيدُ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْت هَذَا لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكْرَهُ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ وَقَالَ: إنَّهُ اسْتِيَامٌ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» . وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا فَالِاسْتِيَامُ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَرْكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ. وَالْمُزَايَدَةُ تَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ إذَا كَانَ هُوَ الْمُنَادِي عَلَى سِلْعَتِهِ، فَإِنْ طَلَبَهُ إنْسَانٌ بِثَمَنٍ سَمَّاهُ فَلَمْ يَسْكُتْ عَنْ النِّدَاءِ فَلَا بَأْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَزِيدَ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ النِّدَاءِ وَرَكَنَ إلَى ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ. لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ اسْتِيَامًا عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ. 2267 - وَإِنْ كَانَ الْمُنَادِي هُوَ الدَّلَّالُ فَمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ صَاحِبَ الْمَتَاعِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَزِيدَ، وَإِذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَرَكَنَ إلَيْهِ لَمْ يَحِلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1212 لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ عَنْ مَكْحُولٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّهَامِ حَتَّى تُقْسَمَ» ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ بَيْعَ الْغَازِي سَهْمَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا؟ فَالْبَيْعُ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ نَصِيبَهُ أَيْنَ يَقَعُ؟ وَمَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى حَيًّا حَتَّى يَكُونَ لَهُ نَصِيبٌ أَوْ يَمُوتُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ؟ 2268 - وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَا يَرْوِيهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنَائِمِ حَتَّى تُقْسَمَ» . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَيْعَ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ جَائِزٌ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ بَيْعَ الرَّجُلِ سَهْمَهُ. 2269 - وَذَكَرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ مِنْ الْمَغْنَمِ، ثُمَّ يَجِدُ بِهَا دَاءً، قَالَ: يَرُدُّهَا؛ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِي يَسْتَحِقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ الْمَالِكِ، فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُ ذَلِكَ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَتْ الْغَنِيمَةُ لَمْ تُقْسَمْ رَدَّ عَلَيْهِ ثَمَنَهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُسِمَتْ بِيعَتْ الْجَارِيَةُ مَعَ بَيَانِ عَيْبِهَا، وَيُعْطَى الْأَوَّلُ ثَمَنُهَا مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1213 الثَّمَنِ الثَّانِي، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ جُعِلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَإِنْ نَقَصَ الثَّمَنُ الثَّانِي عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا. ثُمَّ ذَكَرَ بَابًا فِي كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1214 [بَابٌ مِنْ السَّبَايَا وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَالْعُهْدَةِ فِي بَيْعِهِمْ] 2270 - وَإِذَا سُبِيَ أَهْلُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَلَدُهُ فَوَقَعُوا فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَجَاءَ الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ فَقَالَ: آتِيك بِثَمَنِهِمْ حَتَّى أَشْتَرِيَهُمْ وَأُودِعَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَوَقَعَ لَهُ أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يَكُونَ ذِمِّيًّا. فَيَقُولُ الْمُسْلِمُ: نَعَمْ فَالرَّقِيقُ عَلَى حَالِهِمْ رَقِيقٌ لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ عَقْدٌ، وَإِنَّمَا جَرَى بَيْنَهُمَا الْمِيعَادُ أَوْ الِاسْتِيَامُ، وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْحَرْبِيِّ فِيهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَفِيَ بِعِدَّتِهِ. لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخُلْفَ الْوَعْدِ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ. 2271 - فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ مِلْكِهِ حَتَّى يُخْلِفَ الْحَرْبِيُّ الْمَوْعِدَ إلَّا الْعِتْقَ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْتِقَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْحَرْبِيِّ. لِأَنَّ فِي هَذَا تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْحَرْبِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1215 2272 - فَلَا يَكُونُ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ إلَّا الزَّوْجَةُ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْتِقَهَا حَتَّى يُخْلِفَ الْحَرْبِيُّ الْمَوْعِدَ. لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا اشْتَرَاهَا لَمْ تُعْتَقْ، وَكَانَتْ أَمَةً لَهُ، بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ فَفِي إعْتَاقِهِ إيَّاهَا قَبْلَ مَجِيئِهِ خُلْفُ الْوَعْدِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا فِي الْمُكَاتَبِ يَشْتَرِي زَوْجَتَهُ مَعَ أَوْلَادٍ لَهُ مِنْهَا، فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ أَوْلَادِهِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ، وَلَوْ أَعْتَقَ زَوْجَتَهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِي إعْتَاقِهِ الْوَلَدَ يَحْصُلُ لِلْمُكَاتَبِ مَقْصُودُهُ وَلَيْسَ فِي إعْتَاقِ الزَّوْجَةِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فَإِنَّهَا بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ تَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ يَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. 2273 - فَإِنْ أَخْلَفَ الْحَرْبِيُّ الْوَعْدَ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِمْ بِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ بِإِخْلَافِ الْحَرْبِيِّ يَرْتَفِعُ حُكْمُ ذَلِكَ الْوَعْدِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِيءَ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُوَقِّتْ لَهُ فِي ذَلِكَ وَقْتًا فَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَمِقْدَارُ أَيَّامٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يَحْتَبِسُ لِجَمْعِ الْمَالِ. لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ. 2274 - فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ حِينَ ذَهَبَ لِيَأْتِيَ بِالثَّمَنِ دَفَعَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ إلَى الْمَوْلَى وَقَالَ: أَنْفِقْ هَذَا عَلَيْهِمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1216 ثُمَّ جَاءَ الْحَرْبِيُّ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ، وَقَالَ: دَفَعْته إلَيْك قَرْضًا وَقَالَ الْمَوْلَى: دَفَعْته إلَيَّ صِلَةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَرْبِيِّ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّهُ هُوَ الدَّافِعُ لِلْمَالِ، فَالْقَوْلُ فِي الْمَدْفُوعِ قَوْلُ الدَّافِعِ، وَلِأَنَّ بِمُطْلَقِ الدَّفْعِ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْأَقَلُّ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَذَلِكَ الْقَرْضُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْحَرْبِيِّ فِي ذَلِكَ. 2275 - سَوَاءٌ قَالَ: قَدْ ذَكَرْت لَك أَنَّهُ قَرْضٌ، أَوْ قَالَ: نَوَيْت ذَلِكَ فِي نَفْسِي. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْطَاهُ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ، مِمَّا يَتَأَتَّى فِيهِ الِادِّخَارُ، لِيُنْفِقَهُ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَ أَعْطَاهُ شَيْئًا مِمَّا لَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالثَّرِيدِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ أَيْضًا قَوْلُ الْحَرْبِيِّ فِي الْقِيَاسِ. لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِلْكُهُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي هَذَا فَقَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ وَلَا شَيْءَ لِلْحَرْبِيِّ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الدَّفْعَ فِي مِثْلِهِ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ دُونَ الْقَرْضِ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ. وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ نَظِيرُ مَا قَالُوا فِي الزَّوْجِ إذَا بَعَثَ إلَى زَوْجَتِهِ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ بَعَثَ ذَلِكَ إلَيْهَا بِجِهَةِ الصَّدَاقِ، وَقَالَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1217 الْمَرْأَةُ: بَلْ هِيَ هَدِيَّةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، إلَّا فِي الطَّعَامِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهَا اسْتِحْسَانًا. 2276 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ أَعْطَاهُ ثِيَابًا لِيَكْسُوهُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ مَمَالِيكُ الْمُسْلِمِ، فَدَفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ بِنَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِهِ إلَيْهِ لِيُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ جِهَةُ الصِّلَةِ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ شَرْحِهَا فِي الزِّيَادَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1218 [بَابٌ مِنْ الشَّهَادَاتِ فِي الْغَنَائِمِ وَالْفَيْءِ] 2277 - وَلَوْ صَالَحُوا أَهْلَ الْحِصْنِ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوا أَحْرَارَهُمْ، وَيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ رَقِيقُهُمْ فَفَتَحُوا الْحِصْنَ، ثُمَّ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِنَاسٍ مِنْهُمْ: هَؤُلَاءِ مِنْ أَرِقَّائِكُمْ، وَقَالَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ: نَحْنُ مِنْ أَحْرَارِهِمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ. لِأَنَّ مَنْ فِي يَدِ نَفْسِهِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْحُرِّيَّةِ، مَا لَمْ يَثْبُتْ رِقُّهُ بِالْحُجَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا نَوْعٌ ظَاهِرٌ يُدْفَعُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ اسْتِحْقَاقُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بَعْدَ مَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ. قُلْنَا: هُمْ بِهَذَا الظَّاهِرِ يَدْفَعُونَ ظُهُورَ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ عَلَيْهِمْ إنَّمَا يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الصُّلْحُ وَالْأَمَانُ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الصُّلْحُ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ الِاسْتِحْقَاقَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ. 2278 - فَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِمْ شُهُودٌ عُدُولٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَنَّهُمْ مِنْ أَرِقَّائِهِمْ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1219 2279 - وَلَا يُمْتَنَعُ قَبُولُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ مَا لِلشُّهُودِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ النَّصِيبِ بِالسَّهْمِ أَوْ الرَّضْخِ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرِكَةِ مِلْكٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الشَّرِكَةِ لَا يَمْنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ بِهِ قَوْمٌ مِمَّنْ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ جُمْلَةِ الْغَانِمِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وِلَايَةَ الشَّهَادَةِ دُونَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، فَإِذَا كَانَ النَّصِيبُ لِلْقَاضِي بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ قَضَائِهِ فِيهِ، فَالنَّصِيبُ لِلشَّاهِدِ أَوْلَى أَلَّا يَمْنَعَ قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِيهِ. ثُمَّ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: - لَوْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ الْغُزَاةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْغُلُولِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، مَعَ وُجُودِ النَّصِيبِ لَهُمْ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ نَصِيبِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ فِيهِ أَيْضًا شَهَادَةُ آبَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ كَمَا تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ الشَّرِيكِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ لِهَذَا بَطَلَتْ فِيهِ شَهَادَةُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ الْقِتَالَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ نَصِيبًا بِاعْتِبَارِ الْخُمُسِ. وَبَطَلَتْ أَيْضًا شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا لِثُبُوتِ الْحَقِّ لِلشَّاهِدِ فِي ذَلِكَ، وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1220 بِهَذَا. فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ الْعَامَّةَ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وَإِنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِاعْتِبَارِ شَرِكَةِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ، فَأَمَّا مَنْ يُثْبِتُ حَقًّا عَامًّا لَا مِلْكًا فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ مُسْلِمَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَنَى دَارِهِ هَذِهِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِهَدْمِهَا، حَتَّى يُعِيدَهَا طَرِيقًا كَمَا كَانَتْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الطَّرِيقِ حَقًّا لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَكَانَ الشَّاهِدُ مُنْتَفِعًا بِشَهَادَتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ لَمَّا انْعَدَمَ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَالْيَدِ، كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً: فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1221 [بَابُ مَا يَتَبَايَعُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ بَيْنَهُمْ مِمَّا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْغَنِيمَة] - بَابُ مَا يَتَبَايَعُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ بَيْنَهُمْ مِمَّا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَعْلَافِ 2281 - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ حَقَّ التَّنَاوُلِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِالدَّارِ، فَإِنْ أَصَابَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فَلْيَأْخُذْ مِنْهُ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ وَلْيَقْسِمْ سَائِرَ ذَلِكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ سَبْقِ يَدِهِ إلَيْهِ صَارَ أَحَقَّ بِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، فَعَلَيْهِ فِيمَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ أَنْ يُوَصِّلَهُ إلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ. 2282 - فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ الْفَضْلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ شَيْئًا فَلَا بَأْسَ لَهُ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ حَاجَتِهِ وَتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَى الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ مَعْلُومٌ، وَمَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ فَهُوَ كَالْمَوْجُودِ حَقِيقَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ مِنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَمَا يُتْرَكُ لِلْعِيَالِ، فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ. بِاعْتِبَارِ حَقِّ يَدِهِ صَارَ هُوَ أَحَقَّ بِمَا كَانَ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ، فَكَانَ لَهُ أَلَّا يُعْطِيَهُ غَيْرَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1222 2283 - وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ فِي الْمَنْزِلِ الْآخَرِ مِثْلَ هَذَا وَلَكِنَّهُ يَكْرَهُ الطَّلَبَ فِي الْمَنْزِلِ الْآخَرِ، فَلَعَلَّهُ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الْفَضْلَ إلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ. لِأَنَّهُ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ بِتَمَكُّنِهِ مِنْ إصَابَةِ مِقْدَارِ حَاجَتِهِ فِي الْمَنْزِلِ الْآخَرِ، وَحَاجَةُ أَصْحَابِهِ إلَى مَا فِي يَدِهِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْحَالِ. 2284 - فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ حَقَّهُمْ لِتَحْصِيلِ الرَّاحَةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِطُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ فَأَخَذُوا ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. وَمَكْرُوهٌ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ شَرْعًا فَهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ الْأَخْذِ، بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ. وَإِذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ شَرْعًا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُبْطِلُوا عَلَيْهِ هَذَا الْحَقَّ بِالْأَخْذِ مِنْهُ لِحُرْمَةِ يَدِهِ هَا هُنَا. 2285 - وَفِي الْوَجْهَيْنِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّزَةٍ بِالدَّارِ فَلَا يَضْمَنُ مُسْتَهْلِكُهَا شَيْئًا. 2286 - وَإِنْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْهُ فَخَاصَمَهُمْ إلَى الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلُوا فَإِنْ كَانَ هُوَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ رَدَّهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ مَعَ قِيَامِ حَاجَتِهِ تَعَدٍّ وَعَلَى الْإِمَامِ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُتَعَدِّيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1223 2287 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا جَمِيعًا غَنِيَّيْنِ عَنْهُ. لِأَنَّ يَدَهُ إلَى ذَلِكَ كَانَتْ أَسْبَقَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْأَخْذُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ لِلْمُحْتَاجِ. 2288 - فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْآخِذُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي إزَالَةِ يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مُحْتَاجًا إلَيْهِ دُونَ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ الْإِمَامُ. لِأَنَّهُ يَحِقُّ أَخْذُهُ مِنْهُ، وَعَلَى الْإِمَامِ تَقْرِيرُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ. 2289 - فَأَمَّا إذَا كَانَا غَنِيَّيْنِ عَنْهُ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُمَا فَيَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِمَا. وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الثَّانِي ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الرَّدِّ عَلَى الْأَوَّلِ، لِمُرَاعَاةِ قَلْبِهِ، كَمَا لَوْ تَخَاصَمَا عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كُلِّ مَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَقٌّ، كَالنُّزُولِ فِي الرِّبَاطَاتِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَوَاتِ، وَالنُّزُولِ بِمِنًى أَوْ عَرَفَاتٍ لِلْحَجِّ، حَتَّى إذَا ضَرَبَ رَجُلٌ فُسْطَاطًا فِي مَكَان وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ يَنْزِلُ فِيهِ غَيْرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَعْرُوفٌ بِذَلِكَ، فَاَلَّذِي بَدَرَ إلَى ذَلِكَ الْمَنْزِلِ أَحَقُّ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُحَوِّلَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ سَبَقَتْ إلَيْهِ، وَالْإِحْرَازُ فِي الْمُبَاحِ يَحْصُلُ بِسَبْقِ الْيَدِ، كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ. فَإِنْ كَانَ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ مَوْضِعًا وَاسِعًا فَوْقَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَلِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نَاحِيَةً لَا يَحْتَاجُ هُوَ إلَيْهَا فَيَنْزِلُهَا مَعَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1224 لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ سَبْقِ يَدِهِ إنَّمَا صَارَ أَحَقَّ بِهِ لِحَاجَتِهِ. وَلَوْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ فَأَرَادَ الَّذِي بَدَرَ إلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ مَنْ اخْتَارَهُ كَحَاجَتِهِ - وَعِنْدَ قِيَامِ حَاجَتِهِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِ حَاجَةِ مَنْ اخْتَارَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْغَبُ فِي مُجَاوَرَةِ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ الْبَعْضِ، وَيَعُدُّ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّهُ كَانَ يَسْبِقُ النَّاسَ إلَى الْمَنَازِلِ، فَيَجْعَلُ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَامَةً فَإِذَا جَاءَ أَصْحَابُهُ أَعْطَاهُمْ تِلْكَ الْمَنَازِلَ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا. وَلَوْ بَدَرَ إلَيْهِ أَحَدُهُمَا فَنَزَلَ فَأَرَادَ الَّذِي كَانَ أَخَذَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَهُوَ عَنْهُ غَنِيٌّ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْهُ وَيُنْزِلَهُ مُحْتَاجًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الرَّأْيَ كَانَ لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِمَا يَدٌ أُخْرَى هِيَ مُحِقَّةٌ بِاعْتِبَارِ حَاجَةِ صَاحِبِهَا، فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا كُنْت أَخَذْته لِهَذَا الْآخَرِ بِأَمْرِهِ، لَا لِنَفْسِي اسْتَحْلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ، فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، لِإِنْكَارِ خَصْمِهِ، وَبَعْدَ الْحَلِفِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِ الَّذِي بَدَرَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ يَدَهُ فِيهِ كَانَتْ كَيَدِ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَقِيَامُ حَاجَةِ الْآمِرِ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ يَدَهُ يَدٌ مُتَعَدِّيَةٌ أُمِرَ بِإِزَالَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ أَيْضًا فِيمَا يَفْضُلُ مِنْ حَاجَةِ الْآخِذِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، إذَا قَالَ أَخَذْته لِفُلَانٍ بِأَمْرِهِ. - وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ أَصَابَ أَحَدُهُمَا شَعِيرًا وَالْآخَرُ قَضْبًا فَتَبَادَلَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَاجٌ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1225 مَا اشْتَرَى، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا اشْتَرَى مِنْ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ هَذَا بِبَيْعٍ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصِيبَ مِنْ الْعَلَفِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ إلَّا أَنَّ قِيَامَ حَاجَةِ صَاحِبِهِ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَيَسْتَرْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِهَذِهِ الْمُبَايَعَةِ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُ بِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ، بِمَنْزِلَةِ الْأَضْيَافِ عَلَى الْمَائِدَةِ إذَا تَنَاوَلَ اثْنَانِ طَعَامًا بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَيْعًا، وَلَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَا بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَبَعْدَ وُجُودِ التَّرَاضِي بِهَذَا السَّبَبِ يَتَنَاوَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِلْكِ الْمُضِيفِ بِاعْتِبَارِ الْإِبَاحَةِ مِنْهُ. 2291 - وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَاجًا إلَى مَا أَعْطَى صَاحِبَهُ، وَصَاحِبُهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا نَقْضَ مَا صَنَعَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى يَدِهِ يَدٌ مُحِقَّةٌ فَإِنَّ صَاحِبَهُ أَخَذَهُ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ فَقِيَامُ حَاجَتِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي بَدَرَ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ. 2292 - وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مُحْتَاجًا إلَى مَا أَعْطَى، وَكَانَ الْمُشْتَرِي غَنِيًّا عَنْهُ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَى وَيَرُدَّ مَا أَخَذَ. لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي بَدَرَ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1226 إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَأْخُذُهُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا، وَهَا هُنَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِمُقَابَلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَانَ غُرُورًا مِنْهُ، وَالْغُرُورُ حَرَامٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ وَهَبَهُ لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ غَنِيًّا عَنْهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ. 2293 - وَإِنْ كَانَ حِينَ قَصَدَ الِاسْتِرْدَادَ مِنْ صَاحِبِهِ أَعْطَاهُ صَاحِبُهُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ. لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى الدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَهُ بِنَفْسِهِ إلَى هَذَا الْمُحْتَاجِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَقِيَامُ حَاجَةِ مَنْ فِي يَدِهِ فِي مِثْلِ هَذَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهُ. 2294 - وَلَوْ تَبَايَعَا، وَهُمَا غَنِيَّانِ أَوْ مُحْتَاجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا غَنِيٌّ وَالْآخَرُ مُحْتَاجٌ، فَلَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى بَدَا لِأَحَدِهِمَا تَرْكُ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ. لِأَنَّ هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا فَإِنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ مَحَلَّهَا فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَهَا كَالْحَالِ قَبْلَهَا، مَا لَمْ يَتَقَابَضَا، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَبْتَنِي عَلَى الْيَدِ، وَبِمُجَرَّدِ الْمُبَايَعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَتَحَوَّلُ الْيَدُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ. 2295 - وَلَوْ أَقْرَضَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِثْلَهُ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَنِيًّا عَنْ ذَلِكَ، أَوْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ شَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1227 لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ، وَإِنَّمَا الِاسْتِقْرَاضُ كَانَ لِتَطِيبَ نَفْسُ صَاحِبِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِهِ ضَمَانٌ إنْ اسْتَهْلَكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ بَعْدُ، فَالْمُقْرِضُ أَحَقُّ بِهِ إذَا أَرَادَ اسْتِرْدَادَهُ. لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِتَحْوِيلِ الْيَدِ إلَى صَاحِبِهِ، إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ هَذَا الشَّرْطِ فَيَنْعَدِمُ رِضَاهُ وَيَصِيرُ هَذَا وَمَا لَوْ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ سَوَاءٌ. 2296 - وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَالْمُعْطِي غَنِيًّا عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ. لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ وَغِنَى صَاحِبِهِ عَنْهُ فَإِذَا أَخَذَهُ بِرِضًى أَوْلَى. 2297 - وَإِنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ عَنْهُ حِينَ أَقْرَضَهُ ثُمَّ احْتَاجَا إلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِهْلَاكِ فَالْمُعْطِي أَحَقُّ بِهِ. لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا إذَا اُعْتُرِضَتْ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْأَخْذِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رِضَى الْمُعْطِي لَمْ يَتِمَّ بِهِ حِينَ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ الشَّرْطُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالِاسْتِرْدَادِ. 2298 - وَإِنْ احْتَاجَ الْآخِذُ أَوَّلًا ثُمَّ احْتَاجَ إلَيْهِ الْمُعْطِي، أَوْ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْآخِذِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1228 لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ حَاجَةِ الْآخِذِ قَدْ اتَّصَفَتْ يَدُهُ بِالْحَقِيقَةِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُزِيلَهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ. - وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا حِنْطَةً مِنْ صَاحِبِهِ مِمَّا هُوَ غَنِيمَةٌ بِدَرَاهِمَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، فَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ، وَقَبَضَ الْحِنْطَةَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، إذَا كَانَ هُوَ إلَيْهَا مُحْتَاجًا. لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهَا بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ تَأَكَّدَتْ يَدُهُ لِحَاجَتِهِ. فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا نَقْضَ الْبَيْعِ؛ وَالْحِنْطَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا حَقِيقَةً، فَإِنَّهُمَا فِي تَنَاوُلِ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ. 2300 - فَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْحِنْطَةَ وَيَأْخُذُ دَرَاهِمَهُ إنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ عَنْهَا، أَوْ كَانَ الْبَائِعُ مُحْتَاجًا إلَيْهَا وَالْمُشْتَرِي غَنِيًّا. فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فَعَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ صَحِيحٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا. 2301 - وَالْحِنْطَةُ سَالِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي. لِأَنَّ يَدَهُ فِيهَا اتَّصَفَتْ بِالْحَقِيَةِ لِحَاجَتِهِ، لَا لِتَسْلِيمِ الْبَائِعِ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا كَانَ غَنِيًّا عَنْهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1229 2302 - وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ اسْتَهْلَكَهَا فَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ، وَمَا اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي سَالِمٌ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَإِنْ ذَهَبَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْبَائِعُ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ الدَّرَاهِمَ، فَهِيَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ إلَّا أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي يَدِهِ. لِأَنَّهُ قَبَضَهَا عَلَى قَصْدِ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ، فَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمُلْتَقِطِ لِقَصْدِ التَّمَلُّكِ بِالْأَخْذِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ ذَلِكَ فِي الْإِمْسَاكِ، وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّصَدُّقِ بِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي اللُّقَطَةِ. 2303 - فَإِنْ رَفَعَ أَمْرَهَا إلَى صَاحِبِ الْمَغَانِمِ وَالْمَقَاسِمِ فَقَالَ: قَدْ أَجَزْت بَيْعَك فَهَاتِ الثَّمَنَ جَازَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَى صَاحِبِ الْمَغَانِمِ. لِأَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ إلَى الْإِمَامِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَهَذَا مِثْلُهُ. 2304 - فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ بَعْدَ ذَلِكَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْحِنْطَةَ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَ صَاحِبُ الْمَغَانِمِ الْبَيْعَ فَالدَّرَاهِمُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِ. لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ تَسْتَدْعِي بَقَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ فِي حُكْمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَحَلِّ كَإِنْشَاءِ الْعَقْدِ فَإِذَا بَطَلَتْ الْإِجَازَةُ وَجَبَ رَدُّ دَرَاهِمِهِ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1230 2305 - فَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَهْلِكْهَا إلَّا بَعْدَ الْإِجَازَةِ فَالدَّرَاهِمُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ إجَازَةَ صَاحِبِ الْمَغَانِمِ بَيْعَهُ كَإِنْشَاءِ الْعَقْدِ مِنْهُ، وَلَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ الطَّعَامَ مِنْ الْغَانِمِينَ بِدَرَاهِمَ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَكَانَ الثَّمَنُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مُسِيئًا فِيمَا صَنَعَ، فَهَذَا مِثْلُهُ. 2306 - فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي قَدْ كُنْت أَكَلْت الْحِنْطَةَ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ فَرُدَّ عَلَيَّ الدَّرَاهِمَ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الدَّرَاهِمَ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا قَبْلَ إجَازَةِ الْبَيْعِ. لِأَنَّ مَا عُرِفَ قِيَامُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْهَلَاكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ حَادِثٌ، فَإِنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِنَادَهُ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. - وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَصَابَ أَحَدُهُمَا حِنْطَةً وَالْآخَرُ ثَوْبًا فَأَرَادَ أَنْ يَتَبَايَعَا فَلَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ. لِأَنَّ الَّذِي أَصَابَ الثَّوْبَ مَمْنُوعٌ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَيَكُونُ مَمْنُوعًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ أَيْضًا، بِخِلَافِ الطَّعَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1231 2308 - فَإِنْ فَعَلَا وَاسْتَهْلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إلَّا أَنَّ بَائِعَ الثَّوْبِ مُسِيءٌ فِي الْبَيْعِ. لِأَنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنِيمَةِ لِلْإِمَامِ فَهُوَ يَفْتَاتُ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بِهَذَا التَّصَرُّفِ، فَيَكُونُ مُسِيئًا فِيهِ. وَالْمُشْتَرِي لِلثَّوْبِ قَدْ اسْتَهْلَكَ ثَوْبًا مِنْ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ مُسِيئًا أَيْضًا. 2309 - وَإِنْ لَمْ يَسْتَهْلِكَا ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَا دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّ مَا فِي يَدِهِ. لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُبَايَعَةِ كَانَ بَاطِلًا، فَمَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ تَأَكَّدَ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إنَّمَا يُخَالِفُ سَائِرَ الْأَمْوَالِ قَبْلَ تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِالْإِحْرَازِ، فَأَمَّا بَعْدَ التَّأَكُّدِ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، يَجِبُ قِسْمَتُهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلِهَذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِمَا اسْتَهْلَكَهُ. 2310 - وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدُ، وَلَمْ يَسْتَهْلِكَا ذَلِكَ، فَعَلَى الَّذِي قَبَضَ الثَّوْبَ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ ابْتِدَاءً. وَأَمَّا الَّذِي قَبَضَ الْحِنْطَةَ فَالْحُكْمُ فِي حَقَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1232 مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ اعْتِبَارِ حَاجَتِهِمَا، أَوْ غِنَاهُمَا، أَوْ حَاجَةِ الْآخِذِ دُونَ الْمُعْطِي، أَوْ الْمُعْطِي دُونَ الْآخِذِ، فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. 2311 - فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لِلْحِنْطَةِ قَدْ ذَهَبَ بِهَا، وَلَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِ، أَخَذَ صَاحِبُ الْمَغَانِمِ الثَّوْبَ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ ابْتِدَاءً. وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ لِلثَّوْبِ هُوَ الَّذِي لَمْ يُوقَفْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَغَانِمِ لَا يَعْرِضُ لِمُشْتَرِي الْحِنْطَةَ بِشَيْءٍ، مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَهَا فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ كَانَ إخْرَاجُهَا قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَهَا أَخَذَهَا مِنْهُ صَاحِبُ الْمَغَانِمِ فَجَعَلَهَا فِي الْغَنِيمَةِ. - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَتَعَلَّفَ لَهُ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ إلَى بَعْضِ الْمَطَامِيرِ، وَأَتَاهُ بِذَلِكَ الْعَلَفِ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَلَّا أُعْطِيَك هَذَا، وَآخُذَهُ لِنَفْسِي، وَأَرُدُّ عَلَيْك الْأَجْرَ، وَأَبَى الْمُسْتَأْجِرُ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ الْأَجِيرُ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ عَلَى الْإِجَارَةِ، أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، إنْ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إلَيْهِ، أَوْ كَانَا غَنِيَّيْنِ عَنْهُ. لِأَنَّ يَدَ الْأَجِيرِ كَيَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَقَدْ صَحَّتْ هَذِهِ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى مَنَافِعِهِ، وَمَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنْ الْجِهَادِ فِي شَيْءٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1233 1313 - وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ، وَالْمُسْتَأْجِرُ غَنِيًّا عَنْهُ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ لِلْأَجِيرِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهُ، لِحَاجَتِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي يَدِ الْأَجِيرِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْهُ. وَلَكِنْ لَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ مِنْهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ حِينَ مَنَعَهُ مَا جَاءَ بِهِ. 2314 - وَلَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْتَشَّ لَهُ حَشِيشًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ غَنِيًّا عَنْهُ، وَالْأَجِيرُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ احْتَشَّهُ لَهُ. لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْحَشِيشَ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ. 2315 - وَلَوْ احْتَشَّهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَدَارُ الْحَرْبِ وَدَارُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ إذَا احْتَشَّهُ لَهُ لِغَيْرِهِ. لِأَنَّ يَدَ أَجِيرِهِ كَيَدِهِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ إلَى وَقْتِ الْقِسْمَةِ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَ الْغَانِمِينَ. فَإِذَا كَانَ الْأَجِيرُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَالْمُسْتَأْجِرُ غَنِيًّا عَنْهُ كَانَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ أَحَقَّ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1234 2316 - ثُمَّ فِي الطَّعَامِ إنْ سَلَّمَهُ الْأَجِيرُ إلَى الْمُسْتَأْجَرِينَ حِينَ جَاءَ بِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَغِنَى الْمُسْتَأْجَرِ عَنْهُ فَلَهُ ذَلِكَ. وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَشِيشِ. 2317 - وَإِذَا أَخَذَهُ هَا هُنَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ. لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ قَدْ انْتَهَى بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ، ثُمَّ الْأَخْذُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَقٍّ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْأَخْذِ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ، وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ، فَهَذَا أَوْلَى. 2318 - وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيَأْتِيَهُ بِالْعَلَفِ مِنْ بَعْضِ الْمَطَامِيرِ، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ مَطْمُورَةً بِعَيْنِهَا، فَأَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ الْأَجْرِ. لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ فَاسِدًا لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ ذَهَابُهُ وَمَجِيئُهُ، وَالْحُكْمُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ، بَعْدَ إيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَرَجَعَ إلَيْهِ. لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَ الْعَمَلَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الذَّهَابُ وَالطَّلَبُ فَلَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ إذَا مَنَعَهُ مَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِالْمَنْعِ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْعَامِلِ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ، حَتَّى إنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا كَانَ لَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1235 لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لَهُ فِي الذَّهَابِ، وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ فِي الرُّجُوعِ، حِينَ لَمْ يَأْتِ بِالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَعَرَفْت أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ، بَلْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا إنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَا جَاءَ بِهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَلَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ مِنْ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1236 [بَابُ هَدِيَّةِ أَهْلِ الْحَرْبِ] 2319 - وَإِذَا بَعَثَ مَلِكُ الْعَدُوِّ إلَى أَمِيرِ الْجُنْدِ بِهَدِيَّةٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْبَلَهَا وَيَصِيرَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْبَلُ هَدِيَّةَ الْمُشْرِكِينَ فِي الِابْتِدَاءِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَهْدَى إلَى أَبِي سُفْيَانَ تَمْرَ عَجْوَةٍ، وَاسْتَهْدَاهُ أَدْمًا. ثُمَّ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي طَلَبِ الْعِوَضِ أَبَى قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إنَّا لَا نَقْبَلُ زَبَدَ الْمُشْرِكِينَ. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ لِلْأَمِيرِ رَأْيًا فِي قَبُولِ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ فِي الْقَبُولِ مَعْنَى التَّأْلِيفِ، وَفِي الرَّدِّ إظْهَارَ مَعْنَى الْغِلْظَةِ وَالْعَدَاوَةِ. 2320 - وَإِذَا طَمِعَ فِي إسْلَامِهِمْ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُؤَلِّفَهُمْ فَيَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ، وَيُهْدِيَ إلَيْهِمْ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» . وَإِذَا لَمْ يَطْمَعْ فِي إسْلَامِهِمْ فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَعْنَى الْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ الْهَدِيَّةِ، فَإِنْ قَبِلَهَا كَانَ ذَلِكَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ مَا أَهْدَى إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، بَلْ لِمَنَعَتِهِ، وَمَنَعَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُصَابِ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1237 2321 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْهَدِيَّةِ، فَإِنَّ قُوَّتَهُ وَمَنَعَتَهُ لَمْ تَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَللَّهُ يَعْصِمُك مِنْ النَّاسِ} [المائدة: 67] فَلِهَذَا كَانَتْ الْهَدِيَّةُ لَهُ خَاصَّةً. ثُمَّ الَّذِي حَمَلَ الْمُشْرِكَ عَلَى الْإِهْدَاءِ إلَيْهِ خَوْفُهُ مِنْهُ، وَطَلَبُ الرِّفْقِ بِهِ وَبِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ بِعَسْكَرِهِ، فَكَانَتْ الْهَدِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ إلَى قَائِدٍ مِنْ قُوَّادِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَهُ عُدَّةٌ وَمَنَعَةٌ. لِأَنَّ الرَّهْبَةَ مِنْهُ وَالرَّغْبَةَ فِي التَّأَلُّفِ مَعَهُ بِالْهَدِيَّةِ لِيَرْفُقَ بِهِ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَنَعَتِهِ، وَذَلِكَ بِمَنْ تَحْتَ رَايَتِهِ، وَبِجَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. 2322 - وَإِنْ كَانَ أَهْدَى إلَى بَعْضِ الْمُبَارِزِينَ، أَوْ إلَى رَجُلٍ مِنْ عَرْضِ الْعَسْكَرِ، فَذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً. لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ إلَى مِثْلِهِ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْخَوْفِ مِنْهُ، أَوْ طَلَبِ الرِّفْقِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فَذَلِكَ الْخَوْفُ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهِ فِي نَفْسِهِ، لَا لِغَيْرِهِ، إذْ لَا مَنَعَةَ لَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُ خَاصَّةً. 2323 - وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ أَهْدَى إلَى مُفْتٍ أَوْ وَاعِظٍ شَيْئًا، فَإِنَّ ذَلِكَ سَالِمٌ لَهُ خَاصَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1238 لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَ الْمُهْدِي إلَى الْإِهْدَاءِ إلَيْهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ مَعْنًى فِيهِ خَاصَّةً، بِخِلَافِ الْهَدِيَّةِ إلَى الْحُكَّامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رِشْوَةً؛ لِأَنَّ مَعْنَى الَّذِي حَمَلَ الْمُهْدِي عَلَى التَّقَرُّبِ إلَيْهِ وِلَايَتُهُ الثَّابِتَةُ، بِتَقْلِيدِ الْإِمَامِ إيَّاهُ، وَالْإِمَامُ فِي ذَلِكَ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. 2324 - وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ» يَعْنِي إذَا حَبَسُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغُلُولِ مِنْهُمْ، وَالْغُلُولُ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَغْنَمِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَتَخْصِيصُ الْأَمِيرِ بِذَلِكَ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ لَا يَكُونُ غُلُولًا، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَامِلًا فَجَاءَ بِمَالٍ، فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فِي خُطْبَتِهِ: فَهَلَّا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى يُهْدَى إلَيْهِ» . وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا، وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْبَحْرَيْنِ، فَجَاءَ بِمَالٍ فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّ كِتَابِهِ، سَرَقْت مَالَ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ: لَسْت بِعَدُوِّ اللَّهِ وَلَا كِتَابِهِ، وَلَمْ أَسْرِقْ مَالَ اللَّهِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، خَيْلِي تَنَاتَجَتْ وَسِهَامِي اجْتَمَعَتْ فَلَمْ يَلْتَفِتْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى قَوْلِهِ، وَأَخَذَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَامِلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1239 إلَى كُورَةٍ فَأُهْدِيَ إلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ الْخَلِيفَةُ أَنَّهُ أُهْدِيَ إلَيْهِ طَوْعًا، أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّهُ أُهْدِيَ إلَيْهِ لِعَمَلِهِ الَّذِي قُلِّدَهُ، وَقَدْ كَانَ هُوَ نَائِبًا فِي ذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذِهِ الْهَدَايَا حَقُّ الْمُسْلِمِينَ، تُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ. 2325 - فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَهْدَوْا إلَيْهِ مُكْرَهِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ فَيَرُدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ عَزَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلُهُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ أَمَرَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ اُسْتُخْلِفَ بِرَدِّ الْأَمْوَالِ الَّتِي اجْتَمَعَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْمَرْوَانِيَّةِ كَانُوا أَخَذُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِكْرَاهِ. - وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ مَلِكَ الْعَدُوِّ أَهْدَى إلَى مَلِكِ الثَّغْرِ، أَوْ إلَى قَائِدٍ مِنْ قُوَّادُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُهْدَى إلَيْهِ أَنْ يَرْزَأَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْخَلِيفَةَ يَأْخُذُهَا مِنْهُ فَيَجْعَلُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ إلَى شُجَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ.؛ لِأَنَّ طَلَبَهُمْ الرِّفْقَ مِنْ مَلِكِ الثَّغْرِ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ الْمُبَارِزِ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهِ فِي نَفْسِهِ. - وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ أَهْدَى إلَى مَلِكِ الْعَدُوِّ فَعَوَّضَهُ مَلِكُ الْعَدُوِّ نُظِرَ فِي هَدِيَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُ هَدِيَّةِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ، أَوْ فِيهِ زِيَادَةٌ بِقَدْرِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1240 لِأَنَّ الْجَالِبَ لِهَذِهِ الْهَدِيَّةِ مَا قَدَّمَ مِنْ الْإِهْدَاءِ إلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ. 2328 - وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ قِيمَةِ هَدِيَّتِهِ، وَالْفَضْلُ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَعَهُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْقَائِدِ الَّذِي مِمَّنْ يَخَافُ وَيُرْجَى مِنْهُ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي أَهْدَى إلَيْهِمْ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ امْرَأَتَهُ أَهْدَتْ إلَى امْرَأَةِ مَلِكِ الرُّومِ هَدِيَّةً مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَأَهْدَتْ إلَيْهَا امْرَأَةُ الْمَلِكِ هَدَايَا، فَأَعْطَاهَا عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ هَدِيَّتِهَا، وَأَخَذَ مَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُلْ لِصَاحِبَتِك فَلْتُهْدِ إلَيْهَا حَتَّى تَنْظُرَ أَتُهْدِي إلَيْهَا مِثْلَ هَذَا أَمْ لَا؟ - وَإِنْ أَهْدَى مُبَارِزٌ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ قَائِدٌ أَوْ مَلِكٍ فَأَهْدَى إلَيْهِ أَضْعَافَ ذَلِكَ فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ. لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَمْ تَكُنْ بِاعْتِبَارِ تَعَزُّزٍ لَهُ بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ مَالًا بِطِيبَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُ. - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ حَاصَرُوا حِصْنًا فَبَاعَهُمْ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ مَتَاعًا. فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ فَالثَّمَنُ سَالِمٌ لَهُ. لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1241 2331 - وَإِنْ كَانَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ قِيمَةِ مِلْكِهِ، وَالْبَاقِي يَكُونُ فَيْئًا لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا بَذَلُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِلْخَوْفِ مِنْهُ، أَوْ لِطَلَبِ الرِّفْقِ، حَتَّى لَا يَقْطَعَ أَشْجَارَهُمْ وَلَا يُخَرِّبَ بُنْيَانَهُمْ، أَوْ يَنْصَرِفَ عَنْهُمْ، وَتَمَكُّنُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِقُوَّةِ الْعَسْكَرِ، فَلِهَذَا كَانَ الْفَضْلُ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الظَّاهِرُ، الَّذِي يُسْبَقُ إلَيْهِ وَهُمْ كُلُّ أَحَدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ، فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. 2332 - وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ رَجُلًا مِنْ عَرَضِ الْعَسْكَرِ فَالثَّمَنُ سَالِمٌ لَهُ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ. لِأَنَّهُمْ مَا أَعْطَوْهُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَزْبَنَهُمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَخَذَ الْمَالَ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَعْطَوْهُ بَدَلًا عَنْ مِلْكِهِ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُ. - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَا بَدَا لَهُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إلَّا السِّلَاحُ وَالْكُرَاعُ، وَالسَّبْيُ سَوَاءٌ دَخَلُوا إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1242 لِأَنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِذَلِكَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ اكْتِسَابُ سَبَبِ تَقْوِيَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْأَمْتِعَةِ. 2334 - ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ إذَا لَمْ يُحَاصِرُوا مِنْ حُصُونِهِمْ، فَأَمَّا إذَا حَاصَرُوا حِصْنًا مِنْ حُصُونِهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا وَلَا شَيْئًا يُقَوِّيهِمْ عَلَى الْمُقَامِ. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا حَاصَرُوهُمْ لِيَنْفُذَ طَعَامُهُمْ وَشَرَابُهُمْ حَتَّى يُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ وَيَخْرُجُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَفِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ اكْتِسَابُ سَبَبِ تَقْوِيَتِهِمْ عَلَى الْمُقَامِ فِي حِصْنِهِمْ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ اكْتِسَابِ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى الْمُقَامِ، لَا بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا أَهْلُ الْحِصْنِ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَحَاطَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. 2335 - وَمَنْ فَعَلَهُ فَعَلِمَ بِهِ الْإِمَامُ أَدَّبَهُ عَلَى ذَلِكَ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ، وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ بَعَثَ رَسُولًا إلَى مَلِكِهِمْ فِي حَاجَةٍ فَأَجَازَهُ الْمَلِكُ بِجَائِزَةٍ، وَأَخْرَجَهَا الرَّسُولُ إلَى الْعَسْكَرِ، أَوْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَذَلِكَ سَالِمٌ لَهُ خَاصَّةً. لِأَنَّ هَذِهِ الْجَائِزَةَ لِلرَّسُولِ مَا كَانَتْ لِرَغْبَةٍ أَوْ لِرَهْبَةٍ، بَلْ لِلْإِنْسَانِيَّةِ وَالْمُرُوَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجِيزُ الْوُفُودَ وَالرُّسُلَ الَّذِينَ يَأْتُونَهُ، وَأَوْصَى أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ بَعْدَهُ، وَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ مِنْهُ لِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1243 2336 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الرَّسُولُ أَهْدَى إلَى مَلِكِهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَعَوَّضَهُ بِأَضْعَافِ ذَلِكَ أَوْ بَاعَهُمْ مَتَاعَهُ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ سَالِمٌ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَعَامَلَهُمْ، فَأَخَذَ مَالًا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ. - وَلَوْ أَنَّ مَلِكَ الْعَدُوِّ أَهْدَى إلَى أَمِيرِ الْعَسْكَرِ فَأَرَادَ أَنْ يُعَوِّضَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْغَنِيمَةِ حَقُّ الْغَانِمِينَ حَتَّى لَا يَمْلِكَ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْغَانِمِينَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، فَكَيْفَ يَمْلِكُ أَنْ يَخُصَّ مَلِكَ الْعَدُوِّ بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: 2338 - مَا أُهْدِيَ إلَيْهِ يَصِيرُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطَى عِوَضَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ مَا أُهْدِيَ إلَيْهِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ؟ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْبَلَ وَيُعَوِّضَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَرَأَى النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُعَوَّضُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْهَدِيَّةِ، بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيَجْعَلْ ذَلِكَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ. لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عِوَضٌ يُجْعَلُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِهْدَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1244 إلَيْهِمْ ابْتِدَاءً مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِوَضَ مَقْصُودٌ مِنْ الْهَدِيَّةِ فَيَكُونُ كَالْمَشْرُوطِ. 2339 - وَلَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يُعَامِلَهُمْ فِي مَتَاعِ الْغَنِيمَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ غَبْنٌ فَاحِشٌ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ حُكْمُ التَّعْوِيضِ مِنْ هَدِيَّتِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1245 [بَابُ مَا يَكُونُ إحْرَازًا مِنْ أَهْل الْحَرْبِ وَمَا لَا يَكُونُ] - بَابُ مَا يَكُونُ إحْرَازًا مِنْهُمْ وَمَا لَا يَكُونُ 2340 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ دَخَلُوا دَارَنَا لِلْإِغَارَةِ فَأَخَذُوا أَمْوَالًا وَسَبَايَا ثُمَّ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا بِذَلِكَ دَارَهُمْ، فَالْإِمَامُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ جَمِيعَ مَا أَخَذُوا فَيَرُدُّهُ عَلَى أَهْلِهِ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا مَا أَخَذُوا حِينَ لَمْ يُحْرِزُوهُ بِدَارِهِمْ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَسْتَدْعِي تَمَامَ الْقَهْرِ، وَذَلِكَ لَا يَسْبِقُ الْإِحْرَازَ، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِينَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، وَيُؤْمَرُونَ بِالرَّدِّ. 2341 - سَوَاءٌ أَسْلَمُوا هَا هُنَا، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً. لِأَنَّ هَذَا السَّبَبَ إنَّمَا يُقَرِّرُ مِلْكَهُمْ فِيمَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُمْ، وَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُمْ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا قَبْلَهُ. 2342 - وَيَسْتَوِي إذَا كَانُوا قَسَمُوا ذَلِكَ فِي دَارِنَا بَيْنَهُمْ أَوْ لَمْ يَقْسِمُوا. لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالْقِسْمَةِ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ قَسَمُوا الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَازِ فِي تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِهِ، فَلِمَاذَا لَا يُجْعَلُ قِسْمَتُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَازِ مِنْهُمْ. قُلْنَا: لِأَنَّ إقَامَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1246 الْقِسْمَةِ مَقَامَ الْإِحْرَازِ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، لِوُجُودِ أَمِيرٍ هُوَ نَافِذُ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمْ تَمَامُ السَّبَبِ حِسًّا وَبِقِسْمَتِهِمْ لَا يَزْدَادُ السَّبَبُ قُوَّةً وَحِسًّا. 2343 - وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ عَسْكَرَهُمْ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى بَعْضَ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ، فَلَا يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ أَيْضًا، وَكَانَ هُوَ مُتَبَرِّعًا فِيمَا فَدَى بِهِ مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. 2344 - فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ قَدْ دَخَلُوا دَارَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا صَارَ ذَلِكَ لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ بِالْإِحْرَازِ قَدْ مَلَكُوا لِتَمَامِ السَّبَبِ وَهُوَ الْقَهْرُ، ثُمَّ يَتَقَرَّرُ مِلْكُهُمْ بِالْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» وَكَذَلِكَ إنْ جَاءُوا ذِمَّةً. لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِي تَقَرُّرِ الْمِلْكِ بِهِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَيَعْمَلُ عَمَلَهُ. 2345 - وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْمَنُوا إلَيْنَا، وَمَعَهُمْ ذَلِكَ الْمَالُ. لِأَنَّهُمْ اسْتَفَادُوا الْأَمَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. 2346 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ مُسْلِمٌ فَإِنَّ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ. لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ قَدْ انْقَطَعَ بِالْمِلْكِ الَّذِي حَدَثَ لَهُمْ، فَلَا يَعُودُ حَقُّهُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ، مَا لَمْ يَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِمْ، وَبِالشِّرَاءِ يَتَحَوَّلُ الْمِلْكُ إلَى الْمُسْلِمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1247 فَيَظْهَرُ حَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ فِي الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمُوا، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، أَوْ خَرَجُوا بِأَمَانٍ، فَالْمِلْكُ لَمْ يَتَحَوَّلْ مِنْهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ، فَلِهَذَا لَا يَظْهَرُ حَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِي الْأَخْذِ. 2347 - فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ دَخَلُوا دَارَهُمْ مُغِيرِينَ، وَأَصَابُوا سَبَايَا مِنْ أَحْرَارِهِمْ فَلَمْ يُخْرِجُوهُمْ حَتَّى أَسْلَمُوا فَقَدْ أَمِنُوا مِنْ الْقَتْلِ بِالْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُمْ أَرِقَّاءُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمْ لَمَّا صَارُوا مَقْهُورِينَ، وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الِاسْتِرْقَاقِ، وَلَا يَمْنَعُ - الرِّقَّ الثَّابِتَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا قَهَرُوهُمْ فَقَدْ صَارُوا مَقْهُورِينَ حِسًّا وَحُكْمًا ثُمَّ بِإِسْلَامِهِمْ لَا يَرْتَفِعُ الْقَهْرُ حُكْمًا، فَنَفْيُ الرِّقِّ وَالْقَهْرِ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ حُكْمًا وَإِنَّمَا يَكُونُ حِسًّا، وَالْقَهْرُ الْحِسِّيُّ لَا يَتِمُّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. وَبَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْقَاهِرَ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ مُحْرِزٌ بِإِسْلَامِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ إخْرَاجُ مَأْسُورِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَإِنَّمَا يَكُونُ قَهْرُهُمْ بِالْيَدِ لَا بِالدَّيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخْذُ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ؟ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا كَانُوا قَاهِرِينَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ الذِّمَّةَ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي حُصُولِ الْإِحْرَازِ بِهَا فِي حَقِّ الشَّرْعِ، حَتَّى لَا يَحِلَّ لِأَحَدٍ التَّعَرُّضُ لَهُمْ فِيمَا أَخَذُوا، وَأَنَّهُ يُخَمَّسُ مَا سَبَى أَهْلُ الذِّمَّةِ كَمَا يُخَمَّسُ مَا سَبَى الْمُسْلِمُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1248 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ مَنَعَةٍ مِنْ التُّرْكِ دَخَلُوا الرُّومَ فَسَبَوْا مِنْ أَحْرَارِهِمْ، فَلَمْ يُدْخِلُوهُمْ دَارَهُمْ حَتَّى أَسْلَمَ السَّبْيُ فَهُمْ أَحْرَارٌ. لِأَنَّهُمْ مَا صَارُوا مُحْرِزِينَ لَهُمْ بِالدَّيْنِ، إذْ لَا دَيْنَ لَهُمْ، وَبِالْيَدِ لَا يَتِمُّ الْقَهْرُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ. 2349 - فَإِذَا أَسْلَمُوا تَقَرَّرَتْ حُرِّيَّتُهُمْ، حَتَّى لَوْ أَدْخَلُوهُمْ دَارَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، كَانُوا أَحْرَارًا، أَوْ لَوْ كَانُوا إنَّمَا أَسْلَمُوا بَعْدَ مَا دَخَلُوا دَارَهُمْ كَانُوا عَبِيدًا لَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمُوا كَانُوا عَبِيدًا لَهُمْ، وَإِنْ خَرَجُوا إلَيْنَا مُرَاغِمِينَ فَهُمْ أَحْرَارٌ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي عَبْدِ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ. لِأَنَّهُمْ حِينَ أَحْرَزُوهُمْ بِدَارِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ فَقَدْ تَمَّ قَهْرُهُمْ، وَيَثْبُتُ الرِّقُّ وَالْمِلْكُ ثُمَّ بِمُجَرَّدِ إسْلَامِ الْمَمْلُوكِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ثَابِتًا لِكَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ. 2350 - وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ التُّرْكُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلُوا الْأُسَرَاءَ دَارَهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْأُسَرَاءُ بَعْدَهُمْ فَهُمْ عَبِيدٌ لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُحْرِزِينَ لَهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ عِنْدَ الْأَخْذِ سَوَاءٌ، ثُمَّ إذَا أَخْرَجُوهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ الْخُمُسُ مِنْهُمْ، بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَنَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، دَخَلُوا مُغِيرِينَ دَارَ الْحَرْبِ، بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1249 وَأَصَابُوا سَبَايَا، فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا، وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُمْ، فَهَا هُنَا كَذَلِكَ. 2351 - وَإِنْ كَانَ إسْلَامُ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ مَا أَدْخَلُوهُمْ دَارَهُمْ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى دَارِنَا، فَهُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِينَ أَسَرُوهُمْ، وَلَا خُمُسَ فِيهِمْ. لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُمْ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ، قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِيهِمْ، فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِمْ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ لَمْ يَمْلِكُوهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. 2352 - وَإِنْ ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِمْ وَلَكِنْ إنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِيمَا إذَا أَحْرَزُوا، وَإِذَا أَسْلَمَ الْأُسَرَاءُ قَبْلَ التُّرْكِ فِي أَرْضِ الرُّومِ، ثُمَّ أَسْلَمَ التُّرْكُ بَعْدَهُمْ فَالْأُسَرَاءُ أَحْرَارٌ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ قَدْ تَأَكَّدَتْ بِالْإِسْلَامِ، قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ الرِّقُّ فِيهِمْ بِالْإِحْرَازِ. 2353 - وَلَوْ أَسْلَمَ الْفَرِيقَانِ مَعًا، أَوْ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْآخَرِ فَهُمْ أَحْرَارٌ. لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ مَعْلُومَةٌ، وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِرِقِّهِمْ وَتَقَدُّمُ إسْلَامِ التُّرْكِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَالرِّقُّ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ. فَإِنْ قِيلَ: قَهْرُ التُّرْكِ إيَّاهُمْ مَعْلُومٌ أَيْضًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1250 وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِحُرِّيَّتِهِمْ. قُلْنَا: قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا، فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْضُ الْعِلَّةِ، وَبِبَعْضِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ. - وَإِنْ أَسَرَ التُّرْكُ امْرَأَةً مِنْ الرُّومِ، فَأَسْلَمَتْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَزَوْجُهَا فِي مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الرُّومِ، لَمْ تَبِنْ مِنْ زَوْجِهَا، وَإِنْ أَخْرَجَهَا التُّرْكُ إلَى دَارِهِمْ. لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا تَأَكَّدَتْ بِالْإِسْلَامِ، فَلَا تَصِيرُ هِيَ مِنْ أَهْلِ مَنَعَةِ التُّرْكِ، وَلَكِنَّهَا حَرْبِيَّةٌ أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا، حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، أَوْ تَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَحِينَئِذٍ تَبِينُ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا. 2355 - وَإِنْ أَسْلَمَ التُّرْكُ قَبْلَ إسْلَامِهَا بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا حِينَ أَسْلَمَتْ بَعْدَ إسْلَامِ التُّرْكِ، أَوْ قَبْلَ إسْلَامِ التُّرْكِ، إذَا أَسْلَمَ التُّرْكُ؛ لِأَنَّ التُّرْكَ الْآنَ بِمَنْزِلَةِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ، وَهُنَاكَ لَوْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ ثُمَّ الْتَحَقَتْ بِالْعَسْكَرِ كَانَتْ حُرَّةً، وَتَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا لِإِحْرَازِهَا نَفْسَهَا بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ سَبَوْا امْرَأَةً، فَأَسْلَمَتْ، بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَمَةً لَهُمْ بِالسَّبْيِ يَقْسِمُونَهَا، وَيَتَحَقَّقُ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذَا أَسْلَمَتْ حُكْمًا، فَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ التُّرْكُ، وَلَوْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَمْ تُسْلِمْ هِيَ، حَتَّى أَحْرَزُوهَا، بِدَارِهِمْ فَقَدْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1251 لِأَنَّهَا صَارَتْ أَمَةً لَهُمْ، فَتَكُونُ مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ بِاخْتِلَافِ الْمَنَعَاتِ أَهْلُ دُورٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِذَا تَحَقَّقَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بَانَتْ مِنْهُ. وَلِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالسَّبْيِ حِينَ أَحْرَزُوهَا فِي دَارِهِمْ. 2356 - فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ بِالسَّبْيِ بِدُونِ زَوْجِهَا سَوَاءٌ، وَهُنَاكَ تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا، فَهَا هُنَا كَذَلِكَ، حَتَّى إذَا أَسْلَمُوا، وَقَدْ أَصَابَتْ الْجَارِيَةُ أَحَدَهُمْ بِالْقِسْمَةِ، فَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا. لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا زَوْجَ لَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1252 [بَابُ مَا يُقْطَعُ مِنْ الْخَشَبِ وَمَا يُصَابُ مِنْ الْمِلْحِ وَغَيْرِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] - بَابُ مَا يُقْطَعُ مِنْ الْخَشَبِ، وَمَا يُصَابُ مِنْ الْمِلْحِ وَغَيْرِهِ 2357 - وَإِذَا خَرَجَتْ سَرِيَّةٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لِقَطْعِ الشَّجَرِ فَوَصَلُوا إلَى مَكَان يَخَافُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ قَطَعُوا الْخَشَبَ وَجَاءُوا بِهِ فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُخَمَّسُ. لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ تَحْتَ يَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَأْمَنَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ. فَإِنْ قِيلَ: كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَأْمَنُونَ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَرْبِ لَا يَأْمَنُونَ فِيهِ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبِقَاعَ كَانَتْ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَلَا تَصِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ إلَّا بِانْقِطَاعِ يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّهُ يَبْقَى بِبَقَاءِ بَعْضِ آثَارِهِ، وَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِاعْتِرَاضِ مَعْنًى هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ أَرْضِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْخَشَبِ يَكُونُ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَهَذَا مَالٌ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ بِعَيْنِهِ. 2358 - فَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ إذَا بَعَثَهُمْ لِيَقْطَعُوا الْخَشَبَ حَتَّى يَجْعَلَ ذَلِكَ سُفُنًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ مَجَانِيقَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ مَا جَاءُوا بِهِ فَيُجْعَلُ فِي تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي أَرْسَلَهُمْ لَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1253 لِأَنَّهُمْ امْتَثَلُوا أَمْرَ الْأَمِيرِ فِيمَا أَخَذُوا، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِامْتِثَالُ مَعَ الْقَصْدِ إلَى الِاغْتِنَامِ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدُوا الِاغْتِنَامَ بِمَا أَخَذُوا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَنِيمَةً. وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ رَأْيًا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ التَّنْفِيلُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ مِنْهُ جَعْلُ الْمُصَابِ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُغْنِيهِ وَبَقِيَ فَضْلٌ فَالْبَاقِي يَكُونُ غَنِيمَةً. لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلِاغْتِنَامِ قَدْ وُجِدَ فِي الْكُلِّ، وَلَكِنْ فِي الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ يُجْعَلُ ذَلِكَ مُتَقَدِّمًا لِقَصْدِ الْإِمَامِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ، بِمَنْزِلَةِ مَا يَفْضُلُ مِنْ التَّرِكَةِ عَنْ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ. 2359 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعَثَهُمْ مِنْ الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَأْتُوا بِالْخَشَبِ، أَوْ بِالطَّعَامِ أَوْ بِالْعَلَفِ، لِمَنْفَعَةٍ عَيَّنَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَا جَاءُوا بِهِ يَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهَا شَيْءٌ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، لِأَهْلِ السَّرِيَّةِ، وَأَهْلِ الْعَسْكَرِ. لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا تَحْصِيلَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، لَا الِاغْتِنَامَ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهَا شَيْءٌ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، حِينَ خَرَجُوا مُطِيعِينَ لِلْأَمِيرِ. 2360 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعَثَهُمْ مِنْ بَعْضِ مَدَائِنِ أَهْلِ الثُّغُورِ، وَقَدْ أَصَابَهُمْ قَحْطٌ، لِيَأْتُوا بِالطَّعَامِ، وَالْعَلَفِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، بِغَيْرِ خُمْسٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1254 وَلَا يَقْسِمُهُ بَيْنَ أَهْلِ السَّرِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا بَيَّنَ لَهُمْ عِنْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ لِمَاذَا يُوَجِّهُهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَدِمُ الْقَصْدُ مِنْهُمْ إلَى الِاغْتِنَامِ إذَا عَلِمُوا مُرَادَ الْأَمِيرِ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ لِأَجْلِهِ، وَخَرَجُوا مُطِيعِينَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانُوا إنَّمَا جَاءُوا بِالطَّعَامِ بَعْدَ مَا اسْتَغْنَى الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ الْآنَ. لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَقْدِيمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيهِ حَاجَتُهُمْ وَقَدْ انْعَدَمَ، فَكَانَ هَذَا وَمَا يَفْضُلُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْإِمَامُ سَوَاءٌ. 2361 - وَلَوْ أَنَّ الْأَمِيرَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ نَفَّلَهُمْ بَعْضَ مَا جَاءُوا بِهِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ مَا يَأْتُونَ بِهِ مَصْرُوفًا إلَى مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْضَهُ مَصْرُوفًا إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ التَّنْفِيلِ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَظَرٌ مِنْ الْإِمَامِ. لِأَنَّهُمْ قَلَّمَا يَرْغَبُونَ فِي الْخُرُوجِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي الْمُصَابِ، وَالتَّنْفِيلُ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْخُرُوجِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ النَّفَلُ لِجَمَاعَةِ السَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ غَنِيمَةٌ، يُفَضَّلُ فِيهَا الْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ التَّنْفِيلِ إلَّا إبْطَالُ الْخُمُسِ، وَإِبْطَالُ تَفْضِيلِ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ مَا يَأْتُونَ بِهِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً لِمَنْ أَصَابَهَا، بَلْ يَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِذَلِكَ جَازَ التَّنْفِيلُ فِيهِ لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1255 2362 - وَلَوْ جَاءُوا بِذَلِكَ بَعْدَ مَا اسْتَغْنَى عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ بَطَلَ النَّفَلُ. لِأَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ قَدْ صَارَ غَنِيمَةً، وَالنَّفَلُ الْعَامُّ لِلسَّرِيَّةِ الْمَبْعُوثَةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْغَنِيمَةِ لَا يَصِحُّ. 2363 - وَإِنْ كَانَ قَالَ مَنْ أَخَذَ مِنْكُمْ شَيْئًا فَلَهُ نِصْفُهُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَالنَّفَلُ جَائِزٌ لِأَهْلِهَا عَلَى مَا نَفَلُوا. لِأَنَّ هَذَا نَفْلٌ خَاصٌّ لِمَنْ يَأْخُذُ دُونَ غَيْرِهِ، فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الطَّلَبِ وَالْأَخْذِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي الْغَنَائِمِ. 2364 - وَلَوْ أَنَّ السَّرِيَّةَ حِينَ خَرَجَتْ لِقَطْعِ الْخَشَبِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ مَسَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ أَرْسَلَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ عَيَّنَهَا كَانَ مَا جَاءُوا بِهِ مَصْرُوفًا إلَى تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ كَانَ نَفَّلَ لَهُمْ بَعْضَ ذَلِكَ أَعْطَاهُمْ النَّفَلَ، وَصَرَفَ مَا بَقِيَ إلَى تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ جَاءُوا بِذَلِكَ بَعْدَ مَا اسْتَغْنَى الْأَمِيرُ عَمَّا بَعَثَهُمْ لِأَجْلِهِ فَكُلُّ مَنْ جَاءَ بِذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً. لِأَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ هَا هُنَا، فَأَنَّهُمْ أَصَابُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُبَاحُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كُلُّ مَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ. 2365 - فَإِنْ جَاءُوا بِهِ جَمِيعًا فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1256 لِأَنَّ تَفْضِيلَ الْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا يَصِحُّ التَّنْفِيلُ مِنْ الْإِمَامِ فِيهِ؟ قُلْنَا: لَا عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّحْضِيضِ، لِلْأَخْذِ بِبَعْضِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْمُبَاحِ، وَصَرْفُ مَا بَقِيَ إلَى الْمَنْفَعَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا. - وَلَوْ خَرَجَتْ السَّرِيَّةُ لِقَطْعِ الْخَشَبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، إلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ إلَى الْمَوْضِعِ الْمَخُوفِ، فَمَا جَاءُوا بِهِ يَكُونُ غَنِيمَةً. لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مَنَعَةٍ، جَاءُوا بِمَالٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، وَفِي مُصَابِ أَهْلِ الْمَنَعَةِ يَسْتَوِي الْحَالُ بَيْنَ مَا بَعْدَ إذْنِ الْإِمَامِ وَمَا قَبْلَهُ. 2367 - وَإِنْ كَانُوا أَصَابُوا ذَلِكَ، فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، فَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا أَخَذَ. لِأَنَّ هَذَا مُبَاحٌ مُلِكَ بِالْأَخْذِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ. 2368 - فَإِنْ كَانُوا لَقُوا الْعَدُوَّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَقَاتَلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَجْلَوْهُمْ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. لِأَنَّ مَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَبِمُجَرَّدِ دُخُولِ أَهْلِ الْحَرْبِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَأْخُذُ حُكْمَ دَارِ الْحَرْبِ، فَحِينَ أَجْلَوْا عَنْهُ الْعَدُوَّ بِالْقِتَالِ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَ، فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1257 2369 - وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدُوا الْعَدُوَّ قَدْ قَطَعُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهُ فِي دَارِهِمْ. لِأَنَّهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَمْلِكُونَ مَا يُصِيبُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ إصَابَتِهِمْ. 2370 - وَإِنْ كَانُوا أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُ مِنْهُمْ، فَهَذَا غَنِيمَةٌ. لِأَنَّهُمْ بِالْإِحْرَازِ قَدْ مَلَكُوهُ، فَأَهْلُ السَّرِيَّةِ إنَّمَا أَحْرَزُوا مِلْكَهُمْ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، فَكَانَ غَنِيمَةً. 2371 - وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمَلَّاحَةِ. وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمِلْحُ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْخَشَبِ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ كَالْخَشَبِ. 2372 - وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِنْ فِضَّةٍ، أَوْ مِنْ جَوْهَرٍ، خَرَجَتْ سَرِيَّةٌ فِي طَلَبِهِ فَإِنَّ مَا وَجَدُوا مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً. إلَّا أَنَّ هَذَا يُخَمَّسُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1258 2373 - وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَا اسْتَخْرَجَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهُ، فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ خَاصَّةً. لِأَنَّهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَمْلِكُونَهُ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ قَبْلَ أَخْذِهِمْ، وَبَعْدَ أَخْذِهِمْ سَوَاءٌ. 2374 - وَإِنْ كَانَتْ السَّرِيَّةُ إنَّمَا أَصَابَتْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ. 2375 - وَإِنْ [لَمْ] يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَالْمَأْخُوذُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَلَا خُمُسَ فِيهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ. لِأَنَّهُمْ أَصَابُوا ذَلِكَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى وَجْهِ التَّلَصُّصِ، لَا عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدِّينِ. 2376 - إلَّا أَنْ يَكُونُوا خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِمَا أَصَابُوا حُكْمَ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الْإِمَامَ الْآنَ كَالْمَدَدِ لَهُمْ، عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ. 2377 - وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقُوَّةَ مِنْهُمْ، فَمَا جَاءُوا بِهِ يَكُونُ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدِّينِ، وَالْخُمُسُ يَجِبُ فِي مِثْلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1259 لِأَنَّ وُجُوبَ الْخُمُسِ فِي الْغَنِيمَةِ لِإِظْهَارِ شَرَفِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ كَسْبٌ حَصَلَ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ. - وَإِنْ كَانَ أَمِيرُ الثَّغْرِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ السَّرِيَّةَ لِقَطْعِ الْخَشَبِ، وَأَخَذَ الْمِلْحِ، وَنَفَّلَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ تَنْفِيلِهِ مَا يَصِحُّ مِنْ الْأَمِيرِ الْأَعْظَمِ. لِأَنَّهُ حِينَ فَوَّضَ إلَيْهِ تَدْبِيرَ الثَّغْرِ فَقَدْ أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِهِ، فَيَصِحُّ مِنْهُ مَا يَصِحُّ مِنْ الْأَمِيرِ الْأَعْظَمِ، مَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْ التَّنْفِيلِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا إذَا خَصَّ الْإِمَامُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ بِالتَّنْفِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ ذَلِكَ فَقَالَ: 2379 - فِي الْجُمْلَةِ لَوْ خَصَّ وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ بِالتَّنْفِيلِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، كَمَا لَوْ خَصَّ أَجْنَبِيًّا آخَرَ، وَهَذَا لِتَبَايُنِ الْمِلْكِ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ، فَإِذَا كَانَ يَصِحُّ مِنْهُ التَّنْفِيلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، إذَا عَمَّ بِهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَهَا هُنَا أَوْلَى. لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِيمَا يَحْصُلُ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ دُونَ مَنْفَعَتِهِ فِيمَا يَحْصُلُ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ. 2380 - «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَشْجَعَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَشَكَا إلَيْهِ الْحَاجَةَ فَقَالَ: اصْبِرْ، ثُمَّ ذَهَبَ فَأَصَابَ مِنْ الْعَدُوِّ غَنِيمَةً، وَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1260 فَطَيَّبَهَا لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] » الْآيَةُ. فَهَذَا أَصْلُ عُلَمَائِنَا فِيمَا يُصِيبُهُ الْوَاحِدُ وَالْمَثْنَى مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إذَا دَخَلُوا عَلَى وَجْهِ التَّلَصُّصِ، بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْمَنَعَةِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْوَاحِدُ بَعَثَهُ الْإِمَامُ، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ لِلْمُصَابِ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ، فَالْآخِذُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ لِلْمُصَابِ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّ الْآخِذَ يَخْتَصُّ بِهِ. وَإِنْ أَخَذُوا جَمِيعًا فَذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، لَا يُفَضَّلُ فِيهِ الْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِلِ. لِأَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالْغَنِيمَةِ، كَالْخُمُسِ، وَهَذَا لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ، بَلْ هُوَ إحْرَازُ الْمُبَاحِ عَلَى وَجْهِ التَّلَصُّصِ، لَا عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدِّينِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ. 2381 - وَلَوْ أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى صَاحِبِهِ يَحْفَظُهُ لَهُ، فَأَمْسَكَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ، فَهُوَ لِلْآخِذِ. لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهِ حِينَ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، ثُمَّ حَفِظَ صَاحِبُهُ لَهُ بِأَمْرِهِ كَحِفْظِهِ لَهُ بِنَفْسِهِ، إلَى أَنْ أَخْرَجَهُ. 2382 - وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ غَلَبَهُ فَانْتَزَعَهُ مِنْهُ فَهُوَ لِلَّذِي أَخْرَجَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1261 لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَمْلِكْهُ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَصِيرَ بِالْأَخْذِ مُحْرِزًا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ إحْرَازُهُ بِالْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ الَّذِي انْتَزَعَهُ مِنْهُ، غَيْرَ أَنِّي أَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقْهَرَ عَلَيْهِ صَاحِبَهُ بَعْدَمَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ سَبَقَتْ إلَيْهِ، وَلِيَدِ الْمُسْلِمِ حُرْمَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَهُ بِالدِّينِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدِّينِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْآثِمِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ وَالتَّقَوُّمِ. 2383 - فَإِنْ جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُونَ أَخْذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَغَلَبَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى دَفَعُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ لِلَّذِينَ أَخَذُوهُ أَيْضًا. لِأَنَّ الْآخِذَ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ، بِذَلِكَ الْأَخْذِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْقِتَالِ الَّذِي اُبْتُلُوا بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: حِينَ قَاتَلُوا عَنْهُ فَلِمَاذَا لَا يُجْعَلُونَ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَنَعَةٍ، حَتَّى يَكُونَ لِمُصَابِهِمْ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ. قُلْنَا: لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ وَقَعَ اتِّفَاقًا، لَا قَصْدًا، فَلَا يَصِيرُونَ بِهِ قَاهِرِينَ حُكْمًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَتَوْا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ نِيَامًا فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَخَذَ، وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيمَا أَصَابُوا بِالْقِتَالِ، دَفْعًا عَنْهُ، إذَا اُبْتُلُوا بِهِ وَعَدَمُ الْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا أَصَابَ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ لَحِقَهُمْ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بَعْدَ مَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ الْمَالَ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا أَصَابَ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، فَيُقْسَمُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1262 أَهْلِ الْعَسْكَرِ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا كَالْمَدَدِ لَهُمْ، حِينَ الْتَحَقُوا بِهِمْ، فَيُشَارِكُونَ فِيمَا أَصَابُوا، إذْ الْجُنْدُ قَدْ دَخَلُوا غُزَاةً، فَأَمَّا مَا أَصَابَ أَهْلُ الْجُنْدِ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقَ بِهِمْ اللُّصُوصُ فَلَا شَرِكَةَ فِيهِ مَعَهُمْ لِلُّصُوصِ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُوا مَعَهُمْ، دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا غُزَاةً حِينَ دَخَلُوا فَلَا يَصِيرُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لِلْجَيْشِ، بَلْ حَالُهُمْ فِيمَا أَصَابَ الْجَيْشُ كَحَالِ مَنْ كَانَ تَاجِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ أَسِيرًا أَوْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لِهَؤُلَاءِ فِي الْمُصَابِ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا. وَأَمَّا وُجُوبُ الْخُمُسِ فِي الْكُلِّ فَلِأَنَّهُ صَارَ مُحْرَزًا بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى إعْزَازِ الدِّينِ. 2384 - وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرًا دَخَلُوا أَوَّلًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أَثَرِهِمْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَقَدْ نَهَى الْإِمَامُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ لَحِقَا بِهِمْ قَبْلَ الْإِصَابَةِ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْمُصَابِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُوا مَعَهُمْ. لِأَنَّهُمْ مُتَلَصِّصُونَ، حِينَ دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَلَا يَصِيرُونَ مَدَدًا لِلْجَيْشِ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَدَدَ الْجَيْشِ غُزَاةٌ، وَهُمْ لَيْسُوا بِغُزَاةٍ حُكْمًا، حِين دَخَلُوا مُتَلَصِّصِينَ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِمْ أَنْ يَصِيرُوا غُزَاةً حَقِيقَةً وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ. 2385 - وَإِنْ كَانُوا لَحِقُوهُمْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ شَارَكُوهُمْ فِيمَا أَصَابُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1263 لِأَنَّهُمْ بِنَفْسِ الدُّخُولِ صَارُوا غُزَاةً الْآنَ، فَكَانُوا مَدَدًا لِلْجَيْشِ يُشَارِكُونَهُمْ فِيمَا أَصَابُوا، قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقُوا بِهِمْ. - وَلَوْ أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ الْتَحَقُوا بِالْعَسْكَرِ، فَحَالُهُمْ وَحَالُ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُمْ حِينَ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ مُرْتَدِّينَ، فَقَدْ صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ، فَبَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَسْلَمُوا وَالْتَحَقُوا بِالْجَيْشِ، لَا يَكُونُونَ غُزَاةً، بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لِلْجَيْشِ، مَا لَمْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ دَفْعًا عَمَّا أَصَابُوا. - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَأَصَابُوا شَيْئًا، ثُمَّ لَحِقَهُمْ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ أَيْضًا، وَلَكِنْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَالْتَقَوْا بَعْدَ مَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، بَعْدَ مَا الْتَقَوْا، فَمَا أَصَابَ الْمُتَلَصِّصُونَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقُوا، أَوْ بَعْدَ مَا الْتَقَوْا، يَكُونُ لَهُمْ خَاصَّةً، وَلَا خُمُسَ فِيهِ. لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ مَا أَصَابَهُمْ بِالِالْتِقَاءِ، فَهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يَصِيرُوا بِهِمْ أَهْلَ مَنَعَةٍ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِيمَا أَصَابُوا عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقُوا بِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الَّذِينَ الْتَحَقُوا بِهِمْ أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَقَدْ تَغَيَّرَ صِفَةُ إصَابَتِهِمْ وَإِحْرَازِهِمْ بِالِالْتِحَاقِ بِهِمْ. - وَمَا أَصَابَ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، قَبْلَ الِالْتِقَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1264 وَبَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، كَمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي مُصَابِهِمْ قَبْلَ الِالْتِقَاءِ. لِأَنَّ اللُّصُوصَ لَا يَصِيرُونَ فِي حُكْمِ الْمَدَدِ لَهُمْ، حِينَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُمْ بِهَذَا الِالْتِقَاءِ. 2389 - وَإِنْ كَانُوا حِينَ اجْتَمَعُوا صَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، وَقَدْ أَصَابُوا غَنَائِمَ، قَبْلَ أَنْ يَلْتَقُوا وَبَعْد مَا الْتَقَوْا، خُمِّسَ مَا أَصَابَ الْفَرِيقَانِ، وَكَانَ مَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَلْتَقُوا، بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ، وَمَا أَصَابُوا بَعْدَ مَا الْتَقَوْا، فَهُوَ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الْإِحْرَازَ فِي جَمِيعِ الْمُصَابِ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ حِينَ صَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ، فَيَجِبُ الْخُمُسُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. 2390 - إلَّا أَنَّ فِيمَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ قَبْلَ الِالْتِقَاءِ لَا يَكُونُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ فِي حُكْمِ الْمَدَدِ لَهُمْ إذْ لَا مَنَعَةَ لِكُلِّ فَرِيقٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَلِهَذَا يُقْسَمُ مَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ بَيْنَهُمْ خَاصَّةً، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا، بَعْدَمَا اجْتَمَعُوا، فَإِنْ لَقُوا قِتَالًا بَعْدَمَا اجْتَمَعُوا. اشْتَرَكُوا فِي جَمِيعِ مَا أَصَابُوا، لِوُجُودِ الْقِتَالِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ عَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1265 أَصَابَهُ الْفَرِيقُ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْفَرِيقَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ، إلَّا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ مَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ قَبْلَ الِالْتِقَاءِ يَكُونُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا، هَا هُنَا عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَا هُنَا قَدْ اسْتَوَى الْحُكْمُ فِي مُصَابِ كُلِّ فَرِيقٍ قَبْلَ الِالْتِقَاءِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ حَالُ تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِالْإِحْرَازِ، وَهُمْ أَهْلُ مَنَعَةٍ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَدْ تَمَّ الْإِحْرَازُ بِقُوَّتِهِمْ، فَيُخَمَّسُ الْكُلُّ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ، وَهُنَاكَ قَدْ اخْتَلَفَ حُكْمُ مُصَابِ كُلِّ فَرِيقٍ. لِأَنَّ مَا أَصَابَ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فَلَا شَرِكَةَ فِيهِ لِلْمُتَلَصِّصِينَ، مَا لَمْ يُقَاتِلُوا عَنْهُ، وَمَا أَصَابَ الْمُتَلَصِّصُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ، وَلَا شَرِكَةَ فِيهِ لِلَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَيْضًا، مَا لَمْ يُقَاتِلُوا دَفْعًا عَنْهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ الْكُلُّ غَنِيمَةً، وَتَمَّ الْإِحْرَازُ فِي الْكُلِّ بِقُوَّتِهِمْ. 2391 - وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَالْآخَرُ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُ لَا يُشَارِكُونَ أَهْلَ الْمَنَعَةِ فِيمَا أَصَابُوا، قَبْلَ الِالْتِقَاءِ، إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ، وَأَهْلُ الْمَنَعَةِ يُشَارِكُونَ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، فِيمَا أَصَابُوا، وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1266 لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُحْرِزِينَ لِذَلِكَ بِمَنَعَتِهِمْ، فَصَارَ أَهْلُ الْمَنَعَةِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لَهُمْ، وَفِي الْأَوَّلِ، الْمُتَلَصِّصُونَ مَا صَارُوا مُحْرِزِينَ بِمَنَعَةِ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ إذْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ. 2392 - وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ لَهُمْ الْمَنَعَةُ دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَاَلَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَخَلُوا بِإِذْنِهِ، اشْتَرَكُوا فِي جَمِيعِ مَا أَصَابُوا. لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ بِنَفْسِ الدُّخُولِ صَارُوا غُزَاةً، أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ وَالْآخَرُ بِاعْتِبَارِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ كَالْمَدَدِ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ، فِيمَا أَصَابُوهُ. 2393 - وَلَوْ دَخَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَالْتَقَوْا، بَعْدَ مَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ جَمِيعُ مَا أَصَابُوا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، سَوَاءٌ صَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ بِالِاجْتِمَاعِ، أَوْ لَمْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ. لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ قَدْ جَمَعَهُمْ، وَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ غَازِيًا، بِنَفْسِ الدُّخُولِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَيَكُونُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ، فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ الِالْتِقَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: إصَابَةُ كُلِّ فَرِيقٍ هَا هُنَا وَإِحْرَازُهُ لَمْ تَكُنْ بِمَنَعَةِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ مَعَهُمْ شَرِكَةٌ فِي ذَلِكَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ بِاعْتِبَارِ إذْنِ الْإِمَامِ صَارُوا غُزَاةً، فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَالْغُزَاةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْضُهُمْ مَدَدٌ لِلْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَيْشَ لَوْ كَانُوا دَخَلُوا وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ الْتَحَقَ بِهِمْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَانَ مَدَدًا لَهُمْ، يُشَارِكُهُمْ فِي الْمُصَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1267 مَنَعَةٌ بِنَفْسِهِ؟ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَذَلِكَ مَا سَبَقَ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلَ مَنَعَةٍ، وَقَدْ دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَالْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ جَمِيعُ مَا أَصَابُوا، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ هَا هُنَا بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ صَارُوا غُزَاةً، كَمَا دَخَلُوا، وَقَدْ صَارَ بَعْضُهُمْ مَدَدًا لِلْبَعْضِ بِالِالْتِقَاءِ، وَإِنَّمَا تَمَّ الْإِحْرَازُ فِي الْمُصَابِ بِهِمْ جَمِيعًا. فَكَانُوا شُرَكَاءَ فِي الْمُصَابِ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1268 [بَابُ مَا يُصِيبُهُ الْأُسَرَاءُ وَاَلَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ] 128 - بَابُ مَا يُصِيبُهُ الْأُسَرَاءُ وَاَلَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ 2394 - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا انْفَلَتَ فَلَحِقَ بِالْجَيْشِ الَّذِي دَخَلَ مَعَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فَهُوَ شَرِيكُهُمْ، فِيمَا أَصَابُوا حَالَ كَوْنِهِ مَأْسُورًا. لِأَنَّهُ انْعَقَدَ لَهُ مَعَهُمْ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، حِينَ دَخَلَ مَعَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَشَارَكَهُمْ فِي إتْمَامِ الْإِحْرَازِ، فَمَا اعْتَرَضَ مِنْ الْأَسْرِ بَيْنَ ذَلِكَ يَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَرِضَ، وَهُوَ فِي الْعَسْكَرِ، زَمَانًا، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دُخُولُهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لِأَنَّهُ غَازٍ حِينَ دَخَلَ مَعَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ مَعَهُمْ تَاجِرًا، ثُمَّ تَرَكَ التِّجَارَةَ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ، فَأُسِرَ أَوْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْتَحَقَ بِهِمْ يُرِيدُ الْقِتَالَ فَأُسِرَ، ثُمَّ انْفَلَتَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا أَصَابُوا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ مِنْ الْإِمَامِ لَهُ فِي الْقِتَالِ، إذَا الْتَحَقَ بِهِمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ. 2395 - فَإِنْ خَرَجَ ذَلِكَ الْعَسْكَرُ وَهُوَ مَأْسُورٌ، ثُمَّ انْفَلَتَ وَالْتَحَقَ بِعَسْكَرٍ آخَرَ وَقَدْ أَصَابُوا غَنَائِمَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ، إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُ مَعَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1269 لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ، حَتَّى الْآنَ، فَيَكُونُ حَالُهُ فِي حَقِّهِمْ كَحَالِ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ، وَهُوَ لَا يَصِيرُ مَدَدًا لَهُمْ بِنَفْسِ الِالْتِحَاقِ بِهِمْ، لِأَنَّ قَصْدَهُ النَّجَاةُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ مَعَهُمْ دَفْعًا عَنْ الْمُصَابِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلَ كَوْنِهِ قَاصِدًا إلَى أَنْ يَكُونَ مَدَدًا لَهُمْ. 2396 - وَلَوْ أَنَّهُ حِينَ انْفَلَتَ قَتَلَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَهُ، وَلَا خُمُسَ فِيهِ، بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيٍّ أَسْلَمَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ اللِّصِّ فِيمَا أَخَذَهُ، لِأَنَّ قَصْدَهُ النَّجَاةُ مِنْهُمْ دُونَ الْقِتَالِ عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ مَقْهُورٌ، لَا مَنَعَةَ لَهُ فِيهِمْ. 2397 - فَإِذَا كَانَ الْأُسَرَاءُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا خَمَّسَ جَمِيعَ مَا أَصَابُوا، وَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ، الْآخِذُ مِنْهُ وَغَيْرُ الْآخِذِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ كُلُّ فَرِيقٍ أَهْلَ مَنَعَةٍ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقُوا، أَوْ حِينَ اجْتَمَعُوا صَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ. لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ أَحْرَزُوا الْمَالَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى إعْزَازِ الدِّينِ فِيمَا أَصَابُوا، فَلِهَذَا يَكُونُ غَنِيمَةً. 2398 - وَلَوْ تَمَكَّنَ الْأُسَرَاءُ مِنْ قَتْلِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، غِيلَةً وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ. لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لَهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ مَقْهُورُونَ مَظْلُومُونَ، فَلَهُمْ أَنْ يَنْتَصِفُوا مِنْ بَعْضِ مَنْ ظَلَمَهُمْ، إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1270 2399 - فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى دَارِنَا، وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً، وَإِنْ اشْتَرَكَ فِي الْأَخْذِ رَجُلَانِ: فَارِسٌ وَرَاجِلٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ. لِأَنَّ الْمُصَابَ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ حِينَ لَمْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، بَعْدَ مَا تَجَمَّعُوا. 2400 - فَإِنْ كَانَ الْآخِذُ أَعْطَاهُ صَاحِبَهُ لِيَحْمِلَهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ. لِأَنَّ يَدَ مَنْ أَخْرَجَهُ نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ الْآخِذِ حِينَ ائْتَمَنَهُ. 2401 - وَإِنْ غَلَبَهُ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَهُ فَهُوَ لِلَّذِي أَخْرَجَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا. 2402 - وَلَوْ كَانَ الْأُسَرَاءُ فَعَلُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَا حَصَلَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، وَاَلَّذِينَ أَسْلَمُوا فَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، ثُمَّ الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجُوا فَإِنَّهُ يُخَمِّسُ جَمِيعَ الْمُصَابِ. لِأَنَّهُ مُحْرِزٌ بِالدَّارِ بِقَوْمٍ هُمْ أَهْلُ مَنَعَةٍ فَيَكُونُ غَنِيمَةً. 2403 - ثُمَّ مَا أَصَابَ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ فَهُوَ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوا ذَلِكَ بِمَنَعَةِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَكَانَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ كَالْمَدَدِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَنَعَتِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1271 وَلَا شَرِكَةَ لِلَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ مَعَ أَصْحَابِ الْمَنَعَةِ فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ الِالْتِقَاءِ. لِأَنَّهُمْ مَا أَحْرَزُوا ذَلِكَ بِمَنَعَتِهِمْ، إذْ لَا مَنَعَةَ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ حَتَّى يَجْعَلُوا كَالْمَدَدِ لَهُمْ فِيمَا أَصَابُوا. 2405 - إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ مَا اجْتَمَعُوا، فَحِينَئِذٍ يُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمُصَابِ. لِأَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا فِي الْقِتَالِ دَفْعًا عَنْ جَمِيعِ الْمُصَابِ، فَإِنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِصَابَةِ. 2406 - وَهَذَا إذَا كَانَ الَّذِينَ لَقَوْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَقَاتَلُوهُمْ، أَهْلَ مَنَعَةٍ. فَإِنْ كَانُوا لَا مَنَعَةَ لَهُمْ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِهَذَا الْقِتَالِ. لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ إذَا قَاتَلُوا مَنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ اسْتِنْقَاذُ الْمَالِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا لَقِيَهُمْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ إذَا لَقِيَهُمْ أَهْلُ مَنَعَةٍ. 2407 - وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ حِينَ أَصَابُوا مَا أَصَابُوا لَا مَنَعَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَمَّا الْتَقَوْا صَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةُ، فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابُوا. لِأَنَّ بِالِالْتِقَاءِ لَمَّا تَغَيَّرَ حَالُهُمْ بِمَا حَدَثَ لَهُمْ مِنْ الْمَنَعَةِ صَارَ هَذَا فِي الْحُكْمِ وَمَا لَوْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ سَوَاءٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ صَارَ مَدَدًا لِلْبَعْضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1272 وَصَارَ كُلُّ فَرِيقٍ مُتَمَكِّنًا مِنْ إحْرَازِ مَا أَصَابَهُ بِقُوَّةِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، حِينَ صَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ بَعْدَ مَا تَجَمَّعُوا، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. 2408 - وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَرْسَلَ إلَى كُلِّ فَرِيقٍ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُوا الْأَمْوَالَ فَفَعَلُوا، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَلَمْ يَلْتَقُوا حَتَّى خَرَجَ كُلُّ فَرِيقٍ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا غُزَاةً حِينَ بَلَغَهُمْ إذْنُ الْإِمَامِ، بِمَنْزِلَةِ قَوْمٍ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ، إذَا عَلِمَ بِحَالِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، فَكَانُوا قَاهِرِينَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى. 2409 - وَكَذَلِكَ إنْ الْتَقَوْا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَصَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، أَوْ لَمْ تَصِرْ، أَوْ كَانَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَالْآخَرُ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ. لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ قَدْ جَمَعَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا ابْتِدَاءً، عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَانُوا شُرَكَاءَ فِي الْمُصَابِ، إذَا الْتَقَوْا، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، ثُمَّ الْتَقَوْا بَعْدَ ذَلِكَ. 2410 - وَلَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ قَوْمًا لَا مَنَعَةَ لَهُمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي طَلَبِ الْغَنِيمَةِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ أُسَرَاءُ، وَقَوْمٌ أَسْلَمُوا، وَقَدْ أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ حِينَ اجْتَمَعُوا لَمْ يَصِرْ لَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1273 مَنَعَةٌ أَيْضًا، ثُمَّ لَقُوا قِتَالًا، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَجَمِيعُ مَا أَصَابَ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ قَاهِرُونَ، بِاعْتِبَارِ إذْنِ الْإِمَامِ. 2411 - وَمَا أَصَابَ الْفَرِيقَ الْآخَرَ فَهُوَ لَهُمْ خَاصَّةً، الْفَارِسُ وَالرَّاجِلُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَا شَرِكَةَ لِغَيْرِ الْآخِذِ فِيهِ مَعَ الْآخِذِ. لِأَنَّهُمْ لُصُوصٌ، إذْ لَيْسَ لَهُمْ إذْنٌ مِنْ الْإِمَامِ، وَلَا مَنَعَةَ بِهَا يَصِيرُونَ قَاهِرِينَ قَبْلَ الِالْتِقَاءِ وَلَا بَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْمَنَعَةِ حَتَّى يَكُونُوا مَدَدًا لَهُمْ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ أَهْلَ الْمَنَعَةِ إنَّمَا صَارُوا مَدَدًا لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ أَحْرَزُوا مَا أَصَابُوا بِقُوَّتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَا هُنَا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِيمَا أَصَابَ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لِوُجُودِ الْإِذْنِ حُكْمًا، وَهَذَا مَقْصُورٌ عَلَى مُصَابِهِمْ، لَا يَتَعَدَّى إلَى مُصَابِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ. 2412 - فَأَمَّا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَحُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِيمَا أَصَابُوا بِاعْتِبَارِ مَنَعَتِهِمْ حِسًّا، فَيَتَعَدَّى مِنْ ذَلِكَ إلَى مَا أَصَابَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ حِينَ أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَتِهِمْ، فَإِذَا كَانُوا بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ أَهْلَ مَنَعَةٍ يُخَمَّسُ جَمِيعُ مَا أَصَابُوا، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ، لَقُوا قِتَالًا أَوْ لَمْ يَلْقَوْا. لِأَنَّ بِالِالْتِقَاءِ قَدْ تَغَيَّرَ حَالُهُمْ فَقَدْ صَارُوا بِهِ أَهْلَ مَنَعَةٍ وَلِهَذَا تَغَيَّرَ الْحُكْمُ فِيمَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1274 وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ لَهُمْ مَنَعَةُ، فَإِنَّهُ يُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي جَمِيعِ الْمُصَابِ، بَعْدَ مَا يَرْفَعُ الْخُمُسَ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ غُزَاةٌ، بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ، وَالْآخَرُونَ غُزَاةٌ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ، فَكَانَ حَالُهُمْ بَعْدَ الِالْتِقَاءِ كَحَالِ قَوْمٍ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَالْتَحَقُوا بِالْعَسْكَرِ، بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ، فَيُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمُصَابِ. 2414 - فَإِنْ كَانَتْ الْمَنَعَةُ لِلَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ خَاصَّةً، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ أَهْلَ الْمَنَعَةِ يُشَارِكُونَ الْأُسَرَاءَ فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ الِالْتِقَاءِ، بَعْدَ مَا يَرْفَعُ مِنْهُ الْخُمُسَ. لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوا ذَلِكَ بِمَنَعَتِهِمْ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْأُسَرَاءِ فِيمَا أَصَابَ أَهْلُ الْمَنَعَةِ، إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُوا مَعَهُمْ. 2415 - وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ فَرِيقٍ مَنَعَةٌ فَإِنَّهُ يُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا أَصَابُوا. لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ بِمَنَعَتِهِمْ صَارُوا مَدَدًا لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَفِي مُصَابِ أَهْلِ الْمَنَعَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الْإِمَامِ وَعَدَمِ الْإِذْنِ، كَمَا لَوْ كَانُوا دَخَلُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1275 [بَابُ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ يُخْرِجُونَهَا] 2416 - قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ إذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ فَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِنَا أَمَرَ بِرَدِّهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. لِأَنَّهُ أَخْفَرَ ذِمَّةَ نَفْسِهِ، لَا ذِمَّةَ الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - 2417 - «أَنَّهُ صَحِبَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَوَجَدَ مِنْهُمْ غَفْلَةً فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَجَاءَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُخَمِّسَ؛ فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ عَلَى وَرَثَتِهِمْ» . فَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا أَوْ بِأَمَانٍ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً عُدُولًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجْبُرُهُ بِالرَّدِّ وَلَا يُفْتِيهِ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1276 لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ أَمَانٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِهِ، وَلَا فِي مَالِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَلَّا يَغْدِرَ بِهِمْ حِينَ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ فَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى الرَّدِّ، بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ السَّبَبِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَوْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْهُمْ، أَوْ اسْتَهْلَكَ مَالًا، ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَخَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي لَهُ بِشَيْءٍ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخْرَجَ مَالًا لَهُمْ. 2418 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُونَ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَأَخْرَجُوا مَا أَخَذُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا وَالْوَاحِدُ إذَا أَخْرَجَهُ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِمَنَعَةِ أَنْفُسِهِمْ لَا بِمَنَعَةِ الْإِمَامِ. 2419 - فَإِنْ كَانُوا حِينَ اجْتَمَعُوا، وَصَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، نَابَذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ ثُمَّ لَحِقُوا بِعَسْكَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ غَنِمُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ أَصَابُوا غَنَائِمَ أُخْرَى أَيْضًا، بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ فَجَمِيعُ مَا أَصَابَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ قَبْلَ الِالْتِقَاءِ يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي لَهُمْ خَاصَّةً دُونَ التُّجَّارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1277 لِأَنَّ التُّجَّارَ لَا يَصِيرُونَ مَدَدًا لَهُمْ، وَلَا فِي حُكْمِ الْغُزَاةِ، بِمُجَرَّدِ الِالْتِقَاءِ، مَا لَمْ يُقَاتِلُوا دَفْعًا عَمَّا أَصَابُوا. 2420 - وَمَا أَصَابُوا بَعْدَ الِالْتِقَاءِ فَهُوَ بَيْنَ الْكُلِّ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِصَابَةِ، وَالْإِحْرَازِ. 2421 - وَمَا أَصَابَ التُّجَّارُ فِي أَمَانِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِرَدِّهِ عَلَى أَهْلِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحْرِزِينَ لِذَلِكَ، بِاعْتِبَارِ مَنَعَتِهِمْ لَا بِاعْتِبَارِ مَنَعَةِ الْجَيْشِ، فَكَانَ إخْرَاجُهُمْ ذَلِكَ إلَى مَنَعَةِ الْجَيْشِ، وَإِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ. 2422 - إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَقَاتَلُوا دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ التُّجَّارُ يُشَارِكُونَ الْجَيْشَ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابُوا، وَيَأْخُذُ الْإِمَامُ مَا أَصَابَ التُّجَّارُ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَوْقُوفًا، حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ فَيَأْخُذَهُ. لِأَنَّ الْإِحْرَازَ هَا هُنَا حَصَلَ بِقُوَّةِ الْعَسْكَرِ، وَبِقِتَالِهِمْ دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ، فَبَقِيَتْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الْغَدْرِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ، بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ وَالتُّجَّارِ، بَعْدَ مَا يَرْفَعُ الْخُمُسَ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا ثَبَتَ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فِيهِ، فَعَلَيْهِ إزَالَةُ الْغَدْرِ بِإِيصَالِهِ إلَى صَاحِبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1278 أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ تِلْكَ الْأَمْوَالَ لَوْ جَاءُوا إلَى الْعَسْكَرِ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ، فَقَالُوا: نُرِيدُ قِتَالَكُمْ أَوْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ التُّجَّارِ حَتَّى نَقْتُلَهُمْ، وَنَأْخُذَ أَمْوَالَنَا لَمْ يَسَعْنَا أَنْ نَدَعَ أَهْلَ الْحَرْبِ يُقَاتِلُونَهُمْ، وَلَكِنْ يَلْزَمُنَا نُصْرَةُ التُّجَّارِ، بِأَنْ نَأْخُذَ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِمَّا غَدَرُوا فِيهِ، وَنَرُدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَنَمْنَعَهُمْ مِنْ قَتْلِ التُّجَّارِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الَّذِينَ جَاءُوا لِلِاسْتِنْقَاذِ قَوْمًا سِوَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ. 2423 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُونَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَعَلَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ أَنْ يَرُدُّوا مَا أَصَابَ الْمُسْتَأْمَنُونَ عَلَى أَهْلِهِ. لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُحْرِزِينَ لِذَلِكَ بِمَنَعَتِهِمْ، وَإِنَّمَا صَارُوا مُحْرِزِينَ لَهُ بِقُوَّةِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِيهِ لَوْ كَانَ غَنِيمَةً، وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ. 2424 - فَعَرَفْنَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ قَدْ ثَبَتَتْ فِي هَذَا الْمَالِ حِينَ كَانَ مُحْرَزًا بِقُوَّةِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى أَهْلِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَكْتُبُ إلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَدْخُلَ بِأَمَانٍ فَيَأْخُذَهُ. لِأَنَّهُ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، فَهُوَ نَظِيرُ الثَّوْبِ إذَا هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِ إنْسَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهُ حَتَّى يَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1279 وَلَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ لَا يَعْلَمُونَ بِهِ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِمْ فَلَمْ يَعْرِضُوا لَهُ، وَظَنُّوا أَنَّهُ عَلَى الْأَمَانِ الْأَوَّلِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُمْ، وَيَأْخُذَ مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ بِوُصُولِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْأَمَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، سَوَاءٌ عَلِمُوا بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِذَا دَخَلَ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ اسْتِئْمَانٍ جَدِيدٍ كَانَ حَالُهُ وَحَالُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ قَبْلَ هَذَا سَوَاءٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا بِذَلِكَ قَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا مَالَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا لَا يَثْبُتُ لَهُمْ أَمَانٌ مِنْ جِهَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْخُرُوجِ، لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ مَا لَمْ يَعْلَمُوا بِخُرُوجِهِ. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِخُرُوجِهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ أَلَّا يَغْفُلُوا عَنْهُ، حَتَّى لَا يُشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ خُرُوجُهُ، وَبَعْدَ انْتِهَاءِ الْأَمَانِ بِالْخُرُوجِ هُوَ مُحَارِبٌ لَهُمْ، وَالْحَرْبُ خَدْعَةٌ، فَظَنُّهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْأَمَانِ الْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَصْنَعَ بِهِمْ مَا يَصْنَعُهُ الْمُحَارِبُ. 2426 - وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ الْأَمَانَ يَنْتَهِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِوُصُولِهِ إلَى مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَنْتَهِي بِخُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَخَذُوهُ حِينَ عَادَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ كُنْت؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدُ، أَوْ قَالُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1280 لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مُسْتَأْمَنٌ فِيكُمْ، فَتَرَكُوهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ بَعْدَ هَذَا. لِأَنَّ الَّذِي كَلَّمَهُمْ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْمَانِ الْجَدِيدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ حَتَّى الْآنَ فَلَمَّا أَخَذُوهُ قَالَ: أَنَا مُسْتَأْمَنٌ فِيكُمْ، كَانَ مُسْتَأْمَنًا إذَا خَلَّوْا سَبِيلَهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ. 2427 - وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُسْتَأْمَنُ خَرَجَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، قَدْ بَعَثَهُمْ الْإِمَامُ طَلِيعَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعْرِضَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِشَيْءٍ. لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ بَاقٍ، مَا لَمْ يُنَابِذْهُمْ أَوْ يَلْتَحِقْ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْأَمَانِ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ. 2428 - فَإِنْ اجْتَمَعَ الْمُسْتَأْمَنُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي مَكَان، حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، ثُمَّ لَمْ يَنْبِذُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، حَتَّى تَفَرَّقُوا كَمَا كَانُوا، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ. لِأَنَّهُمْ عَلَى الْأَمَانِ الْأَوَّلِ حِينَ لَمْ يَنْبِذُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَا يُجْعَلُ مَا حَدَثَ لَهُمْ مِنْ الْمَنَعَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَمَانِ. قُلْنَا: لِأَنَّ انْتِهَاءَ الْأَمَانِ بِاعْتِبَارِ مَنَعَةِ الْمُحَارِبِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1281 لِأَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْمُسْتَأْمَنُونَ مَا دَخَلُوا مُحَارِبِينَ، فَبِالْجَمْعِ لَا يَصِيرُونَ مُحَارِبِينَ مَا لَمْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. 2429 - وَكَذَلِكَ إنْ اجْتَمَعُوا مَعَ قَوْمٍ مِنْ الْأُسَرَاءِ، وَمِنْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْبِذُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ بِالْمُحَارَبَةِ. لِأَنَّ الْأُسَرَاءَ مَقْهُورُونَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَاَلَّذِينَ أَسْلَمُوا مَا كَانُوا مُحَارِبِينَ لَهُمْ، فَلَا يَصِيرُونَ مُحَارِبِينَ فِي الظَّاهِرِ، بِمُجَرَّدِ الْمَنَعَةِ، مَا لَمْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ بِالْمُحَارَبَةِ، وَلَا يَنْتَهِي أَمَانُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بِالْتِحَاقِهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَنَعَةِ. 2430 - وَإِنْ كَانَ الْأُسَرَاءُ قَدْ نَبَذُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ بِالْمُحَارَبَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ إذَا عَادُوا إلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ. لِأَنَّهُمْ الْتَحَقُوا بِأَهْلِ مَنَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، هُمْ مُحَارِبُونَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، وَحُكْمُ الْأَمَانِ يَنْتَهِي بِذَلِكَ. كَمَا لَوْ الْتَحَقُوا بِالْعَسْكَرِ. 2431 - فَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلِمُوا بِهِمْ، فَقَالُوا لَهُمْ حِينَ رَجَعُوا: لِمَ آتَيْتُمُوهُمْ؟ فَقَالُوا: خَرَجْنَا إلَى عَسْكَرِهِمْ تُجَّارًا، وَآتَيْنَاهُمْ لِنَنْهَاهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، فَتَرَكُوهُمْ بِمَا قَالُوا، لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِشَيْءٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1282 لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْمَانِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْأَمَانِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا تَرَكُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْأَمَانِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا خَرَجُوا إلَى عَسْكَرٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْهِمْ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِحَاجَةٍ. 2432 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ أَصَابُوا شَيْئًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، ثُمَّ تَجَمَّعُوا، فَصَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، وَنَبَذُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَهُمْ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ، أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى أَصَابُوا غَنَائِمَ فَأَخْرَجُوهَا، فَإِنَّ مَا أَصَابُوا بَعْدَ النَّبْذِ يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ، وَمَا أَصَابُوا قَبْلَ النَّبْذِ فَهُوَ لِمَنْ أَصَابَ وَلَا خُمُسَ فِيهِ. لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْغَدْرِ، وَإِنَّمَا أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَتِهِمْ، لَا بِمَنَعَةِ الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَيُفْتِيهِمْ الْإِمَامُ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. 2433 - وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْمُسْتَأْمَنِينَ أُسَرَاءُ أَوْ قَوْمٌ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا خَمَّسَ الْإِمَامُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَسَمَ الْبَاقِيَ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا حِينَ أَخَذُوا وَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ، ثُمَّ أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ. فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُونَ فَإِنَّمَا أَخَذُوا مَا أَخَذُوا قَبْلَ النَّبْذِ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِي ذَلِكَ الْمَأْخُوذِ بِمَا حَدَثَ لَهُمْ مِنْ الْمَنَعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1283 أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَحْرَزُوا ذَلِكَ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ أَخَذَهُ الْإِمَامُ فَيَرُدُّهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. وَالْأُسَرَاءُ لَوْ أَحْرَزُوا مَا أَخَذُوا بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ قُسِمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَيْشِ عَلَى قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَتِهِمْ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الرَّدِّ وَهَا هُنَا لَا يَثْبُتُ. 2434 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُونَ لَحِقُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِقَوْمٍ لُصُوصٍ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَقَدْ دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ بَعْدَ مَا اجْتَمَعُوا، فَالْحُكْمُ فِيمَا أَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ بَعْدَ الِالْتِقَاءِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ حَتَّى أَنَّ مَا أَصَابَ اللُّصُوصُ فَهُوَ لِمَنْ وَلِيَ الْأَخْذَ مِنْهُمْ خَاصَّةً، وَمَا أَصَابَ الْمُسْتَأْمَنُونَ أُمِرُوا بِرَدِّهِ مِنْ غَيْرَ جَبْرٍ. فَإِنْ صَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ حِينَ اجْتَمَعُوا فَنَبَذُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يُخَمِّسُ مَا أَصَابَ اللُّصُوصُ. لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ وَالْأَخْذُ حَلَالٌ لَهُمْ، وَأَحْرَزُوهُ وَهُمْ قَاهِرُونَ، بِمَا حَدَثَ لَهُمْ مِنْ الْمَنَعَةِ فَيُخَمِّسُ مَا أَصَابُوا، وَيَقْسِمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ، عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ فِي ذَلِكَ حَقُّ الشَّرِكَةِ مَعَهُمْ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ، بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ قُلْنَا: لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِزًا بِمَنَعَةٍ حَدَثَتْ لَهُمْ، وَبِاعْتِبَارِهَا أَخْذُ حُكْمِ الْغَنِيمَةِ، فَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ قِتَالِهِمْ دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ. 2435 - فَأَمَّا مَا أَصَابَ الْمُسْتَأْمَنُونَ فَإِنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِرَدِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرُوا عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1284 لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا، وَالْأَخْذُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَصِيرُ غَنِيمَةً بِالْإِخْرَاجِ، وَمَا أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الرَّدِّ. 2436 - وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَنْبِذُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ حَتَّى خَرَجُوا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَمْ يُخَمَّسْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ أَصَابُوهُ عَلَى وَجْهِ التَّلَصُّصِ، وَأَخْرَجُوهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا الْقِتَالَ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ، وَاعْتِبَارُ الْمَنَعَةِ لِإِظْهَارِ الْقِتَالِ، وَإِذَا لَمْ يُظْهِرُوهُ كَانَ هَذَا وَمَا لَمْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ بَعْدَ الِالْتِقَاءِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ مَا أَصَابَ اللُّصُوصُ غَنِيمَةً فَهُوَ لِلْآخِذِ خَاصَّةً، وَلَا شَرِكَةَ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقَ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَوْ رَجَعُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ كَانُوا عَلَى الْأَمَانِ الْأَوَّلِ، لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِشَيْءٍ، وَبَعْدَ مَا نَبَذُوا إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ، لَوْ رَجَعُوا إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَانٍ جَدِيدٍ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ. 2437 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُونَ حِينَ اجْتَمَعُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، وَاَلَّذِينَ لَحِقُوا بِهِمْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ. لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ مَا كَانُوا مُحَارِبِينَ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ، فَلَا يَنْتَهِي حُكْمُ ذَلِكَ الْأَمَانِ مِنْهُمْ مَا لَمْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، أَوْ يَصِلُوا إلَى أَهْلِ مَنَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1285 وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَعَةُ لِلُّصُوصِ دُونَ الْمُسْتَأْمَنِينَ فَلُحُوقُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بِهِمْ بِمَنْزِلَةِ لِحُقُوقِهِمْ بِعَسْكَرٍ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. لِأَنَّ اللُّصُوصَ مُحَارِبُونَ لِلْمُشْرِكَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَدُخُولُهُمْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَبِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ سَوَاءٌ. 2439 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُونَ أَهْلَ مَنَعَةٍ، حِينَ اجْتَمَعُوا قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقُوا بِاللُّصُوصِ الَّذِينَ لَهُمْ مَنَعَةٌ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ هَا هُنَا لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ مَا كَانُوا أَخَذُوهُ، وَلَكِنَّهُ يُفْتِيهِمْ بِالرَّدِّ فِيهِ. لِأَنَّهُمْ مَا أَخَذُوهُ بِمَنَعَةِ اللُّصُوصِ وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ بِمَنَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا أَخَذُوهُ بِمَنَعَةِ اللُّصُوصِ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الْعَسْكَرِ. 2440 - فَإِنْ لَقُوا قِتَالًا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ مَا كَانُوا أَخَذُوا فَيَرُدُّهُ إلَى أَهْلِهِ. لِأَنَّ اللُّصُوصَ حِينَ قَاتَلُوا دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَقَدْ ثَبَتَ لِلْإِمَامِ فِيهِ الْوِلَايَةُ كَمَا يَثْبُتُ لَهُ عِنْدَ قِتَالِ الْعَسْكَرِ دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ. 2441 - فَإِنْ الْتَحَقَ الْمُسْتَأْمَنُونَ، وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، بِقَوْمٍ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1286 الْمُسْلِمِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَبَعْدَ الِاجْتِمَاعِ لَمْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ يُؤْمَرُونَ بِرَدِّ مَا كَانُوا أَصَابُوا مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ، وَيُخَمَّسُ مَا أَصَابَ الْفَرِيقُ الْآخَرُونَ وَالْبَاقِي لَهُمْ خَاصَّةً دُونَ الْمُسْتَأْمَنِينَ. لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ كَانُوا عَلَى أَمَانِهِمْ لَوْ رَجَعُوا، وَإِنَّمَا خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ مُسْتَأْمَنُونَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ مَا صَارُوا مَدَدًا لِلَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَلَا صَارُوا مُحَارِبِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. 2442 - وَكَذَلِكَ إنْ صَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ، إلَّا أَنْ يَنْبِذُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَحِينَئِذٍ يُشَارِكُونَهُمْ فِيمَا أَصَابُوا، قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقُوا بِهِمْ، وَبَعْدَ مَا نَبَذُوا جَمِيعًا. لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ انْتَبَذَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ حَدَثَتْ لَهُمْ الْمَنَعَةُ بِالْتِحَاقِهِمْ بِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِتَالِ دَفْعًا عَنْ الْمُصَابِ، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. 2443 - فَأَمَّا مَا أَصَابَ الْمُسْتَأْمَنُونَ فَإِنَّهُمْ يُفْتُونَ فِيهِ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ. لِأَنَّهُ مَا أَحْرَزُوا ذَلِكَ بِمَنَعَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِمَامِ 2444 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ الَّذِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ الْتَحَقُوا بِقَوْمٍ أُسَرَاءَ، أَوْ أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَهْلَ مَنَعَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُنَابِذُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1287 أَهْلَ الْحَرْبِ، فَمَا أَصَابَ الْأُسَرَاء قَبْل أَنْ يَلْتَحِق بِهِمْ الْمُسْتَأْمَنُونَ يُخَمَّس، وَالْبَاقِي لَهُمْ خَاصَّة. لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ، وَالْأَخْذُ حَلَالٌ لَهُمْ. 2445 - وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِالِالْتِحَاقِ بِهِمْ مَا صَارُوا مَدَدًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ، وَلَا حَدَثَتْ لَهُمْ الْمَنَعَةُ بِالْتِحَاقِهِمْ بِهِمْ، فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ قَبْلَ ذَلِكَ. 2446 - وَكَذَلِكَ مَا أَصَابُوا بَعْدَمَا الْتَحَقَ بِهِمْ الْمُسْتَأْمَنُونَ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا مُحَارِبِينَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ حِينَ لَمْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ فِي ذَلِكَ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِالْمُصَابِ، لِمَعْنًى فِقْهِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ يَبْقَى بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ، إذَا كَانُوا لَمْ يُنَابِذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْأَمَانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلُوا كَالرِّدْءِ وَالْمَدَدِ لَهُمْ، فِيمَا أَصَابُوا، فَلِهَذَا لَا يُشَارِكُهُمْ الْمُسْتَأْمَنُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا أَصَابُوا غَنِيمَةً بِاعْتِبَارِ مَنَعَتِهِمْ حَتَّى يُخَمِّسَ، وَيُقْسِمَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. 2447 - وَإِنْ كَانُوا قَدْ نَابَذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَمَا أَصَابُوهُمْ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بَعْدَ النَّبْذِ فَهُوَ فَيْءٌ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا. لِأَنَّ أَمَانَ الْمُسْتَأْمَنِينَ حِينَ انْتَهَى بِالْوُصُولِ إلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ الْتَحَقُوا بِمَنَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، هُمْ مُقَاتِلُونَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، مُنَابِذُونَ، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الرِّدْءِ لَهُمْ فِيمَا أَصَابُوا بَعْدَ الِالْتِحَاقِ بِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1288 2448 - وَمَا أَصَابَ الْمُسْتَأْمَنُونَ قَبْلَ الِالْتِحَاقِ بِهِمْ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُهُ فَيَرُدُّهُ عَلَى أَهْلِهِ. لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَةِ قَوْمٍ مِنْ غُزَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَثْبُتُ لِلْإِمَامِ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الرَّدِّ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ الْأُسَرَاءُ مَا كَانُوا غُزَاةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، حِينَ لَمْ يُنَابِذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، فَلَا يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ فِيمَا أَصَابَهُ الْمُسْتَأْمَنُونَ، وَإِنْ أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَتِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُ يُفْتِيهِمْ بِالرَّدِّ. 2449 - وَإِنْ صَارَ الْمُسْتَأْمَنُونَ أَهْلَ مَنَعَةٍ، قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقُوا بِالْأُسَرَاءِ الَّذِينَ نَابَذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُجْبِرُهُمْ عَلَى رَدِّ مَا أَخَذُوا. لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، لَا بِمَنَعَةِ الْغُزَاةِ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ لِلْإِمَامِ فِي الرَّدِّ، إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا، فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ، بِقِتَالِ الْغُزَاةِ لِلدَّفْعِ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ، فَيَأْخُذُهُ وَيَرُدُّهُ عَلَى أَهْلِهِ. 2450 - وَإِذَا أَخَذَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَالَ حَرْبِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْغَدْرِ فَأَخْرَجَهُ، ثُمَّ أُسِرَ الْحَرْبِيُّ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْمَالِ، فَالْمَالُ لِلْمُسْلِمِ الَّذِي كَانَ أَخَذَهُ، وَقَدْ طَابَ لَهُ الْآنَ. لِأَنَّ الْمَالَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ حِينَ أَخْرَجَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يَطِيبُ لَهُ لِبَقَاءِ حَقِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، حِينَ أُسِرَ وَصَارَ عَبْدًا بَطَلَ حَقُّهُ، فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ الطِّيبَةِ لِلْآخِذِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْآسِرُ يَخْلُفُ الْمَأْسُورَ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ كَمَا يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1289 قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ فِيمَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ، وَالْمَالُ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْأَسِيرِ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا لَوْ أَدَانَ مُسْلِمًا دَيْنًا فِي دَارِنَا ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأُسِرَ بَطَلَ الدَّيْنُ عَنْ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فَيْئًا. لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ مَحَلَّ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ، بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ هُنَاكَ الدَّيْنُ كَانَ مِلْكَ الْأَسِيرِ فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا الْمَالُ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ الْأَسِيرِ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤْسَرْ حَتَّى رَجَعَ إلَى دَارِنَا فَطَلَبَ دَيْنَهُ أُجْبِرَ الْمَدِينُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَهَا هُنَا لَوْ لَمْ يُؤْسَرْ حَتَّى خَرَجَ وَطَلَبَ ذَلِكَ الْمَالَ لَمْ يُجْبَرْ الْمُسْلِمُ عَلَى دَفْعِ شَيْءٍ إلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ آخِذِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ، إذْ الرِّقُّ تَلَفٌ حُكْمًا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ إثْبَاتَ التَّوْرِيثِ يَكُونُ بِالنَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ. وَلِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِيمَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ، وَبِالِاسْتِرْقَاقِ تَبَدَّلَتْ نَفْسُهُ، وَلَكِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ حَاجَتُهُ، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْوَارِثِ خَلَفًا لَهُ فِي أَمْلَاكِهِ وَحُقُوقِهِ. 2451 - وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُؤْسَرْ الْحَرْبِيُّ وَلَكِنْ الْإِمَامَ غَلَبَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ، وَقَتَلَ صَاحِبَ الْمَالِ. لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ سَقَطَ بِمَوْتِهِ، وَلَمْ يَخْلُفْهُ فِي ذَلِكَ وَرَثَتُهُ، حِينَ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ، فَصَارُوا أَرِقَّاءَ، فَإِنَّ رِقَّ الْوَارِثِ يَمْنَعُ هَذِهِ الْخِلَافَةَ كَرِقِّ الْمُوَرِّثِ وَالْمَانِعُ مِنْ الطِّيبِ لِلْآخِذِ قِيَامُ حَقِّ الْغَيْرِ فِيهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ سُقُوطُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1290 2452 - وَلَوْ قُتِلَ الْحَرْبِيُّ وَلَمْ يَقَعْ الظُّهُورُ عَلَى دَارِهِ فَإِنَّ الْآخِذَ يُفْتَى بِرَدِّ الْمَالِ إلَى وَرَثَتِهِ. لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي حُقُوقِهِ وَأَمْلَاكِهِ، بَعْدَ مَا قُتِلَ، كَمَا يَخْلُفُونَهُ إذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَقِيَامُ حَقِّهِمْ كَقِيَامِ حَقِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، فِي الْمَنْعِ مِنْ الطِّيبَةِ لِلْآخِذِ. 2453 - وَلَوْ كَانَ الْآخِذُ أَخْرَجَ الْمَالَ إلَى عَسْكَرٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ أَسَرُوا صَاحِبَ الْمَالِ فَهُوَ فَيْءٌ لَهُمْ مَعَ الْمَالِ يُخَمَّسُ. وَالْبَاقِي بَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَالْمُسْتَأْمَنُ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ حَقَّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ كَانَ يَثْبُتُ فِي هَذَا الْمَالِ بِاعْتِبَارِ الْإِحْرَازِ بِمَنَعَتِهِمْ. لَوْلَا قِيَامُ حَقِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْمُسْتَأْمَنِ أَسِيرٌ كَانَ الْمَالُ غَنِيمَةً لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الرَّدِّ فِيهِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَقِّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فِيهِ، وَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، وَهُوَ حَقُّ الْحَرْبِيِّ حِينَ أُسِرَ. وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ لَمَّا كَانَ مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْأَسِيرِ فِي الْحُكْمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ آخَرَ فِي يَدِهِ، فَيَكُونُ مَحَلَّ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ فَيْئًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْمَالُ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ بَلْ مِلْكُ الْآخِذِ فِيهِ هُوَ مُقَدَّمٌ فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ تَمَامَ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ بِأَسْرِ الْحَرْبِيِّ. 2454 - وَكَذَلِكَ إنْ قُتِلَ الْحَرْبِيُّ، وَوَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى الدَّارِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1291 فَإِنْ لَمْ يَقَعْ الظُّهُورُ عَلَى الدَّارِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ ذَلِكَ الْمَالَ فَيَرُدُّهُ عَلَى وَرَثَةِ الْحَرْبِيِّ. لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا هَذَا نَظِيرُ حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ فِي دَارِنَا أَوْدَعَ رَجُلًا مَالًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأُخِذَ أَسِيرًا، فَإِنَّ الْوَدِيعَةَ تَكُونُ فَيْئًا لِلَّذِينَ أَسَرُوهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالَ كَانَ مُسْتَحَقَّ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَيَدُ الْمُودِعُ فِيهِ كَيَدِهِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ حِينَ أُسِرَ. 2455 - وَكَذَلِكَ لَوْ قُتِلَ فَظَهَرَ عَلَى الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الظُّهُورُ عَلَى الدَّارِ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُودِعِ عَلَى حَالِهِ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ وَارِثُهُ فَيَأْخُذَهُ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا يُحْرِزُهُ الْمُسْتَأْمَنُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ مَا يُحْرِزُهُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ أَنَّ الْمَأْخُوذَ لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَأَعْتَقَهَا بَعْدَ مَا أَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهَا، وَلَوْ أَعْتَقَهَا بَعْدَ مَا أَخْرَجَهَا إلَى الْعَسْكَرِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِيهَا. فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ قِيَامُ مِلْكِهِ فِيهَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَانْعِدَامِ مِلْكِهِ إذَا أَحْرَزَهَا بِالْعَسْكَرِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْقَهْرِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْمَحَلِّ. 2456 - وَلَوْ أَنَّ الْأُسَرَاءَ تَجَمَّعُوا فَصَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، فَأَخَذُوا أَمْوَالًا فَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، خُمِسَ مَا أَصَابُوا. لِأَنَّ الْأَخْذَ كَانَ مُبَاحًا لَهُمْ، وَكَانُوا قَاهِرِينَ عِنْدَ الْإِحْرَازِ، بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ. 2457 - بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ، وَلَمْ يُنَابِذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ لَا يُخَمَّسُ مَا جَاءُوا بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يُفْتُونَ بِرَدِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1292 لِأَنَّ الْأَخْذَ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ لِمَعْنَى الْغَدْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْأُسَرَاءِ، لَمْ يَخْرُجُوا حَتَّى غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ، فَإِنَّهُ يُخَمِّسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُمَثِّلُهُ فِي الْمُسْتَأْمَنِينَ لَوْ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى الدَّارِ، وَالْمَالُ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُنَابِذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْمَالَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ فِيهِ. لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ مَا دَامُوا فِي أَمَانِهِمْ فَيَكُونُ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمْ، لِكَوْنِهِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، فَيَصِيرُ فَيْئًا إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُسْتَأْمَنِينَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِغُزَاةٍ، بِخِلَافِ الْأُسَرَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُحَارِبِينَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْغُزَاةِ فِي الْمَالِ الَّذِي أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا يُخَمَّسُ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأُسَرَاءِ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. 2458 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُونَ حِينَ أَخَذُوا تِلْكَ الْأَمْوَالَ نَبَذُوا إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، فَقَاتَلُوهُمْ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ، فَحَالُهُمْ الْآنَ كَحَالِ الْأُسَرَاءِ. لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ أَمَانِهِمْ، صَارُوا مُحَارِبِينَ لَهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، وَصَارُوا ذِمَّةً قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُؤْمَرْ الْمُسْتَأْمَنُونَ بِرَدِّ الْمَالِ هَا هُنَا، وَفِي الْأَوَّلِ يُؤْمَرُونَ بِرَدِّ الْمَالِ. 2459 - وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ عَسْكَرٌ آخَرُ فَالْتَحَقَ الْمُسْتَأْمَنُونَ بِهِمْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1293 لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ إنَّمَا أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَتِهِمْ، لَا بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُنَابِذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ فَإِنَّ هُنَاكَ إنَّمَا أَحْرَزُوهُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ، فَيَأْخُذُ الْإِمَامُ الْمَالَ، وَيَرُدُّهُ عَلَى أَهْلِهِ. 2460 - فَإِنْ كَانَ الْجَيْشُ الَّذِينَ دَخَلُوا ظَهَرُوا عَلَى الدَّارِ، وَقَتَلُوا صَاحِبَ الْمَالِ، أَوْ أَسَرُوهُ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْمَالُ فَيْئًا بَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى الدَّارِ وَلَكِنْ قَتَلُوا صَاحِبَ الْمَالِ لَمْ يَعْرِضُوا لِمَا أَخَذَ الْمُسْتَأْمَنُونَ، وَأُمِرُوا بِالرَّدِّ إلَى وَرَثَةِ صَاحِبِ الْمَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ. 2461 - وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَنَزَلَ قَرْيَةً مِنْ قُرَاهُمْ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ عَسْكَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ، فَقَتَلُوا رِجَالَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَسَبَوْا مَنْ فِيهَا، وَلَمْ يَعْرِضُوا لِلْمُسْتَأْمَنِ بِشَيْءٍ فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ. لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يُوجِبُ انْتِهَاءَ الْأَمَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، فَإِنَّ الْقَرْيَةَ لَمْ تَصِرْ دَارَ الْإِسْلَامِ إذْ الْقُرَى تَتْبَعُ الْبَلْدَةَ. وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ حِينَ مَضَوْا وَتَرَكُوهَا فَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِمْ أَنْ يُصَيِّرُوهَا دَارَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1294 الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ هُوَ الْمُحْرِزُ لِنَفْسِهِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، إنَّمَا هُمْ الَّذِينَ نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، ثُمَّ ارْتَحَلُوا مِنْهُ وَرُبَّمَا كَانَ هُوَ نَائِمًا لَمْ يَشْعُرْ بِمَجِيئِهِمْ، وَلَا بِذَهَابِهِمْ، فَيَكُونُ هُوَ عَلَى أَمَانِهِ عَلَى حَالِهِ. 2462 - وَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ نَزَلُوا بِالْقُرْبِ مِنْ الْقَرْيَةِ فَذَهَبَ هُوَ إلَى الْعَسْكَرِ فَقَدْ انْتَهَى الْأَمَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهُ الْآنَ أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ، فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَمَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ حَتَّى إذَا عَادَ إلَيْهِمْ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَيَأْخُذَ أَمْوَالَهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَارَ مَعَهُمْ أَيَّامًا أَوْ قَاتَلَ مَعَهُمْ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْمُشْرِكُونَ لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا مِنْ أَمَانِهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ فِي عَسْكَرِهِمْ بِخُرُوجِهِ إلَيْهِمْ. 2463 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَتَلُوا رِجَالَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ حَمَلُوهُ كُرْهًا فَأَدْخَلُوهُ فِي عَسْكَرِهِمْ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ مُسْلِمٌ خَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَفِي الْقِيَاسِ لَا أَمَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرَزًا بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا لَوْ حَمَلُوهُ كُرْهًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: 2464 - الْمَوْضِعُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْعَسْكَرُ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ، وَالْمُسْتَأْمَنُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1295 إلَّا أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِعْلٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَبْذِ الْأَمَانِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ إنْ كَانَ بِوَعِيدِ التَّلَفِ، لَا يَبْقَى لَهُ فِعْلٌ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ بِتَهْدِيدٍ دُونَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى رِضَاهُ بِهِ، حَتَّى يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى نَبْذِ الْأَمَانِ مِنْهُ. 42465 - فَأَمَّا إذَا أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ فِي أَمَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَطُّ. أَرَأَيْت لَوْ أَقَامَ فِي أَهْلِهِ سَنَةً، لَا يَدَعُونَهُ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، أَكَانَ يَبْقَى فِي أَمَانٍ مِنْهُمْ؟ هَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ. فَكَذَلِكَ إذَا أَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ خَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ، كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، مَا لَمْ يُجَدِّدْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَانًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1296 [بَابُ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ] 130 - بَابُ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ فَيُحْرِزُونَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ 2466 - قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا بِطَرِيقِ الْقَهْرِ بَعْدَ مَا يَتِمُّ الْإِحْرَازُ بِدَارِهِمْ، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ لَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ إذَا وَجَدَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّهُ صَارَ مَظْلُومًا، فَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ، وَدَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ السُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِأَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَكَانَ دَفْعُ هَذَا الظُّلْمِ عَلَى الْغُزَاةِ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيَأْخُذُونَ الْكِفَايَةَ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا وَقَعَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمْ فَنَقُولُ: قَبْلَ الْقِسْمَةِ الْحَقُّ لِعَامَّتِهِمْ، وَدَفْعُ الظُّلْمِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْمَالِ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ رَدُّهُ مَجَّانًا، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ فِيهِ، لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، وَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ بِتَسْلِيمِ مِلْكِ نَفْسِهِ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّ حَقَّ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ كَانَ فِي الْمَالِيَّةِ، حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ الْغَنَائِمَ، وَيَقْسِمَ الثَّمَنَ بَيْنَهُمْ، وَحَقُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1297 الْمَأْسُورِ مِنْهُ كَانَ فِي الْعَيْنِ، فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ، وَذَلِكَ بِإِيصَالِ عَيْنِ الْمِلْكِ إلَيْهِ، إذَا وَصَلَ إلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ مَا هُوَ حَقُّهُ، وَهُوَ الْمَالِيَّةُ إنْ شَاءَ. وَلِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ الثَّابِتُ لِلْغَانِمَيْنِ حَقٌّ لَا مِلْكٌ، وَالثَّابِتُ لِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ حَقٌّ أَيْضًا، فَيَتَرَجَّحُ حَقُّهُ بِالسَّبْقِ، فَيَأْخُذُهُ مَجَّانًا، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ الثَّابِتُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ مِلْكٌ، وَلِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ حَقٌّ، وَالْحَقُّ، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا، فَإِنَّهُ لَا يُعَارِضُ الْمِلْكَ الْمُسْتَقِرَّ شَرْعًا، فَيَجِبُ مُرَاعَاتُهَا وَذَلِكَ فِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ. 2467 - وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ إلَيْهِمْ فَاشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَلَوْ وَهَبُوهُ مِنْهُ وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ لِلْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ رَوَاهَا فِي الْكِتَابِ، مِنْهَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ قَالَ: «أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ نَاقَةً لِمُسْلِمٍ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُمْ مُسْلِمٌ، فَارْتَفَعُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَعْطِهِ ثَمَنَهَا الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ» . ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ 2468 - إنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِذِ مَجَّانًا، وَلَكِنْ إذَا أَعْطَاهُ قِيمَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1298 أَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا بَعْدَهَا، وَلَا يُؤْخَذُ بِهَذَا لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْكِبَارُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ قُسِمَ أَوْ لَمْ يُقْسَمْ إذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَبِهِ نَأْخُذُ. فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ، وَطَرِيقُ ثُبُوتِ حَقِّهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، وَبَعْدَ مَا يَثْبُتُ حَقُّهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مَجَّانًا، وَبَعْدَهَا بِالْقِسْمَةِ إنْ أَحَبَّ، فَكَانَ مُرَادُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ إذَا رَغِبَ فِي أَدَاءِ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. 2470 - وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مَعْصُومَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَرِقُونَ إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ كَالْإِحْرَازِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَالْحُكْمُ فِي أَمْوَالِهِمْ إذَا وَقَعَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا كَالْحُكْمِ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ. 2471 - وَذُكِرَ عَنْ مَكْحُولٍ فِي رَجُلٍ مِنْ الْعَدُوِّ قَالَ لِلْجَيْشِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: أَرَأَيْتُمْ إنْ أَنَا جِئْتُكُمْ بِمُسْلِمٍ أَتُعْطُونَنِي فِدَاءَهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ، فَمَاتَ الْحَرْبِيُّ فِي الْعَسْكَرِ فَقَالَ: يُدْفَعُ فِدَاءُ ذَلِكَ الْمُسْلِمِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْكَافِرِ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ، فَكَمَا أَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَفِيَ لَهُ بِمَا شَرَطْنَا، فَنُعْطِيهِ الْفِدَاءَ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ يَدْفَعُ مَنْ الْتَزَمَ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ إلَى وَرَثَتِهِ. وَذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1299 الْمُسْلِمِ يَشْتَرِي مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ قَالَ: ثَمَنُهُ يَكُونُ دَيْنًا عَلَى الْحُرِّ لَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إذَا اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ. لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُسْتَرَقُّ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَقْدُ شِرَاءً فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ فَدَى بِهِ الْمُسْلِمَ. 2472 - فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِيمَا أَدَّى، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ فَهُوَ دَيْنٌ لَهُ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَقْرِضِ مِنْهُ حِينَ أَمَرَهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ فِدَاءَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَضَى الدَّيْنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ، وَالْمَدِينُ كَالْمَأْسُورِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا هُوَ مُشْبِهٌ بِالْأَسْرِ فَفِي حَقِيقَتِهِ أَوْلَى. 2473 - فَأَمَّا الْعَبْدُ أَوْ الْأَمَةُ إذَا أَبَقَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، بِخِلَافِ الْفَرَسِ إذَا عَادَ إلَيْهِمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا يُقَالُ الْجَوَابُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، يَأْخُذُهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُفَرِّقُ فَيَقُولُ: الْآبِقُ لَا يَكُونُ مُحْرِزًا أَبَدًا لِثُبُوتِ يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1300 أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ كَانَتْ الْأَمَةُ خُمِّسَتْ وَقُسِّمَتْ فَسَبِيلُهَا وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُخَمَّسْ وَلَمْ تُقَسَّمْ فَارْدُدْهَا عَلَى أَهْلِهَا. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهَا أَبَقَتْ، فَلَمْ تَدْخُلْ دَارَ الْحَرْبِ حَتَّى خَرَجُوا إلَيْهَا فَأَحْرَزُوهَا وَذَكَرَ: أَنَّ غُلَامًا لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَبَقَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ إلَى الْعَدُوِّ وَعَادَ فَرَسٌ لَهُ فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ خَالِدٌ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ. وَهُمَا يَقُولَانِ: بِهَذَا التَّقْيِيدِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ مَجَّانًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: فِي الْعَبْدِ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مُحْرِزِينَ لَهُ، فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ لَوْ جَاءَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَيْضًا مَجَّانًا. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1301 [بَابُ مَا يُحْرِزُهُ الْعَدُوُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّا يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ] 131 - بَابُ مَا يُحْرِزُهُ الْعَدُوُّ مِمَّا يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ، بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ 2475 - وَإِذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إبْرِيقِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لِمُسْلِمٍ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ وَزْنِهِ لِصِيَاغَتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ، فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَخَذَهُ بِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ، وَإِنْ كَانَ فِضَّةً أَخَذَهَا بِقِيمَتِهَا دَنَانِيرَ لِلْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ وَالصَّنْعَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جَيِّدُهَا وَرَدِيُّهَا سَوَاءٌ» . وَحَقُّ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ مَرْعِيٌّ فِي الصَّنْعَةِ كَمَا هُوَ فِي الْأَصْلِ، فَلِوَا اشْتَغَلْنَا بِالتَّقْوِيمِ بِجِنْسِ الْإِبْرِيقِ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُ الصَّنْعَةِ أَصْلًا، فَيَفُوتُ حَقُّهُ فِيهِ مَجَّانًا وَذَلِكَ لَا وَجْهَ لَهُ. فَقُلْنَا تَقُومُ بِخِلَافِ الْجِنْسِ، لِتَظْهَرَ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ، فَيَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ تَمَامُ الْمَالِيَّةِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَسَرَ قُلْبًا لِإِنْسَانٍ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالْقِيمَةِ، أَوْ اصْطَلَحَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1302 عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، وَلَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى افْتَرَقَا فَذَلِكَ جَائِزٌ لَا يَنْقُضُهُ افْتِرَاقُهُمَا. لِأَنَّ مَا يُعْطِيهِ مِنْ الْقِيمَةِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ عَيْنِ الْإِبْرِيقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ يُعِيدُ الْإِبْرِيقَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُشْتَرِيًا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِهِ، وَلَوْ أَرَادَ بَيْعَهُ مُرَابَحَةً بَاعَهُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، دُونَ مَا أَخَذَهُ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَوْهُوبًا فِي يَدِهِ كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ عَبْدًا فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ خُوطِبَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ ابْتِدَاءً وَلَكِنَّهُ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِمَا يُفْدِيهِ بِهِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُصَارَفَةِ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَشْتَرِطَ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ إبْرِيقًا عَلَى رَجُلٍ فَقَضَى عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْقَضَاءَ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ الْغَاصِبُ الْمُسْتَهْلِكُ يَتَمَلَّكُ لَكِنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ ثَبَتَ شَرْطًا لِلْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ بِهَا فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ مَعْنَى الْمُصَارَفَةِ بَيْنَهُمَا فَلَأَنْ لَا يَتَحَقَّقَ هَا هُنَا وَهُوَ لَا يَتَمَلَّكُهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَصْلًا وَإِنَّمَا يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، كَانَ أَوْلَى. 2476 - وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبُوا الْإِبْرِيقَ لِمُسْلِمٍ فَأَخْرَجَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ بِخَمْرٍ فَأَخْرَجَهُ. لِأَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا، وَإِنَّمَا كَانَ أَخَذَ الْإِبْرِيقَ مِنْهُمْ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ، كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1303 2477 - وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ الْإِبْرِيقَ بِالْخَمْرِ نَصْرَانِيًّا أَوْ مُسْلِمًا اشْتَرَاهُ بِثَوْبٍ، وَأَخْرَجَهُ، فَلِصَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ مِنْ النَّصْرَانِيِّ، وَبِقِيمَةِ الثَّوْبِ مِنْ الْمُسْلِمِ. لِأَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ كَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ بِمِثْلِ مَا أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي، وَالثَّوْبُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَكُونُ مِثْلَ الْقِيمَةِ، وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ فَلِعَجْزِهِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ يَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الثَّوْبُ وَالْخَمْرُ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِبْرِيقِ، فَيَأْخُذُهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِثْلَ وَزْنِ الْإِبْرِيقِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ يَتَمَلَّكُهُ بِمَا يُؤَدَّى ابْتِدَاءً، وَلَكِنْ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِمَا يُعْطَى مِنْ الْفِدَاءِ، بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي يَفْدِيهِ مِنْ الْأَرْشِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ، كَمَا كَانَ، لَا أَنْ يَتَمَلَّكَهُ بِمَا يُؤَدِّي مِنْ الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ سَلَامَتُهُ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْمُبَادَلَةُ أَصْلًا لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مَعْنَى الرِّبَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِبْرِيقُ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمِثْلِ مَا أَدَّى، وَإِنْ كَانَ أَضْعَافَ وَزْنِهِ. لِأَنَّهُ فِدَاءٌ وَلَيْسَ بِشِرَاءٍ، ثُمَّ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الرِّبَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَمَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا غَرِمَ فِيهِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يَقُولُوا بِهَذَا فِيمَا إذَا اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ بِخَمْرٍ فَأَخْرَجَهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَتَقَوَّمُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِقِيمَةِ مَا أَدَّى مِنْ الْخَمْرِ، فَلِهَذَا أَخَذَهُ بِقِيمَةِ الْإِبْرِيقِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي نَصْرَانِيًّا فَإِنَّ الْخَمْرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ، فَأَمَّا مَا أَعْطَى مِنْ الدَّرَاهِمِ هَا هُنَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1304 وَهَذَا بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ. وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ إذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ، وَفِي الدَّارِ صَفَائِحُ مِنْ فِضَّةٍ، أَوْ سَلَاسِلُ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْقِيمَةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ هُنَاكَ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي حُكْمُ الرِّبَا، وَحُكْمُ الصَّرْفِ فِي حِصَّةِ الصَّفَائِحِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الزِّيَادَاتِ. وَهَذَا لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ ابْتِدَاءً، بِمَا يُؤَدِّي مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شِرَاءً مُبْتَدَأً، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِدَاءٌ يَفْدِي بِهِ صَاحِبُ الْإِبْرِيقِ مِلْكَهُ الْأَوَّلَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ شَيْئًا مِنْ الْعُقُودِ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ الْعَقْدَ، بِخِلَافِ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي. 2478 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ عَبْدًا فَفَقَأَ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَيْنَيْهِ كَانَ لِمَالِكِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ. وَلَوْ هَدَمَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَةُ فَإِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُرَابَحَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُعْطِي الشَّفِيعُ يَكُونُ ثَمَنًا، وَمَا يُعْطِي الْمَالِكُ الْقَدِيمُ يَكُونُ فِدَاءً فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا قُلْتُمْ فِي مَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ: إنَّهُ يُصَارُ إلَى التَّقْوِيمِ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ إذَا كَانَ هَذَا فِدَاءً، وَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؟ قُلْنَا: لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مَالِيَّةُ الصَّنْعَةِ عِنْدَ التَّقْوِيمِ بِالْجِنْسِ، إذْ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَلِلْحَاجَةِ إلَى إظْهَارِ مَالِيَّةِ الصَّنْعَةِ صِرْنَا إلَى التَّقْوِيمِ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَادَلَةٌ، فَأَمَّا فِي تَقْوِيمِ الثَّوْبِ وَالْخَمْرِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي نَصْرَانِيًّا لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَقْوِيمَهُ بِجِنْسِ الْإِبْرِيقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1305 وَلَوْ أَسَرَ الْعَدُوُّ عَبْدًا لِذِمِّيٍّ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ ذِمِّيٌّ فَاشْتَرَاهُ بِأَرْطَالٍ مِنْ خَمْرٍ وَأَخْرَجَهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمِثْلِهَا. لِأَنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ، كَالْعَصِيرِ وَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا. 2480 - فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُنْتَقَضْ الْقَضَاءُ وَكَانَ عَلَى صَاحِبِهِ قِيمَةُ الْخَمْرِ يَأْخُذُهُ بِهِ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا فِدَاءً فَلَا يَبْطُلُ بِالْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ. 2481 - بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَبْدِ بِالْخَمْرِ ابْتِدَاءً، وَأَخْذِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ بِالْخَمْرِ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ الْقَضَاءُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْخَمْرِ. لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَسْلِيمِهِ بَاقٍ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ فَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ هُوَ الْمُسْلِمُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِ الْخَمْرِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ. 2482 - وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لِصَاحِبِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَلَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ مِلْكَهُ إنَّمَا حَيِيَ بِمَا أَدَّى الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَبْدَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1306 رَادِّ الْآبِقِ يَحْبِسُهُ بِالْجُعْلِ لِهَذَا الْمَعْنَى لَا لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَمَلَّكُ ابْتِدَاءً بِمَا يُعْطِيهِ مِنْ الْجُعْلِ. 2483 - فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ بَطَلَ الْفِدَاءُ عَنْ صَاحِبِهِ. لِأَنَّهُ كَانَ يَفْدِي لِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ لَهُ وَلَمْ يُسْلِمْ. 2484 - وَإِنْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَهَابُ الْعَيْنِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي. وَهَذَا لِأَنَّ الْفِدَاءَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْأَصْلِ لَا لِلْأَوْصَافِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْجَانِيَ إذَا ذَهَبَتْ عَيْنُهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ مَوْلَاهُ شَيْءٌ مِنْ الْفِدَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ. 2485 - وَإِنْ قَتَلَهُ الْمُشْتَرِي فَقَدْ بَطَلَ الْفِدَاءُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاتِلِ. لِأَنَّ قَتْلَهُ إيَّاهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ بِالْجِنَايَةِ، كَالْبَائِعِ إذَا قَتَلَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَكَانَ مَا يُعْطِي فِي حَقِّ الْمَوْلَى فِدَاءً وَفِي حَقِّ الْمُشْتَرِي هُوَ يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْ الْعَبْدِ بِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1307 يَقْتُلُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ رَادِّ الْآبِقِ إذَا قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ بِجَعْلٍ، أَوْ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ بَعْدَ مَا اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ. لِأَنَّ هُنَاكَ الْقَاتِلُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِرَقَبَةِ الْعَبْدِ قَطُّ، حَتَّى يَبْقَى ضَمَانُ مِلْكِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَهَا هُنَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ كَانَ مَالِكًا لَهُ، فَيَبْقَى ضَمَانُ مِلْكِهِ، بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ يَدِهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ. 2486 - وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدَهَا بِالثَّمَنِ. لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهَا وَفِي الْفِدَاءِ يُجْعَلُ تَبَعًا لَهَا. 2487 - فَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي وَلَدَهَا أَوْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بَعْدَهُ كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْأُمَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ فِي حُكْمِ الْفِدَاءِ، فَبِفَوَاتِهِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ سَائِرِ الْأَطْرَافِ. 2488 - وَإِذَا مَاتَتْ الْأُمُّ وَبَقِيَ الْوَلَدُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، يَأْخُذُ الْوَلَدَ، بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إذَا قُسِمَ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْفِدَاءِ الْأُمُّ دُونَ الْوَلَدِ، فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ جَمِيعِ الْفِدَاءِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1308 فَلَا بُدَّ مِنْ تَوَزُّعِ الْفِدَاءِ عَلَى قِيمَتِهَا، لِمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ فِي الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَسْرِي إلَيْهِ مِلْكُ الْأَصْلِ، وَحَقُّ الْأَخْذِ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ لَهُ، بِاعْتِبَارِهِ مَلَكَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَدِ. وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَمَّا بَقِيَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْوَلَدِ بَقِيَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوَزُّعَ عَلَى الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ فَلِهَذَا أَوْجَزْنَا فِي الْبَيَانِ هَا هُنَا. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا بَابًا قَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ مَسَائِلِهِ فِي الْجَامِعِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1309 [بَابُ الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ يَشْتَرِيهِ رَجُلٌ ثُمَّ يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِ مَوْلَاهُ] 2489 - وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ مِنْ الْعَدُوِّ مُسْلِمٌ فَأَخْرَجَهُ، ثُمَّ لَمْ يَأْخُذْهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِالثَّمَنِ حَتَّى أَقَرَّ الْمُشْتَرِي لِآخَرَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَكَذَّبَهُ مَوْلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَمَوْلَاهُ الْمَعْرُوفُ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ. لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ ثَابِتٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ الظَّاهِرِ، قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ، وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ أَقَرَّ بِذَلِكَ الْحَقِّ بِعَيْنِهِ لِآخَرَ، وَإِقْرَارُهُ فِيمَا يَكُونُ حَقًّا لَهُ صَحِيحٌ، فَأَمَّا فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ هَذَا الْحَقِّ مَعَ قِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْعَبْدِ فَلَا يَمْلِكُ تَحْوِيلَهُ إلَى غَيْرِهِ. تَوْضِيحُهُ وَهُوَ أَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْأَخْذِ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَمِلْكِ الْمُقَرِّ لَهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً. لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا فِي حَقِّ الْمُقِرِّ فَأَمَّا مِلْكُ الْمَوْلَى الْمَعْرُوفِ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ وَفِي حَقِّ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَلَا يَثْبُتُ لِلْمُقَرِّ لَهُ مُزَاحَمَةُ الْمَوْلَى الْمَعْرُوفِ بِاعْتِبَارِ مِلْكٍ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1310 2490 - فَإِذَا لَمْ يَرْغَبْ الْمَوْلَى الْمَعْرُوفُ فِي أَخْذِهِ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ ثَابِتٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْمَعْرُوفِ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِتَسْلِيمِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. 2491 - وَإِنْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى الْمَعْرُوفُ بِالثَّمَنِ فَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ مِنْ قِيمَةٍ وَلَا ثَمَنٍ. لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ يَدِهِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَا بِاخْتِيَارِهِ. 2492 - وَلَوْ أَزَالَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أَوْلَى. وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ مِنْ الْعَدُوِّ قَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا صَحِيحًا، وَالثَّمَنُ الَّذِي أَعْطَاهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ أَيْضًا مِلْكًا صَحِيحًا، فَمَا أَخَذَ مِنْ الثَّمَنِ الْآنَ بَدَلُ مَا أَدَّى فَيَكُونُ سَالِمًا لَهُ، وَمَا أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا. 2493 - وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِهَذَا الرَّجُلِ دَبَّرَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهُوَ مُدَبَّرٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى الْمَعْرُوفِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ. لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هَا هُنَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَهُوَ يَمْلِكُ أَنْ يَمْلِكَهُ ابْتِدَاءً بِالْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ، فَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ لَهُ بِالْمِلْكِ أَيْضًا. 2494 - ثُمَّ قَدْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ مُدَبَّرٌ، وَلَوْ دَبَّرَهُ الْمُشْتَرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1311 ابْتِدَاءً صَحَّ تَدْبِيرُهُ، فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ لِغَيْرِهِ، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَانَ مُدَبَّرًا أَيْضًا، وَبَعْدَ مَا صَارَ مُدَبَّرًا لَا يَبْقَى لِلْمَوْلَى الْمَعْرُوفِ حَقُّ أَخْذِهِ بِالثَّمَنِ، كَمَا لَوْ دَبَّرَهُ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ مَا أَبْطَلَ عَلَى الْمَوْلَى الْمَعْرُوفِ مِلْكًا هُوَ مُتَقَوِّمٌ لِحَقِّهِ فَلَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا. 2495 - قَالَ: وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الشُّفْعَةَ، يَعْنِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلدَّارِ إذَا أَقَرَّ بِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ. لِأَنَّ لِلشَّفِيعِ وِلَايَةَ نَقْصِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ صَحِيحًا فِي حَقِّهِ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اتَّخَذَ الدَّارَ مَسْجِدًا، فَأَمَّا الْمَوْلَى الْقَدِيمُ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِالْأَخْذِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حَقَّهُ، أَوْ يَأْخُذَهُ، فَإِقْرَارُهُ بِأَنَّهُ مُدَبَّرٌ لِغَيْرِهِ يَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّهِ أَيْضًا، بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّ الْعَبْدَ مُدَبَّرٌ لِفُلَانٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْبَائِعُ يُضَمِّنُ الْمُشْتَرِيَ الْقِيمَةَ بِاعْتِبَارِ قَبْضِهِ، هَا هُنَا الْمَوْلَى الْقَدِيمُ لَا يُضَمِّنُ الْمُشْتَرِيَ شَيْئًا. لِأَنَّهُ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ وَلَا تَمَلَّكَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ التَّدْبِيرَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1312 2496 - وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ لَهُ قَدْ كَانَ عَبْدِي وَلَمْ أُدَبِّرْهُ قَطُّ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَهُ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُدَبَّرًا مَوْقُوفَ الْحَالِ. لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ أَقَرَّ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ، وَالْمَوْلَى الْمَعْرُوفُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالشِّرَاءِ وَأَنَّ إقْرَارَهُ فِيهِ نَافِذٌ. 2497 - وَكَذَلِكَ الْمُقَرُّ لَهُ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا بِاتِّفَاقِهِمْ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ فَيَبْقَى مُدَبَّرًا مَوْقُوفَ الْحَالِ فَإِذَا مَاتَ الْمُقِرُّ لَهُ عَتَقَ. لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ عِتْقَهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَوْتِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالْمُقَرُّ لَهُ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي فِيهِ نَافِذٌ، فَعِنْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ لَهُ يَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ مِنْهُمْ عَلَى حُرِّيَّتِهِ. 2498 - فَإِنْ لَمْ يَمُتْ الْمُقَرُّ لَهُ حَتَّى رَجَعَ إلَى تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ مُدَبَّرًا لَهُ. لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَهُوَ الْوَلَاءُ الثَّابِتُ بِالتَّدْبِيرِ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِتَكْذِيبِهِ. 2499 - وَلَكِنَّهُ إذَا صَدَّقَهُ بَعْدَ التَّكْذِيبِ فَهُوَ وَمَا لَوْ صَدَّقَهُ ابْتِدَاءً فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى تَصْدِيقِهِ حَتَّى جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فَجِنَايَتُهُ تَتَوَقَّفُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1313 لِأَنَّ مُوجِبَ جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ وَلَا يَدْرِي مَنْ الْمَوْلَى مِنْهُمَا. وَالْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ بِالْقِيمَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّ كَسْبَهُ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ، وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ عَلَى مَوْلَاهُ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْكَسْبَ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمَّا كَانَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا قَضَيْنَا بِالْأَقَلِّ فِي كَسْبِهِ فَقَدْ قَضَيْنَا عَلَى مَوْلَاهُ بِيَقِينٍ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ، جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ثَمَّةَ. 2500 - فَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ كَانَ الْأَرْشُ مَوْقُوفًا لِتَوَقُّفِ الْمِلْكِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى نَفَقَةٍ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَسْبٍ لِمَرَضٍ، أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ. لِأَنَّهُ مَالُ مَوْلَاهُ بِيَقِينٍ، وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْكَسْبِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَا أَرْشَ لَهُ فَنَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَمَلِ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ مَرِيضٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَيْسَ لَهُ قَرِيبٌ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. 2501 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهَا مُدَبَّرَةٌ لِفُلَانٍ، فَقَالَ فُلَانٌ: هِيَ جَارِيَتِي، وَلَيْسَتْ بِمُدَبَّرَتِي، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا أَمَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالتَّدْبِيرِ، فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ لَهُ، لِوُجُودِ التَّصْدِيقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1314 وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ فِيهِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُقَرُّ لَهُ حِينَ أَنْكَرَ التَّدْبِيرَ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ السَّبْيَ جَرَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ فِيهِ بِالتَّدْبِيرِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ لِمَا نَفَذَ فِيهِ مِنْ إقْرَارِ الْمُشْتَرِي، وَهَا هُنَا الْمُقَرُّ لَهُ يَقُولُ: الْعَبْدُ عَبْدِي وَالشِّرَاءُ مِنْ الْمُشْتَرِي كَانَ بَاطِلًا، فَإِقْرَارُهُ بِالتَّدْبِيرِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَهُ، فَلِهَذَا أَخَذَ الْأَمَةَ مِنْهُ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ، فَتَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ غَيْرَ مُدَبَّرَةٍ. وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا بَابًا قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَسَائِلِهِ فِي الزِّيَادَاتِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1315 [بَابٌ مِنْ الْفِدَاءِ لِلْعَبْدِ الْمَأْسُورِ مِنْ الْعَدُوِّ يَصْلُحُ وَفِيمَا لَا يَصْلُحُ] 133 - بَابٌ مِنْ الْفِدَاءِ فِيمَا يَصْلُحُ وَفِيمَا لَا يَصْلُحُ 2502 - الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ الْمَأْسُورِ مِنْ الْعَدُوِّ إذَا أَخْرَجَهُ فَحَضَرَ مَوْلَاهُ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِشَيْءٍ لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِمَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، كَالثِّيَابِ وَالْأَمْتِعَةِ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ. لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُعْطِي الْمُشْتَرِيَ مَا غَرِمَ فِيهِ، لِيَنْدَفِعَ بِهِ الضَّرَرُ وَالْخُسْرَانُ عَنْهُ، وَتَمَامُ ذَلِكَ بِالْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ، إلَّا إذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ صُورَةً، فَحِينَئِذٍ تُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، كَمَا فِي بَدَلِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ. 2503 - يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى حِينَ رَغِبَ فِي أَخْذِهِ فَقَدْ أَجَازَ مَا صَنَعَهُ الْمُشْتَرِي، وَإِجَازَتُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا لِمَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ ذَوَاتَ الْأَمْثَالِ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، مِمَّا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ. فَالْمَوْلَى صَارَ كَالْمُسْتَقْرَضِ مِنْهُ، فَلِهَذَا يَغْرَمُ مِثْلَهُ، وَأَمَّا الثِّيَابُ وَالْأَمْتِعَةُ لَا يَجُوزُ فِيهَا الِاسْتِقْرَاضُ، وَهِيَ تَكُونُ مَضْمُونَةً بِالْقِيمَةِ، بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ الْفَاسِدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1316 2504 - فَإِنْ (اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ) فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فَدَاهُ بِهِ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي عَلَيْهِ ثُبُوتَ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَقَلِّ، وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْأَكْثَرَ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. وَلِأَنَّ مَا فَدَاهُ بِهِ مِلْكُهُ، وَقَدْ كَانَ فِي يَدِهِ إلَى أَنْ دَفَعَهُ إلَى الْحَرْبِيِّ فَيَكُونُ هُوَ أَعْرَفُ بِقِيمَتِهِ مِنْ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ ذَلِكَ إلَى يَدِهِ قَطُّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُجَازِفٌ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ قِيمَتِهِ. 2505 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الَّذِي فَدَاهُ بِهِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَاخْتَلَفَا فِي وَزْنِهِ أَوْ جُودَتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فَدَاهُ مَعَ يَمِينِهِ. لِلْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. 2506 - وَعَلَى الْمَوْلَى الْبَيِّنَةُ. لِأَنَّهُ يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ أَخْذِ مِلْكِهِ بِمِقْدَارِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْآخَرُ يُنْكِرُ، وَلَوْ أَنْكَرَ ثُبُوتَ الْحَقِّ لَهُ أَصْلًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ ثُبُوتَ الْحَقِّ لَهُ عِنْدَ إحْضَارِ أَقَلِّ الْمَالَيْنِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً، مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ، وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ ذِمِّيٌّ، فَقَدْ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ، وَالْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ بِالْعَمَلِ بِهَا مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ. 2507 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَدَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ مُسْتَأْمَنًا فِينَا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ بِأَمَانٍ، فَلَيْسَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1317 لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي مِلْكِهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَالْبَائِعُ وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَمَعَهُ ذَلِكَ الْعَبْدُ، لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي. 2508 - وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ مَظْلُومًا، وَأَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيَامَ بِنُصْرَتِهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلَا يَلْزَمُهُ نُصْرَةُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. 2509 - بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَلَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ. لِأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، فَلَا يُتْرَكُ الْحَرْبِيُّ لِيَرْجِعَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. 2510 - وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَهُ مِنْ الْأَصْلِ، فَأَسْلَمَ، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ، فَهَا هُنَا أَوْلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى بَيْعِهِ. 2511 - وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَرْبِيُّ الَّذِي اشْتَرَاهُ خَرَجَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. وَمَعَهُ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَرَجَ الْبَائِعُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1318 مَنْ «أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» . إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ خَرَجَ ذِمِّيًّا وَالْعَبْدُ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ لَا يُتْرَكُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فِي يَدِ كَافِرٍ يَسْتَعْبِدُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِذْلَالِ بِالْمُسْلِمِ. 2512 - وَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ أَوْ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، كَالْحُرِّ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، أَوْ خَرَجُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُجْرَى عَلَيْهِ السَّبْيُ، وَلَا يَكُون مُحْرَزًا أَبَدًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ مِلْكًا لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ أَيْضًا، وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ إزَالَةُ يَدِ الظُّلْمِ عَنْهُ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فِي الْمَالِ الَّذِي فَدَاهُ بِهِ، فِي جِنْسِهِ أَوْ مِقْدَارِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فَدَاهُ بِهِ، لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ أَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ أُخِذَ بِبَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُدَّعٍ لِلزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى مُنْكِرًا، كَمَا بَيَّنَّا، وَلَكِنْ الدَّعْوَى ظَاهِرًا تَكْفِي لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ، كَالْمُودَعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ. فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1319 وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَا هُنَا، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا حِينَ صَنَّفَ الْكِتَابَ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فَكَذَلِكَ هَا هُنَا الْمَوْلَى الْقَدِيمُ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَاكَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَةٍ فَهَا هُنَا كَذَلِكَ. 2513 - وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ فَدَاهُ بِثِيَابٍ مَعْلُومَةٍ، وَاخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ هَا هُنَا بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى بِهِ بِالدَّارِ (وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَإِنَّ) الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي. أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ فِي الْفَصْلَيْنِ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمُشْتَرِيَ بِبَيِّنَتِهِ يُثْبِتُ فِعْلَ نَفْسِهِ، وَالْمَوْلَى الْقَدِيمُ بِبَيِّنَتِهِ يُثْبِتُ فِعْلَ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِعْلُ الْمَرْءِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، لَا أَنْ يُثْبِتَ هُوَ فِعْلَ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ نَظِيرُ مَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ: إنَّهُ صَدَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي إقْرَارَانِ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْفِدَاءُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِمَا فَدَاهُ بِهِ مِنْ الثِّيَابِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ، فَالْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ فِيهِ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1320 وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ كَانَ اشْتَرَاهُ بِمَا لَا يَحِلُّ مِنْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُسْلِمًا فَلِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ. لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ شِرَاءً، وَإِنَّمَا كَانَ أَخْذَ مَالِ الْكَافِرِ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ. 2515 - وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ذِمِّيًّا فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمَيْتَةٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. لِأَنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّهِمْ، كَمَا فِي حَقِّنَا، فَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ شِرَاءً، لِأَنَّ الشِّرَاءَ اسْمٌ لِمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ. 2516 - وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا كَانَ شِرَاءً عَلَى حَقِيقَتِهِ. لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ. 2517 - ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ ذِمِّيًّا أَخَذَهُ فِي الْخَمْرِ بِالْمِثْلِ، وَفِي الْخِنْزِيرِ بِالْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَخَذَهُ فِيهِمَا بِالْقِيمَةِ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ. وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْخَمْرِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ. 2518 - وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْأَسْرِ بَيْنَ نَصْرَانِيٍّ وَمُسْلِمٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ ذِمِّيٌّ مِنْ الْعَدُوِّ بِالْخَمْرِ، فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ يَأْخُذُ نِصْفَهُ بِمِثْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1321 نِصْفِ ذَلِكَ الْخَمْرِ، وَالْمُسْلِمُ يَأْخُذُ نِصْفَهُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ، اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْمِثْلِ فِي نَصِيبِهِ، وَالْمُسْلِمُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ. 2519 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ مُسْلِمًا أَخَذَهُ الْمَوْلَيَانِ بِقِيمَتِهِ. لِأَنَّ الَّذِي جَرَى مِنْ الْمُسْلِمِ لَمْ يَكُنْ شِرَاءً، إذْ الْخَمْرُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. 2520 - وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ مُسْلِمًا أَخَذَ نِصْفَهُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُشْتَرِي بِنِصْفِ قِيمَتِهِ. لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي نَصِيبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْهَابِ دُونَ الشِّرَاءِ. وَأُخِذَ نِصْفُهُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ. لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي نَصِيبِهِ حَقِيقَةُ الشِّرَاءِ فَالْخَمْرُ مَالٌ فِي حَقِّهِ. 2521 - وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ نَصْرَانِيًّا أَخَذَ مِنْ الْمُسْلِمِ النِّصْفَ بِقِيمَتِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَمِنْ النَّصْرَانِيِّ النِّصْفَ بِمَا أَدَّى مِنْ الْخَمْرِ فِيهِ. لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْمِثْلِ إلَيْهِ. 2522 - وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِي الْأَصْلِ مَوْلَيَانِ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ بِالْخَمْرِ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ أَيْضًا، فَإِنَّ النِّصْفَ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1322 اشْتَرَاهُ الْمُسْلِمُ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَيَانِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالشِّرَاءِ حَقِيقَةً، وَالنِّصْفُ الَّذِي اشْتَرَاهُ النَّصْرَانِيُّ فَالْمَوْلَى الْمُسْلِمُ يَأْخُذُ ذَلِكَ النِّصْفَ بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا أَدَّى مِنْ الْخَمْرِ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَأْخُذُ بِالْمِثْلِ. لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ كَامِلٍ، وَحُكْمُ الْجُزْءِ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِ الْكُلِّ فِي الْوَجْهَيْنِ. 2523 - فَإِنْ كَانَا اشْتَرَيَاهُ بِخَنَازِيرِ فَإِنَّهُمَا يَأْخُذَانِ النِّصْفَ مِنْ الْمُشْتَرِي الْمُسْلِمِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ. لِأَنَّهُ مَا أَخَذَهُ بِالشِّرَاءِ حَقِيقَةً، بَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ. - وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَأْخُذَانِهِ مِنْ النَّصْرَانِيِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَنَازِيرِ. لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ ذَلِكَ النِّصْفَ بِالشِّرَاءِ حَقِيقَةً، وَالْخِنْزِيرُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي حَقِّ أَحَدٍ. 2524 - وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ أَخْذَ حِصَّتِهِ مِنْ الْعَبْدِ دُونَ الْآخَرِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا، لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَخْذِ ثَابِتٌ فِي النِّصْفِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَإِنْ أَبْطَلَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ. لِأَنَّ إبْطَالَهُ غَيْرُ عَامِلٍ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1323 [بَابٌ الْفِدَاءِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَاَلَّذِي لَا يَرْجِعُ] 134 - بَابٌ مِنْ الْفِدَاءِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَاَلَّذِي لَا يَرْجِعُ 2525 - وَلَوْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَزُوهُ بِعَسْكَرِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ جَيْشٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى اسْتَنْقَذُوهُ مِنْهُمْ، قَبْلَ أَنْ يُحْرِزُوهُ بِدَارِهِمْ، فَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ. لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِينَ لَمْ يَمْلِكُوهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، فَمَنْ وَصَلَ إلَى يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ. 2526 - فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ حَتَّى قَسَمَهُ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهُ فَقِسْمَتُهُ بَاطِلَةٌ، وَالْمَتَاعُ مَرْدُودٌ عَلَى أَهْلِهِ. لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تُصَادِفْ مَحَلَّهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْإِمَامِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يُصِيبُهُ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّمْلِيكِ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ رِضَى صَاحِبِهِ. 2527 - وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ صَارُوا ذِمَّةً. لِأَنَّهُمْ غَاصِبُونَ فَيَتَأَكَّدُ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ الرَّدِّ بِإِسْلَامِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1324 2528 - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» فَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ الْحَالَ، وَرَأَى أَنَّ إحْرَازَهُمْ بِالْعَسْكَرِ يَكُونُ تَامًّا فَخَمَّسَهُ وَقَسَمَهُ مَعَ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ يَرَى ذَلِكَ غَيْرَ إحْرَازٍ جَازَ مَا صَنَعَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يُبْطِلْهُ. لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ. 2529 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً فَقَضَى بِأَنَّ ذَلِكَ سَالِمٌ لَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا قَضَاءٌ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَمْلِكُونَهُ وَإِنْ أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَمْلِكُونَهُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ، وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ يَمْلِكُونَهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ. قُلْنَا: الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ هَلْ تَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ بِالْقَهْرِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ أَمْ لَا؟ (وَالْآخَرُ) أَنَّ الْإِحْرَازَ فِيمَا هُوَ مَحَلٌّ لِلتَّمْلِيكِ بِالْقَهْرِ هَلْ يَتِمُّ بِالْيَدِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا اجْتَهَدَ الْقَاضِي، وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ، وَأَنَّ الْقَهْرَ يَتِمُّ بِالْإِحْرَازِ بِالْعَسْكَرِ، بِدُونِ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، وَأَمْضَى الْحُكْمَ. كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اجْتِهَادًا فِي مَوْضِعِهِ، فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ نَافِذًا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ، أَوْ عَلَى الْغَائِبِ، أَوْ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِالنِّكَاحِ عَلَى غَائِبٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1325 فَإِنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ يَقُولُ: لَيْسَ لِلْفُسَّاقِ شَهَادَةٌ وَلَا لِلنِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ شَهَادَةٌ فِي النِّكَاحِ. وَلَكِنْ قِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَصْلَيْنِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ مِنْ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ فِيهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَتْبَعُ الدَّلِيلَ لَا الْقَائِلَ بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، لِأَنَّ هُنَاكَ الْقَاضِيَ مَا قَضَى بِالْقِسْمَةِ عَنْ اجْتِهَادِهِ، وَإِنَّمَا قَضَى بِذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِأَنَّ هَذَا الْمَالَ مُصَابٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ كَانَ قَضَاؤُهُ بَاطِلًا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَحَرِّي فِي بَابِ الْقِبْلَةِ، إذَا تَبَيَّنَ خَطَأَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، لَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَاَلَّذِي لَمْ يَجْتَهِدْ، وَلَمْ يُشْتَبَهْ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ صَلَّى إلَى جِهَتِهِ. ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْفِعْلِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الصَّوَابِ، مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الْخَطَأُ، وَمَا يُفْعَلُ عَنْ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الصَّوَابِ مَا أَمْكَنَ، وَالْإِمْكَانُ قَائِمٌ إذَا صَادَفَ قَضَاؤُهُ مَحَلًّا مُجْتَهَدًا فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَهُ رَقِيقٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ، فَبَاعَ الْقَاضِي رَقِيقَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ، ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِبَعْضِهِمْ أَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ دَبَّرَهُ فَإِنَّ بَيْعَ الْقَاضِي فِيهِ يَكُونُ بَاطِلًا. 2530 - وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِتَدْبِيرِهِ فَاجْتَهَدَ وَأَبْطَلَ تَدْبِيرَهُ لِأَنَّهُ وَصِيُّهُ وَبَاعَهُ فِي [الدَّيْنِ] ثُمَّ وَلِيَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى ذَلِكَ خَطَأً فَإِنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْأَوَّلَ فَعَلَهُ عَنْ اجْتِهَادِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1326 وَلِأَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِالْقَاضِي وَاجِبٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] . وَأَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ قَضَى بَعْدَ الْعِلْمِ عَنْ اجْتِهَادٍ فَلِذَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُ ذَلِكَ. 2531 - وَلَوْ أَنَّ تَاجِرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَ عَسْكَرَهُمْ فِي دَارِنَا وَفَدَى مَا أَصَابُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَالٍ وَأَخْرَجَهُ، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي الْفِدَاءِ الَّذِي أَدَّى بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا دَارَهُمْ، وَأَصَابُوا ذَلِكَ الْفِدَاءَ بِعَيْنِهِ، فَلَا سَبِيلَ لِلتَّاجِرِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ وَجَدَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا. لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَلَكُوا ذَلِكَ بِالْأَخْذِ مِلْكًا تَامًّا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً كَانَ سَالِمًا لَهُمْ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ مَا مَلَكُوا هَذَا الْمَالَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ، وَلَكِنْ بِتَمْلِيكِ صَاحِبِ الْمَالِ إيَّاهُمْ ذَلِكَ طَوْعًا فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَشْتَرُونَهُ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَمْلِكُونَهُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ فِيهِ حَقٌّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ مَا أَعْطَوْا بِمُقَابَلَتِهِ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِمُسْلِمٍ، وَلَكِنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ إذَا جَرَى السَّبَبُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، فَإِذَا جَرَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ يُجْعَلُ فِي حُكْمِ السَّلَامَةِ لَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُهِبَهُ مِنْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَتَلُوا مُسْلِمًا وَأَخَذُوا جِيفَتَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَعْطَوْهُمْ جُعْلًا لِيَأْخُذُوهُ فَيَدْفِنُوهُ، كَانَ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُمْ إنْ أَسْلَمُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1327 أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، وَكَانَ غَنِيمَةً سَالِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ إنْ ظَفِرُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزُوهُ بِدَارِهِمْ، فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسَرُوا أَحْرَارًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَدْخَلُوهُمْ دَارَهُمْ، ثُمَّ جَاءَهُمْ أَهْلُ الْأُسَارَى فَافْتَدَوْهُمْ بِمَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ يَكُونُ سَالِمًا لَهُمْ إذَا أَسْلَمُوا، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، وَيَكُونُ غَنِيمَةً سَالِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ هَا هُنَا أَحْرَزُوا الْمَالَ بِدَارِهِمْ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى هَذَا لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إذَا وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، كَمَا فِي الْمَالِ الَّذِي أَخَذُوهُ قَهْرًا وَأَحْرَزُوهُ. 2532 - فَإِنْ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: فَأَنَا هَكَذَا أَقُولُ قُلْنَا: هُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَوْ خَافُوا أَهْلَ الْحَرْبِ أَنْ يَسْتَأْصِلُوهُمْ فَصَالَحُوهُمْ عَلَى أَلَّا يَغْزُوهُمْ سَنَةً، عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ أَلْفَ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَقَبَضُوهَا، وَانْقَضَتْ السَّنَةُ، ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمِينَ ظَفِرُوا بِهِمْ، وَغَنِمُوا تِلْكَ الثِّيَابَ بِأَعْيَانِهَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ غَنِيمَةً لِمَنْ أَخَذَهَا، سَالِمَةً لَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ. لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ بِطِيبَةِ أَنْفُسِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مَا أُخِذَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ. 2533 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَاءَ مَدَدٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1328 لِلْمُسْلِمِينَ فَاسْتَنْقَذُوا الْمَالَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، قَبْلَ أَنْ يُحْرِزُوهُ بِدَارِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ غَنِيمَةً لِمَنْ أَصَابَهُ. بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا. فَعَرَفْنَا أَنَّ فِيمَا يَكُونُ مَأْخُوذًا بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْحَرْبِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ الِاسْتِئْصَالَ وَالْإِهْلَاكَ عَلَى النَّفْسِ وَالذَّرَارِيِّ فَيَجْعَلُونَ الْأَمْوَالَ فِدَاءً لِذَلِكَ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ نَدَبَ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «اجْعَلْ مَالَك دُونَ نَفْسِك» . وَقَدْ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، حِينَ أَحَسَّ الضَّعْفَ بِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ الْقُوَّةَ كَمَا قَالَهُ السَّعْدَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امْتَنَعَ مِنْهُ فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي الْجَوَازِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ. 2534 - وَلَوْ أَنَّهُمْ أَسَرُوا مُسْلِمًا فَافْتُدِيَ مِنْهُمْ بِسِلَاحِهِ أَوْ بِفَرَسِهِ، وَخَلَّوْا سَبِيلَهُ ثُمَّ ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِعَيْنِ ذَلِكَ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَمْ يُحْرِزُوهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْأَسِيرِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا مَجَّانًا، وَإِنْ كَانُوا أَحْرَزُوهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبَّ. لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَصَابُوا هَذَا الْمَالَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، فَإِنَّ يَدَهُمْ الثَّابِتَةَ عَلَى الْأَسِيرِ تَكُونُ ثَابِتَةً عَلَى الْمَالِ الَّذِي مَعَ الْأَسِيرِ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْمُصَابِ بِالِاسْتِيلَاءِ مَقْصُودًا، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَيَدُهُمْ عَلَى الْفِدَاءِ هُنَاكَ مَا ثَبَتَتْ إلَّا بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِ الْمَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1329 2535 - وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ حِينَ وَقَعَ هَذَا الْمَالُ فِي الْغَنِيمَةِ بَاعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ أَحْرَزُوهُ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ بَاعَهُ حِفْظًا عَلَى صَاحِبِهِ. لِأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ، وَلَا يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ صَاحِبُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ بَيْعُهُ نَافِذًا، بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي يَبِيعُ اللُّقَطَةَ، ثُمَّ يَأْتِي صَاحِبُهَا. 2536 - وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى أَيِّ طَرِيقٍ بَاعَهُ فَإِنَّ بَيْعَهُ يَكُونُ مَرْدُودًا. لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ، لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ قَالَ قَبْلَ هَذَا فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ فِي الدَّيْنِ، بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهُ: إذَا لَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ بَاعَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْعُهُ جَائِزًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُهُ. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْفَصْلَيْنِ رِوَايَتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: هَا هُنَا بَيْعُ الْمَالِ لِلْحِفْظِ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْقَاضِي، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَأَمَّا بَيْعُ التَّرِكَةِ بِالدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْقَاضِي، إذَا طَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ. فَلِهَذَا حَمَلْنَا هُنَاكَ مُطْلَقَ بَيْعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ إبْطَالِ التَّدْبِيرِ عَنْ اجْتِهَادٍ إذْ الْمُعَارَضَةُ لَا تَقَعُ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ وَغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، وَهَا هُنَا اسْتَوَى الْجَانِبَانِ فَحَمَلْنَا مُطْلَقَ بَيْعِهِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1330 فَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ بَعَثَ إلَى بَعْضِ أَهْلِهِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمَالٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِمَالِ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ مَالٍ الْأَسِيرِ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ الْمَأْمُورُ بِأَمَانٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمَالِ، فَهُوَ فَيْءٌ، وَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْمَال مَا وَصَلَ إلَى يَدِهِمْ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ هَا هُنَا بَلْ بِتَسْلِيمِ صَاحِبِهِ إلَيْهِمْ طَوْعًا. 2538 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا قَالُوا لَهُ: لَنَقْتُلَنَّك أَوْ لَتَفْدِيَن نَفْسَك. لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَلَّا يَدْفَعَ الْمَالَ إلَيْهِمْ، حِينَ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ مَعَهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ مَا أَثْبَتُوا الْيَدَ عَلَى الْمَالِ قَهْرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَالُ مَعَهُ حِينَ أَسَرُوهُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ دَفْعِ يَدِهِمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَاكَ لَوْ صَبَرَ حَتَّى قَتَلُوهُ كَانَتْ يَدُهُمْ ثَابِتَةً عَلَى هَذَا الْمَالِ، وَهَا هُنَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَأْمُورِ، الَّذِي أَمَرَهُ بِأَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ مَالِهِ. أَرَأَيْت لَوْ رُدَّ هَذَا الْفِدَاءُ بَعْدَ مَا وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، أَكَانَ يُرَدُّ عَلَى مَنْ أَدَّى أَوْ عَلَى مَنْ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ الْأَسِيرُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعِيدٌ مِنْ الْفِقْهِ. وَلَوْ وَقَعَ مُسْلِمٌ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ يُقَاتِلُهُمْ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ سِلَاحَهُ وَفَرَسَهُ وَيُؤَمِّنُوهُ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا ذَلِكَ الْمَالَ فَهُوَ فَيْءٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1331 لِأَنَّ يَدَهُمْ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَتْ إلَّا بِإِعْطَاءِ الرَّجُلِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ أَعْطَى وَهُوَ مُقَاتِلٌ مُمْتَنِعٌ مِنْهُمْ، وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ تَكُنْ يَدُهُمْ ثَابِتَةً عَلَى نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْأَسْرِ. 2539 - وَلَوْ حَاصَرَ الْمُشْرِكُونَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ فَصَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ أَيَّامًا مُسَمَّاةً، عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ رَقِيقًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسَمَّيْنَ، كَانُوا أَسَرُوهُمْ مِنْهُمْ، وَأُولَئِكَ الرَّقِيقُ عَبِيدٌ لِأُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَطَابَتْ أَنْفُسُ مَوَالِيهِمْ بِتَسْلِيمِهِمْ إلَيْهِمْ، ثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَتَى الْمُسْلِمِينَ مَدَدٌ فَقَاتَلُوهُمْ وَظَهَرُوا عَلَى أُولَئِكَ الرَّقِيقِ فَهُمْ فَيْءٌ. لِأَنَّ الْمَوَالِيَ أَعْطَوْهُمْ الْمُشْرِكِينَ بِطِيبَةِ أَنْفُسِهِمْ. 2540 - وَلَوْ كَانَ وَالِي الْمَدِينَةِ أَخَذَ أُولَئِكَ الرَّقِيقَ، بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ فَدَفَعَهُمْ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ ظَفِرَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ، قَبْلَ أَنْ يُحْرِزُوهُمْ بِدَارِهِمْ، رُدُّوا عَلَى مَوَالِيهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ رُدُّوا عَلَى مَوَالِيهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا. لِأَنَّهُمْ أُخِذُوا مِنْ الْمَوَالِي بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْآخِذُ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ فَيَدْفَعَهُ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْآخِذُ أَهْلَ الْحَرْبِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1332 2541 - فَإِنْ أَبَوْا أَخْذَهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْأَمِيرَ قِيمَتَهُمْ. لِأَنَّهُ غَصَبَهُمْ مِنْ الْمَوَالِي وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ، مَا لَمْ يَعُدْ بِهِ إلَى يَدِ مَوْلَاهُ، وَإِذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُمْ فَقَدْ مَلَكَهُمْ بِالضَّمَانِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ مَا لَوْ كَانُوا مِلْكًا لَهُ، فَأَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ بِغَيْرِ رِضَاهُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ إنْ يَأْخُذَهُمْ بِالْقِيمَةِ. وَلَا يُقَالُ: هُوَ قَدْ سَلَّمَهُمْ طَوْعًا، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُمْ طَوْعًا، عَلَى أَنْ يُتَمَلَّكُوا عَلَى الْمَوَالِي لَا عَلَيْهِ، فَبَعْدَ مَا اسْتَقَرَّ الْمِلْكُ لَهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الرِّضَى وَالطَّوَاعِيَةِ مِنْهُ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ قَهْرًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1333 [بَابُ فِدَاءِ الْعَبْدِ الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ] َ 2542 - رَجُلٌ غَصَبَ عَبْدًا ثُمَّ أَصَابَهُ الْمُشْرِكُونَ فَأَحْرَزُوهُ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ. 2543 - فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسْتَوْلَى عَلَى ذَلِكَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْهُ. لِأَنَّهُ حَقُّ الْآخِذِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَهُ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ. 2544 - فَإِنْ أَخَذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ الضَّمَانِ. لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ عَادَ إلَى يَدِهِ مَجَّانًا. 2545 - وَإِنْ أَخَذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ تِلْكَ الْقِيمَةَ. لِأَنَّهُ مَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَى مَالِهِ إلَّا بَعْدَ أَدَاءِ مِثْلِهِ فِي الْمَالِيَّةِ. فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ لَمْ تُسَلَّمْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَيَكُونُ لَهُ حَقُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1334 تَضْمِينِ الْغَاصِبِ الْقِيمَةَ بِاعْتِبَارِ الْغَصْبِ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَدَفَعَ بِجِنَايَةٍ كَانَ جَنَى عِنْدَ الْغَاصِبِ، أَوْ بِيعَ فِي دَيْنٍ كَانَ لَزِمَهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ. 2546 - وَإِنْ أَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ يَوْمَ غَصْبِهِ. لِأَنَّهُ مَا تَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ حِينَ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ أَخْذِهِ، قَبْلَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ. 2547 - ثُمَّ إذَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، فَيَقُومُ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ، بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ بِالْقِيمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغَاصِبُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَقَعْ الْعَبْدُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَكِنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ تَاجِرٌ فَأَخْرَجَهُ، فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ لَمْ يُضَمِّنْ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ. فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ، بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ غَصْبِهِ، وَمِنْ الثَّمَنِ الَّذِي غَرِمَ فِيهِ. لِأَنَّ التَّيَقُّنَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ فِي مِقْدَارِ الْأَقَلِّ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ بِيعَ الْعَبْدُ بِالدَّيْنِ، بَعْدَمَا رَدَّهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. 2548 - وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمَّنَ الْغَاصِبَ كَمَالَ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1335 لِأَنَّهُ حِينَ كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِثَمَنٍ وَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الثَّمَنِ كَانَ هُوَ كَالْهَالِكِ فِي يَدِهِ. 2549 - ثُمَّ الْخِيَارُ لِلْغَاصِبِ فِي أَخْذِهِ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ. لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ. 2550 - فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ حِينَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ إنَّمَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بِزَعْمِ الْغَاصِبِ بَعْدَ مَا حَلَفَ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَدَّى قِيمَتَهُ كَمَا قَالَ الْمَوْلَى، فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَدَّ الْقِيمَةَ عَلَى الْغَاصِبِ وَأَخَذَ الْعَبْدَ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ تِلْكَ الْقِيمَةَ، وَالْخِيَارُ فِي الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ لِلْغَاصِبِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَفَّرْ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَالِيَّةِ حِينَ ظَهَرَ أَنَّ قِيمَتَهُ كَمَا قَالَ الْمَوْلَى، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرُدَّ الْقِيمَةَ الْمَقْبُوضَةَ وَقَالَ: أَنَا أَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقِيمَةِ وَقْتَ الْغَصْبِ. وَبِمَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ الْآنَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ كَانَ هَذَا الْمِقْدَارَ. وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ. وَبِالظَّاهِرِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ، فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ فَضْلَ الْقِيمَةِ إذَا أَبَى أَنْ يَرُدَّ الْمَقْبُوضَ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ. فَوَجَدَ قِيمَةَ الْعَبْدِ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1336 قَالَ الْمَوْلَى فِي التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ فِيمَا إذَا أَخَذَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْقِيمَةَ بِزَعْمِ الْغَاصِبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ. 2551 - وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي الْغَنِيمَةِ فَحَضَرَ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مَعَ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِتَخْيِيرِ الْمَوْلَى، فَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْقِيمَةَ الْمَقْبُوضَةَ، وَأَخَذَ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ أَبَى رَدَّ الْقِيمَةِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الْغَاصِبِ، وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِتِلْكَ الْقِيمَةِ، حِينَ أَبَى أَنْ يَرُدَّهُ الْقِيمَةَ، فَكَأَنَّ الْغَاصِبَ كَانَ أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِهِ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. 2552 - وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ حَتَّى وَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ بِالْقِسْمَةِ فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَدَّ الْقِيمَةَ عَلَى الْغَاصِبِ، ثُمَّ أَخَذَهُ بِقِيمَتِهِ، مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ [بِالْأَقَلِّ] مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ غَصْبِهِ، وَمِنْ قِيمَتِهِ الْمَدْفُوعَةِ إلَى مَنْ وَقَعَ سَهْمُهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ تِلْكَ الْقِيمَةَ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ، وَلَوْ كَانَ مَوْلَاهُ إنَّمَا أَخَذَ الْقِيمَةَ مِنْ الْغَاصِبِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ لَهُ، أَوْ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ عَنْ الْغَاصِبِ، أَوْ بِصُلْحٍ كَانَ بَيْنَهُمَا، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1337 لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اسْتَقَرَّ لِلْغَاصِبِ بِمَا أَدَّى مِنْ الْقِيمَةِ فَانْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. 2553 - وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ إجَارَةً فَأَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ وَجَدَهُ الْمُسْتَأْجِرُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَ هُوَ الْخَصْمُ، فَيَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الْإِجَارَةِ كَمَا كَانَ لِأَنَّ يَدَهُ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً عَلَى الْمَوْلَى، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لَمْ يَبْطُلْ، فَلِهَذَا كَانَ هُوَ الْخَصْمُ فِي اسْتِرْدَادِهِ. 2554 - وَيَبْطُلُ عَنْهُ الْأَجْرُ بِمِقْدَارِ مَا كَانَ فِي يَدِ الْمُشْرِكِينَ. لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. 2555 - فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ فَرَدَّهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهُ فَجَحَدَ الْإِجَارَةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ وَدِيعَةً فِي يَدِهِ، أَوْ عَارِيَّةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إعَادَةُ الْبَيِّنَةِ. لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَا قَضَى بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ حِينَ رَدَّهُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ عَلَى غَائِبٍ لَيْسَ عَنْهُ خَصْمٌ، وَهُوَ يَسْتَغْنِي عَنْ إثْبَاتِ الْإِجَارَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ يَدُهُ فِيهِ بِجِهَةِ الْوَدِيعَةِ، أَوْ الْعَارِيَّةِ أَوْ الْإِجَارَةِ، فَلِهَذَا لَا يَتَضَمَّنُ قَضَاؤُهُ بِالرَّدِّ الْقَضَاءُ بِالْإِجَارَةِ عَلَى الْغَائِبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1338 وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لَهُ: إنْ شِئْت فَخُذْهُ بِالْقِيمَةِ، وَأَنْتَ مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَدَّهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَعَادَ إلَى يَدِهِ عَلَى الْإِجَارَةِ كَمَا كَانَ. وَإِنَّمَا كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَهُ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَكُنْ فِي ضَمَانِهِ. 2557 - وَلَوْ أَبَى أَنْ يَفْدِيَهُ مَا كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا، فَإِذَا كَانَ هُوَ بِالْفِدَاءِ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهِ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ مَوْلَاهُ فَأَنْكَرَ الْإِجَارَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ، وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ مَاضٍ، بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ يَدِهِ مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَصْلًا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حِينَ قُضِيَ لَهُ بِالْأَخْذِ فَقَدْ قُضِيَ بِالْإِجَارَةِ عَلَى الْغَائِبِ، بِمَا قَامَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَجُعِلَ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فِي إنْكَارِ الْإِجَارَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِمُجَرَّدِ إثْبَاتِ الْيَدِ بِنَفْسِهِ، قَبْلَ الْأَسْرِ لِمَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ يُحْيِي بِالْأَخْذِ مِلْكًا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْأَسْرِ، إمَّا فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمُسْتَأْجِرُ يُحْيِي مِلْكَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ، فَأَمَّا الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ فَهُوَ لَا يُحْيِي مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الْأَسْرِ، فَيَكُونُ أَخْذُهُ بِالْقِيمَةِ، فِي حُكْمِ ابْتِدَاءِ التَّمَلُّكِ بِعِوَضٍ، وَلَا يَكُونُ فِدَاءً لِلْمَأْسُورِ، فَأَمَّا قَبْلَ الْقِسْمَةِ إنَّمَا يَأْخُذُهُ مَجَّانًا لِيُعِيدَهُ إلَى يَدِهِ، كَمَا كَانَ، وَالْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ فِي هَذَا كَالْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ أَبَى الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالْقِيمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1339 أَوْ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى حَضَرَ مَوْلَاهُ فَأَخَذَهُ بِذَلِكَ، كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ حَتَّى يُعِيدَهُ فِي الْإِجَارَةِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا مَضَى، لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بَاقٍ بَيْنَهُمَا فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ كَانَ مُنْعَقِدًا جُمْلَةً وَلَكِنْ بِفَوَاتِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ، وَلَيْسَ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَقُولَ إنِّي فَدَيْته فَلَا أُعْطِيكَهُ حَتَّى تُعْطِيَنِي الْفِدَاءَ، لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَكُنْ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَمَا كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْفِدَاءِ حَتَّى يَحْبِسَهُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ بِالْأَخْذِ إعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَقَدْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَيَعُودُ كَمَا كَانَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَفَدَاهُ الْمُؤَاجِرُ بِالْأَرْشِ. 2558 - وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ وَجَدَهُ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَخْذِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَقَدْ كَانَتْ يَدُهُ مُسْتَحِقَّةً عَلَى الرَّاهِنِ، فَلَا يَنْتَظِرُ حُضُورَ الرَّاهِنِ فِي أَخْذِهِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ أُخِذَ عَنْ يَدِهِ ثُمَّ بَعْدَ الْأَخْذِ يَعُودُ رَهْنًا كَمَا كَانَ، فَإِنْ حَضَرَ الرَّاهِنُ فَأَنْكَرَ الدَّيْنَ وَالرَّهْنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، إلَّا أَنْ يُعِيدَ الْمُرْتَهِنُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ كَانَ بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ لَا بِثُبُوتِ صِفَةِ يَدِهِ وَهُوَ يَدُ الرَّهْنِ. 2559 - فَإِنْ حَضَرَ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، فَإِنْ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ عَادَ رَهْنًا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْأَسْرِ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ مَوْلَاهُ فَأَرَادَ أَخْذَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1340 كَانَ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ سَوَاءً، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ فَلِلْمَوْلَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَالْفِدَاءُ فِي الْمَضْمُونِ يَكُونُ عَلَى الضَّامِنِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِنِصْفِ الْفِدَاءِ، وَلَا يَدْفَعُ الْعَبْدَ إلَيْهِ حَتَّى يَقْبِضَ ذَلِكَ، وَهَذَا نَظِيرُ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ إذَا فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ، وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ، وَفِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ، فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي الْفَضْلِ فِي قَوْلِهِمَا، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْفِدَاءِ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ إنْ أَنْكَرَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ وَالدَّيْنَ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا قَضَى هَا هُنَا لِلْمُرْتَهِنِ بِالْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحْيَا بِهِ مِلْكَ الْيَدِ الْمُسْتَحَقِّ لَهُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، فَكَانَ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ خَصْمًا عَنْ الرَّاهِنِ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ. 2560 - وَإِنْ حَضَرَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا فَأَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يَفْدِيَهُ وَفَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ عَادَ رَهْنًا كَمَا كَانَ، وَالْمُرْتَهِنُ مُتَطَوِّعٌ، فِيمَا أَدَّى مِنْ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، بِمَنْزِلَةِ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّ عِنْدَ حَضْرَةِ الرَّاهِنِ يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ مُتَطَوِّعًا فِي الْفِدَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ الْمُرْتَهِنُ وَحَضَرَ الرَّاهِنُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ كَانَ مَرْهُونًا عِنْدَ فُلَانٍ بِمِائَةٍ فَإِنْ وُجِدَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ قُضِيَ لَهُ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1341 لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ مَجَّانًا بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنْ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَقْضِيَهُ دَيْنَهُ، فَلَا يَدْفَعُهُ الْقَاضِي إلَيْهِ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ نَاظِرٌ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ يَضَعُهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، حَتَّى يَحْضُرَ الْمُرْتَهِنُ فَيَقْبِضَهُ. 2561 - وَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ وَجَدَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَأَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالثَّمَنِ قُضِيَ لَهُ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ يُحْيِي مِلْكَهُ الْقَدِيمَ بِهَذَا الْأَخْذِ. 2562 - ثُمَّ إنْ كَانَ الْفِدَاءُ مِثْلَ قِيمَةِ الرَّهْنِ أَوْ أَكْثَرَ دَفَعَهُ الْقَاضِي إلَيْهِ، وَلَمْ يَضَعْهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ. لِأَنَّ الْفِدَاءَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ هَا هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَالِيَّةَ الرَّهْنِ كَانَتْ فِي ضَمَانِهِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ لِلرَّاهِنِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِمَا غَرِمَ مِنْ الْفِدَاءِ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْفِدَاءَ، فَلِهَذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ: بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ. فَإِذَا أَخَذَهُ ثُمَّ حَضَرَ الْمُرْتَهِنُ قِيلَ لَهُ: إنْ شِئْت فَأَدِّ الْفِدَاءَ وَخُذْهُ رَهْنًا كَمَا كَانَ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْهُ، وَقَدْ بَطَلَ دَيْنُك، لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ هَلَكَتْ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، حِينَ لَمْ يَتَمَكَّنْ الرَّاهِنُ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِالْفِدَاءِ، فَيُجْعَلُ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَوْفِي لِدَيْنِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ الرَّاهِنُ مُتَبَرِّعًا فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ إحْيَاءَ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ فِي فَضْلِ الْفِدَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي الْفِدَاءِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِهِ إحْيَاءَ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ، إذْ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْفِدَاءُ الَّذِي فَدَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1342 بِهِ الرَّاهِنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَضَعُهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، وَلَا يَدْفَعُهُ إلَى الرَّاهِنِ. لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ الرَّاهِنَ يَصِيرُ مُوفِيًا لِلْمُرْتَهِنِ بِمَا أَدَّى ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ دَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ بِهِ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ لَا يَبْطُلُ، بِاسْتِيفَائِهِ بَعْضَ الدَّيْنِ، فَلِهَذَا وَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، فَإِذَا حَضَرَ الْمُرْتَهِنُ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى الْفِدَاءَ وَكَانَ رَهْنًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْأَسْرِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْفِدَاءَ كَانَ رَهْنًا عِنْدَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ، لِأَنَّ بِتَعَذُّرِ الْفِدَاءِ قَدْ صَارَ هُوَ مُسْتَوْفِيًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَلِلْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَكَانَ قِصَاصًا بِهِ. فَإِنْ مَاتَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي فَدَاهُ، لِأَنَّهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا جَمِيعَ دَيْنِهِ، وَظَهَرَ أَنَّهُ فِي مِقْدَارِ الْفِدَاءِ قَدْ اسْتَوْفَاهُ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فَدَاهُ بِدَرَاهِمَ وَكَانَ الدَّيْنُ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِحِصَّةِ الْفِدَاءِ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ حَقِيقَةً، حَتَّى لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً رَجَعَ فِي ذَلِكَ الْمُسْتَوْفَى بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ ضَمَانُ اسْتِيفَاءٍ، وَالِاسْتِيفَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْجِنْسِ لَا بِخِلَافِ الْجِنْسِ، وَالْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِصِفَةِ الْمَالِيَّةِ، فَلِهَذَا كَانَ رُجُوعُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الدَّيْنِ، لَا مِنْ جِنْسِ الْفِدَاءِ. 2563 - وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَوْهُوبَ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَحْرَزَهُ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ فَحَضَرَ الْوَاهِبُ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1343 لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ، وَثُبُوتُ حَقِّ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ الْمِلْكِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ، وَقَدْ كَانَا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ حِينَ أُسِرَ. 2564 - فَإِذَا أَخَذَهُ رَجَعَ فِيهِ الْوَاهِبُ. لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ أَعَادَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَقَدْ كَانَ حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ. 2565 - وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ غَائِبًا فَلَا سَبِيلَ لِلْوَاهِبِ عَلَيْهِ. لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مِلْكِهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ. فَمَا لَمْ يَعُدْ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ لَا يَظْهَرُ فِعْلُ حَقِّهِ. 2566 - وَإِنْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ حِينَ حَضَرَ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ] لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ، وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ، ثُمَّ قَضَى لِلْوَاهِبِ بِالرُّجُوعِ فِيهِ. لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِمِلْكِهِ حَقُّ الْوَاهِبِ، وَقَدْ جَاءَ الْوَاهِبُ طَالِبًا لِحَقِّهِ. 2567 - وَهُوَ فِي هَذَا الْإِبَاءِ مُتَعَنِّتٌ، قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْعَيْنِ، لَا إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ. لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ مَجَّانًا، وَالْقَاضِي لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْمُتَعَنِّتِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَاهِبِ بِمِلْكِهِ قَامَ طَلَبُ الْوَاهِبِ بِحَضْرَتِهِ مَقَامَ طَلَبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1344 وَإِنْ كَانَا حَضَرَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، أَوْ وَجَدَاهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَخَذَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْقِيمَةِ فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ. لِأَنَّهُ عَادَ كَمَا كَانَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. 2569 - فَإِنْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَلْيَرُدَّ الْوَاهِبُ عَلَيَّ الْفِدَاءَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ. لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى غَيْرِهِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الضَّمَانِ. 2570 - وَإِنْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَا أُرِيدُ أَخْذَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَنِّتٍ فِي هَذَا الْإِبَاءِ، بَلْ هُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْتِزَامِ غُرْمٍ غَيْرِ مُفِيدٍ فِي حَقِّهِ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْتِزَامِ الْغُرْمِ. 2571 - وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ وَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ قَالَ الْوَاهِبُ أَنَا أَفْدِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَسْرَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالْفِدَاءِ لِمَنْ يُحْيِي بِهِ مِلْكَهُ وَالْوَاهِبُ هَا هُنَا بِالْفِدَاءِ يُحْيِي مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ هَذَا الْفِدَاءِ، فَلَا يَصِيرُ الْوَاهِبُ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ بَعْدَ مَا صَحَّ الِامْتِنَاعُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1345 وَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ عَبْدًا جَانِيًا فَإِنْ وَجَدَهُ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَقَدْ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، كَمَا كَانَ، فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ الْفِدَاءِ. وَإِنْ حَضَرَ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ دُونَ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. لِأَنَّ الْأَسْرَ مَا وَقَعَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا عَلَى يَدِهِ، إنَّمَا كَانَ حَقُّهُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى فَمَا لَمْ يَظْهَرْ مَحَلُّ حَقِّهِ لَا تُسْمَعُ خُصُومَتُهُ. 2573 - فَإِنْ حَضَرَ الْمَوْلَى فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ قِيلَ لَهُ: اخْتَرْ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ. لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إعَادَتِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَيُجْعَلُ هَذَا التَّمَكُّنُ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ عَوْدِ الْمِلْكِ إلَيْهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ. 2574 - فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ. لِأَنَّهُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَخْذِ مَعَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ مُتَعَنِّتٌ قَاصِدٌ إلَى إضْرَارِ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ. 2575 - وَإِنْ فَدَاهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ قِيلَ لَهُ: خُذْهُ لِنَفْسِك إنْ شِئْت. لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ حَقُّهُ، فَخَلَصَ الْحَقُّ فِي الْأَخْذِ لِلْمَوْلَى، وَلَهُ رَأْيٌ فِي إيصَالِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1346 2576 - وَإِنْ حَضَرَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلِمَوْلَاهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالْقِيمَةِ، وَبَعْدَ الْفِدَاءِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ بَيْنَ الْفِدَاءِ بِالْأَرْشِ. لِأَنَّهُ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ. 2577 - وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْدِيَهُ فَلَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْتِزَامِ الْغُرْمِ بِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ يَأْخُذُهُ مِنْهُ. 2578 - ثُمَّ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. لِأَنَّ مَحَلَّ حَقِّهِ فَاتَ، لَا بِصُنْعِ الْمَوْلَى، فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي حَقِّهِ مُخْتَارًا وَلَا مُسْتَهْلِكًا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ مُسْتَهْلِكًا حِينَ امْتَنَعَ مِنْ أَخْذِهِ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ؟ قُلْنَا: هَذَا أَنْ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهُ مَجَّانًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ مَجَّانًا إلَّا بَعْدَ الْتِزَامِ غُرْمٍ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ بِسَبَبِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْتِزَامِ غُرْمٍ، شَاءَ أَوْ أَبَى. 2579 - وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَدِينًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ وُجِدَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ مَوْلَاهُ وَأَتْبَعَهُ الدَّيْنُ. لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ ثَابِتٌ فِي مَالِيَّتِهِ. 2580 - فَإِنْ حَضَرَ الْغَرِيمُ وَلَمْ يَحْضُرْ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى. لِأَنَّ الْأَسْرَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا عَلَى يَدِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1347 وَلَكِنَّهُ إنْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَيْنِهِ وَقَفَ الْقَاضِي الْعَبْدَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى، وَلَمْ يَقْسِمْهُ فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ اسْتِحْقَاقُ مَالِيَّتِهِ بِالدَّيْنِ لِلطَّالِبِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِالْقِسْمَةِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَالْوَاهِبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى وَالْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلَا يَظْهَرُ قَبْلَ عَوْدِ مِلْكِهِمَا، وَأَمَّا الدَّيْنُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، فَاسْتِحْقَاقُ الْمَالِيَّةِ هَا هُنَا ثَابِتٌ، سَوَاءٌ أَخَذَهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ. 2582 - فَإِذَا حَضَرَ الْمَوْلَى وَفَدَاهُ بِالدَّيْنِ سَلِمَ الْمِلْكُ لَهُ، إنْ أَبَى بِيعَ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ. لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُسْتَوْفَى مِنْ مَالِيَّتِهِ بِالْبَيْعِ فِيهِ فِي مِلْكِ مَنْ كَانَ. 2583 - وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْغَرِيمُ حَتَّى قَسَمَ، أَوْ وَجَدَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ فِي الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ أَخَذَهُ بِيعَ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى وَإِنْ أَبَى [أَنْ] يَأْخُذَهُ بِيعَ فِي الدَّيْنِ فِي مِلْكِ مَنْ وَجَدَهُ الْغَرِيمُ فِي مِلْكِهِ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِالدَّيْنِ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَبْطُلُ عَنْ مَالِيَّتِهِ بِتَحَوُّلِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَوْلَى إلَى غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَدِينَ إذَا أُعْتِقَ كَانَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِدَيْنِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَإِنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ لَا يَبِيعُهُ بِشَيْءٍ بَعْدَ الْعِتْقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1348 2584 - فَإِنْ بِيعَ فِي الدَّيْنِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ، عُوِّضَ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ اُسْتُحِقَّتْ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى أَخْذِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أُعْطِيَ بِالْقِيمَةِ عَبْدًا لَا قِسْمَةَ لَهُ. 2585 - وَإِنْ بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ الثُّلُثُ عُوِّضَ مِقْدَارَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، بِقَدْرِ مَا اُسْتُحِقَّ بِالدَّيْنِ. وَإِنْ حَضَرَ الْغَرِيمُ فَأَثْبَتَ دَيْنَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُهُ فِي الدَّيْنِ. لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِيَّتِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى، وَفِي التَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ إضْرَارٌ بِالْغَرِيمِ، فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ فِي الدَّيْنِ. 2586 - فَإِنْ حَضَرَ مَوْلَاهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ يَدِ مَنْ يَجِدُهُ فِي يَدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِنَقْضِ التَّصَرُّفِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْقِسْمَةَ لِيَأْخُذَهُ مَجَّانًا، فَكَذَلِكَ لَا يَنْقُضُ الْبَيْعَ الثَّانِيَ لِيَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي، حَتَّى يُعِيدَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَرَادَ الْغَرِيمُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ مَرَّةً، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِشَيْءٍ آخَرَ حَتَّى يُعْتَقَ الْعَبْدُ، كَمَا لَوْ بِيعَ لَهُ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْأَسْرِ مَرَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1349 2587 - فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ: أَنَا أَرْجِعُ بِمَا أَخَذَ مِنِّي الْغَرِيمُ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ عَلَى الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنِّي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ عِوَضَ مِلْكِهِ مَرَّةً، فَإِنْ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِسَبَبِ دَيْنِ الْعَبْدِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ مَرَّةً أُخْرَى. 2588 - وَلَكِنْ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ بِمَا أُخِذَ مِنْهُ بِجِهَةِ دَيْنِهِ، فَيُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى ذَلِكَ عَنْهُ. لِأَنَّ الْعَبْدَ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَقَدْ كَانَتْ مَالِيَّتُهُ فِي مِلْكِهِ مُسْتَحَقَّةٌ بِدَيْنِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِيعَ فَإِنَّهُ يُبَاعُ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ، فَإِذَا بِيعَ مَرَّةً وَصُرِفَ إلَى دَائِنِهِ الثَّمَنُ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ فِي مَالِيَّتِهِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْغَرِيمِ فِي الرُّجُوعِ بِهِ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى. لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَطَوِّعٍ فِيمَا أَدَّى، بَلْ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ بِمِلْكِهِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، وَهَذَا دَيْنٌ آخَرُ سِوَى مَا بِيعَ الْعَبْدُ فِيهِ، وَقَدْ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا فِيهِ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى. 2589 - وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ فَدَاهُ بِدَيْنِهِ، ثُمَّ حَضَرَ مَوْلَاهُ وَأَخَذَهُ بِالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: فِي عِتْقِ الْعَبْدِ الَّذِي أَدَّى عَنْهُ الدَّيْنَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، فَإِنْ فَدَيْته بِذَلِكَ وَإِلَّا بِيعَ لَهُ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1350 لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ مُضْطَرًّا إلَى أَدَاءِ ذَلِكَ الْفِدَاءِ، فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ، وَلَكِنَّ الضَّرُورَةَ إنَّمَا تَحَقَّقَتْ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، فَيَكُونُ رُجُوعُهُ فِي رَقَبَتِهِ بِمِقْدَارِ الْأَقَلِّ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَقَدْ كَانَتْ مَالِيَّتُهُ مُسْتَحَقَّةً بِالدَّيْنِ، فَإِنَّمَا يَعُودُ كَمَا كَانَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لِلْمَوْلَى مَجَّانًا مَا لَمْ يَقْضِ عَنْهُ الدَّيْنَ، وَمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ إلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فِدَاءٌ لِمِلْكِهِ لَا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ مَالِيَّتِهِ، بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَدِينِ إذَا جَنَى جِنَايَةً، فَفَدَاهُ الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ عَلَى حَالِهِ. 2590 - وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ حَضَرَ الْغُرَمَاءُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُبْطِلُوا تَصَرُّفَهُ. لِأَنَّ دَيْنَهُمْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، كَمَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى قَبْلَ الْأَسْرِ، فَكَمَا لَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْمَوْلَى وَهِبَتُهُ فِيهِ بِغَيْرِ رِضَى الْغُرَمَاءِ، فَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ. 2591 - فَإِنْ لَمْ يُبْطِلُوا حَتَّى حَضَرَ الْمَوْلَى فَأَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ بِالثَّمَنِ، أَوْ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ حَضَرَ الْغُرَمَاءُ، فَأَرَادُوا إبْطَالَ الْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ لَهُمْ حَقُّ الْإِبْطَالِ فِي الْمِلْكِ الْحَادِثِ فِيهِ بَعْدَ مَا اشْتَغَلَ بِدَيْنِهِمْ وَقَدْ ارْتَفَعَ كُلُّ مِلْكٍ حَادِثٍ، حِينَ أَخَذَهُ الْمَوْلَى، وَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَفِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَادَ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْأَسْرِ، فَيُبَاعُ فِي دُيُونِهِمْ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى. 2592 - وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً فَوَجَدَهُ الْمُودَعُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ الْمُسْتَعِيرُ كَانَ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَاهُ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1351 لِأَنَّ الْأَسْرَ كَانَ مِنْ يَدِهِمَا، وَحَقُّ الْأَسْرِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ، فَيُعَادُ إلَى يَدِهِمَا عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْأَسْرِ. 2593 - فَإِنْ جَاءَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَأَرَادَا الْأَخْذَ بِالْقِيمَةِ، أَوْ وَجَدَاهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَلَيْسَ لَهُمَا حَقُّ الْأَخْذِ. لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالْفِدَاءِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ يُحْيِي بِالْأَخْذِ مِلْكًا قَدْ كَانَ لَهُ، وَالْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مِلْكٌ قَبْلَ الْأَخْذِ، فَلَوْ أَخَذَاهُ بِالْفِدَاءِ كَانَ ذَلِكَ تَمَلُّكًا مِنْهُمَا الْعَبْدَ بِالْبَدَلِ ابْتِدَاءً، وَمَنْ فِي يَدِهِ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى ابْتِدَاءِ التَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ. 2594 - وَإِنْ قَالَا: نَحْنُ نَتَطَوَّعُ بِالْفِدَاءِ عَنْ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ فِيهِ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ قَبْلَ الْأَخْذِ، لِيَتَطَوَّعَا بِفِدَاءِ مِلْكِهِ، وَلَا شَيْءَ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ لِيَتَبَرَّعَا بِأَدَاءِ ذَلِكَ عَنْهُ. 2595 - وَلَكِنْ إنْ حَضَرَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْفِدَاءِ. لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يُحْيِي قَدِيمَ مِلْكِهِ. 2596 - وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ وَوَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ بِالْقِسْمَةِ، فَلَحِقَهُ دَيْنٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ أَوْ بِالتَّصَرُّفِ، بِأَنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْفِدَاءِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَخْذِ بِالْفِدَاءِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1352 فَلَا يَمْتَنِعُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَإِذَا أَخَذَهُ تَبِعَهُ الدَّيْنُ فَبِيعَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى. لِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَابِتٌ فِي مَالِيَّتِهِ فَيَدُورُ مَعَهَا أَيْنَمَا دَارَتْ، بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي إذَا لَحِقَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ دُفِعَ بِالْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ 2597 - وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَدِينِ حَتَّى صَارَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ لَمْ يَرْغَبْ فِي أَخْذِهِ بِالْفِدَاءِ لِأَجْلِ دَيْنِهِ، فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ وَبِيعَ فِي الدَّيْنِ فِي مِلْكِ مَنْ لَهُ الْعَبْدُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِالدَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَوْلَاهُ بِالدَّيْنِ حَتَّى أَخَذَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ. لِأَنَّ الدَّيْنَ عَيْبٌ فَكَانَ ظُهُورُ هَذَا الْعَيْبِ بَعْدَ أَخْذِهِ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ عَيْبٍ آخَرَ، كَانَ حَدَثَ بِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَغِبَ فِي أَخْذِهِ بِالْفِدَاءِ لِيَعُودَ إلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ كَمَا كَانَ، فَإِنَّ مَالِيَّتَهُ كَانَتْ فَارِغَةً، وَالْآنَ عَادَ إلَيْهِ مُسْتَحَقُّ الْمَالِيَّةِ. 2598 - فَإِنْ رَدَّهُ وَاسْتَرَدَّ مَا أَدَّى بِيعَ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ عِنْدَ مَنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ بِيعَ فِي الدَّيْنِ عِنْدَ الْمَوْلَى. لِأَنَّهُ رَضِيَ بِعَيْبِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ حِينَ أَخَذَهُ. 2599 - فَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ غَائِبًا حِينَ أَثْبَتَ الْغُرَمَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1353 دَيْنَهُمْ. فَقَالَ الْمَوْلَى: أَنَا أَرُدُّهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُمْهِلُهُ فِي ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَإِنْ حَضَرَ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا بَاعَهُ لِلْغُرَمَاءِ. لِأَنَّ دَيْنَهُمْ ثَابِتٌ عَلَى الْعَبْدِ، وَفِي التَّأْخِيرِ مُدَّةً طَوِيلَةً إضْرَارٌ بِهِمْ، فَأَمَّا فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ لَا يَكُونُ فِي التَّأْخِيرِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْمَوْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَالَ لَهُمْ: هَاتُوا مَنْ يَشْتَرِيهِ لِأَبِيعَهُ لَكُمْ احْتَاجُوا إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمُدَّةِ حَتَّى يُحْضِرُوا الْمُشْتَرِيَ. 2600 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادُوا بَيْعَ الْعَبْدِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ فَطَلَبَ الْمُهْلَةَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لِيَنْظُرَ أَيُّ الْوَجْهَيْنِ أَنْفَعُ لَهُ، أَيْ الْبَيْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةُ الْمُهْلَةِ وَلَمْ يَحْضُرْ فَبِيعَ فِي الدَّيْنِ [أَوْ فَدَاهُ] ثُمَّ حَضَرَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِيعَ فَقَدْ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ، وَالْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ إنَّمَا كَانَتْ لَهُ مَا بَقِيَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ فَلَا. 2601 - وَإِنْ كَانَ فَدَاهُ فَقَدْ زَالَ الْعَيْبُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الْعَيْبِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَيْبِ، وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ الْمَأْسُورُ مِنْهُ حَتَّى طَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْهُ دَيْنَهُمْ فَفَدَاهُ مَنْ فِي يَدِهِ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْفِدَاءِ. لِأَنَّهُ طَهُرَ مِنْ الدَّيْنِ فَعَادَ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1354 2602 - وَبَعْدَ مَا أَخَذَهُ الْمَأْسُورُ مِنْهُ لَا يَكُونُ لِلَّذِي فَدَاهُ بِالدَّيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا فَدَاهُ مِنْ دَيْنٍ كَانَ حَادِثًا فِي مِلْكِهِ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِهَذَا الدَّيْنِ الْمَالِيَّةُ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَهُنَاكَ إنَّمَا كَانَ فِدَاهُ سَابِقًا عَلَى مِلْكِهِ، وَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ مَالِيَّةً هِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ تِلْكَ الْمَالِيَّةُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. 2603 - وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَارَ بَيْعَهُ فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ فَأَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ فِي مِلْكِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ. وَاَلَّذِي يُقَرِّرُ الْفَرْقَ أَنَّ الدَّيْنَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ، فَإِذَا كَانَ حَادِثًا فِي مِلْكِهِ كَانَ عُهْدَةُ ذَلِكَ الْعَيْبِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ كَانَ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ الْعَيْبِ، فَكَيْفَ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمَأْسُورِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِهِ وَالْعَيْبُ الْأَوَّلُ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَيْبِ، فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْغُرْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَيْبِ، فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ قَبْلَ الْأَسْرِ فَبَاعَهُ الْقَاضِي بِالدَّيْنِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَتَوَى فِي يَدِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1355 قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْغُرَمَاءِ ثُمَّ حَضَرَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ فَأَخَذَهُ بِالْفِدَاءِ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْعَبْدِ سَبِيلٌ حَتَّى يُعْتَقَ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِيعَ لَهُمْ مَرَّةً فِي الدَّيْنِ، وَالْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْبَيْعِ عَامِلٌ لَهُمْ، فَهَلَاكُ الثَّمَنِ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهِ فِي أَيْدِيهِمْ. 2604 - فَلِهَذَا لَا يَبِيعُونَ الْعَبْدَ بِشَيْءٍ آخَرَ حَتَّى يُعْتَقَ، فَلَيْسَ لِمَنْ بِيعَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ مِنْهُ بِشَيْءٍ هَا هُنَا. لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغُرَمَاءِ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِمْ عَنْ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّ الرُّجُوعِ لَهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِمِلْكِهِ، وَكَانَ مُجْبَرًا عَلَى ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، فَإِذَا لَمْ يَصِرْ هَا هُنَا قَاضِيًا شَيْئًا لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْغُرَمَاءَ لَوْ أَبْرَءُوا الْعَبْدَ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي كَانَ الثَّمَنُ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، الَّذِي بِيعَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ تَوَى مَالُهُ فِي يَدِ الْقَاضِي فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْعَبْدِ، أَوْ يُقَالَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ لَمَّا لَمْ يَصِرْ قَاضِيًا شَيْئًا مِنْ دَيْنِ الْعَبْدِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ الثَّمَنُ الْمَقْبُوضُ قَبْلَ الدَّفْعِ إلَى الْغُرَمَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. 605 - وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ بَغْلَتِهِ، مَا عَاشَ، فَإِذَا مَاتَ رَجَعَ إلَى وَارِثِهِ وَأَوْصَى بِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ أَوْ أَوْصَى ظَهْرَ فَرَسِهِ لِرَجُلٍ فِي حَيَاتِهِ، وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ، فَإِنَّهُ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ، إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ الْعَبْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1356 أَوْ الْفَرَسَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَحَضَرَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ كَانَ خَصْمًا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ. لِأَنَّهُ أُسِرَ مِنْ يَدِهِ، فَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِاسْتِرْدَادِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. 2606 - ثُمَّ إنْ حَضَرَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ فَأَنْكَرَ الْوَصِيَّةَ قِيلَ لَهُ: أَعِدْ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَصِيَّتِك وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا قَضَى لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِاعْتِبَارِ إثْبَاتِهِ الْأَسْرَ مِنْ يَدِهِ لَا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ وَصِيَّتِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى خَصْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْإِجَارَةِ. 2607 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي حَضَرَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِهِ لَهُ. لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْأَسْرَ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ، وَتَأْثِيرُ الْمِلْكِ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الْيَدِ، ثُمَّ لَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ. 2608 - وَلَكِنْ يَضَعُهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ فَيَقْبِضَهُ. لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِيَدٍ مُسْتَحَقَّةٍ فِيهِ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ قِيَاسُ الرَّهْنِ الَّذِي سَبَقَ. وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى قَسَمَ، أَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُ الذِّمَّةِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْفِدَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1357 لِأَنَّهُ يُحْيِي بِالْأَخْذِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لَهُ، فَإِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ حَقًّا لَازِمًا لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إبْطَالِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ. 2609 - وَإِذَا أَخَذَهُ ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ فَأَنْكَرَ وَصِيَّتَهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ. لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِحَقِّ الْأَخْذِ لَهُ بِالْفِدَاءِ الْقَضَاءَ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ بِدُونِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَا يَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَا الْيَدِ انْتَصَبَ خَصْمًا عَنْ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ فِي إثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ. 2610 - فَيَكُونُ الْعَبْدُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْأَسْرِ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ الرَّقَبَةُ إلَى صَاحِبِهَا فَيَكُونُ لِوَرَثَةِ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي فَدَاهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ مِنْ مَالِهِ، فَيُبَاعُ الْعَبْدُ لَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ. لِأَنَّهُ كَانَ مُضْطَرًّا إلَى أَدَاءِ ذَلِكَ الْفِدَاءِ، لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ، فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ فِي ضَمَانِهِ وَلَا فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَتَقَرَّرَ الْفِدَاءُ عَلَيْهِ. 2611 - فَإِذَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَعَادَ الْعَبْدُ إلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ فَدَى مِلْكَهُ وَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيهِ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ. لِأَنَّهَا حَيِيَتْ لَهُ بِهَذَا الْفِدَاءِ، ثُمَّ وَارِثُهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَيَرْجِعُ بِمَا كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي حَيَاتِهِ أَنْ لَوْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1358 2612 - وَلَوْ لَمْ يَفْدِهِ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ حَتَّى حَضَرَ هُوَ مَعَ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ جَمِيعًا فَإِنْ رَغِبَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ فِي الْفِدَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الرَّقَبَةِ. 2613 - وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْدِيَهُ فَدَاهُ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ ثُمَّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ. لِأَنَّهُ مَتَى أَبَى أَنْ يَفْدِيَهُ فَقَدْ أَبْطَلَ وَصِيَّتَهُ فِيهِ إذَا كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي، وَقَدْ تَمَّ مِنْهُ الرِّضَا بِبُطْلَانِ ذَلِكَ (الْمِلْكِ) ، فَيُبْطِلُ وَصِيَّتَهُ بِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ، وَبَعْدَ مَا بَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ، فَصَاحِبُ الرَّقَبَةِ أَحَقُّ بِالْعَبْدِ. 2614 - فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ، وَحَضَرَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْفِدَاءِ وَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، بَلْ يُسَلَّمُ إلَيْهِ. لِأَنَّ صَاحِبَ الْخِدْمَةِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي الْأَخْذِ بِالْخِدْمَةِ، إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْفِدَاءَ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَرْغَبُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَا يَرْغَبُ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فِي الْحَالِ. 2615 - بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. لِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ حَقُّهُ ثَابِتٌ فِي خِدْمَتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ أَدَاءُ شَيْءٍ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1359 2616 - فَإِنْ حَضَرَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ يُخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَ أَدَّى إلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ مَا فَدَاهُ بِهِ، وَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِخِدْمَتِهِ مَا عَاشَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي حَضَرَ أَوَّلًا وَفَدَاهُ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الرَّقَبَةِ يُحْيِي مِلْكَهُ بِالْفِدَاءِ، فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ. 2617 - وَإِذَا ظَهَرَ حَقٌّ سَابِقٌ عَلَى حَقِّهِ. فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ. لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْفِدَاءِ حَتَّى يَكُونَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ غَيْرَهُ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَعُودُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُوصِي إذَا اسْتَقَرَّ الْفِدَاءُ عَلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ. 2618 - فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ وَأَخَذَ الْعَبْدَ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، فَالْعَبْدُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُبَاعُ فِي ذَلِكَ الْفِدَاءِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ هُوَ الَّذِي فَدَاهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ. 2619 - فَإِنْ بِيعَ فِي الْفِدَاءِ فَلَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالْفِدَاءِ، ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَمْ يُتْبَعْ بِشَيْءٍ مِمَّا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْفِدَاءِ. لِأَنَّ الْعَبْدَ مَا اكْتَسَبَ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الدَّيْنِ حَتَّى يَكُونَ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُتْبَعُ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَالِيَّتَهُ حَيِيَتْ بِسَبَبِ هَذَا الْفِدَاءِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ مِقْدَارَ الْمَالِيَّةِ لَا الْأَكْثَرَ مِنْهُ، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1360 نَظِيرُ الْعَبْدِ الْآبِقِ إذَا رَدَّهُ رَادٌّ وَبِيعَ فِي جُعْلِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجُعْلَ الْمُقَدَّرَ قَلَّتْ قِيمَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، فَلَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالْجُعْلِ لَمْ يُتْبَعْ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْهُ، بَعْدَ الْعِتْقِ فَهَذَا مِثْلُهُ. 2620 - وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْخِدْمَةِ أَنْ يَدْفَعَ الْفِدَاءَ إلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ، بَعْدَ مَا عَرَضَ الْقَاضِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُبْطِلْ الْقَاضِي وَصِيَّتَهُ بِإِبَائِهِ حَتَّى رَغِبَ فِي أَدَاءِ الْفِدَاءِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبْطَلَ الْقَاضِي وَصِيَّتَهُ حِينَ أَبَى ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ رَغِبَ فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاءَ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ حُكْمُهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي. بِمَنْزِلَةِ إبَاءِ الْيَمِينِ مِنْ الْمُنْكِرِ، وَإِبَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ إسْلَامِ الْآخَرِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1361 [بَابُ شِرَاءِ الْعَبْدِ الْمَأْسُور الَّذِي يُؤْخَذُ بِالْقِيمَةِ] 136 - بَابُ شِرَاءِ الْعَبْدِ الَّذِي يُؤْخَذُ بِالْقِيمَةِ 2621 - وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ مُسْلِمٌ مِنْ الْعَدُوِّ، بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَلْفِ رِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، فَأَرَادَ مَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ قِيلَ لِمَوْلَاهُ: خُذْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ دَعْ. لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ بِمَا غَرِمَ فِيهِ الْمُشْتَرِي مِمَّا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَذَلِكَ الْأَلْفُ، فَإِنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. 2622 - وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِكَمَالِ قِيمَتِهِ. لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ وَهَبُوهُ لَهُ. وَلِأَنَّهُ إنْ اشْتَرَاهُ بِخَمْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ بِدَرَاهِمَ مَعَ الْخَمْرِ أَوْلَى أَلَّا يَأْخُذَهُ مِنْهُ إلَّا بِقِيمَتِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، فَقَبِلَ الْعَبْدُ ذَلِكَ كَانَ حُرًّا. 2623 - ثُمَّ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ. لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ طَوْعًا بِإِزَاءِ مَا سَلِمَ لَهُ، وَهُوَ الْعِتْقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1362 2624 - وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَعَلَيْهِ تَمَامُ الْقِيمَةِ. لِأَنَّ الْمُعْتِقَ مَا رَضِيَ بِالْأَلْفِ وَحْدَهَا، وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى خَمْرٍ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فَإِذَا شَرَطَ الْخَمْرَ مَعَ الْأَلْفِ أَوْلَى. 2625 - وَلَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَعِشْرِينَ شَاةً مَيِّتَةً أَوْ عِشْرِينَ زِقًّا مِنْ دَمٍ، فَإِنَّ مَوْلَاهُ يَأْخُذُهُ بِالْأَلْفِ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. لِأَنَّ ضَمَّ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ إلَى الْأَلْفِ لَغْوٌ، بِخِلَافِ ضَمِّ الْخَمْرِ إلَى الْأَلْفِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ يُتَمَوَّلُ، وَإِنْ فَسَدَتْ قِيمَتُهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ حَتَّى يَضْمَنَ مُسْتَهْلِكُهُ عَلَى الذِّمِّيِّ بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُمَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ الْمُسْلِمُ بِالْخَمْرِ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ، حَتَّى يَنْفُذَ عِتْقُهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا يَشْتَرِيهِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. 2626 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ عَتَقَ مَجَّانًا. بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى خَمْرٍ. 2627 - وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ مُسْلِمٍ فَأَقَامَ مُسْلِمٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ، وُلِدَ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمَغَانِمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1363 أَوْ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ، وَذُو الْيَدِ مَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ الْمَغَانِمِ، أَوْ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ مَا لَمْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعَدُوَّ أَسَرُوهُ وَأَحْرَزُوهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوهُ، وَلَمْ يُحْرِزُوهُ حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ كَانَ أَبَقَ إلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ. 2628 - وَلَوْ كَانَ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لَهُ لَمْ تَكُنْ مُعَارِضَةً لِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إثْبَاتُ الْمِلْكِ لَهُ أَوْلَى أَلَّا تَكُونَ مُعَارِضَةً لَهُ. وَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَدُوَّ أَخَذُوا هَذَا الْعَبْدَ فَأَحْرَزُوهُ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ فَاشْتَرَاهُ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِهِ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ. لِأَنَّ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إثْبَاتَ سَبَبِ زَوَالِ مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهَا لِحَاجَتِهِ. وَلِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَالْبَيِّنَتَانِ حُجَجٌ فَعِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا. 2629 - ثُمَّ الثَّابِتُ بِهَا كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ، فَيُقَالُ لِلْمُدَّعِي إنْ شِئْت فَخُذْهُ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ. لِأَنَّ الْعَدُوَّ مَلَكُوهُ حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً. أَوْ دَخَلَ مِنْهُمْ دَاخِلٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1364 إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَهُوَ مَعَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ثُبُوتِ إحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ. 2630 - وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ الدَّاخِلُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ مِنْ مُسْلِمٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَامَ فِيهِ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَبَعْدَ مَا حَصَلَ فِي دَارِنَا عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى أَخْذِهِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ، وَإِنْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ. 2631 - فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، فَأَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ بَاعَهُ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى مِلْكِهِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ الْآخِذُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَالْعَبْدُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ. لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالْمِلْكِ، حِينَ أَظْهَرَ أَنَّهُ قَضَى بِغَيْرِ حُجَّةٍ، فَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَاضِي أَجْبَرَهُ عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهُ إيَّاهُ بِالثَّمَنِ فَهَبْ أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بَاطِلًا، فَهَذَا لَا يَكُونُ دُونَ مَا لَوْ أَجْبَرَ سُلْطَانٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ عَبْدٍ مِنْ فُلَانٍ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، وَهُنَاكَ الْمُشْتَرِي يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ حَتَّى يَنْفُذَ فِيهِ تَصَرُّفَاتُهُ بِالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. قُلْنَا: هُنَاكَ إنَّمَا أَجْبَرَهُ عَلَى بَيْعٍ مُبْتَدَأٍ وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ، وَقَدْ انْعَقَدَ بِصِفَةِ الْفَسَادِ، لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ فِيهِ وَهُوَ الرِّضَاءُ بِهِ، فَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِالْقَبْضِ، وَهَا هُنَا مَا أَجْبَرَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ سَبَبِ التَّمَلُّكِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1365 وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ فِيهِ قَبْلَ هَذَا، وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ سَبَبٍ، فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَخَذَهُ مَجَّانًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا] ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْعَبْدَ فِي الْغَنِيمَةِ، وَيَبْطُلُ عِتْقُهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ، أَوْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا يُؤَدَّى فِدَاءٌ لِمِلْكِهِ، لَا عِوَضٌ عَنْ مِلْكٍ يُثْبِتُهُ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا يُعْطَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ. 2632 - وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا الْمَقْضِيُّ لَهُ بِهَا. رُدَّتْ هِيَ وَعُقْرُهَا وَوَلَدُهَا رَقِيقًا فِي الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَ مَا لَا يَمْلِكُ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ، لِضَرُورَةِ الْقَضَاءِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ وَالْوَلَدُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ. 2633 - ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ. لِأَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ الْوَلَدِ يَسْتَدْعِي شُبْهَةً حُكْمِيَّةً فِي الْمَحَلِّ، وَلَمْ تُوجَدْ. 2634 - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ. لِأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي. وَهَذَا الْقَدْرُ فِي الْمَحَلِّ يَكْفِي لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالدَّعْوَةِ، فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا لَا يُجْعَلُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْغُرُورَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا تَرَتَّبَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى سَبَبِ مِلْكٍ ثَابِتٍ لَهُ فِي الْمَحَلِّ حُكْمًا أَوْ حَقِيقَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1366 وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يُمَلِّكْهُ إيَّاهُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ عِتْقُ الْوَلَدِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ أَمَةَ الْغَيْرِ بِشُبْهَةٍ فَوَلَدَتْ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَثْبَتَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ بِالْبَيِّنَةِ، فَأَجْبَرَ الْقَاضِي الْمَدِينَ عَلَى بَيْعِ أَمَتِهِ، فَبَاعَهَا وَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَوْ بَاعَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ شُهُودَ الدَّيْنِ كَانُوا عَبِيدًا، فَإِنَّ هُنَاكَ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَلَا يُبْطِلُ مِنْ تَصَرُّفِهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، لِأَنَّ هُنَاكَ أَجْبَرَهُ عَلَى تَمْلِيكٍ مُبْتَدَأٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ الْبَاطِلِ عَلَى الْبَيْعِ، وَهَا هُنَا مَا أَجْبَرَ مَنْ فِي يَدِهِ عَلَى التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً مِنْ الْآخِذِ. يُوَضِّحُهُ - أَنَّ إجْبَارَ الْقَاضِي هُنَاكَ عَلَى الْبَيْعِ إذَا تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ إجْبَارِ الْمَالِكِ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ بِعَيْنِهِ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ يَنْفُذُ مِنْ الْمُكْرَهِ إذَا بَاشَرَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرَدُّ، بِخِلَافِ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي وَلِيَ بَيْعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَوْ أَمِينُهُ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا، فَإِنَّهُ يَنْقُضُ جَمِيعَ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي هَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مَوْقُوفًا، وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ، فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُ الْمُشْتَرِي فِيهِ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ، وَفِي الْأَوَّلِ الْبَيْعُ كَانَ فَاسِدًا، لِأَنَّ الْمَالِكَ بَاشَرَهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ، وَالرِّضَاءُ شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَعِنْدَ انْعِدَامِهِ يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا. وَإِنْ اسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي هَا هُنَا فَإِنَّهُ يَغْرَمُ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا، وَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ الَّذِي بَاعَهَا، وَكَانَ بَيْعُهُ فِي الصُّورَةِ حَقًّا، مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ بُطْلَانُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَكَانَ الْمُشْتَرِي فِي حُكْمِ الْمَغْرُورِ هَا هُنَا، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَخْذِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْمَأْسُورُ مِنْهُ نَظِيرُ مَنْ ادَّعَى أَمَةً فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ كَانَ وَهَبَهَا مِنْهُ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهَا الْآنَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1367 فَأَعْتَقَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا فَإِنَّهَا مَرْدُودَةٌ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مَعَ وَلَدِهَا وَعُقْرِهَا، وَلَكِنْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمُدَّعِي اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ قَضَى بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَقَدْ أَعَادَهَا إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يُمَلِّكْهَا ابْتِدَاءً فَكَانَ هَذَا وَالْمَأْسُورُ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى سَوَاءً. 2635 - وَلَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ اشْتَرَى الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ مِنْ الْمَغَانِمِ، أَوْ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَصْلَهُ كَانَ لَهُ، فَقَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي أُعْطِيَ ذُو الْيَدِ الْعَبْدَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ صُلْحًا، وَلَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَعْتَقَهُ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَزُكِّيَتْ بَيِّنَتُهُ وَلَمْ تُزَكَّ بَيِّنَةُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُضُ جَمِيعَ مَا صَنَعَ الْمُدَّعِي وَيَرُدُّهَا إلَى مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَيَقْضِي لِلَّذِي زُكِّيَتْ بَيِّنَتُهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ وَلَدِهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُمَا بِهِ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَ ذِي الْيَدِ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْفِدَاءِ لِمِلْكِهِ الْقَدِيمِ. 2636 - فَإِذَا لَمْ يُثْبِتْ مِلْكَهُ الْقَدِيمَ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا، وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ بِغَيْرِ سَبَبٍ، فَلَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ، وَلَكِنَّهُ يَغْرَمُ الْعُقْرَ فَيَسْلَمُ ذَلِكَ لِذِي الْيَدِ. لِأَنَّ الْعُقْرَ دَرَاهِمُ وَهِيَ لَا تُفَكُّ بِالْفِدَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1368 2637 - وَلَوْ كَانَ قَتَلَ الْوَلَدَ قَبْلَ أَنْ تُزَكَّى بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَقِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْعُقْرُ يَكُونُ سَالِمًا لِمَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ. لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ كَالْعُقْرِ وَبِاعْتِبَارِهِمَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ. لِأَنَّ مَا لَزِمَهُ فِدَاءٌ وَالْفِدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ لِأَصْلِ الْمِلْكِ، وَقَدْ سَلِمَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ أَخَذَ الْجَارِيَةَ. 2638 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى شُفْعَةً فِي دَارٍ فَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ذُو الْيَدِ عَلَى دَعْوَاهُ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا شَفَاعَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ الْمُبْتَدَأِ فَكَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً جَرَى بَيْنَهُمَا بِالتَّرَاضِي فَيَكُونُ نَافِذًا. فَأَمَّا إذَا أَخَذَ الْمَأْسُورَ بِالثَّمَنِ لَا يَكُونُ تَمْلِيكًا ابْتِدَاءً وَلَكِنَّهُ أَعَادَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي يُعْطَى. 2639 - وَلَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ صَدَّقَهُ فِي أَنَّ الْأَمَةَ أَمَتُهُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي لِلثَّانِي بِشَيْءٍ، وَإِنْ زُكِّيَتْ بَيِّنَتُهُ فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ الْأَخِذُ فِيهَا نَافِذٌ. لِأَنَّ ذَا الْيَدِ حِينَ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ فَقَدْ أَقَرَّ بِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْتَاقُ وَالِاسْتِيلَاءُ. 2640 - وَلَوْ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي أَثْبَتَ الْمِلْكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1369 فِيهَا بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِنُفُوذِ ذَلِكَ فِيهَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ سَلَّطَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِيهَا، وَفِعْلُ الْمُسَلَّطِ عَلَى التَّصَرُّفِ كَفِعْلِ الْمُسَلِّطِ. بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ هُنَاكَ مَا سَلَّطَهُ عَلَى شَيْءٍ، إنَّمَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ، أَنَّهُ كَانَ تَمَلَّكَهَا قَبْلَ الْأَسْرِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَاطِلًا. 2641 - وَلَوْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ هَا هُنَا بَاعَهَا أَوْ رَهَنَهَا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ حَقُّ الَّذِي يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْأَسْرِ. لِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَوْ بَاشَرَ هَذَا التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ حَقُّ الْمَأْسُورِ مِنْهُ. 2642 - فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِنُفُوذِ هَذَا التَّصَرُّفِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالِاسْتِيلَادِ إلَّا أَنَّ هَا هُنَا يَنْقُضُ الْقَاضِي بَيْعَ الْمُقَرِّ لَهُ وَيَرُدُّهُ عَلَى ذِي الْيَدِ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُدَّعِي بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ. مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذُو الْيَدِ هُوَ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ. لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا صَدَرَ الْبَيْعُ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا. 2643 - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ تَصَرُّفًا، وَهَا هُنَا إنَّمَا صَدَرَ الْبَيْعُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهَا حَقِيقَةً. لِأَنَّ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ لِلْمُدَّعِي الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُهَا لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1370 ابْتِدَاءً، إلَّا أَنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ تَصَرُّفٌ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ، كَالْإِعْتَاقِ يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ فِي الْأَخْذِ، وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ تَصَرُّفٌ، يَحْتَمِلُ النَّقْضَ لَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ، فَيَنْقُضُ هَذَا التَّصَرُّفَ وَيَرُدُّهُ إلَى الْأَوَّلِ، لِيَأْخُذَهُ الْمَوْلَى مِنْهُ بِالثَّمَنِ، فَإِنَّ حَقَّ الْآخِذِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْفِدَاءِ مِنْ الْمَالِكِ لَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ. 2644 - وَلَوْ كَانَ الْآخِذُ أَعْتَقَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ تَصَادَقُوا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ ادَّعَى بَاطِلًا، فَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ أَعْطَاهَا إيَّاهُ عَلَى غَيْرِ تَصْدِيقٍ مِنْهُ أَبْطَلَ الْقَاضِي مَا تَصَرَّفَ فِيهَا الْآخِذُ، مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، وَقَدْ تَصَادَقُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَتَبْطُلُ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ بِتَصَادُقِهِمْ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الْوَاطِئِ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا، فَإِنَّ النَّسَبَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَالنَّسَبُ حَقُّ الْوَلَدِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِتَصَادُقِهِمْ فِي حَقِّهِ. 2645 - فَإِنْ كَانَ بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ تَصَادَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَالْآخَرُ. وَكَذَّبَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَوْ كَذَّبَتْ الْأَمَةُ بَعْدَ مَا أَعْتَقَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا فَإِنَّهُ لَا يُنْقَضُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفِ الْآخِذِ هَا هُنَا. لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَلَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْجَارِيَةِ فِي الْعِتْقِ وَفِي الِاسْتِيلَادِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ قَدْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1371 بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهَا بِتَصَرُّفِهِ، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَعْطَى. 2646 - وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْوَطْءِ عُقْرٌ وَوَلَدُهَا حُرٌّ بِغَيْرِ الْقِيمَةِ. لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَنِيمَةِ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ قَبَضَهَا، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا عَلَى مِلْكِهِ. 2647 - وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ حِينَ أَعْطَاهُ، ثُمَّ تَصَادَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُدَّعِي فَإِنَّ الْإِعْتَاقَ وَالِاسْتِيلَادَ وَكُلَّ تَصَرُّفٍ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ يَكُونُ نَافِذًا فِيهَا مِنْ الْآخِذِ. لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا عَلَى نُفُوذِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ فِيهِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَبَعْدَ نُفُوذِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلنَّقْضِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِتَصَادُقِهِمْ أَيْضًا، وَلَكِنْ يَغْرَمُ الْمُدَّعِي قِيمَةَ الْأَمَةِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ احْتَبَسَتْ عِنْدَهُ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، إذَا كَذَّبَتْهُمَا الْأَمَةُ. 2648 - وَلَوْ كَانَ الْآخِذُ بَاعَهَا أَوْ كَاتَبَهَا ثُمَّ تَصَادَقُوا جَمِيعًا فَذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَهِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ. لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ، وَقَدْ تَصَادَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ بَاشَرَهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّصَرُّفِ، وَالْحَقُّ لَهُمْ لَا يَعْدُوهُمْ. 2649 - فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَكَاتَبَهُ، وَاسْتَوْفَى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1372 ثُمَّ تَصَادَقُوا] فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ يَسْتَرِدُّ الْعَبْدَ مَعَ مَا أَخَذَ مِنْهُ الْمُكَاتَبُ لِأَنَّ ذَلِكَ كَسْبُ عَبْدِهِ كَمَا لَوْ تَصَادَقَا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ. 2650 - وَلَوْ كَانَ أَدَّى جَمِيعَ الْمُكَاتَبَةِ. ثُمَّ تَصَادَقُوا لَمْ يُرَدَّ الْعِتْقُ الَّذِي نَفَذَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ الْمَكَاتِبُ قِيمَةَ الْمُكَاتَبِ يَوْمَ أَدَّى الْكِتَابَةَ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا مِلْكَ الْآخِذِ، وَإِنَّمَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عِنْدَ تَحَقُّقِ اسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَلِهَذَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ، مُعْتَبِرًا بِذَلِكَ الْوَقْتَ إنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ ازْدَادَتْ، وَتَكُونُ الْمُكَاتَبَةُ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ دُونَ الْمُكَاتَبِ، لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ، قَدْ كَانَ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ هُوَ بِالضَّمَانِ. لِأَنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ يَوْمَ اسْتَوْفَى الْمُكَاتَبَةَ فَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ، وَالْكَسْبُ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَهُ، فَيَرُدُّهُ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ. 2651 - وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ نَقَصَتْ قَبْلَ أَدَاءِ الْمُكَاتَبَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ قَبْضِهِ مِنْهُ فَلَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَكَاتِبَ قَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ لَهُ بِزَعْمِهِ. 2652 - ثُمَّ تَصِيرُ الْمُكَاتَبَةُ لِلْمُكَاتِبِ هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1373 لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ هَا هُنَا، وَالْكَسْبُ إنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ لَهُ إذْ الْكَسْبُ يُمْلَكُ بِضَمَانِ الْأَصْلِ تَبَعًا لَهُ. 2653 - وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُكَاتِبْهُ حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ وَقَدْ اكْتَسَبَ كَسْبًا، ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَلِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ قَبْضِهِ، وَيَكُونُ الْكَسْبُ لِلَّذِي مَاتَ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَتْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ هَا هُنَا قَبْلَ الْمَوْتِ فَأَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ زَائِدَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ إذَا مَاتَ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ، إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْمَوْتِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَهُنَاكَ بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لَهُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنَّ الِاسْتِهْلَاكَ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ. فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ. قَالَ: 2654 - وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ بِشَيْءٍ لَا ثَمَنَ لَهُ؛ كَالْخَمْرِ أَوْ الْمَيْتَةِ فَقَبَضَهُ وَمَاتَ فِي يَدِهِ. وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ رِوَايَةٌ فِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ، فَهُنَاكَ قَالَ: الْعَقْدُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ أَصْلًا، فَبَقِيَ الْقَبْضُ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْقَابِضِ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي بِالْخَمْرِ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَكَرَ هَا هُنَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1374 لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُ عَلَى أَنَّهُ لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْقَبْضِ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ يَكُون مُوجِبًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِلْقَابِضِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. 2655 - وَلَوْ كَانَ دَبَّرَ الْعَبْدَ فَاكْتَسَبَ بَعْدَ التَّدْبِيرِ مَالًا، ثُمَّ تَصَادَقُوا، فَالتَّدْبِيرُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَالْإِعْتَاقِ، ثُمَّ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ الْأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبَضَهُ أَوْ يَوْمَ دَبَّرَهُ. لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ صَارَ كَالْمُسْتَهْلِكِ لَهُ، فَإِنَّهُ احْتَبَسَ عِنْدَهُ بِمَا جَرَى فِيهِ مِنْ الْعِتْقِ، يَعْنِي الْعِتْقَ الْمُضَافَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ. 2656 - وَالْكَسْبُ يَكُونُ لِلضَّامِنِ. لِأَنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ، وَقَدْ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ، أَوْ مِنْ وَقْتِ التَّدْبِيرِ. 2657 - وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فَالْجَوَابُ فِيهَا كَالْجَوَابِ فِي الْمُدَبَّرَةِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى غَيْرِ تَصْدِيقٍ مِنْهُ أَنَّهَا لَهُ، فَدَبَّرَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَوْ كَاتَبَهَا، فَأَدَّتْ ثُمَّ اكْتَسَبَتْ مَالًا، ثُمَّ تَصَادَقَ الْآخِذُ وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ فِي الْأَصْلِ، وَكَذَّبَتْهُمَا الْأَمَةُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَصَادُقَهُمَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْأَمَةِ فِي الْعِتْقِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ بِالظَّاهِرِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا، يَبْقَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1375 حُكْمُ الضَّمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْآخِذَ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ. لِأَنَّهُ صَارَ حَابِسًا لَهَا مُسْتَهْلِكًا بِالتَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ. 2658 - وَمَا اكْتَسَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ سَالِمٌ لِلضَّامِنِ. لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَيَكُونُ الْكَسْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْكَسْبُ لَهُ وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّهَا أَمَةُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَأَنَّ كَسْبَهَا مَمْلُوكٌ لَهُ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ كَذَّبَهُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ حِينَ قَضَى عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا، وَالْمُقِرُّ مَتَى صَارَ مُكَذَّبًا فِي إقْرَارِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ إقْرَارِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ لَوْ كَذَّبَهُ بَطَلَ بِهِ إقْرَارُهُ، فَإِذَا كَذَّبَهُ الْقَاضِي أَوْلَى، وَفُرِّقَ فِي الْكِتَابَةِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ، فَهُنَاكَ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، وَقَدْ صَدَّقَهُمَا، قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَرُدُّ الْمُكَاتَبَةَ الَّتِي قَبَضَهَا، وَهَا هُنَا إذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْمُكَاتَبَةِ بِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ الْمُكَاتَبَةِ مَعَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ. لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْكَسْبِ لِوُجُودِ التَّصْدِيقِ مِنْ الْمُكَاتَبِ، لَوْلَا الْعِتْقُ الَّذِي نَفَذَ فِيهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، لَا بِاعْتِبَارِ تَكْذِيبِ الْقَاضِي إيَّاهُ فِي ذَلِكَ، فَيَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمُكَاتَبَةِ الْمَقْبُوضَةِ، وَهَا هُنَا مَا ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ. لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يُكَذِّبُهُمَا فِي ذَلِكَ. 2659 - فَلَوْ كَانَ هَذَا التَّصَادُقُ مِنْهُمَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَلَا عَلَى كَسْبِهِ سَبِيلٌ، فَلِهَذَا قُلْنَا: بِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1376 لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمُكَاتَبَةِ عَلَيْهِ هَا هُنَا. ثُمَّ بِهَذَا التَّقْرِيرِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ إذَا ازْدَادَتْ الْقِيمَةُ هَا هُنَا فَإِنَّهُ يُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ، يَوْمَ كَاتَبَ لَا يَوْمَ اسْتَوْفَى الْبَدَلَ؛ لِأَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَدْ تَحَقَّقَ هَا هُنَا بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ تَكَرُّرُهُ بِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ. وَهَا هُنَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاحْتِبَاسُ بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ عِنْدَ ذَلِكَ. 2660 - وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا يَتَّضِحُ بِهِ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَهَا هُنَا إنَّمَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَالْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمُكَاتَبَةِ كَسْبٌ حَادِثٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ سَالِمًا لِلضَّامِنِ، وَهُنَاكَ إنَّمَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ مِنْ وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَالْمُسْتَوْفَى كَسْبٌ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْذُونَ الْمَدْيُونَ لَوْ كَاتَبَهُ مَوْلَاهُ فَأَدَّى فَعَتَقَ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُضَمِّنُوهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ عَتَقَ. لِأَنَّ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُمْ بِالدَّيْنِ، وَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا بِقَبْضِهِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ عَبْدًا فَيَبِيعُوهُ فِي دَيْنِهِمْ. 2661 - ثُمَّ يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْمُكَاتَبَةَ إنْ لَمْ تَفِ الْقِيمَةُ بِدُيُونِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1377 لِأَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ ثَابِتًا فِي هَذَا الْكَسْبِ، لِبَقَاءِ حَقِّهِمْ فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ. 2662 - وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتَهُ أَلْفٌ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَاتَبَهُ الْغَاصِبُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ صَارَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ أَدَّى فَعَتَقَ، ثُمَّ تَصَادَقَ الْغَاصِبُ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَلَى مَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَّبَهُمَا الْعَبْدُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُضَمِّنُ الْغَاصِبَ قِيمَةَ الْعَبْدِ يَوْمَ كَاتَبَهُ. لَا يَوْمَ أَدَّى فَعَتَقَ. لِأَنَّ الِاحْتِبَاسَ وَالِاسْتِهْلَاكَ قَدْ حَصَلَ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ اسْتَوْفَى الْمُكَاتَبَةَ لَمْ يَعْمَلْ تَصَادُقُهُمَا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ كَاتَبَ ثَبَتَ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَتَكُونُ الْمُكَاتَبَةُ سَالِمَةً لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَاهَا مِنْ كَسْبٍ كَانَ بَعْدَ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَهُوَ إيضَاحٌ لِمَا سَبَقَ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1378 [بَابُ مَا لَا يَكُونُ فَيْئًا وَإِنْ أُحْرِزَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ] ِ مُسْلِمٌ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ عَبْدًا، ثُمَّ ارْتَدَّ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُرْتَدِّ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا مَا مَعَهُ، فَالْعَبْدُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّ الْآخِذَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ ضَمَانِهِ إحْرَازُهُ، فَإِذَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِزًا لَهُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ عِنْدَ تَقَرُّرِهِ عَلَيْهِ، وَفِيمَا انْعَقَدَ لَهُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ لَا يَكُونُ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ، مُتَمَلِّكًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ قَدْ لَزِمَهُ بِحُكْمِ الْغَصْبِ، عَلَى وَجْهٍ إذَا تَعَذَّرَ يَخْلُفُهُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ فِيهِ. - ثُمَّ بِالرِّدَّةِ وَاللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّدِّ. وَلَا مَا هُوَ خَلْفٌ عَنْهُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ. لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْإِحْرَازُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ. - فَإِذَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ يُعَوَّضُ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1379 وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِاسْتِحْقَاقِ نَصِيبِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ارْتَدَّ قَبْلَ الْغَصْبِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا. لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ، فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا ضَمَانَهُ بِالْغَصْبِ. - وَالْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي اُغْتُصِبَتْ ثُمَّ ارْتَدَّتْ فَهِيَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالرَّجُلِ، وَالذِّمِّيُّ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ، بَعْدَ الْغَصْبِ أَوْ قَبْلَهُ، فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالْمُسْلِمِ. لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِلضَّمَانِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ النَّاقِضَ لِلْعَهْدِ يَكُونُ فَيْئًا، وَالْمُرْتَدَّةُ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ كَذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ الْمَغْصُوبِ يَكُونُ مَرْدُودًا عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُمَا حِينَ أَحْرَزَاهُ لَمْ يَتَمَلَّكَا الْمَغْصُوبَ لِكَوْنِهِمَا ضَامِنَيْنِ لَهُ، فَإِذَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُسْلِمِ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ كَانَ مَرْدُودًا عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ فِي يَدِهِ فَيْئًا. - وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ اللَّاحِقُ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ الذِّمِّيُّ النَّاقِضُ لِلْعَهْدِ، خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَغَصَبَ مَالًا، مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ. ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى مَا مَعَهُ فَذَلِكَ فَيْءٌ. لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حِينَ الْتَحَقَ بِهِمْ مُرْتَدًّا أَوْ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَغَصْبُ الْحَرْبِيِّ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ اسْتِهْلَاكَهُ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَهُنَاكَ حِينَ غَصَبَ كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1380 دَارِ الْإِسْلَامِ، لَوْ اسْتَهْلَكَ الْمَالَ كَانَ هُوَ ضَامِنًا لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا مُطَالَبًا بِالرَّدِّ يَتِمُّ إحْرَازُهُ لَهُ فَيَصِيرُ مَالِكًا، ثُمَّ ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَالِ الْحَرْبِيِّ سَبَبٌ لِكَوْنِ الْمَالِ غَنِيمَةً، فَإِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْمُحْرِزُ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَانَ الْمَالُ سَالِمًا لَهُ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَوْ أَسْلَمَ كَانَ مَأْمُورًا بِرَدِّهِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَهُنَا عَلَى قِيَاسِ الِاسْتِهْلَاكِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ مَا صَارَ حَرْبِيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ حَرْبِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِصَاحِبِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَاغْتَصَبَ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهَدًا مَالًا فَأَدْخَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ. وَلَوْ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ كَانَ مَرْدُودًا عَلَى صَاحِبِهِ. قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ. - بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ مُغِيرًا لَا مُسْتَأْمَنًا. لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَغْصُوبِ بِالْأَخْذِ، كَمَا يَكُونُ ضَامِنًا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ، فَلَا يَتِمُّ إحْرَازُهُ فِيهِ، وَلَوْ خَرَجَ مُغِيرًا لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِمَا أَخَذَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لَهُ فَيَتِمُّ إحْرَازُهُ فِيهِ. - وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ الَّذِي هُوَ ضَامِنٌ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَمَعَهُ الْمَغْصُوبُ غَصَبَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ فَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِهِمْ، فَمَنَعَ السُّلْطَانُ الْغَاصِبَ الْأَوَّلَ أَنْ يَعْرِضَ لِلْغَاصِبِ الْآخَرِ فِيهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَذَلِكَ الْمَالُ لِلْغَاصِبِ الْآخَرِ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1381 لِأَنَّ إحْرَازَهُ لَهُ قَدْ تَمَّ حِسًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ غَلَبَهُ، وَحُكْمًا بِقُوَّةِ سُلْطَانِهِمْ، حِينَ قَصَرَ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ عَنْ اسْتِرْدَادِهِ، فَصَارَ هُوَ مَالِكًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ حِينَ أَخَذَهُ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِالْغَصْبِ، كَمَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، وَبِقُوَّةِ سُلْطَانِهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَهُ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ الْمَالِكِ. - ثُمَّ الْغَاصِبُ الْأَوَّلُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ. لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَيْنِ بَعْدَ مَا لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ خَلَفٌ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ. - وَلَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ صَارَ غَنِيمَةً، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ الْغَاصِبِ الثَّانِي، وَالْحُكْمُ فِيمَا صَارَ غَنِيمَةً مِمَّا كَانَ أَصْلُ الْمِلْكِ فِيهِ لِمُسْلِمٍ مَا بَيَّنَّا. - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمَيْنِ مُسْتَأْمَنَيْنِ، أَوْ أَسِيرَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، اغْتَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْغَاصِبُ، وَمَنَعَ الْمَغْصُوبَ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ سُلْطَانُ تِلْكَ الْبِلَادِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا جَمِيعًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِمَا أَخَذَهُ هَا هُنَا، أَمَّا فِي الْمُسْتَأْمَنِينَ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1382 أَحَدَهُمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ مَالَ صَاحِبِهِ كَانَ ضَامِنًا كَمَا لَوْ قَتَلَهُ، فَكَذَلِكَ بِالْغَصْبِ يَصِيرُ ضَامِنًا، وَأَمَّا فِي الْأَسِيرَيْنِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْأَسِيرَ كَالْمُسْتَأْمَنِ فِي حُكْمِ ضَمَانِ نَفْسِهِ، إذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ ضَمَانِ مَالِهِ. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَوْ قَتَلَ أَحَدُ الْأَسِيرَيْنِ صَاحِبَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ مَالَهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُعْتَقِدٌ حُكْمَ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ، فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ يَكُونُ مُسْتَوْجِبًا رَدَّ الْعَيْنِ، وَضَمَانَ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، خَلَفٌ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ مُتَقَوِّمٍ، وَبِالْأَسْرِ لَا يَخْرُجُ مَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلِمَ، وَإِنْ كَانَ أَسِيرًا، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ زَوْجَتَهُ الَّتِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبِينُ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْإِحْرَازُ فِي مَالِهِ بَاقِيًا حُكْمًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْغَاصِبُ ضَامِنًا لَهُ، وَمَعَ كَوْنِهِ ضَامِنًا لَا يَتِمُّ إحْرَازُهُ. - وَلَوْ كَانَا أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ رَدُّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ صَارَ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ. وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» . وَبَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَيْنِ لَا يَتِمُّ إحْرَازُهُ لَهُ، وَإِنْ ارْتَدَّ وَصَارَ غَالِبًا بِقُوَّةِ سُلْطَانِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمُوا حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَالْغَاصِبُ فَيْءٌ لِمَنْ أَصَابَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1383 لِأَنَّهُ مَا أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ مَعْصُومًا مِنْ الِاسْتِرْقَاقِ بَعْدَ مَا صَارَ حَرْبِيًّا بِالرِّدَّةِ. - بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَرْبِيَّتُهُ كَانَتْ مُتَأَكِّدَةً بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَالٍ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى الْمَالِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا بَعْدَهَا. لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إسْلَامِهِ لَمْ يَصِرْ مَالُهُ مُحْرَزًا بِالدَّارِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى الدَّارِ، وَالْمَالُ فِي يَدِهِ، فَيَكُونُ هُوَ أَحَقَّ بِهِ لِسَبْقِ إحْرَازِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا غَصَبَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ، مِمَّنْ صَارَ حَرْبِيًّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَيْسَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، فَيَكُونُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْغَاصِبُ حَرْبِيًّا حِينَ غَصَبَهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ، كَمَا وَضَعَ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى، فَلَا يَكُونُ الْجَوَابُ كَذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: الْغَاصِبُ فَيْءٌ لِمَنْ أَصَابَهُ. وَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا حِينَ يَغْصِبَهُ ثُمَّ يَرْتَدَّ لَكَانَ مُجْبَرًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ أَوْ وُضِعَ فِي الْمُسْلِمِينَ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ ذَهَبَ وَهْمُهُ إلَى أَنَّهُ وُضِعَ فِي حَرْبِيٍّ يَغْصِبُ مِنْ الْمُسْلِمِ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَجَابَ بِمَا قَالَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَتَأَكَّدُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَيُقْتَلُ الْغَاصِبُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، فَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ فَيْئًا فَلَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1384 - وَلَوْ اسْتَوْدَعَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا شَيْئًا وَأَذِنَ لَهُ إنْ غَابَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَعَهُ فَارْتَدَّ الْمُودَعُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَلَحِقَهُ صَاحِبُهُ وَطَلَبَهُ مِنْهُ فَمَنَعَهُ، وَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَقَصَرَ يَدَ الْمُسْلِمِ عَنْهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَالْوَدِيعَةُ لِلْمُودِعِ لَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهَا عَلَيْهَا. لِأَنَّهُ مَا كَانَ ضَامِنًا لَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحِينَ مَنَعَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ هُوَ حَرْبِيًّا لَوْ اسْتَهْلَكَهَا لَمْ يَضْمَنْ، فَكَذَلِكَ إذَا مَنَعَهَا. وَلِأَنَّهُ بِهَذَا الْمَنْعِ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ، فَكَأَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْهُ الْآنَ ابْتِدَاءً، فَيَتِمُّ إحْرَازُهُ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ. - فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ سَالِمًا لَهُ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ رُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ غَصَبَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.؛ لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إذْ الْغَصْبُ بَعْدَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ، فَيَجْعَلُ وُجُودَ هَذَا الْمَنْعِ كَعَدَمِهِ. - وَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْغَاصِبِ أَعْطَاهُ إيَّاهُ ثُمَّ وَثَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ ثَانِيَةً وَقَصَرَ السُّلْطَانُ يَدَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَهُوَ سَالِمٌ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَهَى بِالرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1385 لَزِمَهُ مِنْ رَدِّ الْعَيْنِ، فَيَكُونُ أَخْذُهُ الْآنَ غَصْبًا ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَصِيرُ مُحْرِزًا لَهُ بِهَذَا الْغَصْبِ، حِينَ مَنَعَهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ. - وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْغَاصِبُ رَدَّهُ وَلَكِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ قَدَرَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ، ثُمَّ خَاصَمَهُ فِيهِ الْغَاصِبُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ سُلْطَانُ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ حِينَ أَخَذَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مِنْ يَدِهِ، فَالْتُحِقَ هَذَا الْمَالُ بِمَالٍ آخَرَ أَدْخَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَاصِبُ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ يَصِيرُ مُحْرِزًا لَهُ. - وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا، وَجَحَدَهُ، فَاخْتَصَمَا إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، وَالرَّجُلَانِ مُسْلِمَانِ عَلَى حَالِهِمَا، فَالْمَغْصُوبُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْغَاصِبِ، بِحُكْمِ اعْتِقَادِهِ، فَإِسْلَامُ أَهْلِ الدَّارِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً، وَبِقُوَّةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْلِمُ لَا يَصِيرُ مُحْرِزًا مَالَ الْمُسْلِمِ، وَلَا مُتَمَلِّكًا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ. 2680 - وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ] فَالْمَغْصُوبُ فَيْءٌ لِمَنْ أَصَابَهُ، وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1386 أَقَامَ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِهَذَا الْمَالِ أَبَدًا، وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ إنَّمَا يَكُونُ مُحْرِزًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْرِزًا عَقَارَهُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَا تَكُونُ مُتَأَكِّدَةً عَلَيْهَا، وَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِمَا أَوْدَعَهُ مِنْ حَرْبِيٍّ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِمَا فِي يَدِهِ، أَوْ لِمَا أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهَدًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ مُعْتَبَرَةٌ مُحْتَرَمَةٌ صَالِحَةٌ لِلْإِحْرَازِ بِهَا، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَرَمَةً فَهِيَ لَيْسَتْ بِقَائِمَةٍ مَقَامَ يَدِهِ، فَيُلْتَحَقُ هَذَا الْمَالُ بِمَا لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَيَكُونُ فَيْئًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ لَوْ خَرَجَ إلَى دَارِنَا وَخَلَّفَ مَالَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ الْمَالِ فَيْئًا إلَّا مَا أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهَدًا، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا بَعْدَهَا. لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ يُبْتَنَى عَلَى إحْرَازِ الْمَالِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَهَذَا كُلُّهُ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، كُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا، إلَّا شَيْئًا غَصَبَهُ مِنْهُ حَرْبِيٌّ وَجَحَدَهُ وَمَنَعَهُ مِنْهُ سُلْطَانُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَإِنَّ إحْرَازَ الْحَرْبِيِّ لِذَلِكَ الْمَالِ عَلَيْهِ يَتِمُّ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، فَيَصِيرُ مُتَمَلِّكًا لَهُ، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَالُ الْمُسْلِمِ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ غَاصِبِهِ الْمُسْلِمِ، أَوْ فِي يَدِ مُودِعِهِ وَهُوَ حَرْبِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1387 [بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْفِدَاءِ فِي الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ] ِ وَلَوْ أَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ الْعَبْدُ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَأْخُذَهُ لَهُ بِالثَّمَنِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَخْذَهُ بِنَفْسِهِ. فَيَمْلِكُ إقَامَةَ الْغَيْرِ فِيهِ مَقَامَهُ، وَبَعْدَ مَا قَامَ مَقَامَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ حَتَّى يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ. 2682 - فَإِذَا أَخَذَهُ كَانَ الثَّمَنُ عَلَى الْوَكِيلِ لِلَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ حَقَّ قَبْضِ الْعَبْدِ إلَيْهِ فَيَكُونُ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْفِدَاءِ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، وَالْعَاقِدُ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، كَمَا فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ ابْتِدَاءً فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي الشِّرَاءِ يَسْتَقِيمُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَكِيلَ يُبَاشِرُ سَبَبَ مِلْكٍ مُبْتَدَأٍ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَهُ ابْتِدَاءً، أَوْ ثَبَتَ لِلْمُوَكِّلِ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَلَيْهِ، بِحُكْمِ عَقْدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْوَكِيلَ هَا هُنَا كَالْمُعَبِّرِ عَنْهُ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ. قُلْنَا: هَذَا فِي حَقِّ الْمَأْسُورِ مِنْهُ إعَادَةً إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ كَمَا قُلْتُمْ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، وَفِي حَقِّ الْوَكِيلِ، هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَعْطِنِي هَذَا الْعَبْدَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَيْته بِهِ، أَوْ قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1388 أَعْطِنِي لِفُلَانٍ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُعَبِّرًا عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَيْهِ، بِأَنْ قَالَ: أَعْطِ فُلَانًا بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذْته بِهِ. نَقُولُ: بِأَنْ يَكُونَ الْمَالُ عَلَى الْآمِرِ، وَحَقُّ قَبْضِ الْعَبْدِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مُعَبِّرًا عَنْ الْعَبْدِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ لَا يَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ، وَنَظِيرُهُ الْوَكِيلُ بِالصُّلْحِ إذَا قَالَ: صَالِحْنِي مِنْ دَعْوَاك الدَّارَ الَّتِي فِي يَدِ فُلَانٍ عَلَى كَذَا، فَصَالَحَهُ كَانَ الْمَالُ عَلَى الْوَكِيلِ. وَلَوْ قَالَ: صَالِحْ فُلَانًا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ كَذَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَالُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لَيْسَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ أَصْلَيْنِ؛ مِنْ الشِّرَاءِ الْمُبْتَدَأِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْغَيْرِ. وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ يُزِيلُ مِلْكَهُ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْعِوَضِ ابْتِدَاءً. وَشَبَهًا مِنْ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَيُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ، فَنَقُولُ: لِشَبَهِهِ بِالشِّرَاءِ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ كَانَ هُوَ الْمُطَالَبُ بِالْعِوَضِ، وَكَانَ حَقُّ الْقَبْضِ إلَيْهِ. وَلِشَبَهِهِ بِالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمَوْلَى الْقَدِيمِ كَانَ هُوَ مُعَبِّرًا عَنْهُ، فَيَكُونُ الْمُطَالَبُ بِالثَّمَنِ هُوَ الْمُوَكِّلُ، وَحَقُّ الْقَبْضِ إلَيْهِ لَيْسَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. 2683 - فَإِنْ دَفَعَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ وَقَبَضَ الْعَبْدَ، فَدَفَعَهُ إلَى الْآمِرِ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ الْآمِرُ عَيْبًا، قَدْ كَانَ حَدَثَ بَعْدَ مَا أُسِرَ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ، فَاَلَّذِي يُخَاصَمُ فِي الْعَيْبِ هُوَ الْوَكِيلُ. لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَالْوَكِيلُ فِي حُقُوقِ هَذَا الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ ابْتِدَاءً فِي حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَ الْآمِرِ وَبَيْنَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ خُصُومَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1389 الْوَكِيلُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الَّذِي يُخَاصَمُ وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ. 2684 - فَإِذَا ادَّعَى الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَنَّ الْعَيْبَ حَادِثٌ بَعْدَ مَا أَخَذَ مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، فَإِنَّ الْحَادِثَ يُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ. حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلُ الْإِسْنَادِ فِيهِ إلَى وَقْتٍ حَادِثٍ. وَبَعْدَ مَا قَبَضَ الْآمِرُ الْعَبْدَ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُخَاصِمَ فِي عَيْبِهِ إلَّا بِأَمْرِ الْآمِرِ. لِأَنَّهُ يُخَاصِمُ لِلرَّدِّ وَهُوَ يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى إخْرَاجِهِ مِنْ يَدِ الْآمِرِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِأَمْرِهِ. 2685 - وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى الْآمِرِ، بَعْدَ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْآمِرِ، وَبَعْدَ مَا رَدَّهُ لَيْسَ لِلْآمِرِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي الْبُيُوعِ مِنْ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ. 2686 - فَإِنْ ادَّعَى الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْآمِرِ قَبْلَ الْأَسْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ ادَّعَى فِي الْعَيْبِ، هَا هُنَا، تَارِيخًا سَابِقًا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ لِذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1390 - فَإِذَا حَلَفَ الْوَكِيلُ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ، حَضَرَ الْآمِرُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى، فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يُعِيدَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ، وَقَدْ وَجَدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَاسْتَحْلَفَ الْوَكِيلَ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَزِمَ ذَلِكَ الْآمِرَ. لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُلْجَأٌ إلَى هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا لَحِقَتْهُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَرُدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ يَأْبَى الْيَمِينَ. 2688 - فَإِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْآمِرِ، وَجَحَدَ الْآمِرُ فَلِلْآمِرِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَكِيلَ إنْ شَاءَ. لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْجَأٍ إلَى هَذَا الْقَرَارِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَسْكُتَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَيَقْضِيَ بِنُكُولِهِ، وَنَظِيرُهُ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِإِقْرَارِهِ. 2689 - فَإِنْ أَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْآمِرِ لَزِمَ الْعَبْدُ الْآمِرَ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْآمِرِ، وَالْوَكِيلُ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَى أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1391 - وَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ أَبْرَأَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ مِنْ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ صَحَّ إبْرَاؤُهُ فِي حَقِّهِ. لِأَنَّهُ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِي الْخُصُومَةِ فِي هَذَا الْعَيْبِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْهُ إلَّا أَنَّ الْآمِرَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَضِيَ بِمَا رَضِيَ بِهِ الْوَكِيلُ فَيَأْخُذُ الْعَبْدَ، وَإِنْ شَاءَ أَلْزَمَهُ الْوَكِيلَ. لِأَنَّ إسْقَاطَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ مَنْ عَامَلَهُ، وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَأَبَى الْمُوَكِّلُ أَنْ يَرْضَى بِهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِلْآمِرِ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْوَكِيلِ، وَلِلْوَكِيلِ حَقُّ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَإِنَّمَا يَعْمَلُ رِضَاءُ الْوَكِيلِ فِي إسْقَاطِهِ حَقَّهُ لَا فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْآمِرِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ بِالثَّمَنِ وَحُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ وَعَوْدِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ لَا ثُبُوتَ الْمِلْكَ فِيهِ ابْتِدَاءً لِأَحَدٍ. قُلْنَا: مَا كَانَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ فَقَدْ تَمَّ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ إبَاءِ الْآمِرِ الرِّضَاءَ بِالْعَيْبِ وَرِضَاءُ الْوَكِيلِ بِهِ يَصِيرُ الْآمِرُ كَأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ الْوَكِيلِ بِمَا يَغْرَمُهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَلِهَذَا كَانَ الْمِلْكُ لِلْآمِرِ. وَفِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ هَكَذَا يَكُونُ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُهُ عَلَى الْآمِرِ لَا عَلَى الْبَائِعِ. 2691 - وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ قَبَضَ الْعَبْدَ وَغَابَ، ثُمَّ جَاءَ الْوَكِيلُ بِهِ لِيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ: لَمْ يَأْمُرْك الْآمِرُ بِرَدِّهِ بِالْعَيْبِ. وَقَالَ الْوَكِيلُ: قَدْ أَمَرَنِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1392 لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالرَّدِّ عَارِضٌ يَدَّعِيهِ الْوَكِيلُ، وَخَصْمُهُ مُنْكِرٌ، مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ. 2692 - وَإِنْ قَالَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أُرِيدُ يَمِينُ الْوَكِيلِ أَنَّ الْآمِرَ قَدْ أَمَرَهُ بِالرَّدِّ، فَلَا يَمِينَ عَلَى الْوَكِيلِ. لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ، فَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا. 2693 - وَلَوْ ثَبَتَ الْأَمْرُ فَقَالَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ: قَدْ رَضِيَ الْآمِرُ بِالْعَيْبِ وَكَذَّبَهُ الْوَكِيلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ. لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ هَا هُنَا يَدَّعِي، شَيْئًا عَارِضًا وَهُوَ رِضَاءُ الْآمِرِ بِالْعَيْبِ. 2694 - وَلَوْ ادَّعَى الرِّضَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَكِيلِ لِإِنْكَارِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الرِّضَاءَ عَلَى الْآمِرِ، لَا يَمِينَ عَلَى الْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ الرِّضَاءَ مُدَّعًى عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْآمِرُ. 2695 - فَلَوْ اسْتَحْلَفَ الْوَكِيلَ كَانَ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ، وَلَا نِيَابَةَ فِي الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ لَا يَحْلِفُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَوْ كَانَ حَاضِرًا. لِأَنَّهُ مَا عَامَلَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْلِفَ، فَإِذَا كَانَ لَا يَحْلِفُ مَنْ ادَّعَى الرِّضَاءَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَحْلِفُ غَيْرُهُ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1393 2696 - وَإِنْ ادَّعَى الرِّضَى عَلَى الْوَكِيلِ وَأَرَادَ يَمِينَهُ فَلَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ. 2697 - فَإِذَا جَحَدَ الرِّضَى بَعْدَ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ اُسْتُحْلِفَ فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ الْعَبْدُ ثُمَّ الْآمِرُ بِالْخِيَارِ. لِأَنَّهُ بِنُكُولِهِ صَارَ رَاضِيًا بِالْعَيْبِ إمَّا بِطَرِيقِ الْبَدَلِ أَوْ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ بِهِ إنْ كَانَ أَقَامَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْآمِرَ قَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ، وَهُوَ غَائِبٌ، فَقُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ، فَإِنْ حَضَرَ الْآمِرُ وَجَحَدَ الرِّضَاءَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ خَصْمٌ عَنْهُ، وَبَعْدَ مَا ثَبَتَ رِضَاهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى خَصْمِهِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى جُحُودِهِ. 2698 - وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ عَالِمًا بِالْعَيْبِ حِينَ أَخَذَهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْآمِرِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ كَالْعَمَى أَوْ غَيْرَ مُسْتَهْلِكٍ لِلْعَبْدِ. فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ الْعَيْبُ غَيْرَ مُسْتَهْلِكٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ، وَهَذَا نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى الْأَعْمَى بِمِثْلِ ثَمَنِهِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعْرُوفٌ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَنْ يَكُونَ شِرَاؤُهُ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1394 الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي الشِّرَاءِ لَا يَلْزَمُ الْآمِرَ؛ وَهَا هُنَا الثَّمَنُ مُسَمًّى، وَهُوَ مَا أَخَذَهُ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَيَلْزَمُ الْآمِرَ إذَا أَخَذَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعِنْدَهُمَا هُنَاكَ الْعَقْدُ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ إذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْمُوَكَّلِ، وَهَا هُنَا لَا يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ رِضَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ الْمِلْكِ، وَقَدِيمُ الْمِلْكِ كَانَ لِلْآمِرِ لَا لِلْوَكِيلِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْآمِرِ كَانَ بَاطِلًا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ إذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَرَضِيَ الْآمِرُ بِهِ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَتَمَّ مُوجَبُ ذَلِكَ الْعَقْدِ ثُمَّ الْآمِرُ يَلْزَمُهُ الْوَكِيلُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِعَيْبِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ ابْتِدَاءً بِعِوَضٍ. - وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ إنَّ مَوْلَاهُ وَكَّلَنِي بِأَخْذِهِ مِنْك بِالثَّمَنِ، فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْلَى فَجَحَدَ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّ الْآمِرَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ أَخْذُ الْوَكِيلِ لَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ. 2700 - فَإِنْ حَلَفَ رَجَعَ الْعَبْدُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقُولَ آخُذُهُ لِنَفْسِي. لِأَنَّهُ مَا أَخَذَهُ ابْتِدَاءً عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى بِالْفِدَاءِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ بَطَلَ أَخْذُهُ، بِخِلَافِ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ بِالْأَخْذِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، إذَا أَخَذَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ الشَّفِيعُ الْوَكَالَةَ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ يَكُونُ لِلْوَكِيلِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ ابْتِدَاءً بِعِوَضٍ، فَإِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1395 الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ الْمُبْتَدَأِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِجُحُودِهِ كَانَ نَافِذًا عَلَى الْوَكِيلِ. 2701 - وَإِنْ أَقَامَ الْآخِذُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ وَكَّلَهُ بِأَخْذِهِ كَانَ الثَّابِتُ مِنْ الْآمِرِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ لِلْآمِرِ. وَحُكْمُ الْعُهْدَةِ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. - وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ. فَاشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْلَى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ، وَلَكِنْ يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي أَوْ يَدَعُ. لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ حَقَّ الْأَخْذِ بِالْفِدَاءِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ تَصَرُّفًا سَبَقَ أَخْذُهُ، كَمَا قَرَّرْنَا. 2703 - فَإِنْ وَجَدَهُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا. لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ، ثُمَّ الْبَائِعُ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَلِهَذَا يَحْبِسُهُ عَنْهُ بِالثَّمَنِ إذَا نَقَدَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1396 2704 - وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ دَفَعَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَتْبَعُ الْمُوَكِّلَ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الْعَبْدَ وَيَدْفَعُ إلَيْهِ الثَّمَنَ. لِأَنَّ حُكْمَ يَدِ الْوَكِيلِ قَدْ انْتَهَى بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْآمِرِ، وَلِهَذَا لَا يَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ إلَّا بِرِضَاءِ الْآمِرِ، وَلَا يَحْبِسُهُ عَنْهُ بِالثَّمَنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ يُخَاصِمُ ذَا الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاصِمُ لِيَأْخُذَهُ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ مِمَّنْ فِي يَدِهِ. 2075 - فَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ شِرَاءَ الْوَكِيلِ قَصْدًا، وَلَكِنْ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ الْوَكِيلُ إنْ شَاءَ. لِأَنَّهُ صَادَفَهُ فِي يَدِهِ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي. إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ بِالْأَخْذِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَهَا هُنَا الْمَوْلَى لَا يَتَمَلَّكُهُ ابْتِدَاءً وَلَكِنْ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ غَيْرِ ذِي الْيَدِ لِأَخْذِهِ، وَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِأَخْذِهِ فَاتَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ، فَيُنْتَقَضُ ذَلِكَ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ فِيمَا بَيْنَهُمَا حُكْمًا لِأَخْذِهِ، وَيُلْتَحَقُ هَذَا بِمَا لَوْ أَخَذَهُ قَبْلَ شِرَاءِ الْوَكِيلِ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الشَّفِيعِ أَيْضًا إذَا أَخَذَهُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ قَبَضَهُ فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ فَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ فَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1397 2706 - فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا كَانَ حَادِثًا بِهِ بَعْدَ مَا أُسِرَ مِنْ يَدِهِ، فَرَدَّهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ رَدُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوْ عَلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ عَلَى الْمُوَكِّلِ. لِأَنَّهُ بِهَذَا الرَّدِّ انْفَسَخَ قَبْضُهُ فَيَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ قَبْضِهِ. 2707 - وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ يَعُودُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمُوَكِّلِ وَلَا لِلْوَكِيلِ عَلَيْهِ فِي أَخْذِهِ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا قَدْ انْتَقَصَ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَنَظِيرُهُ الشُّفْعَةُ. 2708 - وَإِنْ كَانَ رَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَهُوَ لِلْوَكِيلِ. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ الْمُبْتَدَأِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُهُ. 2709 - وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ وَكَّلَ وَكِيلًا بِأَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ بِالثَّمَنِ فَأَخَذَهُ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ، فَهَلَاكُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَقْبِضُ لَهُ فَيَدُهُ كَيَدِهِ، مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَكِيلُ فَقَدْ انْتَقَضَ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَخْذِ، وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَيَدْفَعُهُ إلَى الْآمِرِ، إنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1398 أَعْطَاهُ مِنْ مَالِهِ، وَيُسَلِّمُ مِنْ مَالِهِ إنْ كَانَ أَعْطَاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَإِنْ تَوَى الثَّمَنُ عَلَى الَّذِي أَعْطَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ فِي إعْطَاءِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ عَامِلًا لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي إسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ دُونَ الْآمِرِ. 2710 - وَبِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ مِنْ الْآمِرِ إذَا قَبَضَهُ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ الثَّمَنَ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْوَكِيلِ، وَبَطَلَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُوَكِّلِ. لِأَنَّهُ حِينَ مَنَعَهُ فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ بِالثَّمَنِ، وَقَدْ عُرِفَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَهَذَا قِيَاسُهُ. 2711 - وَإِنْ تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بَعْدَمَا مَنَعَهُ فَالْمَوْلَى الْقَدِيمُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ أَلْزَمَهُ الْوَكِيلَ بِالثَّمَنِ. لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي حَقِّهِ بَعْدَ مَا مَنَعَهُ قَامَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، وَلِهَذَا اسْتَوَى الْحُكْمُ بَيْنَ مَا إذَا تَعَيَّبَ بِصَنِيعِ الْوَكِيلِ، وَبَيْنَ مَا إذَا تَعَيَّبَ بِغَيْرِ صَنِيعِهِ، كَمَا يَسْتَوِي فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، فَإِنَّهُ إذَا عَيَّبَهُ مَا مَنَعَهُ سَقَطَتْ حِصَّةُ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذَا قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَمَعْنَى الْفَرْقِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَأْخُذُهُ هَا هُنَا بِالْفِدَاءِ، لِيُعِيدَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَكَانَ الْفِدَاءُ، بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1399 فَسَوَاءٌ فَاتَ الْوَصْفُ بِصُنْعِ مُكْتَسِبٍ أَوْ لَا بِصُنْعِ أَحَدٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْفِدَاءِ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْمُبْتَدَأِ فَإِنَّ الْوَصْفَ يَأْخُذُ حَظًّا مِنْ الثَّمَنِ فِي الشِّرَاءِ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ. 2712 - وَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ أَقَالَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَكِّلِ. لِأَنَّ بِأَخْذِهِ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِعَقْدٍ يُنْشِئُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَالْإِقَالَةُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ. - وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مَوْلَاهُ بِالثَّمَنِ فَهَذَا جَائِزٌ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الْمُؤَاخَذُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ. . وَهَذَا الْحُكْمُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَظْهَرُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ يُزِيلُ مِلْكَهُ بِعِوَضٍ، فَهَذَا التَّصَرُّفُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى هُوَ إعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِالْفِدَاءِ. - وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ بَاعَ الْعَبْدَ مِنْ إنْسَانٍ بِجَارِيَةٍ وَلَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى حَضَرَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ فِي يَدِهِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ نَقْضِ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الثَّانِي، وَالْجَارِيَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1400 لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهَا، كَالشَّفِيعِ ثُمَّ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي الْآخَرِ، لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَتَبْقَى الْجَارِيَةُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ، وَقِيمَتُهَا لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، وَعُهْدَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، وَإِنْ كَانَ حَضَرَ بَعْدَ التَّقَابُضِ، أَوْ بَعْدَ مَا قَبَضَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْجَارِيَةَ أَخَذَهُ بِقِيمَتِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ. لِأَنَّ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا بَاقٍ قَدْ انْتَهَى بِقَبْضِ الْعَبْدِ. 2715 - فَإِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا رَدَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي الْآخَرِ، وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ الَّتِي أَخَذَهَا لَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فِي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْهُ أَخَذَهُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَلَوْ رَدَّ الْجَارِيَةَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ مِنْ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ وَاسْتَرَدَّ الْعَبْدَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْلَى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، فَإِنَّ مُنَاقَضَتَهُمَا الْبَيْعَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْمَوْلَى عَنْ الْأَخْذِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي. فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّهُ فِي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَالْمُشْتَرِي قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَنَظِيرُ هَذَا الشُّفْعَةُ. وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ بَدَلَ الدَّارِ كَانَتْ جَارِيَةً قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ، فَيَأْخُذُهُ بِتَحْوِيلٍ إلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَكَذَلِكَ بَدَلُ الْجَارِيَةِ بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ الدَّارَ قِيمَتَهَا فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1401 - وَإِنْ كَانَ رَدَّ الْجَارِيَةَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ، وَاسْتَرَدَّ الْعَبْدَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ حِينَ اُنْتُقِضَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ جَعَلْنَا الْبَيْعَ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَطَلَ حَقُّ الشَّفِيعِ، وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ إبْطَالَ حَقِّ الشَّفِيعِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الْأَخْذِ، وَهَا هُنَا حَقُّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ لَا يَبْطُلُ، وَإِنْ جَعَلْنَا الْبَيْعَ الثَّانِيَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ هُوَ الَّذِي وَجَدَ الْعَيْبَ بِالْعَبْدِ فَرَدَّهُ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قُلْنَا. 2717 - وَلَوْ تَقَايَلَا أَخَذَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي حَقِّهِ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ تَصَرُّفًا فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِآخِرِ الْأَثْمَانِ. 2718 - وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ قَبَضَ الْعَبْدَ وَلَمْ يَرَهُ، أَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْلَى، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِهِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ. لِأَنَّهُ صَادَفَهُ فِي يَدِهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَالْمُشْتَرِي الْآخَرُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ سَلَّمَ الْجَارِيَةَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، وَكَانَتْ لَهُ الْقِيمَةُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْمَوْلَى، وَإِنْ شَاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1402 سَلَّمَ الْقِيمَةَ إلَيْهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْجَارِيَةَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ الْجَارِيَةُ تُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَيَكُونُ قِيمَتُهَا لِلْمُشْتَرِي الْآخَرِ. لِأَنَّ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَدْ كَانَ هُوَ مَالِكًا رَاضِيًا بِالْعَقْدِ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الرَّدِّ لِلْجَهْلِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ حِينَ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ، فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ. وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَقَدْ كَانَ مَانِعًا خُرُوجَ الْجَارِيَةِ مِنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ فِيهَا خِيَارُ الْبَائِعِ فَهُوَ يَعْدَمُ رِضَاهُ بِتَمْلِيكِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِ، فَبَعْدَمَا أَخَذَ الْعَبْدَ مِنْ يَدِهِ يَبْقَى هُوَ عَلَى خِيَارِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الْعَقْدَ فِي الْجَارِيَةِ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ فِيهَا، وَرَدَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِأَخْذِ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ الْعَبْدَ تَعَيَّنَ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فِي قِيَمِهِ الْجَارِيَةِ. 2719 - وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ فَالْجَارِيَةُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ. لِأَنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ سَقَطَ خِيَارُهُ، وَيَتِمُّ الْبَيْعُ فِيهَا، فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهَا، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ لِلْمُشْتَرِي الْآخَرِ. 2720 - وَلَوْ كَانَا تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى رَدَّ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ الْعَبْدَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ خِيَارِ الْعَيْبِ ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ. لِأَنَّ بِالرَّدِّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ قَدْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ الثَّانِي مِنْ الْأَصْلِ، فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1403 - وَلَوْ لَمْ يَفْسَخْ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ الْعَقْدَ حَتَّى حَضَرَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ فَأَخَذَ الْعَبْدَ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَإِنَّ الْقِيمَةَ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْجَارِيَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْآخَرِ إنْ كَانَ قَبَضَهَا مِنْهُ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ قَدْ انْتَقَضَ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي لِلْمَوْلَى بِالْعَبْدِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، ثُمَّ رَأَى بِهِ عَيْبًا حَادِثًا بَعْدَ مَا قَبَضَهُ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ، فَرَدَّهُ، فَلَا سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي الْآخَرِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الْقَضَاءِ بِهِ لِلْمَوْلَى بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ قَدْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ الثَّانِي فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَهُوَ نَظِيرُ الشُّفْعَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، فَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْبَائِعِ يَتَضَمَّنُ نَقْضَ الْبَيْعِ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي حَتَّى لَا يَعُودَ، وَإِنْ رَدَّهُ الشَّفِيعُ بِالْعَيْبِ. 2722 - وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ بِالثَّمَنِ فَقَالَ الْوَكِيلُ لِلْمُشْتَرِي: أَعْطِهِ فُلَانًا بِالثَّمَنِ، وَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَالثَّمَنُ عَلَى الْآمِرِ هَا هُنَا، دُونَ الْوَكِيلِ. لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ هَا هُنَا سَفِيرًا لَا عَاقِدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَعْطِنِيهِ. 2723 - وَلَوْ قَالَ أَعْطِهِ فُلَانًا بِالثَّمَنِ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك الثَّمَنَ، أَوْ أَعْطِهِ إيَّاهُ بِثَمَنِهِ مِنْ مَالِي، فَالثَّمَنُ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ. لِأَنَّ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَى مَالِ نَفْسِهِ أَوْ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1404 الْوَكِيلِ بِالصُّلْحِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: صَالِحْ فُلَانًا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، عَلَى أَنِّي لَهَا ضَامِنٌ، أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي، كَانَ الْمَالُ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْآمِرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: صَالِحْنِي. وَأَمَّا بَيَانُ كَوْنِهِ أَقْوَى، فَفِي الْوَكِيلِ بِالْخُلْعِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: اخْلَعْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي، أَوْ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَهَا، كَانَ الْمَالُ عَلَى الْوَكِيلِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْوَكِيلِ هَا هُنَا لَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَيْهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ، أَوْ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَى مَالِهِ، يَكُونُ أَقْوَى مِنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ فِي وُجُوبِ الْبَدَلِ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ. - وَإِذَا أَخَذَ الْعَدُوُّ إبْرِيقَ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ لِجَوْدَتِهِ وَصِنَاعَتِهِ، فَلِمَالِكِهِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ أَعْطَى فِي فِدَائِهِ هَذَا الْمِقْدَارَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوْلَى الْقَدِيمَ إنَّمَا يَأْخُذُهُ بِمَا أَعْطَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فِي فِدَائِهِ، فَيَكُونُ هَذَا مُسْتَقِيمًا. لِأَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُهُ ابْتِدَاءً بِعِوَضٍ، وَإِنَّمَا يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِالْفِدَاءِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مَعْنَى الرِّبَا فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ. 2725 - وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ لِيَأْخُذَهُ بِهِ. لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَامَ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1405 - وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ لَمْ يُنْتَقَضْ الْأَخْذُ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ فِدَاءٌ، وَلَيْسَ بِشِرَاءٍ مُبْتَدَأٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ. 2727 - فَإِنْ أَعْطَى الْوَكِيلُ الْفِدَاءَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَهُ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ الْفِدَاءَ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْمَنْعِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ هَلَكَ بِجَمِيعِ الْفِدَاءِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكِيلَ بَعْدَ مَا مَنَعَهُ قَامَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ. وَأَوْضَحَ هَذَا بِرَجُلٍ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ بِكُرٍّ مِنْ تَمْرٍ، فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ وَنَقَدَ الْكُرَّ مِنْ مَالِهِ، وَقَبَضَهُ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنْ الْآمِرِ حَتَّى يَدْفَعَ إلَيْهِ الْكُرَّ فَأَثْمَرَتْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كُرًّا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَقْبِضَهُ مَعَ التَّمْرِ بِكُرٍّ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مَعْنَى الرِّبَا بَيْنَهُمَا بِالزِّيَادَةِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَامَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَلَوْ أَثْمَرَتْ كُرًّا فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَثْمَرَتْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَكِيلُ رَأَى بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَرَضِيَ بِهِ، وَأَبَى الْمُوَكِّلُ أَنْ يَرْضَى بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ بِالْكُرِّ، وَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُبَايَعَةٍ تَجْرِي بَيْنَهُمَا ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ رَأَى الْعَيْبَ بِالْأَرْضِ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ كَانَ قَدْ رَدَّ أَرْضًا وَنَخْلًا وَكُرًّا مِنْ تَمْرٍ بِكُرٍّ مِنْ تَمْرٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا أَثْمَرَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1406 فِي يَدِ الْبَائِعِ، قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَكِيلُ، فَأَمَّا إذَا أَثْمَرَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ. وَأَوْضَحَ هَذَا أَيْضًا بِمَا لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ اشْتَرَى لِلْآمِرِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ خَطَأً فِي يَدِ الْبَائِعِ، أَوْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي النَّخِيلِ إذَا أَثْمَرَتْ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَقِيقَةُ الرِّبَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِي الْبَيْعِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا مَسْأَلَةُ الْإِبْرِيقِ لَوْ رَأَى الْوَكِيلُ الْعَيْبَ بِهِ فَأَبَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ ثُمَّ أَبَى الْآمِرُ أَنْ يَرْضَى بِهِ، فَالْإِبْرِيقُ لِلْوَكِيلِ بِمَا أَدَّى بِهِ مِنْ الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ حُكْمُ الرِّبَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1407 [بَابُ مَا يُكْرَهُ إدْخَالُهُ دَارَ الْحَرْبِ وَمَا لَا يُكْرَهُ] 2728 - قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمُ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ مَا شَاءَ، إلَّا الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ وَالسَّبْيَ، وَأَلَّا يَحْمِلَ إلَيْهِمْ شَيْئًا أَحَبُّ إلَيَّ. لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْدُوبٌ أَنْ يُسْتَبْعَدَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ» . وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» . وَفِي حَمْلِ الْأَمْتِعَةِ إلَيْهِمْ لِلتِّجَارَةِ نَوْعُ مُقَارَبَةٍ مَعَهُمْ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَفْعَلَ وَلِأَنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِمَا يَحْمِلُ إلَيْهِمْ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ طَعَامٍ، وَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ. 2729 - وَالْأَوْلَى لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْقُوَّةِ لَهُمْ، إلَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ الْحَنَفِيَّ أَسْلَمَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانُوا يَمْتَارُونَ، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي حَمْلِ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ» وَأَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1408 فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى بَعْضِ مَا فِي دِيَارِهِمْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَمْتِعَةِ، فَإِذَا مَنَعْنَاهُمْ مَا فِي دِيَارِنَا فَهُمْ يَمْنَعُونَ أَيْضًا مَا فِي دِيَارِهِمْ. 2730 - وَإِذَا دَخَلَ التَّاجِرُ إلَيْهِمْ لِيَأْتِيَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ دِيَارِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَحْمِلَ إلَيْهِمْ بَعْضَ مَا يُوجَدُ فِي دِيَارِنَا، فَلِهَذَا رَخَّصْنَا لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، إلَّا الْكُرَاعَ وَالسَّبْيَ وَالسِّلَاحَ. فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ إلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ، وَقَتْلِ مُقَاتِلَتِهِمْ، لِدَفْعِ فِتْنَةِ مُحَارَبَتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي تَقْوِيَتِهِمْ عَلَى مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ. 2731 - وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ثَبَتَ فِي السَّبْيِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَاتِلَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ، وَتَقْوِيَتُهُمْ بِالْمُقَاتِلِ فَوْقَ تَقْوِيَتِهِمْ بِآلَةِ الْقِتَالِ. 2732 - وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْهُ السِّلَاحُ. لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ فِي الْأَصْلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] وَالْمَصْنُوعُ مِنْهُ وَغَيْرُ الْمَصْنُوعِ فِي كَرَاهِيَةِ الْحَمْلِ إلَيْهِمْ سَوَاءٌ، وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1409 لِأَنَّ الْحَدِيدَ أَصْلُ السِّلَاحِ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيمَا يَحْصُلُ مِنْ أَصْلٍ يَكُونُ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا كَسَرَ بَيْضَ الصَّيْدِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَمَا يَلْزَمُهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ. 2733 - وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ بَيْعَ السِّلَاحِ فِي الْفِتَنِ، وَهَكَذَا نَقُولُ، فَإِنَّ بَيْعَ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ اكْتِسَابُ سَبَبِ تَهْيِيجِهَا، وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَسْكِينِهَا. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا» فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا فِي زَمَانِ الْفِتْنَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ فَلَأَنْ يُكْرَهَ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِلْبَيْعِ مِنْهُمْ كَانَ أَوْلَى. 2734 - وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ. لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ لَا تَصِيرُ مَعْصُومَةً بِدُخُولِهِ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، وَلَكِنَّهُ ضَمِنَ بِعَقْدِ الْأَمَانِ أَلَّا يَخُونَهُمْ، فَعَلَيْهِ التَّحَرُّزُ عَنْ الْخِيَانَةِ، وَبِأَيِّ سَبَبٍ طَيَّبَ أَنْفُسَهُمْ حِينَ أَخَذَ الْمَالَ، فَإِنَّمَا أَخَذَ الْمُبَاحَ عَلَى وَجْهٍ مَنَعَهُ عَنْ الْغَدْرِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ طَيِّبًا لَهُ، الْأَسِيرُ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُمْ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ بَاعَهُمْ مَيْتَةً بِدَرَاهِمَ، أَوْ أَخَذَ مَالًا مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْقِمَارِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ طَيِّبٌ لَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْأَسِيرِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْمَنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَكِنَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1410 نَقُولُ: الْمُسْتَأْمَنُ إنَّمَا يُفَارِقُ الْأَسِيرَ فِي الْأَخْذِ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَمَّا فِي الْأَخْذِ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ كَالْأَسِيرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَلَّا يَغْدِرَ بِهِمْ، وَلَا غَدْرَ فِي هَذَا. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ «بِحَدِيثِ مُخَاطَرَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ فِي غَلَبَةِ الرُّومِ مَعَ أَهْلِ فَارِسَ، حَتَّى قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - زِدْهُ فِي الْخَطَرِ وَأَبْعِدْ فِي الْأَجَلِ» . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا مَعَهُمْ لَمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. 2735 - «وَلَمَا قَمَرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَخَذَ الْخَطَرَ فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ» . فَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ سُفْيَانُ فَيَقُولُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ طَيِّبًا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّصَدُّقِ. 2736 - وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا لَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أَنْ يُقَامِرَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مَا أَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ) . فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا، وَلَكِنْ نَدَبَهُ إلَى التَّصَدُّقِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنْ صِدْقِهِ. 2737 - وَاسْتَدَلَّ «بِمُصَارَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ رُكَانَةَ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِثُلُثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1411 غَنَمِهِ» ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «ثُمَّ لَمَّا صَرَعَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ قَالَ مَا وَضَعَ أَحَدٌ جَنْبِي قَطُّ، وَمَا أَنْتَ صَرَعَتْنِي فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الْغَنَمَ عَلَيْهِ» فَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ سُفْيَانُ فَيَقُولُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ طَيِّبًا مَا رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا مَا دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا رَدَّ الْغَنَمَ عَلَيْهِ تَطَوُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِ. وَكَثِيرًا مَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُؤَلِّفُهُمْ بِهِ حَتَّى يُؤْمِنُوا. 2738 - وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِحَدِيثِ «بَنِي قَيْنُقَاعِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَجْلَاهُمْ قَالُوا: إنَّ لَنَا دُيُونًا لَمْ تَحِلَّ بَعْدُ، فَقَالَ: تَعَجَّلُوا أَوْ ضَعُوا» «وَلَمَّا أَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ قَالُوا: إنَّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: ضَعُوا أَوْ تَعَجَّلُوا» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ دَيْنٌ إلَى أَجَلٍ فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُعَجِّلَ بَعْضَهُ، لَمْ يَجُزْ، كَرِهَ ذَلِكَ عُمَرُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ثُمَّ جَوَّزَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا أَجْلَاهُمْ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْلِمِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. 2739 - قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَسْكَرِهِمْ وَالْمُشْرِكُونَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَايِعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إلَّا بِمَا يَجُوزُ بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1412 الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ فِي مَنْعَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا وَمَا لَوْ كَانَا فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ. وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: هَذَا الْجَوَابُ غَلَطٌ، فَإِنَّ جَوَازَ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِمَالِهِمْ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي مَنَعَتِهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَرْبِيُّ فِي مَنَعَةِ الْمُشْرِكِينَ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، اعْتَمَدَ فِيمَا أَجَابَ بِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَجْرِي فِيهِ الْمُعَامَلَةُ، فَقَالَ: - إنْ كَانَا جَمِيعًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَجْرِي فِيهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ يَجُوزُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ،. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «فَإِنَّ نَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا قُتِلَ فِي الْخَنْدَقِ سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ جِيفَتَهُ بِمَالٍ يُعْطُونَهُ الْمُسْلِمِينَ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، عَنْ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «إنَّهُ خَبِيثُ الدِّيَةِ خَبِيثُ الْجِيفَةِ، فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ» ، وَإِنَّمَا كُرِهَ هَذَا عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْخَنْدَقِ كَانَ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى مَا قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى فِيهِ كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ، إنْ لَمْ تَثْبُتْ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَنَّهُ خَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ. فَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ، أَوْ لِئَلَّا يُنْسَبَ إلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يَلِيقُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: «بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» وَذَكَرَ حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1413 أَنَّهُ «اشْتَرَى يَوْمَ خَيْبَرَ تِبْرًا بِذَهَبٍ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ فَرَدَّهُ» ، وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ سُفْيَانُ فَيَقُولُ: إنَّمَا أَمَرَهُ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ مَنْ يَكْرَهَ هَذَا إنَّمَا يَكْرَهُهُ لِلْمُسْتَأْمَنِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَا كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَسَعْدٌ يَوْمَ خَيْبَرَ مَا كَانَ فِي أَمَانٍ مِنْ الْيَهُودِ، وَلَكِنْ كَانَ مُحَارِبًا لَهُمْ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ كَانَتْ فِي مَنْعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1414 [بَابُ مَنْ يُكْرَهُ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِمْ] 2741 - قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ النِّسَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا الصِّبْيَانُ وَلَا الْمَجَانِينُ وَلَا الشَّيْخُ الْفَانِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وَهَؤُلَاءِ لَا يُقَاتِلُونَ، «وَحِينَ اسْتَعْظَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَتْلَ النِّسَاءِ أَشَارَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: هَاهْ، مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ، أَدْرِكْ خَالِدًا وَقُلْ لَهُ، لَا تَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا» وَلِأَنَّ الْكُفْرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ فَهُوَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، جَلَّ وَعَلَا، وَجَزَاءُ مِثْلِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ يُؤَخَّرُ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ، فَأَمَّا مَا عُجِّلَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَشْرُوعٌ لِمَنْفَعَةٍ تَعُودُ إلَى الْعِبَادِ، وَذَلِكَ دَفْعُ فِتْنَةِ الْقِتَالِ، وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُقَاتِلُ، بَلْ مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي إبْقَائِهِمْ لِيَكُونُوا أَرِقَّاءَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قَاتَلَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا السَّبَبَ الَّذِي بِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ، وَإِذَا كَانَ يُبَاحُ قَتْلُ مَنْ لَهُ بِنْيَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1415 صَالِحَةٌ لِلْمُحَارَبَةِ يُتَوَهَّمُ الْقِتَالُ مِنْهُ، فَلَأَنْ يُبَاحَ قَتْلُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْقِتَالِ كَانَ أَوْلَى. 2742 - وَإِنْ قَتَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنْسَانًا ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتُلُوهُ. لِأَنَّ قَتْلَهُ إنَّمَا أُبِيحَ لِدَفْعِ قِتَالِهِ، وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُخَاطَبًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ جِنَايَةً يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْعُقُوبَةَ جَزَاءً عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ، فَإِنَّهَا إذَا صَالَتْ عَلَى إنْسَانٍ يُبَاحُ قَتْلُهَا دَفْعًا، ثُمَّ إذَا أَخَذَتْ وَانْدَفَعَ قَصْدُهَا لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهَا. - وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالشَّيْخُ الْفَانِي فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمَا بَعْدَ مَا أَخَذَا؛ لِأَنَّهُمَا مُخَاطَبَانِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الْعُقُوبَةَ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِمَا. وَقَدْ تَحَقَّقَ الْفِعْلُ الْمُوجِبُ لِعُقُوبَةِ الْقَتْلِ مِنْهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يُقْتَلَانِ قِصَاصًا؟ فَكَذَلِكَ يُقْتَلَانِ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِمَا. - وَمَنْ قَتَلَ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ قَبْلَ وُجُودِ الْقِتَالِ مِنْهُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ. لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي الْمَحَلِّ، وَذَلِكَ بِالدَّيْنِ أَوْ بِالدَّارِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا حَرُمَ قَتْلُهُمْ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْلِ، وَهِيَ الْمُحَارَبَةُ، لَا لِوُجُودِ عَاصِمٍ أَوْ مُقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ، فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1416 فِي حَدِيثٍ بِقَوْلِهِ: «هُمْ مِنْهُمْ» يَعْنِي أَنَّ ذَرَارِيَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ، فِي أَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لَهُمْ وَلَا قِيمَةَ لِذِمَّتِهِمْ. قَالَ: «وَالْعَسِيفُ الَّذِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، عَنْ قَتْلِهِ الْأَجِيرُ» ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرَّاثِ، يَعْنِي مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ هِمَّتِهِ الْقِتَالُ وَإِنَّمَا هِمَّتُهُ مِنْ الْقِتَالِ اكْتِسَابُ الْمَالِ فَقَطْ، بِإِجَارَةِ النَّفْسِ بِخِدْمَةِ الْغَيْرِ، أَوْ الِاشْتِغَالِ بِالْحِرَاثَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِانْعِدَامِ الْقِتَالِ مِنْهُ، وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ» ، فَالْمُرَادُ بِالشُّيُوخِ الْبَالِغُونَ وَبِالشَّرْخِ الصِّبْيَانُ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِحْيَاءِ الِاسْتِرْقَاقُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49] فَأَمَّا الشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي لَا يَكُونُ مِنْهُ الْقِتَالُ، وَلَا يُعِينُ الْمُقَاتِلِينَ بِالرَّأْيِ، وَلَا يُرْجَى لَهُ نَسْلٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، وَبَيَانُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، نَهَى أَنْ يَقْتُلَ الْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ فَإِنْ أَعَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمُقَاتِلِينَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا. هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فَأَنْكَرَ قَتْلَهَا، وَقَالَ: مَنْ قَتَلَهَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْدَفْتهَا خَلْفِي فَأَرَادَتْ قَتْلِي فَقَتَلْتهَا، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَدُفِنَتْ» . - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ تُعْلِنُ شَتْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا، لِحَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إنِّي سَمِعْت امْرَأَةً مِنْ يَهُودَ وَهِيَ تَشْتُمُك، وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1417 اللَّهِ إنَّهَا لَمُحْسِنَةٌ إلَيَّ فَقَتَلْتهَا فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، دَمَهَا» . وَاسْتَدَلَّ «بِحَدِيثِ عُمَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ فَإِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ تُؤْذِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَتَعِيبُ الْإِسْلَامَ، وَتُحَرِّضُ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَتَذْكُرُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا، وَهُوَ هَذَا: بِاسْتِ بَنِي مَالِكٍ وَالنَّبِيتِ ... وَعَوْفٍ وَبِاسْتِ بَنِي الْخَزْرَجِ أَطَعْتُمْ أَتَاوَى مِنْ غَيْرِكُمْ ... فَلَا مِنْ مُرَادٍ وَلَا مَذْحِجِ تَرْجُونَهُ بَعْدَ قَتْلِ الرُّءُوسِ ... كَمَا يُرْتَجَى مَرَقُ الْمُنْضَجِ أَلَا أَنِفٌ يَبْتَغِي عِزَّةً ... فَيَقْطَعُ مِنْ أَمَلِ الْمُرْتَجِي - وَذَلِكَ بَعْدَ مَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَدْرٍ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّ لَك عَلَيَّ نَذْرًا إنْ رَدَدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، إلَى الْمَدِينَةِ لَأَقْتُلَنَّهَا. . . الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَتَلَهَا لَيْلًا ثُمَّ أَصْبَحَ وَصَلَّى الصُّبْحَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1418 فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ قَالَ: أَقَتَلْتَ ابْنَةَ مَرْوَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ ثُمَّ، الْتَفَتَ إلَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: إذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا إلَى رَجُلٍ نَصَرَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَانْظُرُوا إلَى عُمَيْرٍ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْأَعْمَى الَّذِي أَسْرَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَقُلْ الْأَعْمَى، وَلَكِنَّهُ الْبَصِيرُ» الْحَدِيثَ. وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ حِينَ قَتَلَ أُمَّ قِرْفَةَ، وَهِيَ كَانَتْ مِمَّنْ تُحَرِّضُ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهَا جَهَّزَتْ ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنْ وَلَدِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: سِيرُوا حَتَّى تَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ فَتَقْتُلُوا مُحَمَّدًا، فَبَلَعَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَذِقْهَا ثُكْلَهُمْ، فَقَتَلَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَبَعَثَ بِدِرْعِهَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَنُصِبَ بَيْنَ رُمْحَيْنِ بِالْمَدِينَةِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهَا قَيْسُ بْنُ الْمُسَحَّرِ أَسْوَأَ قِتْلَةٍ عَلَّقَ فِي رِجْلَيْهَا حَبْلَيْنِ ثُمَّ رَبَطَهَا بِبَعِيرَيْنِ فَأَرْسَلَهُمَا فَشَقَّاهَا شَقًّا حَتَّى تَقُولَ الْعَرَبُ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ فِي ذَلِكَ: لَوْ كُنْت أَعَزَّ مِنْ أُمِّ قِرْفَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1419 «وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَوْمَ الْفَتْحِ بِقَتْلِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ لِمَا كَانَتْ تَفْعَلُ مِنْ التَّحْرِيضِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَسْلَمَتْ، وَاسْتَثْنَى مِمَّنْ آمَنَهُمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ قَيْسًا وَابْنَ خَطَلٍ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا» . لِأَنَّهُمَا كَانَا يُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. - «وَأَمَرَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ بِقَتْلِ كَالسَّلْجَمِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ قَتَلَتْ خَلَّادَ بْنَ سُوَيْدٍ أَمَرَهَا بِذَلِكَ زَوْجُهَا حَتَّى لَا يَتْرُكَ بَعْدَهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ بُنَانَةُ تَسْأَلُنِي شَيْئًا، وَهِيَ تَضْحَكُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَتَقُولُ: يُقْتَلُ سَرَاةُ بَنِي قُرَيْظَةَ إلَى أَنْ نَوَّهَ إنْسَانٌ بِاسْمِهَا، فَقَالَتْ: أَنَا، وَاَللَّهِ أُقْتَلُ، وَهِيَ تَضْحَكُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: وَيْحِك إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْتُلُ النِّسَاءَ، قَالَتْ: نَعَمْ وَإِنَّمَا قَتَلْت زَوْجِي حِينَ أَمَرَنِي فَدَلَّيْت الرَّحَى عَلَى خَلَّادِ بْنِ سُوَيْدٍ فَقَتَلْته، ثُمَّ أُخْرِجَتْ فَقُتِلَتْ» 2749 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: «لَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِخَيْبَرَ أَهْدَتْ إلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1420 زَيْنَبُ بِنْتُ أَخِ مَرْحَبٍ شَاةً مَصْلِيَّةً فَأَكَلَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ الذِّرَاعَ وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الذِّرَاعَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ ثُمَّ دَعَا زَيْنَبَ وَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت؟ فَقَالَتْ: نِلْت مِنْ قَوْمِي مَا نِلْت، قَتَلْت أَبِي وَعَمِّي وَزَوْجِي فَقُلْت إنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَتُخْبِرُهُ الشَّاةُ بِمَا صَنَعْت، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مِمَّا أَكَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -» . 2750 - أَهْلُ الْمَغَازِي يَخْتَلِقُونَ فِيهِ، فَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَات أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَتَلَهَا، وَأَظْهَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عَفَا عَنْهَا، كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ الصُّلْحِ، وَبَعْدَ مَا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِخَيْبَرَ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ وَلَا مُحَارَبَةً مَعَ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا لَمْ يَقْتُلْهَا قِصَاصًا بِبِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ بِالسُّمِّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَنْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ أَوْ الدِّيَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يُوجِبُهُ عِنْدَ الِاتِّحَادِ، فَإِذَا تَنَاوَلَهُ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ عَلَى مَنْ نَاوَلَهُ دِيَةُ وَلَا قِصَاصٌ، وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ أَكَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قِصَاصًا وَلَا دِيَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1421 [بَابُ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الشِّرْكِ وَاسْتِعَانَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُسْلِمِينَ] 2751 - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ الْمُسْلِمُونَ بِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ إذَا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهِمْ. «لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، اسْتَعَانَ بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ» ، «وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رُكْبَانًا وَمُشَاةً إلَى خَيْبَرَ، يَنْظُرُونَ لِمَنْ يَكُونُ الدَّبَرَةُ فَيُصِيبُونَ مِنْ الْغَنَائِمِ، حَتَّى خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي إثْرِ الْعَسْكَرِ، كُلَّمَا مَرَّ بِتُرْسٍ سَاقِطٍ، أَوْ رُمْحٍ أَوْ مَتَاعٍ مِنْ مَتَاعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، حَمَلَهُ حَتَّى أَوْقَرَ جَمَلَهُ» «وَخَرَجَ صَفْوَانُ، وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَمَعَهُ، امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، وَهُوَ مُشْرِكٌ» ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا نَظِيرُ الِاسْتِعَانَةِ بِالْكِلَابِ، عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَوْمَ أُحُدٍ رَأَى كَتِيبَةً حَسْنَاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1422 قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ: يَهُودُ بَنِي فُلَانٍ، حُلَفَاءُ ابْنِ أُبَيٍّ فَقَالَ: إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمَنْ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا» تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، وَكَانُوا يُقَاتِلُونَ تَحْتَ رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَعِنْدَنَا إذَا كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ. - وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ رُجُوعِ ابْنِ أُبَيٍّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، لَمَّا لَمْ يَأْخُذْ بِرَأْيِهِ حِينَ أَشَارَ إلَيْهِ بِأَلَّا يَخْرُجَ مِنْ الْمَدِينَةِ غَاظَهُ ذَلِكَ، فَانْصَرَفَ وَقَالَ: أَطَاعَ الصِّبْيَانَ، وَخَالَفَنِي فِيمَا نَصَحْت لَهُ. 2753 - وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، رَدَّهُ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فَيُقَاتِلَ مَعَهُ، فَقَالَ: لَا، إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ» ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ سَبْعُمِائَةٍ مِنْ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ مِنْ حُلَفَائِهِ، فَخَشِيَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إنْ أَحَسُّوا بِهِمْ زَلَّةَ قَدَمٍ، فَلِهَذَا رَدَّهُمْ. وَعِنْدَنَا إذَا رَأَى الْإِمَامُ الصَّوَابَ فِي أَلَّا يَسْتَعِينَ بِالْمُشْرِكِينَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ. 2754 - ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الزُّبَيْرِ، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، حِينَ كَانَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ فَنَزَلَ بِهِ عَدُوُّهُ فَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ مَعَ النَّجَاشِيِّ بَلَاءً حَسَنًا. فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ بِهَا مَنْزِلَةٌ حَسَنَةٌ، فَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يُجَوِّزُ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ تَحْتَ رَايَتِهِمْ، وَلَكِنْ تَأْوِيلُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ عِنْدَنَا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1423 أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّجَاشِيَّ كَانَ مُسْلِمًا يَوْمَئِذٍ، كَمَا رُوِيَ، فَلِهَذَا اسْتَحَلَّ الزُّبَيْرُ الْقِتَالَ مَعَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ مَلْجَأٌ غَيْرُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، قَالَتْ: لَمَّا اطْمَأْنَنَّا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَكُنَّا فِي خَيْرِ دَارٍ، عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، نَعْبُدُ رَبَّنَا إلَى أَنْ سَارَ إلَى النَّجَاشِيِّ عَدُوٌّ لَهُ، فَمَا نَزَلَ بِنَا قَطُّ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْهُ، قُلْنَا: إنْ ظَهَرَ عَلَى النَّجَاشِيِّ لَمْ يَعْرِفْ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ، فَأَخْلَصْنَا الدُّعَاءَ إلَى أَنْ يُمَكِّنَ اللَّهُ النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قُلْنَا: مَنْ رَجُلٌ يَعْلَمُ لَنَا عِلْمَ الْقَوْمِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا فَنَفَخَ قِرْبَةً ثُمَّ رَكِبَهَا حَتَّى عَبَرَ النَّهْرَ، وَالْتَقَى الْقَوْمَ، وَحَضَرَ الزُّبَيْرُ مَعَهُمْ، وَجَعَلْنَا نُخْلِصُ الدُّعَاءَ إلَى أَنْ طَلَعَ الزُّبَيْرُ فِي النِّيلِ يُلِيحُ بِثَوْبِهِ، أَلَا أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَظْهَرَ النَّجَاشِيَّ، وَمَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَأَهْلَك عَدُوَّهُ، قَالَتْ: فَأَقَمْنَا عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ. فَبِهَذَا الْحَدِيثِ تَبَيَّنَ صِحَّةُ التَّأْوِيلِ الَّذِي قُلْنَا.) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1424 [بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ] 2755 - قَالَ: وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ الدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ الْمُصْمَتَ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ يَرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، بِذَلِكَ بَأْسًا فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ، وَرَوَى حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ» فَبِظَاهِرِهِ أَخَذَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: تَأْوِيلُهُ الْمُلْحَمُ وَهُوَ مَا يَكُونُ سَدَاهُ غَيْرَ حَرِيرٍ وَلُحْمَتُهُ حَرِيرٌ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ فِي الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ لُبْسُهُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا مَا يَكُونُ سَدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرَ حَرِيرٍ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِ الْحَرْبِ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا يُحْمَلُ حَدِيثُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَلْمُقُ الدِّيبَاجَ يَلْبَسُهُ دَارَ الْحَرْبِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ حَرِيرًا مُصْمَتًا فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1425 الْوَلِيدَ بْنَ أَبِي هِشَامٍ كَتَبَ إلَى ابْنِ مُحَيْرِيزٍ يَسْأَلُهُ عَنْ يَلَامِقِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ كُنْ أَشَدَّ مَا كُنْت فِي الْحَرْبِ كَرَاهِيَةً لِمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِلشَّهَادَةِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1426 [بَابُ الْمُكْرَهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ] ِ وَذَكَرَ حَدِيثَ عَطَاءٍ فِي الرَّجُلِ يُكْرَهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ قَالَ: إنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى يُقْتَلَ أَصَابَ خَيْرًا، وَإِنْ أَكَلَ وَشَرِبَ فَهُوَ فِي عُذْرٍ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، بَلْ نَقُولُ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ عِنْدَ خَوْفِ الْقَتْلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ اُضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَأَبُو يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، أَخَذَ بِقَوْلِ عَطَاءٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ قِيَاسَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ الْحُرْمَةَ تَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119] . وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ، وَبَعْدَمَا انْكَشَفَتْ الْحُرْمَةُ اُلْتُحِقَ هَذَا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ تَنَاوُلِهِ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ آثِمًا، بِخِلَافِ الْكُفْرِ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَنْكَشِفُ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ لَهُ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1427 بِالْعَزِيمَةِ، وَفِي الْإِجْرَاءِ يَكُونُ مُرَخَّصًا بِالرُّخْصَةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ، إلَّا أَنَّ فِي الْكِتَابِ لَمْ يُطْلِقْ الْجَوَابَ فِي تَأْثِيمِهِ، وَلَكِنْ قَالَ: خِفْت أَنْ يَأْثَمَ. لِأَنَّ هَذَا الْمُكْرَهَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمُبْتَلَى بِالْمَخْمَصَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ فِيمَا حَلَّ، مِنْ الْعُذْرِ وَهَا هُنَا خَوْفُ الْهَلَاكِ إنَّمَا حَصَلَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ، وَفِيمَا يَكُونُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي مَا فِيهِ صُنْعُ الْعِبَادِ بِمَا لَا صُنْعَ لِلْعِبَادِ فِيهِ، ثُمَّ فِي الِامْتِنَاعِ بَعْدَ إكْرَاهِ الْمُشْرِكِينَ إظْهَارٌ لِلصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَمَا فِيهِ مُغَايَظَةُ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي صَاحِبِ الْمَخْمَصَةِ، فَلِهَذَا صَحَّ الْجَوَابُ هَا هُنَا، بِقَوْلِهِ: خِفْت أَنْ يَأْثَمَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1428 [بَابُ مَنْ يُكْرَهُ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَنْ لَا يُكْرَهُ] ُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ مِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ دُونَ مَنْ لَا يُقَاتِلُ، فَذَكَرَ فِي جُمْلَةِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ وَالسَّيَّاحِينَ فِي الْجِبَالِ، الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ. 2758 - وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ قَتْلِ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالرُّهْبَانِ، فَرَأَى قَتْلَهُمْ حَسَنًا، لِأَنَّهُمْ فَرَغُوا أَنْفُسَهُمْ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَيَفْتَتِنُ النَّاسُ بِهِمْ، فَيَدْخُلُونَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] وَتَأْوِيلُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ فِيمَا إذَا كَانُوا يُخَالِطُونَ النَّاسَ، إمَّا خُرُوجًا إلَيْهِمْ أَوْ إذْنًا لَهُمْ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا يَحُثُّونَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّبْرِ عَلَى دِينِهِمْ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا فِي دَارٍ أَوْ كَنِيسَةٍ قَدْ طَيَّنُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ، وَتَرَهَّبُوا فِيهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْ جَانِبِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَلَا رَأْيٍ، وَلَا يُقْتَلُ مِنْهُمْ الْأَعْمَى، وَالْمُقْعَدُ، وَلَا يَابِسُ الشِّقِّ، وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدِ الْيُمْنَى خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ قِتَالِهِمْ، وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا إذَا كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ بِمَالٍ وَلَا بِرَأْيٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1429 - وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا كَانَ ذَا رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ دُونَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ أَقْطَعَ أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ فَهُوَ مِمَّنْ يُقَاتِلُ، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْقِتَالِ فِي الْغَالِبِ تَكُونُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً مِنْهُ فَهُوَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ، كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ فَيُقْتَلُ. - وَالْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ يُقْتَلُ. لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ، وَلَهُ بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقِتَالِ، وَاعْتِقَادُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْقِتَالِ فَيُقْتَلُ دَفْعًا لِشَرِّهِ. - وَمَنْ قَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ. لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَإِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ قِتَالِهِ. - وَالْقِسِّيسُونَ وَالشَّمَامِسَةُ وَالسَّيَّاحُونَ الَّذِينَ يُخَالِطُونَ النَّاسَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ. لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، إمَّا بِرَأْيِهِمْ أَوْ بِنَفْسِهِمْ إنْ تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَرَ مِنْهُمْ الْقِتَالَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَقِيقَةَ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1430 عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَكَانٍ، فَالْبِنْيَةُ الصَّالِحَةُ لِذَلِكَ مَعَ السَّبَبِ الْحَامِلِ عَلَيْهِ يُقَامُ مَقَامَهُ، مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَتْ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَى أَسْرِهِمْ أَنْ يَدْعُوا الصِّبْيَانَ وَالنِّسَاءَ حَتَّى يُخْرِجُوهُمْ إلَى دَارِنَا، لِمَا فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ يَصِيرُونَ خَوَلًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ مَنْفَعَةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فِي قَوْلِهِ: «وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ» . فَأَمَّا الشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ نَسْلٌ وَلَا مَنْفَعَةَ عِنْدَهُ، سِوَى أَنْ يُفَادَى فَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوهُ وَأَسَرُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِأَسْرِهِ لَيْسَ إلَّا تَحْصِيلُ الْمَالِ بِالْمُفَادَاةِ، وَهُمْ بِالْخِيَارِ فِيمَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهُ مِنْ الْأَمْوَالِ، إنْ شَاءُوا أَخَذُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ دَفْعُ فِتْنَةِ الْكُفْرِ، فَأَمَّا اكْتِسَابُ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ شَرْعًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكُوا الْمَعْتُوهَ إذَا قَدَرُوا عَلَى إخْرَاجِهِ؛ لِأَنَّهُ يُرْجَى إقَامَتُهُ، وَلِأَنَّهُ يُولَدُ لَهُ وَفِي تَرْكِهِ عَوْنٌ لِلْمُشْرِكِينَ، كَمَا فِي تَرْكِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ مِنْ الْمُتَرَهِّبِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى لِمِثْلِهِمْ نَسْلٌ، حَتَّى يَكُونَ فِي ذَلِكَ عَوْنٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَذَوُو الْآفَاتِ الَّذِينَ لَا يَقْتُلُونَ يُؤْسَرُونَ وَيُخْرَجُونَ إلَى دِيَارِنَا؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ قُوَّةً لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ يُصِيبُونَ النِّسَاءَ فَيُلَقِّحُونَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا ظَفِرُوا بِهِمْ فَكُلُّ مَنْ جَازَ قَتْلُهُ مِنْهُمْ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَسْرُهُ وَإِخْرَاجُهُ. - ثُمَّ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ رَأْيٌ إنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1431 وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ وَكُلُّ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إخْرَاجِهِ بِأَنْ كَانُوا جَرِيدَةَ خَيْلٍ، فَلْيَدَعُوهُ وَلَا يَعْرِضُوا لَهُ. لِأَنَّ قَتْلَهُ مُحَرَّمٌ شَرْعًا لَا لِمَنْفَعَةِ أَسْرِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ، فَبِالْعَجْزِ عَنْ الْأَسْرِ لَا يَصِيرُ الْقَتْلُ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ مُبَاحًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَقْدِرُونَ عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ إخْرَاجِهِ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَقَوَّى بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَنِي آدَمَ. - فَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمَتَاعُ فَإِنْ شَاءُوا أَخْرَجُوهُ وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُ. لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْقِتَالِ عَادَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ حَمْلُهَا إلَيْهِمْ لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ. - وَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِنَا إذَا اكْتَسَبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ إدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ مَعَ نَفْسِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْخِيَارُ لَهُمْ فِي الْمَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ، الَّتِي لَا يُرْجَى لَهَا وَلَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا سِوَى الْفِدَاءِ بِالْمَالِ، وَلِهَذَا جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا أَسَرُوهَا، أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَنْ يُفَادُوهُمَا بِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمَا وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كَوْنِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مِنْ ذَوِي الْآفَاتِ وَغَيْرِهِمْ إذَا بَاشَرَ الْقِتَالَ، أَوْ حَرَّضَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُطَاعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1432 فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِ كَسْرَ شَوْكَتِهِمْ وَتَفَرُّقَ جَمْعِهِمْ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، حَتَّى أَنَّ مَلِكَ الْقَوْمِ لَوْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ شَيْخًا فَانِيًا، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لَهُمْ، وَفِيهِ تَفْرِيقُ مَنَعَتِهِمْ، وَلَوْ أَنَّ رَاهِبًا أَوْ سَيَّاحًا دَلَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلِمَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَ الْمُشْرِكِينَ بِمَا صَنَعَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَيْخٍ لَهُ رَأْيٌ فِي الْقِتَالِ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ مِثْلِهِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ. - وَإِذَا لَقِيَ الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْمُشْرِكَ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] . وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْقَصْدُ إلَى قَتْلِهِ، «وَإِنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ اسْتَأْذَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فِي قَتْلِ أَبَوَيْهِمَا فَنَهَاهُمَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو عَامِرٍ مُشْرِكًا مُحَارِبًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَابْنُ أُبَيٍّ مُنَافِقًا بَيِّنَ النِّفَاقِ» ، قَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُفْرِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلِابْنِ الْقَصْدُ إلَى قَتْلِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبًا لِإِيجَادِهِ فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَكْتَسِبَ سَبَبَ إعْدَامِهِ وَكَانَ مُنْعِمًا عَلَيْهِ فِي التَّرْبِيَةِ، فَيُكْرَهُ لَهُ إظْهَارُ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ بِالْقَصْدِ إلَى قَتْلِهِ. 2767 - وَبَيَانُ هَذَا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1433 حِينَ قَالَ لَهُ أَبُوهُ: {لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] فَأَمَّا إذَا هَمَّ الْأَبُ بِقَتْلِ ابْنِهِ، وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، إلَّا بِقَتْلِهِ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ. لِأَنَّهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يَقْصِدُ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ إحْيَاءَ نَفْسِهِ بِسَبَبِ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهَا، وَذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. - وَلَوْ ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِالسَّبْيِ وَالْمُعْتَقِ الَّذِي كَانَ يُقَاتِلُ مَعَهُمْ، وَقَدْ قَتَلَ بَعْضَهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمَا بَعْدَ الْأَسْرِ. لِأَنَّهُ قَدْ انْدَفَعَ قِتَالُهُمَا بِالْأَسْرِ. - فَإِنْ كَانُوا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إخْرَاجِهِمَا وَهُمْ يَخَافُونَ إنْ خَلَّوْا سَبِيلَهُمَا أَنْ يَعُودَا إلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْأَمْنُ عَنْ قِتَالِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1434 - وَهُمَا فِي ذَلِكَ كَالْجَمَلِ الصَّئُولِ إذَا أَخَذَهُ رَجُلٌ فَمَنَعَهُ مِنْ الصِّيَالِ، وَهُوَ يَخَافُ إنْ خَلَّى سَبِيلَهُ أَنْ يَعُودَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ وَيَغْرَمَهُ لِصَاحِبِهِ) ، كَمَا فِي حَالِ صِيَالِهِ، وَهَذَا، لِأَنَّ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِيمَا مَضَى، فَيَتَأَيَّدُ هَذَا الظَّنُّ بِذَلِكَ الظَّاهِرِ، وَيُجْعَلُ كَالْقَائِمِ فِي الْحَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرَاهِقَ لَوْ كَانَ مَلِكَ الْقَوْمِ فَظَفِرُوا بِهِ وَعَجَزُوا عَنْ إخْرَاجِهِ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ. لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ خَوْفَ الْهَلَاكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بِاعْتِبَارِ غَالِبِ الرَّأْيِ، وَفِيمَا لَا يُمْكِنْ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى غَالِبِ الرَّأْيِ. - فَإِنْ كَانُوا يَأْمَنُونَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنْ لَا يَأْمَنُونَهُمَا إنْ دَخَلَتْ سَرِيَّةٌ غَيْرُهُمْ أَنْ يُقَاتِلَا بِهِمْ أَوْ يَقْتُلَا بَعْضَهُمْ خَلَّوْا سَبِيلَهُمَا. لِأَنَّهُمْ آمَنُوا جَانِبَهُمَا، وَدُخُولُ سَرِيَّةٍ أُخْرَى بَعْدَهُمْ مَوْهُومٌ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ، أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَى قَتْلٍ حَرَامٍ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَوْهُومِ. - وَلَوْ أَنَّ رَاهِبًا نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ إلَى بَعْضِ مَدَائِنِهِمْ فَأَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: إنَّمَا خَرَجْت هَارِبًا مِنْكُمْ خَوْفًا عَلَى نَفْسِي فَلَهُمْ أَلَّا يُصَدِّقُوهُ وَيَقْتُلُوهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1435 لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ فِي مَوْضِعِ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُقَاتَلَةِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا لَا يُقْتَلُ مَنْ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ فَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْعُذْرِ لِنَفْسِهِ مِنْهُمْ فَلَا يُصَدَّقُ. - وَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ صَادِقٌ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَلَّا يَقْتُلُوهُ، وَلَكِنْ يَأْخُذُونَهُ أَسِيرًا. لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِيمَا بُنِيَ أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَالْقَتْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِأَسْرِهِ. - وَمَنْ وَجَدُوهُ فِي كَنِيسَةٍ أَوْ دَيْرٍ، لَمْ يُطَيِّنْ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّاسَ إذَا كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ وَيَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِمْ فَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ، وَفِي قَتْلِهِمْ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ. 2775 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَاهِبًا فِي صَوْمَعَتِهِ فَسَأَلُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ، أَوْ عَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَيْنَ هُمْ؟ فَقَالَ: إنِّي أَعْرِفُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي لَا أُخْبِرُكُمْ لِأَنِّي لَا أُخْبِرُ عَنْكُمْ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ بِعِبَارَتِهِ مَا لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ، وَهُوَ انْقِطَاعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ الْمُخَالَطَةِ مَعَ النَّاسِ، وَالنَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ، وَالْمَيْلِ إلَى اكْتِسَابِ مَوَدَّتِهِمْ أَوْ عَدَاوَتِهِمْ، فَإِنْ دَلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ فَوَجَدُوهُ قَدْ خَانَهُمْ، وَاسْتَبَانَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ وَأَسْرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1436 وَلِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْخِيَانَةِ أَظْهَرَ الْمَيْلَ إلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَظْهَرَ الْعَدَاوَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ دَلَّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ هَلَاكُهُمْ بَعْدَ مَا طَلَبُوا مِنْهُ الدَّلَالَةَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَكُونُ السُّلُوكُ فِيهِ سَبَبًا لِنَجَاتِهِمْ. - وَإِنْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَتِهِ حَبَشِيًّا، وَالْقَوْمُ رُومٌ، فَاسْتَنْكَرُوهُ فَلْيَسْأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ حَالُهُ، فَطَرِيقُ إزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ السُّؤَالُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ثُمَّ فَائِدَةُ السُّؤَالِ قَبُولُ الْبَيَانِ مِنْ الْمَسْئُولِ عَنْهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي كَلَامِهِ تُهْمَةٌ وَخِيَانَةٌ. 2777 - فَإِنْ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ مِنْ نَصَارَى الْجَيْشِ تَرَهَّبْت هَا هُنَا صَدَّقُوهُ، بِقَوْلِهِ، وَلَمْ يَعْرِضُوا لَهُ. لِأَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مُحْتَمَلٌ. - وَإِنْ قَالَ: كُنْت عَبْدًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكُنْت نَصْرَانِيًّا، فَتَرَهَّبْت هَا هُنَا، أَخَذُوهُ فَرَدُّوهُ عَلَى مَوْلَاهُ. لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَبْدٌ آبِقٌ، وَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ رَدِّ الْآبِقِ عَلَى مَوْلَاهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ. - وَإِنْ قَالَ: أَسَرَنِي أَهْلُ الْحَرْبِ فَأَعْتَقُونِي فَتَرَهَّبْت فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ، وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ فَيُرَدُّ عَلَى مَوْلَاهُ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1437 وَالْمِلْكِ لِمَوْلَاهُ، ثُمَّ ادَّعَى مَا يُزِيلُهُ، فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ إلَّا لِحُجَّةٍ، كَالْعَبْدِ يَدَّعِي الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ. 2780 - وَإِنْ قَالَ: كُنْت عَبْدًا مُسْلِمًا فَتَنَصَّرْت وَتَرَهَّبْت فَقَدْ أَقَرَّ بِالرِّدَّةِ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَبَى قُتِلَ، وَإِنْ أَسْلَمَ رُدَّ عَلَى مَوْلَاهُ. وَإِذَا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَوْمًا جَرْحَى، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهِزُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَعِيشُونَ مَعَ تِلْكَ الْجِرَاحَاتِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مُقَاتِلَةٌ وَإِنَّمَا أَعْجَزَهُمْ إثْخَانُ الْجِرَاحَاتِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ كَالْمَأْسُورِينَ، الْمَرْبُوطِينَ فِي أَيْدِينَا، وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُمْ حَتَّى يَذُوقُوا الْمَوْتَ، كُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ. لِأَنَّ فِي كُلِّ جَانِبٍ لِلْمُسْلِمِينَ نَوْعَ شِفَاءِ الصُّدُورِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَإِنَّهُ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ مَرْحَبٌ. أَجْهِزْ عَلَيَّ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ: لَا، حَتَّى تَذُوقَ مِنْ الْمَوْتِ مِثْلَ مَا ذَاقَ أَخِي مَحْمُودٌ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَأَجْهَزَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ سَلَبَهُ فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، سَلَبَهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ» ، وَلَوْ كَانَ فِي حَيَاةِ مَرْحَبٍ طَمَعٌ لَمَا قَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: لَا، حَتَّى تَذُوقَ مِنْ الْمَوْتِ مِثْلَ مَا ذَاقَ أَخِي مَحْمُودٌ، وَمَا أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، سَلَبَهُ دُونَ عَلِيٍّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1438 - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَدْ أَجْهَزَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ذَلِكَ فَامْتَنَعَ مُحَمَّدٌ مِنْ الْإِجْهَازِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أَيْضًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاسِعٌ. تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَسْرِهِ وَقِسْمَتِهِ فِي جُمْلَةِ مَنْ يَقْسِمُ مَا لَمْ يَمُتْ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَسِيرِ، وَلِلْإِمَامِ رَأْيٌ فِي قَتْلِ الْأَسِيرِ وَتَرْكِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. - وَلَوْ وَجَدُوا مَرِيضًا فِي حِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلُوهُ. لِأَنَّ الْمَرَضَ يُعْجِزُهُ عَنْ الْقِتَالِ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الْيَأْسُ عَنْ قِتَالِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. - إلَّا أَنْ يُحِيطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ مَعَ هَذَا الْمَرَضِ، أَوْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَكْبَرُ الرَّأْيِ فَحِينَئِذٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتُلُوهُ. لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ قِتَالِهِ فَحَالُهُ الْآنَ كَحَالِ الشَّيْخِ الْفَانِي. - وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعَدْلِ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْبَغْيِ فَظَفِرُوا مِنْهُمْ بِجَرْحَى فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ فِيهِ لَا يُلْجِئُونَ إلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ. لِأَنَّ الْجَرِيحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْأَسِيرِ، وَيُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ وَيُتْبَعَ مُدْبِرُهُمْ إذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِيهِ، فَكَذَلِكَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1439 - إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَرِيحُ مِمَّنْ لَا يُطْمَعُ لَهُ فِي الْحَيَاةِ فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ قَتْلُهُ. لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ قِتَالِهِ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْجَأَ إلَى فِئَةٍ، فَيُعِينَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ أَبَدًا، فَيَكُونُ الْحَالُ فِي حَقِّهِ كَالْحَالِ فِيمَا إذَا انْهَزَمُوا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ يَلْجَئُونَ إلَيْهَا، وَهُنَاكَ لَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُتْبَعُ مُنْهَزِمَهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَالْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي هَذَا أَنَّ السَّبَبَ الدَّاعِي إلَى الْمُحَارَبَةِ قَائِمٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ، لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ التَّقَوِّي بِالْفِئَةِ وَالْمَنَعَةِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. - وَإِنْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مَعْتُوهًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَعْرِفُ قِتَالًا، وَلَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِهِ، وَلَكِنْ فِي يَدِهِ سَيْفٌ يَضْرِبُ بِهِ مَنْ دَنَا إلَيْهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنِّي أُحِبُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَقْتُلُوهُ، وَلَكِنْ يَأْخُذُونَهُ أَخْذًا لِيَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِهِ قَصْدٌ إلَى الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ قَتْلُ مَنْ يَكُونُ بِهِ الْقَصْدُ إلَى الْقِتَالِ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ يَدْعُوهُ دِينُهُ إلَى ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَضْرِبُ مَنْ يَدْنُو مِنْهُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْمُشْرِكِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ دِينَهُ لَا يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ حَالُهُ الْآنَ كَحَالِ الْبَهِيمَةِ، وَالْبَهِيمَةُ إذَا لَمْ تَقْصِدْ أَحَدًا، وَلَكِنَّهَا تَضْرِبُ كُلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1440 مَنْ دَنَا مِنْهَا لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهَا، إلَّا أَنْ تَحْمِلَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَتَضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا، فَهُوَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ هَذَا الْمَعْتُوهِ أَيْضًا. - إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَغْرَمُ قَاتِلُهَا قِيمَتَهَا لِلْمُسْلِمِ لِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِيهَا حَقًّا لِلْمُسْلِمِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمَعْتُوهِ الْحَرْبِيِّ. - وَلَوْ ظَفِرُوا بِرَجُلٍ مَعَهُ سَيْفٌ يُقَاتِلُ بِهِ فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْمُسْلِمِينَ تَجَانَنْ، وَرَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ مَجْنُونٌ فَإِنَّ هَذَا عَلَى مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ عَنْهُمْ سَائِرُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَقِفُونَ بِهَا عَلَى حَالِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى أَكْبَرِ الرَّأْيِ، بِمَنْزِلَةِ التَّحَرِّي فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ. - فَإِنْ وَقَعَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَجْنُونٌ فَأَسَرُوهُ ثُمَّ اسْتَبَانَ لَهُمْ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ) . لِأَنَّ أَسْرَهُمْ إيَّاهُ لَيْسَ بِأَمَانٍ لَهُ مِنْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا حِينَ أَسَرُوهُ كَانَ لَهُمْ رَأْيٌ فِي قَتْلِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسَرُوهُ فِي حَالِ اشْتِبَاهِ أَمْرِهِ. وَلَوْ أَخَذُوا غُلَامًا مُرَاهِقًا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ بَالِغٌ أَوْ غَيْرُ بَالِغٍ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَجْعَلُونَ الْعَلَامَةَ فِي ذَلِكَ نَبَاتَ الْعَانَةِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالْمَذْهَبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1441 عِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَحْكِيمُهُ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ تَمَّتْ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ احْتَلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَاعْتُبِرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ دُونَ غَالِبِ الرَّأْيِ. لِأَنَّ صِغَرَهُ مَعْلُومٌ بِيَقِينٍ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، فَأَمَّا جُنُونُ الَّذِي تَجَانَنَ قَبْلَ أَخْذِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِيَقِينٍ، فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فِيهِ أَكْبَرُ الرَّأْيِ. - وَإِنْ أَخَذُوهُ وَهُوَ غَيْرُ بَالِغٍ، ثُمَّ طَالَ مُكْثُهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى بَلَغَ فَصَارَ رَجُلًا، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ. لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ وَهُوَ صَبِيٌّ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ. وَبَعْدَ مَا بَلَغَ فَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ عَبِيدِهِمْ، فَلَا يَكُونُ مُقَاتِلًا مَعَهُمْ، بِخِلَافِ الَّذِي تَجَانَنَ إذَا أُخِذَ فَاسْتَبَانَ أَنَّهُ صَحِيحٌ. لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُقَاتِلًا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ، احْتَالَ بِتِلْكَ الْحِيلَةِ لِيَنْجُوَ مِنْ الْقَتْلِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْتُوهًا وَبَرَأَ فِي أَيْدِيهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الصَّبِيِّ، وَإِنْ قَتَلَ هَذَا الصَّبِيُّ الَّذِي بَلَغَ أَوْ بَرِئَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَهُ الْإِمَامُ بِهِ قِصَاصًا. لِأَنَّهُ صَارَ مُخَاطَبًا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1442 - وَإِنْ كَانَ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَبُرْئِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ ثُمَّ أُخِذَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ حِينَ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قَاتَلَ بَعْدَ مَا بَلَغَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا فَإِنَّهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَلَا يُقْتَلُ، بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ إذَا هَمَّ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا بَعْضُ الْمَأْسُورِينَ مِنْ ذَوِي الْآفَاتِ. لِأَنَّهُ حِينَ أُدْخِلَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ فَحَالُهُ فِيمَا يَصْنَعُ كَحَالِ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ يُقَاتِلُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا. - وَإِنْ ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِقَوْمٍ مِنْ الْحَرَّاثِينَ فَسَبْيُهُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قَتْلِهِمْ. لِأَنَّهُمْ فِي الْقَصْدِ إلَى الْقِتَالِ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ وَلَا يَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ وَفِي سَبْيِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِإِقَامَةِ عَمَلِ الْحِرَاثَةِ لِلْمُسْلِمِينَ - وَلَكِنْ مَعَ هَذَا إنْ قَتَلُوهُمْ فَلَا بَأْسَ بِهِ. لِأَنَّهُمْ لَهُمْ بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْمُحَارَبَةِ، وَالْحِرَاثَةُ لَيْسَتْ بِلَا ذِمَّةٍ، وَقَدْ يَتَحَوَّلُ الْمَرْءُ عَنْ الْحِرَاثَةِ إلَى الْمُقَاتَلَةِ، بِخِلَافِ صِفَةِ الْأُنُوثَةِ. - وَإِنْ أَصَابُوا قَوْمًا سُكَارَى فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ فِي حَالِ سُكْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا ذَاهِبَةً عُقُولُهُمْ بِسَبَبِ السُّكْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1443 لِأَنَّ السَّكْرَانَ فِي الْحُكْمِ كَالصَّاحِي، بِدَلِيلِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَهُوَ بِسُكْرِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ. - وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلُوا مَنْ لَقُوا مِنْ رِجَالِهِمْ. لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْمُقَاتَلَةِ مِنْهُمْ، فَمَنْ وَجَدُوهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَاتِلٌ، وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ. - إلَّا أَنْ يَرَوْا رَجُلًا عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سِيمَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَثَبَّتُوا فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ حَالُهُ. لِأَنَّ تَحْكِيمَ السِّيمَاءِ أَصْلٌ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29] . وَقَالَ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] . وَقَالَ تَعَالَى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] . الْآيَةَ، وَمَتَى وَقَعَ الْغَلَطُ فِي الْقَتْلِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَلَيْسَ فِي تَأْخِيرِهِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْأَمْرَ تَفْوِيتُ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَثَبَّتُوا فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ حَالُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السِّيمَاءَ فِي كَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لَا يَكُونُ دُونَ خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّثَبُّتِ هُنَاكَ، فَهَا هُنَا أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1444 - وَلَوْ لَقُوا فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ الْأَسْلِحَةُ فَلَا يَدْرُونَ أَمُكْرَهُونَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ غَيْرُ مُكْرَهِينَ، فَإِنِّي أُحِبُّ لَهُمْ أَلَا يُعَجِّلُوا فِي قِتَالِهِمْ حَتَّى يَسْأَلُوهُمْ إنْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا فَلْيُكَفُّوا عَنْهُمْ حَتَّى يَرَوْهُمْ يُقَاتِلُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ. لِأَنَّ مُوَافَقَتَهُمْ فِي الدِّينِ تَمْنَعُهُمْ مِنْ مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنْهُمْ مَعْلُومٌ لِلْمُسْلِمِينَ. - فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ، خِلَافُهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، وَبِمُجَرَّدِ وُقُوفِهِمْ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَتَبَيَّنُ خِلَافُ ذَلِكَ. لِأَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ إكْرَاهٍ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ طَوْعٍ، فَالْكَفُّ عَنْ قِتَالِهِمْ أَحْسَنُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُمْ الْقِتَالَ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْقِتَالِ فِي مَنْعَةِ الْمُشْرِكِينَ مُبِيحٌ لِدَمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يُقَاتِلُونَ دَفْعًا لِقِتَالِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، فَبَعْدَ مَا ظَهَرَ هَذَا السَّبَبُ لَا يُمْنَعُ قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ مُكْرَهُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ يُبَاحُ لِلْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا هَمَّ بِقَتْلِهِ. - وَلَوْ كَانُوا سَلُّوا السُّيُوفَ، وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ، يَخَافُونَ إنْ تَرَكُوهُمْ حَتَّى يَحْمِلُوا عَلَيْهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكْرَهِينَ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ، فَحَالُهُمْ الْآنَ كَحَالِ مَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا شَاهِرًا سَيْفَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1445 وَاشْتَبَهَ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ حَالُهُ. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَاتَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ ظُهُورَ الْقِتَالِ مِنْ بَعْضِهِمْ كَظُهُورِهِ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فِي حُكْمِ إبَاحَةِ قِتَالِهِمْ، وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ رَجُلًا مِنْهُمْ، بَعْدَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ الْقِتَالُ، ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ أَخْرَجُوهُ مُكْرَهًا، فَلَا دِيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا كَفَّارَةَ. لِأَنَّهُ قَتَلَ شَخْصًا كَانَ قَتْلُهُ حَلَالًا مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ الْمُبَاحِ لَا تُوجِبُ دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً. - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ السِّلَاحُ، وَهُوَ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لِلْقِتَالِ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ مُبَاحُ الدَّمِ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ التَّبَيُّنُ فِي أَمْرِهِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ. - وَلَوْ أَحْرَقُوا سَفِينَةً مِنْ سَفَائِنِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَغْرَقُوهَا، وَفِيهَا نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا فِعْلًا، هُوَ حَلَالٌ لَهُمْ شَرْعًا، مَعَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1446 - وَكَذَلِكَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابَهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِالرَّمْيِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُمْ أَلَّا يَقْصِدُوا الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ إصَابَةِ الْمُسْلِمِينَ فِعْلًا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَحَرَّزُوا عَنْ ذَلِكَ، وَإِذَا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِمْ التَّحَرُّزُ بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ. - وَلَوْ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ بِهَذَا لَمْ يُتَوَصَّلْ إلَى الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ كُلَّ أَهْلِ حِصْنٍ مِنْهُمْ أَوْ أَهْلِ سَفِينَةٍ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ يَجْعَلُونَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَسِيرًا مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ قِتَالُهُمْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ نِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُحْرَقَ أَوْ تُغْرَقَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ الْقَصْدُ إلَى قَتْلِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1447 [بَابُ مَنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَغْزُو وَمَنْ لَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ] َ قَالَ: الْمَدِينُ إذَا أَرَادَ الْغَزْوَ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ غَائِبٌ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْزُوَ وَيُوصِيَ إلَى رَجُلٍ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ. لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي جِنْسِ دَيْنِهِ مِنْ مَالِ الْمَدِينِ، لَا فِي نَفْسِ الْمَدِينِ، وَبِهَذَا الْخُرُوجِ لَا يَفُوتُ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى رَجَعَ أَخَذَ دَيْنَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَدْيُونِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَةَ الْإِيصَاءِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ لِلْغَزْوِ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَيَتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ بِخُرُوجِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ. - ثُمَّ الْمَالُ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلْمَدِينِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَالْمَمْلُوكِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، فَلِهَذَا تَجِبُ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِهِ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دُونَ الْمَدْيُونِ، فَيَكُونُ الْمَدْيُونُ فِي مَعْنَى الْمُودَعِ، وَمَنْ فِي يَدِهِ وَدَائِعُ لِلنَّاسِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُوصِيَ بِهَا مَنْ يَدْفَعُهَا إلَى أَهْلِهَا وَيَغْزُوَ، فَكَذَلِكَ الدَّيْنُ. أَرَأَيْت لَوْ اسْتَقْرَضَ مَالًا، وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ غَيْرُ ذَلِكَ حَتَّى بَدَا لَهُ أَنْ يَغْزُوَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ إذَا حَضَرَ فَيَغْزُوَ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1448 يَخْرُجَ لِسَفَرِ التِّجَارَةِ وَالْحَجِّ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي سَفَرِهِ تَفْوِيتُ حَقِّ رَبِّ الدَّيْنِ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَغْزُوَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُقِيمَ فَيَتَمَحَّلَ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ. لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَالْغَزْوُ، إذَا لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْإِسْقَاطِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا لِلْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحُقُوقِ يُبْدَأُ بِالْأَهَمِّ. - وَقَضَاءُ الدَّيْنِ أَهَمُّ مِنْ الْغَزْوِ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ فِي قَبْرِهِ مَا لَمْ يُقْضَ عَنْهُ» . «وَقَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَنْ مَيِّتٍ: الْآنَ بَرَّدْت عَلَيْهِ جِلْدَتَهُ» ، فَإِنْ غَزَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَرَجَ لِلْحَجِّ وَلَمْ يَدَعْ لِعِيَالِهِ مَا يَكْفِيهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لَهُ، بَلْ أَوْلَى. لِأَنَّ نَفَقَةَ عِيَالِهِ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ فِي الْحَالِ. وَإِذَا أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ فِي الْغَزْوِ وَلَمْ يُبَرِّئْهُ مِنْ الْمَالِ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَمَحَّلَ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ. لِأَنَّ بِإِذْنِهِ لَهُ فِي الْخُرُوجِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ وَيَبْدَأَ بِمَا هُوَ الْأَوْجَبُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1449 - وَإِنْ غَزَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَأْسٌ. لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْخُرُوجِ كَانَ لِحَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ، كَالْعَبْدِ يَأْذَنُ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْجُمُعَةِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ لِأَدَائِهَا. - وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، وَهُوَ يَعْلَمُ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتَمَحَّلَ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ خَرَجَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ حَقٌّ فِي مَنْعِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْتَنَى عَلَى تَوْجِيهِ الْمُطَالَبَةِ لَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ الْأَجَلِ فَهُوَ وَالْمَأْذُونُ فِي الْخُرُوجِ سَوَاءٌ. - وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقَامَ أَفْضَلُ لَهُ بِمَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، «فِي الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُ كَفَّارَةٌ ثُمَّ قَالَ: إلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهِ، كَمَا قَالَ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» ، وَإِنْ كَانَ أَحَالَ غَرِيمَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْزُوَ. لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ بِالْحَوَالَةِ عَنْ حَقِّ الْمُحْتَالِ، وَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا أَدَّى حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَالٌ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَلَّا يَخْرُجَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1450 لِأَنَّهُ وَإِنْ بَرِئَ مِنْ دَيْنِ الْمُحْتَالِ فَذِمَّتُهُ مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا أَدَّى ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ. - فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُحْتَالِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ. لِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ حَقِّ الْمُحْتَالِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ الشُّغْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَيُعْتَبَرُ إذْنُهُ فِي حَقِّهِ. - وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ غَرِيمُهُ وَلَكِنْ ضَمِنَ عَنْهُ لِغَرِيمِهِ رَجُلٌ الْمَالَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عَلَى إبْرَاءِ غَرِيمِهِ الْمَدْيُونِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْزُوَ وَلَا يَسْتَأْمِرَ وَاحِدًا مِنْهُمَا. لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ بِالْإِبْرَاءِ وَلَا رُجُوعَ لِلضَّامِنِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ حِينَ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. - وَلَوْ كَانَ كَفَلَ عَنْهُ بِالدَّيْنِ كَفِيلٌ بِأَمْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يَسْتَأْمِرَ الْأَصِيلَ وَالْكَفِيلَ جَمِيعًا. لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْأَصِيلَ يُطَالِبُهُ بِالدَّيْنِ، وَالْكَفِيلَ يُطَالِبُهُ بِأَنْ يُخَلِّصَهُ مِمَّا أَدْخَلَهُ فِيهِ مِنْ الضَّمَانِ. - وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْمِرَ الطَّالِبَ، لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْمِرَ الْكَفِيلَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1451 لِأَنَّهُ لَا رُجُوعَ لِلْكَفِيلِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ هَا هُنَا. - وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي أَمْرٍ بَاطِلٍ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى قَبْلَهُ، فَإِنْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْزُوَ إلَّا بِأَمْرِ الْكَفِيلِ. لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ مِنْ جِهَتِهِ بِالْخُصُومَةِ مَعَهُ لِيُخَلِّصَهُ مِمَّا أَدْخَلَهُ فِيهِ. - وَإِنْ كَانَ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ وَلَا يَسْتَأْمِرَهُ. لِأَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْ جِهَتِهِ بِشَيْءٍ. - وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ مُفْلِسًا، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَحَمَّلَ لِدَيْنِهِ إلَّا بِالْخُرُوجِ فِي التِّجَارَاتِ مَعَ الْغُزَاةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ وَلَا يَسْتَأْمِرَ صَاحِبَهُ. لِأَنَّ مَقْصُودَهُ هَا هُنَا التَّحَمُّلُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. - وَإِنْ قَالَ: أَخْرُجُ لِلْقِتَالِ لَعَلِّي أُصِيبُ مَا أَقْضِي بِهِ دَيْنِي مِنْ النَّفْلِ أَوْ السِّهَامِ لَمْ يُعْجِبْنِي أَنْ يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ. لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ تَعْرِيضًا لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي الْخُرُوجِ لِلتِّجَارَةِ مَعْنَى تَعْرِيضِ النَّفْسِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ مَنَعَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ هُوَ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَخْرُجَ إذَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1452 يُمْكِنُهُ التَّحَمُّلُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَسْأَلُهُ صَدَاقَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهُ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُرْسِلَ أَبَا قَتَادَةَ عَلَى سَرِيَّةٍ فَاخْرُجْ مَعَهُ، لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنِمُك صَدَاقَ امْرَأَتِك، فَخَرَجَ مَعَهُ إلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي غَطَفَانَ، فَغَنِمُوا. غَنَائِمَ وَأَصَابَ الرَّجُلُ مَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إلَيْهِ امْرَأَتَهُ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ فِي اسْتِئْمَارِهَا فِي الْخُرُوجِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا فَلَا بَأْسَ لِلْمَدِينِ. أَنْ يَخْرُجَ، سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ فِي ذَلِكَ أَوْ مَنَعَهُ. لِأَنَّ الْخُرُوجَ هَا هُنَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ، وَالضَّرَرُ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ يَرْجِعُ إلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِدَفْعِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ حَقُّ الْمَنْعِ هَا هُنَا، فَلَا يَكُونُ عَلَى الْمَدِينِ اسْتِئْمَارُهُ أَيْضًا. - فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اُسْتُنْفِرَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَإِنْ كَانَ يُخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلْيُقَاتِلْ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَا يُخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ إلَّا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ) . لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ تَعْرِيضًا لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ، فَكَانَ فِي اشْتِغَالِهِ بِهِ تَعْرِيضُ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى الْهَلَاكِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِهِ. - وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مَكْتُوبَ الِاسْمِ فِي الدِّيوَانِ، فَأَمَرَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1453 قَائِدُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْغَزْوِ فَلْيُعْلِمْ الْقَائِدَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ الْإِمَامُ، ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَلَّا يُخْرِجَهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَكْفِي ذَلِكَ الْمُهِمَّ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَبَى إلَّا الْخُرُوجَ فَلْيُطِعْ الْإِمَامَ. لِأَنَّ طَاعَتَهُ فِي مِثْلِ هَذَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ مَا أَعْلَمَهُ عُذْرَهُ إذَا لَمْ يَعْذِرْهُ وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ فَلَا شَيْءَ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ طَاعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَحْلِفَ لِلتَّمَحُّلِ أَنَّهُ يَذْهَبُ عَطَاؤُهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ. لِأَنَّ خُرُوجَهُ هَذَا مِنْ التَّمَحُّلِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ. - فَإِنَّ تَمَحُّلَ الْجُنْدِيِّ وَمَعِيشَتَهُ يَكُونُ بِهَذَا، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُ كَانَ أَبْعَدَ لَهُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ. - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْغَازِي دَيْنٌ وَكَانَ لَهُ وَالِدَانِ حَيَّانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَنَهَيَاهُ عَنْ الْغَزْوِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَلَّا يَغْزُوَ إلَّا بِإِذْنِهِمَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَتَيْتُك لِأُجَاهِدَ مَعَك، وَتَرَكْت أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتهمَا» . وَقَالَ آخَرُ: «أَرَدْت الْجِهَادَ مَعَك وَإِنَّ أُمِّيَ كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْزَمْ أُمَّك فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا» . وَقَدْ بَيَّنَّا جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِيمَا سَبَقَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1454 - وَعِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ لَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ أَبَوَاهُ. لِأَنَّهُ بِالْخُرُوجِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْهُمَا. - وَإِذَا لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا، وَأَمَرَهُ الْإِمَامُ بِالْخُرُوجِ فَلْيُخْبِرْهُ خَبَرَ أَبَوَيْهِ فَإِنْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَ ذَلِكَ، فَلْيُطِعْهُ. قَالَ: لِأَنَّ الْإِمَامَ أَوْجَبُ عَلَيْهِ حَقًّا فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَ مَكْتُوبَ الِاسْمِ فِي الدِّيوَانِ فَعَلَيْهِ طَاعَةُ الْإِمَامِ فِي الْخُرُوجِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِسَيِّدِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْبِرُهُ عَلَى الْخُرُوجِ شَاءَ أَوْ أَبَى وَأَنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ، كَالْعَبْدِ مَعَ مَوْلَاهُ، فَكَمَا أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ طَاعَةُ مَوْلَاهُ فِي الْخُرُوجِ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ أَبَوَاهُ فَكَذَلِكَ الْجُنْدِيُّ فِي طَاعَةِ الْإِمَامِ. - وَالْعَبْدُ لَا يَغْزُو بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا. لِأَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى وَطَاعَتَهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. - وَعِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ. لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِخُرُوجِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ مَوْلَاهُ وَعَنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1455 - وَلَيْسَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ مِنْ الْخُرُوجِ، وَلَا مِنْ الْقِتَالِ وَلَا يَكُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ أَيْضًا، وَالْمُكَاتَبُ فِي الْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ كَالْعَبْدِ. لِأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْفَكِّ الثَّابِتِ بِالْكِتَابَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا فِيهِ اكْتِسَابُ الْمَالِ. - وَالْحُرَّةُ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى الْغَزْوِ مَعَ الْمَحْرَمِ، فَتُدَاوِيَ الْجَرْحَى، وَتَقُومَ عَلَى الْمَرْضَى، وَلَا تَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَحْرَمٍ، عَجُوزًا كَانَتْ أَوْ شَابَّةً، إذَا كَانَ خُرُوجُ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا، أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا» ، وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ إلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، إلَّا إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا وَكَانَ فِي خُرُوجِهَا قُوَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَلِيَ الْقِتَالَ إذَا كَانَ هُنَاكَ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ يَكْفِيهَا، لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَنْكَشِفَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي حَالِ تَشَاغُلِهَا بِالْقِتَالِ، وَلِأَنَّ فِي قِتَالِهَا نَوْعَ شُبْهَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: انْتَهَى ضَعْفُ حَالِهِمْ إلَى أَنْ احْتَاجُوا إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالنِّسَاءِ فِي الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ نُسَيْبَةَ بِنْتَ كَعْبٍ قَاتَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1456 انْهَزَمَ النَّاسُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: لَمَقَامُ نُسَيْبَةَ الْيَوْمَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ مَقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ» ، فَقَدْ نَوَّهَ بِذِكْرِهَا وَمَدَحَهَا عَلَى مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ نَهَى الْإِمَامُ النَّاسَ عَنْ الْغَزْوِ وَالْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْصُوهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ عَامًّا. لِأَنَّ طَاعَةَ الْأَمِيرِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ ارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ، كَطَاعَةِ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ بَعْدَ نَهْيِ الْمَوْلَى لَا يَخْرُجُ إلَّا إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1457 [بَابُ مَا يُكْرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَا لَا يُكْرَهُ] ُ قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجَرَّسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَجْرَاسِ. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيُذْهِبَ عَنْهُمْ النَّوْمَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كَرَاهِيَةَ الْجَرَسِ فِي اسْتِعْمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ اللَّهْوِ، أَوْ عَلَى مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَلَالَةِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ اللُّصُوصِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِصَوْتِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ بِاسْتِعْمَالِهِ بَأْسٌ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِالْأَجْرَاسِ الَّتِي تُجْعَلُ عَلَى الْخَيْلِ مَعَ التَّجَافِيفِ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْهِيبَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مِنْ مُكَايَدَةِ الْحَرْبِ. - وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِالطُّبُولِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا فِي الْحَرْبِ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ. لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِلَهْوٍ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ طُبُولُ اللَّهْوِ، بِمَنْزِلَةِ الدُّفُوفِ لَا بَأْسَ بِضَرْبِهَا فِي إعْلَانِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كُرِهَ ذَلِكَ لِلَّهْوِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1458 - وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَضْرِبُوا فِي حَرْبِهِمْ لِجَمْعِ النَّاسِ بِنَاقُوسٍ [وَلَا شَبُّور] لِأَنَّ هَذَا مِنْ صَنِيعِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَسْتَعْمِلَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْمُشْرِكُونَ، مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِغَيْرِهِ. - وَالصَّلَاةُ فِي حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ وَمَدَائِنِهِمْ أَفْضَلُ مِنْ الْحَرَسِ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِ الْحَرَسِ؛ لِأَنَّهَا أَجْمَعُ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَكْفِي الْحَرَسَ فَالْحَرَسُ أَفْضَلُ، وَلِأَنَّ الْحَرَسَ إنَّمَا يَكُونُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَهُوَ نَظِيرُ الصَّلَاةِ مَعَ الطَّوَافِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَرَسِ وَالصَّلَاةِ فَلْيَجْمَعْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ إحْدَاهُمَا، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ الْأُخْرَى كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ، وَبَيْنَ الطَّوَافِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. - فَإِنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ الْحَرَسِ فَأَرَادَ أَنْ يَحْرُسَ وَيُصَلِّي بِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْعِلْمِ لَا تَجُوزُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْحَرَسَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ عَيْنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1459 - وَإِنْ كَانَ يَنْحَرِفُ عَنْ الْقِبْلَةِ قَلِيلًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَلَا نَحْوَ الْمَغْرِبِ وَلَا نَحْوَ دُبُرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَوْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ كَذَلِكَ مُتَعَمِّدًا لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ تَطَوُّعًا. لِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ وَالنَّافِلَةَ فِي وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهِمَا سَوَاءٌ. - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَوْ فَعَلَهُ فِي الْمَكْتُوبَةِ مُتَعَمِّدًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ بِأَنْ كَانَ لَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ فَلَا بَأْسَ بِهَذَا، لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ وَالْحَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَلَّا يُطَوِّلَ الْأَرْكَانَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَحْرُسَ، وَهَكَذَا يَحْرُسُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فِي الْحَرَسِ وَإِنْ أَخَفَّ الصَّلَاةَ فَلْيَدَعْ الصَّلَاةَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إذَا كَانَ يَأْمَنُ التَّفْرِيطَ فِي أَحَدِهِمَا. - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَلِّدَ الْخَيْلَ فِي أَعْنَاقِهَا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ الْمُبَارِزِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمِمَّنْ يَرْكَبُ الْخَيْلَ، «وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» ، وَلَكِنْ لَا يُعْجِبُنَا أَنْ يُقَلِّدُوهَا بِالْأَوْتَارِ، لِمَا جَاءَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1460 الْحَدِيثِ: «قَلِّدُوا الْخَيْلَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا بِالْأَوْتَارِ» . وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ النَّهْيِ، إنَّهَا رُبَّمَا خُنِقَتْ فَقُتِلَتْ، فَلِهَذَا يُكْرَهُ تَقْلِيدُ الْخَيْلِ بِهَا. قَالَ: - وَيُكْرَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ الرَّقِيقِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْفَعُ بِهِ السِّلَاحُ، وَإِنَّمَا يُلْبَسُ لِلتَّنَعُّمِ. 2837 - فَأَمَّا الثَّخِينُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْحَرْبِ فَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِيهِ. 2838 - وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي تِجْفَافِ فَرَسِ الْغَازِي تِمْثَالُ حَيَوَانٍ، وَكَذَلِكَ فِي سَرْجِهِ وَتُرْسِهِ، وَمَا يَلْبَسُهُ مِنْ الثِّيَابِ، وَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تِمْثَالُ الْأَشْجَارِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، تُرْسٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَائِرٍ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ مَحَا ذَلِكَ التِّمْثَالَ» ، قِيلَ، فَعَلَ ذَلِكَ الْمَلَكُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَدَلَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ مِثْلِهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ فِي التَّمَاثِيلِ فِي الْبِسَاطِ وَالْوِسَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُنَامُ وَيُجْلَسُ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ «جَبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حَيْثُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: إمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا أَوْ تُتَّخَذَ وَسَائِدَ فَتُوطَأَ» . وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ الصُّورَةِ وَالتَّشَبُّهُ بِمَنْ يَعْبُدُهَا، بِخِلَافِ مَا يُنْصَبُ أَوْ يُلْبَسُ أَوْ يُنْظَرُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَعْنَى تَعْظِيمِ الصُّورَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِمَنْ يَعْبُدُهَا، فَكَانَ مَكْرُوهًا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبُشْتِيُّ الْكَبِيرَ مِنْ الْوَسَائِدِ الَّذِي يُنْصَبُ أَمَامَ الْبَيْتِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ تِمْثَالُ حَيَوَانٍ فَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1461 مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْصَبُ وَلَا يُوطَأُ، وَكَذَلِكَ السُّتُورُ وَالْأُزُرُ إذَا كَانَ فِيهَا تِمْثَالُ حَيَوَانٍ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ. - وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي آنِيَةِ الْبَيْتِ تَمَاثِيلُ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُبْسَطُ وَيُجْلَسُ عَلَيْهِ. - قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْجَوْشَنِ أَوْ الْبَيْضَةِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ فِي الْحَرْبِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي لُبْسِ الدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: «هَذَانِ حَرَامَانِ لِذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» . وَبِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ لُبْسِ الْمُصَوَّرِ مِنْ الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَعَرَفْنَا أَنْ لَا رُخْصَةَ فِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، وَالْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ لَمَّا رَخَّصَ فِيهِمَا لِلنِّسَاءِ لِمَنْفَعَةِ الزِّينَةِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ فِيهِمَا رُخْصَةً لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ. - قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الثَّوْبِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ إذَا كَانَ أَزْرَارُهُ دِيبَاجًا أَوْ ذَهَبًا. لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْحَرِيرِ رُخْصَةٌ فِي الْإِصْبَعِ وَالْإِصْبَعَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1462 - وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ فِي الْأَزْرَارِ وَالْكِفَافِ، وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَخَتَّمَ بِخَاتَمِ الذَّهَبِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِي فَصِّهِ مِسْمَارُ ذَهَبٍ. لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِي حُكْمِ التَّبِيعِ الْمُسْتَهْلَكِ كَالْأَزْرَارِ، فَكَذَلِكَ الْكِفَافُ وَالْأَزْرَارُ فِي الثَّوْبِ. - وَإِنْ تَحَقَّقَتْ، الْحَاجَةُ لَهُ إلَى اسْتِعْمَالِ السِّلَاحِ الَّذِي فِيهِ تِمْثَالٌ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ. لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْحُرْمَةِ، كَمَا فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ. وَإِنْ كَانَ التِّمْثَالُ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ أَوْ مَمْحُوَّ الْوَجْهِ فَهُوَ لَيْسَ بِتِمْثَالٍ. لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ هُوَ تِمْثَالُ الْحَيَوَانِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِدُونِ الرَّأْسِ. - وَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْكَعْبَةِ ثَوْبٌ فِيهِ تِمْثَالٌ ذِي رُوحٍ. لِأَنَّ اتِّخَاذَ التِّمْثَالِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ مَكْرُوهٌ، فَفِي الْكَعْبَةِ أَوْلَى. - وَإِنْ طُيِّنَتْ رُءُوسُ التَّمَاثِيلِ بِالطِّينِ حَتَّى مَحَاهَا الطِّينُ فَلَمْ تَسْتَبِنْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّهَا الْآنَ لَيْسَتْ بِتَمَاثِيلَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1463 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ التَّمَاثِيلُ فِي بَيْتٍ فَأُذْهِبَتْ وُجُوهُهَا بِالطِّينِ أَوْ الْجِصِّ فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ تَزُولُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ شَاءَ صَاحِبُهَا نَزَعَ الطِّينَ. لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى تَعْظِيمِ الصُّورَةِ، وَالتَّشَبُّهِ بِمَنْ يَعْبُدُهَا، وَذَلِكَ يَزُولُ بِهِ. - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى السِّلَاحِ فَجَعَلَ عَلَى وُجُوهِهَا الْغِرَاءَ، أَوْ كَانَ عَلَى الثِّيَابِ فَضَرَبَ عَلَيْهَا الْخُيُوطَ حَتَّى مَحَاهَا، أَوْ خَاطَ عَلَى وَجْهِهَا خِرْقَةً. فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ تَزُولُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. - وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ تَمَاثِيلُ ذِي الرُّوحِ فِي الرَّايَاتِ وَالْأَلْوِيَةِ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُنْصَبُ نُصُبًا. - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْعَلَ فِيهَا تَمَاثِيلَ شَجَرٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ تَمَاثِيلُ ذِي الرُّوحِ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ يُكَلَّفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ وَهُوَ لَيْسَ بِنَافِخٍ» . - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتُرَ حِيطَانَ الْبَيْتِ بِاللُّبُودِ وَنَحْوِهَا لِلْبَرْدِ، أَوْ بِالْخَيْشِ لِلْحَرِّ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَمَاثِيلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1464 لِأَنَّ هَذَيْنِ لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلزِّينَةِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ عَلَى قَصْدِ الزِّينَةِ. - عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَمَرَ بِنَزْعِ ذَلِكَ، وَلَمَّا رَآهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فِي بَيْتٍ قَالَ: أَمَحْمُومٌ بَيْتُكُمْ هَذَا، أَوْ تَحَوَّلَتْ الْكَعْبَةُ فِي كِنْدَةَ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْبِيهِ سَائِرِ الْبُيُوتِ بِالْكَعْبَةِ. ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، لَا بَأْسَ بِبَسْطِ الْحَرِيرِ لِلْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِالتَّوَسُّدِ بِالْحَرِيرِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ اللُّبْسُ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّوَسُّدُ بِالْحَرِيرِ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ كَلُبْسِهِ؛ وَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَلَا خِلَافَ أَنَّ الدِّثَارَ إذَا كَانَ مِنْ الْحَرِيرِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أُدْنِيَتْ إلَيْهِ بِالْمَدَائِنِ بَغْلَةُ الدِّهْقَانِ لِيَرْكَبَهَا، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَرْبُوسِ السَّرْجِ، فَزَلَّتْ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: دِيبَاجٌ. فَكَرِهَ أَنْ يَرْكَبَهَا. قَالَ: وَلَوْ كَانَ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يَقْعُدَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ بِالْقُعُودِ عَلَى سَرِيرِ الذَّهَبِ بَأْسٌ. لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ فِي الْأَثَرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا بِالِاتِّفَاقِ فَهَذَا مِثْلُهُ، فَكَيْفَ يُرَخَّصُ فِي سَرِيرِ الذَّهَبِ أَنْ يَجْلِسَ، وَلَا رُخْصَةَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ فِي اسْتِعْمَالِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1465 - وَإِنْ كَانَ فِي خَاتَمِهِ فَصٌّ فِيهِ صُورَةٌ ذِي رُوحٍ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ. لِأَنَّ هَذَا يَصْغُرُ عَنْ الْبَصَرِ، وَلَا يُرَى عِنْدَ النَّظَرِ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُرَى مِنْ بَعِيدٍ، ثُمَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّشْبِيهِ بِمَنْ يَعْبُدُ الصُّورَةَ لَا يَحْصُلُ فِي اسْتِعْمَالِهِ هَذَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ عَلَى فَصِّ خَاتَمِهِ كُرْكِيَّانِ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، كَانَ فِي خَاتَمِهِ صُورَةُ أَسَدٍ رَابِضٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ فِي حَالِ الصَّلَاةِ دَرَاهِمَ الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا تِمْثَالُ الْمَلِكِ عَلَى سَرِيرِهِ، وَعَلَيْهِ تَاجٌ. - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ الرَّجُلِ سَرِيرٌ مِنْ ذَهَبٍ لَا يَقْعُدُ عَلَيْهِ وَأَوَانِي مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لَا يَشْرَبُ فِيهَا، وَلَا يَأْكُلُ، وَلَكِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ يَتَجَمَّلُ بِهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ تَزَوَّجْتهَا فَجَاءَتْ بِهِ. وَمَا ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا إلَى آخِرِ الْبَابِ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهُ فِي كِتَابِ الْكَسْبِ مَوْصُولًا بِشَرْحِ الْمُخْتَصَرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1466 [بَابُ قَطْعِ الْمَاءِ عَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَحْرِيقِ حُصُونِهِمْ وَنَصْبِ الْمَجَانِيقِ عَلَيْهَا] 2855 - قَالَ: وَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحَرِّقُوا حُصُونَ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّارِ أَوْ يُغْرِقُوهَا بِالْمَاءِ وَأَنْ يَنْصِبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَأَنْ يَقْطَعُوا عَنْهُمْ الْمَاءَ، وَأَنْ يَجْعَلُوا فِي مَائِهِمْ الدَّمَ وَالْعَذِرَةَ وَالسُّمَّ حَتَّى يُفْسِدُوهُ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّا أُمِرْنَا بِقَهْرِهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ؛ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ، فَكَانَ رَاجِعًا إلَى الِامْتِثَالِ، لَا إلَى خِلَافِ الْمَأْمُورِ، ثُمَّ فِي هَذَا كُلِّهِ نَيْلٌ مِنْ الْعَدُوِّ، وَهُوَ سَبَبُ اكْتِسَابِ الثَّوَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] . وَلَا يَمْتَنِعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ مِنْ أَسْرَى، أَوْ مُسْتَأْمَنِينَ، صِغَارًا أَوْ كِبَارًا أَوْ نِسَاءً أَوْ رِجَالًا وَإِنْ عَلِمْنَا ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ إصَابَتِهِمْ مَعَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِقَهْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1467 2856 - وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ مَنْ ذَكَرْنَا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ فِعْلَهُمْ مُبَاحٌ مَطْلُوبٌ أَوْ مَأْمُورٌ بِهِ وَمَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ فِي حَقِّهِمْ، فَلَا يَلْزَمُ بِهِ تَبَعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. 2857 - وَأَصْلُ هَذَا فِيمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، يَبِيتُونَ فَيُقْتَلُ فِيهِمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ» «وَعَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، إلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقَ» . «وَأَشَارَ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أَنْ يَنْصِبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِ الطَّائِفِ فَنَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -» وَأَمَرَ عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهُوَ مُحَاصِرٌ أَهْلَ تُسْتَرَ أَنْ يَنْصِبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَيْهَا، فَنَصَبَهَا أَبُو مُوسَى، وَنَصَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى إسْكَنْدَرِيَّةَ حِينَ حَاصَرَهَا «وَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، الْمَاءَ عَنْ أَهْلِ حِصْنٍ مِنْ حُصُونِ النَّطَاةِ بِخَيْبَرَ حِينَ أُخْبِرَ أَنَّ لَهُمْ ذُيُولًا تَحْتَ الْأَرْضِ يَشْرَبُونَ مِنْهَا عَادِيَةً فَقَطَعَهَا عَنْهُمْ حَتَّى عَطِشُوا فَخَرَجُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1468 وَقَاتَلُوا حَتَّى ظَفِرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِمْ» وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَكِبْنَا الْبَحْرَ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَقِينَا الْعَدُوَّ فَرَمَيْنَاهُمْ بِالْمُحَرِّقَاتِ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ كُلِّهِ مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ بَعْدَ الْأَخْذِ لِلْأَسِيرِ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بَعَثَ السَّرِيَّةَ وَقَالَ لَهُمْ: إنْ قَدَرْتُمْ عَلَى فُلَانٍ فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ وَكَانَ نَخَسَ بِزَيْنَبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَزْلَقَتْ، ثُمَّ قَالَ: إنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُحَرِّقُوهُ فَإِنَّمَا يُعَذِّبُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّارِ» . «وَلَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: اُنْظُرْ فُلَانًا، فَإِنْ أَمْكَنَك اللَّهُ مِنْهُ فَأَحْرِقْهُ بِالنَّارِ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: إنِّي قُلْت لَك ذَلِكَ وَأَنَا غَضْبَانُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ إنْ أَمْكَنَك اللَّهُ مِنْهُ فَاقْتُلْهُ» . فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ إحْرَاقُ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّارِ بَعْدَ مَا يُقْدَرُ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا مَعَ كَوْنِهِ مُمْتَنِعًا فَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ. 2858 - وَلَا بَأْسَ بِالتَّكَنِّي عِنْدَ الْحَرْبِ وَالِانْتِمَاءِ وَإِنْشَادِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1469 الشِّعْرِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ غَضَبٌ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، بِأَنْ يَهْجُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ يَفْخَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ، وَيَزِيدُ فِي نَشَاطِ الْمُبَارِزِينَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ بِشَرْطِ أَلَّا يُؤْذِيَ أَحَدًا، فَإِنْ أَذَى الْمُسْلِمَ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَوْمَ الْخَنْدَقِ كَانُوا يَحْفِرُونَ وَيَرْتَجِزُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، لَا يَغْضَبُ الْيَوْمَ أَحَدٌ مِنْ شَيْءٍ يَرْتَجِزُ بِهِ رَجُلٌ لَا يُرِيدُ بِهِ بَأْسًا، مَا لَمْ يَكُنْ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَوْ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُمَا يَجِدَانِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا كَثِيرًا، وَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أَنْ يَقُولَا شَيْئًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يُبَاشِرُ الْحَفْرَ بِنَفْسِهِ حَتَّى بَاشَرَ بِهِ النَّاسُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ وَكَانَ يَحْمِلُ مَكَاتِيلَ التُّرَابِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يَقُولُ: النَّطْرُونِيُّ الْجِمَالُ لَا جِمَالُ خَيْبَرَ ... هَذِهِ أَبَرَّ رَبُّنَا وَأَطْهَرَ » فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمِثْلِهِ مِمَّا يَزِيدُ فِي نَشَاطِ الْمُجَاهِدِينَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1470 وَلَوْ رَمَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا وَاقِفًا فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مُسْلِمٌ قَدْ جَاءَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مُكْرَهًا، وَالرَّامِي لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، أَوْ يَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ بِالرَّمْيَةِ، أَوْ تَعَمَّدَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّامِي فِيهِ دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ) . لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ لَهُ الرَّمْيُ إلَى صَفِّ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا عَلَيْهِ تَبَعَةً. 2860 - إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مُسْلِمًا بِعَيْنِهِ قَدْ جَاءَ بِهِ الْعَدُوُّ مُكْرَهًا فَتَعَمَّدَهُ بِالرَّمْيِ، وَهُوَ يَعْلَمُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ عَمَدٌ مَحْضٌ، وَالْعَمْدُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ، وَهَذَا قِيَاسٌ يُؤَيِّدُهُ النَّصُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» . 2861 - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ، وَالرَّمْيُ إلَى صَفِّهِمْ مُبَاحٌ، فَكَوْنُهُ فِي مَوْضِعِ إبَاحَةِ الْقَتْلِ يَصِيرُ بِهِ شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. 2862 - وَلَكِنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ. لِأَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا مُتَقَوِّمَةً. 2863 - وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1471 وَإِنْ انْقَطَعَ وَتَرُ الرَّامِي فَرَجَعَ السَّهْمُ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي صَفِّ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَالَتْ الرَّمْيَةُ فَأَصَابَتْ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْقِتَالِ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ. لِأَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً، وَفِي الْخَطَأِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ بِالنَّصِّ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْخَطَأِ. 2865 - فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَعَمَّدَهُ بِالرَّمْيَةِ حِينَ رَآهُ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ يَظُنُّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ، وَهَذَا عَمْدٌ فِي الْحَقِيقَةِ. لِأَنَّهُ قَصَدَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ وَأَصَابَهُ، فَأَمَّا ظَنُّهُ فَلَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِفِعْلِهِ، وَلَكِنَّهُ خَطَأٌ شَرْعًا عَرَفْنَاهُ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ سُيُوفَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ عَلَى الْيَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلُوهُ، فَجَعَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، الدِّيَةَ فَتَرَكَ ذَلِكَ لَهُمْ حُذَيْفَةُ» . 2866 - فَلَوْ رَمَوْا أَهْلَ الْحِصْنِ بِالْمَنْجَنِيقِ فَأَصَابُوا مُسْلِمًا فِي الْحِصْنِ تَاجِرًا أَوْ أَسِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَعْلَمَهُمْ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ فِيهِمْ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّمْيَ مُبَاحٌ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ. 2867 - وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَّنُوا عَلَى مَطْمُورَةٍ وَفِيهَا مُسْلِمٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَمَاتَ الْمُسْلِمُ فِيمَنْ مَاتَ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ التَّدْخِينَ مُبَاحٌ لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1472 إلَّا أَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فِيهَا بِغَيْرِ تَدْخِينٍ فَالْأَوْلَى أَنَّهُمْ لَا يُدَخِّنُونَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّدْخِينِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا بِذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ، إنَّمَا أَرَادُوا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِعْلًا مُبَاحًا لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِخِلَافِ فِعْلِ الْخَاطِئِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ، بِشَرْطِ أَنْ يُتَحَرَّزَ عَنْ إصَابَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ. 2869 - وَلَوْ رَجَعَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُمْ فَفِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّرُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ. 2870 - وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِينَ يَمُدُّونَ الْحِبَالَ دُونَ الَّذِينَ يُمْسِكُونَ الْمَنْجَنِيقَ، وَاَلَّذِي يُمْسِكُ الْحَجَرَ وَيُسَدِّدُهُ لَهُمْ. لِأَنَّ الرُّمَاةَ هُمْ الَّذِينَ يَمُدُّونَ الْحِبَالَ، فَإِنْ مَضَى الْحَجَرُ يَكُونُ بِقُوَّتِهِمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ مَضَى، لَا بِفِعْلِ الْمُسَدِّدِ لِلْحَجَرِ، وَفِعْلُ الَّذِي يَمْسِكُ الْمَنْجَنِيقَ. 2871 - وَإِنْ وَقَعَ الْحَجَرُ عَلَى الَّذِينَ رَمَوْا بِهَا فَقَتَلَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَعَلَيْهِمْ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، يُرْفَعُ عَنْهُمْ حِصَّةٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى إذَا كَانُوا عِشْرِينَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمْ الدِّيَةُ إلَّا نِصْفَ عُشْرِهَا. لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فَبِحِصَّتِهِ يَسْقُطُ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ قَوْمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1473 وَعَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ. لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ جَزَاءُ الْفِعْلِ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي بِخِلَافِ الدِّيَةِ ثُمَّ بَيَّنَ: 2873 - أَنَّهُمْ إذَا تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالٍ لِلْمُسْلِمِ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَرْمِيَ إلَيْهِمْ وَإِنْ أَصَابَ الطِّفْلَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ لَا يَتَعَمَّدُ بِالرَّمْيِ الْمُسْلِمَ، وَإِنَّمَا يَتَعَمَّدُ بِهِ الْعَدُوَّ. 2874 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْرَمُونَ فِي هَذِهِ الدِّيَاتِ، أَوْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْكَفَّارَاتُ مَا أَقْدَمُوا عَلَى الْقِتَالِ فِي هَذَا، فَكَيْفَ يُقَاتِلُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا أَصَابَ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا كَانَ عَاصِيًا، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى مُذْنِبًا مَأْخُوذًا بِذَنْبِهِ، إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُخْطِئَ يَكُونُ آثِمًا، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّهُ لَا إثْمَ عَلَى الْمُخْطِئِ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] . فَإِنَّا نَقُولُ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُخْطِئِ بَيَانٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ فِي فِعْلِهِ آثِمٌ وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ الْآخَرِ رَفْعُ الْجُنَاحِ عَنْهُ بَعْدَ التَّكْفِيرِ، وَمَا شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ إلَّا سَتَّارَةً لِلذَّنْبِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الْخَطَأِ فِي الْجُمْلَةِ مُمْكِنٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1474 وَكُلُّ هَذَا التَّقْرِيرِ مِنَّا لِبَيَانِ أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى كَانَ مُبَاحًا مُطْلَقًا لَا يَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا مُوجِبًا لِلدِّيَةِ وَلَا الْكَفَّارَةِ. 2875 - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْعَلَ السُّمَّ فِي السِّلَاحِ. لِأَنَّ السِّلَاحَ الْمَسْمُومَ يَكُونُ أَعْمَلَ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَقْتَلَ لَهُمْ إذَا وَقَعَ بِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مِنْ مُكَايَدَةِ الْحَرْبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى مُكَايَدَةِ الْحَرْبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِلْمُسْلِمِ. 2876 - وَكَذَلِكَ الْأَسِنَّةُ يَجْعَلُ فِي رُءُوسِهَا الْمُشَاقَةُ عَلَيْهَا النَّفْطُ، وَفِيهَا النِّيرَانُ، لِيَطْعَنَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَحْتَرِقُوا، فَإِنَّ هَذَا مِنْ مُكَايَدَةِ الْحَرْبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ قَطْعَ الْأَشْجَارِ وَتَخْرِيبَ الْأَبْنِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَاَلَّذِي زَادَ هَا هُنَا. 2877 - أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ فِيمَا يَمُرُّونَ بِهِ مِنْ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحَاصِرُونَ أَحَدًا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا مَعْرُوفًا، يَمُرُّ بِهِ الْغُزَاةُ كُلَّ سَنَةٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُغَوِّرُوا مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْمِيَاهِ، وَلَا يَقْطَعُوا مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ) . لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ أَوْ بِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّنْ يَمُرُّ بَعْدَهُمْ فِي هَذَا الطَّرِيقِ غَازِيًا، فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1475 هَذَا الضَّرَرِ يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِمَّا فِيهِ كَبْتٌ وَغَيْظٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. 2878 - وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لَهُمْ السِّلَاحَ وَلَا التَّجَافِيفَ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ. لِأَنَّ حَمْلَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَكْرُوهٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ، فَكَذَلِكَ عَمَلُ ذَلِكَ لَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. 2879 - وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ وَالْأَسِيرُ. لِأَنَّهُمَا مُخَاطَبَانِ بِكَسْرِ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَمْنُوعَانِ مِمَّا فِيهِ تَقْوِيَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ. 2880 - فَإِنْ أَكْرَهُوهُمَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. لِأَنَّهُمَا لَا يَخَافَانِ التَّلَفَ عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَالضَّرُورَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالتَّهْدِيدِ بِمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ. 2881 - وَإِنْ هَدَّدُوهُمَا بِالْقَتْلِ أَوْ الضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ عَلَى النَّفْسِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1476 لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ يَسَعُ لِلْمُسْلِمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ، فَلَأَنْ يَسَعَ لَهُ عَمَلُ السِّلَاحِ لَهُمْ كَانَ أَوْلَى. 2882 - وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لَهُ. لِأَنَّهُ أَظْهَرَ بِفِعْلِهِ الصَّلَابَةَ فِي الدِّينِ، وَمُبَاشَرَةَ مَا فِيهِ غَيْظٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ اكْتِسَابِ مَا فِيهِ إدْخَالُ الْوَهَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِثَوَابِهِ، كَمَا إذَا تَحَرَّزَ عَنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ حَتَّى يُقْتَلَ. 2883 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ فَكَانَ إذَا عَمِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعُوهُ مِنْ إخْرَاجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُجْبِرُوهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ بِثَمَنٍ وَلَا غَيْرِ ثَمَنٍ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ يُخْرِجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صَنِيعِهِ هَذَا تَقْوِيَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا إذَا خَافَ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، وَيَحِلُّ لَهُ إدْخَالُ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. 2884 - وَلَوْ أَصَابَ الْمُسْتَأْمَنُ مَعْدِنَ حَدِيدٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ، وَيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ الْحَدِيدَ، إذَا كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِثَمَنٍ أَوْ بِغَيْرِ ثَمَنٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1477 لِأَنَّ الْحَدِيدَ أَصْلُ السِّلَاحِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي عَمَلِ السِّلَاحِ. 2885 - وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَخْرِجَهُ، ثُمَّ يُخْرِجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْرِجَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، أَوْ يَكُونَ فِي إخْرَاجِ مَا يَخْرُجُ رِفْقًا بَيِّنًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ تَوْفِيرَ النَّفْعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، دُونَ الْإِضْرَارِ بِهِمْ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ أَصَابُوا دَوَابَّ فَعَجَزُوا عَنْ إخْرَاجِهَا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهَا ثُمَّ يُحَرِّقُوهَا بِالنَّارِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْقِرُوا شَيْئًا مِنْهَا عَقْرًا، وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَبْحِهَا مِنْ بَقَرَةٍ وَلَا رَمَكَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. لِأَنَّ ذَلِكَ مُثْلَةٌ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ. 2886 - إلَّا أَنْ يُعْجِزَهُمْ الثَّوْرُ أَوْ الرَّمَكَةُ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْقِرُوهَا بِالرَّمْيِ. لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ عَجْزُهُمْ عَنْ ذَبْحِهَا، وَفِي تَرْكِهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُشْرِكَيْنِ، فَلِهَذَا لَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْقِرُوهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1478 وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ جَعْفَرًا، الطَّيَّارَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ مُؤْتَةَ لَمَّا أَيِسَ مِنْ نَفْسِهِ تَرَجَّلَ وَعَقَرَ جَوَادَهُ، وَجَعَلَ يُقَاتِلُ حَتَّى قُتِلَ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَرَجَّلَ فَيُقَاتِلَ وَيَسْتَقْتِلَ. لِأَنَّهُ بِهَذَا الصَّنِيعِ يَرَى الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْفِرَارَ مِنْهُمْ بِحَالٍ، وَفِي هَذَا كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ، وَهُوَ مِنْ مُكَايَدَةِ الْحَرْبِ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. مِنْهُمْ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ حَمِيُّ الدُّبْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ اسْتَقْبَلَ يَوْمَ الرَّجِيعِ يَوْمَ بَنِي لِحْيَانَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ حَمِيَّ الدُّبْرِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتَلُوهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي حَمَيْت دِينَك بِجَهْدِي فَاحْمِ لَحْمِي، فَلَمَّا قُتِلَ أَرْسَلَ اللَّهُ الدُّبْرَ حَتَّى حَمَتْ لَحْمَهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقْرَبَ مِنْهُ لِيَجُزَّ رَأْسَهُ، فَقَالُوا: اصْبِرُوا حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ، فَإِنَّ الدُّبْرَ تَذْهَبُ بِاللَّيْلِ، فَلَمَّا دَخَلَ اللَّيْلُ طَلَبُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَسُمِّيَ حَمِيَّ الدُّبْرِ لِهَذَا. وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَقْبَلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ حَتَّى قُتِلَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَرَجَّلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَقْتِلَ لِيُقْتَلَ أَوْ لِيَظْفَرَ بِهِمْ، وَأَنْ يَكْسِرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَأَنْ يَذْبَحَ فَرَسَهُ إنْ أَمْكَنَهُ ذَبْحُهُ فَلَا بَأْسَ بِعَقْرِهِ ثُمَّ يَمْضِي حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَظْفَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1479 لِأَنَّ فِي هَذَا كُلِّهِ تَحْقِيقُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ. 2888 - وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ حِصْنٍ، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِهِمْ الْمَعْرُوفِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْطَعُوا أَشْجَارَهُمْ، وَيُغَوِّرُوا مِيَاهَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُحَاصِرِينَ أَحَدًا فَالْأَوْلَى لَهُمْ أَلَّا يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ الْمَعْرُوفَةِ. لِكَيْلَا يَتَضَرَّرَ بِهِ أَمْثَالُهُمْ أَوْ هُمْ بَعْدَ هَذَا، فَأَمَّا إذَا كَانُوا مُحَاصِرِينَ لِلْعَدُوِّ فَهَذَا الصَّنِيعُ يَكْسِرُ شَوْكَتَهُمْ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ، وَالْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِمَّا يُخَافُ مِنْ الضَّرَرِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَلِهَذَا لَا بَأْسَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. وَلَوْ أَخَذَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَسِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ مُحَاصِرُونَ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا لَهُ: دُلَّنَا عَلَى مَوْضِعٍ نَفْتَحُ مِنْهُ هَذَا الْحِصْنَ، وَهُوَ يَعْرِفُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ يَحِلُّ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إعَانَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِالْقَتْلِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ يُفْتَحُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَظَفِرُوا بِالْحِصْنِ فَقَتَلُوا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَوْا الذُّرِّيَّةَ فَلَيْسَ يَسْعَهُ أَنْ يَدُلَّهُمْ. لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ هَلَاكَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وِقَايَةً لِرُوحِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1480 كَانَ ذَلِكَ شَخْصًا وَاحِدًا، فَلَأَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَفِيهِ هَلَاكُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَوْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا فِي طَلَبِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ فَقَالُوا: دُلَّنَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَتَلْنَاك، وَأَكْبَرُ الرَّأْي مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ قَتَلُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ قَالَ: 2889 - لِأَنَّ فِي هَذَا مَظْلِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ مُسْلِمًا فِي بَدَنِهِ بِمَا يُهْلِكُهُ، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنْ إنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَأْسِرُونَهُ فَيَتَخَدَّمُونَهُ أَوْ يَأْخُذُونَ مَالًا مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ هُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ إذَا خَافَ الْقَتْلَ عَلَى نَفْسِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى يُقْتَلَ فَذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَرَّزَ عَمَّا فِيهِ مَظْلِمَةُ الْمُسْلِمِ، وَأَظْهَرَ الصَّلَابَةَ فِي الدِّينِ، وَمَا يَغِيظُ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ. 2890 - وَلَوْ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى طَرِيقِ الْحِصْنِ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُ أَنَّهُ إنْ دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ يَكُونُ فِيهِ نَوْعُ وَهَنٍ بِشَوْكَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ الْمُسْلِمِينَ يَنْتَصِفُونَ مِنْهُمْ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدُلَّهُمْ إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ هَلَاكُ الْمُسْلِمِينَ، إنَّمَا فِيهِ زِيَادَةُ شُغْلٍ أَوْ هَمٍّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1481 يَلْحَقُهُمْ بِسَبَبِ دَلَالَتِهِ، فَيَكُونُ هُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَفْعَلَهُ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالُوا لَهُ: دُلَّنَا عَلَى سِلَاحٍ نُقَاتِلُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا قَتَلْنَاك، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ ظَفِرُوا بِالْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ يَسَعُهُ أَنْ يَدُلَّهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهَذَا السِّلَاحِ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَنْتَصِفُونَ مِنْهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدُلَّهُمْ إذَا خَافَ الْقَتْلَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ الْمُثْلَةَ. وَإِنْ كَانَ لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ. 2891 - وَإِنْ قِيلَ لَهُ: لَنَقْتُلَنَّك أَوْ لَتَسْجُدَنَّ لِلْمَلِكِ إذَا رَأَيْته، فَإِنْ سَجَدَ كَانَ فِي سَعَةٍ، وَإِنْ أَبَى حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ. لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا أَمَرُوهُ بِالسُّجُودِ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرُوهُ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ، أَوْ السُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ، عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْهُ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، فَإِنْ أَمَرُوهُ بِالسُّجُودِ لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ. لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ السُّجُودِ قَدْ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] . فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرُوهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1482 2892 - وَإِنْ كَانَ الْحِصْنُ الَّذِي أَكْرَهُوهُ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى طَرِيقِ فَتْحِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَكَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ عِنْدَهُ أَنَّهُمْ يُسْبَوْنَ وَيُسْتَرَقُّونَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَدُلَّهُمْ أَيْضًا. لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَظَالِمِ، وَالسَّبْيُ وَالِاسْتِرْقَاقُ إتْلَافٌ حُكْمِيٌّ، فَيَكُونُ نَظِيرَ الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ إتْلَافٌ حَقِيقَةً. 2893 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحِصْنُ إلَّا الْأَمْوَالَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذَا خَافَ التَّلَفَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْهُ بِالْإِكْرَاهِ، إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا حَضَرُوهُ لِيَفْعَلُوا بِهِ مَا هَدَّدُوهُ بِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُحْضِرُوهُ لِذَلِكَ فَلَيْسَ يَسَعُهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ آمِنٌ فِي الْحَالِ، وَالرُّخْصَةُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ خَوْفِ الْهَلَاكِ. 2894 - ثُمَّ أَكْبَرُ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ، وَمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لِلْمُكْرَهِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ مِمَّا يَخَافُ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ، فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَيَقِّنِ بِهِ سَوَاءٌ هَدَّدُوهُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُهَدِّدُوهُ، حَتَّى إذَا رَآهُمْ يَقْتُلُونَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْأُسَرَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا وَقَدْ كَانُوا تَقَدَّمُوا إلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ، وَإِنْ لَمْ يُهَدِّدُوهُ بِالْقَتْلِ نَصًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1483 لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ. 2895 - قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ بِهَا الرَّجُلُ الرَّمْيَ. لِأَنَّ فِي ذَلِكَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْعَدُوِّ وَإِدْخَالُ الْوَهَنِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْدُوبٌ إلَى كُلِّ مَا يَكُونُ فِيهِ نِكَايَةٌ فِي الْعَدُوِّ. 2896 - وَكَذَلِكَ الْحُسْبَانُ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُلُ لِيَرْمِيَ بِهِ الْعَدُوَّ. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ الرَّمْيَ بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا، وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّهُ الْبَلْوَى وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] . وَمِنْ الْقُوَّةِ الرَّمْيُ بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ أَمْرِ الْعَجَمِ، يَنْبَغِي لِلْغَازِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي الْقِتَالِ مَا هُوَ مِنْ أَمْرِ الْعَرَبِ. قُلْنَا: فَالْمَنْجَنِيقُ مِنْ أَمْرِ الْعَجَمِ، وَقَدْ نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الطَّائِفِ حِينَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاِتِّخَاذُ الْخَنْدَقِ مِنْ أَمْرِ الْعَجَمِ، وَقَدْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِإِشَارَةِ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ مُكَايَدَةِ الْحَرْبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْعَجَمِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَوْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ. 2897 - وَمَنْ قَتَلَ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ الْحَرِيرُ أَوْ الدِّيبَاجُ قَدْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1484 لَبِسَهُ لِلْقِتَالِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يُرَخِّصُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُنْزَعَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَا يُتْرَكَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي كَفَنِهِ. لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهِيدَ يُدْفَنُ فِي ثِيَابِهِ، وَلَكِنْ يُنْزَعُ السِّلَاحُ، وَهَذَا إنَّمَا لَبِسَهُ لِيَكُونَ سِلَاحًا لَهُ، فَإِنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي لُبْسِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السِّلَاحِ، فَكَمَا يُنْزَعُ عَنْهُ السِّلَاحُ بَعْدَ مَا يَسْتَشْهِدُ فَكَذَلِكَ يُنْزَعُ عَنْهُ الْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1485 [بَابُ مَا يَحِلُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ] 2898 - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُمْ بِأَيِّ وَجْهِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْغَدْرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُدَلِّسَ لَهُمْ الْعَيْبَ فِيمَا يَبِيعُهُ مِنْهُمْ، مِمَّا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا يَجُوزُ. لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْغُرُورِ. وَلَا بَأْسَ لِلْأَسِيرِ وَالْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ يُدَلِّسَ لَهُمْ الْعَيْبَ فِيمَا يَبِيعُهُ مِنْهُمْ. لِأَنَّ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا أَمْوَالَهُمْ بِغَيْرِ طِيبَةِ أَنْفُسِهِمْ. 2899 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِيهِمْ بَاعَهُمْ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ إلَى سَنَةٍ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِنَا ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِمْ أَوْ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِمْ فَأَخَذَ الدَّرَاهِمَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ. لِأَنَّ حَالَهُمَا بَعْدَ الرُّجُوعِ كَحَالِهِمَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُعَامَلَةِ. 2900 - وَلَوْ اخْتَصَمَا فِي ذَلِكَ فِي دَارِنَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ. لِأَنَّ أَصْلَ الْمُعَامَلَةِ لَمْ يَكُنْ فِي دَارِنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1486 وَاَلَّذِي خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ يَلْتَزِمْ حُكْمَ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً ثُمَّ اخْتَصَمَا أَبْطَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ الْبَيْعَ، وَأَمَرَ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ. لِأَنَّ إسْلَامَهُ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ كَالْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ، بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ يَبِيعُ الْخَمْرَ لِلذِّمِّيِّ فِي دَارِنَا ثُمَّ يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ. أَوْ الْمُسْلِمُ يَبِيعُ الْمُسْلِمَ عَصِيرًا فَيَتَخَمَّرُ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُقْبَضْ يَجِبُ تَرْكُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. 2902 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُسْلِمُ مَا شَرَطَ لَهُ الْحَرْبِيُّ. لِأَنَّ الْبُقْعَةَ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِحُكْمِ عَقْدِ الرِّبَا، فَيُجْعَلُ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْعَقْدِ سَوَاءً بِخِلَافِ خُرُوجِهَا إلَى دَارِنَا فَإِنَّ هُنَاكَ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ فِيهَا فَيَأْمُرُهُ بِالرَّدِّ فِيمَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: أَلَا إنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ هُوَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» . وَإِنَّمَا بَدَأَ بِعَمِّهِ لِيُتَبَيَّنَ أَنَّ أَوَامِرَهُ لَيْسَتْ عَلَى نَهْجِ أَوَامِرِ الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا يَتْرُكُونَ الْأَقَارِبَ وَيُخَاطِبُونَ الْأَجَانِبَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1487 وَهُوَ بَدَأَ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَهُوَ عَمُّهُ، فَمَنَعَهُ مِنْ قَبْضِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا قَبَضَهُ بِشَيْءٍ. 2903 - وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ إسْلَامِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُخِذَ أَسِيرًا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فِي الرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ فَأَذِنَ لَهُ، فَكَانَ يُرْبِي بِمَكَّةَ إلَى زَمَنِ الْفَتْحِ. وَقَدْ نَزَلَتْ حُرْمَةُ الرِّبَا قَبْلَ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ لِلسَّعِيدَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ: أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا» . وقَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] . نَزَلَتْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَتَيْنِ ثُمَّ لَمْ يُبْطِلْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَوْمَ الْفَتْحِ شَيْئًا مِنْ مُعَامَلَاتِهِ، إلَّا مَا لَمْ يَتِمَّ بِالْقَبْضِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّ الْبُقْعَةَ إذَا صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ. 2904 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ بَاعَ الْحَرْبِيَّ خَمْرًا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَالثَّمَنُ سَالِمٌ لِلْمُسْلِمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1488 لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ ثَبَتَ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ بَعْدَ مَا قَبَضَ الْحَرَامَ وَانْتَهَى حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهِ. 2905 - وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِ الْخَمْرِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ رَدُّ الثَّمَنِ. لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَرُدُّ وَالْحَرَامُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ. 2906 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَبَضَ الْخَمْرَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْمُسْلِمُ الثَّمَنَ حَتَّى أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الذِّمِّيُّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ حَتَّى أَسْلَمَ. لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ كَانَ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا، فَكَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا مُسْتَحَقًّا لِلْمُسْلِمِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبْضِهِ؛ وَهَا هُنَا أَصْلُ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، فَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ الْمُسْلِمِ أَخْذًا لِمُبَاحٍ مِنْ مَالِهِمْ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ. 29207 - وَلَوْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ وَأَعْطَى بَعْضَ الْخَمْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَبِحِصَّةِ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْخَمْرِ يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ، رَدُّ حِصَّةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِنْ الْخَمْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. فَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَسْلَمَ إلَى الْحَرْبِيِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي مِائَةِ دِينَارٍ إلَى سَنَةٍ، فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ قَبَضَ النِّصْفَ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، فَبِحِصَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1489 الْمَقْبُوضِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ سَالِمًا لَهُ، وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ قَبْضُ مَا بَقِيَ بِحُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَعَلَيْهِ رَدُّ حِصَّتِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ انْقَطَعَ الْمُسْلِمُ فِيهِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ. 2908 - وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنَيْنِ أَوْ أَسِيرَيْنِ كَانَ بَاطِلًا مَرْدُودًا. لِأَنَّهُمَا يَلْتَزِمَانِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَان. 2909 - فَإِنْ جَرَى بَيْنَ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. عِنْدَ مُحَمَّدٍ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا وَمَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ سَوَاءٌ، إلَّا فِي حُكْمِ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْآثَارِ فَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ وَلَمْ يُوجَدْ. 2910 - وَلَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِنَا بَاشَرَا هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ ثُمَّ اخْتَصَمَا إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِي دَارِنَا، وَالْقَاضِي يُبْطِلُ عُقُودَ الرِّبَا الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا اخْتَصَمُوا إلَيْهِ فِيهَا، فَكَذَلِكَ يُبْطِلُ عُقُودَ الْمُسْتَأْمَنِينَ، إلَّا أَنَّهُ يُجِيزُ مَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ. وَالْمُسْتَأْمَنُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1490 وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَلَّمَهُ الْحَرْبِيُّ مِنْ حِصْنِهِ، وَعَامَلَهُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. لِأَنَّ مُرَاعَاةَ جَانِبِ مَنْ هُوَ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ مُفْسِدٌ لِهَذَا الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ إذَا فَسَدَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَذَلِكَ يَكْفِي لِإِفْسَادِهِ. 2912 - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ بِالْجَوَازِ هَا هُنَا، لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، هَهُنَا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْمَكَانَ، وَجَعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَرَجَ الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ عَامَلَ الْمُسْلِمَ بِذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ إذَا كَانَا فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمَشَايِخُ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ حِينَ خَرَجَ بِأَمَانٍ إلَيْنَا فَقَدْ صَارَ مَالُهُ لَهُ مَعْصُومًا مُحْتَرَمًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي مَنَعَتِهِ فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَالِهِ هُنَاكَ. 2913 - وَلَوْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوا أَمَةً مُسْلِمَةً فَأَحْرَزُوهَا، ثُمَّ قَدَرَ هَذَا الْمُسْتَأْمَنُ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَسْرِقَهَا فَيُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1491 لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَهُوَ فِي هَذِهِ السَّرِقَةِ يَغْدِرُ بِهِمْ، الْغَدْرُ حَرَامٌ. 2914 - وَلَوْ رَغِبُوا فِي بَيْعِهَا مِنْهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مَعْنَى الْغَدْرِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْفَصْلَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إنْ جَوَّزَ هَذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ بِالْجَوَازِ أَيْضًا فِيمَا سَبَقَ مِنْ الْعُقُودِ، فَإِنْ قَالَ: لَا أُجَوِّزُ هَذَا وَأَكْرَهُهُ لِلْمُسْلِمِ فَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مُسْلِمَةً فِي يَدِ حَرْبِيٍّ، يُوَاقِعُهَا حَرَامًا، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَفْدِيَهَا بِخَمْرٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ. 2915 - وَبَعْدَ مَا يَشْتَرِيهَا بِخَمْرٍ إذَا أَخْرَجَهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، حَتَّى يُنَفِّذَ عِتْقَهُ فِيهَا، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا مِنْهُ بِقِيمَتِهَا إنْ شَاءَ. لِأَنَّهُ تَمَلَّكَهَا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، لَا بِجِهَةِ الْبَيْعِ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبُوهَا لَهُ فَأَخْرَجَهَا. 2916 - وَبِهَذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَجْرِي فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ مَا يَجْرِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَمَعَهُ تِلْكَ الْجَارِيَةُ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ فِي دَارِنَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِخَمْرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1492 2917 - وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي أَبْطَلَ ذَلِكَ الْبَيْعَ، وَرَدَّ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ثُمَّ أَجْبَرَهُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ، فَلَا يَتْرُكُهَا فِي مِلْكِ الْكَافِرِ، وَلَا يَتْرُكُهُ يَعُودُ بِهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ أَمَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. 2918 - وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُمْ مَنَعَةٌ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ اسْتَأْمَنَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ وَعَامَلَهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الَّتِي لَا تَجُوزُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي دَارِهِمْ مَوْجُودٌ فِي مَنَعَتِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةُ الْأَخْذِ لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ التَّحَرُّزُ عَنْ غَدْرِ الْأَمَانِ، فَهُوَ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ يَكْتَسِبُ سَبَبَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمَشَايِخُ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ نُزُولِهِمْ هَا هُنَا لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ دَارِ الْحَرْبِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَازَ لِلْمُسْلِمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ لِبَقَاءِ الْإِبَاحَةِ فِي مَالِهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْحَرْبِيُّ فِي مَنَعَتِهِ، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي عَامَلَهُ بِهِ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. 2919 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ دَارٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَادَعُوا أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ وَبَايَعَهُمْ الدِّرْهَمَ بِدِرْهَمَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ. لِأَنَّ بِالْمُوَادَعَةِ لَمْ تَصِرْ دَارُهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَخْذُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1493 مَالِهِمْ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، لِمَا فِيهِ مِنْ غَدْرِ الْمُوَادَعَةِ، فَإِذَا اسْتَرْضَاهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَقَدْ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغَدْرِ وَلِهَذَا طَابَ لَهُ مَا أَخَذَ. 2920 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُوَادِعِينَ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ كَانَ آمِنًا بِهَا، ثُمَّ إنْ عَامَلَ مُسْلِمًا بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُهَا. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي دَارِنَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا. 2921 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا دَخَلَ إلَى هَؤُلَاءِ الْمُوَادِعِينَ، أَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَبَايَعَهُمْ مَتَاعًا إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يُعَجِّلُوا لَهُ وَيَضَعَ عَنْهُمْ الْبَعْضَ. فَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذَا التَّصَرُّفِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِمَعْنَى الرِّبَا، مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ مُبَادَلَةً لِأَصْلِ الدَّرَاهِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرِّبَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَتَجُوزُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ «بَنِي النَّضِيرِ حِينَ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالُوا: إنَّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النَّاسِ لَمْ تَحِلَّ بَعْدُ، فَقَالَ: ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا» . وَإِنَّمَا جَوَّزَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ تَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِنَا. 2922 - فَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى هَذَا، وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُمْ مَا عَجَّلُوا لَهُ حَتَّى أَسْلَمَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، فَقَدْ بَطَلَ هَذَا التَّصَرُّفُ، وَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ لِمَا بَيَّنَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1494 لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ مِنْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَمَامِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ يُجْعَلُ كَالْمُقْرَنِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ. 2923 - وَإِنْ كَانَ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُطَّ النِّصْفَ، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ النِّصْفَ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الْحَرْبِيُّ ثُلُثَ مَالِهِ وَبَقِيَ السُّدُسُ ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فَقَدْ بَطَلَ الصُّلْحُ كُلُّهُ، وَعَلَى الْمُسْلِمِ رَدُّ مَا قَبَضَ فَيَكُونُ جَمِيعُ مَا لَهُ عَلَى الْحَرْبِيِّ إلَى أَجَلِهِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ. لِأَنَّ ذَاكَ مُبَادَلَةٌ ابْتِدَاءً مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَيَنْتَهِي حُكْمُهُ فِي مِقْدَارِ مَا وُجِدَ فِيهِ التَّقَابُضُ، وَهَذَا الصُّلْحُ لَيْسَ بِمُبَادَلَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ يُعَجِّلُ لَهُ نِصْفَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ النِّصْفَ فَلَا يَتِمُّ الصُّلْحُ حَتَّى يُوجَدَ كَمَالُ الشَّرْطِ، وَهُوَ قَبْضُ النِّصْفِ الْبَاقِي بِكَمَالِهِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حَتَّى أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ بَطَلَ الصُّلْحُ كُلُّهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَيْنِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ مَالٌ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ صَاحِبُ الْمَالِ نِصْفَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْهُ الْيَوْمَ، ثُمَّ عَجَّلَ لَهُ الْيَوْمَ بَعْضَ مَا بَقِيَ دُونَ الْبَعْضِ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ الصُّلْحُ كُلُّهُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ. لِأَنَّ إبْرَاءَهُ إيَّاهُ عَنْ الْبَعْضِ كَانَ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ مَا بَقِيَ مِنْهُ فِي الْيَوْمِ، فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ بَطَلَ الْإِبْرَاءُ، وَكَانَ جَمِيعُ مَا لَهُ عَلَيْهِ بِحَالِهِ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1495 [بَابُ مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ الْأَسِيرِ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ] 2924 - وَإِذَا قُرِّبَ الْأَسِيرُ لِلْقَتْلِ فَقِيلَ لَهُ مُدَّ عُنُقَك فَمَدَّ عُنُقَهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَدِّ الْعُنُقِ إعَانَةٌ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي قَتْلِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَدَّ عُنُقَهُ أَوْ لَمْ يَمُدَّهُ وَرُبَّمَا يَكُونُ امْتِثَالُ أَمْرِهِمْ سَبَبًا لِعَطْفِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يَحْمِلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ قَتْلِهِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ أَرْوَحَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ قَتَلُوهُ قِتْلَةً أَخْبَثَ مِنْ قَتْلِهِمْ إيَّاهُ إذَا مَدَّ عُنُقَهُ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَمُدَّ عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ قَتْلَهُ. 2925 - وَإِنْ لَمْ يَمُدَّ عُنُقَهُ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنْ يَمُدُّوا عُنُقَهُ ثُمَّ يَقْتُلُونَهُ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَمُدَّ لَهُمْ عُنُقَهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْإِذْنِ لَهُمْ فِي قَتْلِهِ، وَلَا رُخْصَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ غَرَضٍ صَحِيحٍ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي عَطْفِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوهُ قِتْلَةً هِيَ أَخْبَثُ مِنْهَا إذَا مَدَّ عُنُقَهُ، فَحِينَئِذٍ إنْ شَاءَ مَدَّ عُنُقَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَمُدَّ عُنُقَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُرَخَّصٌ لَهُ فِيهِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ، وَإِنْ شَاءَ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1496 2926 - وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادُوا قَطْعَ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَنَاوَلَهُمْ ذَلِكَ الْعُضْوَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ إنْ كَانَ يَفْعَلُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لَهُ: الْبَسْ ثِيَابَك حَتَّى نَقْتُلَك، فَلَبِسَ ثِيَابَهُ يَطْلُبُ بِهَا السِّتْرَ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ. لِأَنَّ لُبْسَ الثِّيَابِ لَيْسَ مِنْ الْقَتْلِ فِي شَيْءٍ، وَلَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِيمَا صَنَعَ، وَهُوَ أَلَّا تَنْكَشِفَ عَوْرَتَهُ إذَا قَتَلُوهُ. 2927 - قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ أَبَى أَنْ يُبَايِعَ أُلْبِسَ ثِيَابَ شَعْرٍ فَلَبِسَهُ فَلَمَّا ضُرِبَ وَلَمْ يُقْتَلْ قَالَ: أَمَّا إنِّي لَوْ ظَنَنْت أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ قَتْلِي مَا لَبِسْته. فَقَدْ لَبِسَهُ بِأَمْرِهِمْ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُ يُقْتَلُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّبْسِ إعَانَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. 2928 - وَكَذَلِكَ لَوْ انْتَهَوْا إلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَيْتٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: اُخْرُجْ إلَيْنَا حَتَّى نَضْرِبَ عُنُقَك، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ إذَا كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَخَافُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ أَنْ يُمَثِّلُوا بِهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ إلَيْهِمْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ اسْتِهْلَاكِ النَّفْسِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ فِرَارًا عَنْ الْمُثْلَةِ، وَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1497 وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادُوا صَلْبَهُ فَأَمَرُوهُ أَنْ يَصْعَدَ الْخَشَبَةَ فَصَعِدَهَا. لِأَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضًا صَحِيحًا، وَهُوَ دَفْعُ أَلَمِ الضَّرَبَاتِ الْمُتَوَالِيَاتِ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ دَفْعُ مَا يَخَافُهُ مِنْ الْمُثْلَةِ بِهِ، أَوْ أَنْ يَقْتُلُوهُ قِتْلَةً هِيَ أَخْبَثُ مِنْ الصَّلْبِ. 2930 - وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَتْ الْخَشَبَةُ بِحَيْثُ لَا يَخَافُ التَّلَفَ مِنْ صُعُودِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَخَافُ التَّلَفَ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْعَدَهَا. لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا نَفْسَهُ بِالصُّعُودِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْخَشَبَةِ، وَلَا رُخْصَةَ لَهُ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . 2931 - وَلَوْ أَوْقَدُوا نَارًا فَقَالُوا لَهُ: اطْرَحْ نَفْسَك فِيهَا، وَرُبَّمَا نَجَا مِنْهَا، وَرُبَّمَا لَمْ يَنْجُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا نَفْسَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ جِهَةُ الِامْتِنَاعِ حَتَّى يَصِيرَ مَقْتُولًا بِفِعْلِهِمْ إنْ قَتَلُوهُ. 2932 - إلَّا أَنْ يَكُونُوا هَدَّدُوهُ بِنَوْعٍ مِنْ الْقَتْلِ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ طَرْحِ نَفْسِهِ فِي النَّارِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ فِي سَعَةٍ أَنْ يَطْرَحَ نَفْسَهُ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1498 لِأَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ الْفِرَارُ عَنْ أَلَمِ السِّيَاطِ الْمُتَوَالِيَةِ، أَوْ عَنْ الْمُثْلَةِ فَيُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ. 2933 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرُوهُ بِأَنْ يُغْرِقَ نَفْسَهُ فِي مَاءِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. وَلَوْ قُدِّمَ لِيُضْرَبَ عُنُقُهُ فَضَرَبُوهُ بِسَيْفٍ سُوءٍ فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوا سَيْفِي هَذَا فَاقْتُلُونِي بِهِ لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ، وَهُوَ آثِمٌ فِي مَقَالَتِهِ. لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُ نَفْسِهِ بِحَالٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالْقَتْلِ أَمْرٌ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَا رُخْصَةَ لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ. 2934 - وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَقُلْ اُقْتُلُونِي بِهِ وَلَكِنْ قَالَ: سَيْفِي أَجْوَدُ مِنْ هَذَا السَّيْفِ وَأَمْضَى فِيمَا تُرِيدُونَ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الِاسْتِرَاحَةَ رَجَوْت أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ. لِأَنَّهُ مَا أَمَرَهُمْ بِقَتْلِ نَفْسِهِ نَصًّا، وَلَهُ فِيمَا قَالَ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ الِاسْتِرَاحَةُ مِمَّا يَلْحَقُهُ إذَا أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُطْلِقْ الْجَوَابَ فِيهِ بَلْ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ. لِأَنَّ فِي مُنَاوَلَةِ السِّلَاحِ إيَّاهُمْ نَوْعَ إعَانَةٍ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ مَدِّ الْعُنُقِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ وَصُعُودِ الْخَشَبَةِ. 2935 - وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادُوا شَقَّ بَطْنِهِ فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ اضْرِبُوا عُنُقِي لَمْ يَسَعْهُ هَذَا. لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1499 2936 - وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَقُلْ: اضْرِبُوا، وَلَكِنْ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَشُقُّوا بَطْنِي، فَإِنَّ هَذَا لَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّ ضَرْبَ الْعُنُقِ أَوْحَى وَأَجْمَلُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ. لِأَنَّهُ صَرَّحَ هَا هُنَا بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْأَمْرِ بِضَرْبِ الْعُنُقِ. إنَّمَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِمَّا هَمُّوا بِهِ، فَلِهَذَا كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهُ كَانَ هُوَ آثِمًا فِي قَوْلِهِ: اضْرِبُوا عُنُقِي؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّصْرِيحِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ آثِمًا فِي قَوْلِهِ: ضَرْبُ الْعُنُقِ أَوْحَى وَأَجْمَلُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: ضَرْبُ الْعُنُقِ أَوْحَى وَأَجْمَلُ، وَلَكِنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَصْنَعُوا بِي شَيْئًا مِنْ هَذَا. فَضَرَبُوا عُنُقَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي مَقَالَتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. 2937 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ غَيْرَ الْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ مِنْ الْأُسَرَاءِ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِهِ. فَإِنَّ ضَرْبَ الْعُنُقِ يَأْتِي عَلَى مَا تُرِيدُونَ رَجَوْت أَلَا يَكُونَ آثِمًا، وَلَوْ قَالَ: اضْرِبُوا عُنُقَهُ كَانَ آثِمًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي التَّصْرِيحِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ بِهِ يَوْمَكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ افْعَلُوهُ غَدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1500 كَانَ آثِمًا فِي قَوْلِهِ: افْعَلُوهُ غَدًا، أَطَاعُوهُ فِي ذَلِكَ أَوْ عَصَوْهُ، وَلَوْ قَالَ: أَخِّرُوهُ إلَى الْغَدِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي ذَلِكَ. 2938 - وَلَوْ أَرَادُوا ضَرْبَ بَطْنِ الْأَسِيرِ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَضْرِبُوا مَوْضِعَ الطَّعَامِ، وَلَكِنْ اضْرِبُوا الْعُنُقَ، كَانَ آثِمًا فِي قَوْلِهِ: اضْرِبُوا الْعُنُقَ. وَلَوْ قَالَ: الْقَتْلُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الطَّعَامِ أَجْمَلُ لَمْ يَكُنْ آثِمًا. وَلَوْ قَالَ لِلضَّارِبِ: ارْفَعْ يَدَك عَنْ مَوْضِعِ الطَّعَامِ أَوْ سَفِّلْ بِيَدِك عَنْ مَوْضِعِ الطَّعَامِ خِفْت أَنْ يَكُونَ آثِمًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَا تَضْرِبْ مَوْضِعَ الطَّعَامِ. لِأَنَّ صِيغَةَ ذَلِكَ الْكَلَامِ نَهْيٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَصِيغَةَ هَذَا الْكَلَامِ أَمْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ سَفِّلْ يَدَك أَوْ ارْفَعْ يَدَك اضْرِبْهُ أَسْفَلَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ فَوْقَ الطَّعَامِ، وَلَا رُخْصَةَ لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعُ تَخْفِيفٍ عَنْ الْمُسْلِمِ، وَكَانَ مَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ فَبِهَذِهِ الْفُصُولِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُرَاعِيَ عِبَارَتَهُ كَمَا يُرَاعِي مَعْنَى كَلَامِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَمَّا سُئِلَ فَقِيلَ: أَنْتَ أَكْبَرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أَمْ رَسُولُ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَكْبَرُ مِنْك؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أَكْبَرُ مِنِّي وَأَنَا أَسَنُّ مِنْهُ. وَحُكِيَ أَنَّ هَارُونَ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ أَسْنَانَهُ السُّفْلَى قَدْ سَقَطَتْ فَسَأَلَ بَعْضَ الْمُعَبِّرِينَ فَقَالَ: يَمُوتُ أَقَارِبُك فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ، وَدَعَا مُعَبِّرًا آخَرَ وَسَأَلَهُ فَقَالَ: عُمْرُك يَكُونُ أَطْوَلُ مِنْ عُمْرِ أَقَارِبِك فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ الصِّلَةَ. وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُرَاعِيَ عِبَارَتَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1501 وَإِذَا أُسِرَ الْأَسِيرُ وَابْنُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادُوا قَتْلَهُمَا فَقَالَ الْأَبُ: قَدِّمُوا ابْنِي بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى أَحْتَسِبَهُ فَهُوَ آثِمٌ، فِي مَقَالَتِهِ، فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْعَلُوا. لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَحْتَسِبَ ابْنِي فَلَا تَقْتُلُونِي قَبْلَهُ، رَجَوْت أَلَّا يَأْثَمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْأَمْرِ بِقَتْلِهِ وَلَا بِقَتْلِ ابْنِهِ. 2940 - وَلَوْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْقَائِلُ، اُقْتُلُونِي قَبْلَ قَتْلِ أَبِي كَانَ آثِمًا، وَلَوْ قَالَ: لَا تَقْتُلُوا أَبِي قَبْلِي فَإِنِّي أَخَافُ أَنِّي أَجْزَعُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي هَذَا إثْمٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادُوا ضَرْبَهُ أَوْ ضَرْبَ ابْنِهِ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: اشْحَذُوا سَيْفَكُمْ لَمْ يَكُنْ آثِمًا بِذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: اشْحَذُوهُ ثُمَّ اُقْتُلُونِي بِهِ كَانَ آثِمًا. لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّحْذِ لَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ شَيْءٌ، لَوْلَا مَا أَرَادُوا مِنْ مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ فِي قَصْدِهِمْ لَا فِي لَفْظِهِ، فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اُقْتُلُونِي تَصْرِيحٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ لَا رُخْصَةَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1502 [بَابُ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ مَا يَسَعُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَهُمْ إذَا أَكْرَهُوهُ وَمَا لَا يَسَعُهُ] 2941 - وَلَوْ قَالُوا لِأَسِيرٍ مُسْلِمٍ: اُقْتُلْ لَنَا هَذَا الْأَسِيرَ الْمُسْلِمَ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّك لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «لَيْسَ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةٌ» . وَلِأَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَلَا طَاعَةَ لِلْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَهُوَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ يَجْعَلُ رُوحَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ وِقَايَةً لِرُوحِهِ، وَيَقْدَمُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، وَلَا رُخْصَةَ فِي ذَلِكَ. 2942 - وَإِنْ قَالُوا اشْحَذْ لَنَا هَذَا السَّيْفَ حَتَّى نَقْتُلَ بِهِ هَذَا الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ، أَوْ لَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَأْمُرُونَ بِهِ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا رُخْصَةَ لَهُ فِي إعَانَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يُهَدِّدُوهُ بِالْقَتْلِ إنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا أَمَرُوهُ بِهِ مَظْلِمَةٌ لِلْمُسْلِمِ، وَفِيهِ دَفْعُ شَرِّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ لَهُمْ ذَلِكَ تَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِ الْأَسِيرِ بِغَيْرِ السَّيْفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1503 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا اُنْجُرْ لَنَا هَذِهِ الْخَشَبَةَ حَتَّى نُصَلِّبَ عَلَيْهَا هَذَا الْمُسْلِمَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ يَسَعُهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا أَمَرُوهُ بِهِ قَتْلُ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ قَتْلِهِ بِوَجْهٍ آخَرَ. 2943 - إلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذَا إنْ امْتَنَعَ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ مَأْجُورًا، لِمَا فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا: أَمْسِكْ رَأْسَهُ حَتَّى نَضْرِبَ عُنُقَهُ وَإِلَّا قَتَلْنَاك كَانَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ إمْسَاكَ الرَّأْسِ لَيْسَ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْجَوَابَ بِالِاسْتِثْنَاءِ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ تَعَرُّضًا لِلْمُسْلِمِ، بِخِلَافِ شَحْذِ السَّيْفِ وَنَجْرِ الْخَشَبَةِ فَلَيْسَ هُنَاكَ فِي فِعْلِهِ تَعَرُّضٌ لِلْمُسْلِمِ. 2944 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرُوهُ بِرَبْطِ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي فِعْلِهِ تَلَفُ نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَى الْمَرْبُوطِ مِنْهُ لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَلَا يَكُونُ أَمْرُهُمْ بِهَذَا أَعْظَمَ مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَذَلِكَ يَسَعُهُ فِي الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ أَفْضَلَ، فَهَذَا مِثْلُهُ. 2945 - وَلَوْ كَانَتْ يَدُ الَّذِي يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ ضَعِيفَةً فَقِيلَ لَهُ: أَمْسِكْ بِيَدِك عَلَى يَدَيْهِ، حَتَّى نَضْرِبَهُ وَإِلَّا قَتَلْنَاك، لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1504 لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى الْقَتْلِ بِعَيْنِهِ، وَلَا رُخْصَةَ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعَانَ فِي دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا عَلَى عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى» . 2946 - وَلَوْ قَالُوا: دُلَّنَا عَلَى سَيْفٍ نَقْتُلْهُ بِهِ وَإِلَّا قَتَلْنَاك لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي الدَّلَالَةِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. لِأَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِقَتْلٍ، وَهُوَ لَوْ لَمْ يَدُلَّهُمْ قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ. بِحَجَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْقَتْلِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْ وَجْهٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا دَلَّ عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْجَزَاءِ مَا عَلَى الْقَاتِلِ؟ 2947 - وَإِنْ لَمْ يَدُلَّهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ مِنْ وَجْهٍ. 2948 - وَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَبُوا السَّيْفَ مِنْهُ لِيُقَاتِلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَأْجُورًا، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ حِينَ هَدَّدُوهُ بِالْقَتْلِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا إنْ أَعْطَيْتنَا سَيْفَك خَلَّيْنَا سَبِيلَ هَذَا الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ، لِمَا فِيهِ مِنْ نَجَاةِ مُسْلِمٍ آخَرَ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ نَجَاتُهُ كَانَ أَوْلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1505 قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ أَسْرَاهُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ أُسَرَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ جَائِزٌ، ثُمَّ رَدُّ الْأَسِيرِ عَلَيْهِمْ أَمَرُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَفْعِ السِّلَاحِ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ رَدُّ الْأَسِيرِ عَلَيْهِمْ لِاسْتِنْقَاذِ الْمُسْلِمِ، فَدَفَعَ السِّلَاحَ إلَيْهِمْ بِهَذَا يَكُونُ أَجْوَزَ. 2950 - وَلَوْ هَرَبَ مِنْهُمْ أَسِيرٌ فَقَالُوا لِأَسِيرٍ آخَرَ يَعْرِفُ مَكَانَهُ: دُلَّنَا عَلَيْهِ لِنَقْتُلَهُ وَإِلَّا قَتَلْنَاك، لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْمُمْكِنَةَ مِنْ الْقَتْلِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْ وَجْهٍ، كَمَا فِي حَقِّ الصَّيْدِ. ثُمَّ فِي هَذَا ظُلْمُ الْأَسِيرِ الْهَارِبِ. لِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهُ إلَّا بِدَلَالَتِهِ فَهُوَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ قَتْلِهِ. وَلَا رُخْصَةَ فِي ظُلْمِ الْمُسْلِمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَلَوْ كَانُوا حَاصَرُوا حِصْنًا لِلْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا لِأَسِيرٍ فِي أَيْدِيهِمْ دُلَّنَا عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْ قِبَلِهِ الْحِصْنُ، أَوْ عَلَى مَدْخَلِ الْمَاءِ الَّذِي يَشْرَبُونَ مِنْهُ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّك، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَفِرُوا بِالْحِصْنِ، وَقَتَلُوا مَنْ فِيهِ، أَوْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ. فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ) . لِأَنَّهُمْ يُمَكِّنُهُمْ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِرْقَاقِ ذَرَارِيِّهِمْ، وَارْتِكَابِ الْحَرَامِ مِنْ نِسَائِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّك أَوْ لِتُمَكِّنَنَا مِنْ فُلَانَةَ نَزْنِي بِهَا، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا إلَّا بِدَلَالَتِهِ، أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ كَالْيَقِينِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1506 وَلَوْ أَخَذُوا أَسِيرًا فَقَالُوا: إنَّا نُرِيدُ أَنْ نَنْصِبَهُ فَنَرْمِيَهُ فَدُلَّنَا عَلَى قَوْسٍ وَنِشَابٍ نَرْمِيهِ بِهَا حَتَّى نَقْتُلَهُ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّك، فَدَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا لَهُ وَاسِعٌ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. لِأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ قَتْلِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَلَا يَكُونُ هُوَ بِدَلَالَتِهِ مُمَكِّنًا إيَّاهُمْ مِنْ قَتْلِهِ. 2952 - إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَسِيرُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ سِوَى النُّشَّابِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى الْقَوْسِ وَالنُّشَّابِ. لِأَنَّهُ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ قَتْلِهِ بِدَلَالَتِهِ. وَأُوَضِّحُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنَّ مَنْ رَأَى صَيْدًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَدَلَّهُ مُحْرِمٌ عَلَى الطَّرِيقِ إلَيْهِ حَتَّى ذَهَبَ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى الدَّالِ الْجَزَاءُ. 2953 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْمِيَهُ بِنُشَّابَةٍ وَلَيْسَ مَعَهُ ذَلِكَ فَدَلَّهُ مُحْرِمٌ عَلَى قَوْسٍ وَنُشَّابٍ، أَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ بِهِ، كَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ. وَلَوْ أَرَادَ قَتْلَ صَيْدٍ فَقَالَ الْمُحْرِمُ نَاوِلْنِي حَرْبَتِي، بَعْدَ مَا رَكِبَ فَرَسَهُ فَنَاوَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُحْرِمِ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ بِدُونِ هَذِهِ الْمُنَاوَلَةِ، وَلَكِنَّهُ آثِمٌ فِيمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ صُورَةَ الْإِعَانَةِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ، وَلَا رُخْصَةَ لِلْمُحْرِمِ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1507 وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ مُحْرِمٍ سِكِّينًا فَذَبَحَ الصَّيْدَ بِهِ. لِأَنَّ الصَّيْدَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ ذَبْحِهِ بِدُونِ هَذَا السِّكِّينِ، وَلَكِنَّهُ آثِمٌ فِي صُنْعِهِ، لِوُجُودِ صُورَةِ الْإِعَانَةِ مِنْهُ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1508 [بَابُ مَا يَسَعُ الرَّجُلُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَهْوَى إلَى الْهَلَاك] 151 - بَابُ مَا يَسَعُ الرَّجُلُ الْمُسْلِم أَنْ يَفْعَلَ أَيَّهمَا شَاءَ 2955 - وَإِذَا أَحْرَقَ الْمُشْرِكُونَ سَفِينَةً مِنْ سَفَائِنِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَنْ فِي السَّفِينَةِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَبَرَ عَلَى النَّارِ حَتَّى يَحْتَرِقَ، وَإِنْ شَاءَ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَغْرَقَ. لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ هَلَاكِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَهُ غَرَضٌ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَالنَّارُ يَكُونُ أَسْرَعَ لِهَلَاكِهِ، وَلَكِنْ فِيهِ زِيَادَةُ الْأَلَمِ مِنْ حَيْثُ تَفْرِيقِ الْأَعْضَاءِ، وَالْمَاءُ أَبْطَأُ لِهَلَاكِهِ وَلَكِنْ فِيهِ زِيَادَةُ الْغَمِّ وَطَبَائِعُ النَّاسِ فِي هَذَا مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَلَمَ الْجَرْحِ وَسُرْعَةَ الِاسْتِرَاحَةِ عَلَى غَمِّ الْمَاءِ وَبُطْءِ الْهَلَاكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ غَمَّ الْمَاءِ عَلَى أَلَمِ الْجِرَاحَةِ، فَلَهُ أَنْ يَمِيلَ إلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ. 2956 - وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ هَذَا عَلَى وُجُوهٍ؛ إنْ كَانَ يَطْمَعُ فِي النَّجَاةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَيَخَافُ الْهَلَاكَ فَلَهُ الْخِيَارُ. لِأَنَّهُ إنْ صَبَرَ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ تَحْصِيلَ النَّجَاةِ الَّتِي يَطْمَعُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّمَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ النَّجَاةِ بِفِعْلِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1509 2957 - وَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْهَلَاكِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ يَرْجُو النَّجَاةَ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْنَعَ مَا يَرْجُو فِيهِ النَّجَاةَ. لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِحَسَبِ الْوُسْعِ مَنْهِيٌّ عَنْ قَتْلِ نَفْسِهِ. 2958 - وَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْهَلَاكِ فِيهِمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ. لِأَنَّهُ إنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ صَارَ هَالِكًا بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَإِنْ صَبَرَ صَارَ هَالِكًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَلَأَنْ يَهْلَكَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَهْلَكَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ ظَالِمًا لَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: لَتَقْتُلَن نَفْسَك أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، لِهَذَا الْمَعْنَى. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يَقُولُ: الِاسْتِدَامَةُ فِيمَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ، فَالْمُقَامُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ النَّارُ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا أَنَّ إلْقَاءَ نَفْسِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ تَيَقُّنَهُ فِيمَا هَدَّدَهُ بِهِ الْمُكْرِهُ لَيْسَ كَتَيَقُّنِهِ فِيمَا يَفْعَلُ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ يُهَدِّدُ الْمُكْرِهُ ثُمَّ لَا يُحَقِّقُ، وَهَا هُنَا تَيَقُّنُهُ فِي الْهَلَاكِ فِي الْجَانِبَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ. 2959 - وَاسْتَشْهَدَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِرَجُلٍ يَدْخُلُ فِي بَيْتٍ إلَى جَانِبِهِ بَيْتٌ، فَوَقَعَ الْحَرِيقُ فِي الْبَيْتَيْنِ، وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْهَلَاكِ إنْ ثَبَتَ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ أَوْ وَثَبَ إلَى الْبَيْتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1510 الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الثَّبَاتُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الْبَيْتِ الْآخَرِ. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: الْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَمِنْ عَادَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِشْهَادُ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ جِهَةَ الْهَلَاكِ هَا هُنَا وَاحِدَةٌ فِي الْبَيْتَيْنِ، وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي التَّحَوُّلِ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمَرْءِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا كَانَ مُفِيدًا لَهُ فَائِدَةً، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ السَّفِينَةِ فَجِهَةُ الْهَلَاكِ مُخْتَلِفَةٌ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّارِ، وَفِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ فَائِدَةٌ فَأَثْبَتْنَاهُ. 2960 - وَلَوْ أَنَّ مُشْرِكًا طَعَنَ مُسْلِمًا بِرُمْحٍ فَأَنْفَذَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَمْشِيَ فِي الرُّمْحِ إلَيْهِ لِيَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ الْهَلَاكَ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيَرْجُو النَّجَاةَ إنْ خَرَجَ مِنْ الرُّمْحِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ. لِأَنَّ الْمَشْيَ إلَيْهِ فِي الرُّمْحِ إعَانَةٌ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ بِجَهْدِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ النَّيْلُ مِنْ عَدُوِّهِ. 2961 - وَإِنْ اسْتَوَى الْجَانِبَانِ عِنْدَهُ فِي التَّيَقُّنِ بِالْهَلَاكِ فِيهِمَا، أَوْ رَجَاءِ النَّجَاةِ فِيهِمَا، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي جِرَاحَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْشِيَ إلَيْهِ فِي الرُّمْحِ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ شَاءَ خَرَجَ مِنْ الرُّمْحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1511 لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الرُّمْحِ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ. 2962 - وَقَالَ: لَيْسَ هُنَاكَ فِي إلْقَاءِ نَفْسِهِ مَعْنَى النَّيْلِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَهَا هُنَا فِي الْمَشْيِ إلَيْهِ فِي الرُّمْحِ مَعْنَى النَّيْلِ مِنْ الْعَدُوِّ وَالظَّفَرِ بِهِ، وَهَذَا الْقَصْدُ يُبِيحُ لَهُ الْإِقْدَامَ، وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِيهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ. لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَغَالِبُ الرَّأْيِ كَالْيَقِينِ فِي مِثْلِهِ. 2963 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا حَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ وَحْدَهُ فَإِنْ كَانَ يَطْمَعُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ أَوْ يَنْكَأَ فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ النَّيْلَ مِنْ الْعَدُوِّ. 2964 - وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَبَشَّرَ بَعْضَهُمْ بِالشَّهَادَةِ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطْمَعْ فِي نِكَايَةٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الصَّنِيعُ. لِأَنَّهُ يُتْلِفُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا نِكَايَةٍ فِيهِ لِلْمُشْرِكِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1512 2965 - وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ يَقْتُلُونَهُ وَأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّقُ جَمْعُهُمْ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ هُنَاكَ مُسْلِمُونَ مُعْتَقِدُونَ لِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنَّ فِعْلَهُ يَنْكِي فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُظْهِرُونَ ذَلِكَ، وَهَا هُنَا الْقَوْمُ كُفَّارٌ لَا يَعْتَقِدُونَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ وَفِعْلُهُ لَا يَنْكِي فِي بَاطِنِهِمْ، فَيُشْتَرَطُ النِّكَايَةُ ظَاهِرًا لِإِبَاحَةِ الْإِقْدَامِ. 2966 - وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نِكَايَةٍ وَلَكِنَّهُ يُجْزِئُ بِذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُظْهِرَ بِفِعْلِهِ النِّكَايَةَ فِي الْعَدُوِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ النِّكَايَةِ بِفِعْلِهِ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي النِّكَايَةِ فِيهِمْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي إرْهَابِ الْعَدُوِّ وَإِدْخَالِ الْوَهَنِ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ وُجُوهِ النِّكَايَةِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَكُلُّ وَاحِدٍ يَبْذُلُ نَفْسَهُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. 2967 - وَلَوْ أَنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ حِينَ انْتَهَى النَّارُ إلَيْهِ فَوَجَدَ مَسَّهَا وَحَرَارَتِهَا لَمْ يَجِدْ مَحِيصًا إلَّا أَنْ يَرْمِيَ بِنَفْسِهِ فِي الْمَاءِ، فَرَمَى بِنَفْسِهِ، كَانَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سَعَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1513 لِأَنَّ هَذَا الْآنَ مَدْفُوعٌ مِنْ إلْقَاءِ النَّارِ فِي السَّفِينَةِ، وَالْأَوَّلُ يَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ لَا مَدْفُوعَ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَدْفُوعًا قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ فِعْلُ الدَّافِعِ، وَهُنَاكَ مَا اتَّصَلَ بِهِ فِعْلُ الدَّافِعِ، وَهَا هُنَا قَدْ اتَّصَلَ بِهِ فِعْلُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُوقِدَتْ لَهُ نَارٌ وَقِيلَ لَهُ: لَنَضْرِبَنَّك بِالسِّيَاطِ حَتَّى نَقْتُلَك أَوْ تُلْقِيَ نَفْسَك فِي النَّارِ حَتَّى تَحْتَرِقَ لَمْ يَسَعْهُ إلْقَاءُ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانُوا ضَرَبُوهُ بِالسِّيَاطِ فَبَلَغَ مِنْ جَزَعِهِ وَاضْطِرَابِهِ أَنْ يَسْقُطَ فِي النَّارِ رَجَوْت أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ. لِأَنَّهُ مَدْفُوعُ الضَّارِبِ هَا هُنَا، وَلِأَنَّ أَلَمَ السَّوْطِ قَدْ أَصَابَهُ، وَمَا أَصَابَهُ أَلَمُ النَّارِ بَعْدُ، فَهُوَ إنَّمَا يَفِرُّ مِنْ أَلَمٍ قَدْ أَصَابَهُ، فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ. 2968 - وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " لَفِتْنَةُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ، إنَّ الرَّجُلَ لَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَرْكَبَ الْخَشَبَةَ. يَعْنِي إذَا أُرِيدَ صَلْبُهُ عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1514 [بَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَهْلَ الشِّرْكِ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ] 2969 - قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَهْلَ الشِّرْكِ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ. لِأَنَّ الْفِئَتَيْنِ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْضَمَّ إلَى إحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَيَكْثُرُ سَوَادُهُمْ وَيُقَاتِلُ دَفْعًا عَنْهُمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْمُسْلِمُ إنَّمَا يُقَاتِلُ لِنُصْرَةِ أَهْلِ الْحَقِّ، لَا لِإِظْهَارِ حُكْمِ الشِّرْكِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَحَدًا مِنْ الْخَوَارِجِ، مَعَ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ الْخَوَارِجِ، إذَا كَانَ حُكْمُ الْخَوَارِجِ هُوَ الظَّاهِرُ. لِأَنَّ إبَاحَةَ الْقِتَالِ مَعَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ رَجَعُوا إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْقِتَالِ إذَا كَانَ حُكْمُ الْخَوَارِجِ هُوَ الظَّاهِرُ. 2970 - وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمُونَ، مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ مَعَ الْخَوَارِجِ، الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ الْآنَ لِدَفْعِ فِتْنَةِ الْكُفْرِ، وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا قِتَالٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَالْقِتَالُ هُنَاكَ لِإِظْهَارِ مَا هُوَ مَائِلٌ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَهَا هُنَا لِإِثْبَاتِ أَصْلِ الطَّرِيقِ. 2971 - ثُمَّ إنَّمَا يُبَاحُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ مِنْهُمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1515 فَأَمَّا إذَا آمَنُوا قَوْمًا ثُمَّ غَدَرُوا بِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُ الْقِتَالُ مَعَهُمْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْأَمَانِ وَاجِبٌ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَكْتُبُ فِي كُلِّ عَهْدٍ وَفَاءً لَا غَدْرَ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الْمَنْعُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْمَحِلِّ حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَهُمْ قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنُوهُمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْقِتَالِ مَعْنَى الْغَدْرِ، بَلْ فِيهِ إظْهَارُ الْإِسْلَامِ. 2972 - وَلَوْ قَالَ أَهْلُ الْحَرْبِ لِأُسَرَاءَ فِيهِمْ قَاتِلُوا مَعَنَا عَدُوَّنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ لَا يَخَافُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ مَعَهُمْ. لِأَنَّ فِي هَذَا الْقِتَالِ إظْهَارَ الشِّرْكِ، وَالْمُقَاتِلُ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فَلَا رُخْصَةَ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى قَصْدِ إعْزَازِ الدِّينِ، أَوْ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ. فَإِذَا كَانُوا يَخَافُونَ أُولَئِكَ الْآخَرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ الْآنَ شَرَّ الْقَتْلِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. فَإِنَّهُمْ يَأْمَنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَأْمَنُونَ الْآخَرِينَ إنْ وَقَعُوا فِي أَيْدِيهِمْ، فَحَلَّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ. 2973 - وَإِنْ قَالُوا: قَاتِلُوا مَعَنَا عَدُوَّنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكُمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا دَفْعًا لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ الْآنَ أَشَرَّ الْقَتْلِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1516 وَقَتْلُ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ حَلَالٌ، وَلَا بَأْسَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا هُوَ حَلَالٌ، عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، وَرُبَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ كَمَا فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. 2974 - وَإِنْ قَالُوا لَهُمْ قَاتِلُوا مَعَنَا الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكُمْ لَمْ يَسَعْهُمْ الْقِتَالُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِهِ. فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: اُقْتُلْ هَذَا الْمُسْلِمَ وَإِلَّا قَتَلْتُك. 2975 - فَإِنْ هَدَّدُوهُمْ يَقِفُوا مَعَهُمْ فِي صَفِّهِمْ وَلَا يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ رَجَوْت أَنْ يَكُونُوا فِي سَعَةٍ. لِأَنَّهُمْ الْآنَ لَا يَصْنَعُونَ بِالْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَظَالِمِ. 2976 - وَأَكْبَرُ مَا فِيهِ أَنْ يَلْحَقَ الْمُسْلِمِينَ هَمٌّ لِكَثْرَةِ سَوَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَخَافُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقِفُوا مَعَهُمْ فِي صَفٍّ، وَإِنْ أَمَرُوهُمْ بِذَلِكَ. لِأَنَّ فِيهِ إرْهَابَ الْمُسْلِمِينَ وَإِلْقَاءَ الرُّعْبِ وَالْفَشَلِ فِيهِمْ، وَبِدُونِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَا يَسَعُ الْمُسْلِمَ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1517 وَلَوْ قَالُوا لِلْأُسَرَاءِ: قَاتِلُوا مَعَنَا عَدُوَّنَا مِنْ أَهْلِ حَرْبٍ آخَرِينَ، عَلَى أَنْ نُخَلِّيَ سَبِيلَكُمْ إذَا انْقَضَتْ حَرْبُنَا لَوْ وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ. لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهَذَا الْأَسْرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا دُونَ مَا إذَا كَانُوا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَمَا يَسَعُهُمْ الْإِقْدَامُ هُنَاكَ، فَكَذَلِكَ يَسَعُهُمْ هَا هُنَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسَعُهُمْ هَذَا وَفِيهِ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؟ لِأَنَّهُمْ إذَا ظَفِرُوا بِعَدُوِّهِمْ فَآمَنُوا جَانِبَهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَرُبَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ فَيَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قُلْنَا: ذَلِكَ مَوْهُومٌ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ الْآنَ مِنْ النَّجَاةِ عَنْ أَسْرِ الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا الْقِتَالِ مَعْلُومٌ، فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْجَانِبُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا مِنْ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُفَادِيَهُمْ بِأَعْدَادِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ لِتُخَلِّصَهُمْ بِهِ مِنْ الْأَسْرِ وَإِنْ كَانُوا يَتَقَوَّوْنَ، بِمَا يَأْخُذُونَ، عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 2978 - وَلَوْ قَالُوا أَعِينُونَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ أَوْ بِتَكْثِيرِ سَوَادٍ عَلَى أَنْ نُخَلِّيَ سَبِيلَكُمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ هَذَا. لِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ لَهُمْ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ. وَلَا فِي إلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ بِخَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هَا هُنَا. 2979 - وَلَوْ قَالُوا: قَاتِلُوا مَعَنَا عَدُوَّنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ نُخَلِّيَكُمْ فِي بِلَادِنَا وَلَا نَدَعَكُمْ تَرْجِعُونَ إلَى أَهْلَيْكُمْ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1518 لِأَنَّهُمْ إنْ كَانُوا آمَنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا يَخَافُونَ مِنْ جَانِبِهِمْ تَلَفَ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مَحْبُوسِينَ فِي بِلَادِهِمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا فِي سُجُونِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي الْوَجْهَيْنِ يَلْحَقُهُمْ هَمٌّ بِالِانْقِطَاعِ عَنْ أَهَالِيِهِمْ، وَعَنْ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا لِإِظْهَارِ حُكْمِ الشِّرْكِ، بِدُونِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. 2980 - وَإِنْ كَانُوا فِي ضُرٍّ وَبَلَاءٍ، يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْهَلَاكَ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ الْمُشْرِكِينَ، إذَا قَالُوا نَخْرُجُكُمْ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ لَهُمْ فِي هَذَا الْقِتَالِ غَرَضًا صَحِيحًا، وَهُوَ دَفْعُ الْبَلَاءِ وَالضُّرِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ. 2981 - وَلَوْ أَنَّهُمْ خَلَّوْا سَبِيلَهُمْ لِيَرْجِعُوا إلَى دَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَظَفِرُوا بِمَالٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذُوهَا سِرًّا مِنْهُمْ، فَيُخْرِجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُمْ أُسَرَاءُ فِي أَيْدِيهِمْ مَا لَمْ يَخْرُجُوا، وَإِنَّ خَلَّوْا سَبِيلَهُمْ فَلَيْسَ فِي أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَقَتْلِ نُفُوسِهِمْ إنْ تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ غَدْرٌ بِأَمَانٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ إصَابَةٌ مِنْ الْحَلَالِ، فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُتَلَصِّصِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. حَتَّى إذَا أَخْرَجُوا ذَلِكَ فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ خُمِّسَ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا تَمَّ إحْرَازُهُمْ لِذَلِكَ بِالْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1519 2982 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الْمَالُ أَصَابُوهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُمْ، وَخَفِيَ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا أُسَرَاءَ فِي أَيْدِيهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ فَيَسْتَوِي إنْ كَانَ مَا أَصَابُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ لِلْمُشْرِكَيْنِ، وَلَمْ يَتِمَّ إحْرَازُ الْمُسْلِمِينَ لَهَا إلَّا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. 2983 - فَإِنْ كَانُوا قَدْ قَالُوا لَهُمْ: تُقَاتِلُونَ مَعَنَا عَدُوَّنَا عَلَى أَنْ تُسَلِّمُوا الْغَنَائِمَ كُلَّهَا لَنَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِنْهَا شَيْئًا، عَلَى أَنْ نُخَلِّي سَبِيلَكُمْ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّ أَكْبَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ بِهَذَا الشَّرْطِ يَلْتَحِقُ الْمُصَابُ بِأَمْوَالِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذُوا أَمْوَالَهُمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا يُمْتَنَعُ أَخْذُ الْمَالِ الْمُبَاحِ إذَا كَانَ فِيهِ غَدْرُ الْأَمَانِ. 2984 - وَإِنْ كَانُوا قَالُوا لَهُمْ: نُخَلِّي سَبِيلَكُمْ إلَى بِلَادِكُمْ، عَلَى أَلَّا تَأْخُذُوا مِنْ أَمْوَالِنَا شَيْئًا، فَأَجَابُوهُمْ إلَى ذَلِكَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا. لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ. «وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1520 كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ قِيلَ: فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَرَطُوا ذَلِكَ لَهُمْ أَيْضًا، ثُمَّ قُلْتُمْ: يَسَعُهُمْ إخْفَاءُ مَا أَخَذُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْآخَرِينَ حَتَّى يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. قُلْنَا: هُنَاكَ إنَّمَا شَرَطُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُسَلِّمُوا غَنَائِمَهُمْ، وَإِنَّمَا غَنَائِمُهُمْ مَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ أَخَذُوهُ مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَمَّا مَا أَخَذَهُ الْأُسَرَاءُ مِنْ الْعَدُوِّ فَلَيْسَ مِنْ غَنَائِمِ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ مَعَهُمْ. لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ فِي الْغَنَائِمِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ فِي مَنَعَتِهِمْ أَنَّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْإِخْفَاءِ مُخَالَفَةُ شَرْطٍ مُفْصِحٍ لَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَّ أَنَّ مُخَالَفَةَ الشَّرْطِ الْمُفْصِحِ بِهِ لَا يَصِحُّ لَهُمْ. 2985 - وَإِنْ كَانُوا أُسَرَاءَ فِي أَيْدِيهِمْ فَقَالَ: لَوْ كَانُوا فِي سِجْنٍ مِنْ سُجُونِهِمْ فَقَالُوا: نُؤْمِنُكُمْ عَلَى أَنْ نُخْرِجَكُمْ فَتَكُونُوا فِي بِلَادِنَا عَلَى أَلَّا نَدَعَكُمْ تَرْجِعُونَ إلَى بِلَادِكُمْ، وَلَا تَقْتُلُوا مِنَّا أَحَدًا، وَلَا تَأْخُذُوا مِنَّا مَالًا، سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً، فَرَضِيَ الْأُسَرَاءُ بِذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِهَذَا الشَّرْطِ. لِأَنَّهُمْ فِيمَا الْتَزَمُوا بِالشَّرْطِ نَصًّا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِيهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِقَبُولِ ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلِ وَالْحَبْسِ وَالْعَذَابِ. فَإِنْ وَجَدُوا بَعْدَ هَذَا عَبْدًا أَصَابُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسَعْ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1521 2986 - وَلَوْ وَجَدُوا حُرَّةً مَأْسُورَةً أَوْ مُدَبَّرَةً لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَأْخُذُوهَا فَيَخْرُجُوهَا. لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَمْلِكُوهَا، وَإِنَّمَا شَرَطُوا عَلَيْهِمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ. 2987 - وَلَوْ وَجَدُوا كُرَاعًا أَوْ سِلَاحًا أَخَذُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لَمْ يَسَعْهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. 2988 - وَلَوْ قَالُوا لِلْأُسَرَاءِ: اُخْرُجُوا إلَى بِلَادِكُمْ، فَأَنْتُمْ آمِنُونَ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ الْأُسَرَاءُ شَيْئًا، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلَهُمْ الْأُسَرَاءُ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، وَيَأْخُذُوا أَمْوَالَهُمْ. لِأَنَّ الْأُسَرَاءَ مَا الْتَزَمُوا لَهُمْ شَيْئًا بِالشَّرْطِ، وَاشْتِرَاطُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَيْهِمْ لَا يُلْزِمُهُمْ شَيْئًا مِمَّا لَمْ يَلْتَزِمُوهُ. 2989 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيَدْخُلُوا دَارَ الْحَرْبِ فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ: اُدْخُلُوا، وَأَنْتُمْ آمِنُونَ، فَدَخَلُوا وَلَمْ يَشْتَرِطُوا لَهُمْ شَيْئًا. لِأَنَّ هُنَاكَ مَجِيئُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْمَانِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالِاشْتِرَاطِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَّا يَغْدِرُوا بِهِمْ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْأُسَرَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ فِي أَيْدِيهِمْ لَا مُسْتَأْمَنِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1522 وَلَوْ قَالَ أَهْلُ الْحَرْبِ لِلْأُسَرَاءِ فِيهِمْ: قَاتِلُوا مَعَنَا عَدُوَّنَا عَلَى أَنْ نُخَلِّيَ سَبِيلَكُمْ لِتَرْجِعُوا إلَى بِلَادِكُمْ، وَعَلَى أَنَّ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَمَا أَصَبْنَا نَحْنُ مِنْ شَيْءٍ لَمْ تَعْرِضُوا فِيهِ لَنَا، ثُمَّ تَمَكَّنَ الْأُسَرَاءُ مِنْ أَخْذِ مَا أَصَابَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ سِرًّا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ. لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا لَهُمْ ذَلِكَ، وَالْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ وَاجِبٌ. 2991 - فَإِنْ سَلَّمَ أَهْلُ الْحَرْبِ لِلْأُسَرَاءِ مَا أَصَابُوهُ، فَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ لَهُمْ خَاصَّةً لَا خُمْسَ فِيهِ، وَالْفَارِسُ وَالرَّاجِلُ فِيهِ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُمْ أَصَابُوهُ وَحُكْمُ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهِمْ، فَتَمَّ إحْرَازُهُمْ لَهُ فِي دَارِ الشِّرْكِ، حِينَ سَلَّمَ لَهُمْ الْعَدُوُّ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ مَا أَصَابُوا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَهُوَ مِنْ وَجْهٍ كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ هُمْ الَّذِينَ أَصَابُوهُ ثُمَّ سَلَّمُوهُ لَهُمْ بِطِيبَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ وَهَبُوهُ لَهُمْ. 2992 - وَلَا يَكُون لِذَلِكَ الْمَالِ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُ صَارَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوهُ إلَى مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. - وَلَوْ كَانَ الْمُصِيبُ بَعْضَهُمْ كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ أَصَابَهُ خَاصَّةً. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِحْرَازِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ هَا هُنَا، وَغَيْرُ الْمُصِيبِ فِي هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1523 بِالْإِحْرَازِ وَسَبَبُ تَمَامِ الْحَقِّ الْإِصَابَةُ مَعَ تَسْلِيمِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ لِلْمُصِيبِ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْآخَرِينَ فِي هَذَا السَّبَبِ. 2993 - وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ شَرَطُوا أَنَّ مَا أَصَابَهُ إنْسَانٌ مِنْ الْأُسَرَاءِ فَهُوَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُسَرَاءِ، وَرَضِيَ الْأُسَرَاءُ بِذَلِكَ، فَهَذَا الْمُصَابُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ أَصَابَهُ بَعْضُهُمْ. لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إنَّمَا سَلَّمُوهُ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ وَهَبُوهُ لَهُمْ جَمِيعًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَقَبَضَهُ بَعْضُهُمْ بِرِضَاءِ الْجَمَاعَةِ مِنْهُمْ. 2994 - وَلَوْ كَانُوا شَرَطُوا عَلَيْهِمْ أَنَّ مَا أَصَبْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ فَلَكُمْ نِصْفُهُ، وَلَنَا نِصْفُهُ، وَاقْتَسَمُوا مَا أَصَابُوهُ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ الْأُسَرَاءُ إلَى دَارِنَا فَجَمِيعُ مَا أَصَابُوهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا خُمْسَ فِيهِ. لِأَنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْ إخْرَاجِهِ بِتَسْلِيمِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِمَالٍ مَأْخُوذٍ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ، وَذَلِكَ يَنْتَفِي إذَا سَلَّمَ الْمُشْرِكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ. 2995 - فَأَمَّا مَا أَخْرَجَتْهُ الْأُسَرَاءُ هُنَا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ أَهْلِ الْحَرْبِ، مِمَّا لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ أَخَذُوهُ مِنْهُمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُخَمَّسُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ هَذَا مُصَابٌ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، وَلَمْ يَتِمَّ سَبَبُ حَقِّهِمْ فِيهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1524 إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا أَخَذَ الْأُسَرَاءُ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِ أَهْلِ الْحَرْبِ، مِمَّا غَدَرُوا فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخَمَّسُ. لِأَنَّ الْأَخْذَ لَمْ يَكُنْ حَلَالًا لَهُمْ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِرَدِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى، بِمَنْزِلَةِ مَا أَخَذَهُ الْمُسْتَأْمَنُونَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّلَصُّصِ. 2997 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ أَرْسَلُوا الْأُسَرَاءَ خَاصَّةً أَنْ يُقَاتِلُوا أَهْلَ الْحَرْبِ آخَرِينَ، وَجَعَلُوا الْأَمِيرَ مِنْ الْأُسَرَاءِ، وَجَعَلُوا لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَسَلَّمُوا لَهُمْ الْغَنَائِمَ يُخْرِجُونَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا بَأْسَ بِالْقِتَالِ عَلَى هَذَا إذَا خَافُوهُمْ أَوْ لَمْ يَخَافُوا. لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جِهَادًا مِنْهُمْ. 2998 - ثُمَّ يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا إذَا أَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ الْمُصَابَ لَمَّا أَخَذَ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ هَا هُنَا، فَتَأَكَّدَ الْحَقُّ فِيهِ، يَكُونُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُوَادِعِينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ لَوْ طَلَبَ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَدْخُلُوا بِلَادَهُمْ جُنْدًا لَيُغِيرُوا عَلَى أَهْلِ حَرْبٍ آخَرِينَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1525 2999 - وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَعَثُوا الْأُسَرَاءَ لِقِتَالِ عَدُوِّهِمْ شَرَطُوا أَنَّ الْمُصَابَ لَهُمْ دُونَ الْأُسَرَاءِ أَوْ نِصْفَ الْمُصَابِ لَهُمْ وَالْأُسَرَاءُ لَا يَخَافُونَهُمْ إنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. لِأَنَّ فِيهِ إعَانَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا كُرَاعًا أَوْ سِلَاحًا أَخَذُوا مِنْهُمْ الْمَشْرُوطَ فَتَقْوَوْا بِهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. إلَّا أَنْ يَكُونُوا شَرَطُوا لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُمْ فَيَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلُوا. لِأَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ مُفَادَاتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِمَا يُعْطُونَهُمْ مِنْ السَّبْيِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ. 2300 - ثُمَّ إذَا خَرَجُوا بِالْبَقِيَّةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ خُمِّسَ ذَلِكَ، وَقُسِّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ أَصَابُوهُ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ فِيهِمْ، وَبِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ حَقُّهُمْ فِيهِ، لَا بِتَسْلِيمِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ، ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا مَعَهُمْ حِينَ أَصَابُوا ذَلِكَ، وَكَانَتْ مَنَعَتُهُمْ حِينَ أَصَابُوا مَنَعَةَ الْمُسْلِمِينَ. 3001 - وَلَوْ كَانُوا شَرَطُوا لِلْأُسَرَاءِ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ وَالسَّبْيَ، وَلَهُمْ مَا سِوَى ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ بِقِتَالِ الْأُسَرَاءِ عَلَى هَذَا بَأْسٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1526 أَيْضًا، بِمَنْزِلَةِ مُفَادَاتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَالِ، فَإِنْ كَانُوا قَالُوا لَهُمْ: ذَلِكَ لَكُمْ عَلَى أَلَّا تُخْرِجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا تَخْرُجُوا أَنْتُمْ أَيْضًا، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا عَلَى هَذَا، إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَخَافُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. لِأَنَّ فِي هَذَا الْقِتَالِ تَحْصِيلَ مَنْفَعَةِ الْمَالِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ بِمُقَابِلَتِهِ مَعْنَى الْخَلَاصِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَسَعُ الْقِتَالُ عَلَى هَذَا إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1527 [بَابُ مَا لَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَبَيْعِ الْخُمُورِ] ِ 3002 - ذُكِرَ عَنْ تَوْبَةَ بْنِ نَمِرً الْحَضْرَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» . وَفِيهِ لُغَتَانِ خِصَاءَ وَإِخْصَاءَ وَالْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ، وَفِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا النَّهْيُ عَنْ إخْصَاءِ بَنِي آدَمَ، بِصِيغَةِ النَّفْيِ. وَهُوَ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّهْيِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] . قِيلَ: هُوَ إخْصَاءُ بَنِي آدَمَ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ الشَّيْطَانُ بِمَا هُوَ مِنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، ثُمَّ هُوَ مُثْلَةٌ. وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» . وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّبَتُّلُ، وَهُوَ أَنْ يُحَرِّمَ الرَّجُلُ غَشَيَانَ النِّسَاءِ، فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ بِمَنْزِلَةِ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ النِّسَاءَ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1528 مَعَ أَصْحَابِهِ حِينَ هَمُّوا بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَنِيسَةِ إحْدَاثُ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. 3003 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قَالَ: أَمْنَعُ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ الْكَنَائِسِ فِي الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ مِنْ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، وَلَا أَهْدِمُ شَيْئًا مِمَّا وَجَدْته قَدِيمًا فِي أَيْدِيهِمْ، مَا لَمْ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَا صَارَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ تَغْيِيرَ مَا وُجِدَ قَدِيمًا لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ صَارَ مُعَدًّا لِإِقَامَةِ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ فِيهِ، كَتَمْكِينِ الْمُسْلِمِ مِنْ الثَّبَاتِ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. 3004 - فَإِنْ طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ يَصِيرُوا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، يُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا عَنْ رِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهمْ شَيْئًا مَعْلُومًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ كَالْإِسْلَامِ، فَكَمَا أَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا عَرْضَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ يَجِبُ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا طَلَبُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، ثُمَّ رُبَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1529 يَرَوْنَ مَحَاسِنَ الشَّرِيعَةِ وَيُسْلِمُونَ، فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِأَرْفَقِ الطَّرِيقِينَ. 3005 - وَقَدْ أَجَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ نَجْرَانَ إلَى هَذَا حِينَ طَلَبُوا مِنْهُ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ فِي سَنَةٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتِي حُلَّةٍ. فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى هَذَا وَأَرَاضِيهِمْ مِثْلُ أَرْضِ الشَّامِ مَدَائِنُ وَقُرًى فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ دُورِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ، وَلَا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَيْهِمْ مَنَازِلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ عَهْدٍ وَصُلْحٍ، وَقَدْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَوْمَ خَيْبَرَ لَا أُحِلُّ لَكُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُعَاهَدِينَ. وَلِأَنَّهُمْ قَبِلُوا الذِّمَّةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ وَحُقُوقُهُمْ كَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَحُقُوقِهِمْ. 3006 - فَإِنْ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِصْرًا فِي الْمَوَاتِ مِنْ تِلْكَ الْأَرَاضِيِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا تَعَرُّضٌ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْلَاكِهِمْ، وَقَدْ صَارَتْ دِيَارُهُمْ مِنْ جُمْلَةِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ، بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا. فَالرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرَاضِيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. 3007 - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا إنَّ عَادِيَ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1530 فَإِنْ كَانَ قُرْبَ ذَلِكَ الْمِصْرِ الَّذِي اتَّخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرَاضِيِ قُرًى لِأَهْلِ الذَّمَّةِ فَعَظُمَ الْمِصْرُ حَتَّى جَاوَزَ تِلْكَ الْقُرَى، فَقَدْ صَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْمِصْرِ، لِإِحَاطَةِ الْمِصْرِ بِجَوَانِبِهَا، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْقُرَى كَنَائِسُ أَوْ بِيَعٌ أَوْ بُيُوتُ نِيرَانٍ تُرِكَتْ عَلَى حَالِهَا. لِأَنَّهُمْ أَهْلُ صُلْحٍ، قَدْ اسْتَحَقُّوا بِهِ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، بِصَيْرُورَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِصْرًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ أَمْلَاكِهِمْ وَإِزْعَاجِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِعَقْدِ الصُّلْحِ. 3009 - وَلَكِنْ إنْ أَرَادُوا إحْدَاثَ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ يَصِحُّ فِيهِ الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَتُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ وَفِي تَمْكِينِهِمْ مِنْ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ إدْخَالُ الْوَهَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ تَمْكِينُهُمْ مِنْ الْمُعَارَضَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ صُورَةً، وَهَذَا مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِقَوْلِهِ: وَلَا كَنِيسَةَ. يُوضِحُهُ أَنَّ مَا كَانَتْ لَهُمْ مِنْ الْكَنَائِسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ تَأَكَّدَ حَقُّهُمْ فِيهَا بِالتَّقْرِيرِ، بَعْدَ مَا صَارَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَا أُحْدِثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1531 مِنْ الْحَالِ، وَهُوَ تَصْيِيرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادُوا الْإِحْدَاثَ وَهُوَ نَظِيرُ حُكْمٍ فِي حَادِثَةٍ أَمْضَاهُ الْقَاضِي بِاجْتِهَادٍ، ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَبْنِي مِثْلَ تِلْكَ الْحَادِثَةِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ الرَّأْيِ فِيهِ. 3010 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا يَبِيعُونَ الْخُمُورَ وَالْخَنَازِيرَ عَلَانِيَةً فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، بَعْدَ مَا صَارَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِصْرًا. لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ يُنْشِئُونَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي أَمْصَار الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ إدْخَالِ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ عَلَى وَجْهِ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ. هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: وَلِأَنَّ هَذَا فِسْقٌ، وَفِي إظْهَارِ الْفِسْقِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ، وَمَا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ. 3011 - وَكَذَلِكَ إنْ حَضَرَ لَهُمْ عِيدٌ يُخْرِجُونَ فِيهِ صَلِيبَهُمْ فَلْيَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ، فَأَمَّا أَنْ يُخْرِجُوا ذَلِكَ مِنْ الْكَنَائِسِ حَتَّى يُظْهِرُوهُ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ لِيُخْرِجُوهُ خَفِيًّا مِنْ كَنَائِسِهِمْ حَتَّى إذَا أَخْرَجُوهُ مِنْ الْمِصْرِ إلَى غَيْرِ الْمِصْرِ فَلْيَصْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبُّوا، يَعْنِي إذَا جَاوَزُوا أَفَنِيَّةَ الْمِصْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1532 لِأَنَّ فِنَاءَ الْمِصْرِ كَجَوْفِهِ فِي حُكْمِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ فِيهِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَخَرَجَ مَعَ النَّاسِ إلَى بَعْضِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بِهِمْ، وَهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُظْهِرُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِثْلَ ذَلِكَ، لَكَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى صُورَةِ الْمُعَارَضَةِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ فِنَاءَ الْمِصْرِ فِي هَذَا كَجَوْفِ الْمِصْرِ. 3012 - وَكَذَلِكَ ضَرْبَ النَّاقُوسِ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ إذَا كَانُوا يَضْرِبُونَهُ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ، فَإِنْ أَرَادُوا الضَّرْبَ بِهَا خَارِجًا فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكُوا لِيَفْعَلُوا ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُعَارَضَةِ أَذَانِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصُّورَةِ، فَأَمَّا كُلُّ قَرْيَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ بِمِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ جَمِيعِ ذَلِكَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا عَدَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ نُزُولٌ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَوْضِعِ إعْلَامِ الدِّينِ مِنْ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ فِيهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخِي رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا: إنَّمَا أَجَابُوا بِهَذَا هَا هُنَا وَفِي الْمَبْسُوطِ بُنِيَ عَلَى حَالِ قُرَاهُمْ بِالْكُوفَةِ، فَإِنَّ عَامَّةَ مَنْ يَسْكُنُهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالرَّوَافِضُ فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرَى، كَمَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ فِي الْأَمْصَارِ؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَجُلُوسِ الْوَاعِظِينَ وَالْمُدَرِّسِينَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْصَارِ، وَاسْتَدَلُّوا بِلَفْظٍ ذَكَرَهُ هُنَا فَقَالَ. 3013 - فَأَمَّا الْمِصْرُ الَّذِي الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِثْلُ الْحِيرَةِ وَغَيْرِهَا لَيْسَتْ فِيهَا جُمُعَةٌ وَلَا حُدُودٌ تُقَامُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1533 وَمَشَايِخُ دِيَارِنَا يَقُولُونَ: لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِلَفْظٍ ذَكَرَهُ هَا هُنَا فَقَالَ: الْقُرَى الَّتِي أَهْلُهَا مُسْلِمُونَ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمْصَارٍ، فِيهَا جُمَعٌ وَحُدُودٌ، إذَا اشْتَرَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهَا مَنَازِلَ وَاِتَّخَذُوا فِيهَا الْكَنَائِسَ وَالْبِيَعَ، وَأَعْلَنُوا فِيهَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَنْعَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَوْضِعُ إقَامَةِ مَعَالِمِ الدِّينِ فِيهِ مِنْ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ يَخْتَصُّ بِالْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى، وَهَكَذَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي أَدَبِ الْقَاضِي بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْقُرَى فِي ذَلِكَ كَالْأَمْصَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ. 3014 - فَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ فِنَاءِ الْمِصْرِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرَى الَّتِي يَكُونُ أَكْثَرُ السُّكَّانِ بِهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَمَّا فِي الْقُرَى الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. 3015 - وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي أَصْلِ الصُّلْحِ أَنْ يُقَاسِمُوهُمْ مَنَازِلَهُمْ فِي مَدَائِنِهِمْ وَأَمْصَارِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّ اشْتِرَاطَ هَذَا الْمِلْكِ عَلَيْهِمْ كَاشْتِرَاطِ مَالٍ آخَرَ، فَيَجُوزُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا. 3016 - فَإِنْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي مُدَايَنهمْ وَقُرَاهُمْ، وَفِيهَا الْكَنَائِسُ وَبَيْعُ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ عَلَانِيَةً، وَتَزْوِيجُ الْمَحَارِمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1534 فَكُلُّ مَوْضِعٍ صَارَ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ تُجْمَعُ فِيهِ الْجُمَعُ، وَتُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِيهِ وَإِظْهَارِ شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ قَدْ صَارَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، بِمَا أَحْدَثُوا مِنْ السُّكْنَى فِيهِ بَعْدَ الصُّلْحِ، فَهُوَ فِي الْحُكْمِ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ، مِمَّا جَعَلُوهُ مِصْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَكُلُّ حُكْمٍ ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ فَهُوَ الْحُكْمُ هَا هُنَا. 3017 - فَإِنْ انْهَدَمَتْ كَنِيسَةٌ مِنْ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا كَمَا كَانَتْ. لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ قَدْ كَانَ مُقَرَّرًا لِمَا كَانُوا أَعَدُّوهُ لَهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِانْهِدَامِ الْبِنَاءِ، فَإِذَا بَنَوْهُ كَمَا كَانَ فَالْبِنَاءُ الثَّانِي مِثْلُ الْأَوَّلِ. 3018 - وَإِنْ قَالُوا: نُحَوِّلُهُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْمِصْرِ، فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الْآخَرَ قَدْ صَارَ مُعَدًّا لِإِظْهَارِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهِ، فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوهُ مُعَدًّا بَعْدَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ حُكْمِ الشِّرْكِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ يَجْعَلُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ إذَا طَلَبَ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ الثَّبَاتِ عَلَى الرِّدَّةِ بِمَالٍ يُعْطَى لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يُجَابُ إلَى ذَلِكَ بِحَالٍ. أَرَأَيْت لَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحَوِّلُوهُ إلَى مَوْضِعٍ كَانَ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1535 مِنْ الْأَوْقَاتِ عَلَى أَنْ يَبْنُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْمُسْلِمِينَ مَسْجِدًا أَجْوَدَ مِمَّا كَانَ مِنْهُ وَأَوْسَعَ، أَكَانَ يَحِلُّ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ،؟ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. 3019 - وَلَوْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَعَلَى أَرْضِهِمْ، فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَهْلِ سَوَادِ الْكُوفَةِ فَهُوَ جَائِزٌ مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَاوَرَ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وَحَاجَّهُمْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلِهِ إلَّا نَفَرًا يَسِيرًا مِنْهُمْ خَالَفُوهُ وَلَمْ يُحْمَدُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ: اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ " فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، ثُمَّ لَا يُمْنَعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بِنَاءِ بِيعَةٍ: أَوْ كَنِيسَةٍ وَلَا مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي قُرَاهُمْ وَأَمْصَارِهِمْ. لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِأَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْحُدُودُ وَالْجُمَعُ. وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْأَرَاضِيِ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَرَاضِيِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوَاضِعَ إقَامَةِ أَعْلَامِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، مِنْ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْحُدُودِ. 3020 - فَإِنْ مَصَّرَ الْإِمَامُ فِي أَرَاضِيِهِمْ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا مَصَّرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ فَاشْتَرَى بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ دُورًا وَسَكَنُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1536 لِأَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا مِنْهُمْ عَقْدَ الذِّمَّةِ لِيَقِفُوا عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ، فَعَسَى أَنْ يُؤْمِنُوا وَاخْتِلَاطُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ فِي السُّكْنَى مَعَهُمْ يُحَقِّقُ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذَا إذَا قَلُّوا وَكَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَعَطَّلُ بَعْضُ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَتَقَلَّلُ الْجَمَاعَةُ بِسُكْنَاهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا إذَا كَثُرُوا عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ أَوْ تَقْلِيلِهَا مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَأُمِرُوا بِأَنْ يَسْكُنُوا نَاحِيَةً لَيْسَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةٌ، وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ. 3021 - فَإِنْ اشْتَرَوْا دُورًا لِلسُّكْنَى فَأَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا دَارًا مِنْهَا كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهَا لِصَلَاتِهِمْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ. لِمَا فِي إحْدَاثِ ذَلِكَ مِنْ صُورَةِ الْمُعَارَضَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ لِلْجَمَاعَاتِ وَفِيهِ ازْدِرَاءٌ بِالدِّينِ وَاسْتِخْفَافٌ بِالْمُسْلِمِينَ. 3022 - وَكَذَلِكَ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي هَذَا الْمِصْرِ. لِأَنَّ فِي هَذَا الْإِظْهَارِ مَعْنَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَمَقْصُودُهُمْ يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِظْهَارِ. 3023 - وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤَاجِرَهُمْ بَيْتًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْإِعَانَةِ إلَى مَا يَرْجِعُ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1537 الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ آجَرَهُمْ فَأَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الدَّارِ مَنَعَهُمْ صَاحِبُ الْبَيْتِ وَغَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ، وَلَا يَفْسَخُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بِهَذَا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ بَيْتَهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَكَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ فِيهِ عَلَى الشَّرَابِ أَوْ يَبِيعُ الْمُسْكِرَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ لِأَجَلِهِ. لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ هَذَا لَيْسَ لِمَعْنًى يَتَّصِلُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. 3024 - وَإِنْ اتَّخَذَ فِيهِ مُصَلًّى لِنَفْسِهِ خَاصَّةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ السُّكْنَى، وَقَدْ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِمَّا فِيهِ صُورَةُ الْمُعَارَضَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي إظْهَارِ أَعْلَامِ الدِّينِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْنِيَهُ كَنِيسَةً يَجْتَمِعُونَ فِيهَا لِصَلَاتِهِمْ. 3025 - فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْبَيْتَ صَوْمَعَةً يَتَخَلَّى فِيهَا أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يُشْتَهَرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اتِّخَاذِ الْكَنِيسَةِ لِجَمَاعَتِهِمْ. 3026 - فَإِنْ صَارَتْ بَلْدَةً مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ يُجْمَعُ فِيهِ الْجُمَعُ، وَيُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ، وَلَهُمْ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1538 كَنِيسَةٌ قَدِيمَةٌ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي صَالَحَ عَلَيْهَا أَهْلَهَا قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ هُنَاكَ تُتْرَكُ لَهُمْ الْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ بَعْدَ مَا صَارَتْ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَا هُنَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ، وَلَا يَتْرُكُ لَهُمْ الْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ أَيْضًا، إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ لَمْ يَتْرُكْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ، فَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ إظْهَارِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فِي هَذَا الْمِصْرِ قَدْ تَقَرَّرَ حِينَ فُتِحَ عَنْوَةً وَيَثْبُتُ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ؛ الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّهِمْ، وَفِي الْأَوَّلِ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي تِلْكَ الْأَرَاضِيِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْإِمَامُ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الصُّلْحِ. أَلَا تَرَى أَنَّ هَا هُنَا يَضَعُ الْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ وَالْخَرَاجُ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ، وَهُنَاكَ لَا يُلْزِمُهُمْ مِنْ الْمَالِ عَنْ نُفُوسِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ إلَّا مِقْدَارَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ هُنَاكَ بِالصُّلْحِ تَقَرَّرَ حَقُّهُمْ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى حَقِّهِمْ الْمُتَقَرَّرِ، فَيَصِيرُ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ مَانِعًا لَهُمْ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1539 فِيمَا تَقَرَّرَ حَقُّهُمْ فِيهِ، وَهَا هُنَا اعْتَرَضَ حَقُّهُمْ عَلَى الْحَقِّ الثَّابِتِ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ رَأْيٍ رَآهُ الْإِمَامُ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ الرَّأْيُ مُقَيَّدٌ بِالنَّظَرِ، وَفِيمَا لَا نَظَرَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ يُعْتَبَرُ تَقَدُّمُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ هَذَا نَظِيرُ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِحَالٍ لِلْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ. 3027 - إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَهْدِمَ أَبْنِيَةَ الْكَنَائِسِ الْقَدِيمَةِ لَهُمْ، وَلَكِنْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يَجْعَلُوهَا مَسَاكِنَ يَسْكُنُونَهَا. لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ، وَلَمَّا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَقَدْ أَظْهَرَ الْحُرْمَةَ وَالْعِصْمَةَ لِأَمْلَاكِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالتَّخْرِيبِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِيهَا لِتَعَبُّدِهِمْ، لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الشِّرْكِ فِي مَوْضِعٍ ثَبَتَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فِي إظْهَارِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهِ. 3028 - فَإِنْ عَطَّلَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْمِصْرَ حَتَّى تَرَكُوا إقَامَةَ الْحُدُودِ وَالْجُمَعِ فِيهَا، فَلِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَتَّخِذُوا فِيهَا مَا أَرَادُوا مِنْ الْكَنَائِسِ، وَأَنْ يُظْهِرُوا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيهَا. لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْ ارْتَفَعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1540 أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُمْنَعُونَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهَا الْإِمَامُ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، يُقِيمُ فِيهَا الْجُمَعَ وَالْأَعْيَادَ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَرَكَ ذَلِكَ) . لِأَنَّ الْمَانِعَ صُورَةُ الْمُعَارَضَةِ. 3029 - قَالَ: وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ كَنِيسَةً وَلَا بِيعَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ. لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يُبْنَى عَلَى سُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهَا، وَهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ اسْتِدَامَةِ السُّكْنَى فِي أَرْضِ الْعَرَبِ، كَرَامَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ مَوْضِعُ وِلَادَتِهِ وَمَنْشَئِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «لَا يَجْتَمِعُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ دِينَانِ» . وَقَالَ: «لَئِنْ بَقِيت لَأُخْرِجَنَّ بَنِي نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» . ثُمَّ أَجَلَاهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، إلَى الشَّامِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ أَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ وَيَهُودَ وَادِي الْقُرَى وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ كَانَ يَسْكُنُ أَرْضَ الْعَرَبِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، حَتَّى لَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالشَّامِ وَبَعْضُهُمْ بِالْعِرَاقِ. فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ اسْتِدَامَةِ السُّكْنَى لِحُرْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ تِلْكَ الْكَنَائِسِ وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِيهَا أَظْهَرُ. 3030 - وَإِذَا دَخَلَهَا مُشْرِكٌ تَاجِرًا عَلَى أَنْ يَتْجُرَ وَيَرْجِعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1541 إلَى بِلَادِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُطِيلَ فِيهَا الْمُكْثَ حَتَّى يَتَّخِذَ فِيهَا مَسْكَنًا. لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ مَعَ الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ كَحَالِهِمْ فِي الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ، وَهُنَاكَ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ التِّجَارَةِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُونَ مِنْ إطَالَةِ الْمُقَامِ، فَكَذَلِكَ حَالُهُمْ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ حَتَّى إذَا أَرَادَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَنْزِلَ أَرْضَ الْعَرَبِ، مِثْلَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالرَّبَذَةِ وَوَادِي الْقُرَى، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ مِنْ عُذَيْبٍ إلَى مَكَّةَ طُولًا وَمِنْ عَدَنَ أَبَيْنَ إلَى أَقْصَى حُجْرَ بِالْيَمَنِ بِمُهْرَةَ عَرْضًا. 3031 - وَكُلُّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ يُجْمَعُ فِيهَا الْجُمَعُ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ أَنْ يُدْخِلَ فِيهَا خَمْرًا وَلَا خِنْزِيرًا ظَاهِرًا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَقَالَ: إنَّمَا مَرَرْت مُجْتَازًا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَلِّلَ الْخَمْرَ أَوْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا لِي، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا دَيِّنًا لَا يُتَّهَمُ عَلَى ذَلِكَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ. لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، خُصُوصًا فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ. 3032 - وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِتَنَاوُلِ ذَلِكَ أُهْرِيقَتْ خَمْرُهُ وَذُبِحَ خِنْزِيرُهُ وَأُحْرِقَ بِالنَّارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1542 لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَصْدَهُ كَانَ ارْتِكَابَ الْحَرَامِ، وَفِعْلُهُ الَّذِي ظَهَرَ عَلَى قَصْدِ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ حَرَامٌ، فَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يُؤَدِّبَهُ بِأَسْوَاطٍ وَيَحْبِسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ فَعَلَ. لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْجِبَ التَّعْزِيرِ بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ، وَهُوَ إظْهَارُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي مِصْرِ الْمُسْلِمِينَ. 3033 - وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْإِنَاءِ بِالْكَسْرِ وَالتَّمْزِيقِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَهُ عَلَى مَالِكِهِ إذْ التَّعْزِيرُ بِإِيلَامٍ فِي الْبَدَنِ لَا بِإِفْسَادٍ فِي الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ إحْرَاقِ رَحْلِ الْغَالِّ. 3034 - وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ ضَمِنَ قِيمَةَ مَا أَفْسَدَهُ. لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ حَلَالٍ. 3035 - إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْيِ الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لِمَا صَنَعَ صَاحِبُهُ. فَحِينَئِذٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا صَنَعَ، وَلَا عَلَى مَنْ أَمَرَهُ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1543 لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ حُكْمٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي إحْرَاقِ رَحْلِ الْغَالِّ، وَحُكْمُ الْإِمَامِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ نَافِذٌ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: تَأْوِيلُ هَذَا فِي إنَاءٍ يُشْرَبُ فِيهِ الْخَمْرُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ إفْسَادُهُ، عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَشَقِّ الزِّقَاقِ» . وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ الْإِمَامُ وَغَيْرُ الْإِمَامِ فِي هَذَا سَوَاءً، كَمَا فِي إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا إنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ عَلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الزَّجْرِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حُكْمًا نَافِذًا. 3036 - فَإِنْ أَخَذَ الزِّقَّ وَالدَّابَّةَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الشَّرَابُ فَبَاعَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ فِي هَذَا كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فِي أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي بَيْعِ الْمَالِ عَلَى مَالِكِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ. 3037 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَدْخَلَهُ ذِمِّيًّا فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُرَدُّ عَلَيْهِ مَتَاعُهُ وَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ إنْ عَادَ أَدَّبَهُ. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا قَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَالْجَهْلُ فِي مِثْلِهِ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ التَّأْدِيبِ. 3038 - فَإِنْ عَادَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ أَوْ كَانَ عَالِمًا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1544 الِابْتِدَاءِ أَنَّ هَذَا لَا يَنْبَغِي لَهُ لَمْ يَنْبَغِ لِلْإِمَامِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَلَا يَذْبَحَ خِنْزِيرَهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّأْدِيبَ لَيْسَ بِإِتْلَافِ الْمَالِ وَلَكِنَّهُ يُؤَدِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ. 3039 - وَإِنْ أَتْلَفَ إنْسَانٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ هَا هُنَا كَحَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَوَانِي، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِصَاحِبِهِ كَمَا بَيَّنَّا. 3040 - وَلَوْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ لَهُ فِي سَفِينَةِ فِي مِثْلِ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ فَمَرَّ بِهَا فِي وَسَطِ بَغْدَادَ أَوْ وَاسِطَ أَوْ الْمَدَائِنِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمَمَرِّ فِيهِ. يَعْنِي أَنَّ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ - كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي وَسَطِ الدِّجْلَةِ. 3041 - إلَّا أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ أَنْ يُرَدَّ بِهَا إلَى شَيْءٍ مِنْ قُرَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ ظَاهِرًا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1545 وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي وَسَطِ دِجْلَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ الَّتِي فِيهَا مَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِي تَأْدِيبِهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادُوا الْمَمَرَّ بِذَلِكَ فِي طَرِيقِ الْأَمْصَارِ وَلَا مَمَرَّ لَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ. 3042 - فَإِنْ كَانَ لَهُمْ طَرِيقٌ يَأْخُذُونَ فِيهِ غَيْرُ الْأَمْصَارِ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُمْ الْآنَ إلَى ذَلِكَ. 3043 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَرِيقٌ سِوَى ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ أَمِينًا حَتَّى يُخْرِجَهُمْ مِنْ الْمِصْرِ، نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَنَظَرًا مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَخْلُوَ حَالُهُمْ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ مَعْنَى الذُّلِّ، أَوْ حَتَّى لَا يُدْخِلُوا ذَلِكَ. بَعْضَ مَسَاكِنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُتَّهَمِينَ بِشُرْبِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. 3044 - وَكُلُّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ الْفِسْقِ مِمَّا لَمْ يُصَالَحُوا عَلَيْهِ، مِثْلَ الزِّنَا وَإِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1546 لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِيَانَةٍ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ فِسْقٌ فِي الدِّيَانَةِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْحُرْمَةَ فِي ذَلِكَ كَمَا يَعْتَقِدُهُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ. ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ يُمْنَعُونَ مِنْ كُلِّهِ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ فَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ. 3045 - وَالْأَصْلُ فِيهِ عَقْدُ الرِّبَا، فَقَدْ صَحَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ بِأَنْ تَدَعُوا الرِّبَا أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، وَكَانَ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْهُمْ فِي الدِّيَانَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ حُرْمَةُ ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] . وَعَلَى هَذَا إظْهَارُ بَيْعِ الْمَزَامِيرِ وَالطُّبُولِ لِلَّهْوِ، وَإِظْهَارُ الْغِنَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ، وَمَنْ كَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَضْمَنْهُ إلَّا كَمَا يَضْمَنُهُ إذَا كَسَّرَهُ لِلْمُسْلِمِ. لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ فِي التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ عَلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ خَاصَّةً، فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَحَالُهُمْ كَحَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنْعِ مِنْ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ. 3046 - وَلَوْ طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الصُّلْحَ عَلَى شَرْطِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إنْ اتَّخَذُوا مِصْرًا فِي أَرْضِهِمْ لَمْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْ أَنْ يُحْدِثُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1547 فِيهِ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً، وَإِنْ يُظْهِرُوا فِيهِ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَالِحُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى إعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ فِي الدِّينِ، وَالْتِزَامِ مَا يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. 3047 - فَإِنْ أَعْطَاهُمْ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا عَهْدًا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفِيَ بِهَذَا الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ» . وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا» ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الشَّرْطَ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . فَصَارَ هَذَا أَصْلًا أَنَّ الصُّلْحَ مَتَى وَقَعَ عَلَى شُرُوطٍ مِنْهَا الْجَائِزُ الَّذِي يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمِنْهَا الْفَاسِدُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ: فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ إلَى الْجَائِزِ فَيُجِيزُهُ، وَإِلَى الْفَاسِدِ فَيُبْطِلُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَرَطُوا فِي الصُّلْحِ إظْهَارَ الزِّنَا وَاسْتِئْجَارَ الزَّوَانِي عَلَانِيَةً لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ لَهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ، بَلْ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الزِّنَا مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. 3048 - وَلَوْ أَنَّ الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَى أَرَاضِيِهِمْ أَحْدَثُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1548 كَنَائِسَ فِي قُرَاهُمْ وَأَمْصَارِهِمْ بَعْدَ مَا صَارُوا ذِمَّةً ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ يُجْمَعُ فِيهَا الْجُمْعُ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ أَحْدَثُوهُ وَمَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ إحْدَاثِهِ يَوْمَئِذٍ، فَكَانَ ذَلِكَ وَكَنَائِسُهُمْ الْقَدِيمَةُ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا سَوَاءً، فَيُتْرَكُ ذَلِكَ لَهُمْ. 3049 - وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ بَعْدَ مَا صَارَ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي هَذَا الْمِصْرِ وَلَا يَمْنَعُونَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ الْقَدِيمَةِ. قُلْنَا: لِأَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ مِنْهُمْ بَعْدَ مَا صَارَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا اسْتِدَامَةُ الْكَنِيسَةِ عَلَى مَا كَانَتْ فَلَيْسَ بِإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ، وَصَلَاتُهُمْ فِيهَا وَإِنْ كَانَ إنْشَاءُ التَّصَرُّفِ فَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ قَدْ اسْتَحَقُّوا تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَكَأَنَّ صَلَاتَهُمْ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ شُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَأَكْلِهِمْ الْخَنَازِيرَ. 3050 - وَلَوْ أَنَّ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ صَارَ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ يُجْمَعُ فِيهَا الْجُمَعُ فَمُنِعُوا مِنْ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ فِيهِ ثُمَّ تَحَوَّلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ مِنْهُمْ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1549 فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَعُودُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِيهِ، فَإِنْ بَنَوْا فِيهَا الْكَنَائِسَ ثُمَّ بَدَا لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجَعُوا إلَى ذَلِكَ الْمِصْرِ لَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِمَّا أَحْدَثُوا مِنْ الْكَنَائِسِ قَبْلَ عَوْدِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ. لِأَنَّهُمْ حِينَ بَنَوْا مَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا وَمَا بَنَوْهُ قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِصْرًا لَهُمْ سَوَاءً. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أُخِذَ عَنْوَةً فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا كَمَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكَنَائِسِ الْقَدِيمَةِ. 3051 - فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ كَنِيسَةٌ قَدِيمَةٌ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ مَنْعَهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا فَقَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ صَالَحْنَا عَلَى بِلَادِنَا، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلْ أَخَذْنَا بِلَادَكُمْ عَنْوَةً ثُمَّ جُعِلْتُمْ ذِمَّةً، وَهُوَ أَمْرٌ قَدْ تَطَاوَلَ فَلَمْ يُدْرَ كَيْفَ كَانَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، هَلْ يَجِدُ فِيهِ أَثَرًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ؟ وَيَسْأَلُ أَصْحَابَ الْأَخْبَارِ كَيْفَ كَانَ أَصْلُ هَذِهِ الْأَرْضِ؟ فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ أَثَرًا عَمِلَ بِهِ. لِأَنَّ نَقْلَ الثِّقَاتِ الْأَخْبَارَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا. وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالشَّهَادَةِ الْقَاطِعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَمَا جَرَى الرَّسْمُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَيُكْتَفَى فِيهِ بِمَا يُوجَدُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1550 الْحُجَّةِ فِي أَيْدِي الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الْوُسْعَ مُعْتَبَرٌ فِي الْحُجَجِ، وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ. وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، لِلْعَمَلِ بِهِ فِي بَابِ الدَّيْنِ. 3052 - فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي يَدِ الْفُقَهَاءِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ أَوْ كَانَتْ الْآثَارُ فِيهِ مُخْتَلِفَةً، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجْعَلُهَا أَرْضَ صُلْحٍ، وَيَجْعَلُ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ أَهْلِهَا. لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ فِيهَا بِالْأَصْلِ، وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ بِالْمَنْعِ وَالْهَدْمِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِالْأَصْلِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ، كَيْفَ وَقَدْ تَأَكَّدَ قَوْلُهُمْ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الصُّلْحِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْحَالِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الِاشْتِبَاهَ مَتَى تَمَكَّنَ فِيمَا مَضَى يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى تَحْكِيمِ الْحَالِ، كَمَا فِي جَرَيَانِ الْمَاءِ فِي اسْتِئْجَارِ الرَّحَى. تَوْضِيحُهُ: أَنَّا تَيَقَّنَّا بِثُبُوتِ حَقِّهِمْ فِيهَا فِي الْأَصْلِ وَوَقَعَ الشَّكُّ وَالتَّعَارُضُ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. 3053 - وَعَلَى هَذَا لَوْ جَاءَ أَثَرُ أَنَّهُمْ أَهْلُ صُلْحٍ وَأَثَرُ أَنَّهُمْ أُخِذُوا عَنْوَةً فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُهُمْ أَيْضًا. لِتَعَارُضِ الْآثَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1551 وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ شُهُودٌ، عَلَى شَهَادَةِ شُهُودٍ، أَنَّهُمْ صَالَحُوا وَشَهِدَ شُهُودٌ عَلَى أَنَّهُمْ أُخِذُوا عَنْوَةً فَإِنَّهُ يَعْمَل بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي. لِأَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ فَيُرَجَّحُ بِالْإِثْبَاتِ، وَاَلَّذِينَ شَهِدُوا أَنَّهُمْ صَالَحُوا يَبْقَوْنَ عَلَى مَا كَانَ وَلَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا حَادِثًا، وَالْفَرِيقُ الثَّانِي يُثْبِتُونَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَثَرُ فَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ قَاطِعَةٍ، وَالْعَمَلُ بِهَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَفِي الْإِبْقَاءِ وَالْإِحْدَاثِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ يُصَارُ إلَى التَّمَسُّكِ بِالْأَصْلِ. وَأَشَارَ إلَى مَعْنًى آخَرَ فِي الْكِتَابِ، فَقَالَ: 3055 - لَمَّا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلُهُمْ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَانَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ هُمْ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ ذِي الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ بَيِّنَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ تَقْرِيرِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَنَفْيِ سَبَبِ حَقِّ الِاسْتِرْقَاقِ بِمَنْزِلَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ إذَا ثَبَتَ حُرِّيَّتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ مُدَّعِي الرِّقِّ عَلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا مَعْنًى لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ هَا هُنَا، فَاَلَّذِينَ أُخِذُوا عَنْوَةً إذَا مَنَّ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ كَانُوا أَحْرَارَ الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَرِقَابِهِمْ، فَبَيْنَ الْكُلِّ اتِّفَاقٌ عَلَى أَنَّهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1552 أَحْرَارٌ لَمْ يُمْلَكُوا قَطُّ، وَإِنَّمَا الدَّعْوَى فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْكَنَائِسِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَى بَيْنَ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فِي مِلْكِ مَا فِي يَدِهِ. 3056 - وَلَوْ جَاءَ أَثَرُ أَنَّهُمْ أُخِذُوا عَنْوَةً وَجَاءَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَةِ أَنَّهُمْ صُولِحُوا كَانَتْ الشَّهَادَةُ أَحَقَّ أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا. لِأَنَّهَا حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ فَلَا يُقَابِلُهَا رِوَايَةُ الْأَثَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَجَّةٍ فِي مَوْضِعِ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ. 3057 - وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 3058 - وَلَوْ جَاءَ أَثَرُ أَنَّهُمْ صَالَحُوا - وَجَاءَتْ الشَّهَادَةُ أَنَّهُمْ أُخِذُوا عَنْوَةً فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالشَّهَادَةِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ. لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ الْآنَ بِاسْتِحْقَاقِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1553 [بَابُ مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ بِالْعَدُوِّ وَمَا لَا يَحِلُّ] 3059 - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَحْرِيقِ حُصُونِهِمْ وَتَغْرِيقِهَا مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُسَرَاءَ أَوْ مُسْتَأْمَنِينَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا، وَالْأَوْلَى لَهُمْ إذَا كَانُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الظَّفَرِ بِهِمْ بِوَجْهٍ آخَرَ أَلَّا يُقْدِمُوا عَلَى التَّغْرِيقِ وَالتَّحْرِيقِ. لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إتْلَافَ مَنْ فِيهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانُوا وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا، فَفِي ذَلِكَ إتْلَافُ أَطْفَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِيهِ أَلَا يَكُونَ لَهُمْ طَرِيقٌ آخَرُ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الظَّفَرِ بِهِمْ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، أَوْ يَلْحَقُهُمْ فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ حَرَجٌ عَظِيمٌ وَمَئُونَةٌ شَدِيدَةٌ، فَحِينَئِذٍ لِدَفْعِ هَذِهِ الْمَئُونَةِ يُبَاحُ لَهُمْ التَّحْرِيقُ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ أَلَّا يَلْزَمَهُمْ دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ قَتْلِ مَحْظُورٍ وَهَذَا قِتَالٌ مَأْمُورٌ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً. 3060 - وَالسَّفِينَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْحِصْنِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ إنْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْهُمْ وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْصِدُوا بِفِعْلِهِمْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمُقَاتِلِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1554 لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ إصَابَةِ الْأَطْفَالِ فِعْلًا كَانَ عَلَيْهِمْ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَقَدَرُوا عَلَى التَّحَرُّزِ قَصْدًا كَانَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وَقَدْ بَيَّنَّا مَا سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفِعْلِ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ صِفَةُ الْخَطَأِ. 3061 - فَإِنْ اخْتَلَفَ الرَّامِي وَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ بِالرَّمْيَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ الْوَلِيُّ: أَقَصَدْته بَعْدَ مَا عَلِمْت أَنَّهُ مُكْرَهٌ مِنْ جِهَتِهِمْ فِي الْوُقُوفِ فِي الصَّفِّ، وَقَالَ الرَّامِي: إنَّمَا تَعَمَّدْت الْمُشْرِكِينَ بِالرَّمْيِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الرَّامِي مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّ الرَّمْيَ إلَى صَفِّ الْمُشْرِكِينَ مُبَاحٌ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ الضَّمَانَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِذَلِكَ الْأَصْلِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ. 3062 - ثُمَّ الْوَلِيُّ يَدَّعِي عَلَى الرَّامِي سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ تَعَمُّدُهُ إيَّاهُ بِالرَّمْيِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلرَّامِي، وَالْمُسْلِمُ لَا يَتَعَمَّدُ الرَّمْيَ إلَى الْمُسْلِمِ. 3063 - وَمُطْلَقُ فِعْل الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا. لِأَنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَمْنَعُهُ عَنْ ارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ، فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَ الرَّامِي فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1555 إلَّا أَنَّهُ يَحْلِفُهُ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ أَلْزَمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ اسْتَحْلَفَ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ. 3065 - فَإِذَا سَبَى الْمُسْلِمُونَ الْمَرْأَةَ مَعَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حَمْلِهَا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمَا. لِأَنَّ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَان حَرَامٌ بِالنَّصِّ. 3066 - وَلَكِنْ يَتْرُكُونَهُمَا فِي مَضْيَعَةٍ. لِأَنَّ فِي تَرْكِهِمَا فِي مَضْيَعَةٍ امْتِنَاعٌ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا بِالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْأَمْنِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إسَاءَةً. 3067 - وَإِذَا كَانَ مَعَهُمَا أَبُ الصَّبِيِّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلُوهُ. لِأَنَّهُ أَسِيرٌ مُبَاحُ الدَّمِ. 3068 - وَلَوْ اُمْتُنِعَ قَتْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَيَاعِهِمَا لَامْتُنِعَ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ أَصْلًا. لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْحَرْبِ إلَّا وَفِيهِ تَوَهُّمُ ضَيَاعِ عِيَالِهِ. 3069 - فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى أَنْ يَحْمِلُوا الْمَرْأَةَ دُونَ الصَّبِيِّ وَعَلِمُوا أَنَّ الصَّبِيَّ يَمُوتُ إذَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ ظَنِّهِمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1556 لِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهُمَا كَانَ فِيهِ ضَيَاعُ الصَّبِيِّ أَيْضًا. وَلِأَنَّ تَضْيِيعَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ تَضْيِيعِهِمَا، وَلِأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْمَرْأَةَ دُونَ الصَّبِيِّ يَقْصِدُونَ مَنْفَعَةَ أَنْفُسِهِمْ فِي اسْتِرْقَاقِهَا، وَذَلِكَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ. 3070 - وَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ، إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَلَّا يَرْمُوا بِالصَّبِيِّ عَنْ خُيُولِهِمْ رَمْيًا، وَلَكِنْ يَضَعُونَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَضْعًا. لِأَنَّهُمْ إذَا رَمَوْا بِهِ كَانَ هَالِكًا بِفِعْلِهِمْ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ لَهُ، وَإِذَا وَضَعُوهُ لَمْ يَكُونُوا قَاتِلِينَ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ لَقِيطًا فَرَفَعَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ فِي مَكَانِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَوْ رَمَى فَتَلِفَ كَانَ ضَامِنًا بَدَلَ نَفْسِهِ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَضْعِ وَالتَّرْكِ فِي مَوْضِعٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُهْلَكُ فِيهِ. 3071 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ الصَّبِيِّ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ أُمِّهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلُوهُ وَيَتْرُكُوهَا، إذَا كَانُوا يَطْمَعُونَ فِي إخْرَاجِهِ صَحِيحًا، بِأَنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى غِذَاءٍ يُغَذُّونَهُ بِهِ إذَا فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ يَتَيَقَّنُونَ بِأَنَّهُ يَمُوتُ فِي أَيْدِيهِمْ إذَا حَمَلُوهُ دُونَ أُمِّهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتْرُكُوهُ مَعَ أُمِّهِ. لِأَنَّ هَذَا تَفْرِيقٌ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَلِأَنَّهُمْ إذَا تَرَكُوهُ مَعَ أُمِّهِ لَا يَكُونُ هَلَاكُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1557 الْوَلَدِ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِمْ تَسْبِيبًا وَلَا مُبَاشَرَةً وَإِذَا حَمَلُوهُ دُونَ أُمِّهِ كَانَ هَلَاكُ الْوَلَدِ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِمْ تَسْبِيبًا مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَتَغَذَّى بِهِ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ. 3072 - وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا شَاءُوا فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلُوا مَا يَكُونُ مَنْفَعَتُهُمْ فِيهِ أَكْثَرَ. لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ يُبَاحُ أَصْلُ الْحَمْلِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَبِزِيَادَةِ الْمَعْنَى فِي الْمَنْفَعَةِ يَقَعُ التَّرْجِيحُ أَيْضًا. 3073 - وَإِنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ وَاحِدَةً فَإِنْ لَمْ يَطْمَعُوا فِي أَنْ يَعِيشَ الصَّبِيُّ إذَا فُصِلَ مِنْ أُمِّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلُوا الْأُمَّ دُونَ الصَّبِيِّ. لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي حَمْلِ الصَّبِيِّ الْآنَ. 3074 - وَإِنْ كَانُوا طَمِعُوا أَنْ يَعِيشَ الصَّبِيُّ مَعَهُمْ بِمَا يُغَذُّونَهُ بِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الصَّبِيُّ وَيَتْرُكُوا الْأُمَّ. لِأَنَّ خَوْفَ الضَّيَاعِ وَالْعَجْزِ عَنْ الْإِحْسَانِ لِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ أَظْهَرُ. وَلِأَنَّ الْأُمَّ كَافِرَةٌ مُخَاطَبَةٌ، فَالِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهَا عِنْدَ إصْرَارِهَا عَلَى الْكُفْرِ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الرَّضِيعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1558 3075 - وَإِنْ قَدَرُوا عَلَى حَمْلِهِمَا فَلَسْت أُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا وَاحِدًا مِنْهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ إيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَى الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَلِأَنَّهُمْ نَقَلُوهُمَا إلَى هَذَا الْمَكَانِ وَفِي تَرْكِ أَحَدِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ تَضْيِيعٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ حَمْلِهِمَا. 3076 - وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ وَجَدُوهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذُوا أَحَدَهُمَا أَيُّهُمَا شَاءُوا. لِأَنَّهُمْ مَا نَقَلُوهُمَا إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى حَمْلِهِمَا، فَيَكُونُ لَهُمْ أَيْضًا أَنْ يَتْرُكُوا أَحَدَهُمَا وَيَأْخُذُوا الْآخَرَ، لِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ بِحَقٍّ. 3077 - وَهَذَا إذَا طَمِعُوا أَنْ يَعِيشَ الصَّبِيُّ فِي أَيْدِيهِمْ بِمَا يُغَذُّونَهُ بِهِ إذَا أَخَذُوهُ، فَإِذَا لَمْ يَطْمَعُوا فِي ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ إلَّا أَنْ يَأْخُذُوهُمَا إنْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَتْرُكُوهُمَا. لِأَنَّ فِي أَخْذِ الصَّبِيِّ وَحْدَهُ تَفْرِيقٌ غَيْرُ مُفِيدٍ. 3078 - وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَحَدِهِمَا فَلْيَأْخُذُوا الْأُمَّ. لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1559 وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذُوهَا وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّ الصَّبِيَّ يَمُوتُ. لِأَنَّهُمْ بِأَخْذِ الْأُمِّ يَقْصِدُونَ تَحْصِيلَ الْمَنْفَعَةِ لَهُمْ، وَأَخْذُهَا لَيْسَ بِقَتْلٍ مِنْهُمْ لِلصَّبِيِّ بِعَيْنِهِ. 3080 - وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدُوا مَعَ الصَّبِيِّ أَبَاهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يَأْسِرُوهُ، وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّبِيَّ يَمُوتُ بَعْدَهُ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَعَرُّضٍ مِنْهُمْ لِلصَّبِيِّ بِشَيْءٍ. 3081 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الصَّبِيِّ وَالِدَاهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُوضَعَ الصَّبِيُّ نَاحِيَةً وَيُؤْخَذُ أَبَوَاهُ فَيُؤْسَرَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَحْرِيقِ حُصُونِهِمْ وَتَغْرِيقِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَلَاكُ الْأَطْفَالِ فَلَأَنْ يَجُوزَ قَتْلُ الْمُشْرِكِ وَأَسْرُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَلَاكُ الصَّغِيرِ كَانَ أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَلَا يَرْمُوا بِالصَّبِيِّ وَلَكِنَّهُمْ يَضَعُونَهُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ إنْ تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا بِأَنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي أَثَرِهِمْ فَخَافُوا أَنْ يَنْزِلُوا، فَيَضَعُوهُ عَلَى الْأَرْضِ، أَنْ يَلْحَقَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْمُوا بِهِ عَنْ خُيُولِهِمْ وَلَا يَتَعَمَّدُوا قَتْلَهُ. لِأَنَّ أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ أَهَمُّ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ وُقُوعِهِمْ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَكَانَ حَالُهُمْ الْآنَ فِيمَا اُبْتُلُوا بِهِ، كَحَالِ تَتَرُّسِ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَطْفَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا بَأْسَ بِالرَّمْيِ إلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1560 بِشَرْطِ أَلَا يَتَعَمَّدُوا قَتْلَ الصَّبِيَّانِ، فَهَا هُنَا أَيْضًا لَا بَأْسَ بِرَمْيِ الصَّبِيَّانِ عَنْ دَوَابِّهِمْ إذَا عَجَزُوا عَنْ حَمْلِهِمْ وَعَنْ وَضْعِهِمْ عَلَى الْأَرْضِ. 3082 - فَإِنْ قَتَلَهُمْ رَمْيُهُمْ لَهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَلَا إثْمَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَلَكِنَّهُ قُيِّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ هَا هُنَا وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى التَّتَرُّسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهُنَاكَ لَمْ يَتَّصِلْ مِنْهُمْ فِعْلٌ بِالْأَطْفَالِ قَبْلَ أَنْ تَتَرَّسَ بِهِمْ الْمُشْرِكُونَ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ اتَّصَلَ مِنْهُمْ فِعْلٌ بِالْأَطْفَالِ قَبْلَ أَنْ يُبْتَلَوْا بِرَمْيِهِمْ، وَهُوَ حَمْلُهُمْ وَنَقْلُهُمْ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلِهَذَا قُيِّدَ الْجَوَابُ بِالِاسْتِثْنَاءِ. 3083 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا فِي سَفِينَةٍ وَمَعَهُمْ فِيهَا أَطْفَالٌ مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَانْتَهَوْا إلَى مَكَان مِنْ الْبَحْرِ أَكْبَرُ الظَّنِّ مِنْهُمْ إنْ لَمْ يَطْرَحُوهُمْ فِي الْمَاءِ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ وَمَنْ فِيهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطْرَحُوهُمْ وَلَا يَتَعَمَّدُوا بِذَلِكَ قَتْلَهُمْ. لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْوَجْهُ لِنَجَاتِهِمْ مِمَّا اُبْتُلُوا بِهِ، فَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ. 3084 - وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوهُمْ وَلَا أَنْ يَرْمُوا بِهِمْ. لِأَنَّ حُرْمَةَ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَةِ الْكِبَارِ مِنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1561 وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقِيَ رُوحَهُ بِرُوحِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ الْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا. وَلِأَنَّهُمْ يَتَعَجَّلُونَ فِي هَذَا قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَلَا رُخْصَةَ فِي ذَلِكَ لِمَنْ يَخَافُ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُبْتُلِيَ بِمَخْمَصَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ أَحَدًا مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ. 3085 - وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ فِي سَفِينَةٍ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَطْرَحُوهُمْ فِي الْمَاءِ وَإِنْ خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. لِأَنَّهُمْ آمِنُونَ فِيهِمْ بِسَبَبِ الذِّمَّةِ أَوْ الْأَمَانِ، فَكَانُوا كَالْآمِنِينَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ. 3086 - وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ أَطْفَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ قَتْلِ هَؤُلَاءِ لِوُجُودِ عَاصِمٍ مِنْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَرِقُّونَهُمْ كَمَا لَا يَقْتُلُونَهُمْ، وَفِي حَقِّ الْأَطْفَالِ الْمَنْعُ مِنْ الْقَتْلِ لَيْسَ بِعَاصِمٍ فِيهِ بَلْ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْلِ وَهِيَ الْمُحَارَبَةُ، وَلِهَذَا جَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ، مَعَ أَنَّ فِي الِاسْتِرْقَاقِ إتْلَافًا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَلِضَعْفِ حَالِهِمْ قُلْنَا. عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَنْ يَجْعَلَهُمْ وِقَايَةً لِنَفْسِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1562 وَعَلَى هَذَا لَوْ هَدَّدَ مَلِكُهُمْ أَسِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَقْتُلَ صَبِيًّا مِنْهُمْ أَوْ امْرَأَةً وَقَالَ: إنْ لَمْ تَقْتُلْهُ قَتَلْنَاك كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَقْتُلَهُ. وَفِي سَعَةِ مِنْ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ حَتَّى يَقْتُلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ التَّرَخُّصِ لَهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ. 3087 - وَلَوْ أَنَّ جَرِيدَةَ خَيْلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَطْفَالًا مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَحَمَلُوهُمْ عَلَى خُيُولِهِمْ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَرْمُوا بِالْأَطْفَالِ، وَلَكِنْ إمَّا أَنْ يَمُوتُوا عَنْ آخِرِهِمْ أَوْ يَنْقَلِبُوا هُمْ وَالْأَطْفَالُ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ فِي الْحُرْمَةِ وَالْعِصْمَةِ وَهَذِهِ الْمُسَاوَاةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَا أَخَذُوهُمْ وَالْتَزَمُوا حَمْلَهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَأْخُذُوهُمْ بَعْدُ وَخَافُوا أَنْ يَأْخُذُوهُمْ أَنْ يَعْجَزُوا عَنْ حَمْلِهِمْ وَأَنْ يُدْرِكَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتْرُكُوهُمْ. لِأَنَّ فِي هَذَا مِنْهُمْ تَرْكَ الْإِحْسَانِ إلَى الْأَطْفَالِ لَا الْإِسَاءَةِ إلَيْهِمْ. وَلِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ إذَا الْتَزَمُوهُ، فَإِنْ قَاتَلُوا عَنْهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ يَظْفَرُوا بِالْعَدُوِّ فَيُخْرِجُوهُمْ فَذَلِكَ أَفْضَلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1563 لِأَنَّ الدَّفْعَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ عَزِيمَةٌ، وَتَرْكُ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةٌ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ خَيْرٌ مِنْ التَّرَخُّصِ بِالرُّخْصَةِ. 3088 - وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُقَوَّوْنَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَأْخُذُوا مِنْهُمْ الْأَطْفَالَ لَمْ يَسَعْهُمْ تَرْكُهُمْ. لِأَنَّ الدَّفْعَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَعِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ يُفْرَضُ الْخُرُوجَ لِلْقِتَالِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَيْنًا لِلدَّفْعِ عَنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يَطْمَعُونَ فِي أَنْ يَنْجُوا مَعَ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ إذَا قَاتَلُوا لَمْ يَسَعْهُمْ إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَطْمَعُونَ فِي ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُرَخَّصُ لَهُمْ فِي الْبِدَايَةِ بِأَنْفُسِهِمْ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ النَّجَاةِ، عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» . وَعَلَى هَذَا لَوْ اُبْتُلُوا بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ فِي أَطْفَالٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَمَلُوهُمْ بِدُونِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَام ثُمَّ أَدْرَكَهُمْ الْمُشْرِكُونَ. لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَطْفَالَ صَارُوا مُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ، حِينَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. 3089 - وَلَوْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ إنْ رَمَوْا بِهِمْ لَمْ يَهْلَكُوا، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَأْخُذُونَهُمْ فَيَرُدُّونَهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1564 فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطْرَحُوهُمْ، إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَى أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا هَلَاكٌ وَلَا قَتْلٌ لِلْأَطْفَالِ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ وِقَايَةً لِرُوحِهِ. 3090 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ فَخَافُوا إنْ لَمْ يَطْرَحُوهُمْ أَنْ يَلْحَقَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَيَقْتُلُوهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطْرَحُوهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَأْخُذُونَهُمْ وَلَا يَقْتُلُونَهُمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا قَتْلٌ وَلَا هَلَاكٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ حَاصَرُوا حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يُخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحِصْنِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي فِعْلِهِمْ إتْلَافُ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. 3091 - وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى قِتَالِهِمْ، أَوْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ عَلَى أَنَّهُمْ يَنْتَصِفُونَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ. لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ، وَالدَّفْعُ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1565 3092 - وَلَوْ كَانُوا فِي سَفِينَةٍ فَخَافُوا إنْ لَمْ يَرْمُوا بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْمَاءِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْرِكُونَ مَنْ فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَرْمُوا بِهِمْ فِي الْمَاءِ. لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِي الْمَاءِ أَنَّهُ مُهْلِكٌ، فَكَانَ فِي هَذَا إتْلَافُ الذَّرَارِيِّ، وَلَا رُخْصَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ لِأَنْفُسِهِمْ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَالرَّمْيُ بِهِمْ عَنْ الْخُيُولِ هُنَاكَ غَيْرُ مُتْلِفٍ لَهُمْ غَالِبًا، حَتَّى أَنَّ فِي السَّفِينَةِ إذَا كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ عِنْدَ الرَّمْيِ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَنَّهُمْ لَا يَهْلَكُونَ وَلَكِنْ يَأْخُذُهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، إذَا كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنْ يَهْلَكُوا جَمِيعًا إنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ 3093 - وَلَوْ أَخَذَتْ السَّرِيَّةُ أَطْفَالًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَعَجَزُوا عَنْ حَمْلِهِمْ وَمَرُّوا بِحِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يَدْفَعُوهُمْ إلَيْهِمْ حَتَّى يَقُومُوا بِتَرْبِيَتِهِمْ فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَضَعُونَهُمْ وَضْعًا، فَإِنْ شَاءَ أُولَئِكَ نَزَلُوا فَأَخَذُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُمْ. لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِمْ لِلتَّرْبِيَةِ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، إنَّمَا عَلَيْهِمْ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِسَاءَةِ، وَوَضْعُهُمْ إيَّاهُمْ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ مِنْ الْإِسَاءَةِ فِي شَيْءٍ، فَلِهَذَا كَانَ الرَّأْيُ إلَيْهِمْ إنْ شَاءُوا وَضَعُوهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ شَاءُوا أَسْلَمُوهُمْ إلَيْهِمْ. وَمَا بَعْدَ هَذَا إلَى آخِرِ الْبَابِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ شَرْحِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1566 [بَابُ مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُدْخِلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ مِنْ التِّجَارَاتِ] 3094 - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُدَخِّلُوا دَارَ الْحَرْبِ شَيْئًا مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُقَوِّيهِمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. 3095 - فَإِنْ أَدْخَلُوا ذَلِكَ دَارَهُمْ لَمْ يُمْنَعُوا مَا خَلَا الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ، وَنَعْنِي بِالْكُرَاعِ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَالْإِبِلَ وَالدَّوَابَّ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا الْمَتَاعُ، وَنَعْنِي بِالسِّلَاحِ مَا يَكُونُ مُعَدًّا لِلْقِتَالِ بِهِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْحَدِيدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُقَوِّيهِمْ عَلَى قِتَالِهِمْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِدَفْعِ قِتَالِهِمْ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ كَرَاهَةُ الِاشْتِغَالِ بِمَا يُقَوِّيهِمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَمَا سَمَّيْنَا مِنْ الدَّوَابِّ يَحْمِلُ مَتَاعَهُمْ وَيُقَوِّيهِمْ عَلَى الْحَرْبِ، وَالْفِيلَةُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا يُقَاتَلُ بِهَا وَيُقَاتَلُ عَلَيْهَا وَتَحْمِلُ أَثْقَالَهُمْ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1567 لِأَنَّ الصَّغِيرَ يَكْبُرُ فَيَحْمِلُ وَيُقَاتَلُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَلَا يُلَقَّحُ أَيْضًا وَإِنَّمَا يَشْتَرُونَهُ لِلْأَكْلِ خَاصَّةً فَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِهِ بِلَادَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ 3096 - وَالسَّبْيُ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَالصِّبْيَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ شَيْءٌ مِنْهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إنْ كَانَ صَغِيرًا طِفْلًا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا سَوَاءٌ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَنَعَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلُوا دَارَ الْحَرْبِ لِيُبَاعُوا مِنْهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. 3097 - وَأَجْنَاسُ السِّلَاحِ مَا صَغُرَ مِنْهُ وَمَا كَبُرَ حَتَّى الْإِبْرَةَ، وَالْمِسَلَّةَ فِي كَرَاهَةِ الْحَمْلِ إلَيْهِمْ سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّقَوِّيَ بِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ يَحْصُلُ وَالْحَدِيدُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْأَسْلِحَةُ. 3098 - وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُصْنَعُ مِنْهُ الرَّايَاتُ. 3099 - وَالسِّلَاحُ وَالْقَزُّ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَعْمُولٍ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ مِنْهُ الخفتانات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1568 3100 - فَإِنْ كَانَ خَزًّا مِنْ إبْرَيْسَمٍ أَوْ ثِيَابًا رِقَاقًا مِنْ الْقَزِّ فَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِهَا إلَيْهِمْ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّبْسِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِلْأَكْلِ. 3101 - وَالْجِعَابُ وَجُفُونُ السُّيُوفِ وَغُلُفُهَا يُكْرَهُ حَمْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ لِلتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الْقِتَالِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِسِلَاحٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَادَ لِغَيْرِ السِّلَاحِ، وَقَدْ يُرَادُ لِلسِّلَاحِ، فَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِهِ إلَيْهِمْ. لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَالنَّادِرُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ. 3102 - فَإِنْ أَدْخَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَعُلِمَ بِهِ أُدِّبَ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ. لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا هُوَ حَرَامٌ وَقُصِدَ بِهِ الْإِضْرَارُ بِالْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا فَيُعْذَرُ لِجَهْلِهِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ خَفِيٌّ يَشْتَبِهُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، فَالسَّبِيلُ فِيهِ الْإِنْذَارُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدْ قَدَّمْت إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1569 3103 - فَإِنْ عَادَ فَحِينَئِذٍ يُؤَدَّبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِ الْقُطْنِ وَالثِّيَابِ إلَيْهِمْ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ لِلُّبْسِ لَا لِلْقِتَالِ. 3104 - فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ بالخفتانات الْمَحْشُوَّةِ بِالْقُطْنِ لَمْ يَحِلَّ إدْخَالُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَيْهِمْ وَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِ الصُّفْرِ وَالشَّبَهِ وَالرَّصَاصِ إلَيْهِمْ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ لِلسِّلَاحِ فِي الْغَالِبِ. 3105 - فَإِنْ كَانُوا يَجْعَلُونَ عَظْمَ سِلَاحِهِمْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ إدْخَالُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَيْهِمْ. لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَادَةً كُلُّ قَوْمٍ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ مِمَّا يُكْرَهُ أَوْ لَا يُكْرَهُ. 3106 - وَالْقَنَا وَالنُّشَّابِ مِنْ الْقَصَبِ الْغَيْرِ الْمَعْمُولِ لَا يَحِلُّ إدْخَالُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَيْهِمْ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهُ السِّلَاحُ. 3107 - وَلَا يَحِلُّ إدْخَالُ النُّسُورِ، الْحَيِّ وَالْمَذْبُوحِ مِنْهَا وَأَجْنِحَتِهَا إلَيْهِمْ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ الرِّيشَ النُّشَّابُ وَالنَّبْلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1570 وَكَذَلِكَ الْعِقْبَانُ إذَا كَانَ يُجْعَلُ مِنْ رِيشِهَا ذَلِكَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ إنَّمَا يَدْخُلُ لِلصَّيْدِ فَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِهَا، بِمَنْزِلَةِ الْغَنَمِ الَّتِي يُحْمَلُ إلَيْهِمْ لِلْأَكْلِ. لِأَنَّهُ إنَّمَا يُصْطَادُ بِهَا مَا يُؤْكَلُ. 3109 - وَالْحُكْمُ فِي الْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ كَذَلِكَ. 3110 - وَالتَّاجِرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ عَلَى فَرَسٍ، وَمَعَهُ سِلَاحٌ وَهُوَ لَا يُرِيدُ بَيْعَهُ مِنْهُمْ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَصْحِبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ مَمْنُوعًا عَنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا عَنْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. 3111 - وَلَكِنْ هَذَا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنْ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَتَعَرَّضُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا الْبَزَّ وَغَيْرَهُ مِمَّا يُرِيدُ التِّجَارَةَ فِيهِ وَلَكِنْ إنْ اُتُّهِمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ مَا يُدْخِلُهُ لِلْبَيْعِ، وَلَا يَبِيعُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حَتَّى يُخْرِجَهُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ انْتَفَتْ هَذِهِ التُّهْمَةُ بِيَمِينِهِ فَتُرِكَ لِيُدْخِلَهُ دَارَ الْحَرْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1571 وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَمْ يُتْرَكْ لِيُدْخِلَ دَارَ الْحَرْبِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ حَمْلَ الْأَمْتِعَةِ إلَيْهِمْ فِي الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ لِأَنَّ السَّفِينَةَ مَرْكَبٌ يَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى حَمْلِ الْأَثْقَالِ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُونَهَا لِلْقِتَالِ، فَيُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ مَا يُرِيدُ بَيْعَهَا وَلَا يَبِيعُهَا حَتَّى يُخْرِجُهَا إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ 3112 - وَإِنْ أَدْخَلَ مَعَهُ غُلَامًا أَوْ غُلَامَيْنِ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُرِيدُ التِّجَارَةَ فِيهِ، فَإِنْ اُتُّهِمَ اُسْتُحْلِفَ، فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُدْخِلَ فَرَسًا مَعَهُ أَوْ بِرْذَوْنًا أَوْ سِلَاحًا. لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ لِلْبَيْعِ فِيهِمْ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ دِينَهُ هُنَاكَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَا هُنَا دِينُهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِمْ مَأْمُونًا عَلَى ذَلِكَ، فَحَالُهُ حِينَئِذٍ كَحَالِ الْمُسْلِمِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ بِتِجَارَتِهِ عَلَى الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْعَجَلَةِ وَالسُّفُنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا لَا يَحْمِلُهُ إلَيْهِمْ لِتَقْوِيَتِهِمْ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِحَاجَتِهِ، وَكَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْإِدْخَالِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْإِخْرَاجِ لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ السِّلَعِ. 3113 - بِخِلَافِ السِّلَاحِ وَالْفَرَسِ فَالظَّاهِرُ هُنَاكَ أَنَّهُ يُدْخِلُهُ لِلتِّجَارَةِ لَا لِلْحَاجَةِ. لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِي فِي تَحْصِيلِ حَاجَتِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَيُسْتَحْلَفُ أَيْضًا عَلَى مَا يُدْخِلُهُ إلَيْهِمْ مِنْ الْبِغَالِ وَالسُّفُنِ وَالرَّقِيقِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِمْ الْبَيْعَ، وَلَا يَبِيعُهُمْ حَتَّى يُخْرِجُهُمْ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1572 لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَقْصَى الْوُجُوهِ الَّذِي يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. 3114 - وَالْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا إذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ وَإِنَّمَا يَأْتِيهِمْ لِيُقِيمَ فِيهِمْ فَيَكُونُ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ كَغَيْرِهِ، فَهُوَ يَتَقَوَّى بِمَا يُدْخِلُهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا مُنِعَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ. 3115 - إلَّا أَنْ يَكُونَ مُكَارِيًا سُفُنًا أَوْ دَوَابَّ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، فَحِينَئِذٍ حَالُّ الْمُكَارِي فِي إدْخَالِ ذَلِكَ دَارَ الْحَرْبِ لِمَنْفَعَةِ الْحَرْبِيِّ كَحَالِهِ فِي إدْخَالِ ذَلِكَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَصَدَ تَحْصِيلَ الْكِرَاءِ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يَدْخُلُ بِهِ فَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ التَّاجِرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَدَعُوهُ يَخْرُجُ بِهِ وَلَكِنَّهُمْ يُعْطُونَهُ ثَمَنَهُ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ مِنْ إدْخَالِ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالرَّقِيقِ إلَيْهِمْ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ إدْخَالِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالثَّوْرِ وَالْبَعِيرِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَقَدْ لَا يَتَقَوَّى عَلَى الْمَشْيِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْأَمْتِعَةَ عَلَى عَاتِقِهِ، وَحَالُ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْحَظْرِ وَلَا تَتَحَقَّقُ مِثْلُ هَذِهِ الضَّرُورَةِ فِي الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1573 لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِدُونِهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي بِهِ مَعْنَى التَّجَمُّلِ وَالتَّرَفُّهِ أَوْ زِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ. 3116 - ثُمَّ يُمْنَعُ مِنْ إدْخَالِ دَوَابَّ يَحْمِلُ عَلَيْهَا أَمْتِعَةَ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّرُورَةُ أَيْضًا، إنَّمَا تَتَحَقَّق الضَّرُورَةُ فِي دَابَّتِهِ الَّتِي يَرْكَبُهَا خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ يَضِيعُ إنْ لَمْ يَرْكَبْ، فَأَمَّا أَمْتِعَةُ التِّجَارَةِ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ مِنْهَا عَلَى دَابَّتِهِ مَعَ نَفْسِهِ مَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ لَهُ فِي الدُّخُولِ إلَيْهِمْ مَا يُخْرِجُهُ لِيَنْتَفِعَ الْمُسْلِمُونَ لَا مَا يُدْخِلُهُ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ. 3117 - وَكَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْ إدْخَالِ سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ يَرْكَبُهَا يَكُونُ فِيهَا مَتَاعُهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. 3118 - فَإِنْ أَرَادَ إدْخَالَ أُخْرَى مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ يُمْنَعُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ قُوَّةِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. 3119 - وَلَا رُخْصَةَ فِيهِ شَرْعًا، وَلَا يُمْكِنُ مِنْ أَنْ يُدْخِلَ إلَيْهِمْ خَادِمًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1574 لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَعْنَى التَّجَمُّلِ وَالتَّرَفُّهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَنْعَ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَظْهَرُ مِنْ الْمَنْعِ فِي الْفَرَسِ وَالسِّلَاحِ. 3120 - وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ كُرَاعٌ أَوْ سِلَاحٌ وَرَقِيقٌ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا جَاءَ بِهِ؛ لِأَنَّا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا مَعَهُ، فَكَمَا لَا يُمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِلْوَفَاءِ بِالْأَمَانِ فَكَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَإِنَّ آلَةَ الْقِتَالِ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْمُقَاتِلِ. فَإِنْ بَاعَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا كُرَاعًا أَوْ سِلَاحًا أَوْ رَقِيقًا مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ لَهُ، أَوْ اشْتَرَى مِمَّا كَانَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُتْرَكُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دَارَ الْحَرْبِ وَلَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ. لِأَنَّهُ مَا اسْتَحَقَّ بِالْأَمَانِ إدْخَالَ هَذِهِ الْعَيْنِ مَعَ نَفْسِهِ دَارَ الْحَرْبِ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ الْأَوَّلِ فَقَدْ سَقَطَ حِينَ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ، بَيْعًا بِالدَّرَاهِمِ فَكَانَ هَذَا. 3121 - وَمَا لَوْ أَدْخَلَ الدَّرَاهِمَ دَارَنَا وَاشْتَرَى بِهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا بَاعَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ اسْتَقَالَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ فِيهِ فَأَقَالَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ بِخِيَارِ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1575 لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ مِلْكِ الْحَرْبِيِّ قَدْ تَمَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَصَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِ، وَصَارَ الْمُسْلِمُ أَحَقُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الْحَرْبِيِّ فِي إعَادَتِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَالْتَحَقَ بِمَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُسْلِمِ مِنْ الْأَصْلِ فَبَاعَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ. 3122 - وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ نَقَضَ الْبَيْعَ بِحُكْمِ خِيَارِهِ فَلَهُ أَنْ يَعُودَ بِهِ إلَى دَارِهِ لِأَنَّهُ مَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ لِنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، فَيَبْقَى بِاعْتِبَارِ حَقِّ الْإِعَادَةِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ 3123 - وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا ثُمَّ نَقَضَ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ لِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. 3124 - وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ لَمْ يَتْرُكْ الْحَرْبِيَّ لِيَرْجِعَ بِهِ دَارَ الْحَرْبِ. لِأَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ مَلَكَهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لَحِقَهُ فِي إعَادَتِهِ إلَى دَارِهِ. 3125 - وَإِنْ كَانَ بَيْعًا لَا يَمْلِكُ بِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ بِالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِيهِ بِبَقَاءِ مِلْكِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1576 وَلَوْ اسْتَبْدَلَ الْحَرْبِيُّ بِسَيْفِهِ فَرَسًا فَإِنْ أَدْخَلَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ أَنَّهُ مَتَى اسْتَبْدَلَ بِسِلَاحِهِ سِلَاحًا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْجِنْسِ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا حَصَّلَهُ لِنَفْسِهِ خَيْرًا مِمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ أَوْ شَرًّا مِنْهُ. لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهِ بِعَقْدِ الْأَمَانِ حَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُون مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مَعَ نَفْسِهِ فِي دَارِهِمْ كَثِيرًا وَيَعِزُّ فِيهِمْ الْجِنْسُ الْآخَرُ وَلَا يُوجَدُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَصِّلَ ذَلِكَ لَهُمْ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. 3126 - فَإِنْ كَانَ مَا اسْتَبْدَلَ بِهِ مِنْ جِنْسِ مَا أَدْخَلَهُ فَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا أَدْخَلَهُ أَوْ شَرًّا مِمَّا أَدْخَلَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ إلَى دَارِهِ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا مِمَّا أَدْخَلَهُ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْأَمَانِ إعَادَةَ هَذَا الْجِنْسِ مَعَ نَفْسِهِ إلَى دَارِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعَيْنُ إذَا كَانَ مُفِيدًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْجِنْسُ وَفِيمَا يَتَبَقَّى مِنْ هَذَا الْجِنْسِ عَيْنُ مَا جَاءَ بِهِ أَوْ مِثْلِهِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ فِي الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا إذَا كَانَ خَيْرًا مِنْهَا فَهُوَ يُرِيدُ بِهَذَا زِيَادَةَ الْإِضْرَارِ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ. فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ حَقُّ الْمَنْعِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْأَصْلِ، فَثَبَتَ الْمَنْعُ فِي الْكُلِّ، بِمَنْزِلَةِ الْمَوْهُوبِ إذَا ازْدَادَ زِيَادَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1577 مُتَّصِلَةً فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي الْأَصْلِ كَمَا لَا يَرْجِعُ فِي الزِّيَادَةِ، فَإِذَا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الرُّجُوعِ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى بَيْعِهِ. 3127 - وَإِنْ اسْتَبْدَلَ بِهَا مِثْلَهُ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فَلَهُ أَنْ يَعُودَ بِمَا رَجَعَ إلَيْهِ إلَى دَارِهِ. لِأَنَّهُ سِلَاحُهُ بِعَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِالْإِقَالَةِ مِنْ مِلْكِهِ. 3128 - وَإِنْ اسْتَبْدَلَ بِهِ خَيْرًا مِنْهُ أَوْ شَرًّا مِنْهُ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى دَارِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ، أَمَّا إذَا كَانَ اسْتَبْدَلَ خَيْرًا مِنْهُ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الشَّرْع كَأَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا السِّلَاحَ ابْتِدَاءً. وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ بِالتَّصَرُّفِ الْأَوَّلِ، وَصَارَ مَمْنُوعًا مِنْ إدْخَالِ مَا حَصَلَ لَهُ دَارَ الْحَرْبِ، فَلَا يَعُودُ حَقُّهُ بِالْإِقَالَةِ. 3129 - وَإِنْ كَانَ مَا اسْتَبْدَلَ بِهِ شَرًّا مِنْهُ فَهَذِهِ الْإِقَالَةُ فِي حَقِّ الشَّرْعِ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ، وَقَدْ اسْتَبْدَلَ فِي هَذِهِ الْإِقَالَةِ بِسِلَاحِهِ الرَّدِيءِ سِلَاحًا جَيِّدًا، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ إدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ، وَحُكْمُ الِاسْتِبْدَالِ بِالْكُرَاعِ مِثْلُ حُكْمِ الِاسْتِبْدَال بِالْأَسْلِحَةِ فِي مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالِاخْتِلَافِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1578 اسْتَبْدَلَ بِحِمَارِهِ أَتَانًا أَوْ بِفَرَسِهِ الذَّكَرِ فَرَسًا أُنْثَى مُنِعَ مِنْ إدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ مَا أَدْخَلَهُ فِي الْقِيمَةِ. لِأَنَّ فِي هَذَا مَنْفَعَةَ النَّسْلِ، وَلَيْسَ فِي الَّذِي أَعْطَاهُ مَنْفَعَةُ النَّسْلِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا الِاسْتِبْدَالِ تَحْصِيلَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ لَهُمْ فَمُنِعَ مِنْهُ كَمَا يُمْنَعُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. 3130 - وَإِنْ اسْتَبْدَلَ بِبَغْلِهِ الذَّكَرِ بَغْلَةً أُنْثَى مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ إدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ. لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُلَقَّحُ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى النَّسْلِ أَصْلًا. 3131 - وَإِنْ اسْتَبْدَلَ بماذيانه فَحْلًا مُنِعَ مِنْ إدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ. لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ مِمَّا تُلَقَّحُ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِيمَا أَعْطَى 3132 - وَإِنْ اسْتَبْدَلَ بِفَرَسِهِ بِرْذَوْنًا أَوْ بِبِرْذَوْنِهِ فَرَسًا مُنِعَ مِنْ إدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ. لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعَ مَنْفَعَةٍ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ، فَإِنَّ الْبِرْذَوْنَ أَلْيَنُ عِطْفًا وَأَصْبَرُ عَلَى الْقِتَالِ، وَالْفَرَسُ أَقْوَى فِي حَالَةِ الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا قَصَدَ بِهَذَا الِاسْتِبْدَالِ تَحْصِيلَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1579 وَإِنْ اسْتَبْدَلَ بِفَرَسِهِ الْأُنْثَى فَرَسًا أُنْثَى دُونَهَا فِي الْجَرْيِ وَلَكِنَّهَا أَثْبَتُ مِنْهَا وَأَرْجَى لِلنَّسْلِ مُنِعَ مِنْ أَنْ يُدْخِلَهَا دَارَهُمْ. لِأَنَّ فِيمَا أَخَذَ نَوْعُ مَنْفَعَةٍ لَيْسَتْ فِيمَا أَعْطَى، فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى بَيْعِ مَا أَخَذَهُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِثْلُ مَا أَعْطَى فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ أَوْ دُونَهُ، فَإِنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي هَذَا الْبَابِ وَاجِبٌ، وَتَمَامُ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا قُلْنَا. 3134 - فَأَمَّا فِي الرَّقِيقِ فَسَوَاءٌ اسْتَبْدَلَهُمْ بِجِنْسٍ آخَرَ، أَوْ بِجِنْسِ مَا هُوَ عِنْدَهُ مِمَّا هُوَ مِثْلُ مَا عِنْدُهُ، أَوْ دُونَهُ أَوْ أَفْضَلُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ إدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ. لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الرَّقِيقِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا، وَالْمُسْتَأْمَنُ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِيمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا عَلَى كُلِّ حَالٍّ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ بَنُو آدَمَ دُونَ الْجَمَادَاتِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِهَذَا بَيَّنَّا الْجَوَابَ هُنَاكَ عَلَى اعْتِبَارِ زِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْمَبِيعِ. 3135 - وَلَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنَيْنِ مِنْ الرُّومِ دَخَلَا دَارَنَا بِأَمَانِ، وَمَعَ أَحَدِهِمَا رَقِيقٌ وَمَعَ الْآخَرِ سِلَاحٌ، فَتَبَادَلَا الرَّقِيقَ بِالسِّلَاحِ، أَوْ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَتَاعَهُ مِنْ صَاحِبِهِ بِدَرَاهِمَ لَمْ يُمْنَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ بِمَا حَصَّلَ لِنَفْسِهِ. لِأَنَّ الْمُشْتَرِي فِيمَا حَصَلَ لَهُ بِهَذَا التَّصَرُّفِ قَامَ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَقَدْ كَانَ الْبَائِعُ مُمَكَّنًا مِنْ إعَادَتِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي أَيْضًا مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1580 3136 - وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَتَاعَهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ أَوْ مُعَاهَدٌ لَمْ يَكُنْ لِلْحَرْبِيِّ أَنْ يُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دَارَ الْحَرْبِ. لِأَنَّ شَرِيكَهُ فِيهِ مُسْلِمٌ وَلَا يُمْكِنُهُ إدْخَالُ حِصَّتِهِ دَارَ الْحَرْبِ حَتَّى يُدْخِلَ حِصَّةَ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ امْتَنَعَ إدْخَالُ حِصَّةِ الْمُسْلِمِ مِنْ ذَلِكَ دَارَ الْحَرْبِ، فَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ الْإِدْخَالُ فِي حِصَّةِ الْحَرْبِيِّ أَيْضًا، فَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ نَصِيبِهِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يُقَسَّمُ مِنْ سِهَامٍ أَوْ نُشَّابٍ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْحَرْبِيِّ أَنْ يُطَالِبَ شَرِيكَهُ بِالْقِسْمَةِ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ يُدْخِل نَصِيبَهُ دَارَ الْحَرْبِ، إمَّا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَخُصُّ الْحَرْبِيَّ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ بِالْعَقْدِ فَيَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ وَحْدَهُ أَوْ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، فَكَأَنَّ الْمُسْلِمَ سَلَّمَ لَهُ نِصْفَ مَا يَمْلِكُ بِمِثْلِهِ مِمَّا أَخَذَهُ مِنْ نَصِيبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِبْدَالِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إدْخَالِ مَا صَارَ لَهُ دَارَ الْحَرْبِ. 3137 - وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِمْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دَرَاهِمَ فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْحَرْبِيَّ دَرَاهِمَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ مَا صَارَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ دَارَ الْحَرْبِ. لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ يَصِيرُ بَائِعًا بَعْضَ نَصِيبِهِ مِنْ شَرِيكِهِ بِالدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إدْخَالِ مَا بَقِيَ فِي مِلْكِهِ دَارَ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1581 3138 - وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ هُوَ الَّذِي أَعْطَى الدَّرَاهِمَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا بَعْضَ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَعْطَى الدَّرَاهِمَ فَقَدْ أَخَذَ مِنْ السِّلَاحِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ لَهُ فِي مِلْكِهِ بِالشِّرَاءِ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِبْدَالِهِ مَعَ الْمُسْلِمِ سِلَاحَهُ بِسِلَاحٍ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ فَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا الِاسْتِبْدَالِ سِلَاحًا هُوَ شَرٌّ مِنْ سِلَاحِهِ، مَعَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُدْخِلَ ذَلِكَ دَارِهِ. وَالْكُرَاعُ إذَا كَانَ مِمَّا يُقَسَّمُ بِمَنْزِلَةِ السِّهَامِ وَالنُّشَّابِ. لِأَنَّهُ يَجْرِي فِيهَا قِسْمَةُ الْجُزْءِ. 3139 - وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ مَعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْحَرْبِيِّ رَقِيقًا ثُمَّ اقْتَسَمَا فَلَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ أَنْ يُدْخِلَ مَا أَصَابَهُ دَارَ الْحَرْبِ هَا هُنَا فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَلِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَعَلَى قَوْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً فَقَبْلَ الْقِسْمَةِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِمِّيًّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمُسْلِمِ أَوْ الْمُعَاهِدِ فِي نِصْفِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إدْخَالِ أَحَدٍ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا دَارَ الْحَرْبِ. 3140 - قَالَ: وَلَوْ أَنْ حَرْبِيًّا مِنْ الرُّومِ دَخَلَ إلَيْنَا بِكُرَاعٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1582 أَوْ سِلَاحٍ أَوْ رَقِيقٍ فَأَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ ذَلِكَ أَرْضَ التُّرْكِ أَوْ الدَّيْلَمِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ لِيَبِيعَهُ مِنْهُمْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ فِيمَا يُدْخِلُ دَارَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ يُرِيدُ إدْخَالَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَارَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ وَالْحَرْبِيُّ كَذَلِكَ. 3141 - وَهَذَا لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْأَمَانِ اسْتَحَقَّ التَّمَكُّنَ مِنْ إعَادَةِ ذَلِكَ إلَى دَارِهِ إنْ شَاءَ، فَفِي هَذَا الْحُكْمِ الْوَاحِدِ هُوَ يُفَارِقُ الْمُسْلِمَ وَالْمُعَاهِدَ. فَأَمَّا فِي إدْخَالِ ذَلِكَ دَارًا أُخْرَى فَلَيْسَ مِمَّا اسْتَحَقَّهُ بِعَقْدِ الْأَمَانِ، فَيَكُونُ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِ أَوْ الْمُعَاهِدِ. وَلِأَنَّهُ إذَا أَدْخَلَ ذَلِكَ دَارًا أُخْرَى فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَ لَهُمْ بِذَلِكَ قُوَّةً عَلَى قِتَالِنَا، فَيُمْنَعُ مِنْهُ، وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا إذَا عَادَ بِهِ إلَى دَارِهِ. 3142 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ ذَلِكَ إلَى دَارِ حَرْبِهِمْ مُوَادِعِينَ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُحَارَبِينَ وَإِنْ تَرَكُوا الْقِتَالَ بِسَبَبِ الْمُوَادَعَةِ إلَى مُدَّةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مُسْلِمٌ إدْخَالَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَيْهِمْ مُنِعَ. 3143 - وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ ذَلِكَ أَرْضًا أَهْلُهَا ذِمَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1583 لِأَنَّ تِلْكَ الْأَرْضَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا لَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَتَّجِرَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ فِي أَيْ نَوَاحِيهَا شَاءَ. 3144 - وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِينَا مِنْ الرُّومِ وَالْآخَرُ مِنْ التَّرْكِ، وَمَعَ أَحَدِهِمَا رَقِيقٌ وَمَعَ الْآخَرِ كُرَاعٌ أَوْ سِلَاحٌ، فَتَبَادَلَا أَوْ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَتَاعَ صَاحِبِهِ بِدَرَاهِمَ لَمْ يُتْرَكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِيَخْرُجَ بِمَا اشْتَرَى إلَى دَارِهِ. لِأَنَّ كُلَّ مُشْتَرٍ قَامَ مَقَامَ بَائِعِهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ مِنْ إدْخَالِ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الَّتِي مِنْهَا الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَذَا التَّصَرُّفِ أَنْ يُقَوِّيَ أَهْلَ دَارِهِ عَلَيْنَا بِمَا يُدْخِلُهُ فِيهِمْ مِنْ سِلَاحٍ هُوَ خِلَافُ جِنْسِ مَا خَرَجَ بِهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُبَادَلَتُهُ مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ الْمُسْلِمِ أَوْ الْمُسْتَأْمَنِ غَيْرَ أَهْلِ دَارِهِ. 3145 - وَإِنْ كَانَا تَبَادَلَا كُرَاعًا بِكُرَاعٍ مِنْ صَنْعَةِ مِثْلِهِ أَوْ سِلَاحًا بِسِلَاحٍ مِنْ صَنْعَةِ مِثْلِهِ فَلِكُلِّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَنْ يُدْخِلَ مَا أَخَذَ دَارِهِ. لِأَنَّ هَذِهِ الْمُبَادَلَةَ لَوْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسْلِمٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ إدْخَالِ مَا حُصِّلَ لَهُ دَارِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1584 فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ مُسْتَأْمَنٍ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرَ فَلِلَّذِي أَخَذَ أَخَسَّهُمَا أَنْ يَدْخُلَ بِاَلَّذِي أَخَذَ دَارَ الْحَرْبِ وَلَيْسَ لِلَّذِي أَخَذَ أَفْضَلَهُمَا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُبَادَلَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُبَادَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسْلِمٍ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَادَلَا رَقِيقًا بِرَقِيقٍ وَهُمَا سَوَاءٌ أَوْ أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا تُجْعَلُ الْمُبَادَلَةُ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَادَلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُعَاهِدِ. لِأَنَّ هُنَاكَ مَا يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِ أَوْ الْمُعَاهَدِ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَهَا هُنَا مَا يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ أَحَدِهِمَا إلَى مِلْكِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، فَقُلْنَا: عِنْدَ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ لَا يُمْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَدْخُلَ دَارِهِ مَا صَارَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرَ لَمْ يُمْنَعْ الَّذِي أَخَذَ أَخَسَّهُمَا مِنْ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ إلَى دَارِهِ، وَمُنِعَ الَّذِي أَخَذَ أَفْضَلَهُمَا مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فِيمَا صَارَ لَهُ. 3147 - وَلَوْ كَانَا تَبَادَلَا عَبْدًا بِأَمَةٍ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُدْخِلَ مَا أَخَذَ دَارِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1585 لِأَنَّ اخْتِلَافَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي بَنِي آدَمَ اخْتِلَافُ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى شَخْصًا عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَلِأَنَّ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُمَا نَوْعُ مَنْفَعَةٍ غَيْرُ مَنْفَعَةِ صَاحِبِهِ، فَالْجَارِيَةُ تُطْلَبُ لِلنَّسْلِ وَالْغُلَامُ يُطْلَبُ لِلْقِتَالِ، فَلِهَذَا مُنِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَدْخُلَ دَارِهِ مَا حَصَلَ لَهُ بِهَذَا التَّصَرُّفِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1586 [بَابٌ فِدَاءِ الْأَسْرَى] 156 - بَابٌ مِنْ الْفِدَاءِ 3148 - قَالَ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَادِيَ أَسُرَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِأُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَخْلِيصَ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ وَاجِبٌ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُفَادَاةِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا أَكْبَرُ مِنْ تَرْكِ الْقَتْلِ لِأُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ، وَالْمَنْفَعَةُ فِي تَخْلِيصِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ أَظْهَرُ، وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَادَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ» وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَتِهِ بِحَالِ. تَوْضِيحِهِ: أَنَّ الْأُسَرَاءَ صَارُوا مَقْهُورِينَ فِي أَيْدِينَا، فَكَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1587 فَتَكُونُ الْمُفَادَاةُ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُفَادَاةِ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذِهِ الْمُفَادَاةِ أَكْثَرُ مِنْ الْخَوْفِ عَلَى أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَجْلِهِ لَا يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَجُوزُ إعَادَتُهُمْ لِيَصِيرُوا حَرْبًا لَنَا. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يُفْرَضُ الْجِهَادُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُتَوَصَّلُوا بِهِ إلَى قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْخَوْفِ عَلَى نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِنْ أَسْلَمَ الْأُسَرَاءُ قَبْلَ أَنْ يُفَادِيَ بِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَعْرِيضُهُمْ لِلْفِتْنَةِ بِطَرِيقِ الْمُفَادَاةِ. 3149 - وَكَذَلِكَ الصِّبْيَانُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إذَا سُبُوا وَكَانَ مَعَهُمْ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِلْأَبَوَيْنِ فَلَا يَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ وَإِنْ حَصَلُوا فِي دَارِنَا 3150 - فَأَمَّا إذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ وَحْدَهُ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ صَارَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلدَّارِ. 3151 - وَكَذَلِكَ إنْ قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ أَوْ بِيعَتْ الْغَنَائِمُ فَقَدْ صَارَ الصَّبِيُّ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا لِمَنْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ بِالْقِسْمَةِ أَوْ الشِّرَاءِ فِي دَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1588 الْحَرْبِ حَتَّى إذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَالِغًا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ صَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا قَدْ اسْتَقَرَّ بِالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ حِينَ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جَوَّزْنَا الْمُفَادَاةَ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ مَوْجُودٌ بَعْدَهُمَا، وَهُوَ وُجُوبُ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ بِالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ يَتَعَيَّنُ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ عَلَامَةُ النُّقْصَانِ لَا الزِّيَادَةِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ مُفَادَاةَ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَالِ جَائِزٌ، فَتُعَيَّنُ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِي هَؤُلَاءِ بِالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ، وَلَا يَمْتَنِعُ جَوَازُ الْمُفَادَاةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - افْتَدَى يَوْمَ الْمُرَيْسِيعِ سَبْيَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ مَا جَرَتْ فِيهِمْ السُّهْمَانُ، فَأَمَّا مُفَادَاةُ الْأُسَرَاءِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. لِأَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . 3152 - وَفِي الْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ تَرْكُ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ لِلطَّمَعِ فِي عَرَضِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1589 أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] الْآيَةَ. نَزَلَتْ الْآيَةُ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ رَغِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، حِينَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، يَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ أُسِرَ فِي عَهْدِهِ أَسِيرٌ مِنْ الرُّومِ فَطَلَبُوا الْمُفَادَاةَ بِهِ فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ، فَلَقَتْلُ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أُحِبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَفَادَوْا بِهِ وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِ مُدَّيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِالْجِهَادِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَفِي مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ إظْهَارٌ مِنَّا لِلْمُشْرِكَيْنِ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ ذَلِكَ قَدْ انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] تَفْسِيرُهَا لَوْلَا أَنِّي كُنْت أَحْلَلْت لَكُمْ الْغَنَائِمَ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] . وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ تَجْوِيزُ الْمُفَادَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1590 فَقَدْ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِنُزُولِ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَتْ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُفَادَاةِ يَوْمِ بَدْرٍ فِي النُّفُوسِ بِالنُّفُوسِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، عَلَى مَا رَوَاهُ الْأَعْرَجُ «أَنْ سَعْدَ بْنَ النُّعْمَانِ خَرَجَ مُعْتَمِرًا مِنْ الْبَقِيعِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ؛ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَهُوَ لَا يَخْشَى الَّذِي كَانَ، فَحَبَسَهُ أَبُو سُفْيَانَ بِمَكَّةَ وَقَالَ: لَا أُرْسِلُهُ حَتَّى يُرْسِلَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ابْنِي عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَشَى الْخَزْرَجُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَرْسَلَهُ فَفَدَوْا بِهِ سَعْدَ بْنَ النُّعْمَانِ» وَكَذَلِكَ فَدَى الْأُسَارَى يَوْمَئِذٍ بِالْمَالِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْفِدَاءَ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ إلَى ثَلَاثَةِ آلَافٌ إلَى أَلْفَيْنِ بِأَلْفٍ عَلَى قَوْمٍ لَا مَالَ لَهُمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، «لَمَّا قَدِمَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ أُسَرَائِهَا؛ بَعَثَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِفِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَ فِيمَا بَعَثَتْ بِهِ قِلَادَةٌ كَانَتْ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى زَوْجِهَا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1591 الْقِلَادَةَ عَرَفَهَا وَرَقَّ لَهَا ثُمَّ قَالَ: إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا إلَيْهَا مَتَاعَهَا فَعَلْتُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ» . 3153 - وَصَحَّ أَنْ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَدَى نَفْسَهُ يَوْمَئِذٍ بِمَالٍ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى} [الأنفال: 70] الْآيَةُ وَأَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى تَأْوِيلٍ آخَرَ فَقَالَ: قَدْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ مُحْتَاجِينَ إلَى الْمَالِ حَاجَةً عَظِيمَةً، لِأَجْلِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ، وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِالْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا مَا يُرْوَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَبَى الذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعَثَ بِنِصْفِ السَّبْيِ مَعَ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ إلَى نَجْدٍ، فَبَاعَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالسِّلَاحِ وَالْحَيَوَانِ، وَبِالنِّصْفِ الْبَاقِي مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ إلَى الشَّامِ لِيَشْتَرِيَ بِهِمْ السِّلَاحَ وَالْكُرَاعَ» ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِمْ كَانَتْ إلَى السِّلَاحِ يَوْمَئِذٍ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا بِأَنَّ الْمُفَادَاةَ بِالْمَالِ لَا يَجُوزُ الْيَوْمَ بِحَالٍ، وَإِنَّ مَا يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمُهُ قَدْ انْتَسَخَ، وَذَكَرَ تَأْوِيلَ الْمُفَادَاةِ فِي سَبْيِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَقَالَ: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ظَهْرَ عَلَى دَارِهِمْ فَافْتَدَى بِهِمْ لِئَلَّا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الرِّقُّ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1592 بَعْدَ مَا اُفْتُدِيَتْ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ أَسْلَمُوا: وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ عِنْدَنَا مُفَادَاةُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ لِيُرَدُّوا إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَيَكُونُوا عَوْنًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 3154 - وَذُكِرَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: لَيْسَ يُفْدَى الْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهُ وَقَدْ صَارَ بِالْإِحْرَازِ مِلْكًا لَهُمْ، فَإِنَّمَا مَوْلَاهُ هُوَ الَّذِي يَفْدِيهِ بِمَالِهِ لِيُعِيدَهُ إلَى مِلْكِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَوْلَاهُ مَالٌ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِمَوْلَاهُ عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ مِنْ عَبِيدِ بَيْتِ الْمَالِ، إلَّا أَنْ يُعْطِيَ مَوْلَاهُ ذَلِكَ الْفِدَاءَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ مِنْهُمْ وَأَخْرَجَهُ، فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا نَصِيبَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِيُفْدَى مِنْهُ، وَإِنَّمَا مَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّمَا يُفْدَى أُسَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ طَلَبُوا فِي مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ أَنْ نُعْطِيَهُمْ بَعْضَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ أَسَرْنَاهُمْ خَاصَّةً دُونَ مَنْ أَسَرْنَاهُمْ مَعَهُمْ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدَيْهِ. لِأَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ بِحَقِّ وَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي وَجَبَ تَخْلِيصُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الصَّبِيِّ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْمُفَادَاةَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1593 3155 - وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ «سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَوَازِنَ فَنَفَّلَنِي جَارِيَةً فَلَمَّا قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَبْهَا لِي، فَوَهَبْتهَا لَهُ، فَفَادَى بِهَا أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ» ، وَالْمِلْكُ فِي النَّفْلِ قَدْ تَعَيَّنَ لِلْمُنْفَلِ لَهُ، ثُمَّ جَوَّزَ الْمُفَادَاةَ بِهِ. قَالَ: وَإِذَا جَاءَ رَسُولُ مَلِكِهِمْ يَطْلُبُ الْمُفَادَاةَ بِالْأُسَارَى، وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَدْ جَعَلُوا الْأُسَارَى فِي مَكَان حَصِينٍ وَأَخَذُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَهْدًا بِأَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ عَلَى مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنْ الْأَسَارَى حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ أَمْرِ الْفِدَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُتَّفَقْ رَجَعُوا بِمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفُوا لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُفَادُوهُمْ كَمَا شَرَطُوا لَهُمْ مَالًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يُتَّفَقْ بَيْنَهُمْ التَّرَاضِي عَلَى الْمُفَادَاةِ وَأَرَادُوا الِانْصِرَافَ بِأُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ حَتَّى يَرُدُّوا الْأُسَرَاءَ إلَى بِلَادِهِمْ، لِأَنَّ حَبْسَ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ظُلْمٌ مِنْهُمْ، وَلَا يَحِلُّ إعْطَاءُ الْعَهْدِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَى الظُّلْمِ، فَيَحِقُّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَنَزْعُ الْأُسَرَاءِ مِنْ أَيْدِيهمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِشَيْءٍ سِوَى ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1594 قَدْ شَرَطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا» وَوَفَّى بِذَلِكَ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ رَدَّ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَرَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عَلَى مَنْ جَاءَ فِي طَلَبِهِ حَتَّى فَعَلَ مَا فَعَلَ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ هَذَا حُكْمٌ قَدْ انْتَسَخَ بِالْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ. وَكَانَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ خَاصَّةً، وَقَدْ عَلِمَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، فَقَالَ: «لَا يَسْأَلُونَنِي الْيَوْمَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إيَّاهُ» ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُسْلِمًا أَوْ أَنْ نَتْرُكَ أَخْذَ الْمُسْلِمِ مِنْ أَيْدِيهِمْ إذَا قَدَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ بِحَالِ، فَإِنْ أَرَادُوا أَخْذَهُمْ فَعَرَضَ لَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فِي ذَلِكَ، فَلْيَنْبِذُوا إلَيْهِمْ ثُمَّ لِيُقَاتِلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ، دُونَ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَسْتَنْقِذُوهُمْ. وَإِنْ كَانُوا شَرَطُوا عَلَيْنَا أَنْ نَأْتِيَهُمْ بِعِدَّةٍ مِنْ الْعُلُوجِ قَدْ سَمَّوْهُمْ فَلَمْ نَأْتِهِمْ بِهِمْ أَوْ أَتَيْنَاهُمْ ثُمَّ كَانَ تَرْكُ الْمُفَادَاةِ مِنْ قِبَلِنَا أَوْ قِبَلِهِمْ فَالْجَوَابُ سَوَاءٌ، أَلَّا يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ فِي سَعَةِ مِنْ تَرْكِ قِتَالِهِمْ. لِأَنَّ عَلَيْهِمْ حِفْظُ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ أَوَّلًا ثُمَّ الْعُلُوَّ وَالْغَلَبَةَ إنْ تَمَكَّنُوا مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1595 3156 - وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أُسَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ بِأَنْ لَمْ يُعَايِنْهُمْ وَلَمْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ، إلَّا أَنَّا نَظُنُّ بِذَلِكَ ظَنًّا، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَقَضَ الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَّ ذَلِكَ لِاسْتِرْدَادِ الْأُسَرَاءِ مِنْهُمْ. 3157 - وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا فَبِنَقْضِ الْعَهْدِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ وَإِنْ اسْتَأْمَنَ إلَيْنَا مَمَالِيكُهُمْ، وَنَحْنُ فِي الْمُفَادَاةِ. لَمْ يُنْقَضْ الْعَهْدُ أَيْضًا وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ مَمَالِيكُهُمْ. لِأَنَّا آمَنَّاهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَرَّضَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. 3158 - فَإِنْ أَسْلَمَ الْمَمَالِيكُ لَمْ نَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّا نَبِيعُهُمْ وَنُعْطِيهِمْ أَثْمَانَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُسَلِّمُ عَبْدَهُ، وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مَا جَاءَ الْمَمَالِيكُ بِهِ مِنْ أَسْلِحَتِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، فَإِنْ قَالَ الْمَمَالِيكُ نَكُونُ ذِمَّةً لَكُمْ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ وَنَرُدُّهُمْ عَلَيْهِمْ مَعَ دَوَابِّهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ. لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُ مَنْ لَهُمْ أَمَانٌ مِنَّا، وَهُمْ تَبَعٌ لِلْمَالِكِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الذِّمَّةِ وَلَا يَصِيرُ بِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1596 وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ أَتَوْنَا بَعْضَ أَحْرَارِهِمْ) أَخَذُوا مِنْهُمْ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ وَالْمَالَ ثُمَّ دَخَلُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا جَاءُوا بِهِ. لِأَنَّ الْأَمَانَ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَمَانٌ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَمَا أَخَذُوا بِهِ مِنْ الْمَالِ قَدْ صَارَ مِلْكًا لَهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً أَوْ دَخَلُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ. 3160 - وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُوَادَعَةٌ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ ثُمَّ جَاءَ بِهِ إلَى دَارِنَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا. لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُمْ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ. 3161 - وَلَوْ أَنَّ أُسَرَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِمْ لِلْمُفَادَاةِ هَرَبُوا إلَيْنَا قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الْفِدَاءُ فَقَالُوا: رُدُّوهُمْ إلَيْنَا لِلْعَهْدِ لَمْ نَرُدَّهُمْ. لِأَنَّا مَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْعَهْدَ عَلَى حَبْسِ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْعَهْدَ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَمْلِكُونَ الْأُسَرَاءَ. 3162 - ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَفِيَ لَهُمْ بِالْفِدَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1597 لِأَنَّا إنَّمَا شَرَطْنَا لَهُمْ رَدَّ أُسَرَائِهِمْ بِالْمُفَادَاةِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَمَّ التَّرَاضِي عَلَى الْمُفَادَاةِ بِعُلُوجٍ بِأَعْيَانِهِمْ ثُمَّ هَرَبَ أُسَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُوَفَّى لَهُمْ بِمَا صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ لِيَطْمَئِنُّوا إلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ وَلَا يَنْسُبُوهُمْ لِلْغَدْرِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ تَمَامَ الْمُفَادَاةِ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ الْمُفَادَاةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْنَا رَدُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ، بِسَبَبِ تِلْكَ الْمُرَاوَضَةِ مِنْ عُلُوجِ الْمُشْرِكِينَ وَالْأَمْوَالِ. 3163 - وَلَوْ أَنَّ الْأُسَرَاءَ هَرَبُوا مِنْهُمْ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَأْتُونَا بَعْدَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا هَرَبُوا إلَيْنَا فَالْأَفْضَلُ هُنَاكَ أَنْ نُعْطِيَهُمْ مَا شَرَطْنَاهُمْ لِأَنَّهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَيْنَا فَنَحْنُ مَنَعْنَاهُمْ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ هَذَا مَا لَوْ كَانُوا هُمْ الَّذِينَ أَعْطَوْهُمْ إلَيْنَا، فَأَمَّا إذَا خَرَجُوا إلَيْنَا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُمْ لَيْسُوا فِي أَيْدِينَا فَلَا يَلْزَمُنَا أَنْ نَفِيَ لَهُمْ بِالْفِدَاءِ الَّذِي شَرَطْنَا إذَا كَانُوا لَا يَرَوْنَ عَلَيْنَا بِهِ شَيْئًا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ الْأُسَرَاءُ فِي أَيْدِيهمْ فَكَذَلِكَ إنْ هَرَبَ الْأُسَرَاءُ أَوْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَامْتَنَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ. لِأَنَّا لَا نَمْنَعُهُمْ الْآنَ مِنْهُمْ لِنَفِيَ لَهُمْ بِمَا شَرَطْنَا. 3164 - وَإِذَا هَرَبُوا إلَيْنَا وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ فَنَحْنُ الْمَانِعُونَ لِلْأُسَرَاءِ مِنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1598 أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْلَا مَكَانُنَا أُخِذُوا، فَلِهَذَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَفِيَ بِمَا شَرَطْنَا لَهُمْ 3165 - وَإِنْ أَرَادُوا رَدَّ الْأُسَرَاءَ فَقَاتَلَهُمْ الْأُسَرَاءُ وَاسْتَغَاثُوا بِالْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْذُلُوهُمْ، لِمَا بَيَّنَّا أَنْ حَبْسَهُمْ لِلْأُسَرَاءِ ظُلْمٌ وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْعَهْدَ عَلَى الظُّلْمِ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَذَرُوا الْمُشْرِكِينَ يَقْتُلُونَ إخْوَانَهُمْ، وَلَا يَمْنَعُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ، إذَا كَانُوا يُقِرُّونَ عَلَى الْمَنْعِ. وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ لِلْأُسَرَاءِ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْقَلِبُوا مِنْهُمْ، إنْ آمَنُوهُمْ أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي حَبْسِهِمْ. 3166 - وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ عَبِيدًا وَإِمَاءً مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَزُوهُمْ فِي دَارِهِمْ فَإِنَّا نَفِي بِالْمُفَادَاةِ الَّتِي شَرَطْنَا فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ نَأْخُذُهُمْ مِنْهُمْ بِالْقَهْرِ. لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَلَا يَحِلُّ تَرْكُهُمْ فِي دَارِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّا نَبِيعُهُمْ وَنُعْطِيهِمْ أَثْمَانَهُمْ. لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا كَأَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ. 3167 - فَإِنْ قَاتَلَهُمْ الْعَبِيدُ فَأَرَادَ الْمُشْرِكُونَ قَتْلَهُمْ قَاتَلْنَاهُمْ مَعَ الْعَبِيدِ حَتَّى نَسْتَنْقِذَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1599 لِأَنَّهُمْ إخْوَانُنَا فِي الدِّينِ فَيَجِبُ اسْتِنْقَاذُهُمْ مِنْ قَهْرِ الْمُشْرِكِينَ. 3168 - إلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إنْ كَانُوا فِي مَأْمَنِهِمْ فَقَدْ تَمَّ نَبْذُ الْأَمَانِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَخَذْنَا مِنْهُمْ الْعَبِيدَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا نُعْطِيهِمْ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْرِ مَأْمَنِهِمْ بِعْنَاهُمْ وَأَعْطَيْنَاهُمْ أَثْمَانَهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بَاقٍ مَا لَمْ يَصِلُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ، وَمِنْ لَا يَمْلِكُ أَهْلَ الْحَرْبِ مِنْ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرُنَا مِنْ الْفُصُول. وَلَوْ كَانَ أَسِيرًا فِي بَعْضِ حُصُونِهِمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَشُدَّ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَقْتُلُهُ فَإِنْ كَانَ يَطْمَعُ فِي قَتْلِهِ أَوْ فِي نِكَايَةٍ فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ. لِأَنَّهُ يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ بَعْدَ هَذَا وَيُمَثِّلُونَ بِهِ. 3169 - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي الصَّيْفِ يُقَاتِلُ، وَأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَمِنْهُمْ حَمِيُّ الدَّبْرِ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1600 يَوْمَ الرَّجِيعِ، يَوْمَ بَنِي لِحْيَانَ، فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا لِلْمُقَاتِلِ إذَا كَانَ يُنْكِرُ فِعْلَهُ فِيهِمْ فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْأَسِيرِ كَانَ أَوْلَى وَلَوْ خَلَّوْا سَبِيلَ الْأَسِيرِ وَأَعْطَوْهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي بِلَادِهِمْ فَلَا بَأْسَ لِلْأَسِيرِ أَنْ يَغْتَالَهُمْ وَيَقْتُلَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ سِرًّا أَوْ يَأْخُذَ مَا شَاءَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَا أَعْطَاهُمْ الْأَمَانَ وَإِنَّمَا هُمْ أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُمْ الْأَمَانَ، فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي لَنَا أَلَّا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ غَدْرًا مِنْهُ، وَالْغَدْرُ حَرَامٌ. 3170 - وَلَكِنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ سِرًّا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ، وَإِنْ كَانَ أَعْطَاهُمْ الْأَمَانَ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. لِأَنَّ حَبْسَهُمْ إيَّاهُ فِي دَارِهِمْ ظُلْمٌ مِنْهُمْ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الظُّلْمِ. 3171 - فَإِنْ مَنَعَهُ إنْسَانٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلَهُ وَيَقْتُلَهُ. لِأَنَّهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي هَذَا الْمَنْعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1601 وَإِنْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَشَدَّ عَلَى بَعْضِهِمْ لِيَقْتُلَهُ، فَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ يَنْكِي فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْكَأُ فِيهِمْ فَالْأَوْلَى أَلَّا يَفْعَلَهُ. إلَّا أَنْ يَكُونُوا كَلَّفُوهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ فَظَنَّ أَنَّ لَهُ فِيمَا يَصْنَعُ نَجَاةٌ أَوْ تَرَفُّهًا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِطَلَبِ النَّجَاةِ. 3173 - وَكَذَلِكَ إنْ شَدَّ عَلَى السَّجَّانِ لِيَقْتُلَهُ، فَهُوَ عَلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي قُلْنَا وَإِنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَضَرَبَهُ الَّذِي يُمْسِكُهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَ الْعِلْجَ وَيَأْبَى السُّجُودَ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ. لِأَنَّ ضَرْبَ الْعِلْجِ وَقَتْلَهُ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ يَكُونُ نِكَايَةً فِيهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَفِي إبَائِهِ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إعْزَازُ الدَّيْنِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَا يَكُونُ بِهِ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ. 3174 - وَلَوْ قَالَ الْأَسِيرُ لَهُمْ: أَنَا أَعْلَمُ الطِّبَّ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَسْقِيَهُمْ الدَّوَاءَ فَسَقَاهُمْ السُّمَّ فَقَتَلَهُمْ فَإِنْ سَقَى الرِّجَالَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ. لِأَنَّ ذَلِكَ نِكَايَةٌ فِيهِمْ، وَأَكْرَهُ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ الصِّبْيَانَ وَالنِّسَاءَ، كَمَا أَكْرَهُ لَهُ قَتْلَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1602 إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مِنْهُمْ قَدْ أَضَرَّتْ بِهِ. وَقَصَدَتْ قَتْلَهُ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْقِيَهَا كَمَا لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهَا إنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ أَسِيرًا فِيهِمْ دَلَّى نَفْسَهُ مِنْ حِصْنٍ أَوْ سُورِ مَدِينَةٍ لِيَهْرَبَ فَسَقَطَ فَمَاتَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ أَنْ يَنْجُوَ حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِمَا صَنَعَ. لِأَنَّ قَصْدَهُ السَّعْيُ فِي نَجَاتِهِ وَالْفِرَارُ بِدِينِهِ كَيْ لَا يُفْتَتَنَ وَالْمُجَاهِدُ فِي كُلِّ مَا يَصْنَعُ عَلَى طَمَعٍ مِنْ الظَّفَرِ وَخَوْفٍ مِنْ الْهَلَاكِ. 3176 - فَإِنْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْهَلَاكِ أَوْ كَانَ أَكْبَرَ الرَّأْيِ أَنَّهُ لَا يَنْجُو فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الصَّنِيعُ. لِأَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ نَفْسَهُ. 3177 - وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ إذَا دَلَّى نَفْسَهُ فِي قِدْرٍ مِنْ بَعْضِ الْمَطَامِيرِ لِيُقَاتِلَ الْعَدُوَّ فَإِنْ كَانَ يَطْمَعُ أَنْ يَنْكَأَ فِعْلُهُ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ بِمَا صَنَعَ بِهِ بَأْسٌ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يَنْكَأُ فِعْلُهُ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ 3178 - وَإِذَا أُسِرَ الْعِلْجُ أَوْ امْرَأَتُهُ وَوَلَدُهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يُفَادِيَهُمْ بِالْمَالِ لِمَا قُلْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1603 3179 - وَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ إخْرَاجِهِمْ إلَى دَارِنَا وَلَا بَعْدَهُ. لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْمُفَادَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ يُفَادُونَ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ. 3180 - وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعُوا فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَلَيْسَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَدَّ الْإِمَامُ بَيْعَهُ، وَأَدَّبَهُ عَلَى مَا صَنَعَ، إنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ. لِأَنَّهُ قَصَدَ تَقْوِيَةَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 3181 - وَلَوْ جَاءَ مُشْرِكٌ مُسْتَأْمَنًا، وَلَهُ عَبِيدٌ مُسْلِمُونَ قَدْ أَسَرَهُمْ، وَأَحْرَزَهُمْ وَطَلَبَ أَنْ يَبِيعَ بِهَؤُلَاءِ الْحَرْبِيِّينَ فَلَا بَأْسَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ بِأُولَئِكَ الْحَرْبِيِّينَ ثُمَّ يَجْعَلُهُمْ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ لَمْ يَقْسِمْهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَسَمَهُمْ فَلَا بَأْسَ لِمَنْ وَقَعُوا فِي سَهْمِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِمْ الْعَبِيدَ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، إذْ الْمَقْصُودُ تَخْلِيصُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذُلِّ الْكُفَّارِ. 3182 - وَيَسْتَوِي فِي هَذَا عَبِيدُ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَارُهُمْ. لِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ لِحُرْمَةِ الدِّينِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1604 3183 - وَإِنْ جَاءَ بِالْعَبِيدِ مَعَهُ فَإِنَّ الْأَمِيرَ لَا يَدْعُهُ يَرْجِعُ بِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ عَبِيدِ الْكُفَّارِ أَدْخَلَهُمْ مَعَ نَفْسِهِ فَأَسْلَمُوا أَوْ اشْتَرَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَبِيدًا مُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ، ثُمَّ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى بَيْعِهِمْ، كَمَا يُجْبِرُ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ كَانَ دَخَلَ هَذَا الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ الْعَبِيدُ ثُمَّ طَلَبَ أَنْ يَبِيعَهُمْ بِأُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ الْأَمِيرَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ صَارَ مُجْبَرًا عَلَى بَيْعِهِمْ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لِمَا صَارَ مَقْهُورًا فِي أَيْدِينَا، وَالْعَبِيدُ مَعَهُ فَتَمْكِينُهُ مِنْ أَنْ يَبِيعَهُمْ بِأُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ هَذَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مُفَادَةِ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ قَدْ جَاءَ مُسْتَأْمَنًا، وَلَيْسَ الْعَبِيدُ مَعَهُ فَلَمْ يَصِرْ هُوَ مُجْبَرًا عَلَى بَيْعِهِمْ بِالدَّرَاهِمِ فِي الْحُكْمِ. 3185 - تَوْضِيحُهُ أَنْ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ بِأُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَلَا ضَرُورَةَ هَا هُنَا لِإِمْكَانِ التَّخْلِيصِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِجْبَارُ عَلَى الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ. وَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ حِينَ لَمْ يَأْتِ بِالْعَبِيدِ مَعَهُ. 3186 - وَلَوْ كَانَ جَاءَ لِيَدْخُلَ بِأَمَانٍ فَسَأَلَهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَبِيعُوهُ أُسَرَاءَ سَمَّاهُمْ بِعَبِيدٍ فِي يَدِهِ مِنْ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1605 سَمَّاهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ الْمُسْلِمُونَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَائِمَةٌ، مَا لَمْ تَصِلْ يَدُنَا إلَى عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ الْإِجَابَةِ عَلَيْهِمْ وَجَبَ أَنْ يَفُوا لَهُ بِذَلِكَ. لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا صَحَّ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ شَرْعًا. 3187 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَسِيرًا فِي أَيْدِيهِمْ أَرَادَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ وَعِنْدَهُ أَنَّ فِعْلَهُ يَنْكَأُ فِيهِمْ وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأُسَرَاءِ فِي أَيْدِيهِمْ فَالْأَفْضَلُ أَلَّا يَفْعَلَ، خُصُوصًا إذَا كَانَ نِكَايَتُهُ فِيهِمْ لَا تَبْلُغُ بَعْضَ مَا يَجِبُ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَدَفْعِ شَرِّ الْعَدُوِّ عَنْهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُجَاهِدَ لِهَذَا يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ هَذَا يَصِيرُ سَبَبَ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يُقْتَلُوا أَوْ يُعَذَّبُوا فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَلَّا يَفْعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ. لِأَنَّ مُرَاعَاةَ جَانِبِ غَيْرِهِ لَا تَكُونُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ نَفْسِهِ. 3188 - وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ هَذَا الصَّنِيعَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1606 إذَا كَانَ فِعْلُهُ يَنْكَأُ فِيهِمْ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ بِسَبَبِهِ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأُسَرَاءِ، كَانَ أَوْلَى، وَلَوْ أَنْ سَرِيَّةً دَخَلَتْ أَرْضَ الْعَدُوِّ، فَكَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْ عَسْكَرٍ عَظِيمٍ مِنْ الْعَدُوِّ لَا يَعْلَمُونَ بِهِمْ، فَأَرَادَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ كَرِهْت لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى أَنْ يَنْتَصِفُوا مِنْهُمْ. بِعِلْمِهِمْ وَلَا رُخْصَةَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُقْتَلُوا أَوْ يُؤْسَرُوا. 3189 - وَلَوْ كَانَ عَلِمُوا مَكَانَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْرِضُوا لَهُمْ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ، إذَا كَانَ فِعْلُهُ يَنْكَأُ فِيهِمْ، إلَّا أَنَّهُ إذَا خَافَ أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُوهُمْ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنْ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَوْ حَاصَرَهُمْ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ طَاقَةٌ، فَدَعَوْهُمْ إلَى الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ كَانَ أَفْضَلُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَالِحُوهُمْ وَيَقْبَلُوا أَمَانَهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا إلَّا قِتَالَهُمْ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ كَمَا فَعَلَهُ حَمِيُّ الدَّبْرِ حِينَ عَرَضُوا عَلَيْهِ الْأَمَانَ فَقَالَ: إنِّي عَاهَدْت اللَّهَ قَبْلَ هَذَا أَلَّا أَقْبَلَ أَمَانًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَمَا زَالَ يُقَاتِلُهُمْ حَتَّى قُتِلَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1607 فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. 3190 - وَإِذَا أُسِرَتْ كِتَابِيَّةٌ فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَدَبَّرَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا، وَهِيَ عَلَى دِينِهَا بَعْدُ، ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ أَسَرُوا مِنَّا رَجُلًا فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا مِنَّا الْفِدَاءَ إلَّا أَنْ نَفْدِيَهُ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَإِنْ رَضِيَ مَوْلَاهَا بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالْمُفَادَاةِ بِهَا، كَرِهَتْ هِيَ ذَلِكَ أَوْ رَضِيَتْ بِهِ. لِأَنَّهَا بِهَذِهِ الْمُفَادَاةِ لَا تَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ مَوْلَاهَا، فَقَدْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ لِمَا ثَبَتَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ. 3191 - وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَوْلَاهَا بِهَذِهِ الْمُفَادَاةِ خِدْمَتُهَا، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ خِدْمَتَهَا فِدَاءَ مُسْلِمٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ حُرْمَتُهَا فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ. 3192 - ثُمَّ يَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ لِلْمُسْلِمِ بِالْمَالِ فَبِالْخِدْمَةِ أَوْلَى وَأَجْوَزُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْهُمْ، فَإِنَّهَا عَلَى دِينِهِمْ وَإِنَّمَا يَرْغَبُونَ فِي الْفِدَاءِ بِهَا لِإِكْرَامِهَا بِسَبَبِ ثَبَاتِهَا عَلَى اعْتِقَادِهَا بَيْنَنَا، وَلَا مُعْتَبَرَ لِكَرَاهَتِهَا وَرِضَائِهَا. لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَيْسَ لَهَا مِنْ أَمْرِ نَفْسِهَا شَيْءٌ. 3193 - فَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ مَوْلَاهَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَفْدِيَ الْأَسِيرَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ الْقَتْلَ عَلَى الْأَسِيرِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1608 صَارَتْ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِخْرَاجَ مِنْ مِلْكِ مَوْلَاهَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَمَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْمَوْلَى فِيهَا لَا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهَا بِغَيْرِ رِضَاءِ الْمَوْلَى، فَإِنْ طَلَبَ الْمَوْلَى أَنْ يُعَوَّضَ قِيمَتَهَا عَلَى غَيْرِ بَيْعٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْأَسِيرَ الْمُسْلِمَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْمَالَ إلَيْهِمْ لِيَتَخَلَّصَ الْأَسِيرُ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ إلَى مَوْلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَرْضَى بِأَنْ يُفَادَى الْأَسِيرُ بِهَا. 3194 - ثُمَّ هَذَا الْمَالُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَلَكِنَّهُ عِوَضٌ عَنْ خِدْمَتِهَا، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ أَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ ذَلِكَ رَدُّوهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ كَانَ قَائِمًا فِيهَا وَيَسْلَمُ لَهُ الْعِوَضُ الَّذِي كَانَ أَخَذَ. لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الْعِوَضَ عَنْ خِدْمَتِهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ ذَلِكَ. 3195 - وَلَوْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهَا الْمُسْلِمُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ شِرَاءً كَرِهْت لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ الْمَبِيعَ، لِمَا ثَبَتَ فِيهَا مِنْ حَقِّ الْعِتْقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1609 3196 - فَإِنْ أَخَذُوهَا مِنْهُ كُرْهًا وَفَادُوا بِهَا غَرِمَ الْإِمَامُ لَهُ قِيمَتَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهَذَا فِي الْمُدَبَّرَةِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا لِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا، حَتَّى أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ بِغَيْرِ رِضَا مَوْلَاهَا لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَهَذَا قَوْلُهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، فَلَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ قِيمَتَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَقِيلَ: بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا. لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْطِيه قِيمَتَهَا عِوَضًا عَنْ خِدْمَتِهَا لَا عَنْ رَقَبَتِهَا، كَمَا لَوْ رَضِيَ الْمَوْلَى بِأَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ بِقِيمَتِهَا وَلَكِنْ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهَا لَوْ عَادَتْ إلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ رَدُّوهَا عَلَيْهِ، وَأَخَذَ الْإِمَامُ مِنْهُ الْقِيمَةَ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا فَرَدَّهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ خِدْمَتِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّهَا، كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ: لَا أُحِبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ كُرْهًا، وَلَوْ كَانَ مَا يُعْطِيه عِوَضًا عَنْ خِدْمَتِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَجَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى، لِمَا يَرَى فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ. 3197 - وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ قِنَّةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَوِّمَهَا قِيمَةَ عَدْلٍ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ الْقِيمَةَ وَيُفَادِي بِهِ الْمُسْلِمَ لِأَنَّ فِي امْتِنَاعِ الْمَوْلَى مِنْ الْمُفَادَاةِ بِهَا ضِرَارٌ عَظِيمٌ بِالْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1610 3198 - وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ بَيْعِ الْمَالِ عَلَى مَالِكِهِ عِنْدَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، فَلِأَنَّهُ يَحْجُرُ عَلَى الْمَدِينِ وَيَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّهُ يَرَى الْحَجْرَ فِيمَا يَعْظُمُ فِيهِ الضَّرَرُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا ثَبَتَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَدْفَعَ إلَيْهِ ثَمَنَهَا وَبَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَهَا وَيَدْفَعَ إلَيْهِ قِيمَتَهَا ثُمَّ يُفَادِيَ بِهَا. 3199 - فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَلَا سَبِيلَ لِمَوْلَاهَا عَلَيْهَا. لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ مَوْلَاهَا حِينَ بَاعَهَا الْإِمَامِ عَلَيْهِ وَنَفَذَ ذَلِكَ الْبَيْعُ فِيهَا. 3200 - وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ مُكَاتَبَةً لَمْ أُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَ بِهَا إلَّا بِرِضَاهَا وَرِضَى مَوْلَاهَا لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى قَائِمٌ فِي رَقَبَتِهَا، وَقَدْ صَارَتْ هِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَمَنَافِعِهَا بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا جَمِيعًا فِي الْمُفَادَاةِ بِهَا. 3201 - وَإِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ كُرْهًا فَفَادَى بِهَا فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْإِمَامِ. لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ يَدًا وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْغَصْبِ تَفْوِيتُ الْيَدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1611 3202 - ثُمَّ الْمَوْلَى مَا كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَبِهَذَا الْأَخْذِ مَا فَاتَ مِلْكُ الْمَوْلَى فِيهَا، فَمَتَى مَا أَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ رَدُّوهَا عَلَيْهِ، وَكَانَتْ مُكَاتِبَةً عَلَى حَالِهَا. - فَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَدَّتْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَتْ أَوْ كَانَ، أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا، فَفِي الْمُفَادَاةِ بِهَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا فَقَطْ. لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمَوْلَى فِيهَا مِلْكٌ وَهِيَ بِالْعِتْقِ قَدْ صَارَتْ حُرَّةً ذِمِّيَّةً، لِكَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ. 3204 - فَلَا يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهَا إلَّا بِرِضَاهَا، بِمَنْزِلَةِ حُرَّةٍ أَصْلِيَّةٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ حُرٍّ مِنْهُمْ إذَا طَلَبُوا مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءِ الذِّمِّيِّ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ وَالْمُسْلِمَةُ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْمَمْلُوكِينَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بِهِمْ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَطِبْ، وَطَابَتْ أَنْفُسُ مَوَالِيهِمْ أَوْ لَمْ تَطِبْ. لِأَنَّ خَوْفَ الْقَتْلِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِمْ كَهُوَ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يُوَافِقُهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِالْمُفَادَاةِ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَتِهِمْ. 3205 - فَإِنْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ مِنْهُمْ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَطَلَبُوا مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنَ، وَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ، وَقَالَ إنْ دَفَعْتُمُونِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1612 إلَيْهِمْ قَتَلُونِي، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَدْفَعَهُ إلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ فِي أَمَانٍ مِنَّا فَيَكُونُ كَالذِّمِّيِّ إذَا كَرِهَ الْمُفَادَاةَ بِهِ، وَلِأَنَّا نَظْلِمُهُ فِي التَّعْرِيضِ بِقَتْلِهِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَالظُّلْمُ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ. 3206 - وَلَكِنَّا نَقُولُ لَهُ: الْحَقْ بِبِلَادِك أَوْ حَيْثُ شِئْت مِنْ الْأَرْضِ إنْ رَضِيَ الْمُشْرِكُونَ بِهَذَا مِنَّا. لِأَنَّ لِلْإِمَامِ هَذِهِ الْوِلَايَةَ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ الْقَتْلَ عَلَى الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَطَالَ الْمُقَامَ فِي دَارِنَا يَقْدَمُ إلَيْهِ فِي الْخُرُوجِ، فَعِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ، أَوْ عِنْدَ مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ إذَا رَضُوا بِهَا أَوْلَى أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ. 3207 - وَإِنْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ ادْفَعُوهُ إلَيْنَا، وَإِلَّا قَاتَلْنَاكُمْ وَلَيْسَ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. لِأَنَّهُ غَدْرٌ مِنَّا بِأَمَانِهِ وَذَلِكَ لَا رُخْصَةَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالُوا: إنْ دُنِيتُمْ وَإِلَّا قَاتَلْنَاكُمْ وَلَكِنْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ: اُخْرُجْ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْت مِنْ أَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قَالُوا لَهُ اُخْرُجْ إلَى كَذَا مِنْ الْمُدَّةِ وَإِلَّا دَفَعْنَاك إلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: نَعَمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1613 ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَدْفَعَهُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ لَمْ يَنْبَغِ لَنَا أَنْ نَدْفَعَهُ إلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ آمِنٌ فِينَا مَا لَمْ يَبْلُغْ مَأْمَنَهُ. فَإِنْ قِيلَ: مُقَامُهُ فِينَا إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ دَلِيلُ الرِّضَاءِ بِدَفْعِهِ إلَيْهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ نَجْعَلَ ذَلِكَ كَصَرِيحِ الرِّضَاءِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ لِلْمُسْتَأْمَنِ إنْ خَرَجْت إلَى وَقْتِ كَذَا وَإِلَّا جَعَلْتُك ذِمَّةً، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ ذِمِّيًّا لِوُجُودِ دَلَالَةِ الرِّضَاءِ مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ. قُلْنَا: هُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ تَعْرِيضُهُ لِلْقَتْلِ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ، مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالرِّضَاءِ بِرَدِّهِ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا صَيْرُورَتُهُ ذِمِّيًّا فَهُوَ حُكْمٌ ثَبَتَ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَيَجُوزُ اعْتِمَادُ الدَّلِيلِ الْمُحْتَمَلِ فِي مِثْلِهِ. 3209 - وَإِنْ طَلَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ مَلِكِهِمْ فِي بَعْضِ حُصُونِهِمْ، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ يَصِيرَ ذِمَّةً لَنَا فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَاتَلْنَاكُمْ وَقَتَلْنَا أُسَرَاءَكُمْ فَإِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا قَالَهُ الْمُشْرِكُونَ. لِأَنَّ الذِّمَّةَ خَلْفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا. 3210 - وَلَوْ رَغِبَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْكَكْ أَنَّهُ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا قِبَلَ عَقْدَ الذِّمَّةِ، قُلْنَا: يُقْبَلُ مِنْهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1614 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَلَّا يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ يَجِبُ عَلَيْنَا نُصْرَتُهُ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَدُوِّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ إذَا طَلَبَ عَقْدَ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ. لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى قَتْلِ أُسَرَائِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْقِتَالَ مَعَهُمْ لِخَوْفِ الْقَتْلِ عَلَى أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ الْإِجَابَةَ إلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ لِذَلِكَ. 3211 - فَإِنْ قَالُوا نَدْفَعُ إلَيْكُمْ أُسَرَاءَكُمْ عَلَى أَلَّا تَقْبَلُوا مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذِمَّةً لَكُمْ فَهَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَلَّا يَقْبَلَهُ مِنْهُمْ. لِأَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِيَكُونُوا مُقَاتِلَةً يَذُبُّونَ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ. 3212 - فَإِنْ أَجَابَهُمْ الْإِمَامُ إلَى ذَلِكَ فَخَلَّوْا سَبِيلَ الْأُسَرَاءِ، ثُمَّ لَمْ يَظْفَرْ الْمُشْرِكُونَ بِالْمَحْصُورِ فَسَأَلَ الْمَحْصُورُ أَنْ يَكُونَ ذِمَّةً لَنَا أَجَبْنَاهُ إلَى ذَلِكَ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الذِّمَّةَ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1615 الْتِزَام الْأَحْكَامِ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ هَذَا مِنْكُمْ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدْتُمُونَا عَلَيْهِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى كَلَامِهِمْ. لِأَنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لِنُفُوسِهِمْ وَلَا لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَحْصُورَ مُمْتَنِعٌ مِنْهُمْ فَلَا يَلْزَمُنَا الِامْتِنَاعُ عَنْ قَبُولِ الذِّمَّةِ مِنْهُ بِالشَّرْطِ. 3213 - فَإِنْ قَالَ الْمَحْصُورُ: لَا أَكُونُ ذِمَّةً لَكُمْ، وَلَكِنْ أَمِّنُونِي حَتَّى أَخْرُجَ إلَى بِلَادِكُمْ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ بِهِ قَتَلْنَا أُسَرَاءَكُمْ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ إلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مَا سَأَلَ الْمَحْصُورُ مِنْ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ الْإِمَامَ نُصِّبَ نَاظِرًا، وَعَقْدُ الْأَمَانِ فِي الْأَصْلِ مَشْرُوعٌ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلِلْإِمَامِ أَلَّا يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ. 3214 - وَلَوْ قَالَ الْمَحْصُورُ: أُسْلِمُ وَأَنْزِلُ إلَيْكُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَاتَلْنَاكُمْ وَقَتَلْنَا أُسَرَاءَكُمْ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ إجَابَةُ الْمَحْصُورِ إلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ بِهِمْ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا طَلَبَ أَنْ يَكُونَ ذِمَّةً لَنَا وَلَا قُوَّةَ بِنَا عَلَيْهِمْ فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا قَالُوا: لَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ. لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا يَلْزَمُنَا الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1616 إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ. لِأَنَّ حَالَ هَذَا الْمَحْصُورِ فِيهِمْ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَالِ أَسِيرٍ مُسْلِمٍ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِيَامُ بِنُصْرَةِ الْأَسِيرِ وَالْقِتَالُ لِاسْتِنْقَاذِهِ إذَا كَانَ بِنَا قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ. إلَّا أَنَّ إسْلَامَهُ صَحِيحٌ بِنَفْسِهِ، وَعَقْدُ الذِّمَّةِ لَا يَتِمُّ بِهِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَجِبُ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشِيرُ إلَى الْفَرْقِ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مُفَادَاةَ الْأُسَارَى بِالْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، رَضِيَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ أَوْ كَرِهُوا، وَالْمُفَادَاةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ يَجُوزُ إذَا رَضُوا بِهِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجُوزُ تَرْكُ الْإِجَابَةِ إلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ الِامْتِنَاعُ مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ وَالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. 3216 - وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ الْمَأْسُورَةُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ تَجُوزُ مُفَادَاتُهَا بِالْمَالِ. لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهَا نَسْلٌ، وَلَا يُخَافُ مِنْهَا قِتَالٌ، فَلَيْسَ فِي مُفَادَاتِهَا بِالْمَالِ مَعْنَى تَقْوِيَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الثَّانِي. 3217 - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمَالِ جَوَّزَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُفَادَاةَ أُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ. لِأَنَّ الْحَالَ حَالَةُ الضَّرُورَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1617 أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِأُسَرَائِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْمَالِ، فَإِنَّ فِيهِ تَرْكُ الْقَتْلِ الْمُسْتَحَقِّ حَقًّا لِلَّهِ بِالْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَمَنْ عَلَيْهِ الرَّجْمُ. وَلِأَنَّ فِي هَذَا إظْهَارُ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُشْرِكَيْنِ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَهُمْ طَمَعًا فِي الْمَالِ. وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. 3218 - وَإِذَا أَسَرَ الْإِمَامُ نِسَاءً وَصِبْيَانًا فَأَدْخَلَهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ بِأَمَانٍ، فَقَالُوا: نَشْتَرِيَهُمْ مِنْكُمْ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعُوا مِنْهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ لِلْمُسْلِمِينَ إلَى الْمَالِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى مَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِحَالٍ. لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ السَّبْيِ بِالْمَالِ فَطَرِيقُ الْبَيْعِ فِيهِ وَطَرِيقُ الْمُفَادَاةِ سَوَاءٌ. 3219 - فَإِنْ قَالُوا: نَشْتَرِيهِمْ وَنُعْتِقُهُمْ وَنَتْرُكُهُمْ فِي بِلَادِكُمْ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إعَادَتِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ بِأَعْيَانِهِمْ إذَا كَثُرُوا أَوْ بِنَسْلِهِمْ وَفِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى. 3220 - وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ لِمَنْ وَقَعُوا فِي سَهْمِهِ أَنْ يُعْتِقَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1618 فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ مِمَّنْ يُعْتِقُهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَلَوْ جَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِأُسَرَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: نُفَادِيهِمْ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَلَمْ يَكُنْ الَّذِينَ طَلَبُوا بِحَضْرَةِ الْأَمِيرِ وَالْمُسْلِمِينَ فَأَعْطَوْهُمْ عَهْدًا إنْ دَفَعُوا إلَيْهِمْ بِهَؤُلَاءِ الْأُسَارَى لِيَبْعَثْنَ إلَيْهِمْ بِاَلَّذِينَ طَلَبُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَاطْمَأَنُّوا إلَى الْمُسْلِمِينَ وَدَفَعُوا الْأُسَارَى إلَيْهِمْ فَالْمُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفُوا بِمَا شَرَطُوا لَهُمْ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا ذَلِكَ، وَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْوَفَاءَ بِالْمَشْرُوطِ لَمْ يَطْمَئِنُّوا إلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِهِ بَعْدَ هَذَا، فَرُبَّمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْهُ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَخْلِيصُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَصَلَ، وَحَبْسُهُمْ أُسَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ ظُلْمٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّمَا شَرَطُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا شَرَطُوا بِمُقَابِلَةِ تَرْكِ الظُّلْمِ، وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ. 3221 - وَلَكِنْ إذَا كَانَ فِي أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَبِيدٌ فَبَدَا لَهُمْ فِي الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَيْهِمْ بِقِيَمِ الْعَبِيدِ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحْرِزِينَ مَالِكِينَ لَهُمْ، فَلِذَلِكَ الشَّرْطِ أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ فِي أَمْلَاكِهِمْ الَّذِينَ يُسَلِّمُونَهُ إلَيْنَا، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُمْ عَلَيْهِمْ لِإِسْلَامِ الْعَبِيدِ، فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِمْ بِخِلَافِ الْأَحْرَارِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُمْ بِالْأَسْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1619 3222 - ثُمَّ إنْ جَاءَ مَوْلَى الْعَبِيدِ وَأَرَادَ أَخْذَهُمْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَى كَانُوا عَبِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ قِيمَتَهُمْ أُدِّيَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَكَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اشْتَرَوْهُمْ بِهَا لِبَيْتِ الْمَالِ. 3223 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إنَّمَا افْتَدَوْا عَبْدًا أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ حُرٌّ، حِينَ اشْتَرَوْهُ وَقَبَضُوهُ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيمَتُهُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ. لِأَنَّ الْعَبْدَ حِينَ أَسْلَمَ فَقَدْ اسْتَحَقَّ إزَالَةَ مِلْكِ الْحَرْبِيِّ عَنْهُ. 3224 - وَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ كَانَ زَوَالًا بِالْحُرِّيَّةِ، كَمَا لَوْ خَرَجَ إلَى دَارِنَا مُرَاغَمًا، إلَّا أَنَّ تَمَامَ ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ جَمِيعًا. لِأَنَّ زَوَالَ يَدِ الْحَرْبِيِّ مَا يَكُونُ بِالتَّسْلِيمِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فَبَاعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ مِنْ دَارِنَا؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى مَرْعِيٌّ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ لَا يَحْكُمُ بِعِتْقِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُوجَدُ فِي الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ عَبِيدِهِمْ. 3225 - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ وَالْقَبْضَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لَلْمِلْكِ، بِخِلَافِ خُرُوجِهِ إلَيْنَا عَلَى سَبِيلِ الْمُرَاغَمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1620 لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِمِلْكِ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، وَالْمَمْلُوكُ إذْ مَلَكَ نَفْسَهُ عَلَى مَوْلَاهُ عَتَقَ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ خُرُوجُهُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ يُعْتَقْ، وَلَكِنَّهُ يُبَاعُ وَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ إلَى مَوْلَاهُ إذَا جَاءَ يَطْلُبُهُ. لِأَنَّ خُرُوجَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ الْمُرَاغَمَةِ، فَلَا يَتَمَلَّكُ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى مَوْلَاهُ. 3226 - فَإِنْ كَانَ الْأُسَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحْرَارًا، فَأَبَى مَوَالِيهِمْ الَّذِينَ طَلَبُوهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُمْ، فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُقَوِّمَهُمْ وَيُعْطِيَهُمْ قِيمَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَيُجْبِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى تَخْلِيصِ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَلِمَا فِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ الضَّرَرِ الْعَامِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ الْحَجَرِ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ فِي مِثْلِهِ. 3227 - فَإِنْ كَانُوا صَارُوا مُدَبَّرِينَ أَوْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ فَأَبَى مَوَالِيهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا، أَوْ كَانُوا. قَدْ أَسْلَمُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يُخْبِرُ أَهْلَ الْحَرْبِ الَّذِينَ أُخِذَ مِنْهُمْ الْأُسَرَاءُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِدَفْعِ أَصْحَابِكُمْ إلَيْكُمْ، فَإِنْ شِئْتُمْ دَفَعْنَا إلَيْكُمْ قِيمَتَهُمْ. لِأَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ لَهُمْ إعْطَاءَ عَبِيدٍ فَأَمَّا مَا كَانُوا عَبِيدَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَعَذَّرَ إعْطَاؤُهُمْ فَيُعْطِيهِمْ قِيمَتَهُمْ، وَإِنَّمَا يُعْطِيهِمْ ذَلِكَ لِيَطْمَئِنُّوا إلَى الْمُسْلِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1621 فِي الْمُسْتَقْبِلِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّا نَفِي بِالشَّرْطِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ رِضَائِهِمْ، فَلِهَذَا قَدَّمَ اسْتِرْضَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ رَضُوا أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ. لِأَنَّهُ لَوْ بَعَثَ ذَلِكَ الْمَالَ إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْضَوْا بِهِ كَانَ فِيهِ تَضْيِيعٌ لِذَلِكَ الْمَالِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ لَا يَحْصُلُ. 3228 - وَلَوْ كَانَ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ قَهَرَ عِلْجًا فَأَخَذَهُ، فَقَالَ الْعِلْجُ صَالِحْنِي عَلَى أَنْ أُعْطِيَك مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَفْتَدِي بِهَا نَفْسِي، عَلَى أَنْ تُخَلِّي سَبِيلِي، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ دُونَ الْأَمِيرِ. لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ صَارَ أَسِيرًا وَلِلْإِمَامِ رَأْيٌ فِي الْأُسَرَاءِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ أَنْ يَفْتَاتَ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. 3229 - فَإِنْ فَعَلَ الْمُسْلِمُ ذَلِكَ بِهِ فَأَخْرَجَ لَهُ مِائَةَ دِينَارٍ كَانَتْ مَعَهُ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّنَانِيرَ وَلَا يُخَلِّي سَبِيلَهُ. لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ صَارَتْ مَأْخُوذَةً بِأَخْذِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَادِيَ بَعْضَ الْغَنِيمَةِ بِالْبَعْضِ، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي بِذَلِكَ كُلِّهِ إلَى الْأَمِيرِ. 3230 - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّنَانِيرُ مَعَ الْعِلْجِ، وَلَكِنَّهُ انْتَهَى إلَى حِصْنٍ مُمْتَنِعٍ فَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهِ مِائَةَ دِينَارٍ، بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1622 أَوْ الْعَطِيَّةِ، فَالْأَفْضَلُ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدُّوا الدَّنَانِيرَ عَلَى مَنْ أَعْطَاهَا إيَّاهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ مَالِ الْعِلْجِ أَوْ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ. لِأَنَّ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ مَا صَارَتْ مَأْخُوذَةً بِأَخْذِ الْعِلْجِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ، وَإِنَّمَا صَارَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ بِطَرِيقِ الْأَمَانِ بِالصُّلْحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ الْعِلْجِ فَيَفْتَاتَ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ. 3231 - وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ بِهَا جَمِيعًا شَرْعًا كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ الدَّنَانِيرِ وَالْمَجِيءُ بِالْعِلْجِ إلَى الْأَمِير، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَهُنَاكَ أَخَذَهُمَا جَمِيعًا بِالْقَهْرِ، فَيَتَمَكَّنُ شَرْعًا مِنْ الْمَجِيءِ بِهِمَا، فَإِنْ أَخَذَ الدَّنَانِيرَ وَأَطْلَقَ الْعِلْجَ ثُمَّ جَاءَ بِهَا إلَى الْأَمِيرِ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالنَّهْيِ إلَيْهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الصَّنِيعِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَلَا يُعَاقِبَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَنْ جَهْلٍ مِنْهُ فَيَعْذِرُهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» ، وَيَأْخُذُ الدَّنَانِيرَ فَيَجْعَلُهَا فِي غَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَيْهَا بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِسَبَبٍ كَانَ أَصْلُهُ قَهْرًا. 3232 - فَإِنْ ظَفِرَ عَسْكَرٌ آخَرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ الْعِلْجِ، وَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَمَانٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ الْأَوَّلِ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ صَاحِبَنَا كَانَ أَخَذَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1623 لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمَأْخُوذِ لَا يَتَأَكَّدُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، وَالْإِحْرَازُ فِيهِ وُجِدَ مِنْ الْعَسْكَرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. 3233 - وَإِنْ قَالَ الْعِلْجُ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ الثَّانِي: لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَكُمْ فُلَانًا قَدْ أَمَّنَنِي وَأَطْلَقَنِي، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَ مَأْمَنَهُ، وَانْتَهَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْأَمَانِ مِنْ الَّذِي كَانَ أَخَذَهُ أَوَّلًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِيرَ نَفْسَهُ لَوْ كَانَ فَادَاهُ أُسَرَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَأَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ أَوْ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمَالٍ وَخَلَّى سَبِيلَهُ حَتَّى عَادَ إلَى مَأْمَنِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ فَيْئًا؟ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَمِيرَ إنَّمَا صَالَحَهُ بِالْمُفَادَاةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ آمِنًا حَتَّى يَصِلَ إلَى مَأْمَنِهِ، لَا عَلَى أَنْ يَكُونَ آمِنًا فِي بِلَادِهِ، فَمَا لَمْ يَصِلْ إلَى بِلَادِهِ فَهُوَ فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا بَعْدَ مَا بَلَغَ مَأْمَنَهُ فَلَا أَمَانَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ فَأَخَذُوهُ، فَالْأَمِيرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الصُّلْحَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَمَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ فَيْئًا وَرَدَّ الدَّنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الْحِصْنِ، الَّذِينَ أُخِذَتْ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَأْمَنَهُ فَحَالُهُ فِي مَعْنَى حَالِهِ فِي وَقْتِ الصُّلْحِ، وَلَوْ عِلْمَ الْإِمَامُ بِحَالِهِ وَقْتَ الصُّلْحِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيهِ، كَمَا بَيَّنَّا فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1624 [بَابُ فِدَاءِ الْأُسَرَاءِ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْمَمْلُوكِينَ بِالْمَالِ] 3234 - وَإِذَا أُسِرَ الْحُرُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ مُسْتَأْمَنٍ فِيهِمْ: افْتَدِنِي مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ اشْتَرِنِي مِنْهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِ الْآمِرِ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَمْلِكُ بِالْأَسْرِ وَلَا بِالشِّرَاءِ، وَالْمَالُ الَّذِي فَدَاهُ بِهِ الْمَأْمُورُ دَيْنٌ لَهُ عَلَى الْآمِرِ، لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بِمَا أَدَّى مِنْ الْمَالِ حُكْمًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ رَجُلًا أَنْ يُصَالِحَ أَوْلِيَاءَ الدَّمِ عَلَى مَالٍ وَيُعْطِيهِ. 3235 - يُوَضِّحُهُ: أَنَّ أَمْرَهُ بِأَدَاءِ الْفِدَاءِ مُحْتَمَلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى الْأَسِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِقْرَاضِ لِلْأَسِيرِ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ أَدْنَى الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ اسْتِقْرَاضًا مِنْ الْأَسِيرِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا أَدَّى فِي فِدَائِهِ إلَى مِقْدَارِ الدِّيَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1625 3236 - فَإِنْ كَانَ فِدَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَسِيرِ بِقَدْرِ الدِّيَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَقِيلَ يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا أَدَّى قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ. لِأَنَّهُ يُرَاعِي مُطْلَقَ الْأَمْرِ فِي الْوَكَالَاتِ. 3237 - وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَوْكِيلٍ بِالْمُبَادَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَمِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَإِنْ كَانَ فَهُوَ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ فِي التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَا يُخَالِفُهُمَا أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْفِيذٌ بِالشِّرَاءِ بِالْقِيمَةِ وَقِيمَةُ الْحُرِّ قَدْرُ دِيَتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ مُطْلَقَ الْأَمْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِالْفِدَاءِ مِقْدَارَ الدِّيَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا فَدَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ هُوَ فِي الزِّيَادَةِ كَالْمُتَبَرِّعِ بِالْفِدَاءِ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الدِّيَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ هُوَ فِي هَذَا الْعَقْدِ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا فَدَاهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ فَيَنْبَغِي أَلَّا يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ وَاشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ. قُلْنَا: هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ لَوْ كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مُعَاوَضَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُبَادَلَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ الْآمِرُ مُسْتَقْرِضًا مِنْ الْمَأْمُورِ مِقْدَارَ دِيَتِهِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ وَآمِرًا لَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ فِي فِدَائِهِ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ يَكُونُ مُقْرِضًا إيَّاهُ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَقْرَضَهُ دُونَ مَا تَبَرَّعَ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1626 3238 - وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ قَالَ لَهُ: افْتَدِنِي مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْمَأْمُورُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى زَادَ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ خَاصَّةً. لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَذَلِكَ فِي الْأَلْفِ خَاصَّةً وَهَذَا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَمَلِّكِ، ثُمَّ الْمُمَلَّكُ مِنْ الْآمِرِ يَرْجِعُ بِمَا يَمْلِكُ بِهِ، وَعِنْدَ الْخِلَافِ لَا يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ. 3239 - وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ قَالَ لِلْمَأْمُورِ: افْتَدِنِي مِنْهُمْ بِمَا رَأَيْت أَوْ بِمَا شِئْت أَوْ أَمْرُك جَائِزٌ فِيمَا تَفْتَدِينِي بِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا فَدَاهُ بِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّعْمِيمِ فِي التَّفْوِيضِ، فَكَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ فِي جَمِيعِ مَا فَدَاهُ بِهِ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ. 3240 - فَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ مُكَاتَبًا فَيَأْمُرُ الْمَأْمُورَ بِأَنْ يَفْدِيَهُ بِمَالٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ فَيَأْخُذُ بِهِ الْمُكَاتَبَ فِي الْحَالِ. لِأَنَّ فِي فِدَائِهِ بِالْمَالِ إحْيَاءً لَهُ حُكْمًا. 3241 - وَلَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمَالَ فِي مِثْلِهِ فِي الْحَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَنْ قِصَاصٍ عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ، أَوْ أَمَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1627 غَيْرَهُ بِهِ، كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ فِي الْحَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَاجَتِهِ وَيَكُونُ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ كَمَا فِي نَفَقَتِهِ. 3242 - فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ أَدَاءِ الْفِدَاءِ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ بِيعَ فِي ذَلِكَ الْفِدَاءُ، لِأَنَّهُ دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ، فَيُبَاعُ فِيهِ بَعْدَ الْعَجْزِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ الدَّيْنَ بَعْدَ الْعَجْزِ. 3243 - وَقِيمَةُ الْمُكَاتَبِ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ فِي فَصْلِ الْحُرِّ. لِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ قِيمَتُهُ، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ. إلَّا أَنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ مِقْدَارَ الدِّيَةِ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ، وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَإِنْ فَدَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ بِقَدْرِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِالزِّيَادَةِ هَا هُنَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ بِقَدْرِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ. 3244 - وَلَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ قَالَ: افْتَدِنِي مِنْهُمْ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَفَدَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكَاتَبِ إلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ. لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ مَالًا مُسَمًّى، فَإِنَّمَا يَكُونُ هُوَ مُقْرِضًا فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1628 فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِمِقْدَارِ مَا اسْتَقْرَضَ مِنْهُ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقِيمَةِ. 3245 - وَلَوْ كَانَ قَالَ افْتَدِنِي مِنْهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، ذَلِكَ كُلُّهُ لَازِمٌ لِلْمَكَاتِبِ فِي مُكَاتَبَتِهِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعِتْقِ بِمِقْدَارِ قِيمَتِهِ فَقَطْ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُطَالِبُهُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مَعْرُوفٍ أَنَّ الْمُكَاتَبَ وَالْمَأْذُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى لَا يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالْمُفَادَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، فَيَرْجِعُ الْمَأْمُورُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى. لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمهمَا اللَّه تَعَالَى هُوَ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ، كَمَا لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا فِي حَالَةِ الرِّقِّ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ أَوْ الْكَفَالَةِ مِنْهُ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ حَتَّى يُعْتَقَ فَهَا هُنَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمَأْمُورُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ قِيمَتِهِ حَتَّى يُعْتَقَ أَيْضًا. وَلَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1629 كَانَ إنَّمَا فَدَى الْحُرَّ أَوْ الْمُكَاتَبَ بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ فَلَا يَرْجِعُ الْفَادِي عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ. لِأَنَّهُمَا لَمْ يُمْلَكَا بِالْأَسْرِ وَالْفَادِي مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ. 3246 - وَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ مَأْذُونٍ أَوْ مَحْجُورٍ فَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ الْعَدُوِّ بِمَالٍ فَفَدَاهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى مَوْلَاهُ. لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ لَا يُمْلَكَانِ بِالْأَسْرِ. 3247 - ثُمَّ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ مِنْ الْفِدَاءِ حَتَّى يُعْتَقَا أَمَّا إذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِمَا فَغَيْرُ مُشْكِلٍ. لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِأَمْرِهِمَا فِي حَقِّ مَوْلَاهُمَا. 3248 - وَإِنْ كَانَا مَأْذُونًا لَهُمَا فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِذْنِ بِالْخُرُوجِ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ إلَى يَدٍ أُخْرَى قَاهِرَةٍ كَمَا يَبْطُلُ بِالْإِبَاقِ. لِأَنَّ فِدَاءَ النَّفْسِ بِالْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ، وَالْمَأْذُونُ فِي ذَلِكَ وَالْمَحْجُورُ سَوَاءٌ لَا يُؤْخَذُ بِبَدَلِ الصُّلْحِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ الْفِدَاءُ فَإِذَا أُعْتِقَ يَرْجِعُ الْفَادِي عَلَيْهِمَا بِمَا فَدَاهُمَا بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِدَاهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِمَا بِقَدْرِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِالْفَضْلِ. لِأَنَّ اعْتِبَارَ أَمْرِهِمَا فِي حَقِّهِمَا كَاعْتِبَارِ أَمْرِ الْمُكَاتَبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَقَدَّرُ بِالْقِيمَةِ وَهَذَا مِثْلُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1630 وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي أَمَرَ هَذَا الْمُسْتَأْمَنَ أَنْ يَفْدِيَهُمَا أَوْ يَشْتَرِيَهُمَا فَقَالَ: اشْتَرِهِمَا أَوْ افْتَدِهِمَا وَلَمْ يَقُلْ: لِي، فَإِنْ افْتَدَاهُمَا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِجَمِيعِ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمَا بَاقِيَانِ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى، وَأَمَرَ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِأَنْ يَفْدِيَ مِلْكَهُ يَكُونُ اسْتِقْرَاضًا مِنْهُ لِلْمَالِ، بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ الْحُرِّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، هَذَا لِأَنَّ الْفِدَاءَ بَعْدَ الْأَسْرِ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَأَمْرُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي حَيَاةِ مُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، سَوَاءٌ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ أَوْ لَمْ يُضِفْ. 3250 - فَإِنْ اخْتَلَفَ الْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَقَالَ الْآمِرُ: أَمَرْتُك أَنْ تَفْدِيَنِي بِكَذَا، وَقَالَ الْمَأْمُورُ بَلْ أَمَرَتْنِي بِكَذَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مَعَ يَمِينِهِ. لِأَنَّ الْآمِرَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَوْ أَنْكَرَهُ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ فِي مِقْدَارٍ دُونَ مِقْدَارٍ. 3251 - وَلَوْ قَالَ الْآمِرُ قَدْ أَمَرْتُك أَنْ تَفْدِيَنِي بِمَا ذَكَرْت، وَلَكِنَّك إنَّمَا فَدَيْتنِي بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ أَيْضًا. لِأَنَّهُ مُسْتَقْرِضٌ لِلْمَالِ مِنْ الْمَأْمُورِ، فَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا أَقْرَضَهُ إيَّاهُ، فَالْمُقْرِضُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْمُسْتَقْرِضُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ. 3252 - وَلَوْ أَنَّ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ الْمَأْسُورِ قَالَ لِرَجُلٍ: اشْتَرِهِ لِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1631 أَوْ افْتَدِهِ لِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ: افْتَدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي فَفَعَلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ بِالْفِدَاءِ عَلَى الْآمِرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ الْمُكَاتَبُ بِشَيْءٍ، وَالْآمِرُ حِينَ أَضَافَ الْعَقْدَ أَوْ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ ضَامِنًا لِذَلِكَ الْمَالِ، بِمَنْزِلَةِ الْفُضُولِيِّ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ، يُجْعَلُ ضَامِنًا لِلْمَالِ فَهَذَا مِثْلُهُ. 3253 - وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِي وَلَكِنْ قَالَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ خَلِيطًا لِلْآمِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَكَذَا الْآمِرُ. لِأَنَّ الْخُلْطَةَ الْقَائِمَةَ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فِي حُصُولِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَاضِ بِهِ. 3254 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا خُلْطَةٌ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ. لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِأَنْ يَكْتَسِبَ سَبَبَ اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا وَلَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. 3255 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَأْسُورُ حُرًّا أَوْ حُرَّةً وَالْآمِرُ زَوْجُهَا أَوْ بَعْضُ قَرَابَتِهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ، فَعِنْدَ إضَافَةِ الْعَقْدِ أَوْ الْمَالِ إلَى نَفْسِهِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمَالِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِضَافَةِ إنْ كَانَ الْمَأْسُورُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1632 خَلِيطًا لَهُ فَكَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا لَهُ فَهُوَ مُشِيرٌ عَلَيْهِ بِمَشُورَةٍ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. 3256 - وَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ صَغِيرًا فَقَالَ أَبُوهُ لِرَجُلٍ: افْتَدِهِ لِي أَوْ مِنْ مَالِي رَجَعَ الْمَأْمُورُ بِالْفِدَاءِ عَلَى هَذَا الْوَالِدِ. لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ. 3257 - ثُمَّ لَا يَرْجِعُ بِهِ الْوَالِدُ فِي مَالِ الْوَلَدِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ لِقِيَامِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا نَظِيرُ الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانُ فِيمَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَهُ امْرَأَةً وَضَمِنَ الصَّدَاقَ وَأَدَّاهُ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى وَلَدِهِ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَرْجِعُ. لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْآبَاءَ بِمِثْلِ هَذَا يَتَبَرَّعُونَ، وَفِي الرُّجُوعِ لَا يَطْمَعُونَ، فَكَذَلِكَ فِي الْفِدَاءِ. 3258 - فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ الْوَالِدُ حَتَّى يَمُوتَ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ بِاعْتِبَارِ ضَمَانِهِ لِذَلِكَ. وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِهِ الْوَرَثَةُ فِي مَالِ الْوَلَدِ عَلَى قِيَاسِ الصَّدَاقِ، إذَا ضَمِنَهُ فَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ فَأَخَذَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ مِنْهُ لِوَلَدِهِ، وَتَمَامُ الصِّلَةِ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَوْ نَفَيْنَا مَعْنَى الصِّلَةِ كَانَ ذَلِكَ وَصِيَّةً، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1633 3259 - وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ حِينَ أَدَّاهُ فِي حَيَاتِهِ أَشْهَدَ أَنَّهُ يُؤَدِّيهِ لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَى ابْنِهِ فَكَذَلِكَ لَهُ فِي الصَّدَاقِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ. 3260 - وَإِنْ كَانَ قَالَ لِلْمَأْمُورِ: افْتَدِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: لِي، فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ خَلِيطًا لَهُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّ الْخُلْطَةَ الْقَائِمَةَ بَيْنَهُمَا دَلِيلُ الِاسْتِقْرَاضِ بِمَنْزِلَةِ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ. 3261 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا لَهُ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لِلَّذِي فَدَى عَلَى الْغُلَامِ بِبَيْعِهِ بِهِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْأَبِ. لِأَنَّ أَمْرَ الْأَبِ جَائِزٌ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَكَذَلِكَ مُبَاشَرَةُ أَمْرِ الْمَأْسُورِ بِنَفْسِهِ لَوْ كَانَ بَالِغًا وَلَا رُجُوعَ عَلَى الْوَالِدِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعَبِّرًا عَنْ الْوَلَدِ لَا ضَامِنًا شَيْئًا حِينَ أَطْلَقَ الْأَمْرَ بِالْفِدَاءِ، وَهُوَ نَظِيرُ النِّكَاحِ إذَا قَبِلَ الْأَبُ الْعَقْدَ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ دُونَ الْأَبِ فَهَذَا قِيَاسُهُ. 3262 - وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَأْمُرَ الْمُسْتَأْمَنَ حَتَّى يَفْدِيَهُ مِنْ الْعَدُوِّ وَقَالَ الْوَكِيلُ لِلْمُسْتَأْمَنِ: افْتَدِهِ لِي مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ قَالَ: مِنْ مَالِي فَفَعَلَ ذَلِكَ، كَانَ الْفِدَاءُ لِلْمَأْمُورِ عَلَى الْوَكِيلِ خَاصَّةً. لِأَنَّهُ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ أَوْ الْمَالِ إلَى نَفْسِهِ صَارَ مُلْتَزِمًا الْمَالَ لِلْمَأْسُورِ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1634 الْمُسْتَقْرِضِ مِنْهُ، فَيَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَأْسُورِ؛ لِأَنَّهُ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةٌ، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ عَلَى الْمَأْسُورِ. 3263 - وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَقُلْ لِي، وَلَكِنَّ الْمَأْمُورَ كَانَ خَلِيطًا لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْخُلْطَةِ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ إضَافَةِ الْعَقْدِ أَوْ الْمَالِ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا خُلْطَةٌ فَلَا شَيْءَ لِلْمَأْمُورِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: افْتَدِهِ فُلَانًا. 3264 - وَالْمُعَبِّرُ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ وَلَكِنَّ الْمَالَ لِلْمَأْمُورِ عَلَى الْمَأْسُورِ. لِأَنَّ عِبَارَةَ وَكِيلِهِ قَائِمَةٌ مَقَامَ عِبَارَتِهِ فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَتَى كَانَ عَاقِدًا بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ الْمَأْسُورُ عَاقِدًا مَعَ الْمَأْمُورِ، مَتَى كَانَ الْوَكِيلُ مُعَبِّرًا كَانَ الْمَأْسُورُ هُوَ الْعَاقِدُ. 3265 - وَإِنَّمَا نَظِيرُهُ الْوَكِيلُ بِالْخُلْعِ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ إذَا ضَمِنَ الْمَالَ، فَإِنَّ رُجُوعَ الزَّوْجِ يَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ خَاصَّةً دُونَ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا لَمْ يَضْمَنْ الْمَالَ كَانَ رُجُوعُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الْوَكِيلِ، لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَأَمَرَ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ أَنْ يَشْتَرِيَهُ أَوْ يَفْتَدِيَهُ مِنْهُمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ عَبْدٌ لِهَذَا الْمُشْتَرِي. لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِالْأَحْرَازِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1635 3266 - وَلَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ هَذَا الرَّجُلُ بِدُونِ مَشُورَةِ الْمَمْلُوكِ، وَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ مَشُورَةِ الْمَمْلُوكِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ اشْتَرِ لِي يُعَدُّ مَشُورَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَاشْتَرَاهُ مِنْ مَوْلَاهُ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ قَبْلَ هَذِهِ الْمَشُورَةِ وَبَعْدَهَا. 3267 - فَإِذَا أَخْرَجَهُ يُخَيَّرُ مَوْلَاهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي لِنَفْسِي مِنْهُمْ أَوْ افْتَدِنِي لِنَفْسِي، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ فَالْعَبْدُ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الْمَأْمُورَ نَائِبًا لِنَفْسِهِ. 3268 - وَلَوْ جَعَلَهُ إنْسَانٌ آخَرُ نَائِبًا لِنَفْسِهِ فِي الشِّرَاءِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِلْمَنُوبِ عَنْهُ وَجَعَلَ الْمَنُوبَ عَنْهُ فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ كَأَنَّهُ بَاشَرَ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ، فَهَا هُنَا يُجْعَلُ الْعَبْدُ فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ كَأَنَّهُ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَيُعْتَقُ ثُمَّ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْفِدَاءِ عَلَى الْعَبْدِ. لِأَنَّ شِرَاءَهُ الْعَبْدَ كَشِرَائِهِ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِأَمْرِهِ، وَهُنَاكَ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ فَهَا هُنَا أَيْضًا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ، وَصَارَ هُوَ كَالْمُسْتَقْرِضِ لِذَلِكَ الْمَالِ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1636 3269 - فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَمْ يُعْتَقْ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ بِالْإِحْرَازِ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِيهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَيْهِ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى مَوْلَاهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَسَوَاءٌ قَالَ: اشْتَرِنِي، أَوْ قَالَ: اشْتَرِنِي لِنَفْسِي إذَا أَخْرَجَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى مَوْلَاهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُتَبَرِّعٌ فِي فِدَاءِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ. 3270 - وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَوْ الْأَمَةُ قَالَ لِلْمَأْمُورِ: اشْتَرِنِي لِنَفْسِي فَاشْتَرَاهُ وَلَمْ يُخْبِرْ أَهْلَ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلَّذِي اشْتَرَاهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ مُشْتَرِيًا لِلْعَبْدِ حِينَ لَمْ يُخْبِرْ مَالِكَهُ بِهِ فَإِنَّ بِشِرَائِهِ لِلْعَبْدِ يَكُونُ اسْتِحْقَاقُ الْوَلَاءِ لِلْمَوْلَى يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالنَّسَبِ، وَشِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ تَمَلُّكًا فَإِذَا لَمْ يُخْبِرْ مَالِكَهُ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَالِكِ الرِّضَاءُ بِعِتْقِهِ عَلَيْهِ، وَلُزُومُ الْوَلَاءِ إيَّاهُ، وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ الْوَلَاءِ أَحَدًا بِغَيْرِ رِضَاهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْبَرَ مَوْلَاهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ. 3271 - وَلَوْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لَهُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي. لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالشِّرَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الشِّرَاءِ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1637 كَمَا لَوْ كَانَ الْآمِرُ غَيْرَهُ، فَإِذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَارَ مُخَالِفًا لَهُ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ. 3272 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ قَالَ لَهُ: اشْتَرِنِي لِنَفْسِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: بِيعُونِيهِ لِنَفْسِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفَعَلُوا عَتَقَ الْعَبْدُ. لِأَنَّ هَذَا إعْتَاقٌ يُجْعَلُ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِهِ، فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى قَبُولِهِ ثَانِيًا، وَلَكِنَّهُ يُعْتَقُ وَوَلَاؤُهُ لِبَائِعِهِ. 3273 - وَلَوْ قَالَ: بِعْنِيهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَقُلْ لِنَفْسِهِ، كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي يَأْخُذُهُ مَوْلَاهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَمْ يَلْتَزِمْ وَلَاءَهُ حِينَ لَمْ يُخْبِرْهُ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لَهُ. 3274 - وَلَوْ قَالَ: بِعْنِيهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِنَفْسِهِ، فَبَاعَهُ الْحَرْبِيُّ مِنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ، وَبَعْدَ الْقَبُولِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ. لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ. 3275 - وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِنِي لِنَفْسِي بِمَا شِئْت فَاشْتَرَاهُ وَبَيَّنَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ عَتَقَ الْعَبْدُ بِأَيِّ ثَمَنٍ اشْتَرَاهُ. لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى الْوَكِيلِ أَمْرًا عَامًّا فَيَكُونُ هُوَ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ، فَيَرْجِعُ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ مِنْ الْفِدَاءِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1638 فَإِنْ اخْتَلَفَا فِيمَا فَدَاهُ بِهِ فَقَالَ الْعَبْدُ: فَدَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَقَالَ الْمَأْمُورُ: فَدَيْته بِأَلْفَيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ. لِأَنَّ الْمَأْمُورَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ زِيَادَةَ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. 3277 - وَعَلَى الْمُدَّعِي لِلزِّيَادَةِ الْبَيِّنَةُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَا يُصَارُ إلَى التَّحَالُفِ بَيْنَهُمَا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اخْتَلَفَ الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ فِي الثَّمَنِ؟ قُلْنَا: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ عَتَقَ، وَمَنْ أَصْلُهُ أَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى التَّحَالُفِ بَعْدَ تَغَيُّرِ السِّلْعَةِ وَلَكِنَّهُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّحَالُفِ بَعْدَ تَغَيُّرِ السِّلْعَةِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُ فِيهِ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى الْقِيمَةِ، وَهَا هُنَا لَا وَجْهَ لِذَلِكَ، لِأَنَّ بِالْعِتْقِ لَا يُسَلَّمُ لِلْعَبْدِ مَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ حَتَّى يُقَالَ: تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْآجِرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ يَخْتَلِفَانِ فِي مِقْدَارِ الْأَجْرِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَهُنَاكَ لَا يُصَارُ إلَى التَّحَالُفِ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ لِلزِّيَادَةِ مَعَ يَمِينِهِ. 3278 - وَلَوْ لَمْ يَقُلْ الْمَأْمُورُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ: إنِّي اشْتَرَيْته لِنَفْسِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ إذَا اشْتَرَاهُ. لِأَنَّ بَائِعَهُ مَا رَضِيَ بِعِتْقِهِ عَلَيْهِ وَثُبُوتُ وِلَايَتِهِ لَهُ. 3279 - فَإِذَا أَخْرَجَهُ كَانَ لِلْمَأْمُورِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ شَاءَ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1639 يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْعَقْدِ، بِأَنْ قَالَ مَوْلَاهُ: وَهَبَهُ لَك أَهْلُ الْحَرْبِ فَأَنَا آخُذُهُ بِقِيمَتِهِ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْته مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَفِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ. 3280 - وَلَوْ كَانَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ قَالَ لِلْمُسْتَأْمَنِ: اشْتَرِهِ لِي مِنْهُمْ أَوْ اشْتَرِهِ مِنْ مَالِي فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِقِيمَتِهِ فَالْعَبْدُ لِلْآمِرِ. لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِالْإِحْرَازِ فَكَانَ أَمْرُ الْمُوَلَّى الْقَدِيمِ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ لَهُ وَأَمْرُ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ سَوَاءً. 3281 - وَإِذَا اشْتَرَاهُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ كَانَ مُخَالِفًا مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ الْقَدِيمِ الْخِيَارُ. إنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنْهُ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ. 3282 - وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِهِ وَلَمْ يَقُلْ: لِي وَلَا مِنْ مَالِي، فَهَذِهِ مَشُورَةٌ أَشَارَ بِهَا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمُخَاطَبُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفَاتُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ قَبْلَ هَذِهِ الْمَشُورَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1640 وَهُوَ نَظِيرُ رَجُلٍ قَالَ لِغَيْرِهِ: اشْتَرِ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَقُلْ: لِي، وَلَا مِنْ مَالِي، فَإِنَّ ذَلِكَ مَشُورَةٌ لَا تَوْكِيلٌ. بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اشْتَرِهِ لِي بِمَا شِئْت فَقَدْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ عَامًّا فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لَهُ بِأَيِّ ثَمَنٍ كَانَ. 3283 - فَإِنْ اخْتَلَفَ الْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَعَ الْمُوَكِّلِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي فِي حُكْمِ التَّحَالُفِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ الْآمِرُ عَلَى الْعِلْمِ. لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ. وَيَبْدَأُ بِالْيَمِينِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي، وَالْبِدَايَةُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. 3284 - فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ. فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَأْمُورِ. لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الزِّيَادُ بِبَيِّنَةٍ. 3285 - وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ اخْتِلَافِهِمَا فَهُوَ حُرٌّ. لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَهُ ثُمَّ إذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَحَالَفَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، يَخْتَلِفَانِ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ تُغَيِّرْ السِّلْعَةِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَقْدُ الْفَسْخَ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1641 وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ حُرًّا أَوْ مُكَاتَبًا فَأَمَرَ رَجُلًا يَشْتَرِيهِمَا فَاشْتَرَاهُمَا مَعًا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ الْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، يُقْسَمُ عَلَى الدِّيَةِ وَعَلَى قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ. لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَابِ الْحُرِّ فِي الْفِدَاءِ دِيَتُهُ، وَفِي الْمُكَاتَبِ قِيمَتُهُ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ أَنَّهُ إذَا اُشْتُرِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ الْقَدْرِ أَوْ أَقَلَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَإِذَا أَضَافَ الْفِدَاءَ إلَيْهِمَا مُطْلَقًا يَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا، بِاعْتِبَارِ بَدَلِ نَفْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ افْتَدَاهُمَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْمُكَاتَبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَدْ فَدَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ بَدَلِ نَفْسِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِقَدْرِ بَدَلِ نَفْسِهِ، فَيَرْجِعُ عَلَى الْحُرِّ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى الْمُكَاتَبِ بِقِيمَتِهِ، وَزِيَادَةٍ بِقَدْرِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ طَرِيقَ الْقِيمَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ يَكُونُ عَفْوًا، وَإِنْ كَانَا قَالَا لَهُ: افْتَدِنَا بِمَا شِئْت فَفَدَاهُمَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا قَسَمَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا بِاعْتِبَارِ مِقْدَارِ الدِّيَةِ، وَقِيمَةُ الْمُكَاتَبِ إنْ كَانَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَإِنْ كَانَتْ أَلْفَيْنِ، قَسَمَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَسْدَاسًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ أَلْفَيْنِ بَيْنَهُمَا، فَمَا أَصَابَ الْحُرَّ رَجَعَ الْمَأْمُورُ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَا أَصَابَ الْمُكَاتَبَ وَهُوَ السُّدُسُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْكِتَابَةِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي مُكَاتَبَتِهِ بِمِقْدَارِ قِيمَتِهِ وَزِيَادَةِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. لِأَنَّهُ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ مُتَبَرِّعٌ، بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِهِ بِالْكَفَالَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1642 3287 - فَإِنْ قَالَا جَمِيعًا لِلَّذِي فَدَاهُمَا حِينَ أَخْرَجَهُمَا مَا فَدَيْتنَا بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُمْ وَهَبُونَا أَوْ أُخْرِجْنَا بِغَيْرِ عِلْمِهِمْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ يَمِينِهِمَا عَلَى عِلْمِهِمَا. لِأَنَّ الْمَأْمُورَ يَدَّعِي عَلَيْهِمَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمَا لِنَفْسِهِ، بِسَبَبٍ هُمَا يُنْكِرَانِ ذَلِكَ السَّبَبَ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَحْلَفَانِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، فَإِنْ حَلَفَ الْحُرُّ وَنَكَلَ الْمُكَاتَبُ أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ فَدَاهُ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ حِصَّتُهُ مِنْ الْفِدَاءِ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارَ قِيمَتِهِ يُؤْخَذُ بِهِ فِي مُكَاتَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْفَضْلِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقْضَى عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، فَيَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ إنْ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى صَدَّقَ الْفَادِيَ بِيعَ لَهُ الْمُكَاتَبُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مَوْلَاهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ بَطَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَجْزِ إنْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ أَدَّى بَعْضَهُ جَازَ مَا أَدَّى وَبَطَلَ مَا بَقِيَ حَتَّى لَا يَأْخُذَ دَيْنًا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِسَبَبٍ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ فَلَا يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ مَا لَمْ يُعْتَقْ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ بِجِنَايَةِ خَطَأٍ عَلَى نَفْسِهِ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، ثُمَّ عَجَزَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فَصَالَحَ عَنْهُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ عَجَزَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يَعْتِقُ فِي قَوْلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1643 3288 - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَاكَ يُبَاعُ فِيمَا تَوَجَّهَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْعَجْزِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا يُبَاعُ فِي الْفِدَاءِ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ، وَلَوْ كَانَ مَوْلَى الْمُدَبَّرِ وَأُمُّ الْوَلَدِ أَمَرَ الْمُسْتَأْمَنَ بِفِدَائِهِمَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ فِيمَا فَدَاهُمَا بِهِ أَوْ فِي أَصْلِ الْفِدَاءِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ وَعَلَى الْمَأْمُورِ الْبَيِّنَةُ. لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ مَا مَلَكُوهُمَا بِالْإِحْرَازِ، فَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ فِي الدَّيْنِ الْوَاجِبِ لِلْمَأْمُورِ عَلَى الْآمِرِ إمَّا فِي أَصْلِ سَبَبِهِ أَوْ فِي مِقْدَارِهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَهُنَالِكَ قَدْ أَحْرَزَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ إلَى مِلْكِ الْمَوْلَى بِالْعَقْدِ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي بَاشَرَهَا الْمَأْمُورُ، فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْعَقْدِ، أَوْ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّحَالُفِ. 3289 - وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ عَبْدًا فَقَالَ أَجْنَبِيٌّ لِلْمُسْتَأْمَنِ: اشْتَرِهِ لِي مِنْهُمْ أَوْ اشْتَرِهِ لِي مِنْ مَالِي فَالْعَبْدُ لِلْآمِرِ. لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ مَلَكُوهُ فَهَذَا رَجُلٌ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا مِنْ مَوْلَاهُ، وَقَدْ اشْتَرَاهُ لَهُ، فَكَانَ مُطَالَبًا بِالثَّمَنِ مِنْ جِهَتِهِ، وَيُجْعَلُ هُوَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ، فَإِنْ وَجَدَهُ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ فِي يَدِ الْمَأْمُورِ كَانَ هُوَ خَصْمًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْآمِرُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ قَدْ ثَبَتَ لَهُ بِعَقْدِ الْمَأْمُورِ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ حُضُورِ الْآمِرِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ فَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ قَالَ لِلْمُسْتَأْمَنِ: اشْتَرِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ مَشُورَةٌ وَأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، فَلِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِهِ بِالثَّمَنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1644 3290 - وَلَوْ قَالَ لَهُ: اشْتَرِهِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا فَهُوَ لِلْآمِرِ. لِأَنَّ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَى مَالِ نَفْسِهِ بِالْإِشَارَةِ كَإِضَافَتِهِ إلَى مَالِ نَفْسِهِ بِالْكِتَابَةِ بِأَنْ قَالَ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي، وَإِضَافَتُهُ إلَى مَالِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ إضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ شِرَاؤُهُ لِلْآمِرِ وَأَدَّى الْقِيمَةَ - مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَبْسِ أَوْ بَعْدَ الْحَبْسِ، فَحَالُهُ كَحَالِ الْوَكِيلِ، بَلْ هُوَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ. 3291 - وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ، وَاكْتَسَبَ عِنْدَهُمْ مَالًا ثُمَّ خَرَجَ بِمَالِهِ إلَى دَارِنَا مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ وَمَا مَعَهُ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى مَالِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَعْتِقُ هَذَا الْعَبْدُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَأْسُورِ مِنْهُ، فَقَدْ كَانَ لَهُ حَقُّ إعَادَتِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ مَتَى وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَارِجًا مِنْ مِلْكِ الْأَسِيرِ بِخِلَافِ عَبْدِ الْحَرْبِيِّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ مُسْلِمًا فَهُنَاكَ لَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِ الْحَرْبِيِّ، وَحَقُّهُ فِيهِ غَيْرُ مَرْعِيٍّ بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى دَارِنَا، وَهَا هُنَا فِيهِ حَقُّ الْمَأْسُورِ مِنْهُ، وَحَقُّهُ مَرْعِيٌّ، فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ وَلَكِنْ يَأْخُذُهُ مَوْلَاهُ بِغَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1645 شَيْءٍ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَأَمَّا مَالُهُ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ اكْتَسَبَهُ عَلَى مِلْكِهِ وَإِنَّمَا اكْتَسَبَهُ عَلَى مِلْكِ الْحَرْبِيِّ، وَمَالُ الْحَرْبِيِّ مَتَى وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا أَمَانَ لَهُ فَهُوَ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَنَفْسِ الْحَرْبِيِّ، وَأَمَّا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْمَالُ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُخَمَّسُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْخَمْسِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَفْسِ الْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ فَكَذَلِكَ فِي مَالِهِ، وَالْبَاقِي لِلْآخِذِ يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ الْمَوْلَى الْقَدِيمُ فَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، هَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ، كَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَبْدُ لَهُ وَلَا خَمْسَ فِيهِ. لِأَنَّهُ أَعَادَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَمَالُهُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمَالِ هُوَ كَغَيْرِهِ فِي الْأَخْذِ. 3292 - وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ جَاءَ بِذَلِكَ الْمَالِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ يَتَّجِرُ بِهِ لِمَوْلَاهُ الْحَرْبِيِّ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ عَلَيْهِ. لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِأَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ الْعَبْدُ. 3293 - وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يَبِيعُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَيَتَعَذَّرُ تَمْكِينُهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، لِيَسْتَدِيمَ الْحَرْبِيُّ مِلْكَهُ فِيهِ فَيَبِيعَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1646 الْإِمَامُ وَيَقِفَ ثَمَنَهُ مَعَ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ لِمَوْلَاهُ الْحَرْبِيِّ لِيَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ. لِأَنَّهُ حُكْمُ الْأَمَانِ قَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْمَالِ لِلْحَرْبِيِّ. 3294 - فَإِنْ أَرَادَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ حِينَ بَاعَهُ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي دَارِنَا، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ فِي أَخْذِهِ، فَلَا يَثْبُتُ حَقُّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ، أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ. 3295 - فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُدَبَّرًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فِي الْوَجْهَيْنِ، إنْ جَاءَ مُرَاغِمًا أَوْ بِأَمَانٍ، فَهُوَ وَمَالُهُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ كُلَّهُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَأْسُورِ مِنْهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ بِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا اكْتَسَبَ الْمَالَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَالْكَسْبُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَلِهَذَا قُلْنَا: بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَرْدُودٌ عَلَى مَوْلَاهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. 3296 - فَإِنْ كَانَ كَسْبُهُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ وَهَبُوهُ لَهُ فَلَا خُمْسَ فِيهِ. لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي يَدِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ. 3297 - وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ خُمِّسَ ذَلِكَ الْمَالُ. لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1647 3298 - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي الْحُرِّ الْمَأْسُورِ إذَا خَرَجَ بِمَالٍ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْخُمْسِ لِلْأَسِيرِ وَهَا هُنَا لِمَوْلَاهُ. لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ. 3299 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَمَةً مَأْسُورَةً وَلَدَتْ أَوْلَادًا مِنْ فُجُورٍ أَوْ زَوْجٍ حَرْبِيٍّ ثُمَّ خَرَجَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا مُرَاغِمَيْنِ لِمَوْلَاهُمْ الْحَرْبِيِّ، أَوْ خَرَجَتْ هِيَ مُرَاغِمَةً، وَمَعَهَا ابْنٌ لَهَا صَغِيرٌ، فَأَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ، فَهِيَ فَيْءٌ وَأَوْلَادُهَا، فَإِنْ أَصَابَهَا مَوْلَاهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهَا وَأَخَذَ أَوْلَادَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، أَوْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِقِيمَتِهِمْ يَوْمَ وَقَعُوا فِي سَهْمِ الَّذِينَ صَارُوا لَهُ. لِأَنَّ وَلَدَهَا جُزْءٌ مِنْهَا، وَالْحَقُّ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ فِيهَا يَثْبُتُ فِي أَوْلَادِهَا بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ، ثُمَّ قِيَامُ حَقِّهِ فِيهِمْ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَى وَجْهِ الْمُرَاغَمَةِ، بِخِلَافِ الْكَسْبِ فَهُوَ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ عَيْنِهَا، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ، بَلْ هُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. 3300 - وَلَوْ كَانَتْ هِيَ دَخَلَتْ وَأَوْلَادُهَا بِأَمَانٍ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَوْلَادِهَا صِغَارًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا وَلَكِنْ يَبِيعُهُمْ الْإِمَامُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1648 لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهَا فَيَبِيعُهُمْ، وَيَقِفُ ثَمَنَهُمْ حَتَّى يَقْدَمَ الْحَرْبِيُّ فَيَأْخُذَهَا بِاعْتِبَارِ الْأَمَانِ. 3301 - وَلَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ رُدُّوا جَمِيعًا عَلَيْهِ. لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِالْأَسْرِ، وَأَوْلَادُهَا بِمَنْزِلَتِهَا، لَا يَمْلِكُهُمْ الْحَرْبِيُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ فَلِهَذَا رُدُّوا عَلَى الْمَوْلَى، سَوَاءٌ خَرَجُوا مُرَاغِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُرَاغِمِينَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُسَدِّدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1649 [بَابُ الْمُفَادَاةِ بِالْأُسَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ] 3302 - قَالَ: وَإِذَا رَغِبَ أَهْلُ الْحَرْبِ فِي مُفَادَاةِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِالْمَالِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُفَادُوهُمْ بِالْأُسَرَاءِ، وَلَا بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ. لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُمْ فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ دُونَ مَنْفَعَتِهِمْ فِي رَدِّ الْمُقَاتِلَةِ أَوْ دَفْعِ آلَةِ الْقِتَالِ إلَيْهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ حَمْلَ الْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ لِلتِّجَارَةِ جَائِزٌ، وَحَمْلَ السَّبْيِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ إلَيْهِمْ لِلتِّجَارَةِ حَرَامٌ. 3303 - وَإِنْ كَرِهُوا الْمُفَادَاةَ بِالْمَالِ وَرَغِبُوا فِيهِ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُفَادُوهُمْ بِالْأُسَرَاءِ. لِأَنَّ حُكْمَ دَفْعِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ إلَيْهِمْ أَهْوَنُ مِنْ حُكْمِ رَدِّ الْمُقَاتِلَةِ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ إذَا تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ إتْلَافُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَيْهِمْ. 3304 - فَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأُسَرَاءِ. وَلَوْ رَغِبُوا فِي الْمُفَادَاةِ بِمَالٍ عَظِيمٍ فِيهِ إجْحَافٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1650 بِالْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُفَادَاتُهُمْ بِالْأُسَرَاءِ دُونَ الْمَالِ. لِأَنَّ هَذِهِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ تَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأُسَرَاءِ مِنْهُمْ بِالْمَالِ عَلَى رِوَايَةِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ تَحْصِيلُ مَنْفَعَةِ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَأَنْ يَجُوزَ مُفَادَاةُ الْأُسَرَاءِ بِالْأُسَرَاءِ لِإِبْقَاءِ الْمَالِ الَّذِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ أَوْلَى 3305 - وَلَوْ أَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ اسْتَأْمَنُوا إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْفِدَاءِ فَقَالُوا: آمِنُونَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَمَا جِئْنَا بِهِ مِنْ الْأُسَرَاءِ، فَفَعَلَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ الصُّلْحُ وَالْمُفَادَاةُ فَأَرَادُوا الرُّجُوعَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى دَارِهِمْ بِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِيمَا إذَا اسْتَأْمَنُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْمَنُوا إلَى الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ الْأَحْرَارُ وَالْحَرَائِرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ مَجَّانًا شَاءُوا أَوْ أَبَوْا. لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي حَبْسِ الْأَحْرَارِ. 3306 - وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَمْلِكُوهُ بِالْأَسْرِ وَالْإِحْرَازِ فَأَمَّا مَنْ مَلَكُوهُ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فَإِنَّا نَأْخُذُهُمْ مِنْهُمْ وَنُعْطِيهِمْ قِيمَتَهُمْ. لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُمْ بِالْإِحْرَازِ، وَقَدْ أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَلِلْوَفَاءِ بِالْأَمَانِ يُعْطَوْنَ قِيمَتَهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ مِنْهُمْ، لِتَعَذُّرِ تَرْكِهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا بِالْمُسْلِمِينَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَسْتَخِفُّوا بِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1651 3307 - ثُمَّ إذَا أَخْرَجَهُمْ الْعَسْكَرُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ شَاءَ مَوَالِيهِمْ أَخَذُوهُمْ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ. لِأَنَّ سَلَامَتَهُمْ لِلْجَيْشِ كَانَ بِمَا أَدَّوْا مِنْ الْقِيمَةِ. 3308 - بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذُوهُمْ قَهْرًا بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَإِنَّ هُنَاكَ لِلْمَوَالِي حَقُّ الْأَخْذِ مَجَّانًا، قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْمَنُوا إلَى دَارِنَا وَمَعَهُمْ الْعَبِيدُ فَأُجْبِرُوا عَلَى بَيْعِهِمْ فَبَاعُوهُمْ ثُمَّ حَضَرَ الْمَوَالِي. لِأَنَّ هُنَاكَ حَصَّلُوا فِي دَارِنَا وَلَيْسَ لِلْمَوَالِي حَقُّ الْأَخْذِ فِيهِمْ، فَبِالِانْتِقَالِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْأَخْذِ، وَهَا هُنَا مَا حَصَّلُوا فِي دَارِنَا إلَّا وَحَقُّ الْأَخْذِ لِلْمَوَالِي ثَابِتٌ، فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَاهُمْ وَأَخْرَجَهُمْ سَوَاءٌ. 3309 - وَإِنْ خَرَجُوا إلَى الْعَسْكَرِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ الْأُسَرَاءُ وَقَدْ كَانُوا خَبَّئُوهُمْ فِي مَوْضِعٍ إلَّا أَنَّهُمْ حَيْثُ لَا يَكُونُونَ مُمْتَنِعِينَ مِنَّا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ وَيُعْطَوْنَ قِيمَتَهُمْ. لِأَنَّهُمْ مَا لَمْ يَصِلُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ فَهُمْ فِي أَمَانِنَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَخْذَ مِلْكِهِمْ مِنْهُمْ مَجَّانًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1652 3310 - وَإِنْ كَانُوا خَبَّئُوهُمْ فِي مَأْمَنِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَبَعَثْنَا سَرِيَّةً فَأَصَابَتْهُمْ فَلَا سَبِيلَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَيْهِمْ فِي طَلَبِ الْعَيْنِ وَلَا الْقِيمَةِ. لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْأَمَانِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ ثُمَّ أَصَبْنَا مَا أَصَبْنَا مِنْ قَوْمٍ هُمْ حَرْبٌ لَنَا فَكَانَ هَذَا وَمَا قَبْلَ مَجِيئِهِمْ بِأَمَانٍ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ. 3311 - وَإِذَا خَرَجَتْ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَخَذَهُمْ الْمَوَالِي قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا. وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى الْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ ثُمَّ أَصَابَهُمْ سَرِيَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي خَبَّئُوهُمْ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ بِالْقُرْبِ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ مَنَعَةٌ فَعَلَى الْأَمِيرِ أَنْ يَفِيَ لَهُمْ بِالصُّلْحِ، وَيُعْطِيَهُمْ الْمَالَ، وَإِنْ كَانُوا أَصَابُوهُمْ فِي مَنَعَتِهِمْ فَقَدْ انْتَقَضَ الصُّلْحُ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْطُوهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ. لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ تَنَاوَلَ مَا فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَالُهُمْ إذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْ الْعَسْكَرِ كَحَالِهِمْ إذَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَحَالُهُمْ إذَا كَانُوا فِي مَنَعَتِهِمْ كَحَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِنُوا، فَإِذَا حَصَلَ مَقْصُودُ الْمُسْلِمِينَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ الْمُبَاحِ قُلْنَا: لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1653 الْمَالِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا سَلَّمُوا لَنَا بِحُكْمِ الصُّلْحِ شَيْئًا، وَلَكِنْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَيُنْتَقَضُ الصُّلْحُ. 3312 - وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الَّذِينَ أَخَذُوهُمْ فِي غَيْرِ مَنَعَةِ كَانُوا مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ جَاءُوا لِلْمُفَادَاةِ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا وَقَالَ أَهْلُ الْحَرْبِ: نَحْنُ جِئْنَا بِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَمْرًا خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَيَدَّعُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَالِ إلَيْهِمْ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إلَّا بِحُجَّةٍ. 3313 - فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ، وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَالِ إلَيْهِمْ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ مِنْ الْأُسَرَاءِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا. لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ. 3314 - وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْأُسَرَاءِ: كُنَّا مَعَهُمْ، وَهُمْ جَاءُوا بِنَا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْفِدَاءِ. لِأَنَّ الَّذِينَ أَقَرُّوا مِنْ الْأُسَرَاءِ يَلْتَزِمُونَ بِإِقْرَارِهِمْ الْأَمِيرَ وَالْمُسْلِمِينَ تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَيْهِمْ، وَإِقْرَارُ الْمَرْءِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ. 3315 - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إقْرَارُ مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ جَائِزٌ عَلَى نَفْسِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1654 وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَيَدْفَعُ لَهُمْ حِصَّةَ الْمُقِرِّينَ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مِنْ الْمَالِ اعْتِبَارًا لِإِقْرَارِ بَعْضِهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ جَمِيعًا بِذَلِكَ. وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ، فَقَدْ خَرَجُوا مِنْ الْأَسْرِ سَوَاءٌ جَاءُوا مَعَهُمْ أَوْ جَاءُوا دُونَهُمْ، ثُمَّ هُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَيْدِيهِمْ، وَالْإِقْرَارُ بِالْيَدِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ، ثُمَّ إقْرَارُ مَجْهُولِ الْحَالِ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ، فَكَذَلِكَ إقْرَارُ مَجْهُولِ الْحَالِ فِي حَقِّ الْيَدِ بِالْيَدِ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ صَحِيحًا. 3316 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهِمْ صِغَارٌ يُعَبِّرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ آبَاؤُهُمْ فَإِنَّ إقْرَارَ هَؤُلَاءِ بِالرِّقِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ يَصِحُّ، فَكَذَلِكَ بِالْيَدِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ فَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ أَبَوَاهُ. لِأَنَّهُ فِي يَدِ أَبَوَيْهِ إذَا كَانَا مَعَهُ، وَلَا قَوْلَ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْيَدِ عَلَى نَفْسِهِ لِلْمُسْتَأْمَنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. 3317 - وَإِنْ أَقَرَّ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ هُمْ جَاءُوا بِهِمْ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ الرِّجَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِيئُوا بِهِمْ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِهِمْ جَمِيعًا قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَالشَّهَادَةُ أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِهَا. لِأَنَّهَا حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَحُجَّةُ الْإِقْرَارِ لَا تَعْدُو الْمُقِرَّ، وَلِأَنَّهُ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُقِرِّينَ، وَإِذَا قَضَى بِذَلِكَ فَقَدْ صَارَ الْمُقِرُّ مُكَذَّبًا فِي إقْرَارِهِ حُكْمًا، وَبَعْدَ مَا صَارَ مُكَذَّبًا لَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ وُجُوبِ تَسْلِيمِ فِدَائِهِ عَلَى غَيْرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1655 وَلَوْ جَاءَ بِهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ سِوَى الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَى الْفِدَاءِ فَلَمَّا أَصَابَهُمْ الْمُسْلِمُونَ قَالُوا: قَدْ كُنَّا مَعَ أَصْحَابِ الْفِدَاءِ، وَهُمْ حَلَّفُونَا لِحِفْظِهِمْ لَمْ يَصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَمْرًا خِلَافَ مَا يَشْهَدُ بِهِ الظَّاهِرُ، يُرِيدُونَ أَنْ يُلْزِمُوا الْمُسْلِمِينَ تَسْلِيمَ الْفِدَاءِ إلَيْهِمْ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلِلْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابُوا مِنْهُمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ. 3318 - وَلَوْ بَعَثَ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى الْمُسْلِمِينَ إنَّا نُرِيدُ أَنْ نُفَادِيَكُمْ بِنَاسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانُ بِالصِّبْيَانِ، فَرَضِيَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءُوا بِالْأُسَرَاءِ مِمَّنْ لَمْ يَمْلِكُوهُمْ فَأَرَادَ الْأَمِيرُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَلَا يُعْطِيهِمْ فِدَاءَهُمْ فَهَذَا وَاسِعٌ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ. لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَمْلِكُوهُمْ، وَهُمْ ظَالِمُونَ فِي حَبْسِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إعْطَاءَ الْأَمَانِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَى الظُّلْمِ لَا يَجُوزُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً أَخَذُوا مِنْهُمْ شَاءُوا أَوْ أَبَوْا فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْمَنُوا عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْأَمَانِ لَا تَكُونُ أَوْجَبَ مِنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَقْدِ الذِّمَّةِ. 3319 - وَإِنْ كَانُوا فَادُوهُمْ بِمَالٍ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُمْ الْوَفَاءُ بِمَا عَامَلُوهُمْ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يُنْسَبُوا إلَى الْغَدْرِ وَلِيَطْمَئِنُّوا إلَيْهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بِخِلَافِ الْأُسَارَى أَوْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ إذَا وَقَعَتْ الْمُفَادَاةُ بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1656 لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ رَدِّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَاجِبٌ شَرْعًا وَلِلِاسْتِحْبَابِ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ، فَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ شَرْعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ هَذَا الْمَالِ إلَيْهِمْ فَلِاسْتِحْبَابِ الْوَفَاءِ بِمَا وَقَعَ الصُّلْحُ بِهِ عَلَيْهِ قُلْنَا يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ الْمَالُ إلَيْهِمْ. 3320 - غَيْرَ أَنَّ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالرُّءُوسِ إنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ فِيهِ مَا شَرَطَهُ لَهُمْ فَعَلَ ذَلِكَ، كَرَاهَةَ أَنْ يُنْسَبُوا إلَى الْغَدْرِ أَوْ يَحْذَرُوا الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ الْإِمَامُ لَهُمْ بِمَا صَالَحَهُمْ مِنْ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَطْمَئِنُّوا إلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. قُلْنَا: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَطْمَئِنُّوا إلَيْهِ فَذَلِكَ لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا. لِأَنَّ أَشَدَّ مَا بِحَضْرَتِهِمْ أَلَّا يَأْتُوا بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَذَا حَتَّى يَأْخُذُوا فِدَاءَهُمْ، وَبِهَذَا الْمَوْهُومِ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ رَدُّ الْمُقَاتِلَةِ أَوْ آلَةِ الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 3321 - وَلَوْ كَانُوا جَاءُوا بِعَبِيدٍ وَإِمَاءٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ مِنْهُمْ إذَا ظَفِرَ بِهِمْ لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْطِيهِمْ الْفِدَاءَ مِنْ الْأُسَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَلَكِنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ مَا كَانَ شَرَطَهُ لَهُمْ فَيُعْطِيهِمْ ذَلِكَ، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1657 لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ قَدْ مَلَكُوهُمْ حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً كَانَ سَالِمًا لَهُمْ، فَلَا يَكُونُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ مِنْهُمْ مَجَّانًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. 3322 - فَإِنْ كَانُوا فَادُوهُمْ بِالْمَالِ سُلِّمَ الْمَالُ إلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لِلْمَوَالِي عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ. لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوَالِي فِي أَخْذِهِمْ، فَلَا يَثْبُتُ حَقُّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. 3323 - وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ الْمُسْلِمُونَ بِأُسَرَائِهِمْ مِنْ الْأَحْرَارِ حَتَّى فَادُوهُمْ بِأَعْدَادِهِمْ مِنْ أُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ أُسَرَاءَهُمْ وَأَعْطَوْا الْمُسْلِمِينَ أُسَرَاءَهُمْ فَلَا سَبِيلَ عَلَى أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا فَدَوْا بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ أَوْ مُدَبَّرُونَ رَدُّوا إلَى مَوَالِيهِمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا هُمْ أَمَرُوا بِالْمُفَادَاةِ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِقِيمَةِ الْأُسَرَاءِ الَّذِينَ فَادُوهُمْ بِهِمْ، وَبِقِيمَةِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ. لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَعْطَوْهُ فِي الْفِدَاءِ لِمَنْفَعَةٍ رَجَعَتْ إلَى الْمَأْسُورِينَ. 3324 - فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَوَالِي مِنْ الْمَمْلُوكِينَ مِنْهُمْ فَهُمْ مُتَبَرِّعُونَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْمَوَالِي يَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1658 لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ حِينَ أَمَرُوهُمْ بِالْمُفَادَاةِ بِهِمْ. 3325 - وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا وَكَانَتْ الْمُفَادَاةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَوَالِي فَلَا سَبِيلَ لِلْمَوَالِي عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ صَارَ كَالْمُشْتَرِي لَهُمْ مِنْ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِمْ بِمَا فَادَاهُمْ بِهِ. 3326 - وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْمَوَالِي رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِقِيمَةِ ذَلِكَ شَاءُوا أَوْ أَبَوْا. لِأَنَّهُ صَارَ كَالنَّائِبِ عَنْهُمْ فِي شِرَائِهِمْ بِمَا فَادَاهُمْ بِهِ، ثُمَّ زَادَ فِي التَّفْرِيعِ فَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَأْسُورِينَ إذَا فَادَاهُ الْأَمِيرُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِيمَا إذَا فَادَاهُ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ إذَا فَادَاهُ إمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. 3327 - فَإِنْ كَانَ فِي الْأُسَرَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّمَا يُفَادِي بِهِ الْأُسَرَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ. 3328 - إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا مُقَاتِلًا لَهُ جَزَاءً وَغِنَاءً، أَوْ كَانَ دَلِيلًا فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ، يَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُفَادِيَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1659 لِأَنَّ فِي تَخْلِيصِهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ. 3329 - وَكَذَلِكَ إنْ رَأَى أَنْ يُفَادِيَهُ بِأَسِيرٍ قَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ وَيُعَوِّضُهُ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ 3330 - وَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مُفَادَاتُهُ بِمَالٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إجْحَافٌ بِالْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِجْحَافِ بِهِمْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ. أَرَأَيْت لَوْ طَلَبُوا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ فِي فِدَاءِ أَسِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَكَانَ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ؟ هَذَا مِمَّا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، فَإِنْ طَلَبُوا فِدَاءَهُ بِأَسِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ، وَكَرِهَ ذَلِكَ الرَّجُلُ دَفْعَهُ فِي الْفِدَاءِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ مِنْهُ شَاءَ أَوْ أَبَى وَيُعَوِّضُهُ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْأَسْرِ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَالْإِمْكَانِ فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ نَابَ الْأَمِيرُ مَقَامَهُ وَعَوَّضَهُ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَحَقَّ سَهْمَهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَوَازِ الْمُفَادَاةِ بِالْأُسَرَاءِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. 3331 - وَلَوْ قَالَ أَهْلُ الْحَرْبِ نُعْطِيكُمْ أَسِيرًا بِأَسِيرَيْنِ أَوْ بِثَلَاثَةٍ مِنْ أُسَرَائِنَا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ رَأَى الْمَنْفَعَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1660 ظَاهِرَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ مُبَارِزًا لَهُ جَزَاءً وَغِنَاءً فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ فِيهِ بَعْضُ جُرْأَتِهِمْ وَتَحَكُّمِهِمْ عَلَيْنَا لَمْ يُجِبْهُمْ إلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُ نُصِبَ نَاظِرًا فَلَا يَدْعُ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَفْعَلُهُ لَهُمْ بِحَالٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا بِأَسِيرٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِائَةً مِنْ أُسَرَائِهِمْ - لَمْ يُجِبْهُمْ إلَى ذَلِكَ. فَهَذَا مِثْلُهُ. 3332 - وَلَوْ كَانَ أَخُو مَلِكِهِمْ أَوْ ابْنُهُ أَسِيرًا فِي أَيْدِينَا وَقَدْ أَسْلَمَ فَقَالُوا: نُعْطِيكُمْ أَسِيرَكُمْ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنْ تَرُدُّوا عَلَيْنَا أَخَا الْمَلِكِ لَمْ يَسَعْنَا أَنْ نَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَمُفَادَاةُ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُفَادَاةِ تَخْلِيصُ الْمُسْلِمِ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ فِتْنَتِهِمْ. 3333 - فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: رُدُّونِي عَلَيْهِمْ وَخُذُوا أَسِيرَكُمْ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى إسْلَامِهِ بِأَنْ حَسُنَ إسْلَامُهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْهُ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَى ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِهِ لِيَرْجِعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَالٍ. 3334 - أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ ارْتَدَّ فِينَا فَقَالُوا لَنَا: خُذُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1661 أَسِيرَكُمْ وَأَعْطُونَا ذَلِكَ الْمُرْتَدَّ لَمْ يَسَعْنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَعْرِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى الْمُرْتَدِّ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ، فَكَذَلِكَ إذَا خِيفَ عَلَيْهِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الْمُفَادَاةِ بِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يُخَافُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا لَا يُفَادَى بِهِ قَبْلَ رِضَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِلْقَتْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ حَالُهُ الْآنَ كَحَالِ الْمُفَادَاةِ بِالذِّمِّيِّ أَوْ بِالْمُسْتَأْمَنِ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا إذَا رَضِيَ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَهَذَا مِثْلُهُ. 3335 - وَلَوْ جَاءَ مُسْتَأْمَنٌ مِنْهُمْ بِعَشَرَةٍ مِنْ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يُفَادِيَ بِهِمْ غَيْرَهُ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ فَوَجَدَهُمْ قَدْ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا ثُمَّ رَجَعَ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأُسَرَاءِ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا أَخْلَى الْأَمِيرُ سَبِيلَهُمْ، وَقَالَ لَهُ: الْحَقْ بِبِلَادِك فَلَا شَيْءَ لَك. لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَمْلِكُهُمْ. 3336 - وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ إمَاءً أَجْبَرَهُ عَلَى بَيْعِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَاءَ بِعَبِيدٍ مَعَهُ بِأَمَانٍ فَأَسْلَمُوا فِي دَارِنَا، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ عَلَيْنَا فِي الْأَمَانِ أَنْ يَشْتَرِيَ أُولَئِكَ النَّفَرَ وَنُسَلِّمَهُمْ لَهُ، فَأَبَى مَوَالِيهِمْ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَفِيَ لَهُمْ بِالشَّرْطِ إذَا أَخَذَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1662 الْأَحْرَارَ مِنْهُمْ، فَيُعْطِيهِمْ قِيمَةَ الَّذِينَ شَرَطَهُمْ لَهُ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، وَإِنْ بَاعَهُمْ مَوَالِيهِمْ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَيْضًا أَلَّا يَدَعَهُ يَرْجِعُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ كَانُوا أَسْلَمُوا. وَهَذَا وَمَا لَوْ جَاءَ بِعَبِيدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ. 3337 - وَإِذَا تَوَادَعَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى أَنْ يَتَهَادَنُوا سَنَةً حَتَّى يَنْظُرُوا فِي أُمُورِهِمْ وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنْ يُعْطُوهُمْ رَهْنًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ غَدَرَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَدِمَاءُ الرَّهْنِ لِلْآخَرَيْنِ حَلَالٌ، فَلَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ الرَّهْنِ عَلَى هَذَا، إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ الرَّهْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَى الرَّهْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ إذَا كَانُوا يَخَافُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْمُسْلِمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِمْ رَهْنًا وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْلَى. 3338 - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْرِهَ الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْرِكِينَ شَوْكَةٌ شَدِيدَةٌ وَيَخَافُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِإِكْرَاهِ الرَّهْنِ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذَا الصُّلْحِ خَوْفُ الْهَلَاكِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ دَفْعُ هَذَا الْخَوْفِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَثْبُتُ لِلْإِمَامِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1663 وَإِنْ كَانَ يَخَافُ فِيهِ عَلَى خَاصٍّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الرَّهْنُ لِلْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا فَإِنْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ رَهْنًا فَغَدَرَ الْمُشْرِكُونَ وَقَتَلُوا الرَّهْنَ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ، فَلَيْسَ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الرَّهْنِ وَلَا أَنْ يَسْتَرِقُّوهُمْ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا آمِنِينَ عِنْدَنَا، فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ أَمَانِهِمْ بِغَدْرِ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . 3339 - وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَدَعُونَهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى بِلَادِهِمْ وَيَجْعَلُونَهُمْ ذِمَّةً؛ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا إلَى أَنْ يُرَدَّ عَلَيْنَا رَهْنُنَا وَقَدْ تَعَذَّرَ فَكَانُوا مُحْتَبِسِينَ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِرِضَاهُمْ وَالْكَافِرُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ إلَّا بِالْجِزْيَةِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحَكَى أَنَّ الدوانيقي كَانَ جَرَى هَذَا الشَّرْطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، ثُمَّ إنَّهُمْ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَمَعَ عُلَمَاءَ عَصْرِهِ وَسَأَلَهُمْ عَمَّا يُصْنَعُ بِرَهْنِهِمْ؟ فَقَالُوا لَهُ: لَكَ أَنْ تَقْتُلَهُمْ لِمَكَانِ الشَّرْطِ الَّذِي شَرَطُوا، وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَك لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: إنْ قَالُوا لَك هَذَا عَنْ رَأْيٍ فَقَدْ أَخْطَئُوا وَإِنْ قَالُوا بِنَاءً عَلَى هَوَاك فَقَدْ غَشُّوك فَلَيْسَ لَك أَنْ تَتَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1664 وَلَا بِالسَّبْيِ. فَقَالَ: وَلَمْ وَقَدْ شَرَطُوا ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ قَدْ شَرَطُوا عَلَيْك مَا لَا يَحِلُّ، وَشَرَطْت عَلَيْهِمْ مَا لَا يَحِلُّ فِي الشَّرْعِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فَأَغْلَظَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا دَعَوْتُك لَهُمْ قَطُّ إلَّا جِئْتنِي بِمَا أَكْرَهُ، قُومُوا مِنْ عِنْدِي، فَخَرَجُوا ثُمَّ جَمَعَهُمْ مِنْ الْغَدِ وَقَالَ: تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا قُلْت فَمَاذَا نَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَالَ: سَلْ الْعُلَمَاءَ. فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ. قَالَ لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ احْتَسَبُوا عِنْدَك بِرِضَاهُمْ إلَى رَدِّ الرَّهْنِ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ، فَاسْتُحْسِنَ قَوْلُهُ وَأُثْنِيَ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ بِجَمِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مِمَّا لَا يَحِلُّ فَلِمَاذَا قَالَ: لَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ الرَّهْنِ عَلَى هَذَا؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ احْتَاجُوا إلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الشَّرْطِ فَوَاتُ شَيْءٍ، وَلَا إثْبَاتُ شَيْءٍ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، بِخِلَافِ قَتْلِ الرَّهْنِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ. 3340 - وَلَوْ أَنَّهُمْ حِينَ أَعْطَوْا الرَّهْنَ وَأَخَذُوا الرَّهْنَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنَهُمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذُوهُمْ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي حَبْسِ رَهْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَى الظُّلْمِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ إزَالَتِهِ. 3341 - ثُمَّ لَا يُرَدُّ رَهْنُهُمْ حَتَّى يَأْمَنُوا مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَ، فَإِذَا أَمِنُوا ذَلِكَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا غَدْرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُ هَذَا فِيمَا إذَا خَافَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1665 الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي الْمُعَسْكَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مَعَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَاءُوا أَوْ أَبَوْا حَتَّى يَأْمَنَ مِمَّا كَانَ يَخَافُ ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إلَى دَارِهِمْ فَهَذَا قِيَاسُهُ. لِأَنَّ رَهْنَهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَّا. 3342 - وَإِنْ أَبَى الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ الرَّهْنُ أَنْ يُعْطُوا الرَّهْنَ إلَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِقِتَالٍ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُدْخِلُوهُمْ بِلَادَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا لِتَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَيْدِي الظَّالِمِينَ، إذَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ. 3343 - وَإِنْ كَانُوا قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: لَا نُقَاتِلُكُمْ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا نُعْطِيكُمْ الرَّهْنَ حَتَّى تَرُدُّوا رَهْنَنَا فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَخَافُونَهُمْ فِي الْأَمْرِ الَّذِي وَادَعُوهُمْ مِنْ أَجْلِهِ فَلَهُمْ أَلَّا يُعْطُوهُمْ رَهْنَهُمْ، وَلَكِنْ يَبْدَءُونَهُمْ بِالْقِتَالِ لِأَخْذِ رَهْنِ الْمُسْلِمِينَ إذَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا فَلْيَرُدُّوا إلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ. لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى حَبْسِ الرَّهْنِ الْآنَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ بِهِمْ حَاجَةٌ إلَى حَبْسِ الرَّهْنِ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، وَلَكِنْ يُقَاتِلُونَهُمْ لِاسْتِنْقَاذِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ. 3344 - وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ أَخَذُوا الرَّهْنَ قَدْ انْتَهَوْا بِالرَّهْنِ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1666 مَنَعَتِهِمْ وَقَدْ وَادَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ وُصُولِهِمْ إلَى مَنَعَتِهِمْ. لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يُقَاتِلُونَهُمْ لِيَسْتَرِدُّوا الرَّهْنَ لَا لِنَقْضِ الْمُوَادَعَةِ، وَبَعْدَ مَا وَصَلُوا إلَى مَنَعَتِهِمْ الْقِتَالُ لَا يَكُونُ عَلَى الرَّهْنِ بَلْ عَلَى نَقْضِ الْمُوَادَعَةِ، وَقَدْ صَحَّتْ الْمُوَادَعَةُ فَذَلِكَ يَمْنَعُنَا مِنْ قِتَالِهِمْ حَتَّى نَنْبِذَ إلَيْهِمْ. 3345 - قَالَ: وَلَوْ جَاءُوا بِأُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُفَادَاةِ فَنَادَوْا بِالْفِدَاءِ فِي مَوْضِعٍ هُمْ فِيهِ مُمْتَنِعُونَ، ثُمَّ رَجَعُوا بِهِمْ حِينَ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ الْمُفَادَاةُ فَتَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَأَخَذُوهُمْ مِنْهُمْ وَأَسَرُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ كُلِّهِ. لِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَّا أَمَانٌ قَطُّ. 3346 - ثُمَّ إنْ كَانَ فِيهِمْ عَبْدٌ وَأَمَةٌ أَخَذَهُ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ. لِأَنَّهُمْ أَصَابُوهُمْ بِطَرِيقِ الِاغْتِنَامِ. 3347 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْمَنُوا إلَيْنَا ثُمَّ انْصَرَفُوا بِهِمْ حِينَ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ الْمُفَادَاةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا أُخِذَ مِنْهُمْ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إلَى مَنَعَتِهِمْ أَعْطَوْهُمْ قِيمَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنَّا، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُقَاتِلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1667 لِأَنَّ اسْتِنْقَاذَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَاجِبٌ، فَإِذَا أَبَوْا ذَلِكَ جَازَ قِتَالُهُمْ، وَإِنْ أَتَى عَلَى أَنْفُسِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَوْ أَسْلَمَ عَبْدُهُ فَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ وَأَرَادَ إدْخَالَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ قِتَالُهُ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا الْتَزَمَهُ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَلْتَزِمُهُ الْمُسْتَأْمَنُ بِعَقْدِ الْأَمَانِ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ مَأْمَنَهُ فَهُوَ فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ الِانْقِيَادِ لِلْحُكْمِ الَّذِي الْتَزَمَهُ جَازَ قِتَالُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1668 [بَابُ الْمُفَادَاةِ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ السَّبْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ] 3348 - قَالَ: وَلَا بَأْسَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ أَنْ يُفَادِيَ الْأُسَرَاءَ بِالْأُسَرَاءِ إذَا طَلَب ذَلِكَ أَهْلُ الْحَرْبِ وَطَابَتْ أَنْفُسُ السَّرِيَّةِ بِذَلِكَ، الرِّجَالُ مِنْ الْأُسَارَى وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ مَا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِمْ. لِأَنَّهُ فُوِّضَ إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْحَرْبِ، وَتَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُفَادَاةُ بِالْأُسَارَى فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ تَدْبِيرِ الْحَرْبِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَهُمْ بِالْمُفَادَاةِ أَعْظَمُ غِنَاءً بِالْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُعْطُونَ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ رِضَاءُ أَهْلِ السَّرِيَّةِ فِي ذَلِكَ لِثُبُوتِ حَقِّهِمْ فِي الْمَأْسُورِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرْضِيَهُمْ فِي الْمُفَادَاةِ لِمَا فِيهَا مِنْ إسْقَاطِ حَقِّهِمْ عَمَّا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ. 3349 - وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِ الْأُسَارَى، حَتَّى إنَّ الصِّبْيَانَ مِنْ السَّبْيِ إذَا كَانَ مَعَهُمْ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ لَا يُحْكَمُ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى يَصِفُوا الْإِسْلَامَ بِأَنْفُسِهِمْ فَتَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِمْ. 3350 - وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ آبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ فِي دَارِنَا. لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ بِالْمَوْتِ لَا يَنْقَطِعُ فِي حُكْمِ الدِّينِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1669 أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يُحْكَمُ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَإِنْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ فِي دَارِنَا. وَهُمْ صِغَارٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ آبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ مَعَهُمْ فَطَلَبَ الْمُشْرِكُونَ الْمُفَادَاةَ بِالصِّبْيَانِ خَاصَّةً فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آبَائِهِمْ. لِأَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ بِحَقٍّ، وَتَخْلِيصُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ تَرْكِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصِّبْيَانِ وَالْآبَاءِ. 3351 - وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ مُفَادَاةُ صِبْيَانِهِمْ بِالْمَالِ، كَمَا لَا يَجُوزُ مُفَادَاةُ الْبَالِغِينَ مِنْهُمْ. لِأَنَّ الصَّغِيرَ يَكْبُرُ فَيَكُونُ مِنْهُ الْقِتَالُ وَيَكُونُ لَهُ النَّسْلُ بِخِلَافِ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ اللَّذَيْنِ لَا يُرْجَى لَهُمَا نَسْلٌ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رَدِّهِمَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَعْنَى التَّقَوِّي عَلَى الْقِتَالِ بِشَيْءٍ وَفِي الصِّغَارِ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى. 3352 - وَلَوْ أَبَى أَهْلُ السَّرِيَّةِ أَوْ الْعَسْكَرُ الْمُفَادَاةَ بِالْأُسَارَى فَلَيْسَ لِأَمِيرِهِمْ أَنْ يُفَادِيَ بِهِمْ. إلَّا أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، مَا خَلَا خَصْلَةً وَاحِدَةً، الرِّجَالُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ أَسَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ لَا بَأْسَ بِالْمُفَادَاةِ بِهِمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ أَهْلُ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالسَّرِيَّةِ. لِأَنَّ لِأَمِيرِهِمْ أَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ مِنْ الْأُسَرَاءِ، وَفِي الْقَتْلِ إبْطَالُ حَقِّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ مِنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةِ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَلَأَنْ يَجُوزَ الْمُفَادَاةُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةُ التَّخْلِيصِ كَانَ أَوْلَى، بِخِلَافِ السَّبْيِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1670 وَالْأَمْوَالِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلُ حَقَّ الْغَانِمِينَ مِنْهُمْ إلَّا بِعِوَضٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُفَادِيَ الْأُسَرَاءَ بِهِمْ إلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِ الْغَانِمِينَ أَوْ بِعِوَضٍ إنْ أَبَوْا ذَلِكَ، وَذَلِكَ الْعِوَضُ يَكُونُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَادِيَ بِالرِّجَالِ أَيْضًا إلَّا بِرِضَاءِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ. لِأَنَّهُ حِينَ قَسَمَهُمْ فَقَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِ قَتْلُهُمْ، فَكَانَ حَالُهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَحَالِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. 3353 - فَإِنْ أَبَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ الرِّجَالُ الْمُفَادَاةَ بِهِمْ وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَرُدُّوا أُسَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِأُولَئِكَ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ مَوَالِيهِمْ ثُمَّ يُفَادِيَ بِهِمْ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهُ قَوَّمَهُمْ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ أَخَذَهُمْ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ شَاءَ مَوَالِيهِمْ أَوْ أَبَوْا. لِأَنَّ الْمُفَادَاةَ بِهِمْ تَسْتَحِقُّ بِعِوَضٍ عَلَى الْمَوَالِي، يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا أَبَوْا نَابَ الْإِمَامُ مَنَابَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُهُ فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهُ نَابَ الْإِمَامُ مَنَابَهُ فِي ذَلِكَ، لِامْتِنَاعِهِ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ. 3354 - وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ الْمُفَادَاةَ بِعَبِيدٍ كُفَّارٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَسْتَرْضِيهِمْ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمُفَادَاةَ بِأَحْرَارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَجُوزُ بِرِضَائِهِمْ، فَعَبِيدُهُمْ عِنْدَ رِضَاءِ الْمَوْلَى أَجْوَزُ. 3355 - وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ رِضَاءُ الْعَبِيدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1671 لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُ، وَلَا قَوْلَ لِلْمَمْلُوكِ فِي نَقْلِهِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فِي الرِّضَاءِ وَالسَّخَطِ. 3356 - وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْمَوَالِي بِذَلِكَ اشْتَرَاهُمْ مِنْهُمْ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهُمْ قَوَّمَهُمْ قِيمَةَ عَدْلٍ. لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي أَمْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ لِتَخْلِيصِ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ مِنْ ذُلِّ الْمُشْرِكِينَ فَلَأَنْ يَثْبُتَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي مِلْكِ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَانَ أَوْلَى. 3357 - وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ فَادَى الْأُسَارَى بِقَوْمٍ أَحْرَارٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ فَقَالَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ: نَحْنُ نَأْخُذُ قِيمَتَهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِمْ. لِأَنَّهُمْ فُودُوا بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ، وَلَوْ فُودُوا بِمِلْكٍ خَاصٍّ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ عِوَضِ ذَلِكَ، فَإِذَا فُودُوا بِمَا هُوَ مِنْ الْغَنِيمَةِ كَانَ أَوْلَى. فَإِنْ كَانُوا سَأَلُوا الْإِمَامَ أَنْ يُفَادِيهِمْ بِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا لِلْغُزَاةِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطُوا، وَكَانَ عَلَيْهِمْ قِيمَةُ مَا فُودُوا بِهِ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَيُجْعَلُ فِي الْغَنِيمَةِ يُقْسَمُ وَيُخَمَّسُ مَا بَقِيَ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهُ. لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ. 3358 - وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَحْرَارِ مِنْ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَبِيدٌ أَوْ إمَاءٌ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْأَمِيرُ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ يَجْعَلُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُمْ بِمَا أَعْطَى مِنْ الْأُسَرَاءِ، ثُمَّ يَكُونُ لِمَوَالِيهِمْ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوهُمْ بِقِيمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1672 الْأُسَرَاءِ الَّذِينَ فَدَاهُمْ الْإِمَامُ بِهِمْ، ثُمَّ يُجْعَلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قِيمَةُ أُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَ قِيمَةِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَوْ لَا يُتَغَابَنُ. لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ قَتْلِ أُسَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَنْهُمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ بِعِوَضٍ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِمْ، كَانَ أَوْلَى. 3359 - وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُفَادَاةُ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مُتَسَاوِيَةً أَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ يَسِيرًا، فَلَا بَأْسَ بِهِ لِلْأَمِيرِ مِنْ غَيْرِ رِضَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ، بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ الْغَنَائِمَ، وَإِذَا كَانَ مَا يُعْطَى أَكْثَرَ قِيمَةً مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاءِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَزِيدَهُمْ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ مَا يَفِي مِنْ قِيمَةِ أُسَرَائِهِمْ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، ثُمَّ يَجْمَعُ ذَلِكَ فَيَرْفَعُ الْخُمُسَ مِنْهُ، وَيَقْسِمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهُ، وَفِكَاكُ كُلِّ أَسِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُقَاتِلُ مِنْ وَرَائِهَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ خَرَاجِهَا فَيَفْدِي بِهِ الْأَسِيرَ الْمُسْلِمَ الَّذِي يُقَاتِلُ عَنْهَا. لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ أَخْذِ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ، وَذَلِكَ بِالْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مُفَادَاتِهِمْ كَانَ ذَلِكَ الْخَرَاجُ مُتَعَيِّنًا لِمُفَادَاتِهِمْ، لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1673 3360 - فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خَرَاجٌ فَذَلِكَ فِي خَرَاجِ غَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُ إذَا قَاتَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ يُقَاتِلُ عَنْهَا كُلِّهَا، لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ يَقْصِدُونَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى جَمِيعِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ لَوْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، فَاَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَدْفَعُونَهُمْ عَنْ جَمِيعِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ رِضَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُفَادَاةِ بِقِصَّةِ سَبْيِ هَوَازِنَ، فَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ آلَافٍ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ حِينَ أَسْلَمُوا، وَالْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ «أَنَّ وَفْدَهُمْ الَّذِينَ جَاءُوا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ بَعْضُ عَمَّاتِك وَخَالَاتِك، وَلَوْ كُنَّا مَنَحْنَا لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ لَكَانَ يُرَاعِي ذَلِكَ لَنَا، وَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُهُمْ» ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِيهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ رَقَّ لَهُمْ وَقَالَ: «وَإِذَا صَلَّيْنَا الظُّهْرَ فَقُومُوا وَأَعِيدُوا مَقَالَتَكُمْ هَذِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ كُنْت مُنْتَظِرًا لَكُمْ فَأَبْطَأْتُمْ الْمَجِيءَ حَتَّى جَرَى فِي السَّبْيِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا مَا كَانَتْ لِي وَلِقُرَيْشٍ فَقَدْ سَلَّمْتُ لَكُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ قَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: وَقَدْ سَلَّمْنَا مَا كَانَ لَنَا أَيْضًا. فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا. وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا فَلَمَّا اخْتَلَفُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ جَاءُوا مُسْلِمِينَ فَرُدُّوا عَلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ فَلَهُ عَلَيْنَا مَكَانَ كُلِّ رَأْسٍ سِتَّةُ قَلَائِصَ نُعْطِيهِ مِنْ أَوَّلِ غَنِيمَةٍ نُصِيبُهَا» . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَبَ رِضَاءَهُمْ وَمَنْ أَبَى الْتَزَمَ لَهُ عِوَضًا حَتَّى رَدَّهُمْ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي الْحُكْمِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْبَابِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1674 [بَابُ الْمُوَادَعَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (160) 160 - بَابُ الْمُوَادَعَةِ 3361 - قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَنْبَغِي مُوَادَعَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ. لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْقِتَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَوْ تَأْخِيرَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] . 3362 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَيْهِمْ فَلَا بَأْسَ بِالْمُوَادَعَةِ. لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ تَدْبِيرِ الْقِتَالِ، فَإِنَّ عَلَى الْمُقَاتِلِ أَنْ يَحْفَظَ قُوَّةَ نَفْسِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَطْلُبَ الْعُلُوَّ وَالْغَلَبَةَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّغِيرَ يَمُصُّ اللَّبَنَ مَا لَمْ تَنْبُتْ أَسْنَانُهُ، ثُمَّ يَمْضُغُ اللَّحْمَ بَعْدَ نَبَاتِ الْأَسْنَانَ، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُوَادَعَةِ عِنْدَ ضَعْفِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الِامْتِنَاعِ مِنْهَا وَالِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ عِنْدَ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1689 وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْمُوَادَعَةِ بِمُبَاشَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ وَالْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. - فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، الْمَدِينَةَ وَادَعَتْهُ يَهُودُهَا كُلُّهَا، وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كِتَابًا، وَأَلْحَقَ كُلَّ قَوْمٍ بِحُلَفَائِهِمْ، وَكَانَ فِيمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بَغَتْ يَهُودُ، وَقَطَعَتْ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْعَهْدِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَجَمَعَهُمْ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، فَوَاَللَّهِ إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَكُمْ مِثْلَ وَقْعَةِ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ» . فَصَارَ هَذَا أَصْلًا بِجَوَازِ الْمُوَادَعَةِ عِنْدِ ضَعْفِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ عِنْدَ قُوَّتِهِمْ. فَإِذَا وَادَعَهُمْ وَأَخَذَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُوَادِعَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ فَالْمُوَادَعَةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ أَجْوَزُ، وَذَلِكَ الْمَالُ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ لَا يُخَمَّسُ، وَلَكِنْ يَضَعُهُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ، حَصَلَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ لَا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1690 وَالرِّكَابِ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي شَيْءٍ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] الْآيَةَ. وَلَا بَأْسَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمُوَادَعَةِ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى دَارِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا قُوَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَكَانَتْ الْمُوَادَعَةُ خَيْرًا لَهُمْ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ أَخْذُ الْجُعْلِ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُوَادَعَةِ مِنْ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ بِالْمُوَادَعَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ. 3664 - وَإِنْ أَخَذَ الْإِمَامُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نُفُوسِهِمْ وَلَا فِي أَمْوَالِهِمْ، وَبَعْدَ مَا غَلَبُوا عَلَى دَارِهِمْ، فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ حَتَّى إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ يَكُونُ مَالُهُمْ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ. 3365 - فَكَذَلِكَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ يَكُونُ سَالِمًا لِلْمُسْلِمِينَ، لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ وَإِنْ أَسْلَمُوا وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِمُوَادَعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْحَاجَةُ إلَى الْمُوَادَعَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَظْهَرُ. لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَتَأَمَّلُونَ فَيَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1691 وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ جُعْلٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ رُءُوسِهِمْ، وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ بِالْمُوَادَعَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ أَخَذُوهُ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ إذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لَوْ أُصِيبَ مِنْهُمْ مَالٌ بِالْقِتَالِ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَكَذَلِكَ إذَا أُصِيبَ مِنْهُمْ مَالٌ بِالْمُوَادَعَةِ. 3366 - وَإِذَا خَافَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ فَطَلَبُوا مُوَادَعَتَهُمْ فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُوَادِعُوهُمْ حَتَّى يُعْطِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ مَالًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ. لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَيْسَ بِهِمْ قُوَّةُ دَفْعِ الْمُشْرِكِينَ ظَهَرُوا عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ جَمِيعًا، فَهُمْ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ يَجْعَلُونَ أَمْوَالَهُمْ دُونَ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «اجْعَلْ مَالَك دُونَ نَفْسِك وَنَفْسَك دُونَ دِينِك» . وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُدَارِي رَجُلًا فَقِيلَ لَهُ: إنَّك مُنَافِقٌ. فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ. فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْمَهَانَةِ. 3367 - وَلَا بَأْسَ بِدَفْعِ بَعْضِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ عَنْ الْبَعْضِ إذَا خَافَ ذَهَابَ الْكُلِّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُوَادَعَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1692 لِأَنَّ فِيهَا الْتِزَامُ الرِّيبَةِ، وَالْتِزَامُ الذُّلِّ، وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ وَقَدْ أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقِصَّةِ الْأَحْزَابِ. 3368 - فَإِنَّهُ «حُصِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، يَوْمَئِذٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى خَلَصَ إلَى كُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ الْكَرْبُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ إنِّي أَنْشُدُك عَهْدَك وَوَعْدَك، اللَّهُمَّ إنَّك إنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدُ وَبَلَغَ مِنْ حَالِهِمْ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. وَتَظُنُّونَ بِاَللَّهِ الظَّنُونَا} [الأحزاب: 10] ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ» ، فِي رِوَايَةٍ «أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلْتُ لَك ثُلُثَ ثِمَارِ الْأَنْصَارِ أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَك مِنْ غَطَفَانَ وَتَخْذُلُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ؟ فَقَالَ: إنْ جَعَلْتَ لِي الشَّطْرَ فَعَلْتُ» 3369 - وَفِي رِوَايَةٍ «أَرْسَلَ عُيَيْنَةُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُعْطِينَا ثَمَرَ الْمَدِينَةِ هَذِهِ السَّنَةَ وَنَرْجِعُ عَنْك وَنُخَلِّي بَيْنَك وَبَيْنَ قَوْمِك فَتُقَاتِلُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: لَا. قَالَ: فَنِصْفُ الثَّمَرِ: فَقَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1693 وَهُمَا سَيِّدَا الْحَيَّيْنِ فَاسْتَشَارَهُمَا وَقَدْ حَضَرَ عُيَيْنَةُ وَقَالَ: اُكْتُبْ بَيْنَنَا كِتَابًا. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِصَحِيفَةٍ وَدَوَاةٍ لِيَكْتُبَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوحِيَ إلَيْك فِي هَذَا؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، فَقُلْت: أَرُدُّهُمْ عَنْكُمْ. فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ إنَّهُمْ كَانُوا لَيَأْكُلُونَ الْعِلْهِزَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْجَهْدِ، وَمَا طَمِعُوا مِنَّا قَطُّ أَنْ يَأْخُذُوا ثَمَرَةً إلَّا بُشْرَى، أَوْ قِرًى فَحِينَ أَيَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِك وَأَكْرَمَنَا وَهَدَانَا بِك نُعْطَى الدَّنِيَّةَ؟ ، لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ. فَشَقَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيفَةَ وَقَالَ: اذْهَبُوا، لَا نُعْطِيكُمْ إلَّا السَّيْفَ. وَأَقْبَلَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَعُيَيْنَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مَادًّا رِجْلَيْهِ. فَقَالَ: يَا عُيَيْنَةُ الهجرس، اقْبِضْ رِجْلَيْك، أَتَمُدُّ رِجْلَيْك بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَاَللَّهِ لَوْلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لَأُنْفِذَنَّ خُصْيَتَيْك بِالرُّمْحِ، مَتَى طَمِعْت هَذَا مِنَّا؟» فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ عِنْدَ الضَّعْفِ لَا بَأْسَ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ، فَقَدْ رَغِبَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1694 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، حِينَ أَحَسَّ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفًا، وَعِنْدَ الْقُوَّةِ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْمُوَادَعَةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَتْ الْأَنْصَارُ مَا قَالَتْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ الْقُوَّةَ فَشَقَّ الصَّحِيفَةَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِذْلَالِ، وَلِأَجْلِهِ كَرِهَتْ الْأَنْصَارُ دَفْعَ بَعْضِ الثِّمَارِ، وَالِاسْتِذْلَالُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْضَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ 3370 - قَالَ: وَإِذَا وَادَعَ الْإِمَامُ أَهْلَ الْحَرْبِ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَخَافَ السَّبِيلَ فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَلَيْسَ هَذَا بِنَقْضٍ مِنْهُ لِلْعَهْدِ. لِأَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الدَّارِ فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ كَانَ آمِنًا لَا نَعْرِضُ لَهُ. فَالْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا بِمِثْلِ هَذَا الصَّنِيعِ لَا يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، كَمَا لَا يَكُونُ بِهِ الذِّمِّيُّ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَكَمَا لَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ بِهِ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ، وَهَذَا لَا مَنْعَةَ لَهُ فَلَا يَكُونُ مُجَاهِرًا بِمَا يَصْنَعُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ نَقْضُ الْعَهْدِ عِنْدَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْقِتَالِ. 3371 - وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ مِنْهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَهَذَا وَالْوَاحِدُ سَوَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1695 لِأَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مُمْتَنِعِينَ، وَأَصْحَابُهُمْ بِصُنْعِ هَؤُلَاءِ غَيْرُ رَاضِينَ. 3372 - فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَانِيَةً بِغَيْرِ أَمْرٍ مِنْ مَلِكِهِمْ وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ فَهَؤُلَاءِ نَاقِضُونَ لِلْعَهْدِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فَائِدَةُ الْعَهْدِ إلَّا تَرْكُ الْقِتَالِ، فَإِذَا جَاهَرُوا بِالْقِتَالِ مُتَقَرِّرَيْنِ بِمَنْعَتِهِمْ كَانُوا نَاقِضِينَ بِمُبَاشَرَتِهِمْ ضِدَّ مَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْمُوَادَعَةِ. 3373 - فَأَمَّا الْمَلِكُ وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ فَهُمْ عَلَى مُوَادَعَتِهِمْ. لِأَنَّهُمْ مَا بَاشَرُوا سَبَبَ نَقْضِهَا وَلَا رَضُوا بِصَنِيعِ هَؤُلَاءِ فَلَا يُؤْخَذُونَ بِذَنْبِ غَيْرِهِمْ. 3374 - وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا بِإِذْنِ مَلِيكِهِمْ فَقَدْ نَقَضُوا جَمِيعًا الْعَهْدَ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ وَسَبْيِهِمْ حَيْثُمَا وُجِدُوا. لِأَنَّ فِعْلَهُمْ بِإِذْنِ الْمَلِكِ كَفِعْلِ الْمَلِكِ بِنَفْسِهِ. وَأَهْلُ الْمَمْلَكَةِ تَبَعُ الْمَلِكِ فِي الْمُوَادَعَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ لِانْقِيَادِهِمْ لَهُ وَرِضَاهُمْ بِكَوْنِهِ رَأْسَهُمْ. فَإِذَا صَارَ هُوَ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ صَارَ أَهْلُ الْمَمْلَكَةِ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ تَبَعًا لَهُ، سَوَاءٌ عَلِمُوا بِمَا صَنَعَ مَلِكُهُمْ، أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ إلَى دَارِنَا قَبْلَ إذْنِ مَلِكِهِمْ فِي الَّذِي أَذِنَ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ قَدْ حَصَلَ آمِنًا فِينَا فَيَبْقَى آمِنًا مَا لَمْ يَعُدْ إلَى مَنْعَتِهِ. 3375 - وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ الَّتِي خَرَجَتْ إلَى الْقِتَالِ خَرَجَتْ بِعِلْمِ مَلِكِهِمْ فَلَمْ يَنْهَهُمْ وَلَمْ يُخْبِرْ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِهِمْ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1696 لِأَنَّهُمْ حَشَمُهُ يَنْقَادُونَ لَهُ، وَالسَّفِيهُ إذَا لَمْ يُنْهَ مَأْمُورٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُوَادَعَةِ مَنْعُهُمْ إنْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ إخْبَارُ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِهِمْ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا تَرَكَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ إيَّاهُمْ بِالْقِتَالِ. 3376 - قَالَ: وَلَوْ بَدَا لِلْإِمَامِ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ أَنَّ الْقِتَالَ خَيْرٌ فَبَعَثَ إلَى مَلِكِهِمْ يَنْبِذُ إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ نَقْضًا. لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْحِرْزِ عَنْ الْغَدْرِ فَوْقَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ النَّبْذِ إلَى مَلِكِهِمْ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى قِتَالِهِمْ. 3377 - وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِمْ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَبْعَثُ الْمَلِكُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَنْ يُنْذِرُهُمْ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَلِكَهُمْ بَعْدَ مَا وَصَلَ الْخَبَرُ إلَيْهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيصَالِ ذَلِكَ إلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ إلَّا بِمُدَّةٍ فَلَا يَتِمُّ النَّبْذُ فِي حَقِّهِمْ حَتَّى تَمْضِيَ تِلْكَ الْمُدَّةُ، وَبَعْدَ الْمُضِيِّ لَا بَأْسَ بِالْإِغَارَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْخَبَرَ أَتَاهُمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إعْلَامُهُمْ. وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ إعْلَامُ مَلِكِهِمْ، ثُمَّ عَلَى مَلِكِهِمْ إعْلَامُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هُوَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا أَتَوْا مِنْ قِبَلِ مَلِكِهِمْ لَا مِنْ قِبَلِ الْمُسْلِمِينَ. 3378 - وَلَكِنْ إنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ يَقِينًا أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَأْتِهِمْ خَبَرٌ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَلَّا يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعْلِمُوهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1697 لِأَنَّ هَذَا شَبِيهٌ بِالْخَدِيعَةِ، وَكَمَا يَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْخَدِيعَةِ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ التَّحَرُّزُ عَمَّا يُشْبِهُ الْخَدِيعَةَ. 3379 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ النَّقْضُ مِنْ قِبَلِهِمْ، إمَّا بِجُنْدٍ أَرْسَلُوهُمْ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بِرَسُولٍ أَرْسَلُوهُ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ يَنْبِذُونَ إلَيْهِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى أَطْرَافِهِمْ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ. لِأَنَّ هُنَاكَ النَّقْضُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِمْ وَكَانُوا أَعْلَمَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَانَ عَلَى مَلِكِهِمْ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ أَطْرَافَ مَمْلَكَتِهِ، يَقُولُ. 3380 - فَإِنْ أَحَاطَ الْعِلْمُ لِأَهْلِ نَاحِيَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِ نَاحِيَتِهِمْ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ فَأَمَّا الْحُكْمُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْإِغَارَةِ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ نَقْضُ الْعَهْدِ بِمَا صَنَعَهُ مَلِكُهُمْ وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ هَا هُنَا. 3381 - بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النَّقْضُ مِنْ قِبَلِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ هُنَاكَ الْإِعْلَامُ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِبُ الْإِمْهَالُ بِقَدْرِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِعْلَامُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1698 وَإِذَا كَانَ النَّقْضُ مِنْ قِبَلِهِمْ فَالْإِعْلَامُ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُ الْمَلِكِ فِي الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّ الدَّارَ إنَّمَا تَكُونُ دَارَ حَرْبٍ وَدَارَ ذِمَّةٍ وَدَارَ أَمَانٍ بِالْمَنَعَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِسُلْطَانِهَا الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِمْ، فَإِذَا كَانَ السُّلْطَانُ حَرْبِيًّا كَانَتْ الدَّارُ دَارَ حَرْبٍ يَحِلُّ سَبْيُ مَنْ فِيهَا إلَّا مَنْ عُرِفَ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ الذِّمَّةِ. 3383 - وَلَوْ كَانَ خَرَجَ إلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ دَارِ غَيْرِ الْمُوَادِعِينَ إلَى دَارِ الْمُوَادِعِينَ بِأَمَانٍ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لَنَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ. لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ آمِنًا فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ فَقَدْ الْتَحَقَ بِأَهْلِهَا، وَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ يَكُونُ آمِنًا فِينَا، وَإِنْ خَرَجَ بِغَيْرِ اسْتِئْمَانٍ جَدِيدٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ الْتَحَقَ بِهِمْ. 3384 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَهْلُ دَارِهِ مُوَادِعِينَ لِأَهْلِ دَارِ مُوَادِعِينَا. لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَادَعَةَ بَيْنَهُمْ بِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْأَمَانِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّا لَوْ دَخَلْنَا دَارَ مُوَادِعِينَا فَوَجَدْنَا فِيهِمْ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ لَنَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ فَإِذَا كَانَ هُوَ آمِنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ آمِنًا بِخُرُوجِهِ إلَى دَارِنَا. 3385 - وَلَوْ كَانَ خَرَجَ مِنْ دَارِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1699 يَدْخُلَ دَارَ مُوَادِعِينَا بِالْمُوَادَعَةِ الَّتِي بَيْنَ أَهْلِ دَارِهِ وَبَيْنَ مُوَادِعِينَا كَانَ فَيْئًا لَنَا. لِأَنَّهُ لَا مُوَادَعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّا لَوْ وَجَدْنَاهُ فِي دَارِهِ كَانَ فَيْئًا لَنَا وَأَنَّ لَنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَى أَهْلِ دَارِهِمْ وَنَأْسِرَهُمْ، فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ هُوَ إلَيْنَا كَانَ فَيْئًا لَنَا وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمُوَادَعَةُ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِ مُوَادِعِينَا. 3386 - وَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ مُوَادِعِينَا دَارَ الَّذِينَ وَادْعُوهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ فَقَاتَلْنَا أَهْلَ تِلْكَ الدَّارِ فَظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا مِنْ أَهْلِ دَارِ مُوَادِعِيكُمْ دَخَلْت إلَى هَؤُلَاءِ لِمُوَادَعَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. لِأَنَّا وَجَدْنَاهُ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ بِالْبَيِّنَةِ وَكَانَ هُوَ آمِنًا؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْمُوَادَعَةَ كَدَعْوَاهُ عَقْدَ الذِّمَّةِ. 3387 - وَلَوْ قَالَ: كُنْت ذِمِّيًّا دَخَلْت إلَى هَذِهِ الدَّارِ لِلتِّجَارَةِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحِلَّ أَسْرُهُ وَقَتْلُهُ. 3388 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ دَارِ مُوَادِعِينَا أَسَرَهُمْ أَهْلُ دَارٍ أُخْرَى فَأَدْخَلُوهُمْ دَارَهُمْ، أَوْ أَخْرَجُوهُمْ عَلَى أَهْلِ دَارِهِمْ فَحَارَبُوهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1700 وَأُلْحِقُوا بِأَهْلِ دَارٍ أُخْرَى ثُمَّ ظَهْرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ كَانُوا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ أُخْرَى حِينَ الْتَحَقُوا بِهِمْ مُنَابِذِينَ أَهْلَ دَارِهِمْ مُحَارِبِينَ لَهُمْ فَلَا يَبْقَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ بِاعْتِبَارِ دَارِهِمْ. 3389 - وَكَذَلِكَ الْأُسَرَاءُ فَقَدْ صَارُوا مَقْهُورِينَ فِي يَدِ أَهْلِ دَارٍ أُخْرَى لَا يَمْلِكُونَ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الدَّارِ الْأُخْرَى بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلُوا إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ. لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الَّتِي دَخَلُوهَا [بِأَمَانٍ] . (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا دَخَلُوا إلَيْنَا مُسْتَأْمَنِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ عَلَى حَالِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسَرْنَاهُمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ دَارَنَا، أَوْ خَرَجُوا إلَيْنَا مُنَابِذِينَ لِأَهْلِ دَارِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا. 3390 - وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ تَزَوَّجَتْ فِي أُولَئِكَ الْآخَرِينَ فَنَقَلُوهَا إلَيْهِمْ وَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ فَهِيَ وَأَوْلَادُهَا فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا وَزَوْجُهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمُوَادَعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1701 أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ فِينَا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا أَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا. 3391 - وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الْأُخْرَى فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا بِغَيْرِ أَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَوْلَادِهَا سَبِيلٌ. لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ تَبَعًا لِزَوْجِهَا. 3392 - وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ جَارِيَةً مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الْأُخْرَى فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ خَرَجَتْ وَأَوْلَادُهَا بِغَيْرِ أَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَوْلَادِهَا سَبِيلٌ. لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ الْمُوَادَعَةِ تَبَعًا لِزَوْجِهَا. 3393 - وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ جَارِيَةً مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الْأُخْرَى فَهَذِهِ وَالْمَنْكُوحَةُ سَوَاءٌ. لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا كَتَبَعِيَّةِ الْحُرَّةِ لِزَوْجِهَا، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ 3394 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ دَارِ الْمُوَادَعَةِ غَلَبُوا عَلَى الدَّارِ الْأُخْرَى فَصَارُوا عَبِيدًا لَهُمْ، أَوْ جَعَلُوهُمْ ذِمَّةً لَهُمْ، يُؤَدُّونَ إلَيْهِمْ الْخَرَاجَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ، أَمَّا إذَا صَارُوا عَبِيدًا لَهُمْ فَلِأَنَّ الْأَمَانَ بِسَبَبِ الْمُوَادَعَةِ ثَبَتَ لِلْأَمْلَاكِ كَمَا يَثْبُتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1702 لِلْمَالِكِ. وَأَمَّا إذَا صَارُوا ذِمَّةً لَهُمْ فَلِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَيْدِيهمْ، بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَارَ الذِّمَّةِ تَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ لَا سَبِيلَ لَنَا عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ لَا مُوَادَعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هُمْ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى بِلَادِ الْمُوَادِعِينَ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى الدَّارَيْنِ جَمِيعًا. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْهُورِينَ فِي الدَّارَيْنِ لِلْقَاهِرِينَ. وَلَا مُوَادَعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَاهِرِينَ. وَهَذَا لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُكْمِ الدَّارِ هُوَ السُّلْطَانُ فِي ظُهُورِ الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ حُكْمَ الْمُوَادِعِينَ فَبِظُهُورِهِمْ عَلَى الدَّارِ الْأُخْرَى كَانَتْ الدَّارُ دَارَ الْمُوَادَعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ حُكْمَ سُلْطَانٍ آخَرَ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّارَيْنِ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ. 3395 - قَالَ: وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ حِصْنٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذُوا مِنْهُمْ مَالًا عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ فَهَذَا الْمَالُ فَيْءٌ وَفِيهِ الْخُمْسُ. لِأَنَّهُ مُصَابٌ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. 3369 - بِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلُوا إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْجَيْشُ بِسَاحَتِهِمْ فَوَادَعُوهُ مُدَّةً عَلَى مَالٍ يُعْطُونَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1703 لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ غَيْرُ الْمُصَابِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، وَلَكِنْ بَذَلُوهُ عَلَى سَبِيلِ الرِّضَاءِ فَأَخَذَهُ إمَامُ الْمُسْلِمِينَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَذُلِّ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ لَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ. 3397 - وَاَلَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا وَادَعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَالٍ يُعْطُونَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ ذَلِكَ الْمَالِ مِنْهُمْ. لِأَنَّهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ صَارُوا كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. 3398 - بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الْجُعَلِ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَهَذَا لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحَقٌّ حَدًّا فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِخِلَافِ قَتْلِ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَؤُلَاءِ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ جَازَ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ، وَأَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ، فَكَذَلِكَ أَخْذُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الْمُوَادَعَةِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ. 3399 - وَإِنْ صَالِحَ الْإِمَامُ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُ مِنْ رِجَالِهِمْ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْمُوَادَعَةِ أَخْذُ مَالٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُسْتَرَقُّ بِحَالٍ، وَلَكِنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ، فَهَذَا إظْهَارُ دَلِيلٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِمْ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1704 وَإِنْ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِهَذَا أَيْضًا. لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي نِسَائِهِمْ الْإِجْبَارُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي رِجَالِهِمْ الْقَتْلُ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا، فَبِهَذَا الصُّلْحِ يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الصُّلْحِ اشْتِرَاطُ الْمَالِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّءُوسَ الَّتِي نَأْخُذهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ، وَبِالْمُوَادَعَةِ صَارُوا آمِنِينَ فَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. 3401 - وَلَكِنَّا نُجْبِرُ مَنْ أَخَذْنَا مِنْهُمْ بِحُكْمِ الشَّرْطِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَانُوا أَحْرَارًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالِحُوهُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ كُلَّ سَنَةِ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَإِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ. لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ الْمُعَيَّنِينَ. 3402 - فَإِذَا أُخِذُوا كَانُوا عَبِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ يُسْتَرَقُّونَ بَعْدَ مَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، فَاشْتِرَاطُ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُوَادَعَةِ كَاشْتِرَاطِ مَالٍ آخَرَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ إنْ أُخِذَ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فَيْئًا فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ إنْ أُخِذُوا كَانُوا مَمَالِيكَ لِلْمُسْلِمِينَ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1705 وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ رِجَالِهِمْ الْمُرْتَدِّينَ بِأَعْيَانِهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَمْ يُكْرَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا رِقَّ عَلَى رِجَالِهِمْ الْمُرْتَدِّينَ بِحَالٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اشْتِرَاطُ خَرَاجٍ عَلَيْهِمْ فِي الْمُوَادَعَةِ، سَوَاءٌ كَانُوا بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ. 3404 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْعَرَبِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَطَلَبُوا إلَيْهِ الْمُوَادَعَةَ فَحَالُ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْمُوَادَعَةِ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. لِأَنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا السَّيْفُ، أَوْ الْإِسْلَامُ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُرْتَدِّينَ. 3405 - إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا قَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رِجَالِنَا فِي كُلِّ سَنَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ عَلَى هَذَا، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَأْخُذْ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رِجَالِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ أَرِقَّائِهِمْ فَيَضَعُهَا مَوْضِعَ الْخَرَاجِ. وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِي هَذَا اشْتِرَاطُ الْمَالِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُوَادَعَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا، وَفِي الْمُرْتَدِّينَ لَا يَتَعَيَّنُ الْمِائَةُ الرَّأْسِ مِنْ رِجَالِ عَبِيدِهِمْ فَلَا يَكُونُ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْمَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبِيدَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ يُقْتَلُونَ كَأَحْرَارِهِمْ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِ مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ عَبِيدِهِمْ، وَعَبِيدِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَيْسُوا كَأَحْرَارِهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ، فَإِنَّا إذَا ظَهْرنَا عَلَى عَبِيدِهِمْ لَا نَقْتُلهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1706 فَكَانَ فِي تَعْيِينِ مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ الْعَبِيدِ فَائِدَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُقْتَضَى هَذَا الشَّرْطِ تَمَلُّكُ الْمُسَمَّى عَلَى وَجْهٍ يُسْتَدَامُ الْمِلْكُ فِيهِمْ، وَعَبِيدُهُمْ مَحَلُّ ذَلِكَ دُونَ أَحْرَارِهِمْ. وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ فِي الْفَرْقِ إلَى حَرْفٍ آخَرَ قَدْ طَوَّلَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ رَاجِعٌ عَنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِهِ فَكَانَ قَتْلُهُ مُسْتَحَقًّا حَدًّا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ أَوْ رَسُولًا، أَوْ غَيْرَ رَسُولٍ لَمْ نَدَعْهُ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنْ نَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَحَقَّ قَتْلَهُ قِصَاصًا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَصْلُ الْإِسْلَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ إلَيْنَا بِأَمَانٍ رَسُولًا أَوْ غَيْرَ رَسُولٍ مَكَّنَّاهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِهِ، فَقَدْ «كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِأَمَانٍ فَيُؤَمِّنُهُمْ وَيَفِي لَهُمْ بِالْأَمَانِ» ، فَعَرَفْنَا أَنَّ قَتْلَهُمْ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ حَدًّا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ الْجَبْرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا اُسْتُرِقُّوا، وَأَنَّ مِنْ تَهَوَّدَ مِنْهُمْ، أَوْ تَنَصَّرَ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ وَلَا وَطْءُ النِّسَاءِ مِنْهُمْ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، بِخِلَافِ الْعَرَبِ، وَالْحُكْمُ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَنَّ نِسَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ يَكُونُونَ فَيْئًا وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا اُسْتُرِقُّوا، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمْ وَيَحِلُّ وَطْءُ نِسَائِهِمْ بِالْمِلْكِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ فَبِهَذَا تَبَيَّنَّ أَنَّ قَتْلَهُمْ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ حَدًّا. 3406 - فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ رِجَالِهِمْ كُلَّ سَنَةٍ قُلْنَا يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ بَعْدَ الْأَمَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1707 وَذَلِكَ عَبِيدُهُمْ دُونَ أَحْرَارِهِمْ، يُقَرِّرُ هَذَا أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ أَخَذْنَا مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ أَحْرَارِهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَقْتُلَهُمْ. لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُمْ، وَبَعْدَ الْأَمَانِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يُمْنَعُ قَتْلُهُمْ بِسَبَبِ الْأَمَانِ، فَلِهَذَا نَأْخُذُ الْمِائَةَ الرَّأْسِ مِنْ أَحْرَارِهِمْ ثُمَّ نَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَسْلَمُوا وَإِلَّا نَقْتُلُهُمْ. 3407 - وَالْحُكْمُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ كَالْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ خَرَاجٌ. لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ طَلَبُوا أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا جَازَ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . «وَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ نَجْرَانَ، وَهُمْ نَصَارَى مِنْ الْعَرَبِ، عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ.» وَأَرَادَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَضْعَ الْجِزْيَةِ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ وَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ فَقَالَ: هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ. فَإِذَا تَبَيَّنَّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ جَوَازُ أَخْذِ الْخَرَاجِ مِنْهُمْ جَوَّزْنَا أَخْذَ الْمَالِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَادَعَةِ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخَرَاجِ. وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُقَاتِلَ الْعَرَبَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا نَقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرَهُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَاتَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَوْا فَالْجِزْيَةُ.» 3408 - فَإِنْ وَادَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1708 جَائِزٌ، ثُمَّ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمِائَةَ الرَّأْسَ مِنْ أَرِقَّائِهِمْ لَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ. لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُمْ فَلَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ. 3409 - وَإِنْ أَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، وَإِنْ أَعْطَوْهُ قِيمَةَ الرُّءُوسِ مِنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي اشْتِرَاطِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا فِي مُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ. 3410 - وَإِنْ عَزَلُوا فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ وَقَالُوا: آمِنُونَا عَلَى هَؤُلَاءِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ جَائِزٌ. 3411 - وَكُلُّ مُوَادَعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُوَادَعَاتِ لَمْ يَأْخُذْ الْإِمَامُ فِيهَا جُعْلًا فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهَا مَتَى شَاءَ إذَا رَأَى الْحَظَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يُقَاتِلُهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ وَإِمْهَالٍ حَتَّى يَصِلَ الْخَبَرُ إلَى أَطْرَافِهِمْ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ عَلَى جُعْلٍ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهَا مَتَى شَاءَ أَيْضًا. وَلَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ الْجُعْلِ. حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَقَبَضَهَا كُلّهَا ثُمَّ أَرَادَ نَقْضَ الْمُوَادَعَةِ بِمَدِّ سَنَةٍ فَعَلَيْهِ رَدُّ ثُلُثَيْ الْمَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1709 أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَدَا لَهُ عَقِبَ الْمُوَادَعَةِ فِي النَّقْضِ لَزِمَهُ رَدُّ جَمِيعِ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ إذَا بَدَا لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ. وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ فَقَدْ انْتَهَتْ الْمُوَادَعَةُ وَحَلَّ قِتَالُهُمْ بِغَيْرِ نَبْذِ الْأَمَانِ، إلَّا أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ حَتَّى يَعُودَ إلَى مَأْمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ آمِنًا فِي دَارِنَا فَمَا لَمْ يَبْلُغْ مَأْمَنَهُ لَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1710 [بَابُ الْمُوَادَعَةِ مِمَّا يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ] 161 - بَابُ الْمُوَادَعَةِ مِمَّا يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ فَيَسَعُهُمْ قِتَالُهُمْ بَعْدَهُ، أَوْ لَا يَسَعُ 3412 - قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَوْ أَنَّ جُنْدًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَاصَرُوا بَعْضَ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ فَخَافَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَقَالُوا لَهُمْ: نُعْطِيكُمْ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تَنْصَرِفُوا عَنَّا إلَى بِلَادِكُمْ فَرَضَوْا بِهِ وَقَبَضُوا الْجُعْلَ، ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمِينَ رَأَوْا مِنْهُمْ عَوْرَةً قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ وَبَعْدَ مَا انْصَرَفُوا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا إلَى بِلَادِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ أَغَرَّ مَا كَانُوا، فَيَقْتُلُونَ وَيَسْبُونَ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ. لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا آمَنُوهُمْ وَإِنَّمَا فَدَوْا أَنْفُسَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ بِالْمَالِ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ، فَكَانُوا ظَالِمِينَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْإِحَاطَةِ بِهِمْ وَأَخْذِ مَالِهِمْ، فَلَهُمْ أَنْ يَنْتَصِفُوا مِنْهُمْ إذَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] . وَقَالَ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1711 وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] . ثُمَّ النَّبْذُ إلَيْهِمْ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ، وَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَالًا، لَا إذَا أَعْطَوْهُمْ مَالًا رِشْوَةً عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ. 3413 - وَلَوْ كَانُوا قَالُوا لَهُمْ: نُصَالِحُكُمْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تَنْصَرِفُوا عَنَّا إلَى بِلَادِكُمْ، أَوْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ صَالِحُونَا عَلَى أَنْ تُعْطُونَا عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ نَنْصَرِفَ عَنْكُمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، أَوْ يَرْجِعَ الْقَوْمُ إلَى بِلَادِهِمْ لِلصُّلْحِ وَالْمُوَادَعَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَإِنَّ قِتَالَهُمْ بَعْدَهَا مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ يَكُونُ غَدْرًا لِلْأَمَانِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ. وَالْمُصَالَحَةُ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ، فَيَتَنَاوَلُ الْجَانِبَيْنِ، سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، أَوْ الْمُشْرِكُونَ. 3414 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لِلْآخَرِ نُسَالِمُكُمْ، أَوْ نُتَارِكُكُمْ، أَوْ نُوَادِعُكُمْ، أَوْ تُؤَمِّنُونَنَا وَنُؤَمِّنُكُمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ ذَكَرُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يَشْتَرِطُهُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَحِلَّ قِتَالُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ نَبْذٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ اشْتِرَاطِهِ إذَا أَعْطَوْهُمْ مَالًا عَلَى ذَلِكَ وَعِنْدَ الْمُصَالَحَةِ وَالْمُوَادَعَةِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ إلَى أَنْ يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ فَإِذَا بَلَغُوا مَأْمَنَهُمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1712 لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ كَانَتْ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا، وَانْصِرَافُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَكُونُ بِوُصُولِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَمَأْمَنِهِمْ عَادَةً، وَفِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَنْصَرِفُونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ. 3415 - وَإِنْ قَالُوا نُعْطِيكُمْ كَذَا عَلَى أَلَّا تُقَاتِلُونَا حَتَّى تَنْصَرِفُوا عَنَّا فَهَذَا وَذِكْرُ الْمُصَالَحَةِ وَالْمُوَادَعَةِ سَوَاءٌ. لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ اشْتِرَاطُ تَرْكِ الْقِتَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُوَادَعَةَ، وَالتَّصْرِيحُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ كَالتَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْعَقْدِ. 3416 - وَإِنْ قَالُوا نُعْطِيكُمْ كَذَا عَلَى أَلَّا تَقْتُلُوا مِنَّا أَحَدًا حَتَّى تَنْصَرِفُوا فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا عَلَى أَنْ تَكُفُّوا عَنَّا شَهْرًا. لِأَنَّ فِي هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، الْمُسْلِمِينَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ أَمَانًا صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً. 3417 - وَلَوْ قَالُوا نُصَالِحُكُمْ، أَوْ نُوَادِعُكُمْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ كَذَا عَلَى أَنْ تَكُفُّوا عَنَّا شَهْرًا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، أَوْ يَمْضِيَ الْوَقْتُ. لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا لَهُمْ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْمُدَّةِ بِذِكْرِ لَفْظِ الْمُصَالَحَةِ وَالْمُوَادَعَةِ وَلَكِنَّ الْمُوَادَعَةَ تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهَا حُرْمَةُ الْقِتَالِ، وَالْحُرُمَاتُ تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَمَا لَمْ يَمْضِ الشَّهْرُ لَا يَنْتَهِي الْأَمَانُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1713 ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا فِي غُرَّةِ الْهِلَالِ فَالْمُعْتَبَرُ شَهْرٌ بِالْهِلَالِ، نَقَصَ، أَوْ لَمْ يَنْقُصْ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا. لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ فِي الشُّهُورِ أَصْلٌ، وَالْأَيَّامُ بَدَلٌ عَنْهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَالْمَصِيرُ إلَى الْبَدَلِ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ لَا مَعَ قِيَامِهِ. 3419 - وَإِنْ كَانُوا صَالَحُوهُمْ عَلَى سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ غُرَّةِ الْهِلَالِ فَهُوَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ.} [التوبة: 36] وَإِنْ كَانَ [ذَلِكَ] فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَشَهْرٌ بِالْأَيَّامِ فَيُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ أَيَّامِ هَذَا الشَّهْرِ ثُمَّ يُحْسَبُ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشَرَ تَمَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِهَذِهِ الْأَيَّامِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَعْتَبِرُ الشُّهُورَ كُلَّهَا بِالْأَيَّامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِي الْعِدَّةِ وَمُدَّةِ الْإِجَارَةِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ، فَهُمَا يَقُولَانِ إنَّمَا يُصَارُ إلَى الْبَدَلِ عِنْدَ تَحَقُّقِ فَوَاتِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ شَهْرٌ وَاحِدٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ، فَيَكُونُ دُخُولُ الشَّهْرِ الثَّانِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ كَدُخُولِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، وَهَكَذَا كُلُّ شَهْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1714 وَلَوْ قَالَ لَهُمْ نُعْطِيكُمْ كُرَاعَنَا وَسِلَاحَنَا عَلَى أَنْ تُعْطُونَا أَلْفَ دِينَارٍ وَتَنْصَرِفُوا عَنَّا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ. لِأَنَّ مَا ذَكَرُوا بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَرَى بَيْنَهُمَا. وَالْبَيْعُ لَا يَكُونُ دَلِيلَ أَمَانٍ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ ثُمَّ سَأَلُوهُمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ. وَلَيْسَ فِي هَذَا اشْتِرَاطُ أَمَانٍ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. 3421 - وَإِنْ كَانُوا قَالُوا نُصَالِحُكُمْ، أَوْ نُتَارِكُكُمْ، أَوْ نُسَالِمُكُمْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ عَلَى أَنْ تُعْطُونَا أَلْفَ دِينَارٍ وَتَنْصَرِفُوا عَنَّا فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، أَوْ يُبَلِّغُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ. لِوُجُودِ لَفْظٍ هُوَ دَلِيلُ الْأَمَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَبِانْضِمَامِ الْبَيْعِ إلَى الْمُصَالَحَةِ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْمُصَالَحَةِ. 3422 - فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ وَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ قَدْ أَخَذُوا مِنْهُمْ مَالًا، وَالْمُصَالَحَةُ إذَا كَانَ فِيهَا أَخْذُ مَالٍ فَالنَّبْذُ فِيهَا لَا يَتِمُّ بِدُونِ رَدِّ الْمَالِ إلَيْهِمْ. وَلَكِنَّ السَّبِيلَ أَنْ يَعْرِضُوا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَرُدُّوا مَا أَخَذُوا مِنْ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَيَرُدُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَهُمْ ثُمَّ يُقَاتِلُونَهُمْ، فَإِنْ رَضُوا بِذَلِكَ تَرَادُّوا ثُمَّ قَدْ تَمَّ النَّبْذُ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ، وَإِنْ أَبِي الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَرُدُّوا مَا أَخَذُوا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ ثُمَّ يُقَاتِلُوهُمْ وَلَا يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1715 لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ امْتَنَعُوا مِنْ رَدِّ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَقَدْ رَضُوا بِأَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِمُقَابَلَتِهَا فَتَبْقَى الْمُصَالَحَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُتَعَرِّيَةً عَنْ الْبَدَلِ، وَالْقِتَالُ فِيهِ يَحِلُّ بَعْدَ النَّبْذِ مِنْ غَيْرِ رَدِّ شَيْءٍ. 3423 - وَلَوْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَبَلَغُوا مَأْمَنَهُمْ، ثُمَّ دَخَلَتْ سَرِيَّةٌ دَارَ الْحَرْبِ وَأَصَابُوا ذَلِكَ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ فَلَيْسَ لِأَصْحَابِهِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ سَوَاءٌ وَجَدُوهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَهَا. لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُمْ ذَلِكَ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ مَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ، وَحَقُّ الْأَخْذِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِيمَا يَجِدُهُ فِي الْغَنِيمَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا أَخْذَ مِنْهُ قَهَرَا لَا فِيمَا أَعْطَاهُ بِطِيبِ نَفْسِهِ طَوْعًا؛ لِأَنَّ مَا أُخِذَ مِنْهُ قَهَرَا قَدْ صَارَ هُوَ فِيهِ مَظْلُومًا. وَعَلَى الْغُزَاةِ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ، وَدَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ بِإِعَادَتِهِ إلَى يَدِهِ. فَأَمَّا مَا أَعْطَاهُ بِطِيبِ نَفْسِهِ فَهُوَ لَيْسَ بِمُسَاوٍ لِمَا أُخِذَ مِنْهُ قَهْرًا، وَحَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. أَلَا تَرَى - أَنَّهُمْ لَوْ أَعْطَوْا فِي فِدَاءِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ أَمْتِعَتِهِمْ ثُمَّ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الَّذِي يُقَالُ إنَّ سَبَبَ وُصُولِ هَذَا الْمَالِ إلَى أَيْدِيهمْ كَانَ ظُلْمًا مِنْهُمْ. وَهُوَ مُحَاصَرَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ هَذَا كَالْمَأْخُوذِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيلَاءِ قَهْرًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى مَوْجُودٌ فَقَدْ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي حَبْسِ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى فَادَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِمَالٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1716 وَلَوْ كَانُوا لَمْ يَدْخُلُوا بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ دَارَ الْحَرْبِ حَتَّى ظَفِرَ بِهِمْ أَهْلُ السَّرِيَّةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ صَارَ الْمَأْخُوذُ مَمْلُوكًا لَهُمْ إذَا الْمُلَّاكُ أَعْطَوْا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا السَّبَبِ يَتِمُّ بِالْقَبْضِ كَالتَّمَلُّكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذُوهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ هُوَ الْقَهْرُ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يُحْرِزُوهُ بِدَارِهِمْ. ثُمَّ يَكُونُ هَذَا فَيْئًا لِأَهْلِ السَّرِيَّةِ يُخَمَّسُ. لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ أَهْلُ مَنَعَةٍ فِي دَارِنَا فَلَا أَمَانَ لَهُمْ مِنَّا. وَإِذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ كَانَ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِي أَيْدِينَا. 3424 - وَلَوْ كَانُوا صَالَحُوا رَجُلًا حَرْبِيًّا، أَوْ قَوْمًا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ مَتَاعًا فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى مِنْ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ دَخَلُوا دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذُوهُمْ أَرِقَّاءَ - وَمَا مَعَهُمْ، فَإِنَّ الْمَتَاعَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَهْلُ مَنَعَةٍ. لِأَنَّ حُكْمَ قَبْضَتِهِمْ إنَّمَا يَتِمُّ بِاعْتِبَارِ مَنَعَتْهُمْ، وَذَلِكَ بِالْوُصُولِ إلَى دَارِهِمْ، أَوْ بِأَنْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ قَبْضُهُمْ، بَلْ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَفَعَهُ فِي فِدَاءِ أَسِيرٍ حُرٍّ، وَالْأَسِيرُ الْحُرُّ لَا يَمْلِكُ بِحَالٍ، فَلَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ مُبَادَلَةً حَقِيقِيَّةً حَتَّى يَثْبُتَ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1717 الْعَقْدِ، أَوْ بِأَدْنَى الْقَبْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَازِ لِيَتِمَّ الْقَبْضُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَقْبُوضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ صَاحِبَ ذَلِكَ الْمَتَاعِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ مَا خَلَّوْا سَبِيلَ الْأَسِيرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِسَبَبٍ هُوَ ظُلْمٌ، وَهُوَ حَبْسُ الْأَسِيرِ الْحُرِّ فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ [عَلَيْهِ] . (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى دَارِهِمْ أُمِرُوا بِرَدِّ ذَلِكَ إلَى أَهْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُؤْمَرُونَ بِرَدِّهِ، فَكَذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفَصْلَيْنِ. 3425 - وَلَوْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ، كَانَ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا. فَكَذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ، فَكَانَ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ أَوْ لَمْ يَكُونُوا فِيمَا أَخَذُوا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَحُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجْرِي فِي عَسْكَرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُلْزَمِينَ لِذَلِكَ طَوْعًا، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ بِاعْتِبَارِ مَنَعَتْهُمْ، فَلَا يُؤْثَرُ مَعْنَى الظُّلْمِ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ جَارٍ عَلَيْهِمْ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْقَهْرِ، فَلَا يَصِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1718 مَمْلُوكًا لَهُمْ بِالْقَبْضِ إذَا كَانُوا ظَالِمِينَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ أَعْطَى بِطِيبِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الرِّشْوَةِ وَالْمَالِ الَّذِي يُعْطَى بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُصَانَعَةِ. وَاَلَّذِي يُوضِحُ هَذَا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَدَخَلَ مُسْلِمٌ عَسْكَرَهُمْ، وَبَاعَهُمْ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ كَانَ جَائِزًا. وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، فَبِهَذَا الْفَصْلِ تَبَيَّنَ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْفَرْقِ. 3426 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْمَنَعَةِ مِنْهُمْ أَخَذُوا قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا لَهُمْ: لَنَقْتُلَنَّكُمْ، أَوْ تُعْطُونَا أَمْوَالَكُمْ، أَوْ تَدُلُّونَا عَلَيْهَا فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَنْقَذُوا تِلْكَ الْأَمْوَالَ مِنْ أَيْدِيهمْ رَدُّوهَا عَلَى أَهْلِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ. لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا الْمَالَ هَا هُنَا قَهْرًا، فَإِنَّهُمْ حِينَ أَخَذُوا الْمُلَّاكَ وَقَهَرُوهُمْ فَقَدْ صَارُوا آخِذِينَ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِمَا مَعَهُمْ مِنْ الْمَالِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا السَّبَبِ لَا يَمْلِكُونَ مَالَ الْمُسْلِمِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ، فَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهُ إذَا أَسْلَمُوا، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ رَدُّهُ إذَا أَصَابُوهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَهُنَاكَ صَاحِبُ الْمَالِ أَعْطَى الْمَالَ بِطِيبِ نَفْسِهِ فِي حَالِ مَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُمْ بِالْقَبْضِ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةِ، لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ 3427 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَحَاطَ بِهِمْ الْمُشْرِكُونَ قَالُوا لَهُمْ: نَخْرُجُ عَنْكُمْ بِنِسَائِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَنُسَلِّمُ لَكُمْ الْمَدِينَةَ وَمَا فِيهَا، فَخَرَجُوا عَلَى هَذَا، أَوْ لَمْ يَخْرُجُوا، أَوْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1719 ثُمَّ رَأَوْا عَوْرَةً لِلْمُشْرِكَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤَمِّنُوهُمْ، وَإِنَّمَا أَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ وَيُسَلِّمُونَ الْمَدِينَةَ إلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَمَانٍ بَيْنَهُمْ، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ الْقَهْرِ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ. 3428 - وَلَوْ قَالُوا نُصَالِحُكُمْ عَلَى أَنْ نَخْرُجَ عَنْكُمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ. لِأَنَّ لَفْظَ الْمُصَالَحَةِ دَلِيلُ اشْتِرَاطِ الْأَمَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقِتَالَ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ. 3429 - فَإِنْ خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ بِذَرَارِيِّهِمْ، فَلَمَّا صَارُوا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ رَأَوْا مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَوْرَةً فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ خُرُوجُهُمْ بِذَرَارِيِّهِمْ إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ صُلْحٍ. وَهَذَا يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ إذَا رَجَعَ إلَى عُرْفِ النَّاسِ، وَبِمُجَرَّدِ الْخُرُوجِ إلَى بَابِ الْمَدِينَةِ لَا يَتِمُّ هَذَا الْمَقْصُودُ فَلَا يَنْتَهِي حُكْمُ الْأَمَانِ. 3430 - وَكَذَلِكَ إذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِحَيْثُ يَخَافُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لَوْلَا الصُّلْحُ فَأَمَّا إذَا وَصَلُوا إلَى مَوْضِعٍ لَا يَخَافُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ إلَّا بِالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ وَالصَّيْرُورَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1720 نَحْوِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ. لِأَنَّ الْأَمَانَ الثَّابِتَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِذَلِكَ الصُّلْحِ قَدْ انْتَهَى بِوُصُولِ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ الصُّلْحِ أَنْ يَتَمَيَّزَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْآخَرَ، وَقَدْ حَصَلَ التَّمَيُّزُ حَقِيقَةً وَحُكْمُهَا بِهَذَا الْقَدْرِ. 3431 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ فَأَحْدَقَ بِهِمْ الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَا فِي الْعَسْكَرِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ، أَوْ يَرْتَحِلُوا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ حَتَّى يَدْخُلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ.؛ لِأَنَّ الِارْتِحَالَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْخُرُوجِ مِنْ دَارِهِمْ، وَبِوُصُولِ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَأْمَنِهِمْ، وَمَأْمَنُهُمْ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَفِي الْأَوَّلِ أَهْلُ الْحَرْبِ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَارْتِحَالُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ إنَّمَا يَتِمُّ بِوُصُولِهِمْ إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُ فِيهِ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ [عَنْ الْآخَرَ] فَكَانَ قَوْلُهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى أَنْ تَرْجِعُوا عَنَّا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ حَتَّى تَرْجِعُوا عَنَّا إلَى بِلَادِكُمْ - لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ. 3432 - وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْمَحْصُورُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَالَحُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ بِنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ حَتَّى يَبْلُغُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1721 لِأَنَّ الشَّرْطَ هَكَذَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَالشَّرْطُ أَمْلَكُ. 3433 - فَإِنْ خَرَجُوا عَنْهُمْ إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ أَقَامَ [الْمُسْلِمُونَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ] قَدْرَ الْمَسِيرِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانُوا شَرَطُوا لَهُمْ ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ نَبْذٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ لَيْسَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَلَكِنَّ الْأَمَانَ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِمْ فِي مُدَّةِ السَّيْرِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُبْتَنَى الْحُكْمُ عَلَى الْمَقْصُودِ لَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يَكُونُ مُفِيدًا دُونَ مَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا. فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَدْرُ الْمَسِيرِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَقَطْ. 3434 - قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارُ الْمَسِيرِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمِقْدَارُ الِانْصِرَافِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمْ فِيهِ. لِأَنَّ مَقْصُودَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي شَرْطِ الْأَمَانِ أَلَّا يَتَمَكَّنُوا مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهِمْ، بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا بِمُدَّةٍ مَدِيدَةٍ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَرَطُوا الْخُرُوجَ عَنْهُمْ إلَى الْكُوفَةِ فَأَتَوْا الْبَصْرَةَ، أَوْ مَكَّةَ، أَوْ الشَّامَ، وَذَلِكَ أَبْعَدُ مِنْ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِمْ فَيُقَاتِلُوهُمْ بِغَيْرِ نَبْذٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1722 وَفِي هَذَا أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي اعْتِبَارِ عَيْنِ الْمَكَانِ الْمُسَمَّى. وَإِنَّمَا فَائِدَتُهُمْ فِي اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ، (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ عَلَى أَلَّا يُقَاتِلُوهُمْ شَهْرًا أَوْ عَلَى [أَنْ يَذْهَبُوا] فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ شَهْرًا فَلَمَّا كَانُوا عَلَى مَسِيرَةِ أَيَّامٍ أَقَامُوا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ شَهْرًا، ثُمَّ أَغَارُوا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ بَعْدَ أَنْ يَصِلُوا إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُ فِيهِ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْآخَرَ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَا لَوْ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ بَعْدُ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَرِهْنَا فِيهِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ، فَكَذَلِكَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ. لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالصُّلْحِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمْ، وَأَمَانُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ نَافِذٌ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ ذِمَّتِهِمْ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَازَ لِأَهْلِ الْمَدِينَة أَنْ يَكُرُّوا عَلَيْهِمْ فَيُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ بِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمُرَجِّعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1723 [بَابٌ مِنْ فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمُوَادَعَةِ وَمَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِغَصْبِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا لَا يَكُونُ] 162 - بَابٌ مِنْ فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمُوَادَعَةِ وَمَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِغَصْبِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا لَا يَكُونُ 3435 - وَإِذَا وَادَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَى الْمُسْلِمِينَ مِائَةَ رَأْسٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا آمِنِينَ فِي دَارِهِمْ لَا يُجْرِي الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُمْ، وَلَا يُغِيرُونَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ الْمُوَادَعَةُ عَلَى هَذَا إلَّا لِخَوْفٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُوَادَعَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَهُوَ الدُّعَاءُ إلَى الدِّينِ بِأَرْفَقِ الطَّرِيقَيْنِ، وَالْتِزَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إذَا شَرَطُوا أَنْ يَكُونُوا مُتَقَرِّرِينَ فِي دَارِهِمْ، لَا يَجْرِي الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ الْإِجَابَةُ إلَى ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. 3436 - وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمِائَةُ الرَّأْسِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْسَاطِ الرُّءُوسِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، إنْ أَتَوْا بِالرُّءُوسِ أَوْ بِالْقِيمَةِ وَجَبَ قَبُولُهَا مِنْهُمْ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي اشْتِرَاطِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا فِي مُبَادَلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1724 مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ أَعْطَوْا بِالرُّءُوسِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ حِنْطَةً، أَوْ كُرَاعًا، أَوْ سِلَاحًا، أَوْ بُرًّا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ. لِأَنَّ قَبُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْمُبَايَعَةِ وَهُوَ يَعْتَمِدُ الرِّضَاءَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْقِيمَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الرُّءُوسِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَهِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ. 3437 - وَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْذِ جِنْسٍ آخَرَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْمُوَادَعَةِ. لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ مُبَاشَرَةِ عَقْدِ الشِّرَاءِ وَهُوَ عَقْدٌ آخَرُ سِوَى الْمُوَادَعَةِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْمُوَادَعَةِ أَصْلًا. 3438 - قَالَ وَالرُّءُوسُ الْأَوْسَاطُ مِنْ رَقِيقِ أُولَئِكَ الْحَرْبِيِّينَ، لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْطُوا الرُّءُوسَ مِنْ غَيْرِ رَقِيقِهِمْ.؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَلْتَزِمُونَ تَسْلِيمَ الرُّءُوسِ مِنْ رَقِيقِهِمْ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا آخَرَ مَعْرُوفًا، فَإِنَّ الْعُرْفَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ بِخِلَافِهِ. 3439 - فَإِنْ أَتَوْهُمْ بِمِائَةِ رَأْسٍ مِنْ أَبْنَائِهِمْ أَوْ نِسَائِهِمْ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ. لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُمْ فَصَارُوا بِهِ مَعْصُومِينَ عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1725 أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ لَوْ بَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ ابْنَهُ بَعْدَ هَذَا الْأَمَانِ لَمْ يَجُزْ هَذَا الْبَيْعُ، وَلَمْ يَمْلِكْهُ الْمُسْلِمُ، لِأَجْلِ الْأَمَانِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُوَادَعَةِ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُمْ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَهُمْ الْأَمَانُ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَلِكُ قَاهِرًا لَهُمْ وَهُمْ جَمِيعًا مُقِرُّونَ لَهُ بِالْمُلْكِ يَبِيعُ وَيَهَبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَأَعْطَى الْمَلِكُ مِنْهُمْ مِائَةَ رَأْسٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ مُقِرُّونَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَبِهَذَا الْإِقْرَارِ صَارُوا عَبِيدًا لَهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِمْ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَخْذُهُمْ مِنْهُ فِي الرُّءُوسِ الْمَشْرُوطَةِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُوَادَعَةِ. 3440 - وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا لَهُ مُقِرِّينَ بِالْعُبُودِيَّةِ فَجَاءَ بِمِائَةِ رَأْسٍ وَقَالَ: هُمْ عَبِيدِي فَخُذُوهُمْ، وَقَالَ الْقَوْمُ: بَلْ نَحْنُ أَحْرَارٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْمِائَةُ رَأْسٍ مَقْهُورِينَ بِحَشَمِ الْمَلِكِ فِي أَيْدِيهِمْ حِينَ أَتَوْنَا بِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِمْ. لِأَنَّهُمْ إنْ كَانُوا عَبِيدًا لَهُمْ فَأَخْذُهُمْ حَلَالٌ لَنَا، وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَقَدْ صَارَ قَاهِرًا لَهُمْ بِقُوَّةِ السَّلْطَنَةِ وَقُوَّةِ الْحَشَمِ، فَكَانُوا عَبِيدًا لَهُ أَيْضًا، وَهَذَا لِأَنَّ مَلِكَهُمْ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ بِهِمْ هَذَا وَهَذَا عِنْدَهُمْ جَائِزٌ فِي حُكْمِهِمْ أَنَّ مَنْ قَهَرَ إنْسَانًا فَاسْتَعْبَدَهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ أَجَزْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَجَازُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا فِي أَصْلِ الْمُوَادَعَةِ أَنَّ أَحْكَامَنَا لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا الشَّرْطِ كَانَ الْجَارِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الشِّرْكِ، فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَجَازُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ أَيْضًا: 3441 - وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمِائَةَ الرَّأْسِ مِنْ أَحْرَارِهِمْ قَهَرُوهُمْ فِي بِلَادِهِمْ وَاسْتَعْبَدُوهُمْ، ثُمَّ جَاءُونَا بِهِمْ مَقْهُورِينَ، فَلَا بَأْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1726 بِأَخْذِهِمْ لِمَا قَرَّرْنَا، وَلَوْ كَانُوا دَخَلُوا جَمِيعًا دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ إلَّا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ كَانُوا آمِنِينَ بِهَا فِي دَارِهِمْ فَكَذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. 3442 - فَإِنْ قَهَرُوا مِنْهُمْ مِائَةَ رَأْسٍ بَعْدَ مَا خَرَجُوا إلَيْنَا لَمْ يَسَعْنَا أَنْ نَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّا نَمْنَعُهُمْ مِنْ قَهْرِهِمْ. لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ ظَاهِرٌ فِي دَارِنَا، وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَلَّا يُسْتَرَقَّ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ أَحَدٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَهْرَ ظُلْمٌ مِنْ الْقَاهِرِينَ لِلْمَقْهُورِينَ، وَعَلَيْنَا دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَدْفَعُ بِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ بَعْدَ هَذَا الْقَهْرِ وَالِاسْتِعْبَادِ فِي دَارِنَا لَوْ أَسْلَمُوا أَمَرْنَاهُمْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِ الْمَقْهُورِينَ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي دَارِهِمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا كَانُوا عَبِيدًا لَهُمْ، وَمَنْعَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى وُجُوبِ دَفْعِ الظُّلْمِ مَوْجُودٌ فِي الْفَصْلَيْنِ. وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ طَاوُسٍ قَالَ فِي كِتَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ اسْتَخْمَرَ قَوْمًا أَوَّلُهُمْ أَحْرَارٌ، أَوْ جِيرَانٌ مُسْتَضْعَفُونَ فَإِنْ كَانَ قَصَرَهُمْ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يَدْخُلَ الْإِسْلَامُ بَيْتَهُ فَهُمْ لَهُ عَبِيدٌ، وَمَنْ كَانَ مُهْمِلًا يُعْطِي الْخَرَاجَ فَهُوَ عَتِيقٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ اسْتَخْمَرَ اسْتَعْبَدَ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَّ أَنَّهُ إذَا تَمَّ قَهْرُهُ إيَّاهُمْ قَبْلَ ظُهُورِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي دَارِهِمْ فَهُمْ عَبِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَهُمْ أَحْرَارٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُوَادِعُونَ خَرَجُوا إلَيْنَا وَمَعَهُمْ مِائَةُ رَأْسٍ لَا يَدْرِي أَمَقْهُورُونَ هُمْ أَمْ غَيْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1727 مَقْهُورِينَ، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ عَبِيدُنَا جِئْنَاكُمْ بِهِمْ لِتَأْخُذُوهُمْ فِي الْفِدَاءِ، وَقَالَ الْقَوْمُ: كَذَبُوا نَحْنُ أَحْرَارٌ مِثْلُهُمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمِائَةِ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ لَا نَدْرِي كَيْفَ كَانَتْ حَالُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ حُجَّةُ الرِّقِّ. 3443 - فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لَهُمْ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الشُّهُودُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِالرِّقِّ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ. إذَا كَانُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ. 3444 - وَإِنْ قَالَ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِمْ: كَانُوا أَحْرَارًا وَلَكِنَّا قَهَرْنَاهُمْ بِإِذْنِ مَلِكِنَا فِي دَارِنَا حَتَّى صَارُوا عَبِيدًا لَنَا، وَقَالَ الْقَوْمُ: مَا قَهَرْنَاهُمْ وَلَا عَرَضُوا لَنَا عِنْدَكُمْ فَالْقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ. لِأَنَّ قَهْرَهُمْ إيَّاهُمْ حَادِثٌ، فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبَ الْأَوْقَاتِ، وَلِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ عَلَيْهِمْ سَبَبَ الرِّقِّ وَهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَدَعْوَى السَّبَبِ كَدَعْوَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالسَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ تُرَادُ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا، فَلَا يُقْضَى بِرِقِّهِمْ حَتَّى تَقُومَ الْحُجَّةُ لِلْمُدَّعِي كَمَا فِي الْفَصْل الْأَوَّلِ. 3445 - وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ دَيْنًا، أَوْ عَقْدًا جَرَى بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1728 فَإِنَّا لَا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُسْلِمُوا، أَوْ يَصِيرُوا ذِمَّةً. لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِي مُعَامَلَةٍ جَرَتْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ حُكْمُنَا جَارِيًا عَلَيْهِمْ، فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ يُسْلِمَ الْخَصْمَانِ، أَوْ يَصِيرَا ذِمَّةً، فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، أَوْ صَارَ ذِمَّةً لَمْ تُسْمَعْ فِيهِ الْخُصُومَةُ أَيْضًا، أَمَّا عَلَى الَّذِي لَمْ يُسْلِم فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عَلَى الَّذِي أَسْلَمَ فَلِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَقَضِيَّةُ التَّسْوِيَةِ أَلَّا يَقْضِيَ عَلَيْهِ لِخَصْمِهِ فِي حَالٍ لَا يَقْضِي لَهُ خَصْمُهُ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الرِّقِّ فَالْمُنَازَعَةُ فِي سَبَبٍ بَاشَرُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ قَهْرُ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِمْ، وَفِي مِثْلِهِ الْقَاضِي يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَعْضَهُمْ لَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْبَعْضِ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ فِي دَارِ الشِّرْكِ ثُمَّ أَبَى أَنْ يَنْقَادَ لَهُ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى الِانْقِيَادِ لَهُ كَمَا يَنْقَادُ الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمْ لِصَاحِبِهِ بِدَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَبَى أَنْ يَقْضِيَهُ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُسْلِمَ الْخَصْمَانِ، أَوْ يَصِيرَا ذِمَّةً. فَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ. 3446 - وَلَوْ قَبِلْنَا قَوْلَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الرِّقَّ عَلَى الْمِائَةِ الرَّأْسِ فِي دَارِنَا أَدَّى إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْمِائَةَ الرَّأْسِ لَوْ ادَّعَوْا عَلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ بَلْ أَنْتُمْ عَبِيدٌ لَنَا فَلَيْسَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ بِأُولَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْفَرِيقِ الْآخَرَ، فَلَوْ قَالَ الْقَوْمُ هَذِهِ الْمِائَةُ الرَّأْسِ عَبِيدٌ لَنَا وَقَالَتْ الْمِائَةُ الرَّأْسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1729 بَلْ نَحْنُ أَحْرَارٌ وَلً نَرْضَى أَنْ تَأْخُذُونَا فِي الْفِدَاءِ لَمْ يَسَعْنَا أَنْ نَأْخُذهُمْ. لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي دَارِنَا آمِنِينَ، وَالْحُرُّ الْآمِنُ فِي دَارِنَا لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ بِحَالٍ، رَضِيَ بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَرْضَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِمْ لَوْ قَالُوا هُمْ أَحْرَارٌ مِثْلُنَا، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ فَهُمْ رَاضُونَ بِذَلِكَ لَمْ يَسَعْنَا أَخْذُهُمْ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَكَذَلِكَ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ أَحْرَارٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، فَلَا يَصِيرُونَ مَمَالِيكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الرِّقِّ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. 3447 - فَإِنْ قَالُوا حِينَ رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ لَا يَأْخُذُونَهُمْ: نَحْنُ عَبِيدُهُمْ كَمَا قَالُوا، وَقَدْ كَذَبْنَا فِي ادِّعَائِنَا الْحُرِّيَّةَ يَسَعُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوهُمْ. لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بَعْدَ مَا أَنْكَرُوا دَعْوَى الَّذِينَ ادَّعَوْا عَلَيْهِمْ الرِّقَّ، وَالْإِقْرَارُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ صَحِيحٌ، بِمَنْزِلَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ - إذَا ادَّعَى إنْسَانٌ أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ فَكَذَّبَهُ ثُمَّ صَدَّقَهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ. 3448 - وَإِنْ قَالَ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هُمْ أَحْرَارٌ فَخُذُوهُمْ، فَهُمْ رَاضُونَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَأْخُذُونَهُمْ قَالُوا: هُمْ عَبِيدٌ لَنَا، وَصَدَّقَهُمْ الْمِائَةُ الرَّأْسِ فَلَيْسَ يَسَعُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1730 لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ قَدْ تَأَكَّدَتْ فِي دَارِنَا بِتَصَادُقِهِمْ عَلَيْنَا أَوَّلًا، وَلِأَنَّهُمْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إنْ كَانُوا عَبِيدًا لَهُمْ فَقَدْ كَانُوا عَتَقُوا بِقَوْلِهِمْ الْأَوَّلِ إنَّهُمْ أَحْرَارٌ، وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَأَبْعَدُ. 3449 - وَإِنْ قَالُوا بَعْدَ قَوْلِهِمْ هُمْ أَحْرَارٌ: كَذَبْنَا، هُمْ عَبِيدٌ لِلْمَلِكِ بَعَثَهُمْ مَعَنَا لِنَدْفَعَهُمْ إلَيْكُمْ، وَصَدَّقَهُمْ بِذَلِكَ الْمِائَةُ الرَّأْسِ وَسِعَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوهُمْ بِحَقِّهِمْ. لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالرِّقِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ بَحْرِيَّتِهِمْ، وَحُرِّيَّةُ مَجْهُولِ الْحَالِ بِإِقْرَارِ الْمُقِرِّ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْإِقْرَارِ لَا تَعْدُو الْمُقِرَّ فَثَبَتَ الرِّقُّ عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِهِ لِلْمَلِكِ، فَلِهَذَا جَازَ أَخْذُهُمْ فِي الْفِدَاءِ. 3450 - فَإِنْ صَالَحُوهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ. وَلَمْ يُسَمُّوا ذُكُورًا وَلَا إنَاثًا، وَجَبَ الْقَبُولُ مِنْهُمْ إنْ جَاءُوا بِذُكُورٍ، أَوْ إنَاثٍ، أَوْ مُخْتَلَطِينَ، لِإِطْلَاقِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِيجَابِ، فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَسْمِيَةِ الرَّأْسِ مَا يُنَبِّئُ عَنْ وَصْفٍ لِيَتَوَجَّهَ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِمْ بِالْأَدَاءِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَهُوَ نَظِيرُ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّ التَّكْفِيرَ يَحْصُلُ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ ذَكَرًا، أَوْ أُنْثَى لِهَذَا الْمَعْنَى. 3451 - وَإِنْ جَاءُوا بِصِغَارٍ فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا قَدْ اسْتَغْنَوْا عَنْ الْأُمَّهَاتِ فَاحْتَاجُوا إلَى الْأَبِ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُمْ، وَإِنْ جَاءُوا بِمَرَاضِعَ، أَوْ فُطُمٍ لَمْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الِاسْمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ صِفَةِ الْبُلُوغِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْبَالِغُ وَغَيْرُ الْبَالِغِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1731 إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاشْتِرَاطِ الرُّءُوسِ عَلَيْهِمْ مَنْ يَكُونُ صَالِحًا لِلِاسْتِخْدَامِ، فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَلَا يَلْبَسُ وَحْدَهُ، وَلَا يَتَوَضَّأُ وَحْدَهُ، فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ وَلَا يَتِمُّ بِهِمْ. لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى مَنْ يَخْدُمُهُمْ، وَلَا يَقُومُونَ فِي الْحَالِ بِخِدْمَةِ غَيْرِهِمْ. 3452 - وَأَمَّا إذَا اسْتَغْنَوْا عَنْ الْأُمَّهَاتِ فَالْمَقْصُودُ، وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ، يَحْصُلُ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ، فَإِنَّ انْتِقَاضَ الْمَالِيَّةِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ اسْتِغْنَاءِ الصَّغِيرِ عَنْ الْأُمِّ، فَأَمَّا بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ فَالْمَالِيَّةُ لَا تَنْقُصُ بِالصِّغَرِ عَادَةً، فَإِذَا جَاءُوا بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ أَوْسَاطِ رَقِيقِهِمْ وَجَبَ الْقَبُولُ مِنْهُمْ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْقَبُولِ لِمَكَانِ أُمَّهَاتِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الصِّغَارِ وَالْأُمَّهَاتِ هَا هُنَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ. 3453 - وَهُوَ نَظِيرُ مُسْتَأْمَنٍ فِي دَارِنَا لَهُ جَارِيَةٌ وَلَهَا ابْنٌ صَغِيرٌ فَبَاعَ الْأُمَّ دُونَ الِابْنِ، أَوْ الِابْنَ دُونَ الْأُمِّ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُمْ. لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا دُونَ الْمُسْلِمُ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ أَحَدُهُمَا مِنْهُ رَجَعَ بِهِمَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ عَوْنٌ لِلْمُشْرِكَيْنِ، إمَّا بِهِمَا، أَوْ بِنَسْلِهِمَا، وَمُرَاعَاةُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ جَانِبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1732 قَالَ وَإِذَا شَرَطُوا فِي الْمُوَادَعَةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ فَجَاءُوا؟ بِرَقِيقِهِمْ، أَوْ بِقِيمَةِ مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَلِلْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الْإِبَاءُ نَقْضًا مِنْهُمْ لِلْعَهْدِ. لِأَنَّ الشُّفْعَةَ الْمَشْرُوطَةَ لِلْمُسْلِمِينَ لَا تَتِمُّ بِمَا جَاءُوا لَهُ، فَإِنَّهُمْ شَرَطُوا ذَلِكَ لِتَخْلِيصِ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذُلِّهِمْ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْقِيمَةِ، أَوْ مِنْ رَقِيقِهِمْ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ. 3455 - وَإِنْ كَانُوا رَهَنُوا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ رَهْنًا بِذَلِكَ فَهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ أَلَّا يَدْفَعُوا إلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ حَتَّى يَأْتُوا بِمَا شَرَطُوا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَهُ شَرَطُوا الْجِيَادَ ثُمَّ جَاءُوا بِالزُّيُوفِ، فَفِي هَذَا اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْجِنْسِ يَثْبُتُ فِي الرَّهْنِ بِالرُّءُوسِ. وَهَذَا لِأَنَّ الرُّءُوسَ تَثْبُتُ فِي الْمُوَادَعَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ دَيْنًا، وَالرَّهْنُ بِمِثْلِهِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا بَالِغِينَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَهُ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي الْأَحْرَارِ فَفِي الْمَمَالِيكِ أَوْلَى. 3456 - فَإِنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِائَةُ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ قِيمَةَ مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْسَاطٍ مِنْهُمْ. لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى قَدْ تَحَقَّقَ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْقِيمَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1733 قَالَ: وَلَوْ كَانُوا اشْتَرَطُوا فِي الصُّلْحِ مِائَةَ قَوْسٍ، أَوْ مِائَةَ دِرْعٍ حَدِيدٍ، أَوْ مِائَةَ سَيْفٍ فَهَذَا وَاشْتِرَاطُ مِائَةِ رَأْسٍ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُمْ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسَمَّى، أَوْ قِيمَتِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطُوا ذَلِكَ مِنْ كُرَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَسِلَاحِهِمْ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا شَرَطُوا ذَلِكَ مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تُقْبَلْ الْقِيمَةُ. لِأَنَّ رَقِيقَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَفِي اشْتِرَاطِهِمْ مَنْفَعَةُ تَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُل بِالْقِيمَةِ، فَأَمَّا الْكُرَاعُ وَالسِّلَاحُ فَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، سَوَاءٌ شَرَطُوهُ مُطْلَقًا، أَوْ مِمَّا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ كُرَاعٌ وَسِلَاحٌ وَقَدْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَزُوهُ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ رَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُ عَبْدٌ مَأْسُورٌ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ مُعَاهَدٍ قَدْ أَحْرَزُوهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَأُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ. فَبِهِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ. 3458 - وَلَوْ كَانُوا شَرَطُوا فِي الْمُوَادَعَةِ مِائَةَ ثَوْبٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَوْ مِائَةَ دَابَّةٍ كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ فَاسِدَةً. لِأَنَّ الثِّيَابَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَالدَّوَابُّ كَذَلِكَ، فَالِاسْمُ حَقِيقَةً يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ؛ وَحُكْمًا يَتَنَاوَلُ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، وَمَعَ جَهَالَةِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ التَّسْمِيَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ، بِخِلَافِ تَسْمِيَةِ الرَّأْسِ، فَالْجِنْسُ هُنَاكَ مَعْلُومٌ، فَإِنَّمَا بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الصِّفَةِ، وَهِيَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِيمَا بُنِيَ أَمْرُهُ عَلَى التَّوَسُّعِ، كَالنِّكَاحِ وَأَخَوَاتِهِ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ حَتَّى يُوَادِعُوهُمْ عَلَى أَمْرٍ بَيِّنٍ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1734 وَوَجَبَ الْفِدَاءُ كَانَ ذَلِكَ إلَى الْمُشْرِكِينَ، يُعْطُونَهُمْ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ شَاءُوا وَسَطًا مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْجِنْسِ الْوَاجِبِ قَوْلَهُمْ، كَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِثَوْبٍ، كَانَ بَيَانُ الْجِنْسِ فِيهِ إلَى الْمُقِرِّ. وَلَوْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِثَوْبٍ كَانَ بَيَانُ الْجِنْسِ فِيهِ إلَى الْوَارِثِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْمُورِثِ، وَهَذَا لِأَنَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَتَعَيَّنُ مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الرُّجُوعِ إلَى بَيَانِهِمْ فِي الْجِنْسِ، إذْ لَوْ لَمْ يُرْجَعْ إلَى ذَلِكَ وَاعْتَبَرْنَا الْجَهَالَةَ لَمْ يَسْلَمْ لِلْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ، وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحَ، فَإِنَّ هُنَاكَ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ فِي بَيَانِ جِنْسِ الثَّوْبِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ وَجَبَ مَا هُوَ الْبَدَلُ الْأَصْلِيُّ الْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَانْدَفَعَ الضَّرَرُ عَنْهَا بِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الرُّجُوعِ إلَى بَيَانِ الزَّوْجِ. 3459 - وَلَوْ كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ فَأَقَرَّ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَحْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ عَبِيدُ الْمَلِكِ، فَبَعَثَ بِهِمْ الْمَلِكُ إلَى الْمُسْلِمِينَ لِحَقِّهِمْ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ أَحْرَارُ الْأَصْلِ، فَإِنْ كَانُوا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُلْتَفَت إلَى إقْرَارِهِمْ.؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا آمِنِينَ فِي دَارِنَا، وَقَدْ تَأَكَّدَتْ حُرِّيَّتُهُمْ الْمَعْلُومَةُ بِذَلِكَ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِمْ بِالرِّقِّ. بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُمْ فَإِنَّ هُنَاكَ بِدُخُولِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَتَأَكَّدُ حُرِّيَّتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَجْهُولَ الْحَالِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْحُرِّيَّةِ فِي الْأَصْلِ فَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1735 3460 - وَإِنْ كَانُوا أَقَرُّوا بِهَذَا فِي دَارِ الْحَرْبِ طَوْعًا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ بِالرِّقِّ لِإِنْسَانٍ فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانُوا عَبِيدًا يَقْبَلُهُمْ فِي الْفِدَاءِ. لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِحُرِّيَّةٍ قَوِيَّةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تَنْتَقِضُ بِالِاسْتِرْقَاقِ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُوَادَعَةٌ، وَبَعْد الْمُوَادَعَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَا مُوَادَعَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِلْبَعْضِ مَعَ الْبَعْضِ، فَالْمُقَرُّ لَهُ يَتِمُّ اسْتِرْقَاقُهُ لِلْمُقِرِّينَ بِالرِّقِّ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِهِمْ، فَصَارُوا عَبِيدًا لَهُ وَلَا يَتِمُّ اسْتِرْقَاقُهُ لَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِهِمْ، كَمَا لَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ فَإِنْ كَانَ مِنْ حُكْمِهِمْ الِاسْتِرْقَاقُ بِسَبَبِ الْإِقْرَارِ كَانُوا عَبِيدًا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِهِمْ كَانُوا أَحْرَارًا عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ أَصْلِهِمْ. وَأُوَضِّحُ هَذَا بِقَوْمِ مَنْ حَكَمَ مَلِكُهُمْ أَنَّ السَّارِقَ يُجْعَلُ عَبْدًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَحَكَمَ بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا فَإِنَّهُ يَكُونَ السَّارِقُ عَبْدًا عَلَى مَا جَرَى الْحُكْمُ بِهِ سَوَاءٌ كَانُوا مُوَادِعِينَ لَنَا حِينَ حَكَمَ بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ كَانَ لَا يَجْرِي فِي دِيَارِهِمْ بِالْمُوَادَعَةِ كَمَا شَرَطُوا ذَلِكَ، وَالْإِقْرَارُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ يَلْزَمُ كَقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَضَاءِ قَاضِيهِمْ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1736 وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الدَّارَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كُلُّ دَارٍ لَهَا مِلْكٌ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِ، فَجَاءَنَا كُلُّ فَرِيقٍ بِمِائَةِ رَأْسٍ مِمَّنْ أَسَرُوهُمْ مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرَ، فَإِنَّا نَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوَادَعَةَ فِيمَا بَيْنَ الدَّارَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُوَادَعَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْمُوَادَعَةِ يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْأَسْرِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً كَانَ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُمْ، وَلَوْ أَرَادُوا بَيْعَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَخْذُهُمْ فِي الْفِدَاءِ. 3462 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا أَهْلَ دَارٍ وَاحِدَةٍ وَفِي حُكْمِهِمْ أَنَّ مَنْ قَهَرَ صَاحِبَهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الدَّيْلَمِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ دَارٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مُوَادَعَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِلْبَعْضِ مَعَ الْبَعْضِ فَالْقَاهِرُ يَمْلِكُ الْمَقْهُورَ، إذَا تَمَّ قَهْرُهُ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ مَلِكِهِمْ، وَيَصِيرُ الْمَقْهُورُ عَبْدًا لَهُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ غَصَبَ بَعْضُهُمْ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمُوا وَاخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ فِي حُكْمِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ حُكْمِهِمْ أَنَّ الْغَاصِبَ يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ بِالْغَصْبِ لَمْ يَأْمُرْ الْغَاصِبَ بِرَدِّ شَيْءٍ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُكْمِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوهُ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يُخَاصِمْهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرهُ بِالرَّدِّ.؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالْإِحْرَازِ، وَإِحْرَازُ الْغَاصِبِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ يَتِمُّ إذَا كَانَ مِنْ حُكْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1737 مَلِكِهِمْ أَنَّ الْغَصْبَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، وَلَا يَتِمُّ إحْرَازُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ، لِتَمَكُّنِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مِنْ أَنْ يُخَاصِمَهُ إلَى مَلِكِهِمْ لِيَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَالْإِسْلَامُ بَعْدَ تَمَامِ الْإِحْرَازِ يُقَرِّرُ الْمِلْكَ، وَقَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوا مَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ أُمِرُوا بِرَدِّهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ. وَلَوْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَمَانٌ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ، وَالتَّقَوُّمِ فِي الْمَحَلِّ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَأَمَّا وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ لَا يَسْتَدْعِي الْعِصْمَةَ وَالتَّقَوُّمَ فِي الْمَحَلِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُسْلِمًا لَوْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا أُمِرَ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا وَلَوْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا مِنْ مِثْلٍ، أَوْ قِيمَةٍ. 5463 - فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَا مُوَادَعَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَخَرَجَ الْغَاصِبُ بِالْمَغْصُوبِ إلَى دَارِنَا وَهُوَ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا فَخَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ فِي الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ أَنَّ الْغَصْبَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَمِنْ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ إحْرَازَ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لَا مُوَادَعَةَ لَهُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ سَبَبٌ تَامٌّ لِلْمِلْكِ. 3464 - وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ فِي مُوَادَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسْأَلَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1738 بِحَالِهَا، فَإِنْ كَانَا خَرَجَا إلَيْنَا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ، أَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ، وَخَرَجَ الْآخَرُ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، لَمْ يَحْكُمْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ. لِأَنَّهُمَا لَمْ يَلْتَزِمَا حُكْمَ الْإِسْلَامِ وَهَذِهِ مُعَامَلَةٌ كَانَتْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَامَلَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. 3465 - وَإِنْ خَرَجَا مُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُ الْغَاصِبَ بِالرَّدِّ. لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ أَنَّ الْغَصْبَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَتِمَّ إحْرَازُهُ عِنْدَ الْأَخْذِ. 3466 - وَكَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إحْرَازُهُ حِينَ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِنَا. لِأَنَّهُ أَخْرَجَ مَالَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ مُوَادِعِينَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالرَّدِّ. قَالَ: بَلَغْنَا أَنَّ «أُنَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَعَارُوا عَوَارِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ هَمُّوا أَلَّا يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْعَوَارِيَّ فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ وَقَالَ: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمَنِيحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ» . فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتِمَّ إحْرَازُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ الْمَوْضُوعُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ بَعْدَ مَا صَارَ ذَلِكَ الْمَوْضُوعُ دَارَ الْإِسْلَامِ. 3467 - وَلَوْ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ خَاصَمَ الْغَاصِبَ إلَى مَلِكِهِمْ فَزَعَمَ الْغَاصِبُ أَنَّ الْعَيْنَ لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْهُ إيَّاهُ فَأَقَرَّهَا مَلِكُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1739 فِي يَدِهِ وَكَلَّفَ الْمُدَّعِيَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ فَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ حَتَّى أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً يُسَلِّمُ لِلْغَاصِبِ مَا كَانَ غَصَبَهُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ إحْرَازَهُ قَدْ تَمَّ بِتَقْرِيرِ مَلِكِهِمْ لِيَدِهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ فَلَا يَبْقَى لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ سَبِيلٌ إلَى الْعَيْنِ، مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ، وَلَا نَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لَا يَقْدِرُ، وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَعْدِلُ شُهُودُهُ، أَوْ لَا يَعْدِلُونَ. 3468 - فَإِنْ قَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا أَنَا أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ. لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَّ إحْرَازُ الْغَاصِبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَمِلْكُهُ تَقَرَّرَ بِالْإِسْلَامِ. 3469 - وَهَذَا لِفِقْهٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْعَ مَلِكِهِمْ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ مَنْ أَخْذِ مَتَاعِهِ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِهِ مِنْهُ قَهْرًا وَدَفْعِهِ إلَى الْغَاصِبِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُشْكِلْ أَنَّهُ يَتِمُّ إحْرَازُ الْغَاصِبِ لَهُ. لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَتِمُّ إحْرَازُهُ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ مَلِكِهِمْ فَلَأَنْ يَتِمَّ بِقُوَّتِهِ حِينَ أَخَذَهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ، أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ كَانَ أَوْلَى. 3470 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغَاصِبُ أَخَذَ ابْنًا صَغِيرًا لِإِنْسَانٍ مِنْهُمْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: هُوَ عَبْدِي، وَقَالَ الْأَبُ: هُوَ ابْنِي، فَهَذَا وَفَصْلُ غَصْبِ الْمَالِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1740 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَبْدُهُ، وَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَرَأَى مَلِكُهُمْ أَنْ يُصَدِّقَ مُدَّعِي الْبُنُوَّةِ، فَأَخَذَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْآخَرُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ عَبْدُهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً فَأَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَإِنَّ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ يَجْعَلُهُ حُرًّا ابْنًا لِلَّذِي ادَّعَاهُ. لِأَنَّ حُكْمَ مَلِكِهِمْ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ وَأَبْطَلَ مِلْكَهُ فِيهِ وَجَعَلَهُ حُرًّا ابْنًا لِلْآخَرِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ مِلْكًا قَدْ أَبْطَلَهُ حُكْمُهُمْ حِينَ كَانُوا حَرْبًا لَنَا، أَوْ مُوَادِعِينَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا. 3471 - وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، وَمِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ تَوْرِيثُ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ، أَوْ الْبَنَاتِ دُونَ الْبَنِينَ، فَحَكَمَ بِذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ مَلِكُهُمْ فِي ذَلِكَ مَاضٍ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُلْتَزِمِينَ لِحُكْمِهِ، رَاضِينَ بِهِ حِينَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ سُلْطَانًا غَالِبًا عَلَيْهِمْ، فَتَمَّ مَا صَنَعَهُ بَيْنَهُمْ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِإِبْطَالِ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. 3472 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَهُ الْبَنُونَ بِغَيْرِ حُكْمٍ مِنْ مَلِكِهِمْ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ حُكْمِهِ، فَهَذَا وَمَا لَوْ أَخَذُوهُ بِحُكْمِهِ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُمْ لَوْ خَاصَمُوا فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ قَرَّرَهُ فِي أَيْدِيهِمْ، فَبِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ يَتِمُّ إحْرَازُهُمْ لِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ وَقُوَّتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1741 وَلَوْ كَانَ الْآخِذُ اسْتَهْلَكَ الْمَأْخُوذَ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَاخْتَصَمُوا عِنْدَهُ وَقَضَى بِقِيمَتِهِ لِلْمُدَّعِي، فَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَتِمُّ الْإِحْرَازُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ، فَكَانَ وُجُودُ الْقَضَاءِ بِهِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، وَلَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ بِشَيْءٍ، لِانْعِدَامِ الْعِصْمَةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي الْمُسْتَهْلَكِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 3474 - وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْغَاصِبُ حِينَ سَلَّمَهُ لَهُ مَلِكُهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّهِ، فَأَخَذَهُ بِقَضَاءِ مَلِكِهِمْ، ثُمَّ أَسْلَمُوا جَمِيعًا، كَانَ عَبْدًا لِلْمُدَّعِي، وَكَانَ عِتْقُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَاطِلًا. إمَّا لِأَنَّ إعْتَاقَ الْحَرْبِيِّ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ غَيْرُ نَافِذٍ إذَا كَانَ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ أَلَّا يَمْنَعَ الْمُعْتِقَ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْمُعْتَقِ، أَوْ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْهُورًا لِحُكْمِ مَلِكِهِمْ، لِكَوْنِهِ عَبْدًا لِلْمُدَّعِي، وَلَوْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ فَأَخَذَهُ أَحَدٌ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ فَقَضَى بِهِ مَلِكُهُمْ لَهُ، كَانَ عَبْدًا لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُعْتَقًا فَقَضَى الْمَلِكُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ لِلْمُدَّعِي وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ. 3475 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمُوَادَعَةِ أَسَرَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِهِمْ، ثُمَّ غَصَبَهُ مِنْهُ غَاصِبٌ، فَقَالَ: هُوَ عَبْدِي وَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا فَأَقَامَ الَّذِي أَحْرَزَهُ الْبَيِّنَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1742 عَلَى حَقِّهِ، وَمِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ رَدُّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ عِتْقَ الَّذِي أَعْتَقَهُ بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ حِينَ لَمْ يَتِمَّ الْإِحْرَازُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ أَنْ يَمْلِكَهُ الْغَاصِبُ بِالْغَصْبِ، فَإِنَّ إعْتَاقَهُ هُنَاكَ نَافِذٌ لِتَمَامِ إحْرَازِهِ، ثُمَّ لَا يُرَدُّ رَقِيقًا بَعْدَ ذَلِكَ. ؛ لِأَنَّ إحْرَازَهُ قَدْ تَمَّ حِينَ أَقَرَّهُ مَلِكُهُمْ فِي يَدِهِ وَمَنَعَ الْآخَرَ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ. 3476 - فَإِنْ جَاءَ الْآخَرُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَضَى بِهِ مَلِكُهُمْ لَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، فَهُوَ حُرٌّ بِالْبَيِّنَةِ. لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِيهِ فَحُكْمُ مَلِكِهِمْ بِالرِّقِّ عَلَى الْمُسْلِمِ بَاطِلٌ. وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَمَّا تَأَكَّدَتْ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ بِمَحَلِّ النَّقْضِ فَلَا يَنْتَقِضُ بِحُكْمِ مَلِكِهِمْ بِرِقِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. 3477 - وَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ إنَّمَا أَعْتَقَ الْمَأْسُورَ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّهُ مَلِكُهُمْ فِي يَدِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَالْمَأْسُورُ عَبْدٌ. لِأَنَّ إعْتَاقَهُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ إحْرَازُهُ كَانَ بَاطِلًا. 3478 - قَالَ: وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَصَبَهُ حَرْبِيٌّ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمُوا، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، فَإِنْ كَانَ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ أَنَّ الْغَصْبَ سَبَبُ التَّمَلُّكِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مُسْتَأْمَنًا، أَوْ مُسْلِمًا أَوْ حَرْبِيًّا فَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْلِمِ عَلَى مَتَاعِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1743 لِأَنَّ إحْرَازَ الْغَاصِبِ قَدْ تَمَّ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ مَلِكِهِمْ، وَسَلْطَنَتِهِ فِي دَارِهِمْ، فَكَانَ هَذَا وَالْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ الْمُسْلِمِ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُحْرِزُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، فِي الْحُكْمِ سَوَاءً. 3479 - وَإِنْ كَانَ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ رَدُّ ذَلِكَ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يَخْتَصِمَا حَتَّى أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ رَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ. لِأَنَّ إحْرَازَ الْغَاصِبِ لَمْ يَتِمَّ، فَإِنَّهُ مَقْهُورٌ مَمْنُوعٌ مِمَّا صَنَعَ، لِحُكْمِ مَلِكِهِمْ، وَفِي الْأَوَّلِ هُوَ قَاهِرٌ مُقِرٌّ عَلَى مَا صَنَعَ بِحُكْمِ مَلِكِهِمْ. 3480 - وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ كَانَ حُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ فَالْمَالُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ. لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْأَصْلِ مَعْلُومٌ، وَسَبَبُ التَّمَلُّكِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِحْرَازُ التَّامُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْمِلْكِ بِنَفْسِهِ، فَمَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُ ذَلِكَ مِنْ قَوْمٍ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا بَيْنَهُمْ يَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْمَعْلُومِ. 3481 - فَإِنْ اخْتَصَمَا إلَى مَلِكِهِمْ فَجَحَدَ الْغَاصِبُ وَقَالَ: هَذَا مِلْكِي، مَا أَخَذْته مِنْهُ، فَأَقَرَّهُ مَلِكُهُمْ فِي يَدِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ الْمُسْلِمُ بِحُجَّةٍ، ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَذَلِكَ سَالِمٌ لِلْغَاصِبِ. لِأَنَّ إحْرَازَهُ فِيهِ قَدْ تَمَّ بِتَقْرِيرِ مَلِكِهِمْ لِيَدِهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ. 3482 - وَإِنْ أَقَامَ الْمُسْلِمُ الْبَيِّنَةَ، فَأَخَذَهُ حَاكِمُهُمْ مِنْ الْغَاصِبِ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، كَانَ لَهُ، وَلَا خُمْسَ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1744 لِأَنَّهُ أَعَادَهُ إلَى مِلْكِهِ بِحُكْمِهِ، وَقَدْ كَانَ السَّبَبُ لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ مِثْلُ هَذَا إذْ الشَّيْءُ يَنْفَسِخُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ. وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ صَارَ مُحْرِزًا لِذَلِكَ الْمَالِ حِينَ أَخَذَهُ وَتَمَّ إحْرَازُهُ بِقُوَّةِ مَلِكِهِمْ فَكَانَ مِلْكًا لَهُ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْخُمُسُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَا يَمْلِكُهُ بِسَبَبٍ فِيهِ إعْزَازُ الدِّينِ. 3483 - وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ عَبْدًا فِي يَدِ بَعْضِهِمْ بَاطِلًا، وَأَقَامَ بَيِّنَةً، فَأَخَذَهُ مَلِكُهُمْ مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَهُوَ لَهُ لِتَمَامِ إحْرَازِهِ بِحُكْمِ مَلِكِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ. لِأَنَّ هَذَا غَدْرٌ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَ مَالَ بَعْضِهِمْ سِرًّا فَأَخْرَجَهُ، وَهُنَاكَ يُفْتَى بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا غَدَرَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ. 3484 - قَالَ: وَإِنْ كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الدَّارِ مُوَادِعِينَ لِلْمُسْلِمِينَ أَخَذَ حَاكِمُ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الْمَالَ وَرَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ. لِأَنَّهُ غَدَرَ بِأَمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الرَّدِّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. 3485 - وَعَلَى هَذَا لَوْ غَصَبَ مَتَاعًا مِنْ بَعْضِهِمْ فَخَاصَمَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَجَحَدَهُ، وَقَالَ: هُوَ مِلْكِي فَأَقَرَّهُ حَاكِمُهُمْ فِي يَدِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْحَرْبِيُّ بِالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا فَهُوَ لِلْمُسْلِمِ، وَيُفْتَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1745 بِرَدِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُوَادِعِينَ، وَإِنْ كَانُوا مُوَادِعِينَ لِلْمُسْلِمِينَ أَخَذُوهُ مِنْهُ فَرَدُّوهُ عَلَى صَاحِبِهِ. لِأَنَّ مَعْنَى الْغَدْرِ مِنْهُ هَا هُنَا أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ جَابِرٌ بِالْغَصْبِ وَالْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ. 3486 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مِنْ الْمُوَادِعِينَ، أَوْ غَيْرِ الْمُوَادِعِينَ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ ثُمَّ أَسْلَمُوا كَانَتْ الْكِتَابَةُ جَائِزَةً. لِأَنَّ الْكِتَابَةَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَصَرُّفٌ يَعْتَمِدُ الْمُرَاضَاةَ. 3487 - فَإِنْ قَهَرَهُ بَعْدَ مَا كَاتَبَهُ وَأَبْطَلَ مُكَاتَبَتَهُ ثُمَّ أَسْلَمُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِمُكَاتَبِهِ بَطَلَتْ مُكَاتَبَتُهُ قَضَى قَاضِي الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ. لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ الثَّابِتِ لِلْمُكَاتَبِ بِعَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالْإِعْتَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا اسْتَعْبَدَهُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ نُظِرَ إلَى حُكْمِ مَلِكِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَيُبْتَنَى الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا، فَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبَةِ. 3488 - وَإِنْ كَانَ حِينَ أَبْطَلَ مُكَاتَبَتَهُ، وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ إبْطَالُ ذَلِكَ، أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَاهِرًا لَهُ، فَإِنْ كَانُوا مُوَادِعِينَ لِلْمُسْلِمِينَ مَنَعَهُ الْقَاضِي مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُوَادِعِينَ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ، يَصْنَعُ بِهِ مَا أَحَبَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1746 لِأَنَّ إحْرَازَهُ إيَّاهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ يَتِمُّ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُوَادِعِينَ لَنَا، وَلَا يَتِمُّ مُوجِبًا مِلْكَهُ إذَا كَانُوا مُوَادِعِينَ لَنَا. 3489 - وَلَوْ كَانَ عَبْدُهُ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ اسْتَعْبَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ كِتَابَتُهُ وَعِتْقُهُ بِإِبْطَالِهِ. لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَمِلْكُ يَدِ الْمُكَاتَبِ قَدْ تَأَكَّدَ بِإِسْلَامِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْحَرْبِيُّ مِنْ إبْطَالِ ذَلِكَ وَلَا مَلِكُهُمْ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ بَاطِلٌ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ، وَهُوَ نَقْضُ الْحُرِّيَّةِ. وَلِأَنَّ حُكْمَهُ إنَّمَا يَنْفُذُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَالْمُعْتَقُ وَالْمُكَاتَبُ الْمُسْلِمُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِذَلِكَ. 3490 - وَلَوْ كَانَ دَبَّرَ هَذَا الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ الْعَبْدُ فَتَدْبِيرُهُ بَاطِلٌ. لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ بِالتَّدْبِيرِ لَا يَخْرُجُ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ، بَلْ هُوَ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ، مَقْهُورٌ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالْمُكَاتَبَةِ. فَإِنَّهُمَا يُسْقِطَانِ يَدَ الْمَوْلَى عَنْ الْمَمْلُوكِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حُكْمِ مَلِكِهِمْ تَمَكُّنُ الْمُعْتِقِ مِنْ اسْتِعْبَادِ الْمُعْتَقِ، فَقَدْ تَمَّ خُرُوجُهُ مِنْ يَدِهِ، فَلِهَذَا إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، أَوْ الْكِتَابَةِ كَانَ عَلَى حَالِهِ، وَإِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ التَّدْبِيرِ كَانَ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ، يَبِيعُهُ وَيَصْنَعُ بِهِ مَا أَحَبَّهُ. 3491 - وَلَوْ كَانَ دَبَّرَهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ كَانَ مُدَبَّرًا. لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِإِسْلَامِ الْمَمْلُوكِ كَمَا دَبَّرَهُ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1747 أَنَّ الْمُدَبِّرَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، فَبِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا صَحَّ التَّدْبِيرُ وَاسْتَحَقَّ بِهِ الْوَلَاءَ، قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ تَدْبِيرَهُ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. 3492 - إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى إذَا صَارَ ذِمِّيًّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَبِّرَ يُسْتَسْعَى فِي قِيمَتِهِ. لِأَنَّ إخْرَاجَهُ مِنْ مِلْكِهِ مُسْتَحَقٌّ، وَذَلِكَ بِالْبَيْعِ مُتَعَذِّرٌ، فَيُصَارُ إلَى إخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ بِالِاسْتِسْعَاءِ. 3493 - وَلَوْ كَانَ الْحَرْبِيُّ أَخْرَجَ عَبْدَهُ مَعَ نَفْسِهِ بِأَمَانٍ إلَى دَارِنَا ثُمَّ دَبَّرَهُ جَازَ تَدْبِيرُهُ. لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ الْتَزَمَ هَذَا الْحُكْمَ حِينَ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ. وَلَوْ عَادَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ تَدْبِيرُهُ. لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الْأَمَانِ قَدْ بَطَلَ، فَصَارَ حَالُهُ وَحَالُ مَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءً. 3494 - وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ فِي دَارِنَا بَعْدَ مَا خَرَجَ بِأَمَانٍ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ. لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ تَبَعٌ لِلنَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1748 فَكَذَلِكَ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ وَكَمَا لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ ابْنَهُ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ أُمَّ وَلَدِهِ بِحَالٍ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ عَلَى مَا قَرَّرَنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1749 [بَابٌ مِنْ الرَّهْنِ يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ] 163 - بَابٌ [مِنْ] الرَّهْنِ يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ 3496 - قَالَ: وَإِذَا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمُوَادَعَةِ أَنْ نُعْطِيَهُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنْ يُعْطُوا مِنْ رِجَالِهِمْ رَهْنًا مِثْلَ ذَلِكَ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ، لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجِيبُوهُمْ إلَيْهِ بِدُونِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ. لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُونِينَ عَلَى رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ تَحْمِلُهُمْ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَلَا زَاجِرَ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادِ يَزْجُرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «مَا خَلَا يَهُودِيٌّ بِمُسْلِمٍ إلَّا حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِقَتْلِهِ» فَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ لِأَمْرٍ خَافَهُ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَجِدُوا مِنْهُ بُدًّا، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْمُشْرِكُونَ فَأَعْطَوْا الْمُسْلِمِينَ رَهْنَهُمْ فَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ رَهْنِهِمْ إلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ انْدَفَعَتْ بِوُصُولِ رَهْنِ الْمُشْرِكِينَ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ غَيْرُ مَأْمُونِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا غَدْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا الرَّهْنَ، وَلَا يُعْطُوا الرَّهْنَ كَمَا شَرَطُوا، قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ الشَّرْطِ لِمَعْنَى الضَّرُورَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1750 أَلَا تَرَى) - أَنَّ فِي أَصْلِ الْمُوَادَعَةِ إذَا زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي أَحْوَجَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهَا بِأَنْ يَقْوَوْا عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ وَادْعُوهُمْ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَإِنَّهُ: يَجُوزُ النَّبْذُ إلَيْهِمْ قَبْلُ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ غَدْرًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ.» وَتِلْكَ الْمُوَادَعَةُ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْيَمِينِ. 3497 - فَإِنْ قَالُوا: فَرُدُّوا عَلَيْنَا رَهْنَنَا إنْ لَمْ تُعْطُونَا رَهْنَكُمْ لَمْ نَرْدُدْهُمْ حَتَّى نَأْمَنَ مِمَّا كُنَّا نَخَافُهُ. لِأَنَّ فِي رَدِّهِمْ تَقْوِيَتَهُمْ عَلَيْنَا وَتَمْكِينَهُمْ مِنْ اسْتِئْصَالِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. فَإِذَا وَقَعَ الْأَمْنُ مِمَّا كُنَّا نَخَافُ فَحِينَئِذٍ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ. لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِينَا، فَنَحْبِسُهُمْ إلَى أَنْ نَأْمَنَ مِمَّا نَخَافُهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ نُبَلِّغُهُمْ مَأْمَنَهُمْ. 3498 - فَإِنْ أَسْلَمَ الرَّهْنُ فِي أَيْدِينَا ثُمَّ طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَأْخُذُوهُمْ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَالْكُفَّارُ غَيْرُ مَأْمُونِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا عَبِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ بَاعَهُمْ الْإِمَامُ وَدَفَعَ ثَمَنَهُمْ إلَى مَوَالِيهمْ، بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا إذَا أَسْلَمَ عَبْدُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَوْا الرَّهْنَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ثُمَّ قَدَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُمْ الرَّهْنَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذُوهُ مِنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1751 لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ، وَبِاعْتِبَارِهَا كَانَ لَهُمْ حَقُّ الْمَنْعِ، فَيَكُونُ لَهُمْ حَقُّ الْأَخْذِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتْرُكُوا تَخْلِيصَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَقْهُورٌ فِي يَدِ الْمُشْرِكِينَ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْهُ. 3499 - فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْهُمْ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ عَلَيْهِمْ، إذَا طَلَبَ ذَلِكَ رَهْنُ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي حَبْسِهِمْ، وَدَفْعُ الظُّلْمِ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَكِنْ إنْ قَدَرُوا عَلَى أَخْذِهِمْ بِغَيْرِ قَتْلٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتُلُوا أَحَدًا مِنْهُمْ لِلْمُوَادَعَةِ الَّتِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. 3500 - وَإِنْ قَالَ رَهْنُ الْمُشْرِكِينَ: نَحْنُ نَكُونُ لَكُمْ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَجَابَهُمْ الْإِمَامُ إلَى ذَلِكَ إذَا كَانُوا أَحْرَارًا. لِأَنَّ الذِّمَّةَ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ أَحَدُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ، فَكَمَا أَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا عَرْضَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ وَجَبَ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ، فَكَذَا لَوْ طَلَبُوا إعْطَاءَ الذِّمَّةِ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ، وَقَدْ صَارُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِينَا، فَبِاعْتِبَارِ الْأَمَانِ صَارَ مِلْكُ الْمُوَالِي فِيهِمْ مُحْتَرَمًا، وَبِدُونِ إزَالَةِ الْمِلْكِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُمْ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا رُدُّوا إلَى مَوَالِيهمْ. 3501 - فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الرَّهْنُ: نَحْنُ أَحْرَارٌ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هُمْ عَبِيدٌ لَنَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّهْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1752 لِقُوَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي أَيْدِي أَنْفُسِهِمْ فَيَكُونُ لَهُمْ قَوْلٌ فِي حُرِّيَّتِهِمْ مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى رِقِّهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا ذِمَّةً لَنَا فَمَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَمْ يُرَدُّوا إلَى مَوَالِيهمْ، وَإِنْ كَانُوا أَسْلَمُوا فَمَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِمْ بِالرِّقِّ شُهُودٌ مُسْلِمُونَ، لَمْ يُعْطِهِمْ الْإِمَامُ لَهُمْ. 3502 - وَلَوْ كَانُوا شَرَطُوا فِي أَصْلِ الْمُوَادَعَةِ أَنَّهُمْ إنْ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَ الْمُسْلِمِينَ فَدِمَاءُ رَهْنِهِمْ لَنَا حَلَالٌ ثُمَّ قَتَلُوا هُمْ رَهْنَنَا فَإِنَّ دِمَاءَ رَهْنِهِمْ لَا تَحِلُّ لَنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَجْمَعَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ عَلَى أَلَّا يَقْتُلُوا رَهْنَ الْمُشْرِكِينَ. لِأَنَّهُمْ مُسْتَأْمَنُونَ فِينَا، فَلَا تَحِلُّ دِمَاؤُهُمْ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالشَّرْطُ الَّذِي جَرَى مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. 3503 - وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يَجْعَلُهُمْ ذِمَّةً إنْ لَمْ يُسْلِمُوا، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ كَانُوا أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَنَا. فَلَوْ أَنَّ رَهْنَهُمْ حِينَ أَسْلَمُوا قَالَ لَهُمْ الْمُشْرِكُونَ: إنْ لَمْ تَرُدُّوا عَلَيْنَا رَهْنَنَا قَتَلْنَا رَهْنَكُمْ، أَوْ جَعَلْنَاهُمْ عَبِيدًا لَنَا فَكَرِهَ الرَّهْنُ أَنْ يَرُدُّوهُمْ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهُمْ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ رَهْنَ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1753 لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِ هَؤُلَاءِ كَحُرْمَةِ نَفْسِ أُولَئِكَ. فَإِنْ قَتَلَ أَهْلُ الْحَرْبِ رَهْنَنَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ الظُّلْمِ، وَلَوْ سَلَّمَ إلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا فَقَتَلُوهُمْ كَانَ شَرِيكًا فِي الظُّلْمِ، مُعَرِّضًا لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُمْ، وَذَلِكَ لَا رُخْصَةَ فِيهِ. (أَلَا تَرَى) - أَنَّ رَهْنَهُمْ لَوْ مَاتُوا فِي أَيْدِينَا فَقَالُوا: إنْ لَمْ تُعْطُونَا بِعَدَدِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلْنَا رَهْنَكُمْ لَمْ يَسَعْنَا أَنْ نُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ رَهْنُهُمْ إذَا أَسْلَمُوا. 3504 - وَإِنْ قَالَ رَهْنُهُمْ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا: ادْفَعُونَا إلَيْهِمْ وَخُذُوا رَهْنَكُمْ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْ الْإِمَامِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُمْ إلَيْهِمْ أَيْضًا. لِأَنَّ إذْنَ الْمَرْءِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي قَتْلِهِ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ، فَكَذَلِكَ فِي تَعْرِيضِهِ لِلْقَتْلِ. وَإِنْ كُنَّا لَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُونَ بِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِدَفْعِهِمْ إلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي دَفْعِهِمْ بِرِضَاهُمْ ظُلْمٌ مِنَّا إيَّاهُمْ، وَالدَّفْعُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِهَلَاكِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ إلَّا إذَا كَانُوا آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَلِأَنَّا قَدْ وَعَدْنَا لِأُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نُخَلِّصَهُمْ بَرَدِ رَهْنِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَيَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ الْوَعْدِ جَانِبُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. 3505 - وَإِنْ قَالَ رَهْنُ الْمُشْرِكِينَ: نَكُونُ ذِمَّةً لَكُمْ، فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1754 الْمُشْرِكُونَ: إنْ قَبِلْتُمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَتَلْنَا رَهْنَكُمْ، أَوْ جَعَلْنَاهُمْ عَبِيدًا لَنَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْبَلُ هَذَا مِنْ رَهْنِهِمْ، وَلَكِنْ يَرُدُّهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَيَأْخُذُ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمُوا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَتِمُّ بِهِمْ، فَأَمَّا الذِّمَّةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالرِّضَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا كَانَ فِيهَا إتْلَافُ الْمُسْلِمِينَ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْضَوْا بِهَا. لِأَنَّ اسْتِنْقَاذَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ وَالْوَفَاءَ لَهُمْ بِالْمَوْعُودِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَصِيرَ الرَّهْنُ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْإِمَامُ نَاظِرٌ فَيَخْتَارُ مَا فِيهِ الْخَيْرِيَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ. 3506 - وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ خَلَّى الْمُشْرِكُونَ سَبِيلَ الرَّهْنِ الَّذِي عِنْدَهُمْ فَحِينَئِذٍ يُعْطِيهِمْ الذِّمَّةَ، وَيَضَعُ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجَ كَمَا لَوْ سَأَلُوهُ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إتْلَافُ الْمُسْلِمِينَ. وَمَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً. لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ، مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُخَلُّونَ سَبِيلَ الْمُسْلِمِينَ إذَا صَارَ رَهْنُهُمْ ذِمَّةً لَنَا. 3507 - فَإِنْ أَعْطَاهُمْ الذِّمَّةَ ثُمَّ طَلَبَ أَخْذَ رَهْنِ الْمُسْلِمِينَ فَأَبَوْا ذَلِكَ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْفِرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1755 ذِمَّتَهُ، وَيَنْقُضَ الْعَهْدَ الَّذِي عَاهَدَ عَلَيْهِ الرَّهْنَ، فِي رَدِّهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا ذِمَّةً لَنَا فَقَدْ ثَبَتَ لِنُفُوسِهِمْ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِنُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ أَسْلَمُوا سَوَاءً. 3508 - فَإِنْ طَابَتْ أَنْفُسُ الرَّهْنِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْ الْإِمَامِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُمْ، فَحِينَئِذٍ لَا يَدْفَعُهُمْ إلَيْهِمْ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إنْ أَسْلَمُوا. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مُفَادَاةِ الْمُسْلِمِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ بِرِضَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ. (أَلَا تَرَى) - أَنَّهُ لَوْ مَاتَ رَهْنُهُمْ فَقَالُوا: لَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ رَهْنَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فُلَانًا وَفُلَانًا، فَإِنْ رَضُوا بِذَلِكَ جَازَ دَفْعُهُمْ إلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا بِهِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُمْ إلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِيمَنْ طَلَبُوا نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. لِأَنَّ حَالَ نِسَائِهِمْ كَحَالِ رِجَالِهِمْ فِي الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ عَقَدَ الذِّمَّةِ، وَتَأْثِيرُ الرِّضَاءِ مِنْ النِّسَاءِ كَتَأْثِيرِهِ مِنْ الرِّجَالِ. 3509 - وَلَوْ كَانَ فِي الَّذِينَ طَلَبُوا صِبْيَانًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَطَابَتْ بِذَلِكَ أَنْفُسُهُمْ وَأَنْفُسُ وَالِدِيهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَهُمْ إلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1756 لِأَنَّ هَذَا مَظْلَمَةٌ يُظْلَمُ بِهَا الصَّبِيُّ، وَإِذْنُهُ فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَرِضَاءُ أَبَوَيْهِ فِيمَا يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَيْضًا، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. أَرَأَيْت لَوْ اسْتَعْبَدَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، أَلَيْسَ كَانَ الْإِمَامُ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى اسْتِعْبَادِ حُرٍّ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ وَهَذَا لَا رُخْصَةَ فِيهِ. 3510 - وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ رَهْنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِمْ نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، وَطَابَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَآبَائِهِمْ بِرَدِّهِمْ عَلَيْهِمْ، لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهُمْ، أَمَّا الصِّبْيَانُ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلِأَنَّ فِي رَدِّهِنَّ تَعْرِيضَهُنَّ عَلَى الْحَرَامِ، وَلَا إذْنَ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ، يَسْتَحِلُّونَ فَرْجَهَا وَهِيَ لَا تَحِلُّ لَهُمْ بِحَالٍ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنْ الذِّمِّيَّةَ إذَا تَزَوَّجَهَا مُسْتَأْمَنٌ فِي دَارِنَا جَازَ النِّكَاحُ وَحَلَّتْ لَهُ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ. إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى، وَلَا يُخَافُ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْ دِينِهَا، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ إنْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِالرَّدِّ، رَجَوْت أَلَّا يَكُونَ بِرَدِّهَا لِأَخْذِ رَهْنِ الْمُسْلِمِينَ بَأْسٌ، كَمَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ لَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمُسَافِرَةِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزَةً، وَمَعَ الْمَحْرَمِ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَتْ عَجُوزَةً لِحَاجَةٍ لَهَا، فَكَذَلِكَ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1757 فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَطَلَبُوا مِنَّا فِي الْمُوَادَعَةِ أَنْ نُعْطِيَهُمْ رَهْنًا فَقَالَ الرَّهْنُ لَا نَرْضَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُونِينَ عَلَيْنَا، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْبِرَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْ جِهَتِهِمْ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرٌ، وَعَلَى هَؤُلَاءِ الرَّهْنِ إذَا دَفَعْنَاهُمْ إلَيْهِمْ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ الظَّاهِرُ فِي النَّاسِ الْوَفَاءُ بِالْمُوَادَعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا، وَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ بِأَهْوَنِ الضَّرَرَيْنِ. 3512 - فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ عِنْدَهُ أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا الرَّهْنَ قَتَلُوهُمْ فَحِينَئِذٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُمْ إلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَهُمْ كَانَ شَرِيكًا فِي دِمَائِهِمْ، مُعِينًا عَلَى هَلَاكِهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهُمْ فَظَفِرَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ شَرِيكَهُمْ فِيمَا يَصْنَعُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ فِي هَذَا كَالْيَقِينِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا فِي مُهِمٍّ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ. فَأَبَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُدْخِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُ إنْ بَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا قَتَلُوهُ. فَحِينَئِذٍ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْعَثَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا وَلَا يُكْرِهُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ. 3513 - فَإِنْ جَرَتْ الْمُوَادَعَةُ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ ظَهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَسْنَا نَدَعُ الْمُوَادَعَةَ وَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ رَهْنَكُمْ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1758 أَلَّا يُبْطِلُوا الْمُوَادَعَةَ، لَا لِإِبَاءِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لِمَكَانِ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُشْرِكِينَ. لِأَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ هَذَا مِنْهُمْ إجْبَارًا لِلرَّهْنِ وَامْتِنَاعًا مِنْ الْوَفَاءِ بِالْمَوْعُودِ لَهُمْ وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ، فَيَفُونَ لَهُمْ بِمَا أَعْطَوْهُمْ، حَتَّى يَسْتَنْقِذُوا الرَّهْنَ مِنْهُمْ. 3514 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ مُؤَبَّدَةً، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُبْطِلُوا الْمُوَادَعَةَ، وَإِنْ قَدَرُوا عَلَى قِتَالِهِمْ، حَتَّى يَسْتَنْقِذُوا الرَّهْنَ، أَوْ يَمُوتَ الرَّهْنُ أَجْمَعُونَ، أَوْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ. لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّبْذِ مُرَاعَاةُ حَقِّ الرَّهْنِ. وَلِوُجُودِ إحْدَى هَذِهِ الْخِصَالِ يَزُولُ هَذَا الْمَانِعُ. 3515 - وَلَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الْمُوَادَعَةِ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنْ قَاتَلْتُمُونَا قَتَلْنَا رَهْنَكُمْ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا إخْفَارٌ لِلْعَهْدِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الرَّهْنِ، فَقَدْ انْتَهَى ذَلِكَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. فَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ بِسَبَبِ الْخَوْفِ عَلَى الرَّهْنِ، كَمَا لَوْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ بِقِتَالِهِمْ بَأْسٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي أَيْدِيهمْ أُسَرَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: إنْ قَاتَلْتُمُونَا قَتَلْنَا الْأُسَارَى، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ إنْ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ رُسُلًا لِحَاجَةٍ بِرِضَاءِ الرُّسُلِ، أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَحَبَسُوهُمْ. وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: إنْ قَاتَلْتُمُونَا قَتَلْنَا رُسُلَكُمْ فَلَا بَأْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1759 بِقِتَالِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إخْفَارٌ مِنْ الْإِمَامِ لِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، إنَّمَا فِيهِ مَظْلَمَةٌ يَظْلِمُ الْمُشْرِكُونَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، وَلِلْخَوْفِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِتَالُ مَعَهُمْ. 3516 - وَقَالَ: وَلَوْ طَلَبَ بَعْضُ مَدَائِنِ الشِّرْكِ أَنْ يَكُونَ ذِمَّةً لَهُمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ مَلِكُ الْمُوَادِعِينَ وَقَالَ: إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَتَلْنَا رَهْنَكُمْ، أَوْ اسْتَعْبَدْنَاهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ رَهْنَكُمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ وَالْمُسْلِمِينَ يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ إعْطَاءِ الذِّمَّةِ إلَى أَنْ يَأْخُذُوا رَهْنَكُمْ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَبُولُ الذِّمَّةِ مِنْ الَّذِينَ طَلَبُوا ذَلِكَ خَيْرًا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ. لِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَخْتَارُ مَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ أَظْهَرُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قَبُولِ الذِّمَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ إخْفَارٌ فِي حَقِّ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الرَّهْنُ، وَلَا كَانَ وُقُوعُهُ مَعْلُومًا عِنْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ النَّبْذِ إلَيْهِمْ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَخْتَارَ مَا فِيهِ اسْتِنْقَاذُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ طَلَبَ أَهْلُ مَدِينَةٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً فَقَالَ مَلِكُ الْعَدُوِّ: إنْ أَبَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ خَلَّيْت سَبِيلَ أُسَرَائِكُمْ، وَإِنْ قَبِلْتُمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَتَلْت أُسَرَاءَكُمْ، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ كَانَ اسْتِنْقَاذُ الْأُسَرَاءِ خَيْرًا فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَبُولُ الذِّمَّةِ مِنْ أُولَئِكَ خَيْرًا لِمَا يَرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1760 فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِشَوْكَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ طَلَبُوا الذِّمَّةَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقْبَلُ الذِّمَّةَ مِنْهُمْ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى جَانِبِ الْأُسَرَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَاصَرَ أَهْلَ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ وَأَشْرَفَ عَلَى فَتْحِهَا فَقَالَ لَهُ مَلِكُ الْعَدُوِّ انْصَرِفُوا عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ أُسَرَاءَكُمْ الَّذِينَ فِي أَيْدِينَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَيَفْعَلُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. 3517 - فَإِنْ غَدْرَ أَهْلُ الْمُوَادَعَةِ فَقَتَلُوا رَهْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي رَهْنِهِمْ صِبْيَانٌ لَيْسَ مَعَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلَا أُمَّهَاتُهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِمْ حَتَّى يَبْلُغُوا فَيَصِفُوا الْإِسْلَامَ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كُفَّارًا عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَغْدِرَ الْمُشْرِكُونَ بِالرَّهْنِ فَلَا يَتَحَوَّلُونَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَصِفُوا الْإِسْلَامَ. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي غَدْرِهِمْ إلَّا أَنَّ رَهْنَهُمْ بِهِ قَدْ صَارُوا فِينَا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَوْلَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلَا أُمَّهَاتُهُمْ، بِأَنْ كَانُوا مَاتُوا، أَوْ نَقَضُوا الْعَهْدَ لَا يُحْكَمُ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَصِفُوا الْإِسْلَامَ قَبْلَ الْبُلُوغِ، أَوْ بَعْدَهُ فَحَالُ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ. 3518 - فَإِذَا كَانَ فِي رَهْنِهِمْ مَمَالِيكُ ثُمَّ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَنَا فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَمَالِيكَهُمْ بِبَيْعِهِمْ، وَيَقِفُ الثَّمَنَ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يُرْضِيَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رَهْنِهِمْ. لِأَنَّهُمْ احْتَبَسُوا عِنْدَنَا وَلَكِنْ لَمْ تَسْقُطْ حُرْمَةُ مِلْكِ الْمُلَّاكِ فِيهِمْ لِأَجْلِ الْأَمَانِ فَالسَّبِيلُ بَيْعُهُمْ وَوَقْفُ ثَمَنِهِمْ كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1761 فَإِنْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إنَّا قَدْ أَسَأْنَا فِي قَتْلِ رَهْنِكُمْ، فَنَحْنُ نَغْرَمُ لَكُمْ دِيَاتِهِمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْبَلَ الْإِمَامُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ رَدِّ الرَّهْنِ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ كَرَدِّ الْعَيْنِ، وَقِيمَةُ النَّفْسِ الدِّيَةُ. 3520 - فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ سَلَّمَ الدِّيَاتِ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِينَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ ثَمَنَ الْعَبِيدِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبِيدُ لَمْ يُبَاعُوا وَقَالُوا: رُدُّوا عَلَيْنَا عَبِيدَنَا وَنَرُدُّ عَلَيْكُمْ دِيَاتِ رَهْنِكُمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَفْعَلُ هَذَا. لِأَنَّ عَبِيدَهُمْ قَدْ احْتَبَسُوا عِنْدَنَا، فَهَذَا إنْ فَعَلَهُ يَكُونُ فِي مَعْنَى مُفَادَاةِ الْأُسَارَى مِنْهَا بِالْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوا رَهْنَنَا بِأَعْيَانِهِمْ، فَإِذَا كَانُوا يَأْخُذُونَ رِجَالَهُمْ بِأَعْيَانِهَا وَيَرُدُّونَ عَلَيْنَا الدِّيَاتِ كَانَ فِيهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ يَدْخُلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. 3521 - وَلَا يَنْبَغِي لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْبِسَهُمْ إلَى مِثْلِ هَذَا، فَأَمَّا بَعْدَ بَيْعِ الْعَبِيدِ لَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا الْوَهْنُ فِي رَدِّ الْأَثْمَانِ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَدَلَ الرَّهْنِ مَالٌ وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بَدَلَ رَهْنِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى الْحَظَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الدِّيَاتِ. وَيَرُدَّ عَلَيْهِمْ عَبِيدَهُمْ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَعْنَى النَّظَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1762 فَإِنْ كَانُوا قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ نَدْفَعُ إلَيْكُمْ الَّذِينَ قَتَلُوا رَهْنَكُمْ لِتَحْكُمُوا فِيهِمْ بِمَا شِئْتُمْ، وَتَرُدُّوا عَلَيْنَا رَهْنَنَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُرَاعِي فِي ذَلِكَ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَرَ فِي ذَلِكَ حَظًّا لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ رَهْنُنَا خَمْسِينَ رَجُلًا فَقَتَلَهُمْ إنْسَانٌ وَاحِدٌ أَكُنَّا نَأْخُذُ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَاتِلَ الْوَاحِدَ وَنَرُدُّ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ مِنْ أَحْرَارِهِمْ وَأَيُّ وَهْنٍ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ هَذَا؟ وَإِنْ رَأَى الْحَظَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبِلَهُ فَأَخَذَ الْقَاتِلِينَ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ فِي الْقَاتِلِينَ، إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ بِهِمْ، لَا بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُمْ أُسَارَى مَقْهُورُونَ فِي أَيْدِينَا، لَا أَمَانَ لَهُمْ، وَلِلْإِمَامِ فِيهِمْ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمْ عَبِيدًا، فَإِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ أَعْطَى وَارِثَ كُلِّ مَقْتُولٍ الْعَبْدَ الَّذِي قَتَلَ مُوَرِّثَهُ. لِأَنَّهُ أَخَذَهُمْ عِوَضًا عَنْ الرَّهْنِ الْمَقْتُولِينَ، وَلِذَلِكَ رَدَّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، فَإِذَا صَارُوا مَمْلُوكِينَ كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الدِّيَاتِ. وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى النَّفْسِ إذَا وُجِدَ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ، وَلَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَانَ مُوجِبُهَا اسْتِحْقَاقُ نَفْسِ الْجَانِي بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِلْكًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1763 أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً فَإِنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ نَفْسِهِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ، إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَهَذَا كَذَلِكَ. 3523 - وَإِنْ قَالُوا لِلْإِمَامِ: إنْ شِئْت أَعْطَيْنَاك دِيَاتِ أَصْحَابِك، وَإِنْ شِئْت أَعْطَيْنَاك الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَكُمْ، فَهَذَا إنْصَافٌ مِنْهُمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ فَوْقَ هَذَا، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْوَفَاءِ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ. 3524 - ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَارَ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ الدِّيَاتِ دَفْعِهَا إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ الْقَاتِلِينَ كَانَ الرَّأْيُ إلَيْهِ فِي قَتْلِهِمْ، كَمَا بَيَّنَّا. وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ قَتْلُهُمْ بِعَفْوِ الْوَرَثَةِ إنْ عَفَوَا عَنْهُمْ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَقْتُلهُمْ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ، بَلْ لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ، وَالْعَفْوُ فِي قَتْلِ الْمُحَارِبِينَ غَيْرُ مُؤْثَرٍ. لِأَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا يُسْقِطُ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْعَافِي خَاصَّةً. 3525 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَتَلَ رَهْنَ الْمُسْلِمِينَ رِجَالًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ فَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّ مَنْ عِنْدَهُمْ بِأَمَانٍ فَهُوَ فِي أَيْدِيهمْ وَهُوَ مِمَّنْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مَلِكِهِمْ فَحَالُهُمْ كَحَالِ أَهْلِ دَارِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1764 أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ مِنْ دَارِهِمْ إلَيْنَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِئْمَانٍ جَدِيدٍ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ. 3526 - وَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا دَارَهُمْ مُغِيرِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَقَتَلُوا الرَّهْنَ، فَإِنْ ظَفِرَ بِهِمْ أَهْلُ دَارِ الْمُوَادَعَةِ وَدَفَعُوهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ، لَيْسَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَيَأْخُذُونَ رَهْنَهُمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ فَوْقَ هَذَا، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْوَفَاءِ بِالْمُوَادَعَةِ. وَإِنْ كَانُوا مَاتُوا، أَوْ قُتِلُوا فِي حَرْبِهِمْ، أَوْ أَخَذَهُمْ مَلِكُ الْمُوَادِعِينَ فَقَتَلَهُمْ بِمَا فَعَلُوا بِالرَّهْنِ، أَوْ هَرَبُوا، فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ. لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادِعِينَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَ دَارِ الْمُوَادَعَةِ بِجِنَايَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ هَذَا فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ رَهْنُنَا فِي دَارِهِمْ فَعَلَيْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ. 3527 - وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ أَصَابُوهُمْ مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ فَقَتَلَهُمْ مَلِكُهُمْ حِينَ قَتَلُوا الرَّهْنَ، أَوْ مَاتُوا حِينَ أَخَذَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ فَلِلْإِمَامِ أَلَّا يَرُدَّ رَهْنَهُمْ حَتَّى يُعْطُوهُمْ دِيَاتِ رَهْنِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَا تُمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةِ مَلِكِهِمْ، فَيَكُونُ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ كَفِعْلِ مَلِكِهِمْ بِنَفْسِهِ. 3528 - وَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَتَلَ رَهْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ، فَقَتَلُوهُ أَوْ مَاتَ، كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1765 رَهْنَهُمْ حَتَّى يَرُدُّوا دِيَاتِ رَهْنِنَا، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ، وَإِنْ أَخَذُوا الْمَلِكَ فَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ نَدْفَعُهُ إلَيْكُمْ بِمَنْ قُتِلَ مِنْ رَهْنِكُمْ وَتَرُدُّوا عَلَيْنَا رَهْنَنَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ رَأَى الْحَظَّ فِي أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ حَتَّى يَأْخُذَ دِيَاتِ الرَّهْنِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى الْحَظَّ فِي أَنْ يَأْخُذَ الْمَلِكَ فَيَقْتُلَهُ، أَوْ يَجْعَلَهُ عَبْدًا لِوَرَثَةِ الرَّهْنِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ حِينَ قَتَلَ الرَّهْنَ هُوَ الَّذِي قَالَ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أُعْطِيك دِيَاتِ أَصْحَابِك لِتَرُدَّ عَلَيَّ رَهْنِي فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَهْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى رِضَاءِ وَرَثَةِ الرَّهْنِ إنْ رَضُوا بِذَلِكَ. لِأَنَّ مُرَاعَاةَ جَانِبِ دَفْعِ الْوَهْنِ وَالذُّلِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْجَبُ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حَقِّهِمْ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَعْتَبِرَ فِيهِ رِضَاهُمْ، إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ الْحَظَّ فِي ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ. 3529 - فَإِنْ غَدَرَ الْمُشْرِكُونَ وَقَتَلُوا رَهْنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ رَهْنَهُمْ اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ الشَّرْطِ، فَقَدْ أَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِينَا، وَيَنْبَغِي لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَنْ يَغْرَمَ دِيَاتِهِمْ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُسْلِمِ يَقْتُلُ الْمُسْتَأْمَنَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ حِينَ احْتَبَسُوا فِي دَارِنَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ عِنْدَنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1766 قُلْنَا) : قَبْلَ أَنْ يَضَعَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ عَلَيْهِمْ لَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، حَتَّى لَوْ أَرْضَى الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، وَإِنْ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَدْ تُمْكِنُ شُبْهَةٌ فِي هَذَا الْقَتْلِ، وَهُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى ظَاهِرِ الشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ وَذَلِكَ يَكْفِي لِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ. 3530 - ثُمَّ الدِّيَاتُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ أَعْطَى الْمُشْرِكُونَ دِيَاتِ رَهْنِ الْمُسْلِمِينَ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ الْإِمَامُ، وَدَفَعَهَا إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِينَ، وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ دِيَاتِ رَهْنِهِمْ. لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَلَوْ رَدُّوا عَلَيْنَا رَهْنَنَا رَدَدْنَا عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، فَكَذَلِكَ إذَا رَدُّوا دِيَاتِ رَهْنِنَا رَدَدْنَا عَلَيْهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ قَتْلِ رَهْنِهِمْ فَإِنَّ لِلْإِمَامِ هُنَاكَ رَأْيًا فِي أَخْذِ الدِّيَاتِ، لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْوَهْنِ، بِأَنْ يَقْتُلُوا خِيَارَنَا وَأَشْرَافَنَا، ثُمَّ يَأْخُذُوا رَهْنَهُمْ وَيُعْطُونَا الدِّيَاتِ. 3531 - فَإِنْ قَالُوا نُعْطِيكُمْ الدِّيَاتِ، وَنُعْطِيكُمْ مَكَانَ كُلِّ مُسْلِمٍ قَتَلْنَاهُ مِنْكُمْ أَسِيرًا مُسْلِمًا فِي أَيْدِينَا، وَتَرُدُّونَ عَلَيْنَا رَهْنَنَا، فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ. لِأَنَّهُمْ رَدُّوا بَدَلَ نُفُوسِ الْمَقْتُولِينَ، وَرَدُّوا مِثْلَ مَا قَتَلُوا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَ الْأُسَرَاءِ، وَيَدْفَعُ الدِّيَاتِ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1767 وَإِنْ قَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا أَسُرَاءُ مِنْكُمْ وَلَكِنَّا نُعْطِيكُمْ لِكُلِّ قَتِيلٍ مِنْ رَهْنِكُمْ دِيَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَ دِيَاتٍ، وَتَرُدُّونَ رَهْنَنَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرَى فِي ذَلِكَ رَأْيَهُ سَوَاءٌ رَضِيَ بِهِ وَرَثَةُ الرَّهْنِ، أَوْ لَمْ يَرْضَوْا. لِأَنَّ الْمَالَ وَإِنْ كَثُرَ لَا يَكُونُ مِثْلًا لِلْمُسْلِمِينَ فَرُبَّمَا يَكُونُ فِي هَذَا مَعْنَى التَّوْهِينِ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَلَّا يَقْبَلَهُ. 3533 - فَإِنْ رَأَى ذَلِكَ خَيْرًا وَقَبِلَهُ سَلَّمَ الدِّيَاتِ كُلّهَا لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِينَ. لِأَنَّهُ بَدَلُ نُفُوسِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِنْ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ سَالِمٌ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِينَ قَلَّ ذَلِكَ، أَوْ كَثُرَ. 3534 - وَلَوْ قَالُوا لَا نُعْطِيكُمْ الدِّيَةَ، وَلَكِنْ نُعْطِيكُمْ مَكَانَ كُلِّ مُسْلِمٍ قَتَلْنَاهُ أَسِيرًا، أَوْ أَسِيرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَأَبَى أَوْلِيَاءُ الرَّهْنِ الْمَقْتُولِينَ أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِت الْإِمَامُ إلَى إبَائِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ رَأَى النَّظَرَ فِي قَبُولِ ذَلِكَ أَخَذَ الْأُسَارَى فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، وَعَوَّضَ وَرَثَةَ الرَّهْنِ الْمَقْتُولِينَ دِيَاتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْأُسَارَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا تَوَصَّلَ إلَى تَخْلِيصِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1768 الْأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ دَمِ الْمَقْتُولِينَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَرَثَتِهِمْ عِوَضَ ذَلِكَ، وَهُوَ دِيَاتُ الْمَقْتُولِينَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَادَى الْأُسَارَى بِعَبِيدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ مَا قَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، فَإِنَّهُ يُعَوِّضُ الْمُلَّاكَ قِيمَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. 3535 - وَإِنْ طَابَتْ أَنْفُسُ وَرَثَةِ الرَّهْنِ بِهَذَا وَسَأَلُوا الْإِمَامَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ أُسَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَكَانَ الرَّهْنِ الْمَقْتُولِينَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، ثُمَّ طَلَبَ وَرَثَةُ الرَّهْنِ دِيَاتِ رَهْنِهِمْ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا. لِأَنَّهُمْ تَطَوَّعُوا بِحَقِّهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَأَنَّهُمْ تَبَرَّعُوا بِمُفَادَاةِ الْأُسَارَى بِمَالِهِمْ فَلَا يَسْتَوْجِبُونَ الرُّجُوعَ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ. 3536 - وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْمِرْهُمْ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَبِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَا أَعْطَوْهُ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَوِّضَ وَرَثَةَ الرَّهْنِ الْمَقْتُولِينَ دِيَاتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّ حَقَّهُمْ إنَّمَا يَسْقُطُ إذَا رَضُوا بِذَلِكَ وَتَطَوَّعُوا بِحَقِّهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ. 3537 - وَإِنْ لَمْ يُعْطِ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا بَعْدَ قَتْلِ رَهْنِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَذِّبَ رَهْنَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، كَمَا لَا يَقْتُلهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَأْمَنُونَ فِينَا، وَلَكِنَّهُ يُخَلِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1769 عَنْهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ دَارِنَا، لَا يَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى بِلَادِهِمْ. لِأَنَّهُمْ احْتَبَسُوا فِي دَارِنَا حِينَ احْتَبَسُوا رَهْنَنَا عِنْدَهُمْ. 3538 - فَإِنْ أَسْلَمُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَإِنْ أَبَوْا جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً لِمَا بَيَّنَّا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَجِّلَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي أَمْرِهِمْ سَنَةً، فَإِنْ أَرْضَوْنَا وَإِلَّا جَعَلْنَاهُمْ ذِمَّةً، وَوَضَعْنَا عَلَيْهِمْ الْخَرَاجَ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ أَخَذْنَا مِنْهُمْ الْخَرَاجَ. لِأَنَّ إرْضَاءَ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَوْهُومٌ، وَبَعْدَ الْإِرْضَاءِ يَجِبُ رَدُّ رَهْنِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَلِهَذَا يَتَأَنَّى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ، وَالْحَوْلُ حَسَنٌ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ كَمَا فِي أَجَلِ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْتَأْمَنِ إذَا أَطَالَ الْمُقَامَ فِي دَارِنَا، فَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ وَيَقُولُ إنْ أَقَمْت سَنَةً مِنْ يَوْمِك هَذَا جَعَلْتُك ذِمَّةً، ثُمَّ إنْ خَرَجَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ تَرَكَهُ، وَإِنْ مَضَتْ السَّنَةُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ أَخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجَ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ الرُّجُوعِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ حَالُ الرَّهْنِ. 3539 - فَإِنْ قَالُوا بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ نَحْنُ نُرْضِيكُمْ بِإِعْطَاءِ الْأُسَارَى وَالدِّيَاتِ، فَرُدُّوا عَلَيْنَا رَهْنَنَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَرُدُّهُمْ بِالدِّيَاتِ بَعْدَ مَا صَارُوا ذِمَّةً لَنَا، وَبَعْدَ إعْطَاءِ الْأُسَارَى إنْ كَرِهَ الرَّهْنُ ذَلِكَ لَمْ يَرُدَّهُمْ، وَإِنْ طَابَتْ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ رَدَّهُمْ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا فِي مُفَادَاةِ الْأُسَرَاءِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ. لِأَنَّ هَؤُلَاءِ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1770 وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَسَرَ الْإِمَامُ الْقَوْمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقَسَّمَهُمْ، ثُمَّ إنَّ مَوَالِيهِمْ أَعْتَقَهُمْ فَصَارُوا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ، ثُمَّ طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُفَادُونَا بِأُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ طِيبَةِ نَفْسِ الْمُعْتَقِينَ، فَإِنْ طَابَتْ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ فَعَلُوهُ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ، وَلَوْ قَالُوا: نُعْطِيكُمْ الدِّيَاتِ، وَنُعْطِيكُمْ مَنْ قَتَلَ الرَّهْنَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ بَعْدَ مَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً. لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مُفَادَاةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمَالِ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، إنَّمَا الَّذِي يُرَخَّصُ فِيهِ إعَادَةُ الذِّمِّيِّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، لِيَكُونَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ فِيهِ تَخْلِيصُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَسْرِ الْمُشْرِكِينَ فَقَطْ. 3541 - فَلَوْ أَعْطَى الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ رَهْنًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْطَاهُمْ الْمُشْرِكُونَ رَهْنًا مِنْ جَوَاهِرَ، أَوْ ثِيَابٍ، ثُمَّ غَدَرُوا فَقَتَلُوا الرَّهْنَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجْعَلُ رَهْنَهُمْ مَوْقُوفًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، لَا يُعْطَى وَرَثَةَ الرَّهْنِ الْمَقْتُولِينَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ حَقَّهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى بَدَلِ نُفُوسِ الْمَقْتُولِينَ. وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَدَلِ نُفُوسِهِمْ فِي شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُ مَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ قَدْ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْإِمَامِ فِي دِيَارِنَا، فَيَجْعَلُهُ الْإِمَامُ مَوْقُوفًا فِي بَيْتِ الْمَالِ. 3542 - وَإِنْ خَافَ الْفَسَادَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ بَاعَهُ، وَوَقَفَ ثَمَنَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1771 فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ نُعْطِيكُمْ الدِّيَاتِ وَتَرُدُّوا عَلَيْنَا رَهْنَنَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ الدِّيَاتُ مِثْلَ الرَّهْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ. لِأَنَّ الْكُلَّ مَالٌ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، لِيَنْعَدِمَ بِهِ مَعْنَى الرَّهْنِ، ثُمَّ يَدْفَعُ الدِّيَاتِ إلَى وَرَثَةِ الرَّهْنِ. وَإِنْ كَانَتْ الدِّيَاتُ دُونَ رَهْنِهِمْ فِي الْمَالِيَّةِ مَنَعَهُمْ الْإِمَامُ ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَنْعِ. لِأَنَّ مَعْنَى الرَّهْنِ يَتَحَقَّقُ هَا هُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ قَتْلِهِمْ الرَّهْنَ، وَالْآخَرُ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطُونَ. 3543 - وَإِنْ قَالُوا: إنَّ الرَّهْنَ قُتِلُوا بِغَيْرِ رِضَاءٍ مِنَّا، فَنَحْنُ نُعْطِيكُمْ الْقَاتِلِينَ وَدِيَاتِ الْمَقْتُولِينَ، وَتَرُدُّوا عَلَيْنَا رَهْنَنَا، أَوْ قَالُوا: اخْتَرْ إنْ شِئْت الْقَاتِلِينَ نَدْفَعُهُمْ إلَيْك، وَإِنْ شِئْت الدِّيَاتِ، فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ صَدَقُوا فِيمَا قَالُوا إنَّهُمْ قُتِلُوا بِغَيْرِ رِضَاءٍ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْبَى هَذَا عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ فَوْقَ مَا عَرَضُوهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَخْتَارُ أَفْضَلَهُمَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَأْخُذُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ. 3544 - وَإِنْ كَانَ قُتِلَ بِرِضَاءٍ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فَلِلْإِمَامِ أَلَّا يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ رِضَاءَ الْجَمَاعَةِ بِذَلِكَ كَمُبَاشَرَتِهِمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1772 وَفِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَعْنَى الْوَهْنِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَتَلُوا رَهْنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَسْلَمُوا وَصَارُوا ذِمَّةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ غُرْمٌ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ مُحَارِبُونَ، فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ قَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ ثُمَّ أَسْلَمُوا [، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً] سَوَاءً، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ كَانَ مَمْلُوكًا مُحْتَرَمًا لَهُمْ فِي أَيْدِينَا. 3545 - فَإِذَا أَسْلَمُوا وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» . وَحَالُهُمْ الْآنَ كَحَالِ الْخَوَارِجِ إذَا قَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ، وَأَصَابَ كُلُّ فَرِيقٍ مَالًا مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرَ، ثُمَّ اسْتَهْلَكَ الْخَوَارِجُ أَمْوَالَ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسْتَهْلِكُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَقِفُونَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَتُوبَ الْخَوَارِجُ، فَإِذَا تَابُوا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَغْرَمُوا شَيْئًا مِمَّا اسْتَهْلَكُوا، وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ أَهْلُ الدَّارِ بَعْدَ قَتْلِ الرَّهْنِ، وَلَكِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ وَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا، أَوْ سَبَوْهُمْ، كَانَ رَهْنُهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَهَرُوا عَلَى تِلْكَ الدَّارِ. لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَتْ حُرْمَةُ نُفُوسِ الْمُلَّاكِ بِوُقُوعِ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا عَيْنُ مَالٍ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا فِي أَيْدِيهمْ، فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْغَانِمِينَ. 3546 - وَإِنْ اسْتَهْلَكَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَهْنَهُمْ فَإِنَّ الْإِمَامَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1773 يُضَمِّنُهُ مِثْلَهُ، لِبَقَاءِ حُكْمِ الْأَمَانِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فِي يَدِ الْإِمَامِ، ثُمَّ حُكْمُ الْمِثْلِ الْمَأْخُوذِ فِي (يَد الْإِمَام) هُوَ حُكْمُ الْأَصْلِ؛ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَهْلَكَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَا أَمَانَ لِلْخَوَارِجِ فِي ذَلِكَ مِنَّا، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْأَمَانِ. فَأَمَّا وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ فَلِهَذَا قُلْنَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ قَائِمًا، وَلَا يَضْمَنُ الْمُسْتَهْلِكُ لَهُمْ شَيْئًا مِمَّا اسْتَهْلَكَهُ، بِخِلَافِ رَهْنِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي أَيْدِينَا، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، فَيَغْرَمُ الْمُسْتَهْلِكُ قِيمَتَهُ، وَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ إنْ أَسْلَمُوا. 3547 - وَإِذَا أَخَذُوا الرَّهْنَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْمُوَادَعَةِ وَاشْتَرَطُوا فِيهَا أَنَّ مَنْ غَدْرَ مِنْهُمْ فَدِمَاءُ رَهْنِهِمْ حَلَالٌ، ثُمَّ قَطَعَ الْمُشْرِكُونَ أَيْدِي رَهْنِنَا، أَوْ فَقَئُوا أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: خُذُوا رَهْنَكُمْ فَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَأَعْطَوْنَا رَهْنَنَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي أَخْذِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَوْهِينٌ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَبْرَأهُمْ الرَّهْنُ مِمَّا صَنَعُوا بِهِمْ، وَقَالُوا: خُذُونَا مِنْهُمْ، فَعَلَ الْإِمَامُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَوْهِينٌ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ مِنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1774 لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا وَقَدْ سَلَّمَ إلَيْهِمْ قَوْمًا أَصِحَّاءَ فَلَهُ أَلَّا يَأْخُذَ مِنْهُمْ قَوْمًا عُمْيَانًا مَقْطُوعِينَ وَيُعْطِيَهُمْ رَهْنَهُمْ أَصِحَّاءَ. 3548 - وَإِنْ قَالَ الرَّهْنُ: الْحَقُّ حَقُّنَا وَنَحْنُ نَرْضَى بِذَلِكَ، فَخُذُونَا مِنْهُمْ، فَإِنَّا لَا نَأْمَنُ الْبَلَاءَ عَلَى أَنْفُسِنَا، لَمْ يَلْتَفِت الْإِمَامُ إلَى مَقَالَتِهِمْ. لِأَنَّ فِي هَذَا تَوْهِينًا لِلدِّينِ، وَخَدِيعَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ [وَازْدِرَاءً لَهُمْ] ، وَالضَّرَرُ فِي ذَلِكَ إلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَتْرُكُ الْإِمَامُ مُرَاعَاةَ هَذَا الْجَانِبِ بِقَوْلِ الرَّهْنِ. (أَرَأَيْت) لَوْ كَانَ الرَّهْنُ بِآخِرِ الرَّمَقِ مُقَطَّعِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، فَقَالُوا: خُذُونَا مِنْهُمْ أَكَانَ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ رَهْنَهُمْ أَصِحَّاءَ سَالِمِينَ وَيَأْخُذَ الْمُسْلِمِينَ بِآخِرِ رَمَقٍ لِمَا صَنَعُوا بِهِمْ؟ هَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِهِ أَحَدٌ. لِأَنَّهُ رِضَاءٌ بِالدَّنِيَّةِ فِي الدِّينِ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا فَإِنَّ الذَّلِيلَ يُعْطَى مَا سُئِلَ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إذَا قَتَلُوا رَهْنَنَا ثُمَّ قَالَ وَرَثَتُهُمْ: قَدْ عَفَوْنَا عَنْهُمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، أَنْ يَرُدُّوهُمْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ وَرَثَةَ الْمَقْتُولِينَ يَقُومُونَ مَقَامَهُمْ، هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ الرَّهْنِ، وَلَا إلَى قَوْلِ وَرَثَتِهِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى تَوْهِينِ الدِّينِ، وَجُرْأَةِ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا سَأَلُوا تَوْهِينٌ لَلدِّينِ أَجَابَهُمْ الْإِمَامُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَوْهِينُ الدِّينِ وَجُرْأَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1775 أَلَا تَرَى) أَنَّ رَهْنَنَا لَوْ كَانُوا مِائَةً، فَقَتَلُوهُمْ كُلَّهُمْ إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا، فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: خُذُونِي مِنْهُمْ، وَرُدُّوا عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَاتِلِيَّ إنْ لَمْ تَفْعَلُوا، لَمْ يَلْتَفِتْ الْإِمَامُ إلَى قَوْلِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى تَوْهِينِ الدِّينِ كَمَا بَيَّنَّا. 3549 - فَإِنْ كَانُوا حِينَ فَقَئُوا أَعْيُنَ الرَّهْنِ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: نَرُدُّ عَلَيْكُمْ رَهْنَكُمْ وَنُعْطِيكُمْ الدِّيَةَ فِيمَا صَنَعْنَا بِرَهْنِكُمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْبَلَ الْإِمَامُ مِنْهُمْ هَذَا. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَوْهِينُ الدِّين، فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَ الرَّهْنَ وَيَرُدُّونَ عِوَضَ مَا أَتْلَفُوا مِنْهُمْ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ فَوْقَ ذَلِكَ. 3550 - وَلَوْ قَتَلُوا بَعْضَ رَهْنِنَا وَبَقِيَ الْبَعْضُ كَانَ لِلْإِمَامِ أَلَّا يَرُدَّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ، حَتَّى يَرُدُّوا عَلَيْنَا الْأَحْيَاءَ، وَيُخَيَّرُونَ فِي الْقَتْلَى بَيْنَ الدِّيَاتِ وَبَيْنَ دَفْعِ الْقَاتِلِينَ إلَيْهِ؛ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. وَلَوْ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا رَهْنَنَا، أَوْ شَجُّوهُمْ فَبَرِئُوا عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَبْقَ أَثَرُهُ فَقَالُوا لِلْإِمَامِ: أَخْرِجْنَا مِنْ أَيْدِيهمْ وَادْفَعْ إلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ فَلَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَظْلُومَ قَدْ رَضِيَ بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ لِحَقِّهِ، وَلَيْسَ فِي أَخْذِهِمْ وَرَدِّ الرَّهْنِ عَلَيْهِمْ مَعْنَى تَوْهِينِ الدِّينِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ الْإِمَامُ إلَى ذَلِكَ. 3551 - وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الرَّهْنُ فِي أَيْدِيهمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، بَعْدَ مَا بَرَّءُوا ذِمَّتَهُ فَقَالَ وَرَثَةُ الرَّهْنِ قَدْ تَرَكْنَاهُ لَهُمْ، فَرُدُّوا عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1776 لِأَنَّ الْوَرَثَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ. 3552 - قَالَ: فَإِذَا أَعْطَوْا الرَّهْنَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْمُوَادَعَةِ، وَلَمْ يُعْطُوا مَعَ رَهْنِ الْمُشْرِكِينَ نَفَقَةً لَهُمْ، فَنَفَقَتُهُمْ مَا دَامُوا رَهْنًا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ أَعْجِبْ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْمَرْهُونِ تَكُونُ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الرَّهْنُ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ، فَكَيْفَ تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ فِيهِ الرَّهْنُ صُورَةً، فَكَيْفَ يَجِبُ نَفَقَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ فِي أَيْدِينَا، بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ إقَامَتَهُمْ فِينَا لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجَابَةُ إلَى هَذِهِ الْمُوَادَعَةِ إلَّا إذَا كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ، بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعَارِ فِي يَد الْمُسْتَعِيرِ، لَمَّا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَهُ فِيهِ كَانَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ، فَالْمَنْفَعَةُ هُنَاكَ لِلرَّاهِنِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ دَيْنَهُ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، فَإِنْ قَتَلُوا رَهْنَ الْمُسْلِمِينَ يَلْتَزِمُ الْإِمَامُ رَهْنَهُمْ إلَى سَنَةٍ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا. لِأَنَّهُ مَا لَمْ تَمْضِ السَّنَةُ فَالْحُكْمُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا فِيهِمْ بِأَمَانٍ بَاقٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1777 فَإِنْ مَضَتْ السَّنَةُ وَلَمْ يُرْضُونَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةٌ، وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا. لِأَنَّهُ مَا لَمْ تَمْضِ السَّنَةُ حَالُهُمْ كَحَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. 3553 - وَلَوْ لَمْ يَقْتُلُوا رَهْنَنَا، وَقَدْ كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ مُؤَقَّتَةً، فَانْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَطَلَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَدَّ الرَّهْنِ فَأَبَوْا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ لِرَهْنِهِمْ: لَا أَرُدُّكُمْ إلَى بِلَادِكُمْ حَتَّى يَرُدَّ أَصْحَابُكُمْ إلَيَّ رَهْنِي، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ فِي ذَلِكَ حَوْلًا، فَاكْتُبُوا لَهُمْ فَإِنْ رَدُّوا رَهْنِي، وَإِلَّا جَعَلْتُكُمْ ذِمَّةً، وَيَكْتُبُ إلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ أَيْضًا تَحْقِيقًا لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ، فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا الرَّهْنَ حَتَّى مَضَى الْحَوْلُ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً، ثُمَّ إنْ عَرَضُوا رَدَّ الرَّهْنِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ رَهْنَهُمْ إلَّا بِرِضَاهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَالْفِقْهُ فِي هَذَا الْإِنْذَارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْمُشْرِكَ فِي دَارِنَا مُدَّةً مَدِيدَةً، لِيَصْنَعَ مَا يَصْنَعُ مِنْ غَيْرِ ذُلِّ الْخَرَاجِ فَكَانَ التَّقْدِيمُ إلَيْهِمْ وَالتَّأْجِيلُ بِحَوْلٍ لِهَذَا الْمَعْنَى. 3554 - وَإِنْ أَعْطَى الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ رَهْنًا مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ جَوْهَرٍ، أَوْ لُؤْلُؤٍ، أَوْ عَبِيدٍ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ إنْ غَدَرُوا فَمَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مِنْ مَالٍ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ غَدَرُوا، فَإِنَّ الْمَالَ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1778 يَكُونُ مَوْقُوفًا فِي بَيْتِ الْمَالِ لَهُمْ، إلَى أَنْ يُسْلِمُوا، أَوْ يُرْضُونَا فِي رَهْنِنَا بِمَا نَرْضَى بِهِ.؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ قَدْ ثَبَتَ بُطْلَانُهُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» . فَإِنَّ تَفْسِيرَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ أَنْ يَقُولَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: إنْ جِئْتُك بِمَالِك إلَى وَقْتِ كَذَا وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك بِمَالِك. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مَالٍ فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا أَحْرَى أَلَّا يَجُوزَ، وَهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْلِيقِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِالْخَطَرِ، وَأَسْبَابُ مِلْكِ الْأَعْيَانِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ بُطْلَانُ هَذَا الشَّرْطِ كَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءً، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1779 [بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْمُوَادَعَةِ وَغَيْرِهَا] 3555 - قَالَ: وَإِذَا تَوَادَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ سِنِينَ مَعْلُومَةً فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا بِذَلِكَ كِتَابًا؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ يَمْتَدُّ، وَالْكِتَابُ فِي مِثْلِهِ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَأَدْنَى دَرَجَاتِ مُوجِبِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] . فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا يَكُونُ مُمْتَدًّا يَكُونُ الْجُنَاحُ فِي تَرْكِ الْكِتَابِ فِيهِ. 3556 - ثُمَّ الْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، «فَإِنَّهُ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ وَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُكْتَبَ بِذَلِكَ نُسْخَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا تَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأُخْرَى عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1780 يَكْتُبُ، فَلَمَّا كَتَبَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: لَا نَدْرِي مَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ؟ اُكْتُبْ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ، ثُمَّ كَتَبَ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: لَوْ عَرَفْنَاك رَسُولَ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاك، أَوَ تَرْغَبُ عَنْ اسْمِ أَبِيك؟ اُكْتُبْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَنْ يَمْحُوَ مَا كَتَبَ، فَأَبَى عَلِيٌّ ذَلِكَ حَتَّى مَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِيَدِهِ. وَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، اُكْتُبْ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمْلَى عَلَيْهِ الْكِتَابَ إلَى آخِرِهِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ نُسْخَتَيْنِ» فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ. وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ يَحْتَاجُ إلَى نُسْخَةٍ تَكُونُ فِي يَدِهِ، حَتَّى إذَا نَازَعَهُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ فِي شَرْطٍ رَجَعَ إلَى مَا فِي يَدِهِ، وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّوَثُّقُ وَالِاحْتِيَاطُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ، وَيَتَحَرَّزُ فِيهِ مِنْ طَعْنِ كُلِّ طَاعِنٍ، إلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ يَكُونُ صَوَابًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ طَعْنٌ، ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ فَقَالَ: هَذَا مَا تَوَادَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ فُلَانٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَفُلَانٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، وَأَبُو زَيْدٍ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: فِي شُرُوطٍ الِاخْتِيَارُ عِنْدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1781 أَنْ يَكْتُبَ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا تَوَادَعَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ صَادِقًا حَقِيقَةً فَإِنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْبَيَاضِ، وَالْبَيَاضُ لَا يَكُونُ مَا تَوَادَعَ عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ فِيهِ ذِكْرُ مَا تَوَادَعَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ مَا اخْتَارَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُوَافِقٌ لِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا رَوَيْنَا، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّهُ حِينَ «أَمَرَ بِكِتَابٍ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ كَانَ صِفَتُهُ: هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ، رَسُولُ اللَّهِ، مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ» ، وَإِشَارَةُ الْكِتَابِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 53] . وَالْمُرَادُ الْوَعْدُ لِلْأَبْرَارِ وَالْوَعِيدُ لِلْفُجَّارِ، ثُمَّ لَمْ يَقُلْ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ. 3557 - ثُمَّ قَالَ: تَوَادَعُوا كَذَا وَكَذَا سَنَةً، أَوَّلُهَا شَهْرُ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا، وَآخِرُهَا شَهْرُ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا. وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِذِكْرِ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ الَّذِي يَجْرِي حُرْمَةُ الْقِتَالِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَآخِرُهَا مُوجِبًا مَعْلُومًا وَذَلِكَ بِبَيَانِ التَّارِيخِ. وَإِنَّمَا اخْتَارَ لَفْظَ الْمُوَادَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُسَالَمَةَ وَلَا مُصَالَحَةَ حَقِيقَةً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ الْمُعَاهَدَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. {إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] وَالْمُوَادَعَةُ هِيَ الْمُعَاهَدَةُ ثُمَّ ذَكَرَ مَا بِالْفَرِيقَيْنِ حَاجَةٌ إلَى ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنْ قَالَ 3558 - وَجَعَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ بِالْوَفَاءِ بِجَمِيعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1782 مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عَهْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِيثَاقَهُ وَذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ وَذِمَّةَ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَهَذَا اللَّفْظُ يَذْكُرُهُ فِي كُلِّ كِتَابٍ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَنَى عَلَيْهِ عَلَى مَا كَانَ حَالُ الْخَلِيفَةِ فِي وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ الرُّومَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَعْظَمُ الْأَلْفَاظِ فِي بَابِ الْتِزَامِ الْعَهْدِ عِنْدَهُمْ هَذَا، فَلِهَذَا ذَكَرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَوَّزَ كِتَابَةَ هَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ، وَلَكِنْ أَعْطَوْهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ كَانَ أَهْوَنَ» . قُلْنَا. لَيْسَ مُرَادُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ إعْطَاءَ ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ الرَّسُولِ، فَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ تَأْكِيدُ الْمُوَادَعَةِ بِالْقَسَمِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ: «وَأَشَدُّ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عَهْدٍ، أَوْ ذِمَّةٍ، أَوْ مِيثَاقٍ» . فَالْمُرَادُ مِمَّا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1783 الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] . وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] . وَالْمُرَادُ الْإِلْزَامُ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا بَيَانَ وُجُوهِ الْغَدْرِ، فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَيْمَانِ عَلَيْهِ، اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا رَاعٍ كَفِيلٌ، وَالذِّمَّةُ مِنْهُ بَرِيئَةٌ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُ الْقَسَمِ. تَمَّ خَتَمَ الْكِتَابَ بِذِكْرِ التَّارِيخِ، وَقَدْ بَيَّنَ التَّارِيخَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ كَافٍ، إلَّا أَنَّهُ أَعَادَهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ لِلتَّأْكِيدِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا حُرْمَةُ الْقِتَالِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ تَمَامِ الْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ، فَلَوْ اكْتَفَى بِمَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ رُبَّمَا يَدَّعِي أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مُضِيَّ مُدَّةٍ بَيْنَ أَوَّلِ الْكِتَابِ وَآخِرِهِ يُعَارِضُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، فَلِهَذَا خَتَمَ الْكِتَابَ بِذِكْرِ التَّارِيخِ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ فِي التَّارِيخِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ، إذَا كَتَبْتُمْ إلَيَّ فَاذْكُرُوا التَّارِيخَ فِي الْكِتَابِ. ثُمَّ جَمَعَ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَشَاوَرَهُمْ فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ التَّارِيخِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْعَلُ التَّارِيخُ مِنْ وَقْتِ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَعْضِ التَّشَبُّهِ بِالنَّصَارَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْعَلُ التَّارِيخُ مِنْ حِينِ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُصِيبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكُمْ لَنْ تُصَابُوا بِمِثْلِي» . فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا التَّارِيخَ مِنْ وَقْتِ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ ظُهُورَ أَعْلَامِ الدِّينِ كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَأَمْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَجَعَلُوا التَّارِيخَ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ لِهَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1784 فَإِنْ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُوَادِعُوهُمْ عَلَى أَلَّا يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مَنْ خَرَجَ مُسْلِمًا، كَتَبَ الْكَاتِبُ ذَلِكَ ذِكْرِ الْكَفِّ عَنْ الْقِتَالِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَةِ فُلَانٍ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ امْرَأَةٍ مُسْلِمًا، أَوْ مُعَاهِدًا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَلَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ رَدُّهُ عَلَى فُلَانٍ. وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ يُنْكِرُونَ هَذَا الْحُكْمَ، فَبِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ يَعُدُّونَهُ غَدْرًا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمَيْنِ، وَلَا يَطْعَنُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الطَّاعِنِينَ. وَبَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ إنْ خَرَجَتْ امْرَأَةٌ ذَاتُ زَوْجٍ فَأَرَادَ زَوْجُهَا رَدَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ، لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . إلَّا أَنَّ الرَّدَّ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الصُّلْحِ، الَّذِي جَرَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَمَّا انْتَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِنُزُولِ الْآيَةِ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ مَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] لِلْوَفَاءِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ، فَأَمَّا الْمَشْرُوطُ الْآنَ لَا يُرَدُّ فَلَا يَجِبُ أَيْضًا رَدُّ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَشْرُوطًا أَيْضًا لَا يَجِبُ رَدُّ شَيْءٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1785 لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ انْتَسَخَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ. 3560 - وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُمْ عَبْدٌ مُسْلِمٌ، أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الْمُوَادِعِينَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ يَجِبُ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ مَالِهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، فَكَذَلِكَ الْمُرَاغَمُ مِنْهُمْ لَا يَعْتِقُ، وَلَكِنْ يُبَاعُ وَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ إلَى مَوْلَاهُ، بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا إنْ أَسْلَمَ عَبْدُهُ. وَقَالَ: عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ، إلَى فُلَانٍ الْمَلِكِ تَارِكًا لِدِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ لِذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَى فُلَانٍ وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ رَدُّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا شَرْطٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ. ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُخْرِجَ إلَيْنَا مِنْهُمْ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُطَالِبُونَنَا بِالْمُنَاصَفَةِ، وَيَقُولُونَ: كَمَا لَا تَرُدُّونَ أَنْتُمْ فَنَحْنُ لَا نَرُدُّ، وَبَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ تَنْقَطِعُ هَذِهِ الْمُحَاجَّةُ. 3561 - فَإِذَا امْتَنَعُوا مِنْ الرَّدِّ كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا مِنْهُمْ لِلْعَهْدِ، وَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ الْقِتَالُ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ. ثُمَّ ذَكَرَ وَثِيقَةَ الْمُوَادَعَةِ بِعِوَضٍ وَهُوَ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا زَادَ فِيهَا ذِكْرَ الْبَدَلِ، وَالْحَاصِلُ فِيهِ 3562 - أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْلِمَ الْبَدَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ مُنَازَعَةٌ فِي الثَّانِي، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكْتُبَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ فُلَانٌ الْمَلِكُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1786 وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ إلَى فُلَانٍ الْخَلِيفَةِ، فِي كُلِّ سَنَةٍ، خَرَاجًا مَعْلُومًا كَذَا وَكَذَا دِينَارًا شَامِيَّةً ثِقَالًا، وَكَذَا وَكَذَا رَأْسًا جِيَادًا وَمِنْ النِّسَاءِ الْبَوَالِغِ كَذَا، وَمِنْ الرِّجَالِ كَذَا، وَمِنْ الْوَصَائِفِ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ كَذَا، وَمِنْ الْوُصَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا كَذَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَرِقَّائِهِمْ دُونَ أَحْرَارِهِمْ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ثِيَابِ البزيون فِي كُلِّ سَنَةٍ كَذَا ثَوْبًا جِيَادًا جُدُدًا طُولُ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا كَذَا ذِرَاعًا، وَعَرْضُ كُلِّ ثَوْبٍ كَذَا، وَمِنْهَا كَذَا ثَوْبًا أَحْمَرَ، وَمِنْهَا كَذَا أَبْيَضَ، وَمِنْهَا كَذَا أَصْفَرَ - وَعَلَى أَنْ يُؤَدُّوا فِي كُلِّ سَنَةٍ كَذَا؟ بِرْذَوْنًا جِيَادًا فَرِهَةً؛ مِنْ الْجِذَاعِ كَذَا وَمِنْ الشَّبَابِ كَذَا - وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَلْتَزِمُونَهُ هَا هُنَا عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَمِثْلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، فَلِهَذَا اكْتَفَى فِيهِ بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَمِنْ الْأَوْصَافِ مَا يُمْكِنُ إعْلَامه مِنْ غَيْر حَرْج. 3563 - فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ فِي الْكِتَابِ عَدَدَ النُّجُومِ وَمُدَّةَ الْأَجَلِ، عَلَى مَا هُوَ الرَّسْمُ فِي بَابِ الْمُدَايَنَاتِ. ثُمَّ بَيَّنَ وَثِيقَةَ الْمُوَادَعَةِ لِلرُّسُلِ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ، وَالْحَاصِلُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1787 أَنَّ الرُّسُلَ آمِنُونَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْمِنُوا. بَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ قَوْمٍ تَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّك رَسُولٌ لَأَمَرْت بِقَتْلِك» . وَمَا زَالَ الرُّسُلُ آمَنِينَ حَتَّى يُبَلِّغُوا الرِّسَالَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. لِأَنَّ مَا هُوَ مَقْصُودُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الصُّلْحِ وَالْقِتَالِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالرُّسُلِ، وَمَا لَمْ يَكُونُوا آمَنِينَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ عَلَى وَجْهِهَا، فَكَانُوا آمَنِينَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ 3564 - وَلَكِنْ إنْ شَرَطَ لَهُمْ ذَلِكَ وَكَتَبَ بِهِ وَثِيقَةً فَهُوَ أَحْوَطُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الرُّسُلِ أُسَرَاءُ جَاءُوا بِهِمْ لِلْمُفَادَاةِ فَشَرَطُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدُّوهُمْ إنْ لَمْ تَتَّفِقْ الْمُفَادَاةُ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَالِحُوهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكْتُبُوا بِهِ وَثِيقَةً. لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي حَبْسِ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِمْ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ تَمَكُّنِنَا مِنْ الِانْتِزَاعِ مِنْ أَيْدِيهِمْ. 3565 - وَمَا يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ بِهِ شَرْعًا لَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْعَهْدِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلْيَنْقُضُوا هَذَا الْعَهْدَ، وَلْيَأْخُذُوا مِنْهُمْ الْأُسَرَاءَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ احْتَاجُوا إلَى قِتَالٍ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَحْتَاجُوا. لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» . وَقَالَ: «رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ» إلَّا أَنَّ الْأُسَرَاءَ إنْ كَانُوا عَبِيدًا فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوهُمْ، وَيَرُدُّوا عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1788 لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُمْ بِالْإِحْرَازِ وَقَدْ اسْتَفَادُوا الْأَمَانَ بِهَذَا الشَّرْطِ فِي مَالِيَّتِهِمْ، فَيَجِبُ مُرَاعَاتُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِمْ، بِطَرِيقِ الْبَيْعِ لَمَّا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ عَلَيْهِمْ 3566 - فَإِنْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ الْمَلِكِ دَخَلْت بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالرِّسَالَةِ، أَوْ أَخْرَجَ كِتَابَ الْمَلِكِ مَعَهُ إلَى الْخَلِيفَةِ فَهُوَ آمِنٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ مِنْ الْوُقُوفِ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ يَجِبُ الْعَمَلُ فِيهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ. وَاَلَّذِي يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ رَسُولٌ، وَتَحْكِيمُ الْعَلَامَةِ فِي مِثْلِ هَذَا أَصْلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ فَهُوَ فَيْءٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي الْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَهَذَا قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ حَقُّ الْأَخْذِ، وَهُوَ بِمَا يَدَّعِي يُرِيدُ إبْطَالَ الْحَقِّ الثَّابِتِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ. 3567 - فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالرِّسَالَةِ فَمَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ بِمَنْزِلَةِ النَّفِيرِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1789 وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَمَرَ الْعُشَارَ بِأَخْذِ رُبْعِ الْعُشْرِ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَنِصْفِ الْعُشْرِ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ: كَمْ يَأْخُذُ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ تُجَّارِنَا قَالُوا: الْعُشْرَ، قَالَ: فَخُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ. 3568 - وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا فَنَحْنُ نَأْخُذُ مِنْهُمْ الْعُشْرَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَمَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ 3569 - فَإِنْ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا شَيْئًا لَمْ نَأْخُذْ مِنْ تُجَّارِهِمْ أَيْضًا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ. 3570 - فَإِنْ شَرَطُوا فِي أَمَانِ الرُّسُلِ أَلَّا يَأْخُذَ عَاشِرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَإِنْ كَانُوا يُعَامِلُونَ رُسُلَنَا بِمِثْلِ هَذَا فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرِطُوا لَهُمْ هَذَا وَيُوفُوا بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. 3571 - وَإِنْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرُسُلِنَا مِثْلَ هَذَا ثُمَّ لَا يُوفُونَ بِهِ فَيَنْبَغِي لَنَا أَلَّا نَقْبَلَ هَذَا الشَّرْطَ لِرُسُلِهِمْ، فَإِنْ قَبِلْنَاهُ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَفِيَ لَهُمْ بِذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1790 لِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي غَدْرِ الْأَمَانِ وَمَا يَفْعَلُونَهُ بِرُسُلِنَا بَعْدَ الشَّرْطِ غَدْرٌ مِنْهُمْ، وَبِغَدْرِهِمْ لَا يُبَاحُ لَنَا أَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلُوا رَهْنَنَا، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ رَهْنَهُمْ، وَقَدْ قَرَّرَنَا هَذَا. 3572 - فَإِنْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الثُّلُثُ مِمَّا فِي الْحِصْنِ، وَلَهُمْ الثُّلُثَانِ سِوَى بَنِي آدَمَ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الْأَمَانِ عَلَى بَدَلٍ مُسَمًّى مَعْلُومٍ جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ مَالٍ مَعْلُومٍ، بِبَيَانِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ مَا فِي الْحِصْنِ وَمَا يُحْرَزُ 3573 - ، فَإِذَا فَتَحُوا الْحِصْنَ عَلَى ذَلِكَ صَارَ الثُّلُثُ مِمَّا فِيهِ مُشَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَ مَا فِي الْحِصْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ، فَيُجَزِّئُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ. وَالْحَاصِلُ فِيهِ أَنَّ الْقِسْمَةَ تُبْتَنَى عَلَى التَّسْوِيَةِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ أُمَرَاءِ السَّرَايَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، أَقْسَمُهُ بِالسَّوِيَّةِ وَأَعْدَلُهُ فِي الرَّعِيَّةِ» . فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ فَهُوَ الْأَصْلُ فِيهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، إمَّا لِقِلَّتِهِ أَوْ لِاخْتِلَافِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَوَّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ يَقُولَ الْإِمَامُ لِأَهْلِ الْحِصْنِ: إنْ شِئْتُمْ فَخُذُوهُ وَأَعْطَوْنَا ثُلُثَ قِيمَتِهِ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَخَذْنَا ذَلِكَ وَأَعْطَيْنَاكُمْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1791 وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ يَخْرُصُ النَّخِيلَ بِخَيْبَرَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ كَانَ يَقُولُ لِلْيَهُودِ: إنْ شِئْتُمْ أَخَذْتُمْ وَلَنَا عِنْدَكُمْ الشَّطْرُ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَخَذْنَا وَلَكُمْ عِنْدَنَا الشَّطْرُ، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَيْ بِالْعَدْلِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قِسْمَةٌ بِالْعَدْلِ، ثُمَّ بَعْدَ قِسْمَةِ الْعَيْنِ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُسْهِمَ عَلَى الْأَجْزَاءِ، هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ» . وَكَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَصَارَ هَذَا أَصْلًا أَنَّ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِغَيْرِ إقْرَاعٍ فَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْرِعَ تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ، وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ اعْتَبَرَ الْمُعَادَلَةَ بَيْنَ الْأَعْيَانِ بِالتَّقْوِيمِ فَذَلِكَ حَسَنٌ أَيْضًا. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبٍ بِرْذَوْنًا وَمِنْ جَانِبٍ لُؤْلُؤَةً فَيَجْعَلَ مَعَ الْبِرْذَوْنِ مِنْ الْمَتَاعِ مَا يُسَاوِي اللُّؤْلُؤَةَ، أَوْ مَعَ اللُّؤْلُؤَةِ مِنْ الْمَتَاعِ مَا يُسَاوِي الْبِرْذَوْنَ، إنْ كَانَ أَفْضَلَ، فَيَسْتَوِي الْأَجْزَاءُ الثَّلَاثَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا، فَالْجُزْءُ الَّذِي يَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُهُ وَيُسَلِّمُ لَهُمْ مَا بَقِيَ، وَإِنْ شَرَطَ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمُعَادَلَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1792 فَذَلِكَ جَائِزٌ بِتَرَاضِي الْفَرِيقَيْنِ. فَأَمَّا بِدُونِ التَّرَاضِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ قِسْمَةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَالتَّرَاضِي مُعْتَبَرٌ فِي الْبَيْعِ. 3574 - وَإِنْ كَانُوا شَرَطُوا فِي الصُّلْحِ لِلْمُسْلِمِينَ ثُلُثَ مَا فِي الْحِصْنِ، لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْمَنَازِلِ وَالدُّورِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْحِصْنِ غَيْرُ الْحِصْنِ، وَالْمَنَازِلُ وَالدُّورُ مِنْ الْحِصْنِ لَا مِمَّا فِي الْحِصْنِ 3575 - ثُمَّ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَالِحُوهُمْ مِمَّا فِي الْحِصْنِ عَلَى الثُّلُثِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ مِمَّا فِي الْحِصْنِ أَنْفُسَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَقَدْ يَتَنَاوَلُهُمْ الْأَمَانُ، فَلَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَمَلَّكَ مِنْ رِقَابِهِمْ الثُّلُثَ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَهُمْ الْأَمَانُ؛ وَلِأَنَّ صِفَةَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ لَا تَجْتَمِعُ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، لِمَا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ مِنْ التَّضَادِّ. 3576 - وَلَكِنْ إنْ أَرَادُوا الصُّلْحَ عَلَى ثُلُثِ السَّبْيِ مِمَّا فِي الْحِصْنِ، فَلْيُصَالَحُوا عَلَى ذَلِكَ مَقْسُومًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْزَلَ الثُّلُثُ مِنْهُمْ قَبْلَ الْأَمَانِ، ثُمَّ يَقُولُوا نُصَالِحُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَعَلَى ثُلُثِ مَا فِي الْحِصْنِ، سِوَى السَّبْيِ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ. لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَتَنَاوَلُ السَّبْيَ لِمَا جَعَلُوا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ. 3577 - وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى ثُلُثِ مَا فِي الْحِصْنِ مِنْ أَرِقَّائِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1793 دُونَ أَحْرَارهمْ فَهُوَ جَائِزٌ، بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ سِوَى السَّبْيِ وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانُوا يُعْطُونَ الْمِائَةَ الرَّأْسِ مِنْ أَرِقَّائِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانُوا يُعْطُونَ ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا آمَنِينَ بِالصُّلْحِ، وَبِالْأَمَانِ تَتَأَكَّدُ حُرِّيَّتُهُمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ، وَلَا وَجْهَ لِتَمَلُّكِهِمْ بَعْدَ هَذَا بِالْأَخْذِ عَلَى وَجْهِ بَدَلِ الصُّلْحِ. 3578 - فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ السَّبْيِ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْحِصْنَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُمْ شَيْئًا لِأَنَّ الْأَمَانَ يَتَنَاوَلُ بَعْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالْأَمَانُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ ثَبَتَ فِي الْكُلِّ. 3579 - فَلَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ حَتَّى يَعُودُوا إلَى مَنْعَتِهِمْ فِي حِصْنِهِمْ، ثُمَّ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ قَبْلَ النَّبْذِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ النَّبْذُ إلَّا بَعْدَ إعَادَتِهِمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْعِزِّ وَالْمَنْعَةِ، وَكُلُّ هَذَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ. 3580 - وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى ثُلُثِ مَا فِي الْحِصْنِ مِنْ السَّبْيِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1794 وَغَيْرِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْلِمُونَ بِأَلَّا يَعْرِضُوا لِلسَّبْيِ، وَيَأْخُذُوا الثُّلُثَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ تَجْمَعُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا وَمَا لَا يَصْلُحُ، وَالْحُكْمُ فِي مِثْلِهِ ثُبُوتُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا دُونَ مَا لَا يَصْلُحُ 3581 - فَإِنْ قَالُوا لَا نَرْضَى بِهَذَا فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا شَيْئًا مِمَّا فِي الْحِصْنِ مِنْ مَالٍ أَوْ سَبْيٍ، بَلْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ حَتَّى يَعُودُوا إلَى مَنْعَتِهِمْ، كَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنْبَذُ إلَيْهِمْ، وَإِنْ قَالُوا نَأْخُذُ الثُّلُثَ سِوَى السَّبْيِ، ثُمَّ نَنْبِذُ إلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا الْمَالَ تَقَرَّرَ بِهِ أَمَانُهُمْ، فَلَا يَجُوزُ النَّبْذُ إلَيْهِمْ بِدُونِ رَدِّ الْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يَكْتُبُ الْوَثِيقَةَ فِي ذَلِكَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَثِيقَةَ إنَّمَا تُكْتَبُ لِلِاحْتِيَاطِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ، وَهِيَ حِكَايَةُ مَا جَرَى، فَيَنْبَغِي لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ وَيُبَيِّنَ مَا جَرَى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَبَعْدَ هَذَا الصُّلْحِ إنَّمَا يُسَلِّمُ لَهُمْ حِصَّتَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ فِي الْحِصْنِ، لَمْ يُحْرِزْهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْعَسْكَرِ، فَأَمَّا مَا أَحْرَزُوهُ قَبْلَ هَذَا فَهُوَ سَالِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي الْحِصْنِ حِينَ وَقَعَ الصُّلْحُ. 3582 - وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الرَّقِيقِ فَقَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ: هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ مِنْ نِسَائِنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1795 وَذَرَارِيّنَا، قَدْ تَنَاوَلَهُمْ الِاسْتِثْنَاءُ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَؤُلَاءِ مِنْ أَرِقَّائِكُمْ فَلَنَا مِنْهُمْ الثُّلُثُ، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِالْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ، وَلِأَنَّ الْيَدَ لَهُمْ فِيمَا فِي حِصْنِهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِحَالِ مَا فِي الْحِصْنِ 3583 - فَإِنْ أَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بَيِّنَةً عَلَى رِقِّ أُولَئِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ تَقُومُ عَلَيْهِمْ، فَلِهَذَا قُبِلَ شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِأَنَّهُمْ أَرِقَّاءُ لِهَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: لَيْسُوا بِأَرِقَّائِي وَلَكِنَّهُمْ أَحْرَارٌ فَقَدْ عَتَقُوا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَمْلُوكٌ لَهُ بِزَعْمِ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِيهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ. 3584 - ثُمَّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا لِأَنَّ الثُّلُثَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيْءٌ غَيْرُ مُحْرَزٍ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْغَنِيمَةُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا تُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَائِنًا مَنْ كَانَ الْمُسْتَهْلِكُ لَهَا 3585 - . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: هُمْ أَرِقَّائِي وَقَدْ أَعْتَقْتهمْ إلَّا أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الْخِيَارَ إنْ شَاءُوا رَضُوا بِأَخْذِ الثُّلُثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1796 مِمَّا سِوَى هَؤُلَاءِ وَإِتْمَامِ الصُّلْحِ، وَإِنْ شَاءُوا أَبَوْا ذَلِكَ، وَخَرَجُوا عَنْهُمْ، ثُمَّ يَنْبِذُونَ إلَيْهِمْ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُمْ جَمِيعُ الْمَشْرُوطِ. 3586 - فَإِنْ أَرَادُوا الرَّدَّ فَقَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ: نَحْنُ نُعْطِيكُمْ قِيمَةَ ذَلِكَ الثُّلُثِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفُوا لَهُمْ بِصُلْحِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلْفٌ عَنْ الْعَيْنِ، وَتَسْلِيمُهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ كَتَسْلِيمِ الْعَيْنِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ. 3587 - وَمَا يَخُصُّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رَقِيقِ أَهْلِ الْحِصْنِ مِنْ الرِّجَالِ إذَا أَرَادَ الْأَمِيرُ قَتْلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْأُسَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَجْرِ فِيهِمْ الْقِسْمَةُ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ جَرَى فِيهِمْ الْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحِصْنِ. وَلِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَأْخُذُونَ هَؤُلَاءِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ، فَبِنَفْسِ الْوُصُولِ إلَى الْمُسْلِمِينَ يَسْتَفِيدُونَ الْأَمْنَ مِنْ الْقَتْلِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الْإِمَامُ السَّبْيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. 3588 - وَإِنْ طَلَبَ أَهْلُ الْحِصْنِ الصُّلْحَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، عَلَى أَنْ يُخَلِّيَهُمْ مِنْ الْحِصْنِ حَتَّى يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا بِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَمَعَ الْعِوَضِ أَوْلَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يَكْتُبُ وَثِيقَةَ هَذِهِ الْمُوَادَعَةِ، وَهُوَ قِيَاسُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1797 مَا سَبَقَ، إنَّمَا يَحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْوَثِيقَةِ إلَى كِتَابَةِ هَذَا الشَّرْطِ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ وَثِيقَةٍ فِيهَا مَقْصُودٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ ابْتِدَاءً عَلَى أَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَشْيَاءِ، يَعْنِي عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ كَرِهَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا أَلْقَوْهُ مِنْ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ إلْقَاءَ مَا يُرِيدُونَ إلْقَاءَهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ زِيَادَةِ مَا يُرِيدُونَ زِيَادَتَهُ، وَلَعَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَقْبَلُونَ إلَّا الْأَشَدَّ، فَلِهَذَا يَكْتُبُ فِي الِابْتِدَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنْ قَبِلُوا الْيَسِيرَ مِنْهُ أَلْقَى الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ مَا أَحَبُّوا. قَالَ: وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْطُوا الْمُشْرِكِينَ ذِمَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، لِلْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «فَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعْطَوْهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ، فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذِمَّةَ رَسُولِهِ» ، إلَّا أَنَّ بِآخِرِ الْحَدِيثِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِحُرْمَةِ هَذَا الشَّرْطِ شَرْعًا، بَلْ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ الْوَفَاءُ بِهِ، فَكَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّهْيِ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، بَلْ النَّهْيُ لِتَوَهُّمِ الْخُلْفِ. 3589 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1798 فَإِذَا أَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَرْضَوْا إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، ثُمَّ يَفِيَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى النَّقْضِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ أَيْضًا، بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ، عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . 3590 - وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ: تُؤَمِّنُونَ مِنَّا كَذَا وَكَذَا إنْسَانًا، بِمَا لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ، يَخْتَارُهُمْ الْبِطْرِيقُ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ عَقْدَ الْأَمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَفِيمَا يُبْنَى عَلَى الضِّيقِ يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، كَالْبَيْعِ فَفِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ أَوْلَى، ثُمَّ بَيَّنَ وَثِيقَةَ هَذِهِ الْمُوَادَعَةِ كَيْفَ تُكْتَبُ فَقَالَ فِيمَا بَيَّنَ. 3591 - عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ فُلَانٍ الْبِطْرِيقِ، فَإِنْ اتَّهَمَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اسْتَحْلَفُوهُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَجَعَلَهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَجَعَلَهُ وَأُمَّهُ آيَةً لِلْعَالَمَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1799 أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزْدَدْ شَيْئًا، وَلَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا سِوَى الْمَشْرُوطِ؛ أَمَّا الِاسْتِحْلَافُ فَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيمَا يُعَيِّنُ، وَالْمُتَّهَمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا شَرْعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ، فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ أَمِينًا شَرْعًا، ثُمَّ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِحْلَافِ النُّكُولُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا غَلَّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَلَا وَجْهَ لِلتَّغْلِيظِ بِالِاسْتِحْلَافِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَلِّظَ فِي الِاسْتِحْلَافِ بِاَللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَيَكْتُبَ ذَلِكَ فِي الْوَثِيقَةِ، حَتَّى لَا يُنْسَبَ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْغَدْرِ، إذَا عَرَضُوا عَلَيْهِ الْيَمِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَإِنْ فَتَحُوا الْحِصْنَ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ الْبِطْرِيقُ: أَنَا لَا أَخْتَارُ أَحَدًا مِنْهُمْ، أَوْ لَا أُوثِرَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ، أَوْ مَاتَ الْبِطْرِيقُ، أَوْ هَرَبَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ ثُمَّ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ تَنَاوَلَ بَعْضَهُمْ بِيَقِينٍ، وَلَا يُعْرَفُونَ بِأَعْيَانِهِمْ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى اخْتَلَطَ الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ الْمُسْتَأْمِنِ لَمْ يَحِلَّ التَّعَرُّضُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، لِاجْتِمَاعِ مَعْنَى الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَغْلِبُ الْحَظْرُ 3592 - . وَإِنْ حَضَرَ الْبِطْرِيقُ فَإِنْ اخْتَارَ مِنْ الْمَتَاعِ شَيْئًا كَثِيرًا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، إنْ اتَّهَمَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَصِفَةُ الْيَمِينِ كَمَا شُرِطَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «الشَّرْطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1800 أَمْلَكُ» . ثُمَّ إنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ تَنَاوَلَهُمْ الْأَمَانُ مِمَّنْ يُعَيِّنُهُمْ الْبِطْرِيقُ مَعَ أَمْوَالِهِمْ فَالْمَالُ اسْمٌ لِكُلِّ مُتَمَوِّلٍ مُبْتَذَلٍ يُتَمَلَّكُ، وَذَلِكَ مَا يُدَّخَرُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ وَهَذَا يَكُونُ عَلَى جِنْسِ النُّقُودِ، الْمَضْرُوبُ وَالْمَصُوغُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، إلَّا مَا يَكُونُ مُمَوَّهًا بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ، فَإِنَّ التَّمْوِيهَ لَوْنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا عَيْنُهُمَا، وَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ لَا يَتَخَلَّصُ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ حُكْمَ الرِّبَا، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطُوا الْمَالَ الصَّامِتَ فَهُوَ وَاشْتِرَاطُ الْمَالِ الْعَيْنِ سَوَاءٌ. وَهَذَا بِخِلَافِ حُكْمِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ فَاسْمُ الْمَالِ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّدَقَةِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَالَ الزَّكَاةِ، يَعْنِي إذَا قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ، وَذَلِكَ اسْتِحْسَانٌ أَخَذْنَا بِهِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى إيجَابِ الصَّدَقَةِ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْأَمَانِ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مُتَمَوِّلٍ صِفَتُهُ مَا ذَكَرْنَا. 3593 - قَالَ: وَإِنْ كَانُوا اشْتَرَطُوا الْمَتَاعَ، وَالْمَتَاعُ مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي، فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْمَتَاعِ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1801 لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يَكُونُ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ، فَلَا يَكُونُ الْمَتَاعُ إلَّا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالسَّرِيرُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَتَاعِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْجَوَاهِرُ وَاللَّآلِئُ فَلَيْسَ بِمَتَاعٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْحُلِيِّ، وَالْحُلِيُّ غَيْرُ الْمَتَاعِ. وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَسْلِحَةِ فَهُوَ مِنْ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَمْتَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ أَخَصُّ مِنْ اسْمِ الْمَتَاعِ، فَإِنَّ اسْمَ السِّلَاحِ لَيْسَ بِاسْمِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ التَّسْمِيَةَ بِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالْخَاتَمُ لَيْسَ مِنْ الْمَتَاعِ. لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحُلِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ خَاتَمُ الْفِضَّةِ لَيْسَ مِنْ الْحُلِيِّ؟ قُلْنَا: مُرَادُهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ يَحِلُّ لِلذُّكُورِ لُبْسُهُ، فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْحُلِيِّ، كَمَا يَتَنَاوَلُ خَاتَمَ الذَّهَبِ، وَاسْمُ الْحُلِيِّ اسْمُ الْعَيْنِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ اسْمِ الْمَتَاعِ، وَكُلُّ مَا تَنَاوَلَهُ هَذَا الِاسْمُ يَكُون دَاخِلًا فِي اسْمِ الْمَتَاعِ. 3594 - وَإِنْ كَانُوا شَرَطُوا السِّلَاحَ فَالسِّلَاحُ كُلُّ مَا يُقَاتَلُ بِهِ؛ السَّيْفُ وَالْبَيْضَةُ وَالدِّرْعُ وَالتُّرْسُ وَالْقَوْسُ وَالنُّشَّابُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِمَّا يَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ السِّلَاحِ، فَأَمَّا السِّكِّينُ فَهُوَ مِنْ الْمَتَاعِ لَا مِنْ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْتَمْتَعُ بِهِ فِي الْحَوَائِجِ سِوَى الْقِتَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1802 فَأَمَّا الْخَنْجَرُ وَالنَّيْزَكُ فَهُوَ مِنْ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إلَّا فِي الْقِتَالِ 3595 - . وَالْجِبَابُ وَالْأَقْبِيَةُ الْمَحْشُوَّةُ وَأَقْبِيَةُ اللُّبُودِ مِنْ الْمَتَاعِ لَا مِنْ السِّلَاحِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْحَرْبِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ السِّلَاحِ بِمَنْزِلَةِ الخفتانات. وَكَذَلِكَ أَقْبِيَةُ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ مِنْ الْمَتَاعِ لَا مِنْ السِّلَاحِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُلْبَسُ إلَّا فِي الْحَرْبِ وَالْأَعْلَامُ وَالطَّرَّادَاتُ وَالْجَوَاشِنِ مِنْ السِّلَاحِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عُرْفُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِيمَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْمِ، أَصْلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: إنَّ صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ بَدَنَةً، أَفَتُجْزِئُهُ الْبَقَرَةُ؟ فَقَالَ: مِمَّ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ: مِنْ بَنِي رَبَاحٍ. فَقَالَ: وَمَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَةَ؟ إنَّمَا وَهِمَ صَاحِبُكُمْ، الْإِبِلَ. 3596 - فَإِنْ اشْتَرَطُوا الْكُرَاعَ مَعَ السِّلَاحِ فَالْكُرَاعُ اسْمُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، فَأَمَّا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَلَيْسَ مِنْ الْكُرَاعِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَهَا الْأَنْعَامُ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5] . وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْكُرَاعَ مَا يَكُونُ لِمَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1803 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] . فَأَمَّا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَقَدْ تَكُونُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا وَقَدْ تَكُونُ لِلْأَكْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] 3597 - فَإِنْ اشْتَرَطُوا السِّلَاحَ وَالْخَيْلَ فَاسْمُ الْخَيْلِ يَتَنَاوَلُ الْعِرَابَ وَالْبَرَاذِينَ وَالْإِنَاثَ وَالذُّكُورَ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْعِرَابِ وَالْبَرَاذِينِ فِي الْغَنِيمَةِ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَإِنْ اشْتَرَطُوا الْمَاشِيَةَ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ. لِأَنَّ اسْمَ الْمَاشِيَةِ غَيْرُ اسْمِ الْكُرَاعِ، فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ اسْمُ الْمَاشِيَةِ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْكُرَاعِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، لِأَنَّهَا تُسَامُ غَالِبًا، وَأَصْحَابُ السَّوَائِمِ يُقَالُ لَهُمْ أَصْحَابُ الْمَوَاشِي. 3598 - وَإِنْ اشْتَرَطُوا السِّلَاحَ فَكَانَ فِي بَعْضِ السِّلَاحِ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ جَوْهَرٌ فَذَلِكَ تَبَعٌ لِلسِّلَاحِ، فَالتَّبَعُ يُسْتَحَقُّ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَصْلِ فَأَمَّا السُّرُوجُ وَاللُّجُمُ فَهِيَ مِنْ الْمَتَاعِ لَا مِنْ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَمْتَعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ عَادَةً، وَكَذَلِكَ الْأَكُفُّ وَالْجِلَالُ، وَأَمَّا التَّجَافِيفُ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْلِحَةِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَرْبِ 3599 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1804 وَلَوْ صَالَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ فَاسْمُ الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ يَتَنَاوَلُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، التِّبْرُ وَالْمَصُوغُ وَالْمَضْرُوبُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْمَالِ الْعَيْنِ وَالصَّامِتِ، فَإِنْ كَانَ مَصُوغًا قَدْ رُكِّبَ فِيهِ جَوْهَرٌ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الْجَوْهَرُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَاسْتِحْقَاقُهُمْ بِاعْتِبَارِ هَذَا الِاسْمِ 3600 - وَإِنْ كَانَ قَدَحًا مُضَبَّبًا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلِلْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَصْلُ الْقَدَحِ 3601 - فَإِنْ كَانَ نَزْعُ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْقَدَحِ نُزِعَ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْقَدَحِ فَالْخِيَارُ لَهُمْ إنْ شَاءُوا رَضُوا بِالنَّزْعِ، وَإِنْ شَاءُوا أَعْطَوْا الْمُسْلِمِينَ قِيمَةَ الذَّهَبِ مَصُوغًا مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَقِيمَةَ الْفِضَّةِ مَصُوغَةً مِنْ الدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَهُمْ. 3602 - وَخِيَارُ التَّمَلُّكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ يَثْبُتُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى التَّقْوِيمِ يُقَوَّمُ بِخِلَافِ الْجِنْسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1805 لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ وَالْجَوْدَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ. فَأَمَّا الْحَلْقَةُ فَهِيَ اسْمٌ لِلسِّلَاحِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، «صَالَحَ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ سِوَى الْحَلْقَةِ» ، ثُمَّ أَخَذَ الْأَسْلِحَةَ مِنْهُمْ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ 3603 - وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى أَنْ يَتْرُكَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَتَاعَ بُيُوتِهِمْ فَهَذَا عَلَى الْفِرَاشِ وَالْوَسَائِدِ وَالسُّتُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يُبْتَذَلُ فِي الْبُيُوتِ مِنْ الْأَمْتِعَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ثِيَابٍ غَيْرِ مُقَطَّعَةٍ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَتَاعَ الْبَيْتِ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا هُوَ مُبْتَذَلٌ فِي الْبُيُوتِ اسْتِعْمَالًا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الثِّيَابِ، الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُقَطَّعَةٍ، وَمَلْبُوسُ بَنِي آدَمَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ فِي شَيْءٍ 3604 - وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الثِّيَابُ فَذَلِكَ اسْمٌ لِمَلْبُوسِ بَنِي آدَمَ، مِمَّا يَكُونُ مِنْ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْقَزِّ وَالْحَرِيرِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَائِعَ هَذَا كُلِّهِ يُسَمَّى ثَوَّابًا. 3605 - فَأَمَّا السُّتُورُ وَالْأَنْمَاطُ وَالْحِجَالُ فَهُوَ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ دُونَ الثِّيَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1806 لِأَنَّهَا لَا يَلْبَسُهَا النَّاسُ عَادَةً، وَإِنَّمَا يَسْتَمْتِعُونَ بِهَا فِي الْبُيُوتِ قَالَ: وَالْبَزُّ وَالثِّيَابُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ خَاصَّةً. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِمْ بِالْكُوفَةِ، فَإِنَّ الْبَزَّازَ فِيهِمْ مَنْ يَبِيعُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ خَاصَّةً فَأَمَّا بَائِعُ الْخَزِّ والمرعزي وَالصُّوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى بَزَّازًا، فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَاسْمُ الْبَزِّ يَتَنَاوَلُ الثِّيَابَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ، لِأَنَّ بَائِعَ ذَلِكَ يُسَمَّى بَزَّازًا فِينَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ بِلَادٍ الْبَزُّ عِنْدَهُمْ الصُّوفُ أَوْ غَيْرُهُ فَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى مَا هُوَ عِنْدَهُمْ. وَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَتَعَارَفُهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ 3606 - فَإِنْ شَرَطَ الْمَحْصُورُونَ فِي الْمُوَادَعَةِ الْأَمَانَ لِلْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ، لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَلَا مِنْ نِسَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَحْصُورَ مَقْهُورٌ، فَمَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ تَحْصِيلُ النَّجَاةِ لِنَفْسِهِ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَتْبَعُهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ إلَّا ثِيَابُ بَدَنِهِ، وَالطَّعَامُ الَّذِي يَأْكُلُهُ فِي الْحَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسَلَّمُ لَهُ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ النَّجَاةُ لَهُ إلَّا بِهَذَا 3607 - ثُمَّ الْمُقَاتِلَةُ كُلُّ مَنْ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَالْبُلُوغُ قَدْ يَكُونُ بِالْعَلَامَةِ كَالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَقَدْ يَكُونُ بِالسِّنِّ، وَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رِحْمهمَا اللَّه تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1807 التَّقْدِيرُ فِيهِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عَلَى مَا رَوَاهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ 3608 - فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَهُوَ ابْنُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَهُوَ مِنْ الذُّرِّيَّةِ دُونَ الْمُقَاتِلَةِ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ. لِأَنَّ الْمُقَاتِلَةَ مَنْ لَهُ بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقِتَالِ، إذَا أَرَادَ الْقِتَالَ، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقِتَالِ، فَلَا يَكُونُونَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَإِنْ بَاشَرُوا قِتَالًا، بِخِلَافِ الْعَادَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ لَا يُقَاتِلُ مِنْ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ لَهُ بِنْيَةً صَالِحَةً لِلْقِتَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُبَاشِرُ الْقِتَالَ لِمَعْنًى 3609 - وَذَوَوْا الْأَعْذَارِ مِنْ الْعُمْيَانِ وَالزَّمْنَى وَمَقْطُوعِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ إنْ كَانُوا يُبَاشِرُونَ الْقِتَالَ فَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ فَلَيْسُوا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقِتَالِ، وَإِنَّمَا خَرَجُوا عَنْ ذَلِكَ بِحُلُولِ الْآفَةِ فَإِنْ لَمْ تُعْجِزْهُمْ الْآفَةُ عَنْ الْقِتَالِ كَانُوا مُقَاتِلَةً بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ. وَالْمَرِيضُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ بِنْيَةً صَالِحَةً لِلْقِتَالِ، وَمَا حَلَّ عَارِضٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقَاتِلُ فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ الْعُمْيَانِ، فَإِنَّ مَا حَلَّ بِهِمْ لَيْسَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَإِذَا أَعْجَزَهُمْ عَنْ الْقِتَالِ خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ. 3610 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1808 وَمَنْ كَانَ فِي الْحِصْنِ مِنْ الرِّجَالِ الزَّارِعِينَ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا قَطُّ فَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ بِنْيَةً صَالِحَةً لِلْقِتَالِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ذَكَرْتُمْ قَبْلَ هَذَا أَنَّ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعُسَفَاءِ لَا يُقْتَلُونَ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُمْ، إذَا كَانَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَهُمُّهُمْ أَمْرُ الْحَرْبِ أَصْلًا وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، لِكَوْنِهِمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَتَأْوِيلُ هَذَا فِي قَوْمٍ مِنْ الزَّارِعِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُقَاتِلِينَ وَلِهَذَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الْحِصْنِ فَلِهَذَا جَعَلَهُمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ 3611 - وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يُطِيقُ الْقِتَالَ وَلَا رَأْيَ لَهُ فِي الْحَرْبِ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ رَأْسَ الْحِصْنَ وَيَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُبَاشِرُ الْقِتَالَ، وَلِهَذَا جَازَ قَتْلُهُ إذَا أُسِرَ فَيَتَنَاوَلُهُ الْأَمَانُ أَيْضًا. وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَفِي الْقِيَاسِ هُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ فَيْءٌ أَجْمَعُونَ إذَا وَقَعَ الْأَمَانُ لِلْمُقَاتِلَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ مَا بِهِ يَكُونُ الْقِتَالُ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: 3612 - إنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، فَكَانَ فَيْئًا وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1809 الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: صِحَّةُ الْأَمَانِ لَا يَعْتَمِدُ كَوْنُهُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، فَإِنَّ أَمَانَ الْمَرْأَةِ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ أَمَانُ ذَوِي الْآفَاتِ صَحِيحٌ، وَلَيْسُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَلَكِنَّ وَجْهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَهُ بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقِتَالِ، إلَّا أَنَّهُ وَقَعَتْ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِتَالِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ فِيهِ لِغَيْرِهِ، فَتَنْعَدِمُ هَذِهِ الْحَيْلُولَةُ بِوُجُودِ الْإِذْنِ لَهُ فِي الْقِتَالِ حُكْمًا، فَقُلْنَا: إذَا كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ فَهُوَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ بِاعْتِبَارِ الْبِنْيَةِ الصَّالِحَةِ لِلْقِتَالِ، وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ بِاعْتِبَارِ الْحَيْلُولَةِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الْعَبِيدَ قَدْ جَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلْقِتَالِ فَهُمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا. قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَامَّةَ عَجَمِ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَبِيدٌ لِمُلُوكِهِمْ يَبِيعُونَهُمْ وَيَحْكُمُونَ فِيهِمْ مَا شَاءُوا، وَبِهِمْ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْعَبِيدِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَة فَهُوَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ 3613 - وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَنْ فِي الْحِصْنِ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هُمْ أَحْرَارٌ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هُمْ عَبِيدٌ كَانُوا فِي خِدْمَةِ الْمَوَالِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالْأَصْلِ فَإِنْ قِيلَ: حَاجَتُهُمْ إلَى إثْبَاتِ الْأَمَانِ لَهُمْ وَالتَّمَسُّكِ بِالْأَصْلِ يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، لَا لِإِثْبَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1810 اسْتِحْقَاقَ مَا لَمْ يُعْرَفْ. قُلْنَا: التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ لَا يُثْبِتُ الْأَمَانَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ كَوْنَهُمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْأَمَانِ لِلْمُقَاتِلَةِ بِالنَّصِّ لَا بِالظَّاهِرِ، وَإِنْ اتَّفَقَ الْقَوْمُ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: كَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَنَا، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانُوا عَبِيدًا فِي خِدْمَةِ الْمُوَالَى، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمْ مَا يُوجِبُ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقِتَالِ، وَهُوَ الرِّقُّ، فَالظَّاهِرُ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا يَشْهَدُ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُمْ فَيْءٌ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ. وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ إلَّا شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ 3614 - وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحِصْنِ الْغَالِبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لِلْمَلِكِ، وَهُمْ الَّذِينَ يَلُونَ الْقِتَالَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ فَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ فَيَأْمَنُونَ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا خَدَمًا لِمَوَالِيهِمْ وَيُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فِي هَذَا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَأَمَّا كُلُّ بَلَدٍ مِثْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1811 الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا يَكُونُ الْغَالِبُ فِيهِ أَنَّ الْأَحْرَارَ هُمْ الْمُقَاتِلَةُ، فَعَبِيدُهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهُمْ الْقِتَالُ، لِلْبِنَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ فِي كُلِّ فَصْلٍ 3615 - وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الْأَمَانِ لِلْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ قَالَتْ الْمُقَاتِلَةُ لِجَيِّدِ الْمَتَاعِ وَخِيَارِ السَّبْيِ: هَذَا مَتَاعُنَا وَهَؤُلَاءِ ذَرَارِيّنَا، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَعَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْمَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا يَكُونُ فِي بَاطِنِهِ، وَفِي أَمَانِ الْمُقَاتِلَةِ يَدْخُلُ الْجَرْحَى، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ الْجِرَاحَةُ فِي هَذَا الْقِتَالِ كَيْفَمَا كَانَتْ الْجِرَاحَاتُ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَاتُ إنَّمَا أَصَابَتْهُمْ قَبْلَ هَذَا فَإِنْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْبُرْءَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ أَيْضًا، بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُ الْبُرْءَ مِنْ ذَلِكَ نَحْوَ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ فَيْءٌ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ رَأْيٍ يَصْدُرُ أَهْلُ الْحِصْنِ عَنْ رَأْيِهِمْ فِي الْقِتَالِ، فَلِهَذَا أَحْضَرُوهُمْ لِلْبَأْسِ، فَيَكُونُونَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ حِينَئِذٍ 3616 - وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ: آمِنُونَا عَلَى أَنْ نَخْتَارَ مِنْ السَّبْيِ كَذَا وَكَذَا رَأْسًا، فَإِذَا لَيْسَ فِي الْحِصْنِ سِوَى ذَلِكَ الْعَدَدِ فَهُمْ آمِنُونَ، سَوَاءٌ قَالُوا فِي الصُّلْحِ: وَلَكُمْ مَا بَقِيَ، أَوْ لَمْ يَقُولُوا؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَهُمْ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْعَدَدِ، فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ مَعَ الْعَصَبَاتِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ بَعْدَ حَقِّ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ فَلَا شَيْءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1812 لِلْعَصَبَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ إذَا اشْتَرَطُوا الْأَمَانَ لِأَهْلِ بُيُوتِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي أَبْوَابِ الْأَمَانِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: 3617 - هَا هُنَا أَهْلُ بَيْتِ الرَّجُلِ مَنْ يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ، مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، وَمِمَّنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَفِيمَا سَبَقَ قَالَ: أَهْلُ بَيْتِهِ قَرَابَتُهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ الَّذِينَ يُنَاسِبُونَهُ إلَى أَقْصَى أَبٍ يُعْرَفُونَ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَا هُنَا أَيْضًا هَذَا التَّفْسِيرَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ الْمَذْكُورِ بَيْتَ السُّكْنَى فَكُلُّ مَنْ يَعُولُهُ فِي بَيْتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيْتَ النَّسَبِ فَكُلُّ مَنْ يُنَاسِبُهُ إلَى أَقْصَى أَبٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ دَخَلَ الْفَرِيقَانِ فِي الْأَمَانِ، لِأَنَّ بَابَ الْأَمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَكُلُّ مَنْ تَرَدَّدَ حَالُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ آمِنًا أَوْ لَا يَكُونَ فَهُوَ آمِنٌ، لِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ 3618 - وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الرِّجَالِ وَأَهْلَيْهِمْ) فَأَهْلُ الرَّجُلِ مَنْ يَعُولُهُ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ أَهْلُهُ زَوْجَتُهُ خَاصَّةً، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا إلَّا أَنَّ فِي اسْمِ الْأَهْلِ لَا يَدْخُلُ غَيْرُ عِيَالِهِ بِخِلَافِ اسْمِ أَهْلِ الْبَيْتِ ثُمَّ بَيَّنَ مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ وَطَرِيقَ كَتْبِهِ الْوَثِيقَةَ فِي ذَلِكَ 3619 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1813 وَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مِائَةَ رَأْسٍ، وَيُعْطِيَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ مِائَةَ رَأْسٍ أَيْضًا، فَإِنْ نَظَرَ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْأُسَرَاءِ فَإِذَا هُمْ لَا يُتِمُّونَ مِائَةَ رَأْسٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْقُضُوا الصُّلْحَ، وَلَكِنَّهُمْ يُعْطُونَهُمْ مِنْ الْأُسَرَاءِ بِعَدَدِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هَكَذَا جَرَى، وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدَعُوا أَسِيرًا وَاحِدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُفَادُونَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ 3620 - فَإِنْ خَبَّأَ الْمُشْرِكُونَ أَقْوِيَاءَ الْأُسَرَاءِ، وَأَظْهَرُوا الْمَشْيَخَةَ، وَأَهْلَ الزَّمَانَةِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ الْمُفَادَاةِ بِهِمْ. لِأَنَّ حُرْمَةَ هَؤُلَاءِ كَحُرْمَةِ الْأَقْوِيَاءِ، إذَا ظَهَرُوا، وَالْمُفَادَاةُ بِهِمْ لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ. 3621 - إلَّا أَنْ يَرْجُوَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ إذَا أَبَوْا عَلَيْهِمْ أَنْ يُفَادُوا الْمَشْيَخَةَ أَظْهَرُوا مَا كَتَمُوا مِنْ أُسَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ الْمُفَادَاةِ بِمَا أَظْهَرُوا لِمَعْنَى النَّظَرِ، وَإِنْ أَبَوْا إظْهَارَ ذَلِكَ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَ مَا أَظْهَرُوا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ تَوْهِينٌ بَيِّنٌ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَجُرْأَةٌ عَلَيْهِمْ فَحِينَئِذٍ لِلْإِمَامِ أَلَّا يُفَادِيهِمْ لِدَفْعِ الْمَذَلَّةِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1814 أَلَا تَرَى - أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لَا نَفَادِي رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا بِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ لِدَفْعِ التَّوْهِينِ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ 3622 - فَإِنْ طَلَبَ الرُّسُلُ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى أَهْلَيْهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْ يُمَكِّنُونَا مِنْ الْحِصْنِ فَأَمَّنَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا هُمْ لَا أَهْلَ لَهُمْ وَلَا مَالَ، فَهُمْ آمِنُونَ خَاصَّةً دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الْأَمَانِ يَكُونُ لِلْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْحِصْنِ شَيْءٌ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَهْلِينَ فَالْأَمَانُ فِي أَنْفُسِهِمْ صَادَفَ الْمَوْجُودَ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ صَادَفَ الْمَعْدُومَ، 3623 - وَإِنْ ادَّعَوْا جَمِيعَ مَا فِي الْحِصْنِ مِنْ الْأَمْوَالِ أَنَّهَا لَهُمْ وَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَالْقَوْلُ لَهُمْ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، 3624 - وَإِنْ أُمِّنُوا عَلَى ذَرَارِيِّهِمْ. قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ اسْمَ الذُّرِّيَّةِ يَتَنَاوَلُ الْأَوْلَادَ وَأَوْلَادَ الْأَوْلَادِ، وَأَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. أَلَا تَرَى - أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاسْمُ النِّسَاءِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْأَزْوَاجَ خَاصَّةً. قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1815 اللَّهُ تَعَالَى: {يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وَالْمُرَادُ الْأَزْوَاجُ خَاصَّةً 3625 - وَالنَّسْلُ بِمَنْزِلَةِ الذُّرِّيَّةِ، فَأَمَّا اسْمُ الْأَوْلَادِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا أَوْلَادَ الصُّلْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَهُمْ حَقِيقَةٌ، وَلِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ مَجَازٌ، فَإِذَا صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادًا [لَمْ يُطْلَقْ عَلَى الْمَجَازِ] ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِ مَنْ صَالَحَ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ فَوَلَدُ بَنِيهِ يَدْخُلُونَ الْآنَ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ مَجَازًا، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ إذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ. فَأَمَّا وَلَدُ الْبَنَاتِ فَلَيْسُوا مِنْ وَلَدِهِ وَفِي هَذَا الْفَصْلِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا، قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَبْوَابِ الْأَمَانِ وَاسْمُ الْبَنِينَ فِي الْأَمَانِ يَتَنَاوَلُ الْمُخْتَلَطِينَ. فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الذُّكُورَ خَاصَّةً وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقِيَاسَ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِبَنِي فُلَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي أَبْوَابِ الْأَمَانِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَانِ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَلَيْسَ فِي إدْخَالِ الْأُنْثَى مَعَ الذَّكَرِ فِيهِ بَخْسٌ لِحَقِّ الذَّكَرِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1816 وَفِي اسْمِ الْوَلَدِ يَدْخُلُ الْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ. 3626 - وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ أَرْضَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَمَرُّوا بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِتَخْرِيبِهَا وَتَحْرِيقِهَا وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَوَارِي فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ، بَلْ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمَسَاكِنِ لِكَثْرَةِ مَا يُعْصَى اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَبُيُوتِ النِّيرَانِ، وَبَيْنَ الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ مُصَلًّى لِلْمُسْلِمِينَ، مَبْنِيٌّ لِإِقَامَةِ الطَّاعَاتِ فِيهِ، فَكَانَ مُحْرَزًا مِنْ حَقِّ الْعِبَادِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] . بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ، فَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ جُنُبٌ فِيهِ أَوْ يَطَأَ الرَّجُلُ فِيهِ امْرَأَتَهُ، أَوْ يَقْضِيَ فِيهِ حَاجَتَهُ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ، فَأَمَّا هَذِهِ الْمَوَاضِعُ فَهِيَ مُعَدَّةٌ لِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، فَكَانَ حُكْمُهَا وَحُكْمُ مَسَاكِنِهِمْ سَوَاءً 3627 - فَإِنْ طَلَبَ حَرْبِيٌّ الْأَمَانَ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَدُلَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فِيهَا أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَبَيَّنَ فِي الْكِتَابِ وَثِيقَةَ هَذِهِ الْمُوَادَعَةِ ثُمَّ قَالَ: 3628 - فَإِذَا دَلَّهُمْ عَلَى قَرْيَةٍ فِيهَا سَبْيٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ فَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1817 وَفَّى بِمَا قَالَ فَهُوَ آمِنٌ، لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَشْرُوطِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ غَيْرُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فَهُوَ فَيْءٌ، وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِالْعَقْدِ الدَّلَالَةَ عَلَى قَرْيَةٍ فِيهَا سَبْيٌ، وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمَانَ بِذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يُسْتَفَدْ الْأَمَانُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِيهِمْ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَرْيَةِ سَبْيٌ سِوَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَالسَّبْيُ اسْمُ جَمْعٍ، وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ 3629 - وَإِنْ قَالَ: قَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ سَبْيٌ فَذَهَبُوا فَلَا أَمَانَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ إنَّمَا عُلِّقَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى قَرْيَةٍ فِيهَا سَبْيٌ، وَهَذِهِ قَرْيَةٌ لَا سَبْيَ فِيهَا الْآنَ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَخْذِ السَّبْيِ بِدَلَالَتِهِ، وَبِاَلَّذِينَ كَانُوا فِيهَا فَذَهَبُوا قَبْلَ دَلَالَتِهِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ 3630 - وَإِنْ كَانُوا أَمَّنُوهُ حِينَ دَخَلَ الْعَسْكَرَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: تُؤَمِّنُونِي عَلَى نَفْسِي وَأَهْلِي وَوَلَدِي عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَإِنْ لَمْ أُوَفِّ فَلَا أَمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ فَيْءٌ وَهُوَ آمِنٌ؛ لِأَنَّ أَمَانَهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ هَذَا الشَّرْطِ، فَأَمَّا أَمَانُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فَإِنَّمَا عَلَّقَهُ الْمُسْلِمُونَ بِدَلَالَتِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَا أَمَانَ لَهُمْ، وَبَقِيَ أَمَانُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْأَمَانُ لَهُ فَمَا لَمْ يَبْلُغْ مَأْمَنَهُ كَانَ آمِنًا، وَبِقَوْلِهِ فَلَا أَمَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1818 بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لَا يُوجَدُ تَبْلِيغُهُ إلَى مَأْمَنِهِ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْأَمَانُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ الْأَمَانَ لَهُ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ الدَّلَالَةِ عَلَى قَرْيَةٍ فِيهَا سَبْيٌ، كَمَا لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ آمِنًا 3631 - فَإِنْ كَانَ سَمَّى لِلْمُسْلِمِينَ عَدَدًا مِنْ السَّبْيِ يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُوهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ وَفَّى بِذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا أَمَانَ لَهُ، ثُمَّ إنْ دَلَّهُمْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَهُوَ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ أَمَانَهُ لَمْ يُوجَدْ 3632 - وَفِي الْقِيَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ كَمَا قَبْلَ هَذَا الِاسْتِئْمَانِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ لِأَنَّهُ وَفَّى لَهُمْ بِبَعْضِ الْمَشْرُوطِ، وَلَوْ وَفَّى بِجَمِيعِ الْمَشْرُوطِ كَانَ آمِنًا مِنْ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ جَمِيعًا، فَوَفَاؤُهُ بِبَعْضِ الْمَشْرُوطِ يُورِثُ شُبْهَةً، وَالْقَتْلُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِيمَا شُرِطَ عَلَيْهِ مَعْنَى الْعِوَضِ، بِاعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَعْنَى الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَإِنْ اعْتَبَرْنَا مَعْنَى الشَّرْطِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لِأَنَّ الشَّرْطَ يُقَابِلُ الْمَشْرُوطَ جُمْلَةً، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا مَعْنَى الْعِوَضِ كَانَ هُوَ آمِنًا، فَفِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ رَجَّحْنَا مَعْنَى الْعِوَضِ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَفِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ رَجَّحْنَا اعْتِبَارَ مَعْنَى الشَّرْطِ فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ الْوَثِيقَةَ فِي الْمُوَادَعَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِيهَا الرَّهْنُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا بَيَانَ هَذِهِ الْفُصُولِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1819 [بَابٌ مِنْ نِكَاحِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ] ِ 3633 - وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَتَيْنِ فَنِكَاحُ الْأُولَى مِنْهُمَا صَحِيحٌ، وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ إذَا أَسْلَمَتَا مَعَهُ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عُقْدَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فَيَخْتَارُ أَيَّهمَا شَاءَ، وَيُفَارِقُ الْأُخْرَى 3634 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ ذِمِّيًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا مَعَهُ فَالْجَوَابُ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَحُرْمَةُ الْجَمْعِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَقَعْ أَصْلُ نِكَاحِهِمَا صَحِيحًا، إذَا كَانَ الْمُبَاشِرُ مُلْتَزِمًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَهُمْ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1820 وَكَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ مِنْهُمَا صَحِيحًا، بِاعْتِبَارِ قُصُورِ الْخِطَابِ بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ عَنْهُمْ، فَإِذَا اعْتَرَضَتْ الْحُرْمَةُ فِي الْبَعْضِ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَجَبَ التَّخْيِيرُ لَا التَّفْرِيقُ، بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ يُطَلِّقُ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ ثَلَاثًا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَعَلَى هَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - 3635 - إذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ امْرَأَةً بِغَيْرِ صَدَاقٍ ثُمَّ أَسْلَمَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ وَقَدْ قَرَّرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: 3636 - اخْتِصَاصُ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِمَنْزِلَةِ حُرْمَةِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ فَإِنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ لَا يَثْبُتُ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الْآخَرُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، قَالَا: وُجُوبُ الِاعْتِرَاضِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ، فَالْجَمْعُ حَصَلَ لَهُمَا جَمِيعًا، وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى مَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ، فَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَتَيْنِ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ. أَلَا تَرَى - أَنَّ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ أَثْبَتْنَا الْجِزْيَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَكَمَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ لِحُرْمَةِ الْجَمْعِ فَأَهْلُ الذِّمَّةِ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1821 لَا يَتَعَرَّضُ الْإِمَامُ لَهُمْ، إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ إلَيْهِ؛ فَلِهَذَا سَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ، رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ بِآثَارٍ ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ بِالْإِسْنَادِ. (فَمِنْهَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، أَنَّ «غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» . فَلَمَّا كَانَ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ نِسَاءَهُ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ، فَدَعَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: طَلَّقْت نِسَاءَك وَقَسَّمْت مَالَك بَيْنَ بِنَيْكِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنْ السَّمْعِ سَمِعَ لِمَوْتِك فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِك، فَلَعَلَّك أَلَّا تَمْكُثَ إلَّا قَلِيلًا. وَاَيْمُ اللَّهِ تَعَالَى إنْ لَمْ تُرَاجِعْ نِسَاءَك وَتَرْجِعْ فِي مَالِك، ثُمَّ مِتَّ لَأُوَرِّثَهُنَّ مِنْ مَالِك ثُمَّ لَأَمَرْتُ بِقَبْرِك أَنْ يُرْجَمَ كَمَا يُرْجَمُ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَظُنُّهُ فَعَلَ هَذَا فِي مَرَضِهِ. (وَرَوَى) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجَيَشَانِيِّ أَنَّ «الضَّحَّاكَ بْنَ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَسْلَمْت وَعِنْدِي أُخْتَانِ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أَنْ أُفَارِقَ إحْدَاهُمَا» قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَفَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ كَانَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ الَّذِينَ كَانُوا بِصَنْعَاءَ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1822 3637 - قَالَ: الشَّيْخُ وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْآثَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ، وَمِثْلُهُ لَا يُوجَدُ فِي زَمَانِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: اخْتَرْ إحْدَاهُمَا أَوْ اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا بِتَجْدِيدِ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ، لَا لِلْإِمْسَاكِ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَقْدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قَائِلٌ بِهَذَا. ثُمَّ ذَكَرَ إسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالْحَاصِلُ فِيهِ أَنَّهُ إنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ جَائِزٌ، فَالْبَقَاءُ أَجْوَزُ 3638 - فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ؛ لِأَنَّ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ لَا بُدَّ مِنْ تَقْرِيرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ، وَإِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَهُوَ سَبَبٌ لِتَقْرِيرِ الْمِلْكِ، وَكُفْرُ مَنْ أَصَرَّ مِنْهُمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذَا أَوَّلًا، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْفُرْقَةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، فَقُلْنَا: بِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ لِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ تَأْثِيرًا فِي الْفُرْقَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَلَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُصِرِّ مِنْهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1823 وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إنْ أَبِي الْإِسْلَامَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَرْضُ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ عَنْهَا أَقَمْنَا ثَلَاثَ حَيْضَاتٍ مَقَامَ ثَلَاثِ عُرْضَاتٍ فِي ذَلِكَ 3639 - ، فَإِنْ خَرَجَ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْهُمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] 3640 - وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي رَدِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ابْنَتَهُ زَيْنَبَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، عَلَى أَبِي الْعَاصِ، فَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَرَوَى عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الرَّدُّ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا، وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَتَأْوِيلُهُ مَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . وَفِيمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ بِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1824 وَأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَاَلَّذِي يَقُولُهُ الزُّهْرِيُّ: إنَّ نِسَاءً مِنْ قُرَيْشٍ أَسْلَمْنَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهَرَبَ أَزْوَاجُهُنَّ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَقَرَّهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، عِنْدَ أَزْوَاجِهِنَّ بِذَلِكَ النِّكَاحِ، عَلَى مَا يُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَكِيمٍ امْرَأَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَحَدِيثِ امْرَأَةِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ هَرَبُوا إلَى السَّاحِلِ، وَهِيَ مِنْ حُدُودِ مَكَّةَ، قَدْ صَارَتْ مَفْتُوحَةً بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمْ يُوجَدْ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فِي مُعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَزَوْجَتُهُ هِنْدُ مُشْرِكَةٌ بِمَكَّةَ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ مَتَى حَسُنَ إسْلَامُ أَبِي سُفْيَانَ؟ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُ يَوْمَئِذٍ وَإِنَّمَا أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بِشَفَاعَةِ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أَلَا تَرَى - إلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ ابْنَ أَخِيك أَصْبَحَ فِي مُلْكٍ عَظِيمٍ، فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِمُلْكٍ وَإِنَّمَا هُوَ نُبُوَّةٌ قَالَ: أَوَ ذَاكَ؟ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ كَلَامَ مَنْ حَسُنَ إسْلَامُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - 3641 - أَنَّ «أُمَيْمَةَ بِنْتَ بِشْرٍ فَرَّتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ مُسْلِمَةٌ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِأَرْضِ الْكُفْرِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1825 فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا زَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سُهَيْلَ بْنَ حُنَيْفٍ ثُمَّ قَدِمَ زَوْجُهَا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمًا فَلَمْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ» وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الْمُهَاجِرَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَرَى عَلَى الْمُهَاجِرَةِ الْعِدَّةَ، وَجَعَلَهَا فِي ذَلِكَ كَالْمَسْبِيَّةِ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَانَ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا اعْتَدَّتْ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وَذُكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ 3642 - قَالَ إذَا لَحِقَتْ الْمَرْأَةُ بِأَرْضِ الْحَرْب فَلَا تَعْتَدَّ بِهَا فِي نِسَائِك وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: إذَا لَحِقَتْ مُرْتَدَّةٌ عَنْ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَلَحِقَتْ نَاقِضَةً لِلْعَهْدِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، حِينَ صَارَتْ حَرْبِيَّةً، وَلَكِنْ لَا عِدَّةَ لَهَا هَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَرْبِيَّةُ لَا تُخَاطَبُ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُهَاجِرَةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، هُمَا سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ، إلَّا أَنَّ الْمُهَاجِرَةَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَهَا، لَا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ، بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا حَبِلَتْ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهَا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1826 3643 - إنْ تَزَوَّجَتْ جَازَ النِّكَاحُ وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، لَكَيْ لَا يَكُونَ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْبِيَّةِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَتَزَوَّجَهَا مَوْلَاهَا. 3644 - وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ امْرَأَةً وَابْنَتَهَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ عُقْدَتَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، إنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَنِكَاحُهُمَا فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَتَيْنِ فَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الِاعْتِرَاضِ لِمَعْنَى الْجَمْعِ هَا هُنَا بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نِكَاحُ الِابْنَةِ صَحِيحٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَنِكَاحُ الْأُمِّ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْجَمْعِ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ عِنْدَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، كَمَا فِي حَقِّ الْأُخْتَيْنِ، فَكَانَ نِكَاحُ الْبِنْتِ صَحِيحًا تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ 3645 - وَبِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ عَلَى الِابْنَةِ تَحْرُمُ الْأُمُّ، وَبِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا تَحْرُمُ الِابْنَةُ، فَلِهَذَا صَحَّ نِكَاحُ الْبِنْتِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأُمِّ وَهَذَا لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ نَظِيرُ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ، كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا مِثْلُهُ 3646 - ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِمَا فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍّ بِالِاتِّفَاقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1827 لِأَنَّ الدُّخُولَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحَرِّمُ الْأُخْرَى، بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ 3647 - وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُمِّ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ الِابْنَةَ، فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ عَلَى الِابْنَةِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمِّ، وَالدُّخُولَ بِالْأُمِّ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ 3648 - ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُمِّ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الِابْنَةَ فَنِكَاحُ الْأُمِّ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الِابْنَةِ، ثُمَّ الْعَقْدُ عَلَى الِابْنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ عَلَى الِابْنَةِ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمِّ 3649 - ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالِابْنَةِ فَنِكَاحُهَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْأُمِّ إلَّا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الِابْنَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا، أُمًّا كَانَتْ أَوْ بِنْتًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى لِأَنَّ الدُّخُولَ بِمَنْ دَخَلَ بِهَا مُحَرِّمٌ لِلْأُخْرَى أُمًّا كَانَتْ أَوْ ابْنَةً. 3650 - وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَ الِابْنَةَ أَوَّلًا وَدَخَلَ بِهَا فَنِكَاحُهَا صَحِيحٌ وَنِكَاحُ الْأُمِّ بَاطِلٌ، لِأَجْلِ الْمُصَاهَرَةِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُمِّ فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1828 الْعَقْدَ عَلَى الِابْنَةِ كَانَ صَحِيحًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمِّ، وَقَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حُرْمَةَ الِابْنَةِ. وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَ الْأُمَّ أَوَّلًا فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَنِكَاحُهَا صَحِيحٌ، وَإِنْ دَخَلَ بِالِابْنَةِ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الِابْنَةِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَالدُّخُولُ بِالِابْنَةِ مُبْطِلٌ نِكَاحَ الْأُمِّ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الِابْنَةَ دُونَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْأُمِّ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الِابْنَةِ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا 3651 - قَالَ وَلَوْ تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ أَمَةً وَحُرَّةً ثُمَّ أَسْلَمُوا جَازَ نِكَاحُهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمَا عِنْدَهُ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ الْحَالُ حَالُ اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ، وَاسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ عَلَى الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُذْكَرْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَقِيلَ: الْجَوَابُ هَكَذَا عَلَى قَوْلِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: بَلْ عِنْدَهُ يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَيُجْعَلُ كَالْمُجَدِّدِ لِلْعَقْدِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، كَمَا فِي حَقِّ الْأُخْتَيْنِ. 3652 - قَالَ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي عُقْدَةٍ أَوْ عُقْدَتَيْنِ، ثُمَّ سُبِيَ وَسُبِينَ مَعَهُ، فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَخْتَارُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1829 لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثِّنْتَيْنِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي حَقِّ الْحُرِّ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، يَبْطُلُ نِكَاحُهُنَّ جَمِيعًا هَا هُنَا، أَمَا إنَّهُ إنْ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَتَزَوَّجُ خَمْسَ نِسْوَةٍ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يُسْلِمُ وَيُسْلِمْنَ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْفَصْلِ وَبَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ أَنَّ هُنَاكَ نِكَاحَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ مَا وَقَعَ صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا وَجَبَ الِاعْتِرَاضُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، يَتَعَيَّنُ الْفَسَادُ مَا لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَهَا هُنَا نِكَاحُ الْأَرْبَعِ وَقَعَ صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ تَزَوَّجَهُنَّ فَلَمْ يَكُنْ الْبَعْضُ بِإِفْسَادِ نِكَاحِهَا بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ 3653 - وَلَوْ تَزَوَّجَ حَرْبِيٌّ رَضِيعَتَيْنِ ثُمَّ أَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ ثُمَّ أَسْلَمُوا فَهَذَا وَمَا لَوْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ حِينَ تَزَوَّجَهُمَا سَوَاءٌ، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِالرَّضَاعِ 3654 - وَإِنْ كَانَتْ إنَّمَا أَرْضَعَتْهُمَا بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا فَقَدْ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا. وَبِهِ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، عَلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: لَمَّا أَسْلَمُوا قَبْلَ الْإِرْضَاعِ فَحَالُهُمْ وَحَالُ مَا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ حِينَ تَزَوَّجَهُمَا سَوَاءٌ، وَالْمُسْلِمُ إذَا تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ ثُمَّ أَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْمُفْسِدَ وَهِيَ الْأُخْتِيَّةُ وُجِدَ فِيهِمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ 3655 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1830 وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ أَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ كَبِيرَةً وَرَضِيعَةً، وَلِلْكَبِيرَةِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ ثُمَّ أَسْلَمُوا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نِكَاحُهُمَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَا صَارَتَا أُمًّا وَابْنَةً، فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهُمَا ابْتِدَاءً بَعْدَ الْإِرْضَاعِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نِكَاحُ الِابْنَةِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ وُجِدَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ عَلَى الِابْنَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمِّ، وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ. 3656 - وَلَوْ كَانَ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا بِالِاتِّفَاقِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهُمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ فَقَدْ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِحُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ الزَّوْجُ 3657 - وَلَوْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ أَسْلَمَتْ وَحْدَهَا ثُمَّ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَفْسُدُ نِكَاحُهَا، وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ حَرْبِيٌّ حِينَ أَرْضَعَتْهَا، فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ أَرْضَعَتْهَا قَبْلَ إسْلَامِهَا سَوَاءً 3658 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَسْلَمَ أَبُو الصَّغِيرَةِ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ) فَقَدْ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1831 أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، لَا إشْكَالَ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ الِابْنَةَ صَارَتْ مُسْلِمَةً بِإِسْلَامِ الْأَبِ، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا مَعَ أُمِّهَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَبَطَلَ نِكَاحُهَا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ بَطَلَ نِكَاحُ الْأُمِّ بِسَبَبِ الْعَقْدِ عَلَى الِابْنَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: يَفْسُدُ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا. وَأَوْضَحَ هَذَا بِمَا لَوْ تَزَوَّجَ رَضِيعَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ، فَإِنَّ الْكَبِيرَةَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ صَارَتْ ابْنَةً لَهَا، وَقَدْ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ فِي وَقْتٍ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الِابْنَةِ يُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً فِي حَقِّ الْأُمِّ 3659 - وَلَوْ أَنَّ زَوْجَيْنِ مُسْتَأْمَنَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَسْلَمَ الزَّوْجُ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَرَادَتْ الرُّجُوعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَعْدَ إسْلَامِ الزَّوْجِ النِّكَاحُ مُسْتَدَامٌ بَيْنَهُمَا، فَهِيَ مُسْتَأْمَنَةٌ تَحْتَ مُسْلِمٍ فَتَصِيرُ ذِمِّيَّةً لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْمَقَامِ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِمُسْلِمٍ ابْتِدَاءً 3660 - وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ الزَّوْجُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا كَالْمُسْلِمِ. 3661 - إنْ جَحَدَتْ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَعَلَى الزَّوْجِ الْبَيِّنَةُ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الزَّوْجِ وَالشُّهُودِ أَنَّهَا ذِمِّيَّةٌ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الذِّمِّيِّ لَا تَكُونُ حُجَّةً 3662 - ، وَلَوْ كَانَتْ أَنْكَرَتْ النِّكَاحَ، قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ الزَّوْجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1832 أَوْ يَصِيرَ ذِمِّيًّا، لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ، وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمَا مُسْتَأْمَنَانِ فَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ بِحُقُوقِ مُعَامَلَةٍ جَرَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَلْتَزِمَا حُكْمَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ إنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلِهَذَا لَا يَقْضِي بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ 3663 - ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةً فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَعْرِضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُمَا تَحْتَ وِلَايَتِهِ الْآنَ، فَيُمْكِنُ مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى الَّذِي يَأْبَى مِنْهُمَا، وَبِنَاءُ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ ثُمَّ يَكُونُ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ هَا هُنَا بَعْدَ إسْلَامِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَجُوزُ فَلَا تَصِيرُ ذِمِّيَّةً، إلَّا أَنَّ الْعِدَّةَ تَلْزَمُهَا لِحَقِّ الزَّوْجِ الْمُسْلِمِ فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا حَامِلٌ وَوَلَدُهَا مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ، فَلِهَذَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ 3664 - وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ زَوْجُهَا، وَلَكِنَّهُ صَارَ ذِمِّيًّا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا مُسْتَقِرٌّ هَا هُنَا، فَتَصِيرُ ذِمِّيَّةً تَبَعًا لِزَوْجِهَا 3665 - وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1833 الْإِسْلَامَ عَلَى الزَّوْجِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إذَا أَبَى، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ فِي الْمُقَامِ لَا يَتْبَعُ امْرَأَتَهُ. 3666 - قَالَ: وَلَوْ ذَهَبَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ عَرْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَهَذِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَالْمُرْتَدُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لِلْمُرْتَدِّ، وَقَدْ قَرَّرَنَا هَذَا فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى فَصْلِ الْمُهَاجِرَةِ وَقَالَ: 3667 - إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَلِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ، وَلَا عِصْمَةَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْلِمِ، وَفِي الْحُكْمِ بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا إثْبَاتُ مَعْنَى الْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: 3668 - وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ، وَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْعِصْمَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَاسَ هَذَا بِالْمُرْتَدِّ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ، وَلَوْ رَجَعَ مُسْلِمًا، أَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ 3669 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1834 وَلَوْ كَانَ الْحَرْبِيُّ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، ثُمَّ طَلَّقَ الْمُهَاجِرَةَ الَّتِي تَعْتَدُّ مِنْهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ بَعْدُ فَكَانَ حَالُهُ وَحَالُ مَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ صُورَةً سَوَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً حُرَّةً لَوْ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَاشْتَرَتْهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا فَقَدْ فَسَدَ النِّكَاحُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا وَهُوَ عَبْدٌ لَهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ بَيْنَ الْمَمْلُوكِ وَبَيْنَ الْمَالِكَةِ 3670 - وَإِنْ أَعْتَقَتْهُ أَوْ بَاعَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ - وَلَوْ كَانَتْ الْمُهَاجِرَةُ حَامِلًا فَلِزَوْجِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ، فَكَانَ حَالُهَا كَحَالِ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا حَبِلَتْ مِنْ مَوْلَاهَا، وَهُنَاكَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا كَيْ لَا يَصِيرَ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَسْبِيَّةِ 3672 - وَلَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَخَرَجَ إلَيْنَا وَتَرَكَ زَوْجَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَهَذِهِ لَا عِدَّةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1835 عَلَيْهَا، وَلَكِنْ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ، إلَّا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ إلَى عِدَّةِ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْحُكْمِ 3673 - وَلَوْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِمُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ، فَهَذَا فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ، وَمَا لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِخُرُوجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَهِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ مُخَاطَبَةٌ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ 3674 - قَالَ: حَرْبِيَّةٌ أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَتْ وَخَرَجَ زَوْجُهَا مَعَهَا بِأَمَانٍ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، أَوْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ كَالذِّمِّيِّ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَرْبِيٌّ، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَلِكَوْنِهِ حَرْبِيًّا قُلْنَا: الْفُرْقَةُ تَقَعُ بَيْنَهُمَا بِمُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَلِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ مِنْ وَجْهٍ، قُلْنَا: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ إبَاءِ الْإِسْلَامِ، وَبِأَيِّ الْوَجْهَيْنِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ 3675 - وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَالذِّمِّيِّ مِنْ وَجْهٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1836 أَلَا تَرَى - أَنَّهُ لَوْ خَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا السُّلْطَانُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ ثَلَاثًا، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْخُلْعِ ثَلَاثًا، وَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ 3676 - ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَتْ وَحْدَهَا، ثُمَّ خَرَجَ الزَّوْجُ بَعْدَهَا، مُسْتَأْمَنًا فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ بَقِيَ الزَّوْجُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ خُرُوجِهَا فَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بِهِ بَيْنَهُمَا، وَصَارَ بِحَالٍ يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، فَمَا لَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، وَهَا هُنَا حِينَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ كَانَ هُوَ مَعَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي حَالَةٍ مِنْ الْحَالَاتِ بِحَالٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا، فَلِهَذَا قُلْنَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1837 [بَابُ تَزْوِيجِ الْأَسِيرِ وَالْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] ِ 3677 - قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كِتَابِيَّةً مِنْهُمْ؛ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَبْقَى لَهُ نَسْلٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَفِيهِ تَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ، فَإِنَّهَا لَوْ سُبِيَتْ، وَهِيَ حُبْلَى مِنْهُ، صَارَ مَا فِي بَطْنِهَا رَقِيقًا، وَرُبَّمَا يَتَخَلَّقُ أَوْلَادُهُ بِأَخْلَاقِ الْكُفَّارِ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ النِّكَاحِ فِي مَحَلِّهِ أَوْ شَرْطِهِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ بَعْدَ أَنْ كَانَ بِشُهُودٍ مُسْلِمِينَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، يَسْتَوِي إنْ كَانَ الشُّهُودُ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. فَإِنْ كَانَ يَخْشَى الْعَنَتَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الزِّنَا فَرْضٌ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لَهُ إلَّا أَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ عَلَى نَفْسِهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. 3678 - وَلَوْ أَسَرُوا حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً فَلَا بَأْسَ لِهَذَا الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ الْعَنَتَ عَلَى نَفْسِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1838 لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلَمْ يَمْلِكُوهَا بِالِاسْتِرْقَاقِ، فَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فِي دَارِهِمْ، كَمَا يَجُوزُ فِي دَارِنَا 3679 - فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً لَهُ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ لَهُ، وَإِلَّا أَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْإِحْرَازِ مَلَكُوهَا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا كَانَتْ أَمَةً لَهُمْ، فَوَلَدُهُ مِنْهَا يَكُونُ عَبْدًا لَهُمْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا تَزَوَّجَ فِيهِمْ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ يَخْشَى الْعَنَتَ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَجِدْ شُهُودًا مُسْلِمِينَ، عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الشُّهُودُ وَذَلِكَ مَنْعٌ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ النِّكَاحِ، أَوْ لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ، بِأَنْ كَانَ لَا يَجِدُ إلَّا مَجُوسِيَّةً أَوْ وَثَنِيَّةً، وَهُنَاكَ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا سَوَاءٌ كَانَ يُخْشَى عَلَيْهِ الْعَنَتُ أَوْ لَا يُخْشَى، فَأَمَّا هَا هُنَا الْمَنْعُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالنِّكَاحِ شَرْطًا وَلَا مَحَلًّا، فَإِذَا ظَهَرَ مَا هُوَ الْأُولَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْهُ قُلْنَا يَجُوزُ النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ 3680 - وَإِنْ كَانُوا أَسَرُوا مُكَاتَبَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ ثُمَّ زَوَّجُوهَا مِنْ هَذَا الْمُسْلِمِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا بِالْإِحْرَازِ، وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَوَلِيُّ الْمُكَاتَبَةِ مَوْلَاهَا 3681 - فَإِذَا أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي التَّزَوُّجِ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْكِتَابُ مِمَّنْ نَأَى كَالْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1839 3682 - فَإِنْ دَخَلَ مَوْلَاهَا دَارَهُمْ بِأَمَانٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَ مُدَبَّرَتَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ إذَا خَلَا بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ الْحَرْبِيُّ وَطِئَهَا؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ 3683 - فَإِنْ وَطِئَهَا الْحَرْبِيُّ فَلَيْسَ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ اجْتِمَاعُ رَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، إلَّا أَنْ يَتْرُكَ الْحَرْبِيُّ وَطْأَهَا فَحِينَئِذٍ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَهَا إذَا اسْتَبْرَأَ رَحِمُهَا، فَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأهَا، كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَسْرِ؛ لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ صَارَتْ كَالْخَارِجَةِ عَنْ مِلْكِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَهَا إيَّاهُ الْحَرْبِيَّ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ حَقِيقَةً، فَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا 3684 - بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَهُنَاكَ إذَا زَوَّجَهَا الْحَرْبِيَّ مِنْهُ جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَطَؤُهَا بِالْمِلْكِ لَا بِالنِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَ التَّزَوُّجِ كَانَ وَطْؤُهَا حَلَالًا لَهُ 3685 - وَلَوْ أَسَرُوا امْرَأَتَهُ وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ، ثُمَّ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَهَا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي الْحُرَّةِ صَحِيحٌ وَأَمَّا فِي الْأَمَةِ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمُوا كَانَتْ لَهُمْ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ فَقَدْ صَارَتْ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1840 بَيْنَهُمَا، قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا لِكَوْنِهَا مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً، وَذَلِكَ لَا يُنْتَقَضُ بِتَمَلُّكِهِمْ إيَّاهَا بِالْإِحْرَازِ، كَمَا لَا يُنْتَقَضُ بِتَمَلُّكِهِمْ إيَّاهَا بِالشِّرَاءِ وَالْإِدْخَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَكَمَا لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا هُنَاكَ، لَا يَفْسُدُ هَا هُنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْلَاهَا الْحَرْبِيُّ قَدْ وَطِئَهَا، فَحِينَئِذٍ لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ 3686 - وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَوَطِئَهَا الْحَرْبِيُّ لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْحَرْبِيِّ فِي مَعْنَى الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، فَالتَّأْوِيلُ الْبَاطِلُ مِنْهُمْ مُعْتَبَرٌ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي الْحُكْمِ 3687 - وَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَهَا الْحَرْبِيُّ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ وَطِئَهَا الْحَرْبِيُّ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِوَطْءِ الْحَرْبِيِّ إيَّاهَا، فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً 3688 - وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْبِيَّةُ أَمَةً لِمُسْلِمٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَوْلَاهَا إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ فَيَكُونُ هُوَ وَاطِئًا مِلْكَ غَيْرِهِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا رُخْصَةَ فِيهِ بِحَالٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1841 3689 - بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ، فَإِنْ زَوَّجَهَا الْحَرْبِيُّ مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا لِلْمُسْلِمِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ زَوَّجَهُ أَمَةً أُخْرَى لَهُ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً 3690 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَزَوَّجَ أَمَةً مِنْ إمَائِهِمْ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الذَّرَارِيّ، فَالصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِ أَبِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَمْلُوكِينَ لِمَوْلَى الْأُمِّ، وَقَدْ قُتِلَ أَوْ هَرَبَ حِينَ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَصَارُوا مُحْرِزِينَ أَنْفُسَهُمْ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَمْلُوكُ الْمُسْلِمُ لِلْحَرْبِيِّ إذَا أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ كَانَ حُرًّا كَالْمُرَاغَمِ 3691 - وَأَمَّا الْكِبَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ فَمُرْتَدُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ وَصَفُوا الْكُفْرَ بَعْدَ الْبُلُوغِ 3692 - وَقَدْ كَانُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ الْأَبِ، فَصَارُوا مُرْتَدِّينَ أَرِقَّاءَ لِمَنْ أَحَرَزَهُمْ، رِجَالَهُمْ أَوْ نِسَاءَهُمْ، لِأَنَّ مَعَ رِدَّتِهِمْ لَا يَتَحَقَّقُ إحْرَازُ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْمَوَالِي فَلَا يُعْتَقُونَ، وَيُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُونَ؛ لِأَنَّهُ مَا وُجِدَ مِنْهُمْ الْإِسْلَامَ بَعْدَ كَمَالِ حَالِهِمْ بِالْبُلُوغِ، وَمَنْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ لَا يُقْتَلُ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا لِمَعْنَى الشُّبْهَةِ، وَأَمَّا أُمُّهُمْ فَهِيَ فَيْءٌ لِمَنْ أَخَذَهَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ فَهُوَ رَقِيقٌ مَعَهَا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ جُزْءٌ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1842 أَجْزَائِهَا، فَيَكُونُ رَقِيقًا تَبَعًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ إحْرَازُ نَفْسِهِ مَا دَامَ مَخْفِيًّا فِي بَطْنِهَا 3693 - وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَ حُرَّةً مِنْهُمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ أَوْلَادِهِ هَا هُنَا أَحْرَارٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ انْفَصَلُوا مِنْ حُرَّةٍ فَكَانُوا أَحْرَارًا بِحُرِّيَّتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ 3694 - فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ رَجُلًا فَهُوَ لَا يَصِيرُ رَقِيقًا بِالسَّبْيِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ امْرَأَةً فَقَدْ صَارَتْ أَمَةً بِالسَّبْيِ، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُرْتَدَّاتِ، وَلَا يَكُونُ تَزَوَّجُ الْمُسْلِمِ إيَّاهَا أَمَانًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَوْ آمَنَهَا نَصًّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ بِالدَّلَالَةِ. 3695 - وَلَيْسَ لِلْأَوْلَادِ أَنْ يُوَالُوا أَحَدًا، وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُمْ بَيْتُ الْمَالِ إنْ لَمْ يُوَالُوا أَحَدًا. لِأَنَّ لَهُمْ عَشِيرَةً، وَهُمْ قَوْمُ أَبِيهِمْ، فَيَعْقِلُونَ عَنْهُمْ وَيَرِثُونَهُمْ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا 3696 - وَلَوْ كَانُوا سَبَوْا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً ثُمَّ زَوَّجُوهَا مِنْ هَذَا الْحَرْبِيِّ. فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ، إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا تَكُونُ هِيَ وَلَا مَا فِي بَطْنِهَا فَيْئًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1843 لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، فَلَا تُمْلَكُ بِالسَّبْيِ. وَالْأُولَى حُرَّةٌ حَرْبِيَّةٌ فَمُلِكَتْ بِالسَّبْيِ 3697 - وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً مُسْلِمَةً، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَأَوْلَادُهَا أَرِقَّاءُ هَا هُنَا، لَا يُعْتَقُونَ بِالسَّبْيِ، الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ قَائِمٌ فِيهِمْ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْعِتْقِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْمُرَاغَمَةِ، فَقُلْنَا: إنْ وَجَدَهُمْ الْمَأْسُورُ مِنْهُ أَخَذَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُمْ بِالْقِيمَةِ 3698 - فَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ ذِمِّيًّا أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِمْ بَعْدَ مَا يَأْخُذُوهُمْ؛ لِأَنَّ الصِّغَارَ مِنْهُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِ أَبِيهِمْ، وَالذِّمِّيُّ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إذَا حَصَلَ فِي مِلْكِهِ، وَالْكِبَارُ مِنْهُمْ مُرْتَدُّونَ، وَلِلْمُرْتَدِّ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، لِكَوْنِهِ مُجْبَرًا عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ. 3699 - وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْسُورَةُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا الْمُسْلِمُ، وَلَكِنْ مَوْلَاهَا الْحَرْبِيَّ وَطِئَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَهِيَ حُرَّةٌ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ أَوْ ذِمِّيَّةٌ، وَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْحَرْبِيِّ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْحَرْبِيِّ عَنْهَا كَانَتْ حُرَّةً. 3700 - وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ بِمَنْزِلَتِهَا إنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1844 لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُحْرِزِينَ أَنْفُسَهُمْ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَهُمْ أَنْ يُوَالُوا مَنْ أَحَبُّوا؛ لِأَنَّ أَبَاهُمْ لَا وَلَاءَ لَهُ وَلَا عَشِيرَةَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. 3701 - فَإِنْ كَبِرُوا كُفَّارًا مُحَارَبِينَ لِلْمُسْلِمِينَ قُلْنَا: إنْ كَانَتْ أُمُّهُمْ مُسْلِمَةً فَهُمْ مُرْتَدُّونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ تَبَعًا لَهَا، فَإِذَا بَلَغُوا مُرْتَدِّينَ أُجْبِرُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا أَحْرَارًا، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُمْ ذِمِّيَّةً فَهُمْ فَيْءٌ أَجْمَعُونَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لَهَا، وَقَدْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ حِينَ حَارَبُوا الْمُسْلِمِينَ. 3702 - فَإِنْ قَالَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ: أَنَا أَحَقُّ بِالْأَمَةِ لِأَنَّهَا أُسِرَتْ مِنْ يَدَيَّ وَمِلْكِي لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ كَانَ مَلَكَهَا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ، وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا [فَلَا يَبْقَى لِلْمَالِكِ الْقَدِيم فِيهَا حَقّ الْأَخْذ بِحَالٍ] ، (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ كَانَ أَعْتَقَهَا نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهَا، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْلَدَهَا. 3703 - وَلَوْ كَانَ مَوْلَاهَا الْقَدِيمُ إنَّمَا زَوَّجَهَا مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَالْأَمَةُ وَأَوْلَادُهَا لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ هَا هُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1845 لِأَنَّهَا إنَّمَا وَلَدَتْ مِنْ زَوْجٍ لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَقِيَامُ حَقِّ الْمَأْسُورِ مِنْهُ فِيهَا وَفِي أَوْلَادِهَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْعِتْقِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْمُرَاغَمَةِ، وَالْإِحْرَازِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ، وَمَنْ كَبُرَ مِنْ أَوْلَادِهَا فَكَانَ عَلَى دَيْنِ أَبِيهِ 3704 - فَإِنْ كَانَتْ هِيَ مُسْلِمَةً فَهِيَ مُجْبَرَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهَا 3705 - فَإِذَا بَلَغَ كَافِرًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً لَمْ يُجْبَرْ هَذَا الْوَلَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ بَيْنَ كَافِرَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ 3706 - وَلَوْ كَانَتْ الْمَأْسُورَةُ حُرَّةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَهِيَ وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَالْأَوْلَادُ يَتْبَعُونَ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ عَرَفْت الْجَوَابَ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا فِي حُكْمِ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ، حَتَّى إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ الْوَلَدُ مِثْلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ مُسْلِمًا كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ 3707 - وَمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ كَافِرًا فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي حُكْمِ الِاسْتِرْقَاقِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُرْتَدِّينَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1846 [بَابُ إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ السَّبَايَا] 3708 - قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ سَبَوْا مُسْلِمَةً حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً أَوْ ذِمِّيَّةً حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً فَاشْتَرَاهَا مِنْ السَّابِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، فَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً حُرَّةً فِي الْأَصْلِ فَهِيَ حُرَّةٌ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الْمُتَأَكِّدَةَ فِي دَارِنَا لَا نَاقِضَ لَهَا، وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَهَا. وَالنَّسَبُ ثَابِتٌ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا عَلَى وَجْهِ الْمِلْكِ بِشُبْهَةٍ، فَتَأْوِيلُهُمْ الْبَاطِلُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي الْحُكْمِ وَلَا صَدَاقَ عَلَيْهِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ حَرْبِيًّا حِينَ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْجُزْءَ، فَكَمَا لَا يَغْرَمُ شَيْئًا إذَا اسْتَهْلَكَهَا لَا يَغْرَمُ بِوَطْئِهِ إيَّاهَا شَيْئًا أَيْضًا. وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْأَصْلِ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا بِالْإِحْرَازِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1847 وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ تَبَعًا لَهَا إنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً، وَذِمِّيَّيْنِ تَبَعًا لَهَا إنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً، وَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اسْتَوْلَدَهَا بِتَأْوِيلِ الْمِلْكِ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَبِ مِنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ هَا هُنَا شَيْءٌ، لِلطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا فِي الْعُقْرِ، فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ مُحَارَبًا حِينَ اسْتَوْلَدَهَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاسْتِهْلَاكِ جُزْءٍ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَلَدِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَغْرُورُ إنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَقْتَ الْخُصُومَةِ، وَعِنْدَ الْخُصُومَةِ الْقَوْمُ مُسْلِمُونَ أَوْ أَهْلُ الذِّمَّةِ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَضْمَنُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ بِسَبَبِ الِاسْتِيلَادِ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ السَّبَبُ تَحَقَّقَ مِنْهُ حِينَ كَانَ حَرْبِيًّا. غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ أَسْلَمُوا 3709 - وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً فَالْجَوَابُ فِيهَا وَفِي أَوْلَادِهَا أَنَّهَا تُرَدُّ مُكَاتَبَةً عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تُمْلَكُ بِالْأَسْرِ، وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ بِحُكْمِ الْغُرُورِ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ مِنْ الْعُقْرِ وَلَا مِنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا، وَلِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ غَرِمَ قِيمَةَ الْوَلَدِ هَا هُنَا إنَّمَا يَغْرَمُ لَهَا، وَهِيَ إنَّمَا تَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا وَأَوْلَادِهَا فَفِي هَذَا تَحْصِيلُ بَعْضِ مَقْصُودِهَا 3707 - وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهِيَ أُمُّ الْوَلَدِ لِمَنْ اسْتَوْلَدَهَا، وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1848 لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ، وَقَدْ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ بِالشِّرَاءِ، فَصَحَّ اسْتِيلَادُهُ، ثُمَّ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. 3710 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْلَدُ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، إلَّا أَنَّهَا تَخْرُجُ إلَى الْعِتْقِ بِالسِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ، وَالْمُسْلِمَةُ لَا تُتْرَكُ فِي مِلْكِ الذِّمِّيِّ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إخْرَاجُهَا مِنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ لِأَجْلِ الِاسْتِيلَادِ، فَيَجِبُ إخْرَاجُهَا مِنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِسْعَاءِ فِي قِيمَتِهَا وَالْحُكْمُ فِي الْمُرْتَدِّينَ إذَا غَلَبُوا عَلَى دَارِهِمْ، وَفِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَغَلَبُوا عَلَى دَارِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. 3711 - وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ، إذَا كَانُوا سَبَوْا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا انْضَمَّ إلَى الْمَنَعَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي الْحُكْمِ 3712 - وَالْأَصْل فِيهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، كَانُوا مُتَوَافِرِينَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا قَوَدَ فِي دَمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَلَا حَدَّ فِي فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَلَا ضَمَانَ فِي مَالٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ الشَّيْءُ بِعَيْنِهِ فَيُرَدُّ عَلَى أَهْلِهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا هَا هُنَا: إذَا كَانَتْ الْمَسْبِيَّةُ أَمَةً وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى مَوْلَاهَا إذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1849 لِأَنَّهُمْ مَا مَلَكُوهَا وَلَمْ تَصِرْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ لِمَنْ اسْتَوْلَدَهَا، وَأَهْلُ الْحَرْبِ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمَنْ اسْتَوْلَدَهَا 3713 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ لُصُوصِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَخَذُوا النِّسَاءَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَنَقُولُ: لَا حُكْمَ لِلْمَنَعَةِ إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ التَّأْوِيلِ، كَمَا لَا حُكْمَ لِلتَّأْوِيلِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْمَنَعَةِ، فَالْوَاطِئُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ زَانِيًا، مُسْتَوْجِبًا لِلْحُدُودِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ أَصْلًا، بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . ثُمَّ الْوَلَدُ يَكُونُ تَبَعًا لِلْأُمِّ عَلَى صِفَةِ أُمِّهِ مَمْلُوكًا لِمَنْ هُوَ مَالِكٌ لِلْأُمِّ، بِخِلَافِ جَمِيعِ مَا سَبَقَ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ بِالِاسْتِهْلَاكِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ هَا هُنَا كَانُوا ضَامِنِينَ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا بَابٌ قَدْ اسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهُ مِمَّا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1850 [بَابُ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْب] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَبْسُوطِ: 3714 - أَنْ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بِهِ مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوبَةِ، لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ حِينَ بَاشَرَ ذَلِكَ، وَلَوْ ارْتَكَبَ ذَلِكَ فِي الْعَسْكَرِ فَلَيْسَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ إقَامَةُ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا فُوِّضَ إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْحَرْبِ 3715 - إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ غَزَا بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمِيرَ الْعِرَاقِ، فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ فِي عَسْكَرِهِ، كَمَا يُقِيمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَلَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ الْجَيْشِ وَلَا سَرِيَّةٍ أَحَدًا حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الدَّرْبِ قَافِلًا، لِئَلَّا يَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ فَيَلْتَحِقُ بِالْكُفَّارِ. 3716 - وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1851 مَخَافَةَ أَنْ تَلْحَقَهُمْ الْحَمِيَّةُ فَيَلْحَقُوا بِالْكُفَّارِ، فَإِنْ تَابُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَرَائِهِمْ 3717 - ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ الْكِلَابِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا هَرَبَ الرَّجُلُ، وَقَدْ قَتَلَ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ، إلَى الْعَدُوِّ ثُمَّ أَخَذَ أَمَانًا عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ مَا فَرَّ مِنْهُ وَإِذَا قَتَلَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَخَذَ أَمَانًا لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا أَحْدَثَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ» فَهُوَ الْأَصْلُ لِعُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي اعْتِبَارِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرْتَكَبُ فِيهَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِنَا إذَا ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا مَا فِيهِ حَقُّ الْعِبَادِ مِنْ قِصَاصٍ، أَوْ حَدِّ قَذْفٍ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ يُقَامُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَيْهِ إلَّا حَدُّ الْخَمْرِ كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1852 [بَابُ مَا يَجِبُ مِنْ النُّصْرَةِ لِلْمُسْتَأْمَنَيْنِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ] ِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: 3718 - الْأَصْلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْصُرَ الْمُسْتَأْمَنِينَ مَا دَامُوا فِي دَارِنَا، وَأَنْ يُنْصِفَهُمْ مِمَّنْ يَظْلِمُهُمْ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، مَا دَامُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ 3719 - إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الذِّمِّيِّ بِقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ، وَلَا عَلَى الْمُسْلِم لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ صِفَةِ الْحَقْنِ وَعَلَيْهِ يُبْتَنَى حُكْمُ الْقِصَاصِ، فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَيَسْتَوْفِيهِ وَارِثُ الْمَقْتُولِ إذَا كَانَ مَعَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي صِفَةِ الْحَقْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ بَقِيَ فِي دَمِ الْمُسْتَأْمَنِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ مُمَكَّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ عَلَى كُلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1853 حَالٍ. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، لَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى الْمُحَارَبَةِ مُبِيحٌ فَنَفْسُ الْكُفْرِ مُهْدِرٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَضْمَنُ قَاتِلُهُمْ شَيْئًا مِنْ كَفَّارَةٍ، وَلَا دِيَةٍ لِوُجُودِ الْمُهْدِرِ 3720 - ثُمَّ الذِّمِّيُّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ كَوْنَ كُفْرِهِ مُهْدِرًا، فَلَمْ يُورِثْ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمُحَارَبَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا يُورِثُ شُبْهَةً، وَلَكِنْ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي صِفَةِ الْحَقْنِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى بَعْضِهِمْ بِقَتْلِ الْبَعْضِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ نُصْرَتَهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِنَا، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ 3721 - وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ دَخَلُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ لِيَجْتَازُوا إلَى أَرْضٍ أُخْرَى فَيُقَاتِلُوا أَهْلَهَا، ثُمَّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَهْلُ حَرْبٍ آخَرِينَ فَأَسَرُوهُمْ فَلَيْسَ عَلَيْنَا نُصْرَتُهُمْ، وَإِنْ قَدَرْنَا عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ صَارُوا مِنَّا دَارًا، وَقَدْ الْتَزَمُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ 3722 - فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ نُصْرَتُهُمْ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ نُصْرَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُونَ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، إلَّا أَنَّهُمْ لِلْحَالِ فِي دَارِنَا بِأَمَانٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا نُصْرَتُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1854 وَدَفْعُ ظُلْمِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا عَنْهُمْ، وَاَلَّذِينَ ظَلَمُوهُمْ هُنَاكَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلَا تَحْتَ وِلَايَتِنَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا دَفْعُ ظُلْمِهِمْ عَنْهُمْ وَهَذَا لِأَنَّ لِدَارِ الْإِسْلَامِ دَارًا مُعَادِيَةً وَهِيَ دَارُ الْحَرْبِ، فَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِيهَا بِدَفْعِ ظُلْمِ أَهْلِ دَارِ الْمُعَادِيَةِ عَنْهُ، فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَهُوَ إنَّمَا دَخَلَ دَارَنَا مُجْتَازًا أَوْ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، ثُمَّ لِيَعُودَ إلَى دَارِهِ، فَفِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ لَا حَاجَةَ إلَى دَفْعِ ظُلْمِ أَهْلِ دَارِ الْمُعَادِيَةِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ ظُلْمِ مَنْ فِي دَارِنَا عَنْهُ، وَمَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فَثُبُوتُهُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ. 3723 - وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الَّذِينَ ظَهَرُوا عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ فَأَحْرَزُوهُمْ بِدَارِهِمْ لَوْ أَسْلَمُوا كَانُوا عَبِيدًا لَهُمْ وَاَلَّذِينَ ظَهَرُوا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَحْرَزُوهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا كَانُوا أَحْرَارًا، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ مِمَّا أَخَذُوا مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ فَيَكُونُ لَنَا تَمَلُّكُهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْرَازِ، وَلَا يُمْلِكُ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْرَازِ بَلْ يَكُونُونَ أَحْرَارًا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ. فَعَرَفْنَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي وُجُوبِ الْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِمْ كَالْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ 3724 - وَاَلَّذِي يُقَرِّرُ مَا قُلْنَا أَنَّ الَّذِينَ ظَهَرُوا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1855 لَوْ مَرُّوا بِأَهْلِ مَنَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِاسْتِنْقَاذِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، لَا يَسْعَهُمْ إلَّا ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانُوا إنَّمَا ظَهَرُوا عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا ثُمَّ مَرُّوا بِهِمْ عَلَى قَوْمٍ مُمْتَنِعِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ بِاسْتِنْقَاذِهِمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ 3725 - وَلَوْ كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ لِاسْتِنْقَاذِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَهُنَاكَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ وَيُقَاتِلُوا عَنْ ذَرَارِيِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، كَمَا يُقَاتِلُونَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا حَالُ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا كَحَالِ الْمُوَادِعِينَ 3726 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ وَادَعَ أَهْلَ بَلْدَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِ مَالٍ، ثُمَّ قَصَدَهُمْ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِظُلْمٍ فَعَلَى الْإِمَامِ دَفْعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ. وَلَوْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْفَعَ ظُلْمَهُمْ عَنْهُمْ فَبِهِ يَتَّضِحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُوَادَعِينَ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا فِي فَصْلٍ وَهُوَ أَنَّهُ: 3727 - لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُوَادَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ فِي دَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1856 الْمُوَادَعَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَلَوْ قَتَلَ الْمُسْتَأْمَنُ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْمُوَادَعَةِ مَا لَزِمُوا شَيْئًا مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ وَادَعُونَا عَلَى أَلَّا تُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا، فَكَانَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ عَلَى حَالِهَا، وَالْقَتْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ، فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُونَ فَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ يَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا دَامُوا فِي دَارِنَا فِيمَا فِيهِ حَقُّ الْعِبَادِ، وَالْقِصَاصُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ 3728 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُمْ مَنَعَةٌ دَخَلُوا دَارَنَا بِأَمَانٍ فَشَرَطُوا عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَهُمْ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الذِّمَّةِ فَعَلَيْنَا الْوَفَاءُ لَهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ، حَتَّى إذَا أَغَارَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْحَرْبِ فَعَلَيْنَا الْقِيَامُ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِسَبَبِ الْأَمَانِ الْتِزَامٌ بِالشَّرْطِ، فَيُنْظَرُ إلَى الشَّرْطِ كَيْفَ كَانَ 3729 - وَكَذَلِكَ لَوْ وَادَعُونَا عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ بِهَذَا الشَّرْطِ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفِيَ لَهُمْ بِالْمَشْرُوطِ عَلَيْهِمْ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1857 لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ الْحِمَايَةِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ حِمَايَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ، كَمَا لَا يَأْخُذُ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ الزَّكَاةَ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ حِمَايَتِهِمْ بِأَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْبَغْيِ 3730 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُونَ فِي دَارِنَا قَوْمًا لَا مَنَعَةَ لَهُمْ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ مِنْ الظُّلْمِ مَا يَدْفَعُهُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، حَتَّى إذَا ظَهَرَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ رَدُّوهُمْ أَحْرَارًا، وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَوَجَدُوا ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يَأْخُذُونَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحُرِّيَّةُ الْمُتَأَكِّدَةُ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا تُنْتَقَضُ بِالْقَهْرِ 3731 - وَكَذَلِكَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ عَنْهُ، وَفِي الْأَوَّلِ هُمْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ بِمَنَعَتِهِمْ لَا بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ، وَإِنْ كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنَّا فَلَمْ تَكُنْ حُرِّيَّتُهُمْ مُتَأَكِّدَةً بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمْ مَا بَيَّنَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1858 3732 - وَلَوْ أَنَّ الَّذِينَ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَرُّوا بِهِمْ عَلَى مَنَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِمْ وَتَخْلِيصُهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ، كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1859 [بَابُ دُخُولِ الْإِمَامِ دَارَ الْحَرْبِ مَعَ الْعَسْكَرِ] ِ إذَا دَخَلَ مَعَهُ عَسْكَرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ 3733 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ دَخَلَ دَارِ الْحَرْبِ مَعَ الْعَسْكَرِ فَدَخَلَ مَعَهُ عَسْكَرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ مَنْعَةٌ بِأَمَانٍ، فَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَيْهِمْ نُصْرَتُهُمْ، إلَّا أَنْ يَشَاءُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَمَانِ الْمُطْلَقِ الْتَزَمُوا تَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَمَا الْتَزَمُوا الدَّفْعَ عَنْهُمْ 3734 - وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقِتَالِ مَعَهُمْ أَوْ التِّجَارَةِ أَوْ لِمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى فَعَلَيْهِمْ نُصْرَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالدُّخُولِ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِ الْقِيَامُ بِنُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ إذَا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ وَعَلَى هَذَا قَالَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا أَخَذَهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ فَأَحْرَزُوهُمْ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا فَيْئًا وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي كَانُوا أَحْرَارًا عَلَى حَالِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1860 3735 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَزُوا مَتَاعَهُمْ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَإِنْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ كَانُوا عَبِيدًا لَهُمْ فِي الْفَصْلَيْنِ. وَهَذَا مُشْكِلٌ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ كَانُوا أَحْرَارًا كَمَا بَيَّنَّا، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إذَا أَسْلَمَ الَّذِينَ أَخَذُوهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا أَيْضًا، كَمَا لَوْ أَسَرُوا الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلَ الذِّمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمُوا، وَلَكِنَّ الْجَوَابَ أَنْ نَقُولَ: هَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْتِزَامِ الْإِمَامِ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَفِي حَقِّ مَنْ كَانَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ حِينَ الْتَزَمَ، وَاَلَّذِينَ أَسْلَمُوا مَا كَانُوا تَحْتَ وِلَايَتِهِ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ مَلَكُوهُمْ بِالْإِحْرَازِ فَإِذَا أَسْلَمُوا كَانُوا عَبِيدًا لَهُمْ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» 3736 - وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ الْإِمَامُ بِالدُّخُولِ وَلَكِنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَدْخُلُوا لِيَتَّجِرُوا مَعَ الْعَسْكَرِ فَحَالُهُمْ كَحَالِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَالْإِمَامُ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ لَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا نُصْرَتَهُمْ، كَمَا لَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْأَمَانِ 3737 - وَاَلَّذِي دَخَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَلَيْهِ أَلَّا يَغْدِرَ بِهِمْ، وَأَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْوَفَاءَ لَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَفُونَ لَهُ، بِخِلَافِ الْأَسِيرِ فِيهِمْ ثُمَّ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْمَنِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ أَوْ يَأْخُذَ مَالُهُمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ الْأَسِيرَ بِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1861 لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ فِعْلُ الْآمِرِ. 3738 - وَإِنْ كَانَ (هَذَا) الْمُسْتَأْمَنُ مُفْتِيًا فَاسْتَفْتَاهُ الْأَسِيرُ أَيَحِلُّ لِي أَنْ أَقْتُلَهُمْ وَآخُذَ مَالَهُمْ؟ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْإِفْتَاءِ بَيَانَ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَهُوَ بِعَقْدِ الْأَمَانِ مَا الْتَزَمَ الِامْتِنَاعَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى - أَنَّ الْمُحْرِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الصَّيْدَ، وَلَا أَنْ يَأْمُرَ بِهِ الْحَلَالَ ثُمَّ لَوْ كَانَ مُفْتِيًا فَاسْتَفْتَاهُ حَلَالٌ أَيَحِلُّ لِي قَتْلُ الصَّيْدِ مُطْلَقًا؟ كَانَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِذَلِكَ. فَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِفْتَاءَ لَيْسَ بِأَمْرٍ. 3739 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَادَعُوا الْمُسْلِمِينَ بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ كُلَّ سَنَةٍ، عَلَى أَلَّا يُجْرِيَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُمْ، وَعَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَسَبَوْا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُمْ الْمُسْلِمُونَ بَعْد ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِنْقَاذُ فِي سِنِي الْمُوَادَعَةِ رَدُّوهُمْ أَحْرَارًا كَمَا كَانُوا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ سِنِي الْمُوَادَعَةِ كَانُوا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا نُصْرَتَهُمْ فِي سِنِي الْمُوَادَعَةِ لَا بَعْدَهَا، وَعَلَيْهِمْ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمُوا خَاصَّةً 3740 - وَعَلَى هَذَا لَوْ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ثُمَّ وَقَعَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1862 فِي الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ سِنِي الْمُوَادَعَةِ لَمْ يَجِبْ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي سِنِي الْمُوَادَعَةِ فَإِنْ وَجَدُوهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ فِي سِنِي الْمُوَادَعَةِ أَوْ بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْتِزَامِ الْأَمَانِ بِالْمُوَادَعَةِ لَمْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ، إذَا لَمْ يَكُونُوا تَحْتَ وِلَايَتِهِ يَوْمئِذٍ - ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرْنَا لَوْ أَنَّ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ فِي سِنِي الْمُوَادَعَةِ وَعَجَزَ الْإِمَامُ عَنْ نُصْرَتِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الْخَرَاجِ الْمَشْرُوطِ، وَلَوْ كَانَ أَخَذَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا أَعْطَوْهُ، إلَّا إنْ اسْتَنْقَذَ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهمْ فِي سِنِي الْمُوَادَعَةِ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ الَّذِينَ قَهَرُوهُمْ فَعَلَى الْإِمَامِ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ أَيْضًا، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الْخَرَاجَ عَلَى النُّصْرَةِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ النُّصْرَةِ حِسًّا أَوْ حُكْمًا كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1863 [بَابُ الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْمَنُ فِيهِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ] بَابُ بَيَانِ الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْمَنُ فِيهِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ وَالْوَقْتِ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الرُّجُوعِ 3742 - قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ فِي الْمُقَامِ، وَالزَّوْجَ لَا يَكُونُ تَابِعًا لِامْرَأَتِهِ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمُسْتَأْمَنَةُ فِي دَارِنَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا صَارَتْ ذِمِّيَّةً، لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَتِهِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ صَارَ الزَّوْجُ ذِمِّيًّا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا مُسْتَقِرٌّ بَعْدَ إسْلَامِهِ 3743 - بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ فَالنِّكَاحُ هَا هُنَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَبِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ هَا هُنَا بِمُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَصِرْ ذِمِّيَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1864 لِأَنَّهَا لَوْ صَارَتْ ذِمِّيَّةً لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِإِبَاءِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا لَوْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ فِي الِابْتِدَاءِ. 3744 - وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَ مُسْتَأْمَنٌ مُسْتَأْمَنَةً فِي دَارِنَا ثُمَّ صَارَ الرَّجُلُ ذِمِّيًّا كَانَتْ ذِمِّيَّةً مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي بَاشَرَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ دُونَ نِكَاحٍ بَاشَرَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ تَبِعَهُ صَاحِبُهُ بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ، فَلَمْ تَتَبَايَنْ بِهِمَا الدَّارُ حُكْمًا 3745 - وَإِنْ دَخَلَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِأَمَانٍ فَهَذَا وَمَا لَوْ دَخَلَا مَعًا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعِ سَوَاءٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، إلَّا أَنَّهَا إنْ طَالَبَتْهُ بِالصَّدَاقِ فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ حَتَّى يُوَفِّيَهَا مَهْرَهَا، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مَعْرُوفٍ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَا يُطَالَبُ بِمُوجِبِ الْمُعَامَلَةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِمُوجِبِ الْمُعَامَلَةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَوُجُوبُ الصَّدَاقِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِذَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1865 أَصْلُ الْعَقْدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمُوجِبِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْمَنٌ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْعَقْدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمُوجِبِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَحْبِسَهُ لِأَجْلِهِ 3746 - وَلَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ، وَهِيَ كِتَابِيَّةٌ، ثُمَّ أَنْكَرَتْ أَصْلَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، فَأَقَامَ الزَّوْجُ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَصْلِ النِّكَاحِ، أَوْ عَلَى إقْرَارِهَا بِهِ، فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى هَذِهِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَأْمَنَةٌ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَبِاعْتِبَارِ النِّكَاحِ تَصِيرُ ذِمِّيَّةً، فَهَذِهِ بَيِّنَةٌ تَقُومُ عَلَى مُسْتَأْمَنَةٍ، لِمُعَامَلَةٍ كَانَتْ بِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْقَاضِي لَا يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَإِنْ قِيلَ: الشُّهُودُ يَشْهَدُونَ عَلَيْهَا أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ ذِمِّيَّةً لِكَوْنِهَا تَحْتَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْحُكْمِ، قُلْنَا: هَذَا الْحُكْمُ إنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا بِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لِلْقَضَاءِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلشَّيْءِ فَثُبُوتُهُ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُشْتَرِي لِلْجَارِيَةِ إذَا ادَّعَى عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهَا مَنْكُوحَةُ فُلَانٍ الْغَائِبِ، وَأَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِيَقْضِيَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي مِنْهُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ، قَبْلَ حُضُورِ الزَّوْجِ لِهَذَا الْمَعْنَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1866 3747 - . وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالنِّكَاحِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبِلَ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ، وَمَنَعَهَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّتْ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِإِقْرَارٍ كَانَ مِنْهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَلَّا يَقْبَلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ أَيْضًا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُلْزِمَ هُوَ الْعَقْدُ لَا الْإِقْرَارُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى مُسْلِمٌ عَلَيْهَا دَيْنًا بِسَبَبِ مُعَامَلَةٍ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا أَقَرَّتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِالْمُعَامَلَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ النِّكَاحَ مُسْتَدَامٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِدَامَتِهِ كَالنَّفَقَةِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِقْرَارُهَا بِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْمُعَامَلَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ. بِخِلَافِ الْمُدَايِنَةِ. أَلَا تَرَى - أَنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَقَامَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهَا بِالنِّكَاحِ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالزَّوْجِ الثَّانِي، أَلَم يَكُنْ الْقَاضِي يُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي؟ أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي خَاصَمَتْ فِي النَّفَقَةِ أَوْ زَعَمَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَمَا كَانَ الْقَاضِي يَقْبَلُ مِنْهَا هَذِهِ الْبَيِّنَةَ؟ هَذَا كُلُّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِهِ لِلْفِقْهِ الَّذِي بَيَّنَّا 3748 - وَإِذَا أَطَالَ الْمُسْتَأْمَنُ الْمُقَامِ فِي دَارِنَا يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ الْإِمَامُ فِي الْخُرُوجِ، وَيُوَقِّتُ لَهُ فِي ذَلِكَ وَقْتًا، وَلَا يُرْهِقُهُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1867 لِأَنَّهُ نَاظِرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَكَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ إطَالَةِ الْمُقَامِ بِغَيْرِ خَرَاجٍ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُرْهِقْهُ فِي التَّوْقِيتِ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُسْتَأْمَنِ 3749 - فَإِنْ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ أَوْ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ فَزَرْعهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِيهَا خَرَاجٌ أَوْ عُشْرٌ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ - وَأَخَذَ مِنْهُ خَرَاجَ رَأْسِهِ أَيْضًا وَإِنَّمَا تُبْنَى هَذِهِ الْفُصُولُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّ عِنْدَهُ إذَا اشْتَرَى الْكَافِرُ أَرْضًا عُشْرِيَّةً بَقِيَتْ عُشْرِيَّةً عَلَى حَالِهَا، ثُمَّ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِاعْتِبَارِ مَا بَاشَرَ مِنْ الصُّنْعِ، وَهُوَ شِرَاءُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَإِنَّهُ دَلَالَةُ الرِّضَاءِ بِالْتِزَامِ الْخَرَاجِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْإِرْثِ وَالشِّرَاءِ سَوَاءٌ، وَفِي الْمِيرَاثِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى، وَلَكِنْ إنَّمَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ خَرَاجُ أَرْضِهِ بِأَنْ زَرَعَهَا أَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الزِّرَاعَةِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ شِرَاءِ الْأَرْضِ، قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ خَرَاجَ الرَّأْسِ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِخَرَاجِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ وِلَايَةَ الْمَنِّ لِلْإِمَامِ بَعْدَ فَتْحِ الْبَلْدَةِ عَنْوَةً بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ خَرَاجِ الْأَرْضِ، لَا بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ خَرَاجِ الرَّأْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَدَامٍ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ بِمَوْتِهِ وَإِسْلَامِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَصْلَ خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَثُبُوتُ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ، فَإِذَا لَزِمَهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ لَزِمَهُ خَرَاجُ الرَّأْسِ تَبَعًا، فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا وَأَقَامَ حَتَّى زَرَعَهَا فَأَخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجَ كَانَ ذِمِّيًّا أَيْضًا، وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّ الْخَرَاجَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْآجِرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ، وَذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ الْخَرَاجِ، بِمَنْزِلَةِ الْعُشْرِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَالْعُشْرِ، فَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَدَرَاهِمُ فِي ذِمَّةِ الْآجِرِ، تَجِبُ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1868 قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَأَقَامَ حَتَّى زَرَعَهَا وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ هَا هُنَا، فَإِنَّ الْعُشْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ كُلّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَئُونَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، فَكَمَا أَنَّ بِوُجُوبِ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا فَكَذَلِكَ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ عَلَيْهِ قُلْنَا يَصِير ذِمِّيًّا 3750 - وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ رَقِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَسْلَمُوا أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِمْ، وَلَمْ يُتْرَكْ يَخْرُجُ بِهِمْ؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي هَذَا لَا يَكُونُ فَوْقَ حَالِ الذِّمِّيِّ، وَلَا يَصِيرُ هُوَ ذِمِّيًّا بِإِسْلَامِهِمْ، لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْمَمْلُوكِ فِي الْمَقَامِ، كَمَا لَا يَكُونُ الزَّوْجُ تَبَعًا لِامْرَأَتِهِ. فَإِنْ قَالُوا نَصِيرُ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تَصِيرَ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ بِدُونِ الزَّوْجِ، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْفَعَةُ الْخَرَاجِ، إذْ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ كَمَا لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْمَرْأَةَ حُرَّةٌ تَسْتَبِدُّ بِمُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ، فَتَصِحُّ مِنْهَا مُبَاشَرَةُ عَقْدِ الذِّمَّةِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ عَقْدِ الذِّمَّةِ، لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْمُرَاضَاةَ قَالَ 3751 - وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ مَعَ امْرَأَتِهِ دَارَنَا بِأَمَانٍ، وَمَعَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَالصِّغَارُ مِنْ الْأَوْلَادِ صَارُوا مُسْلِمِينَ تَبَعًا لِلَّذِي أَسْلَمَ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْكِبَارُ مِنْهُمْ لَا يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى دَارِ الْحَرْبِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إنَاثًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1869 لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ يَنْتَهِي بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ، وَلَا يَكُونُ لِلْوَالِدَيْنِ مَنْعُهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا لَا يَكُونُ لَهُمَا مَنْعُ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ مِنْ ذَلِكَ 3752 - وَلَوْ صَارَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا كَانَ الصِّغَارُ مِنْ الْأَوْلَادِ تَبَعًا لَهُ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِيهِ الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَالصَّغِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا تَبَعُ خَيْرِ الْوَالِدَيْنِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ فَتَنَصَّرَ أَحَدُهُمَا كَانَ الصَّغِيرُ نَصْرَانِيًّا، يُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ تَبَعًا لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا قَبِلَ أَحَدُهُمَا الذِّمَّةَ كَانَ الصَّغِيرُ ذِمِّيًّا تَبَعًا لَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَبِلَتْ الذِّمَّةَ أَوْ الرَّجُلُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَارْتَدَّ الزَّوْجُ وَلَحِقَ بِالصَّغِيرِ دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَ لَمْ يَكُنْ فَيْئًا، وَجُعِلَ حُرًّا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِاعْتِبَارِ حَالِ أُمِّهِ، فَهَذَا قِيَاسُهُ - 3753 - وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا صَغِيرًا خَرَجَ بِهِ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ بِأَمَانٍ ثُمَّ أَسْلَمَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا فَالْغُلَامُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُسْتَأْنَى بِهِ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ شَاءَ الْتَزَمَ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِينَا؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَالصَّغِيرُ لَا يَتْبَعُ أَخَاهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُ مِنْ أَدْخَلَهُ بِأَمَانٍ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صَيْرُورَتَهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى يُحْكَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلدَّارِ، بِخِلَافِ الصَّغِيرِ إذَا سُبِيَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1870 3754 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ قَالَ: آمِنُونِي عَلَى أَنْ أَصِيرَ ذِمَّةً لَكُمْ أَنَا وَهَذَا الْغُلَامُ، فَآمَنُوهُ عَلَى ذَلِكَ صَارَا ذِمِّيَّيْنِ؛ لِأَنَّ لِمَنْ أَخْرَجَهُ وِلَايَةُ حِفْظِهِ، فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ عَقْدِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَحْضِ الْمَنْفَعَةِ لِلصَّغِيرِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ فِي ذَلِكَ 3755 - ، وَلَوْ أَنَّ جَدَّ الصَّبِيِّ أَبٌ أَبِيهِ أَدْخَلَهُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ أَبُ الصَّغِيرِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّهِ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّهِ، كَمَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْأَبِ، وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْجَدُّ الْأَبَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ، حُكْمِ الْإِسْلَامِ - وَحُكْمِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَحُكْمِ الْوَصِيَّةِ لِأَقْرِبَاءِ فُلَانٍ وَحُكْمِ جَرِّ الْوَلَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْجَدُّ كَالْأَبِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا، وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ الصَّغِيرَ لَوْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ الْأَدْنَى لَصَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ الْأَعْلَى، فَيُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ حُكْمِ الرِّدَّةِ لِكُلِّ كَافِرٍ، لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَنُوحٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. 3756 - فَإِنْ خَرَجَ بِالصَّغِيرِ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْتَأْمَنًا بَعْدَ إسْلَامِ الْجَدِّ، أَوْ خَرَجَ بِهِ أَخُوهُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَلَيْسَ لِلْجَدِّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْمُخَالَفَةِ فِي الدِّينِ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلِلْأَخِ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَمَا جَاءَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1871 3757 - وَلَوْ جَاءَ أَخُوهُ لِيَأْخُذَهُ فَيَرُدَّهُ، وَأَبُوهُ حَيٌّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَخِ مَعَ قِيَامِ الْأَبِ. 3758 - وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ عَمُّهُ لِيَأْخُذَهُ وَأَخُوهُ حَيٌّ، فَالْعَمُّ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ مَعَ الْأَخِ، وَلَوْ خَرَجَتْ أُمُّهُ لِتَأْخُذَهُ، وَأَبُوهُ حَيٌّ أَوْ قَدْ مَاتَ، وَلَهُ أَخٌ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ أُمِّهِ كَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مَا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْهَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ تَرُدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ 3759 - فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَمَا لَمْ تَحِضْ كَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ بِحَضَانَتِهَا، فَلَهَا أَنْ تَرُدَّهَا، وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ قَدْ اسْتَغْنَى فَلَيْسَ لِأُمِّهِ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَالْأَخُ أَحَقُّ بِهِ إذَا كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَضَانَةِ تَنْتَهِي فِي حَقِّ الْغُلَامِ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ وَحْدَهُ 3760 - وَكَذَلِكَ إنْ حَاضَتْ الْجَارِيَةُ فَلَيْسَ لِلْأُمِّ أَنْ تَرْجِعَ بِهَا، وَلَكِنْ الرَّأْيُ إلَيْهَا إنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ وَإِنْ شَاءَتْ صَارَتْ ذِمِّيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ قَدْ تَزَوَّجَتْ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِالصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ كَانَ لَهَا بِنَاءً عَلَى حَقِّ الْحَضَانَةِ وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ بَعْدَمَا تَزَوَّجَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1872 3761 - وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْأُمُّ أَوْ صَارَتْ ذِمِّيَّةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَقْرِبَاءِ الصَّغِيرِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ صَارَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا تَبَعًا لَهَا، فَبِوُجُودِ الزَّوْجِ لَهَا لَا يَنْقَطِعُ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ إذَا سُبُوا جَمِيعًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْهُمَا مَمْلُوكًا لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الصَّغِيرِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ، إذَا كَانَتْ الْأُمُّ ذَاتَ زَوْجٍ 3762 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَخَلُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ حَرْبٍ أُخْرَى لِيَكُونُوا مَعَهُمْ، يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُمَكِّنُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ بِالْأَمَانِ الْتَزَمُوا تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَتَمْكِينَهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِهِمْ، فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ حَقُّ الْمَنْعِ مِمَّا يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا بِأَسْلِحَةٍ مِنْ دَارِهِمْ فَأَرَادُوا إدْخَالَ ذَلِكَ دَارَ حَرْبٍ أُخْرَى لِلْبَيْعِ فِيهَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ الرُّجُوعِ بِهِمْ إلَى دَارِهِمْ، فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُقَاتِلَةِ؛ لِأَنَّ آلَةَ الْقِتَالِ فِي مَعْنَى الضَّرَرِ دُونَ الْمُقَاتِلِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْأَسْلِحَةِ قَدْ يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَعِزُّ وُجُودُهُ فِي دَارِ حَرْبٍ أُخْرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1873 فَإِذَا حُمِلَ مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ حَتَّى صَارَ مَوْجُودًا فِي الدَّارَيْنِ يَقْوَى الْفَرِيقَانِ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعُوا بِهِ إلَى دَارِهِمْ 3763 - وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ حَرْبٍ أُخْرَى لِلتِّجَارَةِ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا تَزْدَادُ قُوَّةُ أَهْلِ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى قِتَالِنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا أَهْل مَنْعَةٍ 3764 - وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي دَارِ حَرْبٍ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ، لِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بِتَبَايُنِ الدَّارِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهِمْ عَمُّهُمْ بِأَمَانٍ صَارُوا مُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي دَارِنَا بِأَمَانٍ، وَلَهُمْ أَبٌ مُسْلِمٌ فِينَا، فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ أَسْلَمَ وَهُمْ مَعَهُ سَوَاءً، وَلَيْسَ لِلَّذِي خَرَجَ بِهِمْ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا صَارُوا مُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلَمْ يَبْقَ لِلَّذِي أَخْرَجَهُمْ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ 3765 - وَلَوْ كَانَ وَالِدُهُمْ الَّذِي أَسْلَمَ مَاتَ ثُمَّ خَرَجَ الْعَمُّ بِهِمْ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ مَيِّتًا حِين خَرَجَ بِهِمْ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ لَا يَلْزَمُهُمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ، فَإِنْ قِيلَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1874 أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي دَارِنَا ثُمَّ إنَّ الْآخَرَ لَحِقَ بِالصَّغِيرِ دَارَ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا فَسُبِيَ لَمْ يَكُنْ فَيْئًا، وَجُعِلَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا تَبَعًا لِلْأَبِ الْمَيِّتِ فِي دَارِنَا، فَلِمَاذَا لَا يُجْعَلُ كَذَلِكَ هَا هُنَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الصَّغِيرَ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ هُنَاكَ تَبَعًا لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَيَبْقَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَا هُنَا مَا كَانَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ تَبَعًا لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَوْتِهِ تَبَعًا لَهُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ حُكْمًا إذَا كَانَ يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ حُكْمًا 3766 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ رَجُلًا لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَأَخْرَجَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ عَبِيدُهُ قَاهِرًا لَهُمْ وَصَارَ ذِمَّةً لَنَا، فَإِنْ كَانَ أَبُوهُمْ حَيًّا مُسْلِمًا عِنْدَنَا أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لَهُمْ بِالْإِحْرَازِ، وَلَكِنَّهُمْ صَارُوا مُسْلِمِينَ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ، فَيُجْبَرُ الذِّمِّيُّ عَلَى بَيْعِهِمْ 3767 - وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا حِينَ أَخْرَجَهُمْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ شَاءَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَارَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ ذِمِّيًّا فِينَا وَالصَّغِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ ذِمِّيًّا تَبَعًا لَهُ، كَمَا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ، فَإِنْ خَرَجَ بِالصَّغِيرِ عَمُّهُ لِزِيَارَةِ أَبِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إذَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1875 لِأَنَّ الصَّغِيرَ صَارَ ذِمِّيًّا تَبَعًا لَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مَعَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا فَصَارَ كِتَابِيًّا ثُمَّ خَرَجَ الْعَمُّ، بِالصَّغِيرِ كَانَ الصَّغِيرُ كِتَابِيًّا تَبَعًا لِأَبِيهِ، فَكَذَلِكَ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا تَبَعًا لِأَبِيهِ هَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ يَكُونُ فِي حُكْمِ الدِّينِ، فَأَمَّا فِي حُكْمِ الْمُقَامِ فِي الدَّارِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الصَّغِيرُ مَعَهُ حِينَ صَارَ ذِمِّيًّا فَقَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ قَائِمَةً، فَصَارَ الصَّغِيرُ ذِمِّيًّا تَبَعًا لَهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حِينَ صَارَ هُوَ ذِمِّيًّا فَقَدْ كَانَ هُوَ مِنْهُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ الصَّبِيُّ ذِمِّيًّا تَبَعًا لَهُ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأُمَّ لَوْ أَسْلَمَتْ ثُمَّ خَرَجَ الْأَبُ بِالصَّغِيرِ إلَيْهَا صَارَ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَوْ صَارَتْ الْأُمُّ ذِمِّيَّةً ثُمَّ خَرَجَ الْأَبُ بِالصَّغِيرِ بِأَمَانٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ مَا بَيَّنَّا مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ فِي التَّبَعِيَّةِ فِي الدَّارِ دُونَ الدَّيْنِ 3768 - قَالَ: وَلَوْ خَرَجَ الْأَبَوَانِ إلَيْنَا ذِمِّيَّيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ الْعَمُّ بِالصَّغِيرِ لِزِيَارَةِ الْأَبَوَيْنِ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَيْهِ هَا هُنَا، حِينَ صَارُوا ذِمِّيَّيْنِ، فَكَانَا فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الصَّغِيرُ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَدَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لِزِيَارَةِ أَبَوَيْهِ الذِّمِّيَّيْنِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1876 الْحَرْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ هُنَاكَ يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِلْمُسْلِمِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فِي حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ كَاَلَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، فَقَدْ نَصَّ هَا هُنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا وَيُمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ 3769 - وَلَوْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ إنَّمَا اسْتَأْمَنَ لِيَلْحَقَ بِأَبَوَيْهِ وَهُمَا ذِمِّيَّانِ كَانَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِهِ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَاءِ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبَوَيْهِ، وَهُمَا ذِمِّيَّانِ فَكَانَ هَذَا وَاسْتِئْمَانُهُ لِيَكُونَ ذِمِّيًّا سَوَاءً، وَهَذَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِحَالِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمَا صَارَا ذِمِّيَّيْنِ لَمْ يَكُنْ ذِمِّيًّا، لِأَنَّ دَلَالَةَ الرِّضَاءِ مِنْهُ لَا تَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِصَيْرُورَتِهِمَا ذِمِّيَّيْنِ 3770 - قَالَ: وَلَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ، فَإِنْ خَرَجَ إلَيْنَا وَخَلَّفَهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ عَلَى حَالِهِمْ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ يَكُونُ بَاقِيًا، مَا لَمْ يُوجَدْ الدَّلِيلُ الْمُزِيلُ، فَإِنَّ الْبَقَاءَ لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلًا مُبْقِيًا، إنَّمَا إثْبَاتُ الشَّيْءِ ابْتِدَاءً يَسْتَدْعِي دَلِيلًا مُثْبِتًا 3771 - وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ وَلَكِنَّهُ بَعَثَ إلَى الْإِمَامِ إنِّي ذِمَّةٌ لَكُمْ، أُقِيمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَبَعَثَ بِالْخَرَاجِ كُلَّ سَنَةٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1877 وَوَلَدُهُ الصَّغِيرُ يَكُونُ ذِمِّيًّا بِمَنْزِلَتِهِ لِقِيَامِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ حِينَ صَارَ ذِمِّيًّا، فَإِنْ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَخَلَّفَ وَلَدَهُ ثُمَّ اسْتَأْمَنَ عَلَيْهِمْ مُسْتَأْمَنًا فَأَخْرَجَهُمْ قَاهِرًا لَهُمْ أَوْ غَيْرَ قَاهِرٍ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَكَانَ الْأَبُ أَحَقَّ بِهِمْ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بَقَاءَ الشَّيْءِ لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلًا مُبْقِيًا، وَقَدْ كَانَ الْوَلَدُ ذِمِّيًّا فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا إلَّا بِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَالذِّمِّيُّ لَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ، فَلِهَذَا كَانَ الْأَبُ أَحَقَّ بِوَلَدِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا 3772 - ، وَلَوْ أَنَّ الْأَبَ حِينَ أَسْلَمَ فِينَا رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَكَانَ مَعَ الصِّغَارِ مِنْ أَوْلَادِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ كَانُوا مُسْلِمِينَ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ صَارَ ذِمِّيًّا ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ مَعَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ مَا لَوْ كَانَ مَعَهُمْ حِينَ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا، فَإِنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ 3773 - قَالَ: وَإِنْ وَادَعَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ تِلْكَ الدَّارِ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ لِيَأْخُذَ أَوْلَادَهُ فَمَنَعُوهُ لَمْ يَكُنِ الْأَوْلَادُ مُعَاهَدِينَ وَلَا ذِمَّةً بِأَبِيهِمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ بِهَذَا الدُّخُولِ، فَإِنَّ الْمُوَادَعِينَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ وِلَايَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1878 عَلَيْهِمْ، فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ لَمْ يَدْخُلْ إلَيْهِمْ سَوَاءً، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَحُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَ بِدَارِ أَحْكَامٍ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ تَمَكُّنُهُ مِنْ أَخْذِهِمْ، حِسًّا، وَذَلِكَ يُوجَدُ إذَا لَمْ يَحُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَيَنْعَدِمُ إذَا حَالُوا، وَهَا هُنَا قَدْ حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوْلَادِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1879 [بَابُ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] ِ 3774 - وَلَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ اشْتَرَى مِنْ حَرْبِيٍّ عَبْدًا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ فِي ذَلِكَ فِي الرَّدِّ، وَلَا فِي الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، بَعْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُسْلِمُ أَوْ الْحَرْبِيُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ خِيَانَةٌ وَتَدْلِيسٌ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ 3775 - إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الَّذِي بَاعَ فَإِنَّهُ يُفْتَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَطْلُبَ رِضَاءَ خَصْمِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ هُوَ الَّذِي بَاعَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ - وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مَالًا مِنْ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَاسْتَهْلَكَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ، أَوْ أَوْدَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مَالًا فَأَنْفَقَهُ، وَهُنَاكَ إنْ كَانَ بِجِنَايَةٍ فَإِنَّهُ يُفْتَى بِطَلَبِ رِضَاءِ الْخَصْمِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ غَدَرَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ خَاصَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1880 3776 - وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا حُكْمَ الْإِسْلَامِ، حِينَ اكْتَسَبَ سَبَبَ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ أَقَامَ أَحَدُ الْمَمْلُوكِينَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ بَعْدَ إسْلَامِ الْحَرْبِيِّ، أَوْ اسْتَحَقَّهُ مُسْلِمٌ لِإِقَامَتِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ مُدَبَّرُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ، فَإِنَّ الْآخَرَ لَا يُجْبَرُ عَلَى رَدِّ الْمَمْلُوكِ الَّذِي قَبَضَهُ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ الْآخَرُ هُوَ الْمُسْلِمُ فِي الْأَصْلِ يُفْتَى بِالرَّدِّ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَرْبِيُّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ الْمُسْلِمُ بَعْدَمَا أُفْتِيَ بِهِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهُ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرُوا ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَرَادَ بَيْعَ الْمُشْتَرَى بَعْدَ الْقَبْضِ، يُكْرَهُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا يَنْفُذُ فِيهِ بَيْعُهُ وَعِتْقُهُ، لِأَنَّهُ مِلْكٌ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبٍ حَرَامٍ شَرْعًا 3777 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي عَامَلَهُمْ بِهَذَا مُسْلِمًا؛ كَانَ أَسِيرًا فِيهِمْ أَوْ كَانَ أَسْلَمَ فِيهِمْ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَانٌ خَاصٌّ وَلَا عَامٌّ حَتَّى يَكُونَ هَذَا غَدْرًا مِنْهُ 3778 - وَلَوْ كَانَتْ الْمُبَايَعَةُ بَيْنَ مُسْتَأْمَنٍ فِيهِمْ وَحَرْبِيٍّ مِنْهُمْ، بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَلِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ، وَيَرُدَّ مَا أَخَذَ وَيَأْخُذَ مَا أَعْطَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1881 لِأَنَّ حَالَهُمَا بَعْدَ إسْلَامِهِ كَحَالِهِمَا قَبْلَهُ، وَمَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ، كَمَا يَنْفَرِدُ بِالْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى قَضَاءٍ أَوْ رِضَاءٍ، فَكَمَا أَنَّ إجَارَتَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ يُجْعَلُ كَإِجَارَتِهِ قَبْلَ إسْلَامِهِ، فَكَذَلِكَ فَسْخُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُمَا خِيَارُ رُؤْيَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ بِحُكْمِ هَذَا الْخِيَارِ، مِنْ غَيْرِ رِضَاءٍ أَوْ قَضَاءٍ وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ بِالْمُشْتَرَى عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ الْمُشْتَرِي يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ، لِانْعِدَامِ تَمَامِ الصَّفْقَةِ 3779 - ثُمَّ بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ قَدْ بَقِيَ مِلْكُ أَحَدِهِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ كَانَ سَلَّمَهُ إلَيْهِ طَوْعًا، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْدَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ الْوَدِيعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ إلَّا بِرِضَاءٍ أَوْ قَضَاءٍ، لِتَمَامِ الصَّفْقَةِ بِالْقَبْضِ، وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ هَا هُنَا بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْخِيَانَةَ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ إسْلَامِ الْحَرْبِيِّ 3780 - وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ الْحَرْبِيُّ وَلَكِنْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، ثُمَّ اخْتَصَمَا فِيمَا جَرَى بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ نَقْضِ بَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1882 لِأَنَّ هَذِهِ مُعَامَلَةٌ جَرَتْ بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْحَرْبِيُّ مَا الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا حِينَ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَفِي مِثْلِهِ الْقَاضِي لَا يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مُطْلَقًا 3781 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ الْحَرْبِيَّيْنِ، ثُمَّ دَخَلَا إلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَخَاصَمَ فِيهِ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي خُصُومَتَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَا أَوْ صَارَا ذِمَّةً، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَقْرَضَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مَالًا أَوْ دَابَّةً ثُمَّ خَرَجَا إلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمَا، فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَا أَوْ صَارَا ذِمَّةً، إلَّا أَنَّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ فِيمَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ حَرْبِيَّيْنِ لَا يُفْتَى الْخَائِنُ مِنْهُمَا بِطَلَبِ رِضَاءِ الْخَصْمِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ أُفْتِيَ الْمُسْلِمُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِأَنْ يُرْضِيَ خَصْمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ غَدَرَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ 3782 - قَالَ: وَلَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَامَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1883 أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَهَذَا وَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ، وَمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، لِبَقَاءِ الْإِحْرَازِ فِيهِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، فَلِهَذَا كَانَ حَالُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحَالِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فِي كُلِّ مُعَامَلَةٍ تَجْرِي بَيْنَهُمَا، إلَّا فِي خِصَالٍ ثَلَاثٍ؛ إنْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَاتِلِ قِصَاصٌ، لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ بِكَوْنِهِمَا فِي دَارِ الْإِبَاحَةِ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ عَادَةً، وَالْقَاتِلُ لَيْسَ فِي يَدِ الْإِمَامِ لِنُعِينَهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ 3783 - وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً لِأَنَّ التَّعَاقُلَ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ، وَلَا تَنَاصُرَ بَيْنَ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ إنْ ارْتَكَبَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُلْتَزِمًا الْحَدَّ، فَأَمَّا فِيمَا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ حَالُ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحَالِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَفِي الْأَسِيرَيْنِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ هَا هُنَا، وَحَالُ الْأَسِيرَيْنِ عِنْدَهُ كَحَالِ حَرْبِيَّيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ 3784 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1884 وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَ أَحَدُهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ فَفِي اللَّذَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ آثِمًا فِي الِاسْتِهْلَاكِ، وَفِي الْمُسْتَأْمَنِ هُوَ ضَامِنٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي الْأَسِيرَيْنِ خِلَاف كَمَا بَيَّنَّا وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِالْإِحْرَازِ وَالتَّقَوُّمِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالدَّارِ لَا بِالدِّينِ، فَالْعِصْمَةُ بِسَبَبِ الدِّينِ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ، وَتَمَامُ الْإِحْرَازِ يَكُونُ بِمَا يَظْهَرُ حِسًّا فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالدَّارِ، فَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا 3785 - قَالَ: وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَالًا، وَلَمْ يَسْتَهْلِكْهُ حَتَّى خَرَجَا إلَيْنَا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى الْغَاصِبِ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ، سَوَاءٌ كَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ أَوْ أَسِيرَيْنِ أَوْ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فِي يَدِ الْآخَرِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ؛ وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ مِنْهُمَا إنَّمَا أَخَذَ مَالَ صَاحِبِهِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ، وَمَالُ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِ، وَهُوَ نَظِيرُ أَهْلِ الْعَدْلِ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا اقْتَتَلُوا، ثُمَّ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ بَعْدَ مَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَإِذَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَهْلِكُ ضَامِنًا لَهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، فَهَذَا مِثْلُهُ 3786 - ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فِيهِمْ، إذَا غَصَبَ مَالًا مِنْ حَرْبِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ، وَوَجَدَ مَالَهُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1885 فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرَهُ عَلَى الرَّدِّ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنْ يُفْتِيهِ بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى وَرُدَّ مَا أَخَذْت؛ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ هُنَاكَ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ حِينَ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ، لَكِنْ كَانَ عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ عَنْ الْغَدْرِ لِلْأَمَانِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَإِنَّمَا غَدَرَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ خَاصَّةً، فَلِهَذَا يَأْمُرُهُ بِالرَّدِّ عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى، وَلَا يَجْبُرُهُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ 3787 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ بَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ مُسْتَأْمَنٍ عَبْدًا أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ خَرَجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمُشْتَرَى عَيْبًا، أَوْ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِجِزْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى صَاحِبِهِ بِرَدِّ الثَّمَنِ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا فِي الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا تَبَايَعَا عَرَضًا بِعَرَضٍ فَاسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا وَالْعَرَضُ الْآخَرُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِرَدِّهِ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا لَمْ يُضَمِّنْ الْمُسْتَهْلِكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ مَرَّتْ بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَدْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ يَوْمَئِذٍ 3788 - إلَّا أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ مَالُهُ مَعْصُومًا فِي الْآثَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ، فَقُلْنَا: فِيمَا إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، الْقَاضِي يَقْضِي بِالرَّدِّ، وَفِيمَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا لَا يَقْضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1886 بِشَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ تَبَايَعَا بَعْدَ مَا أَسْلَمَا، قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْهُمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْآخَرِ أَيْضًا، لِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ شَرْعًا 3789 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا مِنْهُمْ بِقِيمَتِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُبَايَعَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِيهِمْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِمْ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَيْهِ يَبْنِي أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، حُكْمَ عَقْدِ الرِّبَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ. وَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَالْمُعَامَلَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ حُكْمَ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ، 3790 - فَإِنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ وَأَعْطَى الْقِيمَةَ، ثُمَّ خَرَجَ الْحَرْبِيُّ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا نَقْضَ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا تَقَابَضَا بِالتَّرَاضِي عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ، فَتَمَّ الْمِلْكُ فِي الْبَيْعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ التَّعَاطِي، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْبَيْعِ فَاسِدًا 3791 - ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا قَبَضَ الْمَمْلُوكَ، وَلَمْ يَدْفَعْ الْقِيمَةَ حَتَّى أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِرَدِّ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْبَائِعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1887 لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَا انْتَهَتْ هَا هُنَا بِالتَّقَابُضِ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا أَخَذَ الْعَبْدَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبَهُ ثَمَنَهُ، وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لِلْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ فِي الْقِيمَةِ، فَكَانَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنْهُ. 3792 - وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُعَامَلَةِ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْمُسْتَأْمَنُ مَا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا 3793 - بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِأَرْطَالٍ مِنْ خَمْرٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْقُضُ شَيْئًا مِنْ بَيْعِهِمَا؛ لِانْتِهَاءِ الْمُعَامَلَةِ بِالتَّقَابُضِ، وَتَمَامُ الْمِلْكِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ 3794 - وَإِنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ، وَلَمْ يُعْطِ صَاحِبَهُ الْخَمْرَ حَتَّى أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُضُ الْبَيْعَ، وَيَرُدُّ الْعَبْدَ إلَى الْبَائِعِ؛ لِقِيَامِ حُكْمِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمَا، وَعَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بَعْدَ إسْلَامِ الْحَرْبِيِّ مِنْهُمَا، وَالْإِجَارَةُ قِيَاسُ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ حَتَّى إذَا اسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَهْرًا لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ أَوْ بِخَمْرٍ، فَإِنْ عَمِلَ لَهُ ذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ قَبْلَ إيفَاءِ الْأَجْرِ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرَ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ فِيمَا عَمِلَهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَا تَقَابَضَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1888 لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ شَيْءٌ، لِلْفِقْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ اسْتَهْلَكَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الْمُشْتَرَى لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنًا، وَلَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ وَالْخِيَانَةِ، فَلِهَذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ، وَقَبَضَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُعْطِهِ مَا شَرَطَ لَهُ حَتَّى أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ، فَإِنَّ الْمُشْتَرَى يُسَلِّمُ لِلْقَابِضِ مِنْهُمَا، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ عَيْنِهِ وَلَا قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا بَيْنَهُمَا، فَالْبَيْعُ يَسْتَدْعِي الْمَالِيَّةَ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَالْمَيْتَةُ لَيْسَ فِيهَا شُبْهَةُ الْمَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا مَلَّكَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مَالًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَكَانَ هَذَا وَالْمَوْهُوبُ سَوَاءً فِي الْحُكْمِ 3795 - وَلَوْ كَانَتْ الْمُبَايَعَةُ بَيْنَ مُسْلِمٍ مُسْتَأْمَنٍ فِيهِمْ وَبَيْنَ رَجُلٍ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُضُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَيَكُونُ حَالُهُمَا فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيمَا يَجِبُ فِيهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُهُمَا كَحَالِ مَا لَوْ جَرَتْ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ، بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الرِّبَا إذَا جَرَى بَيْنَ هَذَيْنِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا جَرَى بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1889 3796 - وَلَوْ جَرَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ الْحَرْبِيَّيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ صَارَا ذِمَّةً كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا جَرَى بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ؛ لِأَنَّهُمَا مَا كَانَا مُلْتَزِمَيْنِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، حِينَ جَرَتْ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمَا 3797 - قَالَ: وَلَوْ دَخَلَ عَسْكَرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَارَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ دَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ بِأَمَانٍ، فَعَامَلَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ حِينَ عَامَلَهُمْ سَوَاءً؛ لِأَنَّ الْعَسْكَرَ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنْعَةٍ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ لَا يَجْرِي فِي مُعَسْكَرِهِمْ، كَمَا لَا يَجْرِي فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَبِنَاءُ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ عَلَى الْحُكْمِ فِيمَا إذَا كَانَ [الْحُكْمُ] حُكْمَ الْكُفْرِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَرَتْ الْمُعَامَلَةُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ الْمُعَامَلَةِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ جَرَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ فِي الْمُعَسْكَرِ فَإِنَّ حُكْمَهَا وَحُكْمَ مَا لَوْ جَرَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي الْمُعَسْكَرِ عَمْدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جَرَيَانُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا فِي حُكْمِ الْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُعَامَلَاتِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1890 [بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُمْ] 173 - بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُمْ، وَمَا لَا يَكُونُ فَيْئًا إذَا أُخِذَ مِنْ دَارِنَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا 3798 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، دَخَلُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَأَغَارَ أَهْلُ دَارِ حَرْبٍ أُخْرَى عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَصَابُوا أُولَئِكَ الْمُسْتَأْمَنِينَ فَأَحْرَزُوهُمْ بِدَارِهِمْ، وَاسْتَبْعَدُوهُمْ، ثُمَّ ظَفَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَعَلَيْهِمْ تَخْلِيَةُ سَبِيلِ الْمُسْتَأْمَنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ سُبُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانُوا فِي حُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ حِينَ سُبُوا، وَالْحُرِّيَّةُ لَا تَبْطُلُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبْيِ. 3799 - ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِينَا إذَا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَحَالُهُمْ كَحَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي وُجُوبِ نُصْرَتِهِمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُهُمْ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَهَرُوهُمْ، مَا لَمْ يَدْخُلُوا حُصُونَهُمْ وَمَدَائِنَهُمْ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَيْضًا وُجُوبُ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إذَا أَصَبْنَاهُمْ، فَهَلْ رَأَيْت قَوْمًا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُمْ، وَإِذَا أَخَذُوهُمْ كَانُوا فَيْئًا لَهُمْ هَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1891 وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَأْمَنِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ دَخَلُوا إلَيْنَا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَادَعَةَ تُوجِبُ الْأَمَانَ لَهُمْ فِي دَارِنَا، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي وُجُوبِ نُصْرَتِهِمْ. 3800 - وَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، فَيَكُونُوا أَحْرَارًا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُسْبَوْا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُدَّةُ الْمُوَادَعَةِ قَائِمَةً أَوْ قَدْ انْقَضَتْ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ كَانُوا فِي دَارِنَا بِأَمَانٍ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ فَحَالُهُمْ كَحَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي وُجُوبِ نُصْرَتِهِمْ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ لَا يَمْلِكُونَهُمْ بِالسَّبْيِ لِتَأَكُّدِ حُرِّيَّتِهِمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِذَا أَسْلَمُوا كَانَ عَلَيْهِمْ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُسْلِمُوا، وَلَكِنْ دَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ بِأَمَانٍ، فَاشْتَرَاهُمْ بِمَالٍ أَوْ فَدَاهُمْ، كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ فَدَى الْحُرُّ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ الْأَسِيرَ بِمَالِهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءً، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ خَرَجُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَمَعَهُمْ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْأُسَرَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ مِنْهُ مَجَّانًا؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ فِي حَبْسِهِمْ، وَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ إذْ لَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَى الظُّلْمِ، بِحَبْسِ الْحُرِّ الْمَأْسُورِ. 3801 - وَلَوْ كَانَ فِي الْمُسْتَأْمَنِينَ الْمَأْسُورِينَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1892 وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَمْ يُجْبَرْ الْمُسْتَأْمَنُ الَّذِي أَسَرَهُ عَلَى بَيْعِهِ، إذَا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَهُوَ مَعَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالْإِحْرَازِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا. 3802 - إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ لَا يُقَرُّ فِي مِلْكِ الْحَرْبِيِّ، فَكَانَ مُجْبَرًا عَلَى بَيْعِهِ لِذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعَبْدُ حَرْبِيًّا فَالْحَرْبِيُّ يُقَرُّ فِي مِلْكِ الْحَرْبِيِّ، وَقَدْ تَمَّ مِلْكُهُ بِالْإِحْرَازِ؛ فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّهُ إنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِيَعُودَ كَمَا كَانَ، وَهَا هُنَا كَانَ حَرْبِيًّا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ، وَلَوْ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَاعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَا يَعُودُ حَرْبِيًّا كَمَا كَانَ، فَهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ. 3803 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْمُوَادَعِينَ لَمْ يَخْرُجُوا إلَيْنَا حَتَّى أَغَارَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ دَارِ حَرْبٍ أُخْرَى فِي دَارِهِمْ فَأَسَرُوا مَعَهُمْ أَسِيرًا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَاسْتَنْقَذُوهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ، كَانُوا عَبِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا أَصَابُوهُمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ دَارَ الْمُوَادَعِينَ دَارُ الْحَرْبِ، لَا يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُوَادَعَةٌ، فَتَمَّ إحْرَازُ الْقَاهِرِينَ لَهُمْ، ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا مَمَالِيكَ لِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فِي دَارِنَا بِأَمَانٍ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ حَرْبٍ آخَرُونَ وَأَحْرَزُوهُمْ، كَانُوا مَمَالِيكَ لَهُمْ، فَإِذَا كَانُوا فِي دَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1893 الْمُوَادَعَةِ وَمَنَعَةِ أَنْفُسِهِمْ حِينَ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّا إنَّمَا الْتَزَمْنَا لِلْمُوَادَعِينَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، لَا أَنْ نَنْصُرَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بَعْضُهُمْ دَارَنَا بِحُكْمِ الْمُوَادَعَةِ. لِأَنَّ الدَّاخِلِينَ لَمَّا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَقَدْ الْتَزَمْنَا نُصْرَتَهُمْ بِالْأَمَانِ الثَّابِتِ لَهُمْ فِي دَارِنَا حُكْمًا. 3804 - وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ أَغَارُوا عَلَى الْمُوَادَعِينَ قَوْمًا مِنْ الْخَوَارِجِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ، رَدُّوهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ أَحْرَارًا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. أَمَّا إذَا أَغَارُوا عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ، وَأَمَّا إذَا أَغَارُوا عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ فَلِأَنَّا قَدْ الْتَزَمْنَا لَهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ تَرْكَ التَّعَرُّضِ وَأَلَّا يَظْلِمَهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَوَارِجُ مِنْهُمْ، فَكَانَ عَلَى إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ دَفْعُ ظُلْمِهِمْ عَنْ الْمُوَادَعِينَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُمْ، كَمَا عَلَيْهِ دَفْعُ ظُلْمِ أَهْلِ الْعَدْلِ عَنْهُمْ، إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ دَفْعُ ظُلْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْمُوَادَعَةِ، لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ ذَلِكَ لَهُمْ. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ أَمَانَ الْخَوَارِجِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَكَذَلِكَ أَمَانُ أَهْلِ الْعَدْلِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ، عَمَلًا «بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» . وَإِذَا ظَهَرَ حُكْمُ أَمَانِهِمْ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ لَمْ يَمْلِكُوهُمْ بِالْأَسْرِ فَلِهَذَا وَجَبَ رَدَّهُمْ أَحْرَارًا كَمَا كَانُوا. 3805 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1894 قَالَ: وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ فَأَسَرَ عَبْدَهُ أَهْلُ حَرْبٍ آخَرُونَ وَأَحْرَزُوهُ، ثُمَّ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَمَوْلَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ قَدْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَالُهُ كَحَالِ الذِّمِّيِّ مَا دَامَ مُسْتَأْمَنًا فِينَا فِي نَفْسِهِ إذَا صَارَ مَقْهُورًا، فَكَذَلِكَ فِي مَالِهِ إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ يَعُمُّ الْمَالَ وَالنَّفْسَ، ثُمَّ إنَّمَا يَنْتَهِي حُكْمُ الْأَمَانِ بِرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَفِيمَا يَرُدُّهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَأَمَّا فِيمَا لَمْ يَرُدَّهُ فَحُكْمُ الْأَمَانِ قَائِمٌ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَلَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ مَعَهُ. لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ ثَابِتٌ فِيهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّا قَدْ الْتَزَمْنَا تَبْلِيغَهُ مَأْمَنَهُ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ حِينَ أَحْرَزَهُ أَهْلُ حَرْبٍ آخَرُونَ؛ وَلِهَذَا إذَا وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى مَوْلَاهُ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ. 3806 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعِينَ دَخَلَ إلَيْنَا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ وَحْدَهُ، أَوْ مَعَ مَوْلَاهُ، ثُمَّ أَسَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ آمِنًا فِينَا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ، فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَالْمُسْتَأْمَنِ فِينَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1895 3807 - وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْقَاهِرِينَ - بِأَمَانٍ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُمْ كَانَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ. لِأَنَّهُ الْآنَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ، وَقَدْ أُصِيبَ مِنْ دَارِنَا، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَرْفِ الَّذِي قُلْنَا: أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَهُوَ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا عَلَى بَيْعِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِأَمَانٍ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَالْحُكْمُ سَوَاءٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1896 [بَابُ مَوَارِيثِ الْقَتْلَى إذَا لَمْ يُدْرَ أَيُّهُمْ قُتِلَ أَوَّلًا] 3808 - وَإِذَا قُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ذَوِي الْقَرَابَةِ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمْ قُتِلَ أَوَّلًا فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَكِنَّ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ حَدَثَا، وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا حَدَثَا مَعًا لِفِقْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحَالُ بِالْحَادِثِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّ التَّارِيخَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ، ثُمَّ شَرْطُ التَّوْرِيثِ بَقَاءُ الْوَارِثِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ، فَمَا لَمْ يُعْلَمْ هَذَا الشَّرْطُ يَقِينًا لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ لَا يُجْعَلُ وَارِثًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَفْقُودَ لَا يَرِثُ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ حَيَاتُهُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرَّثِ. 3809 - وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قَالَ: أَمَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، بِتَوْرِيثِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَوَرَّثْت الْأَحْيَاءَ الْأَمْوَاتَ وَلَمْ أُوَرِّثْ الْأَمْوَاتَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا. قَالَ: وَأَمَرَنِي عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِتَوْرِيثِ أَهْلِ طَاعُونِ عَمَوَاسَ، كَانَتْ الْقَبِيلَةُ تَمُوتُ بِأَسْرِهَا فَوَرَّثْتُ الْأَحْيَاءَ الْأَمْوَاتَ وَلَمْ أُوَرِّثْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1897 الْأَمْوَاتَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، قَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: وَأَنَا وَرَّثْت أَهْلَ الْحَرَّةَ، فَوَرَّثْتُ الْأَحْيَاءَ الْأَمْوَاتَ وَلَمْ أُوَرِّثْ الْأَمْوَاتَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا. وَذَكَرَ آثَارًا فِي الْكِتَابِ بِالْإِسْنَادِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، لِإِثْبَاتِ الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا. قَالَ: 3810 - وَكُلُّ نَسَبٍ ادَّعَاهُ السَّبْيُ إذَا تَصَادَقُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِقَوْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ مَا خَلَا الْأُبُوَّةَ وَالْبُنُوَّةَ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ النَّسَبِ، فَحِينَئِذٍ يَجْرِي التَّوَارُثُ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ فِي الدَّعْوَى أَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: بِالْأَبِ، وَالِابْنِ، وَالزَّوْجَةِ، وَالْمَوْلَى، وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ نَفَرٍ: بِالْأَبِ، وَالزَّوْجِ، وَالْمَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا بِالِابْنِ، لِأَنَّهَا تَحْمِلُ نَسَبَهُ عَلَى غَيْرِهَا، وَهُوَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقَرَابَاتِ لَا يَصِحُّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْمُقِرَّ إنَّمَا يَحْمِلُ النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً سُبِيَتْ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ حَامِلَتَهُ، وَكَانَتْ تَقُولُ: ابْنِي، فَأُعْتِقَا وَكَبِرَ الْغُلَامُ فَمَاتَ وَتَرَكَ مَالًا، فَقِيلَ لَهَا: خُذِي مِيرَاثَك فَتَحَرَّجَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: لَمْ يَكُنْ ابْنِي إنَّمَا كَانَ ابْنُ دِهْقَانِ الْقَرْيَةِ، وَكُنْت ظِئْرًا لَهُ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَكَتَبَ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى أَلَّا يُوَرَّثَ الْحَمِيلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ الْحَمِيلَ مَحْمُولُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1898 فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَوْ حَامِلٌ نَسَبَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ. 3811 - وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقُسِّمَ مِيرَاثُهُ عَلَى غَيْرِ قِسْمَةِ مِيرَاثِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ أُعْطِيَ الذُّكُورُ مِنْ الْأَوْلَادِ دُونَ الْإِنَاثِ، أَوْ الْوَلَدُ دُونَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ دُونَ الزَّوْجَةِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ، فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ عَلَى مَا صَنَعُوا، وَلَوْ لَمْ يَقْسِمُوا حَتَّى أَسْلَمُوا فَإِنَّمَا يُقَسَّمُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْإِسْلَامِ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ يَلْزَمُهُمْ فِي تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ مَا بَاشَرُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَامَلَةِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «أَيُّمَا مِيرَاثٍ اُقْتُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْإِسْلَامِ» . يَعْنِي مَا أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ بِأَنْ أَسْلَمَ الْمُسْتَحِقُّونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. 3812 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَسَمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مَوَارِيثَهُمْ عَلَى غَيْرِ قِسْمَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ اخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُبْطِلُ قِسْمَتَهُمْ، وَيُقَسِّمُ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ عَلَى قِسْمَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ قَدْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، فَكَانَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا مَا صَارَ مُسْتَثْنًى، لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ كَالتَّصَرُّفِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1899 الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ مَا كَانُوا مُلْتَزِمِينَ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا، فَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا. 3813 - وَلَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَإِنْ دَخَلُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَتَبَايُنُ الدَّارِ تَأْثِيرُهُ فِي قَطْعِ الْعِصْمَةِ وَالْوِلَايَةِ فَوْقَ تَأْثِيرِ تَبَايُنِ الدِّينِ، فَكَمَا لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ الدَّارَيْنِ. وَعَلَى هَذَا أَهْلُ الْحَرْبِ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، إذَا كَانُوا أَهْلَ دُورٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اخْتِلَافِ الدَّارِ فِيهِمْ بِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ، فَإِنَّ دَارَهُمْ لَيْسَتْ بِدَارِ أَحْكَامٍ حَتَّى يَجْمَعَهُمْ حُكْمٌ بِخِلَافِ دَارِ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا إذَا صَارُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِالْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ فَلِهَذَا جَرَى التَّوَارُثُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1900 [بَابُ الْأَسِيرِ وَالْمَفْقُودِ وَمَا يُصْنَعُ بِمَالِهِمَا] 3814 - قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَشَاكِلِ هَذَا الْبَابِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ فِي كِتَابِ الْمَفْقُودِ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُهَا هُنَا مَا لَمْ نُبَيِّنْهُ ثَمَّةَ فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ امْرَأَةَ الْأَسِيرِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهَا ارْتِدَادُ زَوْجِهَا إلَى دِينِ الْكُفْرِ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَتَزَوَّجَتْ. وَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهَا مَوْتُهُ اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ فِي الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّ بَعْدَ مَا أُسِرَ وَفُقِدَ كَحَالِهِ إذَا كَانَ مَعَهَا إلَى أَنْ ارْتَدَّ أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ الْأَسْرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي قَطْعِ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّ مَوْتَ الزَّوْجِ يَثْبُتُ عِنْدَهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ عَدْلًا، فَأَمَّا رِدَّةُ الزَّوْجِ لَا تَثْبُتُ عِنْدَهَا إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ سِوَى بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَقَالَ: يَثْبُتُ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ عَدْلًا، لِأَنَّهُ يُخْبِرُهَا بِأَمْرٍ دِينِيٍّ فَإِنَّ حِلَّ التَّزَوُّجِ وَحُرْمَتَهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ رِدَّةَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الزَّوْجِ تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نُفَرِّقُ فَنَقُولُ: إنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ يَتَعَلَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ، فَكَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1901 حُكْمُهُ أَغْلَظَ مِنْ حُكْمِ رِدَّةِ الْمَرْأَةِ، فَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، إلَّا أَنَّهَا تَثْبُتُ الْآنَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقَضَاءُ بِقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ؛ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا بِحَجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي قَضَى بِقِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا بِهِ عِنْدَهَا، قُلْنَا: يَكُونُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، 3815 - فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمًا وَقَالَ: قَدْ كَذَبَتْ عَلَيَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إسْلَامِهِ ابْتِدَاءً، فَلَا تَرُدُّ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَلَوْ شَهِدَ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ بِرِدَّتِهِ عِنْدَ قَوْمٍ، ثُمَّ غَابَا أَوْ مَاتَا، فَلَيْسَ يَسَعُ أُولَئِكَ الْقَوْمُ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشْهِدَاهُمْ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، فَإِنْ أَشْهَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى شَهَادَتِهِمَا، كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ. فَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ بِمَوْتِهِ مُسْلِمٌ عَدْلٌ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَسَعُهَا أَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ حَقٌّ يُطْلَبُ الرَّجُلُ بِهِ، بِخِلَافِ الرِّدَّةِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا يُعْتَمَدُ إذَا قَالَ عَايَنْتُهُ مَيِّتًا، أَوْ شَهِدْتُ جِنَازَتَهُ. 3816 - فَأَمَّا إذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ مُخْبِرٌ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ قَوْمًا عَنْ مُعَايَنَةٍ يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1902 عَلَى مَوْتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي، إلَّا أَنَّهُمْ إذَا بَيَّنُوا لِلْقَاضِي أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمْ، كَمَا لَوْ جَاءَ ذَلِكَ الْمُخْبِرُ فَأَخْبَرَ الْقَاضِيَ بِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ يَجُوزُ، وَلَكِنْ إذَا أَخْبَرَ الْقَاضِيَ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالْمِلْكِ لَهُ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي يَدِهِ لَمْ يَعْتَمِدْ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ، وَاَلَّذِي يُخْبِرُ عَنْ مَوْتِهِ مُعَايَنَةً إنَّمَا يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِأَنْ كَانَ أَحَدَ وَرَثَتِهِ أَوْ مُوصَى لَهُ بِمَالٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ، فَإِنَّهُ يَجُرُّ بِذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا، فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي خَبَرِهِ كَالْفَاسِقِ. ثُمَّ الْقَاضِي يَقْضِي لِامْرَأَةِ الْأَسِيرِ وَالْمَفْقُودِ بِالنَّفَقَةِ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ النِّكَاحُ مَعْلُومًا لَهُ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً. وَكَذَلِكَ يَقْضِي بِنَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ وَالْوَلَدِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ بِالنِّكَاحِ لَا يَعْتَمِدُ الْمُوَافَقَةَ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ الْوِلَادُ بِالنَّصِّ. فَإِنْ اسْتَوْفُوا النَّفَقَةَ زَمَانًا، ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى قَتْلِ الْأَسِيرِ أَوْ الْمَفْقُودِ قَبْلَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ - يُضَمِّنُهُمْ مَا أَخَذُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1903 لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْسِبَ ذَلِكَ مِنْ مِيرَاثِهِمْ؛ إذْ لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ فَلِهَذَا ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ إنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى رِدَّةِ الْأَسِيرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ النَّفَقَةِ. لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَوْتِهِ فِي حُكْمِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ. 3817 - فَإِنْ قَالَتْ الزَّوْجَةُ حَاسِبُونِي بِمَا أَخَذْتُ مِنْ نَفَقَتِي لِعِدَّتِي لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَوْجِبُ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا كَمَوْتِهِ. 3818 - وَإِذَا كَانَ لِلْأَسِيرِ مَالُ وَدِيعَةٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ هُوَ مُقِرٌّ بِهِ، وَمَالُ دَيْنٍ عَلَى إنْسَانٍ هُوَ مُقِرٌّ بِهِ، فَإِنَّمَا يَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ لِزَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ وَوَالِدَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ دُونَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ، إنْ قَالَ مَنْ فِي يَدِهِ: ضَاعَتْ، صَدَقَ، وَالدَّيْنُ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ، فَكَانَ النَّظَرُ لِلْأَسِيرِ فِي أَنْ يَجْعَلَ النَّفَقَةَ فِي الْوَدِيعَةِ وَيَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِ الْمَدِينِ حَتَّى يَأْمَنَ فَوَاتَ الدَّيْنِ بِجُحُودِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1904 3819 - وَإِنْ رَأَى أَنْ يَأْخُذَ الْوَدِيعَةَ مِنْ يَدِ مَنْ فِي يَدِهِ، وَأَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدَيْ نَفْسِهِ وَيَأْمُرَ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ الدَّيْنِ الْغَرِيمَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ لَا يُصَدَّقُ الْمَدِينُ، فِيمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَنْفَقَ مِنْ الدَّيْنِ، إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُودَعِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَنْفَقَ مِنْ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَدِينَ إنَّمَا يُنْفِقُ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَضْمُونًا لَهُ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، ثُمَّ يَصِيرَ قِصَاصًا، وَهُوَ لَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ، فَأَمَّا الْمُودَعُ أَمِينٌ يُنْفِقُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِأَمْرِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْقَاضِي، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَدِينَ لَوْ ادَّعَى قَضَاءَ الدَّيْنِ لَمْ يَصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَالْمُودَعُ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ كَانَ مُصَدَّقًا مَعَ الْيَمِينِ. 3820 - فَإِنْ جَاءَ الْأَسِيرُ بَعْدَ مَا أَنْفَقَ الْغَرِيمُ أَوْ الْمُودَعُ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَجَحَدَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَحَلَفَ الْأَسِيرُ مَا هِيَ لَهُ بِامْرَأَةٍ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الِاسْتِحْلَافَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1905 فِي بَابِ النِّكَاحِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَرِيمِ وَالْمُودَعِ بِمَا لَهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَمْرِ لِلْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ كَانَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ، نَظَرًا مِنْهُ لِلْغَائِبِ، وَلَمْ يُثْبِتْ النِّكَاحَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْفَقَ مِلْكَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرٍ صَحِيحٍ شَرْعًا، فَصَارَ ضَامِنًا لَهُ ذَلِكَ، وَيَرْجِعُ بِمَا يَضْمَنُ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، فَكَانَ ضَامِنًا لِلْمَأْخُوذِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُنْفِقُ مُعْسِرًا فَأَرَادَ الْأَسِيرُ تَضْمِينَ الْمَرْأَةِ مَالَهُ فَلَهُ ذَلِكَ فِي الْوَدِيعَةِ دُونَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ عَيْنَ مَالِهِ مِنْ الْمُودَعِ، وَأَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا، فَكَانَتْ ضَامِنَةً لَهُ، وَإِنَّمَا أَخَذَتْ مِنْ الْمَدِينِ مَالَ الْمَدِينِ. 3821 - فَأَمَّا دَيْنُ الْأَسِيرِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى تَضْمِينِ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْغَرِيمُ بِمَا لَهُ، وَفِي الْوَدِيعَةِ إذَا اخْتَارَ الْأَسِيرُ تَضْمِينَهَا ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ وَتَضْمِينَ الْمُودَعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَبَعْدَ مَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ، وَيَضْمَنَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا يَكُونُ إبْرَاءً مِنْهُ لِلْآخَرِ. 3822 - وَلَوْ كَانَ الْأَسِيرُ لَمْ يَجْحَدْ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ وَلَكِنَّهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1906 أَوْ كَانَ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ، فَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْغَرِيمِ وَالْمُودَعِ فِيمَا أَنْفَقَا بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِمَا أَخَذَتْ. لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِهِمَا بِأَصْلِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُمَا لَوْ أَنْكَرَا ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُمَا الْقَاضِي بِإِنْفَاقِ شَيْءٍ عَلَيْهَا، وَقَدْ ظَهَرَ الْآنَ أَنَّهُمَا كَذَبَا فِيمَا أَقَرَّا بِهِ عَلَى الْأَسِيرِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ. وَهَا هُنَا لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُمَا فِيمَا أَقَرَّا بِهِ مِنْ أَصْلِ النِّكَاحِ. وَإِنَّمَا أَثْبَتَ الزَّوْجُ عَارِضًا مُسْقِطًا لِلنَّفَقَةِ عَنْهُ، وَهُوَ نَظِيرُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْقَتْلِ خَطَأً إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَاسْتَوْفَى، ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا كَانَا ضَامِنَيْنِ لِلْمَالِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ الْمَجْرُوحُ عَفَا عَنْ الْجِرَاحَةِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَى الشُّهُودِ ضَمَانٌ فِي ذَلِكَ فَهَذَا قِيَاسُهُ. 3823 - فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ أَوْ الْمُسْتَوْدَعُ قَالَ: إنِّي قَدْ شَهِدْت نِكَاحَهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا، وَلَسْت أَدْرِي أَطَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّ مَا عُرِفَ بِثُبُوتِهِ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يُوجَدَ الدَّلِيلُ الْمُزِيلُ. 3824 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هِيَ امْرَأَتُهُ لِلْحَالِ، فَإِنْ أَقَامَ الْأَسِيرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْغَرِيمِ وَالْمُسْتَوْدَعُ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1907 أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، فَيَقُولُ إنَّهُمَا قَدْ كَذَبَا فِي إقْرَارِهِمَا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لِلْحَالِ، فَأَنَا أُضَمِّنُهُمَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِأَصْلِ النِّكَاحِ سَوَاءٌ هِيَ امْرَأَتُهُ فِي الْحَالِ أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا حَالُهَا الْآنَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ، وَمَا لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَالشَّهَادَةُ بِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ كَانَا فِي أَصْلِ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ صَادِقَيْنِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا، وَهَذَا نَظِيرُ رَجُلٍ مَاتَ فَادَّعَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ، فَوَرَّثَهَا الْقَاضِي مِيرَاثَ النِّسَاءِ، ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي صِحَّتِهِ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ تَضْمِينُ الشُّهُودِ شَيْئًا سَوَاءٌ شَهِدُوا عَلَى أَصْلِ النِّكَاحِ أَوْ شَهِدُوا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ يَوْمَ مَاتَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ شَهَادَتُهُمَا بِأَصْلِ النِّكَاحِ، وَقَدْ كَانَا صَادِقَيْنِ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ. 3825 - وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ وَوَالَى رَجُلًا ثُمَّ مَاتَ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَوْلَاهُ وَوَارِثُهُ، لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالْمِيرَاثِ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ نَاقَضَ الْأَوَّلَ الْوَلَاءَ وَوَالَى هَذَا الثَّانِي، وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ، وَهُوَ مَوْلَاهُ وَوَارِثُهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْعَلُ الْمِيرَاثَ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ لِلثَّانِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الشَّاهِدِينَ الْأَوَّلِينَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ لِلْمَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1908 لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى أَصْلِ الْوَلَاءِ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْمِيرَاثِ لِلْأَوَّلِ، مَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى أَنَّهُ مَوْلَاهُ وَوَارِثُهُ يَوْمَ مَاتَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا كَذَبَا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ فَكَانَا ضَامِنَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ الْفُصُولُ أَنَّهُ مَتَى ظَهَرَ كَذِبُ الشَّاهِدِ فِيمَا كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِ بِعَيْنِهِ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَشْهُودِ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيمَا كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِ بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1909 [بَابُ مِيرَاثِ الْقَاتِلِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ] 3826 - وَإِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَرَمَى مُشْرِكٌ أَخَاهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَا وَارِثَ لِلْمَقْتُولِ غَيْرُ أَخِيهِ فَمِيرَاثُهُ لِأَخِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الَّذِي رَمَى الْمُشْرِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ ثُمَّ مَاتَ. أَمَّا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَقٍّ، وَالْقَتْلُ بِحَقٍّ لَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ مُورَثَهُ قِصَاصًا أَوْ رَجْمًا، وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ، وَهُوَ مُحَارِبٌ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ مُلْحَقٌ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فِي الْإِثْمِ. أَلَا تَرَى - أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَوْجِبُ قِصَاصًا وَلَا دِيَةً بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْمُسْلِمُ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا أَهْلُ الْبَغْيِ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَ مُورَثَهُ الْبَاغِيَ لَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ بِحَقٍّ، وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ مُورَثَهُ الْعَادِلَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ كَانَ مُلْحَقًا بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1910 هَا هُنَا: لَا يَرِثُهُ بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْبَاغِيَ مُسْلِمٌ مُخَاطَبٌ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ قَتْلُهُ الْعَادِلَ قَتْلًا مَحْظُورًا، وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ جَزَاءُ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ، فَأَمَّا الْكَافِرُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِهِ. 3827 - لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَكِنْ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، أَصَحُّ، فَإِنَّ الْقَتْلَ الْمَوْجُودَ مِنْ الْبَاغِي كَالْمَوْجُودِ مِنْ الْكَافِرِ، فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، لِوُجُودِ التَّأْوِيلِ وَالْمَنَعَةِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ ثَابِتٌ بِنَصٍّ يُتْلَى، وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ ثَابِتٌ بِخَبَرٍ يُرْوَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَثْبُتُ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ فَهُوَ أَوْلَى. 3828 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ الْأَبُ وَالِابْنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ مِنْ الْمَقْتُولِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْقَتْلِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَسِيرَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ هُنَاكَ لَيْسَ بِتَأْوِيلٍ تَأَوَّلَهُ الْقَاتِلُ بَلْ لِانْعِدَامِ الْإِحْرَازِ الَّذِي هُوَ مُقَوِّمٌ لِلدَّمِ، وَبِهِ لَا يَخْرُجُ الْقَتْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَمَّا هَا هُنَا امْتِنَاعُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ لِاعْتِبَارِ تَأْوِيلٍ تَأَوَّلَهُ الْقَاتِلُ، وَلَمَّا جُعِلَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ. 3829 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1911 وَلَوْ أَنْ قَوْمًا مِنْ اللُّصُوصِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ اقْتَتَلُوا مَعَ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ قَتَلَ الْعَادِلُ مُورَثَهُ مِنْ اللُّصُوصِ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَقٍّ، وَإِنْ قَتَلَ اللِّصُّ مُورَثَهُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَرِثْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ مَحْظُورٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الْقِصَاصُ - إذَا كَانَ عَمْدًا، وَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ إذَا كَانَ خَطَأً 3830 - وَلَوْ كَانَ الْفَرِيقَانِ مِنْ اللُّصُوصِ فَقَصَدَ كُلُّ فَرِيقٍ قَتْلَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ لَمْ يَرِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ إذَا قَتَلَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ مَحْظُورٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ عَمْدًا، وَالْكَفَّارَةُ إذَا كَانَ خَطَأً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَحِرْمَانَ الْمِيرَاثِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءُ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ، فَيَثْبُتُ أَحَدُهُمَا بِثُبُوتِ الْآخَرِ، وَفِي الْأَسِيرِينَ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ الْقَتْلُ مُوجِبٌ الْكَفَّارَةَ إذَا كَانَ خَطَأً، فَيَكُونُ مُوجِبًا حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ أَيْضًا. وَأَمَّا الْقَتْلُ الْمَوْجُودُ مِنْ الْبَاغِي لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ أَيْضًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1912 [بَابُ الْمُرْتَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ] 3831 - قَالَ: وَإِذَا ارْتَدَّ الْأَبُ - مَعَ بَعْضِ أَوْلَادِهِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَرُفِعَ مِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ مِيرَاثَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَيْءَ مِنْ مِيرَاثِهِ لِلَّذِي ارْتَدَّ مِنْ أَوْلَادِهِ لِأَنَّ الْإِرْثَ طَرِيقُهُ الْوِلَايَةُ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَلِي أَحَدًا، فَلَا يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا مِلَّةَ لَهُ، وَفِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ الْمِلَّةُ؛ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ، فَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ أَحَدًا شَيْئًا. 3832 - وَيُورَثُ عَنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ قَضَى بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ قَضَى بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ حُكْمُ مَوْتِهِ إلَى وَقْتِ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ يَصِيرُ هَالِكًا حُكْمًا؛ فَلِهَذَا يَرِثُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ وَرَثَتِهِ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ. وَمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ [الْجَوَابُ فِيهِ، فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: هُوَ فَيْءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1913 لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إسْنَادُ التَّوْرِيثِ فِيهِ إلَى وَقْتِ إسْلَامِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ يَوْمَئِذٍ. 3833 - فَلَوْ قَضَى بِهِ لِوَارِثِهِ كَانَ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ. فَأَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ لِابْنِهِ الَّذِي ارْتَدَّ وَلَحِقَ مَعَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا مَاتَ مُرْتَدًّا. لِأَنَّهُ اكْتَسَبَ ذَلِكَ الْمَالَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. 3834 - فَإِنْ لَحِقَ مَعَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ مِنْ كَسْبِ إسْلَامِهِ، وَلَا يَرِثُهُ شَيْئًا مِمَّا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحَالِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ. 3835 - وَعَلَى هَذَا لَوْ نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَ بَعْضِ أَوْلَادِهِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَ بَعْضِ أَوْلَادِهِ صَارَ حَرْبِيًّا، فَكَانَ الْجَوَابُ فِيهِ وَفِي الْمُسْلِمِ الَّذِي ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ التَّوْرِيثَ كَاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ. 3836 - قَالَ: وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَهُ هَا هُنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، وَأَوْلَادُهُ بَعْضُهُمْ مُسْلِمٌ وَبَعْضُهُمْ ذِمِّيٌّ وَبَعْضُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1914 مُرْتَدٌّ، فَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ امْرَأَتِهِ وَأَسْلَمَ أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ، وَمَاتَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمِيرَاثِهِ لِامْرَأَتِهِ الْمُسْلِمَةِ، الَّتِي انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَلِوَلَدِهِ الَّذِينَ كَانُوا مُسْلِمِينَ يَوْمَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ مِنْ وَلَدِهِ بَعْدَ لَحَاقِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ مِيرَاثِهِ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُعْتَبَرُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ يَوْمَ لَحَاقِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يُعْتَبَرُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ يَوْمَ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّوْرِيثِ يَسْتَنِدُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُعْتَبَرُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ يَوْمَ قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مَحْكُومًا بِمَوْتِهِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، وَالتَّوْرِيثُ يَكُونُ مِنْ الْمَيْتِ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَكَرْنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ السَّبَبِ يَنْعَقِدُ بِرِدَّتِهِ، وَلَكِنَّ تَمَامَهُ يَكُونُ بِلَحَاقِهِ، وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ انْعِقَادِ أَصْلِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ فِي حُكْمِ انْقِسَامِ الثَّمَنِ، فَهَذَا مِثْلُهُ فَأَمَّا مَا يَكُونُ حَادِثًا بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ بِاللِّحَاقِ وَقَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ لَا يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ عَنْ مَالٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ يُسْلِمُ ابْنٌ لَهُ كَافِرٌ، أَوْ يُعْتَقُ ابْنٌ لَهُ كَانَ عَبْدًا، أَوْ يَمُوتُ ابْنٌ لَهُ، ثُمَّ يُؤَدِّي بَدَلَ كِتَابَتِهِ، فَإِنَّ مَا يَفْضُلُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِرْثِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَا مِيرَاثَ لِمَنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا يَوْمَئِذٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1915 بِعِتْقِهِ كَانَ عِنْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي التَّوْرِيثِ إلَى وَقْتِ تَمَامِ السَّبَبِ لَا إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ. 3837 - وَإِنْ لَمْ يَلْتَحِقْ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ امْرَأَتِهِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، ثُمَّ لَحِقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ قُتِلَ، فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ لَحَاقِهِ وَلَا سَبَبَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ كَانَتْ هُنَاكَ فِي عِدَّتِهِ حِينَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَهُوَ بِالرِّدَّةِ صَارَ فِي حُكْمِ الْفَارِّ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ مِنْهُ اكْتِسَابُ سَبَبِ الْفُرْقَةِ، وَهُوَ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ، وَالْعِدَّةُ فِي حَقِّ امْرَأَةِ الْفَارِّ قَائِمَةٌ مَقَامَ أَصْلِ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ. 3838 - قَالَ: وَإِنْ ارْتَدَّا مَعًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا يَتَوَارَثَانِ؛ لِأَنَّهُ يُحَالُ بِالْفُرْقَةِ عَلَى إصْرَارِهَا عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إسْلَامِ الزَّوْجِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُشْرِفَةٍ عَلَى الْهَلَاكِ حَتَّى يَرِثَ الزَّوْجُ مِنْهَا بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ، وَهِيَ لَا تَرِثُهُ إنْ مَاتَ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ كَانَتْ مِنْ قِبَلِهَا. وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فَالْفُرْقَةُ تَكُونُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ أَيْضًا. إلَّا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَهِيَ تَرِثُهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1916 لِأَنَّ إصْرَارَهُ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ إسْلَامِهَا كَإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ مِنْهُ. 3839 - قَالَ: وَإِنْ ارْتَدَّا مَعًا وَلَحِقَا بِابْنٍ صَغِيرٍ لَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ حَامِلًا فَوَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَمِيرَاثُهُمَا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَثَتِهِمَا، وَلَا يَرِثُ هَذَانِ الصَّغِيرَانِ مِنْهُمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ حُكِمَ لَهُمَا بِالرِّدَّةِ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ حِينَ كَانَا مَعَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا يُسْبَيَانِ وَيَكُونَانِ فَيْئًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا. 3883 - وَاسْتُدِلَّ عَلَى جَوَازِ سَبْيِهِمَا بِمَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي نَاجِيَةَ لَمَّا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ سَبَى عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، ذُرِّيَّتَهُمْ، ثُمَّ بَاعَهُمْ مِنْ مَصْقَلَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: وَلَوْ اكْتَسَبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ مَالًا ثُمَّ مَاتَا وَأَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَمِيرَاثُهُمَا لِهَذَيْنِ الْوَالِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا حَرْبِيَّيْنِ حُكْمًا، وَالْحَرْبِيُّ يَرِثُ الْحَرْبِيَّ. 3840 - وَلَوْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِمَا حَتَّى أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ، وَرَجَعَتْ بِوَلَدِهَا الصَّغِيرِ، إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رُفِعَ الْأَمْرُ إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْعَلُ مِيرَاثَ الْمُرْتَدِّ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجْعَلُ لِامْرَأَتِهِ وَلَا لِهَذَيْنِ الْوَلَدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1917 لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ لَحَاقِهِ، وَالْمَرْأَةُ كَانَتْ مُرْتَدَّةً عِنْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِهَا فَإِنَّهُ تَبَعٌ لَهَا، وَالصَّغِيرُ الَّذِي لَحِقَا بِهِ دَارَ الْحَرْبِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ أَيْضًا، فَلِهَذَا لَا يَرِثُونَهُ شَيْئًا مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ. 3841 - وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَامْرَأَتُهُ حُبْلَى فِي دَارِنَا مُسْلِمَةٌ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ ارْتَدَّ الْأَبُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ انْقَطَعَ بَيْنَهُمَا بِالرِّدَّةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَفِي مِثْلِهِ إنَّمَا يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، فَلِهَذَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ أَيْضًا. 3842 - وَإِنْ كَانَتْ ارْتَدَّتْ بَعْدَ رِدَّةِ الزَّوْجِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَيَرِثُهُ هَذَا الْوَلَدُ دُونَ الْمَرْأَةِ. لِأَنَّهَا ارْتَدَّتْ قَبْلَ لَحَاقِهِ، وَقَدْ وُجِدَ اللَّحَاقُ مِنْهُ وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ، فَلَا تَرِثُهُ شَيْئًا. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَهُوَ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلدَّارِ بَعْدَ ارْتِدَادِ الْأَبَوَيْنِ؛ فَلِهَذَا كَانَ هُوَ مِنْ وَرَثَتِهِ. 3843 - وَإِنْ كَانَتْ إنَّمَا ارْتَدَّتْ بَعْدَ مَا لَحِقَ الزَّوْجُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ مِنْ وَرَثَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ رِدَّتَهَا بَعْدَ لَحَاقِ الزَّوْجِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهَا، وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ مِيرَاثَهَا عَنْهُ. 3844 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا تَحْتَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ ارْتَدَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1918 فَبَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ، فَنَسَبُهُ يَثْبُتُ مِنْهُ، وَيَكُونُ هُوَ وَارِثًا لَهُ دُونَ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِرِدَّتِهِ، فَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ، وَظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّةِ أَبِيهِ، فَيَبْقَى مُسْلِمًا مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالْأُمُّ نَصْرَانِيَّةٌ فَهِيَ لَا تَرِثُ الْمُرْتَدَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ عَنْهُ كَالْمُسْلِمِ. 3845 - وَلَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ لَمْ يَرِثْ هَذَا الْوَلَدُ شَيْئًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ عَلِقَتْ بِهِ فِي حَالِ رِدَّةِ الْأَبِ، فَلَمْ يَكُنْ مَحْكُومًا بِالْإِسْلَامِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَصِفَ الْإِسْلَامَ، وَالْكَافِرُ لَا يَرِثُ مِنْ الْمُرْتَدِّ شَيْئًا. 3846 - قَالَ: وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ ارْتَدَّا فَهَذَا الْوَلَدُ مِنْ جُمْلَةِ وَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ قَبْلَ رِدَّتِهِمَا، فَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ. 3847 - وَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ هَا هُنَا بَعْدَ رِدَّتِهِمَا، فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى إذَا مَاتَ فِي صِغَرِهِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْوَقْتُ هَا هُنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُسْنَدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَهُمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1919 3848 - وَإِنْ مَاتَ هَذَا الصَّغِيرُ عَنْ مَالٍ فَلَا مِيرَاثَ لِأَبَوَيْهِ مِنْهُ، لِأَنَّهُمَا مُرْتَدَّانِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ أَحَدًا، وَلَكِنَّ مِيرَاثَهُ لِإِخْوَتِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ حِينَ لَمْ يَرِثَاهُ كَانَا كَمَيِّتَيْنِ 3849 - وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُ أَخَوَيْهِ الْمُسْلِمَيْنِ عَنْ مَالٍ فَلَيْسَ لِلْأَبَوَيْنِ وَلَا لِلصَّغِيرِ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِرِدَّتِهِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ رِدَّةِ الْأَبَوَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ يَرِثُ أَخَاهُ مَعَ إخْوَتِهِ الْمُسْلِمِينَ 3850 - قَالَ: وَلَوْ لَحِقَ الْأَبَوَانِ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ ارْتَدَّا، ثُمَّ مَاتَ الصَّغِيرُ عَنْ مَالٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَمِيرَاثُهُ لِلْأَبَوَيْنِ الْمُرْتَدَّيْنِ دُونَ إخْوَتِهِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ حَرْبِيًّا هُنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَ حَرْبِيًّا مُرْتَدًّا مِثْلَهُمَا، فَإِذَا وَلَدَتْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا، وَأَهْلُ الْحَرْبِ يَتَوَارَثُونَ إذَا كَانُوا أَهْلَ دَارٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْأَبَوَانِ عَنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، فَذَلِكَ مِيرَاثٌ لِلْمَوْلُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ دُونَ إخْوَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1920 (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ كَانَ فَيْئًا، وَكُلُّ مَالٍ فِيهِ عُرْضَةُ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ عُرْضَةُ كَوْنِهِ مِيرَاثًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِأَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَبَوَيْهِ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ أُخْرَى فَلَا شَيْءَ لَهُمَا مِنْ ذَلِكَ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ يَمْنَعُ التَّوْرِيثَ، بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ. 3851 - وَعَلَى هَذَا لَوْ ارْتَدَّ أَهْلُ دَارٍ، وَأَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِي دَارِهِمْ، حَتَّى صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ، ثُمَّ مَاتَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالٍ كَثِيرٍ، فَمِيرَاثُهُ لِوَرَثَتِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي مِثْلِ حَالِهِ. لِأَنَّهُ كَانَ حَرْبِيًّا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الدَّارِ إذَا صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ وَبَيْنَ دَارٍ هِيَ فِي الْأَصْلِ دَارُ حَرْبٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَى هَذَا الْمَالِ كَانَ فَيْئًا، فَلِهَذَا كَانَ مِيرَاثًا لِأَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ وَرَثَتِهِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1921 [بَابُ مَا يُوقَفُ مِنْ أَمْرِ الْمُرْتَدِّينَ وَمَا لَا يُوقَفُ مِنْ ذَلِكَ] 3852 - قَالَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: قَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: مِنْهَا مَا هُوَ نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِيلَادِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُفَاوَضَةِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، يُقَالُ: يَكُونُ مَوْقُوفًا لِتَوَقُّفِ نَفْسِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ نَافِذًا، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الصَّحِيحِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَرِيضِ، حَتَّى يُعْتَبَرَ بِرِعَايَتِهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِوَارِثِهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْ الْمَرِيضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ امْرَأَتَهُ تَرِثُهُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ إذَا مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَالتَّوْرِيثُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْمَرِيضِ. وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ يَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهَا فِي مَالِهَا بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الصَّحِيحَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1922 لِأَنَّهُ مَا تُوقَفُ نَفْسُهَا بِالرِّدَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ كَالْحَرْبِيَّةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ. 3853 - وَإِنْ كَانَ لَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَمْ يُغَرَّمْ شَيْئًا، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ قَاتَلَتْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ قُتِلَتْ 3854 - وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، حَتَّى أَعْتَقَ عَبِيدَهُ الَّذِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بَاعَهُمْ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَانَ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَجَعَ تَائِبًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِمِيرَاثِهِ، وَلَحَاقِهِ، فَمَالُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ كُلُّهُ وَجَمِيعُ مَا صَنَعَ فِيهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ زَالَ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي دُخُولُ الْمَالِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ، فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ بَعْدَ اللَّحَاقِ صَادَفَ مَالًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَلَا يَنْفُذُ، وَإِنْ عَادَ إلَى مِلْكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَالْبَائِعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِلْكِهِ لِفَسْخِ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ. 3855 - وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ اللَّاحِقُ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي عَبْدٍ خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ، أَوْ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ غَصَبْته مِنْهُ، فَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا عَادَ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْشَاءِ تَصَرُّفٍ مِنْهُ، بَلْ هُوَ إقْرَارٌ، وَالْإِقْرَارُ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا، سَوَاءٌ صَادَفَ مَا يَمْلِكُهُ أَوْ مَا لَا يَمْلِكُهُ، إذَا مَلَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ الْغَيْرِ، أَوْ بِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِفُلَانٍ، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1923 اشْتَرَاهُ مِنْ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ كَالْمُجَدَّدِ لَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَهَذَا مِثْلُهُ. 3856 - وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ حَتَّى قَضَى الْقَاضِي بِإِلْحَاقِهِ وَجَعَلَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا فَإِنَّهُ يُعَادُ إلَيْهِ مَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ بِحُرِّيَّتِهِ كَانَ بَيْعُهُ فِيهِ نَافِذًا لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ، وَلَكِنَّهُ مَتَى عَادَ إلَى مِلْكِ الْمُرْتَدِّ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ أُنْفِذَ إقْرَارُهُ السَّابِقُ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلَحَاقِهِ وَقَسَّمَ مَالَهُ أَوْ لَمْ يُقَسِّمْ حَتَّى جَاءَ مُسْلِمًا ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْضُ عَبِيدِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي يُرَدُّ الْمَالُ عَلَيْهِ، كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ صَارَ الْمَالُ مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ أَعْتَقَ هَذَا الْعَبْدَ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِرَدِّ الْمَالِ عَلَيْهِ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلْمُرْتَدِّ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ رُجُوعِ الْمُرْتَدِّ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ، وَبِهَذَا الْفَصْلِ يُسْتَدَلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُرْتَدِّ فِيهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يُعْتَقُ كُلُّهُ بِإِعْتَاقِ الْوَارِثِ إيَّاهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ بِإِعْتَاقِ الْمُرْتَدِّ إيَّاهُ، فَإِنَّ الْعِتْقَ يَسْتَدْعِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْوَاحِدُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ كُلِّهِ مَمْلُوكًا لِزَيْدٍ وَكُلُّهُ مَمْلُوكًا لِعَمْرٍو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1924 3857 - وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِ الْمُرْتَدِّ ثُمَّ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ رُجُوعِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ قُلْنَا: لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ عِتْقُهُ. وَلَوْ بَعَثَ الْمُرْتَدُّ اللَّاحِقُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَكِيلًا لِيَبِيعَ عَبْدًا لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ يُعْتِقَهُ، فَفَعَلَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ جَمِيعَ مَا صَنَعَهُ الْوَكِيلُ، وَيَقْضِي بِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ. لِأَنَّهُ بَعْدَ اللَّحَاقِ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَلَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ أَيْضًا. وَلِأَنَّ وَكِيلَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي التَّصَرُّفِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَوْ تَصَرَّفَ هُوَ بِنَفْسِهِ بَطَلَ تَصَرُّفَهُ، سَوَاءٌ قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ أَوْ رَجَعَ مُسْلِمًا قَبْلَ قَضَائِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَ وَكِيلُهُ كَانَ بَاطِلًا، سَوَاءٌ قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، أَوْ رَجَعَ مُسْلِمًا قَبْلَ قَضَائِهِ. 3858 - وَلَوْ كَانَ وَكَّلَهُ بِذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ أَوْ بَعْدَ مَا ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1925 فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ جُعِلَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ بِلَحَاقِهِ حَتَّى رَجَعَ مُسْلِمًا فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ الْوَكِيلُ مِنْ ذَلِكَ جَائِزٌ. فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ يَقُولُ: الْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ وَلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، وَمَوْتُ الْمُوَكِّلِ مُبْطِلٌ لِلْوَكَالَةِ. وَلِأَنَّهُ حِينَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ صَارَ بِحَالٍ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إنْشَاءُ التَّوْكِيلِ بِهَذَا التَّصَرُّفِ، فَلَا يَبْقَى الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ أَيْضًا. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَّا زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ الْعَبْدِ، وَبَعْدَ صِحَّةِ الْوِكَالَةِ لَا يَبْطُلُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ بَيْعِهِ، ثُمَّ وَهَبَهُ لِإِنْسَانٍ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ، كَانَ الْوَكِيلُ عَلَى وِكَالَتِهِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ زَوَالًا مَوْقُوفًا، فَيَعُودُ إلَيْهِ إذَا جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، فَيَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا لِتَوَقُّفِ مِلْكِهِ 3859 - فَإِنْ قَضَى بِالْمِيرَاثِ لِلْوَرَثَةِ فَقَدْ تَمَّ زَوَالُ الْمِلْكِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ لَمْ يُلَاقِ مِلْكَ الْمُوَكِّلِ، فَكَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ عَادَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي تَقَرَّرَ مِلْكُهُ، وَنَفَذَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَصَرَّفَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1926 الْحَرْبِ، فَهُنَاكَ إنَّمَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بَيْنَ الْمُتَصَرِّفِ وَالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ، وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْعَبْدِ، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ لِلْوَارِثِ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، وَذَلِكَ الْعَبْدُ قَائِمٌ فِي يَدِ وَارِثِهِ، فَرَدَّهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ نَفَذَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ عَلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَبِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ يَنْفُذُ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ نَفَذَ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ، فِيمَا صَارَ مُسْتَحَقَّا مِنْ الْعِتْقِ، وَالتَّدْبِيرُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ لِلْوَارِثِ لَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْكِتَابَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، فَيَكُونُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالْمِلْكِ لِلْوَارِثِ مُبْطِلًا لِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَهِيَ بَعْدَ مَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ. وَهَذَا لِأَنَّ بِالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ يَسْتَحِقُّ الْوَلَاءَ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى إنْهَاءِ الْمِلْكِ لَا إبْطَالِهِ، وَإِذَا عَادَ أَصْلُ مِلْكِهِ فِي الْقَائِمِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مُسْلِمًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَعُودُ مَا يُنْهِيهِ، فَأَمَّا الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ قَاطِعٌ لِلْمِلْكِ فَعَوْدُ الْمِلْكِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَتَضَمَّنُ عَوْدَ مَا هُوَ قَاطِعٌ لِلْمِلْكِ، بَعْدَ مَا بَطَلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ لِلْوَارِثِ. 3860 - وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ حِينَ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهِ، ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَاشْتَرَى ذَلِكَ الْعَبْدَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُ الْوَكِيلِ وَالتَّدْبِيرُ الَّذِي كَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ لَحَاقِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1927 وَهَذَا مُشْكِلٌ، فَإِنَّ هَا هُنَا لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمِلْكُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ التَّدْبِيرُ وَالْعِتْقُ، وَإِنَّمَا هَذَا مِلْكٌ حَادِثٌ لَهُ بِسَبَبٍ أَحْدَثَهُ، فَيَنْبَغِي أَلَا يَنْفُذَ ذَلِكَ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ هَذَا، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا حَادِثًا مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ ذَلِكَ الْمِلْكُ، وَمَا يُعْطَى يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْفِدَاءِ لِذَلِكَ الْمِلْكِ، كَمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ إذَا أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي جُعِلَ مُعِيدًا لَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَمَا أَدَّى يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْفِدَاءِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ وَارِثِهِ فَرَدَّهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ سَوَاءً؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ كَانَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَيَظْهَرُ عِنْدَ ظُهُورِ مِلْكِهِ فِي الْمَحَلِّ، لِقِيَامِ الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فِيمَا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُرْتَدُّ بِنَفْسِهِ أَوْ دَبَّرَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ مِيرَاثًا لِلْوَارِثِ، ثُمَّ إذَا جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا بَعْدَ ذَلِكَ فَرَجَعَ الْعَبْدُ إلَى مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، إمَّا مِنْ يَدِ الْوَارِثِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِشِرَاءٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ كَذَلِكَ هَا هُنَا. . 3861 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَ الْوَارِثُ عَبْدًا لِلْمُرْتَدِّ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ يُعَادُ إلَيْهِ مُكَاتَبًا، وَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْوَارِثَ كَانَ كَاتَبَهُ بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ مُكَاتِبًا لِلَّذِي جَاءَ مُسْلِمًا، وَعَادَ الْمَمْلُوكَ إلَيْهِ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الزَّوَالَ لَمْ يَكُنْ مِنْ يَدِهِ أَصْلًا. 3862 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1928 قَالَ: وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ وَكَّلَ مُسْلِمًا بِأَنْ يَأْتِيَ رَقِيقَهُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيُعْتِقَهُمْ أَوْ تُعَوِّدُ، فَلَمْ يَفْعَلْ الْوَكِيلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، ثُمَّ فَعَلَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّوْكِيلِ هَا هُنَا كَانَ بَاطِلًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ وَكَّلَهُ فِي حَالٍ كَانَ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَصْلًا، وَبَعْدَ مَا تَعَيَّنَ جِهَةَ الْبُطْلَانِ فِي الْوَكَالَةِ لَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً أَبَدًا. 3863 - وَلَوْ كَانَ وَكَّلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، نَفَذَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّوْكِيلِ كَانَ صَحِيحًا، وَلَمْ يَبْطُلْ بِمُجَرَّدِ لَحَاقِ الْمُوَكِّلِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي صَارَ كَأَنَّ اللَّحَاقَ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا. 3864 - وَلَوْ كَانَ قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ وَقَسَّمَ مِيرَاثَهُ، ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا، فَإِنْ تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ فِي رَقِيقِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِرَدِّهِمْ عَلَى الْمُرْتَدِّ كَانَ تَصَرُّفُهُ بَاطِلًا، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِمْ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِرَدِّهِمْ عَلَى الْمُرْتَدِّ كَانَ تَصَرُّفُهُ نَافِذًا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَعْدَ صِحَّتِهَا لَا تَبْطُلُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَعُودُ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَإِذَا سَبَقَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ لَمْ يَنْفُذْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحِلَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1929 (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَنْفُذْ وَإِذَا تَصَرَّفَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَقَدْ صَادَفَ تَصَرُّفُهُ مَحِلَّهُ، فَكَانَ نَافِذًا. وَهُوَ نَظِيرُ رَجُلٍ وَكَّلَ رَجُلًا يَبِيعُ عَبْدَهُ أَوْ يُعْتِقُهُ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٍ، قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ لِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَرُجُوعِ الْعَبْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمِلْكِ الْأَوَّلِ. بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ إلَيْهِ بِشِرَاءٍ جَدِيدٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَإِنَّ هَذَا مِلْكٌ حَادِثٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ فِي مِلْكٍ حَدَثَ بَعْدَهُ. 3865 - وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ تَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَ مَا بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِخِيَارِهِ لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِ الْمُوَكِّل. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَعْتَقَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَتَقَ مِنْ جِهَتِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَنْفِيذُ عِتْقِ وَكِيلِ الْبَائِعِ فِي حَالٍ لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ؟ 3866 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ كَانَ وَكَّلَ بِعِتْقِهِ وَكِيلًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَأَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ الْوَكِيلُ مِنْ ذَلِكَ جَائِزٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1930 لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي فِي حُكْمِ الْغَيْبَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُوَكِّلِ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ هُنَاكَ، بَعْدَ الْبَيْعِ، صَارَ الْعَبْدُ بِحَالٍ يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ وَكِيلِ الْبَائِعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِيهِ، وَأَمَّا هَا هُنَا بِمُجَرَّدِ اللَّحَاقِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، مَا صَارَ الْعَبْدُ بِحَالٍ يَنْفُذُ فِيهِ عِتْقُ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ لَوْ أَعْتَقَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ؛ فَلِهَذَا نَفَذَ عِتْقُ وَكِيلِ الْمُرْتَدِّ فِيهِ إذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، فَقَدْ صَارَ هُنَاكَ بِحَالٍ يَنْفُذُ الْعِتْقُ مِنْ الْوَارِثِ فِيهِ فَلَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ مِنْ وَكِيلِ الْمُرْتَدِّ فِيهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. 3867 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا أَوْ مُرْتَدًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا، فَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ، فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ حَتَّى رَجَعَ مُسْلِمًا كَانَ التَّصَرُّفُ نَافِذًا، وَكَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بَطَلَ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ، وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ بِلُحُوقِهِ زَالَ مِلْكُهُ زَوَالًا مَوْقُوفًا، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ يَتَوَقَّفُ بِحَالِ قِيَامِ مِلْكِهِ، فَإِذَا تَوَقَّفَ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ يَتَوَقَّفُ الْإِذْنُ لِلْعَبْدِ أَيْضًا، وَتَوَقُّفُ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ لِتَوَقُّفِ حُكْمِ الْإِذْنِ فَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عَلَى مَا كَانَ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ وَيَكُونُ مَأْذُونًا عَلَى حَالِهِ، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَقَدْ تَقَرَّرَ حُكْمُ زَوَالِ مِلْكِهِ، فَيَتَقَرَّرُ حُكْمُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ أَيْضًا، ثُمَّ إذَا عَادَ مُسْلِمًا، وَعَادَ الْعَبْدُ إلَى مِلْكِهِ، لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ إذْنًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1931 مُسْتَقْبَلًا لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ، فَيُنْتَقَضُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا إيضَاحًا لِمَا سَبَقَ مِنْ الْوِكَالَةِ. 3868 - وَعَلَيْهِ رَتَّبَ فَصْلَ الْمُضَارَبَةِ أَيْضًا، أَنَّهُ إذَا تَصَرَّفَ الْمُضَارِبُ بَعْدَ لَحَاقِ رَبِّ الْمَالِ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا، قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، نَفَذَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَكَانَ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ، لَهُ الرِّبْحُ وَعَلَيْهِ الْوَضِيعَةُ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِرَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ إذَا جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ لِمَجِيئِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ بَطَلَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ كَمَا بَيَّنَّا. 3869 - وَلَوْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ حَتَّى عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُرْتَدًّا عَلَى حَالِهِ فَقَدْ صَارَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَصْلًا، وَقَبْلَ لَحَاقِهِ إذَا تَصَرَّفَ الْمُضَارِبُ نَفَذَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَكَانَ مَوْقُوفًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ قَبْلَ لَحَاقِهِ. 3870 - وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلَحَاقِهِ، ثُمَّ رَجَعَ مُرْتَدًّا، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى مَالِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1932 لِأَنَّهُ صَارَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَالْمَيِّتِ حُكْمًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ رِدَّتُهُ، فَمَا بَقِيَ هَذَا السَّبَبُ يَبْقَى هُوَ مَيِّتًا حُكْمًا، وَإِنْ رَجَعَ إلَى دَارِنَا، وَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ لِوَرَثَتِهِ عَلَى حَالِهِ لَا سَبِيلَ لِلْمُرْتَدِّ عَلَيْهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ مُسْلِمًا كَانَ الْمَالُ لِلْوَارِثِ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِرَدِّهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَجَعَ مُرْتَدًّا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ، وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بِرَدِّهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَإِنْ أَبَى قَتَلَهُ، وَإِنْ قَالَ: رُدَّ عَلَيَّ مَالِي، وَاجْعَلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ أَجَلًا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُؤَجِّلُهُ فِي الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَرَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: هَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ الْبَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَعْطَيْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا فَلَعَلَّهُ يُرَاجِعُ الْحَقَّ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مَالَهُ مَا لَمْ يُسْلِمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَحَيَاتُهُ حُكْمًا تَكُونُ بِإِسْلَامِهِ، فَمَا لَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَالتَّأْجِيلُ عِنْدَنَا مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ حَتَّى إنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الْحَالِ، وَلَا يُؤَجِّلَهُ إنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ. 3871 - وَلَوْ لَحِقَتْ الْمُرْتَدَّةُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَقَضَى الْقَاضِي بِمِيرَاثِهَا لِوَرَثَتِهَا، ثُمَّ جَاءَتْ مُرْتَدَّةً بِأَمَانٍ، وَطَلَبَتْ مَالَهَا لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ هَالِكَةً بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا سَبَبُ الْحَيَاةِ حُكْمًا لَا يُرَدُّ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ. . 3872 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1933 وَلَوْ جَاءَتْ مُرْتَدَّةً قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِغَيْرِ أَمَانٍ كَانَتْ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَتْ حَرْبِيَّةً، وَالْحَرْبِيَّةُ إذَا دَخَلَتْ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ كَانَتْ فَيْئًا. وَقُسِّمَتْ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ هَالِكَةً حُكْمًا حِينَ جُعِلَتْ فَيْئًا. فَالرِّقِّيَّةُ تَلَفٌ وَالْحُرِّيَّةُ حَيَاةٌ؛ لِأَنَّهَا بِالرِّقِّ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ، فَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ لِوَرَثَتِهَا. 3873 - وَإِنْ جَاءَتْ بِأَمَانٍ صَنَعَتْ فِي مَالِهَا مَا أَحَبَّتْ، وَحُبِسَتْ وَأُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا إذَا رَجَعَتْ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِأَمَانٍ فَصَارَ اللَّحَاقُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَبْلَ لَحَاقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا رَجَعَتْ، إلَّا أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنَّمَا كَانَتْ لَا تُسْتَرَقُّ قَبْلَ اللَّحَاقِ؛ لِكَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِدَارِ الِاسْتِرْقَاقِ، فَإِذَا لَحِقَتْ صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَقُلْنَا: بِأَنَّهَا تُسْتَرَقُّ إذَا دَخَلَتْ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ بِأَمَانٍ فَإِعْطَاء الْأَمَانِ يَمْنَعُ اسْتِرْقَاقَهَا، فَقَدْ عَادَتْ بِهِ، كَمَا كَانَتْ قَبْلَ اللَّحَاقِ. 3874 - وَإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ: إذَا جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ارْتَدَّ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1934 بِمِيرَاثِهِ لِلْوَارِثِ حَتَّى جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ فَإِنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ يَكُونُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفُذُ بِدُونِ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ زَوَالَ مِلْكِهِ قَدْ تَوَقَّفَ بِلَحَاقِهِ، فَكَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ الْعِتْقِ 3875 - فَإِنْ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِلَحَاقِهِ نَفَذَ ذَلِكَ الْعِتْقُ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلَحَاقِهِ قَبْلَ مَجِيءِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، ثُمَّ جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِرَدِّ الْعَبْدِ عَلَيْهِ عَتَقَ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ كَانَ صَحِيحًا، وَقَدْ وُجِدَ. فَالْعَبْدُ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ ثُمَّ عَادَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعِتْقُ، وَإِنْ رَدَّ الْقَاضِي الْعَبْدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ نَجَزَ اعْتَاقَهُ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ كَانَ الْعِتْقُ بَاطِلًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهَذَا مِثْلُهُ. 3876 - وَلَوْ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ النَّحْرِ، ثُمَّ جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِرَدِّ الْعَبْدِ عَلَيْهِ عَتَقَ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ كَانَ صَحِيحًا، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1935 3877 - فَإِنْ جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِرَدِّ الْعَبْدِ عَلَيْهِ لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الشَّرْطُ وَالْعَبْدُ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ. 3878 - فَلَوْ جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ لَحَاقِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ، ثُمَّ قَضَى الْقَاضِي بِهِ لِوَارِثِهِ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَارِثِ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُقَرَّرُ زَوَالُ مِلْكِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي مِنْ وَقْتِ اللَّحَاقِ. وَإِنَّمَا وُجِدَ الشَّرْطُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَا يُعْتَقُ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَانَ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ 3879 - فَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ حَتَّى رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْعَبْدَ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ فِي حَالِّ تَوَقُّفِ مِلْكِهِ، فَإِنَّ تَمَامَ زَوَالِ مِلْكِهِ يَكُونُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَثَبَتَ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ فِي مِلْكِهِ إذَا رَجَعَ إلَيْهِ، وَقَدْ رَجَعَ إلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ الْمِلْكِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ كَاتَبَهُ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بَعْدَ كِتَابَةِ الْوَارِثِ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ وَيَسْقُطُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا. . 3880 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1936 وَلَوْ كَانَ قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا، فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لِلْوَارِثِ فَأَعْتَقَهَا الْوَارِثُ، ثُمَّ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدَّةً، فَسُبِيَتْ كَانَتْ فَيْئًا، وَأُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ، بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ إذَا ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ فَإِنْ أَسْلَمَتْ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَاشْتَرَاهَا ثُمَّ جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، لَمْ تُعْتَقْ، بِخِلَافِ جَمِيعِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ كَانَ مُنْهِيًا لِمِلْكِهِ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ الْمِلْكُ أَصْلًا حَتَّى يَنْفُذَ الْعِتْقُ مِنْ الْوَارِثِ فِيهَا، فَكَانَ هَذَا مِلْكًا حَادِثًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذِهِ زفرية، وَأَصْلُهَا فِيمَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَارْتَدَّتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَتْ فَمَلَكَهَا، وَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا تَعْتِقُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1937 [بَابُ الْمُرْتَدِّينَ كَيْفَ يَحْكُمُ فِيهِمْ] 3881 - . قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَهُوَ يَعُمُّ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، وَلِمَوْلَى الْعَبْدِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِنَفْسِهِ إنْ شَاءَ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - بِعَبْدٍ لَهُ تَنَصَّرَ، وَلِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ فِي حُكْمِ الْقَتْلِ، وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ قَتْلُ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَقْتُلُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْحَدِّ. وَاسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ. 3882 - وَالْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَأَهْلُهَا يَحْتَاجُونَ إلَى خِدْمَتِهَا دُفِعَتْ إلَيْهِمْ يَسْتَخْدِمُونَهَا وَيُجْبِرُونَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ حَبْسَهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي خِدْمَتِهَا يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَبْسِهَا. 3883 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1938 وَإِنْ اُسْتُتِيبَ الْمُرْتَدُّ فَتَابَ، ثُمَّ ارْتَدَّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ أَبَدًا، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَقُولَانِ: يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا، فَإِنْ عَادَ يُقْتَلُ، لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] الْآيَةَ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ غَيْرُ تَائِبٍ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . ثُمَّ تَوْبَتُهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ تُعْرَفُ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى ضَمِيرِهِ، وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ لِسَانُهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] . وَإِذَا تَابَ فَقَدْ ازْدَادَ إيمَانًا لَا كُفْرًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُقْتَلُ غِيلَةً وَلَا يُسْتَتَابُ إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ، وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ جَائِزٌ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. 3884 - قَالَ: وَامْرَأَةُ الْمُرْتَدِّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، سَوَاءٌ قُتِلَ بَعْدَ الرِّدَّةِ أَوْ لَمْ يُقْتَلْ، إلَّا عَلَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1939 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إذَا قُتِلَ فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِالرِّدَّةِ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ تِلْكَ الْفُرْقَةِ بِالْقَتْلِ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَلَا تَتَغَيَّرُ الْعِدَّةُ أَيْضًا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ. 3885 - وَلَوْ أَصَابَ مَالًا أَوْ قَذَفَ إنْسَانًا قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، ثُمَّ لَحِقَ بِالدَّارِ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا، أُخِذَ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَصَابَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ بِاللَّحَاقِ صَارَ حَرْبِيًّا، وَالْحَرْبِيُّ إذَا أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَابَهُ فِي حَالِ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُخَاطَبٌ عَلَى حَالِهِ، فَيَتَقَرَّرُ مُوجِبُهُ فِي ذِمَّتِهِ، إلَّا أَنَّ بِلَحَاقِهِ يَتَعَذَّرُ إقَامَتُهُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْإِمَامِ لَا تَصِلُ إلَيْهِ، فَإِذَا وَصَلَتْ الْيَدُ إلَيْهِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1940 [بَابٌ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنْ الْمُعَاهِدِينَ] 3886 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ ارْتَدُّوا حَتَّى صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ، ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ رِجَالُهُمْ وَيُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ، كَمَا فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِبَنِي حَنِيفَةَ حِينَ ارْتَدُّوا. فَإِنْ قَالَتْ النِّسَاءُ حِينَ ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِنَّ: مَا ارْتَدَدْنَا قَطُّ، وَإِنَّا لَمُسْلِمَاتٌ عَلَى دِينِنَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُنَّ، لِتَمَسُّكِهِنَّ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَلَا يُسْبَيْنَ، وَأَوْلَادُهُنَّ الصِّغَارُ بِمَنْزِلَتِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إذَا بَقِيَتْ مُسْلِمَةً فَالصَّغِيرُ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا. إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِالرِّدَّةِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُرْتَدَّةٌ، وَالْمُرْتَدُّ كَالْمُسْلِمِ فِي أَلَّا تَكُونَ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ حُجَّةً 3887 - وَشَهَادَةُ مَنْ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ قِيَاسًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلشَّاهِدِ، وَتُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1941 لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَامَّةٌ، وَهِيَ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ 3888 - وَلَوْ قُلْنَ كُنَّا قَدْ ارْتَدَدْنَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْنَا قَبْلَ أَنْ تَظْفَرُوا بِنَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ الْآنَ يَدَّعِينَ إسْلَامًا حَادِثًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُنَّ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُمْ لِلْحَالِ أَسْلَمُوا، فَكَذَلِكَ فِي الْمُرْتَدَّاتِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ نَقَضَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْعَهْدَ كَانَ الْجَوَابُ فِيهِمْ كَالْجَوَابِ فِي الْمُرْتَدِّينَ، إلَّا أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِنَّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ هَا هُنَا مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُنَّ ذِمِّيَّاتٌ وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ ارْتَدَّ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَلَمَّا أُخِذَتْ امْرَأَتُهُ قَالَتْ: إنْ كَانَ عَلْقَمَةُ ارْتَدَّ فَإِنِّي لَمْ أَكْفُرْ بِاَللَّهِ فَخَلَّى سَبِيلَهَا وَسَبِيلَ وَلَدِهَا، ثُمَّ هَذَا إذَا عُلِمَ أَنَّ النِّسَاءَ فِي الْأَصْلِ كُنَّ مُسْلِمَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ فَهُنَّ فَيْءٌ، وَأَوْلَادَهُنَّ. لِأَنَّهُنَّ وُجِدْنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَمَنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ، مَا لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِنَّ سِيمَاءُ الْمُسْلِمَاتِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَحْكِيمَ السِّيمَاءِ أَصْلٌ فِي بَابِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُنَّ صَادِقَاتٌ وَجَبَ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِنَّ وَسَبِيلِ أَوْلَادِهِنَّ. 3889 - فَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ صَبِيٌّ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا، أَوْ لَا يُعْلَمُ هَلْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَمْ لَا، فَقَالَتْ: هَذَا ابْنِي صُدِّقَتْ فِي إسْلَامِ الْوَلَدِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ دِينِيٌّ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مِثْلِهِ مَقْبُولٌ؛ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1942 3890 - وَلَكِنْ لَا يَتَوَارَثَانِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَهُوَ الْحَمِيلُ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، إلَى شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، أَنْ لَا يُوَرَّثَ الْحَمِيلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ مُسْلِمًا لِكَوْنِهِ فِي يَدِ مُسْلِمٍ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ. 3891 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ: هُوَ ابْنُ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوَدَعَتْنِيهِ، وَإِنْ قَالَتْ: هُوَ ابْنُ امْرَأَةٍ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الدَّارِ أَوَدَعَتْنِيهِ وَمَاتَتْ، وَهِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ، لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ الْإِسْلَامِ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْهَا إخْبَارًا بِإِسْلَامِ الْوَلَدِ وَحُرِّيَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا لِكَوْنِهِ مَوْجُودًا فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ بَنَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، مَسَائِلَ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا. 3892 - أَنَّ مَنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَمَنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ أَمْنٍ، فَمَنْ وُجِدَ فِيهَا يَكُونُ آمِنًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ، وَدَارُ الْحَرْبِ دَارُ سَبْيٍ وَاسْتِرْقَاقٍ فَمَنْ وُجِدَ فِيهَا يَكُونُ فَيْئًا، إلَّا أَنْ يُثْبِتَ سَبَبَ الْأَمْنِ وَالْعِصْمَةِ لِنَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ 3893 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الدَّارِ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَحَارَبُوا، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا نَقَضْنَا الْعَهْدَ فِيمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1943 نَقَضَ، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْعَهْدِ مَعْلُومًا لَهُمْ قَبْلَ النَّقْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يُعْلَمَ مَا يُزِيلُهُ. 3894 - فَإِنْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، بِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ سَبَبُ نَقْضِهِمْ الْعَهْدَ، فَإِنْ قَالُوا: أَكْرَهُونَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ مَعْنًى خَفِيًّا لِيُغَيِّرُوا بِهِ حُكْمَ مَا ظَهَرَ بِحُجَّةٍ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ. 3895 - فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ قَالُوا: لَنَقْتُلَنَّكُمْ أَوْ لَتُقَاتِلُونَ مَعَنَا كَانُوا أَحْرَارًا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، فَيَخْرُجُ قِتَالُهُمْ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الرِّضَاءِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ مَا صَنَعُوا بِإِكْرَاهٍ. 3896 - وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ كَانُوا قَالُوا: هَذَا لَهُمْ فِي دَارِهِمْ لَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْدِرُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ، فَالْإِكْرَاهُ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِذَهَابِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1944 3897 - وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَصْلَ الذِّمَّةِ لِلَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَانُوا فَيْئًا، إلَّا أَنْ يُقِيمُوا بَيِّنَةً عَلَى أَصْلِ الذِّمَّةِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ وُجِدُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ. 3898 - وَإِنْ رَآهُمْ الْمُسْلِمُونَ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعَهُمْ السُّيُوفُ قَدْ شَهَرُوهَا، إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا أَحَدًا، فَقَالُوا: أَكْرَهُونَا عَلَى ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّ مَا ظَهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَوْ ظَهَرَ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِإِيمَانِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ مِنْ الْمُعَاهِدِ. 3899 - وَإِنْ قَالَ قَدْ كُنْتُ نَقَضْتُ الْعَهْدَ مَعَهُمْ، وَلَكِنْ كُنْتُ رَجَعْتُ عَنْ ذَلِكَ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِزَوَالِ مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِ الذِّمَّةِ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى أَمْرًا حَادِثًا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. 3900 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ رَأَوْا رَجُلًا مِنْ النَّصَارَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَتَّجِرُ وَلَا يَعْرِفُونَ، ثُمَّ فَتَحُوا مَدِينَةً مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَوَجَدُوهُ فِيهَا، فَقَالَ أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أُسِرَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ كُنْتُ تَاجِرًا فِيهِمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1945 (أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ حِينَ رَأَوْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَوْ أَرَادُوا التَّعَرُّضَ لَهُ فَقَالَ: أَنَا ذِمِّيٌّ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا وَجَدُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: أَنَا ذِمِّيٌّ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُمْ بَعْدَمَا أَخَذُوهُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ قَبْلَ هَذَا، إلَّا أَنَّهُ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ ذِمِّيٌّ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. 3901 - وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فِي جَمِيعِ هَذَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَاءُ أَهْلِ الْكُفْرِ فَقَالَ: أَكْرَهُونِي حَتَّى تَزَيَّيْتُ بِهَذَا الزِّيِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ لَهُ أَوْ الذِّمَّةِ، بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الزِّيِّ لِأَنَّ مَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ مَنْ بَقِيَ بَيْنَ قَوْمٍ يُخَالِفُونَهُ فِي الطَّرِيقِ قَدْ يَتَزَيَّا بِزِيِّهِمْ تُقْيَةً؛ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ 3902 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ صَالَحُوا وَصَارُوا ذِمَّةً وَقَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى نِسَائِهِمْ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ تَبَعٌ لِلرِّجَالِ، وَلِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَقْبَلُونَ الذِّمَّةَ لِيَسْكُنُوا فِي مَسَاكِنِهِمْ وَسُكْنَاهُمْ إنَّمَا تَكُونُ بِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1946 فَإِنْ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ إنَّا نَأْخُذُ الْعَهْدَ لِأَنْفُسِنَا دُونَ نِسَائِنَا، كَانَ نِسَاؤُهُمْ فَيْئًا إلَّا مَنْ دَخَلَ مِنْهُنَّ فِي الْعَهْدِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُوجَدُ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ، فَلِهَذَا يُسْتَرَقُّ النِّسَاءُ. وَأَمَّا الصِّغَارُ مِنْ الْأَوْلَادِ فَهُمْ تَبَعٌ لِلْآبَاءِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْعَهْدَ، وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. 3903 - وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ، ثُمَّ غَلَبَ أَهْلُ الشِّرْكِ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ حَتَّى صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَوَجَدُوا ذَلِكَ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى هَذِهِ الدَّارِ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الَّتِي كَانَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْهَا فَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ اُنْتُقِضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، حِينَ حَصَلَ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَهْلُهَا يُوَافِقُونَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجَعَ إلَى دَارِهِ لَكَانَ يَنْتَهِي بِهِ الْأَمَانُ، وَقَدْ صَارَ هَذَا الْمَوْضِعُ فِي حُكْمِ دَارِهِ حِينَ غَلَبَ عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ 3904 - وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِأَنْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ الرُّومِ، وَاَلَّذِينَ ظَهَرُوا عَلَى هَذِهِ الدَّارِ قَوْمٌ مِنْ التُّرْكِ، فَإِنْ كَانُوا أَسَرُوهُ وَمَنَعُوهُ مِنْ الْخُرُوجِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَالِهِ، حَتَّى إذَا ظَفَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ مَا وَصَلَ إلَى مَأْمَنِهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَهِي الْأَمَانُ بِهَذَا، وَلِأَنَّهُ أَسِيرٌ فِيهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ أَسَرُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1947 3905 - فَإِنْ كَانَ الَّذِينَ غَلَبُوا لَمْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ اخْتِيَارًا، فَهَذَا نَقْضٌ مِنْهُ لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالرَّاضِي بِالْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، إذَا كَانُوا أَمَّنُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ فِيهِمْ وَاشْتَرَى الْمَسْكَنَ ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ كَانَ فَيْئًا، كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ. 3906 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنًا مِنْ الرُّومِ فِي دَارِنَا بَدَا لَهُ فَخَرَجَ إلَى التُّرْكِ بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ، كَانَ مُبْطِلًا لِلْأَمَانِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ إنْ أَسَرُوهُ أَوْ لَمْ يَأْسِرُوهُ فَالْجَوَابُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِاخْتِيَارِهِ. 3907 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الرُّومِ سَأَلَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَيَتَّجِرَ، ثُمَّ يَخْرُجَ إلَى التُّرْكِ، فَيَأْتِيَ بِالْأَمْتِعَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيَتَّجِرُ فِيهَا، فَأَعْطَوْهُ الْأَمَانَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ آمِنٌ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِلَادَ التُّرْكِ، فَإِذَا دَخَلَهَا فَلَا أَمَانَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا فِي دَارِ التُّرْكِ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَالُوا لَهُ: أَنْتَ آمِنٌ إذَا دَخَلْت دَارَ الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ تَعُودَ إلَيْهَا وَتَرْجِعَ إلَى دَارِك، فَحِينَئِذٍ هَذَا تَصْرِيحٌ بِإِعْطَاءِ الْأَمَانِ لَهُ فِي دَارِ التُّرْكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1948 3908 - ثُمَّ إنْ نَبَذَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ فِي دَارِ التُّرْكِ فَنَبْذُهُمْ بَاطِلٌ، وَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى بِلَادِهِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا نَبَذُوا إلَيْهِ فِي دَارٍ هُوَ مُسْتَأْمَنٌ فِيهَا، فَكَانَ هَذَا وَنَبْذُهُمْ إلَيْهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ النَّبْذَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ تَبْلِيغِ الْمُسْتَأْمَنِ مَأْمَنَهُ وَإِعَادَتِهِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1949 [بَابٌ أَسْرُ الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْلَاهُ أَوْ لَا يَرْجِعُ] 3909 - قَالَ: الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ إذَا مَاتَ مَوْلَاهُ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ فَحَضَرَ وَرَثَتُهُ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ وَجَدُوهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدُوهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ مُورَثِهِمْ، وَهَذَا الْأَخْذُ إعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْفِدَاءِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْفِدَاءِ لِلْعَبْدِ الْجَانِي مِنْ الْجِنَايَةِ، وَالْوَرَثَةُ يَقُومُونَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْمُورَثِ. 3910 - وَهَذَا بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ إذَا مَاتَ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَلَا يَقُومُونَ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِاعْتِبَارِ الْجِوَارِ، وَاَلَّذِي كَانَ لِلْمُورَثِ مِنْ الْجِوَارِ قَدْ زَالَ بِمَوْتِهِ، وَجِوَارُ الْوَارِثِ حَادِثٌ، فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ. فَأَمَّا هَا هُنَا حَقُّ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْقَدِيمِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمُورَثِ، وَالْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ، لَوْ كَانَ قَائِمًا، فَكَذَلِكَ فِي حَقٍّ ثَابِتٍ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمِلْكِ. 3911 - وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَأْخُذُوا جَمِيعًا أَوْ يَدَعُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1950 لِأَنَّهُمْ بِالْأَخْذِ يُعِيدُونَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، حَتَّى إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِيعَ فِيهِ، وَهُوَ فِي حَيَاتِهِ، لَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ. 3912 - وَإِنْ أَبَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَفْدِيَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ نَفْدِيهِ بِالْقِيمَةِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ مُتَطَوِّعِينَ فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، فَيَكُونُ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَهُمْ تَبَرَّعُوا بِالْفِدَاءِ فِي نَصِيبِ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ، إذْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُلْزِمُوهُمْ دَيْنًا شَاءُوا أَوْ أَبَوْا، فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ. 3913 - وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ بِمَالِهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ، فَهَذَا كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي حُكْمِ الْفِدَاءِ. 3914 - وَمَنْ حَضَرَ مِنْ مُوصٍ أَوْ وَارِثٍ أَوْ مُوصًى لَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ غَابَ عَامَّةُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يُعِيدُهُ بِالْأَخْذِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، وَالْحَاضِرُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ عَنْ الْمَيِّتِ، كَمَا فِي الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ. 3915 - وَإِنْ حَضَرَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ خَاصَّةً فَجَحَدَ الَّذِي وَقَعَ الْعَبْدُ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لِلْمَيِّتِ، فَأَقَامَ الْمُوصَى لَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَكَانَ خَصْمًا لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1951 لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ كَأَحَدِهِمْ. 3916 - وَإِذَا فَدَاهُ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَأَخَذَهُ أَعْطَاهُ الْقَاضِي الثُّلُثَ مِنْ الْعَبْدِ، وَجَعَلَ الثُّلُثَيْنِ مَحْبُوسًا لِلْوَرَثَةِ إلَى أَنْ يَحْضُرُوا فَيَأْخُذُوا، فَإِنْ حَضَرُوا وَجَحَدُوا وَصِيَّةَ الْمُوصَى لَهُ لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى جُحُودِهِمْ. لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ الْعَبْدُ فِي سَهْمِهِ كَانَ خَصْمًا لِلْمُوصَى لَهُ عَنْ الْوَرَثَةِ فِي إثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ، فَهُوَ وَمَا لَوْ أَثْبَتَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ سَوَاءٌ. 3917 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي حَضَرَ غَرِيمًا مِنْ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا لِمَنْ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي سَهْمِهِ. لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ دَيْنِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ. 3918 - وَمَنْ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي سَهْمِهِ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي ذَلِكَ عَنْ الْمَيِّتِ. فَأَمَّا الْمُوصَى لَهُ يُثْبِتُ حَقَّ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَارِثِ، فَلِهَذَا كَانَ خَصْمًا لَهُ. وَإِنْ أَقَرَّ الَّذِي وَقَعَ الْعَبْدُ فِي سَهْمِهِ أَنَّهُ غَرِيمُ الْمَيِّتِ لَمْ يَأْمُرْهُ الْقَاضِي بِدَفْعِ الْعَبْدِ إلَيْهِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِإِقْرَارِهِ لَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ 3919 - وَلَكِنْ إنْ حَضَرَ وَارِثٌ أَوْ وَصِيٌّ فَأَبَى أَنْ يَفْدِيَ، فَأَرَادَ الْغَرِيمُ أَنْ يَفْدِيَهُ جَعَلَ الْقَاضِي الْوَارِثَ أَوْ الْوَصِيَّ خَصْمًا لِلْغَرِيمِ، حَتَّى يَثْبُتَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1952 لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ كَانَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَفْدِيَهُ حَتَّى يُبَاعَ لَهُ فِي الدَّيْنُ. 3920 - وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ حِينَ حَضَرَ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ لَمْ يَنْتَفِعْ الْغَرِيمُ بِذَلِكَ، وَقِيلَ لَهُ: هَاتِ بَيِّنَةً عَلَى دَيْنِك، وَلَا يَخْرُجُ الْوَصِيُّ مِنْ خُصُومَتِهِ بِإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ وَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا. 3921 - فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِالدَّيْنِ أَحَدَ الْوَرَثَةِ كَانَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فِي نَصِيبِهِ. 3922 - ثُمَّ إذَا أَخَذَ الْعَبْدَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَعْزِلُ نَصِيبَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ حَتَّى يَقْدَمُوا فَيُقِرُّوا أَوْ يُنْكِرُوا، وَيَبِيعُ حِصَّةَ الْوَارِثِ الْمُقِرِّ لِلْغَرِيمِ فِي دَيْنِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، وَالدَّيْنُ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ فِي حِصَّتِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ. 3923 - فَإِنْ حَضَرَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَأَقَرَّ بِالدَّيْنِ، وَوَقَعَ الْعَبْد فِي سَهْمِهِ لِوَصِيَّتِهِ فَلَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالْقِيمَةِ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1953 3924 - فَإِنْ حَضَرَ الْوَرَثَةُ فَجَحَدُوا وَصِيَّتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ، وَيُقَالُ لِلْوَرَثَةِ: أَدُّوا لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْفِدَاءِ وَخُذُوا الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ إنَّمَا أَدَّى الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يَفْدِيَ مِلْكَهُ فَلَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا فِي الثُّلُثَيْنِ إنَّمَا أَدَّى الْفِدَاءَ عَلَى أَنَّهُ يَفْدِي مِلْكَ الْوَرَثَةِ، فَكَانَ مُتَطَوِّعًا فِي ذَلِكَ. 3925 - وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْوَصِيَّةَ بِالْعَبْدِ لَهُ. وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ الْوَرَثَةُ يَأْخُذُونَ الْعَبْدَ هُنَاكَ إذَا أَعْطَوْهُ جَمِيعَ الْفِدَاءِ إنْ أَحَبُّوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْكُلِّ هَا هُنَا يَفْدِي مِلْكَ نَفْسِهِ، فَالْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ وَصِيَّةٌ بِزَعْمِهِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْفِدَاءِ. 3926 - وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ أَوْ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا حَضَرَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَيْهِمْ إلَّا بِحُجَّةٍ 3927 - ثُمَّ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمُورَثِ، وَكَانَا مِيرَاثًا عَنْهُ. وَلَوْ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فِي مَرَضِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ فَسَلَّمَهُ لَهُ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ وَارِثَ الْمَيِّتِ أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهِ مُحَابَاةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَكَذَلِكَ إنْ سَلَّمَهُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْمُحَابَاةَ لَا تَظْهَرُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1954 لِأَنَّهُ بِهَذَا التَّسْلِيمِ لَا يُمْلِكُهُ شَيْئًا، إنَّمَا يُبْطِلُ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ بِحَالٍ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، وَتَسْلِيمُ الْمَرِيضِ شُفْعَتَهُ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ يَكُونُ صَحِيحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَهَذَا مِثْلُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَاوَمَهُ بِالْعَبْدِ بَيْعًا مُسْتَقْبَلًا لِأَنَّ هَذَا دَلِيلُ التَّسْلِيمِ مِنْهُ فَيَكُونُ كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّسْلِيمِ، كَمَا فِي الشُّفْعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ إنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَلَا يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَرِيضِ فِي حَقِّ وَارِثِهِ، فَلَا تَسْلَمُ لَهُ الْمُحَابَاةُ الَّتِي تَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ. قُلْنَا: هَذَا إذَا كَانَ بِتَصَرُّفِهِ يُمْلِكُ الْوَارِثَ مَالًا، وَهُوَ هَا هُنَا لَيْسَ يُمْلِكُ الْوَارِثَ شَيْئًا، فَقَدْ مَلَكَ الْوَارِثُ الْعَبْدَ بِالشِّرَاءِ، أَوْ بِوُقُوعِهِ فِي سَهْمِهِ، فَلِهَذَا صَحَّ تَسْلِيمُهُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَالْعَفْوِ عَنْ دَمِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْمَرِيضِ مَعَ وَارِثِهِ، كَمَا يَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا أَنَّ مَنْ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي سَهْمِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِ حَقِّ الْأَخْذِ بِالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا شَيْئًا، فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ ضَعِيفٌ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَسْقُطَ الْحَقُّ بِتَصَرُّفِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِ الْمَرِيضِ 3928 - وَلَوْ مَاتَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَمِيرَاثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ عُرِفَ حَالُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ عَرَفَهُ بَعْد الْقِسْمَةِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ. وَإِنْ وَجَدَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَالْأَوْلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1955 لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَظِّ لِلْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي يَدِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ فَحَقُّ الْأَخْذِ إنَّمَا يَكُونُ بِقِيمَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ، فَلَا يَسْتَقِلُّ بِأَخْذِهِ، إلَّا أَنْ يَرَى أَنَّ فِيهِ حَظًّا لِلْمُسْلِمِينَ. 3929 - وَلَوْ أَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ وَجَدَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ، فَلَمْ يَطْلُبْهُ حَتَّى مَضَى زَمَانٌ، ثُمَّ جَاءَ يَطْلُبُ أَخْذَهُ بِالثَّمَنِ، فَلَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ الشَّفِيعَ إذَا لَمْ يَطْلُبْ بَعْدَمَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الشَّفِيعِ إنَّمَا جُعِلَ تَسْلِيمًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلَ سُكُوتَهُ تَسْلِيمًا تَعَطَّلَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ تَسْلِيمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَا هُنَا، فَإِنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ يَأْخُذُهُ مِمَّنْ يَجِدُهُ فِي يَدِهِ، وَلَا يَنْقُضُ شَيْئًا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْقِسْمَةَ لِيَأْخُذَهُ مَجَّانًا، فَلَا حَاجَةَ هَا هُنَا إلَى أَنْ يَجْعَلَ سُكُوتَهُ تَسْلِيمًا. 3930 - وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ، لَهُ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ، فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَسَلَّمَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ حَقَّ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ، جَازَ التَّسْلِيمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1956 فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، عَلَى قِيَاسِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا بِهَذَا التَّسْلِيمِ لَا يُخْرِجُ مِنْ مِلْكِ الصَّبِيِّ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ فَأَرَادَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ لِلصَّبِيِّ بِالثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَبْنِ الشَّدِيدِ عَلَى الصَّبِيِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى لَهُ عَبْدًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَهَا هُنَا لَا يَكُونُ آخِذًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْأَخْذِ لِنَفْسِهِ هَا هُنَا بِغَيْرِ رِضَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُ بِالْأَخْذِ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ الْمِلْكُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلصَّبِيِّ، فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ آخِذًا لِنَفْسِهِ. 3931 - وَإِنْ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أُرَاضِي الْمُسْلِمِينَ فَصَارَتْ دَارَ شِرْكٍ، ثُمَّ غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَصْحَابِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَمَنْ حَضَرَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهَا بِقِيمَتِهَا إنْ أَحَبَّ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَالُ الْمُسْلِمِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنْ بَنَاهَا مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1957 لِأَنَّ الْبِنَاءَ اسْتِهْلَاكٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبِنَاءَ، لِيَأْخُذَ، كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَإِنَّمَا هَذَا نَظِيرُ مَوْهُوبٍ لَهُ يَبْنِي فِي الْأَرْضِ الْمَوْهُوبَةِ، ثُمَّ يُرِيدُ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ فِيهَا، فَهُنَاكَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ اسْتِهْلَاكٌ فَهَذَا مِثْلُهُ. 3932 - وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي مُشْتَرِي الْأَرْضِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ، إذَا بَنَاهَا، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ أَوْجَبُ مِنْ حَقِّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ هَا هُنَا، فَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي لَهُ بِالْأَخْذِ لِأَجْلِ الْبِنَاءِ، ثُمَّ هَدَمَ الْبَانِي بِنَاءَهُ حَتَّى عَادَ كَمَا كَانَ فَلِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْفِدَاءِ هَا هُنَا. لِأَنَّ الْمَانِعَ كَانَ هُوَ الْبِنَاءَ، وَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَاهِبِ يُرِيدُ الرُّجُوعَ فِيهَا بَعْدَمَا رَفَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْبِنَاءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ إنَّمَا بَنَى فِيهَا أَهْلُ الْحَرْبِ حِينَ أَحْرَزُوهَا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ فِيمَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَهَذَا الْبِنَاءُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ قَطُّ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ أَخْذِ الْبِنَاءِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَخْذُ الْأَرْضِ بِدُونِ الْبِنَاءِ، فَإِنْ هَدَمَ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ الْبِنَاءَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ بِقِيمَتِهَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ. 3933 - وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ مَبْنِيَّةً حِينَ أَخَذَهَا الْمُشْرِكُونَ فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لِمَالِكِهَا الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا مَبْنِيَّةً يَوْمَ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1958 لِأَنَّهَا كَانَتْ لَهُ فِي الْأَصْلِ بِبِنَائِهَا، فَلَهُ أَنْ يُعِيدَهَا بِالْأَخْذِ إلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَتْ. فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا حَتَّى جَعَلَهَا مِمَّنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ فَصَلَّوْا فِيهَا، وَلَمْ يَزِدْ فِيهَا بُنْيَانًا، أَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَجَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ جَعَلَهَا مَقْبَرَةً، أَوْ جَعَلَهَا خَانًا لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا الْأَوَّلُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا؛ لِأَنَّهَا تَحَرَّزَتْ عَنْ مِلْكِ الْعِبَادِ بِمَا أَحْدَثَ فِيهَا مِنْ التَّصَرُّفِ، فَكَانَ هَذَا قِيَاسَ الْعَبْدِ إذَا أَعْتَقَهُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ التَّصَرُّفَ، وَبِدُونِ نَقْضِ التَّصَرُّفِ هَا هُنَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا بِالْقِيمَةِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَصِرْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنْهُ بِالْقِيمَةِ، وَبِهِ فَارَقَ الشُّفْعَةَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا نَقَضَ تَصَرُّفَهُ رَجَعَتْ إلَى مِلْكِهِ، كَمَا كَانَتْ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ، فَإِنْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَانْتَقَلَ عَنْهُ أَهْلُهُ فَقَدْ رَجَعَ إلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ يَزُولُ الْمَانِعُ، فَكَانَ لِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْقِيمَةِ. 3934 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ فَرَسًا فَجَعَلَهَا مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ حَبِيسًا، ثُمَّ حَضَرَ مَالِكُهُ الْأَوَّلُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ فِيمَا فِيهِ الْعَادَةُ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْوَقْفُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ وَلَا يُخْرِجُ الْعَيْنَ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَكَانَ لِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ خَاصَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1959 فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَيُمْنَعُ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ مِنْ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ التَّصَرُّفِ، وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ الْقِسْمَةَ وَلَا بَيْعَ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لِتَفَاوُتٍ يَكُونُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ، إلَّا أَنَّ بَعْدَ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، فَكَانَ حَقُّهُ فِي الْأَخْذِ بَاقِيًا، وَبَعْدَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي بَيَّنَّا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلتَّمَلُّكِ بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا أَنْ يَعُودَ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ، وَالتَّمَلُّكُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ إذَا كَاتَبَهُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، فَلَيْسَ لِمَالِكِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ كَانَ لِمَالِكِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَهُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ رَهْنًا عِنْدَ إنْسَانٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ حَتَّى يَفْتَكَّهُ الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْمَرْهُونِ حَقٌّ لَازِمٌ لِلْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ افْتَكَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ. 3935 - وَإِنْ قَالَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ: أَنَا أُؤَدِّي الدَّيْنَ وَآخُذُهُ بِالْقِيمَةِ، أُجْبِرَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى ذَلِكَ، لِوُصُولِ كَمَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ إلَيْهِ، وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1960 لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا عَلَى أَدَائِهِ وَلَا مُحْتَاجًا إلَيْهِ، فَقَدْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يَفْتَكَّهُ الرَّاهِنُ ثُمَّ يَأْخُذَهُ. 3936 - فَلَوْ آجَرَهُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ مِنْ رَجُلٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَقَبَضَ الْأَجْرَ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ، فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ، وَيَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُنْقَضُ بِالْأَعْذَارِ، وَثُبُوتُ حَقِّ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ فِي الْأَخْذِ عُذْرٌ يُنْقَضُ بِهِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْقَضُ بِهِ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَكُونُ عُذْرًا فِي نَقْضِ الْإِجَارَةِ دُونَ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ بِفَسَادِ الْبَيْعِ يَكُونُ عُذْرًا فِي نَقْضِ الْإِجَارَةِ، دُونَ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. 3937 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الظُّهُورُ نَاقَةً لِمُسْلِمٍ فَجَعَلَهَا مَنْ وَقَعْت فِي سَهْمِهِ بَدَنَةً، وَقَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا أَوْ جَعَلَهَا أُضْحِيَّةً، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ لَمْ يَزُلْ بِهَذَا التَّصَرُّفِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا جَازَ بَيْعُهُ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَقْفِ وَالْحَبْسِ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ هُنَاكَ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَّ خَطَأُ مَنْ يُجَوِّزُ الِاسْتِبْدَالَ بِالْوَقْفِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ وَالْبَدَنَةِ، فَإِذَا أَخَذَهَا بِالْقِيمَةِ اشْتَرَى الَّذِي وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بَدَنَةً فَجَعَلَهَا مَكَانَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي حَقِّهِ عِوَضٌ عَمَّا أُوجِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَحُكْمُ الْعِوَضِ حُكْمُ الْمُعَوَّضِ فِي الْوَقْفِ بِخِلَافِهِ. 3938 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1961 وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ، كَانَ لِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ بِالْعَيْنِ بَعْدَ الْوَفَاءِ، فَيَكُونُ قِيَاسُ مَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ بِالْهِبَةِ مِنْهُ، وَهُنَاكَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقِيمَةِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 3939 - وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ الْآخِذُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْوَارِثِ بِالثَّمَنِ، الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ الْمُورَثُ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ، وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْوَارِثِ هُوَ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ لِلْمُورَثِ، وَلِهَذَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِ مُورَثِهِ، وَيَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ مُورَثُهُ، ثُمَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُورَثِ بِالثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ مِنْ الْوَارِثِ، فَأَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ الْعَيْنَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ عَلَى بَائِعِ الْمُوصِي بِالْعَيْبِ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي. قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يُوصِ بِرَقَبَتِهِ لِأَحَدٍ وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ أَوْ بِغَلَّتِهِ لِرَجُلٍ فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ وَلَا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ فِيهِ حَقًّا لَازِمًا، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَارِثُ بَيْعَهُ وَلَا إبْطَالَ حَقِّهِ، فَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ الْوَارِثِ لِقِيَامِ الْحَقِّ لِلْمُوصَى لَهُ فِيهِ. وَلَا مِنْ الْمُوصَى لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1962 لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ، وَحَقُّ الْأَخْذِ بِالْبَدَلِ إنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْعَيْنَ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَالْمُوصَى لَهُ هُنَاكَ مَالِكٌ لِلْعَيْنِ فَلِذَا أَمْكَنَهُ الْأَخْذُ بِالْقِيمَةِ. فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ أَوْ الْخِدْمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْوَارِثِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ قَدْ بَطَل بِالْمَوْتِ، وَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ الْأَخْذِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. 3940 - وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَحَضَرَ أَحَدُهُمَا وَغَابَ الْآخَرُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْقَدِيمِ، وَقَدْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا لِلنِّصْفِ، وَاعْتِبَارُ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ حَضَرَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: آخُذُ وَقَالَ الْآخَرُ: أُسَلِّمُ، فَلِلَّذِي أَرَادَ الْأَخْذَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْيًا فِي نَصِيبِهِ، فَكَمَا لَا يَمْلِكُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَخْذَ إبْطَالَ خِيَارِ شَرِيكِهِ، لَا يَمْلِكُ الَّذِي يُسَلِّمُ إبْطَالَ خِيَارِ شَرِيكِهِ. وَلَيْسَ لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَقُولَ: إنَّكُمْ تُفْسِدُونَ عَلَيَّ الْعَبْدَ وَتُلْحِقُونَ بِي ضَرَرَ تَبْعِيضِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ مُقَدَّمٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ شَاءَ أَوْ أَبَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1963 وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ وَاحِدًا وَمَاتَ عَنْ ابْنَيْنِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا أَخْذَ النِّصْفِ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ هُنَاكَ لِلْمُورَثِ، وَالْوَرَثَةُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَهُوَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ لَا يَمْلِكُ أَخْذَ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَلَكِنْ إمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يُسَلِّمَ الْكُلَّ، فَكَذَلِكَ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إذَا سَلَّمَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُورَثُ حَيًّا فَسَلَّمَ النِّصْفَ وَسَكَتَ عَنْ النِّصْفِ الثَّانِي. قُلْنَا: لَا فَرْقَ، فَهُنَاكَ لَوْ قَالَ الْمُورَثُ: أُسَلِّمُ النِّصْفَ عَلَى أَنْ آخُذَ النِّصْفَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُ، كَمَا لَا يَكُونُ تَسْلِيمُ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ هَا هُنَا تَسْلِيمًا فِي حَقِّ الْآخَرَ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْمُورَثَ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّسْلِيمِ فِي الْكُلِّ، فَيُجْعَلُ تَسْلِيمُهُ الْبَعْضَ مُطْلَقًا كَتَسْلِيمِ الْكُلِّ، كَمَا فِي الشُّفْعَةِ، وَهَا هُنَا أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ لَا يَمْلِكُ التَّسْلِيمَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ الْمُورَثِ النِّصْفَ، بِشَرْطِ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ. 3941 - وَلَوْ غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى دَارِهِمْ، ثُمَّ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهَدَمَ بَعْضَ بِنَائِهَا، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهَا الَّذِي كَانَتْ لَهُ، فَأَرَادَ أَخْذَهَا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَيَأْخُذُ الْبَعْضَ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ. لِأَنَّ الْبَعْضَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَالْأَصْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُضَ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ الْبِنَاءَ كَانَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1964 أَنْ يَأْخُذَ الْأَصْلَ وَالْبِنَاءَ جَمِيعًا، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْقِيمَةِ بِهَدْمِ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُعْطِيهِ مِنْ الْقِيمَةِ فِدَاءٌ لِمِلْكِهِ، وَالْفِدَاءُ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ، فَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ بِنُقْصَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ بِفِعْلٍ مُكْتَسَبٍ، أَوْ لَا بِفِعْلٍ مُكْتَسَبٍ. 3942 - وَكَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ الْبَعْضَ لَمْ يُنْتَقَضْ شَيْءٌ، مِنْ الْفِدَاءِ عَنْ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا هَدَمَ الْبِنَاءَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى النَّقْضِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ يَخْتَصُّ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُولِ، وَالنَّقْضُ مَنْقُولٌ. ثُمَّ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ الْمَأْخُوذَ بِالثَّمَنِ ابْتِدَاءً، وَالْبِنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ، فَإِذَا فَاتَ بِصُنْعٍ مُكْتَسَبٍ يَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ، فَأَمَّا الْمَالِكُ الْأَوَّلُ هَا هُنَا بِالْأَخْذِ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِالْفِدَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفِدَاءَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الْوَصْفِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الدَّارِ أَرْضٌ فِيهَا نَخْلٌ قَائِمٌ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِقِيمَةِ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ يَوْمَ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ الرَّجُلِ، فَإِنْ كَانَ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ قَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1965 أَكَلَ الثَّمَرَ أَوْ بَاعَهُ، أَوْ قَلَعَ النَّخْلَ أَوْ بَاعَهُ، عَلَى أَنْ يَقْلَعَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ مَا يُعْطِيهِ مِنْ قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ فِدَاءٌ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ، فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ بِفَوَاتِ الْوَصْفِ وَالْبَيْعِ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ النَّخْلَ وَالثَّمَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ شَاءَ، بِخِلَافِ الشَّفِيعِ، فَالشُّفْعَةُ تَخْتَصُّ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُولِ، وَلِلشَّفِيعِ وِلَايَةُ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي مَا بَقِيَ حَقُّهُ، فَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا حَضَرَ قَبْلَ أَنْ يَقْلَعَ الْمُشْتَرِي النَّخْلَ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ، وَيَأْخُذَ الْكُلَّ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ. 3943 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَسَرَهُ الْعَدُوُّ، ثُمَّ وَقَعَ فِي سَهْمِ مُسْلِمٍ، فَحَضَرَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَسْرِ كَانَتْ الْيَدُ لَهُ. وَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي ضَمَانِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ كَانَ هَالِكًا عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ قُلْنَا؛ هُوَ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَدَّى مِنْ الْقِيمَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ إلَّا بِذَلِكَ، فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْهُ أَوْ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1966 لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا. فَإِنْ أَبَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُعِيدَهُ بِالْأَخْذِ إلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ سَلِمَ لَهُ. فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا آخُذُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ، حِينَ أَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِيَحْبِسَهُ بِالثَّمَنِ. 3944 - وَلَوْ مَاتَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ الْعَبْدُ وَتَرَكَ ابْنًا صَغِيرًا، وَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ، ثُمَّ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ وَجَدَهُ الْوَصِيُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ لِلصَّبِيِّ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَارِثَ هَا هُنَا بِالْأَخْذِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُورَثِ، وَأَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمُورِثِ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ الْوَصِيُّ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِ الصَّبِيِّ إنْ كَانَ قَائِمًا، فَإِنْ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ، وَلِلصَّبِيِّ مَالٌ وَرِثَهُ مِنْ أُمِّهِ، فَالْقِيمَةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَيُؤَدَّى فِي مَالِهِ، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ عُهْدَةٌ كَمَا لَا يَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْأَخْذِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِي هَذَا عُهْدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1967 بِمَنْزِلَةِ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ، وَهُنَاكَ يَكُونُ الْوَكِيلُ نَائِبًا مَحْضًا، فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ، فَهَذَا مِثْلُهُ. بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ، فَالْوَصِيُّ أَوْ الْوَكِيلُ إذَا أَخَذَا بِالشُّفْعَةِ يَلْزَمُهُمَا الْعُهْدَةُ، وَتَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمَا الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ ثُمَّ يَرْجِعَانِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ ابْتِدَاءً فِي حَقِّ الشَّفِيعِ. 3945 - فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ كَانَ مُطَالَبًا بِهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، لِقِيَامِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ إيَّاهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْأَخْذِ إذَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي ذَلِكَ، لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ، فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ دَيْنٌ لِنَفْسِهِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، فَإِنْ فَدَى الْوَصِيُّ الْعَبْدَ لِلصَّبِيِّ بِالْقِيمَةِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَيْنٍ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ مُحِيطٍ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ لَهُ الْعَبْدُ فِي دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ إعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمُورَثِ، وَحَقُّ الْغَرِيمِ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1968 ثُمَّ يَكُونُ الْوَصِيُّ مُتَطَوِّعًا فِي الْفِدَاءِ، يَغْرَمُ لِلصَّبِيِّ مَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ لِلصَّبِيِّ هَا هُنَا. فَإِنَّ اسْتِغْرَاقَ التَّرِكَةِ بِالدَّيْنِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ، فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا لِلصَّبِيِّ مَا أَدَّى مِنْ مَالِهِ، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ ظَاهِرًا، فَأَخَذَهُ الْوَصِيُّ وَأَدَّى الْفِدَاءَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَهُنَاكَ هُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ، وَيُبَاعُ الْعَبْدُ لِلْغَرِيمِ بِدَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَشَبَّهَ هَذَا بِمَا لَوْ جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فَفَدَاهُ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، بِأَنْ رَأَى فِيهِ النَّظَرَ لَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَالْمَعْنَى يَجْمَعُ الْفَصْلَيْنِ، فَالْحُكْمُ فِيهَا سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا. ثُمَّ لَا يَكُونُ الْوَصِيُّ بِالتَّطَوُّعِ فِي الْفِدَاءِ نَظِيرَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَهُنَاكَ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي، وَهُوَ قَدْ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوصِي بِقِيمَتِهِ، فَكَذَلِكَ إلَى وَصِيِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. 3946 - وَإِنْ لَمْ يَفْدِ الْوَصِيُّ الْعَبْدَ لِلصَّبِيِّ حَتَّى رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي فَأَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يَفْدِيَهُ، أَوْ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي فَدَاهُ، أَوْ أَمِينٌ مِنْ أُمَنَائِهِ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الدَّيْنُ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءُوا أَدَّوْا الْقِيمَةَ إلَى الصَّبِيِّ، ثُمَّ يُبَاعُ الْعَبْدُ لَهُمْ فِي دَيْنِهِمْ، فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ رَدَّ الْعَبْدَ إلَى مَنْ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي سَهْمِهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْقِيمَةَ فَيُرَدُّ عَلَى الصَّبِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1969 لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْفِدَاءِ هَا هُنَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُتَطَوِّعًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي لِلصَّغِيرِ، فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ لَهُ، وَحُكْمُهُ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَدِّي لِلْفِدَاءِ مُتَطَوِّعًا فِيهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ 3947 - فَلَوْ كَانَ الْوَصِيُّ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ لِلصَّبِيِّ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ يَكُونُ مِثْلَ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ فَيَسْتَوْفِي الْغَرِيمُ دَيْنَهُ، وَمَا فَضَلَ مِنْ الثَّمَنِ فَهُوَ لِلصَّبِيِّ، إرْثٌ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، أَوْ يَكُونُ الْوَصِيُّ مُتَطَوِّعًا فِيمَا أَعْطَى مِنْ الْقِيمَةِ. لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ هَذَا لَيْسَ فِيهِ نَظَرٌ لِلصَّبِيِّ، فَإِنَّهُ يَفْدِي جَمِيعَ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ، وَلَا يُسَلِّمُ لِلصَّبِيِّ مِنْهُ إلَّا النِّصْفَ، وَإِذَا لَمْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَى الصَّبِيِّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي الْفِدَاءِ. 3948 - فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لِلْغُرَمَاءِ إنْ شِئْتُمْ فَالْتَزِمُوا مِنْ الْفِدَاءِ بِقَدْرِ حِصَصِكُمْ، حَتَّى أَبِيعَ الْعَبْدَ فِي دَيْنِكُمْ وَإِلَّا رَدَدْت عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُتَطَوِّعًا فِي الْفِدَاءِ، فَإِنْ فَدَى بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ حُكْمٌ مِنْهُ، فَإِنَّمَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِشَرْطِ النَّظَرِ لَهُ، فَإِنْ قَالَ الْغُرَمَاءُ: لَا نَفْدِي، فَالْعَبْدُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، إلَّا أَنْ يَرَى الْقَاضِي النَّظَرَ لِلصَّبِيِّ فِي أَنْ يَجْعَلَ الْفِدَاءَ مِنْ قِبَلِهِ، بِأَنْ كَانَ حَدَثَ فِي الْعَبْدِ زِيَادَةٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ قِيمَتِهِ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي سَهْمِ الرَّجُلِ، فَحِينَئِذٍ يَجْعَلُ الْفِدَاءَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ. 3949 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1970 وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَدَى بِهِ الْقَاضِي الْعَبْدَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَالدَّيْنُ يُحِيطُ بِتَرِكَتِهِ، فَقَالَتْ الْغُرَمَاءُ: لَا نَرْضَى أَنْ نَفْدِيَ الْعَبْدَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ الْفِدَاءَ قَضَاءً مِنْ دَيْنِنَا، كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي التَّرِكَةِ لَهُمْ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا أَمْضَى الْحُكْمَ عَلَى مُرَادِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ فِيمَا اخْتَارُوا مَنْفَعَةٌ لَهُمْ أَوْ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ. وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَفْدِيَ الْعَبْدَ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ اسْتِغْرَاقَ التَّرِكَةِ بِالدَّيْنِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ. 3950 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوا الْعَبْدَ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي سَهْمِ مُسْلِمٍ، فَحَضَرَ مَوْلَاهُ الْأَوَّلُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى مِلْكِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، فَيَكُونُ حَقُّ الْأَخْذِ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الْأَوَّلِ فِي مِلْكِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَفْدِ ذَلِكَ الْمِلْكُ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَهُ بِالْقِيمَةِ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ عَلَى أَخْذِهِ. 3951 - وَإِذَا أَخَذَهُ الْمَأْسُورُ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ كَانَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتَيْنِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ بِمَا أَدَّى مِنْ الْقِيمَةِ أَحْيَا مِلْكَهُ، وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1971 فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ، فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ بِالْقِيمَةِ الْأُولَى، وَبِمَا أَدَّاهُ الْآنَ إنْ شَاءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ مُشْتَرٍ اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ، ثُمَّ أُسِرَ مِنْهُ ثَانِيًا، فَهُوَ نَظِيرُ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي مِمَّنْ اشْتَرَاهُ مِنْ الْعَدُوِّ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ يَدَعُ. 3952 - فَإِنْ طَلَبَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخْذَهُ مِمَّنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ بِالْقِيمَةِ، أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، فَقَضَى لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ، أَوْ سَلَّمَهُ لَهُ بِدُونِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ قَالَ: لَا أُعْطِيهِ حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا وَجَبَ لِي عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ حَيٌّ فِيهِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الْفِدَاءِ لَهُ، فَيَكُونُ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الْفِدَاءَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا دُونَ رَدِّ الْآبِقِ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ بِالْجُعْلِ الْوَاجِبِ لَهُ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. 3953 - فَإِنْ بَاعَهُ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَلِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ فِي يَدِهِ مَنْ فِي يَدِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي يُوجِبُ لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ لَزِمَهُ رَدُّ ذَلِكَ الْفِدَاءِ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ، بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ أَوْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهَذَا أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا هَا هُنَا أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِمَّنْ فِي يَدِهِ يَجُوزُ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1972 فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ هُنَاكَ فِي يَدِهِ بَعْدَمَا عَادَ إلَى أَصْلِ مِلْكِ الْبَائِعِ، كَمَا أَنَّ هَا هُنَا هُوَ مَضْمُونٌ بِالْفِدَاءِ بَعْدَمَا عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ، ثُمَّ هُنَاكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ فِي يَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا؛ وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ عَيْبًا حَادِثًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ قَبْلَ قَبْضِهِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، وَبَعْدَ قَبْضِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ إذَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا حَادِثًا بَعْدَمَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي. 3954 - وَلَوْ أَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ أَخَذَهُ بِالْفِدَاءِ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ قَطُّ فَلَمَّا رَآهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ. لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَخْتَصُّ بِالشِّرَاءِ الْمُبْتَدَأِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ تَغَيُّرٌ عَنْ الْحَالِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ تَغَيَّرَ إلَى نُقْصَانٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالْفِدَاءِ لِيُعِيدَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ كَمَا كَانَ، وَبَعْدَ التَّغَيُّرِ يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي مَقْصُودِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِهَذَا. 3955 - وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَخْرَجَهُ وَقَدْ مَاتَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ، وَتَرَكَ ابْنًا صَغِيرًا وَعَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ، فَحَضَرَ الْغُرَمَاءُ وَالْوَصِيُّ، فَأَبَى الْغُرَمَاءُ أَنْ يَفْدُوهُ، فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالْمِائَةِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ. لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً ظَاهِرَةً لَهُ، فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ بِالْأَلْفِ، وَيَقْضِي دَيْنَ الْمَيِّتِ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَيَبْقَى لِلصَّغِيرِ خَمْسُمِائَةٍ بِالْمِائَةِ الَّتِي أَعْطَاهَا الْوَصِيُّ، وَفِي الْمَوْضِعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1973 الَّذِي يَتَحَقَّقُ النَّظَرُ فِيهِ لِلصَّبِيِّ لَا يَكُونُ الْوَصِيُّ مُتَطَوِّعًا فِي الْفِدَاءِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ. فَإِنْ نَقَصَ سِعْرُ الْعَبْدِ بَعْدَمَا أَخَذَهُ الْوَصِيُّ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ الْعَبْدُ لِلْغُرَمَاءِ، وَلَيْسَ عَلَى الْوَصِيِّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَرِ لِلصَّبِيِّ كَانَ ظَاهِرًا يَوْمَئِذٍ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ لِلصَّبِيِّ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَا حَدَثَ مِنْ نُقْصَانِ السِّعْرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَمَا أَخَذَهُ الْوَصِيُّ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَصِيِّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهَذَا مِثْلُهُ. 3956 - وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْغَرِيمِ أَخٌ لِلصَّبِيِّ غَائِبٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَصِيُّ حَتَّى فَدَاهُ بِالْمِائَةِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ، فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ فَدَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي نِصْفِ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ أَحْيَا مِلْكَ الْغَائِبِ بِمِلْكِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا فِيهِ. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ أَحْيَا مِلْكَ الصَّغِيرِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا، فَالتَّرِكَةُ كُلُّهَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ. (أَلَا تَرَى) أَنْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ التَّرِكَةَ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَارِثَيْنِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِأَدَاءِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1974 3957 - وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ فَدَاهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي، [فَإِنَّ الْقَاضِيَ] يَقُولُ لِلْغَائِبِ: إنْ شِئْت فَادْفَعْ نِصْفَ الْفِدَاءِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَك وَبَيْنَ الصَّغِيرِ نِصْفَيْنِ، وَإِلَّا رَدَدْنَاهُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الْفِدَاءِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَهَذَا التَّصَرُّفُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَظٌّ لِلصَّبِيِّ فَذَلِكَ لَا يَفُوتُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إذَا كَبِرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالْمِائَةِ إنْ شَاءَ، فَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي نِصْفِ الْفِدَاءِ عَنْ أَخِيهِ. 3958 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْعَدُوِّ اشْتَرَاهُ بِمِائَتِي دِرْهَمٍ، وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ تِسْعُمِائَةٍ، فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَهُ لِلصَّبِيِّ بِالْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لِلصَّبِيِّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَفِيهِ مِنْ الْخُسْرَانِ عَلَى الصَّبِيِّ مَا لَا يَخْفَى. 3959 - فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْوَصِيُّ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الْفِدَاءِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا نَظَرَ لِلصَّبِيِّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ، فَإِنْ بِيعَ الْعَبْدُ بِضِعْفِ ثَمَنِهِ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِلصَّبِيِّ، وَكَانَ الْوَصِيُّ مُتَطَوِّعًا فِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ الْأَخْذِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَخْذُ بِصِفَةِ النَّظَرِ لَهُ يَوْمَئِذٍ، فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. 3960 - وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ فَدَاهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1975 الدَّيْنُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي حِينَ أَمَرَ بِهِ، فَالْوَصِيُّ هَا هُنَا غَيْرُ مُتَطَوِّعٍ فِي الْفِدَاءِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يُخَيِّرُ الْغَرِيمَ، فَإِنْ شَاءَ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِدَاءِ بِقَدْرِ دَيْنِهِ، وَذَلِكَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْفِدَاءِ، وَإِلَّا رَدَّ الْعَبْدَ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، فَإِنْ رَضِيَ الْغَرِيمُ بِذَلِكَ يُسَلِّمُ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي، وَبِيعَ الْعَبْدُ، فَأَخَذَ الْغَرِيمُ دَيْنَهُ، وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ لِلصَّغِيرِ 3961 - فَإِنْ نَقَصَ الْعَبْدُ فِي بَدَنٍ أَوْ سِعْرٍ، فَلَمْ يُبَعْ إلَّا بِقَدْرِ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، لَمْ يَرْجِعْ الصَّبِيُّ عَلَى الْغَرِيمِ بِشَيْءٍ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ الْأَخْذِ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَانِ بَعْدَ ذَلِكَ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْفِدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِشَيْءٍ. وَشَبَّهَ هَذَا بِمَا لَوْ شَجَّ عَبْدٌ مِنْ التَّرِكَةِ رَجُلًا مُوضِحَةً وَفِيهَا دَيْنٌ، فَحُكْمُ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ كَحُكْمِ فِدَاءِ الْمَأْسُورِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1976 [بَابٌ أَسْرُ عَبْدِ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَبَعْدَهَا] 3962 - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ عَبْدًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ ثُمَّ إنَّ مَوْلَاهُ ارْتَدَّ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ فَيْءٌ لِمَنْ أَصَابَهُ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِحَاقَ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي فِي حُكْمِ الْغَيْبَةِ، وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ [الْقَاضِي] بِحُكْمِ الْغَيْبَةِ، فَهُوَ كَالْمَوْتِ، فَكَمَا أَنَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمَأْسُورِ مِنْهُ وَرَثَتُهُ يَخْلُفُونَهُ فِي أَخْذِ الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ إنْ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ الْعَبْدَ قَبْلَ رِدَّتِهِ أَوْ بَعْدَ رِدَّتِهِ، قَبْلَ لَحَاقِهِ أَوْ بَعْدَ لَحَاقِهِ، قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِهِ. 3963 - وَلَوْ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، ثُمَّ وَقَعَ عَبْدُهُ فِي الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ، بِمَنْزِلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1977 الْغَائِبِ إذَا رَجَعَ. وَإِنْ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مُرْتَدًّا عَلَى حَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى أَسَرَ الْعَدُوُّ عَبْدَهُ، وَوَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ، حَتَّى يُنْظَرَ أَيُسْلِمُ أَمْ يُقْتَلُ، فَإِنْ أَسْلَمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَإِنْ قُتِلَ كَانَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ، إلَّا أَنَّهُ يُصَحِّحُ قَبُولَهُ الْهِبَةَ، وَالْأَخْذُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ إلَى مِلْكِهِ مَجَّانًا، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَقُولُ بِنُفُوذِ تَصَرُّفَاتِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ حَتَّى قُتِلَ، فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوهُ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. 3964 - فَإِنْ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُرْتَدًّا، بَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، فَلَمْ يُسْلِمْ حَتَّى وَقَعَ عَبْدُهُ الْمَأْسُورُ فِي الْغَنِيمَةِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي، مَا لَمْ يُسْلِمْ فَيَكُونُ حَقُّ الْأَخْذِ لِوَرَثَتِهِ لَا لَهُ، حَتَّى إذَا وَجَدُوهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا، فَإِنْ أَدَّوْا الْقِيمَةَ مِنْ مَالٍ وَرِثُوهُ مِنْ الْمُرْتَدِّ، ثُمَّ أَسْلَمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ أَيْضًا وَيُعْطِيَهُمْ الْقِيمَةَ الَّتِي غَرِمُوا فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1978 لِأَنَّهُمْ أَعَادُوهُ بِالْأَخْذِ إلَى مِلْكِهِ الْأَوَّلِ. وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيمَا أَدَّوْا مِنْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ اسْتِخْلَاصَ الْمِلْكِ لِأَنْفُسِهِمْ. 3965 - فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أَعْطَوْا الْقِيمَةَ مِنْ مَالِي، فَأَنَا لَا أُعْطِيهِمْ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا أَعْطَوْهُ مُسْتَهْلَكٌ، وَحَقُّهُ لَا يَعُودُ فِي الْمُسْتَهْلَكِ، فَكَانَ إعْطَاءُ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَالٍ آخَرَ لَهُمْ سَوَاءً. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى الْعَبْدَ مِنْ الْعَدُوِّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ، وَأَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ وَرِثَهُ مِنْ الْمُرْتَدِّ، ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمًا، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ أَوْ يَدَعُ. 3966 - وَلَوْ سَلَّمَ الْوَرَثَةُ الْعَبْدَ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمًا فَأَرَادَ الْأَخْذَ بِالْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ صَارُوا كَالْمُسْتَهْلِكِينَ لِهَذَا الْحَقِّ بِالتَّسْلِيمِ، وَفِي الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَعُودُ حَقُّ الْمُرْتَدِّ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْوَرَثَةِ عَلَى الْمِيرَاثِ مِنْ الْمُرْتَدِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَرَثَةَ لَوْ اشْتَرَوْهُ مِنْ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِمِلْكٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ التَّسْلِيمِ مِنْهُمْ، فَعِنْدَ التَّصْرِيحِ أَوْلَى. 3967 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا الْمُرْتَدَّ وَعَبْدَهُ الْمَأْسُورَ جَمِيعًا، قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَأَسْلَمَ الْمَوْلَى، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1979 لِأَنَّهُ حِينَ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ كَانَ هُوَ حَرْبِيًّا مَأْسُورًا، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْأَخْذُ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَثْبُتُ لِوَرَثَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَقْضِ بِلَحَاقِهِ بَعْدُ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَسْلَمَ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِعَبْدٍ لَهُ إلَى دَارِ الشِّرْكِ مُرْتَدًّا مِثْلَهُ فَأُسِرَا جَمِيعًا كَانَ الْعَبْدُ فَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ سَبِيلٌ، فَهَذَا أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ تَمَلُّكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ هُنَا وَالْمَأْسُورُ قَبْلَ لَحَاقِهِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَخْذَهُ، وَلَمْ يَجِئْ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا حَتَّى أُخِذَ أَسِيرًا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِلَحَاقِهِ كَمَا كَانَ يَقْضِي مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْسَرَ؛ لِأَنَّ بِالْأَسْرِ لَا يَخْرُجُ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَرْبِيًّا. 3968 - فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لَهُمْ بِمِيرَاثِهِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَبْدَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمِيرَاثِهِ أَوْ بِعَبْدِهِ، فَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِوَرَثَتِهِ عَلَى أَخْذِ الْعَبْدِ سَبِيلٌ هَا هُنَا. أَمَّا لَهُ فَلِأَنَّهُ كَانَ حَرْبِيًّا حِينَ وَقَعَ الْعَبْدُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا لِوَرَثَتِهِ فَلِأَنَّهُمْ إنْ أَخَذُوهُ أَعَادُوهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ هَا هُنَا. بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَأْتِ هُوَ مُسْلِمًا، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ هُنَاكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1980 يَأْخُذُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ الْحَقُّ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَوْ كَانُوا أَخَذُوهُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا، ثُمَّ جَاءَ هُوَ مُسْلِمًا كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعَادُوهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَهَذَا مِمَّا هُوَ قَائِمٌ مِنْ تَرِكَتِهِ فِي أَيْدِيهِمْ. إلَّا أَنَّهُ يُعْطِيهِمْ مَا غَرِمُوا فِيهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيمَا أَدَّوْا. . 3969 - وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ وُقُوعِ الْعَبْدِ فِي الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَقَعَ فِي الْقِسْمَةِ كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْحَقُّ فِيهَا، فَيُمَكَّنُ مِنْ إعَادَتِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ بِالْأَخْذِ. 3970 - وَلَوْ أَخَذَ الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ فَحَبَسَهُ الْإِمَامُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ، فَجَاءَ وَرَثَتُهُ يَطْلُبُونَ الْعَبْدَ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَضَى بِلَحَاقِهِ فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ بِقَضَاءِ الْقَاضِي مَا لَمْ يُسْلِمْ. فَإِنْ أَخَذُوهُ وَبَاعُوهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ أَوْ جَاءَ مُسْلِمًا بَعْدَ هَذَا التَّصَرُّفِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1981 لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُسْتَهْلِكِينَ بِالْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَدِّ لَا يَعُودُ فِي الْمُسْتَهْلَكِ. 3971 - وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْمُرْتَدِّ مُرْتَدَّةٌ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، لَا سَبِيلَ لَهَا عَلَى مَالِهَا وَلَا عَلَى عَبْدِهَا الْمَأْسُورِ، إنْ كَانَ أُسِرَ مَعَهَا أَوْ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهَا حِينَ أُسِرَتْ فَقَدْ صَارَتْ فَيْئًا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهَا فِي حُكْمِ الْمِلْكِ، أَسْلَمَتْ أَوْ لَمْ تُسْلِمْ، فَكَانَ حَقُّ الْأَخْذِ لِوَرَثَتِهَا. فَإِنْ جَاءَتْ مُسْلِمَةً، وَلَمْ تُؤْسَرْ، فَحَالُهَا كَحَالِ الْمُرْتَدِّ فِي جَمِيعِ مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ حُرَّةً، كَمَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَبْقَى حُرًّا، سَوَاءٌ جَاءَ مُسْلِمًا أَوْ أَسِيرًا فَأَسْلَمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1982 [بَابٌ شُفْعَةُ الْمُرْتَدِّ] 3972 - وَإِذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارِ الْمُرْتَدِّ، أَوْ كَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ رِدَّتِهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ فَلَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ حَتَّى لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، فَعَلِمَ الْبَيْعَ، وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَضَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ، وَالْغَائِبُ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا حَضَرَ، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَلَا شُفْعَةَ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تُورَثُ. وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَقِّ لِوَرَثَتِهِ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْمُرْتَدِّ إذَا جَاءَ مُسْلِمًا. لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ قَضَى بِلَحَاقِهِ فَقَدْ جَعَلَ دَارِهِ مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ وَذَلِكَ يُزِيلُ جَوَازَهُ فَتَبْطُلُ بِهِ شُفْعَتُهُ. 3973 - قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ تُبَاعُ الدَّارُ الَّتِي لَهُ فِيهَا الشُّفْعَةُ، ثُمَّ كَانَ الْبَيْعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ وَهُوَ حَرْبِيٌّ لَا أَمَانَ لَهُ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْحَرْبِيِّ فِيمَا يُبَاعُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1983 أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ اللَّحَاقِ لَوْ بَاعَ دَارِهِ الَّتِي بِهَا يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ أَوْ وَكَّلَ بِبَيْعِهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، فَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمِلْكِ. فَإِنْ طَلَبَ وَرَثَتُهُ أَنْ يَأْخُذُوا بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهُمْ بِمِيرَاثِهِ، وَيَقْضِي لَهُمْ بِالشُّفْعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمْ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ لَحَاقِ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَظَهَرَ أَنَّ بَيْعَ الدَّارِ كَانَ بَعْدَمَا وَجَبَ الْحَقُّ لَهُمْ، فَكَانَ لَهُمْ الشُّفْعَةُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فِيمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارِهِ، ثُمَّ أَسْقَطَ خِيَارَهُ وَعَلِمَ بِالْبَيْعِ فَطَلَبَ الشُّفْعَةَ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: هُنَاكَ الْمُشْتَرِي كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُشْتَرَى، وَهَا هُنَا الْوَرَثَةُ مَا كَانُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ لَا بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمِلْكُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لِمَنْ يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَلَكِنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ كَانَ تَامًّا، وَحَقُّ الْغَيْرِ كَانَ مُنْقَطِعًا، ثُمَّ هُنَاكَ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِهَا إذَا تَمَّ الْمِلْكُ لَهُ فِيهَا، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ، وَلَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ، ثُمَّ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ دَارِهِ، فَلَمْ يَعْلَمُوا بِالْبَيْعِ حَتَّى أُدِّيَتْ الْمُكَاتَبَةُ، ثُمَّ عَلِمُوا بِهِ كَانَ لَهُمْ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ عِنْدَ الْبَيْعِ. 3974 - وَإِذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارِ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1984 لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِنَا بِأَمَانٍ فَهُوَ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّمِّيِّ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ حَتَّى رَجَعَ إلَى دَارِهِ، ثُمَّ عَادَ مُسْتَأْمَنًا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ فَقَدْ صَارَ كَحَرْبِيٍّ لَمْ يَدْخُلْ فِي دَارِنَا حَتَّى الْآنَ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً وَلَا بَقَاءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ بِيعَتْ الدَّارُ بَعْدَمَا رَجَعَ هُوَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى. 3975 - قَالَ: وَلَوْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارِ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَطَلَبَ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ، فَلَهُ ذَلِكَ. فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، لَا شُفْعَةَ لَهُ حَتَّى يُسْلِمَ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ كَمَا بَيَّنَّا. 3976 - وَلَوْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَلَمْ يُسْلِمْ، وَلَمْ يَطْلُبْ عِنْدَ ذَلِكَ الشُّفْعَةَ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، لِتَرْكِ الطَّلَبِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ بِأَنْ يُسْلِمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1985 [بَابٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] 3977 - وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَحَبِلَتْ مِنْهُ هُنَاكَ وَوَلَدَتْ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْوَلَدِ صَغِيرًا فَإِنَّهُ فَيْءٌ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ لِأَبَوَيْهِ، وَالْوَلَدُ تَابِعٌ لِأَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ بِنَفْسِهِ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا سُبِيَ، فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ وُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ كَانَ فَيْئًا، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا كَانَ لِجَدِّهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّافِلَةَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ؛ فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ سَائِرِ الْكُفَّارِ. 3978 - قَالَ: وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِمَالِهِ، ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ، فَهُوَ فَيْءٌ وَلَا يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالُ حَرْبِيٍّ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَا لَحِقَ بِهِ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1986 3979 - وَإِنْ كَانَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخَذَ مَالًا مِنْ مَالِهِ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ، رَدَدْنَاهُ إلَى الْوَرَثَةِ كَمَا يُرَدُّ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ رَجَعَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَلَا سَبِيلَ لِلْوَرَثَةِ عَلَى هَذَا الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوهُ إذَا وَجَدُوهُ فِي الْغَنِيمَةِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ أَطْلَقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْجَوَابَ وَقَسَّمَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فَإِنْ كَانَ عَوْدُهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَاللَّحَاقُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ الْغَيْبَةِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ اللَّحَاقُ الثَّانِي، وَالْمَالُ فِيهِ مَعَهُ، وَكَأَنَّهُ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَا لَهُ. وَأَمَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَقَدْ صَارَ الْمَالُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ، وَهُوَ حَرْبِيٌّ خَرَجَ، فَاسْتَوْلَى عَلَى مَالِ الْوَرَثَةِ وَأَحْرَزَهُ، وَلَوْ اسْتَوْلَى غَيْرُهُ عَلَى هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ، كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَالْمُكَاتَبُ الْمُرْتَدُّ اللَّاحِقُ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا اكْتَسَبَ مَالًا ثُمَّ أُخِذَ مَعَ مَالِهِ فَقُتِلَ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ، وَمَا بَقِيَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ بِخِلَافِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقٌّ لِمَوْلَاهُ، وَبَعْدَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ الْكِتَابَةُ بَاقِيَةٌ، فَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ لَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ فَالْمَوْتُ الْحُكْمِيُّ أَوْلَى، وَقِيَامُ حَقِّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ فَيْئًا؛ فَلِهَذَا كَانَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَفِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءً. فَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَقَدْ صَارَ حَرْبِيًّا حِينَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ كَانَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ 3980 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1987 وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَيْنَا مُرَاغَمًا، أَوْ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ أَسِيرًا فَهُوَ حُرٌّ، لِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ. وَإِنْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فِي تِجَارَةٍ لِمَوْلَاهُ لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ إحْرَازَ نَفْسِهِ عَنْ مَوْلَاهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُتْرَكُ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِإِسْلَامِهِ، بَلْ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ، وَيَقِفُ ثَمَنَهُ حَتَّى يَجِيءَ مَوْلَاهُ فَيَأْخُذَهُ 3981 - وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ الْعَبْدُ، وَلَكِنْ خَرَجَ مُرَاغَمًا لِمَوْلَاهُ لِيَكُونَ ذِمَّةً لَنَا، كَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِزًا لِنَفْسِهِ عَنْ مَوْلَاهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَالذِّمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ فِي حُصُولِ الْإِحْرَازِ بِهَا. وَإِنْ خَرَجَ بِأَمَانٍ كَانَ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ، لَا يَقْبَلُ مِنْهُ الذِّمَّةَ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِلْوَفَاءِ بِالْأَمَانِ. 3982 - وَبَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِ الْمُرْتَدِّ يَعْتِقُ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرَهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَالْمُؤَجَّلُ مِنْ الدُّيُونِ عَلَيْهِ يَصِيرُ حَالًّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فَمَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ إذَا مَاتَ حَقِيقَةً يَثْبُتُ هَا هُنَا. 3983 - وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَوْ أَمَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1988 مُسْلِمَةٌ فَطَاوَعَاهُ فِي الْخُرُوجِ، أَوْ أَجْبَرَهُمَا لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَكَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ. وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِحُرِّيَّتِهِمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ بِاللَّحَاقِ صَارَ حَرْبِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ. وَقِيلَ: بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُفَرِّقُ وَيَقُولُ: هُنَاكَ الْمُسْتَأْمَنُ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى إزَالَةِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ كَانَتْ الْإِزَالَةُ بِالْبَيْعِ لِحُرْمَةِ الْأَمَانِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِلَحَاقِهِ تَمَّ الزَّوَالُ الَّذِي كَانَ مُسْتَحَقًّا. فَأَمَّا هَذَا الْمُرْتَدُّ لَمْ يَكُنْ مُجْبَرًا عَلَى إزَالَةِ هَذَا الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ أَنْ يُلْحِقَ بِهِ دَارَ الْحَرْبِ، فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ أَيْضًا إنْ أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا وَلَهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُهُ. فَإِنْ أُخِذَ الْمُرْتَدُّ وَمَمْلُوكُهُ مَعَهُ مُسْلِمٌ فَالْمَمْلُوكُ حُرٌّ؛ لِأَنَّ إحْرَازَهُ نَفْسَهُ سَبَقَ إحْرَازَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ، كَوْنُ يَدِهِ فِي نَفْسِهِ أَقْوَى. 3984 - وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْمُرْتَدِّ الْمُرْتَدَّةُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الرَّقِيقِ. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ فِي نَفْسِهَا فَالْمُرْتَدَّةُ تَكُونُ فَيْئًا بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ. وَلَوْ دَعَا الْمُرْتَدُّ مَمْلُوكَهُ إلَى الرِّدَّةِ فَأَجَابَهُ إلَيْهَا، ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمَا، فَالْمَمْلُوكُ فَيْءٌ. لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا نَفْسَهُ هَا هُنَا، فَإِنَّهُ حَرْبِيٌّ، وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ عَبْدًا يُقْتَلُ إنْ أَبَى الْإِسْلَامَ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً لَمْ تُقْتَلْ، وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ الْمُرْتَدَّةِ. . 3985 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1989 وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِأُمِّ وَلَدِهِ أَوْ مُدَبَّرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبَةٍ لَهُ مُسْلِمَةٍ، كَرْهًا أَوْ مُطَاوَعَةً، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَهُنَّ حَرَائِرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ جَرَى فِيهِنَّ الْعِتْقُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَمْ يَجْرِ فِيهَا الْعِتْقُ إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ حُرَّةً، فَاَلَّتِي جَرَى فِيهَا الْعِتْقُ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ حِينَ أَدْخَلَهُنَّ دَعَاهُنَّ إلَى دِينِهِ فَارْتَدَدْنَ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَهُنَّ فَيْءٌ، وَمَا جَرَى فِيهِنَّ مِنْ الْعَتَاقِ لَا يُبْطِلُ عَنْهُنَّ الْفَيْءَ؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ الْآنَ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ حَالِ الْحُرَّةِ الْمُرْتَدَّةِ، وَالْحُرَّةُ الْمُرْتَدَّةُ تُسْبَى. 3986 - وَلَوْ كَانَ لَحِقَ مَعَهُ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ فَارْتَدَّا مَعَهُ، أَوْ بَعْدَ مَا أَدْخَلَهُمَا ثُمَّ سُبِيَا مَعَهُ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَإِنْ أَبَى قُتِلَ وَعَتَقَ مُدَبَّرُهُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ كَانَ مُعَلَّقًا بِمَوْتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ. وَعِتْقُ مُكَاتَبِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى قَدْ سَقَطَ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حِينَ قُتِلَ. وَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ فَيْئًا لِلْغَانِمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالدَّيْنُ لَا يَكُونُ فَيْئًا، فَيَسْقُطُ عَنْ الْمُكَاتَبِ أَصْلًا، وَبَرَاءَتُهُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ تُوجِبُ عِتْقَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1990 وَإِنْ أَسْلَمَ الْمَوْلَى كَانَ حُرًّا، وَيُعْرَضُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَبَيَا قُتِلَا، وَإِنْ أَسْلَمَا فَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا لِمَوْلَاهُمَا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالْمُكَاتَبَةَ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّمَلُّكِ بِالِاسْتِرْقَاقِ كَالْحُرِّيَّةِ، ثُمَّ الْحُرُّ الْمُرْتَدُّ لَا يُمْلَكُ بِالسَّبْيِ، فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ. 3988 - وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ عَلَى حَالِهِمَا فَهُمَا حُرَّانِ حِينَ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمَا، أَسْلَمَ الْمَوْلَى أَوْ قُتِلَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْقِنَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يُعْتَقُ، فَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى. 3989 - وَلَوْ لَحِقَتْ الْمُرْتَدَّةُ بِمُدَبَّرٍ أَوْ مُكَاتَبٍ لَهَا، وَهُمَا مُسْلِمَانِ فَالْمَوْلَاةُ فَيْءٌ إنْ أَسْلَمَتْ أَوْ لَمْ تُسْلِمُ، وَهُمَا حُرَّانِ؛ لِأَنَّهُمَا أَحْرَزَا أَنْفُسَهُمَا عَنْهَا. 3990 - وَلَوْ كَانَا ارْتَدَّا مَعَهَا فَهُمَا حُرَّانِ أَيْضًا، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي الْمُرْتَدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَاةَ هُنَا قَدْ صَارَتْ أَمَةً بِالسَّبْيِ، فَكَأَنَّهَا مَاتَتْ، وَالْمُرْتَدُّ لَمْ يَصِرْ عَبْدًا بِالسَّبْيِ فَيَكُونُ عَبِيدُهُ عَلَى حَالِهِمْ، وَوِزَانُ الْمُرْتَدَّةِ الْمُرْتَدُّ إذَا قُتِلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ هُنَاكَ. 3991 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ ارْتَدُّوا وَصَارَتْ دَارَهُمْ دَارَ حَرْبٍ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَأَسْلَمُوا، فَالرِّجَالُ أَحْرَارٌ وَالنِّسَاءُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1991 الْحَرَائِرِ أَوْ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُكَاتِبَاتُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَمَّا مَنْ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَتَكُونُ فَيْئًا بِالسَّبْيِ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَأَمَّا الْمَمَالِيكُ الرِّجَالُ الْمُرْتَدُّونَ فَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ مُدَبَّرُونَ وَمُكَاتَبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ السَّبْيُ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ. وَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ لَمْ يَرْتَدُّوا فَهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُحْرِزِينَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَوَالِيهِمْ. فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَمْ يَجْرِ فِيهِ عَتَاقٌ فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمُرَاغَمَ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِأَحَدٍ فَأَمَّا الْمُدَبَّرُونَ وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ فَوَلَاؤُهُمْ لِمَوَالِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى فِيهِمْ عَتَاقُهُ، وَكَانُوا مُسْتَحَقِّينَ لِلْوَلَاءِ بِذَلِكَ، وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ بِمَنْزِلَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى رِجَالِهِمْ السَّبْيُ، وَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا السَّيْفُ أَوْ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا الْحُكْمُ ثَبَتَ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُدَبَّرَاتِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُكَاتَبُ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ. . 3992 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1992 وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُرْتَدِّينَ أَوْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ سَبَوْا جَوَارِيَ مُسْلِمَاتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاقْتَسَمُوهُنَّ، ثُمَّ اسْتَوْلَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَارِيَةً أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ كَاتَبَهَا ثُمَّ أَسْلَمُوا كُنَّ إمَاءً لَهُنَّ عَلَى حَالِهِنَّ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُنَّ بِالْإِحْرَازِ فَالْجَوَارِي كُلُّهُنَّ حَرَائِرُ؛ لِأَنَّهُنَّ أَحْرَزْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَلَى مَوَالِيهِنَّ، وَقَدْ كَانَ الْمُوَالِي أَهْلَ الْحَرْبِ فَتَمْلِكُ أَنْفُسَهُنَّ بِالْإِحْرَازِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِنَّ حَقٌّ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ الْمَوَالِي، فَيَتِمُّ إحْرَازُهُنَّ لِأَنْفُسِهِنَّ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا مُدَبَّرِينَ أَوْ مُكَاتَبِينَ لِنِسَاءٍ مُرْتَدَّاتٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَيَاتِ صِرْنَ فَيْئًا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِنَّ. 3993 - وَلَوْ كَانَ الرَّقِيقُ ارْتَدُّوا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَمَنْ كَانَ مِنْهُنَّ أَمَةً لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ فَهِيَ فَيْءٌ وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ لِامْرَأَةِ مُرْتَدَّةٍ أَوْ مُشْرِكَةٍ عَرَبِيَّةٍ فَهُمْ أَحْرَارٌ يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمُوا وَإِلَّا قُتِلُوا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مَنْفِيٌّ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَبْدًا لِرَجُلٍ مُرْتَدٍّ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ بَعْدَ مَا يُقْتَلُ مَوْلَاهُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ أَبَى قُتِلَ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ أَيْضًا وَهُوَ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ عَلَى حَالِهِ، وَحَالُهُمْ الْآنَ كَحَالِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا مَعَ الْمَوَالِي فِي جَمِيعِ مَا بَيَّنَّا. . 3994 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1993 وَلَوْ اشْتَرَى الْمُرْتَدُّ أَمَةً حَرْبِيَّةً فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهَا فَهِيَ تَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ مَا جَرَى فِيهَا مِنْ الْعَتَاقَةِ لَا يَقْوَى إذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً، وَلَا يَكُونُ حَالُهَا أَقْوَى مِنْ حَالِ حُرِّيَّةٍ أَصْلِيَّةٍ، وَالْحُرَّةُ الْأَصْلِيَّةُ تُسْتَرَقُّ إذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً، فَأُمُّ الْوَلَدِ أَوْلَى. فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فَهِيَ حُرَّةٌ حِينَ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُحْرِزَةً نَفْسَهَا عَلَى مَوْلَاهَا. 3995 - وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمَةً حَرْبِيَّةً وَوَلَدَ ابْنًا فَهُوَ مُسْلِمٌ عَبْدٌ لِمَوْلَى الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا، وَيَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. فَإِنْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَالِابْنُ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ عَلَى حَالِهِ. لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ سَبَبٌ لِتَقْرِيرِ مِلْكِهِ. 3996 - وَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَالِابْنُ حُرٌّ مِنْ عَشِيرَةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا نَفْسَهُ عَلَى مَوْلَاهُ بِمَنْعِهِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ حُرًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1994 ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ أَحَبَّ. وَلَوْ كَانَ أَبُوهُ حَرْبِيًّا فَأَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَعْتَقَهُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ فَإِنَّ وَلَاءَهُ يَتَحَوَّلُ عَنْهُ. وَهَذَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ، وَأَنَّ الْأَبَ يَجُرُّ وَلَاءَ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَ إلَى مَوَالِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَلَدِ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ مَقْصُودَةٍ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاغَمَ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ «بِحَدِيثِ عَبِيدِ أَهْلِ الطَّائِفِ فَإِنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، مُسْلِمِينَ فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ جَاءَ مَوَالِيهِمْ فَطَلَبُوا رَدَّهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى» . وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِمْ لِأَحَدٍ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، رَدَّ وَلَاءَهُمْ إلَى مَوَالِيهِمْ. فَالْمُرَادُ وَلَاءُ الْمَوْلَاةِ لَهُمْ أَنْ يُوَالُوا مَنْ أَحَبُّوا وَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِمَوَالِيهِمْ الَّذِينَ وَالُوهُمْ. 3997 - وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ وَسَلَّمَهُ، فَهُوَ حُرٌّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ أَبْهَمَ الْجَوَابَ وَهَا هُنَا فَسَّرَ، فَقَالَ: بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ لَا يُعْتَقُ، وَلَكِنْ إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ خُرُوجُهُ مِنْ يَدِهِ لِيُعْتَقَ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1995 لَا بِالْعَقْدِ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ حُكْمِيٌّ، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ أَحْكَامٍ كَدَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ هُنَا أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ حَرْبِيًّا فَقَالَ: الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَإِذَا أَصَابَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فِي يَدِ مَنْ هُوَ أَهْلُ دَارِنَا فَكَأَنَّهُ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ حُرًّا، بِمَنْزِلَةِ الْمُرَاغَمِ، وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي حَرْبِيًّا فَلَوْ لَمْ يَصِرْ فِي يَدِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُعْتَقُ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ السِّيَرِ الصَّغِيرِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مَتَى زَالَ عَنْ مِلْكِ مَوْلَاهُ الْحَرْبِيِّ يَزُولُ إلَى الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ تَمَّ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ حَرْبِيًّا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ مَمْلُوكًا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي. 3998 - وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِعَبْدٍ ذِمِّيٍّ لَهُ طَائِعًا أَوْ كَارِهًا فَوَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمَا فَالْعَبْدُ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لِلذِّمِّيِّ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا عَتَقَ بِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا. وَإِنْ نَقَضَ مَعَ مَوْلَاهُ الْعَهْدَ كَانَ هُوَ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُ فِي مِلْكِ الْحَرْبِيِّ، فَإِذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ كَانَ فَيْئًا. 3999 - فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1996 فَإِنْ لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ حَتَّى وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ فَإِنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ فَهُمْ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ صَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ارْتَدُّوا مَعَ الْمَوَالِي لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَوْ كَانَ حُرًّا لَا يَكُونُ فَيْئًا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا، وَالنَّاقِضُ لِلْعَهْدِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَوْ كَانَ فَيْئًا إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا. 4000 - وَلَوْ أَنَّ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُسْلِمٍ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا أَوْ مُسْلِمًا فَاسْتَعْبَدُوهُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَهُمْ رَقِيقٌ لِمَوْلَاهُمْ عَلَى حَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِعُرْضَةٍ لِلتَّمَلُّكِ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَكَذَلِكَ بِالْقَهْرِ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُمْ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ رَجُلًا يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ دُفِعَ إلَى مَوْلَاهُ وَإِلَّا قُتِلَ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أُنْثَى أَجْبَرُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ تُقْتَلْ. وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ عَبْدًا فَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ. 4001 - وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَارْتَدَّ مَعَهُ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَا جَمِيعًا بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ هَذَا أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ كَاتَبَ أُمَّهُ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ، فَالْمَمْلُوكُ فَيْءٌ لِمَنْ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا حَرْبِيَّيْنِ، وَإِعْتَاقُ الْحَرْبِيِّ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ بَاطِلٌ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1997 مِنْ يَدِهِ، فَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ وَالْكِتَابَةُ وَالِاسْتِيلَادُ فِيهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْعِتْقِ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عُرْضَةً لِلتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ. 4002 - وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَسَرُوا عَبْدًا فَأَحْرَزُوهُ، فَصَارَ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ، ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مَوْلَاهُ، كَانَ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَقَدْ صَارَ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِمَنْعِهِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ حُرًّا. 4003 - وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الظُّهُورُ عَلَيْهِ حَتَّى ارْتَدَّ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَمَا أَمْضَى فِيهِ مَوْلَاهُ مَا أَمْضَاهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْحَرْبِيِّ وَتَدْبِيرَهُ فِي عَبْدِهِ الْمُسْلِمِ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاسْتِرْقَاقِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ، فَكَانَ مَا جَرَى فِيهِ مِنْ الْعَتَاقِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً فِي مَنْعِ جَرَيَانِ السَّبْيِ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ سَبْيٌ كَانَ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ إنْ سُبِيَ مَعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ لَمْ يُسْبَ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ فَكَانَ حُرًّا. 4004 - وَلَوْ كَانَ إنَّمَا أَمْضَى فِيهِ الْمَوْلَى مَا أَمْضَاهُ بَعْدَ ارْتِدَادِ الْعَبْدِ فَجَمِيعُ مَا أَمْضَى فِيهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ فَيْءٌ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1998 لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ حَرْبِيًّا، وَإِعْتَاقُ الْحَرْبِيِّ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ بَاطِلٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يُسْتَرَقُّ مِنْ رِجَالِ الْمُرْتَدِّينَ مَنْ لَهُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حُرَّ الْأَصْلِ فَهُوَ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا لَا يُنْقَضُ بِالِاسْتِرْقَاقِ الْحُرِّيَّةُ الْمُتَأَكِّدَةُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. 4005 - وَلَوْ كَانَ عَبِيدُ الْمُرْتَدِّينَ قَهَرُوا مَوَالِيَهُمْ وَاسْتَعْبَدُوهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ، أَمَّا الْمَوَالِي فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَارَ الْأَصْلِ، وَلَوْ سَبَاهُمْ غَيْرُ عَبِيدِهِمْ فَكَذَلِكَ إذَا أَسَرَهُمْ عَبِيدُهُمْ، وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَلِأَنَّهُمْ حِينَ قَهَرُوا مَوَالِيَهُمْ وَغَلَبُوا عَلَى الدَّارِ صَارُوا أَحْرَارًا بِمَنْزِلَةِ الْمُرَاغِمِينَ لِمَوَالِيهِمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا قَهَرَهُمْ عَبِيدُهُمْ وَغَلَبُوا عَلَى دَارِهِمْ. لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عُرْضَةُ التَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ إذَا أَسَرَهُمْ غَيْرُ عَبِيدِهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسَرَهُمْ عَبِيدُهُمْ كَانُوا أَرِقَّاءَ لَهُمْ، وَكَانَ الْعَبِيدُ أَحْرَارًا لِقَهْرِهِمْ مَوَالِيَهُمْ وَإِحْرَازِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ. 4006 - قَالَ: وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ ثُمَّ ارْتَدَّ وَكَانَ أَسْرُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ ارْتَدَّ فَأَعْتَقَهُ فَإِنَّ عِتْقَهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ حَرْبِيًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1999 فَإِنْ خَلَّى سَبِيلَهُ حِينَ أَعْتَقَهُ صَارَ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَوْلَاهُ، وَمَوْلَاهُ غَيْرُ قَاهِرٍ لَهُ فَهُوَ حُرٌّ الْآنَ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ خُرُوجُهُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ لَا يَحْكُمُ بِعِتْقِهِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ لِكَوْنِهِ مُعْتَقًا لَهُ بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقًّا بِيَدِهِ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنْ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمَا فَالْمَوْلَى فَيْءٌ لِمَنْ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَذَ الْعِتْقُ فِيهِ وَهُوَ مُرْتَدٌّ، وَلِلْمُرْتَدِّ حُكْمُ الْمُسْلِمِ فِي أَنَّهُ لَا يُتَمَلَّكُ بِالْقَهْرِ، فَإِنْ أَسْلَمَ كَانَ حُرًّا، وَإِنْ أَبَى قُتِلَ. 4007 - وَلَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ حِينَ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمَا فَالْمَوْلَى فَيْءٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ فَيْءٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ لَمْ تَثْبُتْ حِينَ لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ. 4008 - وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ وَجَدَهُ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَهَا أَخَذَهُ بِقِيمَتِهِ إنْ أَحَبَّ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْحَرْبِيِّ إيَّاهُ بَعْدَ رِدَّتِهِ كَانَ بَاطِلًا حِينَ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ يَدِهِ. 4009 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2000 قَالَ: وَإِنْ أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ خُرُوجُهُ مِنْ يَدِهِ فَصَارَ حُرًّا ثُمَّ يَتَأَكَّدُ حُرِّيَّتُهُ بِإِسْلَامِهِ 4010 - وَإِنْ قَهَرَهُ مَوْلَاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَخَاصَمَهُ الْعَبْدُ إلَى مَلِكِهِمْ فَحُكِمَ بِعِتْقِهِ وَمَنَعَ مَوْلَاهُ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ أَيْضًا، وَإِنْ حُكِمَ بِرِقِّهِ، وَرَأَى الْعِتْقَ بَاطِلًا فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُكِمَ مِلْكُهُمْ بِعِتْقِهِ فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ مُحْرِزًا نَفْسَهُ عَلَى مَوْلَاهُ بِقُوَّةِ مِلْكِهِمْ فَيَتَأَكَّدُ بِهِ عِتْقُهُ. 4011 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُمْ عَبِيدٌ مُسْلِمُونَ فَارْتَدُّوا، ثُمَّ هَرَبُوا مِنْهُمْ إلَى دَارِ حَرْبٍ أُخْرَى، فَكَانُوا فِيهَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ مَوَالِيهِمْ فَهُمْ أَحْرَارٌ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا كَالْمُرَاغِمِينَ، فَإِنَّهُ كَمَا يَتِمُّ إحْرَازُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ يَتِمُّ إحْرَازُهُ نَفْسَهُ بِدَارِ حَرْبٍ أُخْرَى، عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ أَهْلُ دُورٍ بِاخْتِلَافِ الْمَنَعَاتِ لَهُمْ. 4012 - فَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا أَحْرَارًا، يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمُوا وَإِلَّا قُتِلُوا؛ لِأَنَّ قَبْلَ هَذَا الْأَسْرِ كَانُوا أَحْرَارًا، وَالرِّجَالُ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ الْأَحْرَارِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ سَبْيٌ بِقَهْرِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2001 4013 - وَلَوْ لَمْ يَخْرُجُوا إلَى دَارٍ أُخْرَى وَلَكِنْ سَبَاهُمْ أَهْلُ تِلْكَ الدَّارِ وَأَحْرَزُوهُمْ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ كَانُوا فَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَمَالِيكَ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ فَلَا يَكُونُونَ مُحْرِزِينَ أَنْفُسَهُمْ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. 4014 - وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ فِيهِمْ عَبْدًا حَرْبِيًّا فَهُوَ حُرُّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكُونُ مُسْتَرِقًّا لِمُعْتَقِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَمَا لَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ مِنْ الْحَرْبِيِّ فِي عَبْدِهِ الْحَرْبِيِّ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ جَانِبَ الْمُعْتَقِ، وَيَقُولُ: هُوَ عُرْضَةٌ لِلتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ فِي الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ الْعِتْقُ. 4015 - وَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قُلْنَا: إنْ كَانَ الْعَبْدُ حَرْبِيَّ الْأَصْلِ فَهُوَ فَيْءٌ لِمَنْ أَخَذَهُ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْوَلَاءُ الثَّابِتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِيهِ لِلسَّابِي؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا يَمْنَعُ تَمَلُّكَ الْحَرْبِيِّ بِالْقَهْرِ فَالْوَلَاءُ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُرْتَدًّا فِي الْأَصْلِ فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ بَعْدَمَا نَفَذَ فِيهِ الْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِالْقَهْرِ. وَإِنْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَوَلَاؤُهُ لِمَوْلَاهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ كَانَ نَافِذًا فِيهِ عِنْدَهُ، وَالْوَلَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2002 لِمَنْ أَعْتَقَ ثُمَّ يَتَأَكَّدُ حُكْمُ ذَلِكَ الْوَلَاءِ بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ عِتْقُ مَوْلَاهُ إيَّاهُ بَاطِلًا. فَإِنَّمَا أَعْتَقَ حِينَ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ أَحَبَّ. وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْفُذْ فِيهِ الْعِتْقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ نَفَذَ فِيهِ الْعِتْقُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَاهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ بِهَذَا الْعِتْقِ، لَا فِي أَصْلِ نُفُوذِ الْعِتْقِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ 4016 - فَأَمَّا الْحَرْبِيُّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْوَلَاءِ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ إذَا أَسْلَمَ. خِلَافًا لِمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَإِذَا كَانَ النَّسَبُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ. وَهُمَا يَقُولَانِ الْوَلَاءُ بِالْعِتْقِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَأَحْكَامُ الْإِسْلَامِ لَا تَجْرِي فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَلِلنَّاسِ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا مَوَالِيَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ. قُلْنَا: أُولَئِكَ عَتَقُوا قَبْلَ تَبَايُنِ الدَّارِ، وَقَبْلَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ حُكْمٌ غَيْرُ حُكْمِ الْكَافِرِينَ، فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ الدَّارُ، وَصَارَ لِأَهْلِ كُلِّ دَارٍ حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ، فَمَا كَانَ مِنْ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْوَلَاءُ بِالْعِتْقِ، لَا يَثْبُتُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ. 4017 - قَالَ: وَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُدَبَّرَةٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ حَرْبِيَّةٌ فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فَيْئًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهَا بَاقٍ لِلْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَعْتَقَهُمَا فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمَا رِقٌّ لِمُسْلِمٍ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، وَكَانُوا فَيْئًا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحَرَائِرِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2003 قَالَ: وَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَهُ مَمَالِيكُ مُرْتَدُّونَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُدَبَّرًا فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَالْمُدَبَّرُ بَعْدَمَا عَتَقَ لَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْقَهْرِ. وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فَهُمَا فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمَا عَتَقَتَا بِمَوْتِهِ أَيْضًا، فَكَانَ حَالُهُمَا كَحَالِ الْحُرَّةِ الْمُرْتَدَّةِ. 4019 - قَالَ: وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ مُسْلِمٌ، ثُمَّ رَجَعَ الْعَبْدُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ، فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَرَثَتِهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا الْعَبْدِ، وَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى حَرْبِيًّا. وَعِنْدَ الْحَرْبِيِّ إذَا خَرَجَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ كَانَ حُرًّا. فَإِنْ خَرَجَ يَتَلَصَّصُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ مَرَاغِمُ لِمَوْلَاهُ غَيْرُ مُحَارَبٍ لِلْمُسْلِمِينَ [جَهْرًا] 4020 - وَإِنْ كَانَ خَرَجَ لِيُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ فَظَهَرُوا عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مَرَاغِمُ لِمَوْلَاهُ. وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ فَيْءٌ لِمَنْ أَخَذَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2004 لِأَنَّ قِتَالَهُ الْمُسْلِمِينَ نَقْضٌ مِنْهُ لِلْعَهْدِ، وَقَدْ كَانَ عَتَقَ بِالْمُرَاغَمَةِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ، فَيَكُونُ فَيْئًا لِمَنْ أَخَذَهُ. وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِمَا حَتَّى رَجَعَا إلَى مَوْلَاهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ كَانَا عَبْدَيْنِ لِمَوْلَاهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا كَانَا مُرَاغِمَيْنِ لَهُ حِينَ عَادَا إلَيْهِ. 4021 - وَإِنْ خَرَجَا بِأَمَانٍ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمَا لَا يُتْرَكَانِ لِيَرْجِعَا إلَى مَوْلَاهُمَا، وَلَكِنَّهُمَا يُبَاعَانِ فَيَتَوَقَّفُ أَثْمَانُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا خَرَجَا مُرَاغِمَيْنِ لَهُ، وَلِأَجْلِ الْأَمَانِ يَجِبُ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ مَالِيَّةِ الْحَرْبِيِّ فِيهِمَا. 4022 - وَإِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ فَقَدْ عَتَقَ بِالْمُرَاغَمَةِ، وَهُوَ ذِمَّةٌ لَنَا [لِأَنَّهُ] قَصَدَ إحْرَازَ نَفْسِهِ بِدَارِنَا، وَذَلِكَ دَلِيلُ رِضَاهُ بِأَنْ يَكُونَ ذِمَّةً لَنَا، وَإِنْ خَرَجَ لِصًّا أَوْ مُقَاتِلًا فَظَفِرْنَا بِهِ فَهُوَ فَيْءٌ لِمَنْ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ لَا أَمَانَ لَهُ، فَإِذَا حَصَلَ فِي دَارِنَا فَهُوَ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ فَيْءٌ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2005 [بَابٌ مَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ وَمَا لَا تَجُوزُ] - قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ مَالُ الْأَسِيرِ وَلَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بَيَانُ خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْقُودِ. . 4024 - وَإِذَا كَانَ لَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِ فَإِنْ جَاءَ وَرَثَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ ارْتَدَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ إلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ إسْلَامَهُ كَانَ مَعْلُومًا، وَشَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ بِمَا هُوَ دُونَ الرِّدَّةِ، فَبِالرِّدَّةِ أَوْلَى. 4025 قَالَ: فَإِذَا شَهِدَ بِذَلِكَ مُسْلِمَانِ قَضَى الْقَاضِي بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ. لِأَنَّهُ كَالْمَيِّتِ حُكْمًا عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي. 4026 فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا فَأَنْكَرَ مَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ مِنْ الرِّدَّةِ لَمْ يُبْطِلْ الْقَاضِي قَضَاءَهُ بِإِنْكَارِهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِالْحُجَّةِ عَلَى مَنْ هُوَ خَصْمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2006 وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ إنْكَارَهُ هَذَا إسْلَامًا مُسْتَقْبَلًا مِنْهُ، فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَلَا مَالَهُ إلَّا مَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُرْتَدِّ الْمَعْرُوفِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْمُسْلِمِ ذِمِّيٌّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، إلَّا أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ هَا هُنَا مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى الذِّمِّيِّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ سَمِعَ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ بِرِدَّةِ الْأَسِيرِ فَلَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى جَاءَ مُسْلِمًا وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ ارْتَدَّ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَالُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ قَضَاءُ الْقَاضِي بِلَحَاقِ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَصِيرُ الْمَالُ لِوَرَثَتِهِ. 4028 فَإِذَا جَاءَ مُسْلِمًا كَانَ الْمَالُ عَلَى حَالِهِ إنْ كَانَ ارْتَدَّ أَوْ لَمْ يَرْتَدَّ، وَيَسْأَلُ عَنْ الشَّاهِدَيْنِ فَإِنْ عُدِّلَا أَبَانَ مِنْهُ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ وَلَا يَحْكُمُ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ بَلْ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلرِّدَّةِ حُكْمُ الْمَوْتِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا قَضَاءُ الْقَاضِي. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ هَا هُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَقَدْ قَضَى بِرِدَّتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ عِتْقَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ. قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، فَالْمُرْتَدُّ وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، وَهَا هُنَا الْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2007 وَهُوَ مَا يَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عِتْقَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ. . 4029 - فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فَرَجَعَ بِغَيْرِ اسْتِئْمَانٍ جَدِيدٍ، وَقَالَ: لَمْ أَنْقُضْ الْعَهْدَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْقَاضِي جَعَلَهُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ تَبِينُ امْرَأَتُهُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ نَقْضِهِ الْعَهْدَ وَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، فَكَانَ هَذَا مِنْهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ هُوَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِنَا لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا وَمَا لَهُ لِوَرَثَتِهِ. 4030 وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِأَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ فَالْقَاضِي يَقْضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ لِثُبُوتِ نَقْضِ الْعَهْدِ بِالْحُجَّةِ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ يَرُدُّ مَالَهُ عَلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ نَقْضُ الْعَهْدِ مِنْهُ مَعْلُومًا، ثُمَّ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُقَسِّمَ الْقَاضِي مِيرَاثَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَلَا يَحْكُمُ هَا هُنَا بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ بِدُونِ الْمَوْتِ، بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. . 4031 - قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ مُسْلِمَانِ عَلَى الْأَسِيرِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ غَائِبٌ وَلَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، كَمَا لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْمَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2008 وَلَكِنْ يَسَعُ لِلْمَرْأَةِ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَعْتَدَّ فَتَتَزَوَّجَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُجَّةٌ يَقْضِي الْقَاضِي بِهَا بِالْفُرْقَةِ، لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فَتَتَزَوَّجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. 4032 فَإِنْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ قَدِمَ الْأَسِيرُ فَأَنْكَرَ الطَّلَاقَ، فَإِنْ أَعَادَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَنْفَذَ الْقَاضِي عَلَيْهِ الطَّلَاقَ، وَأَجَازَ نِكَاحَهَا وَإِلَّا رَدَّهَا عَلَى الْأَسِيرِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْفُرْقَةِ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ الْإِعَادَةِ، فَإِنَّهَا قَامَتْ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ. قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِأَنَّهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ، فَالْوَرَثَةُ خَصْمٌ هَا هُنَا، كَمَا فِي فَصْلِ الرِّدَّةِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. 4033 وَإِنْ شَهِدَ عَدْلٌ وَاحِدٌ بِمَوْتِهِ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ، وَلَكِنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ ثُمَّ ذَكَرَ فُصُولًا فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ مَعَ الْمَوْتِ وَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ. . 4034 - قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ عَلَى الْأَسِيرِ وَاحِدٌ أَنَّهُ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهَا، فَلَيْسَ لِامْرَأَتِهِ أَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2009 بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ. 4035 وَإِنْ شَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فَكَذَلِكَ مَا يُزِيلُهُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هَذَا وَشَهَادَتُهُ بِالْمَوْتِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ بِحِلِّ التَّزَوُّجِ لَهَا، وَذَلِكَ خَبَرٌ دِينِيٌّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ، مَا لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ يَجْحَدُهُ، بِخِلَافِ الرِّدَّةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مُسْتَنْكَرٌ. فَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ، وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ يَتَعَلَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ فَلَا يَكُونُ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِيهَا، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ، أَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِهِ إلَّا فِي حُكْمِ اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ خَاصَّةً، وَكَمَا أَنَّ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ فَكَذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَبِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرَّجُلِ. . 4036 - وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَهُوَ يَجْحَدُ أَنْ يَكُونَ نَقَضَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْتُلُهُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُهُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ فِيمَا سِوَى الْقَتْلِ مِنْ الْأَحْكَامِ، حَتَّى يَجْعَلَهُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، لَا فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالسَّرِقَةِ. . 4037 - وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى نَصْرَانِيٍّ أَنَّهُ أَسْلَمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2010 ثُمَّ ارْتَدَّ، وَهُوَ يَجْحَدُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي الْحُجَّةِ. قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ أَنَّهُ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ لَمْ تَقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ، وَالْمُرْتَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ فِي أَنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمَيْنِ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ حُجَّةً، وَإِذَا كَانَ فِي زَعْمِ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمَا أَصْلًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2011 [بَابٌ الْمُرْتَدُّ يُصِيبُ الْحَدَّ وَغَيْرَهُ] 186 - بَابٌ الْمُرْتَدُّ يُصِيبُ الْحَدَّ وَغَيْرَهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: 4038 الْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يُنَافِي الْكُفْرَ وُجُوبُهُ ابْتِدَاءً لَا يُنَافِي بَقَاءَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَا يُنَافِي الْكُفْرَ وُجُوبُهُ ابْتِدَاءً مِنْ الْعُقُوبَاتِ يُنَافِي بَقَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَأَقْوَى الشُّبْهَةِ الْمُنَافِي، فَكَمَا أَنَّ اقْتِرَانَهُ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ يُنَافِي وُجُوبَهُ فَاعْتِرَاضُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ يُنَافِي نَحْوَ هَذَا وَبَعْدَ انْعِدَامِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَبْقَى وَاجِبًا، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا أَصَابَ الْمُسْلِمُ مَالًا أَوْ شَيْئًا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ أَوْ حَدًّا أَقَرَّ بِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ أَوْ أَصَابَهُ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَحَارَبَ الْمُسْلِمِينَ زَمَانًا، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا فَهُوَ مَأْخُوذٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ هَذِهِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ، بِاكْتِسَابِ أَسْبَابِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ إذَا أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ مُسْتَوْجِبًا هَذِهِ الْحُقُوقَ لِمَا فِيهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ إذَا أَصَابَ ذَلِكَ 4039 وَلَوْ أَصَابَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْضُوعٌ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2012 لِأَنَّهُ أَصَابَهُ وَهُوَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْحَرْبِيُّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا كَانَ أَصَابَهُ حَالَ كَوْنِهِ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ "، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ يُلْحَقُ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي الْأَحْكَامِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِمَا يُصِيبُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ لَا يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ، وَالْمُرْتَدُّ بَعْدَ اللَّحَاقِ حَرْبِيٌّ. . 4040 - وَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمُ مِنْ حَدٍّ لِلَّهِ فِي زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ ثُمَّ ارْتَدَّ أَوْ أَصَابَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْضُوعٌ عَنْهُ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَرْبِيًّا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِارْتِكَابِ سَبَبِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ فَيَمْنَعُ الْبَقَاءَ إذَا اعْتَرَضَ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ فِي السَّرِقَةِ. 4041 وَإِنْ أَصَابَ دَمًا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَحَالُهُ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهِ حَقُّ الْعِبَادِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ بِهِ. 4042 وَمَا أَصَابَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ مِنْ الْقَتْلِ خَطَأً فَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ أَصَابَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَفِي مَالِهِ إنْ أَصَابَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِأَنَّ التَّعَاقُلَ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ، وَأَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَنْصُرُ الْمُرْتَدَّ. فَإِنْ الْتَزَمَ الْمُسْلِمُ حَدَّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ، ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2013 لِأَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ وُجُوبَ هَذَا الْحَدِّ ابْتِدَاءً، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ، فَكَذَلِكَ اعْتِرَاضُهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ يَمْنَعُ الْبَقَاءَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَهُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ مَحْبُوسٌ فِي يَدِ الْإِمَامِ، ثُمَّ تَابَ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِحَدِّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ لِأَنَّهُ أَصَابَهُ وَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَافِرَ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ الْخَمْرِ، وَالْحُدُودُ شُرِعَتْ زَوَاجِرَ عَنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَكِبُ مُعْتَقِدًا حُرْمَةَ السَّبَبِ، حَتَّى تُشْرَعَ الزَّوَاجِرُ فِي حَقِّهِ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِاعْتِقَادِهِ حُرْمَةِ سَبَبِهِ وَتَمَكُّنِ الْإِمَامِ مِنْ إقَامَتِهِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ. 4043 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْإِمَامِ حِينَ أَصَابَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَذَلِكَ مَوْضُوعٌ عَنْهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَصَابَهُ وَهُوَ مُحَارِبٌ. وَهَذَا لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ يَعْتَقِدُ مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ مَا دَامَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْإِمَامِ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْمُحَارَبَةُ فَلَا يُجْعَلُ حَرْبِيًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْبُعْدِ مِنْ الْإِمَامِ بِحَيْثُ لَا تَصِلُ يَدُهُ إلَيْهِ فَالْمُحَارَبَةُ تَتَهَيَّأُ لَهُ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ لِذَلِكَ، فَكَانَ مُحَارِبًا حُكْمًا كَاللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ. 4044 - فَإِنْ الْتَزَمَ قِصَاصًا أَوْ حَدَّ قَذْفٍ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: أُصَالِحُكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي عَلَى مَا أُصِيبُ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤَمِّنَهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ» وَلِأَنَّ فِيمَا لَزِمَهُ حَقُّ الْعِبَادِ، فَالْقِصَاصُ مَحْضُ حَقِّ الْوَلِيِّ لَيْسَ لِغَيْرِهِ وِلَايَةُ الْإِسْقَاطِ فِيهِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الْمَقْذُوفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2014 وَإِذَا كَانَ هُوَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ عَنْهُ فَكَيْفَ يَمْلِكُ غَيْرُهُ ذَلِكَ، فَظَهَرَ أَنَّ مَنْ يُؤَمِّنُهُ عَلَى هَذَا فَهُوَ مُلْتَزِمٌ مَا لَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ 4045 فَإِنْ آمَنَهُ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ لَهُ بِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ» . وَقَدْ كَانَ هَذَا جَهْلًا مِنْهُ حَيْثُ شَرَطَ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مَا هُوَ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ مَا لَزِمَهُ إذَا طَلَبَهُ الْخَصْمُ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى هَذَا الشَّرْطِ. فَإِنْ قَالَ: إنْ لَمْ تَفُوا لِي بِمَا آمَنْتُمُونِي عَلَيْهِ فَرُدُّونِي إلَى مَأْمَنِي، لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ تَمَكَّنَ مِنْهُ الْإِمَامُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أَنْ يَعُودَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ. 4046 وَإِنْ دَعَا إلَى هَذَا الصُّلْحِ، وَعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَيْهِمْ إلَّا بِالْإِجَابَةِ إلَى ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُعَامِلُوهُ عَلَى أَمْرٍ لَا يَكْذِبُونَ فِيهِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُمْ قَدْ أَعْطَوْهُ مَا أَرَادَ. يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلُوا مَعَارِيضَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُحَارَبِينَ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِقَوْلِهِ، فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2015 فَإِنْ أَبَى إلَّا أَنْ يُعْطُوهُ ذَلِكَ نَصًّا أَعْطَوْهُ ذَلِكَ، وَزَادُوا فِي الصُّلْحِ كَلِمَةً تَنْقُضُ الصُّلْحَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْطِنُ الْمُرْتَدُّ بِهَا فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ لَمَّا جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: نُؤْمِنُ بِشَرْطِ أَلَا نَنْحَنِيَ؛ أَيْ لَا نَرْكَعَ وَلَا نَسْجُدَ، فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ فِي آخِرِ كِتَابِ الصُّلْحِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ» وَرَأَى هَذِهِ الْكَلِمَةَ نَاقِضَةً لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ. 4048 فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى هَذَا أَيْضًا وَأَعْطَوْهُ الصُّلْحَ عَلَى مَا أَرَادَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ مِنْ الشَّرْطِ كَانَ حَرَامًا أَيْضًا، وَارْتِكَابُ حَرَامٍ لَا يَطْرُقُ إلَى ارْتِكَابِ حَرَامٍ آخَرَ شَرْعًا. 4049 - وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَمِّنُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحِقٌّ حَدًّا، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا تَأْخِيرُهُ بِمَالٍ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَيْسَ هُوَ الْمَالُ، بَلْ الْتِزَامُ الْحَرْبِيِّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَأَحْكَامُ الْإِسْلَامِ لَازِمَةٌ عَلَى الْمُرْتَدِّ فَلَا يَكُونُ فِي إعْطَاءِ الْأَمَانِ لَهُ غَرَضٌ سِوَى إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2016 فَإِنْ أَعْطَوْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى خَرَجُوا إلَيْنَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَوْا قُتِلُوا، وَلَا يَجُوزُ رَدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مُسْتَحَقٌّ عَيْنًا عَلَى الْمُرْتَدِّ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . 4051 - وَإِنْ طَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ، أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَادِعَهُمْ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ كَانَ لَا يَقْوَى عَلَى قِتَالِهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ جَعْلًا عَلَى الْمُوَادَعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ الْخَرَاجَ. فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُرْتَدِّ وَكُلُّ مَالِ الْمُرْتَدِّينَ هُوَ فَارِغٌ عَنْ حَقِّ وَرَثَتِهِ فَيُصِيبُهُ بَيْتُ الْمَالِ. 4052 وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ مَالًا جَعَلَ ذَلِكَ الْمَالَ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ، حَتَّى يَتُوبُوا ثُمَّ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2017 لِأَنَّ مَالَ الْخَوَارِجِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً لِأَهْلِ الْعَدْلِ بِحَالٍ، بِخِلَافِ أَمْوَالِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَا صَارُوا مُحَارَبِينَ. وَعَلَى هَذَا الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا إذَا الْتَزَمَ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤَمِّنُوهُ عَلَى أَنْ يُسْلِمَ فَلَا يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، فَالْمُسْتَأْمَنُ فِيهِ وَالْمُرْتَدُّ سَوَاءٌ. . 4053 - وَلَوْ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ أَسِيرًا بَعْدَ مَا عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ بَطَلَ عَنْهُ كُلُّ شَيْءٍ أَصَابَهُ إلَّا الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَقِيقًا، وَالرِّقُّ يُنَافِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ ابْتِدَاءً فَيُنَافِي الْبَقَاءَ أَيْضًا، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَالرِّقُّ لَا يُنَافِي وُجُوبَهُ ابْتِدَاءً. 4054 وَأَمَّا مَا كَانَ أَصَابَ مِنْ مَالِ فَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ، فَلَا يَبْقَى إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَا وَجْهَ لِشَغْلِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِهَذَا الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ لِلسَّابِي بَعْدَ اكْتِسَابِ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ، فَلِهَذَا يَسْقُطُ عَنْهُ 4055 وَكَذَلِكَ الْخَوَارِجُ إذَا أَصَابُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَنْعَةٌ، ثُمَّ صَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَسَأَلُوا الصُّلْحَ عَلَى أَلَّا يُؤَاخَذُوا بِشَيْءٍ مِمَّا أَصَابُوا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2018 ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا أَصَابُوا مِنْ حَدِّ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْحُدُودِ فَذَلِكَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا مُحَارَبِينَ، إذَا تَابُوا، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَالِحَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ. وَكَذَلِكَ مَا أَصَابُوهُ بَعْدَ مَا ظَهَرَ لَهُمْ الْمَنْعَةُ، فَذَلِكَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ إذَا تَابُوا إلَّا أَنَّهُمْ يُطَالَبُونَ بِرَدِّ مَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ طَلَبُوا الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ لَهُمْ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَفِ لَهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ مَا وَجَدُوهُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهِدٍ، وَإِنَّمَا لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ إقَامَةَ هَذِهِ الْحُدُودِ، عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: " أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَنْ ضَغَنٍ، وَمِنْ أَبْيَنِ أَسْبَابِ التَّطَاوُلِ خُرُوجُهُ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْعَدْلِ. . 4056 - وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ إذَا أَصَابَ شَيْئًا مِمَّا فِيهِ مَظَالِمُ الْعِبَادِ فِي حِصْنٍ مِنْ حُصُونِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَطَلَبَ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُتْرَكَ ذَلِكَ لَهُ لِيَفْتَحَ الْحِصْنَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2019 لِأَنَّهُ لَا رَأْيَ لِلْإِمَامِ فِي إسْقَاطِ مَا هُوَ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ حَالَةَ الْحَاجَةِ وَغَيْرَهَا. 4057 إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَ مَالًا وَلَمْ يُصِبْ دَمًا فَرَأَى الْإِمَامُ النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ الْأَمَانِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَالَ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ غَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ التَّخْصِيصِ بِشَيْءٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ يَفْتَحُ الْحِصْنَ لِلْمُسْلِمِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِالْمُرْتَدِّ إذَا وَعَدَ أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يَفْتَحَ الْحِصْنَ لِلْمُسْلِمِينَ. بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيفَاءِ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ مَظَالِمِ الْمُسْلِمِينَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْأَمَانَ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2020 [بَابٌ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الرَّجُلُ مِنْ الرِّدَّةِ فَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَمَا لَا يُصَدَّقُ] 4059 - قَالَ: وَإِذَا رَجَعَ الْأَسِيرُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَخَاصَمَتْهُ زَوْجَتُهُ إلَى الْقَاضِي وَقَالَتْ: إنَّهُ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَبِنْت مِنْهُ، وَقَالَ الْأَسِيرُ: أَكْرَهَنِي مَلِكُهُمْ وَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَكْفُرَنَّ فَفَعَلْت ذَلِكَ مُكْرَهًا فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَلَا يُصَدَّقُ الْأَسِيرُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْفُرْقَةِ وَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ قَدْ ثَبَتَ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ الْأَسِيرُ يَدَّعِي سَبَبًا خَفِيًّا لِيُغَيِّرَ بِهِ حُكْمَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ. (يُوَضِّحُهُ) أَنَّهُ أَضَافَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْفُرْقَةِ إلَى حَالَةٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. 4060 - كَمَا لَوْ قَالَ: كُنْت طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا وَأَنَا مَجْنُونٌ، وَهُوَ لَمْ يَعْرِفْ جُنُونَهُ فِي وَقْتٍ قَطُّ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2021 فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ الْمَلِكَ قَالَ لَهُ: لَأَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَكْفُرَنَّ، وَلَا يُدْرَى أَكَفَرَ عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكْفُرْ وَقَالَ الْأَسِيرُ: فَإِنِّي إنَّمَا أَجْرَيْت كَلِمَةَ الْكُفْرِ عِنْدَ ذَلِكَ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ صَارَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ مَعْهُودَةً، وَمَتَى أَضَافَ الزَّوْجُ سَبَبَ الْفُرْقَةِ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تَمْنَعُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا وَأَنَا صَبِيٌّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَالَةَ إذَا كَانَتْ مَعْهُودَةً فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرٌ لِلْفُرْقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْحَالَةُ مَعْهُودَةً فَهُوَ مُدَّعٍ لِلْمَانِعِ، وَذَلِكَ حَادِثٌ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ خَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ امْرَأَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ حَقُّ الشَّرْعِ، فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ. . 4061 - قَالَ: وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ الزَّوْجُ: أَصَابَنِي بِرْسَامٌ أَوْ وَجَعٌ أَذْهَبَ عَقْلِي أَوْ جُنُونٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنِّي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ أَصَابَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ أَصَابَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مَجْنُونًا مَرَّةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا لِأَنَّ الْجُنُونَ لَهُ صَارَ مَعْهُودًا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَمَتَى كَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي الْفُرْقَةَ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2022 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: طَلَّقْتهَا وَأَنَا نَائِمٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ حَالَ النَّوْمِ حَالٌ مَعْهُودٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ، كَحَالَةِ الصِّغَرِ فَإِضَافَتُهُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ تَكُونُ إنْكَارًا مَعْنًى. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُنْت طَلَّقْتهَا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إنْكَارًا لِلطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. 4062 - وَلَوْ قَالَ: شَرِبْت حَتَّى سَكِرْت فَذَهَبَ عَقْلِي، فَطَلَّقْتهَا، أَوْ ارْتَدَدْت عَنْ الْإِسْلَامِ، فَفِي بَابِ الطَّلَاقِ هِيَ بَائِنٌ مِنْهُ صَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَتْهُ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَالْحَالَةُ الَّتِي أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَيْهَا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْفُرْقَةِ، بِخِلَافِ النَّوْمِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّكْرَانَ عَقْلُهُ مَعَهُ إلَّا أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ السُّرُورُ، فَيَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرِبَ الْبَنْجَ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ عَقْلَهُ، بِخِلَافِ النَّائِمِ، فَإِنَّهُ فِي حَالِ نَوْمِهِ فِي حُكْمِ مَنْ لَا يَعْقِلُ شَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» الْحَدِيثُ وَحَالُ السَّكْرَانِ كَحَالِ ابْنِ السَّبِيلِ الْمُنْقَطِعِ عَنْ مَالِهِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ لَا تَصِلُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ هَلَكَ مَالُهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ وَجَحَدَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2023 فَأَمَّا فِي الرِّدَّةِ فَإِنْ عُرِفَ مِنْهُ السُّكْرُ فِي وَقْتٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ، وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يَهْذِي قَلَّمَا يَنْجُو مِنْ ذَلِكَ، وَحُكْمُ الرِّدَّةِ يَبْتَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ، فَالسَّكْرَانُ لَا يَكُونُ مُعْتَقِدًا لِمَا يَقُولُ، فَمَتَى أَضَافَ إلَى حَالَةٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَمَتَى أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ وَتَكْذِيبِهَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ مَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ. 4063 - وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِلْقَاضِي: إنِّي سَمِعْت زَوْجِي يَقُولُ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَ الزَّوْجُ إنَّمَا قُلْت ذَلِكَ حِكَايَةً عَمَّنْ يَقُولُ هَذَا فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ مَا فِي الضَّمِيرِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِحُكْمِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ مَا فِي ضَمِيرِهِ دُونَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَالشَّيْءُ لَا يَنْسَخُهُ إلَّا مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ بِقَلْبِهِ كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَسْتَوِي إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِيمَا قَالَ أَوْ كَذَّبَتْهُ. 4064 وَلَوْ قَالَ: إنِّي وَصَلْت كَلَامِي فَقُلْت: النَّصَارَى يَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ أَوْ قُلْتُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ قَوْلُ النَّصَارَى، وَلَمْ تَسْمَعْ الْمَرْأَةُ إلَّا بَعْضَ كَلَامِي، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: كَذِبٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2024 لِأَنَّ الزَّوْجَ هَا هُنَا مَا أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ، فَإِنَّ عَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا تَكُونُ مُوجِبَةً لِلْفُرْقَةِ، فَيَكُونُ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرًا لِمَا تَدَّعِيهِ مِنْ السَّبَبِ الْمُوجِبِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ: كُنْت قُلْت لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَذَّبَتْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، فَهُنَاكَ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا فَهَذَا مِثْلُهُ. 4065 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ أَظْهَرْت قَوْلِي الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَأَخْفَيْت مَا سِوَى ذَلِكَ، إلَّا أَنِّي تَكَلَّمْت بِهِ مَوْصُولًا بِكَلَامِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، إلَّا إنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ قَالَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ الْقَاضِي يَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتَهُ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ.؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ أَثْبَتُوا السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْفُرْقَةِ، وَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِيمَا يُبْطِلُ شَهَادَةَ الشُّهُودِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ السَّبَبُ لِلْفُرْقَةِ إنَّمَا ظَهَرَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ مَا يُنَافِي وُقُوعَ الْفُرْقَةِ، فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يُقْبَلُ قَوْلُ الشُّهُودِ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى النَّفْيِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ، قُلْنَا: لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ بِمَا سَبَقَ مِمَّا هُوَ إثْبَاتٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى أَنَّ هَذَا أَخُ الْمَيِّتِ وَوَارِثُهُ، لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ. (يُوَضِّحُهُ) أَنَّ قَوْلَهُمْ: لَمْ يَقُلْ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ فِيهِ إثْبَاتُ أَنَّ مَا يَدَّعِي مِنْ الزِّيَادَةِ فِي ضَمِيرِهِ لَا فِي كَلَامِهِ، فَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِمُوجِبِ كَلَامِهِ، وَلِأَنَّهُمْ فِي شَهَادَتِهِمْ أَثْبَتُوا سُكُوتَهُ بِقَوْلِهِمْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، وَالسُّكُوتُ لَهُ أَمْرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2025 مُثْبَتٌ مُعَايَنٌ، حَتَّى لَوْ قَالَ الشُّهُودُ: لَا نَدْرِي أَقَالَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ إلَّا أَنَّا لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ قَوْلِهِ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ هَا هُنَا الشُّهُودَ مَا أَثْبَتُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي ضَمِيرِهِ لَا فِي كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: لَمْ نَسْمَعْ، وَكَمَا لَمْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ مِنْهُ فَالْقَاضِي لَمْ يَسْمَعْ أَيْضًا، وَهُمْ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إلَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ السَّمَاعِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَى التَّكَلُّمَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْخُلْعِ أَوْ التَّكَلُّمِ بِالشَّرْطِ أَوْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ مَوْصُولًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِخُلْعٍ أَوْ طَلَاقٍ بِغَيْرِ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوَ إنْ شَهِدُوا وَقَالُوا خَالَعَ أَوْ طَلَّقَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ طَلَّقَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ. 4066 وَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ كَلِمَةِ الطَّلَاقِ أَوْ الْخُلْعِ فَالْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَكُونُ دَلِيلَ صِحَّةِ الْخُلْعِ مِنْ قَبْضِ الْبَدَلِ أَوْ سَبَبٍ آخَرَ، فَحِينَئِذٍ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا تُبْتَنَى هَذِهِ الْفُصُولُ كُلُّهَا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي بَيَّنَّا. قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَرَفَ أَنَّهُ جُنَّ مَرَّةً فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: إنَّهُ ارْتَدَّ الْبَارِحَةَ أَوْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، فَقَالَ الرَّجُلُ عَاوَدَنِي الْجُنُونَ الْبَارِحَةَ فَقُلْت ذَلِكَ، وَأَنَا مَجْنُونٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا وُجِدَ مَرَّةً فَهُوَ لَازِمٌ أَبَدًا، وَلِهَذَا كَانَ عَيْبًا لَازِمًا إذَا وُجِدَ مَرَّةً فِي حَالَةِ الصِّغَرِ أَوْ الْكِبْرِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي حَمَالِيقِ عَيْنَيْ الَّذِي جُنَّ مَرَّةً تَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ أَثَرِ الْجُنُونِ فِيهِ، فَهُوَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى إنَّمَا يُضِيفُ كَلَامَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2026 وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْجُنُونِ قَطُّ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى جُنَّ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: قَدْ كُنْت هَكَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ مِمَّا يَحْدُثُ فَحُدُوثُهُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِيمَا مَضَى، فَأَمَّا بَعْدَ مَا عُلِمَ وُجُودُهُ فَهُوَ لَا يَزُولُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فَلِهَذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ هُنَاكَ وَلَمْ نَقْبَلْهُ هَا هُنَا، وَكَذَلِكَ النَّوْمُ. . 4068 - وَلَوْ ادَّعَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَقْتَ الْعَصْرِ ثَلَاثًا، فَقَالَ الزَّوْجُ: كُنْت نَائِمًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.؛ لِأَنَّ النَّوْمَ يَعْتَرِي الْمَرْءَ عَادَةً فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَهُوَ مَا يَذْهَبُ وَيَعُودُ كَالْجُنُونِ فَيَكُونُ بِهِ مُضِيفًا إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ. . 4069 - وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ سَكِرَ مُنْذُ شَهْرٍ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: إنَّهُ ارْتَدَّ الْبَارِحَةَ، وَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ سَكِرْت الْبَارِحَةَ كَمَا سَكِرْت مُنْذُ شَهْرٍ فَارْتَدَدْت، وَأَنَا لَا أَعْقِلُ، فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ لَا يَعُودُ بَعْدَ زَوَالِ سَبَبِهِ إلَّا بِاكْتِسَابِ سَبَبٍ جَدِيدٍ لِذَلِكَ، وَاكْتِسَابُ ذَلِكَ السَّبَبِ مِنْهُ الْبَارِحَةَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ. 4070 وَعَلَى هَذَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْكُفْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2027 فَكَفَرَ مَرَّةً، ثُمَّ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَدَّقَهَا بِالْكُفْرِ الثَّانِي، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ ثَانِيًا لَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبًا مُتَجَدِّدًا غَيْرَ مَعْلُومٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُبَرْسَمًا مُنْذُ سَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: أَصَابَنِي ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ شَرِبَ الْبَنْجَ مُنْذُ سَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ شَرِبْته الْبَارِحَةَ فَذَهَبَ عَقْلِي لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا لَا يَعُودُ إلَّا بِاكْتِسَابِ سَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ، وَلِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا يَزُولُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ وَعَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ قَطُّ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ وَالنَّوْمِ، فَبِهَذَا الْحَرْفِ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2028 [بَابُ الْكَفَالَةِ بِالْمُسْتَأْمَنِ وَالْأَسِيرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ] 4071 - قَالَ: وَإِذَا خَلَّوْا سَبِيلَ الْأَسِيرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَلَّا يَخْرُجَ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَكَفَلَ بِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخْفِرَ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ وَلَهُ أَنْ يُخْفِرَ الْحَرْبِيَّ فَيَخْرُجَ؛ لِأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْكَفِيلَ أَوْ يُعَذِّبُونَهُ إذَا خَرَجَ هُوَ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْحَرْبِيَّ وَيَأْخُذَ مَالَهُ فَيَخْرُجَ، فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَهُ لِلْقَتْلِ أَيْضًا بِالْخُرُوجِ، وَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَهُمَا لِلْقَتْلِ بِخُرُوجِهِ. 4072 - وَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ فَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْخُرُوجِ، حَتَّى أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخْفِرَ كَفِيلَهُ حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَرْبِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَأْمَنِ أَنْ يَقْتُلَ الْحَرْبِيَّ وَيَأْخُذَ مَالَهُ فَيَخْرُجَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَهُ لِلْقَتْلِ أَيْضًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَسِيرِ، وَقَدْ ثَبَتَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ الْأَمَانُ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوهُ وَهُوَ قَدْ الْتَزَمَ لَهُمْ أَلَّا يَخُونَهُمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2029 فَكَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ هَذَا الْأَمَانَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً؛ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخْفِرَ كَفِيلَهُ. . 4073 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مَظْلُومًا فِيهِمْ فَكَفَلَ بِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ عَلَى أَنْ يُحْضِرَهُ يَوْمَ كَذَا لِيَقْتُلُوهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُخْفِرَ كَفِيلَهُ وَيَخْرُجُ، سَوَاءٌ كَانَ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُضُورِ يَكُونُ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ مُلْقِيًا بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَلَا رُخْصَةَ فِي ذَلِكَ. 4074 وَإِذَا خَرَجَ هُوَ فَقَتَلُوا كَفِيلَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُعِينًا عَلَى قَتْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يُحْضِرَهُ الْكَفِيلُ فَيَقْتُلُوهُ كَانَ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ خَوْفُ الْهَلَاكِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالْمُسْلِمُ فِي هَذَا مَأْمُورٌ بِأَنْ يَبْدَأَ بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ. . 4075 - وَلَوْ قَالُوا: أَعْطِنَا كَفِيلًا بِنَفْسِك حَتَّى نَحْضُرَك يَوْمَ كَذَا فَنَأْخُذَ مِنْك الْمَالَ، أَوْ حَبَسْنَاك أَوْ قَيَّدْنَاك، فَأَعْطَاهُمْ كَفِيلًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْفِرَ كَفِيلَهُ هَا هُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2030 لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ وَالْتَزَمَ لَهُ الْوَفَاءَ حِينَ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ إنَّمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ بِحَالٍ، وَأَنْ يُبَاشِرَ اخْتِيَارًا بِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ الْخُرُوجِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، وَهَا هُنَا إنَّمَا يَخَافُ مَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُبَاشِرَهُ، مِنْ بَذْلِ مَالٍ أَوْ رِضَاءٍ بِالْحَبْسِ أَوْ بِالْقَيْدِ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِكَفِيلِهِ. . 4076 - وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ مُسْلِمَةً فِيهِمْ أَعْطَتْ كَفِيلًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا عَلَى أَنْ يَحْضُرَهَا غَدًا لِيَفْجُرَ بِهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ أَوْ يَتَزَوَّجَهَا، وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُخْفِرَ كَفِيلَهَا؛ لِأَنَّ مَا تَخَافُ مِنْهُ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ أَنْ تَأْذَنَ فِيهِ بِحَالٍ، فَكَانَ هَذَا وَالْقَتْلُ سَوَاءً 4077 - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ فَأَرَادُوهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُخْفِرَ كَفِيلَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ كَافِرًا فَلَهَا أَنْ تُخْفِرَ كَفِيلَهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فَهَذَا الْعَقْدُ مِمَّا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُبَاشِرَهُ، وَأَنْ تَأْذَنَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ كَافِرًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُبَاشِرَهُ، وَلَا أَنْ تَرْضَى بِهِ بِحَالٍ. 4078 - وَلَوْ أَرَادُوا مِنْهُ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ أَوْ يَقْتُلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ غَدًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُخْفِرَ كَفِيلَهُ هَا هُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2031 لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ حُرْمَةٌ بَاتَّةٌ مُصْمَتَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَحِلُّ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ مِنْ نَفْسِهِ وَيَرْضَى بِهِ، بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَكْفُرَنَّ بِاَللَّهِ أَوْ لَنَقْتُلَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ إذَا خَافَ الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَسَعُهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إذَا خَافَ الْقَتْلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ هَا هُنَا إنَّمَا يَخَافُ الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَهْرُبَ مِنْ الشِّرْكِ وَيَدَعَ كَفِيلَهُ. . 4079 - وَلَوْ قَالُوا: اُقْتُلْ هَذَا الْمُسْلِمَ أَوْ الْمُعَاهِدَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ فَأَعْطَاهُمْ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُحْضِرَهُ غَدًا لِيَفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يُخْفِرَ كَفِيلَهُ فَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَصْلًا، سَوَاءٌ كَانَ يَخَافُ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. . - وَلَوْ قَالَ لِلْأَسِيرِ نُخَلِّي سَبِيلَك عَلَى أَنْ تُؤَمِّنَنَا فَلَا تَغْتَالَ أَحَدًا مِنَّا، وَلَا تَأْخُذَ لِأَحَدٍ مِنَّا مَالًا، وَلَا تَخْرُجَ مِنْ بِلَادِنَا فَحَلَفَ لَهُمْ عَلَى هَذَا، وَخَلَّوْا سَبِيلَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ، وَيُكَفِّرُ يَمِينَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» . إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فَيَقْتُلَ أَحَدًا مِنْهُمْ، أَوْ يَأْخُذَ لَهُ مَالًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَعْطَاهُمْ الْعَهْدَ عَلَى هَذَا فَقَدْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِيهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2032 أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَغْتَالَ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمِهِمْ وَرِضَائِهِمْ، فَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ إذَا أَعْطَاهُمْ الْعَهْدَ عَلَى هَذَا. . 4081 - فَإِنْ أَعْطَى الْأَسِيرُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَلَّا يَخْرُجَ، ثُمَّ طَاوَعَهُ الْكَفِيلُ فَخَرَجَا جَمِيعًا فَلَا بَأْسَ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الْخُرُوجِ لِحَقِّ الْكَفِيلِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِأَهْلِ الْحَرْبِ شَيْئًا، فَإِذَا سَاعَدَهُ الْكَفِيلُ عَلَى الْخُرُوجِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ حَقِّ الْكَفِيلِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ ظَالِمِينَ فِي حَبْسِهِ، وَلِلْمَظْلُومِ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، فَإِذَا أَخْفَرَ كَفِيلَهُ كَانَ ظَالِمًا، فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ فِي الْكَفَالَةِ أَمْرَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَوْ قَصَدَهُ ظَالِمٌ بِظُلْمٍ فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُخْفِرَ كَفِيلَهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ، فَهَذَا مِثْلُهُ. . 4082 - وَلَوْ قَالُوا لَهُ نُخَلِّي سَبِيلَك وَنُؤَمِّنُك وَتُؤَمِّنُنَا عَلَى أَلَّا تَخْرُجَ مِنْ بِلَادِنَا، فَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِيهِمْ الْآنَ. وَلَكِنْ لَوْ أَعْطَاهُمْ كَفِيلًا حَرْبِيًّا بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُخْفِرَ كَفِيلِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2033 لِأَنَّهُ هَا هُنَا لَا يَسَعُهُ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَيَأْخُذَ مَالَهُ فَلَا يَسَعُهُ إخْفَارُ كَفِيلِهِ أَيْضًا. وَإِنْ سَاعَدَهُ الْكَفِيلُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ فَلَا بَأْسَ بِالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّهُ لَا حَقُّ أَهْلِ الْحَرْبِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْطِهِ كَفِيلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ. فَإِنْ خَرَجَ الْكَفِيلُ مَعَهُ بِأَمَانٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ مَعِي إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَلَيْسَ عَلَى الْأَسِيرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الْأَمَانِ قَدْ انْتَهَى بِخُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْكَفَالَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذَا الْحَرْبِيَّ لَوْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَانَ خَارِجًا مِنْ أَمَانِ الْأَسِيرِ وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْشُوَ الْأَسِيرُ الْمُسْلِمُ بَعْضَ أَهْلِ الْحَرْبِ لِيَتْرُكَهُ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَالَهُ وِقَايَةً لِنَفْسِهِ، وَبِهِ أَمَرَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: " اجْعَلْ مَالَك دُونَ نَفْسِك، وَنَفْسَك دُونَ دِينِك ". وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّهُ حُبِسَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَاهُمْ دِينَارَيْنِ حَتَّى خَلَّوْا سَبِيلَهُ. فَعَرْفنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ السُّحْتِ فِي حَقِّ الْمُعْطِي، وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ السُّحْتِ فِي حَقِّ الْآكِلِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ» . إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُعْطِي إذَا قَصَدَ بِهِ الظُّلْمَ، أَوْ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِغَيْرِهِ. فَأَمَّا إذَا قَصَدَ دَفْعَ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2034 أَوْ تَحْصِيلَ مَنْفَعَةٍ لِنَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَحِقَ الضَّرَرُ بِغَيْرِهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا قَصَدَهُ ظَالِمٌ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ إلَيْهِ، لِيَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ: بَلَغَنَا عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: مَا وَجَدْنَا فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ رِشًى. وَفِي وَصْفِهِ ذَلِكَ بِالْخَيْرِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَى الْمُعْطِي فِي الْإِعْطَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ آثِمًا فِي أَخْذِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2035 [بَابٌ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ] 4083 - إذَا اسْتَحْلَفَ مَلِكُهُمْ الْأَسِيرَ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ أَلَّا يَخْرُجَ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَالْيَمِينُ لَازِمَةٌ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ، وَإِنْ كَانَ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ، فَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الْيَمِينِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ وَحَلَّفُوهُ أَلَّا يَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: فِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ.» . 4084 - فَإِنْ كَانَ حَلَفَ أَلَّا يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَلِكِ، ثُمَّ خَرَجَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ. لِأَنَّ هَذَا الْخُرُوجَ بِالصِّفَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ. وَإِنْ خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ حَانِثٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَلِكُ قَدْ مَاتَ. فَإِنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يُوجِبُ تَوْقِيتَ الْيَمِينِ بِحَيَاتِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ عُزِلَ ذَلِكَ الْمَلِكُ. فَإِنَّ اعْتِبَارَ إذْنِهِ حَالَ قِيَامِ سَلْطَنَتِهِ، فَتَوْقِيتُ الْيَمِينِ بِهِ، إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَصْلُهُ فِي الْمَدِينِ إذَا حَلَفَ أَلَّا يَخْرُجَ مِنْ الْبَلْدَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2036 إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، أَوْ الْمَرْأَةُ إذَا حَلَفَتْ أَلَّا تَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّتُ الْيَمِينُ بِحَالِ قِيَامِ الدَّيْنِ، وَحَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ، إلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَلِكَ إنْ أُعِيدَ عَلَى مُلْكِهِ بَعْدَ مَا عُزِلَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ بَطَلَتْ حِينَ عُزِلَ ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَهِيَ بَعْدَ مَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِجَارِيَتِهِ عَبْدِي حُرٌّ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي فَبَاعَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ خَرَجَتْ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ فَأَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا قُلْنَا. . 4085 - وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَّفَ السُّلْطَانُ رَجُلًا لِتَرْفَعَن إلَيَّ كُلَّ دَاعِرٍ تَعْرِفُهُ فِي مَحَلَّتِك فَعُزِلَ ثُمَّ أُعِيدَ عَلَى حَالِهِ، فَعَلِمَ بِدَاعِرٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ وَلَوْ كَانَ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ عَزْلِهِ فَلَمْ يَرْفَعْهُ إلَيْهِ حَتَّى عَزَلَهُ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَيْهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، أَوْ بَعْدَ الْإِعَادَةِ إلَى السَّلْطَنَةِ وَهَذِهِ فُصُولٌ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ. . 4087 - وَإِنْ كَانَ حَلَفَ الْأَسِيرُ لَهُمْ أَلَّا يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2037 مَلِكِهِمْ وَلَمْ يَصْمُدْ بِمَلِكٍ بِعَيْنِهِ فَعُزِلَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ ثُمَّ خَرَجَ الْأَسِيرُ كَانَ حَانِثًا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ إنَّمَا وَقَعَتْ هَا هُنَا عَلَى اسْتِئْذَانِ أَيِّ مَلِكٍ وَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ. فَإِنْ مَاتَ مَلِكُهُمْ أَوْ عُزِلَ، وَلَمْ يُوَلُّوا غَيْرَهُ حَتَّى خَرَجَ الْأَسِيرُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَلِكَ عَلَيْهِمْ الْآنَ، وَهُوَ بِيَمِينِهِ إنَّمَا اسْتَلْزَمَ اسْتِئْذَانَ الْمَلِكِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ لَا يَكُونُ هُوَ بِالْخُرُوجِ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ الْيَمِينِ، فَلَا يَحْنَثُ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ انْتَهَى بِعَزْلِ الْأَوَّلِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى وَلَّوْا غَيْرَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ حَانِثًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ الْيَمِينِ. . 4088 - قَالَ وَلَوْ حَلَفَ أَلَّا يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَلِكِ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَيَمِينُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي كَلَامِهِ هَا هُنَا، وَهُوَ الْمَعْهُودُ، فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ الْمَلِكَ الْمَعْهُودَ خَاصَّةً، وَصَارَ تَعَيُّنُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَتَعْيِينِهِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ. . 4089 - قَالَ: وَإِذَا أَحْرَمَ الْيَسِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَبْلُغَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ وَيَفْدُونَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ الْعَدُوُّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ.؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ لِأَدَاءِ النُّسُكِ بَعْدَ صِحَّةِ إحْرَامِهِ، فَكَانَ مُحْصَرًا وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمُحْصَرِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ وَذَكَرَ هُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2038 أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَدْيٍ يَبْعَثُهُ لِيَتَحَلَّلَ بِهِ، فَإِنَّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ كَانَ يَقُولُ يَتَحَلَّلُ بِصَوْمِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، بِالْقِيَاسِ عَلَى هَدْيٍ الْمُتْعَةِ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَقُولُونَ يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَأَمَّا الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَرِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ بِالْهَدْيِ خَاصَّةً، وَكَوْنُ الصَّوْمِ بَدَلًا عَنْ الْهَدْيِ فِي الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ هُنَا. وَلَا يُقَاسُ الْمَنْصُوصُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عِنْدَنَا، إنَّمَا يُقَاسُ عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَمَّا التَّنْزِيلُ لَا يُقَاسُ بِعَيْنِهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَعْلُومَ بِالتَّنْزِيلِ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَمَا ثَبَتَ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ، وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ فِي (تَمْهِيدِ الْفُصُولِ فِي الْأُصُولِ) . وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2039 [بَابٌ الْعَيْنُ يُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ] 190 - بَابٌ الْعَيْنُ يُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً وَقَدْ أَشَارَ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي كَلَامِهِ إلَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ قَالَ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ، وَقَالَ: يَوْجَعُ عُقُوبَةً وَلَمْ يَقُلْ: يُعَزَّرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ التَّعْزِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ، فَلَا نُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا صَنَعَ الطَّمَعُ، لَا خُبْثُ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، وَبِهِ أُمِرْنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَطْلُبَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِي أَخِيك سُوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا» . وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ «حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى قُرَيْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. . . الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: مَهْلًا يَا عُمَرُ فَلَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ» . فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2040 مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ مَا تَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إقَامَتَهُ عَلَيْهِ. وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] . فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا، وَعَلَيْهِ دَلَّ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَهُمْ. وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27] . - وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يَوْجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السَّجْنَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَةً، فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَةً أَيْضًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ، وَإِنْ كَانَ قَطَعَ الطَّرِيقَ مُحَارَبَةً مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فِينَا فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانَةٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ. إلَّا أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2041 - فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَ الْأَمَانَ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ: قَدْ آمَنَّاك إنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ آمَنَّاك عَلَى أَنَّك إنْ أَخْبَرْت أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا أَمَانَ لَك، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَقَدْ عَلَّقَ أَمَانَهُ هَا هُنَا بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ عَيْنًا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ. - وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا، كَغَيْرِهِ مِنْ الْأُسَرَاءِ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَا هُنَا، لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ. فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا قَصَدَتْ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا إذَا قَاتَلَتْ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى. - وَإِنْ وَجَدُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَيْئًا وَلَا يُقْتَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2042 لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ فَأَخَذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إذَا قَاتَلَتْ فَأَخَذَتْ أَسِيرًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا. وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا. . - وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إنَّمَا وَجَدْته فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذْته فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْلِ. فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِقَيْدٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ، فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ، وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَوْ الْقَتْلِ وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إلَّا بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ، أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَيُقْبَلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2043 - وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، إلَى مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْبِسُهُ وَلَا يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ، وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ، وَتَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2044 [بَابُ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الشَّهَادَاتِ وَالْوَصَايَا] - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، مَقْبُولَةٌ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا تُقْبَلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ لَا اخْتِلَافُ النِّحْلَةِ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ فِيهِمْ بِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ. وَعَلَى هَذَا حُكْمُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ، وَحَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِينَ كَحَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ؛ وَلِهَذَا لَا يُتْرَكُ الْمَمْلُوكُ الذِّمِّيُّ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْمَنِ مُدَّةَ مَقَامِهِ فِينَا، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ، كَمَا لَا يُتْرَكُ الْمُسْلِمُ فِي مِلْكِ الذِّمِّيِّ. - وَوَصِيَّةُ الْمُسْتَأْمَنِ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَلَيْسَ لِوَارِثِهِ فِيهَا حَقُّ الرَّدِّ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ لِحَقِّهِ لَا لِحَقِّ وَارِثِهِ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2045 فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْتَأْمَنُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ، لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ. . - وَوَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ لِلْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالثُّلُثِ تَكُونُ صَحِيحَةً بِمَنْزِلَةِ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ، وَوَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً، وَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ، إلَّا أَنْ يَشَاءُوا أَنْ يَهَبُوا لَهُ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ إذَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ. . - فَإِنْ كَانَ وَارِثُ الْمُسْتَأْمَنِ مَعَهُ بِأَمَانٍ فِينَا لَمْ تَجُزْ وَصِيَّتُهُ، فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ لِأَنَّ حَقَّ وَارِثِهِ هَا هُنَا مُرَاعًى بِسَبَبِ الْأَمَانِ كَحَقِّهِ. فَإِنْ حَضَرَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ شَارَكَ الَّذِي كَانَ حَاضِرًا فِي مِيرَاثِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ قَدْ بَطَلَتْ لِعَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَيَبْقَى ذَلِكَ مَوْرُوثًا عَنْهُ بَيْنَ جَمِيعِ وَرَثَتِهِ. وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْحَاضِرُ مَعَهُ زَوْجَتُهُ أَوْ ابْنُهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقْضِيَ بِمِيرَاثِهِمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ بِمِيرَاثِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ فِي مَالٍ يَكُونُ إبْطَالًا لِلْوَصِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2046 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِينَا أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ الْمُوصَى لَهُ وَابْنُ الْمَيِّتِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْمَالِ لِلْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِوَارِثِهِ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَالُ مُحْتَرَمًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ، فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى مَنْ وَضَعَهُ الْمَيِّتُ فِيهِ. - وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مِنْ أَهْلِ دَارٍ غَيْرِ دَارِهِ فَالْوَصِيَّةُ لَهُ بَاطِلَةٌ، لِتَبَايُنِ الدَّارِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ يُوصِي لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ فِي دَارِنَا بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّ تَبَايُنَ الدَّارِ هَا هُنَا غَيْرُ مَوْجُودٍ صُورَةً وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا حُكْمًا وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ أَسِيرٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ تَبَايُنُ الدَّارِ حُكْمًا، فَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ قَدْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ زَوْجَتَهُ لَوْ خَرَجَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ إسْلَامِهِ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَتْ قَبْلَ إسْلَامِهِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2047 - وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لَهُ وَهُوَ حَرْبِيٌّ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَهُ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالُهُ يَوْمَ أَوْصَى لَهُ، وَقَدْ كَانَ مَيِّتًا عِنْدَ ذَلِكَ حُكْمًا، فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ الْبَاطِلَةُ لَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً بِإِسْلَامِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ وَصِيَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْمَوْقُوفَ لَا الْبَاطِلَ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ ابْنِ أَخِي فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَ سَمَّاهُ بِعَيْنِهِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَوْصَيْت لِابْنِ أَخِي بِكَذَا وَلَمْ يُسَمِّ الِابْنَ بِعَيْنِهِ فَأَسْلَمَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِ عَمِّهِ فَالْوَصِيَّةُ لَهُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصْمَدْ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، اعْتِبَارًا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمُوصَى بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَخِيهِ ابْنٌ ثُمَّ وُلِدَ لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصَى اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الِابْنُ الْوَصِيَّةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ. . - قَالَ: وَلَوْ وَهَبَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي مَرَضِهِ مَالَهُ كُلَّهُ لِابْنِهِ الَّذِي هُوَ مَعَهُ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ ابْنٌ آخَرُ لَهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَأَرَادَ نَقْضَ الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2048 لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِهَذَا الِابْنِ الَّذِي جَاءَ حُرْمَةٌ عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ لِحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ الْحَقُّ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصَى تَمَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ يَحْضُرُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبْطِلَهُ. - وَإِنْ كَانَ مَجِيءُ هَذَا الِابْنِ قَبْلَ مَوْتِ وَالِدِهِ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَ هِبَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُدَّعِي الْحَقِّ عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَكَانَ تَصَرُّفُ الْأَبِ إيثَارًا لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ عَلَى الْبَعْضِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. ثُمَّ إنْ جَاءَ ابْنٌ آخَرُ لَهُ بَعْدَ هَذَا شَارَكَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ حِينَ بَطَلَتْ صَارَ الْمَالُ مِيرَاثًا عَنْ الْمَيِّتِ. - وَلَوْ كَانَ الِابْنُ الَّذِي جَاءَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ أَجَازَ الْهِبَةَ لِأَخِيهِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، قَبْلَ مَجِيءِ الْآخَرِ أَوْ بَعْدَهُ، جَازَتْ الْهِبَةُ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ مَاتَ الْأَبُ قَبْلَ إجَازَتِهِ فَقَدْ صَارَ الْمَالُ مِيرَاثًا بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، أَثْلَاثًا، ثُمَّ إنَّمَا تَعْمَلُ إجَازَةُ الْمُجِيزِ فِي نَصِيبِهِ لَا فِي نَصِيبِ غَيْرِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَ الِابْنُ الْحَاضِرُ الْمِيرَاثَ فَاسْتَهْلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ الِابْنُ الْآخَرُ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ. - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلْمُسْتَأْمَنِ هَا هُنَا ابْنَانِ فَأَوْصَى لَهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ، أَوْ وَهَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْمَالِ مَقْسُومًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2049 وَقَبَضَهُ، ثُمَّ أَجَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، ثُمَّ جَاءَ ابْنٌ آخَرُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِيرَاثَهُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ مِنْ الْمَالِ صَارَ مِيرَاثًا لَهُ بِمَوْتِ الْمُوصِي قَبْلَ إجَازَةِ الِابْنَيْنِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِجَازَتِهِمَا. . - وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ فَأَوْصَى لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَأَجَازَ الِابْنُ الْوَصِيَّةَ لِنَفْسِهِ، بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، ثُمَّ جَاءَ ابْنٌ آخَرُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْمَالِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ وَهَبَ لَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ قَدْ مَلَكَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْقَبْضِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ الْآخَرِ حَقٌّ مَرْعِيٌّ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْإِرْثِ عِنْدَ مَوْتِهِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إنَّمَا تَجِبُ بِالْمَوْتِ كَالْمِيرَاثِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُقَارَنَةِ لَا يَنْتَفِي الْإِرْثُ لِابْنٍ آخَرَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ الْمِيرَاثِ، وَلَا تَعْمَلُ إجَازَةُ الْمُجِيزِ فِي حَقِّهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الِابْنَ الْمُوصَى لَهُ لَوْ أَخَذَ الْمَالَ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ كَانَ لِلِابْنِ الْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ. - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَوَهَبَ مَالَهُ لِمُسَلِّمٍ فِيهِمْ بِأَمَانٍ وَسَلَّمَهُ، فَأَبَى وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُجِيزَ لَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، كَانَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي سِعَةٍ مِنْ مَنْعِ جَمِيعِ الْمَالِ مِنْهُ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَلَّكَهُ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، وَبَعْدَ تَمَامِ الْمِلْكِ مِنْهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ، وَلَا حَقُّ غُرَمَائِهِ، بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ أَسْلَمُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2050 4111 - وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ أَوْصَى لَهُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ أَحَقُّ بِالْمُوصَى بِهِ طَابَ لَهُ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ وَالْغُرَمَاءَ مُلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِهِمْ لَمْ يَطِبْ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِيهِمْ بِأَمَانٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُمْ أَوْ مَالًا لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ إلَّا بِطِيبَةِ أَنْفُسِهِمْ. - وَلَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنًا فِينَا وَهَبَ مَالَهُ لِرَجُلٍ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ، وَلَا وَارِثَ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَثْبَتُوا دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ أَدَانُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبْدَأُ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ، فَإِثْبَاتُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ كَإِثْبَاتِهِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ الْبِدَايَةُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْهِبَةِ فِي الْمَرَضِ وَالْوَصِيَّةِ. فَإِنْ جَاءَ ابْنُهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ: أُعْطَى مِيرَاثَ أَبِي مِنْ الْبَاقِي لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ مَرْعِيٌّ عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، فَلَا تَبْطُلُ الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ لِأَجْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2051 4113 - وَعَلَى هَذَا لَوْ جَاءَ الْغُرَمَاءُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَأَثْبَتُوا عَلَيْهِ دَيْنًا أَدَانُوهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي لَهُمْ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلَ ذِمَّةٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا فِي حَيَاتِهِ وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ لَمْ يَقْضِ لَهُمْ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِمُوجِبِ مُعَامَلَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ إذَا جَاءُوا بَعْدَ مَوْتِهِ. - قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِمَالِهِ لِأَحَدٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، بَدَأَ بِالدَّيْنِ الَّذِي اسْتَدَانَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي اسْتَدَانَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَدَانَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَقْوَى، فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ بِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَمَا اسْتَدَانَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَضْعَفُ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُطَالَبُ بِهِ مَا لَمْ يُسْلِمْ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ يَبْدَأُ بِأَقْوَاهُمَا. ثُمَّ هَا هُنَا يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ مَا اسْتَدَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ مَا يَفْضُلُ مِنْ غُرَمَاءِ دَارِ الْإِسْلَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِمَا اسْتَدَانَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّهِمْ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَالْفَضْلُ هُنَاكَ مُسْتَحَقٌّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ لِلْمُوصَى لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ الدَّيْنُ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. . - وَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَأْمَنُ فِينَا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ مَوْقُوفٌ فِي يَدِ مَنْ فِي يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ جَعَلَهُ الْإِمَامُ مَوْقُوفًا فِي بَيْتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2052 الْمَالِ حَتَّى يَحْضُرَ وَارِثُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَيْهِ، وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ يَأْتِي مِنْ وَرَثَتِهِ يُعْطِيهِ حِصَّتَهُ، وَيَقِفُ الْفَضْلُ حَتَّى يَأْتِيَ مُسْتَحِقُّهُ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ قَسَّمَ الْإِمَامُ ذَلِكَ لِلْمَسَاكِينِ، ثُمَّ إنْ جَاءَ وَارِثٌ لَهُ أَعْطَاهُ ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ بَقِيَ فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَفْعَلُ فِيهِ مَا يَفْعَلُهُ فِي مَالِ ذِمِّيٍّ يَمُوتُ وَلَا وَارِثَ لَهُ. . - وَلَوْ جَرَحَ الْمُسْتَأْمَنُ رَجُلًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَعَفَا لَهُ عَنْ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، ثُمَّ جَاءَ وَارِثُهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ مُوصٍ لِقَاتِلِهِ بِالدِّيَةِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا نَفَذَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ لَا يَبْطُلُ لِحَقِّ الْوَارِثِ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. - وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ قَدِمَ فِي حَيَاتِهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِقَاتِلِهِ إنْ كَانَ أَوْصَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ عَفَا عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَكَانَ الْوَاجِبُ الْقِصَاصَ بِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُسْتَأْمَنًا مِثْلَهُ جَازَ الْعَفْوُ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْقَوَدِ لَيْسَ مِنْ الْوَصِيَّةِ فِي شَيْءٍ. وَإِنْ كَانَ خَطَأً جَازَ مِنْ الثُّلُثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2053 لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِالدِّيَةِ لِلْعَاقِلَةِ لَا لِلْقَاتِلِ. 4118 - وَلَوْ كَانَ أَوْصَى لِقَاتِلِهِ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِابْنِهِ الَّذِي قَدِمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِنِصْفِ مَالِهِ، فَأَجَازَ الِابْنُ لِلْقَاتِلِ، ثُمَّ قَدِمَ ابْنٌ آخَرُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِيرَاثَهُ مِنْ الْوَصِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ مَا كَانَتْ صَحِيحَةً قَبْلَ الْإِجَازَةِ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ، فَصَارَ الِابْنُ الْآخَرُ مُسْتَحِقًّا نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ كُلِّهِ، ثُمَّ إنَّمَا تَعْمَلُ إجَازَةُ أَحَدِ الِابْنَيْنِ فِي نَصِيبِهِ لَا فِي نَصِيبِ أَخِيهِ. - وَلَوْ كَانَ وَهَبَ لِقَاتِلِهِ فِي مَرَضِهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ هَا هُنَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَحَقُّهُ غَيْرُ مَرْعِيٍّ. - وَلَوْ كَانَ مَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذُو قَرَابَةٍ لَهُ، مَحْجُوبٌ مِمَّنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَالَ هَذَا الْقَرِيبُ: إنْ جَعَلْتُمْ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمَيِّتِ فَأَنَا أَوْلَى بِمَالِهِ آخُذُهُ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا إنْ أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ وَالْهِبَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ نَجْعَلَهُ مِيرَاثًا عَنْهُ، وَإِذَا صَارَ مِيرَاثًا كَانَ الْأَقْرَبُ الَّذِي جَاءَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْلَى بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ تُوجَدْ الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ أَصْلًا، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَالِ يَكُونُ هَذَا إبْطَالَ هِبَتِهِ لِحَقِّ وَارِثِهِ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2054 مِنْ حَاشِيَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى مَسْأَلَةٍ فِي بَابِ مَتَى يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا لَيْسَ مِنْ إمْلَاءِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلْ مِنْ نُسْخَةِ الْقَاضِي مَحْمُودٍ الْأُوزْجَنْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَصُورَةُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَجَاءَ مُسْتَحِقٌّ فَاسْتَحَقَّهَا. يُحْتَمَلُ أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ مَا أَمْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ جُزْءٌ مِنْ الرِّوَايَةِ وَأَمْلَاهُ وَلَكِنْ وَقَعَ مِنْ يَدِ مَنْ نَقَلَ كُتُبَهُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَالْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ شَرَحُوا مَا يَرْوِيهِ فَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ هَا هُنَا مِنْ شَرْحِ قَاضِي الْقُضَاةِ مَحْمُودٍ الْأُوزْجَنْدِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ لِمُسْلِمٍ، ثُمَّ مَاتَ الْحَرْبِيُّ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ الْمِيرَاثُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُمَا، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ، كَمَا لَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِوَصِيَّتِهِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، إلَّا أَنْ يَدْفَعُوهَا إلَيْهِ وَيُسَلِّمُوهَا، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ خَرَجَتْ بَاطِلَةً، وَالْبَاطِلُ لَا يَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2055 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ يَوْمَ أَوْصَى لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، وَلَمْ يُقَسِّمُوا الْمِيرَاثَ، فَإِنِّي أُنَفِّذُ الْوَصِيَّةَ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَأُقَسِّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَجَائِزَةٌ لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهِيَ دَارٌ وَاحِدَةٌ، فَجَازَتْ الْوَصِيَّةُ كَالْمُسْلِمِ إذَا أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ بِوَصِيَّةٍ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجْرِي فِي هَذَا الْمَالِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ جَوَازُ الْوَصِيَّةِ مِنْ الثُّلُثِ وَإِنْ كَانُوا اقْتَسَمُوا الْمِيرَاثَ وَقَبَضُوهُ فَأَبْطَلُوا الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ أَسْلَمُوا، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ جَرَى فِي هَذَا الْمَالِ حُكْمُهُمْ فَلَا نَتَعَرَّضُ لِمَا مَضَى فِيهِ مِنْ حُكْمِهِمْ. (أَلَا تَرَى) لَوْ أَنَّهُمْ اقْتَسَمُوا الْمَوَارِيثَ عَلَى خِلَافِ قِسْمَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَسْلَمُوا، لَا يَتَعَرَّضُ لِتِلْكَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2056 [بَابٌ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْأَسِيرُ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ وَمَا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ] 192 - بَابٌ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْأَسِيرُ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ وَمَا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ وَهَذَا الْبَابُ بِهَذَا النَّظْمِ قَدْ مَرَّ فِي الزِّيَادَاتِ، وَقَدْ مَرَّتْ مَسَائِلُهُ فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَلَا نُعِيدُ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2057 [بَابٌ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الرَّجُلُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ] 193 - بَابٌ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الرَّجُلُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ 4123 - وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ صَارَ ذِمَّةً، أَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: قَطَعْت يَدَك وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ قَالَ: أَخَذْت مِنْك هَذِهِ الْأَلْفَ وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فَهُوَ لِي. أَوْ قَالَ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَاسْتَهْلَكْتهَا، أَوْ قَالَ سَبَيْت ابْنَك هَذَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَقَالَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ: بَلْ فَعَلْت ذَلِكَ كُلَّهُ بِي بَعْدَ مَا أَسْلَمْت، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فَيُضَمِّنُهُ الْمُقَرُّ لَهُ دِيَةَ الْيَدِ وَيَأْخُذُ ابْنَهُ وَالْأَلْفَ الْقَائِمَةَ بِعَيْنِهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمَالَ إذَا كَانَ قَائِمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَقَرِّ لَهُ يَأْخُذُهُ مِنْ يَدِهِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْأَلْفِ الْقَائِمَةِ بِعَيْنِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2058 لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ، ثُمَّ يَدَّعِي التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ. وَأَمَّا فِي الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّهُ يَصْدُقُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إقْرَارَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ بِنَفْيِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَكَانَ مُنْكَرًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْحَقِيقَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَلَا يُلْزِمُهُ بِشَيْءٍ. كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَّقْتهَا وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ نَائِمٌ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ وَيَكُونُ إنْكَارًا لِلطَّلَاقِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا إذَا أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ ادَّعَى سُقُوطَ حُكْمِهِ بِالْمِلْكِ فَلَا يُصَدَّقُ، كَمَا إذَا قَالَ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ وَهُوَ الْأَخْذُ ثُمَّ ادَّعَى سُقُوطَ حُكْمِهِ بِالْمِلْكِ فَلَا يُصَدَّقُ، كَذَلِكَ هَا هُنَا. وَلِهَذَا الْبَابِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2059 [بَابٌ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ وَيَكُونُ مُحْرِزًا لَهُ] رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِإِسْنَادِهِ 4124 - عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ مُعَاذٍ: مَنْ اسْتَخْمَرَ يَعْنِي مَنْ اسْتَعْبَدَ قَوْمًا أَوَّلُهُمْ أَحْرَارٌ أَوْ جِيرَانٌ مُسْتَضْعَفُونَ فَإِنْ كَانَ قَهَرَهُمْ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يَدْخُلَ الْإِسْلَامُ فِي بَيْتِهِ فَهُمْ لَهُ عَبِيدٌ وَمَنْ كَانَ مُهْمِلًا يُعْطِي الْخَرَاجَ فَهُوَ عَتِيقٌ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ اسْتَخْمَرَ مَعْنَاهُ اسْتَعْبَدَ كَمَا فَسَّرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ نَظِيرُ تَفْسِيرٍ ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِأَبِي عُبَيْدٍ، وَهِيَ لُغَةً الْيَمَنُ، هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: يَقُولُ الرَّجُلُ الْآخَرُ: أَخَمَرَنِي كَذَا، أَيْ مَلَّكَنِي إيَّاهُ وَأَعْطَنِيهِ هِبَةً. ثُمَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُوَ فِي كِتَابِ مُعَاذٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَصَرَهُمْ فِي بَيْتِهِ وَقَهَرَهُمْ فَقَدْ مَلَكَهُمْ وَصَارُوا رَقِيقًا لَهُ، فَإِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ فَيُسَلَّمُ لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» فَأَمَّا إذَا كَانَ مُهْمَلًا يُؤَدِّي الْخَرَاجَ فَهُوَ عَتِيقٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْمِلْكُ إلَّا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إلَّا الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ، وَنَفْسُ الطَّاعَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى الرِّقِّ، فَإِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ مُطِيعٍ سُلْطَانُهُ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا هُمْ عَبِيدًا لَهُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2060 4125 - وَكَذَلِكَ أَهْلُ الرُّخَّجِ وَزَابُلِسْتَانَ، وَدُونَهُمَا، قَهَرَهُمْ التُّرْكُ فَاسْتَعْبَدُوهُمْ وَصَارُوا مَمْلُوكِينَ لَهُمْ، يَبِيعُونَ مِنْهُمْ مَنْ شَاءُوا، فَإِذَا أَسْلَمَ أَهْلُ التُّرْكِ وَأَسْلَمَ أَهْلُ الْبَلَدِ مَعَهُمْ فَهُمْ عَبِيدٌ لَهُمْ يَصْنَعُونَ بِهِمْ مَا شَاءُوا لِمَا قُلْنَا. وَالرُّخَّجُ اسْمُ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ قَائِلُهُمْ: وَالرُّخَّجِيُّونَ لَا يُوفُونَ مَا وَعَدُوا ... وَالرُّخَّجِيَّاتُ يُنْجِزْنَ الْمَوَاعِيدَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2061 [بَابُ الْحَرْبِيِّ يَدْخُلُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَيُقِيمُ فِي دَارٍ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يُتْرَكُ لَا يُؤَدِّي الْخَرَاجَ] - قَالَ مُحَمَّدٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخْبَرَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: سَبَى نَاسٌ مِنْ أَشْرَافِ الرُّومِ فَخَرَجَ مَعَهُمْ نَاسٌ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ بِأَمَانٍ، فَلَمَّا وَقَعُوا بِالشَّامِ تَفَرَّقُوا مَعَ قَرَابَاتِهِمْ، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ لَا يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ، فَكُتِبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، فِيهِمْ. فَكَتَبَ أَنْ أَخْبِرُوهُمْ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يُقِيمُوا مَعَ أَهْلِ ذِمَّتِنَا بِمِثْلِ مَا يُعْطِي مِثْلُهُمْ مِنْ الْخَرَاجِ فَذَلِكَ لَهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَسَيِّرُوهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ بِأَمَانٍ. اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا طَالَ مَقَامُهُ فِي دَارِنَا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ لَهُ، إنْ أَقَمْت سَنَةً بَعْدَ يَوْمِك هَذَا أَخَذْت مِنْك الْخَرَاجَ، فَإِنْ أَقَامَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2062 مِنْ حِينِ تَقُومُ إلَيْهِ جُعِلَ ذِمَّةً وَمُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ، فَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا قُدِّرَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ؛ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ السَّنَةِ لَا يَجِبُ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ، وَإِذَا تَمَّتْ السَّنَةُ يَلْزَمُهُ كُلُّ خِطَابٍ فَصَارَ مَا دُونَ السَّنَةِ قَلِيلًا، وَالسَّنَةُ كَثِيرٌ، فَإِذَا مَكَثَ سَنَةً فَقَدْ طَالَ مُقَامُهُ فِي دَارِنَا، فَصَارَ مِنْ أَهْلِهَا ذِمِّيًّا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2063 [بَابٌ الْعَقَارُ يُمْلَكُ فِي دَارِ الْحَرْبِ] قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: 4127 - إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَاكْتَسَبَ مَالًا وَاشْتَرَى وَبَاعَ، فَمَلَكَ خَيْلًا وَسِلَاحًا وَدُورًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ، فَلَهُ جَمِيعُ مَا اكْتَسَبَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْعَقَارَ مِنْ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، أَمَّا مَا سِوَى الْعَقَارِ لَا يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ مَا سِوَى الْعَقَارِ مِنْ مَنْقُولٍ هُوَ فِي يَدِهِ، وَيَدُهُ غَيْرُ مَغْنُومٍ، فَمَا فِي يَدِهِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الْعَقَارُ فَهُوَ تَحْتَ يَدِ مَلِكِهِمْ، وَمَلِكُهُمْ مَغْنُومٌ، فَمَا فِي يَدِهِ مَغْنُومٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فِي الرَّجُلِ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَهُ عَقَارٌ، فَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ أَنَّ عَقَارَهُ لَا يَكُونُ فَيْئًا فَعَلَى قِيَاسِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَقَارُ هَذَا الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يَكُونُ فَيْئًا، كَمَا لَا يَكُونُ مَنْقُولُهُ فَيْئًا. وَرَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ الْوَضِينِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ هِشَامٍ، عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2064 سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَنَحَهُ الْمُشْرِكُونَ أَرْضًا فَلَا أَرْضَ لَهُ» . وَرُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «مَنْ مَنَحَهُ الْمُشْرِكُونَ دَارًا فَلَا دَارَ لَهُ» . وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالْمِنْحَةِ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَدُومُ مِلْكُهُ فِيهَا، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرُوا عَلَيْهَا تَصِيرُ لَهُمْ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2065 [بَابٌ مَا يَكُونُ لِلْمَلِكِ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ وَمَنْ يَكُونُ لَهُ رَقِيقًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ] قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: 4129 إذَا غَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَاِتَّخَذُوهُمْ عَبِيدًا وَإِمَاءً لِلْمَلِكِ، ثُمَّ إنَّ الْمَلِكَ وَأَهْلَ أَرْضِهِ أَسْلَمُوا، فَمَنْ كَانَ مِنْ جُنْدِهِ الَّذِينَ غَلَبَهُمْ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ فَهُمْ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا فِي قَهْرِ الْمَلِكِ، إنَّمَا هُمْ فِي طَاعَةِ الْمَلِكِ، وَالْمُطِيعُ لِلْمَلِكِ لَا يَكُونُ عَبْدًا لَهُ، كَالْمُسْلِمِ الْمُطِيعِ لِسُلْطَانِهِ لَا يَكُونُ رَقِيقًا لَهُ، فَهَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَبَقُوا عَلَى الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الَّذِينَ غَلَبُوا فَاِتَّخَذَهُمْ الْمَلِكُ عَبِيدًا فَهُمْ عَبِيدٌ لَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي قَهْرِ الْمَلِكِ، فَالْمَقْهُورُ مِنْهُمْ يَكُونُ عَبْدًا، فَهَؤُلَاءِ عَبِيدٌ لِلْمَلِكِ، فَإِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَبِيدِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُونَ لَهُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2066 4130 - فَإِنْ حَضَرَ الْمَلِكَ الْمَوْتُ فَوَرِثَ ذَلِكَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَسَلَّمَ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ صَنَعَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يَصِيرَ ذِمَّةً، ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، جَعَلَ الْأَمْرَ عَلَى مَا صَنَعَهُ الْمَلِكُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ صَنَعَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حُكْمٌ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لِحُكْمِهِ، بَلْ يَمْضِي. - وَإِنْ كَانَ صَنَعَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً لَمْ يَجُزْ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ جَمِيعُ مَالِهِ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ، عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ جَارٍ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ مِنْهُ إلَّا مَا يُوَافِقُ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا جَوْرٌ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْقُضُ حُكْمَهُ. - وَإِنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَلَهُ أَوْلَادٌ، فَقَسَّمَ مِلْكَهُ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ لِكُلِّ ابْنٍ نَاحِيَةً مِنْ مِلْكِهِ، وَأَرْضِهِ مَعْلُومَةٌ مِلْكُهُ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ مَا فِيهَا مِنْ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ لَهُ خَاصَّةً، وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً فَمَا صَنَعَ بَاطِلٌ، وَجَمِيعُ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ رَقِيقٌ، مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2067 لِأَنَّ هَذَا إيثَارُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: إنَّ جَمِيعَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَتِهِ إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْمَرِيضَ مَتَى أَعْطَى عَيْنًا لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ حَقَّهُ مِنْ الْمِيرَاثِ، أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ بِحَقِّهِ مِنْ الْمِيرَاثِ، أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: فَجَمِيعُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَتِهِ. - وَإِنْ جَعَلَ كُلَّهُ لِابْنٍ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُوَادِعٌ، فَوَثَبَ لَهُ ابْنٌ آخَرُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، وَظَهَرَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، أَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَكِنْ نَفَاهُ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا جَمِيعًا جَازَ لِلِابْنِ الْقَاهِرِ مَا صَنَعَ، وَكَانُوا جَمِيعًا عَبِيدًا لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْقَهْرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَبَبُ مِلْكِ الْحَرْبِيِّ، وَالِابْنُ الْقَاهِرُ مَلَكَ عَبِيدَ أَخِيهِ الْمَقْهُورِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَبَقُوا عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ الْقَاهِرُ صَنَعَ ذَلِكَ وَهُمَا مُسْلِمَانِ رَدَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ مَالَ مُسْلِمٍ آخَرَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَكَيْفَ يَمْلِكُ مَالُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. - وَإِنْ كَانَ الِابْنُ الْقَاهِرُ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَالِابْنُ الْمَقْهُورُ مُسْلِمًا، فَجَمِيعُ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ إنْ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2068 لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ الْأَجْنَبِيِّ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَكَذَلِكَ مَالُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. - فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ فَإِنْ وَجَدَهُمْ الِابْنُ الْمَقْهُورُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُمْ بِالْقِيمَةِ كَمَا لَوْ قَهَرَهُمْ أَجْنَبِيٌّ وَأَخَذَهُمْ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَإِنْ دَخَلَ تَاجِرٌ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إلَى هَذَا الِابْنِ الْقَاهِرِ فَاشْتَرَى رَقِيقًا مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ - فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْقَاهِرَ مَلَكَهُمْ وَالْتَحَقُوا بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، فَحَلَّ لَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ. - فَإِنْ أَخْرَجَهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَالِابْنُ الْمَقْهُورُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُمْ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ الْقَاهِرُ صَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَأَخُوهُ الْمَقْهُورُ مُسْلِمٌ أَيْضًا لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ مِنْ أُولَئِكَ الرَّقِيقِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْقَاهِرَ لَمْ يَمْلِكْهُمْ بِالْقَهْرِ، فَهَذَا غَصْبٌ فِي يَدِهِ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْغَاصِبِ. فَإِنْ اشْتَرَاهُ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ رُدَّ إلَى الِابْنِ الْمَقْهُورِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ وَلَا قِيمَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ فَيُرَدُّ إلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2069 4137 - فَإِنْ كَانَ الِابْنُ الْقَاهِرُ مُسْلِمًا يَوْمَ فَعَلَ هَذَا بِأَخِيهِ، وَأَخُوهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَنَفَاهُ عَنْ الدَّارِ، وَلَمْ يُحْدِثَ فِي الرَّقِيقِ شَيْئًا، ثُمَّ إنَّ الِابْنَ الْقَاهِرَ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ، وَغَلَبَ عَلَى الرَّقِيقِ، وَأَجْرَى حُكْمَ الشِّرْكِ فِي دَارِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ، وَأَخَذَ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ شَيْئًا فَإِنْ وَجَدَهُ الِابْنُ الْمَقْهُورُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَدَّ صَارَ حَرْبِيًّا، وَالدَّارُ صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ، فَصَارَ هَذَا مَالَ مُسْلِمٍ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ مُحْرِزًا بِدَارِ الْحَرْبِ فَيَمْلِكُهُ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَقَسَّمُوهُ صَارَ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَأْخُذُهُ مَالِكُهُ بِالْقِيمَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2070 [بَابٌ التَّفْرِيقُ بَيْنَ السَّبْيِ] قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: 4138 - إذَا سُبِيَ السَّبْيُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَكَانُوا كِبَارًا كُلُّهُمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ، وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً أَوْ وَلَدًا وَأُمُّهُمْ أَوْ وَلَدًا وَآبَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى كَرَاهِيَةَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ الْمَالِكَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا عُرِفَتْ الْكَرَاهَةُ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا جَاءَ بِكَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَبِيرًا وَالْآخَرُ صَغِيرًا، فَأَمَّا إذَا كَانَا كَبِيرَيْنِ فَلَا شَرْعَ فِيهِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْنَسُ بِصَاحِبِهِ وَيَأْلَفُ مَعَهُ، فَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَخَذَهُ خَشْيَةَ الْوَحْشَةِ بِالْوَحْدَةِ وَقَلْبُ الصَّغِيرِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَيُؤَدِّي إلَى هَلَاكِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِيمَا إذَا كَانَا كَبِيرَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2071 4139 - فَأَمَّا إذَا كَانَتْ وَالِدَةٌ وَوَلَدٌ صَغِيرٌ أَوْ أَخَوَانِ صَغِيرَانِ، أَوْ كَبِيرٌ وَصَغِيرٌ، أَوْ غُلَامٌ لَمْ يُدْرِكْ وَعَمَّتُهُ أَوْ خَالَتُهُ صَغِيرَةٌ مِثْلُهُ أَوْ كَبِيرَةٌ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي قِسْمَةٍ وَلَا بَيْعٍ لِمَا رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فِي الْكِتَابِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُيَيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعَافِرِيِّ وَهُوَ أَبُو قَبِيلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجِيلِيُّ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي غُزَاةٍ فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ أُتِيَ بِسَبْيٍ فَقَامَ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ: ابْنِي بِيعَ فِي بَنِي عَبْسٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ: فَرَّقْت بَيْنَهُمَا فَلْتَرْجِعَنَّ وَلْتَأْتِيَنَّ بِهِ، فَرَجَعَ فَأَتَى بِهِ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ أَلَّا يُفَرَّقَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَبَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، يَعْنِي إذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا وَالْآخَرُ كَبِيرًا. - وَإِذَا كَانَا غَيْرَ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ مِثْلُ بَنِي الْعَمِّ أَوْ بَنِي الْخَال، وَهُمَا صَغِيرَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا كَبِيرٌ وَالْآخَرُ صَغِيرٌ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ.؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، وَجَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى، وَوُجُوبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2072 الْقَطْعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَرِقَةِ مَالِ صَاحِبِهِ، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَجَانِبِ، وَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، قَالَ: - وَالْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا إذَا سُبِيَا جَمِيعًا مَعًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ صَغِيرَيْنِ كَانَا أَوْ كَبِيرَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ يَأْبَى كَرَاهِيَةَ التَّفْرِيقِ لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنَّا كَرِهْنَا التَّفْرِيقَ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ جَارٍ بِكَرَاهِيَةِ التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْوَصْلَةِ بِالنَّسَبِ لَا بِالسَّبَبِ. فَبَقِيَتْ الْوَصْلَةُ بِالسَّبَبِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبَى الْخَيْرِ قَالَ: كُنَّا فِي الْمَغَازِي لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، وَنُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا. فَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ امْرَأَتُهُ حَيْثُ مَا كَانَتْ لَا تَبِينُ مِنْهُ بِبَيْعٍ وَلَا قِسْمَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا سُبِيَا مَعًا فَلَمْ تَتَبَايَنْ بِهِمَا الدَّارُ، فَبَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا فَلَا يُبْطِلُهُ الْبَيْعُ وَالْقِسْمَةُ. . - وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ عَنْ امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ وَلَهَا ابْنَةٌ صَغِيرَةٌ وَعَمٌّ، كَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ بِابْنَتِهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ، فَإِذَا بَلَغَتْ كَانَ عَمُّهَا أَحَقَّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعَمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أُمِّهَا إذَا بَلَغَتْ، فَكَذَلِكَ الْعَمُّ. وَلَكِنْ لَا تُمْنَعُ الْأُمُّ مِنْ زِيَارَةِ ابْنَتِهَا؛ لِأَنَّ الزِّيَارَةَ لِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي: كَمْ مُدَّةً تَزُورُ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَزُورُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَزُورُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. وَهَكَذَا إذَا زُفَّتْ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَلَهَا أَبَوَانِ، فَإِنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ زِيَارَةِ أَبَوَيْهَا، وَلَكِنْ أَبَوَاهَا يَزُورَانِهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2073 ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَزُورَانِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَفِيمَا زَادَ عَلَى هَذَا كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا، ثُمَّ إذَا زَارَاهَا فَإِنَّمَا يَزُورَانِهَا بِحَضْرَةِ الزَّوْجِ، وَلَا يَزُورَانِهَا فِي غَيْبَتِهِ، حَتَّى لَا يُمْكِنَهَا التَّخْلِيطُ فِي بَالِهَا، فَيُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2074 [بَابٌ مَا يُكْرَهُ فِيهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الرَّقِيقِ فِي الْبَيْعِ] 199 - بَابٌ مَا يُكْرَهُ فِيهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الرَّقِيقِ فِي الْبَيْعِ قَدْ مَرَّ هَذَا الْبَابُ فِي الزِّيَادَاتِ عَلَى هَذَا النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ فَلَا نُعِيدُهُ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2075 [بَابٌ الْوَصِيَّةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَالُ يُعْطَى] قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - 4143 - إذَا قَالَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ: ثُلُثُ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِأَنْ يُصْرَفَ ثُلُثُهُ إلَى جِهَةِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي طَاعَةِ اللَّهِ. (أَلَا تَرَى) إلَى مَا رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ» يَعْنِي فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّهُ جَعَلَ ثُلُثَ مَالِهِ فِي جِهَةِ الطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا، قَالَ: وَيُعْطِي ثُلُثَهُ لِلْفُقَرَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَعْنِي يُعْطِي أَهْلَ الْحَاجَةِ مِمَّنْ يَغْزُو. لِأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ وَطَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكِنْ مُطْلَقُهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190] . وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْجِهَادُ فَكَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2076 قَصْدُ الْمَيِّتِ مِنْ هَذَا أَنْ يُصْرَفَ ثُلُثُهُ إلَى جِهَةِ الْغَزْوِ، فَيُصْرَفُ إلَى مَا نَوَاهُ وَقَصَدَهُ، وَيَكُونُ مَا يُعْطُونَ مِنْ ذَلِكَ لَهُمْ، حَتَّى إنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعْدَ مَا دَفَعَ إلَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، إنْ شَاءُوا خَرَجُوا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَخْرُجُوا؛ لِأَنَّ هَذَا جَعَلَ ثُلُثَ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ تَمْلِيكٌ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] . إلَى أَنْ قَالَ: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] . وَتِلْكَ الصَّدَقَةُ شَرْطُ صِحَّتِهَا التَّمْلِيكُ، فَكَذَلِكَ الثُّلُثُ إذَا جُعِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ صَدَقَةَ تَمْلِيكٍ، وَالصَّدَقَةُ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَ صَارَ لَهُ، فَإِذَا مَاتَ مِيرَاثًا عَنْهُ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ إنْ شَاءُوا خَرَجُوا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَخْرُجُوا. لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِذَلِكَ الْمَالِ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ صَارَ مَعْنَى الصَّرْفِ إلَى الْغَزْوِ كَالْمَشُورَةِ مِنْ الْمَيِّتِ كَرَجُلٍ يُعْطِي مَالَهُ فِي حَيَاتِهِ إلَى رَجُلٍ وَيَقُولُ: هُوَ لَك تَحُجُّ بِهِ أَوْ تَغْزُو بِهِ، كَانَ ذَلِكَ مَشُورَةً مِنْهُ. . - وَكَذَلِكَ إذَا أَعْطَاهُ دَارًا وَقَالَ: هِيَ لَك تَسْكُنُهَا، كَانَ قَوْلُهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةً مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَ الْمَالَ إلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ الْمُعْطِي، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا لِمَا تَمَلَّكَهُ بِالْقَبْضِ صَارَ لَهُ، وَلِوَارِثِهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَ يُعْطِي مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2077 رَجُلًا فَقِيرًا شَيْئًا، فَقَضَى بِبَعْضِهِ دَيْنًا، وَتَرَكَ بَعْضَهُ نَفَقَةً لِعِيَالِهِ، وَخَرَجَ بِبَعْضِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَا بَأْسَ بِهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَمْرِ الْغَزْوِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ غَازِيًا إلَّا بِأَنْ يَخْلُفَ لِعِيَالِهِ نَفَقَتَهُ، وَيَقْضِيَ غَرِيمَهُ دَيْنًا، وَيَخْرُجَ بِبَعْضِهِ لِيَكُونَ لَهُ نَفَقَةً فِي الطَّرِيقِ، فَهَذَا هُوَ الْغَزْوُ الْمَعْرُوفُ فَلَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ. وَإِنْ أَعْطَاهَا حَاجًّا مُنْقَطِعًا عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْحَاجِّ الْمُنْقَطِعِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ كُلُّ خَيْرٍ وَطَاعَةٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: رَجُلٌ أَوْصَى إلَيَّ بِوَصِيَّةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَجْعَلُهَا فِي الْحَجِّ؟ قَالَ: الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ سَيْفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْضَ الْحَاجِّ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْتَاجَ الَّذِي يَخْرُجُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ الْغَزْوُ وَالْجِهَادُ دُونَ غَيْرِهِ، فَكَانَ صَرْفُهُ إلَيْهِ أَوْلَى، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا. رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُقَرَاءِ مَكَّةَ، يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ ثُلُثُهُ إلَى غَيْرِ فُقَرَاءِ مَكَّةَ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ صَرْفُهُ إلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ. - وَذُكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُعْطِي الرَّجُلَ الشَّيْءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: إذَا بَلَغَ رَأْسَ مَغْزَاةٍ فَهُوَ لَهُ. فَالْمَغْزَاةُ أَرَادَ بِهِ الثَّغْرَ الَّذِي يَكُونُ بِقُرْبٍ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2078 أَرْضِ الْعَدُوِّ فَقَدْ شَرَطَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الثَّغْرَ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ. وَعِنْدَنَا هُوَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ رَأْسَ الْمَغْزَاةِ، لِمَا قُلْنَا: إنَّ هَذِهِ صَدَقَةُ تَمْلِيكٍ، وَصَدَقَةُ التَّمْلِيكِ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ فِيهِ لِلْغَازِي وَلَكِنْ كَانَ لِلْمَنْعِ مِنْ الصَّرْفِ إلَى حَوَائِجِهِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الثَّغْرَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَوَائِجِهِ، أَوْ يُخْلِفَهُ لِعِيَالِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الثَّغْرَ لَا يُمْكِنُهُ الصَّرْفُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْجِهَادِ، فَإِنَّمَا شُرِطَ هَذَا الشَّرْطُ لِيَكُونَ مَانِعًا لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْجِهَادِ - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ جَعَلَ فَرَسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَضَاعَ الْفَرَسُ عِنْدَ صَاحِبِهِ، فَأَرَادَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْجِعْ فِي صَدَقَتِك، فَإِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَرْجِعُ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ» ، مَعْنَى قَوْلِهِ ضَاعَ الْفَرَسُ عِنْدَ صَاحِبِهِ أَيْ بَاعَهُ صَاحِبُهُ أَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَقَوْلُهُ: جَعَلَ فَرَسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَ فَرَسَهُ حَبِيسًا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِفَرَسِهِ عَلَى رَجُلٍ لِيَغْزُوَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إذْ جَعَلَهُ حَبِيسًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2079 فَأَرَادَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْجِعْ فِي صَدَقَتِك» هَذَا دَلِيلٌ لِبَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، حَتَّى قَالَ: يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ شِرَاءَهُ رُجُوعًا فِي الصَّدَقَةِ، وَالرُّجُوعُ فِي الصَّدَقَةِ حَرَامٌ. وَعِنْدَنَا لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ وَلَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ نَهَى لِمَكَانِ الْمُحَابَاةِ أَيْ إذَا عَلِمَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ هُوَ الَّذِي يَشْتَرِيهِ فَرُبَّمَا يُحَابِيهِ فِي الثَّمَنِ، فَيَصِيرُ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ يُشْبِهُ الرُّجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ، فَيُكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُحَابِي الْمُتَصَدِّقَ لِمَكَانِ الصَّدَقَةِ، لَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الصَّدَقَةِ، وَلَا يُشْبِهُ الرُّجُوعَ فَلَا يُكْرَهُ. - وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُذَيْلِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا حَمَلَ عَلَى بَعِيرٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: إذَا جَاوَزْت وَادِيَ الْقُرَى أَوْ نَحْوَهَا مِنْ طَرِيقِ مِصْرَ فَاصْنَعْ بِهِ مَا بَدَا لَك فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2080 هَذَا مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَمْلِيكٌ مُؤَقَّتٌ، أَيْ إذَا بَلَغْت وَادِيَ الْقُرَى وَجَاوَزْته فَهُوَ مِلْكٌ لَك، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَهَذِهِ الدَّارُ صَدَقَةٌ لَك. وَإِذَا كَانَ تَمْلِيكًا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْوَادِي لَا يَمْلِكُهُ فِي الْحَالِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَمْلِيكًا فِي الْحَالِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مِنْهُ لِلْمَنْعِ عَنْ الصَّرْفِ إلَى حَوَائِجِهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْخُرُوجِ بِهِ إلَى الْغَزْوِ، فَيَكُونُ لِهَذَا الشَّرْطِ حُكْمُ الْمَشُورَةِ. وَرُوِيَ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، إذَا بَلَغْت وَادِيَ الْقُرَى فَشَأْنُك، وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي رَجُلٍ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ عَطَاءٌ: طَاعَةُ اللَّهِ كُلُّهَا سَبِيلُهُ. وَلَكِنْ لَوْ كَانَ سُمِّيَ غَزْوًا كَانَ كَمَا قَالَ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يُعْطِيَ أَهْلَ الْحَاجَةِ مِمَّنْ يَغْزُو بِهِ سَبِيلَ اللَّهِ وَلَا يُعْطِيَ الْغَنِيَّ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " ثُلْثَيْ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّصَدُّقِ، فَيَكُونُ مَوْضِعُهُ الْفُقَرَاءَ كَمَا هُوَ السَّبِيلُ فِي سَائِرِ الصَّدَقَاتِ. . - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ الْقَارَّةِ مِنْ كِنَانَةَ تُوُفِّيَ أَحَدُهُمَا وَأَوْصَى بِدَنَانِيرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لِأَخِيهِ الْغَزْوُ مِنْ عَامِهِ فَحَجَّ بِهِ، فَلَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2081 فَذَكَر ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى نَفْسِك، فَإِنَّك لَنْ تُنْفِقَ عَلَى نَفْسِك دِرْهَمًا إلَّا كُتِبَ بِكَذَا وَكَذَا. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَذَا إذَا كَانَ أَخُوهُ مُحْتَاجًا، وَلَيْسَ بِوَارِثٍ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْفِقَهَا عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ كَفَقِيرٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَهَا عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ، وَالصَّدَقَةُ مَحَلُّهَا الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَارِثًا فَلَا يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2082 [بَابٌ الْحَبِيسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: 4149 - لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْبِسَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولَ: ذَلِكَ حَبِيسٌ عَلَى مَنْ غَزَا، وَيَدْفَعَهُ إلَى رَجُلٍ يَقُومُ بِذَلِكَ، وَيُعْطِيهِ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْقُرْبِ، وَمِنْ وُقُوفِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ نَحْوَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَمِنْ التَّابِعِينَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ (رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ حَبَسُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . ثُمَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُشْكِلُ، فَإِنَّ عِنْدَهُ وَقْفَ الْمَنْقُولِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ جَرَى الْعُرْفُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَجْرِ، كَوَقْفِ غَيْرِ الْمَنْقُولِ، وَكَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقْفَ الْمَنْقُولِ بَاطِلٌ إلَّا مَا جَرَى الْعُرْفُ فِيهِ، وَهُوَ قَدْ جَرَى الْعُرْفُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَالتَّابِعِينَ، بِحَبْسِ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُ حَبْسُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2083 الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، الْحَبْسُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ بِالْحَبْسِ، حَتَّى إنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ إنْ شَاءَ، وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ فَيَكُونُ الْحَبْسُ عَلَى مَعْنَى الْعَارِيَّةِ، وَإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ كَسَائِرِ الْوُقُوفِ عَلَى مَذْهَبِهِ. ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِيرُ حَبْسًا إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَهُوَ إلَى قَيِّمٍ؛ إلَى مُتَوَلِّي الْغُزَاةِ أَوْ بِنَصْبِ وَاحِدٍ يَقُومُ بِهِ، فَيُسَلِّمُهُ إلَى رَجُلٍ يُرِيدُ الْغَزْوَ، فَيَدْفَعُهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى قَيِّمِ الْأَوْقَافِ فَيُزِيلُ يَدَهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ التَّسْلِيمَ شَرْطٌ فِي الْوُقُوفِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَافِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّسْلِيمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، وَلَكِنْ الْإِشْهَادُ يَكْفِي، فَكَذَلِكَ التَّسْلِيمُ فِي الْحَبْسِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. ثُمَّ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ كَانَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَاتِ الصَّحِيحِ تُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ أَوْ أَوْصَى بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَسَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2084 قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: 4150 - وَإِذَا جَعَلَ الرَّجُلُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسِمَهُ حَبِيسًا لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ حَتَّى إنْ ضَلَّ أَوْ سَرَقَهُ سَارِقٌ رُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَاتِ بِيَدِهِ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ وَسَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ حَبَسَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ وَثَلَاثَمِائَةِ فَرَسٍ مَوْسُومًا فِي أَفْخَاذِهِنَّ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ حُمِلَ الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَدْ وُسِمَتْ فِي أَفْخَاذِهِنَّ عُدَّةُ اللَّهِ؛ وَلِأَنَّ السِّمَةَ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا إيلَامُ الْحَيَوَانِ فَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهَا سِمَةٌ لَا يَقْصِدُ أَحَدٌ غَصْبَهَا، وَلَا يَرْغَبُ فِي سَرِقَتِهَا. - وَلَوْ ضَلَّتْ عُرِفَتْ بِالسِّمَةِ، فَتُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَا بَأْسَ بِإِيلَامِ الْحَيَوَانِ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، خُصُوصًا إذَا كَانَ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا، لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْإِشْعَارَ فِي بَابِ الْمَنَاسِكِ لَا يُكْرَهُ فَكَذَلِكَ السِّمَةُ - وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْإِشْعَارُ يُكْرَهُ، فَكَذَلِكَ السِّمَةُ مَكْرُوهَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِثْلُهُ. ثُمَّ السِّمَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ تَتَمَرَّغُ بِهَا الدَّابَّةُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2085 لِأَنَّ قَصْدَ صَاحِبِهَا بِالسِّمَةِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ لَا التَّهَاوُنُ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك الْجَوَابَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ لَهُ خَاتَمٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَإِنَّ جَوَابَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ، وَالْخَاتَمُ فِي أُصْبُعِهِ أَوْ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ مَعَهُ، بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ أُصْبُعِهِ تَعْظِيمًا لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِيمَا ذُكِرَ هَا هُنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، وَهُوَ مُتَخَتِّمٌ بِذَلِكَ الْخَاتَمِ، وَلَكِنَّ جَوَابَ الْعُلَمَاءِ مَا بَيَّنَّاهُ. - عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِالْبَدَلِ بِالْحَبِيسِ مِنْ عِلَّةٍ بَأْسًا، وَيَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ. وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِالْبَدَلِ بِالْحَبِيسِ بَأْسًا، وَيَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ إذَا مَرِضَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ عِلَّةٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِبْدَالُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَبَسَهُ رَضِيَ بِحَبْسِهِ لَا بِاسْتِبْدَالِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِعِلَّةٍ فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مِمَّا يُتَوَهَّمُ زَوَالُهَا نَحْوُ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عِنْدَهُ لَازِمٌ حَتَّى كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَبِيعَهُ، فَلَمَّا كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَالرُّجُوعُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِبْدَالُ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا الْحَبْسُ لَازِمٌ، وَلَوْ شَاءَ صَاحِبُهُ أَنْ يَبِيعَهُ بَعْدَ مَا مَرِضَ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2086 - وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَبِيعُوا شَيْئًا مِنْ حَبِيسِ الدَّوَابِّ وَلَا تَسْتَبْدِلُوهَا. فَلَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهَا إلَّا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ بِحَيْثُ لَا يُتَوَهَّمُ زَوَالُهَا، بِأَنْ صَارَ بِحَالٍ لَا يُسْتَطَاعُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، أَوْ كَبِرَ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُبَاعَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ حَبِيسًا مَكَانَهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ يُغْزَى بِذَلِكَ الثَّمَنِ عَنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِهِ هُوَ الْقِتَالُ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَارَ بِحَالٍ لَا يُسْتَطَاعُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ تَجُزْ الْمُبَادَلَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَدَّى إلَى تَفْوِيتِ غَرَضِ صَاحِبِهِ، فَلَا يَكُونُ بِالْمُبَادَلَةِ بَأْسٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِاسْتِبْدَالِ الْوَقْفِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى وَلَدَيْهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَلَمَّا خَرَجَ إلَى صِفِّينَ قَالَ: إنْ نَأْتِ بِهِمْ الدَّارَ بِيعُوهُ وَاقْسِمُوا ثَمَنَهُ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ شَرْطُ الْبَيْعِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ ثُمَّ أَمَرَ بِالْبَيْعِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2087 [بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَبْسِ فِي الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ] 4154 - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ فَقَالَ: ثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ مَاتَ فَثُلُثُ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَوْصَى؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَالْوَصِيَّةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ جَائِزَةٌ، وَيُعْطَى الثُّلُثُ أَهْلَ الْحَاجَةِ. لِأَنَّ الْمَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ صَدَقَةً، وَالصَّدَقَةُ مَصْرِفُهَا الْفُقَرَاءُ وَأَهْلُ الْحَاجَةِ. 4155 - ثُمَّ يُعْطَى أَهْلُ الْحَاجَةِ مِمَّنْ يَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمَا قُلْنَا: إنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ، فَيُصْرَفُ إلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ الْغُزَاةِ وَالْمُجَاهِدِينَ، وَيُعْطَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا يُقَوِّيهِ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ إذَا وَجَبَ فَإِنَّهُ لَا يُنْقِصُ مِنْ قُوتِ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ الْغَنَاءَ لَا يَقَعُ بِدُونِهِ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنْ يُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مِقْدَارَ قُوتِ يَوْمِهِ، وَذَلِكَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ. فَإِنْ أَحَبُّوا زَادُوهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَحِلٌّ يَنْصَرِفُ الْجَمِيعُ إلَيْهِ، فَيَكُونُ مَحِلًّا لِصَرْفِ الزِّيَادَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2088 أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ فَصُرِفَ الْكُلُّ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى الِاثْنَيْنِ. وَلَوْ دَفَعَ زَكَاةَ الْمَالِ كُلِّهِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَ مَحَلٌّ لِصَرْفِ الْكُلِّ إلَيْهِ، فَكَانَ مَحَلًّا لِصَرْفِ الزِّيَادَةِ إلَيْهِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْقُوتِ يَكُونُ مَا يَأْخُذُ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَمْلِيكٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتِلْكَ الصَّدَقَةُ شَرْطُ صِحَّتِهَا التَّمْلِيكُ، كَذَلِكَ هَا هُنَا، وَالصَّدَقَةُ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَ صَارَتْ لَهُ. فَإِنْ خَلَّفَ لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ جَازَ، وَإِنْ قَضَى بِهَا حَوَائِجَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ. لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تَحْصِيلًا لِمُرَادِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ خَرَجَ بِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ رَجَعَ وَفِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ. لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ إلَى الْجِهَادِ كَانَ لَهُ، فَإِذَا رَجَعَ وَبَقِيَ فَضْلٌ بَعْدَ رُجُوعِهِ كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ. 4156 - قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى مِنْهُ غَنِيًّا يَغْزُو بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2089 لِمَا قُلْنَا: إنَّ الثُّلُثَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَدَقَةٌ، وَصَرْفُ الصَّدَقَةِ مَحَلُّهَا الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، دَلِيلُهُ الزَّكَاةُ وَسَائِرُ الصَّدَقَاتِ. قَالَ: 4157 - وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا جَعَلَ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَيُمْسِكَ مَا يَقُوتُهُ، فَإِذَا أَفَادَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِ مَا كَانَ أَمْسَكَ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ، يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِمَالِ الزَّكَاةِ مِنْ السَّوَائِمِ، وَمَالِ التِّجَارَةِ، وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا سِوَاهُ مِنْ رَقِيقِهِ وَعَقَارِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا ذَكَرَ هَا هُنَا جَوَابَ الْقِيَاسِ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْهِبَةِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اخْتِلَافُ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ، فَمَوْضُوعُ مَسْأَلَةِ الْهِبَةِ أَنَّهُ قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ، فَالصَّدَقَةُ كَانَتْ فِي لَفْظِهِ نَصًّا، وَذِكْرُ الْمَالِ عِنْدَ إيجَابِ الصَّدَقَةِ يُرَادُ بِهِ مَالُ الزَّكَاةِ وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] . وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَالُ الزَّكَاةِ. وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ هَا هُنَا أَنَّهُ قَالَ: مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ ذِكْرُ الصَّدَقَةِ نَصًّا، وَلَيْسَ لِهَذَا الْإِيجَابِ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِيُعْتَبَرَ بِهِ، فَيُصْرَفُ إلَى كُلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ اخْتِلَافًا فِي الرِّوَايَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَالِهِ، فَيَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ، وَاسْمُ الْمَالِ يَقَعُ عَلَى غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ مِنْ الرَّقِيقِ وَالْعَقَارِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ» . ثُمَّ انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى أَنْوَاعِ مَالِ الْمَيِّتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2090 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَوَصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ أَوْ لِلْمَسَاكِينٍ كَانَ لَهُ الثُّلُثُ مِنْ كُلِّ مَالٍ، فَإِذَا كَانَ اسْمُ الْمَالِ يَقَعُ عَلَيْهِ تَنَاوَلَهُ الْإِيجَابُ فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْهِبَةِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْإِيجَابَ إيجَابُ الصَّدَقَةِ بِمَالِهِ، فَيُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِلصَّدَقَةِ فِي مَالِ عِبَادِهِ، وَذَلِكَ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا (انْصَرَفَ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ) ثُمَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُمْسِكُ مَا يَقُوتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْسِكْ قُوتَهُ لَاحْتَاجَ إلَى السُّؤَالِ. وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلسُّؤَالِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ؛ فَلَأَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى. فَإِذَا أَفَادَ مَالًا مِثْلَ مَا كَانَ أَمْسَكَ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ صَارَ مَالَ الْفُقَرَاءِ. وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ، فَإِذَا أَتْلَفَهُ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَيَجِبُ قَضَاؤُهُ. ثُمَّ الْمَشَايِخُ قَالُوا فِي قَدْرِ قُوتِهِ الَّذِي يُمْسِكُ. 4158 - فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ زَارِعًا يُمْسِكُ قُوتَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ يَدَهُ لَا تَصِلُ إلَى مَا يَقُوتُهُ إلَّا بَعْدَ سَنَةٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ تَاجِرًا يُمْسِكُ قُوتَ شَهْرٍ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ يَأْكُلُ مِنْ رِبْحِهِ، وَلَا يَرْبَحُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَكِنْ فِي الْغَالِبِ لَا يَمْضِي شَهْرٌ إلَّا وَيَرْبَحُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُعَامِلًا يُمْسِكُ قُوتَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي يَوْمٍ وَقَدْ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي يَوْمٍ. وَلَكِنْ فِي الظَّاهِرِ لَا يَمْضِي أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا وَيُسْتَعْمَلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2091 وَلَوْ قَالَ جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا كَانَ يَمْلِكُ مِنْ مَالِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ. وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْهِبَةِ. ثُمَّ يُعْطِي مَالَهُ الْمُحْتَاجِينَ مِمَّنْ يَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَسَاكِينَ مِمَّنْ لَا يَغْزُو أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَا يَغْزُونَ طَاعَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. 4159 - وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُنَفِّذَ كَانَ مِيرَاثًا عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُنَفِّذُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَشَاءُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَنْذُورَةَ لَا تَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ فَهَذَا أَوْلَى، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَمَا لَمْ يُقْبَضْ وَيُنَفَّذْ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، فَتَصِيرُ مِيرَاثًا عَنْهُ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ مَلَكُوا الْمَالَ إرْثًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ التَّنْفِيذُ مِنْ مَالِهِمْ. 4160 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ فَقَالَ: اُغْزُوا عَنِّي غَزْوَةً، أَوْ قَالَ: اُغْزُوا عَنِّي بِثُلُثِ مَالِي، فَإِذَا قَالَ: اُغْزُوا عَنِّي غَزْوَةً وَأَعْطَى رَجُلًا نَفَقَةَ غَزْوَةٍ يَغْزُو بِهَا لَا يَمْلِكُ الَّذِي يَغْزُو بِهَا ذَلِكَ الْمَالَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2092 لِأَنَّهُ قَالَ: اُغْزُوا عَنِّي، وَالْغَزْوُ عَنْهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا غَزَا بِمَالِهِ، فَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي الْغَزْوِ، وَلِيَصِلَ إلَيْهِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ، فَلَوْ مَلَكَ الْغَازِي ذَلِكَ الْمَالَ لَكَانَ الْغَزْوُ عَنْ الْغَازِي لَا عَنْ الْآمِرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا حَجَّةً مِنْ مَالِي، فَأَعْطَى رَجُلًا نَفَقَةَ الْحَجِّ، فَإِنَّ الْحَاجَّ لَا يَمْلِكُ تِلْكَ النَّفَقَةَ، وَلَكِنْ يَمْلِكُ الْإِنْفَاقَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لَا غَيْرُ، حَتَّى يَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَلَكِنْ يُعْطَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ الْغَزْوِ فَيَغْزُو عَنْهُ. ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مُتَيَقَّنٌ وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِلْكُ الْوَرَثَةِ فَلَا يَغْزُو مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ يُعْطَى الْحَاجُّ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَجِّ (كَذَا هَذَا يُعْطَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ الْغَزْوِ) ، وَلَا يُنْفِقُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ النَّفَقَةِ عَلَى أَهْلِهِ، وَلَا يُنْفِقُهَا إلَّا عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ النَّفَقَةَ لِيَصْرِفَهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْغَزْوِ عَنْهُ، فَلَا يُنْفِقُهَا فِي غَيْرِ مَا أُمِرَ، كَالْحَاجِّ عَنْ الْغَيْرِ لَا يُنْفِقُ الْمَالَ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. قَالَ: وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ رَاجِعًا. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ يُنْفِقُ ذَاهِبًا وَرَاجِعًا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2093 فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ رَدَّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ. ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الْمَالَ بِالْقَبْضِ، إنَّمَا كَانَ لَهُ حَقُّ الصَّرْفِ إلَى نَفَقَةِ الْغَزْوِ، وَقَدْ انْقَضَى أَمْرُ الْغَزْوِ فَهَذَا فَضْلُ مَالِ الْمَيِّتِ فَيَرُدُّهُ إلَى وَرَثَتِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ يَرُدُّ فَضْلَ النَّفَقَةِ إلَى وَرَثَةِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْوَرَثَةُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ. 4161 - وَإِنْ قَالَ اُغْزُوا عَنِّي بِثُلُثِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُعْطِيَ ثُلُثُهُ مَنْ يَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُعْطَوْنَ نَفَقَاتِهِمْ وَيُشْتَرَى لَهُمْ الْخَيْلُ. لِأَنَّهُ أَوْصَى بِجَمِيعِ ثُلُثِهِ فِي نَفَقَةِ الْغَزْوِ، فَيُصْرَفُ جَمِيعُ ذَلِكَ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَوْصَى بِغَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يُعْطِي إلَّا نَفَقَةَ غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَشْتَرِي لَهُمْ الْخَيْلَ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَغْزُوِّ يَلْتَئِمُ بِالْخَيْلِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ بِثُلُثِ مَالِهِ يَشْتَرِي لِلْحَاجِّ بَعِيرًا يَرْكَبُهُ كَمَا أَنَّ سَفَرَ الْحَجِّ يُقْطَعُ بِالْبَعِيرِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. ثُمَّ يُعْطَوْنَ الثُّلُثَ كُلَّهُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِيَغْزُوا عَنْهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْرَعُ لِتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ وَتَحْصِيلِ مُرَادِهِ، وَهَذَا وَالْحَجُّ سَوَاءٌ. فَإِذَا رَجَعُوا رَدُّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، حَتَّى يَبْعَثَ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ، لِمَا قُلْنَا: إنَّ سَبِيلَ هَذَا الثُّلُثِ أَنْ يَنْفُذَ فِي أَمْرِ الْغَزْوِ، فَيُصْرَفُ الْبَاقِي إلَيْهِ حَتَّى يَفْنَى كُلُّهُ فِي أَمْرِ الْغَزْوِ. فَإِنْ لَمْ تَبْقَ نَفَقَةٌ وَبَقِيَتْ الْخَيْلُ بِيعَتْ، حَتَّى يُعْطِيَ أَثْمَانَهَا قَوْمًا يَغْزُونَ بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2094 لِأَنَّ تِلْكَ الْخَيْلَ اُشْتُرِيَتْ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَتُصْرَفُ أَثْمَانُهَا إلَى حَيْثُ يُصْرَفُ الثُّلُثُ، فَإِنْ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ نَفَقَاتِهِمْ شَيْءٌ رُدَّ حَتَّى يَغْزُوَ بِمَا بَقِيَ. قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الَّذِي يُوصَى إلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَ عَنْهُ غَزْوَةً مِنْ مَنْزِلِ الرَّجُلِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ غَزَا بِنَفْسِهِ غَزَا مِنْ مَنْزِلِهِ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ إذَا غَزَا عَنْهُ يَغْزُو مِنْ مَنْزِلِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي بَابِ الْحَجِّ يَحُجُّ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ لَا يَبْلُغُ نَفَقَةَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِ الْمُوصِي دَفَعَ ذَلِكَ الْوَصِيُّ إلَى رَجُلٍ يَغْزُو عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ النَّفَقَةَ، كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ سَوَاءٌ. 4162 - قَالَ: وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مِنْ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ صَارَتْ وَصِيَّةً لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ لَا تَجُوزُ. فَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ كِبَارًا فَأَجَازُوا لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْوَرَثَةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوا فَقَدْ أَبْطَلُوا حَقَّ أَنْفُسِهِمْ فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ. 4163 - وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ مُحْتَاجًا فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ بَعْضَ الثُّلُثِ لِيَغْزُوَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2095 لِأَنَّ قَوْلَ الْمُوصِي أَوْصَيْت بِثُلُثِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِتَمْلِيكِ الْغَيْرِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ ضَعْهُ حَيْثُ شِئْت، وَلَوْ قَالَ لَهُ: (ضَعْهُ حَيْثُ شِئْت) كَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، وَإِنْ كَرِهَتْ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ فَذَلِكَ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ وَالتَّدْبِيرَ إلَى الْوَصِيِّ لَا إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُمْ مِنْ الثُّلُثِ، فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُمْ وَكَرَاهَتُهُمْ، كَمَا إذَا كَانَ الْآخِذُ أَجْنَبِيًّا. وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَى ابْنَهُ أَوْ أَبَاهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَهُ إلَى نَفْسِهِ جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا صَرَفَهُ إلَى هَؤُلَاءِ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ. وَإِنْ أَعْطَى عَبْدَهُ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى مُحْتَاجًا جَازَ، وَإِنْ أَعْطَاهُ وَهُوَ غَنِيٌّ لَمْ يَجُزْ وَضَمِنَ الْمَالَ. ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى عَبْدِهِ كَالصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لَهُ لَا لِلْعَبْدِ، وَلَوْ صَرَفَهُ إلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ جَازَ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَإِنْ أَعْطَاهُ غَنِيًّا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَنِيٌّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ أَجْزَأَهُ. ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ زَكَاةَ مَالِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَنِيٌّ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ فَإِنْ قِيلَ: الْوَصِيُّ إنَّمَا يُعْطِي عَنْ أَمْرِ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْوَضْعِ فِي الْفُقَرَاءِ، فَمَتَى وَضَعَهُ فِي غَيْرِهِمْ صَارَ وَاضِعًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَجُوزَ عَنْ الْمَيِّتِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ السُّلَمِيَّ إنَّمَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ وَكِيلِ أَبِيهِ وَكَانَ أَبُوهُ عَنَى غَيْرَهُ حَيْثُ قَالَ: إيَّاكَ مَا أَرَدْت بِهَا. وَمَعَ ذَلِكَ أَجَازَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2096 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، حَيْثُ قَالَ: «يَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْت» ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَكِيلَ وَصَاحِبَ الْمَالِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. 4164 - وَلَوْ أَوْصَى الْمَيِّتُ أَنْ يَغْزُوَ لِي غَزْوَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَرَادَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَغْزُو عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ لَهُ الْوَرَثَةُ. لِأَنَّ الْوَارِثَ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، وَالْوَارِثُ مَحْجُورُ النَّفْعِ عَنْ مُوَرِّثِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَإِنْ أَجَازَ لَهُ الْوَرَثَةُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَغْزُو عَنْهُ، وَهُمْ كِبَارٌ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَغْزُوَ. وَيَرُدَّ مَا بَقِيَ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَقٌّ بَعْدَ الْإِجَازَةِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَغْزُوَ وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ غَنِيًّا. 4165 - بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: ثُلُثِي وَصِيَّةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى الْوَارِثُ إنْ كَانَ غَنِيًّا، وَإِنْ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ إنَّمَا يُدْفَعُ إلَيْهِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ مَحَلُّهَا الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، فَلَا يَصِيرُ الْغَنِيُّ مَحَلًّا لَهَا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَأَمَّا هَا هُنَا الْمَالُ لَيْسَ يُدْفَعُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا يُدْفَعُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، وَمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ. دَلِيلُهُ السِّقَايَةُ الْمَوْقُوفَةُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، كَمَا يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2097 أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا فَضَلَ مِنْ النَّفَقَةِ يُرَدُّ إلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى مَا قُلْنَا. 4166 - فَإِنْ غَزَا بِهَا الْوَارِثُ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ ثُمَّ عَلِمْت الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَا غَزَا وَرَجَعَ، فَأَجَازُوا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَكَانَ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَ حَتَّى يَغْزُوَ عَنْهُ غَزْوَةً أُخْرَى. لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تُرَدُّ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَالْغَزْوَةُ قَدْ نَفَذَتْ عَنْ الْوَارِثِ وَلَمْ تَتَوَقَّفْ، فَلَا تُرَدُّ عَلَيْهَا الْإِجَازَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَغِيرًا فِيهِمْ لَمْ تَجُزْ غَزْوَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ قَدْ عُدِمَتْ مِنْهُ. فَإِنْ كَبُرَ فَأَجَازَ لَمْ تَجُزْ أَيْضًا. لِمَا قُلْنَا إنَّ الْغَزْوَةَ لَمْ تَتَوَقَّفْ، فَلَا تُرَدُّ عَلَيْهَا الْإِجَازَةُ. وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى بِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى أَحَدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ حَتَّى يُجِيزُوا كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُعْطَى الْمَالَ كَانَ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ. 4167 - وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَغْزُوَ عَنْهُ غَزْوَةً فَغَزَا عَنْهُ الْوَصِيُّ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ جَازَ ذَلِكَ، وَيَرُدُّ فَضْلَ النَّفَقَةِ. ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِ الْوَصِيِّ مِنْ الْوَصِيَّةِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ ضَعْهُ حَيْثُ شِئْت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2098 قَالَ: فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُغْزَى عَنْهُ غَزْوَةً فَأَغِزُّوا رَجُلًا يُرَابِطُ عَنْهُ، وَلَا يَدْخُلُ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الرِّبَاطَ مِنْ الْغَزْوِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَغْزَى رَجُلًا دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ. فَإِنْ قَالَتْ الْوَرَثَةُ: يُرَابِطُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَقَالَ الْوَصِيُّ: يُرَابِطُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجِيزُ مِنْ ذَلِكَ أَدْنَى الرِّبَاطِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ أَقَلُّ الرِّبَاطِ؛ لِأَنَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ رُجُوعِهِ مَعَ الْغَازِي يُصْرَفُ لِلْوَرَثَةِ إرْثًا بَيْنَهُمْ، فَلَا يُقْطَعُ حَقُّهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا بِيَقِينٍ، وَأَدْنَى الرِّبَاطِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْمَقَادِيرِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَا فِي مُدَّةِ السَّفَرِ وَمُدَّةِ الْخِيَارِ. وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُسَمَّى مُرَابِطًا بِرِبَاطِ سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ، وَيُسَمَّى مُرَابِطًا إذَا رَابَطَ أَيَّامًا، فَيَجِبُ أَنْ يُرَابِطَ عَنْ الْمَيِّتِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَيَّامِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَيَجِبُ رِبَاطُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، (لِهَذَا الْمَعْنَى) ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي الرِّبَاطِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ رَابَطَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ كَصِيَامِ الْعُمُرِ وَقِيَامِهِ» . أَوْ قَالَ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، «وَمَنْ رَابَطَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَانَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ رَابَطَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ لَهُ كَذَا» ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الْوَارِثُ وَالْوَصِيُّ يُؤْخَذُ بِأَوْسَطِ الْأَعْدَادِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ، وَأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ، فَيُقْضَى بِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2099 وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَوْصَى بِهَا مَنْزِلُهُ فِي الثَّغْرِ الَّذِي يُرَابِطُ فِيهِ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ إذَا غَزَا عَنْهُ رَجُلٌ يُرَابِطُ فِي الثَّغْرِ، وَلَا يَدْخُلُ أَرْضَ الْعَدُوِّ جَازَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ حَتَّى يُغْزِيَ عَنْهُ رَجُلًا يَدْخُلُ أَرْضَ الْعَدُوِّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ مَا قُلْنَا: إنَّ الرِّبَاطَ مِنْ الْغَزْوِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ إذَا غَزَا رَجُلٌ يُرَابِطُ وَلَا يَدْخُلُ أَرْضَ الْعَدُوِّ، دَلِيلُهُ مَا إذَا كَانَ مَنْزِلُ الْمُوصِي فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرِّبَاطِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى بِأَنْ يُغْزَى عَنْهُ غَزْوَةٌ فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْغَزْوِ، وَالرَّجُلُ مَتَى رَابَطَ فِي مِصْرِ نَفْسِهِ وَفِي مَوْضِعِهِ لَمْ يُسَمَّ غَازِيًا عِنْدَ النَّاسِ. وَإِنَّمَا يُسَمَّى إذَا دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ، فَمَا لَمْ يَغْزُ عَنْهُ رَجُلٌ يَدْخُلُ أَرْضَ الْعَدُوِّ لَا يَثْبُتُ اسْمُ الْغَزْوِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ فَأَمَّا إذَا سَافَرَ إلَى مِصْرٍ وَرَابَطَ فِيهِ يُسَمَّى غَازِيًا عِنْدَ النَّاسِ، فَإِذَا غَزَا عَنْهُ رَجُلٌ خَرَجَ إلَى الرِّبَاطِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْغَزْوِ فَيَكْفِي ذَلِكَ. وَلِأَنَّ الْمُوصِيَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْزِلُهُ فِي مَوْضِعِ الرِّبَاطِ (وَهُوَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ) فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ عَلَى الرِّبَاطِ وَعَلَى الدُّخُولِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ وَفِي مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ، فَانْصَرَفَتْ وَصِيَّتُهُ إلَى النَّوْعَيْنِ مِنْ الْغَزْوِ عَلَى الرِّبَاطِ وَالْجِهَادِ فَمَتَى رَابَطَ عَنْهُ جَازَ، وَمَتَى دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ وَجَاهَدَ جَازَ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْزِلُهُ فِي مَوْضِعِ الرِّبَاطِ فَإِنَّ تَحَسُّرَهُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْجِهَادِ أَكْثَرُ مِنْ تَحَسُّرِهِ عَلَى مَا يَفُوتُهُ مِنْ الرِّبَاطِ، فَتَعَيَّنَ الْجِهَادُ لِوَصِيَّتِهِ دُونَ الرِّبَاطِ، فَمَا لَمْ يُجَاهِدْ فِيهِ لَا يَجُوزُ. 4169 - نَظِيرُهُ أَنَّ الطَّوَافَ لِلْآفَاقِيِّ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ تَحَسُّرَهُ عَلَى مَا يَفُوتُهُ مِنْ الطَّوَافِ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ مَكَّةَ، وَلَا يُمْكِنُهُ الطَّوَافُ إلَّا بِمَكَّةَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2100 فَكَانَ أَكْبَرُ هَمَّهُ هُوَ الطَّوَافُ، فَاشْتِغَالُهُ بِهِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَكِّيَّ قَلَّمَا يَتَحَسَّرُ عَلَى مَا يَفُوتُهُ مِنْ الطَّوَافِ؛ فَإِنَّ الطَّوَافَ لَهُ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالصَّلَاةُ لَهَا رِفْعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَكَانَتْ الصَّلَاةُ لَهُ أَفْضَلَ كَذَلِكَ هَا هُنَا. 4170 - وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِهِ أَنْ يَغْزُوَ عَنْهُ فَرَأَى الْوَصِيُّ أَنْ يَدْفَعَ إلَى مَنْ يُرَابِطُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ إلَى مَنْ يَغْزُو إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا رَأَى الْوَصِيُّ وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ الْوَرَثَةُ. ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَ هَذَا كُلِّهِ إلَى الْغَزْوِ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْوَرَثَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، (فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ رَأْيٌ وَلَا تَدْبِيرٌ، وَكَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرَى، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: اُغْزُ عَنِّي غَزْوَةً، فَإِنَّ الثُّلُثَ كُلَّهُ لَا يُصْرَفُ إلَى الْجِهَادِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فَضْلَ النَّفَقَةِ يُرَدُّ إلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَ لَهُمْ رَأْيٌ وَتَدْبِيرٌ حَتَّى لَا يُقْطَعَ حَقُّهُمْ فِي الْمِيرَاثِ. 4171 - وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِثُلُثِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ أَحَبَّ، فَذَلِكَ إلَى الْوَصِيِّ، فَإِنْ جَعَلَهُ الْوَصِيُّ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، أَوْ لِابْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، جَازَ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ لَمْ يَقُلْ يَضَعُهُ حَيْثُ أَحَبَّ كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَجْعَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلِابْنِهِ، فَإِذَا قَالَ يَضَعُهُ حَيْثُ أَحَبَّ، وَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهِ الرَّأْيَ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ. 4172 - وَإِنْ جَعَلَهُ الْوَصِيُّ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ، وَهُوَ يَعْرِفُ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2101 لِمَا قُلْنَا إنَّ الْمَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ صَدَقَةً، وَمَحَلُّ الصَّدَقَةِ الْفَقِيرُ دُونَ الْغَنِيِّ، وَقِيلَ لِلْوَصِيِّ ضَعْهُ فِيمَنْ أَحْبَبْت مِنْ الْفُقَرَاءِ. لِأَنَّ الدَّفْعَ لَمْ يَصِحَّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ، وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ يَصْرِفُهُ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْفُقَرَاءِ، كَذَلِكَ هَا هُنَا. فَإِنْ قَالَتْ الْوَرَثَةُ قَدْ جَعَلَهُ الْمُوصِي فِي الْأَغْنِيَاءِ فَبَطَلَتْ، فَنَأْخُذُ الثُّلُثَ مِيرَاثًا، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ حِينَ وَضَعَهُ فِي الْأَغْنِيَاءِ، وَبِالْخِلَافِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْوِصَايَةِ. وَلَا خَرَجَ الْمَالُ عَنْ الْوَصِيَّةِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْفُقَرَاءِ. 4173 - وَلَوْ جَعَلَهُ الْوَصِيُّ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ الْفُقَرَاءِ، (إلَّا أَنَّ الْوَصِيَّ لَوْ وَضَعَ فِيهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ لَمْ يَجُزْ) . ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَنِيًّا أَجْنَبِيًّا لَا يَجُوزُ، فَإِذَا كَانَ وَارِثًا غَنِيًّا أَوْلَى أَلَّا يَجُوزَ. 4174 - وَلَوْ أَنَّ الْوَصِيَّ جَعَلَهُ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَهُمْ فُقَرَاءُ، لِيَغْزُوا بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَتُجِيزُونَ مَا صَنَعَ الْوَصِيُّ فَإِنْ أَجَازُوهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إذَا كَانَ فَقِيرًا فَهُوَ مَحَلُّ الصَّدَقَةِ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ لِكَوْنِهِ وَصِيَّةً، وَالْوَصِيَّةُ تَجُوزُ لِلْوَارِثِ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهُ رَجَعَ إلَى الْمِيرَاثِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2102 الْأَوَّلِ إذَا جَعَلَهُ الْمُوصِي لِغَنِيٍّ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْفَقِيرِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْمَيِّتِ ثُلُثِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَقْتَضِي الْوَضْعَ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ، فَهُوَ فِي الْوَضْعِ فِي الْأَغْنِيَاءِ غَيْرُ مَأْمُورٍ، وَفِي الْوَضْعِ فِي الْفُقَرَاءِ مَأْمُورٌ، فَمَتَى وَضَعَهُ فِي غَنِيٍّ فَإِنَّمَا وَضَعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَيِّتِ، فَصَارَ مُخَالِفًا وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَضَعْ، فَلَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِيمَنْ أُمِرَ بِالْوَضْعِ فِيهِ، فَأَمَّا إذَا وَضَعَهُ فِي وَارِثٍ فَقِيرٍ فَقَدْ وَضَعَهُ فِي مَحَلِّهِ، فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا؛ لِأَمْرِ الْمَيِّتِ، فَصَارَ دَفْعُهُ وَوَضْعُ الْمَيِّتِ فِيهِ سَوَاءً، وَالْمَيِّتُ لَوْ وَضَعَهُ فِيهِ كَانَتْ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ إذَا لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ تَصِيرُ مِيرَاثًا، كَذَلِكَ هَا هُنَا. 4175 - وَإِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ أَنْ يُجْعَلُ فَرَسُهُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ سِلَاحُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يُجْعَلَ مُصْحَفُهُ حَبِيسًا يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ، أَوْ دَارٌ يَسْكُنُهَا الْغُزَاةُ، أَوْ يُؤَاجَرُ، فَيَكُونُ أَجْرُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ أَرْضٌ تُزْرَعُ فَتَكُونُ غَلَّتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ عَبْدُهُ وَقْفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يَخْدُمُ الْغُزَاةَ أَوْ يُؤَاجَرَ فَتُقْسَمُ غَلَّتُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إلَى رَبِّهِ، وَكَذَا حَبْسُ الْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْمَزَادِ والطنجير وَالشَّفْرَةِ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ الثُّلُثِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ دَارًا أَوْ عَقَارًا فَحَبْسٌ جَائِزٌ، وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَنْقُولًا فَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ، إلَّا الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2103 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الْحَبْسُ بَاطِلٌ فِي الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ إلَّا الْغَلَّةَ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، نَحْوَ إنْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدٍ أَوْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَتُعْطَى الْغَلَّةُ لِلْفُقَرَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَمَّا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يُجِيزُ الْوَقْفَ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُرْبَةِ. وَكَذَلِكَ الْحَبْسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَائِزٌ. لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ مَوْجُودٌ فِيهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا سَبَّلَتْ مُصْحَفًا لَهَا. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنَّ وَقْفَ الْمَنْقُولِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ حَبْسُ الْمَنْقُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاطِلٌ، وَكَانَ يَقُولُ: الْقِيَاسُ أَلَّا يَجُوزَ وَقْفُ الْأَرَاضِي لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ الْمِلْكِ وَلَا تَمْلِيكَ مِنْ أَحَدٍ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ عَطَّلَ مِلْكَنَا عَنْ الْمَسَاجِدِ لِقُرْبَةٍ تَعَلَّقَتْ بِهَا، عَائِدٍ نَفْعُهَا إلَيْنَا مِنْ حَيْثُ الثَّوَابُ، فَجَوَّزْنَا فِي مِثْلِهِ فِي وَقْفِ الْأَرَاضِي؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّهَا تَبْقَى وَعَائِدُ نَفْعِهَا، كَالْمَسَاجِدِ، فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ مَا وَجَدْنَا فِيهَا قُرْبَةً أَوْجَبَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - إلَّا قُرْبَةً تَقَعُ بِتَمْلِيكِ الْفَقِيرِ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْقُرْبَةِ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ إذْ إيجَابُ الْعَبْدِ (مِنْ الْقُرَبِ) مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُجِيزُ الْوَقْفَ وَالْحَبْسَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إذَا أَوْصَى بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا مَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُصْرَفَ غَلَّةُ بُسْتَانِهِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2104 الْفَقِيرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ التَّمْلِيكِ، فَكَذَلِكَ حَبْسُ الْأَرَاضِي وَالْعَبْدِ وَالدَّارِ لِتَكُونَ غَلَّتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ يُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ مِمَّنْ يَغْزُو، فَتَصِيرُ مِلْكًا لِمَنْ يَأْخُذُهَا، يَصْنَعُ بِهَا مَا شَاءَ. فَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَمْلِيكِ الشَّيْءِ وَلَكِنْ فِيهِ انْتِفَاعٌ بِالْعَيْنِ، نَحْوَ سُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الْفَرَسِ وَقِرَاءَةِ الْمُصْحَفِ وَلُبْسِ السِّلَاحِ وَخِدْمَةِ الْعَبِيدِ، لَا أَصْلَ فِي جَوَازِهِ فِي الشَّرْعِ إذَا وَقَعَ؛ لِأَقْوَامٍ مَجْهُولِينَ، فَإِنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبِيدِهِ لِقَوْمٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانُوا مَعْلُومِينَ جَازَ، وَهَا هُنَا وَقَعَ الْحَبْسُ؛ لِأَقْوَامٍ مَجْهُولِينَ فَلَا يَجُوزُ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ صَدَقَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، فَلَا يَجُوزُ إذَا وَقَعَ لِقَوْمٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ. وَمَنْ أَخَذَ الْفَرَسَ الْحَبِيسَ لِيَرْكَبَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ يَحْصُلُ لَهُ الْمَنْفَعَةُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ الْمُوصِي بِخِدْمَتِهِ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ مَا دَامَ يَخْدُمُهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ، وَلَوْ اسْتَعَارَ فَرَسَهُ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، فَكَذَلِكَ الْغَازِي نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2105 وَكَذَلِكَ السِّلَاحُ يَكُونُ وَقْفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الثُّلُثِ، فَمَنْ أَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ وَإِصْلَاحُهُ حَتَّى يَرُدَّهُ؛ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ مَا لَمْ يَرُدَّهُ، فَإِذَا أَخَذَهُ غَيْرُهُ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الثَّانِي. 4176 - فَإِنْ رَكِبَ الْوَصِيُّ الْفَرَسَ وَتَسَلَّحَ بِالسِّلَاحِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إذَا كَانَ الْوَصِيُّ غَيْرَ وَارِثٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُوصِي مَا يُوجِبُ خُرُوجَ هَذَا الْوَصِيِّ عَنْ الْوَصِيَّةِ، فَصَارَ هَذَا وَقَوْلُهُ ضَعْ فَرَسِي وَسِلَاحِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَيْثُ شِئْت سَوَاءً. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ وَارِثًا لِلْمَيِّتِ إلَّا أَنْ يَرْضَى جَمِيعُ الْوَرَثَةِ وَهُمْ كِبَارٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَصِيَّةً بِالْمَنْفَعَةِ لِلْوَارِثِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ لِلْوَارِثِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ. 4177 - فَإِنْ أَعْطَاهُ الْوَصِيُّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ رِضَى بَقِيَّتِهِمْ فَنَفَقَ الْفَرَسُ تَحْتَهُ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُضَمِّنُوا قِيمَةَ الْفَرَسِ إنْ شَاءُوا الْوَصِيَّ الَّذِي أَعْطَى، وَإِنْ شَاءُوا الْوَارِثَ الَّذِي يَرْكَبُ. ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ مُتَعَدٍّ فِي الدَّفْعِ، وَالْوَارِثَ مُتَعَدٍّ فِي الْقَبْضِ، فَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَعَدِّيهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ مِنْ الْغَاصِبِ. فَأَيَّهُمَا ضَمَّنُوهُ الْقِيمَةَ أَمَرَ الْقَاضِي فَاشْتَرَى بِالْقِيمَةِ فَرَسًا آخَرَ، فَجُعِلَ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2106 لِأَنَّ هَذَا بَدَلٌ عَنْ الْفَرَسِ، فَيُصْرَفُ إلَى فَرَسٍ آخَرَ لِيَقُومَ مَقَامَهُ، حَتَّى لَا تَنْقَطِعَ الصَّدَقَةُ عَنْ الْوَاقِفِ. فَإِنْ ضَمِنَ الْوَارِثُ الْقِيمَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَصِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. ؛ لِأَنَّ الْفَرَسَ نَفَقَ بِفِعْلِهِ وَجِنَايَتِهِ، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى غَيْرِهِ، كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ ضَمِنَ الْوَصِيُّ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْوَارِثِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْغَاصِبِ إذَا ضَمِنَ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى غَاصِبِ الْغَاصِبِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ إذَا وَهَبَ الْغَصْبَ لِرَجُلٍ فَأَتْلَفَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ ضَمِنَ الْغَاصِبُ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِشَيْءٍ، فَلِمَ يَرْجِعْ هُنَا؟ قُلْنَا: إذَا غَصَبَ الْغَاصِبُ أَوْ أَعَارَ فَقَدْ قَصَدَ أَنْ تَكُونَ الصِّلَةُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا مَلَكَ الْمَالَ بِالضَّمَانِ فَقَدْ تَمَّتْ الصِّلَةُ مِنْهُ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَأَمَّا هَا هُنَا إنَّمَا أَعَارَهُ لِيَكُونَ صِلَةً مِنْ الْمَيِّتِ لَا مِنْهُ، وَبِالضَّمَانِ لَمْ تَتِمَّ تِلْكَ الصِّلَةُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُهُ رَجُلٌ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَهَبَ مَالَ رَجُلٍ لِآخَرَ فَوَهَبَ، ثُمَّ إنَّ الْمُكْرَهَ ضَمِنَ لِصَاحِبِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَالِ الْمَوْهُوبِ عَلَى الْمُوهَبِ لَهُ، لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِأَنْ تَكُونَ الصِّلَةُ مِنْهُ، إنَّمَا قَصَدَ بِأَنْ تَكُونَ الصِّلَةُ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ، فَإِذَا مَلَكَهُ رَجَعَ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2107 قَالَ: وَإِذَا أَوْصَى بِعَبْدٍ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، يُدَاوِي الْجَرْحَى وَكَانَ طَبِيبًا، أَوْ يَسْقِي الْمَاءَ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يُؤَاجَرُ فَيَصْرِفُ غَلَّتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ. عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا مِنْ الْقُرَبِ. فَأَمَّا الْغَلَّةُ فَيُعْطَاهَا الْغُزَاةُ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ صَدَقَةُ تَمْلِيكٍ، وَمَحَلُّ الصَّدَقَةِ الْفَقِيرُ دُونَ الْغَنِيِّ. وَأَمَّا الْمَاءُ فَيَسْقِي الْغُزَاةَ، مَنْ اسْتَسْقَاهُ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَكَذَلِكَ يَخْدُمُ الْغُزَاةَ، مَنْ اسْتَخْدَمَهُ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَدَقَةِ تَمْلِيكٍ بَلْ هِيَ إبَاحَةُ انْتِفَاعٍ، وَمَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِبَاحَةَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، كَالْمَاءِ الْمَوْضُوعِ عَلَى الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ الْغَنِيُّ لَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ الْمَاءَ مِنْ نَهْرِ الْغَيْرِ، وَمِنْ حَوْضِ الْغَيْرِ، كَالْفَقِيرِ سَوَاءٌ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ يَقَعُ لَهُ الْكِفَايَةُ بِدُونِ ذَلِكَ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا فَيَخْدُمَهُ، وَالْفَقِيرُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَكَانَ الْمُحْتَاجُ أَوْلَى بِالْخِدْمَةِ لَهُ. 4179 - وَإِنْ جَعَلَ الْمَيِّتُ الْكُرَاعَ أَوْ السِّلَاحَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا وَصَفْت لَك حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِذَا مَاتَ كَانَ مِيرَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ بَاطِلٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوصًى بِهِ، وَالْمُوصَى بِهِ هُوَ الْغَلَّةُ، وَقَدْ عُدِمَ هَا هُنَا فَبَطَلَ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجِيزُ وَقْفَ الْمَنْقُولِ إلَّا فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَالْحَبِيسُ هُنَاكَ كُرَاعٌ وَسِلَاحٌ فَجَازَ عِنْدَهُمَا، إلَّا أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2108 عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْإِخْرَاجُ مِنْ يَدِهِ شَرْطٌ بِأَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ، لِيَكُونَ هُوَ الْقَيِّمُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَكِنْ الْإِشْهَادُ يَكْفِي، فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّ الْقَيِّمَ إنَّمَا يَقْبِضُهُ بِأَمْرِهِ، فَكَانَ يَدُ الْقَيِّمِ كَيَدِ الْوَاقِفِ، فَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ كَيَدِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ دَارِهِ مَسْجِدًا فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ بِالصَّلَاةِ فِيهِ يَصِيرُ مَسْجِدًا. وَلَا يُقَالُ: إنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِإِذْنِهِ، فَيُجْعَلُ كَصَلَاتِهِ بِنَفْسِهِ بَلْ لَمْ يُجْعَلْ هَكَذَا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا؛ وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تَبْقَى مَحْفُوظَةً إلَّا بِأَيْدِي الْعِبَادِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ يَدٍ مُسْتَحِقَّةٍ لِتَخَلُّفِ الْأُولَى، فَتَبْقَى فِي يَدِهِ مَحْفُوظَةً كَمَا جُعِلَتْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَارَتْ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْقَيِّمُ وَوَلَدُهُ وَوَالِدُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ هَذَا فِي مَرَضِهِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْقَيِّمِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، فَإِذَا فَعَلَ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إذَا سَلَّمَ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَيِّمُ الَّذِي وَلَّاهُ؛ لِأَنَّ مَا حَبَسَهُ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَيُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ، وَلَوْ أَرَادَ إبْطَالَهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَنْفُذْ، وَمَا لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً فَالْوَرَثَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. 4180 - وَإِنْ مَاتَ الْقَيِّمُ فِي حَيَاةِ الَّذِي حَبَسَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى مَنْ وَلَّاهُ الْقَيِّمُ. ذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَيِّمُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَالْقَائِمُ مَقَامَهُ يَكُونُ هُوَ الْقَيِّمُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَالْوَصِيُّ إذَا مَاتَ وَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَإِنَّ الْوَصِيَّ الثَّانِيَ يَكُونُ هُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2109 فَكَذَلِكَ هَا هُنَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَاضِي؛ إذَا فَوَّضَ الْقَضَاءَ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ الثَّانِيَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي وَلَّى الْقَاضِيَ الْأَوَّلَ كَانَ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَخْرُجْ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَيُوَلِّيَ غَيْرَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ وِلَايَتُهُ بَاقِيَةً لَمْ يَجُزْ تَوْلِيَةُ الْقَاضِي غَيْرَهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا هَا هُنَا لَيْسَ لِلَّذِي حَبَسَ وِلَايَةٌ بَعْدَ مَا أُخْرِجَ مِنْ يَدِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيَسْتَبْدِلَ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْقَيِّمِ دُونَ الَّذِي حَبَسَ كَانَ لَهُ التَّفْوِيضُ إلَى غَيْرِهِ. 4181 - فَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ مِنْهُ لِأَحَدٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْعَلُ الْقَيِّمَ فِي ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ وَلَيْسَ لِلَّذِي حَبَسَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي كِتَابِهِ وَهِلَالٌ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ أَنَّ الَّذِي حَبَسَهُ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ، فَوَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَيِّمَ لَوْ وَلَّى غَيْرَهُ ثُمَّ مَاتَ جَازَتْ تَوْلِيَتُهُ، وَإِنَّمَا وَلَّاهُ لِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ جِهَةِ الَّذِي حَبَسَ، فَلَمَّا جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ بِوِلَايَةٍ فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلَّذِي حَبَسَ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ بِوِلَايَةِ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى، وَالْوَجْهُ لِمَا ذَكَرْنَا هَا هُنَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا حَبَسَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْقَيِّمِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَبِيسَ عَنْ مِلْكِهِ وَيَدِهِ، وَصَارَ هُوَ وَسَائِرُ الْأَجَانِبِ فِيهِ سَوَاءً. وَكَمَا أَنَّ التَّدْبِيرَ لَيْسَ إلَى سَائِرِ الْأَجَانِبِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ التَّدْبِيرُ إلَيْهِ. 4182 - وَإِنْ جَعَلَهُ حَبِيسًا وَاشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الْقَيِّمُ فِيهِ فَهَذَا بَاطِلٌ فِي الْحُكْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2110 لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَيِّمُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يُوجَدْ الْإِخْرَاجُ مِنْ يَدِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْحَبْسِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنْ يَدِهِ وَالتَّسْلِيمُ إلَى غَيْرِهِ. 4183 - وَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ إلَى قَيِّمٍ يَقُومُ بِهِ وَاشْتَرَطَ أَنَّهُ إنْ مَاتَ قَبْلَ الَّذِي حَبَسَ ذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ إلَى الَّذِي حَبَسَ ذَلِكَ، يَجْعَلُ فِيهِ مَنْ أَحَبَّ جَازَ مَا اشْتَرَطَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْرَجَ عَنْ يَدِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَيُرَاعَى شَرْطُهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ شَرْطًا آخَرَ؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ تُرَاعَى. ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ تَمَّ الْوَقْفُ وَالْحَبْسُ، فَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ، فَكَانَ الْعَوْدُ إلَى يَدِهِ كَالْعَوْدِ إلَى يَدِ غَيْرِهِ لَا يُبْطِلُ الْحَبْسَ، فَالْعَوْدُ إلَى يَدِهِ مِثْلُهُ. وَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ قَيِّمًا بَعْدَ قَيِّمٍ فَذَلِكَ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْقَيِّمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَهَا إلَى غَيْرِ مَا شَرَطَ الَّذِي حَبَسَهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ كَمَا رُوعِيَ فِي حَقِّ الْقَيِّمِ الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ يُرَاعَى فِي حَقِّ الْقَيِّمِ الثَّانِي، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ وُقُوفِ السَّلَفِ هَكَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ جَائِزٌ فِي وِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ وَالْإِمَارَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَعَثَ سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» ، وَكَانَ كَمَا قَالَ. وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ ابْنَ عَمِّهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ إخْوَتُهُ؛ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2111 ثُمَّ بَعْدَهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ ثُمَّ أَنْتَ يَا هِشَامُ، ثُمَّ قَالَ: أَرَضِيت يَا أَصْلَعَ. فَلَمَّا جَازَ مِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ فِي وِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ أَوْلَى. 4184 - وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ مَالًا فَقَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ فَجَاهِدْ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ اُغْزُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَخَذَهُ الرَّجُلُ فَاشْتَرَى بِهِ مَتَاعًا وَكُرَاعًا وَسِلَاحًا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الَّذِي أَعْطَى الْمَالَ إنْ كَانَ حَيًّا أَوْ وَرَثَتُهُ إنْ كَانَ مَيِّتًا: إنَّمَا أَعْطَاهُ الْمَالَ قَرْضًا لِيُجَاهِدَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ الْمُعْطَى أَوْ وَرَثَتُهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى -، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْطَى فِي ذَلِكَ أَوْ وَرَثَتُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَجَاهِدْ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إضَافَةُ الْجِهَادِ إلَى فِعْلِ الْمُعْطِي لَا إلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَمْرٍ بِأَنْ يَأْتِيَ فِعْلَ الْجِهَادِ، وَإِذَا كَانَ الْجِهَادُ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ لَا إلَى الْمَالِ لَمْ يَصِرْ دَافِعًا لِلْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِيَصِيرَ صَدَقَةً، فَبَقِيَ قَوْلُهُ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُجَرَّدًا، وَهُوَ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ الْقَرْضَ وَيَحْتَمِلُ الصَّدَقَةَ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَرُّعٌ وَالْقَرْضُ أَقَلُّ التَّبَرُّعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْبَدَلَ، وَالصِّلَةُ لَا تُوجِبُ الْبَدَلَ فَحُمِلَ عَلَى الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ تَعَيَّنَ، وَهَذَا كَرَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَسَلَّمَهَا إلَى الزَّوْجِ مَعَ جِهَازِهَا، ثُمَّ مَاتَتْ الِابْنَةُ، فَقَالَ الزَّوْجُ: كَانَ الْمَالُ صِلَةً لَهَا فَلِي مِنْهُ الْمِيرَاثُ، وَقَالَ الْأَبُ: لَا بَلْ كُنْتُ أَعَرْتهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَبِ لِمَا أَنَّ الْعَارِيَّةَ تَبَرُّعٌ وَالْهِبَةَ تَبَرُّعٌ، وَالْعَارِيَّةُ أَقَلُّهُمَا فَحُمِلَ عَلَى الْأَقَلِّ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. فَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي حَيًّا حَلَفَ أَلْبَتَّةَ بِاَللَّهِ مَا أَعْطَاهُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ ثُمَّ أَخَذَ مَالَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2112 لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ. وَحَلَفَتْ الْوَرَثَةُ عَلَى عِلْمِهِمْ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ صَاحِبَهُمْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ الْمَالَ. ؛ لِأَنَّهُمْ حَلَفُوا عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ. 4185 - وَإِنْ تَصَادَقَا الْمُعْطِي وَالْمُعْطَى لَهُ أَنَّ الْمُعْطِيَ أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَلَمْ يَنْوِ قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ فَالْمَالُ قَرْضٌ، وَلَا يَكُونُ صِلَةً لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ أَقَلُّ التَّبَرُّعَيْنِ، وَكَانَ عَلَى الْأَقَلِّ حَتَّى يَثْبُتَ الْأَكْثَرُ، وَهَذَا فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ فَإِنَّهُ لَا رِوَايَةَ لَهُ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاسْتَدَلَّ فِي الْكِتَابِ. فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَعْطَى رَجُلًا مَالًا فَقَالَ: حُجَّ بِهِ أَوْ أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك مَعَ عِيَالِك كَانَ ذَلِكَ قَرْضًا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الصِّلَةَ، كَذَلِكَ هَا هُنَا، وَلَوْ قَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَهُوَ لَك فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَاتَ الَّذِي أَخَذَهُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ وَهُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لَك تَمْلِيكٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلْمِلْكِ، كَمَا إذَا قَالَ دَارِي لَك تَسْكُنُهَا كَانَ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ، وَقَوْلُهُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ الصَّدَقَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ وَلَا يَكُونُ قَرْضًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ قَالَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ الْمَالُ صَدَقَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2113 لِأَنَّهُ أَضَافَ الْجِهَادَ أَوْ الْغَزْوَ إلَى الْمَالِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَهَذَا رَجُلٌ جَعَلَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَكَانَ صَدَقَةً؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ لِلَّهِ، وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِلَّهِ لَا يَكُونُ إلَّا صَدَقَةً عَلَى عِبَادِهِ. 4186 - وَلَوْ كَانَ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاغْزُ بِهِ عَنِّي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ رُدَّ ذَلِكَ الْمَالُ عَلَى الْمُعْطِي، أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِ. ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْغَزْوِ عَنْهُ، وَالْغَزْو عَنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ، وَيَكُونَ الْغَازِي نَائِبًا عَنْهُ فِي الْإِنْفَاقِ، فَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ انْقَطَعَ أَمْرُهُ فَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى وَرَثَتِهِ. فَإِنْ اشْتَرَى بِذَلِكَ الْمَالِ سِلَاحًا أَوْ كُرَاعًا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَخَذَ جَمِيعَ مَا اشْتَرَى؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَزْوِ أَمْرٌ بِشِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْغَزْوِ، وَالشِّرَاءُ وَقَعَ لِلْآمِرِ فَيَكُونُ لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ غَزَا وَفَضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَضْلٌ رُدَّ إلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ الشِّرَاءَ وَقَعَ لَهُ. 4187 - وَلَوْ اشْتَرَى بِهِ مَتَاعًا أَوْ سِلَاحًا ثُمَّ بَدَا لِلْمُعْطِي أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَيَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ غَيْرَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2114 4188 - فَإِنْ قَالَ الْمُعْطِي: رُدَّ عَلَيَّ مَالِي وَلَك مَا اشْتَرَيْت، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا مَا اشْتَرَى؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى وَكِيلٌ لَهُ فِي الشِّرَاءِ، فَالْمُشْتَرِي وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ. 4189 - وَلَوْ قَالَ الْمُعْطِي أُعْطِيك مَالَك وَلِي مَا اشْتَرَيْت الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ لَهُ بِالشِّرَاءِ وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَحْبِسُ مَا اشْتَرَى عَنْ الْمُوَكِّلِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ خُذْ هَذَا الْمَالَ فَجَاهِدْ بِهِ أَوْ اُغْزُ بِهِ، فَاشْتَرَى بِهِ الْمُعْطِي مَتَاعًا أَوْ سِلَاحًا أَوْ كُرَاعًا لِيَغْزُوَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْمَالِ: إنَّمَا أَعْطَيْتُك لِتَغْزُوَ عَنِّي فَرُدَّ عَلَيَّ الْمَتَاعَ، وَقَالَ الْمُعْطَى: أَعْطَيْته لِنَفْسِي صِلَةً أَوْ قَرْضًا فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى الْمَتَاعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَتَاعَ وَالسِّلَاحَ وَالْكُرَاعَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَجَاهِدْ بِهِ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْجِهَادِ عَنْ الْمُعْطَى، وَيُحْتَمَلُ الْجِهَادُ عَنْ الْمُعْطِي، وَهُوَ الْمُجْمَلُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ. وَلِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْمُعْطِي لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَالِ عَنْ مِلْكِهِ، وَمَا ادَّعَاهُ الْمُعْطَى يُوجِبُ زَوَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَى بَدَلٍ أَوْ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ، فَهُوَ يَدَّعِي أَكْبَرَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. 4190 - وَإِذَا حَبَسَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَدَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ جَائِزٌ لَوْ قَالَ: إنْ اسْتَغْنَيْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2115 أَوْ حَضَرَتْك الْوَفَاةُ فَادْفَعْهُ إلَى غَيْرِك حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُحْبِسَ هَكَذَا شَرَطَ وَشَرْطُهُ مُعْتَبَرٌ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا جَعَلَ وَقْفًا عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ إنْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ فَيُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ مِنْ الْوَاقِفِ هَذَا الشَّرْطُ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، 4191 - فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْفَرَسِ الَّذِي جَعَلَهُ حَبِيسًا لَمْ يَكُنْ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، وَكَانَ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الزَّوَالَ قَدْ تَمَّ فَلَا يَصِيرُ مِيرَاثًا. 4192 - فَإِنْ مَاتَ الَّذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ صَارَ حَبِيسًا عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ الْمَيِّتُ، أَوْ عَلَى مَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ حَبِيسًا، لَيْسَ لِصَاحِبِهِ الَّذِي حُبِسَ عَلَيْهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ وُجِدَ. 4193 - فَإِنْ اسْتَغْنَى الَّذِي جَعَلَهُ صَاحِبُهُ حَبِيسًا فِي يَدِهِ، أَوْ تَرَكَ الْجِهَادَ فَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ يَكُونُ حَبِيسًا، لِلشَّرْطِ الَّذِي وُجِدَ مِنْ الْمُحْبِسِ، فَإِنْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ بَدَا لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْجِهَادِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْحَبِيسَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2116 لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ الثَّانِي؛ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا سَلَّمَهُ إلَى الثَّانِي فَقَدْ زَالَتْ يَدُهُ وَصَارَ الْيَدُ لِلثَّانِي، فَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِإِمْسَاكِهِ مِنْ الْأَوَّلِ. 4194 - فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْفَرَسِ شَرَطَ لِلْأَوَّلِ أَنَّهُ إنْ جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ ثُمَّ احْتَاجَ إلَيْهِ أَوْ رَجَعَ إلَى الْغَزْوِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ. (كَانَ هَذَا الشَّرْطُ جَائِزًا) ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفَرَسِ هَكَذَا شَرَطَ فَيُرَاعَى شَرْطُهُ كَمَا فِي الْوَقْفِ إذَا جَعَلَهُ عَلَى أَوْلَادِ فُلَانٍ، فَإِنْ اسْتَغْنَوْا فَهُوَ لِفُلَانٍ فَإِنْ احْتَاجَ الْأَوْلَادُ دَخَلُوا فِي الْوَقْفِ ثَانِيًا جَازَ، وَكَانَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي شَرَطَهُ، كَذَلِكَ هَا هُنَا. 4195 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حَبَسَ فَرَسًا أَوْ أَرْضًا أَوْ جَعَلَهَا وَقْفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ هِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا الَّذِي حَبَسَهَا، أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِ إنْ هَلَكَ أَوْ جَعَلَ حَبِيسًا عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ إنْ هَلَكُوا رَجَعَ الْحَبِيسُ عَلَى الَّذِي حَبَسَهَا، كَانَ هَذَا حَبْسًا بَاطِلًا، لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إنْ شَاءَ، وَإِنْ مَاتَ كَانَ ذَلِكَ مِيرَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَبِّدْ الْحَبْسَ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْوَقْفِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّأْبِيدُ مِنْ شَرْطِهِ؛ لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَيُعْتَبَرُ بِالصَّدَقَةِ الْمَمْلُوكَةِ، وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ لَا يَجُوزُ تَوْقِيتُهَا، فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ الْوَقْفُ مُؤَقَّتًا وَمُؤَبَّدًا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ، وَقَدْ جَازَ مُؤَبَّدًا، فَلَأَنْ يَجُوزَ مُؤَقَّتًا أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2117 أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ مُؤَقَّتَةً وَلَا تَجُوزُ مُؤَبَّدَةً، ثُمَّ التَّأْبِيدُ لَمَّا لَمْ يُبْطِلْ الْوَقْفَ، فَالتَّوْقِيتُ أَوْلَى أَلَّا يُبْطِلَهَا. 4196 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حَبَسَ فَرَسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا، وَدَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ حَبَسَهُ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ إنْ مَاتَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ، لَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَا إلَى وَرَثَتِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّهُ أَبَّدَهُ، وَالْحَبْسُ مُؤَبَّدًا جَائِزٌ. 4197 - فَإِذَا أَخَذَ صَاحِبُ الْحَبِيسِ الْفَرَسَ فَلَمْ يَغْزُ سَنَتَهُ تِلْكَ فَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ يَغْزُو عَلَيْهِ أَعَارَهُ إيَّاهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى حَيْثُ لَمْ يَغْزُ تِلْكَ السَّنَةَ، فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَنَافِعَ الْفَرَسِ فِي بَابِ الْغَزْوِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْفَرَسَ مَا دَامَ هُوَ حَيًّا يَغْزُو، فَلَهُ أَنْ يُمَلِّكَ تِلْكَ الْمَنَافِعَ غَيْرَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُحْبَسَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ حَالًا مِنْ الْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَعِيرُ لِلدَّابَّةِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ رُكُوبَ نَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُعِيرَ غَيْرَهُ، فَهَا هُنَا أَوْلَى. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْفَرَسِ حُصُولُ الثَّوَابِ لَهُ، وَإِذَا غَزَا الثَّانِي بِبَدَلٍ لَا يَحْصُلُ لِلْمُحْبِسِ ثَوَابٌ فِي الْأَجْرِ؛ وَلِأَنَّهُ مَلَكَ مَنَافِعَ هَذَا الْفَرَسِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُمَلِّكَ غَيْرَهُ بِبَدَلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2118 أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَمْلِكُ أَنْ يُعِيرَ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4198 - فَإِنْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ يَغْزُو عَلَيْهِ بِأَجْرٍ فَرَكِبَهُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، فَعَطِبَ فِي يَدِهِ مِنْ رُكُوبِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُؤَاجِرَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي الْفَرَسِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُؤَاجِرَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ آجَرَ فَرَسَ نَفْسِهِ، وَمَنْ آجَرَ فَرَسَ نَفْسِهِ فَعَطِبَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، كَذَلِكَ هَا هُنَا. 4199 - وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ الْقِيمَةَ رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ. لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْمَغْرُورُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بِمَا غَرَّهُ. ثُمَّ يَشْتَرِي الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ فَرَسًا آخَرَ فَيَجْعَلُهُ حَبِيسًا عَلَى الَّذِي كَانَ آجَرَهُ. ؛ لِأَنَّ الْفَرَسَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَالْفَرَسُ الْأَوَّلُ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ حَبِيسًا عَلَى الَّذِي آجَرَهُ، فَكَذَلِكَ الثَّانِي يَكُونُ حَبِيسًا عَلَيْهِ. وَيَتَقَدَّمُ إلَيْهِ فِيهِ أَلَّا يُؤَاجِرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَاطَى مَا لَا يَحِلُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2119 فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْصَحَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَكُونُ الْأُجْرَةُ لِلْمُؤَاجِرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ، وَالْأَجْرُ يَكُونُ لِلْعَاقِدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَشْقَى حَالًا مِنْ الْغَاصِبِ، وَالْغَاصِبُ لَوْ آجَرَ الْمَغْصُوبَ وَسَلَّمَ كَانَ الْأَجْرُ لِلْغَاصِبِ، كَذَا هَا هُنَا. وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْكُلَهُ الْمُؤَاجِرُ وَلَكِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ كَسْبٍ خَبِيثٍ، فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، كَمَا فِي الْغَاصِبِ. 4200 - وَلَوْ قَتَلَ الْفَرَسَ غَيْرُ الَّذِي حُبِسَ عَلَيْهِ، أَوْ رَكِبَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَطِبَ تَحْتَهُ، كَانَ ضَامِنًا بِقِيمَتِهِ، يَأْخُذُهَا الَّذِي حُبِسَ عَلَيْهِ فَيَشْتَرِي بِهَا فَرَسًا آخَرَ، فَيَكُونُ حَبِيسًا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي حُبِسَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ حَالًا مِنْ الْمُودِعِ، وَلَوْ كَانَتْ وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ فَقَتَلَهُ غَيْرُهُ كَانَ لِلْمُودِعِ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَأَخْذُ الْقِيمَةِ، كَذَا هَا هُنَا. 4201 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرَسٌ حَبِيسٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ دَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَرَسَ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَى صَاحِبِهِ، عَلَى أَنْ يَغْزُوَ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الْآخَرَ فَرَسَهُ، كَانَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا (لَا يَنْبَغِي لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا شَرَطَا ذَلِكَ شَرْطًا بَيْنَهُمَا صَارَتْ مُبَادَلَةَ الْمَنَافِعِ بِالْمَنَافِعِ، وَمُبَادَلَةُ الْمَنَافِعِ بِالْمَنَافِعِ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ) كَبَيْعِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2120 4202 - وَلَيْسَ لِلَّذِي حُبِسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ إجَارَةً جَائِزَةً وَلَا فَاسِدَةً، فَإِنْ عَطِبَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ كَمَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ. 4203 - وَإِنْ سَلِمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْرُ مِثْلِ الْفَرَسِ الَّذِي أَعْطَاهُ صَاحِبُهُ. ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ، وَفِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَيَتَصَدَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْأَجْرِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ. 4204 - وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفَعَ فَرَسَهُ إلَى صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ اشْتَرَطَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَغَزَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْفَرَسِ الَّذِي أَعْطَاهُ صَاحِبُهُ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُرْ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ لَمْ يَصِرْ مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِالْمَنْفَعَةِ لِتَصِيرَ إجَارَةً، وَلَكِنَّهُ يُجْعَلُ مَحْضَ إعَارَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلَّذِي حُبِسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيرَهُ لِيَغْزُوَ بِهِ. 4205 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ خَيْلًا لَهُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدَفَعَهَا إلَى وَكِيلٍ لَهُ يَكُونُ هُوَ الَّذِي يُوَزِّعُهَا بَيْنَ الْغُزَاةِ إذَا غَزَوْا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رَدَّهَا إلَيْهِ، فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْإِزَالَةَ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ قَيِّمِ الْحَبْسِ فَيَجُوزُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ أَرْضًا أَوْ دَارًا وَأَخْرَجَهَا إلَى قَيِّمٍ جَازَ ذَلِكَ، لِمَا أَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ وُجِدَ، وَلِهَذَا قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2121 أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ التَّسْلِيمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَكِيلُهُ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، كَمَا شَرَطَ هُوَ، فَكَانَتْ يَدُهُ كَيَدِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّسْلِيمِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا قُلْنَا. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُوَزِّعَهَا بَيْنَ الْغُزَاةِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا إبَاحَةٌ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَكُلُّ قُرْبَةٍ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ اسْتَوَى فِيهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالسِّقَايَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ خَانًا لِنُزُولِ النَّاسِ فِيهِ، أَوْ مَقْبَرَةً يُقْبَرُ فِيهَا مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ (فَإِنَّهُ يَسْكُنَ خَانَهُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَيُقْبَرُ فِي مَقْبَرَتِهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ) . 4206 - فَإِنْ دَفَعَ الْوَكِيلُ إلَى رَجُلٍ فَرَسًا فَقَالَ: ارْكَبْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي هَذَا الْغَزْوِ ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ، فَهُوَ مُسْتَعِيرٌ، وَالْمُسْتَعِيرُ إذَا شَرَطَ رُكُوبَ نَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ، كَذَلِكَ هَا هُنَا. 4207 - وَإِنْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ فَقَالَ: خُذْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَرْكَبُهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ يَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ، كَمَا فِي عَارِيَّةِ الدَّابَّةِ إذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2122 وَلَوْ أَعْطَى رَجُلًا فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَعْطَى الْآخَرَ فَرَسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ الرَّجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: أُعْطِيك فَرَسِي لِتَغْزُوَ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي فَرَسَك أَغْزُو عَلَيْهِ، فَأَخَذَاهُمَا فَغَزَوَا عَلَيْهِمَا، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا. وَإِنْ عَطِبَ الْفَرَسَانِ يَضْمَنَانِ، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَلَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا. فَوَجْهُ الْقِيَاسِ لَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا لَمَّا شَرَطَا ذَلِكَ الشَّرْطَ فِيمَا بَيْنَهُمَا صَارَتْ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِالْمَنْفَعَةِ فَتَصِيرُ فِي حُكْمِ الْإِجَارَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُحْبِسُ رَجُلَيْنِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ حَالُ الَّذِي حَبَسَ فَلَا يَكُونُ إجَارَةً؛ لِأَنَّهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَكَانَتْ الْأَفْرَاسُ كُلُّهَا مِلْكًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ حَالُهُ لِزَوَالِ الْأَفْرَاسِ عَنْ مِلْكِهِ، وَاعْتُبِرَ حَالُ الْقَيِّمِ فِيهَا كَانَ هُوَ أَيْضًا وَاحِدًا، فَلَا يَقَعُ فِيهِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ إذْ الرَّجُلُ لَا يُؤَاجِرُ بَعْضَ أَفْرَاسِهِ بِبَعْضٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفَرَسَانِ لِرَجُلَيْنِ فَقَدْ وُجِدَتْ صُورَةُ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْفَرَسَيْنِ لِمَالِكَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ. 4209 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّهُمَا آجَرَا الْفَرَسَيْنِ بِدَرَاهِمَ، فَآجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَرَسَهُ بِدَرَاهِمَ يَغْزُو عَلَيْهِ، كَانَا ضَامِنَيْنِ (لِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ بِأَدَاءِ دَرَاهِمَ مِنْ مَالِهِمَا وَلَيْسَتْ بِمَالِ صَاحِبِ الْفَرَسَيْنِ، فَقَدْ وَقَعَتْ إجَارَةُ مِلْكِ الْغَيْرِ (بِمِلْكِ الْغَيْرِ، فَوُجِدَ مَعْنَى الْإِجَارَةِ فِيهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2123 4210 - وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي دُفِعَتْ إلَيْهِ الْخَيْلُ أَنْ يُؤَاجِرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْخُيُولِ لِلْغَزْوِ، وَإِنْ آجَرَهَا كَانَ ضَامِنًا، لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْإِجَارَةَ تُبْطِلُ مَعْنَى الثَّوَابِ، وَاَلَّذِي حَبَسَ قَصَدَ بِهِ الثَّوَابَ، فَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى نَفَقَةٍ فَرَأَى أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِبَعْضِ مَنَافِعِ النَّاسِ غَيْرِ الْجِهَادِ بِمِقْدَارِ نَفَقَتِهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إلَى مَنْ يَغْزُو عَلَيْهَا، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الضَّرُورَةِ، وَمَنْفَعَةُ الْأُجْرَةِ تَرْجِعُ إلَى الدَّابَّةِ، فَكَانَ هَذَا أَرْفَقَ بِالدَّابَّةِ، فَيَجُوزُ وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: إذَا جَعَلَ الرَّجُلُ خَانًا وَقْفًا لِمَارَّةِ الطَّرِيقِ، فَاحْتَاجَ إلَى الْمَرَمَّةِ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْقَيِّمِ أَنْ يُؤَاجِرَ مَنَازِلَ الْخَانِ بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَرَمَّةِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا 4211 - ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْمُرَ الْقَاضِي الْوَكِيلَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ وَلِيُّ كُلِّ مَالٍ أُعِدَّ لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا هُوَ وَلِيُّ كُلِّ غَائِبٍ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْوَكِيلُ أَيْضًا بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُصْلِحُ الدَّابَّةَ، وَقَدْ وُجِدَ الرِّضَاءُ مِنْ الْمَالِكِ دَلَالَةً فِي كُلِّ مَا يُصْلِحُ الدَّابَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى حَبِيسًا إلَّا بَعْدَ السَّعْيِ فِي إصْلَاحِهِ. 4212 - فَإِنْ كَانَ الَّذِي حَبَسَهَا شَرَطَ لَهُ حِينَ وَكَّلَهُ بِهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، أَنْ يُؤَاجِرَهَا فِي نَفَقَتِهَا، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَأَحْرَى أَنْ يُجَوِّزَ إجَازَةَ الْوَكِيلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2124 لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ صَرِيحُ الْأَمْرِ بِالْإِجَارَةِ، وَالصَّرِيحُ أَقْوَى مِنْ الدَّلَالَةِ. وَإِنْ شَاءَ آجَرَهَا بِنَفَقَتِهَا، وَلَا يَسْتَأْمِرُ فِي ذَلِكَ الْقَاضِيَ لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الَّذِي حَبَسَ دَلَالَةً، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْمَارِ الْقَاضِي. 4213 - وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ فَرَسًا يُجْعَلُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنْ اسْتَغْنَى أَوْ مَاتَ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى يَكُونَ حَبِيسًا أَبَدًا، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَبِيسِ أَنْ يَرْكَبَهُ فِي حَوَائِجِهِ فِي الْمِصْرِ فِي الْقِيَاسِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ فِي حَوَائِجِهِ فِي الْمِصْرِ، وَمَا حَوْلَ الْمِصْرِ مِنْ شُهُودِ الْجِنَازَةِ وَالتَّشْيِيعِ وَنَحْوِهِ. فَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ لَهُ بِالرُّكُوبِ فِي الْحُرُوبِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الرُّكُوبِ فِي حَوَائِجِهِ [فَوَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ لَهُ الرُّكُوبُ فِي حَوَائِجِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ] كَمَا لَوْ رَكِبَهُ وَأَرَادَ بِهِ سَفَرًا، وَكَمَا لَوْ أَعَارَ فَرَسَهُ لِيَرْكَبَهُ فِي طَرِيقٍ، كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الرُّكُوبِ يَنْفَعُ الْفَرَسَ وَلَا يَضُرُّهُ؛ لِأَنَّ رُبَّ فَرَسٍ إذَا رُبِطَ فِي الْمَرْبِطِ وَلَا يُرْكَبُ عَلَيْهِ يُصِيبُهُ مَرَضٌ وَيُفْسِدُ سَيْرَهُ، وَفِي رُكُوبِهِ فِي الْأَحَايِينِ مَنْفَعَةٌ لَهُ وَرِيَاضَةٌ، وَالْمَالِكُ كَانَ كَالرَّاضِي فِي كُلِّ مَا يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَى الْفَرَسِ. وَلِأَنَّا لَوْ قُلْنَا: بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَلِيلُ الرُّكُوبِ فِي غَيْرِ الْغَزْوِ أَدَّى إلَى مَنْعِ النَّاسِ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَفْرَاسِ، إذْ لَا يَرْغَبُونَ إلَيْهَا مَتَى عَلِمُوا أَنَّ النَّفَقَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ وَقَلِيلُ الرُّكُوبِ وَكَثِيرُهُ فِي غَيْرِ الْغَزْوِ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2125 وَمَا أَدَّى إلَى الضِّيقِ وَالْحَرَجِ وَتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ كَانَ حُكْمُهُ سَاقِطًا. وَلِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا حَبَسَهُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الَّذِي حَبَسَهُ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَلِيلِ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْغَزْوِ، يَكُونُ كَالرَّاضِي بِرُكُوبِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ فِي غَيْرِ الْغَزْوِ، وَكَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ وَلَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِالشَّيْءِ الْكَثِيرِ. وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ لَيْسَ بِثَابِتٍ لَهُ لِمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلتُّجَّارِ مِنْ ذَلِكَ، فَصَارَ كَالْمَأْذُونِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى دَلَالَةً، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِذْنُ إفْصَاحًا وَصَرِيحًا، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَلَا يَرْكَبُهُ خَارِجًا مِنْ الْمِصْرِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ الرُّكُوبِ، وَالْقَلِيلُ هُوَ الْمُسْتَحْسَنُ دُونَ الْكَثِيرِ. 4214 - فَإِنْ رَكِبَهُ لِيَسْقِيَهُ أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهُ عَلَفًا أَوْ حَمَلَ عَلَيْهِ عَلَفًا لَهُ، أَوْ بَعْضَ الْمَنَافِعِ لِلْفَرَسِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ. لِأَنَّ مَنْفَعَةَ هَذَا الرُّكُوبِ تَرْجِعُ إلَى الدَّابَّةِ، فَلَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ. 4215 - وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ اشْتَرَى فَرَسًا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَكِبَهُ لِيَسْقِيَهُ أَوْ لِيَحْمِلَ طَعَامَهُ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2126 لِمَا أَنَّ ذَلِكَ الرُّكُوبَ لِمَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْبِرِّ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ مَسْأَلَةَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ، وَقَدْ جَعَلَ الْجَوَابَ هَا هُنَا جَوَابًا وَاحِدًا فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ جَمِيعًا. 4216 - وَإِنْ كَانَ يَرْكَبُهُ لِيُرْعِبَ بِهِ الْعَدُوَّ فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ أَوْ كَانَ يَرَى أَنَّ لَهُمْ عُيُونًا فِي الثَّغْرِ فَرَكِبَهُ لِذَلِكَ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الرُّكُوبَ مِنْ الْجِهَادِ. 4217 - وَكَذَلِكَ السَّيْفُ يُجْعَلُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ تَقَلُّدُهُ إيَّاهُ يُفْسِدُ السَّيْفَ أَوْ يَضُرُّ بِهِ أَوْ بِحَمَائِلِهِ فَلَا يَلْبَسُهُ؛ لِأَنَّ لُبْسَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ الْجِهَادِ فِي شَيْءٍ. وَإِنْ كَانَ لُبْسُهُ لَا يَضُرُّهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. ؛ لِأَنَّهُ قَلِيلُ مَنْفَعَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ. كَمَا قُلْنَا فِي رُكُوبِ الْفَرَسِ إذَا كَانَ قَلِيلًا. 4218 - وَإِنْ كَانَ يَلْبَسُهُ لِيُرْهِبَ بِهِ الْعَدُوَّ، أَوْ كَانَ لَهُمْ عُيُونٌ فِينَا تَرَى، فَتَقَلَّدَ السَّيْفَ، وَلَبِسَ السِّلَاحُ لِيُرْهِبَ بِهِ الْعَدُوَّ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إرْهَابَ الْعَدُوِّ مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ لَا بَأْسَ بِهِ. وَإِنْ جَعَلَ نَبْلًا وَقَوْسًا حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمْ يُعْجِبْنِي أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2127 يَرْمِيَ صَاحِبُهَا بِالنَّبْلِ وَالْقَوْسِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّمُ بِذَلِكَ الرَّمْيِ وَهُوَ مِمَّا يَتَقَوَّى بِهِ الْعَدُوُّ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُفْسِدُ النَّبْلَ وَالْقَوْسَ، وَالرَّمْيُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ لَيْسَ مِنْ الْجِهَادِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إفْسَادُهُ فِي غَيْرِ أَمْرِ الْجِهَادِ. بِخِلَافِ مَا إذَا رَكِبَ الْفَرَسَ الْحَبِيسَ فِي حَوَائِجِهِ فِي الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الرُّكُوبَ مِمَّا لَا يُفْسِدُهُ بَلْ يُصْلِحُهُ، حَتَّى إذَا كَانَ رُكُوبُهُ يُفْسِدُهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ رَكِبَهُ لِتَعَلُّمِ الْفُرُوسِيَّةِ، أَوْ رَكِبَهُ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فِي حَوَائِجِهِ. 4219 - وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ فَرَسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَسَمِعَ الرَّجُلُ بِعَلَفٍ رَخِيصٍ يُبَاعُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمِصْرِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ فِي الْمِصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فِي بَعْضِ قُرَاهُ فَلَا بَأْسَ بِهَذَا. لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَنَافِعِ الدَّابَّةِ، وَلَوْ رَكِبَهُ فِي حَاجَتِهِ فِي الْمِصْرِ لَا بَأْسَ بِهِ، فَمَا ظَنُّك إذَا كَانَ رُكُوبُهُ لِمَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ. وَإِنْ كَانَ مَوْضِعًا بَعِيدًا يُسَافِرُ عَلَيْهِ لَمْ يُعْجِبْنِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُسَافَرَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلَا تَجُوزُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2128 أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ جَازَ مِثْلُ هَذَا لَجَازَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بَعْضَ الْكُوَرِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُ، وَهَذَا أَقْبَحُ. 4220 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى الْعَلَفِ إلَّا مِنْ مَسِيرَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْكَبَهُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ عَلَفَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْكَبَهُ أَيْضًا رَاجِعًا مَعَ الْعَلَفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ ذَاهِبًا لِمَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِ الدَّابَّةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ رَاجِعًا أَيْضًا مَعَ الْعَلَفِ، فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِ الدَّابَّةِ وَالْحَمْلُ أَوْلَى. وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَمِّلَهُ مِنْ الْعَلَفِ مَا لَا يُطِيقُ إذَا رَكِبَ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِهْلَاكٌ لِلدَّابَّةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي دَابَّةِ نَفْسِهِ، فَفِي دَابَّةِ الْحَبِيسِ أَوْلَى. 4221 - وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ سَيْفًا حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى السَّيْفِ حِلْيَةٌ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِضَ لِلْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تَبَعٌ لِلسَّيْفِ، وَالسَّيْفُ حَبِيسٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَالْحِلْيَةُ مِثْلُهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2129 فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، وَلَكِنْ يَسْتَعْمِلُهُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ بِحِلْيَتِهِ، كَمَا أَذِنَ لَهُ. 4222 - فَإِنْ احْتَاجَ السَّيْفُ إلَى مَرَمَّةٍ، فَإِنَّ مَرَمَّتَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَعْرِضُ لِحِلْيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُسْتَعِيرِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْفَرَسَ لَوْ كَانَ حَبِيسًا فِي يَدِهِ وَاحْتَاجَ إلَى النَّفَقَةِ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْرِضُ لِلْفَرَسِ بِإِجَارَتِهِ، كَذَلِكَ هَا هُنَا، فَمَرَمَّةُ السَّيْفِ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْحِلْيَةِ. 4223 - فَإِنْ كَانَ السَّيْفُ إنَّمَا أَعْطَاهُ وَكِيلًا لَهُ يَدْفَعُهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَيْضًا أَنْ يَعْرِضَ لِحِلْيَتِهِ بِصَدَقَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ الدَّفْعَ إلَى مَنْ يَغْزُو، وَلَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ التَّصَدُّقَ، فَلَا يَتَعَدَّى أَمْرَ مُوَكِّلِهِ. 4224 - فَإِنْ احْتَاجَ السَّيْفُ إلَى مَرَمَّةٍ فِي إصْلَاحِهِ، وَإِصْلَاحِ جَفْنِهِ، فَرَأَى الْوَكِيلُ أَنْ يُصْلِحَهُ مِنْ حِلْيَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَيَأْخُذُ مِنْ حِلْيَتِهِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَرَمَّةِ فَيُرَمِّمُهُ بِذَلِكَ، وَيَدَعُ مَا بَقِيَ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى مَرَمَّةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ السَّيْفِ لَيْسَتْ لِلْوَكِيلِ لِيَكُونَ إصْلَاحُهُ مِنْ مَالِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2130 فَيَكُونُ إصْلَاحُهُ مِنْ السَّيْفِ كَالْفَرَسِ إذَا احْتَاجَ إلَى نَفَقَةٍ فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَنَافِعِهِ بِأَنْ يُؤَاجِرَهُ فَيَصْرِفَ غَلَّتَهُ إلَى نَفَقَتِهِ. وَكَذَلِكَ الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ مَرَمَّتُهَا فِي غَلَّتِهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ غَلَّةٌ سِوَى الْحِلْيَةِ فَيُصْلِحُهُ مِنْ الْحِلْيَةِ. 4225 - فَإِنْ كَانَ إذَا نَزَعَ بَعْضَ الْحِلْيَةِ اُنْتُزِعَتْ كُلُّهَا وَأَجْرَى لِلْمَرَمَّةِ بَعْضَهَا رَمَّمَ السَّيْفَ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ثُمَّ لِيُمْسِكْ الْفَضْلَ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ حَتَّى إذَا احْتَاجَ إلَى مَرَمَّةٍ فَيَرُمُّهُ بِهَا. لِأَنَّ الْحِلْيَةَ مَا جُعِلَتْ لِلصَّدَقَةِ وَإِنَّمَا جُعِلَتْ فِي الْغَزْوِ فَلَا تُصْرَفُ إلَّا فِي أَمْرِ الْغَزْوِ. 4226 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ فَرَسًا لَهُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدَفَعَهُ إلَى وَكِيلٍ لَهُ يَدْفَعُهُ إلَى بَعْضِ مَنْ يَخْرُجُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَطِمَ الْفَرَسُ أَوْ أَصَابَهُ عَيْبٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَغْزُوَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ فِي الْمِصْرِ أَوْ لِلْعَجَلَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهُ الْوَكِيلُ، وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ فَرَسًا آخَرَ يَغْزُوَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبِعْهُ لَهَلَكَ الْفَرَسُ، فَانْقَطَعَتْ صَدَقَةُ الَّذِي حَبَسَ فَكَانَ لَهُ اسْتِبْدَالُهُ لِيُبْقِيَ صَدَقَتَهُ. وَأَمْرُ الْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ السَّعْيَ فِي إصْلَاحِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2131 4227 - فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ الَّذِي يَبِيعُ بِهِ لَا يَبْلُغُ ثَمَنَ فَرَسٍ يَغْزُو عَلَيْهِ [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] فَإِنْ كَانَ يَطْمَعُ أَنْ يُصَابَ فَرَسُ وَقْفٍ حَتَّى يُصَابَ فَرَسٌ يُغْزَى عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إدَامَةُ هَذِهِ الصَّدَقَةِ بِشِرَاءِ فَرَسٍ آخَرَ فَيُوقَفُ وَلَا يُعَطَّلُ. 4228 - وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصَابُ بِهِ فَرَسٌ بِأَنْ قَلَّ ذَلِكَ جِدًّا رَدَّ الْفَرَسَ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي كَانَ حَبَسَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ حَبِيسًا لِيُغْزَى عَلَيْهِ لَا لِلتَّمْلِيكِ وَالصَّدَقَةِ. 4229 - وَإِذَا صَارَ بِحَالٍ لَا يُغْزَى عَلَيْهِ عَادَ إلَى مِلْكِ الَّذِي حَبَسَ كَالْعَوَارِيِّ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ مَا قَالَ بِهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رَجُلٍ جَعَلَ فِي أَرْضِهِ مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ النَّاسُ، ثُمَّ ضَرَبَ مَا حَوْلَهُ وَاُتُّخِذَتْ مَزَارِعُ، وَضُرِبَ الْمَسْجِدُ، فَإِنْ كَانَ يَطْمَعُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ أَهْلُهُ وَيُصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَعُودُ مِلْكًا لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ عَادَ مِلْكًا، عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَبِيعَهُ، أَوْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلِوَرَثَتِهِ ذَلِكَ؛ لِمَا أَنَّهُ جَعَلَهُ لِلصَّلَاةِ لَا لِلصَّدَقَةِ، فَإِذَا صَارَ بِحَالٍ لَا يُصَلَّى فِيهِ لَا يُتَصَدَّقُ بِهِ، وَلَكِنْ يَعُودُ مِلْكًا، فَكَذَلِكَ أَمْرُ الْفَرَسِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُرَدُّ الْفَرَسُ إلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِهِ، كَمَا لَا يَعُودُ الْمَسْجِدُ مِلْكًا إذَا كَانَ لَا يُصَلَّى فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2132 [بَابُ الْعُشُورِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ] 203 - بَابُ الْعُشُورِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ 4230 - رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي صَخْرَةَ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُصَدِّقًا إلَى عَيْنِ التَّمْرِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُصَلِّينَ، يَعْنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ أَمْوَالِهِمْ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا اخْتَلَفُوا بِهَا لِلتِّجَارَةِ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ. اعْلَمْ أَنَّا اتَّبَعْنَا الْأَثَرَ فِي هَذَا فَقُلْنَا يَأْخُذُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَكَذَا أَمَرَ عَاشِرَهُ بِأَخْذِ الْعُشْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ بَعَثَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُصَدِّقًا فِي الْعُشُورِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تُقَلِّدُنِي الْمَكْسَ مِنْ عَمَلِك، «فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: قَدْ قَلَّدْتُك مَا قَلَّدَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَلَّدَنِي أُمُورَ الْعُشُورِ، أَمَرَنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2133 أَنْ آخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ كُلَّهُ» . فَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ. 4231 - وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَاشِرَ هُوَ الَّذِي أَقَامَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، عَلَى الدَّرْبِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ بِمَالِهِ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ وَجَعَلَ نَفَقَتَهُ مِنْهُ، فَإِنَّمَا سَمَّاهُ عَاشِرًا؛ لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَدَارُهُ عَلَى الْعُشْرِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَقَّ الْأَخْذِ لِلْعَاشِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ فِي حِمَايَةِ الْإِمَامِ وَرِعَايَتِهِ؛ لِأَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ بِالْإِمَامِ، فَصَارَ هَذَا الْمَالُ آمِنًا بِرِعَايَةِ الْإِمَامِ وَحِمَايَتِهِ، فَأَثْبَتَ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ كَالسَّوَائِمِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَفَاوِزِ، كَانَ أَخَذَ زَكَاتهَا إلَى الْإِمَامِ، لِمَا أَنَّهَا فِي حِمَايَةِ الْإِمَامِ وَرِعَايَتِهِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَإِنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِأَخْذِ رُبْعِ الْعُشْرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ زَكَاةٌ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» وَالزَّكَاةُ لِمَا تَبَيَّنَ رُبْعُ الْعُشْرِ. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَإِنَّمَا أُمِرَ بِأَخْذِ نِصْفِ الْعُشْرِ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَيُؤْخَذُ مِنْ الْكَافِرِ، فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ. كَمَا فِي النَّصْرَانِيِّ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ الْمُضَاعَفَةُ وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَإِنَّمَا أُمِرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا الْعُشْرَ، فَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُمْ إذْ الْأَمْرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكُفَّارِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُجَازَاةِ، حَتَّى أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا الْخُمْسَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ الْخُمْسَ، وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا نِصْفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2134 الْعُشْرِ أَخَذْنَا مِنْهُمْ نِصْفَ الْعُشْرِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ مِنَّا شَيْئًا فَنَحْنُ لَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ شَيْئًا. الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَاشِرَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَتَبَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمْ نَأْخُذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ؟ فَقَالَ: كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا؟ فَقَالَ: هُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا الْعُشْرَ، فَقَالَ: خُذْ مِنْهُمْ الْعُشْرَ، فَقَدْ جَعَلَ الْأَمْرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مَبْنِيًّا عَلَى الْمُجَازَاةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا، أَوْ لَا نَعْلَمُ أَيَأْخُذُونَ مِنَّا أَوْ لَا يَأْخُذُونَ، أَخَذْنَا مِنْهُمْ الْعُشْرَ أَيْضًا. فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لِعَشَّارِهِ خُذُوا مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا فَإِنْ أَعْيَاكُمْ ذَلِكَ فَخُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ يَنْزِلُ مِنْ الذِّمِّيِّ مَنْزِلَةَ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْحَرْبِيِّ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ عَلَيْهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْحَرْبِيِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الذِّمِّيِّ، ثُمَّ الذِّمِّيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفُ الْعُشْرِ فَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّ ضِعْفُ ذَلِكَ وَهُوَ الْعُشْرُ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: 4232 - عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ سِيرِينَ يَقُولُ: أَرَادَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَنِي عَلَى الْأُبُلَّةِ فَقُلْت: تُقَلِّدُنِي عَلَى الْمَكْسِ مِنْ عَمَلِك؟ فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا أَمَرَنِي بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، مِنْ أُمُورِ النَّاسِ فَقَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَأَمَرَنِي أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2135 آخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَمِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ دِرْهَمًا. اعْلَمْ بِأَنَّ الْمَكْسَ هُوَ فِعْلُ الْعَاشِرِ، وَالْمَكَّاسُ هُوَ الْعَاشِرُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَكَّاسًا؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِأَخْذِ الْعُشُورَ مِنْهُمْ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُمَاكَسَةِ. وَالْمَكَّاسُ لَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَالُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. 4233 مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِ. - أَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ زَكَاةٌ عَلَى مَا قُلْنَا وَلَا زَكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ كَانَ بِاسْمِ الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَكَاةً فِي الْحَقِيقَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ النِّصَابُ. (دَلِيلُهُ) أَخْذُ الصَّدَقَةِ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ مَالِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ كَامِلًا، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4234 - وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَإِنَّمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقَلِيلِ، فَكَذَلِكَ لَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ حَتَّى أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ فَكَذَلِكَ نَأْخُذُ مِنْهُمْ مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2136 [بَابُ الْجِزْيَةِ] 204 - بَابُ الْجِزْيَةِ 4235 - عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - قَالَ: إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ وَأَقَامَ بِأَرْضِهِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ خَرَاجٌ. (اعْلَمْ) بِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَرَادَ بِهَذَا الْخَرَاجِ خَرَاجَ الرَّأْسِ فَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ، بَلْ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ، وَهُوَ مِنْ دَارِ الْمُوَادَعَةِ، فَإِنَّ خَرَاجَ الرَّأْسِ يَسْقُطُ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَقَامَ بِأَرْضِهِ أَوْ هَاجَرَ إلَيْنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَإِنْ أَسْلَمَ، مَا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ خَرَاجَ الْأَرْضِ فَقَدْ قُلْنَا بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فَأَمْسَكَ أَرْضَهُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعُشْرُ إذَا أَسْلَمَ أَهْلُ بَلَدِهِ طَوْعًا، وَعِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ يُؤَدِّي الْعُشْرَ وَلَا يُؤَدِّي الْخَرَاجَ. وَإِنْ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَ أَرْضَهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمْ تُفْتَحْ قَرْيَةٌ بِالْمَغْرِبِ عَلَى صُلْحٍ إلَّا ثَلَاثَ قُرًى، الْإِسْكَنْدَرِيَّة وكفرطيس وَفِلَسْطِينَ. وسلطاس، وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثِ قُرًى أُخِذَ مَالُهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ قُرًى خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَمَالُهُ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2137 اعْلَمْ) بِأَنَّا لَا نَأْخُذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلْ نَقُولُ: كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَالُهُ، وَيُتْرَكُ فِي أَرْضِهِ يُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ، سَوَاءٌ أُخِذَتْ الْقَرْيَةُ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، فَإِذَا دِهْقَانَةُ نَهْرِ الْمَلِكِ أَسْلَمَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ سَعْدٌ وَعَمَّارٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنْ ادْفَعْ إلَيْهَا أَرْضَهَا فَتُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ، وَسَوَادُ الْكُوفَةِ إنَّمَا أُخِذَ عَنْوَةً نَهْر الْمُلْك وَغَيْرُهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2138 [بَابُ عُشُورِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ] 205 - بَابُ عُشُورِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ 4236 - قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إذَا مَرَّ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَالٍ يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا أَوْ بِشَيْءٍ قِيمَتُهُ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُ عُشْرَ مَا مَرَّ بِهِ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ فَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ أَوْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا الْمَالُ لِي لَمْ يُصَدَّقْ وَأَخَذَ مِنْهُ الْعُشْرَ. لِأَنَّ الْأَمْرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى الْمُجَازَاةِ، وَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ تُجَّارَنَا فِي مِثْلِ هَذَا فَنَحْنُ لَا نُصَدِّقُ تُجَّارَهُمْ. 4237 - بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ وَقَالَ: لَيْسَ لِي، أَوْ قَالَ عَلَيَّ دَيْنٌ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ. لِأَنَّ الْأَمْرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَيْسَ عَلَى الْمُجَازَاةِ وَلَكِنَّهُ عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْإِسْلَامِ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُصَدَّقُ لِمَا أَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الْحَقِّ فِي مَالِهِ فَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ يُصَدَّقُ. وَكَذَلِكَ إذَا مَرَّ بِهِ مُكَاتَبٌ أَوْ عَبْدٌ بِمَالٍ أَخَذَ مِنْهُ الْعُشْرَ. لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ عَبِيدِنَا وَمُكَاتَبِينَا، فَنَحْنُ نَأْخُذُ مِنْ عَبِيدِهِمْ وَمُكَاتَبِيهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2139 4238 - فَإِنْ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ مِنْ عَبِيدِنَا وَمُكَاتَبِينَا فَلَا نَأْخُذُ أَيْضًا مِنْ عَبِيدِهِمْ وَمُكَاتَبِيهِمْ. وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ عَبِيدِنَا أَوْ مُكَاتَبِينَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ أَيْضًا. لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ لِحِفْظِ الطَّرِيقِ، وَالْمُكَاتَبُ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِ الطَّرِيقِ كَالْحُرِّ سَوَاءٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ رَضِيَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ عَبْدِهِ حَيْثُ بَعَثَهُ إلَيْنَا لِلتِّجَارَةِ. 4239 - وَإِذَا مَرَّ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْعَاشِرِ بِرَقِيقٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ، أَوْ مَرَّ بِجَوَارٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي، صُدِّقَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ الْعُشْرُ. لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فَهُمْ أَحْرَارٌ وَلَا عُشْرَ فِي الْأَحْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ صَارُوا أَحْرَارًا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُعْتَقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَارِ قَهْرٍ. 4240 - وَإِنْ مَرَّ الْحَرْبِيُّ بِمَالِ التِّجَارَةِ وَقَالَ: لَا أُرِيدُ بِهِ التِّجَارَةَ، أَوْ قَالَ: هُوَ مَالُ صَبِيٍّ فَإِنَّ الْعَاشِرَ يُعَشِّرُهُ. لِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَنَا فِي ذَلِكَ فَنَحْنُ لَا نُصَدِّقُهُمْ بِذَلِكَ. 4241 - وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْمَالِ فَلَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ أَيْضًا، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَوْ لَا يَأْخُذُونَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2140 لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ كَامِلٌ. 4242 - وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانِ تَاجِرٍ فَعَشَرَهُ عَاشِرُ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ آخَرَ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْشِرْهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَتَّى تَمْضِيَ، فَإِذَا مَضَتْ تِلْكَ السَّنَةُ عَشَرَهُ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ يَتَرَدَّدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَحُكْمُ ذَلِكَ الْأَمَانِ بَاقٍ، وَلَمْ يَنْتَهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْخُرُوجِ، فَصَارَ كَالذِّمِّيِّ يَتَرَدَّدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالذِّمِّيُّ لَا يَعْشِرُهُ الْعَاشِرُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ مَرَّ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِرَارًا، فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ. يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الرُّومِ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمَعَهُ فَرَسٌ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا فَطَلَبَ مِنْهُ الْعَاشِرُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا فَأَبَى، فَلَمْ يَأْخُذْ الْفَرَسَ، وَأَخَذَ الْعُشْرَ ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهِ رَاجِعًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْعُشْرَ ثَانِيًا فَأَبَى، فَجَاءَ مُتَظَلِّمًا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَوَجَدَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَدْخُلْ الْمَسْجِدَ وَوَقَفَ عَلَى بَابِهِ، وَقَالَ هُوَ الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ، وَأَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَتَى الشَّيْخُ الْحَنِيفِيُّ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، كُفِيت. فَظَنَّ النَّصْرَانِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى كَلَامِهِ، فَرَجَعَ كَالْآيِسِ، فَلَمَّا أَتَى الْعَاشِرَ سَبَقَهُ كِتَابُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَلَّا يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَخْبَرَهُ الْعَاشِرُ بِالْكِتَابِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَتَعَجَّبَ النَّصْرَانِيُّ مِنْ عَدْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَسْلَمَ. 4243 - وَلَوْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ فَعَشَرَهُ، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ الْغَدِ دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَجَعَ بِمَالِهِ ذَلِكَ مُسْتَأْمَنًا عَشَرَهُ الْعَاشِرُ مَرَّةً أُخْرَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2141 لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَمَانِ، وَانْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ الْخُرُوجِ، فَإِنَّمَا دَخَلَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ دَخَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَوْ نَزَلَ مَنْزِلَهُ حَرْبِيٌّ آخَرُ، فَلِهَذَا يَعْشِرُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. 4244 - فَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ الْحَرْبِيُّونَ الَّذِينَ اسْتَأْمَنُوا لَا يَعْشِرُونَ الْمُسْلِمِينَ إذَا دَخَلُوا إلَيْهِمْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ، وَإِنْ دَخَلَ وَخَرَجَ مِرَارًا، لَمْ يَعْشِرُوا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. لَمَّا قُلْنَا إنَّ الْأَمْرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى الْمُجَازَاةِ وَالْمُكَافَأَةِ. 4245 - وَإِنْ خَرَجَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ خَمْرٌ أَوْ خَنَازِيرُ عَشَرَ الْخَمْرَ وَلَمْ يَعْشِرْ الْخَنَازِيرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَ عُشْرَ الْخَمْرِ دَرَاهِمَ يُقَوَّمُ قِيمَتُهُ ثُمَّ يُعْطِيهِ قِيمَةَ الْعُشْرِ دَرَاهِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَرَاهِمُ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ الْخَمْرِ مَا يُعْطِيهِ قِيمَةَ الْعُشْرِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَعْشِرُ الْخَمْرَ وَلَا الْخَنَازِيرَ. وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَالْعَاشِرُ مُسْلِمٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَمَا إذَا مَرَّ بِخِنْزِيرٍ وَنَزَلَ الذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مُسْلِمٍ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ تَجَمَّدَ؛ وَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ لَا يَعْشِرُ الْخِنْزِيرَ فَكَذَلِكَ لَا يَعْشِرُ الْخَمْرَ، وَالْحُجَّةُ لَنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. جَمَعَ عُمَّالَهُ بِالْمَوْسِمِ وَقَالَ لَهُمْ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2142 مَاذَا تَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّا يَمُرُّونَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ الْخَمْرِ؟ فَقَالُوا نِصْفَ الْعُشْرِ. 4555 - فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ أَثْمَانِهَا. وَلِأَنَّ الْخَمْرَ أَقْرَبُ إلَى الْمَالِيَّةِ مِنْ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالًا لَنَا فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَ عَصِيرًا، وَيَصِيرُ مَالًا فِي الِانْتِهَاءِ بِأَنْ يَصِيرَ خَلًّا. وَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا لَنَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَصِيرُ مَالًا فِي الِانْتِهَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُرْمَةُ الْخَمْرِ أَخَفَّ، فَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ الْعُشْرُ مِنْ الْخَمْرِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْخِنْزِيرِ. وَلِأَنَّ الْعَاشِرَ إنَّمَا يَأْخُذُ قِيمَةَ الْخَمْرِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَعْرِفُونَ قِيمَةَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُمْسِكُهَا؛ الصَّالِحُ مِنْهُمْ وَالطَّالِحُ، فَأَمَّا الصَّالِحُ فَيُمْسِكُهَا لِلتَّخْلِيلِ، وَأَمَّا الطَّالِحُ لِلشُّرْبِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ قِيمَتَهَا فَيُؤْخَذُ عُشْرُ قِيمَتِهَا لِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ لَا يُمْسِكُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ قِيمَتَهَا، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ الْكُفَّارُ، وَقَوْلُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَلَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ، وَلِأَنَّ الْخَمْرَ مِثْلِيٌّ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِ الْخَمْرِ، فَإِذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ الْخَمْرِ، فَيَجُوزُ. وَأَمَّا الْخِنْزِيرُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَمِثْلُهُ قِيمَتُهُ، فَإِذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ صَارَ كَأَنَّهُ أَخَذَ الْعَيْنَ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخِنْزِيرَ وَلَا بَدَلَهُ؛ وَلِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلِلْإِمَامِ فِيهَا حِمَايَةٌ مُعْتَبَرَةٌ؛ لِأَنَّ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهَا يَدًا مُعْتَبَرَةً، فَصَارَتْ فِي يَدِ الْإِمَامِ وَحِمَايَتِهِ، فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَمْوَالِ، فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ فِيهِ حِمَايَةٌ مُعْتَبَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَثْبُتُ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ عَلَى الْخِنْزِيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2143 (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْخِنْزِيرَ لَا تُورَثُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ لَمْ يَثْبُتْ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَا يَصِيرُ فِي حِمَايَتِهِ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ بِغَيْرِ حِمَايَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ لَا يَعْشِرُونَ أَهْلَ ذِمَّتِنَا إذَا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ بِالْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ لَمْ نَعْشِرْهُمْ فِيمَا أَدْخَلُوا مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا لِأَهْلِ الذَّمَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْشِرُوا أَهْلَ ذِمَّتِنَا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ عَفَوْا عَمَّنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَالِ، فَنَعْفُوا عَنْهُمْ أَيْضًا عُشْرَ هَذَا النَّوْعِ، إذْ عُشْرُهُمْ عُشْرُ مُجَازَاةٍ. 4246 - فَإِنْ كَانُوا لَا يَعْشِرُونَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا دَخَلُوا بِهِ مِنْ مَالٍ، وَيَعْشِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ، عَشَرْنَاهُمْ كَمَا يَعْشِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ يَعْشِرُونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَعْشِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَشَرْنَاهُمْ أَيْضًا. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْفُوا عَنْ مَالٍ دُونَ مَالٍ، فَإِنَّ كُلَّ مَالٍ يَمُرُّ الْوَاحِدُ مِنَّا بِهِ عَلَى عَاشِرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَعْشِرُونَ ذَلِكَ الْمَالَ مَتَى مَرَّ بِهِ أَهْلُ دِينِنَا عَلَى عَاشِرِهِمْ، إلَّا أَنَّهُمْ عَفَوْا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ السَّلَامِ دُونَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، وَهُمْ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى حَتَّى لَا نَعْشِرَهُمْ مِثْلَ مَا وَجَدُوا مِنَّا فَعَشَرْنَاهُمْ جَمِيعًا، حَتَّى إذَا وَجَدْنَا مِنْهُمْ طَائِفَتَيْنِ، وَوَجَدُوا مِنَّا طَائِفَتَيْنِ، فَعَشَرُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى عَشَرْنَا أَيْضًا تِلْكَ الطَّائِفَةَ مِنْهُمْ دُونَ الْأُخْرَى، نَحْوَ إنْ عَشَرُوا رِجَالَنَا وَلَمْ يَعْشِرُوا نِسَاءَنَا، فَكَذَلِكَ نَحْنُ نَعْشِرُ رِجَالَهُمْ وَلَا نَعْشِرُ نِسَاءَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2144 وَكُلُّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّ مِنْ الْعُشْرِ فَإِنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ لِلْمُقَاتِلَةِ دُونَ مَوْضِعِ الصَّدَقَاتِ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ طُهْرَةٌ لِصَاحِبِهَا، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ، فَيُوضَعُ عُشْرُهُ مَوْضِعَ مَالِ الصَّدَقَةِ. قَالَ: 4248 - وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ مَالٌ يَتَّجِرُ بِهِ أَوْ لَيْسَ مَعَهُ مَالٌ، فَاتَّجَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مَالًا، فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَأْخُذْ الْعَاشِرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْعَاشِرَ إنَّمَا يَجْبِي صَدَقَةَ مَالٍ كَانَ فِي حِمَايَةِ الْإِمَامِ وَرِعَايَتِهِ، حَتَّى تَكُونَ الْجِبَايَةُ بِإِزَاءِ الْحِمَايَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَعْشِرُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا عَلَى الْعَاشِرِ لِحَاجَتِهَا إلَى الْحِفْظِ وَالْحِمَايَةِ، وَلَا يَعْشِرُهَا مَنْ اتَّجَرَ فِي مِصْرِهِ لِاسْتِغْنَائِهَا عَنْ حِفْظِهِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ حِمَايَةٌ وَلَا رِعَايَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَعْشِرُ الْأَمْوَالَ الَّتِي لَا حِمَايَةَ وَلَا رِعَايَةَ لَهُ فِيهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى عَسْكَرِ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِزَكَاةِ مَا مَضَى؛ لِمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَالُ فِي حِمَايَةِ الْإِمَامِ وَلَا رِعَايَتِهِ فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى -، فَفِي مَوْضِعٍ لَا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَأْخُذُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ كَمَا لَا يَأْخُذُ بِسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّتِي لَزِمَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، نَحْوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2145 حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَحَدِّ الشُّرْبِ، إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلَا يُجْبَرُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ فَهُوَ آثِمٌ؛ لِأَنَّهُ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَتَى وَجَبَ يُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَكَالْبَاغِي إذَا خَرَجَ إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ يُفْتِي بِأَنْ يُزَكِّيَ مَالَهُ فِيمَا مَضَى فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4249 - وَمَا عَرَفْت مِنْ الْجَوَابِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ جَوَابُك فِي الْأَسِيرِ إذَا اتَّجَرَ فَأَصَابَ مَالًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّهُ لَا يَعْشِرُ، وَلَكِنَّهُ يُفْتَى بِأَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. 4250 - وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ الْعَاشِرَ لَا يَعْشِرُهُ إلَّا أَنَّهُ إنْ عَلِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ، لَزِمَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةً فِي مَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ الزَّكَاةِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ الشَّرَائِعِ وَالشَّرَائِعُ لَا تَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ السَّمَاعِ، وَلَمْ يَبْلُغْ الْخِطَابُ سَمْعَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. 4251 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَسْلَمَ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2146 مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَمَالِ السَّائِمَةِ، فَعَلِمَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَالِ، فَمَكَثَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ خَرَجَ بِمَالِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ، فَإِنَّ الْعَاشِرَ يَعْشِرُ مَالَهُ، وَالْمُصَدِّقُ يَأْخُذُ صَدَقَةَ سَوَائِمِهِ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ انْعَقَدَ عَلَى مَالِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ، وَيَصِيرُ آثِمًا إذَا لَمْ يُؤَدِّ فَحَسَبِ الْوُجُوبِ قَدْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْوُجُوبُ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْعِبْرَةُ بِحَالِ الْوُجُوبِ، وَفِي حَالِ الْوُجُوبِ الْمَالُ فِي حِمَايَةِ الْإِمَامِ وَرِعَايَتِهِ فِي مَوْضِعٍ يَجْرِي حُكْمُ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَوْلَ إذَا انْعَقَدَ عَلَى النِّصَابِ ثُمَّ انْتَقَصَ، ثُمَّ تَمَّ فِي آخِرِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَاعْتُبِرَ فِيهِ حَالُ تَمَامِ الْحَوْلِ، الَّتِي هِيَ حَالُ الْوُجُوبِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ النُّقْصَانُ الَّذِي كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ كَيْنُونَةُ الْمَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَيُعْتَبَرُ حَالُ تَمَامِ الْحَوْلِ. وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْأَسِيرِ أَوْ الْمُسْتَأْمَنِ إذَا خَرَجَ بِمَالِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ زَكَاةُ ذَلِكَ الْحَوْلِ. 4252 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَالِهِ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ أَرْضَ الْحَرْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2147 لِلتِّجَارَةِ، فَقَالَ لِلْعَاشِرِ: إنَّمَا أَصَبْته مُنْذُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ عُشْرًا؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ الْحَقِّ فِي مَالِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. 4253 - فَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ حَتَّى تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى مِلْكِهِ، وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَرَّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ حَالَ وَالْمَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَوَقْتُ الْوُجُوبِ وَقْتُ تَمَامِ الْحَوْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ وَقْتَ الْوُجُوبِ فِي مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ. 4254 - وَإِنْ كَانَ أَقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَمَامَ الْحَوْلِ مُنْذُ مِلْكِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَتَمَّ الْحَوْلُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ عَشَرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وَقْتَ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي حِمَايَةِ الْإِمَامِ، وَفِي مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ. 4255 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْلِمًا مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمَالٍ فَكَتَمَهُ إيَّاهُ، وَقَدْ حَالَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ أَيْضًا فَكَتَمَهُ إيَّاهُ، وَقَدْ حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي، ثُمَّ مَرَّ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2148 عَلَى الْعَاشِرِ بَعْدَمَا حَالَ الْحَوْلُ الثَّالِثُ فَعَلِمَ بِهِ الْعَاشِرُ، وَعَلِمَ بِمَا كَانَ صَنَعَ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ الْعَاشِرَ يَعْشِرُ الْأَمْوَالَ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ حَقُّ الْأَخْذِ لِلْعَاشِرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْمَالِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَقُّ مَتَى ثَبَتَ لَا يَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ وَلَا بِالْكِتْمَانِ. 4256 - فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، قَبْلَ أَنْ يَعْشِرَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْعَاشِرِ أَنْ يَعْشِرَهُ إلَّا بِهَذِهِ الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ لِهَذَا الْحَوْلِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَقَدْ بَطَلَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَارْتَفَعَ ذَلِكَ الْأَمَانُ، وَصَارَ كَحَرْبِيٍّ آخَرَ حِينَ خَرَجَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَاشِرَ لَوْ عَشَرَهُ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ وَمَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ فَإِنَّهُ يَعْشِرُهُ ثَانِيًا، فَكَمَا أَبْطَلَ دُخُولُهُ دَارَ الْحَرْبِ الْعُشْرَ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَحَرْبِيٍّ آخَرَ خَرَجَ، فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ دُخُولُهُ دَارَ الْحَرْبِ مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ، وَيَصِيرُ كَحَرْبِيٍّ آخَرَ خَرَجَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. 4257 - وَلَوْ أَنَّ الْحَرْبِيَّ وَالْمُسْتَأْمَنَ وَالْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ مَكَثُوا يَتَّجِرُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ لَا يَمُرُّونَ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مَرُّوا عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْحَوْلِ الثَّالِثِ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْشِرُوا مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، وَأَخْبَرَ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2149 مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، فَإِنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْهُ زَكَاةَ هَذَا الْحَوْلِ الثَّالِثِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ زَكَاةَ الْحَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاشِرَ إنَّمَا يَعْشِرُ الْمَالَ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إذَا كَانَ فِي حِمَايَتِهِ [فِي الْحَوْلِ الثَّالِثِ لَا فِي الْحَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ لِمَا مَضَى مِنْ الْحَوْلَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ وَالْمَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ] وَوَقْتُ الْأَخْذِ بَاقٍ مَا لَمْ يَجِبْ الْحَقُّ فِي الْمَالِ ثَانِيًا، فَقَدْ مَضَى وَقْتُ أَخْذِ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ وَجَاءَ وَقْتُ أَخْذِ الْوَاجِبِ الثَّانِي، فَمَتَى مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا حَالَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي فَوَقْتُ الْأَخْذِ بَاقٍ فَعَشَرَهُ، وَمَتَى تَمَّ الْحَوْلُ وَالْمَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْعَاشِرَ لَا يَعْشِرُ هَذَا الْمَالَ، وَإِنْ مَرَّ بِهِ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ حَالَ هُنَاكَ وَالْمَالُ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ أَبَدًا، وَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ الْإِمَامِ، فَلَهُ حَقُّ أَنْ يَعْشِرَهُ مَتَى مَرَّ بِهِ صَاحِبُهُ، قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ وَقْتُ الْوُجُوبِ لِلْحَوْلِ الثَّانِي. 4258 - فَأَمَّا السَّائِمَةُ مِنْ الصَّدَقَاتِ فَلَيْسَ عَلَى الْحَرْبِيِّ وَلَا عَلَى الذِّمِّيِّ فِيهَا صَدَقَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2150 لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عِبَادَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ. فَأَمَّا سَائِمَةُ الْمُسْلِمِ إذَا لَمْ يَأْخُذْ صَدَقَتَهَا سِنِينَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ أُخِذَتْ مِنْهُ زَكَاتُهَا لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا إلَى السُّلْطَانِ (لِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ الْحِمَايَةِ) ، فَيَأْخُذُ زَكَاةَ مَا مَضَى. وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَاشِرِ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْعُشْرَ - إلَّا لِلْحَوْلِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَاشِرَ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَالْمُرُورُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لَمْ يُؤْخَذْ إلَّا فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ فَلَا يَأْخُذُ إلَّا لِلسَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ لَيْسَ يَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ لِحَقِّ الْمُرُورِ عَلَيْهِ بَلْ فِي سَائِمَةِ كُلِّ إنْسَانٍ فَيَأْخُذُ مِنْهَا الصَّدَقَةَ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ بِاعْتِبَارِ حَوَلَانِ الْحَوْلِ عَلَى السَّائِمَةِ وَقَدْ حَالَ عَلَى السَّائِمَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَيَأْخُذُ صَدَقَةَ كُلِّ حَوْلٍ. 4259 - فَإِنْ قَالَ الْمُسْلِمُ صَاحِبُ السَّائِمَةِ قَدْ أَدَّيْت صَدَقَتَهَا إلَى الْمَسَاكِينِ لِهَذِهِ السِّنِينَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ لِثَلَاثِ سِنِينَ. وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَأْخُذُ وَاحْتَجَّ، وَقَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَلَمَّا دَفَعَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ فَقَدْ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيَبْدَأُ كَمَا لَوْ دَفَعَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ إلَى الْفُقَرَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2151 إلَّا أَنَّا نَقُولُ إنَّ حَقَّ الْأَخْذِ إلَى الْمُصَدِّقِ فَلَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إلَى الْفُقَرَاءِ كَالْغَرِيمِ إذَا دَفَعَ الدَّيْنَ لَا يَبْرَأُ لِمَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْوَصِيِّ كَذَا هُنَا. 4260 - فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَبْعَثْ إلَيْهِمْ مُصَدِّقًا فِي تِلْكَ السِّنِينَ بِأَنْ شُغِلَ عَنْ ذَلِكَ لِحَرْبٍ أَوْ غَيْرِهَا فَأَدَّوْهَا لِمَا مَضَى، وَقَالُوا: قَدْ أَدَّيْنَاهَا حَيْثُ لَمْ يَبْعَثْ إلَيْنَا مُصَدِّقًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ، وَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا لَمْ يَبْعَثْ إلَيْهِمْ مُصَدِّقًا فِي تِلْكَ السِّنِينَ، فَلَمْ يُوجَدْ الطَّلَبُ مِنْ الْإِمَامِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الدَّفْعُ إلَى الْإِمَامِ، فَإِذَا أَدَّى بِنَفْسِهِ يَبْرَأُ كَزَكَاةِ الْمَالِ إذَا أَدَّاهَا الْمَالِكُ. قَالَ: 4261 - وَالْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُسْلِمُ إذَا مَرُّوا بِعَاشِرٍ مِنْ عَشَّارِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: قَدْ عَشَرَنَا عَاشِرٌ غَيْرُك فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَاءُوا بِالْبَرَاءَةِ، وَحَلَفُوا لَهُ عَلَى ذَلِكَ إنْ اتَّهَمَهُمْ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا. لِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِ، وَالْأَمِينُ مَتَى أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ صُدِّقَ، ثُمَّ هَذَا فِي الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ قَالَا عَلَيْنَا دَيْنٌ يُصَدَّقَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2152 4262 - وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ لَوْ قَالَ عَلَيَّ دَيْنٌ لَا يُصَدَّقُ، وَإِذَا قَالَ عَشَرَنِي عَاشِرٌ غَيْرُك صُدِّقَ. لِأَنَّهُ تَأَيَّدَ قَوْلُهُ هَا هُنَا بِالْبَرَاءَةِ، فَجَازَ أَنْ يُصَدَّقَ فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ لَمْ يَنْضَمَّ إلَى قَوْلِهِمْ مَا يُصَدِّقُهُ فَجَازَ أَلَّا يُصَدَّقَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، حَيْثُ أَتَاهُ ذَلِكَ الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ، وَقَالَ: إنَّ عُمَّالَك عَشَرُونِي فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى عُمَّالِهِ لَا تَعْشِرُوا فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً، أَلَيْسَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَدْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَلَّا تَعْشِرُوا إلَّا مَرَّةً. 4263 - وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ مَالٌ لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ عَلَيْهِ حَوْلٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَاتَّجَرَ فِيهِ حَوْلًا آخَرَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَمَرَّ بِهِ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَعْشِرْهُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى وَلَا لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ. أَمَّا السَّنَةُ الْأُولَى؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِ بِمَالِهِ فِي وَقْتِ الْأَخْذِ، فَلَا يَأْخُذُ، وَأَمَّا السَّنَةُ الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ حَالَ عَلَى الْمَالِ وَالْمَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَاشِرَ لَا يَعْشِرُ الْمَالَ الَّذِي قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. 4264 - فَإِنْ مَرَّ بِهِ بَعْدَ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْعَاشِرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَتَمَهُ الْمَالَ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ فَمَكَثَ حَوْلًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2153 ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَمَرَّ بِهِ عَلَى عَاشِرٍ وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَإِنَّهُ يَعْشِرُ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَا يَعْشِرُ لِلْحَوْلِ الثَّانِي. أَمَّا مَا يَعْشِرُهُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى - فَلِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ. (بِالتَّأْخِيرِ) وَوُجُوبُ الْحَقِّ لَا يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ، وَأَمَّا الْحَوْلُ الثَّانِي حَالَ، وَالْمَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَعْشِرُهُ، وَكَذَلِكَ سَائِمَةُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ إذَا أَدْخَلَهَا دَارَ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ. (أَمَّا لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي الْمَالِ وَوَقْتُ الْأَخْذِ بَاقٍ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ الْحَقُّ بِالتَّأْخِيرِ) وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ الْآخَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ يُصَدِّقُهَا لِلسَّنَةِ الْأُولَى. لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ يَثْبُتُ لِلْمُصَدِّقِ بِاعْتِبَارِ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَا بِحَقِّ الْمُرُورِ عَلَيْهِ فَقَدْ حَالَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَى الْمَالِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ أَخْذِ صَدَقَةِ تِلْكَ السَّنَةِ. وَلَا يَأْخُذُ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا. لِأَنَّهُ حَالَ الْحَوْلُ، وَالْمَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَجِبُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2154 وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ أَوْ حَوْلَانِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَرَّ بِعَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَهُ مَالٌ فَكَتَمَهُ ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْعَاشِرَ ظَفِرَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ فَإِنَّهُ يَعْشِرُهُ لِمَا مَضَى، فَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ الْعَاشِرُ حَتَّى دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَخْبَرَهُ وَمَعَهُ مَالُهُ ذَلِكَ بَطَلَ كُلُّ عُشْرٍ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى مِنْ السِّنِينَ، وَعَشَرَهُ لِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، هَذِهِ الْمَرَّةَ، وَأَبْطَلَ عَنْهُ مَا مَضَى. لِأَنَّهُ حِينَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بَطَلَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَحَقُّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ بِالْحُكْمِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ حَقُّ الْأَخْذِ. 4266 - وَلَوْ كَانَ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَدْخُلْ دَارَ الْحَرْبِ الَّتِي هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَكِنَّهُ دَخَلَ دَارَ حَرْبٍ أُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ لِيَتَّجِرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ اسْتَأْمَنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ دَخَلَ أَرْضَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ دُخُولَ تِلْكَ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ مَا كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْعُشُورِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارًا لَا يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ دَخَلَ دَارَ نَفْسِهِ ثُمَّ خَرَجَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ بَطَلَ عَنْهُ مَا وَجَبَ مِنْ الْعُشُورِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2155 وَلَوْ كَانَ اسْتَأْمَنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَنْفُذَ إلَى تِلْكَ الدَّارِ، وَيَرْجِعَ إلَيْهِمْ فَآمَنُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا أَيْضًا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَيَبْطُلُ عَنْهُ كُلُّ عُشْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ اسْتَأْمَنَ عَلَى أَنْ يَنْفُذَ إلَى تِلْكَ الدَّارِ، وَيَكُونَ آمِنًا فِيهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ آمِنًا حَتَّى يَرْجِعَ إلَى دَارِهِ فَآمَنُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَدَخَلَ إلَيْهِمْ بَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشُورُ، ثُمَّ خَرَجَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْشِرُ لِمَا مَضَى وَيَعْشِرُهُ الْمُسْلِمُونَ إذَا خَرَجَ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ جَارٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، الَّتِي خَرَجَ الْمُسْتَأْمَنُ إلَيْهَا. 4268 - وَإِنْ كَانَ هُوَ آمِنًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَخُرُوجُهُ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَجْرِي فِيهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ يُبْطِلُ اعْتِبَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَيُبْطِلُ أَيْضًا اعْتِبَارَ مَا أُخِذَ مِنْهُ، حَتَّى وَلَوْ عَشَرَهُ الْمُسْلِمُونَ حِينَ خَرَجَ مِنْ دَارِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ دَخَلَ تِلْكَ الدَّارَ الْأُخْرَى، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا، وَبَيْنَ ذَلِكَ أَيَّامٌ عَشَرَهُ الْعَاشِرُ مَرَّةً أُخْرَى. لِأَنَّهُ حِينَ دَخَلَ تِلْكَ الدَّارَ خَرَجَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ. 4269 - فَإِذَا رَجَعَ أَخَذَ مِنْهُ الْعُشْرَ، وَصَارَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ دَارِ الْمُوَادَعَةِ، إذَا خَرَجَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ، فَيَعْشِرُهُ الْعَاشِرُ ثُمَّ خَرَجَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ فَإِنَّ الْعَاشِرَ يَعْشِرُ مَالَهُ ثَانِيًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2156 لِمَا أَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى دَارِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ آمِنًا فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَأَبْطَلَ اعْتِبَارَ مَا أَخَذَ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4270 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ وَادَعُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ سَنَةٍ خَرَاجًا مَعْلُومًا عَلَى أَلَّا يُجْرِيَ الْمُسْلِمُونَ أَحْكَامَهُمْ، وَلَا يَكُونُوا ذِمَّةً لَهُمْ، ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ عَلَى تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرُ مَا مَرَّ بِهِ كَامِلًا. لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ عَلَى حَالِهِ، إلَّا أَنَّهُ آمِنٌ، وَلَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ جَارٍ عَلَيْهِمْ، فَصَارَ كَمَا لَوْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ بِأَمَانٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ. 4271 - وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ عُشُورٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْمُوَادَعَةِ ثُمَّ خَرَجَ فَإِنَّهُ لَا يَعْشِرُهُ الْعَاشِرُ لِمَا مَضَى. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَالدَّارَ الَّتِي لَا مُوَادَعَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ، وَدُخُولُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ دَارَ الْمُوَادَعَةِ بِمَنْزِلَةِ دُخُولِهِمَا دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَصِرْ دَارُ الْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ؛ لِعَدَمِ جَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2157 [بَابٌ مِنْ الْخُمُسِ فِي الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ يُصَابُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْمُوَادَعَةِ] 206 - بَابٌ مِنْ الْخُمُسِ فِي الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ يُصَابُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْمُوَادَعَةِ وَمَا يَلْحَقُ الذِّمِّيَّ مِنْ ذَلِكَ [وَالْعَبْدَ] وَالْمُسْتَأْمَنَ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: 4272 - إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَصَابَ رِكَازًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ جَوْهَرٍ فَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ فِي دَارِ إنْسَانٍ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ إلَيْهِ وَلَا يَغْدِرُ بِهِ. لِأَنَّ هَذَا مَالُ صَاحِبِ الدَّارِ، فَلَوْ لَمْ يَرُدَّهُ كَانَ خِيَانَةً مِنْهُ وَغَدْرًا، وَهُوَ قَدْ ضَمِنَ أَلَّا يَخُونَهُمْ وَلَا يَغْدِرَ بِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. 4273 - وَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ فِي صَحْرَاءَ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ الَّذِي يَصْطَادُهُ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ الصَّيْدُ يَكُونُ لَهُ فَكَذَلِكَ هَذَا الرِّكَازُ يَكُونُ لَهُ، وَلَا خُمُسَ فِيهِ إذَا أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَا بِإِيجَافِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2158 الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَلَصِّصِ، وَالْمَالُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْمُتَلَصِّصُ لَا خُمُسَ فِيهِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَلَا عُشْرَ فِيهِ إنْ مَرَّ بِهِ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ أَصَابَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْإِمَامِ رِعَايَةٌ وَلَا حِمَايَةٌ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَلَا يَعْشِرُهُ. 42704 - أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَوْ أَدْخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مَالًا لَهُ ثُمَّ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَا يَعْشِرُ ذَلِكَ الْمَالَ، فَالْمَالُ الَّذِي أَصَابَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى أَلَّا يَعْشِرَهُ. وَهَكَذَا الْجَوَابُ إذَا أَصَابَ الْمُسْتَأْمَنُ مَعْدِنَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، أَوْ أَصَابَ عَنْبَرًا أَوْ لُؤْلُؤًا فِي الْبَحْرِ فَهُوَ لَهُ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ، فَصَارَ كَالرِّكَازِ الَّذِي وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلَا خُمُسَ فِيهِ وَلَا عُشْرَ إذَا أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. 4275 - فَإِنْ وَجَدَ الْمَعْدِنَ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ مِنْهُمْ فَلْيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالرَّجُلُ الَّذِي يُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْأَسِيرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مَا أَصَابَ الْأَسِيرُ وَالرَّجُلُ الْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَهُوَ لَهُ أَيْضًا، وَلَا خُمُسَ فِيهِ وَلَا عُشْرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2159 لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُمْ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى قَتْلِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَصَابَ رِكَازًا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ. 4276 - وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَا مِنْ لُقَطَةٍ فَهِيَ لَهُمَا وَلَا خُمُسَ وَلَا عُشْرَ فِيهَا إذَا خَرَجَا عَلَى الْعَاشِرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا مَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَوْ وَجَدَا مَالًا فِي دَارِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ لَهُمَا وَلَا خُمُسَ فِيهِ وَلَا عُشْرَ، فَاللُّقَطَةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا. 4277 - فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَمَا وَجَدَ مِنْ لُقَطَةٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا كَمَا يُعَرِّفُ اللُّقَطَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. 4278 - فَإِنْ عَرَّفَهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا يَتَصَدَّقُ بِهَا، كَمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا عَرَّفَهَا حَوْلًا وَلَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَجُوزُ، فَكَذَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ فَفُقَرَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ وَجَدَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2160 بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا لَا تُصْرَفُ إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ. لِأَنَّ تِلْكَ اللُّقَطَةَ مَالُ الْمُسْلِمِ فَلَا تُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَاَلَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَكَلَهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُلْتَقِطَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا، فَهَا هُنَا أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عِنْدَنَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - يَحِلُّ لَهُ. 4279 - فَإِنْ أَكَلَهَا أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَإِنْ عَرَّفَهَا فَإِنِّي أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَغْرَمَهَا لَهُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ إنْ اخْتَصَمَا إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ صَاحِبُهَا. لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَلَوْ غَصَبَهَا فَأَخْفَرَ الذِّمَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ فِي الْحُكْمِ. وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ. فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَهْلَكَ اللُّقَطَةَ لَا يَضْمَنُ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَغْرَمَهَا لَهُ. 4280 - وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَأَصَابَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2161 رِكَازًا أَوْ مَعْدِنًا فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا أَوْ حَدِيدًا فَإِنَّ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُهُ مِنْهُ كُلَّهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. لِأَنَّ هَذَا غَنِيمَةٌ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْجَفُوا عَلَيْهَا الْخَيْلَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَ يُخَمَّسُ وَالْبَاقِي لَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً لَكَانَ لَا خُمُسَ فِيهِ، وَالْحَرْبِيُّ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَوْ خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ مَعَ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَكَذَلِكَ لَا حَقِّ لَهُ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ. 4281 - فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ اسْتَأْذَنَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَلَبِ ذَلِكَ وَالْعَمَلِ فِيهِ حَتَّى يَسْتَخْرِجَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَعَمِلَ فَأَصَابَ شَيْئًا خُمِّسَ مَا أَصَابَ وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ. لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَوْ قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ صَارَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ حَتَّى أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُ كَمَا يَرْضَخُ لِلذِّمِّيِّ، فَكَذَلِكَ إذَا عَالَجَ الْمَعَادِنَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ يَصِيرُ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ وَالْبَاقِي لَهُ. 4282 - وَلَوْ أَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ أَصَابَ مِنْ بَحْرِ الْمُسْلِمِينَ لُؤْلُؤًا كَثِيرًا أَوْ عَنْبَرًا أَوْ أَصَابَ مَعْدِنَ جَوْهَرٍ، أَوْ فَيْرُوزَجَا فَأَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2162 أَمَّا اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ فَلِأَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ، وَمَا فِي الْبَحْرِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً، إنَّمَا الْغَنِيمَةُ مَا يَكُونُ فِي الْبِرِّ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَصَابَ ذَلِكَ لَا خُمُسَ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ السَّمَكِ وَالصَّيْدِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّهُ لَا خُمُسَ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - لَوْ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُ يُخَمَّسُ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْغَنِيمَةِ فَيُؤْخَذُ كُلُّهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَأَمَّا الْفَيْرُوزَجُ فَجُزْءٌ مِنْ الْأَرْضِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَنْطَبِعُ بِالنَّارِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ، وَلَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خُمُسٌ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً، فَيَكُونُ كُلُّهُ لِلْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ كَالصَّيْدِ الَّذِي يُصِيبُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَمَا أَصَابَ الذِّمِّيُّ مِنْ رِكَازٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ مَعْدِنٍ وَهُوَ فِيهَا بِأَمَانٍ، أَوْ أَسِيرٍ، فَهُوَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ. لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، فَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ وَحُكْمُ الْمُسْلِمِ سَوَاءً. 4283 - وَمَا أَصَابَ الذِّمِّيُّ مِنْ رِكَازٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مَعْدِنِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ زِئْبَقٍ، فَهُوَ وَالْمُسْلِمُ فِيهِ سَوَاءٌ، يُخَمَّسُ مَا أَصَابَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ. لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُنَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2163 رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - حَدِيثًا فِي الْعَنْبَرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَنْبَرِ هَلْ فِيهِ خُمُسٌ؟ فَقَالَ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ. وَمَا وَجَدَ الْعَبْدُ مِنْ رِكَازٍ أَوْ مَعْدِنٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خُمِّسَ، وَكَانَ مَا بَقِيَ لِمَوْلَى الْعَبْدِ. لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ، وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعَانَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ يَرْضَخُ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَلَمَّا كَانَ هُوَ أَهْلًا لِاسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ فَكَذَلِكَ اسْتَحَقَّ هَذِهِ الْغَنِيمَةَ، فَيُخَمِّسُ وَالْبَاقِي يَكُونُ لِمَوْلَى الْعَبْدِ. لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ. وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا أَصَابَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُ دُونَ مَوْلَاهُ. لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ مَوْلَاهُ. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا أَصَابَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُ. لِأَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ إذَا قَاتَلَ، فَكَذَلِكَ مَا اسْتَخْرَجَ مِنْ الْمَعْدِنِ يَكُونُ لَهُ بَعْدَ الْخُمُسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2164 وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ مِنْ دُورِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَدْ وَادَعَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ سَنَةٍ، عَلَى أَلَّا يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ أَحْكَامَهُمْ فَهَذِهِ دَارُ الْحَرْبِ. لِأَنَّ الدَّارَ إنَّمَا تَصِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، وَحُكْمُ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ جَارٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ دَارَ حَرْبٍ. 4285 - فَمَنْ دَخَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الدَّارَ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ، فَأَصَابَ رِكَازًا، فَإِنْ وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي دَارِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ طَلَبُوا أَنْ يَكُونَ ذِمَّةً لَهُمْ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُهُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ خَرَاجًا مَعْلُومًا، وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهَذِهِ دَارُ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ جَرَتْ فِيهَا، فَمَا أُصِيبَ فِيهَا مِنْ رِكَازٍ أَوْ مَعْدِنِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي لِلَّذِي أَصَابَهُ كَمَا إذَا أُصِيبَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. 4286 - فَإِنْ وَجَدَهُ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي لِصَاحِبِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَاقِي لِلْوَاجِدِ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فِي مِلْكِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّ هَذَا مَالٌ مُبَاحٌ فَيَكُونُ لِمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2165 سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَقُولَانِ: صَاحِبُ الْخُطَّةِ مَلَكَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالْإِحْرَازِ فَيَمْلِكُ ظَاهِرَ الْأَرْضِ وَبَاطِنَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أُصِيبَ فِي قَرْيَةٍ يُؤَدِّي عَنْهَا قَوْمٌ الْخَرَاجَ فَهُوَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ أُصِيبَ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَدِّي عَنْهَا أَحَدٌ الْخَرَاجَ فَهُوَ لِمَنْ أَصَابَهُ، وَفِيهِ الْخُمُسُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فِي قُبْرُسَ، وَهِيَ جَزِيرَةٌ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، أَهْلُهَا نَصَارَى يُؤَدُّونَ إلَى الْعَرَبِ شَيْئًا، وَإِلَى الرُّومِ شَيْئًا، كُلَّ سَنَةٍ، وَهُمْ صُلْحٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَصُلْحٌ لِلرُّومِ، إلَّا أَنَّ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ. 4287 - لَوْ أَصَابَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا رِكَازًا أَوْ مَعْدِنًا فَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ فِي صَحْرَاءَ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ. لِأَنَّ هَذِهِ دَارُ حَرْبٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى هَذَا إذَا أُصِيبَ ذَلِكَ فِي دَارِ حَرْبٍ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 4288 - وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَعِزَّةٌ دَخَلُوا أَرْضَ الْحَرْبِ فَأَقَامُوا فِيهَا حِينًا حَتَّى زَرَعَ مِنْهُمْ نَاسٌ زُرُوعًا فَأَدْرَكَتْ زُرُوعُهُمْ، فَحَصَدُوهَا وَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ الَّذِي بَذَرُوهُ مِنْ بَذْرٍ لَهُمْ أَدْخَلُوهُ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ، فَذَلِكَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2166 لِأَنَّ هَذِهِ نَمَاءُ مِلْكِهِمْ (وَنَمَاءُ الْمِلْكِ لِمَالِكِهِ) حَتَّى يُسْتَحَقَّ بِحَقٍّ وَلَا خُمُسَ فِيهِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ. وَلَا عُشْرَ فِيهِ وَلَا خَرَاجَ. لِأَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ إنَّمَا يَجِبُ فِي أَرَاضِي الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ أَرَاضِي أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَرَاضِي أَهْلِ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِعُشْرِيَّةٍ وَلَا خَرَاجِيَّةٍ. 4289 - وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ الَّذِي بُذِرَ فِي الْأَرْضِ مِنْ حِنْطَةٍ، أَصْلُهَا مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حَصْدَهُ وَدِرَاسَهُ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِقْدَارُ الْبَذْرِ الَّذِي كَانَ مِنْ طَعَامِهِ هَذَا، فَيُجْعَلُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُ وَلَا يَكُونُ الْكُلُّ غَنِيمَةً، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَذْرِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَا يَكُونُ أَشْقَى حَالًا مِنْ الْغَاصِبِ، وَمَنْ غَصَبَ بَذْرَ إنْسَانٍ فَبَذَرَهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، فَخَرَجَ زَرْعٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مِقْدَارَ الْبَذْرِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لِلْغَاصِبِ، فَهَا هُنَا أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ مِقْدَارُ الْبَذْرِ وَهَذَا الرَّجُلُ قَدْ اسْتَهْلَكَ طَعَامَ الْغَنِيمَةِ [وَمَنْ اسْتَهْلَكَ طَعَامَ الْغَنِيمَةِ] فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ قُلْنَا: بَذْرُ الطَّعَامِ فِي الْأَرْضِ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ بَذْرٌ يَتَطَلَّبُ مِنْهُ النَّمَاءُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2167 أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ بَذْرَ طَعَامِ الصَّبِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ اسْتِهْلَاكًا لَكَانَا لَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ. وَهُوَ قِيَاسُ الخلنج إذَا أَصَابَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ فَجَعَلَهُ قِصَاعًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ الخلنج مَعْمُولًا وَغَيْرَ مَعْمُولٍ، فَمَا كَانَ مِنْ قِيمَتِهِ غَيْرَ مَعْمُولٍ يُطْرَحُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَصَابَ جِلْدَ سَمُّورٍ فَدَبَغَهُ يُقَوَّمُ مَدْبُوغًا وَغَيْرَ مَدْبُوغٍ، فَمَا كَانَ مِنْ قِيمَتِهِ غَيْرَ مَدْبُوغٍ يُطْرَحُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. قَالَ: 4290 - وَإِنْ أَصَابَ الذِّمِّيُّ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ أَوْ الصَّبِيُّ أَوْ الْمَرْأَةُ مَعْدِنًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ رِكَازًا خُمِّسَ مَا أَصَابَ، وَكَانَتْ الْبَقِيَّةُ لِمَنْ أَصَابَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ. لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ حَقٌّ وَإِنْ أَصَابُوهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ غَزَوْا مَعَ عَسْكَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ رَضَخَ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَكَذَلِكَ ثَبَتَ لَهُمْ حَقٌّ فِيمَا أَصَابُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: هَؤُلَاءِ يَرْضَخُ لَهُمْ الْغَنِيمَةَ وَلَا يَضْرِبُ لَهُمْ بِسَهْمٍ مُقَدَّرٍ فَهَلَّا يَرْضَخُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ فِيمَا أَصَابُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ دُونَ مَا يُعْطِي الْبَالِغَ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا وَجَبَ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ الرَّضْخُ فَقَدْ وَجَبَ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ حَقٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2168 وَنَصِيبٌ، وَالْحُقُوقُ فِي الْغَنِيمَةِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَكُلُّ شَيْءٍ قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَارَ كَاَلَّذِي ظَهَرَ تَقْدِيرُهُ بِالشَّرِيعَةِ، وَتَفَاوُتُ الْمَقَادِيرِ مِنْ حَيْثُ الشَّرِيعَةُ فِي الْغَنِيمَةِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ جَمِيعِ مَنْ أَصَابَ مِنْ الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ. 4291 - أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّاجِلُ وَالْفَارِسُ فِي إصَابَةِ الْمَعْدِنِ، وَإِنْ كَانَتْ حُقُوقُهَا مُتَفَاوِتَةً فِي الْغَنِيمَةِ، فَكَذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ يَسْتَوِيَانِ فِي إصَابَةِ الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ؛ وَلِأَنَّ الَّذِي يَجِدُ الْمَعْدِنَ يَنْفَرِدُ بِاسْتِخْرَاجِهِ، فَهُوَ كَقَوْمٍ مُمْتَنِعِينَ مِنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ لَوْ غَزَوْا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ وَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهَذِهِ الْغَنِيمَةُ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ بَعْدَ الْخُمُسِ، كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ لِلْمُقَاتِلَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَاَلَّذِي يَسْتَخْرِجُ الْمَعْدِنَ وَالرِّكَازَ مِثْلُهُ. قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ اسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ فِي طَلَبِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ فَأَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ، عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُصِيبُ النِّصْفَ، وَلَهُ النِّصْفَ، فَعَمِلَ عَلَى هَذَا فَأَصَابَ رِكَازًا أَوْ مَعْدِنًا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ نِصْفَ مَا أَصَابَ وَالْحَرْبِيُّ نِصْفُهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الرِّكَازِ الَّذِي أَصَابَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِشَرْطِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَصَابَهُ بَعْدَ إذْنِ الْإِمَامِ أَخَذَ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالشَّرْطِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ مَا شَرَطَ لَهُ الْإِمَامُ، وَالْإِمَامُ شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ. ثُمَّ الْإِمَامُ يَأْخُذُ خُمُسَ جَمِيعِ مَا أَصَابَ الْحَرْبِيُّ مِنْ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2169 النِّصْفِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ فَيَجْعَلُهُ لِلْفُقَرَاءِ وَيَجْعَلُ النِّصْفَ لِلْمُقَاتِلَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ يُصَيِّرُ مَا أَصَابَهُ الْحَرْبِيُّ غَنِيمَةً يَجِبُ فِيهَا الْخُمُسُ، فَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ إذْنُهُ حَقًّا فِي جَمِيعِ الْمُصَابِ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ أَبَدًا، فَيَجْعَلُ خُمُسَ النِّصْفَيْنِ لِلْفُقَرَاءِ وَيَجْعَلُ الْبَاقِي لِلْمُقَاتِلَةِ. وَقَالَ: 4292 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ صَبِيًّا طَلَبَ الْكُنُوزَ وَالْمَعَادِنَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفَ، فَأَصَابَ كَنْزًا أَوْ أَمْوَالًا مِنْ الْمَعَادِنِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْخُمُسَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِمَنْ أَصَابَهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ [وَالْكُنُوزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ] فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْإِصَابَةِ لَا بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَوْ أَصَابَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ لَهُ وَإِذًا يَكُونُ الِاسْتِحْقَاقُ بِالشَّرْطِ لَا يُعْتَبَرُ الشَّرْطُ مِنْ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ كُلَّهُ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ مُبَاحٌ فَيَكُونُ لِمَنْ أَصَابَهُ، إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا الْخُمُسَ بِالشَّرْعِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا شَرْعَ فِيهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. 4293 - بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ إذَا أَصَابَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2170 لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِشَرْطِ الْإِمَامِ عَلَى مَا قُلْنَا، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ الْمَشْرُوطِ، وَاسْتَدَلَّ فِي الْكِتَابِ بِفَصْلٍ وَقَالَ: (أَلَا تَرَى) لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ أَرْسَلَ جُنْدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَشَرَطَ لَهُمْ النِّصْفَ مِمَّا أَصَابُوا وَالنِّصْفَ الْآخَرَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ خُمِّسَ مَا أَصَابُوا، وَالْبَاقِي كُلُّهُ لَهُمْ، وَكَانَ شَرْطُ الْإِمَامِ بَاطِلًا. لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لَا بِشَرْطِ الْإِمَامِ، وَشَرْطُ الْإِمَامِ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ؛ لِمَا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ قِتَالٌ فَنُفِيَ شَرْطُهُ. 4294 - وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ عَلَى أَنْ يَجْتَازُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ حَرْبٍ أُخْرَى لَمْ يَكُونُوا يَظْفَرُونَ بِقِتَالِهِمْ إلَّا بِالْمَمَرِّ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، لَوْ كَانُوا يَظْفَرُونَ بِهِ، فَأَحَبُّوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِيَكُونَ أَرْعَبَ لِلْعَدُوِّ، فَأَذِنَ لَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفَ مِمَّا أَصَابُوا، وَلَهُمْ النِّصْفُ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُمْ. لِمَا أَنَّهُمْ مَتَى خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ [سَرِيَّةً] فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِالشَّرْطِ، فَكَانَ شَرْطُ الْإِمَامِ مُعْتَبَرًا، فَلَا يَسْتَحِقُّونَ أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَطَ لَهُمْ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2171 وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا مِنْ الرُّومِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَجَدَ حَرْبِيًّا تُرْكِيًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَلِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَنَا صَارَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ لَا يُسْلَمُ لَهُ وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ فَيُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْحَرْبِيُّ إذَا أَخَذَهُ أَوْلَى أَلَّا يُسَلَّمَ لَهُ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مُسْلِمٌ كَانَ غَنِيمَةً فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تُوجِبُ فِيهِ الْخُمُسَ، وَلَمَّا كَانَ غَنِيمَةً عِنْدَ أَخْذِ الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ غَنِيمَةً عِنْدَ أَخْذِ الْحَرْبِيِّ، وَلَا حَقَّ لِلْحَرْبِيِّ فِي الْغَنِيمَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ كُلُّهُ، وَصَارَ هَذَا وَالرِّكَازُ الَّذِي وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً. 4296 - وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ أَذِنَ لَهُ فِي طَلَبِ ذَلِكَ فَوَجَدَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ دَارِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا دَخَلُوا بِغَيْرِ أَمَانٍ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَارَ حَقًّا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ إذَا أَخَذَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - يُخَمَّسُ مَا أَصَابَ مِنْهُمْ وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ، وَالْحَرْبِيُّ يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ فِي الْغَنِيمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2172 إذَا كَانَ الْأَخْذُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَهَذَا كَالرِّكَازُ الْمَعْدِنُ إذَا أَصَابَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ يُخَمَّسُ وَالْبَاقِي لَهُ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4297 - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ امْرَأَةً أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي طَلَبِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَا خُمُسَ فِيهِ، فَأَصَابَ مَالًا كَثِيرًا مِنْ الْمَعَادِنِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُسْلِمَ ذَلِكَ لَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا. لِأَنَّ مَا يُصَابُ مِنْ الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ هُوَ غَنِيمَةٌ، وَالْخُمُسُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ. 4298 - فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَهُ مُحْتَاجًا عَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ، لَا يَصِيرُ غَنِيًّا بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُسْلِمَ ذَلِكَ الْخُمُسَ لَهُ جَازَ. لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ، وَهَذَا الَّذِي أَصَابَهُ فَقِيرٌ، فَقَدْ صَرَفَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيَجُوزُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي أَصَابَ الرِّكَازَ: إنْ وَجَدْتهَا فِي أَرْضٍ خَرِبَةٍ فَالْخُمُسُ لَنَا وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَك، ثُمَّ قَالَ وَسَنُتَمِّمُهَا لَك. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ أَهْلًا لِلصَّدَقَةِ. 4299 - فَإِنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا لِحَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ، وَأَذِنَ لَهُ فِي مِثْلِ مَا أَذِنَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَصَابَ كَنْزًا أَوْ مَعْدِنًا، خُمِّسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2173 مَا أَصَابَ، وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلْحَرْبِيِّ أَوْ الذِّمِّيِّ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الْخُمُسَ لِلْكَافِرِ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا مُعْدِمًا. لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِنَصِّ الْقُرْآنِ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْكُفَّارِ كَالزَّكَاةِ. 4300 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ أَرْسَلَ جُنْدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْتَأْمَنِينَ أَوْ الْمُوَادَعِينَ يُقَاتِلُونَ لَهُ مَعَ أَهْلِ حَرْبٍ آخَرِينَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، فَدَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ، لِلْفَارِسِ مِنْهُمْ مَا لِلْفَارِسِ وَلِلرَّاجِلِ مِنْهُمْ مَا لِلرَّاجِلِ. لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الظَّاهِرُ فِيهِمْ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدِّينِ، وَعَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ الْمَقْصُودُونَ فِيهِ، لَيْسُوا بِتَبَعٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ غَنِيمَةً بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَوْ دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالْمُسْتَأْمَنُونَ إذَا أَذِنَ لَهُمْ الْإِمَامُ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. 4301 - فَإِنْ دَخَلَ مَعَهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2174 الْمُسْلِمُونَ نَرْضَخُ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ وَالْحَرْبِيِّينَ وَلَا نُسْهِمُ لَهُمْ، وَنَحْنُ نَأْخُذُ السِّهَامَ، نُظِرَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ بِأَنْ كَانُوا وَحْدَهُمْ يَسْتَغْنُونَ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، إلَّا أَنَّ كَيْنُونَتَهُمْ مَعَهُمْ أَفْضَلُ، فَإِنَّ السَّهْمَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَرْضَخُ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ وَالْحَرْبِيِّينَ. لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ تَبَعٌ لَهُمْ فَلَيْسَ لَهُمْ إلَّا الرَّضْخُ. 4302 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ إلَّا بِمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْحَرْبِيُّونَ شُرَكَاءُ فِي الْغَنِيمَةِ، يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ. لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَصِرْ غَنِيمَةً بِالْمُسْلِمِينَ، إنَّمَا صَارَ غَنِيمَةً بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، لَوْلَا هُمْ لَكَانَ الْمُسْلِمُونَ مُتَلَصِّصِينَ غَيْرَ غُزَاةٍ، فَإِذَا صَارَ الْمَالُ غَنِيمَةً بِأَهْلِ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ. 4303 - وَإِنْ أَصَابُوا الْغَنِيمَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَلَمْ تُقْسَمْ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَخْرُجْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَحِقَهُمْ جُنْدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مَدُّوا لَهُمْ، فَصَارَ الْمُسْلِمُونَ بِجُمْلَتِهِمْ أَهْلَ مَنَعَةٍ، كَانَتْ السِّهَامُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَرْضَخُ؛ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ. لِأَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقُوهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ دَخَلُوا مَعَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2175 أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَلَوْ دَخَلُوا مَعَهُمْ وَهُمْ أَهْلُ مَنَعَةٍ يَرْضَخُ؛ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4304 - وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا انْفَرَدُوا لَا مَنَعَةَ لَهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ إذَا انْفَرَدُوا لَا مَنَعَةَ لَهُمْ فَإِذَا اجْتَمَعُوا كَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَاجْتَمَعُوا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فَإِنَّهُ يُسْهِمُ؛ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ كَمَا يُسْهِمُ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا صَارَ غَنِيمَةً بِهِمْ جَمِيعًا، لَيْسَ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ، فَاسْتَوَوْا جَمِيعًا فِي الْغَنِيمَةِ. 4305 - وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِكُلِّ فَرِيقٍ مَنَعَةٌ، كَانَتْ الْغَنِيمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ تَبَعًا لِلْبَعْضِ فَاسْتَوَوْا فِي الْغَنِيمَةِ. 4306 - وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي السَّرِيَّةِ إذَا كَانُوا كُلُّهُمْ عَبِيدًا أَوْ مُكَاتَبِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَإِنَّ الْغَنِيمَةَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْخَيْلِ وَالرَّجَّالَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَحْرَارٌ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قُلْنَا. لِأَنَّ الْعَبِيدَ أَهْلُ رَضْخٍ فَلَا يُسْهِمُ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ، فَيُسَاوُوا الْأَحْرَارَ فِي الْغَنِيمَةِ. 4307 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2176 فَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، كَانَ ذَلِكَ لَهُمْ وَلَا خُمُسَ فِيهِ. لِأَنَّهُمْ مُتَلَصِّصُونَ، وَالْمُصَابُ عَلَى وَجْهِ التَّلَصُّصِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً، وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ. 4308 - وَإِنْ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ خُمِّسَ مَا أَصَابُوا. لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْنَعُهُمْ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ فِيهَا إعْزَازُ الدِّينِ فَنَزَلُوا مَنْزِلَةَ سَرِيَّةٍ وَجَّهَهُمْ الْإِمَامُ، فَكَانَ الْمُصَابُ عَلَى وَجْهِ إعْزَازِ الدِّينِ، فَيَكُونُ غَنِيمَةً، وَفِي الْغَنِيمَةِ الْخُمُسُ. 4309 - فَإِنْ قَالَ لَهُمْ الْإِمَامُ أَذِنْت لَكُمْ عَلَى أَنَّ لَكُمْ النِّصْفَ مِمَّا تُصِيبُونَ، وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ النِّصْفَ، فَرَضُوا بِذَلِكَ، فَأَصَابُوا غَنَائِمَ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ، وَلَكِنْ يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا وَالْبَاقِي لَهُمْ. لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ جَعَلَهُمْ أَهْلَ مَنَعَةٍ، وَجَعَلَ الْمُصَابَ غَنِيمَةً، وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ شَرَطَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ هَذَا الشَّرْطَ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ. لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا لَا يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، فَإِذَا بَطَلَ الشَّرْطُ كَانَ فِيهِ الْخُمُسُ، وَالْبَاقِي لِلْغَانِمِينَ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْغَنَائِمِ. 4310 - فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَالَ لَهُمْ لَكُمْ مَا أَصَبْتُمْ كُلُّهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2177 فَأَجْهَزُوا فَخَرَجُوا وَغَنِمُوا، كَانَ مَا أَصَابُوا كُلُّهُ لَهُمْ وَلَا خُمُسَ فِيهِ. لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِهَذَا الْإِذْنِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا الْإِذْنُ لَكَانَ الْكُلُّ لَهُمْ، قُلْنَا هَذَا الْإِذْنُ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَلَوْ دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يُخَمَّسْ مَا أَصَابُوا، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. قَالَ: 4311 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَالَ لِسَرِيَّةٍ أَرْسَلَهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ لَهُمْ: مَا أَصَابَ إنْسَانٌ مِنْكُمْ مِنْ رِكَازٍ أَوْ مَعْدِنٍ فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْهُمْ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ: مَنْ أَصَابَ رِكَازًا أَوْ مَعْدِنًا فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ، فَأَصَابَ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خُمِّسَ مَا أَصَابَ وَالْبَاقِي لَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الرِّكَازَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَصِرْ غَنِيمَةً بَعْدُ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخُمُسُ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ، فَهَذَا تَنْفِيلٌ مِنْ الْإِمَامِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، فَيَجُوزُ، وَأَمَّا الرِّكَازُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَصَارَ غَنِيمَةً، وَوَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَنْفِيلًا مِنْ الْإِمَامِ، بَلْ هُوَ إبْطَالُ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَلَا يَجُوزُ هَذَا الشَّرْطُ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2178 [بَابُ مَنْ لَهُ مِنْ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَقْبَلَ وَأَنْ يَقْسِمَ وَأَنْ يَجْعَلَ الْأَرْضَ أَرْضَ خَرَاجٍ] 207 - بَابُ مَنْ لَهُ مِنْ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَقْبَلَ وَأَنْ يَقْسِمَ وَأَنْ يَجْعَلَ الْأَرْضَ أَرْضَ خَرَاجٍ وَأَنْ يَقْبَلَ الْخَرَاجَ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: 4312 - إذَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ أَمِيرًا عَلَى جُنْدٍ مِنْ الْجُنُودِ فَدَعَا قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، وَمَالُهُمْ وَأَرْضُهُمْ وَرَقِيقُهُمْ لَهُمْ، وَتَكُونُ أَرْضُهُمْ أَرْضَ عُشْرٍ كَأَرْضِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. لِأَنَّ التَّأْمِيرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْأَمِيرِ كَفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَالْمُؤَمِّرُ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ إذَا دَعَاهُمْ فَأَسْلَمُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَأَرْضُهُمْ أَرْضُ عُشْرٍ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ إنَّمَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةٍ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَثَبَتَ فِيهَا حَقُّ الْمُقَاتَلَةِ - ثُمَّ لَمْ تُقْسَمْ بَيْنَهُمْ وَتُرِكَتْ عَلَى أَرْبَابِهَا وَقُطِعَ حَقُّ الْمُقَاتَلَةِ عَنْهَا، فَتُجْعَلُ خَرَاجِيَّةً، لِيَكُونَ الْخَرَاجُ لِلْمُقَاتَلَةِ وَلِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِيمَا إذَا سَلَّمَ أَهْلُهَا طَوْعًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا حَقُّ الْمُقَاتِلَةِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقٌّ فِي أَرْضِهَا فَجُعِلَتْ عُشْرِيَّةً غَيْرَ خَرَاجِيَّةٍ. 4313 - وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوا فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الْأَمِيرُ أَنْ يَصِيرُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2179 ذِمَّةً فَفَعَلُوا، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ ذِمَّةً، فَإِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ لَمْ يَأْمُرْهُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَمَّا فَوَّضَ إلَيْهِ أَمْرَ الْحَرْبِ صَارَ مُفَوِّضًا إلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِهِ وَتَوَابِعِهِ، وَمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَالذِّمَّةُ مِنْ تَوَابِعِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُحَارَبُ الْمُشْرِكُونَ لِيُسْلِمُوا فَكَذَلِكَ يَجِبُ مُقَاتَلَتُهُمْ لِيَقْبَلُوا الذِّمَّةَ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} [التوبة: 29] . . . إلَى أَنْ قَالَ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَكَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] وَرَوَيْنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْصَى صَاحِبَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا فَإِلَى قَبُولِ الذِّمَّةِ» ، فَكَانَ الدُّعَاءُ إلَى الذِّمَّةِ مِنْ تَوَابِعِ الْحَرْبِ فَيَصِيرُ مُفَوَّضًا إلَى الْأَمِيرِ. 4314 - وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَ أَمِيرُ الْجُنْدِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ فَدَعَاهُمْ إلَى مِثْلِ هَذَا فَأَجَابُوهُ كَانَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِيرِ الْأَعْظَمِ. لِأَنَّ الْأَمِيرَ أَقَامَ قَائِدَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ، وَهَذَا مِنْ تَوَابِعِ الْحَرْبِ، وَلَوْ دَعَاهُمْ الْأَمِيرُ إلَى الذِّمَّةِ فَقَبِلُوا الذِّمَّةَ جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا دَعَاهُمْ الْقَائِدُ يَجُوزُ. 4315 - فَإِنْ صَالَحَهُمْ الْأَمِيرُ عَلَى صُلْحٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ رِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ إعْطَاءِ الذِّمَّةِ، وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الذِّمَّةِ عَلَى نَوْعَيْنِ إمَّا أَنْ يُصَالِحَهُمْ الْأَمِيرُ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2180 الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، أَوْ يَكُونَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عَلَى مَالٍ مُجْمَلٍ مُقَدَّرٍ، يُؤَدُّونَ كُلَّ سَنَةٍ، فَبَعْضُ ذَلِكَ الْمَالِ عَلَى رِقَابِهِمْ، وَبَعْضُهُ فِي أَرْضِهِمْ كَمَا «صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ كُلَّ سَنَةٍ يُؤَدُّونَهَا إلَيْهِ» ، وَكَمَا فَعَلَ بِأَهْلِ طيئ وَشَرْجٍ. 4316 - وَإِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْخَلِيفَةُ هُوَ الَّذِي يَقْطَعُ ذَلِكَ. لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَاهُ مَأْذُونًا بِالصُّلْحِ وَالْإِقْطَاعِ عَلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ، فَإِذَا جَاءَ النَّهْيُ مُفْصِحًا بِهِ كَانَ الْحُكْمُ لِلْأَفْصَحِ لَا لِلدَّلَالَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ هُوَ الَّذِي يَقْطَعُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. فَإِنْ رَضَوْا بِمَا صَنَعَ الْخَلِيفَةُ وَإِلَّا أُبْلِغُوا مَأْمَنَهُمْ إنْ أَبَى الْخَلِيفَةُ أَنْ يُجِيزَ مَا رَضَوْا بِهِ مِنْ مُقَاطَعَةِ الْأَمِيرِ. لِأَنَّ مُقَاطَعَةَ الْأَمِيرِ وَإِنْ لَمْ تَجُزْ فَتِلْكَ الْمُقَاطَعَةُ تَضَمَّنَتْ أَمَانًا لَهُمْ، فَإِذَا لَمْ يَرْضَوْا بِمُقَاطَعَةِ الْخَلِيفَةِ كَانَ إخْفَارًا لِلذِّمَّةِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ. 4317 - فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يَصِيرُوا ذِمَّةً قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ قَاتَلُوهُمْ وَظَفِرُوا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَرْضِهِمْ وَمَا فِيهَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَعْرِضَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ أَوْ غَيْرِهَا حَتَّى يَسْتَطْلِعَ فِي ذَلِكَ رَأْيَ الْخَلِيفَةِ، فَإِنْ شَاءَ الْخَلِيفَةُ قَسَمَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَأَخَذَ الْخُمُسَ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَجَعَلَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ أَحْرَارًا يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ عَنْ رِقَابِهِمْ، وَالْخَرَاجَ عَنْ أَرَاضِيِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2181 لِأَنَّ الْأَمِيرَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى جُنْدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْغَنِيمَةِ أَوْ الْمَنِّ حَقٌّ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ صَارَتْ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً، وَالْعُشْرُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ صَارَتْ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً، وَالْخَرَاجُ لِلْمُقَاتِلَةِ وَلِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِسْمَةَ أَوْ الْمَنَّ تَصَرُّفٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ الَّذِي يَلِي ذَلِكَ هُوَ الْخَلِيفَةُ دُونَ الْأَمِيرِ. 4318 - وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِمَنْ دُونَ الْخَلِيفَةِ مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْدَمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُمْ إذَا كَانَ غَلَبَهُمْ وَأَسَرَهُمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ نَوْعٌ مِنْ الْمَنِّ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ. 4319 - وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمُنَّ قَبْلَ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْخَلِيفَةِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ إذْ يَكُونُ الْقَتْلُ مُعْتَبَرًا بِالْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَتْلِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَمِيرُ لَا يَخَافُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَانِبِهِمْ، أَوْ يَخَافُ أَنْ يَأْتِيَهُ جُنْدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ الْأُسَرَاءُ عَوْنًا عَلَيْهِمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَ رِجَالَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْخَلِيفَةِ. لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَخَافُهُمْ فَقَتَلَهُمْ مِنْ الْمُحَارَبَةِ، فَكَانَ قَتْلُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَفِي الْحَرْبِ سَوَاءً، وَنَظِيرُهُ مَا قُلْنَا إذَا أَسَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ أُسَرَاءَ مِنْ الْخَوَارِجِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2182 فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ إذَا أَمِنُوا جَانِبَهُمْ، فَإِذَا لَمْ يَأْمَنُوهُمْ وَخَافُوا أَنْ يَنْحَازُوا إلَى فِئَةِ قَوْمٍ فَإِنَّهُ يُذَفِّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَيَقْتُلُ أُسَرَاءَهُمْ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4320 - وَلَوْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ وَجَّهَ رَجُلًا عَلَى جُنْدٍ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَظَهَرَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَمْوَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الدَّارِ فَأَخْرَجَهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْسِمَهُمْ فَيُخْرِجُ الْخُمُسَ لِلْفُقَرَاءِ، وَيَقْسِمُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَا يَنْتَظِرُ فِي ذَلِكَ إذْنَ الْخَلِيفَةِ. لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الدَّارِ فَلَيْسَ لِلْخَلِيفَةِ حَقُّ الْمَنِّ، بِأَنْ يَرُدَّ الْمَالَ عَلَى أَرْبَابِهِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَ الْخُمُسَ، وَيَقْسِمَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ إلَّا حَقُّ الْمُقَاتِلَةِ وَحَقُّ أَصْحَابِ الْخُمُسِ تَبَعٌ لِحَقِّ الْمُقَاتِلَةِ. 4321 - فَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْجُنْدِ كَانَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَصْحَابِ الْخُمُسِ فَتَصَرُّفُ هَذَا الْأَمِيرِ لَيْسَ يَقَعُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ الْأَمِيرُ عَلَى الدَّارِ. لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَهُ حَقُّ الْمَنِّ، وَذَلِكَ حَقٌّ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَتَصَرُّفُ هَذَا الْأَمِيرِ يَتَعَدَّى إلَى جُنْدِهِ وَإِلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِذَلِكَ. فَإِنْ نَهَاهُ عَنْ الْقِسْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2183 لِأَنَّ الْإِذْنَ ثَبَتَ لَهُ دَلَالَةً، وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ إفْصَاحًا، وَلَا قِوَامَ لِلدَّلَالَةِ مَعَ النَّصِّ. 4322 - وَلَوْ كَانَ الْخَلِيفَةُ بَعَثَ عَلَى الْجُنْدِ أَمِيرًا وَعَلَى الْمَقَاسِمِ غَيْرَهُ كَانَتْ الْمَقَاسِمُ إلَى الَّذِي بُعِثَ عَلَى الْمَقَاسِمِ دُونَ الْأَمِيرِ. إلَّا أَنَّهُ لَوْ نَهَاهُ عَنْ الْقِسْمَةِ عَمِلَ نَهْيُهُ، فَإِذَا فَوَّضَ أَمْرَ الْقِسْمَةِ إلَى غَيْرِهِ عَمِلَ تَفْوِيضُهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ أَمْرَ الْقِسْمَةِ يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ، وَالْأَمَانَةِ، وَأَمْرُ الْجِهَادِ يَحْتَاجُ إلَى الْجُرْأَةِ وَالشَّجَاعَةِ، فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الْوِلَايَةَ فَيَجْعَلُ أَمْرَ الْقِسْمَةِ إلَى أَحْسَنِهِمْ وَأَحْفَظِهِمْ لِلْمَغْنَمِ، وَأَمْرَ الْجِهَادِ إلَى أَجْرَئِهِمْ وَأَشْجَعِهِمْ. 4333 - إلَّا أَنْ يُشْرِكَهُ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ الْقِسْمَةُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا. لِأَنَّهُ خَصَّ الْأَمِيرَ بِأَمْرِ الْحَرْبِ، وَعَمَّهُمَا فِي أَمْرِ الْقِسْمَةِ، فَيُرَاعَى تَفْوِيضُهُ الْخَلِيفَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَمَنْ كَانَ إلَيْهِ الْقِسْمَةُ فَرَأَى أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَقْسِمَ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ. لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَهَيَّأُ قِسْمَةُ الْعَيْنِ؛ لِتَعَذُّرِ التَّعْدِيلِ بَيْنَ الْأَنْصِبَاءِ، فَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهَا وَقِسْمَةِ أَثْمَانِهَا فَصَارَ الْبَيْعُ مِنْ تَوَابِعِ الْقِسْمَةِ، فَكُلُّ مَنْ فَوَّضَ إلَيْهِ الْقِسْمَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ صَارَ الْبَيْعُ الَّذِي هُوَ تَبَعُ الْقِسْمَةِ مُفَوَّضًا إلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا فَوَّضَ إلَيْهِ أَمْرَ الْحَرْبِ عَلَى الْإِجْمَالِ صَارَ أَسْبَابُهُ وَتَوَابِعُهُ مُفَوَّضًا إلَيْهِ. 4324 - وَإِنْ كَانَ أَمْرُ الْقِسْمَةِ إلَى الْأَمِيرِ فَرَأَى أَنْ يَقْتُلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2184 الْمُقَاتِلَةَ وَلَا يَقْسِمَهُمْ، وَكَانَ يَرَى ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَبَعْدَ مَا يُخْرِجُهُمْ. لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ التَّصَرُّفَ مِنْ حَيْثُ الْبَيْعُ وَالْقِسْمَةُ فَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْقَتْلُ أَيْضًا، مَا لَمْ يَأْتِ بِهِمْ الْخَلِيفَةُ. لِأَنَّهُ إذَا أَتَى بِهِمْ الْخَلِيفَةُ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِمْرَةِ؛ لِأَنَّ إمَارَتَهُ مُؤَقَّتَةٌ مَا دَامَ مُفَارِقًا عَنْ الْخَلِيفَةِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِالْخَلِيفَةِ فَقَدْ انْتَهَتْ إمَارَتُهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا كَأَمِيرِ الْجُنْدِ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَكَانَ؛ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي السَّرِيَّةِ مَا دَامَ مُفَارِقًا لِأَمِيرِ الْجُنْدِ، فَإِذَا عَادَ وَاتَّصَلَ بِالْجُنْدِ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي أَمْرِ السَّرِيَّةِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. 4325 - وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مَا دَامَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِهِ، فَإِذَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، لِمَا أَنَّ وَكَالَتَهُ قَدْ انْتَهَتْ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَإِنْ كَانَ الَّذِي إلَيْهِ الْمَقَاسِمُ غَيْرَ أَمِيرِ الْجُنْدِ فَلَيْسَ لِلَّذِي إلَيْهِ الْمَقَاسِمُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُقَاتِلَةَ. لِأَنَّهُ فُوِّضَ إلَيْهِ أَمْرُ الْمَقَاسِمِ، وَلَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ أَمْرُ الْقِتَالِ، وَالْقَتْلُ مِنْ الْقِتَالِ فَلَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُ الْمَقَاسِمِ. 4326 - فَلَوْ كَانَتْ الْمَقَاسِمُ إلَى غَيْرِ أَمِيرِ الْجُنْدِ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ فِيهَا نَاسٌ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، فَأَرَادَ الْأَمِيرُ قَتْلَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْقِتَالِ عَلَى حَالِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُمْ الْأَمِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2185 ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْأُسَرَاءِ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْقِتَالِ وَقَدْ فُوِّضَ إلَيْهِ أَمْرُ الْقِتَالِ، وَإِنْ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَبَقِيَتْ الْأُسَرَاءُ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَخَافُونَهُمْ أَوْ يَخَافُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ الْعَدُوُّ فَيَكُونُ الْأُسَرَاءُ مَعَهُمْ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ. لِأَنَّ الْحَرْبَ مَا دَامَ بَاقِيًا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْقِتَالَ بَاقٍ. وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4327 - وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَخَافُونَهُمْ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ. لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَثَبَتَ حَقُّ الْقِسْمَةِ لِصَاحِبِ الْمَقَاسِمِ، فَلَيْسَ لِلْأَمِيرِ قَتْلُهُمْ. وَإِنْ قَتَلَهُمْ الْأَمِيرُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ لَا أَمَانَ لَهُمْ، وَلَوْ قَتَلَهُمْ غَيْرُ الْأَمِيرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَالْأَمِيرُ أَوْلَى أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ مُسِيءٌ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُ قَتَلَ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ حَلَالٍ لَهُ. 4328 - وَإِنْ كَانَ إلَيْهِ الْقِسْمَةُ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِيهِمْ تَدْبِيرٌ مِنْ أَمْرِ الْقِسْمَةِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ كَمَا يَكُونُ لِلْخَلِيفَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2186 يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أُتِيَ بِأُسَرَاءَ فَعَفَا عَنْهُمْ إلَّا وَاحِدًا أُخْبِرَ أَنَّهُ أَثْخَنَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ. قَالَ: 4329 - وَلَوْ أَنَّ وَالِيًا عَلَى ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ وَجَّهَ سَرِيَّةً إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فِيهَا مُقَاتِلَةٌ، فَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ مِنْ الْقِسْمَةِ شَيْءٌ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ إمَارَتَهُ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُفَارِقًا عَنْ الْأَمِيرِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِأَمِيرِ الثَّغْرِ فَقَدْ انْتَهَتْ إمَارَتُهُ، فَلَا يَتَصَرَّفُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا كَأَمِيرِ الْجُنْدِ الَّذِي بَعَثَهُ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْجُنْدِ، إذَا انْتَهَى إلَى الْخَلِيفَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْقِسْمَةِ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، ثُمَّ أَمِيرُ الثَّغْرِ إنْ شَاءَ قَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَقَسَمَ الْبَاقِي، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْقَتْلَ، وَقَسَمَ الْكُلَّ. 4330 - وَإِنْ كَانَ أَمِيرَ الثَّغْرِ لَمْ يَنْهَ صَاحِبَ السَّرِيَّةِ حِينَ أَرْسَلَهُ إلَى دَارِ الشِّرْكِ عَنْ الْقِسْمَةِ، فَرَأَى أَنْ يَقْسِمَ مَا أَصَابَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَسَمَهُ وَعَزَلَ الْخُمُسَ فَذَلِكَ جَائِزٌ. لِأَنَّهُ وَالٍ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ السَّرِيَّةِ فِيمَا أَصَابُوا حَقٌّ، فَجَازَ لَهُ الْقِسْمَةُ. 4331 - وَإِنْ رَأَى أَنْ يَقْتُلَ الْمُقَاتِلَةَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ. لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إلَيْهِ فَكَانَ الْقَتْلُ إلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2187 فَإِنْ نَهَاهُ أَمِيرُ الثَّغْرِ عَنْ الْقِسْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ أَحَدًا. لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الْوَالِي فَلَا يَتَعَدَّى أَمْرَهُ، إلَّا أَنْ يَخَافَ الْأُسَرَاءَ، فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ، كَمَا يَقْتُلُهُمْ فِي حَالَةِ الْمُحَارَبَةِ. 4332 - وَلَوْ أَنَّ جُنْدًا دَخَلَ أَرْضَ الْحَرْبِ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ، فَوَجَّهَ السَّرَايَا حِينَ دَخَلَ أَرْضَ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُنَفِّلْهُمْ شَيْئًا، فَأَصَابَتْ السَّرَايَا غَنَائِمَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أُمَرَاءِ السَّرَايَا أَنْ يَقْسِمُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْغَنَائِمِ حَتَّى يَأْتُوا بِهَا إلَى الْعَسْكَرِ. لِأَنَّ الْعَسْكَرَ رِدْءٌ لِلسَّرِيَّةِ، فَلَهُمْ شَرِكَتُهُمْ فِيمَا يُصِيبُونَ، وَأَمِيرُ السَّرِيَّةِ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى السَّرِيَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْجُنْدِ، فَلَوْ جَازَ قِسْمَةُ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْعَسْكَرِ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ السَّرِيَّةِ الَّتِي تَدْخُلُ أَرْضَ الْإِسْلَامِ إذَا أَصَابُوا غَنَائِمَ فَقَسْمُ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ مَا أَصَابُوا بَيْنَ السَّرِيَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لِغَيْرِ السَّرِيَّةِ فِيمَا أَصَابُوا، فَتَصَرُّفُ الْأَمِيرِ لَا يَعْدُو السَّرِيَّةَ إلَى غَيْرِهِمْ، وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى السَّرِيَّةِ فَجَازَتْ قِسْمَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ. 4333 - فَإِنْ كَانَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ أَمَرَ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَ مَا أَصَابُوا وَيَقْسِمَ بَيْنَ السَّرِيَّةِ مَا أَصَابُوا فَفَعَلَ ذَلِكَ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ إذَا قَسَمُوا فِيهِ نَصِيبٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْقِسْمَةِ فَقَدْ جَعَلَ مَا أَصَابُوا لِلسَّرِيَّةِ خَاصَّةً، وَقَطَعَ حَقَّ الْعَسْكَرِ عَمَّا أَصَابُوا، ثُمَّ هَذَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ جُعْلًا فَإِنَّهُ فَصْلٌ يَسَعُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2188 اجْتِهَادُ الرَّأْيِ. فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَابُ لِلسَّرِيَّةِ خَاصَّةً، فَالْأَمِيرُ حَيْثُ أَمَرَ بِالْقِسْمَةِ فَإِنَّمَا أَمَرَ مُتَأَوِّلًا لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَأَمْرُ الْأَمِيرِ مَتَى صَادَفَ فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ نَفَذَ أَمْرُهُ، وَإِنْ قَطَعَ حَقَّ الْعَسْكَرِ عَمَّا أَصَابُوا إذْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِمْ، فَجَازَ قِسْمَةُ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. 4334 - وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ بَعَثَ سَرَايَا وَنَفَلَهُمْ أَنْفَالًا فَقَالَ لِسَرِيَّةٍ مِنْهُمْ: مَنْ أَصَابَ رَأْسًا فَهُوَ لَهُ، وَقَالَ لِسَرِيَّةٍ أُخْرَى: لَكُمْ الرُّبُعُ بَعْدَ الْخُمُسِ مِمَّا أَصَبْتُمْ، وَقَالَ لِسَرِيَّةٍ أُخْرَى: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ رَأْسًا فَلَهُ نِصْفُهُ فَخَرَجُوا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فِيهَا مُقَاتِلَةٌ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ أَحَدًا. لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا أَصَابُوا نَفْلٌ، لَمْ يَكُنْ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ نَفْلٌ أَوْلَى أَلَّا يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْهُمْ. 4335 - فَإِذَا انْتَهَوْا بِهِمْ إلَى الْمُعَسْكَرِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ أَحَدًا. لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ النَّفَلُ لِأَصْحَابِ النَّفْلِ، وَالنَّفَلُ حَقٌّ خَاصٌّ لِأَهْلِهِ، لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَصَارَ النَّفَلُ كَحَقِّ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا لَا يَقْتُلُ أَحَدًا مِنْهُمْ لِحَقِّ النَّفْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2189 4336 - إلَّا أَنْ يَخَافَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَظَرَ الْجُنْدَ قَدْ أَقْبَلَ يُرِيدُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيَخَافُ أَنَّهُ إنْ أَتَاهُ ذَلِكَ الْجُنْدُ كَانَ الْأُسَرَاءُ عَوْنًا عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ. لِأَنَّ فِي هَذَا مَصْلَحَةً وَنَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ وَحَالَةُ الْمُحَارَبَةِ سَوَاءً. 4337 - وَلَوْ أَنَّ جُنْدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ وَعَلَيْهِمْ أَمِيرٌ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ، فَدَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ، وَخَلَّفُوا مَدَائِنَ كَثِيرَةً مِنْ مَدَائِنِ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلُوا عَلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِهِمْ فَدَعَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَجَابُوهُمْ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إذَا أَسْلَمُوا. لِأَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا شُرِعَ لِقَبُولِ الْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] فَإِذَا أَسْلَمُوا يَجِبُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ، ثُمَّ الْأَمِيرُ يَدَعُهُمْ فِي أَرْضِهِمْ، وَيَسْتَعْمِلُ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَحْكُمُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَدِينَةَ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمِيرٍ بَيْنَهُمْ يُجْرِي فِيهِمْ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ إذَا انْصَرَفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْجُنْدُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْأَمِيرَ يَدَعُهُمْ وَمَا اخْتَارُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2190 لِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَسَاءُوا فِي الِاخْتِيَارِ فَيَتْرُكُهُمْ وَسُوءَ اخْتِيَارِهِمْ وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى التَّحْوِيلِ. لِأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فِي مَدِينَةِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى التَّحْوِيلِ. وَلَا يَدَعُ عِنْدَهُمْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَخَافَةً عَلَيْهِ أَلَّا تَطِيبَ نَفْسُهُ. لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا عَلَى التَّلَفِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْرِيضُهُ عَلَى التَّلَفِ إلَّا بِرِضَاهُ. 4338 - فَإِنْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ فَدَعَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ فَأَجَابُوا إلَى ذَلِكَ وَأَبَوْا التَّحَوُّلَ مِنْ دَارِهِمْ، وَقَالُوا: أَعْطُونَا الْعَهْدَ عَلَى أَنْ نَكُونَ فِي مَوْضِعِنَا لَا نَبْرَحُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا أَقَامُوا مَعَهُمْ يَقْوُونَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَانُوا مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْعَلَهُمْ الْأَمِيرُ ذِمَّةً وَيَجْعَلَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَحْكُمُ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْعَلُ مَعَ الْأَمِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْمُقَامِ مَعَهُمْ فِي دَارِهِمْ. لِأَنَّ قَبُولَ الْفُرْقَةِ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَهَذِهِ ذِمَّةٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَمِيرَ يُجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ، وَبِإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ يَصِيرُونَ ذِمَّةً، وَمَدِينَتُهُمْ تَصِيرُ مَدِينَةَ الْإِسْلَامِ، فَيُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2191 4339 - وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ لَمْ يَقْوَ مَنْ تُرِكَ فِيهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَحْكُمُوا فِيهَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَسَعْ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجِيبُوهُمْ إلَى هَذَا وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُمْ ذِمَّةً إذَا خَرَجُوا بِعِيَالَتِهِمْ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ دَارَ الشِّرْكِ إنَّمَا تَصِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، وَأَهْلُ الشِّرْكِ إنَّمَا يَصِيرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ عَجَزَ الْأَمِيرُ عَنْ إجْرَاءِ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَادِعِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ مَتَى طَلَبُوا مُوَادَعَتَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَتُهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا يَجِبُ قَبُولُ هَذِهِ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمُوا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ مِنْ الْإِمَامِ، فَإِذَا أَسْلَمُوا صَارُوا مُسْلِمِينَ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ الْأَمِيرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ يَخْلُفُ فِيهِمْ رَجُلًا يُجْرِي فِيهِمْ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ، إنْ قَدَرُوا وَإِلَّا يَتْرُكُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، «وَقَدْ أَسْلَمَ أَهْلُ نَجْرَانَ وَأَهْلُ الْيَمَامَةِ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَوْمٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَرَكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» . 4340 - فَإِنْ أَجَابُوا إلَى التَّحَوُّلِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْبَوْا عَلَيْهِمْ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِهِمْ. لِأَنَّهُمْ فِي الْحَالِ مُمْتَنِعُونَ، فَلَمْ يَصِيرُوا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَجِبُ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَالْكَفُّ عَنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2192 فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ تَرَكُوا فِيهَا قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَوَوْا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا أَعَانَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَكُونُ ذِمَّةً لَكُمْ وَتَخْلُفُونَ قَوْمًا نُقَاتِلُ مَعَهُمْ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْأَمِيرِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا؛ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي هَذَا تَعْرِيضًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْهَلَاكِ إذْ أَهْلُ الذِّمَّةِ كُفَّارٌ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَغْدِرُوا بِهِمْ، وَيَقْتُلُوهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إجْرَاءِ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِرِضَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ الَّذِينَ يُجْرُونَ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُجْرِيهَا إلَّا الْمُسْلِمُونَ. 4341 - فَإِنْ طَلَبَ أَهْلُ الرِّدَّةِ الْمُوَادَعَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوَادِعُوهُمْ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ وَطَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ بَابًا، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَإِنْ ثَبَتَ فِي الْوَاحِدِ ثَبَتَ فِي الْجَمَاعَةِ. 4342 - وَأَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ إذَا طَلَبُوا إلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُوَادَعَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ حَتَّى يَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَادِعَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ. لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَهُمْ أَوْلَى بِالْمُوَادَعَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ. وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى ذَلِكَ خَرَاجًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2193 لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُشْبِهُ الْجِزْيَةَ وَهُمْ مُسْلِمُونَ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ خَرَاجٌ. 4343 - فَإِنْ أَخَذُوا مِنْهُمْ الْخَرَاجَ يُوقَفُ ذَلِكَ حَتَّى إذَا تَابُوا رُدَّ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ مَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا يُغْنَمُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَدَّ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ مَالَهُمْ حَتَّى يَلَغَهُ الْكَلْبُ - فَإِنْ قُتِلُوا رُدَّ إلَى وَرَثَتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كَانَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ. 4344 - فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَلَمْ يَتُوبُوا، حَتَّى اسْتَهْلَكَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ ضَامِنٌ. لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مُوَادِعُونَ فَمَالُهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. . 4345 - وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ مُوَادِعِينَ فَأَتْلَفَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَالَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَمِنَ، فَهَاهُنَا أَوْلَى أَنْ يَضْمَنَ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُوَادِعِينَ فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَإِنَّهُ إذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ مُسْتَهْلِكٌ وَهُمْ عَلَى حَرْبِهِمْ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ نَفْسَهُ لَا يَضْمَنُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَتْلَفَ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ. 4346 - فَإِنْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ حَتَّى وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَتَفَرَّقُوا ثُمَّ تَابُوا ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ ضَمِنَ لِلْمَالِكِ أَوْ لِلْوَرَثَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2194 لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُحَارِبٍ فِي حَالَةِ الِاسْتِهْلَاكِ فَيَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَمَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . 4347 - وَلَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْجُنْدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ افْتَتَحُوا حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْحِصْنِ مَطْمُورَةٌ فِيهَا قَوْمٌ يُقَاتِلُونَ، فَأَسْلَمُوا، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَاهِرِينَ لَهُمْ فَهُمْ فَيْءٌ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهُمْ، يُخَمَّسُونَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ فَيْءٌ لِمَنْ أَصَابَهُمْ. لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ مَقْهُورِينَ فَقَدْ صَارُوا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ، فَإِسْلَامُهُمْ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ. فَلَا يُقْتَلُونَ. لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَالْإِسْلَامُ يُحْرِزُهُمْ عَنْ الْقَتْلِ، وَلَا يُحْرِزُهُمْ عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ. 4348 - فَإِنْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ فِي الْمَطْمُورَةِ وَلَا يُوصَلُ إلَيْهِمْ إلَّا بِالْقِتَالِ، وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ سَيَظْفَرُونَ بِهِمْ، فَأَسْلَمُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ فَلَمْ يَصِيرُوا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَهَؤُلَاءِ أَسْلَمُوا قَبْلَ ثُبُوتِ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا أَحْرَارًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُسْتَرَقُّ. 4349 - وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْحِصْنِ حُوصِرُوا فَأَسْلَمُوا وَهُمْ مَحْصُورُونَ فَهُمْ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2195 وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْمَطْمُورَةِ إذَا دَعَوْا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَهُمْ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ، وَسِعَ الْمُسْلِمِينَ أَلَّا يُعْطُوهُمْ ذِمَّةً. لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَجَرَى عَلَيْهِمْ السَّبْيُ، وَمَنْ طَلَبَ الذِّمَّةَ بَعْدَ مَا جَرَى عَلَيْهِ السَّبْيُ فَإِنَّهُ لَا يُجَابُ إلَى ذَلِكَ. 4350 - وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنْ شَاءُوا أَنْ يَجْعَلُوهُمْ فَيْئًا وَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَوْا الذَّرَارِيَّ وَإِنْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ وَيَرَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ سَيَظْفَرُونَ بِهِمْ لَا يَنْبَغِي لِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بَلْ يَجْعَلُهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً. لِأَنَّهُمْ لَوْ سَأَلُوا الذِّمَّةَ قَبْلَ الِاسْتِغْنَامِ لَمْ يُمْنَعُوا، لَمَّا أَنَّ الذِّمَّةَ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا. قَالَ: 4351 - وَإِنْ حَاصَرَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ أَهْلَ مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْعَدُوِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نُسْلِمُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ نَصِيرُ ذِمَّةً وَلَا نَبْرَحُ مَنَازِلَنَا، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقْوُونَ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا مَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقْوَى عَلَى قِتَالِ مَنْ يَحْضُرُ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَعَلَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2196 لِأَنَّ إجْرَاءَ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ مُمْكِنٌ، وَالدَّارُ تَصِيرُ دَارَ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجْعَلُهَا الْإِمَامُ دَارَ إسْلَامٍ وَيَجْعَلُ الْقَوْمَ أَهْلَ ذِمَّةٍ. 4352 - فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَقْوُونَ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا فِي دَارِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَاتِلُ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يُجِيبُوا الذِّمِّيِّينَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ تِلْكَ الدَّارِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِمَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِذِمَّةٍ مِنْهُمْ إنَّمَا هَذَا طَلَبُ الْمُوَادَعَةِ وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوَادِعُوهُمْ. 4353 - وَأَمَّا الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُمْ فَهُمْ أَحْرَارٌ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْمُقَامِ بِبِلَادِهِمْ. لِأَنَّ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِ إلَى دَارِ غَيْرِهِ. 4354 - فَإِنْ قَالَ الْمُسْلِمُونَ دَعُوا مَعَنَا قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُونَ قُوَّةً لَنَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مَنْ يُتْرَكُ مَعَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَقْوُونَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2197 4355 - وَإِنْ كَانَ مَنْ يُتْرَكُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقْوُونَ إلَّا بِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنْ خَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ أَنْ يَرْتَدُّوا فَيَقْتُلُوا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَلِّفَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ فِيهِ إتْلَافَ عِدَّةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ - وَإِنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ إسْلَامِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَنَّهُمْ مُنَاصِرُونَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقْوَى بِهِمْ وَيَقْوُونَ بِهِ، وَيُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا يَحْكُمُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ؛ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْإِمَامَ مَتَى أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمَدِينَةَ دَارًا لِلْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ يَكُونَ ذِمَّةً مِمَّنْ يَقُومُ بِبِلَادِهِ. لِأَنَّ الْمَدِينَةَ صَارَتْ دَارًا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنْ سَأَلَ الذِّمَّةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمَ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَتْ إجَابَتُهُ إلَيْهِ. 4356 - وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ فِي جَمِيعِ مَا سَأَلُوا أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً فَإِنْ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَرَأَى قِتَالَهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يَظْفَرُوا بِهِمْ فَقَاتَلَهُمْ وَظَفِرَ بِهِمْ فَخَمَّسَهُمْ، وَقَسَمَ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ جَازَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ قَاتَلَهُمْ وَهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ لَا أَمَانَ لَهُمْ. وَلَكِنَّ الْأَمِيرَ أَخْطَأَ حِينَ لَمْ يَقْبَلْ الذِّمَّةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2198 لِأَنَّ قَبُولَ الذِّمَّةِ وَاجِبٌ فَقَدْ تَرَكَ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فَيَكُونُ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ. 4357 - وَإِذَا دَعَوْا إلَى أَنْ يُسْلِمُوا فَهَذَا لَا يُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْبَى عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ الْقِتَالَ شُرِعَ؛ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ، فَلَا مَعْنَى لِرَدِّ الْإِسْلَامِ وَالْقِتَالُ شُرِعَ لِأَجْلِهِ. فَإِنْ أَبَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَسْلَمُوا ثُمَّ قَاتَلُوا وَظَفِرَ عَلَيْهِمْ خَلَّى سَبِيلَهُمْ وَسُلِّمَتْ لَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَبَطَلَ مَا كَانَ حُكِمَ فِيهِمْ مِنْ سَبْيٍ أَوْ قِسْمَةٍ. لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَسْلَمُوا صَحَّ إسْلَامُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَقَدْ قَاتَلُوهُمْ وَهُمْ مُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ وَلَا يُسْتَغْنَمُ مَالُهُ، فَيَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَرَاقُوا مِنْ دِمَائِهِمْ. 4358 - وَإِنْ كَانُوا دَعَوْا إلَى أَنْ يُسْلِمُوا وَيَكُفَّ عَنْهُمْ فَأَبَى الْأَمِيرُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ فَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يُسْلِمُوا فَأَصَابَهُمْ فَقَدْ أَخْطَأَ فِيمَا صَنَعَ؛ لِمَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا الذِّمَّةَ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ، فَإِذَا طَلَبُوا الْإِسْلَامَ أَوْلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فَدَمُهُ مَوْضُوعٌ وَمَا اُسْتُهْلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ. لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ وَهُمْ كُفَّارٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إلَّا إرَادَةُ الْإِسْلَامِ وَبِالْإِرَادَةِ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا، فَدَمُ الْكَافِرِ وَضَمَانُ مَالِهِ مَوْضُوعٌ. 4359 - وَأَمَّا مَا بَقِيَ مِنْهُمْ وَمِنْ أَمْوَالِهِمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا رَدَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَيْهِمْ، وَكَانُوا أَحْرَارًا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2199 لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا أَنْ يُسْلِمُوا وَيَكُفَّ عَنْهُمْ فَقَدْ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُقَاتَلَتَهُمْ وَأَسْرَهُمْ، فَلَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَسْرَهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُمْ بِالْأَسْرِ، فَبَقُوا أَحْرَارًا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. 4360 - بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَبُوا الذِّمَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ وَقَسَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ أَحْرَارًا تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ. لِأَنَّ هُنَاكَ سَأَلُوا الْبَقَاءَ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ سَبَبٌ لِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ فِي الْأَصْلِ، فَالْإِمَامُ إنَّمَا سَبَاهُمْ وَمَنَعَهُمْ الذِّمَّةَ فِي مَوْضِعٍ يَسَعُ فِيهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ، فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَجَازَ سَبْيُهُ، فَلَا يُرَدُّ، فَأَمَّا هَا هُنَا سَأَلُوا مِنْ الْإِمَامِ الْكَفَّ عَنْهُمْ لِيُسْلِمُوا وَالْإِسْلَامُ عَاصِمٌ فَحُرْمَةُ السَّبْيِ هَا هُنَا أَقْوَى وَآكَدُ فَلَا يَسَعُ فِيهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ. فَإِذَا أَسْلَمُوا فَقَدْ ظَهَرَ خَطَأُ الْإِمَامِ بِيَقِينٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ عَنْ خَطَئِهِ وَيَرُدَّهُمْ أَحْرَارًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى الْإِسْلَامِ مُعْتَبَرٌ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُسْلِمُ حَقِيقَةً إنْ حَارَبَ الْمُسْلِمَ لَا يُسْبَى، فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ الْإِسْلَامَ. وَأَمَّا الْقَصْدُ إلَى الذِّمَّةِ مُعْتَبَرٌ بِحَقِيقَةِ الذِّمَّةِ، وَالذِّمِّيُّ حَقِيقَةً إذْ حَارَبَهُ الْمُسْلِمُ فِي فِئَةٍ مُمْتَنِعَةٍ يُسْبَى وَيُسْتَرَقُّ، فَكَذَلِكَ إذَا اُعْتُبِرَ الْقَصْدُ بِالْحَقِيقَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2200 [بَابُ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُسْلِمُ عَلَى إسْلَامِ الْكَافِرِ] 208 - بَابُ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُسْلِمُ عَلَى إسْلَامِ الْكَافِرِ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: 4361 - إذَا سَبَى الْمُسْلِمُونَ سَبْيًا مِنْ الرُّومِ فَشَهِدَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُرًّا وَعَبْدًا وَمَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ رَضِيَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ هَذَا الْأَسِيرَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَوَصَفَ الشَّاهِدُ إسْلَامَهُ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ. لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي أُمُورِ الدِّينِ مَقْبُولٌ، كَمَا يُقْبَلُ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ، وَكَمَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَكَمَا يُقْبَلُ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. 4362 - يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ ذِي لَقْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَغْفَرَ لِلنَّجَاشِيِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حِينَ أَتَاهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ بِهِ» . ثُمَّ قَالَ فِي الْكِتَابِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2201 4363 - وَوَصَفَ الشَّاهِدُ إسْلَامَهُ قَالَ: هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ، إنْ كَانَ الشَّاهِدُ فَقِيهًا لَا يُسْتَفْسَرُ، بَلْ يَجْرِي عَلَى إبْهَامِهِ أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الشَّاهِدُ جَاهِلًا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَفْسَرَ، فَإِنْ فَسَّرَ الشَّاهِدُ وَوَصَفَ إسْلَامَهُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ. وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ لَمْ يَكُنْ حُرًّا بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ حَتَّى يَشْهَدَ مُسْلِمَانِ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا فِي الْحُقُوقِ، وَذَكَرَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. 4364 - أَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ حِصْنًا فَشَهِدَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ لِوَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ قَالَ: إنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ أَوْ يُبَاعَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ شَهِدَ بَعْدَ مَا قَسَمَ أَوْ بِيعَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. فَقَدْ قَسَمَ الْجَوَابَ ثَمَّةَ وَأَطْلَقَ الْجَوَابَ هَا هُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا ذَكَرَ هَا هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ شَهِدَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَمَّا إذَا أُشْهِدَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ قَبْلَ الْبَيْعِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا صَارَتْ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى رِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالثَّانِيَةُ تَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْأُولَى، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ يَقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ، إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَفِي الْبَابِ الثَّانِي إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ تُقْبَلُ، فَالْوَجْهُ لِمَا ذَكَرَ هَا هُنَا وَهُوَ أَنَّهُ بِالْأَسْرِ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ، وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ إبْطَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2202 حَقِّ الْغَانِمِينَ، فَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِالشَّهَادَةِ الَّتِي تَبْطُلُ بِهَا الْحُقُوقُ فِي الْأَحْكَامِ، كَمَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَلَا الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ إنَّهَا مَقْبُولَةٌ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَذَلِكَ هَا هُنَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا يُقْبَلُ فِي إبْطَالِ الْأَسْرِ، وَالْوَجْهُ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ، وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَسْرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَحِقُّ لِرَجُلٍ خَاصٍّ، بَلْ الْحَقُّ فِيهِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ بِشَهَادَتِهِ لَيْسَ يُبْطِلُ حَقًّا خَاصًّا لِرَجُلٍ مُعَيَّنٍ، فَجُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَيُقْبَلُ إذْ حُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ مِلْكًا خَالِصًا لِرَجُلٍ مُعَيَّنٍ، فَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا يُقْبَلُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلِأَنَّ قَوْلَ هَذَا الرَّجُلِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ حَالًا مِنْ السِّيمَاءِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يُجْعَلُ فَيْئًا فَبِقَوْلِ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ أَوْلَى، فَأَمَّا الْفَاسِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي مِثْلِ هَذَا وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُسْتَغْفَرُ لَهُ بِشَهَادَتِهِ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ يَتَبَيَّنُ فِي نَبَئِهِ - وَإِنْ كَانَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَهَذَا فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا شَهِدَ رُؤْيَةَ هِلَالِ رَمَضَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، لِأَنَّ لَهُ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فَيُقْبَلُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ فَأَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ أَنَّ عَلَيْك الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ فَاسِقًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2203 [بَابُ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ] 209 - بَابُ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ 4365 - قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ كَانَ فِيهِمْ أَسِيرًا أَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَوَجَدَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ عَبِيدِي وَإِمَائِي اشْتَرَيْتهمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ بِمَا قَالَ فَهُمْ رَقِيقُهُ كَمَا قَالَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمَانَ بِالْإِيمَانِ أَعْلَى حَالًا مِنْ الْأَمَانِ بِالِاسْتِئْمَانِ. 4366 - وَلَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ آمَنَهُ الْإِمَامُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْحِصْنَ فَقَالَ الَّذِي أُومِنَ هَؤُلَاءِ عَبِيدِي وَإِمَائِي، وَصَدَّقُوهُ بِذَلِكَ كَانَ آمِنًا بِجَمِيعِ مَا قَالَ، فَهَا هُنَا أَوْلَى، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ لَمَّا صَدَّقُوهُ فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ الْيَدُ فِيهِمْ، لِأَنَّ أَقْصَى مَا يَظْهَرُ مِنْ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ، يَخْدُمَانِهِ وَيُقِرَّانِ لَهُ بِالْيَدِ، وَقَدْ وَجَدَ هَذِهِ الصِّفَةَ هَا هُنَا فَصَارُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2204 فِي يَدِهِ، وَالْيَدُ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، فَكَانُوا مِلْكًا لَهُ وَمِلْكُ الْمُسْلِمِ لَا يُسْبَى وَلَا يُسْتَغْنَمُ. 4367 - وَإِنْ كَذَّبُوهُ بِمَا قَالَ فَهُمْ فَيْءٌ أَجْمَعُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَحَدُوا دَعْوَاهُ لَمْ يَصِيرُوا فِي يَدِهِ فَقَدْ ادَّعَى شَيْئًا لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ يَدٍ أَوْ غَيْرِهَا فَلَمْ يُصَدَّقْ، وَإِذَا لَمْ يُصَدَّقْ فَهَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ حَرْبِيُّونَ، وَلَا أَمَانَ لَهُمْ فَيُسْبَوْنَ، وَلَا شَيْءَ لِهَذَا الْمُسْتَأْمَنِ أَوْ الْمُسْلِمِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُخَمِّسُونَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَصَابُوا ذَلِكَ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ. لِأَنَّ هَذَا الْمُسْتَأْمَنَ أَوْ الْمُسْلِمَ لَمْ يَدْخُلْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ لِلْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ لَاحِقٌ بِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَسِيرَ أَوْ الْمُسْتَأْمَنَ إذَا لَحِقَ بِالْجُنْدِ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا كَانُوا أَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ مِنْ قَبْلُ، إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ شَرِيكَهُمْ فِيمَا أَصَابُوا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4368 - وَإِنْ صَدَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَكَذَّبَهُ بَعْضُهُمْ فَاَلَّذِينَ صَدَّقُوهُ عَبِيدٌ لَهُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَهُمْ فَيْءٌ. لِأَنَّ الْبَعْضَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ وَالْكُلُّ لَوْ صَدَّقُوهُ كَانُوا عَبِيدًا لَهُ، وَلَوْ كَذَّبُوهُ جَمِيعًا كَانُوا فَيْئًا كُلُّهُمْ فَإِذَا وَجَدَ التَّصْدِيقَ مِنْ الْبَعْضِ وَالتَّكْذِيبَ مِنْ الْبَعْضِ رَدَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى أَصْلِهِ. 4369 - وَكَذَلِكَ مَا وَجَدَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ بَقَرٍ فَقَالَ: هَذَا لِي اتَّجَرْت فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، فَأَصَبْته فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَهُوَ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2205 لَمَّا قُلْنَا: إنَّ الْيَدَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ فِي الْحَرْبِيِّ الَّذِي أُومِنَ عَلَى مَالِهِ فَهَذَا أَوْلَى، فَلَأَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ أَوْلَى. 4370 - وَلَوْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَسِيرًا مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمًا مُسْتَأْمَنًا أَوْ مُسْلِمًا قَدْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ وُجِدَ مَعَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَسَبْيٌ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي يَدِهِ أَوْ لَا يَدْرِي أَفِي يَدِهِ ذَلِكَ أَمْ لَا فَادَّعَى أَنَّهُ لَهُ وَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَذَلِكَ جَمِيعًا فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَصَابُوهُ. لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا وَجَدُوهُمْ فَقَدْ صَارُوا فَيْئًا لَهُمْ فِي الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ الْمُدَّعِي عَلَى مَا ادَّعَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ. 4371 - فَإِذَا كَانُوا عَنْهُ غَائِبِينَ لَيْسُوا فِي يَدِهِ أَوْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُمْ فِي يَدِهِ أَوْ لَا وَلَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فَلَمْ يُصَدَّقْ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهُ أَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي يَدِهِ يَوْمَ افْتَتَحَ الْحِصْنَ، أَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْمَنْزِلَ الَّذِي وَجَدَ ذَلِكَ فِيهِ مَنْزِلُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَةُ شُهُودِهِ فِي ذَلِكَ وَرُدَّ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَيْهِ. لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مُعَايَنَةً أَوْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي يَدِهِ مُعَايَنَةً وَصَدَّقُوهُ بِذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَصِرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيْئًا، فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ يَسْتَقِيمُ فِي الْمُسْتَأْمَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2206 وَالْأَسِيرِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ، فَأَمَّا فِي الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ فَتْحِ الْحِصْنِ فَكَذَلِكَ يَسْتَقِيمُ الْجَوَابُ، عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ أَنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ إلَيْهِ فَأَمَّا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ لَهُ فَإِنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَرُدُّ إلَيْهِ مُسْتَقِيمٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ وَيَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِلْكًا لَهُ وَهُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ يَكُونُ فَيْئًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ فَيْئًا فَيَكُونُ كَمَالِ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَهَا هُنَا لَمْ نَعْرِفْ أَنَّهُ فِي يَدِ هَذَا الْمُسْلِمِ وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَيَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ فَيْئًا. 4372 - فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَانُوا فِي يَدِهِ حِينَ افْتَتَحَ الْحِصْنَ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُمْ عَبِيدُهُ وَإِمَاؤُهُ وَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لَهُ وَإِمَاءَهُ، وَقَالُوا: كُنَّا أَحْرَارًا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَكَانُوا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلْمُدَّعِي إلَّا مُجَرَّدَ الْيَدِ، وَالْيَدُ فِي بَنِي آدَمَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَمْلُوكًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ صَبِيٌّ صَغِيرٌ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ رَجُلٌ بَالِغٌ، فَزَعَمَ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَقَالَ الصَّبِيُّ: لَا بَلْ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الصَّبِيِّ أَنَّهُ حُرٌّ، وَلَوْ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَنَا عَبْدُ فُلَانٍ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ ذِي الْيَدِ، وَفُلَانٌ يَدَّعِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي الْعَبْدُ فِي يَدِهِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ عَقِبَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ رَأَيْته فِي يَدِ غَيْرِك، وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لَهُ، مَا خَلَا الْعَبْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2207 وَالْأَمَةَ، فَإِذَا لَمْ تَدُلَّ الْيَدُ عَلَى الْمِلْكِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ إنَّا أَحْرَارٌ، وَصَارُوا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ: 4373 - وَلَا يُقْبَلُ فِي هَذَا إلَّا شَهَادَةُ الْعُدُولِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تُبْطِلُ حَقَّ الِاسْتِغْنَامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُقْبَلُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ إلَّا شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ. 4374 - وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ يُوجَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنًا أَوْ أَسِيرًا فَيَدَّعِي مِثْلَ مَا يَدَّعِي الْمُسْلِمُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْت لَك، مَا صَدَّقَ فِيهِ الْمُسْلِمَ صَدَّقَ فِيهِ الذِّمِّيَّ وَمَا لَا فَلَا. لِأَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ مَعْصُومٌ عَنْ الِاسْتِغْنَامِ كَمَالِ الْمُسْلِمِ، فَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ جَمِيعًا. 4375 - وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ امْرَأَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَتِي تَزَوَّجْتهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ يَثْبُتُ بِالتَّصَادُقِ، وَالْمَرْأَةُ فَيْءٌ صَدَّقَتْهُ عَلَى النِّكَاحِ أَوْ كَذَّبَتْهُ. لِأَنَّ تَزْوِيجَهُ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا عِيَانًا لَمْ يُخَلِّصْهَا مِنْ السَّبْيِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا أَوْلَى. قَالَ: وَلَا يَكُونُ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا أَمَانًا لَهَا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2208 لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَوْ أَفْصَحَ لَهَا بِالْأَمَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَمَانُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَذَا هَا هُنَا لَا تَصِيرُ بِالتَّزْوِيجِ آمِنَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى. 4376 - فَإِنْ كَانَ مَعَهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَوْلَادِي مِنْهَا وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا فَهُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ ذِمِّيًّا فَهُمْ ذِمِّيُّونَ بِذِمَّتِهِ. لِأَنَّ الْأَوْلَادَ فِي يَدِهَا فَلَمَّا صَدَّقَتْهُ عَلَى دَعْوَاهُ فَقَدْ صَارَتْ هِيَ وَالْأَوْلَادُ الَّذِينَ فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَإِذَا أَثْبَتَ الْيَدَ لِلزَّوْجِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ فَيَكُونُ حُرًّا، لِأَنَّهُ وَلَدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ حُرَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ حُرٌّ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ، وَالْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَهِيَ حُرَّةٌ إلَى أَنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، وَإِذَا وَلَدَتْ حُرَّةً كَانَ هَذَا الْوَلَدُ حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا تَبَعًا لِأَبِيهِ وَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ لَا يُسْتَرَقُّ. 4377 - وَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى فَهِيَ وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَصَابُوهَا. لِأَنَّ الْوَلَدَ مَا دَامَ فِي بَطْنِهَا فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَبَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهَا يُفْصَلُ عَنْهَا بِالْمِقْرَاضِ ثُمَّ هِيَ إذَا صَارَتْ فَيْئًا فَالْوَلَدُ الَّذِي هُوَ بَعْضُهَا يَصِيرُ فَيْئًا تَبَعًا لَهَا. فَإِذَا وُلِدَ فَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مُسْلِمًا كَانَ مُسْلِمًا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2209 لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي الرِّقَّ وَالسَّبْيَ فَيَكُونُ عَبْدًا لِمَنْ أَصَابَهُ. وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ ذِمِّيٌّ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَعْرُوفَةً أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ أَوْ وَجَدَهَا الْمُسْلِمُونَ أَمَةً وَمَعَهَا أَوْلَادُهَا صِغَارٌ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ: هِيَ امْرَأَتِي وَهَؤُلَاءِ وَلَدِي وَكَذَّبَتْهُمَا بِمَا قَالَا، وَقَالَتْ: هَؤُلَاءِ وَلَدِي وَلَسْت لِهَذَا الْمُدَّعِي بِزَوْجَةٍ وَلَا هَؤُلَاءِ أَوْلَادٌ لَهُ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ لِتَكْذِيبِهَا. 4378 - ثُمَّ الْقِيَاسُ أَنَّ الْأَوْلَادَ فَيْءٌ مَعَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْأَوْلَادُ أَوْلَادُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ وَالْمَرْأَةُ فَيْءٌ. فَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلَادَ فِي حِجْرِهَا وَفِي يَدِهَا وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهَا يَدٌ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ يَدٌ عَلَى الْأَوْلَادِ الَّذِينَ فِي يَدِهَا، فَقَدْ ادَّعَى الْأَوْلَادَ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ يَدٌ فَلَا يُصَدَّقُ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ عَرَفَ كَوْنَ الْمَرْأَةِ فِي يَدِهِ وَكَوْنَهَا فِي يَدِهِ يُوجِبُ كَوْنَ الْأَوْلَادِ فِي يَدِهِ. 4379 - وَإِذَا صَارُوا فِي يَدِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي حُرِّيَّةِ الْأَوْلَادِ وَالنَّسَبِ، فَكَانَ تَكْذِيبُهَا بِمَنْزِلَةِ تَصْدِيقِهَا إذْ أَمْرُ الْحُرِّيَّةِ أَوْسَعُ وَأَسْهَلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2210 أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ صَبِيٌّ صَغِيرٌ فَقَالَ هَذَا لَقِيطٌ الْتَقَطْته قُبِلَ قَوْلُهُ وَكَانَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ تَحْرِيرَهُ وَإِعْتَاقَهُ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِسَعَةِ أَمْرِ الْحُرِّيَّةِ. 4380 - وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ وَلَدُهُ مِنْهَا، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُسْلِمِ وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ. لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْيَدَ فِيهَا غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى الرِّقِّ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَنَّهَا أَمَتُهُ وَأَنْكَرَتْ هِيَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا أَنَّهَا حُرَّةٌ فَكَانَتْ فَيْئًا. 4381 - وَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَتْ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ فَالْأَوْلَادُ أَوْلَادُهُ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِحْسَانِ. لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ عُرِفَ لَهُ يَدٌ فِيهَا فَكَانَ يُثْبِتُ بِذَلِكَ يَدَهُ عَلَى الْأَوْلَادِ الَّذِينَ فِي يَدِهَا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهَا. 4382 - وَإِنْ صَدَّقَتْهُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْلِمِ وَلَا تَكُونُ فَيْئًا وَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ. لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى بَعْدَ ظُهُورِ يَدِهِ فِيهَا أَنَّهَا أَمَتُهُ وَصَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَمْ تَكُنْ فَيْئًا فَلَأَنْ يُصَدَّقَ عَلَى أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2211 4383 - فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ أَوْ لَا يَدْرِي أَكَانَتْ فِي يَدِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، فَقَالَ: هَذِهِ زَوْجَتِي أَوْ أُمُّ وَلَدِي وَهَذِهِ الْوَلَدُ الَّذِينَ فِي يَدِهَا وَلَدِي فَإِنْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ كَانُوا وَلَدَهُ، وَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ وَكَانُوا أَحْرَارًا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ الْأَوْلَادَ يَحْتَاجُونَ إلَى ثُبُوتِ نَسَبٍ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِتَصْدِيقِ ذِي الْيَدِ وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فَهُمْ ذِمِّيُّونَ أَوْ مُسْلِمُونَ فَلَا يُسْتَرَقُّونَ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ ادَّعَى النِّكَاحَ كَانَتْ فَيْئًا. لِأَنَّ النِّكَاحَ الظَّاهِرَ لَا يَمْنَعُ السَّبْيَ وَالِاسْتِرْقَاقَ فَهَا هُنَا أَوْلَى أَلَّا يَمْنَعَ. 4384 - وَإِنْ أَقَرَّتْ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِحْسَانِ. لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ تَثْبُتُ تَبَعًا لِلنَّسَبِ وَالنَّسَبُ قَدْ ثَبَتَ فَثَبَتَتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ تَبَعًا لَهُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تُسْبَى. وَإِنْ كَذَّبَتْهُ بِمَا قَالَ كَانَتْ الْمَرْأَةُ وَوَلَدُهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ ادَّعَى وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا وَفِي أَوْلَادِهَا يَدٌ ظَاهِرَةٌ وَذُو الْيَدِ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ كَمَا لَا تُقْبَلُ مَتَى وَقَعَتْ الدَّعْوَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. 4385 - إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ فَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2212 لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. 4386 - فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ ظَهَرَ عَلَيْهِ كَانَ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا عَرَفَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ سَوَاءٌ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَالْأَوْلَادُ ثَابِتُو النَّسَبِ مِنْهُ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ تَكُونُ فَيْئًا وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ وَهِيَ فَيْءٌ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ. لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ مَعَ الْإِنْكَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ: 4387 - وَإِذَا وُجِدَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ الَّذِي وَصَفْت لَك رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَقَالَ: هَذَا عَبْدِي أَوْ أَمَتِي جِئْت بِهِمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَصَدَّقْته بِذَلِكَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ، فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتهمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَصَدَّقُوهُ فِي ذَلِكَ صُدِّقَ فَلَأَنْ يُصَدَّقَ هَا هُنَا أَوْلَى. وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّهُ يُسَاوِي الْمُسْلِمَ فِي عِصْمَةِ مَالِهِ فَكَذَلِكَ يُسَاوِيهِ فِي حُكْمِهِ. 4388 - فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَتِي جِئْت بِهَا مَعِي مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهَا. لِأَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ جَائِزٌ بِأَرْبَعٍ، بِالْمَرْأَةِ وَالْأَبِ وَالِابْنِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ، فَعَمِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2213 إقْرَارَهُ بِأَنَّهَا امْرَأَتِي وَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا وَإِذَا ثَبَتَ النِّكَاحُ بَقِيَتْ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ضِمْنًا تَبَعًا لَهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ. 4389 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ فَقَالَ: هَذِهِ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي أَوْ أُمِّي أَوْ عَمَّتِي أَوْ ذَاتُ رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنِّي، وَصَدَّقَتْهُ بِذَلِكَ، فَهِيَ حُرَّةٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا أَمَّا إذَا قَالَ: هَذِهِ ابْنَتِي فَلِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ يَثْبُتُ فَصَارَتْ كَالِابْنَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَأَمَّا فِي ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ فَالْقَرَابَةُ الَّتِي تُدَّعَى لَا تَثْبُتُ لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دَارِ الْحَرْبِ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِنَّ. لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ اسْتَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَخَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: هَذِهِ أَخَوَاتِي وَعَمَّاتِي وَخَالَاتِي قُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِنَّ، وَصِرْنَ آمِنَاتٍ تَبَعًا لَهُ، لِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُنَّ لَا يَخْرُجْنَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِمَحْرَمٍ. 4390 - وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ فِيهِنَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيُجْعَلْنَ تَبَعًا لَهُ فِي الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُنَّ لَا يَخْرُجْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ. 4391 - فَإِذَا كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا رَجُلٌ كَبِيرٌ فَقَالَ: هَذَا ابْنِي أَوْ شَيْخٌ، فَقَالَ: هَذَا أَبِي فَصَدَّقَهُ الرَّجُلُ بِذَلِكَ فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ وَالْبُنُوَّةَ تَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا لِمَا قُلْنَا: إنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ بِالِابْنِ وَالْأَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2214 جَائِزٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ تَبَعًا لَهُ فَلَا يُسْتَرَقُّ لِمَا مَرَّ. 4392 - فَإِنْ قَالَ: هَذَا أَخِي أَوْ عَمِّي أَوْ خَالِي أَوْ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَ مَعِي، أَوْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَةٌ فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَخَلَتْ مَعِي فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا صُدِّقَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، إذَا صَدَّقَهُ بِذَلِكَ الَّذِي مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي يَقُولُ: هَذَا لِلْمُسْلِمِينَ ذِمِّيًّا لَمْ يُصَدَّقْ. لِأَنَّ الذِّمِّيَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَوْ خَرَجَ بِرِجَالٍ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ إخْوَانِي وَأَعْمَامِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَكُونُوا تَبَعًا لَهُ فِي الْأَمَانِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُ الذِّمِّيِّ لَا يُقْبَلُ فِيهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَكُونُونَ تَبَعًا لَهُ. 4393 - وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَلَا شَهَادَةَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ فِي أُمُورِ دِينِنَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُسْلِمِ: إنَّهُ عَمِّي، أَوْ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَ مَعِي شَهَادَةً مِنْهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي أُمُورِ الدِّينِ مَقْبُولٌ. 4394 - فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي مَعَ الذِّمِّيِّ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَعَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِ وَهَيْئَتِهِ صُدِّقَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَكُنْ فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2215 لِأَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الرَّجُلِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ إذَا كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ، وَوَقَعَ فِي الْقَلْبِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَإِذَا كَانَ مَعَ السِّيمَاءِ قَوْلُ الذِّمِّيِّ أَوْلَى أَنْ يُصَدَّقَ. 4395 - وَإِنْ كَانَ الَّذِي مَعَ الذِّمِّيِّ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَلَكِنْ ادَّعَى أَنَّهُ ذِمَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَصَدَّقَهُ الذِّمِّيُّ بِمَا قَالَ لَمْ يُصَدَّقْ الذِّمِّيُّ. لِمَا قُلْنَا: إنَّ قَوْلَ الذِّمِّيِّ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لَا يُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا. 4396 - إلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ زِيٌّ وَلِبَاسٌ غَيْرُ زِيِّ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلِبَاسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِهِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ وَالظَّنِّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ خَلَّى سَبِيلَهُ وَلَمْ يُجْعَلْ فَيْئًا. لِمَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. 4397 - وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إذَا كَانَ عَدْلًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِيهَا. لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَقَوْلُ الْعَبْدِ فِيهِ مَقْبُولٌ كَمَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَفِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ. 4398 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا عَدْلًا شَهِدَ لِبَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ، وَادَّعَى الْحَرْبِيُّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ، صُدِّقَ الْمُسْلِمُ عَلَى ذَلِكَ، وَخَلَّى سَبِيلَ الْأَسِيرِ إذَا لَمْ يَجْرِ فِيهِ قِسْمَةٌ وَلَا بَيْعٌ، فَأَمَّا إذَا جَرَى فِيهِ قِسْمَةٌ أَوْ بَيْعٌ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2216 لِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ هِيَ شَهَادَةٌ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمُسْلِمِ فَلَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ. قَالَ: 4399 - وَكُلُّ شَيْءٍ صُدِّقَ فِيهِ الْمُسْلِمُ الْمَعْرُوفُ أَوْ الذِّمِّيُّ الْمَعْرُوفُ فَالرَّجُلُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، يُصَدَّقُ فِيهِ؛ يَعْنِي فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالرَّقِيقِ. لِأَنَّهُ إذَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِالسِّيمَاءِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ الْمَعْرُوفِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ سَبْيٌ كَالْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا يُجْعَلُ كَالْمُسْلِمِ الْمَعْرُوفِ، وَكُلُّ شَيْءٍ صُدِّقَ فِيهِ الذِّمِّيُّ الْمَعْرُوفُ فَالْمُسْلِمُ الْمَعْرُوفُ مُصَدَّقٌ فِيهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ الْعَدْلَ لَا يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِعَدْلٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الذِّمِّيَّ الْعَدْلَ لَوْ أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْفَاسِقِ ثُمَّ لِمَا صُدِّقَ فِيهِ الذِّمِّيُّ الْعَدْلُ فَلَأَنْ يُصَدَّقَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَيْسَ بِعَدْلٍ أَوْلَى. 4400 - وَكُلُّ شَيْءٍ مِمَّا وَصَفْت لَك لَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُسْلِمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، حَتَّى لَوْ شَهِدَ الْفَاسِقُ أَنَّ هَذَا الْحَرْبِيَّ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ لَمْ يُصَدَّقْ فِيهِ، فَالذِّمِّيُّ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ. لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْفَاسِقَ أَعْلَى حَالًا مِنْ الذِّمِّيِّ الْعَدْلِ، فَلَمَّا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ فَلَأَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الذِّمِّيِّ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2217 وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ كَانَ أَسِيرًا فِيهِمْ أَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْحُصُونِ، وَفِي يَدِهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ بَنِيَّ وَبَنَاتِي وَعَمَّاتِي وَخَالَاتِي، وَقَالَ: إنِّي وَجَدْتهمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُسْلِمُوا فَهُمْ فَيْءٌ، وَلَا يَكُونُ ضَمُّهُ إيَّاهُمْ إلَيْهِ أَمَانًا لَهُمْ. لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِتَبَعٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَصِيرُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ، فَبَقُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ لَا أَمَانَ لَهُمْ وَلَوْ ثَبَتَ لَهُمْ الْأَمَانُ ثَبَتَ بِالضَّمِّ إلَى نَفْسِهِ وَلَوْ صَرَّحَ لَهُمْ بِالْأَمَانِ لَا يَجُوزُ أَمَانُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَالضَّمُّ إلَى نَفْسِهِ أَوْلَى أَلَّا يُوجِبَ لَهُمْ أَمَانًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. 4401 - فَأَمَّا وَلَدُهُ الصَّغِيرُ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ مُسْلِمٌ مِثْلُهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ سَبْيٌ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ ذِمِّيٌّ مِثْلُهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ سَبْيٌ. لِأَنَّهُ بِالضَّمِّ إلَى نَفْسِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ، وَبِالتَّبَعِيَّةِ ثَبَتَ الْإِسْلَامُ، وَالذِّمَّةُ فَلَا يُسْبَوْنَ، فَإِنْ قَالَ الْمُسْلِمُ: وَجَدْتهمْ أُسَرَاءَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ عَدْلًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَهُوَ مُصَدَّقٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ ذِمِّيًّا عَدْلًا لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: جِئْت بِهِمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ، سَوَاءٌ كَانَ فَاسِقًا أَوْ ذِمِّيًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2218 وَالْفَرْقُ) بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَجَدْتهمْ أُسَرَاءَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ جَعَلُوهُمْ تَبَعًا لِأَنْفُسِهِمْ عَبِيدًا، وَهَذَا مِنْهُ شَهَادَةٌ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُمْ كَانُوا حَرْبِيِّينَ وَأَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرُوا، وَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَتُقْبَلُ، إذَا كَانَ عَدْلًا، وَلَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِيمَا إذَا قَالَ: جِئْت بِهِمْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيُصَدَّقُ فِيهِ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا، لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا، وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَلَا يَكُونُونَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ صَارَ فِي يَدِهِ تَبَعًا فَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ، أَوْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُونَ أَحْرَارًا بِحُكْمِ السِّيمَاءِ، لَا بِقَوْلِ الْفَاسِقِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ. 4402 - وَلَوْ أَخَذَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ سِيمَاءُ يُعْرَفُونَ بِهَا مِنْ لِبَاسٍ وَلَا خِضَابٍ وَلَا قِرَاءَةِ قُرْآنٍ فَشَهِدَ لَهُمْ بِمَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ، أَوْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ قَوْمٌ مُسْتَأْمَنُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُقْبَلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَكَانُوا فَيْئًا. لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ. 4403 - فَإِنْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ مَشْهُودٌ مَعْرُوفٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ الْعَوَامُّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ حَقٌّ فَالْقَوْمُ أَحْرَارٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2219 لِأَنَّ الْإِشْهَادَ بِخَبَرِ الْعَوَامّ يُوجِبُ مِنْ الْعِلْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تُوجِبُهُ السِّيمَاءُ وَالْعَلَامَةُ. لِأَنَّ الْعَوَامَّ مِنْهُمْ لَا يَتَوَاطَئُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَالسِّيمَاءُ قَدْ تَخْتَلِفُ، ثُمَّ بِالسِّيمَاءِ يَحْكُمُ بِكَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ فَبِالشُّهْرَةِ أَوْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْلِمًا غَرِيبًا لَوْ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مُسْلِمِينَ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ لَمْ يَسَعْ لِأَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَسَبِهِ بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ مَعَارِفُهُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ أَهْلَ مَحَلَّتِهِ حَتَّى صَارَ مَعْرُوفًا مَشْهُورًا وَوَقَعَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ صَادِقٌ وَسِعَ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى نَسَبِهِ لِاشْتِهَارٍ وَقَعَ بِخَبَرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ إذَا اُشْتُهِرَ بِقَوْلِهِمْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ. 4404 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَسَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ سِيمَاءُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَادَّعَوْا أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، أَوْ أَهْلُ ذِمَّةٍ، فَلَمْ يُصَدَّقُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَدَّعُوا ذَلِكَ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ الْإِمَامُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَقْسِمْهُمْ وَلَمْ يَبِعْهُمْ حَتَّى شَهِدَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَدْلٌ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، أَوْ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ صُدِّقَ بِشَهَادَتِهِ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَشَهَادَتُهُ بِذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ. لِأَنَّ نَفْسَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجْعَلُهُ مِلْكًا لِرَجُلٍ خَاصٍّ فَلَمْ يَتَأَكَّدْ ذَلِكَ الْحَقُّ الثَّابِتُ الْعَامُّ، فَالشَّهَادَةُ وَقَعَتْ عَلَى إسْلَامِهِ وَالْحَقُّ فِيهِ لِلْجَمَاعَةِ، فَتُقْبَلُ كَمَا تُقْبَلُ إذَا وَقَعَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2220 4405 - فَإِنْ بَاعَهُمْ أَوْ قَسَمَهُمْ ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَهِدَ لِبَعْضِهِمْ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا خَاصًّا لِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَلَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ. 4406 - وَإِذَا شَهِدُوا بَعْدَ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْقِسْمَةُ. لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ وَالْقِسْمَةَ جَرَى فِيهِ وَهُوَ حُرٌّ فَكَانَ بَاطِلًا. 4407 - فَإِنْ تَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ عُوِّضَ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَعُوِّضَ الْمُشْتَرِي مِثْلَ الثَّمَنِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ وَلَا يُقْبَلُ فِي هَذَا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَقَعَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ بِالثَّمَنِ. 4408 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَادَّعَى أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ آمَنَهُ وَهُوَ فِي الْحِصْنِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَسُئِلَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُ عَمَّا ادَّعَى مِنْ الْأَمَانِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ آمَنَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ غَيْرُ الَّذِي آمَنَهُ عَلَى الْأَمَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2221 لِأَنَّ الَّذِي آمَنَهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي عَقَدَهُ، فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ وَيَبْقَى بَعْدَ مُجَرَّدِ دَعْوَى الْحَرْبِيِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يُصَدَّقُ. 4409 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ وَيُخَلَّى سَبِيلُهُ، وَهَا هُنَا إذَا شَهِدَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ غَيْرُ الَّذِي آمَنَهُ عَلَى الْأَمَانِ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمَانَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ وَإِنْ أُومِنَ فَهُوَ حَرْبِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، إلَّا أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَارِضٌ يَمْنَعُ حُكْمَ هَذَا السَّبَبِ وَيُبْطِلُهُ فَلَا يُبْطِلُ حُكْمَ السَّبَبِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَلَمَّا ادَّعَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَقَدْ أَنْكَرَ سَبَبَ قِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ وَكَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَشَهَادَةُ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ شَهَادَةٌ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ. 4410 - فَإِنْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَهُمْ عَبِيدٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ وَهُمْ عُدُولٌ غَيْرُ فُسَّاقٍ أُمْضِيَتْ شَهَادَتُهُمْ. لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ الْكَثِيرَةَ لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِمْ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ لَفَشَا سِرُّهُمْ، فَقَوْلُ الْجَمَاعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ فَيُحْكَمُ بِهِ كَمَا يُحْكَمُ بِالسِّيمَاءِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ. 4411 - فَإِذَا قُسِمَ أَوْ بِيعَ فَإِذَا وَجَبَ فِيهِ مِلْكٌ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ مُسْلِمِينَ عَدْلَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2222 لِمَا مَرَّ. 4412 - وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا سِيمَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ ذِمِّيٌّ، وَشَهِدَ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ، أَنَّهُ مُسْلِمٌ كَانَ الرَّجُلُ الْمَأْخُوذُ فَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا ذِمِّيًّا. لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْمَأْخُوذُ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ الشَّاهِدُ، وَاَلَّذِي شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ فَقَدْ كَذَّبَهُ فِيهِ الْمَأْخُوذُ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَا الْإِسْلَامُ وَلَا الذِّمَّةُ فَبَقِيَ حَرْبِيًّا يُسْتَرَقُّ. 4413 - وَلَوْ شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمُ الْعَدْلُ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ، وَقَالَ الْمَأْخُوذُ: أَنَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَلَسْت كَمَا قَالَ الشَّاهِدُ، فَالْقِيَاسُ فِي هَذَا أَنَّهُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ أَجْعَلُهُ مُسْلِمًا وَلَا أَسْبِيهِ. فَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ، فَمَا ادَّعَاهُ الْمَأْخُوذُ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الشَّاهِدُ، فَلَمْ يَثْبُتْ وَمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ الشَّاهِدُ لَمْ يَدَّعِهِ الْمَأْخُوذُ، فَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَيَكُونُ فَيْئًا دَلِيلُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الذِّمِّيَّ قَدْ يُسْلِمُ بَعْدَ الذِّمَّةِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ كَانَ ذِمِّيًّا كَمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ، ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْحَالِ، فَلَمَّا كَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا يُوَفِّقُ، فَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي التَّوْفِيقُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ ذِمَّةً فَاعْتُبِرَ التَّكَاذُبُ فِي السَّبَبِ، وَلِأَنَّ فِي الْإِسْلَامِ ذِمَّةً وَزِيَادَةً لِأَنَّ الذِّمَّةَ هِيَ الْعَهْدُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَخْفَرَ ذِمَّةَ مُسْلِمٍ كَانَ عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا» غَيْرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْلَى الذِّمَّتَيْنِ، فَإِنَّ شَاهِدَهُ قَدْ شَهِدَ بِبَعْضِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي. وَالشَّاهِدُ إذَا شَهِدَ بِبَعْضِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2223 شَهَادَتُهُ، بِمِقْدَارِ مَا شَهِدَ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِ الذِّمَّةُ، فَبَعْدَ ذَلِكَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الذِّمَّةِ، إذْ الذِّمِّيُّ قَدْ يُسْلِمُ بَعْدَ الذِّمَّةِ، فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اسْتِحْسَانًا. 4414 - وَلَوْ قَالَ: أَنَا ذِمِّيٌّ، وَلَسْت بِمُسْلِمٍ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ جَعَلْته مُسْلِمًا. لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَجُحُودُهُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْإِسْلَامُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ رِدَّةٌ مِنْهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَيُقَاسُ بِسَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ قُتِلَ. قَالَ: 4415 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُخِذَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُ بَقَرٌ وَغَنَمٌ وَرَمَكٌ يَسُوقُهَا قَوْمٌ، فَقَالَ: هَذَا كُلُّهُ لِي، وَهَؤُلَاءِ أُجَرَائِي قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَخَلُوا مَعِي مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ هَذِهِ السَّائِمَةَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، وَالْقَوْمُ لَمَّا صَدَّقُوهُ فَقَدْ أَقَرُّوا أَنَّهُمْ فِي يَدِ هَذَا الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ السَّائِمَةِ فِي يَدِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَأْمَنَ إذَا ادَّعَى أَنَّ مَا فِي يَدِهِ لَهُ صُدِّقَ فِي ذَلِكَ. 4416 - وَإِنْ كَذَّبَهُ الَّذِينَ ذَلِكَ فِي أَيْدِيهِمْ فَقَالُوا: نَحْنُ ذِمَّةٌ كَمَا قَالَ وَجَمِيعُ مَا فِي أَيْدِينَا لَنَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَهُمْ ذِمَّةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2224 وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِالذِّمَّةِ، فَتَثْبُتُ الذِّمَّةُ بِشَهَادَتِهِ وَإِنْ أُثْبِتَتْ الذِّمَّةُ وَقَدْ أَنْكَرُوا الْإِجَازَةَ لَمْ يَصِرْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ السَّائِمَةِ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ السَّائِمَةُ لَهُمْ. 4417 - وَلَوْ قَالَ الْمُسْلِمُ الْمَعْرُوفُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسُوقُونَ السَّائِمَةَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ اسْتَأْجَرْتهمْ لِيَسُوقُوهَا وَهِيَ كُلُّهَا لِي وَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ الَّذِينَ مَعَهُمْ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ ذَلِكَ فِي يَدِهِ إلَّا بِقَوْلِهِمْ فَجَمِيعُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَيْءٌ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأُجَرَاءَ لَا يَصِيرُونَ آمَنِينَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ وَلَوْ صُرِّحَ لَهُمْ بِالْأَمَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَبِعَقْدِ الْإِجَارَةِ أَوْلَى، لَا يَثْبُتُ لَهُمْ الْأَمَانُ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ الْأَمَانُ صَارُوا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَالسَّائِمَةُ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ تَصِيرُ فَيْئًا مَعَهُمْ. 4418 - فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَدَيْهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَهُوَ لَهُ. لِأَنَّهُ إذَا عَرَفَ ذَلِكَ كَانَتْ يَدُهُمْ يَدَ هَذَا الْمُسْلِمِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ فِي يَدِ هَذَا الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَغْنَمُ مَا فِي يَدِهِ أَيْضًا. 4419 - وَاَلَّذِينَ يَسُوقُونَ ذَلِكَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ أُجَرَاءُ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2225 لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَتَضَمَّنُ لَهُمْ الْأَمَانَ، وَالْأَمَانُ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَخْرَجَهُمْ الْمُسْلِمُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ صَارُوا آمِنِينَ. لِأَنَّ صَرِيحَ الْأَمَانِ يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2226 [بَابُ الدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ] 210 - بَابُ الدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ [لَمْ يُذْكَرْ هَذَا الْبَابُ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ] قَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: 4420 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بَلَغَهُمْ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يَدْرُوا كَيْفَ هُوَ فَغَزَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَدُعُوا إلَى أَنْ يُسْلِمُوا فَأَبَى الْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ حَتَّى قَاتَلَهُمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ، فَإِذْ أَسْلَمُوا خَلَّى سَبِيلَهُمْ وَسَلَّمَ لَهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ وَأَرَاضِيَهُمْ. لِأَنَّ الْقِتَالَ شُرِعَ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ، عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَهَؤُلَاءِ لَمَّا سَأَلُوهُ الْإِسْلَامَ فَقَدْ رَغِبُوا فِيهِ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَصِفَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ قَبْلَ الْمُقَاتَلَةِ حَتَّى يُسْلِمُوا فَإِذَا قَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَصِفْ لَهُمْ الْإِسْلَامَ فَقَدْ أَخْطَأَ فِيهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ خَطَئِهِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَسْلَمُوا صَارُوا كَأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ فَبَقُوا أَحْرَارًا كَمَا كَانُوا. 4421 - وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوا جُعِلُوا ذِمَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2227 لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ آمِنِينَ، لِأَنَّ قِتَالَهُمْ حَرَامٌ عَلَى الْإِمَامِ، لَمَّا دُعُوا إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا يُجْعَلُونَ فَيْئًا وَلَكِنْ يُجْعَلُونَ ذِمَّةً. 4422 - فَإِنْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ فَسَبَاهُمْ وَخَمَّسَهُمْ وَقَسَمَهُمْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ خَطَئِهِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ. لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ أَخْطَأَ حَيْثُ سَبَاهُمْ وَهُمْ رَاغِبُونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْخَطَأُ لَا يُسْتَدَامُ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَنْهُ. 4423 - فَإِنْ أَسْلَمُوا خَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَأَبْطَلَ الْقِسْمَةَ فِيهِمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ جَازَتْ قِسْمَتُهُمْ، وَلَا يَجْعَلُهُمْ ذِمَّةً بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَمَانَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ صَرِيحًا، لِيَمْنَعَهُمْ الْأَمَانُ مِنْ الْقِسْمَةِ، إنَّمَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ حُكْمًا بِطَلَبِهِمْ الْإِسْلَامَ، وَلَمَّا أَبَوْا الْإِسْلَامَ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ طَلَبَهُمْ لَمْ يَكُنْ طَلَبَ رَغْبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ طَلَبُهُمْ دَفْعَ الْقِتَالِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَنَزَلُوا مَنْزِلَةَ قَوْمٍ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ، غَزَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَطْلُبُوا مِنَّا الْإِسْلَامَ، فَيَعْرِضُ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَإِنْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ جُعِلُوا ذِمَّةً، فَإِنْ قَسَمَهُمْ الْإِمَامُ جَازَتْ قِسْمَةُ الْإِمَامِ، لَمَّا أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ لَيْسَ لَهُمْ صَرِيحُ الْأَمَانِ فَنَفَذَ حُكْمُ الْإِمَامِ لِلِاجْتِهَادِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4424 - فَإِنْ جَهِلَ الْإِمَامُ فَقَتَلَ مُقَاتَلَتَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2228 لِأَنَّ قَتْلَهُمْ وَهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ لَا أَمَانَ لَهُمْ، فَلَا يَكُونُ فِي قَتْلِهِمْ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرَادَ الْإِمَامُ قَتْلَهُمْ فَقَالُوا: نَحْنُ نُسْلِمُ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ، حَتَّى يَعْرِضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ، فَإِنْ قَتَلَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي قَتْلِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. 4425 - وَلَوْ قَتَلَهُمْ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا فَإِنْ كَانَ قَتَلَهُمْ بَعْدَ مَا أَخْرَجَهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ضَمِنَ قِيمَتَهُمْ، فَيَكُونُونَ فَيْئًا لِمَنْ أَصَابَهُمْ. لِأَنَّهُ يَقُومُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ. لِأَنَّهُ قَتَلَ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ جُزَافًا. 4426 - فَإِنْ قَتَلَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ قَتْلِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُوجَدْ. 4427 - وَلَوْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَاصَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ دَعَوْا إلَى الْإِسْلَامِ فَأَجَابَهُمْ الْإِمَامُ إلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: أَنْظِرُونَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ أَنْظَرَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُنْظِرْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2229 لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَوْ اسْتَنْظَرَ الْإِمَامَ أَنْظَرَهُ الْإِمَامُ إنْ شَاءَ فَهَا هُنَا أَوْلَى. 4428 - فَإِنْ لَمْ يُنْظِرْهُمْ حَتَّى قَاتَلَهُمْ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ وَسَبَاهُمْ وَخَمْسهمْ وَقَسَمَهُمْ فَذَلِكَ لَهُ جَائِزٌ. لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا أَجَابَهُمْ إلَى أَنْ يَصِفَ لَهُمْ الْإِيمَانَ فَقَدْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا اُسْتُمْهِلُوا بَعْدَ إجَابَةِ الْإِمَامِ لَهُمْ بِالتَّفْرِيطِ جَاءَ مَنْ قِبَلَهُمْ، فَلَا يَمْنَعُ الْإِمَامُ تَفْرِيطَهُمْ مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ، فَجَازَ لِلْإِمَامِ قِتَالُهُمْ فَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ جَازَ لَهُمْ قِسْمَتُهُمْ. لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي أَيْدِينَا وَقِتَالُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ حَلَالٌ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُكْمُ الْأَمَانِ فَحَلَّ لَهُ الْقِسْمَةُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَّا مَا بِهِ حَقْنُ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِمْهَالٍ فَإِذَا لَمْ يُجِبْهُمْ الْإِمَامُ إلَى ذَلِكَ فَالنَّقْصُ جَاءَ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ، فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَرْجِعَ عَمَّا قَضَى وَيَرُدَّهُمْ أَحْرَارًا إنْ أَسْلَمُوا وَإِلَّا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً. 4429 - فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ قَدْ عُرِضَ ذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَعَرَفُوا إلَى مَا يَدْعُونَ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَحَاصَرُوهُمْ قَالُوا لَهُمْ: نَحْنُ نُسْلِمُ فَاعْرِضُوا عَلَيْنَا الْإِسْلَامَ حَتَّى نُجِيبَكُمْ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يُسْلِمُونَ فَيَكْفِيهِ مُؤْنَةُ الْقِتَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2230 فَإِنْ أَبَى الْمُسْلِمُونَ وَأَمِيرُهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَقَاتَلُوهُمْ وَأَسَرُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا فَهَذَا جَائِزٌ لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ قَدْ عَرَّفُوا الْإِمَامَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا فِي الْحَالِ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَيْهِمْ. - فَإِذَا لَمْ يُسْلِمُوا فَالتَّقْصِيرُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِمْ، فَلَمْ يُحَرَّمْ قَتْلُهُمْ وَسَبْيُهُمْ، لِتَقْصِيرٍ مِنْ جِهَتِهِمْ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْإِسْلَامَ مِنْ قَبْلُ، [وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا مِنْ غَيْرِ عَرْضٍ] فَالتَّقْصِيرُ وُجِدَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلِهَذَا حُرِّمَ قَتْلُهُمْ وَسَبْيُهُمْ. 4432 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي قَاصِيَةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْإِسْلَامُ، وَلَمْ يُدْعَوْا إلَيْهِ أَتَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَسَعْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ. لِمَا رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ لَهُمْ: إذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا أَوْ مَدِينَةً فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ لِمَاذَا يُقَاتَلُونَ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ رُبَّمَا يَنْقَادُونَ لِلْإِسْلَامِ، وَلَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْقِتَالِ. 4433 - فَإِنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2231 لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ الدُّعَاءُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَسْلَمُوا خَلَّى سَبِيلَهُمْ. لِأَنَّهُمْ غَيْرُ رَاغِبِينَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَصَارُوا كَأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا، فَيَجِبُ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ وَرَدُّ أَمْوَالِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ. 4434 - فَإِنْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ، وَلَمْ يَرُدَّهُمْ حَرْبًا بَعْدَ مَا ظَفِرَ بِهِمْ. لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْإِمَامَ قَاتَلَهُمْ، وَالْقِتَالُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، فَصَارُوا فِي عِصْمَةٍ وَأَمَانٍ فَلَا يُغْنَمُونَ. 4435 - فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ قِسْمَتَهُمْ أَوْ قَتْلَ مُقَاتِلَتِهِمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ. ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ يَرَى مَا صَنَعَ بَاطِلًا أَجَازَ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْإِمَامَ حَكَمَ فِيهِمْ بِالْقِسْمَةِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ وَكَوْنُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ سَبَبٌ يَحِلُّ لِحِلِّ قِتَالِهِمْ وَسَبْيِهِمْ إلَّا بِعَارِضٍ، وَذَلِكَ الْعَارِضُ هُوَ الِاسْتِخْبَارُ وَالِاسْتِفْهَامُ، وَهَذَا الْعَارِضُ مَعْدُومٌ، فَقَدْ اُسْتُحِلَّ قِتَالُهُمْ، وَسَبَبُ الِاسْتِحْلَالِ قَائِمٌ، فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ فَلَا يُنْقَضُ بَعْدَ ذَلِكَ. 4436 - ثُمَّ لَا يَجِبُ ضَمَانُ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَضْمَنُ دِيَاتِ الْقَتْلَى قَبْلَ الدَّعْوَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2232 لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَيَضْمَنُ الدِّيَةَ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ: بِأَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا دِينًا بَاطِلًا، وَاعْتِقَادُ الدِّينِ الْبَاطِلِ كُفْرٌ، فَكَانَ كَافِرًا فَلَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ، ثُمَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِثْلُ دِيَةِ الْكِتَابِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ مِثْلُ دِيَةِ الْمَجُوسِ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ الدِّيَاتِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَصَارَ الْحَرْبِيُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ صِنْفٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ، وَلَمْ يُسْلِمُوا؛ أَيْ لَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى يُجِيبُوا، فَهَؤُلَاءِ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ الدَّعْوَةَ فَإِنْ قَتَلَهُمْ وَسَبَاهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ وَرَأَى ذَلِكَ صَوَابًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُرَدُّ، وَإِنْ أَسْلَمُوا، وَقَوْمٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ، أَوْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا تَفْسِيرُهُ، فَسَأَلُوا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخْبِرُوهُمْ بِدِينِهِمْ فَيُتَابِعُوهُمْ عَلَيْهِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَيَأْسِرَهُمْ حَتَّى يُفْهِمَهُمْ، فَإِنْ أَسَرَهُمْ ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمُوا فَإِنَّهُ يَرُدُّ تِلْكَ الْقِسْمَةَ، وَقَوْمٌ قَدْ دُعُوا إلَى الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَعَلِمُوا مَا يُدْعَوْنَ إلَيْهِ، فَسَأَلُوا الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُجِيبُوهُمْ، فَالْأَفْضَلُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْعُوهُمْ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى قَاتَلُوهُمْ وَأَسَرُوهُمْ جَازَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُرَدُّونَ أَحْرَارًا بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ جِهَتِهِمْ وَإِنْ أَسْلَمُوا. 4437 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْإِسْلَامُ وَلَا الدَّعْوَةُ أَتَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ يُقَاتِلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَسَبَوْا وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَهَذَا جَائِزٌ يُخَمَّسُ ذَلِكَ وَيُقْسَمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2233 لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ شَهَرَ سَيْفًا عَلَى مُسْلِمٍ حَلَّ لِلْمَشْهُورِ عَلَيْهِ سَيْفُهُ قَتْلُهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، فَهَا هُنَا أَوْلَى، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ اشْتَغَلُوا بِالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ فَرُبَّمَا يَأْتِي السَّبْيُ وَالْقَتْلُ عَلَى حَرَمِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَلَا يَجِبُ الدُّعَاءُ. 4438 - بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا يَغْزُونَ فِي بِلَادِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَدْعُوهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ دَفْعًا وَإِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ. وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّهُمْ قَدْ سَمِعُوا بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَظَفِرُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَسْلَمُوا خَلَّى سَبِيلَهُمْ. لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي أَيْدِينَا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا مُحَارَبَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إبَاءُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا. 4439 - فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوا حُبِسُوا فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا وَلَا يُقْتَلُونَ. لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ بِأَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ» . وَلَا وَجْهَ إلَى أَنْ يُقْتَلُوا؛ لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي أَيْدِينَا لَا عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ إلَّا الْحَبْسُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2234 فَإِنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ لَمْ يَجْرِ عَلَى ذَرَارِيِّهِمْ سَبْيٌ وَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ مَوَارِيثَ لِوَرَثَتِهِمْ. لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَأَمْوَالُ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَذَرَارِيُّهُمْ لَا تُسْتَغْنَمُ. 4441 - فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ حِينَ أَبَوْا الْإِسْلَامَ أَنْ يَقْتُلَ الْمُقَاتِلَةَ وَيَسْبِيَ الذُّرِّيَّةَ وَيَقْسِمَ الْأَرَضِينَ وَالْأَمْوَالَ فَفَعَلَ جَازَ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ وَلَا أَمَانَ لَهُمْ قَصْدًا، فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ اجْتِهَادٍ فِي قَتْلِ مُقَاتِلَتِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ جَازَ. 4442 - وَكَذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ لَحِقُوا بِنِسَاءٍ مُرْتَدَّاتٍ فَوُلِدَ لَهُمْ أَوْلَادٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمُرْتَدُّونَ وَبَقِيَ أَوْلَادُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، لَا يَعْرِفُونَ الْإِسْلَامَ، لَمْ يَسَعْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ إبَاءُ الْإِسْلَامِ. 4443 - فَإِنْ قَاتَلُوهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمُوا سُلِّمَتْ لَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ. لِأَنَّهُمْ غَيْرُ رَاغِبِينَ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَصَارُوا كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ السَّبْيِ وَالْأَخْذِ. 4444 - فَإِنْ أَبَوْا حُبِسُوا لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِجَعْلِهِمْ ذِمَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2235 لِأَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ وَالْمُرْتَدُّ لَا يُضْرَبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ. وَلَا يُقْتَلُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا الْإِسْلَامَ بِأَنْفُسِهِمْ. فَلَا يُقْتَلُونَ عَلَى رِدَّتِهِمْ. 4445 - وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَهُمْ وَسَبْيَ ذَرَارِيِّهِمْ وَقِسْمَةَ مَا لَهُمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ جَازَ. لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا قُلْنَا: إنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ وَلَا أَمَانَ لَهُمْ صَرِيحًا. 4446 - وَكَذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ دَعَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا إلَيْهِ. فَقَاتَلُوهُمْ وَحَصَرُوهُمْ، فَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا، فَنَزَلُوا، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْرِضُونَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوا أُجْبِرُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَحُبِسُوا حَتَّى يُسْلِمُوا. لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْقَتْلِ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَلَى أَمَانٍ وَلَا وَجْهَ لِضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِمْ إلَى حِصْنِهِمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُتْرَكُوا لِيَعُودُوا إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَكُونُوا حَرْبًا لَنَا فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ إلَّا الْحَبْسُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2236 فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَرِثَ مَالَهُ وَرَثَتُهُ. لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُسْتَأْمَنِينَ. 4447 - وَإِنْ رَأَى إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْجِزْيَةَ جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا خَطَأً. لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَدْخَلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} [التوبة: 29] إلَى أَنْ قَالَ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَلَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ وَلِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَهْلُ دِينٍ وَاحِدٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ وَنِحَلُهُمْ. 4448 - وَكَذَلِكَ أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ إنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً جَازَ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ. 4449 - وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ رَأَى سَبْيَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَخَمَّسَهُمْ وَقَسَمَهُمْ جَازَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِوَالٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَ مَا وَضَعَ. لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ، وَلِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنْ يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. 4450 - وَكَذَلِكَ إنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَخْمِسهُمْ وَيَقْسِمَهُمْ فَفَعَلَ جَازَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ لِوَالٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَهُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا مِمَّا يَسَعُ فِيهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2237 [بَابٌ مَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُ وَبِمَنْ يَبْدَءُونَ] 211 - بَابٌ مَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُ وَبِمَنْ يَبْدَءُونَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: 4451 - إذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَرْضَ الْحَرْبِ فَأُخْبِرُوا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَتَوْا بَعْضَ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بَعْضَ ثُغُورِهِمْ، فَإِنْ خَافَ الْعَسْكَرُ عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ أَلَّا يُطِيقُوا الْعَدُوَّ الَّذِي أَتَاهُمْ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْفِرُوا إلَيْهِمْ وَيَدْعُوا غَزْوَهُمْ. لِأَنَّهُمْ إذَا خَافُوا عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ فَإِنَّهُ يُفْرَضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْفِرَ إلَيْهِمْ وَيَنْصُرَهُمْ، وَدُخُولُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ لِلْعَدُوِّ نَافِلَةٌ لَهُمْ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ لَا يُتْرَكُ بِالنَّافِلَةِ، أَوْ بِمَا هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ نَفَرُوا إلَى أَهْلِ الثَّغْرِ يَحْصُلُ فِيهِ شَيْئَانِ اثْنَانِ: قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ، وَنَجَاةُ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ مَضَوْا عَلَى غَزْوِهِمْ لَا يَحْصُلُ فِيهِ إلَّا قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِمَا يَحْصُلُ فِيهِ نَجَاةُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَوْلَى. 4452 - وَإِنْ كَانُوا لَا يَخَافُونَ عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ، أَوْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّ الْقَوْمَ يَنْتَصِفُونَ مِنْهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْضُوا عَلَى غَزْوِهِمْ وَيَدَعُوهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2238 لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَسْكَرٍ يَخْرُجُونَ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ إلَّا وَيَتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَدُوَّ يَمِيلُونَ إلَى بَعْضِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ هَذَا لَا يُمْنَعُونَ عَنْ الْخُرُوجِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمِيلُونَ عَنْ الْمُضِيِّ فِيهِ إذْ لَوْ لَمْ يَمْضُوا لِهَذَا الْمَعْنَى يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْجِهَادِ أَصْلًا، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ مَضَوْا فِي وَجْهِهِمْ تَحْصُلُ النِّكَايَةُ عَلَى الْعَدُوِّ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَإِنَّ أَهْلَ الثُّغُورِ رُبَّمَا يَظْفَرُونَ بِمَنْ أَتَاهُمْ، وَالْعَسْكَرُ كَذَلِكَ بِاَلَّذِينَ قَصَدُوهُمْ، وَكُلَّمَا كَانَتْ النِّكَايَةُ بِالْعَدُوِّ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ أَحْسَنَ. 4453 - وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ إنْ لَمْ يُعِنْهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَكَانَ قُرْبُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ أَعَانُوهُمْ يَنْتَصِفُونَ مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُونَهُمْ، كَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ الْمُضِيِّ إلَى غَزْوِهِمْ. لِمَا قُلْنَا: إنَّ فِيهِ النِّكَايَةَ بِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ. 4454 - وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَنْصُرُونَهُمْ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ غَزْوِهِمْ. لِمَا قُلْنَا. وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ هَا هُنَا، لِأَنَّ الْقَلْبَ حَكَمَ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالظَّاهِرِ، وَالدَّلِيلُ الظَّاهِرُ مَعْدُومٌ هَا هُنَا فَكَانَ الْقَلْبُ حَكَمًا فِيهِ. 4455 - وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلُوا أَرْضَ الْحَرْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2239 مُتَفَرِّقِينَ كُلُّ عَسْكَرٍ مِنْ نَاحِيهِ فَبَلَغَ أَحَدُ الْعَسْكَرَيْنِ أَنَّ الْعَدُوَّ تَفَرَّقُوا فِرْقَتَيْنِ، فَأَتَى فَرِيقٌ مِنْهُمْ ثَغْرًا مِنْ ثُغُورِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْهُ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَتَى فَرِيقٌ مِنْهُمْ الْعَسْكَرَ الْآخَرَ لِلَّذِينَ دَخَلُوا مَعَهُمْ، وَخَافُوا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا إنْ لَمْ يُعِينُوهُمْ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ هَذَا الْعَسْكَرُ بِحَالِ لَوْ تَفَرَّقُوا فِرْقَتَيْنِ فَتَذْهَبُ فِرْقَةٌ إلَى الْعَسْكَرِ الْآخَرِ وَفِرْقَةٌ إلَى الثَّغْرِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَصِفُونَ مِنْ عَدُوِّهِمْ تَفَرَّقُوا فِرْقَتَيْنِ، فَيَأْتِي كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ حَتَّى يُعِينُوهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. لِأَنَّ فِيهِ النِّكَايَةَ لِكُلِّ عَدُوٍّ، وَالنَّجَاةَ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. 4456 - وَإِنْ كَانُوا لَوْ تَفَرَّقُوا فَرِيقَيْنِ لَمْ يُغْنُوا شَيْئًا فِيمَا يَظُنُّونَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَفَرَّقُونَ وَلَكِنْ يَأْتُونَ أَهْلَ الْعَسْكَرِ الَّذِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُعِينُوهُمْ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الثَّغْرِ. لِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَيْهِمْ أَشَدُّ وَهُمْ مِنْ الْمَدَدِ أَبْعَدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الثَّغْرِ رُبَّمَا يُعِينُهُمْ الْمُسْلِمُونَ أَوْ يَنْحَازُونَ إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَسْكَرُ الَّذِينَ أَتَاهُمْ الْعَدُوُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُعِينُهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَجِدُونَ مَلْجَأً يَنْحَازُونَ إلَيْهِ، فَكَانَ الْعَسْكَرُ الْآخَرُ أَوْلَى بِالْإِعَانَةِ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الثَّغْرِ. 4457 - وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ الَّذِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَصِفُونَ مِنْ عَدُوِّهِمْ أَتَوْا أَهْلَ الثَّغْرِ وَتَرَكُوهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2240 لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى إعَانَتِهِمْ، وَأَهْلَ الثَّغْرِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْإِعَانَةِ وَالنُّصْرَةِ فَالْمِيلُ إلَيْهِمْ أَوْلَى. 4458 - وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَسْكَرِ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا لَا يَنْتَصِفُونَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ الْآخَرِ إلَى أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَبُ، وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يُعِينُونَهُمْ أَقْرَبُ إلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الثَّغْرِ أَبْعَدُ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَبَ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْعَسْكَرِ أَنْ يُعِينُوا أَهْلَ الثَّغْرِ. لِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ أَشَدُّ، وَالْمَدَدَ مِنْهُمْ أَبْعَدُ فَإِعَانَتُهُمْ أَوْجَبُ عَلَيْهِمْ. 4459 - وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ أَنْ قَدْ اسْتَوَيَا فِي الْفَرِيقَيْنِ يَعْنِي: الْخَوْفُ عَلَيْهِمَا وَالرَّجَاءُ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْعَسْكَرِ أَنْ يُعِينُوا أَقْرَبَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. لِأَنَّ عَدُوَّهُمْ أَقْرَبُ الْعَدُوَّيْنِ مِنْ هَذَا الْعَسْكَرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِ الْأَقْرَبِ مِنْ الْعَدُوِّ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ أَتَوْا أَقْرَبَ الْفَرِيقَيْنِ رُبَّمَا يَهْزِمُونَ ذَلِكَ الْعَدُوَّ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَيَنْصُرُونَهُمْ فَيَكُونُ فِيهِ النِّكَايَةُ بِالْعَدُوَّيْنِ جَمِيعًا. 4460 - وَإِنْ كَانَ الْأَبْعَدُونَ الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ أَشَدُّ كَانُوا أَوْلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2241 بِالنُّصْرَةِ مِنْ الْأَقْرَبِينَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْقُرْبِ مِنْهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، وَالْخَوْفُ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ، أَتَوْا أَهْلَ الثَّغْرِ. لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَلَاكِ أَهْلِ الثَّغْرِ أَكْثَرُ فَكَانَ الذَّبُّ عَنْ حَرَمِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا فِيهِ إعْزَازٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى. 4461 - وَلَوْ أَنَّ عَسَاكِرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلُوا أَرْضَ الْعَدُوِّ، وَدَخَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ نَاحِيَةً مِنْ النَّوَاحِي، فَأَتَى الْعَدُوُّ عَسْكَرَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْعَسَاكِرِ، وَتَرَكُوا الْعَسْكَرَ الثَّالِثَ، فَأُخْبِرَ الْعَسْكَرُ الثَّالِثُ بِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَسْكَرِ الثَّالِثِ أَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرَيْنِ يَنْتَصِفُونَ مِنْ الْعَدُوِّ مَضَوْا عَلَى غَزْوِهِمْ. لِأَنَّ الْعَسْكَرَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَا يَحْتَاجَانِ إلَى إعَانَتِهِمَا. 4462 - وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ يَنْتَصِفُ، وَالْآخَرَ لَا يَنْتَصِفُ أَتَوْا الْفَرِيقَ الْآخَرَ الَّذِي لَا يَنْتَصِفُ. لِمَا قُلْنَا: إنَّ فِيهِ نِكَايَةً لِلْعَدُوِّ وَنَجَاةَ الْمُسْلِمِينَ. 4463 - وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ لَا يَنْتَصِفُونَ مِمَّنْ أَتَاهُمْ، وَإِنْ تَفَرَّقُوا لَمْ يُغْنُوا شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْعَسْكَرَيْنِ أَقْرَبَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَتَوْا الْعَسْكَرَ الْآخَرَ وَتَرَكُوهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2242 لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْخَوْفَ عَلَيْهِمْ أَكْبَرُ. 4464 - وَإِذَا كَانَ حَالُ الْعَسْكَرَيْنِ حَالًا وَاحِدَةً أَتَوْا أَقْرَبَ الْعَسْكَرَيْنِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ الْآخَرُ يَهْلَكُ. لِأَنَّ عَدُوَّ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ. 4465 - فَإِنْ كَانَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَلِيلًا وَالْآخَرُونَ كَثِيرًا بُدِئَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ وَلَمْ يُنْظَرْ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ. لِأَنَّ حَقَّ الْأَقْرَبِ أَوْجَبُ. 4466 - إلَّا إنْ كَانَ هَذَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ إضْرَارًا شَدِيدًا وَيَخَافُونَ أَنْ يَهْلَكَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ وَيَذِلُّونَ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا أَتَوْا الْكَثِيرَ. لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا أَكْثَرُ وَأَعَمُّ. 4467 - وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ أَكْثَرَ وَالْأَبْعَدُونَ أَقَلَّ لَا يَكُونُ الْأَبْعَدُ أَوْلَى بِالنُّصْرَةِ وَلَكِنَّ الْأَقْرَبِينَ أَوْلَى. لِأَنَّ رُبَّ قَلِيلٍ يَنْتَصِفُونَ مِنْ كَثِيرٍ، وَرُبَّ كَثِيرٍ لَا يَنْتَصِفُونَ مِنْ قَلِيلٍ فَحَقُّ النُّصْرَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2243 [بَابٌ مَتَى يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا] 212 - بَابٌ: مَتَى يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا؟ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: 4468 - إذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَوُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فِيهَا كَانَ ذِمِّيًّا. اعْلَمْ بِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ إذَا اشْتَرَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَرْضَ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا حَتَّى يَزْرَعَهَا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ أَوْ خَرَاجٌ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا وَذَهَبُوا فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ شِرَاءَ الْأَرْضِ لِلْقَرَارِ فَصَارَ بِالشِّرَاءِ رَاضِيًا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا فَصَارَ ذِمِّيًّا. إلَّا أَنَّا نَقُولُ: لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا، لِأَنَّ الشِّرَاءَ قَدْ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلزِّرَاعَةِ، فَلَا يَصِيرُ رَاضِيًا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا مَا لَمْ يَزْرَعْ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً فِي دَارِنَا لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا، وَالتَّزَوُّجُ لِلْقَرَارِ، فَلَأَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا بِشِرَاءِ الْأَرْضِ كَانَ أَوْلَى، فَإِذَا أُخِذَ مِنْهُ خَرَاجُ أَرْضٍ صَارَ ذِمِّيًّا يُوضَعُ عَلَيْهِ خَرَاجُ رَأْسِهِ وَلَمْ يُتْرَكْ أَنْ يَخْرُجَ إلَى دَارِهِ. لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجْرِي إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2244 الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا وُضِعَ عَلَى هَذَا الْمُسْتَأْمَنِ خَرَاجٌ، فِي أَرْضِهِ يَصِيرُ مَنْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ ذِمِّيًّا. وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ إنَّمَا يُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اُسْتُؤْنِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. 4469 - أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ مَتَى اتَّخَذَ دَارِهِ مَزْرَعَةً وَجَبَ عَلَيْهِ فِيهَا الْعُشْرُ، وَالذِّمِّيُّ لَوْ اتَّخَذَ دَارِهِ بُسْتَانًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ، فَلَمَّا وُضِعَ عَلَى هَذَا الْمُسْتَأْمَنِ خَرَاجُ أَرْضِهِ فَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ مَا يُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، فَصَارَ بِذَلِكَ ذِمِّيًّا. ثُمَّ قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ: إذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ كَانَ ذِمِّيًّا. قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا نُبِّهَ، عَلَى ذَلِكَ، وَبُيِّنَ لَهُ أَنَّا نَأْخُذُ مِنْك خَرَاجَ أَرْضِك إنْ لَمْ تَبِعْهَا، وَلَمْ تَرْجِعْ إلَى بِلَادِك. لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ ذِمِّيًّا إلَّا بِرِضَاءٍ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُزِلْ الْأَرْضَ عَنْ مِلْكِهِ بَعْدَ مَا بُيِّنَ لَهُ صَارَ ذَلِكَ دَلِيلَ الرِّضَاءِ مِنْهُ بِكَوْنِهِ ذِمِّيًّا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَى إذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ كَانَ ذِمِّيًّا، إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ ذِمِّيًّا، لِأَنَّ كَوْنَهُ ذِمِّيًّا إنَّمَا يَتَفَرَّعُ عَنْ خَرَاجِ أَرْضِهِ، فَمَا لَمْ يَجِبْ الْحَقُّ فِي أَرْضٍ لَمْ يَتَفَرَّعْ عَنْ صَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا. 4470 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى أَرْضًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2245 مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَبَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَجِبَ خَرَاجُهَا لَمْ يَكُنْ بِشِرَاءِ الْأَرْضِ ذِمِّيًّا. لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِوُجُوبِ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ، وَالْخَرَاجُ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَلَا يَصِيرُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ ذِمِّيًّا. 4471 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَاسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَزَرَعَهَا فَخَرَاجُ الْأَرْضِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَيْسَ عَلَى الزَّارِعِ مِنْ الْخَرَاج شَيْءٌ. 4472 - لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِإِزَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنْفَعَةُ فِي الْحَقِيقَةِ حَصَلَتْ لِرَبِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْبَدَلَ حَصَلَ لَهُ فَكَانَ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ. فَإِنْ زَرَعَهَا الْحَرْبِيُّ وَأَدَّى أَجْرَهَا إلَى الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنْ صَاحِبِهَا لَمْ يَكُنْ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا بِالزِّرَاعَةِ. لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ الْخَرَاجُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ لَا يَدَعُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَزْرَعَ، لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالزِّرَاعَةِ مُكْثٌ وَمُقَامٌ فِي دَارِنَا، وَالْحَرْبِيُّ يُمْتَنَعُ أَنْ يُطِيلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2246 السَّفَرَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ إذَا قَضَى حَاجَتَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ نَأْمُرُهُ بِالرَّجْعَةِ إلَى بِلَادِهِ فَإِنْ أَطَالَ الْمُكْثَ بِهَا، وَالْإِمَامُ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ عِلْمَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ، وَيُخْبِرَهُ أَنَّهُ إنْ أَقَامَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ يَقْدَمُ إلَيْهِ أَخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجَ فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَ حَتَّى تَمَّتْ السَّنَةُ أَخَذَ الْإِمَامُ مِنْهُ خَرَاجَ رَأْسِهِ، وَجَعَلَهُ ذِمِّيًّا، وَلَا يَدَعُهُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى بِلَادِهِ، وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ فِيهِ مِنْ قَبْلُ. 4473 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا - خَرَاجُهَا مُقَاسَمَةُ نِصْفِ مَا يَخْرُجُ - فَزَرَعَهَا الْحَرْبِيُّ بِبَذْرِهِ. فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَرَاجَ الْأَرْضِ يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا يَجِبُ عَلَى الْمَزَارِعِ فِي الْخَارِجِ. لِأَنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعُشْرِ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ عُشْرٍ وَزَرَعَهَا فَإِنَّ الْعُشْرَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا يَجِبُ عَلَى الزُّرَّاعِ فِي الْخَارِجِ. 4474 - فَإِنْ أَخَذَ الْإِمَامُ خَرَاجَهَا مِمَّا أَخْرَجَتْ، وَحَكَمَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِالِاتِّفَاقِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَلَا إشْكَالَ، فَإِنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْحَرْبِيُّ هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ، فَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2247 أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَخَذَ الْإِمَامُ مِنْهُ الْخَرَاجَ، فَصَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَلِأَنَّ الْخَرَاجَ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَلَكِنْ لَمَّا حَكَمَ بِهِ الْإِمَامُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَأَخَذَ مِنْ الْخَارِجِ، فَقَدْ قَضَى فِي مَوْضِعٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَنَفَذَ قَضَاؤُهُ وَصَارَ الْحَقُّ عَلَيْهِ فَصَارَ ذِمِّيًّا بِالِاتِّفَاقِ. 4475 - وَلَوْ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَخَرَاجُهَا مُقَاسَمَةُ النِّصْفِ مِمَّا يَخْرُجُ أَوْ الثُّلُثِ، فَآجَرَهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِيَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ، فَأَخْرَجَتْ طَعَامًا، فَأَخَذَ الْإِمَامُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ نِصْفَ مَا أَخْرَجَتْ، وَرَأَى الْإِمَامُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَزَارِعِ فِيمَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي أَرْضِهِ إنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِهِ. 4476 - وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي هَذَا إلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَا إلَى مِلْكِ الْأَرْضِ. لِأَنَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَأُخِذَ مِنْهُ هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَيَصِيرُ بِالْحُكْمِ ذِمِّيًّا، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمَالِكُ لِلْأَرْضِ أَوْ غَيْرُهُ. 4477 - وَلَوْ كَانَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا صَارَ الْمُسْتَأْجِرُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّهُ جَرَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي زَرْعِهِ. 4478 - وَلَوْ لَمْ يُؤَاجِرْهَا الْحَرْبِيُّ، وَلَكِنَّهُ أَعَارَهَا عَارِيَّةً، فَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2248 كَانَ الْخَرَاجُ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ، كَانَ الْخَرَاجُ فِي الزَّرْعِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. 4479 - وَلَوْ غَصَبَهَا إيَّاهُ غَاصِبٌ فَزَرَعَهَا، وَخَرَاجُهَا الْمُقَاسَمَةُ، فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لَمْ تَنْقُصْ شَيْئًا، فَالْخَرَاجُ يُؤْخَذُ مِنْ الْخَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. لِأَنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعُشْرِ، وَالْعُشْرُ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ الْمَنَعَةَ حَصَلَتْ لَهُ فَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ [وَلَا يَصِيرُ صَاحِبُهَا الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي أَرْضِهِ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ] . 4480 - وَإِنْ كَانَتْ الزِّرَاعَةُ نَقَصَتْ الْأَرْضَ. فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. 4481 - الْخَرَاجُ يُؤْخَذُ مِنْ الْخَارِجِ، وَالنُّقْصَانُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَالْأُجْرَةُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ غَصَبَهَا كَانَ الْخَرَاجُ فِي الْخَارِجِ وَالنُّقْصَانُ لِرَبِّ الْأَرْضِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نُقْصَانُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ لِلْأَرْضِ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْخَرَاجُ خَرَاجَ وَظِيفَةٍ، فَيَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، فَيَصِيرُ صَاحِبُهَا الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2249 وَإِنْ كَانَ خَرَاجُهَا دَرَاهِمَ فَاغْتَصَبَهَا مُغْتَصِبٌ فَزَرَعَهَا فَلَمْ يُنْقِصْهَا الزَّرْعُ شَيْئًا فَخَرَاجُهَا عَلَى الْغَاصِبِ. لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ لَمْ يَسْتَفِدْ مَنْفَعَةً مِنْ الزِّرَاعَةِ، وَلَمْ يَرْضَ أَيْضًا بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْأَرْضَ أُخِذَتْ مِنْهُ غَصْبًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ. 4483 - كَمَا لَا يَجِبُ إذَا غَرِقَتْ الْأَرْضُ بِالْمَاءِ وَعَجَزَ عَنْ زِرَاعَتِهَا، ثُمَّ إذَا أُخِذَ الْغَاصِبُ بِخَرَاجِهَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبُهَا الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا، وَإِنْ أَخَذَ خَرَاجَ أَرْضِهِ. لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ إنَّمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَصِيرُ بِهِ ذِمِّيًّا. 4484 - فَإِنْ كَانَ الزَّارِعُ نَقَصَهَا شَيْئًا يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ مِثْلَ الْخَرَاجِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يَأْخُذُ ذَلِكَ النُّقْصَانَ، وَيُؤَدِّي مِنْهُ الْخَرَاجَ وَيَكُونُ الْفَضْلُ لَهُ إنْ كَانَ. لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ النَّفْعُ مِنْ جِهَةِ الزِّرَاعَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ زَرَعَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ آجَرَهَا مِنْ غَيْرِهِ. وَيَصِيرُ صَاحِبُهَا الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّ خَرَاجَ أَرْضِهِ أُخِذَ مِنْهُ. 4485 - وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ أَقَلَّ مِنْ الْخَرَاجِ كَانَ قَدْرَ النُّقْصَانِ مِنْ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَفَضْلُ الْخَرَاجِ عَلَى الْغَاصِبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2250 لِأَنَّ الْخَرَاجَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُغْتَصَبِ مِنْهُ حُكْمًا بِمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مِنْ النَّفْعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْخَرَاجِ، وَحِينَ رَجَعَ إلَيْهِ مِثْلُ الْخَرَاجِ أَوْ أَكْثَرُ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ كُلُّهُ، فَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ مِنْ النَّفْعِ مِثْلُ بَعْضِ الْخَارِجِ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ عَلَى الْغَاصِبِ. وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْكَبِيرَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ كُلُّهُ مِنْ الْمُغْتَصَبِ مِنْهُ، قَلَّ النُّقْصَانُ أَوْ كَثُرَ. وَذَكَرَ فِي الْمُزَارَعَةِ الصَّغِيرَةِ الْجَوَابَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْخَرَاجُ كُلُّهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ مَنَافِعِ أَرْضِهِ بَدَلًا، فَصَارَ كَأَنَّهُ آجَرَ أَرْضَهُ بِمَا أُخِذَ، وَلَوْ آجَرَ أَرْضَهُ كَانَ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ، وَفِي الْأَجْرِ بِالْخَرَاجِ أَوْ لَمْ يَفِ فَكَذَلِكَ مَا هَاهُنَا. 4486 - ثُمَّ إذَا أُخِذَ جَمِيعُ الْخَرَاجِ مِنْ الْحَرْبِيِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ بَعْضُهُ يَصِيرُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّهُ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ بِأَخْذِ بَعْضِهِ كَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ بِأَخْذِ كُلِّهِ. 4487 - وَلَوْ زَرَعَهَا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَوْ الْغَاصِبُ أَوْ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ الْمُسْتَعِيرُ فَأَصَابَ زَرْعَهَا آفَةٌ فَاصْطَلَمَتْهُ مِنْ غَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ خَرَاجُ تِلْكَ السَّنَةِ، وَلَمْ يَصِرْ الْمُسْتَأْمَنُ صَاحِبُ الْأَرْضِ ذِمِّيًّا. لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ الْخَرَاجُ فَلَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2251 وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَزَرَعَهَا أَوْ مَكَثَتْ فِي يَدِهِ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ فَوَجَبَ فِيهَا الْخَرَاجُ، فَقَدْ صَارَ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا حِينَ وَجَبَ فِي أَرْضِهِ الْخَرَاجُ، وَهُوَ لَزِمَهُ وَأُخِذَ. لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِحُكْمِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِالْأَخْذِ فِيمَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا. 4489 - ثُمَّ إذَا أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبِلَةٍ مِنْ يَوْمِ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ، وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ فِي خَرَاجِ رَأْسِهِ لِمَا مَضَى مِنْ الشُّهُورِ وَالْأَرْضُ فِي يَدِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ إلَيْهِ لَوْ أَطَالَ الْمُكْثَ بِأَرْضِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ: ارْجِعْ إلَى بِلَادِك، فَإِنَّك إنْ أَقَمْتَ سَنَةً بَعْدَ يَوْمِك هَذَا أَخَذْتُ مِنْك الْخَرَاجَ فَأَقَامَ سَنَةً صَارَ ذِمِّيًّا، وَأُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ فِي تَمَامِ تِلْكَ السَّنَةِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ فِي فَصْلِ التَّقَدُّمِ إنَّمَا يَأْخُذُ الْإِمَامُ مِنْهُ خَرَاجَ رَأْسِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ فَإِذَا شَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْخَرَاجَ إنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى سَنَةٍ أَخَذَ مِنْهُ كَمَا شَرَطَ، وَيَصِيرُ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ كَمَا صَالَحَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ عَلَى مُقَامِهِ فِي دَارِنَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَلِلْإِمَامِ ذَلِكَ مِنْهُ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَلَّا يُؤْمِنَّهُ وَأَلَّا يَدَعَهُ يَخْرُجُ إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ. فَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْخَرَاجَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ، وَأَمَّا صَيْرُورَتُهُ ذِمِّيًّا مِنْ جِهَةِ خَرَاجِ أَرْضِهِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ وَلَكِنْ يَثْبُتُ حُكْمًا. وَلَوْ لَمْ يَجِبْ فِي أَرْضِهِ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا فَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنْهُ خَرَاجَ رَأْسِهِ إذَا مَضَتْ سَنَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2252 مِنْ يَوْمِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا، يَأْخُذُ مِنْهُ الْخَرَاجَ فَمَا لَمْ يَمْضِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ عَلَى ذِمَّتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْخَرَاجَ. 4490 - وَلَوْ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ: إنْ أَقَمْتَ سَنَةً بَعْدَ يَوْمِك هَذَا أَخَذْتُ مِنْك مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ جَعَلْتُكَ بَعْدَ ذَلِكَ ذِمِّيًّا، آخُذُ مِنْك فِي رَأْسِ كُلِّ سَنَةٍ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فَإِنْ أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ أُخِذَ مِنْهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ. لِمَا قُلْنَا: إنَّ مَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْإِمَامُ فِي التَّقَدُّمِ إلَيْهِ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ، وَالصُّلْحُ هَكَذَا جَرَى فِيمَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ رَاضٍ بِهِ حِينَ أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ الصُّلْحِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِحُكْمِ الصُّلْحِ، وَيَصِيرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَ تَمَامِ الصُّلْحِ أُجْرَةً لِسُكْنَاهُ فِي دَارِنَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ. 4491 - وَنَظِيرُ ذَلِكَ رَجُلٌ أَجَّرَ دَارًا لَهُ شَهْرًا فَقَالَ لَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ: لَا تُقِمْ فِي دَارِي مِنْ الشَّهْرِ [الدَّاخِلِ شَيْئًا] وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ أَقَامَ الشَّهْرَ الدَّاخِلَ فَأَجَّرَ الدَّارَ عَلَيْهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، لِمَا أَنَّ الْأُجْرَةَ تَجِبُ بِالشُّرُوطِ [وَالْمَشْرُوطُ لِلشَّرْطِ الدَّاخِلِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا] وَقَدْ رَضِيَ بِهَذَا الْمَشْرُوطِ حَيْثُ أَقَامَ فِيهَا فِي الشَّهْرِ الدَّاخِلِ، فَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا شَرَطَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2253 فَكَذَلِكَ خَرَاجُ الرَّأْسِ فِي التَّقْدِيمِ إلَيْهِ يَجِبُ بِالشَّرْطِ. وَقَدْ رَضِيَ بِالْمَشْرُوطِ حَيْثُ أَقَامَ سَنَةً فَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا شَرَطَ. وَقَدْ انْتَزَعَ أَصْحَابُنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةً أُخْرَى، قَالُوا جَمِيعًا: لَوْ أَنَّ رَجُلًا غَصَبَ دَارًا مِنْ رَجُلٍ فَأَرَادَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَخْوِيفَ الْغَاصِبِ حَتَّى يَرُدَّ إلَيْهِ الدَّارَ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِرَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ إلَى الْغَاصِبِ فَيُشْهِدُهُمَا عَلَى الْغَاصِبِ فَيَقُولُ لَهُ: إنْ رَدَدْت الدَّارَ إلَيَّ وَإِلَّا أَخَذْتُ مِنْك كُلَّ شَهْرٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مَثَلًا، فَإِنَّ الْإِشْهَادَ صَحِيحٌ. وَإِنْ أَقَامَ الْغَاصِبُ بَعْدَ هَذَا التَّقَدُّمِ إلَيْهِ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ يَسْتَوْجِبُ هَذَا الْأَجْرَ الْمُسَمَّى عَلَى الْغَاصِبِ. 4493 - وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ حِينَ تَقَدَّمَ إلَيْهِ قَالَ لَهُ: إنْ أَقَمْتَ سَنَةً بَعْدَ يَوْمِك هَذَا كُنْت ذِمِّيًّا، وَآخُذُ مِنْك الْخَرَاجَ بَعْدَ سَنَةٍ أُخْرَى مُسْتَقْبِلَةٍ، فَأَقَامَ تِلْكَ السَّنَةَ، كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ خَرَاجٌ حَتَّى تَمْضِيَ سَنَةٌ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ الْأُولَى. لِأَنَّ الشَّرْطَ هَكَذَا جَرَى مِنْ الْإِمَامِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ لِمَا شَرَطَ وَالْمُتَقَدِّمُ الْمَعْرُوفُ هَذَا. 4494 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا اشْتَرَى فِينَا أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَجَاءَ مُسْتَحِقٌّ وَاسْتَحَقَّهَا لِنَفْسِهِ وَأَدَّى خَرَاجَهَا سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ الْقَاضِي الشُّهُودَ عَبِيدًا وَرَدَّ الْأَرْضَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَمْ يَكُنْ هُوَ ذِمِّيًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2254 لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ، لَا بِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَهَا هُنَا قَدْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْخَرَاجُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ. 4495 - وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَهَا مِنْهُ سُلْطَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ الْمُسْتَأْمَنُ، وَلَوْ غَصَبَهَا مَنْ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ زَرَعَهَا فَالْمُسْتَأْمَنُ لَا يَكُونُ ذِمِّيًّا أَيْضًا. لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْغَاصِبِ إذَا زَرَعَهَا بِاعْتِبَارِ انْتِفَاعِهِ بِالْأَرْضِ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ شَيْءٌ مِنْ خَرَاجِهَا. 4496 - وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ لَمْ يَزْرَعْهَا فَقَدْ صَارَ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ خَرَاجُهَا، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِرْدَادِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَإِذَا لَزِمَهُ خَرَاجُهَا كَانَ ذِمِّيًّا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَرَّقَهَا مَاءً وَقَدْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَحْتَالَ بِذَلِكَ. بِمُسَنَّاةٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ، فَعَلَيْهِ خَرَاجُهَا، وَكَانَ ذِمِّيًّا لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا. 4497 - وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي الْأَرْضِ نُقْصَانٌ بِزِرَاعَةِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّرَاعَةُ نَقَصَتْهَا كَانَ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ لِلْمُسْتَأْمَنِ، وَحُكْمُ الْخَرَاجِ أَنَّهُ إنْ كَانَ النُّقْصَانُ أَكْثَرَ فَالْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ أَقَلَّ فَعَلَى الْغَاصِبِ الْخَرَاجُ دُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2255 النُّقْصَانِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ النُّقْصَانِ مِنْ ذَلِكَ الْخَرَاجِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْفَضْلُ عَلَى الْغَاصِبِ، فَفِي الْوَجْهَيْنِ قَدْ لَزِمَ الْمُسْتَأْمَنَ بَعْضُ الْخَرَاجِ وَبِهِ يَصِيرُ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا. 4498 - وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَقَى فِي هَذِهِ الْأَرْضِينَ مَاءً فَغَرَّقَهَا حَتَّى لَمْ يَسْتَطِعْ الْحَرْبِيُّ زِرَاعَتَهَا، وَنَقَصَ الْمَاءُ الْأَرْضَ، كَانَ لِلْحَرْبِيِّ أَنْ يَضْمَنَ الَّذِي سَقَى الْمَاءَ النُّقْصَانُ الْمُتَمَكِّنُ بِفِعْلِهِ، وَلَا يَكُونُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا هَا هُنَا. لِأَنَّهُ لَا خَرَاجَ فِي هَذِهِ الْأَرَاضِي لِأَحَدٍ هَا هُنَا فَمَا كَانَ أَحَدٌ يَتَمَكَّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ فِيهَا. 4499 - وَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَزْرَعْ الْغَاصِبُ الْأَرْضَ أَيْضًا حَتَّى رَدَّهَا بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَمْ يَكُنْ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا. لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ خَرَاجُهَا. 4500 - وَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ حَرْبِيًّا مِثْلَ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَزَرَعَهَا وَنَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ لِنُقْصَانِ الْأَرْضِ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْخَرَاجُ مِثْلَ النُّقْصَانِ أَوْ أَقَلَّ فَصَاحِبُ الْأَرْضِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا دُونَ الزَّارِعِ. لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2256 وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ أَقَلَّ مِنْ الْخَرَاجِ فَقَدْ صَارَا ذِمِّيَّيْنِ. لِأَنَّ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ مِنْ الْخَرَاجِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْفَضْلُ عَلَى الزَّارِعِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُ الْخَرَاجِ. 4502 - وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَالْغَاصِبُ يَصِيرُ ذِمِّيًّا دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ. لِأَنَّ الْخَرَاجَ هَا هُنَا عَلَى الْغَاصِبِ كُلِّهِ. 4503 - وَلَوْ عَطَّلَهَا الْغَاصِبُ فَلَمْ يَزْرَعْهَا فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا بِالْحُجَّةِ فَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ الْخَرَاجُ عَلَيْهِ وَصَارَ ذِمِّيًّا، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا خَرَاجَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُمَا حَرْبِيَّانِ [فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -] عَلَى حَالِهِمَا وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْمَنُ اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَقَدْ صَارَتْ خَرَاجِيَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ هِيَ عُشْرِيَّةٌ عَلَى حَالِهَا. 4504 - فَإِذَا زَرَعَهَا أَوْ تَمَكَّنَ مِنْ زِرَاعَتِهَا كَانَ ذِمِّيًّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2257 لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْخَرَاجُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ زَرَعَهَا كَانَ ذِمِّيًّا لِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ إلَّا بِحُصُولِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَمَا لَمْ يَلْزَمْهُ يَجِبُ فِي الْأَرَاضِيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا. 4505 - وَإِنْ بَاعَهَا الْحَرْبِيُّ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ فِيهَا الْخَرَاجُ كَانَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ لَا تَتَحَوَّلُ عَنْ ذَلِكَ. هَكَذَا ذَكَرَ هَا هُنَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْعُشْرُ دُونَ الْخَرَاجِ. فَالْوَجْهُ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ أَنَّ مِلْكَ الْكَافِرِ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الْأَرْضَ خَرَاجِيَّةً، وَحِينَ اشْتَرَاهَا فَقَدْ مَلَكَهَا، فَصَارَتْ خَرَاجِيَّةً بِمِلْكِهِ إيَّاهَا، فَقَدْ بَاعَهَا وَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ، وَالْمُسْلِمُ مَتَى اشْتَرَى مِنْ كَافِرٍ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً بَقِيَتْ خَرَاجِيَّةً. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَهَا قَبْلَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ فِيهَا فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْ الْأَرْضِ حَقٌّ غَيْرُ الْعُشْرِ فَدَامَتْ عُشْرِيَّةً كَمَا كَانَتْ. 4506 - وَلَا يُعْتَبَرُ مَا اعْتَرَضَ فِيهَا مِنْ مِلْكِ الْكَافِرِ، وَالْحَرْبِيُّ، لَا يَكُونُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّ الْأَرْضَ، وَإِنْ صَارَتْ خَرَاجِيَّةً، فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْ صَاحِبِهَا الْخَرَاجُ فَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِ فَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَكَّلَ مُسْلِمًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أَرْضًا فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَاشْتَرَاهَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَلَمْ يَصِرْ صَاحِبُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ذِمِّيًّا، وَإِنْ صَارَتْ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً لِمَا أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَى صَاحِبِهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ هَا هُنَا. 4507 - وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمُسْتَأْمَنَ اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً آجَرَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2258 فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَارَتْ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً، وَالْخَرَاجُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَيَصِيرُ بِهِ ذِمِّيًّا. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يَصِيرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ ذِمِّيًّا، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ حَرْبِيًّا فَالْمُسْتَأْجِرُ عِنْدَهُ يَصِيرُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ عُشْرُهَا. ثُمَّ فَرَّقَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُشْرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِهِ وَبَيْنَ الْعُشْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ مِنْ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، فَقَالَ: بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْعُشْرِ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا، وَإِذَا أُخِذَ الْعُشْرُ مِنْ أَرْضِهِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ فَإِنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْهُ عُشْرَ مَا مَرَّ بِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ، فَإِذَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ لَمْ يَصِرْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِرَارًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَتَى عَادَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إلَى دَارِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا لَمْ يَصِرْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ هُوَ أَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا، وَأَمَّا هَاهُنَا يُؤْخَذُ مِنْ طَعَامِهِ مِنْ الْعُشْرِ مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ طَعَامِ الْمُسْلِمِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيُنَزَّلُ بِأَخْذِ هَذَا الْعُشْرِ مَنْزِلَةَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْعُشْرَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَرْبِيِّ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْ تُجَّارِنَا شَيْئًا لَا نَأْخُذُ مِنْ تُجَّارِهِمْ شَيْئًا. وَهَذَا الْعُشْرُ مَأْخُوذٌ بِطَرِيقِ مُؤْنَةِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ كَالْخَرَاجِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2259 وَلَوْ أَعَارَهَا حَرْبِيًّا مِثْلَهُ كَانَ الْعُشْرُ فِي الزَّرْعِ، وَصَارَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَعِيرُ بِهِ ذِمِّيًّا فِي قَوْلِهِمْ. لِأَنَّ الْحَقَّ أُخِذَ مِنْ طَعَامِهِ. 4509 - وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً مِنْ مُسْلِمٍ فَزَرَعَهَا فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عُشْرَ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَا يَصِيرُ الْمُسْتَأْجِرُ ذِمِّيًّا. لِأَنَّ الْعُشْرَ لَمْ يَجِبْ فِي طَعَامِهِ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: الْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ فَيَصِيرُ الْمُسْتَأْجِرُ ذِمِّيًّا لِأَنَّ الْحَقَّ وَجَبَ فِي طَعَامِهِ. وَفِي الْعَارِيَّةِ: الْعُشْرُ فِي الطَّعَامِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، فَيَصِيرُ الْمُسْتَعِيرُ ذِمِّيًّا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ كَالْعُشْرِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2260 [بَابٌ مَا يَكُونُ الرَّجُلُ بِهِ مُسْلِمًا يَدْرَأُ عَنْهُ الْقَتْلَ وَالسَّبْيَ] 4510 - قَدْ ثَبَتَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَافِرَ مَتَى أَظْهَرَ بِخِلَافِ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَقَدْ كَانَ يُقَاتِلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَهُمْ كَانُوا لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] فَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةَ إيمَانِهِمْ حِينَ دَعَا الْيَهُودَ بِالْمَدِينَةِ إلَى الْإِسْلَامِ جَعَلَ عَلَامَةَ إيمَانِهِمْ الْإِقْرَارَ بِرِسَالَتِهِ حَتَّى قَالَ لِلْيَهُودِيِّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ يَعُودُهُ: اشْهَدْ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمَّا شَهِدَ وَمَاتَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْتَقَ بِي نَسَمَةً مِنْ النَّارِ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِرِسَالَتِهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةَ إيمَانِهِمْ. 4511 - إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا حَمَلَ مُسْلِمٌ عَلَى مُشْرِكٍ لِيَقْتُلَهُ فَلَمَّا أَرْهَقَهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ مِنْ قَوْمٍ لَا يَقُولُونَ هَذَا فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2261 لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ مَا هُوَ دَلِيلُ إيمَانِهِ. 4512 - فَإِنْ أَخَذَهُ وَجَاءَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ فَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ إنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ قَبْلَ أَنْ يَقْهَرَهُ الْمُسْلِمُ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ مَا قَهَرَهُ فَهُوَ فَيْءٌ. لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْصِمُهُ مِنْ الْقَتْلِ، لَا مِنْ الِاسْتِرْقَاقِ بَعْدَ الْقَهْرِ. فَإِنْ قَالَ: مَا أَرَدْت الْإِسْلَامَ بِمَا قُلْتُ إنَّمَا أَرَدْت الدُّخُولَ فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوْ أَرَدْت التَّعَوُّذَ لِئَلَّا يَقْتُلَنِي لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ. لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ إجَابَتَهُ إلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ، وَالْمُسْلِمُ إنَّمَا طَلَبَ مِنْهُ الْإِسْلَامَ لَا الدُّخُولَ فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إسْلَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ يُقِرُّ بِالْإِسْلَامِ كُلِّهِ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَلَّى فِي الْجَمَاعَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى إسْلَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إسْلَامًا، بِعَيْنِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا فَيُقْتَلُ. قَالَ فِي الْكِتَابِ 4513 - وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ أَبْطَلَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُرْتَدًّا فَيُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرَائِعِ فَهُوَ كَافِرٌ فِيمَا أَنْكَرَهُ مُسْلِمٌ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ ابْتَنَى فِي تَصْنِيفٍ لَهُ حَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ نَزْعٌ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2262 إنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةَ خَارِجٌ مِنْ الْإِيمَانِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْكُفْرِ فَلَهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ فَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ. 4514 - وَلَوْ كَانَ حِينَ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَفَّ عَنْهُ فَأَفْلَتَ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ عَادَ يُقَاتِلُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ فَلَمَّا رَهِقَهُ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ يَلْجَأُ إلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ. لِأَنَّهُ الْآنَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ الْبَاغِي الْمُقَاتِلِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي فِئَةٍ، وَمِثْلُهُ يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا. 4515 - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ بِأَنْ كَانَ تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَسَرَهُ فَإِنْ كَانَتْ الْفِئَةُ عَلَى حَالِهَا فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ الْفِئَةُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَكِنْ يُؤَدِّبُهُ لِمَا صَنَعَ. وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا كَرَّ عَلَيْهِ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا فَقَتَلَهُ فِي آخِرِ مَرَّةٍ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: فَكَيْفَ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ هَذَا الرَّجُلِ» . وَفِي الْمَغَازِي ذَكَرَ «أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: أَقَتَلْتَ رَجُلًا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ: إنَّمَا قَالَ تَعَوُّذًا، قَالَ: فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟ فَقَالَ: لَوْ شَقَقْتُ عَنْ قَلْبِهِ مَا رَأَيْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2263 أَبَيْنَ لِي. يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّمَا كَانَ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ لِسَانُهُ» ، وَإِنَّمَا نَضَعُ هَذَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَلْجَأُ إلَى فِئَةٍ فِي آخِرِ مَرَّةٍ فَلِهَذَا عَاتَبَهُ عَلَى قَتْلِهِ. 4516 - وَلَوْ كَانَ حِينَ خَلَّى سَبِيلَهُ فَعَادَ إلَى صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إنِّي بَرِيءٌ عَنْ دِينِكُمْ، وَأَنَا عَلَى دِينِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ لِمَا سَبَقَ مِنْهُ وَالْمُرْتَدُّ كَالْحَرْبِيِّ. فَإِذَا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُ. إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَاغِي فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ لِهَذَا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَتَلَ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ الثَّانِي. لِأَنَّهُ حِينَ ارْتَدَّ وَهُوَ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ كَانَ حَرْبِيًّا. وَالْحَرْبِيُّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ بِقَتْلِهِ الْمُسْلِمَ. 4517 - وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ. لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ فَهَذَا الْآنَ دَلِيلُ إسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ وَهُوَ فِي التَّفْرِيعِ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2264 وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ حِينَ رَهِقَهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ قَالَ: قَدْ دَخَلْت فِي دَيْنِ الْإِسْلَامِ، أَوْ قَالَ: قَدْ دَخَلْت فِي دَيْنِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلُ الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ بَعْدَ مَا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُسْتَغْفَرُ لَهُ. وَهَذَا لِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْهُ فَوْقَ السِّيمَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِمُجَرَّدِ سِيمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَهَذَا أَوْلَى. 4519 - قَالَ: وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الْيَوْمَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْمُسْلِمِينَ إذَا قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِهَذَا. لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا يَقُولُونَ هَذَا لَيْسَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ وَلَا يَهُودِيٍّ عِنْدَنَا نَسْأَلُهُ إلَّا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، فَإِذَا اسْتَفْسَرْته قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ لَا إلَى بَنِي إسْرَائِيل. وَيَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] . وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّينَ غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ دَلِيلَ إسْلَامِهِ حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ التَّبَرِّي فَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا قَالَ: فَأَبْرَأُ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا قَالَ: وَأَبْرَأُ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُسْلِمًا لِإِظْهَارِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِاعْتِقَادِهِ. 4520 - وَإِنْ قَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَبْرَأُ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا بِهَذَا اللَّفْظِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2265 لِأَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمِلٌ فَلَعَلَّهُ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ بِهَذَا، فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ الْيَهُودِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَيَبْرَءُونَ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ، وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] . فَإِنْ قَالَ: مَعَ هَذَا: وَأَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَقَدْ انْقَطَعَ مِنْهُ الِاحْتِمَالُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا بِهَذَا اللَّفْظِ. لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، فَالْمُسْلِمُ هُوَ الْمُسْتَسْلِمُ لِلْحَقِّ، وَكُلُّ ذِي دِينٍ يَدَّعِي أَنَّهُ مُنْقَادٌ لِلْحَقِّ، وَأَنَّ الْحَقَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَبْد الْعَزِيز الْحَلْوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إلَّا الْمَجُوسَ فِي دِيَارِنَا، فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: أَنَا مُسْلِمٌ يَصِيرُ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ هَذِهِ الصِّفَةَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَسُبُّونَ أَوْلَادَهُمْ وَيَقُولُونَ: يَا مُسْلِمَانِ. 4521 - قَالَ: وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِمَّنْ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَمَّا رَهِقَهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَهُوَ مُسْلِمٌ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. - لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْأَمْرَيْنِ فَبِأَيِّهِمَا شَهِدَ كَانَ دَلِيلَ إسْلَامِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ لَا يَدَّعُونَ هَذَا الْوَصْفَ لِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ عَلَى قَصْدِ الْمُعَايَرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ حَالِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَلِهَذَا كَانَ دَلِيلُ الْإِسْلَامِ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2266 4522 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ، أَوْ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ حَقِيقَةً مَا فِي قَلْبِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2267 [بَابٌ مِنْ إسْلَامِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ الْمَأْسُورَيْنِ] 214 - بَابٌ: مِنْ إسْلَامِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ الْمَأْسُورَيْنِ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: 4523 - قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّبِيَّ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا فَإِذَا سُبِيَ وَمَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى يَصِفَ الْإِسْلَامَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُسْلِمَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ. وَإِنْ سُبِيَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا حَتَّى يَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِلدَّارِ، أَوْ يُقَسِّمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ، أَوْ يَبِيعَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَيَصِيرُ مُسْلِمًا حِينَئِذٍ، أَمَّا إذَا كَانَ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، أَوْ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ. لِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّبَعِيَّةِ لِلْمَالِكِ فَوْقَ تَأْثِيرِ التَّبَعِيَّةِ لِلدَّارِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي ذِمِّيًّا، أَوْ كَانَ أَعْطَاهُ الذِّمِّيُّ بِطَرِيقِ الرَّضْخِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ حَتَّى إذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُجْبَرُ الذِّمِّيُّ عَلَى بَيْعِهِ. لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرَزًا بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَالذِّمِّيُّ إنَّمَا يَمْلِكُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِإِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ، فَصَارَ تَمَامُ الْإِحْرَازِ بِالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ، نَظِيرَ تَمَامِ الْإِحْرَازِ بِالْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2268 وَلَوْ سُبِيَ مَعَهُ أَبَوَاهُ فَمَاتَا ثُمَّ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فَهُوَ مُسْلِمٌ. لِأَنَّ أَبَوَيْهِ حِينَ مَاتَا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ خَرَجَ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَقِيَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا حُصِّلَ هُوَ وَحْدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ قُسِّمَ أَوْ بِيعَ، ثُمَّ مَاتَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَصِفَ الْإِسْلَامَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ وَقْتَ الْإِحْرَازِ، فَوُجُودُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنَعَ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ بِمَوْتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ، بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ أَبَوَاهُ وَبَقِيَ وَحْدَهُ صَغِيرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ. 4525 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مُتَلَصِّصًا فَأَخْرَجَ صَغِيرًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُسْلِمٌ يُجْبَرُ الذِّمِّيُّ عَلَى بَيْعِهِ. لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَلِ. فَإِنَّ الْأَمِيرَ لَوْ قَالَ فِي دَارِ الْحَرْبِ: مَنْ أَصَابَ رَأْسًا فَهُوَ لَهُ، فَأَصَابَ الذِّمِّيُّ صَغِيرًا لَيْسَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهُ بِاعْتِبَارِ مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا صَارَ مُحْرَزًا بِذَلِكَ. بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ الذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى صَغِيرًا مِنْ مَمَالِيكِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا وَإِنْ قَبَضَهُ الذِّمِّيُّ. لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمْ بِالنَّقْدِ هَا هُنَا لَا بِاعْتِبَارِ مَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. 4526 - فَإِنْ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2269 لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُحْرَزًا لَهُ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بِحُكْمِهِمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُسْلِمًا فَدَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ أَوْ كَانَ أَسِيرًا فِيهِمْ، أَوْ كَانَ رَجُلًا أَسْلَمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ إذَا أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهُ كَانَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ - وَتَبَعِيَّةِ الْمَالِكِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، فَإِذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا كَانَ الْمَمْلُوكُ مِثْلَهُ تَبَعًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ الْمَالِكُ ذِمِّيًّا كَانَ الْمَمْلُوكُ مِثْلَهُ تَبَعًا لَهُ. 4527 - فَإِذَا خَرَجَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا، عَبْدًا لِمَوْلَاهُ أَوْ حُرًّا مُعَاهِدًا، فَالصَّبِيُّ عَلَى دِينِ أَبِيهِ. لِأَنَّهُ مَا حُصِّلَ فِي دَارِنَا إلَّا مَعَ أَبٍ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَتَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ فِي الدِّينِ هِيَ الْأَصْلُ فَلَا تَظْهَرُ تَبَعِيَّةُ الْمَالِكِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ. 4528 - فَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَعَهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ بِأَمَانٍ فَالصَّبِيُّ مُسْلِمٌ. لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةٌ، فَلَا يُعْتَدُّ بِخُرُوجِهِ مَعَهُ، وَالصَّغِيرُ هُوَ الْمُخْتَصُّ، بِأَنَّهُ صَارَ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلْمَالِكِ. 4529 - فَإِنْ بَدَا لِلْمُسْتَأْمَنِ فَصَارَ ذِمِّيًّا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الصَّبِيُّ مُسْلِمًا. لِأَنَّهُ صَارَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ، كَمَا إذَا أَخْرَجَهُ الْمَالِكُ الْمُسْلِمُ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُسِرَ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُسِرَ أَبَوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الذِّمِّيُّ الَّذِي اشْتَرَاهُ فَأَخْرُجَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّبِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2270 كَانَ مِنْ الْمَجُوسِ أَوْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَيَحِلُّ وَطْؤُهَا إنْ كَانَتْ جَارِيَةً. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا. وَهَذَا لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْمَالِكِ بِمَنْزِلَةِ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَكَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا كَانَ هُوَ تَبَعًا لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَالِكُهُ الَّذِي أَخْرَجَهُ كِتَابِيًّا. 4530 - وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ فِي الْأَصْلِ كِتَابِيًّا وَاَلَّذِي أَخْرَجَهُ مَجُوسِيٌّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ كِتَابِيًّا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، فَلَا يَتَحَوَّلُ عَنْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَبَعِيَّةِ الْمَالِكِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا مَمْلُوكًا فَاشْتَرَاهُ الْمَجُوسِيُّ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَكَذَلِكَ إذْ كَانَ كِتَابِيًّا. 4531 - فَإِنْ كَانَ لِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مَمَالِيكُ فَأَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ جَمِيعًا غَيْرَ مَمَالِيكِهِمْ، فَمَنْ كَانَ صَغِيرًا مِنْ مَمَالِيكِهِمْ فَهُوَ مُسْلِمٌ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كَافِرًا لِحُصُولِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِكَوْنِ مَوْلَاهُ مُسْلِمًا، وَأَحَدُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَكْفِي لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ، فَإِنْ صَارُوا ذِمَّةً فَرَقِيقُهُمْ كُفَّارٌ عَلَى دِينِهِمْ؛ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. لِأَنَّ مَمَالِيكَهُمْ كُفَّارٌ، قَدْ صَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَا بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِ الْمَمْلُوكِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ يَشْتَرِي صَغِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيُخْرِجُهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2271 4532 - وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ عَبْدٌ صَغِيرٌ فَهُوَ عَلَى دِينِهِ يَرُدُّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ شَاءَ. لِأَنَّهُ حُصِّلَ فِي دَارِنَا بِطَرِيقِ الْمُرَاضَاةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَوْلَاهُ، وَمَوْلَاهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ. 4533 - فَإِنْ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ مَاتَ مَوْلَاهُ فَبَاعَهُ الْإِمَامُ، فَأَوْقَفَ ثَمَنَهُ لِوَرَثَتِهِ. فَهُوَ كَافِرٌ عَلَى دِينِ أَبَوَيْهِ. لِأَنَّهُ حُصِّلَ فِي دَارِنَا كَافِرًا بِأَمَانٍ، فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ. بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ يَمُوتُ فِي دَارِنَا، وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ، فَإِنْ سُبِيَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَأَسْلَمَ كَانَ الصَّغِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ. لِأَنَّ إسْلَامَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ فِي حَقِّهِ كَإِسْلَامِهِ بِنَفْسِهِ، إذَا كَانَ يَعْقِلُ، فَلِهَذَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِذَلِكَ. 4534 - فَإِنْ سُبِيَ الصَّغِيرُ مَعَ أَبِيهِ ثُمَّ أُخْرِجَ الصَّغِيرُ قَبْلَ أَبِيهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ. لِأَنَّهُ أُخْرِجَ إلَى دَارِنَا وَأَبُوهُ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ وَفِي مَنَعَتِهِمْ، فَكَوْنُهُ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ كَكَوْنِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَعَهُ، فَيَكُونُ الصَّبِيُّ تَبَعًا لَهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حَقِّ الْمُرَاغَمِ وَالْمُهَاجَرَةِ جُعِلَ مَنَعَةُ الْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَنَعَةِ الدَّارِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2272 4535 - فَإِنْ قُتِلَ أَبُوهُ (أَوْ هَرَبَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ) لَمْ يَكُنْ الصَّبِيُّ مُسْلِمًا أَيْضًا. لِأَنَّهُ حُصِّلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَافِرًا، فَلَا يَتَحَوَّلُ مُسْلِمًا بَعْدَ ذَلِكَ، مَا لَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ، أَوْ يُسْلِمْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ. 4536 - فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا، وَوَلَدُهُ الصَّغِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأَخْرَجُوهُ أَوْ لَمْ يُخْرِجُوهُ كَانَ الصَّبِيُّ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ الْمُسْلِمِ عِنْدَنَا. أَمَّا إذَا كَانَ الْأَبُ مَعَ الْعَسْكَرِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنَعَةَ الْجَيْشِ كَمَنَعَةِ الدَّارِ فِي حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، فَكَانَ حُصُولُ الصَّغِيرِ فِي مَنَعَةِ الْجَيْشِ كَحُصُولِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَبُ فِي دَارِ حَرْبٍ أُخْرَى دَخَلَهَا تَاجِرًا. لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ، فَيَصِيرُ الصَّبِيُّ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ صُورَةً. 4537 - وَلَوْ مَاتَ أَبُوهُ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُسِرَ الصَّبِيُّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حَتَّى يُقَسَّمَ أَوْ يُبَاعَ أَوْ يُخْرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2273 لِأَنَّ الْأَبَ مَيِّتٌ فِي دَارِنَا، وَتَبَعِيَّةُ الْمَيِّتِ لَا تُعْتَبَرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْبَقَاءِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأُمَّ لَوْ سُبِيَتْ مَعَهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا سُبِيَ وَحْدَهُ. قُلْنَا: لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ سُبِيَتْ الْأُمُّ مَعَهُ وَالْأَبُ حُرٌّ مُسْلِمٌ فِينَا كَانَ الصَّغِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ. 4538 - وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ صَارَ ذِمِّيًّا، أَوْ سَبَاهُ الْمُسْلِمُونَ كَافِرًا فَأَعْتَقُوهُ، وَهُوَ كَافِرٌ عَلَى حَالِهِ، أَوْ لَمْ يُعْتِقُوهُ ثُمَّ سَبَوْا وَلَدَهُ الصَّغِيرَ فَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا. لِأَنَّ أَبَاهُ كَافِرٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالصَّغِيرُ مَا حُصِّلَ فِي دَارِنَا إلَّا وَمَعَهُ أَبٌ كَافِرٌ، يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ فِي الدِّينِ. 4539 - فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ كَافِرًا قَبْلَ أَنْ يُسْبَى الصَّغِيرُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، كَانَ مُسْلِمًا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّ الْأَبَ الْمَيِّتَ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ ابْتِدَاءً، تَبَعًا لَهُ، فَلَأَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَوْلَى. 4540 - قَالَ: وَلَوْ أَنَّ عَسْكَرًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُمْ مَنَعَةٌ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ، وَمَعَهُمْ صِبْيَانٌ لَهُمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَأَسَرُوا صِبْيَانَهُمْ فَهُمْ مُسْلِمُونَ، كَمَا أُخِذُوا إذَا لَمْ يُؤْسَرْ مَعَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلَا أُمَّهَاتُهُمْ. لِأَنَّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ صَارُوا مُحْرَزِينَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2274 فَإِنْ أُسِرَ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَاعَةٍ كَانَ الْأَوْلَادُ مُسْلِمِينَ. لِأَنَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِمْ، كَمَا أُخِذُوا قَبْلَ الْآبَاءِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِسَبْيِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُنَاكَ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لَمْ يَصِرْ الصَّغِيرُ مُسْلِمًا قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، فَإِذَا أُسِرَ أَبُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ فَأُخْرِجَا مَعًا كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ أُسِرَا مَعًا سَوَاءً. 4542 - فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ أُسِرَا مَعًا أَوْ أُسِرَ الْأَبُ ثُمَّ الصَّغِيرُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ. لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَتْ يَدُنَا عَلَيْهِ إلَّا مَعَ أَبٍ كَافِرٍ، فَإِذَا أُسِرَ الصَّبِيُّ أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَإِنْ أُسِرَ الْأَبُ بَعْدَهُ بِسَاعَةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ الصَّبِيُّ وَحْدَهُ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذَهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ مُسْلِمٌ حِينَ أُخِذَ. فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُوَ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ هُوَ فَيْءٌ لِلْآخِذِ وَلَا يَكُونُ حُرًّا بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُسْلِمًا بَعْدَ مَا أُخِذَ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالْإِسْلَامِ حُرِّيَّةُ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ، فَأَمَّا مَنْ يَصِيرُ مُسْلِمًا بَعْدَ الْأَسْرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قِنًّا. وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2275 [بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ] 4543 - قَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ سَبْيَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ، لَا لَعَيْنِهِ بَلْ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ إذَا سُبِيَا مَعًا، فَنَقُولُ: إذَا سُبِيَتْ الْمَرْأَةُ وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِمَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ مَا يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ إنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، وَبِوَضْعِ الْحَمْلِ إنْ كَانَتْ حَامِلًا. وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ بِآثَارٍ رَوَاهَا بِالْإِسْنَادِ. 4544 - فَإِنْ حَاضَتْ الْمَسْبِيَّةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَيْضَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا ثُمَّ سُبِيَ زَوْجُهَا فَأُخْرِجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُمَا عَلَى تَزَوُّجِهِمَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ، وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ، وَإِنْ أُخْرِجَتْ وَحْدَهَا فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْتَزِئَ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ حَاضَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَيْضَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2276 قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْعُرَفَاءِ، قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ. لِأَنَّهَا وُجِدَتْ قَبْلَ وُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ لِمَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى حَاضَتْ حَيْضَةً. لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْغَازِي فِي الْغَنِيمَةِ، إنَّمَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمِلْكِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ مِلْكُ الْعَيْنِ بِالْقِسْمَةِ، فَمِلْكُ التَّصَرُّفِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَالْوَطْءُ تَصَرُّفٌ، وَإِنَّمَا يَجْتَزِئُ بِالْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ مِلْكِ الْوَطْءِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا حَاضَتْ الْمَبِيعَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَجْتَزِئَ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ. 4545 - فَإِنْ كَانَتْ الْمَسْبِيَّةُ حَامِلًا فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ مَا قَبَضَهَا وَوَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ مَا طَهُرَتْ مِنْ نِفَاسِهَا وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَبِّلَهَا وَيَسْتَمْتِعَ بِهَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ فِي مُدَّةِ نِفَاسِهَا. وَلَوْ كَانَتْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا فَوْقَ الْإِزَارِ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ وَلَا بَعْدَهَا، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً. لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَبْرَأَةً بِوَضْعِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَحُرْمَةُ الْغَشَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ لِمَعْنَى الْأَذَى، فَكَانَ حَالُهَا كَحَالِ الْمَنْكُوحَةِ إذَا كَانَتْ حَائِضًا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَأَمَّا إذَا وَضَعَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2277 يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَهِيَ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ هَا هُنَا غَيْرُ مُسْتَبْرَأَةٍ فِي يَدِهِ، وَفِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ كَمَا يَحْرُمُ الْغَشَيَانُ يَحْرُمُ اللَّمْسُ وَالتَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ. 4546 - فَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَسْبِيَّةُ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. لِأَنَّهَا مُحْرَزَةٌ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ وَالْإِحْرَازُ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمَةِ كَالْإِحْرَازِ بِمَنَعَةِ الدَّارِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُهَاجِرَةَ إذَا أَحْرَزَتْ نَفْسَهَا بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَكَذَلِكَ الْمَسْبِيَّةُ. ثُمَّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا هَا هُنَا بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي الْمُهَاجَرَةِ. 4547 - فَإِنْ قَسَّمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ رَجُلٍ، أَوْ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي، فَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ النِّكَاحُ وَلَا حَقُّهُ، فَكَانَ حَالُهَا كَحَالِ مَا لَوْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ حِينَ سُبِيَتْ سَوَاءٌ، وَبِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ الْبَيْعِ يَتَغَيَّرُ الْمِلْكُ، كَمَا يَتَغَيَّرُ الْمِلْكُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرِكَةٌ مَعَ الْجَيْشِ فِي الْمُصَابِ وَلَا فِي الثَّمَنِ، إنْ كَانَ الْإِمَامُ بَاعَ الْغَنَائِمَ. 4548 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ نَفَلَ قَوْمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَالَ: مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2278 أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْهُمْ جَارِيَةً وَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. لَهُ أَنْ يَطَأَهَا. لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ وَاَلَّتِي اشْتَرَاهَا أَوْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بِالْقِسْمَةِ سَوَاءً. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَا: الْمِلْكُ فِي الْمُنْفَلِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُنْفَلِ لَهُ بِالْأَخْذِ فَلَا يَتِمُّ هَذَا الْمِلْكُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الَّذِي يَثْبُتُ لِلْمُتَلَصِّصِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ وَالشِّرَاءِ. 4549 - (وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ الْفَرْقَ) أَنَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ لَا يَبْقَى لَهُمْ حَقُّ التَّنَاوُلِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَبَعْدَ التَّنْفِيلِ يَبْقَى ذَلِكَ الْحَقُّ. فَإِنْ أُسِرَ زَوْجُهَا بَعْدَ مَا أَخَذَهَا الْمُنْفَلُ لَهُ، فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. قِيلَ: هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْبَغِي أَلَّا يَنْقَطِعَ النِّكَاحُ هَا هُنَا بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، فَإِنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ، يَثْبُتُ لِلْمُنْفَلِ لَهُ بِالْأَخْذِ وَإِنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2279 لَا يَتَأَكَّدُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبِثُبُوتِ أَصْلِ الْمِلْكِ لِلْمُسْلِمِ فِيهَا يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا. (أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهَا حِينَ صَارَتْ لِلْمُنْفَلِ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَا إنْ اسْتَبْرَأَهَا الْمُنْفَلُ لَهُ بِحَيْضَةٍ ثُمَّ أَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَزِئَ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُتَلَصِّصِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ إذَا لَحِقَهُ مَدَدٌ شَارَكُوهُ فِي الْمُصَابِ، وَالْمِلْكُ لِلْمُنْفَلِ لَهُ يَثْبُتُ بِالْإِصَابَةِ، حَتَّى لَا يُشْرِكَهُ الْمَدَدُ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا لِأَنَّ التَّنْفِيلَ مِنْ الْإِمَامِ فِي مَعْنَى الْقِسْمَةِ، وَلَكِنَّهَا قِسْمَةٌ قَبْلَ الْإِصَابَةِ جَعَلَهَا الْإِمَامُ فِي مَعْنَى الْوُقُوفِ عَلَى الْإِصَابَةِ، فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ أَثْبَتْنَا هَذَا الْحُكْمَ فِي الْمُنْفَلِ، وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَلَصِّصِ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُوَ الْأَخْذُ. احْتَاطَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْوَطْءِ فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَمْ مِنْ حُكْمٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُتَوَفِّرٍ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2280 [بَابٌ مَا يُبَاعُ مِنْ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ] 4550 - وَإِذَا سَبَى الْمُسْلِمُونَ السَّبْيَ فَاقْتَسَمُوهُ وَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الرَّقِيقِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَإِنْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِالْإِحْرَازِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَبْدِ الذِّمِّيِّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إنْ سُبِيَ صَغِيرًا لَيْسَ مَعَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. لِأَنَّهُ صَارَ مُسْلِمًا بِالْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِحْرَازَ فِيهِ يَتِمُّ بِالْقِسْمَةِ، كَمَا يَتِمُّ بِالْإِخْرَاجِ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ. 4551 - وَلَوْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً فَاشْتَرَاهَا مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهَا مَحْكُومَةٌ بِإِسْلَامِهَا، قُلْنَا: لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ بَاعَهَا نَفَذَ الْبَيْعُ فَإِنْ كَانَ سُبِيَ مَعَهَا أَحَدُ أَبَوَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهَا هَا هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2281 وَيَسْتَوِي إنْ وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَهْمِ رَجُلٍ أَوْ وَقَعَا فِي سَهْمِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا حُصِّلَتْ فِي دَارِنَا إلَّا وَمَعَهَا أَبٌ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهَا. 4552 - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ مِنْ السَّبْيِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا يُمْنَعُ مِنْ شِرَاءِ مَمْلُوكٍ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ إذَا اشْتَرَاهُ، لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الذِّمِّيَّ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا. 4553 - فَإِنْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَمَةً ذِمِّيَّةً فَدَبَّرَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ، لِمُصَادِفَتِهِ مِلْكَهُ، وَلَكِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا وَاسْتِخْدَامِهَا، وَتَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِسْعَاءِ فِي قِيمَتِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ إذَا دَبَّرَ أَمَتَهُ الْمُسْلِمَةَ أَوْ اسْتَوْلَدَهَا فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُسْتَأْمَنِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمَتِهِ الذِّمِّيَّةِ. 4554 - وَإِذَا سُبِيَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ أَوْلَادِهَا فَوَقَعُوا فِي سَهْمِ رَجُلٍ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْضُ وَلَدِهَا، وَهُوَ صَغِيرٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ مِنْ كَافِرٍ. لِأَنَّهُ إنْ بَاعَهُمْ جَمِيعًا فَقَدْ بَاعَ الْمَمْلُوكَ الْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2282 وَإِنْ بَاعَ بَعْضَهُمْ، فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا الصَّغِيرِ، بَعْدَ مَا اجْتَمَعَا فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ. 4555 - وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا اشْتَرَى أَمَةً مُرْتَدَّةً جَازَ الشِّرَاءُ وَأُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهَا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً. لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُجْبَرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمُسْلِمَةِ وَلَا يَتْرُكُ الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ فِي مِلْكِ الْكُفَّارِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ ارْتَدَّتْ إلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهَا وَلَا يَجُوزُ مُنَاكَحَتُهَا. وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِشْهَادِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجْعَلْ حَالُهَا كَحَالِ يَهُودِيَّةِ الْأَصْلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَا اعْتَقَدَتْ فِي حَقِّهَا، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْأَحْكَامِ، لِكَوْنِهَا مُجْبَرَةً عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ وَالرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا كَانَتْ كَالْمُسْلِمَةِ فِي أَنَّهُ يُجْبَرُ الْكَافِرُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ. 4556 - وَإِذَا سُبِيَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ فَأَسْلَمَ بَعْضُ أَوْلَادِهَا ثُمَّ بَاعَهُمْ مِنْ كَافِرٍ جَازَ الْبَيْعُ، وَأُجْبِرَ الَّذِي اشْتَرَاهُمْ عَلَى بَيْعِهِمْ جَمِيعًا إنْ كَانَ حَرْبِيًّا. لِأَنَّ بَعْضَهُمْ مُسْلِمٌ وَبَعْضَهُمْ ذِمِّيٌّ، وَالْمُسْتَأْمَنُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْفَرِيقَيْنِ وَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ فِي الْبَيْعِ، حَتَّى كَانَ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِمْ جَمِيعًا. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ خَاصَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2283 لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِي الْمَمْلُوكِ الذِّمِّيِّ وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ التَّفْرِيقِ فِي الْبَيْعِ. 4557 - وَلَوْ كَانَ مُخَاطَبًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ هَا هُنَا الْمُسْلِمَ مِنْهُمْ وَحْدَهُ، لِأَنَّ هَذَا تَفْرِيقٌ لِحِقٍّ، فَقَدْ صَارَ إزَالَةُ الْمُسْلِمِ عَنْ مِلْكِهِ مُسْتَحَقًّا خَاصَّةً، وَالتَّفْرِيقُ مَتَى كَانَ لِحَقٍّ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا عَنْهُ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَلَدَ مَعَ الْوَالِدَةِ إذَا اجْتَمَعَا فِي مِلْكِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، ثُمَّ لَحِقَ أَحَدُهُمَا دَيْنٌ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُبَاعَ فِيهِ دُونَ الْآخَرِ، وَلَوْ جَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْفَعَ بِالْجِنَايَةِ وَحْدَهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّفْرِيقَ إذَا كَانَ لِحَقٍّ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا عَنْهُ. 4558 - ثُمَّ ذَكَرَ فِي فُرُوعِ إسْلَامِ الصَّبِيِّ فَقَالَ: إنْ وَصَفَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِغُلَامٍ كَافِرٍ الْإِسْلَامَ فَقَالَ الْغُلَامُ: أَنَا عَلَى هَذَا، فَإِنْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ قَدْ فَهِمَ مَا قِيلَ لَهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ أَنَّهُ قَدْ فَهِمَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ: صِفْ الْإِسْلَامَ، فَإِذَا وَصَفَهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَمَا ذُكِرَ، هَا هُنَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْمَشَايِخِ. إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاسْتَوْصَفَهَا الْإِسْلَامَ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَوَصَفَ هُوَ الْإِسْلَامَ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2284 أَنَا عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا، إذَا عَلِمَ أَنَّهَا فَهِمَتْ مَا قَالَ لَهَا. لِأَنَّ الْحَيَاءَ قَدْ يَمْنَعُهَا مِنْ الْبَيَانِ، وَإِنْ كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَصِفَ الْإِسْلَامَ وَتَعْتَقِدَ ذَلِكَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَصِفَ هُوَ بَيْنَ يَدَيْهَا إذَا قَالَتْ: أَنَا عَلَى هَذَا، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي وَصَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2285 [بَابٌ خُرُوجُ الْعَبْدِ بِأَمَانٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَخُرُوجُهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا] 217 - بَابٌ: خُرُوجُ الْعَبْدِ بِأَمَانٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَخُرُوجُهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: 4559 - أَيُّمَا عَبْدٍ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا مُرَاغَمًا لِمَوْلَاهُ فَهُوَ حُرٌّ وَيُوَالِي مَنْ شَاءَ. لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا نَفْسَهُ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَوْ أَحْرَزَ مَالًا مِنْ مَالِ مَوْلَاهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكَهُ فَإِذَا أَحْرَزَ نَفْسَهُ كَانَ مَالِكًا لِنَفْسِهِ أَيْضًا، وَلَا يَبْقَى لِلْإِنْسَانِ الْمِلْكُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُعْتَقُ لِهَذَا. وَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَلَى الْمُعْتَقِ لِمَنْ يَكُونُ عِتْقُهُ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ هَا هُنَا لِأَحَدٍ. ثُمَّ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجِنَايَةِ كَحَالِ حَرْبِيٍّ جَاءَ مُسْلِمًا. 4560 - وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ الْعَبْدُ إذَا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ مَعَهُ سَيِّدُهُ عَتَقَ» وَبِحَدِيثِ طَاوُسٍ قَالَ: «كَانَ فِي كِتَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَيُّمَا عَبْدٍ نَزَعَ إلَى الْمُسْلِمِينَ، أَرَاهُ قَالَ: مُسْلِمًا، فَهُوَ حُرٌّ. وَأَيُّمَا عَبْدٍ خَرَجَ إلَى مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّ عُشْرَهُ وَصَدَقَتَهُ فِي عَشِيرَتِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَيُّمَا عَبْدٍ خَرَجَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2286 إلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ إلَى مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ» . فَالْمِخْلَافُ مُحَلَّةٌ مِنْ رُسْتَاقَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَدَدٍ مِنْ الْقُرَى وَغَيْرِهِ وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ عَبْدًا أَسْلَمَ فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خَشِيَ أَهْلُهُ أَنْ يَتَّبِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ، فَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ إسْلَامِي فَاشْتَرِنِي أَوْ خَلِّصْنِي، فَبَعَثَ إلَيْهِ سَبْعَةَ نَفَرٍ عَلَى بَعِيرٍ، وَقَالَ: خُذُوهُ، وَلَعَلَّكُمْ تَجِدُونَ فِي الدَّارِ مَنْ يُعِينُكُمْ عَلَيْهِ» . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِقَوْمٍ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْخُلُوا دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ لِمِثْلِ هَذَا الْمَقْصُودِ، وَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ مِنْهُمْ إلْقَاءُ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّيَقُّنِ بِالْهَلَاكِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَنْكِي فِعْلُهُمْ فِي الْعَدُوِّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِعْلُهُمْ يَنْكِي فِي الْعَدُوِّ فَلَا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا الصُّنْعِ. 4561 - «وَذُكِرَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عَبْدٌ أَسْوَدُ فِي غَنَمٍ لِسَيِّدِهِ فَلَمَّا رَأَى أَهْلَ خَيْبَرَ يَتَحَصَّنُونَ سَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: نُقَاتِلُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَوَقَعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ فِي نَفْسِهِ، وَأَقْبَلَ بِغَنَمِهِ حَتَّى جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا تَقُولُ وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أَدْعُو إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2287 الْإِسْلَامِ أَنْ تَشْهَدَ أَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَأَلَّا تَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ، قَالَ: فَمَاذَا لِي إنْ شَهِدْت بِهَذَا فَقَالَ: لَك الْجَنَّةُ إنْ مِتَّ عَلَى ذَلِكَ، فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ مَكَانَهُ» . الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسْلِمَ الْعَبْدُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُعَسْكَرَ وَبَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُعَسْكَرَ مُسْلِمًا، فِي أَنَّهُ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «الْعَبِيدِ الَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ، فَأَسْلَمُوا، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ: أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ» . 4562 - وَأَوْرَدَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: «إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ قَبْلَ مَالِهِ ثُمَّ تَبِعَهُ مَالُهُ فَهُوَ لَهُ، وَإِذَا خَرَجَ مَالُهُ قَبْلَهُ فَهُوَ حُرٌّ» . وَبِهَذَا نَأْخُذُ. فَالْمُرَادُ بِالْمَالِ الْعَبْدُ هَا هُنَا، فَإِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ أَوَّلًا مُرَاغَمًا لِمَوْلَاهُ كَانَ حُرًّا، وَإِنْ خَرَجَ مَوْلَاهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ خَرَجَ الْمَوْلَى أَوَّلًا ثُمَّ جَاءَ الْعَبْدُ، فَإِنَّمَا جَاءَ مُظْهِرًا لَمُوَافَقَةِ سَيِّدِهِ، مُحْرِزًا لِنَفْسِهِ لَا عَلَيْهِ فَكَانَ مَمْلُوكًا لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2288 [بَابٌ الْعَبْدُ يَعْتِقُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ لَا يَعْتِقُ] قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: 4563 - قَدْ بَيَّنَّا فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ الْخِلَافَ فِي الْمُسْتَأْمَنِ يَشْتَرِي عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، ثُمَّ يُدْخِلُهُ دَارَ الْحَرْبِ وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، يَقُولُ: فَإِنْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ وَخَرَجَ غَيْرَ مُرَاغَمٍ لِمَوْلَاهُ، وَمَعَهُ مَالٌ لِمَوْلَاهُ، أَوْ لَا مَالَ مَعَهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ إحْرَازَ نَفْسِهِ عَلَى مَوْلَاهُ هَا هُنَا فَلَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يَبِيعُهُ وَيَقِفُ ثَمَنَهُ، وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ لِمَوْلَاهُ حَتَّى يَجِيءَ مَوْلَاهُ فَيَأْخُذُهُ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا كَانَ مُجْبَرًا عَلَى بَيْعِهِ، فَالْمَمْلُوكُ الْمُسْلِمُ لَا يُتْرَكُ فِي يَدِ الْكَافِرِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَمَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ، كَانَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ بَيْعِهِ عَلَيْهِ. 4564 - ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ فَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2289 لِأَنَّهُ مَا اسْتَأْمَنَ هُوَ وَلَا مَوْلَاهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَمَالُ الْحَرْبِيِّ إذَا حُصِّلَ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ يَكُونُ فَيْئًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إذَا أَخْرَجَهُ هَذَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عَلَى قَصْدِ الْعَمَلِ بِهِ لِمَوْلَاهُ فَكَأَنَّهُ أَعْطَاهُ الْأَمَانَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، بَعْدَ مَا حُصِّلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَانُهُ بَعْدَ مَا حُصِّلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَأَمَانِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ ذَلِكَ الْمَالِ لِمَوْلَاهُ. 4565 - وَإِذَا أَسْلَمَ الْمَوْلَى أَوَّلًا وَخَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَبِعَهُ عَبْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ. لِأَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ صَارَ مُحْرِزًا لِمَالِهِ مِنْ وَجْهٍ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِمَالِهِ، فَخُرُوجُ الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ إتْمَامًا لِذَلِكَ الْإِحْرَازِ، فَلِهَذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ عَلَى حَالِهِ سَوَاءً خَرَجَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. 4566 - وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَسْلَمَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَخَرَجَ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ يُرِيدُ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَصَدَ إحْرَازَ نَفْسِهِ لَهُ لَا عَلَيْهِ. 4567 - وَإِنْ خَرَجَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا عَلَى أَنْ يَكُونَ حُرًّا، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهُ فَهُوَ حُرٌّ. لِأَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، الَّذِي كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2290 أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ فَيْئًا وَكَانَ حَالُهُ الْآنَ كَحَالِ الْمُرَاغَمِ الَّذِي يَخْرُجُ بِمَالِ مَوْلَاهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ هُوَ مُحْرِزُ نَفْسِهِ، وَمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ عَلَى مَوْلَاهُ. 4568 - فَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ خُرُوجِهِ فَقَالَ الْعَبْدُ: خَرَجْتُ مُرَاغَمًا لِمَوْلَايَ، وَقَالَ الْمَوْلَى: إنَّمَا خَرَجَ إلَيَّ بِنَفْسِهِ وَمَا لَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى. لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَفِيمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ. وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ لَا يَكُونُ مُرَاغَمًا لِمَوْلَاهُ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ. 4569 - وَلَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَخَلَفَ ثِقَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَهْلُ الْحَرْبِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ بِيَدِهِ فَأَخْرَجَهَا مَعَهُ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ لَهُ لَا خُمُسَ فِيهِ، سَوَاءً كَانَ خُرُوجُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ. لِأَنَّ الْمَالَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ. فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَدِيمًا مِلْكَهُ، فَحَالُهُ كَحَالِ مَنْ أَسْلَمَ وَخَرَجَ بِمَالِهِ. فَإِنَّ الْخُمُسَ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، لِمَنْ كَانَ خَارِجًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْغَنِيمَةِ فِيهِ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَامَ مِلْكُهُ فِيهِ وَأَكَّدَهُ بِالْإِحْرَازِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2291 4570 - فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَالصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ، وَالْمَالُ لَهُ لَا سَبِيلَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، إلَّا الْعَقَارَ خَاصَّةً. لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إلَى مَالِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي هَذَا الْفَصْلِ. 4571 - وَلَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ بَعْدَ مَا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ فَأَخْرَجَهُمْ مَعَهُ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَوَلَدُهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ لَمَّا حُصِّلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا كَانَ وَلَدُهُ الصَّغِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ، وَمَا خَرَجَ بِهِ مِنْ مَالٍ فَهُوَ لَهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ، فَالْمُسْتَأْمَنُ فِيهِمْ إذَا تَمَلَّكَ مَالًا عَلَيْهِمْ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَخَرَجَ بِهِ. كَانَ لَهُ خَاصَّةً، فَهَذَا الَّذِي قَرَّرَ مِلْكَهُ فِي مَالِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَالَهُ خَاصَّةً. وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ وَزَوْجَتُهُ فِي أَمَانِهِ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا مَعَهُ فَقَدْ صَارَ مُعْطِيًا الْأَمَانَ لَهُمْ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ الْأَمَانِ لَهُمْ، بَعْدَ مَا حُصِّلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانُوا آمَنِينَ. 4572 - وَإِنْ كَانَ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، إنْ كَانَ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ. لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دُونَ الْمُتَلَصِّصِ، فَمَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ مَالٍ يَكُونُ لَهُ لَا خُمُسَ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2292 4573 - وَإِنْ كَانَ دَخَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيمَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ فَأَخْرَجَهُ. لِأَنَّهُ قَرَّرَ مِلْكَهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَمَا يَمْلِكُهُ ابْتِدَاءً بِهَذَا الْإِخْرَاجِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِ الْغَنِيمَةِ. فَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَالٍ أَخَذَهُ مِنْهُمْ فَفِيهِ الْخُمُسُ. لِأَنَّهُ يَمْلِكُ هَذَا الْمَالَ ابْتِدَاءً بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ دُخُولُهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَلِهَذَا كَانَ لِهَذَا الْمَالِ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ السُّلَمِيِّ فَإِنَّهُ أَسْلَمَ بِخَيْبَرَ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ بِمَكَّةَ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ مَكَّةَ حَتَّى يَأْخُذَ مَالَهُ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَى مَكَّةَ وَأَخَذَ مَالَهُ، وَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -» فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خَمَّسَ مَالَهُ وَلَا عَرَضَ لَهُ بِشَيْءٍ. وَتَمَامُ هَذِهِ الْقِصَّةِ ذَكَرَهَا الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي، قَالَ: إنَّهُ حِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الرُّجُوعَ إلَى مَكَّةَ أَذِنَ لَهُ وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ قَدْ بَلَغَهُمْ خَبَرُ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلَى خَيْبَرَ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَا حُوِّلَ إلَيْهِ الْأَمْرُ، وَقَدْ كَانَتْ الْأَخْبَارُ قَدْ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا يَوْمًا مِنْ مَكَّةَ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مَنْ يَسْأَلُونَهُ الْخَبَرَ، فَأَتَاهُمْ الْحَجَّاجُ فَقَالُوا لَهُ: مَا الْخَبَرُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا يَسُرُّكُمْ وَلَكِنْ لَا أُخْبِرُكُمْ حَتَّى تَضْمَنُوا لِي مَا أَطْلُبُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2293 مِنْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ ضَمَنَّا لَك ذَلِكَ. قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ قِتَالَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غَيْرَ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَقَدْ ظَهَرُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَأَسَرُوهُ. وَقَدْ تَرَكْتُهُمْ عَلَى عَزْمِ أَنْ يَقْدَمُوا بِهِ عَلَيْكُمْ لِتَقْتُلُوهُ، فَأَعِينُونِي حَتَّى أَجْمَعَ مَالِي فَلَعَلِّي أَشْتَرِي بَعْضَ غَنَائِمِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مِنْهُمْ، فَأَرْبَحُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالُوا: نَفْعَلُ ذَلِكَ، وَاشْتَغَلُوا بِهِ عَنْ آخِرِهِمْ، فَانْتَهَى الْخَبَرُ إلَى الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَبَعَثَ غُلَامَهُ إلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ: إنَّ الْعَبَّاسَ يُقْرِئُك السَّلَامَ، وَيَقُولُ اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا تَقُولُهُ حَقًّا، فَقَالَ: قُلْ، لِلْعَبَّاسِ: يَنْتَظِرُنِي فِي خَلْوَةٍ حَتَّى آتِيَهُ، ثُمَّ جَاءَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ سِرًّا بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: قَدْ ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خَيْبَرَ. وَأَنَا أَسْلَمْتُ، وَمَا فَارَقْتُ إلَّا بَعْدَ مَا جَرَتْ السِّهَامُ فِي غَنَائِمِ خَيْبَرَ وَإِنَّمَا فَارَقْته عَرُوسًا مُتَزَوِّجًا بِابْنَةِ حَيِّ بْنِ أَخْطَبَ لَكِنْ اُسْتُرْ عَلَيَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ حَتَّى جَمَعَ الْحَجَّاجُ مَالَهُ وَخَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَجَاءَ الْعَبَّاسُ إلَى بَيْتِ زَوْجَتِهِ وَقَالَ: أَيْنَ الْحَجَّاجُ؟ فَقَالَتْ: ذَهَبَ لِيَشْتَرِيَ غَنَائِمَ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: كَلًّا إنَّهُ أَسْلَمَ وَفَرَّ بِمَالِهِ وَلَسْتِ لَهُ بِزَوْجَةٍ إلَّا أَنْ تَتْبَعِي أَثَرَهُ، فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ الْحَقَّ مَا تَقُولُ فَإِنَّهُ مَا خَلَفَ عِنْدِي دِرْهَمًا مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْعَبَّاسُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَقَدْ لَبِسَ مِطْرَفَ خَزٍّ، فَجَعَلَ يَتَبَخَّرُ وَقُرَيْشٌ جُلُوسٌ يَتَدَبَّرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَيْفَ يَقْتُلُونَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، إذَا قَدِمَ أَهْلُ خَيْبَرَ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى الْعَبَّاسِ وَقَالَ: تَجَلَّدْ لِلْمُصِيبَةِ الْحَادِثَةِ؟ قَالَ: كَلًّا وَأَخْبَرَهُ بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْتَ عِنْدِي أَصْدَقُ مِنْ الْحَجَّاجِ، ثُمَّ بَعَثُوا إلَى زَوْجَتِهِ فَظَهَرَ لَهُمْ الْأَمْرُ عَلَى وَجْهِهِ، وَمَا انْكَسَرُوا بِشَيْءٍ مِثْلَ انْكِسَارِهِمْ يَوْمَئِذٍ. ثُمَّ قَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْحَجَّاجَ مَا دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، وَإِنَّمَا دَخَلَ إلَيْهِمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ، كَمَا كَانَ وَهَذَا لَا يَكُونُ اسْتِئْمَانًا، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ سَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2294 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ. فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِي مَالٍ يُخْرِجُهُ صَاحِبُهُ بِهَذَا الطَّرِيق، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمَانٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2295