الكتاب: حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر المؤلف: محمد بن محمد بن محمد، أبو بكر ابن عاصم القيسي الغرناطي (المتوفى: 829هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- حدائق الأزاهر ابن عاصم الأندلسي الكتاب: حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر المؤلف: محمد بن محمد بن محمد، أبو بكر ابن عاصم القيسي الغرناطي (المتوفى: 829هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] حدائق الأزاهر لابن عاصم الغرناطي حققه وقدم له أبو همام عبد اللطيف عبد الحليم الإهداء إلى صديقي المستشرقين الجليلين: دون فرناندو دي لاجرانخا الشنتمري ودون فديريكو كورينطي القرطبي تحية لعلمهما وإنصافهما، وذكرى أيام جميلة في الأندلس العزيز. أبو همام مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه الحمد لله الذي نطفت بحمده صوادح الألسنة في رياض الأفكار، على أفنان الأقلام، ورمت بجواهر توحيده وتنزيهه وتمجيده بحار العقول والنفوس، إلى سواحل الطروس، فتحلت به صدور الكلام، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي رفع الله به منار الإسلام، وبعثه رحمة للأنام، واختصه بمنزلة الاصطفاء والإكرام، فشهد له أهل السماوات والأرض بالتبجيل، ونطفت برسالته وتحقيق جلالته التوراة والإنجيل، فهدى الخلق إلى قصد السبيل، ودعا على بصيرة من ربه إلى دار السلام، ورضي الله عنه آله الكرام، وأصحابه البررة الأعلام، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وقاموا بنصرة أكرم عباده خير قيام، ففازوا في الدنيا بصحبته، وفي الآخرة بجواره في دار المقام، ونستوهب من الله سبحانه لهذا المقام العلي المؤيدي الجهادي النصري اليوسفي تأييداً وتمكيناً ومجداً دائماً وعزاً مكيناً، ونصراً عزيزاً وفتحاً مبيناً، وملكاً مخلداً أبداً على الدوام ويدوم مدى الأيام، مقام مولانا، وعصمة ديننا ودنيانا، المعروف بالحكم والعدل، الجامع لأوصاف الفضل، ذي البأس والنوال والمكارم التي تضرب بها الأمثال، حامي حمى الإيمان، الباذل نفسه الكريمة في رضى الرحمن الحاكم في رعيته بما مر الله به من العدل والإحسان، عين ملوك زمانه وسائر الأزمان، مذل الكفار، وممهد البلاد والأقطار، المحيي بحسن سيرته، وخلوص سريرته، مآثر جدوده الأنصار، المحرز من المفاخر الملوكية، والمناقب الإمامية ما يحق للملة بها الافتخار، ناصر الدنيا والدين، فخر الملوك والسلاطين، الغني بالله أبي عبد الله بن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج بن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر، وصل الله تعالى سعوده، وحرس وجوده، ونصر ألويته السعيدة وبنوده، فهو الذي نصر الله به السنة والكتاب، وآوى الإسلام وأهله منه إلى أمنع حمى وأعز جناب واختصه في هذه الحضرة الجزيرية الأندلسية بفريضة الجهاد، وتكتيب الكتائب وتجنيد الأجناد، ومهد بملكه العادل، وعدله الشامل الأقطار والبلاد، وألف على محبته، ولزوم طاعته قلوب العباد، وهدى به الخلق إلى طريق الرشاد، فالنفوس على حبه مفطورة، والقلوب برجاء سيبه وهيبة سيفه معمورة، والألسنة على جميل ذكره، ولزوم حمده وشكره مقصورة، زاده الله بسطة في ملكه، وجعل جميع البلاد تحت حكمه وملكه، وأدام للإسلام والمسلمين دولته السعيدة المنصورة، وعمر بالسعد الدائم، والعز القائم منازله الرفيعة وقصوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 أما بعد فإني جمعت في هذا الكتاب من طرف الأخبار، ورائق الأشعار، ومستحسن الجواب، ومضحكات المولدين والأعراب ونوادر الحكم والأمثال والآداب ما يستحسن ويستطرف، ويستملح ويستظرف من كل نادرة غريبة، أو نكتة عجيبة، أو حكاية بارعة، أو حكمة نافعة، أو قطعة شعر رائعة أو مخاطبة فائقة، مع ما يستفاد في ذلك من الوقوف على مناقب الملوك ومآثرها، ومحامدها ومفاخرها، ومكارم أخلاقها وشيمها، وشرف أنفسها وهممها، وجميل أفعالها وكريم محلها واحتمالها، وعدلها ووفائها، وبأسها وسخائها، وخوفها ورجائها، وحزمها واتقائها، وعزمها وإمضائها، وصفحها وإغضائها، وجدها واعتنائها، وسطوتها وحنانها، واستقباحها واستحسانها، وسيرها وعوائدها، وجوائزها وفوائدها، إلى غير ذلك من معرفة سنن م تقدم من الولاة والأمراء، والكتّاب والشعراء، والأئمة والخطباء، والمؤذنين والفقهاء، والوعاظ والحكماء، والأعراب والغرباء، والمجان والظرفاء، والمجنونين والعقلاء، والطفيليين والبخلاء، وحذاق الجواري والنساء، وأهل التصنع والرياء، والزهاد والأولياء، فأخذت في تبويبه وترتيبه، واجتهدت في تهذيبه وتقريبه، واعتنيت بتأليفه وجمعه، ورددت كل جنس إلى جنسه، وكل نوع على نوعه، وجعلت الشكل فيه مع شكله وضممت المثل إلى مثله، ليسهل النظر فيه على مطالعه، وتحصل الفائدة لقارئه وسامعه، فجاء بحمد الله سبحانه حسن الترتيب، بديع التهذيب، فهو روضه آداب، ومتعة أحداق وأسماع ألباب، فيه تسلية للنفوس وترويح للأرواح، واستجلاب للمسرات والأفراح، وراحة الخاطر، وأنس المجالس والمسامر، وتحفة القادم، وزاد المسافر، وسميته حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر، وجعلته ست حدائق: الحديقة الأولى : في المجاوبة البديهية والمخاطبة المرضية، وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول في مسكت الجواب ومفحم الخطاب، الباب الثاني في مستحسن الأجوبة التي هي عن ذكاء قائلها معربة، الباب الثالث في أبيات شعر وقعت جواباً، واستعملت خطاباً، الحديثة الثانية: في مداعبة يستجلب بها أبواب: الباب الأول في ترويح الأرواح بمستحسن المزاح، الباب الثاني في المضحكات المستحسنة، الخفيفة على الألسنة، الباب الثالث في المضحكات المستملحة، وإن كانت ألفاظها مستقبحة، الباب الرابع في نوادر أولي العقول والألباب، وحكايات المستخفين والمغفلين من المولدين والأعراب، وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول في النوادر المستغربة، والنكت المستعذبة، الباب الثاني في أخبار الأعراب والمتنبئين ونوادر المجان والمستخفين، الباب الثالث في أخبار المغفلين وأهل البله، وما يحكى عن المجنونين، ومن لا عقل له. الحديقة الرابعة: في الوصايا والحكم وفيها باب واحد. الحديقة الخامسة: في أمثال العامة وحكمها، وفيها باب واحد. الحديقة السادسة: في الحكايات الغريبة، والأخبار العجيبة، وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول في الحكايات المستطرفة والأخبار المستظرفة، الباب الثاني في مختار الحكايات والأخبار ذوات الأشعار، الباب الثالث في حكايات الأولياء والعباد، والصلحاء والزهاد، وعسى الله أن ينفع بهذا الباب وأهله، ويجعله كفارة للأبواب المتقدمة من قبله، إنه ولي التوفيق، والهادي إلى سواء الطريق. الحديقة الأولى في المجاوبة البديهية والمخاطبة المرضية وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول في مسكت الجواب، ومفحم الخطاب قال عقبة بن أبي معيط لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بضرب عنقه يوم بدر: من للصبية؟ قال: النار. وقال معاوية بن أبي سفيان لرجل من سبأ أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين قالوا: (ربنا باعد بين أسفارنا) أما كان اجتماع الشمل خيراً لهم؟ فقال اليماني: قومك أحمق منهم حيث قالوا: (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) أفلا قالوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له. وقال معاوية أيضاً لابن عباس رضي الله عنه: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم، فقال له ابن عباس: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 ودخل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على هشام بن عبد الملك بن مروان فلم يوسع له أحد في المجلس، ولم ير لنفسه موضعاً يجلس فيه، فقال: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد إلا وله من مجلسك موضع فقال له هشام: اجلس حيث انتهى بك المجلس لا أم لك أنت الذي نازعتك نفسك الخلافة، وأنت ابن أمة. فقال له زيد يا أمير المؤمنين إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل عليه السلام أمة فلم يمنعه ذلك من أن يبعثه الله نبياً، وأخرج من صلبه محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان إسحاق أمه سارة حرة، وقد مسخ الله بعض ولده قردة وخنازير. وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: أنا خير لك من أخيك، فقال: إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك فأنت خير لك من أخي، وأخي خير لنفسه منك. وقال له يوماً آخر: أين ترى عمك أبا لهب؟ فقال: في النار مفترشاً عمتك حمالة الحطب، وكانت أم جميل امرأة أبي لهب بنت حرب بن أمية بن عبد شمس. وقال ابن حازم يوماً لكاتبة يضحك منه: أين تريد يا هامان؟ قال: أبني لك صرحاً. وقال الأحوص للفرزدق: متى عهدك بالزنى يا أبا فراس؟ قال: مذ ماتت العجوز أمك. وقال يهودي حين قتل عثمان رحمه الله، وقعت الفتنة: إنما عهدكم بنبيكم منذ كذا، وقد فتنتم، فقال له رجل من المهاجرين: يا عدو الله، ما جفت أقدامكم من جوار البحر حتى قلتم لموسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) . ورمى الحجاج حجراً بين يدي أعرابي، وقال له: أخبرني أذكر هو أم أنثى؟ فقال له الأعرابي: ارفع لي ذنبه وأخبرك. وقال رجل لامرأته: وكان قبيحاً: إني أتمنى أن أرى إبليس، قالت له: أنا أريكه، قال: وكيف ذلك، فأخرجت له مرآة، وقالت له: انظر إلى وجهك. وقال محمد بن داود يوماً لابن سريج، وقد أكثر عليه في السؤال: أبلغي ريقي، فقال له ابن سريج: قد أبلغتك دجلة والفرات. وقال أمير لأعرابي: قل الحق وإلا أوجعتك ضرباً، فقال وأنت فاعمل به، فوالله إن ما أوعدك الله به على تركه أعظم مما توعدتني به. وقال مولى لبني هاشم: رأيت ذا الرمة، وقد عارضه رجل فقال له، يهزأ به: يا أعرابي، أتشهد بما لم تره؟ قال: نعم، قال: بماذا؟ قال: أشهد أن أباك نكح أمك. وكان للفضل بن سهل وصيفة ظريفة، كثيرة الملح والنوادر وكانت ساقية، وكان أبو نواس يولع بها ويمازحها، فقال لها يوماً: إني أحبك وتبغضينني فلم ذلك؟ فقالت له: لأن وجهك والحرام لا يجتمعان. ويروى أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان، فحدد النظر إليها، وقال يا بثينة: ما رأى فيك جميل حين قال فيك ما قال؟ قالت: يا أمير المؤمنين، ما رأى فيك الناس حين ولوك الخلافة، فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء، كان يخفيها، وما ترك لها من حاجة إلا قضاها يومئذ. وحكى حماد الراوية قال: أخبرني خالد بن كلثوم، قال: أخبرني رجل من بني أسد أنه أدرك مياً، وكان أعور، قال: رأيتها في نسوة من قومها، فقلت: أيتكن مي؟ فقال النسوة: ما كنا نرى أنها تخفى على أحد، هذه هي، قلت: والله ما أدري ما كان لعجب ذا الرمة منك؟ وما أراك كما كان يصفك، فتنفست، وقالت: يرحم الله غيلان، إنه كان ينظر إلي بعينين، وأنت تنظر إلي بعين واحدة. وكان بسجستان رجل يقال له بدر بن المناقر، وكان أبوه طلب في سرقة الإبل، فجلس إلى أبي الهندي الشاعر، وجعل يعرض له بالشراب، فقال أبو الهندي: إن أحدكم يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في است أبيه. ومر نصر بن سيار بأبي الهندي، وهو يتمايل سكراً، فقال له نصر: أفسدت شرفك بإدمانك الخمر، فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن والي خرسان. ومر الفرزدق بماء، وبه نسوة يغسلن ثيابهن، قال: فضرطت بغلته فضحكن منه، فقال لهن الفرزدق: ولم تضحكن؟ والله ما حملتني قط أنثى إلا فعلت كفعلها، فقالت له امرأة منهن: أترى التي حملتك تسعة أشهر كيف كان ضراطها؟ فخجل وانصرف. ونازع بشاراً رجل في اليمانية والمضرية، وأذن المؤذن فقال له بشار: من الذي يؤذن باسمه مع اسم الله تعالى أمن مضر هو أو من سبأ؟ فسكت الرجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقدم رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان، وكان زبيرياً، فقال له عبد الملك: أليس الله قد ردك على عقبيك؟ قال: ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه، فسكت عبد الملك، وعلم أن قوله كان خطأ. ودخل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان: على امرئ أجرك رسنك وسلطك على الأمة لعنة الله، أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم، أو هو يهوي فيها؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه في النار حيث شئت. ودخل شريك القاضي على المهدي، فقال له الربيع: خنت مال الله، ومال أمير المؤمنين، فقال له شريك: لو كان ذلك لأتاك سهمك. وقال العبثي، لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو والي العراق، وأتى به مغلولاً مقيداً، فقال له أيها الأمير: إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها على قبلك، فأنشدك الله أن تستن في سنة يستن بها فيك من بعدك، فأمر به إلى السجن، فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا تحت الأرض حتى خرج الحفر تحت سريره، ثم خرج منه ليلاً، وقد أعدت له أفراس يداولها حتى أتى مسلمة بن عبد الملك، فاستجار به فأجاره، واستوهبه من هشام بن عبد الملك فوهبه له، فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده إبراهيم، فقال له خالد: أبقت إباق العبد، فقال له: حين نمت نومة الأمة. وتكلم ربيعة يوماً فأكثر، وإلى جانبه أعرابي، فالتفت إليه وقال: ما تعدون البلاغة يا أعرابي؟ قال: قلة الكلام، وإيجاز الصواب، قال: بما تعدون العي؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم فكأنه ألقمه حجراً. وقال رجل للأحنف بن قيس: بم سودك قومك، وما أنت بأشرفهم بيتاً، ولا أصبحهم وجهاً، ولا أحسنهم خلقاً؟ قال: بخلاف ما فيك يا ابن أخي؟ قال وما ذاك؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك، فخجل الرجل. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: كذبت، لو كنت كذلك لم تقله. وقال أبو حنيفة للأعمش - وأتاه عائداً في مرضه -: لولا أن أثقل عليك يا أبا محمد لعدتك في كل يوم مرتين، فقال له الأعمش: والله يا ابن أخي، إنك لتثقل علي وأنت في بيتك، فكيف لو جئتني في كل يوم مرتين؟ ووقف عيينة بن حصين بباب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: استأذنوا لي على أمير المؤمنين، وقولوا له: هذا ابن الأخيار بالباب، فأذن له، فلما دخل عليه قال له: أنت ابن الأخيار؟ قال: نعم، قال: بل أنت ابن الأشرار. وأما ابن الأخيار فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وقال أبو ضمرة: قدم غيلان بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة، فقال: أنت الذي تزعم أن الله أحب أن يعصى؟ قال ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يعصى كرهاً، فكأنما ألقمه حجراً. وتكلم إياس بن معاوية مع بعض القدرية فقال: دخولك فيما ليس لك ظلم منك، قال: نعم، قال: فإن الأمر كله لله فلا تدع أن لك شيئاً منه. وقال رجل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ما تقول في القدر؟ فقال له علي: أما أني أسألك عن ثلاث، فإن قلت في واحدة منهن: لأكفرت، وإن قلت: نعم، فأنت أنت، فمد القوم أعناقهم ليسمعوا ما يقول، فقال له علي: أخبرني عنك أخلقك الله كما شاء، أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: أفخلقك الله لما شاء أو لما شئت؟ قال: لما شاء، قال: فيوم القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء؟ قال بما شاء، قال: قم فلا مشية لك، فسكت الرجل، ولم يجد جواباً. ودخل رجل من الحسبانية على المأمون، فقال لثمامة بن أشرس: كلمه، فقال له ما مذهبك؟ قال: أقول إن الأشياء كلها على التوهم والحسبان، وإنما يدرك الناس منها على قدر عقولهم، ولا حق في الحقيقة، فقام إليه ثمامة فلطمه لطمة سوء في وجهه، فقال: يا أمير المؤمنين، يفعل بي هذا في مجلسك؟ قال له ثمامة: وما فعلت بك، قال: لطمتني، قال: ولعلي إنما دهنتك بالبان، ثم أنشأ يقول: فعساك حين قعدت قمت ... وحين جئت إلى الذهاب وعساك تأكل من قفاك ... وأنت تحسبه كباب فسكت الرجل، وضحك من حضر. ولقي أبو العيناء رجلاً من إخوانه في السحر، فجعل يعجب من بكوره، فقال له: أراك تشاركني في الفعل، وتنفرد دوني بالتعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ودخل رجل بجاية، فقال: ما أكثر هذه البلاد بكلاب، فأخرجت امرأة رأسها من طاق، وقالت: أكثرهم برانيون. وشهد عند ابن شبرمة قوم على براح فيه نخل، فقال لهم: كم من نخلة؟ فقالوا: لا نعلم، فرد شهادتهم، فقال له بعضهم: أنت تقضي في هذا المسجد ثلاثين سنة، فهل تعلم كم من سارية فيه؟ فانقطع، وأجاز شهادتهم. ودخل رجل من الهاشميين على المنصور، فقال له المنصور: متى مات؟ وما كان سبب موته؟ فجعل يقول: اعتل رحمه الله في وقت كذا، وخلف رحمه الله كذا، فقال له الربيع: كم تترحم على أبيك بين يدي أمير المؤمنين، فقال الهاشمي: لا ألومك فأنت لا تعرف حلاوة الآباء، وكان الربيع يرمي بأنه لا يعرف له أب. وقال المنصور لأهل الشام: ألا تحمدون الله الذي رفع عنكم الطاعون منذ علينا أمركم؟ فقال له رجل: الله أعدل من أن يجمعك والطاعون علينا، فسكت، ولم يزل يطلب عليه العلل حتى قتله. وكان بسجستان صاحب نعمة، فأخذه يعقوب بن الليث وأفقرهن فلما كان بعد مدة أدخل عليه، فقال له يعقوب: كيف أنت الساعة؟ قال له: كيف كنت أنت قديماً، فقال له يعقوب: وكيف كنت أنا قديماً؟ قال: كما أنا الساعة، فأطرق يعقوب برأسه، وأمر له بألف درهم. وقال معاوية في مجلسه ذات يوم: إن الله عز وجل يقول: (وإن من شيء إلى عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) فلم تلومونني؟ فقال الأحنف بن قيس: ما نطالب بما في خزائن الله، ولكن المقدار المعلوم الذي أنزله الله من خزائنه قد جعله في خزائنك، فانقطع معاوية، ولم يجب. ودخل رجل على كسرى يتظلم من بعض عماله في ضيعة غصبها له، فقال كسرى: قد أكلت ضيعتك منذ أربعين سنة، فما عليك أن تتركها لعاملي هذه السنة؟ فقال: أيها الملك، وما عليك أن تسلم موضعك إلى بهرام عدوك؟ فأمر برد ضيعته. ودخل ابن يزيد على هشام بن عبد الملك، وعلى رأس يزيد قلنسوة حسنة، فقال هشام: بكم أخذت قلنسوتك هذه؟ قال: بألف درهم، قال: سبحان الله، قلنسوة بألف درهم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أخذتها لأكرم أطرافي، وأنت قد اشتريت جارية بألف درهم لأخس أطرافك، فأفحم هشاماً بالجواب. وجلس محمد بن الزيات للمظالم، فجاءه رجل يتظلم، فقال له: غصبني وكيلك ضيعتي، وحازها إلى أرضك، قال: تحتاج إلى بينة وشهود، وأشياء كثيرة، قال: الشهود هم البينة وأشياء كثيرة تجيء من عندك، فبقي ابن الزيات باهتاً، ثم رد عليه ضيعته. وقال رجل لجارية أبيه: يا زانية، فقالت: لو كنت كذلك لجئت بآخر مثلك. وقال رجل من العباسيين لأبي العيناء: تبغضني وقد أمرت بالصلاة علي؟ تقول: اللهم صل على محمد وعلى آله، فقال أبو العيناء: فإني أقول: الطيبين الصالحين، فتخرج أنت منهم. وقال أبو العيناء: ما أخجلني أحد مثل ما أخجلني ابن ظريف لعبد الرحمن بن خاقان، كنت يوماً عندهم، فقلت لأبيه: وددت أن لي ابناً مثل ابنك، فقال الابن: هذا أمر هين، عليك بأم عيالك؛ فإنها تأتيك بابن مثلي. وكان زياد الأعجم يوماً يتكلم وهو قائم، والناس حوله، فمر به الفرزدق، فقال له: صرت يا أغلف تتكلم بين الناس، فقال زياد: أو أخبرتك أمك بالخبر. وقال رجل لبعض الشعراء: أنت تقذف المحصنات في شعرك، فقال: إذن لا يصيبك في أمك من شعري شيء. وقال نصر بن سيار الأعرابي: هل أصابتك تخمة؟ قال: أما من طعامك، وطعام أبيك، فلا. وقال المدائني: كان عند روح بن زنباغ هند ابنة النعمان بن بشير، وكان شديد الغيرة، فأشرفت تنظر إلى وفد من جذام كانوا عنده، فزجرها، فقلت: إني والله لأبغض الحلال من جذام، فكيف بالحرام منهم؟. الباب الثاني في مستحسن الأجوبة التي هي عن ذكاء قائلها معربة قبل لأبي الأسود الدؤلي: أشهد معاوية بدراً؟ قال: نعم، من تلك الناحية. ولقي الحسين بن علي رضي الله عنهما في حين خروجه إلى العراق فسأله: ما وراءك؟ فقال له: تركت القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر من عند الله. وقدم معن بن زائدة أسرى كانوا عنده للقتل، فلما مثلوا بين يديه، قال أصغرهم: أتقتل الأسرى عطاشاً؟ فأمر لهم بالماء فلما شربوا، أمر بقتلهم، فقال له: أتقتل أضيافك يا معن فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقيل للحسن البصري: أينام إبليس؟ قال: لو نام لوجدنا الراحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وسأل رجل من الشعراء رجلاً من المتكلمين بين يدي المأمون: ما سنك؟ قال: عظم، قال: لم أرد هذا، ولكن كم تعد؟ قال من واحد إلى ألف وأزيد، قال: لم أرد هذا، ولكن كم أتى عليك؟ قال: لو أتى على شيء لأهلكني، فضحك المأمون، وقال له: كيف السؤال عن هذا؟ فقال: أن تقول: كم مضى من عمرك؟ وقال مؤدب يزيد بن عبد الملك بن مروان يوماً له: لحنت، قال: الجواد يعثر، فقال المؤدب: إي والله ويضرب حتى يستقيم، فقال يزيد: نعم، وربما كسر أنف سائسه. ولقي رجل رجلاً فقال: ما اسمك؟ قال: بحر، قال: ابن من؟ قال: ابن الفرات، قال: أبو من؟ قال: أبو الفيض، قال: ما ينبغي أن تلقى إلا في زورق. وسمع أشعث امرأة تقول: اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنوبي، فقال: يا فاسقة، لم تسألي الله المغفرة، وأنت سألته عمر الأبد، يريد أنها لا يغفر لها. وكان أسقف نجران يوماً جالساً في حانوت بعض الناس، فجاء مخبر لصاحب الحانوت بأن زوجته ولدت، فقال: الحمد لله، هذا ولد سعيد، فمكث ساعة، وإذا بآخر قال له: مات الولد، فقال: لا إله إلا الله، ما قضى الله تعالى أن حضرنا على ولادته، ولا على موته، فقال له الأسقف: ولا على عمله. وجاء رجل إلى حاكم برجل؛ وقال: هذا احتلم بأمي في النوم، فقال الحاكم: يقام للشمس ويضرب ظله الحد. وكان رجل يهوى امرأة، فرآها في النوم، وأمكنته من نفسها فأخبرها بذلك، فرفعته إلى الحاكم، وقالت له: إنه نال مني في المنام ما أراد، فليدفع إلي حقي، فقال له الحاكم: ادفع لها ديناراً، فقال الرجل: وكيف أدفع لها ديناراً، ولم أنل منها شيئاً إلا في المنام؟ فقال الحاكم: لابد من ذلك، فدفع لها ديناراً فلما جاوزت المرأة الباب، قال الحاكم: ارجعي إلي، فلما رجعت أخذ منها الدينار، ودفعه إلى صاحبه، وقال للمرأة: اذهبي فقد نلت منه بمقدار ما نال منك. وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً بالبادية قد بسط كساءه للشمس وهو يغتلي، فجعلت أنظر، فكان يأخذ البراغيث، ويدع القمل، فقلت له في ذلك، فقال: ابدأ بالفرسان، وأرجع للرجالة. ووضع ثريد بين يدي قوم، وعليه دجاج، فسرق واحد منهم واحدة منها. فرآه آخر، فلما تم الطعام، قال له: يا فلان، اخرج الدجاجة تلتقط الحب والفتات، فقال: إنها على البيض. ورأى رجل أحدب قد طلع في بستانه في خوخة، فقال له: يا أبا هشام ما أطلعك هناك؟ قال: سمعت فاض الماء، وجرى على الخوخ، فطلعت أتوضأ. وخرج خطيب أشبيلية يوماً يتوضأ تحت برج الذهب، وكان أصلع، دون شيء في رأسه، فأخرجت الرميكية رأسها وقالت: بكم تلك القرعة؟ قال لها: بدرهم، قالت: إنما أعطيك فيها مقرعاً، فقال لها: إن كانت غالية رجحتها لك بهذا الببرير. وضع المأمون طعاماً، وكان عنده أعرابي، فقال: يا أعرابي، هلم، قال: إني صائم، فاختلفت الألوان، فرأى جدياً مشوياً فغسل يده، فقال له المأمون: ألم تقل إنك صائم، قال: أقدر على صيام يوم واحد، ولا أقدر على إعادة جدي مثل هذا. وكان بالبصرة مجنون يأكل التمر بنواه، فقيل له: بنواه تأكل التمر؟ فقال: كذا وزنوه علي. ونظر رجل إلى طاق عالية، فوجد فيه امرأة جميلة، وهي تستاك، فقالت له: أتحب سواكاً؟ قال لها: لا أحب سواك، قالت له: ما ساقك إلى هنا؟ قال: إلهنا، قالت: فما أوقفك للهوى، قال: الهوى، قالت له: ما اسمك؟ قال: وجهك، قالت: ادخل إذن علي. وقالت امرأة للحصين بن منذر: كيف سدت وأنت بخيل قبيح؟ فقال: لأني سديد الرأي، شديد الإقدام. وقال مسلمة بن عبد الملك لأخيه هشام: كيف تطمح في الخلافة وأنت بخيل جبان؟ فقال: لأني حليم عفيف. وشكى أبو العيناء حاله إلى عبد الله بن سليمان، فقال له: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبر؟ قال: قد كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخفقت في طلبي، قال: أنت قد اخترته، قال: وما علي - أعز الله الأمير - في ذلك، قد اختار موسى سبعين رجلاً فما كان منهم رشيد، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتباً، فرجع إلى المشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب أبا موسى حاكماً فحكم عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وسأل عبد الملك بن مروان مسلمة بن اليزيد، وكان من المعمرين، فقال: أي الملوك رأيت أكمل، وأي الزمان رأيت أفضل؟ فقال: أما الملوك فلم أر إلا حامداً أو ذاماً، وأما الزمان فيضع أقواماً، ويرفع أقواماً، وكلهم يذم زمانه، لأنه يبلي جديدهم، ويفرق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم. ودخل على القاضي إياس، وهو في مجلس القضاء - عدي بن أرطاة فقال له: أين أنت؟ فقال إياس: بينك وبين الحائط، فاسمع مني قال: للاستماع جلست، قال: أين رجل من الشام، قال: نائي المحل، سحيق الدار، قال: وتزوجت امرأة، قال: بالرفاء والبنين، قال: وولد لي غلام، قال: ليهنك الفارس، قال: وأريد الرجوع إلى وطني، قال: في حفظ الله، قال: وشرطت لأهلها ألا أخرجها من بينهم، قال: أوف لهم بالشرط، قال: فاقضي بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من قضيت؟ قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك. وهذا إياس الذي يضرب به المثل في الذكاء والفطنة، وأول ما ظهر من ذكائه، أنه دخل دمشق، وهو غلام، فتحاكم عند قاضيها، مع شيخ. فصال إياس بحديثه على الشيخ، فقال القاضي: إنه شيخ كبير، فاخفض من كلامك. فقال له إياس: الحق أكبر منك: فقال له القاضي: اسكت، قال: ومن ينطق بحجتي؟ قال القاضي: ما أراك تقول إلا حقاً، قال له إياس: لا إله إلا الله أحق هذا أم باطل؟ فحكم القاضي بينهما، وانصرف. ولما دخل عبد الملك البصرة، رأى إياساً وهو صبي، وخلفه أربعة من القراء، أصحاب الطيالسة والعمائم، وإياس يقدمهم فقال عبد الملك: أما فيكم شيخ يقدمكم غير هذا الحدث؟ ثم التفت إليه وقال: كم سنك؟ قال: سني - أطال الله بقاء الأمير - سن أسامة بن زيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيه أبو بكر وعمر، فقال: تقدم، بارك الله فيك، وكان سنه سبع عشرة سنة. وقال المتوكل لأبي العيناء: ما أشد ما عليك في ذهاب بصرك؟ قال: ما حرمته يا أمير المؤمنين من رؤيتك من إجماع الناس على جمالك. وقيل لأحد المكدين: أتبيع مرقعتك؟ قال: أرأيت صائداً يبيع شبكته؟ وقال رجل لأعرابي: ما يسرني لو بت ضيفاً لك، قال: لو بت ضيفاً لي لأصبحت أبطن من أمك قبل أن تلدك بساعة. ودخل أعرابي على معاوية في عباءة فاحتقره. فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، إنما يكلمك من فيها، ثم تكلم، فملأ سمعه بياناً، ثم خرج، ولم يسله شيئاً، فقال معاوية: ما رأيت رجلاً أحقر أولاً، ولا أجل آخراً منه. وتكلم رجل عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب، فقال له، وقد أعجبه، ابن من أنت؟ قال: أنا ابن نفسي التي نلت بها هذا المقعد منك، قال: صدقت. وعرض بعض الأدباء على صاحب له شعراً، بمحضر جماعة فجعل يعرض عن محاسن الشعر، ويتتبع مواضع النقد حسداً، فقال له صاحب الشعر: أراك كالذباب تعرض عن المواضع السليمة، وتتبع جروح الجسد. وروي عن عمر بن الخطاب، أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لا تغالوا صدقات النساء؛ فإنه لا يبلغني عن أحد، أنه ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، فقامت امرأة طويلة فقالت: ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولم؟ قالت: كتاب الله أحق أن يتبع أم قولك؟ قال: كتاب الله، قالت: فإن الله تعالى يقول: (وأتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً) فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصاب، ورجل أخطأ، ثم قال: كنت نهيتكم عن أن تغالوا صدقات النساء، فليفعل كل واحد في ماله ما أحب. وأخرج الحجاج رجلاً من سجنه ليعاقبه، فقال له: سمنت يا غضبان قال: الرفد والرفعة، والخفض والدعة، ومن يكن ضيف أمير المؤمنين يسمن، قال: لأحملنك على الأدهم، قال: مثل الأمير أعزه الله يحمل على الأدهم والورد والمكيث، قال: إنه حديد قال: لأن يكون حديداً خير من أن يكون بليداً. قال: اضربوا به الأرض، قال: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) قال: جروه قال: (بسم الله مجراها ومرساها) قال: احملوه على الأيدي فلما حمل، قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) فضحك الحجاج، وقال: غلبنا هذا الحديث الخبيث، خلوه إلى صفحي عنه، قال: (فاصفح عنهم وقل سلام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وقال خالد بن الوليد لعبد المسيح بن عمرو الغساني وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، من أين أفضي أمرك؟ قال: من صلب أبي، قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل؟ قال: إي والله وأقيد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال: فما سنك؟ قال عظم، قال: ما تزيد في مسألتك إلا عناء، قال: ما أجبتك إلا عن مسألتك. وقال الربيع بن عبد الرحمن: قلت لأعرابي: أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذن لرجل سوء، أراد قوله تعالى: (هماز مشاء بنميم) ، قلت: أتجر فلسطين؟ قال: إني إذن لقوي. وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة؟ قال: الهر يهمزها. ومما يستظرف في هذا الباب أن رجلاً من محارب وفد على عبد الله بن زيد الهلالي عامل أرمينية، وقد بات على قرب من غدير فيه ضفادع، فقال عبد الله: ما تركتنا شيوخ محارب ننام لشدة أصواتها، فقال المحاربي: أصلح الله الأمير، إنها ضلت برقعاً، فهن في طلبه، أراد الهلالي قول الأخطل: تنق بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر وأراد المحاربي قول الآخر: لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولابن هلال برقع وقميص وأذن بشار لأصحابه في الدخول عليه، والطعام بين يديه، فلم يدعهم، ثم دعا بطست، وكشف عن سؤاله فبال، ثم حضر الظهر والعصر، فلم يصل، فقالوا له: أنت أستأذنا، وقد رأينا منك أشياء أنكرناها عليك، قال: وما هي؟ قالوا: دخلنا والطعام بين يديك فلم تدعنا إليه، قال: إنما أذنت لكم بالدخول لتأكلوا، ولو لم أرد هذا لما أذنت لكم، ثم ماذا؟ قالوا: دعوت بالطست، ونحن حضور، فبلت، ونحن نراك فقال: أنا مكفوف وأنتم بصراء، وأنتم المأمورون بغض البصر دوني، ثم ماذا؟ قالوا: حضرت الصلاة ولم تصل قال: إن الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة. أحسن في الثنتين، ولم يحسن في الثالثة. وترك رجل النبيذ، فقيل له: لم تركته، وهو رسول السرور إلى القلب؟ فقال: ولكنه بئس الرسول يبعث إلى الجوف فيذهب إلى الرأس. وسمع رجل أبا العتاهية ينشد: فانظر بطرفك حيث شئت، ... فلا ترى إلا بخيلا فقال: لقد بخلت الناس كلهم، فقال: اكذبني أنت بواحد منهم سخي. وقال المأمون لمحمد بن عباد: أنت متلاف، فقال: منع الجود سوء الظن بالمعبود، يقول الله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) . وخوف بخيل سخياً الإملاق والفقر، فرد عليه السخي: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) . وقال الحسن والحسين لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، فقال: بأبي أنتما وأمي، إن الله عودني أن يتفضل علي، وعودته أن أتفضل على عبيده، وأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عني عادته. ودخل رجل على الشعبي - وهو مع امرأته - فقال: أيكما الشعبي؟ فقال: هذه، فقال: ما تقول - أصلحك الله - في رجل شتمني في أول يوم من رمضان؟ هل يؤجر؟ فقال له الشعبي: إن كان قال لك: أحمق فأرجو له الأجر. وسأله آخر، فقال له: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في أنفه في الصلاة، فخرج عليه دم، أترى له أن يحتجم؟ فقال: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة. وسأله فقال: كيف كانت تسمى امرأة إبليس؟ فقال: ذلك نكاح ما شهدناه. ودخل الشعبي الحمام فرأى داود الأزدي بلا مئزر فغمض عينيه، فقال له داود: متى عميت يا أبا عمرو؟ قال: مذ هتك الله سترك. وقال الأصمعي: قلت لامرأة ظريفة: يا جارية، هل في يديك عمل؟ قلت: لا، ولكن في رجلي. وقال معاوية لعمرو بن سعيد: إلى من أوصى بك أبوك؟ وكان صغيراً، قال: إن أبي أوصى إلي، ولم يوص بي. وكان للفرزدق نديم يسمى زياد الأقطع، فأتى به يوماً، فخرجت له بنية للفرزدق صغيرة، فقال: ابنة من أنت؟ قالت: ابنة الفرزدق، قال: فما بالك حبشية؟ قالت: فما بال يدك مقطوعة؟ قال: قطعت في حرب الحرورية، قالت: بل قطعت في اللصوصية. فقال: عليك وعلى أبيك لعنة الله، ثم أخبر الفرزدق، فقال: أشهد أنها ابنتي حقاً. وأنشد الفرزدق شعراً وهو صغير، بمحضر الحطيئة فقال: هذا والله الشعر يا غلام، هل أنجدت أمك؟ قال: لا بل أنجد أبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ونظر خالد بن صفوان إلى جماعة في مسجد البصرة، فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: على امرأة تدل على النساء، فأتاها، فقال لها: ابقني امرأة، قالت: صفها، قال: أريدها بكراً كثيب، أو ثيباً كبكر، حلوة من قريب، ضخمة من بعيد، كانت في نعمة فأصابها فاقة، فيها أدب النعمة، وذل الحاجة، إذا اجتمعنا كنا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا أهل آخرة، قالت قد أصبتها لك، قال: وأين هي؟ قالت: في الرفيق الأعلى من الجنة فاعمل لها. وأتى الحطيئة رجل، وهو في غنمه، فقال: يا صاحب الغنم سلام عليكم، فرفع العصا، وقال: هذه لمن سلم، فقال الرجل: إني ضيف، فقال: للضيفان أعددتها، فأعاد السلام، فقال: إن شئت قمت بها إليك. ومر به ابن حمامة، وهو جالس في فناء بيته، فقال: السلام عليكم، فقال: قد قلت ما لا ينكر، قال: خرجت من أهلي بغير زاد قال: ضمنت لأهلك قراك، قال: أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك؟ قال: دونك الجبل يقيك ظله، قال: أنا ابن الحمامة، قال: انصرف، وكن ابن أي طائر شئت. ونزل الغضبان القبعثري خارج كرمان، وهي كثيرة الرمضاء فضرب قبته، فورد عليه أعرابي، فقال: السلام عليكم، فقال: هي كلمة معقولة، قال الأعرابي: ما اسمك؟ قال: آخذ، قال: أو تعطي؟ قال: ما أحب أن يكون لي اسمان، قال: ومن أين جئت؟ قال: من الدلول، قال: وأين تريد؟ قال: أرضاً أمشي في مناكبها، قال: ومن عرض؟ قال: آل فرعون على النار، قال: ومن بشر؟ قال: الصابرون، قال: فمن غلب؟ قال: حزب الله، قال: أفتسمع؟ قال: إنما تسمع القينة، قال: أفتقول؟ قال: إنما يقول الأمير قال: أفتسجع؟ قال: إنما تسجع الحمامة، قال: أفتنطق؟ قال: كتاب الله ينطق، قال: إنك لمنكر، قال: إني لمعروف، قال: ذلك أريد، قال: وما إرادتك؟ قال: الدخول إليك، قال: وراءك أوسع لك، قال: قد ضرتني الشمس، قال: الساعة يأتيك الفيء، قال: الرمضاء أحرقت قدمي، قال: بل عليهما يبردان، قال: أوجعني الحر، قال: ليس لي عليه من سلطان، قال: إني لا أريد طعامك ولا شرابك، قال: لا تعرض بهما فوالله ما تذوقهما، قال: سبحان الله، قال: قبل كونك، قال: ما عندك؟ قال: هراوة أدق بها رأسك. وأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة: إن الله قد فعل ما تحب من الظفر، فافعل ما يحب من العفو، فعفا عنه. وقال العتبي: وقعت ماء بين حييين من قريش، فأقبل أبو سفيان، فما بقي أحد واضع رأسه إلا رفعه، فقال: يا معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق؟ قالوا: وهل شيء أفضل من الحق؟ قال: نعم، العفو، فتبادر القوم واصطلحوا. ويروى أن نصيباً وفد على عبد الملك بن مروان، وأنشده، فاستحسن شعره، ووصله، فجاء بالطعام فأكل معه، فقال له عبد الملك: هل لك فيما يتنادم عليه، فقال: يا أمير المؤمنين تأملني قال: فإني أراك، قال: يا أمير المؤمنين الجلد أسود، والوجه قبيح، ولست في منصب كريم، وإنما بلغ بي مجالستك ومواكلتك عقلي، وأنا أكره أن أدخل عليه ما يحول بيني وبينه، فأعجب عبد الملك كلامه وأعفاه. وأنشد يوماً هشاماً قصيدة مدحه بها، فقال له هشام: يا أسود، قد بلغت المدح فسلني أعطك، فقال: يداك يا أمير المؤمنين بالعطية أطول من لساني بالمسألة، فقال هشام: هذا والله أجزل من الشعر وأجازه جائزة عظيمة. وقال دعبل لمخنث: والله لأهجونك، فقال: إن هجوتني لأخرجن أمك من اللعبة. ورفع إلى الأمير أن أبا نواس زنديق، وأنشد من شعره ما يستدل به على ذلك، فأمر بإحضاره، ولما حضر أمر بقتله، فقال: ما ذنبي يا أمير المؤمنين؟ قال: عرفت أنك زنديق قال: وما قلت؟ وما ظهر علي من ذلك؟ قال: قولك: ألا فاسقني خمراً، وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر قال يا أمير المؤمنين أفسقاني؟ قال: كذلك أظن، قال: أتقتلني على ظن؟ وقد قال ما تعالى: (إن بعض الظن إثم) قال: فأنت الذي تقول: ما جاءنا أحد يخبر أنه ... في جنة مذ مات أو في نار قال: أفجاء أحد يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: أفتقتلني على الصدق؟ قال: أنت الذي تقول: يا أحمد المرتجى في كل نائبة ... قم سيدي نعص جبار السماوات قال: أفقام يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أدري، قال: أفتقتلني على أن لا تدري؟ قال: أطلقوه، ولو وجب عليه القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وكان الفرزدق يوماً ينشد، فنظر إلى الكميت بن زيد يستمع، وهو غلام يومئذ، فأعجبه ما رأى من إطغائه وتفهمه، فقال: يا غلام كيف ما تسمع؟ قال: حسن، قال: أفيسرك أني أبوك؟ قال: ما أحب بأبي بدلاً، ولكن وددت أنك أمي، قال: يا ابن أخي، استرها علي، فما لقيت مثلها. وقام بشار بين يدي المهدي ينشده شعراً، ودخل خال المهدي يزيد بن منصور الحميري، وكانت في غفلة، فقال لبشار: ما صناعتك أيها الشيخ؟ قال: أثقب اللؤلؤ، فضحك المهدي وقال [أتهزأ] بخالي، فقال: يا أمير المؤمنين، وما أصنع به يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة شعراً، فيسأله عن صناعته؟ وكتب إلى عبد الرحمن بن الحكم بعض مواليه يسأله عملاً رفيعاً لم يكن من شاكلته فوقع في كتابه: من لم يصب وجه مطلبه كان الحرمان أولى به. وكان أصاب عبد الله بن عمر زج رمح بقدمه في أيام الحج، فدخل عليه الحجاج يعوده، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، لو علمت من أصابك لفعلت وفعلت، فقال له ابن عمر: أنت أصبتني، فقال: غفر الله لك، لم تقول هذا؟ قال: حملت السلاح في يوم لا يحمل فيه السلاح، وفي بلد لا يحمل فيه السلاح. وحلف رجل بطلاق امرأته أن الحجاج في النار، فسأل الحسن البصري فقال: لا عليك يا ابن أخي، فإنه لم يكن الحجاج في النار، فما يضرك أن تكون مع امرأتك على زنى. وقال جرير بن منصور: قلت لإبراهيم النخعي: ما تقول في أمر الحجاج؟ قال: ألم تسمع إلى قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين) فأشهد أن الحجاج كان منهم. وقال عبد الملك للحجاج: ما من أحد إلا وهو يعلم عيب نفسه، فصف لي عيوبك، قال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لابد أن تقول، قال: أنا لجوج حقود وحسود، قال عبد الملك: ما في إبليس أشر من هذا. وقيل للشعبي: إن الناس يزعمون أن الحجاج مؤمن، قال: مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله. وسئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن الحجاج، فقال: لو جاءت كل أمة بمنافقيها، وجئنا بالحجاج لفضلناهم. ولما قدم أبو ليلى النابغة الجعدي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنشده الشعر الذي يقول فيه: بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة يا رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله. ولقي أبو العتاهية أبا نواس فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تؤتى بالرياحين والأزهار فتوضع بين يديك؟ قال: وكيف ينبغي للشعر أن يقال إلا هكذا، قال: إني لأقوله على الكنيف، قال أبو نواس: ولذلك توجد فيه الرائحة. ولما قدم رجال الكوفة يشكون لسعد بن أبي وقاص، قال: من يعذرني من أهل الكوفة؟ إن وليتهم التقى ضعفوه، وإن وليتهم القوي فجروه، فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين إن التقي الضعيف له تقاه، وعليك ضعفه، والقوي الفاجر لك قواه وعليه فجوره، قال: صدقت فأنت القوي الفاجر، فاخرج إليهم. وقال المنصور لبعض قواده: صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك، وسمنه يأكلك، فقال له العباس الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك؟ وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينة فكتب إليه عمر: حصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم والسلام. ولما أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه قال: إن الذي أدى هذا لأمين، قال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله فإذا رتعت رتعوا. واطلع مروان بن الحكم على صنيعة له فأنكر شيئاً، فقال لوكيله: ويحك، أظنك تخونني، قال: تظن، ولا تستيقنه، قال: نفعل قال: نعم، والله إني لأخونك، وإنك لتخون أمير المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون ربه، فلعن الله شر الثلاثة. ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببنيان بني بآجر وجص، فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعاملك على البحرين، فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها، وأرسل إليه فشاطره ماله. ودخل حزيم الناعم على معاوية بن أبي سفيان، فنظر معاوية إلى ساقيه، فقال: أي ساقين؟ لو أنهما على جارية، فقال حزيم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. فقال: واحدة بأخرى، والبادي أظلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ودخل أبو النصر سالم مولى عمر بن عبد الله على عامل للخليفة فقال له: يا أبا النصر، إنه تأتينا كتب من عند الخليفة فيها وفيها ولا نجد بداً من إنقاذها، فقال له أبو النصر: قد أتاك كتاب من عند الله قبل كتاب الخليفة، فأيهما اتبعت كنت من أهله. ودخل الزهري على الوليد بن عبد الملك فقال: ما حديث يحدثني به أهل الشام قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتبت له الحسنات، ولم تكتب عليه السيئات، قال: باطل يا أمير المؤمنين، أبني خليفة أكرم على الله أم خليفة غير بني؟ قال: بل بني خليفة، قال: فإن الله يقول لنبيه داود عليه السلام: (يا داود إنا جعلنك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) . فهذا يا أمير المؤمنين وعده لبني خليفة، فما ظنك بخليفة غير بني؟ قال: أن الناس ليفروننا عن ديننا. وقعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين نطيع أحياءكم، ولا نبرأ من موتاكم، فالتفت معاوية إلى المغيرة، وقال: هذا رجل فاستوحي به خيراً. وقال الأصمعي: لما مات يزيد بن معاوية، وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك خر أصحابه سجوداً إلا الأبرش الكلبي، قال: ما منعك أن تسجد كما سجدوا؟ قال: لماذا يا أمير المؤمنين لأنك ذهبت عنا؟ قال: فإن ذهبت بك معي، قال: وتفعل يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: الآن طاب السجود. وكان سعيد بن عتبة بن حصين، إذا حضر باب السلاطين جلس جانباًن فقيل له: إنك لتباعد الإذن جهدك، قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب، ثم قال: رأيت أناساً يسرعون تبادراً ... إذا فتح البواب بابك إصبعا ونحن سكوت جالسون رزانة ... وحلماً إلى أن يفتح الباب أجمعا ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفاً في الشمس عند باب المنصور فقال: لقد طال من وقوفك في الشمس، فقال: ليطول جلوسي في الظل. ووقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد اشتغل ببعض مصلحة المسلمين، فحجبه، فقال له رجل وأراد أن يغريه يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضري فيحجبك، فقال أبو سفيان: لا عدمت من قوي من أقف ببابه فيحجبني. وقال الشعبي: كنت جالساً عند القاضي شريح، إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها، وهو غائب، وتبكي بكاء شديداً، فقلت: أصلحك الله ما أراها إلا مظلمة، فقال: وما علمك؟ قال: لبكائها، قال: لا تفعل فإن إخوة يوسف (وجاءوا أباهم عشاء يبكون) ، وهم ظالمون. وكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى أن ترد شهادة مسلم إلا أن يجرحه المشهود عليه، فأقبل إليه رجل، فقال: يا أبا سعيد إن إياساً رد شهادتي، فقام معه الحسن إليه، فقال: أبا واتلة: لم رددت شهادة هذا المسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى قبلتنا فهو مسلم، له ما لنا وعليه ما علينا، قال: يا أبا سعيد إن الله يقول: (ممن ترضون من الشهداء) وهذا ممن لا نرضاه. وأقبل وكيع صاحب خراسان يشهد عند إياس بشهادة، فقال له: مرحباً وأهلاً بأبي المطرف، وأجلسه معه، ثم قال له: ما جاء بك؟ قال: جئت لأشهد لفلان، قال: مالك وللشهادة؟ إنما يشهد الموالي والتجار والسوقة، قال: صدقت، وانصرف من عنده، فقيل له: خدعك، إنه لا يقبل شهادتك، قال: لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب. وقيل للقاضي شريح: أيهما أطيب الجوزنيق أو اللوزنيق؟ قال: لا أحكم على غائب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ولما أتي بالهرمزان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له عمر: أعرض عليك الإسلام نصحاً لك في عاجلتك وآجلتك، فقال: يا أمير المؤمنين إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب في الإسلام رهبة، فدعا عمر بالسيف، فلما هم بقتله، قال: يا أمير المؤمنين، شربة ماء، هو أفضل من قتلي على ظمأ، فأمر له عمر بشربة ماء، فلما أخذها قال: أنا آمن حتى أشرب؟ قال: نعم، فرمى بها، وقال الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج، قال: صدقت، لك التوقف عنك والنظر فيك، ارفعا عنه السيف، فلما رفع قال: الآن يا أمير المؤمنين، أشهد أن لا إله الله وأن محمداً عبده ورسوله، وما جاء به حق من عنده، قال عمر: أسلمت خير إسلام وما أخرك؟ قال: كرهت أن تظن أني إنما أسلمت فزعاً من السيف، قال عمر: إن لأهل فارس عقولاً بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك، ثم أمر به أن ينزل ويكرم، فكان عمر يشاوره في توجيه الجيوش إلى أرض فارس. ويشبه هذا في التلطف والتحيل في النجاة ما حكي أن الكلبي قال: لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل على موضع، فبعث إليه علجه أن ابعث إلي رجلاً من أصحابك أكلمه، ففكر عمرو، وقال: ما لهذا غيري، فخرج حتى دخل على العلج، فكلمه فسمع ما لم يسمع قط كلاماً مثله، فقال العلج: حدثني عن أصحابك، هل فيهم أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هواني عليهم، إذ بعثوا بي إليك، وعرضوا لي إليك، ولا يدرون ما تصنع بي، فأمر له بكسوة وجائزة، وبعث إلى بوابه: إذا مر بك فاضرب عنقه، وخذ ما عنده، فخرج من عنده، فمر برجل نصراني من غسان، فعرفه، فقال له: يا عمرو قد أحسنت الدخول، فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراد، ورجع فقال له العلج: ما ردك إلينا؟ قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم مثل هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد، قال: صدقت، عجل بهم، وبعث إلى البواب. خل سبيله، فخرج عمرو وهو يلتفت حتى إذا أمن قال: لا عدت لمثلها أبداً، فلما صالحه عمرو دخل إليه العلج، قال له: أنت هو؟ قال: نعم على ما كان من غدرك. وقال العتبي: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن معدي كرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة، فبعث به إليه، فلما ضرب به وجده دون ما بلغه عنه، فكتب إليه في ذلك فرد عليه: إني إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث له بالساعد الذي يضرب. وسأله عمر يوماً عن السلاح، فقال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له، فقال له: ما تقول في الرمح؟ قال: أخوك، وربما خانك فانقصف، قال: فما تقول في الترس؟ قال: هو المجن وعليه تدور الدوائر، قال: والنبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب، قال: فالدرع؟ قال: مفشلة للراجل، مشغلة للراكب، وإنها لحصن حصين، قال: فما تقول في السيف؟ قال: هنالك لا أم لك يا أمير المؤمنين فعلاه عمر بالدرة، وقال: لا، بل لا أم لك. وقيل لمعاوية: أي الناس أحب إليك؟ قال: من كانت له عندي يد صالحة، قيل: فإن لم تكن؟ قال: فمن كانت لي عنده يد صالحة. وقيل لأبي عقيل العراقي: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه؟ قال: رأيته عند طلب الحاجة، رغبته في الإنعام فوق رغبته في الشكر، وحاجته إلى قضاء الحاجة أشد من حاجة صاحب الحاجة. وقال الأصمعي: نظر زياد إلى رجل من ضبة يأكل أكلاً قبيحاً. وهو من أقبح الناس وجهاً، فقال: يا أخا ضبة كم عيالك؟ قال: سبع بنات، أنا أجمل منهن، وهن آكل مني، فضحك زياد، وقال: لله دره ما ألطف جوابه، افرضوا لكل واحدة منهن مائة وخادماً وعجلوا له ولهن أرزاقهن. وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: كنت أريد أن تقبل مني هذه الجبة، فقال: إن كنت غنياً قبلتها منك، وإن لم تكن غنياً لم أقبلها منك، قال: فإني غني، قال: وكم مالك؟ قال: ألف دينار، قال: أفكنت تود أنه أربعة آلاف؟ قال: نعم، قال: فأنت فقير لا أقبلها منك. وسألت امرأة عبد الله بن جعفر، فأعطاها مالاً عظيماً، فقيل له: إنها لا تعرفك، وكانت يرضيها اليسير، قال: إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وقال الأصمعي: مدح نصيب عبد الله بن جعفر، فأمر له بمال كثير وكسوة شريفة، ورواحل موقرة براً وتمراً، فقيل له: أتفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود؟ فقال: أما والله إن كان عبداً إن شعره لحر، وإن كان أسود إن ثناءه لأبيض، وإنما أخذ مالاً يفنى وثياباً تبلى، ورواحل تنضى، وأعطى مديحاً يروى، وثناء يبقى. وقال العتبي: وفد حاجب بن زرارة على كسرى، فاستأذن عليه. فقيل له: أسيد الغرب أنت؟ قال لا، قيل: فسيد مضر؟ قال: لا، قيل: فسيد قومك؟ قال: لا، قيل: فسيد بني أبيك؟ قال: لا، ولكني رجل من العرب، فأذن له، فلما دخل عليه، قال له: من أنت؟ قال: سيد العرب، قال: أليس قد قيل لك: أسيد العرب أنت؟ فقلت: لا، حتى اقتصرت بك على بني أبيك، فقلت: لا، قال: أيها الملك لم أكن كذبك حتى دخلت عليك، فلما دخلت عليك صرت سيد العرب، قال: كسرى: املأوا فاه دراً. وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم فقال: (لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا) ، قال: حسبك. وقال المأمون ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في بني ربيعة، قال: بلى، ولكن منابرهم في الجذوع. ودخل المأمون يوماً بيت الديوان، فرأى غلاماً جميلاً، على أذنه قلم، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: الناشئ في دولتك، المتقلب في نعمتك، المؤكل لخدمتك الحسن بن رجاء. وأتى عبد الملك بن مروان برجل يسرق، فأمر بقطع يده، فأنشأ يقول: يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها ولا خير في الدنيا، وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها فأبى إلا قطعها، فقالت له أمه: يا أمير المؤمنين واحدي وكاسبي، فقال: بئس الكاسب كان لك، وهذا حد من حدود الله، قالت: يا أمير المؤمنين اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها، فعفا عنه. ولما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم، فقال رجل منهم: أصلح الله الأمير، لي حرمة، قال: وما هي؟ قال: ذكرت في عسكر بن الأشعث، فشتم في أبويك، فعرضت دونهما، وقلت: لا والله ما في نسبه مطعن، فقولوا فيه، ودعوا نسبه، قال: ومن يعلم ما ذكرت؟ فالتفت إلي أقرب الأسرى إليه، وقال: هذا يعلمه، فقال له الحجاج: ما تقول فيما قال هذا؟ قال: صدق، وبر الأمير، فقال: خليا عن هذا لنصرته، وعن هذا لحفظ شهادته. وأتي الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم، فقدم فيهم شاب، فقال له: والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب، فما أحسنت في العقوبة، قال: أف لهذه الجيف، أما كان فيهم من يقول مثل هذا، وأمسك عن القتل. وأتي الحجاج بأسرى، فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً، فإن الله يقول: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) فهذا قول الله تعالى في كتابه، وقول شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد فقال الحجاج: ويحكم أعجزتم أن تخبروني ما أخبرني هذا المنافق، وأمسك عمن بقي. وقال الهيثم بن عدي: أتي الحجاج بحرورية، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذه؟ قالوا: اقتلها أصلح الله الأمير، ونكل بها غيرها، فتبسمت الحرورية فقال لها: لم تبسمت؟ فقالت: لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج، استشارهم في قتل موسى، وقالوا: (أرجه وأخاه) وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي، فضحك الحجاج وأطلقها. وقال الأصمعي: بعث الحجاج في يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول: إن الحسين بن علي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتأتين بالمخرج مما قلت، أو لأضربن عنقك، قال له ابن يعمر: إن جئت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم، قال: اقرأ قوله تعالى: (وتلك حجتنا أتينها إبراهيم على قومه نرفع درجت من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزى المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) فمن أبعد عيسى من إبراهيم أو الحسين؟ وإنما هو ابن ابنة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الحجاج: والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط، وولاه قضاء بلده حتى مات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقال رجل لابنه: لو أوصيت بك إلى فلان؟ فقال: يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت، فالحي هو الميت. ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، فقال له: من أنت؟ كأنه لا يعرفه، فقال له الفرزدق: أو ما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا قال: أنا من قوم منهم أوفى العرب، وأسود العرب، وأجود العرب، وأحلم العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب، قال سليمان: والله لتبينن ما قلت، أو لأوجعن ظهرك ضرباً، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قومه عن جميع العرب، فوفى بها، وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فبسط له رداءه، وقال: هذا سيد الوبر، وأما أحلم العرب فالأحنف بن قيس الذي ضرب به المثل، وأما أجود العرب فعتاب بن ورقاء الرياحي، وأما أفرس العرب فالحريش بن عبد الله السعدي، وأما أشعر العرب فها أنا بين يديك، فاغتم سليمان مما سمع من فخره، ولم ينكره، وقال: ارجع على عقبيك؛ فما لك عندنا من ناشئ خير. وقال أبو عبيد: اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر، فأخرج لهم بردين، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما، فقام عامر بن الحمير السعدي، فاتزر بأحداهما، وارتدى بالآخر، فقال له النعمان: بم أنت أعز العرب؟ قال: العز والعدد في العرب في معد ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب، فلينافرني، فسكت الناس، فقال النعمان: هذه حالتك في قومك، فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك؟ قال: أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة. فأما أنا في نفسي فهذا شاهدي، ثم وضع قدميه في الأرض، وقال: من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل فلم يقم إليه أحد، فذهب بالبردين. وروي لما هدم الوليد كنيسة دمشق، كتب إليه ملك الروم: أنت هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها. فإن كان صواباً فقد أخطأ أبوك، وإن كان خطأ، فما عذرك؟ فكتب إليه (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شهدين ًَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) . وقال العتبي: كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عما لا قبلة له، وعمن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شيء ونصف شيء ولا شيء، وابعث لي ببذر كل شيء، فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس، فقال: أما ما لا قبلة له فالكعبة، ومن لا أب له فعيسى عليه السلام، ومن لا عشيرة له فآدم عليه السلام، ومن سار به قبره فيونس عليه السلام، وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم فكبش إبراهيم وناقة صالح وحية موسى عليه السلام، وأما شيء فالرجل له عقل يعمل به، وأما نصف الشيء فالذي ليس له عقل ويعمل برأي ذي العقل، وأما لا شيء فالذي ليس له عقل يعمل به، ولا يستعين بعقل غيره، وملأ القارورة ماء، وقال: هذا بذر كل شيء، فبعث معاوية إلى قيصر، فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال: ما خرج هذا إلا من بيت النبوة. وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان: أكلت لحم الجمال التي هرب عليها أبوك من المدينة إن لم أغزك جنوداً مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف فبعث عبد الملك إلى الحجاج فقال: ابعث إلي علي بن الحسين وتواعده، واكتب لي بما يقول لك، ففعل الحجاج فقال له علي بن الحسين: إن لله لوحاً محفوظاً يلحظه في كل يوم ثلاثمائة لحظة، ليس فيها لحظة إلا ويحيي فيها ويميت، ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفيك منها بلحظة واحدة، فكتب به الحجاج إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك بذلك إلى ملك الروح، فما قرأه ملك الروم قال: ما خرج هذا الكلام إلا من بيت النبوة. وقال رجل لإبراهيم النخعي: إني أختم القرآن كل ثلاث، قال: ليتك تختمه كل ثلاثين، وتدري أي شيء تقرأ. وسار إبراهيم النخعي في طريف، فلقيه الأعمش، فانصرف معه، فقال إبراهيم: الناس إذا رأوا قالوا: الأعمش والأعور، فقال: وما عليك أن يأثموا، ونؤجر، قال: وما عليك أن يسلموا ونسلم. وسأل رجل ابن سيرين عن مسألة فيها أغلوطة، فقال له: أمسك حتى تسأل عنها أخاك إبليس. وقيل لابن عباس: ما تقول في رجل طلق زوجته عدد نجوم السماء قال: يكفيه منها كواكب الجوزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وقال الفضل بن عياض: اجتمع محمد بن واسع، ومالك بن دينار فقال مالك بن دينار: ما هو إلا طاعة الله أو النار، قال محمد بن واسع: ليس كما تقول، ما هو إلا عفو الله أو النار، ثم قال مالك بن دينار: إنه ليعجبني أن تكون للإنسان معيشة قدر ما تقوته، قال محمد بن واسع: ولا هو كما تقول، ولكن يعجبني أن يصبح الرجل، وليس له غداء، ويمسي وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله، قال مالك بن دينار: ما أحوجني إلى من يعلمني مثلك. وكان يجلس إلى سفيان الثوري فتى كثير الفكرة، حسن الاستماع، طويل الإطراق، فأراد سفيان أن يحركه ليسمع كلامه، فقال: يا فتى إن من كانوا قبلنا مروا على خيل عتاق، وبقينا على حمير دبرة، فقال: أبا عبد الله إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بالقوم. وقيل لرجل ولي في الحرب: لا تهرب؛ فإن الأمير يغضب عليك، فقال: غضبه علي وأنا حي خير من رضاه عني وأنا ميت. وعرض الإسكندر جنده، فتقدم إليه رجل على فرس أعرج، فأمر بإسقاطه، فضحك الرجل وولى، فأنكر الإسكندر ذلك وأمر برده فقال له: ما حملك على ما رأيت منك وقد أسقطتك؟ قال: تعجبت من فعلك، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن تحتك آلة الهروب، وتحتي آلة الوقوف والثبات فأسقطتني، فعجب الإسكندر من قوله، وزاد في عطائه. وقيل لرجل: لم لا تخرج تقاتل العدو؟ قال: والله لا أعرف أحداً منهم ولا يعرفني فمن أين وقعت هذه العداوة بيني وبينهم. ومدح بعض الشعراء محمد بن عبدوس صاحب الشرطة، فقال له: أما أن أعطيك من مالي شيئاً فلا، ولكن اذهب فاجن جناية، لا آخذك بها. وجاء رجل إلى ابن أبي يعقوب فقال له: إذا نزعت ثيابي، ودخلت إلى النهر لأغتسل، إلى أين أتوجه؟ قال: أفضل ذلك أن يكون توجهك إلى ثيابك. وسأله آخر، فقال له: إذا شيعت الجنازة أقدامها أفضل أم خلفها؟ قال: اجهد ألا تكون فوقها، وكن حيث شئت من نواحيها. وجاء رجل إلى سوار القاضي، فقال: ما تقول أبقاك الله في القبلة في نهار رمضان؟ قال: مكروهة، قال: فإنها من صديقي، قال: تلك عافاك الله تقبل في شوال. ودخل حارثة بن زيد على زياد، وبوجهه أثر، فقال له: ما هذا يا حارثة؟ قال: أصلح الله الأمير، ركبت فرس الأشقر فجمح بي فقال له زياد: أما أنك لو ركبت الأشهب لم يصبك منه شيء أراد حارثة بالأشقر النبيذ، وأراد زياد بالأشهب اللبن. ووقف معاوية بن مروان بباب طحان، فنظر إلى حمار له يدور الرحا، في عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت الجلجل في عنق حمارك؟ قال: ربما تدركه سآمة أو نعاس، فإذا لم أسمع صوت الجلجل وعلمت أنه واقف، فصحت به قال: أرأيت إن وقف وحرك رأسه بالجلجل؟ قال: ومن لي بحمار يكون له مثل عقل الأمير. وباع رجل ضيعته، فلما قبض ثمنها، قال للمشتري: لقد أخذتها كثيرة المثونة، قليلة المعونة، فقال له المشتري: وأنت والله لقد أخذتها بطيئة الاجتماع، سريعة الافتراق. وقيل لعلي رضي الله عنه: كم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس، قيل: فكم بين السماء والأرض؟ قال: مسيرة ساعة لدعوة مستجابة. وقال أبو جعفر لعمرو بن عبيد: أعني بأصحابك أبا عثمان، قال: ارفع علم الحق يتبعك أهله. وشكى قوم إلى المسيح عليه السلام ذنوبهم، فقال: اتركوها تغفر لكم. وقيل لعقيل: مالك لا تطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وأقبل حاكم، فرأى سكران بالأرض، فأمر به إلى السجن، فقال له الخدمة: قم إلى السجن، فقال: لو كنت أستطيع المشي إلى السجن لمشيت إلى داري. وكان رجل غائباً عن أهله، فسألوا عن حاله: فقال لهم: هو أندلسي من رأسه، وغزي من أكتافه، ومحرم من بدنه، وتوزي من رجليه، ومتعبد من جسده، فقالوا: قل لنا: إنه عريان بالجوع. وكان رجل له زوجة جميلة، فقال له أحد أصحابه: إنها تخونه، فطلقها وتزوج امرأة أخرى. فقال له صاحبه ذلك. كيف أنت مع هذه؟ قال: كنت آكل شهداً مع غيري، صرت آكل قطراناً وحدي، يريد أنها قبيحة. وقيل لشبيب بن شيبة عند باب الرشيد: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجياً، والخارج راضياً. وتكلم ابن السماك يوماً، وجارية له تسمع، فلما دخل قال: كيف سمعت؟ قال: ما أحسنه، لولا أنك تردده، قال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه، قالت له: إن كنت تردده حتى يفهمه من لم يفهمه يمله من فهمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره، فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، انصرف إن شئت. وقيل لقيس بن عاصم: بم سودك قومك، قال: بكف الأذى عنهم، وبذل الندى، ونصر المولى. ونظر رجل إلى معاوية بن أبي سفيان، وهو غلام صغير - فقال: إني أظن هذا الغلام يسود قومه، فسمعته أمه هند، فقالت: ثكلته إن لم يسد غير قومه. ودخل ضمرة بن ضمرة على النعمان بن المنذر، وكان قبيح المنظر، فالتفت الناس إلى أصحابه، وقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: أيها الملك؛ إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن قال قال ببيان، وإن صال صال بجنان، قال: صدقت، وبحق سودك قومك. وقيل لعرابة الأوسي: بم سودك قومك؟ قال: بأربع خصال: أنخدع لهم في مالي، وأذل منهم في عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد كبيرهم. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب بن حرقة. قال: ممن؟ قال: من أهل حرة النار، قال: وأين مسكنك منها؟ قال: بذات لظى، قال: أدرك أهلك فقد احترقوا، فكان كما قال عمر رضي الله عنه. وكان أشعب الطماع يختلف إلى قينة بالمدينة، فلما أراد الخروج سألها إن تعطيه خاتم ذهب في يدها ليذكرها به، فقالت له: إنه ذهبت وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود، لعلك أن تعود، وناولته عوداً من الأرض. وقال رجل لخالد بن صفوان: إني أحبك، قال: وما يمنعك من ذلك؟ ولست بجار لك ولا أخ ولا ابن عم، يريد أن الحسد موكل بالأدنى فالأدنى. ومر محمد بن سيرين بقوم، فقام إليه رجل منهم، فقال: أبا بكر، إنا قد نلنا منك فحللنا، فقال: إني لا أحل ما حرم الله. وكان رقبة بن مصقلة جالساً مع أصحابه، فذكروا رجلاً بشيء، فطلع ذلك الرجل، فقال له بعض أصحبه: ألا أخبره بما قلنا فيه لئلا يكون غيبة؟ قال: أخبره، حتى يكون غيمة. وقيل لبعض الحكماء: فلان يعيبك، فقال: إنما يقرض الدرهم الوازن. وصلى الأعمى في مسجد قوم فأطال بهم الإمام. فقال له الأعمش: يا هذا لا تطل صلاتنا، فإنه يكون ذو الحاجة والكبير والضعيف، قال الإمام: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) قال الأعمش: أنا رسول رأس الخاشعين إليك، إنهم لا يحتاجون إلى هذا منك. ولقي جهم رجلاً من اليونانيين، فقال له: هل لك أن تكلمني وأكلمك فمن أسرته الحجة رجع إلى قول صاحبه، قال: نعم، قال اليوناني: أخبرني عن معبودك، أرأيته؟ قال: أسمعته؟ قال: لا قال: أفلمسته؟ قال: لا، قال: أفشممته؟ قال: لا، قال: فمن أين عرفته وأنت لم تدركه بحاسة من حواسك الخمس؟ وإنما عقلك دائر عليها، فلا يدرك إلا ما أدت إليه من جميع المعلومات، فتلجلج جهم ساعة ثم استدرك فعكس عليه مسألته، فقال له: أتقر أن لك روحاً؟ قال: نعم، قال: هل رأيت روحك أو سمعته أو لمسته أو شممته أو دنته؟ قال: لا، قال: وكيف علمت روحك؟ فأقر له اليوناني. ورفع ساق إلى حاكم، فأمر بضربه، فقال: كم تضربني؟ فقال له: بالحضرة تكون، وعد لنفسك. وقيل لأعرابي: ما لك من الولد؟ قال: قليل خبيث، يريد لا أقل من واحد، ولا أخبث من أنثى. واشترى رجل غلاماً، فقال له البائع: فيه عيب، قال: وما هو؟ قال: يبول في الفراش، قال: ليس هذا عندي عيباً، إن وجد فراشاً، دعه يبول ويسلح. وقال رجل لطفل: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال: إنما سألتك عن عمرك، فقال: فقل كم عمرك؟ فقال له كذلك، قال: ثمانية أعوام، قال: أحية أمك؟ قال: ما هي بحية ولا عقرب، ولكنها امرأة، فقال: فكيف أقول؟ فقال له: قل: أفي الأحياء أمك؟ فقال له كذلك، فقال له: نعم. ودخل رجل ببنت بكر، فوجدها مسنة، فعابها بكبر سنها، فقالت له: لا تلم إلا نفسك؛ إنك تركتني حتى كبر سني. واشتكى طفل بآخر إلى مؤدب، فقال له: إنه يشتمني في قلبه، قال له المؤدب: حكه أنت تحتك. ووقف رجل على طباخ، فأكل خبزه برائحة القدر، فدعاه إلى الحاكم وعرفه بفعله، فقال له الحاكم: اضرب بدرهم على رخامته، يأخذ طنينه ورد إليك درهمك. وخطر حاكم بالليل، وهو يطوف بالمدينة على سارق ينقب داراً فقال له: ما هذا؟ قال: مات لنا ميت، وأنا أحفر له من أين يخرج، فقال له الحاكم: وأين أمارة الموت؟ البكاء والصراخ؟ قال: آخر الليل تسمع النياح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وقال رجل لأحمد بن أبي خالد، وكان فظاً غليظاً، لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لئن لم تخرج مما قلته لأعاقبك، فقال: قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) وأنت فظ غليظ القلب، ولا يبرحون من حولك. وقال أعمى: ارحموا ذا زمانتين، قيل: وما زمانتك؟ قال: أعمى، قبيح الصوت. وسأل رجل رجلاً فرده وشتمه، فقال له السائل: تردني وتشتمني؟ قال: كرهت أن أردك غير مأجور. وقال المتوكل لأبي العيناء: كنت أشتهي منادمتك، لولا أنك ضرير البصر، قال: إن إعفاني أمير المؤمنين من قراءة نفش النصوص، ورؤية الأهلة، فأنا أصلح للمنادمة. وقيل لأبي العيناء: ما بقي في زماننا هذا أحد ينبغي أن يلقى قال: إلا في بئر. وتزوج معن نائحة، فسمعها تقول: اللهم وسع علينا في الرزق، فقال: يا فاعلة، إنما الدنيا فرح وحزن، وقد أخذنا بطرفي ذلك، إن كان فرح دعوني، وإن كان حزن دعوك، فهل ثم ثالث؟ واعتل ضرس لرجل، ففتح فاه للطبيب، فشم رائحة قبيحة، فقال: ليس هذا من عملي، ولكن من شغل الكنافين. وقال رجل لطبيب؛ خرج لي خراج في أقبح موضع، قال: كذبت، هذا وجهك لست أرى فيه شيئاً. وقال يونس بن محمد: مر بنا سكران، فسلم علينا، فلم نرد عليه سلاماً، وكنا جماعة، فقعد يبول وسطنا، فقلنا له: ما تصنع؟ فقال: ما ظننت أن هنا أحداً. ولما قتل الحسين بن علي جعل رجل يسلب بنته حليها ويبكي، فقالت له: ما يبكيك؟ قال: إني أسلبك، قالت: فدعه، قال: يأخذه غيري. وقال أبو علقمة لحجام دعاه يحجمه: اتق غسل المحاجم، وشد قصب الملازم، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكره آيباً، ولا تدعن آتياً، فوضع الحجام محاجمه في منديله، وقال: ابعث إلى الأصمعي يحجمك. ودخل أبو علقمة على طبيب، فقال: إني أجد في بطني غمغمة وقرقرة، فقال له: أما الغمغمة فلا أعرفها، وأما القرقرة فضراط لم ينضج. وقال رجل لآخر، إن لطمتك بلغتك المدينة، فقال: أحب أن تردفها بأخرى، عسى الله أن يرزقني حجة على يديك. وقيل لأبي عبيد: أيما أفضل البصرة أم الكوفة؟ فقال: لو دلني رجل على البصرة لوهبت له الكوفة مكافأة على فعله. وكان بعض الملوك قد أمر أهل مملكته أن يجعلوا السعي والانتشار بالليل والسكون بالنهار، فأخذ رجل بعد العصر، فأتي به للملك، فقال له: أما سمعت ندائي؟ قال: بلى، ولكن كانت لي حاجة مؤكدة، فأردت أن أبكر لها، فضحك الملك، وخلى سبيله. وقيل لرجل صلى صلاة خفيفة: ما هذه الصلاة؟ فقال: صلاة ما فيها رياء ولا تصنع. وقيل لبعضهم: هل يولد لابن تسعين؟ قال: نعم، إذا كان له جار ابن ثلاثين. وسمع رجل من الظرفاء رجلاً يقول: كان أبي لا يدخل الزقاق إلا قام له الناس، فقال: صدقت، لأنه كان على ظهره حمل شوك. وساق رجل قمحاً إلى طحان، فامتنع من طحنه، فقال له: اطحنه وإلا دعوت عليك، وعلى دوابك، فإني مستجاب الدعوة، فقال، فادع الله على قمحك، يرجع لك دقيقاً، فهو أنفع لك، وأسلم لدينك. ودخل أبو العيناء على أبي الصقر، فقال له: ما أخرك عنا؟ فقال: سرق حماري، قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللصوص فأخبرك، قال: فلم لم تأتني على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذل المكاري، ومنة العواري. ووقف أبو العيناء يوماً إلى صاعد بن مخلد، فقيل له: هو مشغول يصلي، فقال: لكل جديد لذة، وكان صاعد قبل أن يلي الوزارة نصرانياً. وقيل لأبي العيناء: ما تقول في ابن مكرم والعباس في رستم، فقال: هما الخمر والميسر، إثمهما أكبر من نفعهما. وقال أبو العيناء: ذكرت لبعض القيان فأحبتني على السماع، فلما رأتني استقبحتني، فقلت: وشاطرة لما رأتني تنكرت ... وقالت: قبيح أحول، ما له جسم فإن تنكري مني احولالاً، فإنني ... أديب أريب، لا عيي، ولا فدم فقالت: إني لم أدرك أن أوليك على دير العراق. وقال محمد بن يزيد المهلبي: كنت يوماً عند المنتصر، والجماز حاضر، فقال لي المنتصر: سله، هل بقي فيه للنساء شيء؟ فسألته يوماً: نعم، أقود عليهن. وقال الفتح للجماز: قد كلمت أمير المؤمنين يوليك على الكلاب والقرود قال: أفلست سامعاً مطيعاً، فضحك المتوكل، وأمر له بعشرة آلاف درهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقال زكريا النيسابوري: قلت لأبي نواس: لم لا أرى في بيتك مصحفاً؟ فقال: النور والظلام لا يجتمعان. وجاء شاعر إلى بشار بن برد، فأنشده شعراً ضعيفاً، وقال له: كيف تراه؟ فقال له: أحسنت، إذ أخرجته من صدرك، لو تركته لأورثك الفالج. وتوعد بشار رجلاً بالهجاء، وكان ذلك الرجل زولقاً، فقال له: إن هجوتني صورتك على باب حمام، وجعلت خلفك قرداً يداعبك، فقال بشار: اللهم اخزه؛ أنا أمازجه، وهو يأبى إلا الجد. ودخل أبو دلامة مصر، ثم انصرف منها إلى بغداد، فلقي أبا نواس، فقال له: كيف رأيت مصر؟ قال: رأيتها مقسمة على ثلاثة أقسام، قال: وما هي؟ قال: ثلث كلاب، وثلث دواب، وثلث تراب، قال: فأين الناس؟ قال: في الثلث الأول منها. وكان ابن شآنة شاعراً ماجناً ظريفاً، فجاءه يوماً غلام، فقال له: علمني الزندقة، فقال له: نعم، ففعل به، فقال له: ما هذا؟ فقال: هذا أول باب من الزندقة. ومرت امرأة بقوم وفي رجلها خف مقطع، فقال بعضهم، ما بال خفك يضحك؟ فقالت له: كذا يفعل إذا يرى القرانين. ومرت امرأة بقوم، وفي يدها طبق مغطى، فقال لها بعضهم: أي شيء في الطبق؟ فقالت: فعلى أي شيء غطيناه؟ وقبل لأعرابي: أيسرك أن تكون أحمق ولك مائة ألف درهم؟ قال: لا، قيل: ولم؟ قال: لأن حمقة واحدة تأتي على المائة ألف درهم، وأبقى أحمق معدماً. وتزوج عبادة امرأة، فأقامت عنده شهراً وولدت، فقال لها: ما هذا؟ فقالت: أنت عجنت على خميرة غيرك. وسألت أشعب صديقة له خاتماً، فقال لها: وما تصنعين به؟ قالت: أذكرك به، قال: اذكريني بأنك سألتني، فمنعتك. وجلس صبي مع قوم يأكلون طعاماً حاراً، فجعل الصبي يبكي، فقالوا: ما يبكيك؟ قال: الطعام حار، قالوا له: فاصبر حتى يبرد، قال: أنتم لا تصبرون. وخرج غلام من منزله في يوم مطر شديد، فقالت له أمه: يا بني، هذا المطر كله على رأسك، قال: لا، يا أمي، أكثره على الأرض، ولو كان أكثره على رأسي ما عشت. ونظر بعض الحكماء إلى غلام ومعه سراج، فقال له: من أين يجيء ضوء السراج؟ فقال له الغلام: إن أخبرتني أين يذهب إذا طفئ، أخبرتك من أين يجيء. ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بصبيان يلعبون، وفيهم عبد الله بن الزبير، فهرب الصبيان، وبقي عبد الله واقفاً، فقال له عمر: لم لا تفر مع أصحابك؟ قال لم يكن علي جرم فأفر، ولا الطريق ضيق فأوسعه لك. وأقبل المعتصم إلى خاقان يعوده من علة أصابته، والفتح يومئذ صبي، فقال له المعتصم: أيما أملح دار أمير المؤمنين أو دار أبيك؟ قال: دار أبي إذا كان فيها أمير المؤمنين. وكان في يد المعتصم خاتم بفص، فقال له: رأيت يا فتح أحسن من هذا الفص؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اليد التي الخاتم فيها. وحكى محمد بن العباس قال: حدثني الفضل قال: عاتبت أم جعفر بحضرتها، وقال له: وجه إلى محمد وعبد الله خادمين خصيين يقولان لكل واحد منهما: ما يفعل معه، إذا أفضت الخلافة إليه؟ ففعلا، فأما محمد فإنه قال: أعطيك أموالاً، وأما عبد الله فإنه رمى الخادم بدواة، كانت بين يديه، وقال: يا ابن اللخناء، أتسألني ما أفعل معك يوم موت أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، إني لأرجو أن أكون أنا وأنت فداء له، فرجعا بالخبر، فقال الرشيد لأم جعفر: ما أرى تقديم ابنك إلا ظلماً. وقال بعضهم: رأيت أعرابياً في طريق مكة يسأل، ولم يعط شيئاً ومعه صبي صغير، فلما طال عليه الأمر، قال: ما أراك إلا محروساً، قال الصبي: يا أبت، المحروم من سألته فبخل، ولم يعط، فعجب الناس منه، ووهب له شيء كثير. وجاء رجل إلى حمزة بن نصير فقال: أصلحك الله، إن أخي مات، وما عندي ما نكفنه، قال: والله ما حضر لي اليوم شيء، ولكن تفتقدني بعد هذا اليوم، فقال: فعسى أن تأمر لي بدرهم آخذ به ملحاً، قال: وما تصنع به؟ قال: أملحه لئلا ينتن حتى يتيسر الكفن إن شاء الله. وتكلم عبد الله بن الزبير مع امرأة، فقال لها في بعض كلامه، أخرجي المال تحت استك، فقالت لمن حضر: سألتك بالله، هذا كلام الخلفاء؟ قالوا: لا، فقالت لابن الزبير: كيف ترى هذا الخلع الخفي؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ومر شبيب بن زيد رئيس الخوارج، بغلام في الفرات، فقال له: اخرج يا غلام أسائلك، وكان أراد قتله، فقال له الغلام: أمني حتى ألبس ثيابي، فأمنه، فقال: والله، لا ألبسها اليوم، قال شبيب: خدعتني، وانصرف عنه. وحكى بعض البصريين أن عمر بن أسد صاحب السند قال: غزوت بعض بلاد السند، فوجدت شيخاً كبيراً، ومعه غلام، فسألته عن الناس، فقال: إن أردت أن أدلك عليهم، فاقتل هذا الغلام؛ لئلا يخبر بأمري، فأموت بضرب عنقه، ثم سألت الشيخ فقال: لو كانوا تحت قدمي ما رفعتها عنهم، وإنما خفت أن تسأل الغلام فيدلك عليهم، قال: فقتل الشيخ ولم يخبر. وقال بعضهم: ورد الخبر على المنصور بخروج محمد بن عبد الله وأخيه إبراهيم، وهو يريد المدينة، فنظر إلى شجرة صغيرة يقال لها الخلاف، فقال للربيع: ما اسم هذه الشجرة؟ فقال: اجتماع يا أمير المؤمنين، فعلم أنها خلاف، وأعجبه قول الربيع. ونظر المأمون إلى جارية له، وبيدها سواك، فقال لها: كيف تجمعين مسواكاً؟ قالت: محاسنك يا أمير المؤمنين، فاستحسن ذلك منها. وأتي الحجاج بالغضبان بن القبعثري، وبيد الحجاج لقمة، فقال: والله لا أكلتها حتى أقتلك، قال الغضبان: وخير من ذلك -أصلحك الله أيها الأمير، تطعمنيها، ولا تقتلني، فتكون قد بررت في يمينك، ومننت علي، فقال الحجاج: ادن مني، فدنا منه، فأطعمه إياها، وخلى سبيله. ويروى أن الحجاج مر في طريق المدينة بأعرابي، فقال له الأعرابي: ما وراءك أيها الركب؟ قال: خير قوم الحجاج، فقال الأعرابي: (إنا لله وإنا إليه راجعون) دمره الله وأهلكه، قال: ولم؟ قال: يخرجها كما أخرب مكة عليه لعنة الله، فنزع الحجاج عمامته عن رأسه، وقال: أنا الحجاج، فقال الأعرابي: وأنا ميمون غلام كرعان، أصرع في اليوم ثلاث مرات، فضحك الحجاج ومضى وتركه. وكان مزيد يداخل بعض ولاة المدينة، وكان لطيف المحل عنده، فأبطأ عنه يوماً، فلما جاء، قال له: ما الذي أبطأك عني؟ قال: جارة لي كنت أهواها منذ زمان، فظفرت بها البارحة، وتمكنت منها، فهذا الذي حبسني، فغضب الوالي وقال: والله لآخذنك بإقرارك فلما عزم عليه قال: فاسمع مني تمام حديثي. قال: وما هو: قال: فلما أصبح خرجت لطلب معبر، يعبر لي رؤياي، فلم أجده، فهذا الذي أبطأني عنك، قال: في المنام - ويلك - رأيت هذا؟ قال: نعم، فسكن غضبه. وحكى رجل عن شريك قال: رأيت أبا حنيفة وعنده حجام، يأخذ من شعره، فقال أبو حنيفة: خذ البياض من شعري، فقال له الحجام: إذن يكثر، فقال أبو حنيفة: فخذ السواد لعله يكثر، فضحك شريك، وقال: لو ترك أبو حنيفة قياسه في موضع، لتركه مع الحجام. وجاء قوم إلى أبي حنيفة، فقالوا: ما تقول في رجل وجد معه طنبور، هل يجب عليه تأديب؟ قال: لا، قالوا: ولم قد وجد معه آلة الفسوق، قال: فكل واحد منكم معه آلة الزنا، فهل يجب عليكم حد؟ فانقطعوا. وجاء رجل فوضع بين يديه عسل فيه نبيذ، على باب المسجد بالكوفة، وجعل ينادي: من يشتري مني كذا وكذا رطلاً بدرهم، وكان أبو حنيفة قد أحل النبيذ، فلما سمع أبو حنيفة قوله، قال: يا هذا، إنك فعلت قبيحاً، قال: أنت أحللته. قال: صدقت: ومن الحلال أن ينكح أبوك أمك في وسط السوق، ولكن يكون قبيحاً. ودخل معن بن زائدة على المنصور، فقارب في خطوه، فقال له المنصور: كبرت يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لجلداً قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين. ورأى المنصور بعض أولاد الأشتر، فهم بقتله، فقال: يا أمير المؤمنين ذنبي أعظم من نقمتك، وعفوك أوسع من ذنبي، فإن لم أكن للعفو لسوء ما أتيته أهلاً، فأنت له أهل، فاستحسن قوله، وعفا عنه. وأسر يوم الجمل رجل، فأتي به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: ويلك، وأنت ممن ألب علينا، فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، لأن تلقى الله، وقد عفوت عني خير من أن تلقاه، وقد شفيت غيظك، قال: اذهب حيث شئت. وأتي الحجاج برجل من الخوارج، فأمر بضرب عنقه، فقال له: أخرني يوماً، قال: ما تريد بذلك؟ قال: أؤمل فيه عفو الأمير، مع ما تجري به المقادير فتركه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وأتي عبد الملك بن مروان بأسير، فدعا بالسيف والنطع، فوافق ذلك دخول صغار بني عبد الملك باكياً، قد ضربه المؤدب، فانزعج لذلك عبد الملك، وأرادوا تسكينه، فقال الأسير: دعوا الغلام ما أنت فيه عن هذا القول؟ قال: ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن النصيحة شيء إلا أن يعوق عائق، قال: خلوا سبيله. وجاز المنصور يوماً، والفرج بن فضالة جالس على باب الذهب، فقام الناس جميعاً، ولم يقم الفرج، فاستشاط المنصور غضباً، ودعا به، وقال: ما منعك من القيام؟ قال: خفت أن يسألني الله تعالى: لم فعلت؟ ويسألك: لم رضيت؟ وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فسكن غضبه، وقربه، وقضى حاجته. وبلغ هشام بن عبد الملك عن رجل فيه شيء قبيح، فأحضره، فتكلم بحجته، فقال له هشام: وتتكلم أيضاً؟ فقال يا أمير المؤمنين يقول الله عز وجل: (يوم تأتى كل نفس تجدل عن نفسها) ، فنجادل الله جدالاً، ولا نتكلم إليك كلاماً؟ فقال هشام: تكلم بما شئت. وعربد غلام هاشمي، فشكوه إلى عمه، فأراد عمه أن يوقع به الحد، فقال: يا عم: إني أسأت، وليس معي عقلي، فلا تسيء إلي ومعك عقلك، فصفح عنه. وجلس موسى بن عبد الملك للمظالم، فدخل عليه أهل شهرين، وفيهم سهل بن عاصم، فتظلموا إليه من عاملهم، وسهل ساكت، فقال له موسى: إن قال سهل كما قلتم صرفته عنكم، ثم قال: ما تقول يا سهل؟ قال: أقول: أعزك الله، إنه لم يظلمنا، ولكن الله أمر فينا وفي أمثالنا بالعدل والإحسان، فعدل فينا، ولم يحسن، ولن تصلح أحوالنا إلا بالإحسان، فقال موسى: قد صرفته عنكم، ووليتك عليهم فاعدل وأحسن. وأقبل بعض السلاطين، فقام إليه رجل، فقال له: لم قمت؟ فقال: لأقعد، فولاه عملاً، واتخذه لنفسه. وقيل لأعرابي: ما فعل بنوك؟ قال: أكلهم دهر لا يشبع، يعني ماتوا. وقيل لأحد الزهاد: لم تحب الدراهم، وهي تدنيك من الدنيا؟ قال: هي وإن أدنتني من الدنيا، فقد صانتني عنها. وكان في بني الجراح فتى خليع ماجن، فأراد العبث بأبي العيناء فنهاه نصاحه، فأبى، فقالوا له: شأنك به، فقال له: يا أبا العيناء، متى أسلمت؟ قال: حين كفر أهلوك، وأبوك الذين لم يؤدبوك، قال له الفتى: إذن علمت أنا ما أسلمت، فقال أبو العيناء: شهادتك لأهلك دعوى، وشهادتي عليهم بلوى، وستعلم أي السلاطين أقوى، وأي الشياطين أغوى، وسيعلم أهلك ما خبأ عليهم جهلك. وأقبل رجل إلى الأعمش، فقال: يا أبا محمد، إني اكتريت حماراً بنصف درهم، وجئتك لتحدثني، قال: اكتره بالنصف الثاني، وارجع: فما أريد أن أحدثك. وكان عقال بن سليمان يروي الحديث، فقال له بعض من حضر: إن رأيت أن ترفع صوتك؛ فإن بسمعي ثقلاً، فقال له: الثقل في كل شيء منك، ليس في سمعك. وقال رجل لابن عمران المختار بن عبيد الله يزعم أنه يوحى إليه قال: صدق، يقول الله عز وجل: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) . وقال رجل ليونس بن حبيب: ما بالي إذا تذاكرتم الحديث نعست قال: لأنك حمار في مسلخ إنسان. وكان للمغيرة بن عبد الله الثقفي، وهو والي الكوفة جدي كل يوم يوضع على مائدته، فحضر يوماً أعرابي، فمد يده إلى الجدي، وأسرع فيه، فقال له المغيرة: إنك تأكله أكل حنق عليه كأن أباه نطحك، فقال له الأعرابي: وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك. وقال معاوية لعبد الله بن عباس: لي عندك حاجة يا أمير المؤمنين أفتقضيها لي؟ فقال له: نعم، فقال له ابن عباس: سل حاجتك يا أمير المؤمنين، قال: أريد أن تهب لي دورك وضياعك التي بالطائف، قال: قد فعلت، فقال له معاوية: قد وصلت الرحم، فسل حاجتك، قال: حاجتي إليك أن تردها إلي، قال معاوية: قد فعلت. وقال رجل لثمامة بن أشرس: لي إليك حاجة، قال: وأنا لي إليك حاجة أفتقضيها؟ قال: نعم، قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة. وكان أشعب يختلف إلى قينة يعلمها، فطلبت منه درهماً، فانقطع عنها، فعلمت له دواء، ولقيته به، فقال لها: ما هذا؟ فقالت له: دواء علمته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك، قال: اشربيه أنت للطمع، فلو انقطع طمعك، لانقطع فزعي. ورمى المتوكل عصفوراً بالبندق، فلم يصبه، فقال ابن حمدون: أحسنت يا أمير المؤمنين، فقال المتوكل: أتهزأ بي؟ كيف أحسنت؟ قال: إلى العصفور الذي تركته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ونظر أعرابي إلى درهم في يد رجل، فأدام النظر إليه، فقال له الرجل: لو كان لك ما كنت تصنع؟ قال: كنت أنظر إليه نظرة، ثم يكون آخر عهده بالشمس. وحكى بعضهم قال: وقف خالد بن صفوان بباب سليمان بن علي، فاتقى بغلة كانت بالموضع واقفة، فقيل له: إنها ما ركضت أحداً قط، فقال: أخاف أن أكون أنا المستثنى، فيقال: غير خالد. وجاء رجل إلى أبي ضمضم القاضي، يستعدي على رجل في دابة، اشتراها منه، وبها عيب، فقال أبو ضمضم: وما عيبها؟ قال: في أصل أذنها شيء مثل الرمانة، وفي ظهرها شيء مثل التفاحة، وفي عجيزتها شيء مثل الجوزة، وفي بطنها شيء مثل اللوزة، فقال القاضي: مر عنا يا بارد؛ هذا من صفات بستان، لا عيب دابة. وهبت ريح شديدة، فقال الناس: قد قامت القيامة، فقال زائدة المخنث: قيامة بلا خروج دابة، ولا خروج دجال، هذا مما لا يكون. وكتب سليمان بن عبد الملك إلى عامله بالمدينة، أن أحصي المخنثين، واخصهم، فخصاهم، وكان فيهم دلال المخنث، فمر بهم رجل، فقال له: ما هذا؟ فقال: الختان الثاني، فالآتي تم التخنيث. ولما صلب ابن برحان اللص، جاز عليه خبيب بن ثابت فنظر إليه ودعا له، فقيل له: لم تدعو له، وهو برحان اللص؟ قال: فلمن أدعو، أللحسن وابن سيرين؟ وأتت امرأة إلى بلال بن بردة من ولد أبي موسى الأشعري في أمر اتفق بينها وبين زوجها، فأوجب الحاكم أن يفرق بينهما، فقالت له المرأة: يا بني موسى، ما خلقكم الله إلا للتفريق بين الناس. وحج سليمان بن الأعمش، ومعه جماعة، فطالبهم الجمال بشيء، فأخذوا في ضربه، فقيل لسليمان بن الأعمش، وكان في يده عصاً: يا أبا محمد، ألست حاجاً؟ قال: بلى، ولكن من تمام مناسك الحج ضرب الجمال. وقال الهيثم بن عدي: قعدت عند ابن عباس رضي الله عنه، فجاءت هدية من مكة فيها ثياب من عمل أهل اليمن، وأخر من مصر فقلت: ألست تروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من جاءته هدية، وعنده قوم جلوس، فهم شركاؤه فيها، قال: يا ابن أخي، إنما ذلك في التمر والسويق، وما أشبههما، وأما في الثياب العدنية، فلا. ولما حج المأمون اعترضه رجل في الطريق، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل أريد الحج، قال له: الطريق أمامك، قال: وليس لي نفقة، قال: قد سقط عنك الغرض، قال: إني جئت مستمخاً لا مستفتياً، فأمر له بجائزة، وضحك. وقال أبو علي البصري لأبي العيناء: إني ولدت قبل طلوع الشمس بيسير، قال: فلذلك كنت سائلاً؛ لأنه وقت انتشار الشمس. ووقع حرب في بعض الثغور، فخرج رجل بقوس بلا نشاب، فقيل له في ذلك، فقال: نأخذ النشاب مما يجيئنا من العدو، قيل له: فإن لم يجيء، قال: لا يكون بيننا وبينهم قتال. وتغدى أبو الحارث عند رجل، فقدمت دجاجة، فقال لغلامه: إنما كان ينبغي أن تقدمها في أول الطعام، ارفعها، فما كان في اليوم الثاني أتى بها في وسط الطعام، فقال: ألم أقل لك: إنما يبدأ بها في أول الطعام، فقال له أبو الحارث: دجاجتك هذه ميتة أطول عمراً منها حية. وكان بعضهم يقدم على مائدته خبز درمك مقدار ما يأكله وحده، ويطعم جليسه خبزاً أحمر، وكانت هذه عادته مع من يواكله، فحضر مائدته يوماً إنسان لم يحضرها قبل ذلك، فلما وضع الدرمك بين يديه، مد الرجل يده، وأخذ منه، فقال له صاحب الموضع: ما هذا؟ قال: اشتهيت أن آكل خبزي بهذا الخبز، فخجل رب الدار، وعلم قبح فعله. وسرق لرجل بخيل عشرة آلاف درهم، فأظهر الجزع عليها، فقال بعض الناس: من أين كنت اكتسبتها؟ قال: كنت أجمع الدرهم إلى الدرهم منذ ثلاثين سنة، قال: فهل كنت تحدث نفسك أن تفعل بها شيئاً من أبواب البر؟ قال: لا، قال: فهل كنت تؤمل أن تمتع بها نفسك؟ قال: لا، وإنما كنت أجعلها في جراب تحت رأسي، أستلذ بها، قال: فاجعل تحت رأسك حجراً عوضاً منها. وكان بعضهم يتعاهد وقت طعام رياح الجوهري، ولا يخطئ وقته عند الزوال، وربما دخل وهم يأكلون، أو حين تجعل المائدة، فيقول: لعن الله القدرية، من كان يستطيع أن يصرفني عن هذا الطعام وقد كان في اللوح المحفوظ أني لابد أن آكله؟ فلما أكثر من ذلك قال له رياح: تعال أنت في غير هذا الوقت، فإن وجدت ما تأكله، فالعن القدرية وآباءهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وكان الواثق شديد المحبة للباذنجان، وكان يعمل له كل يوم ألوان كثيرة، فيأكل منها كل يوم ثلاثمائة باذنجانة، فوجه إليه المعتصم يقول له: يا بني: هل أريت خليفة أعمة قط؟ قال للرسول: أبلغ أمير المؤمنين، إني قد تصدقت ببصري على الباذنجان. وجاء بعض الثقلاء إلى بعض الظرفاء، فقال له: بلغنا عنك أن لك أربعة آلاف كلمة من الجواب المسكت، وأحب أن تعلمني بعضها، قال: سل عما بدا لك حتى أعلمك، قال: إن قال لك أحد: اسكت يا ثقيل. قال: قل له، صدقت، فخجل الرجل وانصرف. وجلس ثقيل إلى جانب ظريف ثم قال: لعلك استثقلتني؟ قال: يعلم الله أني استثقلتك وأنت في بيتك، فكيف وأنت بجانبي؟ ورفع رجل إلى الفضل بن يحيى رقعة بيضاء، ليس فيها شيء، فقال له الفضل: يا هذا، ليس في رقعتك شيء مكتوب، فقال له: يا سيدي اكتب فيها أنت ما يليق بفضلك، فكتب فيها أن يعطى مالاً جزيلاً. وسأل أبو العيناء أحمد بن صالح حاجة، فواعده بها، فلما طالبه بالاقتضاء، قال أحمد: ما ترى هذا الطين والمطر؟ قال أبو العيناء: فحاجتي إذن صيفية، فضحك، وقضى حاجته. وعوتب بعضهم على ما يتعاطاه من الحمق، فقال: حمق يعولني خير من عقل أعقوله. ونظر الحسن يوماً إلى رجل عليه بردة حسنة، وحالة جميلة، فقال: من هذا؟ فقيل له: ضراط، فقال الحسن: ما طلب أحد الدنيا بما تستحق إلا هذا. واشترى رجل ثلاثة أرطال لحماً، وقال لامرأته: اطبخيه، وخرج إلى شغله، فطبخته المرأة، وأكلته، فلما جاء زوجها، قال: هات ما طبخت، فقالت له: أكله السنور، فأخذ الرجل السنور ووزنه، فإذا فيه ثلاثة أرطال. فقال لها: هذا وزن السنور، فأين اللحم؟ أو هذا وزن اللحم، فأين السنور؟ وكان السمك في زمن كسرى عزيزاً، فجاء صياد بسمكة فيها ثمانية أرطال، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت له جارية: تعطي في ثمانية أرطال من سمك أربعة آلاف درهم؟ قال: فرديه، فأمرت برده ثم قالت له: سمكتك هذه ذكر هي أم أنثى؛ طمعاً في أن يقول: ذكر فتقول: أنثى نريد، أو يقول: أنثى، فتقول: ذكراً نريد؛ ففطن الصياد، فقال لها: هي خنثى، لا ذكر ولا أنثى، فقال كسرى: زيدوه أربعة آلاف درهم أخرى، فقبض الصياد المال وانصرف، فسقط له درهم، فأكب عليه وأهذه، فقالت له الجارية: انظر خساسته وسوء أدبه، أعطيته ثمانية آلاف درهم، وآكب بحضرتك لأخذ درهم، فأمر كسرى برده، فقال: لم أسأت الأدب؟ قال: كان على الدرهم صورة الملك، فأجللته أن يقع على الأرض، فقال كسرى: أعطوه أربعة آلاف درهم، ثم قال: هذا ما يجري من النساء. وكان رجل قاعداً في مجلس وليمة، فكل من دخل وسعوا له، فضاق الرجل، فقام يخرج، فقيل له: إلى أين؟ قال: أخرج وأدخل عساكم أن توسعوا لي. وقيل لأعرابي: لمن هذه الإبل؟ قال: لله وهي في يدي. وخاطب أعرابي عبد الله بن جعفر، فقال في مخاطبته: يا أبا الفضل، فقيل له: ليس هذا كنيته، فقال: إن لم تكن كنيته فهي صفته. وقعد أبو الحارث إلى قينة بالمدينة صدر نهاره، فجعلت تحدثه ولا تذكر الطعام، فلما طال ذلك به، قال: ما لي لا أسمع للغداء ذكراً؟ قالت: سبحتن الله، ما تستحي، أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ قال لها: جعلت فداك، لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعة لا يأكلان فيها لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه، ثم افترقا. وحضر أبو نواس مجلساً فيه قيان، فقلن له: أبا نواس، ليتنا بناتك، قال: نعم، ونحن على دين المجوسية؛ وذلك لأن المجوس ينكحون بناتهم. ونظر عمران بن حطان إلى امرأته، وكانت من أحسن النساء، وكان هو من أقبح الرجال، فقال: إني وإياك في الجنة إن شاء الله، قالت: وكيف ذلك؟ قال: لأنني أعطيت مثلك فشكرت، وابتليت بمثلي فصبرت. وجاء أعرابي إلى ابن الزبير، فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام، قال: اذهب فقاتل، فإن أغنيت أعطيتك، قال: أراك جعلت روحي نقداً، ودراهمك نسيئة. وقيل لأشعب: ما أحسن الفناء؟ قال: نشيش المقلاة، قيل: فما أطيب الزمان؟ قال: إذا كان عندك ما تنفق. وكتب عامل عمان إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إنا أتينا بساحرة، فألقيناها في الماء فطفت على الماء، فكتب له عمر: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة، وإلا خل عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقال الأصمعي: سأل علي بن أبي طالب ابنه الحسين رضي الله عنهما: كم بين الإيمان واليقين؟ قال: أربع أصابع، قال: وكيف ذلك؟ قال: الإيمان كل ما سمعته أذناك، وصدقه قلبك، واليقين ما رأته عيناك فصدق به قلبك، وليس بين الأذن والعين إلا أربع أصابع. وقال الحسن لفرقد السبخي: بلغني أنك لا تأكل الفالوذج، قال: يا أبا سعيد، أخاف ألا أؤدي شكره، قال: يا لكع، هل يؤدي شكر الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء أحد؟ أما سمعت الله يقول: (كلوا من الطيبات) و (كلوا من طيبات ما رزقنكم) . وسمع الحسن رجلاً يعيب الفالوذج، فقال: لعاب النحل، بلباب البر، بخالص السمن، ما عاب هذا مسلم. وقيل لبقراط: مالك تقل الأكل جداً؟ قال: إني إنما آكل لأحيا، وغيري يحيا ليأكل. ودعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى الغداء، فقال: ما بي فضل يا أمير المؤمنين، قال: لا خير في رجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل. وقيل للأحنف بن قيس: أي الشراب أطيب؟ قال: الخمر، قيل له: وكيف عرفت ذلك وأنت لم تشربها؟ قال: إني رأيت من حل له لا يتعداها ومن حرمت عليه إنما يدور حولها. وقال قيصر لقس بن ساعدة: أي الأشربة أفضل عاقبة في البدن فقال: ما صفا في العين، واشتد على اللسان، وطابت رائحته في الأنف من شراب الكرم، قال: فما تقول في مطبوخه؟ قال: مرعي ولا كالسعدان، قال: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: ميت أحيي فيه بعض المتعة ولا يكاد يحيي من مات مرة. وقيل لأعرابي: ما لك لا تشرب الخمر؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلي. وقيل لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما منعك من شرب الخمر في الجاهلية ولا حرج عليك فيها؟ قال: إني رأيتها تذهب العقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملة ولا يعود جملة. ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم، وهم يشربون ويوقدون في الأخصاص، فقال: نهيتكم عن معاقرة الشراب، وعن الوقد في الأخصاص فأوقدتم، وهم بتأديبهم، فقالوا: مهلاً يا أمير المؤمنين، نهاك الله عن التجسس فتجسست، ونهاك عن الدخول بغير إذن، فدخلت، فقال: هاتان بهاتين وانصرف، وهو يقول: كل الناس أفقه منك يا عمر. وكان بالمدينة أعمى، فأتى يوماً عيناً يغتسل بها، فدخل بثيابه، فقيل له: بللت ثيابك، فقال: لأن نبتل علي خير من أن تجف على غيري. وحكى الهيثم بن عدي قال: بينما أنا بكناسة الكوفة، إذا برجل مكفوف، قد وقف إلى نخاس الدواب، فقال له: يعني حماراً، ليس بالقصير، ولا بالكبير، إذا خلا الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام ترفق، إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرته شكر، إن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام، فقال له النخاس: يا أبا عبد الله، اصبر، فإن مسخ الله القاضي حماراً، أصبت حاجتك إن شاء الله تعالى. الباب الثالث في أبيات شعر وقعت جواباً، واستعملت خطاباً اجتمع ناس من الشعراء، وأتوا منزل عدي بن الرقاع، وصاحوا به. فخرجت بنت له صغيرة، فقالت: ما تريدون؟ قالوا: نريد أباك، نهجوه، ونفضحه، فقالت: تجمعتم من كل أوب، ووجهة ... على واحد، لازلتم قرن واحد فاستحيوا، وانصرفوا خجلين. ولقي كثير الفرزدق، فقال له الفرزدق، يعرض له بسرقته للشعر: يا أبا ضمرة، أنت أنسب العرب حين تقول: أريد لأنس ذكرها، فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل فقال له كثير يعرض بسرقته، وأنت يا أبا فراس أفخر العرب حيث تقول: ترى الناس ما سرنا، يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا وهذان البيتان لجميل، سرق الفرزدق واحداً، وكثير واحداً، فقال له الفرزدق: هل كانت أمك ترد البصرة؟ قال: لا، ولكن كان أبي كثيراً ما يردها، فعرض كل واحد منهما بصاحبه. ومر الأقيشر الأسدي بقوم من بني عبس، فقال بعضهم: يا أقيشر، وكان يغضب إذا دعي بذلك، فنظر إليه وأنشأ يقول: أتدعوني الأقيشر، ذلك أسمي ... وأدعوك ابن مطفئة السراج تناجي خدعها بالليل سراً ... ورب العرش يعلم ما تناجي فسمي الرجل ابن مطفئة السراج ونظر رجل إلى الحسن بن عبد الحميد يزاحم الناس على باب محمد بن سليمان فقال: أمثلك يرضى بهذا؟ فقال: أهين لهم نفسي؛ لاكرمها بهم ... ولا يكرم النفس الذي لا يهينها وقال أبو مسهر: أتيت أبا جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان، فحجبني، فكتبت إليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 إني أتيتك للتسليم أمس، فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب وقد علمت بأني لم أرد، ولا ... والله، ما رد إلا العلم والأدب فأجابني ابن عبد كان: لو كنت عافيت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس، وفيما قاله أدب ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً ... إن السماء ترجى حين تحتجب وقيل لجبان في موقف حرب: تقدم فقاتل، فأنشأ يقول: وقالوا: تقدم، قلت: لست بفاعل ... أخاف على فخارتي أن تحطما فلو كان لي رأسان، أتلفت واحداً ... ولكنه رأس إذا مات أعقما وأيتم أولاداً، وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدما؟ ووقف بعض الشعراء بباب أمير الرقة، فلما مثل بين يديه أنشده: ماذا أقول إذا أتيت معاشراً ... صفراً يدي من جود أروع مجزل إن قلت: أعطاني كذبت، وإن أقل ... بخل الأمير بما له لم يجمل ولأنت أعلم بالمكارم والعلا ... من أن أقول: فعلت ما لم تفعل فاختر لنفسك ما أقول؛ فإنني ... لابد مخبرهم وإن لم أسأل فأعطاه عشرة آلاف درهم وكتب معها: أعجلتنا، فأتاك عاجل برنا ... قلاً، ولو أمهلتنا لم نقلل فخذ القليل، وكن كأنك لم تسل ... ونكون نحن كأننا لم نفعل وقدم الحطيئة المدينة فوقف على عيينة، فقال له: أعطني، فقال: ما لك عندي حق فأعطيكه، وما في مالي فضل عن عيالي، فخرج مغضباًن وعرفه جلساؤه، فأمر برده، ثم قال له: يا هذا، إنك وقفت إلينا، فلم تستأنس ولم تسلم، وكتمتنا نفسك، كأنك كنت مجتنباً، قال: هو ذاك، قال: فاجلس؛ فلك عندنا ما تحب، فجلس، فقال له: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يغره، ومن لا يتق الشتم يشتم وأتى الشعبي مسجداً، فصادف فيه قوماً يغتابونه، فوقف عليهم، ثم قال: هنيئاً مريئاً، غير داء مخامر=لعزة من أعراضنا ما استحلت وقال الهيثم بن عدي: لما انفرد سفيان بن عيينة، ومات نظراؤه من العلماء، تكاثر الناس عليه يسألونه، فأنشأ يقول: خلت الديار، فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤود وقال بعض الرؤساء لأبي العيناء: أبا العيناء، لو مت لرقص الناس طرباً وسروراً، فقال بديهاً: أردت مذمتي، فأجدت مدحي ... بحمد الله ذلك، لا بحمدك فلا تك واثقاً أبداً بعمد ... فقد يأتي القضاء بضد عمدك أجل، الناس قد ذهبوا، فلو رآني الموتى لطربوا، فما زالوا يغبطونكم بي ويرحموني بكم. وقيل لأبي العيناء: إن جماعة الكتاب يلومونك، فأنشد: إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً علي لئامها وقال له يوماً عبد الله بن سليمان: اعذرني؛ فإني مشغول، فقال له: إذا فرغت لم نحتج إليك: فلا تعتذر بالشغل عنا؛ فإنما ... تناط بك الآمال، ما اتصل الشغل وقيل له: الناس مع أبي علي البصير عليك، وهم إليه أميل، فقال: سقيتهم الردى، لما رموني ... فقالوا: أبغضوك، فقلت: أدري كبغض بني قريش في علي ... ولا ذنب سوى أحد، وبدر وأتي العريان بن الهيثم بغلام سكران. فقال له: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن الذي لا تنزل ... الدهر قدره وإن نزلت يوماً فسوف تعود فظن أنه ابن أحد الأشراف، فخلى سبيله، فكشف الغيب أنه ابن فوال. وسئل ابن شبرمة عن إنشاد الشعر، هل ينقض الوضوء أم لا؟ فأنشد: يا صلح إن فتاة كنت أعشقها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول ثم قام فصلى. ووجد المنصور على كاتب له، فأمر بإحضاره، ودعا بالسياط، فقال: يا أمير المؤمنين: ونحن الكاتبون، وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا فضحك منه وعفا عنه. وأبطأ عبد الله بن يحيى عن الديوان، فأرسل إليه المتوكل يستفهمه عن حاله، فكتب إليه: عليل من مكانين ... من الإفلاس والدين ففي هذين لي شغل ... وحسبي شغل هذين وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً يضاجر أخاه، فقال له أخوه: والله لأهجونك، فقال: فكيف تهجوني وأبي أبك، وأمي أمك؟ قال: اسمع ما أقول: لئيم أتاه اللؤم من ذات نفسه ... ولم يأته من إرث أم ولا أب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وكان الفرزدق جالساً عند الحسن البصري، فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث والسرايا، فنصيب المرأة من العدو، وهي ذات زوج، فتحل لنا من غير أن يطلقها زوجها، فقال الفرزدق، وقد قلت أنا مثل هذا في شعري فقال له الحسن: وما قلت؟ قال: قلت: وذات خليل أنكحتنا رماحنا ... حلالاً، لمن يبني بها، لم تطلق قال الحسن: صدقت، ثم أقبل رجل آخر، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في الرجل يشك في الشخص يبدو له فيقول: هذا والله فلان، ثم لا يكون هو، ما ترى في يمينه؟ فقال الفرزدق: وقد قلت أنا مثل هذا، قال له الحسن: وما قلت؟ قال: قلت: ولست مأخوذ بقول تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم قال الحسن: صدقت. واستعدت امرأة على زوجها عباد من منصور، وزعمت أنه لا ينفق عليها فقال لرؤبة بن العجاج: احكم بينهما، فقال: فطلق إذن إن كنت لست بمنفق ... فما الناس إلا منفق أو مطلق وقال علي بن الهجم: قلت لقينة: هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدنى إليك؛ فإن الحب أقصاني قالت: تأتي من باب الذهب، وأنشدت: اجعل شفيعك منقوشاً تقدمه ... فلم يزل مدنياً، من ليس بالداني وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: كان بالمدينة رجل جعفري، من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان يحب الغناء، وكان يتعشق قينة بالمدينة، فقال يوماً لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها؛ فقد والله أيتمت أولادي، وأرملت نسائي، وأخرجت ضيعتي، فقاموا معه حتى وقفوا ببابها، فدقه، فخرجت إليه، فإذا هي أملح الناس دلالاً وشكلاً، فقال لها: يا جارية، أتغني: وكنت أحبكم، فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السلام فاستحيت وخجلت وبكت، وقالت: يا جارية، هات عودي، والله ما أحسن هذا، ولكن غيره: تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء قال: فاستحيا والله صاحبنا. ثم تصيب عرقاً، ثم قال لها: يا سيدتي هل تحسنين أن تغني: وأخضع للعتبى إذا كنت ظالماً ... وإن ظلموا كنت الذي أتنصل قالت: والله ما أحسن هذا، ولكن غيره، ثم غنت: فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله ... وننزلكم منا بأفضل منزل قال: فدفع الباب ودخل، وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه. وقال: لعن الله الأهل والولد والضيعة. وكتب البعث على رجل من الكوفة، فخرج، وأفاد جارية وفرساً، وكان متزوجاً بابنة عم له، فكتب إليها: ألا أبلغوا أم البنين بأننا ... غنينا، وأغنتنا الغطارفة المج بعيد مناط المنكبين، إذا جرى ... وبيضاء كتمثال، زينها العقد فهذا لأيام العدو، وهذه ... لحاجة نفسي، حين ينصرف الجند فلما وردها كتابه، قرأت، وقالت: يا غلام، هات الدواة، ثم كتبت: ألا أقره منا السلام، وقل له: ... غنينا، وأغنتنا غطارفة المج إذا شئت غناني غلام مرجل ... ونازعته من ماء معتصر الورد وإن شاء منهم ناشئ مد كفه ... إلى كبد ملساء أو كفل نهد فما كنتم تقضون حاجة أهلكم ... حضوراً، فتقضوها على النأي والبعد فعجل علينا بالسراح؛ فإنه ... منانا، ولا ندعو لك الله بالرد فلا قفل الجند الذي أنت فيهم ... وزادك رب الناس بعداً على بعد فلما ورد كتابها لم يزد على أن ركب، وأردف الجارية ولحق بها، فكان أول شيء بدأها بعد السلام أن قال لها: بالله هل كنت فاعلة؟ قالت: الله في قلبي أجل وأعظم، وأنت في عيني أحقر وأذل من أن أعصي الله فيك، فكيف ذقت طعم الغيرة؟ فوهب لها الجارية، وانصرف إلى بعثه. ونظر ابن أبي ذيب إلى عائشة بنت طلحة تطوف بالكعبة، فقال لها: من أنت؟ فقالت: من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن التقي المغفلا مثلك أبا عبد الله، قال: صان الله ذلك الوجه عن النار، قيل: أفتنتك أبا عبد؟ قال: لا، ولكن الحسن مرحوم. وقال الشافعي رضي الله عنه؛ تزوج رجل امرأة حديثة على امرأة قديمة، فكانت جارية الحديثة تمر بباب القديمة فتقول: وما يستوي الرجلان: رجل صحية ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت ثم تعود فتقول: وما يستوي الثوبان: ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد فمرت جارية القديمة بباب الحديثة، وأنشدت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل وقال الهيثم بن عدي: كان تحت العريان بن الأسود بنت عم له فطلقها، فتبعتها نفسه، فكتب إليها يعر ض لها بالرجوع، فكتبت إليه: إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بدلا ... إن الغزال الذي ضيعته مشغول فكتب إليها: إن كنت ذات شغل فالله يكلؤه ... فقد لهونا به، والحبل موصول وقد قضينا من استطرافه وطراً ... وفي الليالي، وفي أيامها طول وطلق الوليد بن يزيد زوجته سعدى، فلما تزوجت اشتد ذلك عليه، وندم، فدخل عليه أشعب، فقال له: أبلغ سعدى عني رسالة، ولك عندي خمسة آلاف درهم، قال: عجلها، فأمر له بها، فلما قبضها قال: هات رسالتك، قال: ائتها وأنشدها: أسعدى، هل إليك لنا سبيل ... ولا حتى القيامة من تلاق بلى، ولعل دهراً أن يواتي ... بموت من خليلك، أو فراق فأتاها، فاستأذن عليها، فأذنت له، وقالت: ما بدا لك في زيارتنا؟ قال: يا سيدتي، أرسلني إليك الوليد برسالة، وأنشدها الشعر فقالت لجواريها: خذن هذا الخبيث، فقال: يا سيدتي، جعل لي على ذلك خمسة آلاف درهم، قالت: والله لأعاقبنك، أو تبلغ إليه ما أقول، قال: يا سيدتي اجعلي لي شيئاً، قالت له: لك بساطي هذا، قال: قومي من عليه، فقامت فألقاه على ظهره، وقال: هات رسالتك، قالت له: قل له: أتبكي على سعدى، وأنت تركتها؟ ... لقد ذهبت سعدى، فما أنت صانع؟ فلما بلغه ذلك، سقط في يده، وقال: اختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن نقتلك، وإما أن نطرحك من هذا القصر، وإما أن نلقيك إلى ذلك السباع، فتحير أشعب، وأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه، وقال: يا سيدي: ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى، فتبسم، وخلى سبيله. ودخل أمية بن عبد الله على عبد الملك بن مروان، وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ قال: قمت بالليل، فأصاب الباب وجهي، فقال عبد الملك: رأتني صريع الخمر يوماً فسؤتها ... وللشاربيها المدمنين مصارع فقال: لا، وأخذك الله يا أمير المؤمنين بسوء ظنك، قال: بلى، وأخذك الله لسوء مصرعك. وشهد عند سوار القاضي رجل، فرد شهادته؛ لأنه كان يشرب النبيذ، فقال: أما النبيذ، فإني غير تاركه ... ولا شهادة لي ما دام سوار وكان بعض المشارقة يسمى كمال الدين، يهوى غلاماً اسمه بدر الدين فكتب إليه: يا بدر دين الله، صل مدنفاً ... صيره حبك مثل الخيال لا تخش من عيب إذا زرته ... فما يعاب البدر عند الكمال فسمع بذلك عاشق آخر، فكتب إليه: يا بدر، لا تسمع مقال الكمال ... فكل ما نمق زور محال البدر يوفى الخسف في نصفه ... وإنما يخسف عند الكمال وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد، فجاءه نخاس بجارية للبيع، فنظر إليها الرشيد، ثم قال للنخاس: اذهب بجاريتك، فلولا كلف بوجهها، وخنس بأنفها لاشتريتها، فخرج بها، فلما بلغ الستر قالت: ردني يا أمير المؤمنين، أنشدك بيتين، فأمر بردها، فردت، فأنشدت: ما سلم الظبي على حسنه ... كلا، ولا البدر الذي يوصف فالظبي فيه خنس بين ... والبدر فيه كلف يعرف فاشتراها الرشيد، وكانت من أحظى جواريه عنده. الحديقة الثانية في مداعبات يستجلب بها السرور، ومضحكات تميل إليها النفوس، وتشرح بها الصدور وفيها خمسة أبواب: الباب الأول في ترويح الأرواح بمستحسن المزاح كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح، ولا يقول إلا حقاً. فمن ذلك قوله لإحدى عماته: إن الجنة لا تدخلها عجوز، فلما جزعت من ذلك قال لها: إن الله يخلقهن يوم القيامة شواب أبكاراً. وقال صلى الله عليه وسلم لامرأة: ما فعل زوجك الذي في عينيه بياض، فلما جزعت من ذلك، قال لها: أوليس في كل عين بياض؟ وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل: احملني، قال: ما عندي إلا ولد الناقة، قال: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وهل الإبل إلا من النوق. وقال صلى الله عليه وسلم: دخل نعيمان الجنة ضاحكاً؛ لأنه كان يضحكني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وروي أن نعيمان رضي الله عنه أصابه رمد في عينه، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يأكل تمراً، فقال له: أتأكل التمر وأنت أرمد؟ فقال له نعيمان: إنما أنا آكل من الجهة الأخرى، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل لسفيان الثوري: المزاح هجنة، قال: بل سنة. وقال عبد الله بن عمر لجاريته: خلقني خالق الخير، وخلقك خالق الشر، فبكت، فقال: لا عليك؛ فإن الله هو خالق الخير والشر جميعاً. وكانت سويداء لبعض الأنصار، تختلف إلى عائشة رضي الله عنها، تلعب بين يديها وتضحكها، وربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على عائشة فيجدها عندها، فيضحكان جميعاً، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فقدها، فقال: يا عائشة ما فعلت سويداء؟ قالت: إنها مريضة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودها فوجدها في الموت، فقال لأهلها: إذا توفيت فأذنوني، فلما توفيت أعلموه، فشهدها، وصلى عليها وقال: اللهم إنها كانت حريصة على أن تضحكني، فأضحكها فرحاً. وفي بعض الكتب المترجمة أن يحيى وشمعون كانا من الحواريين، فكان يحيى لا يجلس مجلساً إلا ضحك وأضحك من حوله، وكان شمعون لا يجلس مجلساً إلا بكى وأبكى من حوله، فقال شمعون ليحيى: ما أكثر ضحكك، كأنك قد فرغت من عملك، فقال له يحيى: ما أكثر بكاءك كأنك قد يئست من ربك، فأوحى الله إلى عيسى عليه السلام: أن أحب السيرتين إلي سيرة يحيى. وفي بعض الكتب المنزلة أيضاً أن عيسى بن مريم لقي يحيى بن زكرياء فقال له عيسى: إنك لتبتسم تبسم آمن، فقال له يحيى: إنك لتعبس تعبس قانط، فأوحى الله إلى عيسى عليه السلام أن الذي يفعل يحيى أحب إلي. وكان عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيه مزاح، فدخل على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهي عمة والده يعودها في مرضها الذي ماتت فيه، فقال لها: كيف تجدينك يا أمي، فدتك نفسي، فقالت: في الموت، قال: فلا أفديك إذن، فتبسمت وقالت له: ما تدع مزاحك على حال. ولقي نعيمان، وهو من قدماء الصحابة، وكان رجلاً صالحاً مع ما كان فيه من المزاح، أعرابياً معه عكة عسل، فاشتراها منه، وجاء بها إلى عائشة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها، فقرع الباب، وقال: خذوا هذه، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهداها له، ومر نعيمان، وترك الأعرابي جالساً، فلما طال جلوسه، صاح: يا هؤلاء، ردوا علي عسلي إن لم يحضر الثمن، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه، فأعطاه ثمنه، فلما جاء نعيمان، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما فعلت يا نعيمان؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحب العسل، ولم كين عندي ثمنه، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. ومر نعيمان بابن نوفل البصير، وهو في المسجد، فقال له: أريد أن أبول فأخذه بيده، وحمله إلى موضع في المسجد، وقال له: اجلس، ومضى وتركه، فبال، فصاح الناس به: يا أبا المغيرة، إنك لفي المسجد، قال: نعيمان أجلسني ها هنا، لله علي أن أضربه بعصاي هذه إن وجدته، فبلغه الخبر، فجاءه بعد ذلك، وهو لا يعرفه، فقال له: هل أدلك على نعيمان؟ قال: نعم، قال: هو ذا يصلي، وجاء به إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: هذا نعيمان، فعلاه بالعصا، فضحك الناس به: ويحك، هو عثمان، فقال: من قادني إليه؟ قالوا: نعيمان، قال: والله لا تعرضت له بسوء أبداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وخرج نعيمان وسويبط بن عبد العزيز، في تجارة مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان سويبط على الزاد، فجاءه نعيمان في بعض منازلهم، فاستعطفه أن يعطيه من الطعام، فقال له: حتى يجيء أو بكر، فذهب نعيمان إلى قوم من رؤساء الحي الذي هم فيه، فقال لهم: إن لي عبداً، فهل فيكم من يشتريه مني؟ فقالوا: نعم، فقال: إنه ذو لسان، وربما يقول: أنا حر، فتسمعون منه، فلا تغروني وتفسدوا علي غلامي، فقالوا: لا عليك، نحن لا نسمع قوله، فاشتروه، منه بعشرة من الإبل، فقبضها منهم، وجاء بهم إلى سويبط، فقال لهم: هذا هو، فقالوا: قم معنا، قال: وما الخبر؟ قالوا: قد اشتريناك من مولاك، قال: ومن مولاي؟ قالوا: نعيمان، قال: كذب وفجر، فتلكأ، فوضعوا عمامته في عنقه، وذهبوا به، وجاء أبو بكر وطلب سويبطاً، فلم يجده، فأخبر بفعل نعيمان، فذهب هو وأصحابه إلى القوم وخلصوه منهم، وردوا إليهم إبلهم، فلما قوموا أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك هو وأصحابه من ذلك. وأتى رجل ابن سيرين، فقال: ما تقول في رؤيا رأيتها، كأن لي غنماً، وكنت أعطى فيها ثمانية دراهم في كل رأس، فأبيت أن أبيع، ففتحت عيني، فلم أر شيئاً، فغلقتهما ومددت يدي وقلت: هاتوا أربعة أربعة، فلم أعط شيئاً، فقال ابن سيرين: لعلهم اطلعوا على عيب في الغنم فكرهوها، فقال: يمكن ما ذكرت. وقيل للقاضي شريح: أيما أطيب الجوزنيق أو اللوزنيق؟ فقال: لا أحكم على غائب. وقيل لابن سيرين: من أكل سبع رطب على الريق، سبحت في بطنه، فقال: إن كان هذا فينبغي للوزينج إذا أكل أن يصلي التراويح. وسئل ابن سيرين عن رجل، فقال: توفي البارحة، فلما رأى وجه الرجل السائل، قال له: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) . وقال رجل للأعمش: كيف بت البارحة؟ فدخل البيت، فأخرج فراشه ومخدته، وفرشهما واضطجع، وقال: هكذا بت البارحة. وسأل رجل الشعبي عن المسح على اللحية، فقال: خللها، فقال: إني أخاف ألا ينالها الماء، قال: إن خفت ذلك فانقعها من أول الليل. وكان الشعبي جالساً مع أصحابه، وإذا بجمال على عاتقه دن، فلما رأى الشعبي وضع الدن عن عاتقه، وقال: رحمك الله، ما اسم امرأة إبليس؟ فقال الشعبي: ذلك نكاح ما شهدته. وجاءه رجل فقال: كيف كان طالع إبليس؟ فقال: إن المنجمين لا يعرفون طالع مولود حتى يعرف وقت ولادته، فسل عن الوقت الذي ولد فيه وتجيء حتى أعرفك بطالعه. وجاءه رجل فقال: تزوجت امرأة وهي عرجاء، أفلي أن أردها بالعيب؟ قال: إن كنت تريد أن تسابق عليها فلك ردها. وجاءه رجل فقال: أصاب ثوبي البلل، قال: اغسله، قال: بماذا أعزك الله؟ قال: بالخل. واختصم الطفاوة مع بني راسب، في ابن يدعيه الفريقان، إلى زياد، وأقاموا جميعاً البينة، فأشكل على زياد أمره، فقال سعد من بني عمرو بن يربوع: أصلح الله الأمير ولني الحكم بينهم، قال: وما عندك في ذلك؟ قال: أرى أن يلقى في النهر، فإن رسب فهو من بني راسب، وإن طفا فهو من بني الطفاوة، فأخذ زياد نعله وقام، وغلبه الضحك، ثم أرسل إليه، ألم أنهك عن المزاح في مجلسي، قال: أصلح الله الأمير حضرني أمر خفت أن أنساه، فضحك زياد، وقال: لا تعودن. وجاء رجل إلى ثمامة بن أشرس، أن يسلفه ويؤخره. فقال له: هذه حاجتان، فأنا أقضي لك إحداهما، قال: قد رضيت، قال: فأنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك. وسأل رجل عمرو بن قيس عن حصاة المسجد يجدها الإنسان في ثوبه أو خفه أو جبهته، فقال له: ارم بها، فقال الرجل، زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد، قال: دعها تصيح حتى ينشق حلقها، قال الرجل: أولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح إذن؟ الباب الثاني في المضحكات الحسنة، الخفيفة على الألسنة صرخ ديك في شجرة، فسمعه ثعلب، فأتى إليه، فقال: أبا المنذر، أذنت؟ قال: نعم، قال: انزل نصلي جماعة، قال الديك: أيقظ الإمام، فتخيل للثعلب أنه ديك آخر، فرأى كلباً له ذنب أكبر من كلحته، فهرب، ولم يرد رأسه، فقال له الديك: يفوت الوقت، قال: انتقض الوضوء، أجدده، وأرجع إن شاء الله. وأخرج راع غنماً للرعي، فجاء مع الليل، والعصا على عنقه من دون غنم، فقيل له: أين الغنم؟ قال: لا إله إلا الله، وأنا أقول: أي شيء نسيت في الجبل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً في زمن الصيف، ينغمس في ماء، ويقوم ومعه خيط كبير فيه عقد كثيرة، فقلت له: ما هذا، قال: جنابات اكتسبناها في الشتاء، نقضي طهارتها في الصيف. وأحرق فران طاجناً لفقيه، فجاء ووقف على باب الفرن، وقال: أيها الفرين المسكين، أضرمت اليوم السعير، وأحرقت الطجير، فورب العالمين، لولا أنك عندنا أمين، لضربتك بهذا الإطربزين، وأكلت من السياط مائة وتسعين، ولبثت في السجن بضع سنين، فقال له الفران: (وسلم على المرسلين والحمد لله رب العلمين) . وقال الأصمعي: دخلت المدينة، فوجدت بها بقالاً، يوقد سراجاً في الظهر، ويشعله، فسألته عن ذلك فقال: أرى الناس يبيعون عندي غيري، ويشترون من عند غيري، فأظن أنهم لا يرونني، فأشعل السراج. وغضبت أم حصى يوماً عليه، فقالت له: يا بني، حملتك في بطني تسعة أشهر، وأرضعتك وربيتك، ولا تكافئني على ذلك، فقال لها: أنت تمنين علي بدخولي في بطنك تسعة أشهر، ادخلي أنت في سوأتي تسع سنين. ودخل أصم الحمام، فجعل رجل يخرج ريحاً، فلما كان بعد ساعة، قال له في أذنه: أولا تسمع شيئاً؟ قال: لا والله يا حبيبي، إلا خروج الريح أسمعه خيالاً. وقيل لرجل: ما ورثت أختك من زوجها؟ قال: "أربعة أشهر وعشراً". وحكى مطرف قال: أتيت مالك بن أنس يوماً وهو يضحك، وكان ضحكه غريباً فسألته عن ذلك فقال: قام هنا إنسان يصلي، فجعل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأرتج عليه، فجعل يرددها مراراً، فقال له رجل: ما أعرف هنا للشيطان ذنباً، إلا أنك لا تحسن أن تقرأ. وبعث الرشيد إلى أبي نواس براءة مختومة، فلما فتحها، لم يجد فيها شيئاً، ففكر طويلاً، ثم رأى الرجل الذي جاء بها أصلع، وهو يطلب منه الجواب، فقال له: إن أردت الجواب، فإنما أكتبه في رأسك، وإلا انصرف دون جواب، فقال له: اكتب، فكتب فيه شعراً، وكتب في آخره: وبالله إلا مزقتم الرقعة إذا قرأتموها، فلما قرأ الرشيد ذلك أمر بصفع الرجل، فصفع حتى امتحى ذلك الكتاب بالصفع، والرشيد يضحك. وقال أشعب الطماع: رأيت رؤيا، نصفها حق، ونصفها باطل، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت أرى أحمل بدرة دراهم، فمن ثقلها كنت أسلح في ثيابي، فانتبهت فإذا السلح، ولا بدرة. وقال لأمه: رأيتك في النوم مطلية بعسل، وأنا مطلي بسلح قالت له: هذا عملك الخبيث، ألبسه الله لك، قال: بقي في الرؤيا شيء، قالت: وما هو؟ قال: رأيتك تلعقينني وألعقك، قالت: لعنك الله يا فاسق. وأراد رجل أن يتزوج في قوم، فجاء بخطيب، فاستفتح خطبة النكاح بحمد الله، فأطال، ثم ذكر خلق السماوات والأرض، ثم ذكر القرون الماضية حتى ضجر من حضر، ثم التفت إلى الخاطب، فقال: ما اسمك أعزك الله: قال: قد والله نسيت اسمي من طول خطبتك، وهي طالق، وإن تزوجتها، فضحك القوم، وقعدوا في مجلس آخر. وزوج خالد بن صفوان عبده أمته، فقال له: لو دعوت الناس فخطبت فقال: ادعهم أنت، فدعاهم، فلما اجتمعوا تكلم خالد، فقال: إن الله أجل وأعظم من أن يذكر في نكاح الكلبين، وأنا أشهدهم أني قد زوجت هذه الزانية من هذا ابن الزانية، فضحك القوم من ذلك. وخطب مصعب بن حيان خطبة نكاح، فأرتج عليه، فقال: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فقالت أم الجارية: عجل الله موتك، ألهذا دعوناك، فضحك القوم وانصرفوا. ووجد رجل في شجرة تين باكورتين في غير إبان الباكور، فجعلهما في طيفور على رأس غلام ليهديهما الملك، فأحس الغلام بخفة الطيفور، وأراد أن يعلم ما فيه، فرفع الغطاء وأدخل يده، فلم يجد في الطيفور غير الباكورتين. فأخذ واحدة، فأكلها، فلما وضع الطيفور بين يدي الملك بمحضر صاحب الهدية، أمره أن يرفع الغطاء عن الطيفور، فلما رفع لم يجد في الطيفور غير باكورة واحدة، فقال للغلام: ما فعلت بالأخرى؟ فقال: هكذا، وأخذ الباكورة التي بقيت، ورمى بها في فمه وأكلها، فضحك الملك من فعله. وقال الأصمعي: دخل أبو بكر الهجري على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين أصيب فمي، وأنتم أهل بيت بركة، فلو أذنت لي، فقبلت رأسك لرجوت الراحة، فقال: اختر بينه وبين الجائزة، فقال: يا أمير المؤمنين أهون علي من ذهاب درهم من الجائزة ألا يبقى من فمي سن، فضحك المنصور وأمر له بجائزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ودخل رجل بجاية، فبينما هو يمشي، وإذا برجل يقول له: أتشتري حشيشاً طيباً، فقال له: إش قلت؟ قال: قلت لك هذا الجامع بناه يعقوب المنصور، وأنفق فيه عشر ألف درهم، اش تقول في هذا؟ وقال رجل لآخر: يا حاج الحرامين: الشراب والحشيش. وتزوج رحل، فأعطى الفقيه أجرة المهر، فقال له: هذا قليل على المهر، فقال له: يا سيدي في الطلاق أخلف عليك إن شاء الله. ودخل رجل المسجد فعثر في رجل آخر، فقال له: أعمى أنت؟ قال: أنا هو أعمى لو شاء الله كل ما نرى في هذا المسجد يكون أسيراً في ميورقة. وجاء رجل إلى معبر فقال له: رأيت نفسي وأنا أطليها بالنخال، فقال له المعبر: يلزمك كلب، أما تسمع من اختلط مع النخال أكلته الكلاب. ووجد أسقوا يوماً وزير السلطان يخرج للصيد، وهو يلبس السباط فقال: الآن يفتح الله علي، قيل له: ولم ذلك؟ قال: كانت أمي تقول لي: لا يفتح الله عليك ما دام الكلب يمشي حافياً، فترى سيدي الوزير يلبس السباط. وكانت امرأة تمشي في الطين، وهي تزلق، وكانت جميلة، فقال لها رجل: حبيبتي واحبسي بلحية عمك سعد، فقالت له: الطين أنقى من السلح. وقال جحا لأبيه: تزوجت أمي على خمسمائة درهم، فولدت لك أختي، فزوجتها على خمسمائة، وبقيت أنا لك فضلاً. وضرب بعض النحويين، فكان المطوف يقول: هيذا جزا، فقال: والله لو خيرت بين طريحة أخرى وبين ألا أسمع صوت هذا الفاحش اللحن لاخترت ذلك، ثم التفت للمطوف وقال له: يا محروم بين الإعراب، وقل: هذا جزاء؛ لأنه مبتدأ وخبر، فقال له المطوف: اسكت واتخل رأسك، فقال له: بالدال قلها واقطع الهمزة؛ لأنه فعل أمر، فقال له: والله ما ضربت أبرد منك فلما دخل داره، وكانت له قطة، فجاءت تلعق الدم وتصيح: ميو، فقال لها: قولي: مئو بالهمز، ثم أخذها ورمى بها، فقيل له في ذلك فقال: لئلا يقال: قطة أبي عبد الله لحانة. وجلس قوم للرماية، فقام أحدهم، وقعد في وسط الإشارة، فقيل له في ذلك، فقال: ما رأيت موضعاً أسلم منه؛ لأنه لم يحصل فيه سهم. وأرسلت امرأة ولدها إلى خضار، فقال له: تقول لك أمي: أعطها بصلة تطيب بها فمها، فقال لها: تغدت غولاً بسلح. وجاء جحا يكسر لوزة، فخرجت له من تحت الحجر حين ضرب عليها، فقال: سبحان الله، تراها بهيمة ولا تريد تموت. وأتت امرأة إلى عطار، فقالت له: أعندك شعر إبليس؟ قال: نعم، فدخل قاعة الحانوت، فنفخ شدقه وأخرج ريحاً، وزنبط ونتف من إبطه شعرات، وأعطاها، قالت: هذا هو؟ قال: نعم، أو ما سمعت توزوزه حين كنت أنتفه؟ فقال له: صدقت، لعن الله رب الشعرات. ووقف محتسب على لبان، فنظر عليه اللبن، فوجد فيه قليقاً، فقال: ما هذا؟ فقال: جعلته يأكل الدويدات. ونظر رجل إلى تيس يأكل، ولحيته تضطرب، فقال: هكذا أنا إذا آكل؟ فحلف ألا يأكل طعاماً، فلم يأكل حتى مات جوعاً. وجاء رجل إلى معبر، فقال: رأيت في النوم أني آكل مجبنة، فقال له المعبر: تحمل أسيراً إن شاء الله إلى قيجاطة؛ لقول الناس: قيجط نجبن لك. ورأى رجل سكران يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: طالوت قتل جالوت، ولم نحضر لنصرته. وقدم لقوم لون من لحم البقر، فجعل واحد منهم يخربش بإصبعه، فقيل له: ما تريد؟ فقال: أفتش القانصة. وأجرى قوم خيلاً، فطلع منها فرس في أول الحلبة، فجعل رجل يكبر ويقول: عصمك الله، سلمك الله، فقيل له: هذا الفرس فرسك؟ فقال: لا والله إلا اللجام لجامي. وشهد رجل عند قاض، فقال له المشهود عليه: أتجوز شهادته، وهو لم يحج؟ فقال: قد حججت، فقال سله عن بئر زمزم أين هو؟ فسأله القاضي عنه فقال: لا أدري أين هو؛ لأني حججت قبل أن يحفر. وقيل لبعض الفقراء: ما تتمنى؟ قال: أتمنى أن أقعد يوم القيامة بين الجنة والنار، فكل من ينطلق إلى الجنة أطلب شكرانه، وكل من ينطلق إلى النار أطلب منه أن ينصف الطريق. وماتت امرأة، فخرج ابنها يشتري لها كفناً، فجعل ينظر ثوباً بعد ثوب، ولا يعجبه شيء، فقال له التاجر: كيف تريده؟ مدنساً؛ لأنها رحمها الله كانت مقذورة. وكان رجل يهوى امرأته، فقيل له: هل قلت فيها شعراً رقيقاً؟ قال: نعم قولي حبي فيك يا ابنة أبي البطرون محل سلح دبان في خبيزة، وارفقي بي يا ابنة عار بن عار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وحج رجل، فلما كان عند الطواف هموا بحلق رأسه، فقالوا: لا يتم الحج إلا بهذا، فحلقوه، فلما ودع الكعبة قال لهم: إن جئت مرة أخرى احلقوا لحيتي. وسمع أعرابي قيام الليل، وما فيه من الأجر، قال: وأنا أقوم في الليل مراراً، قيل: وما تصنع؟ قال: أبول وأرجع. وأرادت امرأة أن تتزوج، فقال لها القاضي: سوقي مهرك، قالت: المهور كثيرة، قال: لابد أن تسوقيها، فساقت مهورها، فكان في جملتها عشرة رجال اسم كل واحد منهم لب. وكان رجل يحلق عانته في الحمام فأخرج ريحاً، فضحك رجل كان بجانبه، فقال: إنها تولول على قصيصة أخيها. ورأى رجل مؤذن في صومعته امرأة فأعجبته، فجعل يكلمها من الصومعة ويشير إليها، فشكت ذلك لزوجها، وكان حجاماً، فقال لها: إذا طلع الصومعة وأشار عليك وكلمك فأشيري عليه، ففعلت، فنزل من الصومعة وجاء إلى بابها، فلما دخل إليها جاء زوجها، وقد كان ينظر إليه على بعد، فدخل عليها، فبادرته المرأة، وقالت له: إن سيدي المؤذن له مطحنة موجعة، فانظرها له، فنظرها وقال: لابد من خلعها، وأخرج ماعونه، وقلع له مطحنة، ثم قالت: كانت صحيحة وإنما المؤلمة غيرها، ثم قلع له أخرى، والمؤذن ساكت، ثم خرج وهو يظن أن المرأة حاولت عليه لئلا يفتضح مع زوجها، فلما كان بعد ذلك رآها وكلمها، وأشارت إليه. وهبط إليها وزوجها ناظر إليه، فلما دخل فعل معه مثل ما فعل أولاً ثم خرج، وجعل يكلمها، وتشير عليه فدخل إليها، ويفعل به زوجها مثل ما فعل، وهو يظن أن ذلك حيلة من المرأة في ستره، حتى لم يبق في فمه سن؛ ثم شعر أن ذلك كان حيلة عليه، فطلع يوماً للصومعة، فرأته المرأة، فأشارت إليه فأشار إلى فمه، وقال لها: والله ما بقي فيه أبيض، فأي شيء تريدين مني؟ ورأى مؤذن امرأة في صومعة فتعشق بها وهي به، فإذا تم الأذان رفعت صوتها، وقالت: حاضر ناظر، فيعلم المؤذن أن زوجها في الدار، وإذا لم يكن في الدار تقول: وحدك حبيبي، لا شريك لك، فينزل إليها. وخرج جحا يوماً على الصبيان، وقال: من يخبرني بما في كمي، وأعطيه أكبر خوخة؟ فقال له صبي: خوخ، فقال: ومن هذا الولد، زنى الذي قالها لك. وجاء رجل إلى سليمان الورشدي، فقال له: يا سيدي ألك في أرض الجزيرة غنيمات؟ قال: لا، قال: ومن أي شيء تقول ذلك؟ قال: رأيت بها راعياً يسوق غنماً، وهو يقول: امش يا متاع ولد قحبة، فظننت أنها متاعك. وقال الحاج الطنجي: رأيت بالديار المصرية رجلاً يبيع الحشيش وهو يقول: حشيش مركب على قشيش، ينسيك ذكر الله خمسة أيام، فقال له رجل: هذا درهم كبير أعطني منه بقيراط، قال: هذا الصرف لا يجوز. وقال بعض الظرفاء: الاثنان أنس، والثلاثة عرس، والأربعة دردبة، والخمسة قرقبة، والستة كتف واحمل إلى الحبس. ودخل رجل يصلي الظهر، وعنده خمسة دراهم، فجعلها أمامه، فرآها الذي بجانبه، فلما سجد أخذها له، فلما تمت الصلاة لم يجدها، فانصرف ولقيه رجل في باب المسجد، فقال: أصليتم؟ قال: نعم، درهم وربع للركعة، فادخل إن شئت. وجاء رجل للصلاة، فوجد الناس يصلون، فقال: ترى كم معهم من ركعة؟ فقال له رجل وهو في الصلاة: دش. ومثل ذلك ما حكي لي أن رجلاً دخل مسجد القيسارية ليصلي، والناس في الجلسة الأخيرة، فقال له إبراهيم النجار، وكان يصلي عند الباب: ما بقي شيء، فلم يلتفت الرجل إليه، ودخل، وقال: عار بن عار، نصحناهم فما قبلوا. وقيل لولد مات والده: ما ترك لك أبوك؟ قال: اللعنة، ما نسمع إلا من يلعنه، رحمه الله. وكان لبعض الوزراء بغلة ينقل عليها الزبل، ويركب عليها أحياناً بالسرج، فقال له رجل: يا سيدي، ما ثم أصبر من هذه الدابة، تنقل الزبل مرة بالبرصون، ومرة بالسراج. وكان أعرابي يقول في دعائه: اللهم إني أسألك موتة كموتة أبي خارجة، قيل له: وما موتة أبي خارجة؟ قال: أكل لحم جمل، وشرب شراب عسل، ونام في الشمس، فمات شبعان ريان دفآن. وكان واعظ يقول: من صلى كذا وكذا ركعة بكذا وكذا سورة يعطى في الجنة ما لا ندري. وساق رجل لامرأته فدوشاً، فقالت له: يا رجل، أي شيء يراد بهذا الفروض؟ والله ما في الدار صعتر ولا والله حبة من ثوم لعمله. ورفعت امرأة ولدها للقاضي، واشتكت له بكثرة عقوقه لها، فقال له: يا ابن أخي، أما سمعت الله يقول: (فلا تقل لهما أف) فلطمها، وقال لها: متى قلت أنا لك أف؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وكان لرجل قط، لا تزال شواربه تنقط دماً، فسئل عن ذلك، فقال: إذا أكل الطعام، جاءت الفيران تشم ذلك وتلعقه فتدميه. وجاء شيخ إلى قنديل يطفئه، فأخرج ريحاً، فضحكت امرأته، فقال لها: أتضحكين والله لولا ما تقسم الريح، ما تكسر إلا القنديل. وقيل لرجل: أين القبلة في دارك؟ فقال: والله ما اهتديت إليها؛ لأني إنما دخلتها منذ أربعة أشهر. وقال مزبلح لآخر: في غرستكم هذا العام باكور، قال له: عين أعين في باكورة. وكان فقيه في داره يسمع سائلاً، يسأل ويقرع الباب، فقال له: يا هذا، النقر ثلاث: طاق، طرطاق، طرطلاق، فقال له السائل: فران أنت، ودعني بلا عشاء. وأعطى ابن قزمان مؤدبه يطبخ له الخبز، وكان الطين: فوقع ووقع الخبز في الطين، فرجع إلى المؤدب، فقال له: يا سيدي، ما تقول في العثرات؟ قال: يا ولدي، إنها مكتوبة، فقال: يا سيدي، وصلتك في الطين مقلوبة. وكان لرجل من أهل بلفيق بغل، فالتقى مع بغل آخر للقاضي، فضرب بغله بغل القاضي ركضة فكسره، فترك بغله لابنه، وذهب قبل أن يصل الخبر للقاضي، فدخل عليه فوجده مع جماعة من الناس، فقال له: يا سيدي، احكم على بغلك، كسر بغلي بركضة، فقال له القاضي: لا يحكم على بهيمة إذا فعلت شيئاً، فقال للناس: اسمعوا ما يقول سيدي القاضي، قالوا: الحق ما يقول لله، قال: فإن بغلي هو الذي كسر بغله. ومر رجل بأبي العيناء، فقال: من هذا؟ فقال: رجل من بني آدم، قال: مرحباً بك، والله ما ظننت هذا النسل إلا قد انقطع. وصل رجل، فلما سجد سمعه رجل يقول: اللهم اغفر لي ولوالدي ولأمي ولأختي، فقال له آخر: ولختنك، وهما في الصلاة، فقال له: قران أنت؟ وحمل رجل قدراً إلى فرن بحمامتين، فلما طبخت أكلهما الفران، وجعل عوضاً من ذلك حمامتين حيتين، فلما جاء صاحبها ورفع الغطاء طارتا، ولم يجد في القدر شيئاً، فقال: يا رب، أشهد أنك تحيي وتميت، ولكن المرق إش طرا فيه؟ وخرج جحا من الحمام، فضربته الريح، فقصرت بيضته، فرجع إلى الجمام، يفتش الناس، فقالوا: مالك؟ قال: سرقت بيضتي، ثم إنه تدفأ، وافتقدها، فقال: كل شيء لا تأخذه اليد يوجد. وتبخر يوماً، فاحترقت ثيابه، فغضب وحلف ألا يتبخر إلا عريان. وكان يمشي حافياً، فإذا وصل إلى ساقية أو واد، لبس السباط، فقيل له في ذلك فقال: الطريق أرى ما فيه، وأتحفظ منه، والوادي لا أدري ما فيه. واختصم رجلان إلى بعض الولاة، فلم يحسن الحكم بينهما، فضربهما، وقال: الحمد لله؛ إنه لم يفتني الظالم منهما. ومر جحا بصبيان يلعبون بباز ميت، فاشتراه منهم بدرهم، وحمله إلى أمه، فقالت له: ويحك، ما تصنع به وهو ميت؟ فقال لها: اسكتي، فوالله لو كان حياً ما بيع إلا بمائة درهم. وقال هشام بن عبد الملك يوماً لأصحابه: من يسبني ولا يفحش، أعطيه هذا الثوب، وكان فيهم أعرابي، فقال: ألقه يا أحول، فقال: خذ، قاتلك الله، وكان هشام أحول. وضربت امرأة زوجها فقعد يبكي، قالت له: وتبكي؟ قال لها: إي والله على رغم أنفك. وتشاتم رجلان، فقال أحدهما للآخر: حلق الله لحيتك بمكة إن شاء الله. وسرق حمار أبي الجهم، فشكر الله تعالى، فقيل له: ما فائدة هذا ومولانا يقول: (لئن شكرتم لأزيدنكم) فقال: لكوني لم أكن عليه فأسرق معه. وقيل لأعرابي: من أشر أنت أو أخوك؟ قال: إذ جاء رمضان استوينا. وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً يضرب أمه، فقلت له: أتضرب أمك؟ قال: إنها قليلة الأدب. وكان لرجل ابن مزبلح، فجاءه يوماً ضيف، فلما رآه الابن لم يسلم عليه، فقال له والده: سلم على عمك عنق السياط، فقام وسلم عليه وقال له: كيف حالك يا عمي عنق السياط، فخجل الرجل، وضحك والده. وكان لرجل ابن يسرق كل يوم حاجة، ويبيعها بأبخس ثمن، وينفقه في الفساد، فعاتبه يوماً وقال له: ليتك إذا سرقت الحاجة كنت تبيعها مني، فقال له: فاشتر مني إذن تلك المنارة؛ فإني إنما جئت لأسرقها، وأشار له إلى منارة أمامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وبات رجل عند نحوي، فأكل عنده طعاماً وفاكهة كثيرة، فلما كان في نصف الليل تحركت عليه بطنه، فصاح على النحوي: يا سيدي، إني أريد أن أتروح، قال: فتنحنح النحوي مراراً، ثم صاح: يا ميمونة مرار كثيرة، حتى استجابت له بعد حين، فقال: أزيلي الكرى عن مقلتيك، وافتحي عينيك، والسي ثوبيك، وقومي على قدميك، واضربي الزند، وأشعلي ناراً، وأوقدي سراجاً، وانهضي إلى البئر، فأدلي فيه الدلو، وأخرجي منه ماء، واجعليه في قدح، وألقيه في المستراح؛ فإن ضيفنا يريد أن يتروح، فلم يتم النحوي كلامه، إلا والرجل قد سلح في السرير، فقال: يا سيدي إن هذا الشغل الذي كلفت به خادمك إن يسر الله فيه، ربما يتهيأ في سنة كاملة، وأنا لا أكلف خادمك أكثر من شغل ساعة، يا ميمونة: اقبلي واغسلي السرير؛ فقد سلحت فيه. وقال الأصمعي: دخلت مسجداً لأصلي فيه، فوجدت رجلاً وهو يصلي وقد رفع رجله، ومدها إلى خلفه، وجعل يده في السارية يمسك بها، فوقفت حتى فرغ من صلاته، وقلت له: لم رفعت رجلك، ومددتها إلى خلفك؟ قال: كنت أتهم بها نجاسة، فأردت ألا أصلي بها. وكان بقرطبة رجل يعبر المنامات، وكان لا حسن فيها شيئاً، فأتته امرأة وقالت له: يا سيدي، كنت أرى في المنام، أني جالسة وفي يدي قيدوم، قال لها، زوجك يقدم، قالت له: يا سيدي، كيف يقدم زوجي وهو ميت؟ قال: يا حمقاء القيدوم يسوقه، ولو كان ميتاً منذ ألف سنة. وجاءت امرأة إلى لب كاتب الشمس، فقالت له: يا سيدي، أين يوجد ابن دحنين الذي يفسر المنام؟ فنظر إليها، وفي يدها دجاجة وسلة بيض، فقال لها: أنا أفسر المنام أحسن منه، وأقول لك خيراً، فقصي علي ما رأيت، فقالت له: رأيت كذا وكذا، فقال لها: هذه منامة مليحة ينال بها كذا وكذا، ويفعل بك زوجك كذا وكذا، فدفعت إليه الدجاجة والبيض وانصرفت، فأخبر ابن دحنين بذلك، فجاء إليه ولعنه، وأراد أن يشتكي به للقاضي. وجاء رجلان إلى قاض يختصمان، فكان أحدهما يدعي على الآخر حقاً يزعم أنه من ميراث أبيه، فقال له الآخر: أعز الله القاضي، أنا رجل من بعض قرابته قال القاضي: فمن أي وجه قرابتك به حتى أعرف أمركما وأحكم بينكما؟ قال: كانت أم أبيه، جدها لأمها أخو بنت عمة خالي أخي بنت ابن ربيبتي، قال القاضي: يا سفلة، هذه أخلاط شربة، ارفعوها إلى العشاب؛ حتى يميزها خلطاً خلطاً. وقال رجل لآخر: ما فعل أبوك بحماره؟ قال: باعه، قال: لم قلت باعه؟ قال له: ولم قلت أنت بحماره؟ فقال: للباء الجارة، قال: ولم تكون باؤك تخفض، وبائي لا تخفض؟ ومثل هذا ما يحكى أن رجلاً لقي آخر. فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من عند أهلونا، فتعجب السائل من فصاحته، ثم قال له: قد علمت من أين أخذت هذا، من قوله تعالى: (شغلتنا أموالنا وأهلونا) . وقال رجل لبياع الخوخ: كيف تبيع الخوخ يا أقرع؟ قال: من كلامك الحسن، أختار لك بنوجاً. وقال فقيه لعبيد بن طرس: من أين تأكل؟ قال: من الكون يا كبة، ولا من برزون. وقال الأصمعي: كان بين رجلين عبد، فقام أحدهما يضربه، فقال له شريكه: ما تصنع؟ قال: اضرب حصتي منه، فقال له: وأنا أضرب حصتي، فقاما يضربانه فسلح عليهما، وقال: اقتسما هذا على قدر حصتكما. وقال المتوكل يوماً لجلسائه: أتعلمون عنت المسلمين على عثمان بن عفان؟ فقال أحدهم: نعم يا أمير المؤمنين، لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر على المنبر دون مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ولي عمر قام دون مقام أبي بكر بمرقاة، فلما ولي عثمان صعد ذروة المنبر فقعد مقعد النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر ذلك المسلمون عليه، فقال عبادة: يا أمير المؤمنين، ما أحد أعظم منة عليك من عثمان، قال: وكيف ذلك؟ قال: صعد ذروة المنبر فلو أنه كلما ولي خليفة نزل عن مقام من تقدم لكنت تخطب علينا من بيتك، فضحك المتوكل حتى استلقى، وضحك من حضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ولما حمل أبو إسحاق إلى المتوكل وأدخل عليه، قال المتوكل لابن حمدون: اعبث به، فقال له ابن حمدون: متى تعلمت العبارة؟ قال: أنا معبر قبل أن تكون أنت ملهياً، قال: ما تقول في رؤيا رأيتها؟ قال: وما هي؟ قال: رأيت كأن أمير المؤمنين حملني على فرس أشهب كله، إلا ذنبه، فإنه كان أخضر، قال: صدقت رؤياك، فإن أمير المؤمنين يأمر أن تدخل في قفاك فجلة، يغيب أصلها الأبيض، ويبقى الأخضر منها، فضحك المتوكل، وقال: صدقت رؤياك، هاتوا فجلة، فقال: أنت يا أمير المؤمنين أمرتني، قال: وأنت رأيت الرؤيا، قبل أن آمرك، فلم يبرح حتى فعل به ذلك. وقعد المتوكل يوماً يشرب، فطرب عبادة من صول لبعض المغنين، فقام ورقص، أحسن رقص، فسر المتوكل برقصه، وقرب عبادة من مقعده، فلما جلس ضرب المتوكل بيده على قفا عبادة فأخرج ريحاً، فقال: ويلك ما هذا؟ فقال: يا سيدي أيجوز لمثلك أن ينقر على قوم فلا يكلمونه؟ وأتي علي بن موسى الوزير ببعض العمال، وقد خرج عليه مال كثير، فطلب به وحبس، ثم أخرج يوماً ليطلب له ذلك، فإذا هو بامرأة قد أخذت من قوم وهي تذكر أنهم استكرهوها في نفسها، فقال لها: طوبى لك، أنت طلبت بما تقدرين عليه، وأنا أطلب بما لا أقدر عليه، فبلغ ذلك علي بن عيسى، فضحك عليه، وحط عنه نصف ما عليه. وكان رجل من العمال يطلب بمال، فأحضر بين يدي بعض الولاة، وأقيم على رأسه عونان، وقيل لهما: انتفا لحيته، فقال الرجل للوالي: ولم تفعل هذا بي؟ قال: حتى تؤدي ما عليك، قال: نعم، قال: وخراج أهل بيتك، قال: نعم، قال: وخراج سكان موضعك، فرفع رأسه إلى العونين، وقال: انتفا على بركة الله، فضحك وخلى سبيله. ومات بواسط رجل من المياسير في أيام اليزيد، فأحضر ابن الميت، وقال له: ما ترك أبوك من المال؟ قال: كذا وكذا، وخلف من الورثة الوزير أعزه الله، وأنا، فضحك المتوكل، وأمره ألا يتعرض له. وكان بعضهم في سفر، فوصل إليه كتاب من داره بموت أحد أولاده، فقال: لا إله إلا الله، ولد ونحن غائبون، ومات ونحن غائبون، فقال له مضحك: نعم، وعمل وأنتم غائبون. وكان بعض الملوك فيه ضر وشدة، فلا يقدر أحد أن يبتدأه بكلام، فبينما هو جالس يوماً مع ندمائه في براح، إذا بعارض مطر شديد، فلم يقم، ولم يتجسر أحد أن يقول له شيئاً، والمطر في زيادة، وكان بينهم طيفور فيه فاكهة، فأخذه رجل من الجمع، وفرغ ما فيه، وألقاه على رأسه، وقال للملك: اجلس ما شئت، فضحك من فعله، وقام من فوره. ولقي بعض الأمراء أسود في بعض طرق نزهته، فأمر بقتله، فقال الأسود: ما ذنبي؟ فقال: إني تشاءمت برؤيتك، فقال له الأسود: فمن تشاءم منا بصاحبه أكثر أنا أو أنت؟ فضحك من قوله، وخلى سبيله. وعرض عمرو بن الليث عساكره، فرأى فارساً، تحته دابة مهزولة، فقال: لعن الله هؤلاء، يأخذون الدراهم، فينتفعون بها، ويستمتعون بفقاح نسائهم، فقال الفارس: أيها الأمير، لو رأيت امرأتي لعلمت أنها أهزل من كفل دابتي، فضحك عمرو، وأمر له بطعام وقال له: سمن امرأتك، وكفل دابتك. وخرج المعتصم إلى بعض متنزهاته، فظهر له أسد، فقال لرجل من فرسانه أعجبه قوامه وسلاحه، وتمام خلقته: يا رجل، أفيك خير؟ فقال بعجلة: لا يا أمير المؤمنين، فضحك المعتصم، وقال: قبحك الله، وقبح طلعتك. وأراد أعمى أن يتزوج امرأة، فحضرا مجلس القاضي، ليشهد لهما، فقال لها القاضي: اكشفي عن وجهك، فكشفت، فأعجبته، فقال للأعمى: كم أمهرتها؟ قال: أربعمائة درهم، فقال القاضي: زدها؛ فإنها تستحق أكثر، فقال الأعمى: هذا ما عندي، فإن كان عند القاضي زيادة، فهو أولى بها. ورأت طفلة عروساً يلعب مع عروسه، فمضت لأبيها، وقالت له: اشتر لي عروساً ألعب معه. وتعشى أبو سالم القاص طفيشلاً وشرب عليه نبيذاً حاراً، وبكر ليقص، فدخل المسجد، وأقيمت الصلاة، وكان الإمام شيخاً كبيراً، فلما فرغ من الصلاة جلس في المحراب، فقام أبو سالم إلى جانبه يعظ الناس، فبينما هو في قصصه إذ تحركت بطنه، فقال: قولوا: لا إله إلا الله، فارتفعت الأصوات التهليل، وخرجت منه ريح علم بها الإمام، وقال: يا قوم، لا تقولوا شيئاً، فإنه يريد أن يسلح علي، فضحك الناس، وانصرف أبو سالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وحضر أبو عقيل مجلس بعض العلماء، وهم يتجادلون في الفقه، فقال أبو عقيل: دعونا من الخوض فيما لا ينفعنا، أي شيء كان اسم حمار العزيز، وأي شيء كان اسم هدهد سليمتان عليه السلام؟ ورفع رجل في دين عليه إلى قاض، فأمر به إلى السجن لقلة ما بيده، فمر بصبيان يلعبون، فنظر إليهم، وقال لهم: والله لقد كنتم نعم الأصحاب، من يوم ما فارقتكم ما رأيت خيراً، فضحك غريمه وأطلقه. وانكسر رجل، فجاء أصحابه إليه يزورونه، فقالوا: كيف حالك؟ فقال لهم: فيكم من انكسر؟ قالوا: لا، فقال: ما أقول لكم شيئاً. وكان سائل يمشي ومعه ابن له صغير، فسمع امرأة تقول، وهي خلف جنازة: يذهبون بك والله إلى بيت ليس فيه غطاء ولا وطاء ولا غداء ولا عشاء، فقال ابن السائل: لبيتنا والله يذهبون به. ومر رجل ومعه ابن له صغير برجل يقطع بمقص، وهو يعوج فمه، فقال له ابنه: يا أبت، هذا مقصنا الذي تلف لنا، فقال له أبوه: ومن أين علمت ذلك؟ قال: لأنه يعوج فمه، كما كنت تفعل. وكان ابن شبانة يوماً ينشد، فأخرج ريحاً، فقال لقفاه: أما أن تسكتي حتى أتكلم، وإما أن تتكلمي. وحضر مزيد مجلساً بالمدينة، وفيه قينة تغني، ووصيفة على رأسها واقفة، فتحركت القينة، فخرج منها ريح بصوت، فرفعت رأسها ولطمت الوصيفة، فلبث مزيد يسيراً، واستعمل خروج ريح بصوت، فرفع يده، ولطم الوصيفة، فقالت له المغنية: مالك تلطم جارتي؟ فقال: رأيت كل من يخرج ريحاً يلطمها. وكان لرجل أم عجوز، فجرى يوماً حديث النسوان وتزويجهن، فقال رجل: كل امرأة تقدر أن تحمل البوقل إلى أعلى السطح ينبغي أن تتزوج، فقالت العجوز أنا والله أقدر أن أرفع الخابية بالماء، فقال لها ابنها: والله لو صعدت بها فوق منار الجامع ما زوجتك؟ وكان لبعض الكتاب أم عجوز، وكانت تختضب وتتصنع، فاشتكت، فجاءها الطبيب، فجعل يقول في خلال كلامه لما رأى من خضابها وزينتها: ما أحوجها إلى زوج، فقال لها ابنها: اسكت ويحك هي عجوز هرمت، فقالت العجوز: أنت أعلم أم الطبيب يا أحمق؟ واجتمع ثلاثة نفر، فقال أحدهم: علي الطعام، وقال الثاني: وعلي الشراب، فقال الثالث: وعلي لعنة الله إن فارقتكم، فضحكوا من قوله، ومروا به. وقال بعضهم: أخذ الطائف على المدينة ليلاً رجلاً سكران، فقال: اسجنوه، فقال: أصلحك الله، لا تفعل، فإن علي يميناً بالطلاق ألا أبيت عن منزلي، فضحك منه وخلى سبيله. ونظر ملاح إلى شيء على وجه الماء في البحر، فظن أنه قطيفة، فقال: أنا والله أحوج الناس إليها، فرمى بنفسه عليها، فإذا هي من دواب البحر، فتعلقت به، فصاح به الناس: اترك القطيفة وانج برأسك، فقال: قد تركتها، وهي ليست تتركني. ودعا بعضهم قوماً إلى طعامه، فلما مدوا أيديهم إلى الطعام، هاله منظرهم، ولم يستطع الصبر، فقال: هكذا والله تقوم القيامة. وقال أبو العيناء: كنا على مائدة بعض الرؤساء، فقدم إلينا جدي مشوي، فلما ضرب الناس فيه بأيديهم، قال صاحب البيت: أما أنتم مسلمون؟ فارفقوا به رحمكم الله، فإنه بهيمة. وقال بعضهم: دعاني صديق لي، وكان بخيلاً، فقدم على المائدة جدي، فنحن نأكله، وشاة تصيح، قلت: اسمعوا هذه الثكلى تصيح، فقال رب البيت: وكيف لا تصيح، وقرة عينها بين أيديكم تمزقونه؟ وأكل قوم عند بخيل، فلما رآهم قد أمعنوا الأكل أراد أن يقطعهم فقال: ليس هذا أكل من أراد أن يتعشى. وكان ببغداد رجل غني، فسأله ابنه يوماً أن يشتري له إجاصاً، فتقدم إلى جار له، فقال: أعطني إجاصة واحدة، فلما أخذها ناولها ابنه، وقال له: كل هذه، فإنك لو أكلت منها ألفاً، فطعمها كطعم هذه الواحدة. وكان بها رجل آخر، وكان لا يرى إلا رث الثياب، فخرج يوماً من منزله، فلقيه رجل من الجند، قد أخذ رزقه، فلما رآه دفع إليه درهمين، فقال له رجل يعرفه: لا تعط هذا شيئاً؛ فإنه أغنى من الأمير، فالتفت إلى الرجل وقال: ما كان يضرك لو سكت؟ فقال الجندي: ويلك، لم لا تلبس، ولا تنفق على نفسك مما رزقك الله؟ قال: يمنعني خشية الفقر، قال: ويحك، تعجلت ما كنت تخاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 واشترى رجل من أهل الكوفة جبنة لعياله، وقال: يكفيكم أن تمسحوا خبزكم بها، فما زال كذلك حتى ضجروا منه، وتمنوا موته، فمات، وورثه ابنه فقال: إن أبي كان مسرفاً في ماله، فجعلها في جراب وعلقها، وقال: تكفيكم رائحتها، والإيماء إليها، فترحموا على الميت. وقال بعضهم: كنت بالكوفة أبيع اللحم، فوقف علي رجل حسن الهيئة مليح المنظر، فحسر عن ذراعيه، وجعل يلطم اللحم بباطن كفه، ثم يمشي إلى غيري فيفعل مثل ذلك أياماً، فسألت عنه، فقيل لي: هذا دأبه، فإذا صار إلى داره غسل يده، وصنع بذلك الماء ثريداً. وقال بعضهم: قلت مرة لرجل غني من أهل الكوفة، إنك لكثير المال، وقميصك وسخ، فلم لا تغسله؟ فقال لي: والله إني فكرت في غسله منذ ستة أشهر، ولكني أغسله إن شاء الله. وكان لرجل من أهل الكوفة أم عجوز، وكان كثير المال، فقيل لها: كم يجري عليك ابنك؟ قالت: درهماً في كل أضحى. وخرج نفر من أهل الكوفة في سفر، واتفقوا على أن يخرج لكل واحد منهم جعلاً للسراج، فأخرجوا، وامتنع واحد منهم، فكانوا إذا أوقدوا المصباح سدوا عينيه إلى وقت النوم، فإذا أطفأوا السراج خلوا عنه. واصطحب منهم اثنان في سفر، فقال أحدهما للآخر: تعال نأكل، فقال له: معي رغيف، ومعك رغيف، فلولا أنك تريد أكثر، ما قلت لي: تعال نأكل جميعاً، وإلا فكل وحدك، وأنا وحدي. ودخل طفيلي على قوم فقالوا: ما الذي جاء بك؟ فقال: إذا لم تدعوني أنتم، ولم آت أنا، وقعت بيننا وحشة، فضحكوا منه، وأكل معهم. ودخل ابن مضاء على بعض الأمراء، فقال له: أي شيء خبرك يا ابن مضاء؟ قال: أعز الله الأمير، وأي شيء يكون خبري، والخرا عند الناس أكرم مني أفضل؟ قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن الخرا يحمل على الحمير، وأنا أمشي راجلاً، فضحك الأمير، وأمر له ببغلة يركبها. وقال العتبي: كان بالمدينة مؤنث يدل على النساء يكنى أبا الحر، فقلت له: دلني على امرأة أتزوجها، فدلني على عدة نساء، فلم أرض منهن واحدة، فقال: والله يا مولاي، لأدلنك على امرأة لم تر مثلها قط، فإن لم ترضها فاحلق لحيتي، قال: فدلني على امرأة، فلما زفت إلي وجدتها أكثر مما وصف، فلما كان في السحر، إذا إنسان يدق الباب، فقلت: من هذا؟ قال: أبو الحر، وهذا الحجام معي، فقلت: قد وقى الله شعرك أبا الحر، الأمر كما قلت. ودخل رجل على ثمامة بن أشرس وبين يديه طبق بفراريج، فغطى الطبق بذيله، وأدخل رأسه في جيبه، وقال للرجل الداخل: كن أنت في البيت الآخر، حتى أفرغ من بخوري. وقال بعضهم: دخلت على يحيى بن عبيد الله، وقوم يأكلوه عنده، فمد يده إلى رغيف، فرفعه من المائدة، وجعل يرطله بيده، ويقول: يزعمون أن خبزي صغير فمن هذا الزاني ابن الزانية، الذي يأكل منه نصف رغيف؟ وقال: دخلت عليه مرة أخرى، والمائدة موضوعة، والقوم قد أكلوا، ورفعوا أيديهم، فمددت يدي لآكل، فقال: أجهز على الجرحى ولا تتعرض للأصحا، يقول: عليك بالدجاجة التي قد نيل منها، والفرخ المنزوع الفخذ، وأما الصحيح فلا تتعرض له. وقال الأصمعي: كان المروزي يقول لزواره: هل تغديتم اليوم؟ فإن قالوا: نعم، قال: والله لولا أنكم تغديتم لأطعمتكم لوناً ما أكلتم مثله قط، ولكنه قد ذهب أول الطعام بشهوتكم، وإن قالوا: لا، قال: والله لولا أنكم لم تتغدوا لأسقيتكم خمسة أقدام من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله، فلا يصير في أيديهم من الوجهين قليل ولا كثير. وكان ثمامة بن أشرس، إذا دخل عليه أصحابه، وقد تعشوا عنده سألهم: كيف كان بيتهم ومنامهم، فإن قال أحدهم: إنه نام ليلة فيه هدو وسكون، قال: النفس إذا أخذت قوتها اطمأنت، وإن قال: إنه لم ينم، قال: إفراط الشبع والسرف في البطنة، ثم يقول لهم: كيف كان شربكم، فإن قال أحدهم: كثيراً، قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير، وإن قال: قليلاً، قال: ما تركت للماء مدخلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وبينما قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتاناً، إذا استأذن عليهم أشعب الطفيلي، فقال أحدهم: إن من شأن أشعب البسط إلى آخر الطعام، فاجعلوا كبار الحوت في صحفة ناحية، ويأكل معنا الصغار ففعلوا، وأذن له فدخل، فقالوا له: كيف رأيك في الحيتان يا أبا أشعب؟ قال: والله إن لي عليها حنقاً شديداً، لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان، قال له القوم: دونك فخذ بثأر أبيك، فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير، ثم وضعه عند أذنه، وقد نظر إلي الصحفة التي فيها الحيتان الكبار، وقال: أتدرون ما تقول هذه الحوتة؟ قالوا: لا ندري، قال: تقول: إنها لم تحضر موت أبي ولا أدركته؛ لأنها أصغر سناً من ذلك، ولكن عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت، فهي أكلت أباك. وخطر طفيلي على قوم يأكلون، وقد أغلقوا الباب دونه، فطلع عليهم من الجدار، وقال: منعتمونا من الأرض، جئناكم من السماء. ودخل طفيلي من المدينة على الفضل بن يحيى، وبيده تفاحة، فألقاها إليه، وقال: حياك الله يا مدني، فلزمها وأكلها، فقال له الفضل: ويحك أتأكل التحيات؟ قال: إي والله والزاكيات الطيبات. وقيل لبسرة الأحول: كم تأكل كل يوم؟ قال: من مالي أو من مال غيري؟ قيل: من مالك، قال: مكوك، قيل: ومن مال غيرك؟ قال: أخبز وأطرح. وقال أبو القيظان: كان هلال بن أشقر التميمي أكولاً، فيزعمون أنه أكل جملاً، وأكلت امرأته فصيلاً، فلما أراد أن ينام لم يصل إليها، فقالت له: كيف تصل إلي، وبيني وبينك جملان؟ وحكى أبو الخطاب قال: كان عندنا رجل أحدب، فسقط في بئر، فسقطت حدبته، فصار بأدرة، فدخل الناس عليه يهنئونه، فقال: الذي جاء شر من الذي ذهب. وقال أبو حاتم: رمى رجل أعور بنشابة، فأصابت عينه الصحيحة، فقال: أمسينا، وأمسى الملك لله. وقال الزبير بن بكار: جاءت امرأة إلى أبي تستعديه على زوجها، وتزعم أنه يصيب جاريتها، فأمر به فأحضر، فسأله عما ادعت، فقال: أصلح الله الأمير، هي سوداء وخادمها سوداء، وفي بصري ضعف، ويضرب الليل برواقة، فآخذ ما دنا مني. وخطب رجل خطبة نكاح، وأعرابي حاضر، فقال: الحمد لله، أحمده، وأستعينه وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، فقال له الأعرابي: لا تقم الصلاة؛ فإني على غير وضوء. وقال العوام بن حوشب: قال لي عيسى بن موسى: من أرضعتك؟ قلت: ما أرضعتني سوى أمي، قال: قد علمت أن ذلك الوجه القبيح لا يصبر عليه سوى أمه. وكان رجل مخنث، قد تنسك، وتشبه بالحسن البصري، فشهد جنازة ووقف على القبر، وإلى جانبه رجل ظريف، فضحك، فقال له المخنث: ما أعددت لهذه الحفرة أبا فلان؟ قال: أمك ندفنها فيها الساعة. ودخل أعرابي الحمام فخرج منه ريح، فقال له نبطي: جبحان الله، فقال له الأعرابي: يا ابن اللخناء، ريحي أفصح من تسبيحك. وفي كتاب ابن الهندي أن ناسكاً كانت له جرة بسمن، فعلقها في سرير، ففكر يوماً، وهو مضطجع على السرير وبيده العكاز، فقال: أبيع الجرة بخمسة دراهم، فأشتري خمسة أعناز، فأولدهن في كل سنة مرتين حتى تبلغ ثمانين، فأبيعها، وأشتري بكل عشرة بقرة، ثم ينمى المال بيدي، فأشتري العبيد والإماء، ويولد لي ولد فأؤدبه، فإن عصاني ضربته لهذه العصا، وأشار بالعصا فأصاب الجرة فتكسرت، وانصب السمن على رأسه. الباب الثالث في المضحكات الشعرية ودخل يحيى بن أكثم على المأمون، وعنده عبادة يتجارى معه في مسائل الفقه والفرائض، فقال: يا أمير المؤمنين، لي عند القاضي حاجة، قال: وما هي؟ قال: يعلمني فرائض الصلب؛ فإني ما رأيت أعلم بها منه، فضحك المأمون وقال: انظر في حاجة عبادة، فقال: يا أمير المؤمنين، قد كبر عن التعليم، وقد قال الشاعر: فإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه ولكن يبعث إلي بولده أعلمه فرائض الصلب خاصة، قال له المأمون: كيف رأيت الجواب يا عبادة. وكان الربيع والياً باليمامة، فأتى بكلب قد عقر كلباً، فقاد له منه، فقال الشاعر: شهدت بأن الله حق لقاؤه ... وأن الربيع العامري ربيع أقبلت، والوطء خفي، كما ... ينساب من مكمنه الأرقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فرمى الشيخ بنفسه في الفرات بثيابه، وجعل يخبط بيديه طرباً، ويقول: أنا الأرقم، فأخرجوه وقالوا: ما فعلت بنفسك؟ قال: إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون. وقال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبة لرجل من الأشراف، فلما قضى الطعام، اندفعت جارية تغني: إلى خالد، حتى أنخنا بخالد ... فنعم، الفتى يرجى، ونعم المؤمل قال: فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب، حتى أخذ نعليه، فعلقهما في أذنيه، ثم جثا على ركبتيه، وقال: اهدوني؛ فإني بدنة. وكتب علي بن الجهم إلى قينة، كان يتعشق بها، ويكلف بها: خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده ... وتيمته دهراً، كأن به سحراً دعي الهجر لا أسمع به منك، إنما ... سألتك أمراً، ليس يعرى لكم ظهراً فكتبت إليه: صدقت، جعلت فداك، ليس يعرى لنا ظهراً، ولكنه يملأ منه بطناً. وحدث العتبي عن أبيه قال: أنشدني أبو وائل: ما أوجع البين من حبيب ... فكيف إن كان من غريب يكاد من شوقه فؤادي ... إذا تذكرته يموت فقال لي أبي: هذا وباء وهذا تاء، قال: لا تنقط أنت شيئاً، قال: فإن البيت الأول مخفوض والثاني مرفوع، قال: أنا أقول: لا تنقط، وهو يشكل. وجاء أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر، فتغزل فيه بمائة بيت، ومدحه ببيتين، فقال له: والله ما تركت قافية لطيفة. ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك، قال: سأقول غير هذا، فعاد إليه بشعر يقول فيه: هل تعرف الدار لأم العمر ... رع ذا، وحبر مدحة في نصر فقال له نصر: لا ذاك، ولا ذا. وكان بعض الأمراء يستظرف طفيلياً، ويحضره طعامه وشرابه، وكان الطفيلي أكولاً شروباً، فلما رأى الأمير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه، فكتب إليه الطفيلي: أقاد لنا كلباً بكلب، ولم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع وأهدى بعضهم إلى أمير يوم نيروز عصافير أحياء في طبق، وجعل معها رقعة فيها مكتوب: عصافير بعثت بها ملاح ... ليضحك، لا لٍيأكلها الأمير وما أهدى إلى ملك سوائي ... عصافير على طبق تطير فلما وضع الطبق بين يديه، ورفع عنه الغطاء طارت العصافير، فرفع الرقعة وقرأ الشعر فضحك، وأمر له بجائزة سنية. ودخل أعرابي الكوفة، فقصد تماراً، فقال له: رأيتك في النوم أعطيتني ... قواصر من تمرك البارحة فقلت لصبياننا: أبشروا ... برؤيا رأيت لكم صالحه فأم العيال وصبيانها ... قلوبهم نحوها طامحه فقل لي: "نعم"؛ إنها حلوة ... ودع عنك: "لا"؛ إنها مالحه فدفع إليه قوصرة، وقال له: لا تعد ترى مثل هذه الرؤيا مرة أخرى. وقال بعضهم: رأيت أعرابياً، يصلي في فصل الشتاء، قاعداً بغير وضوء، وهو يقول: إليك اعتذاري من صلاتي قاعداً ... على غير ظهر، مومئاً نحو قبلتي فما لي ببرد الماء يا رب طاقة ... ورجلاي لا تقوى على ثني ركبتي ولكنني أحصيه يا رب جاهداً ... وأقضيكه إن عشت في فصل صيفتي فإن أنا لم أصنع، فأنت مسلط ... بما شئت من لطمي ومن نتف لحيتي وقال الأصمعي: رأيت بالبادية أعرابياً، قد حفر حفرة وقعد فيها، وذلك في زمان الشتاء، فقلت له: ما صيرك هنا؟ قال: شدة البرد، قلت: فهل قلت في ذلك شيئاً؟ فقال: أيا رب ما للبرد أصبح كالحا ... وأنت بحالي عالم، لا تعلم فإن يك يوماً في جهنم مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم وقيل لابن أبي عتيق: إن المخنثين خصوا، وإن الدلال خصي، فقال: إنا لله، أما والله، لئن فعل ذلك به، لقد كان يحسن: لمن ربع بذات الجيش، أمسى دارساً خلقا ثم استقبل القبلة، فلما كبر سلم، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: اللهم إن كان ليحسن خفيفه، أما ثقيله، فلا، الله أكبر. وصحب شيخ من المدينة شباناً في سفينة، ومعهم جارية تغني، فقالوا له: إن معنا جارية تغني، ونحن نجلك، فإن أنت أذنت لنا فعلنا، قال: فأنا أعتزل، وافعلوا ما شئتم، فتنحى، وغنت الجارية: حتى إذا الصبح بدا ضوؤه ... وغابت الجوزاء والمرزم قد قل أكلي، وقل شربي ... وصرت من بابة الأمير فليدع لي، وهو في أمان ... أن أشرب الراح بالكبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ودخل على أبي الشمقمق بعض إخوانه المتلطفين به، فلما رأوا سوء حاله، قالوا له: أبشر، أبا الشمقمق؛ فإنا روينا في بعض الحديث: أن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة، فقال: إن صح هذا الحديث. والله، لا كنت أنا في ذلك اليوم إلا بزازاً، فأنشأ يقول: أتراني أرى من الدهر يوماً ... لي فيه مطية غير رجلي كلما كنت في جمع فقالوا: ... قربوا للرحيل، قربت نعلي حيثما كنت، لا أخلف رحلا ... من رآني، فقد رآني ورحلي وحكى محمد بن الحاج البزار، راوية بشار، قال: قال بشار يوماً، وهو يعبث، وكان مات له حمار قبل ذلك: رأيت حماري البارحة، فقلت: ويلك، قد مت، قال: إنك ركبتني يوم كذا، فمررنا على باب الصيدلاني، فرأيت أتاناً، فعشقتها، فمت، وأنشدني: هام قلبي بأتان ... عند باب الصيدلاني يتمتني، يوم رحنا ... بثناياها الحسان وبغنج في دلال ... سل جسمي وبراني ولها خد أسيل ... مثل خد الشنفراني فبها مت، ولو عش ... ت، إذن طال هواني فقال رجل من القوم: أبا معاذ، ما الشنفران؟ قال: هذا من غريب لغات الحمير، فإذا لقيتم حماراً فاسألوه. وقال سفيان بن عيينة: دخلت الكوفة في يوم فيه مطر، فإذا كناس يفتح كنيفاً، ووقف على رأسه وهو يقول: بلد طيب، ويوم مطير ... هذه روضة، وهذا غدير ثم قال لصاحبه: انزل فيه، فأبى عليه، فنزل فيه وهو يقول: لن يطيقوا أن ينزلوا، ونزلنا ... وأخو الحرب من يطيق النزولا ليس كل الرجال يغشى لظى ... الحرب، ولا كلهم يلاقي الخيولا وقال الأصمعي: بينما أنا بالبصرة، إذا بكناس يكنس كنيفاً، وإذا هو يقول: فإياك والسكنى بدار مذلة ... تعد مسيئاً بعد أن كنت محسنا فنفسك أكرمها، وإن ضاق مسكن ... عليك بها، فاطلب لنفسك مسكنا قال: فوقفت عليه، وقلت له: والله ما بقي من الهوان شيء، إلا وقد امتهنتها به، فما الذي قلت من كرامتها؟ فقال: والله لكنس ألف كنيف، أحسن من القيام على باب مثلك. وسأل أعرابي رجلاً يكنى أبا عمرو، فقال للسائل: يرزقك الله، فعاد إليه يوماً، فقال مثل ما قال أمس، وتنحنح، ففلتت منه ضرطة، فقال الأعرابي: إن أبا عمرو لمكنوس الوسط ... إذا سألناه تمطى وضرط إعطاؤه: يرزقك الله فقط ودخل طفيلي في صنيع رجل من أهل القبط، فقال له: من أرسل إليك؟ فجعل يقول: أزوركم، لا أكافيكم بجفوتكم ... إن المحب إذا ما لم يزر زارا فقال القبطي: زرزارا؟ ليس أدري ما هو، اخرج من بيتي. ودخل أبو الفضل بديع الزمان على الصاحب بن عباد، ففرح به، وأجلسه معه، فأخرج البديع ريحاً منكرة، ثم أراد أن ينفي عن نفسه التهمة، فقال: يا مولاي، هذا صرير التخت، فقال له الصاحب: هذا صغير التحت فخرج البديع خجلاً، وانقطع عن الوصول إليه، فكتب إليه الصاحب: قل للصفيري: لا تذهب على خجل ... من ضرطة أشبهت ناياً على عود فإنها الريح، لا تستطيع تدفعها ... إذ لست أنت سليمان بن داود وخرج المهدي يتصيد، ومعه علي بن سليمان، فسنح لهما قطيع من ظباء، فأرسلت الكلاب، وأجريت الخيل، فرمى المهدي بسهم، فصرع ظبياً، ورمى علي بن سليمان سهماً، فصرع كلباً، فقال أبو دلامة: قد رمى المهدي ظبياً ... شق بالسهم فؤاده وعلي بن سليمان، ... رمى كلباً، فصاده فهنيئاً لهما، كل ... امرئٍ يأكل زاده فضحك المهدي حتى كاد يسقك. ومن ملح أبي دلامة، أنه دخل يوماً على المهدي، ومعه وجوه بني هاشم، فقال له المهدي: إني أعطيت الله عهداً لئن لم تهج كل من في هذا المجلس لأقطعن لسانك، فنظر إلى القوم، فكلما نظر إلى واحد غمزه بأن عليه رضاه، قال: فعلمت أني قد وقعت، وأنها عزمة من عزماته لابد منها، فلم أر أدعى للسلامة من هجاء نفسي، فقلت: ألا أبلغ لديك أبا دلامة ... فليس من الكرام، ولا كرامة إذا لبس العمامة كان قرداً ... وخنزيراً إذا نزع العمامة جمعت ذمامة وجمعت لؤماً ... كذاك اللؤم تتبعه الذمامة فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح، فقد دنت القيامة فضحكوا، وأعطاه كل واحد منهم جائزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الباب الرابع في المضحكات المطولات كان المأمون جالساً مع ندمائه ببغداد، مشرفاً على دجلة، وهم يتذاكرون أخبار الناس، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط، إلا ونقص من عقله، بمقدار ما طال من لحيته، وما رأيت قط عاقلاً طويل اللحية، فقال له بعض جلسائه: ولا يرد على أمير المؤمنين، قد يكون في طول اللحى أيضاً عقل، فبينما هم يتذاكرون في هذا، إذ أقبل رجل كثير اللحية، حسن الهيئة والثياب، فقال المأمون: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: هذا رجل عاقل، وقال آخر: يجب أن يكون هذا قاضياً، فقال المأمون لبعض الخدم: علي بالرجل، فلم يلبث إلا وصعد إليه، ووقف بين يديه، فسلم، فأجاد السلام، فأجلسه المأمون واستنطقه فأحسن النطق فقال له المأمون: ما اسمك؟ فقال: أبو حمدونة، قال: والكنية؟ علويه، فضحك المأمون، وغمز جلساءه، ثم قال: ما صنعتك؟ فقال: أنا فقيه أجيد الشرع في المسائل، فقال له: نسألك عن مسألة، فقال له الرجل: سل عما بدا لك، فقال المأمون: ما تقول في رجل اشترة شاة من رجل، فلما أخذها المشتري خرجت من استها بعرة، فقأت عين رجل، على من تجب دية العين؟ قال: فأطرق طويلاً ينظر بالأرض ثم قال: تجب على البائع دون المشتري؟ قال: إنها لما باعها لم يشترط أن في استها منجنيقاً، قال: فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه، وضحك كل من حضر، وأنشأ المأمون يقول: ما أحد طالت له لحية ... فزادت اللحية في هيئته إلا وما ينقص من عقله ... أكثر مما زاد في لحيته وكان المعتصم يأنس لعلي بن الجنيد الإسكافي، وكان عجيب الصورة والحديث، فقال المعتصم لابن حماد: اذهب إلى ابن الجنيد، وقل له: يتهيأ ليزاملني، فأتاه، فقال له: تهيأ لمزاملة أمير المؤمنين، فقال: وكيف أتهيأ؟ أهيئ رأساً غير رأسي، أشتري لحية غير لحيتي؟ فقال ابن حماد: شروطها الإمتاع بالحديث، والمذاكرة، وألا تبصق ولا تسعل، ولا تمتخط، ولا تتنحنح، وأن تتقدم في الركوب إشفاقاً عليه من الميل، وأن يتقدمك في النزول، فمتى لم يفعل المعادل هذا كان هو ومثقلة الرصاص التي تعدل بها القبة واحداً، فقال لابن حماد: اذهب، فقل له: ما يزاملك إلا من أمه زانية، فرجع إلى المعتصم وأعلمه، فضحك. وقال: علي به. فلما جاء قال: يا علي، أبعث إليك أن تزاملني، فلا تفعل؟ فقال: إن رسولك هذا الأرعن جاءني بشروط حسان السامي، وخالويه الحاكي، فقال لي: لا تبصق، ولا تعطس، وهذا لا أقدر عليه، فإن رضيت أن أزاملك فإذا جاءني الفسا والضراط فسوت وضرطت، وإلا فليس بيني وبينك عمل، فضحك المعتصم حتى استلقى، وقال: نعم، زاملني على هذه الشروط، فسار ساعة، وقال: يا أمير المؤمنين، قد حضر ذلك المسالح. قال: ذلك إليك، قال: يحضر ابن حماد، فأحضر فناوله كمه، وقال: أجد في كمي دبيب شيء، فانظره ما هو، فأدخل رأسه فشم رائحة الكنيف، فقال: لا أرى شيئاً، ولكني أعلم أن في جوف ثيابك كنيفاً، والضحك قد ذهب بالمعتصم كل مذهب، وابن الجنيد يخرج ريحاً متصلاً، ويقول لابن حماد: قلت: لا تتمخط، ولا تسعل، فسلحت عليك، ثم صاح: قد نضجت القدر، وأريد أن أسلح، فأخرج المعتصم رأسه من العمارية، وصاح: ويحك، يا غلام، الأرض الساعة؛ فإني أموت. ولما خرجت الخيزران إلى الحج، تلقاها أبو دلامة، فصاح: الله، الله، في أمري، فسألته عن أمره، فقال: إني شيخ كبير، وأجرك في عظيم، تهبين لي جارية؛ تؤنسني وترفق بي، وتريحيني من عجوز عندي، قد أكلت رفدي، وأطالت كدي، وعاف جلدها جلدي، وتمنيت بعدها، وتشوقت فقدها، فوعدته بها، فلما قدمت الخيزران من الحج، دخل أبو دلامة على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فرفع إليها رقعة، فدفعتها إلى الخيزران، وفيها: أبلغني سيدتي، إن شئ ... ت، يا أم عبيدة أنها، أرشدها الله، ... وإن كانت رشيدة وعدتني قبل أن تخ ... رج للحج وليدة إنني شيخ كبير ... ليس في بيتي قعيدة غير عجفاء عجوز ... ساقها مثل القديدة وجهها أقبح من حو ... ت طري في عصيدة ما حياتي مع أنثى ... مثل عرسي بحميدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فضحكت، واستعادت: حوتاً في عصيدة، وهي تضحك، ثم قالت لجارية: خذي ما عندك، وامشي إليه، فلما بلغها الرسول منزله، لم يجده، فدفعها إلى امرأته، ودخل دلامة ابنه، وأمه تبكي، فسألها فأخبرته وقالت: إن أردت بري يوماً من الدهر فاليوم، قال لها: قولي ما شئت أفعل، قالت: تدخل إلى الجارية، وتعلمها أنك مالكها، فتطؤها، فتحرم عليه، وإلا شغلته فجفاني وجفاك، ففعل، وجاء أبو دلامة فسألها عنها، فقالت: هي في ذلك البيت، فدخل، ومد يده وذهب ليقبلها، فرأت شيخاً قبيح الوجه، فقالت: تنح عني، وإلا لطمتك لطمة أدق بها أنفك، فقال: أو بهذا أوصتك سيدتك؟ فقالت: إنها بعثتني إلى فتى، من صفته كذا وكذا، وقد نال مني حاجته، فعلم أنه وهي من دلامة وأمه، فخرج ولطمه ولببه، وحلف ألا يفارقه حتى يوصله إلى المهدي، فمضى على تلك الحالة، حتى دخل على المهدي، فقال له: ما لك؟ ويحك، فقال: عمل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يعمله أحد بأحد، ولا يرضيني إلا أن تقتله، وأخبره الخبر، فضحك منه، فقال: علي بالسيف والنطع، فقا دلامة: اسمع حجتي يا أمير المؤمنين كما سمعت حجته، قال: هات، قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجهاً، هو ينكح أمي منذ أربعين سنة، فما غضبت ونكحت جاريته مرة واحدة، فغضب المهدي أشد من ضحكه الأول، وقال: دعها له، وأنا أعطيك خيراً منها، قال: على أن تخبئها لي بين السماء والأرض، فصرفهما، وحلف لدلامة: إن عاد ليقتله. وأقبل دلامة إلى أبيه في محفل، فجلس بين يديه، وقال للجماعة: إن شيخي كما ترون قد كبرت سنه، ورق جلده، ورق عظمه، وبنا إلى حياته حاجة، ولا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه، ويبقي قوته، فيخالفني، وأسألكم أن تسألوه قضاء حاجة، فيها صلاح جسمه، فقالوا: حباً وكرامة، فأخذ أبو دلامة بألسنتهم، فقال وقولوا: للخبيث: ليقل ما يريد، فستعلمون أن لم يأت إلا ببلية، فقال: إنما يقتله كثرة النكاح، ولا يقطعه عنه إلا الخصا، فتعاونونني عليه حتى أخصيه، فضحكوا منه، ثم قالوا لأبيه: قد سمعت، فما عندك؟ قال: قد عرفتكم أنه لم يأت بخير، وقد جعلت أمه حكماً بيني وبينه، فدخلوا إليها وقصوا القصة عليها، فأقبلت على الجماعة، وقالت: إن ابني - أبقاه الله - قد نصح أباه وأبره، وأنا إلى بقاء أبيه، أحوج منه إليه، إلا أن هذا أمر لم تقع به تجربة عندنا، ولا جرت به عادة، وهو قد ادعى معرفة هذا، فليبدأن بنفسه، فإذا هو عوفي، ورأينا ذلك قد أبقى عليه أثراً محموداً، استعمله أبوه على علم، فجعل القوم يعجبون من اتفاقهم في الخبث. وقال الفقيه أبو عمرو بن حكم: خرج رجلان من بلدهما من الضياعة والفقر، فلما وصلا إلى بلد آخر، وجدا بخارج تلك البلدة وادياً فيه أشجار كثيرة، فقطعا منها، وصنعا بيتاً في خارج البلدة، ونادى مناديهما: من أراد أن ينظر شيئاً ما رآه قط، فليأت الموضع الفلاني، فاجتمع الناس إليهما، وقعد أحدهما في داخل البيت، ووقف الآخر خارج البيت، وقال للناس: من أراد أن يرى عجباً يعطي درهماً ويدخل البيت، فتشوق الناس إلى ذلك، فدخل شخص، فرأى الرجل وبين يديه رجل حمار، فقال له: هذا في است من يقول لأحد ما رأى فخرج وهو يضحك، فقال له الناس: ما رأيت؟ قال: ادخلوا تروا ما رأيت ومضى، فلم يزل الناس يدخلون كذلك إلى آخرهم، واجتمعت له جملة كبيرة من دراهم. ودخل أبو العيناء على عبيد الله، وبين يديه شطرنج يلعب به، مع بعض أولاده، فقال له عبيد الله: من أي الحزبين تريد أن تكون؟ قال: معك، فلم يكن بأسرع من أن قال: قد غلبنا، ولزمك من القمار عشرون رطلاً من الثلج، قال: احضره أيها الأمير، ولكن تأذن لي أن أمضي إلى داري أوصيهم بما أحتاج إليه، حتى يدرك الطعام، وأوافيك بالثلج، فقال: امض، ولا تتأخر، فركب حماره، ومضى لأبي العباس بن ثوابة، فقال له: الأمير يدعوك الساعة، فلبس ابن ثوابة ثيابه، وركب دابته وصار معه أبو العيناء، فما شعر عبيد الله إلا بأبي العيناء مع ابن ثوابة قد وافى، فسر بذلك، فقال أبو العيناء: كلفونا أربعين رطلاً من الثلج، وقد جئتك بثلج مذاب كله، فخذ منه ما شئت، فضحك عبيد الله حتى استلقى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ودخل عبادة المغني دار المتوكل، فرأى فيها رطباً قد تساقطت، فجعل يلتقطها، فمد أحد أولاد المتوكل يده إلى است عبادة، وقال له: يا عبادة، من فتح لك هذه الثقبة؟ قال عبادة: الذي فتح لأمك ثقبتين، فشكاه إلى أبيه، فأمر أن يؤتى به فخرج عبادة فاراً بنفسه، فبينما هو يسير، إذ رأى غاراً فدخل فيه، وبنى عليه بحجارة، ودخل إلى قعره فإذا بأسد الفتح بن خاقان متصيداً، فمر بذلك الموضع، فسمع صوت الطنبور، في داخل الغار، فقال: اهدموه، فلما فتح خرج الأسد عليهم فاراً بنفسه، وعبادة من خلفه، فقال: ما هذا يا عبادة؟ قال: إن أمير المؤمنين جعلني هنا أعلم هذا الأسد ضرب الطنبور، وقد نفرتموه علي، وأنا أحشى عقوبته، ولا آمن أن يقتلني عليه، فقال الفتح: لا تخف، أنا أستوهب ذنبك، وأنسب الذنب في ذلك إلى نفسي، فرجع معه إلى المتوكل، فقال الفتح: يا أمير المؤمنين، إني استوهبتك عبادة؛ فقد ضمنت له النجاة، وإن الذنب الذي أذنب، أنا أذنبته، قال: والله ما غرضي إلا أن أقتله؛ لأن ذنبه كبير، حمله عليه كثرة الدالة علينا، حتى تعرض لحرمنا، فقال الفتح: وكيف ذلك؟ فقال له: ما تقدم من قوله، فقال الفتح: العفو يا أمير المؤمنين، والله ما علمت بذلك، ولكن اتفق لي معه كذا وكذا، فضحك المتوكل عند ذلك، وأمر بإحضاره. وكان محمد بن جعفر بخيلاً، فجلس يوماً مع ندمائه، فقال بعضهم: ما في الأرض أمشى مني، فقال ابن جعفر: وما يمنعك من ذلك وأنت تأكل أكل عشرة أنفس، وهل يحمل الرجلين إلا البطن، فقال آخر: أنا والله لا أقدر أن أمشي، فقال له: وكيف تستطيع المشي، وأنت تحمل في بطنك ما يثقل ثلاثين رجلاً، وهل ينطلق مشي الإنسان إلا بخفته، فقال الآخر: أما أنا فما نمت البارحة من وجع ضرس، فقال: وكيف لا تشتكي، وأي ضرس يصبر على الدق والطحن مثل ضرسك؟ فقال آخر: ما اشتكيت قط ضرسي، وما تخلخل من موضعه، فقال له: ذلك من كثرة المضغ؟ فإنه يشد الأسنان، ويقوي اللثة، وقال آخر: ما أظن أحداً أكثر شرباً للماء مني، وما أروى منه، فقال: لابد للبطن من الماء حتى يبله ويرويه، وأما أنت والله لو شربت الفرات ما استكثرته لك؛ لما أرى من كثرة أكلك، فقال آخر: وأنا لا أشرب ماء، فقال: لكثرة ما تأكل؛ لأن البطن إذا امتلأ لم يحتج لشيء، فقال آخر: والله ما أنام من الليل إلا قليلاً، فقال له: وكيف تدعك التخمة تنام؟ أتدري أن من أكل كثيراً وشرب غزيراً لا يكون ليله كله إلا يسحل ويبول؟ فقال آخر: أما أنا فإني أنام الليل كله، قال: أمارة على الشبع؛ لأن الطعام إذا كثر في البطن يسكن البدن والأعضاء، ويملأ العروق، فيسترخي منه كل شيء، وقال آخر: أصبحت لا أشتهي شيئاً، فقال: إياك أن تأكل قليلاً ولا كثيراً؛ فإن القليل على غير شهوة أضر من الكثير على شهوة، وإياك من الأكل الكثير؛ فإنه يتخم، وأكثر ما يكون الموت من التخمة، فعليكم بالإقلال من الطعام والشراب في كل الأزمان. وكان بالكوفة رجل يقال له مصلح، فبلغه أن بالبصرة رجلاً من المصلحين مقدماً في شأنه، فسار الكوفي إلى البصرة، فلما قدم عليها قال له: من أنت؟ قال: أنا مصلح، جئتك من الكوفة؛ لما بلغني خبرك، فرحب به، وأدخله موضعه، وخرج يشتري له ما يأكل، فأتى جباناً فقال له: أعندك جبن؟ قال: عندي جبن كأنه سمن، فقال في نفسه: لم لا أشتري سمناً حين هو يضرب به المثل؟ فذهب إلى من يبيع السمن، فقال له: أعندك سمن؟ قال: عندي سمن كأنه زيت، فقال في نفسه: لم لا أشتري زيتاً حين هو يضرب به المثل؟ فذهب إلى زيات، وقال: أعندك زيت؟ فقال: عندي زيت صاف كأنه الماء، فقال في نفسه: لم لا آخذ ماء حين يضرب به المثل؟ فرجع إلى بيته، وأخذ صحفة وملأها ماء، وقدمها للضيف مع كسيرات يابسة، وعرفه كيف جرى له، فقال الكوفي: أنا أشهد أنك بالإصلاح أحق من أهل الكوفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وحكى المدائني قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة، فقالت أمها: دعني أسأل عنك، فانصرف الرجل، فسأل عن أكرم الحي، فدل على شيخ منهم، كان يحسن المحض في الأمر، فأتاه وسأله أن يحسن عليه الثناء وانتسب له فعرفه، ثم إن العجوز غدت عليه، فسألته عن الرجل، فقال: أنا أعرف الناس به، قالت له: كيف لسانه؟ فقال: مدره قومه وخطيبهم، قالت: فكيف شجاعته؟ قال: منيع الجار، حامي الذمار، قالت: فكيف سماحته؟ قال: ثمال قومه وربيعهم، وأقبل الفتى، فقال الشيخ: ما أحسن - والله - سلم، ما دار ولا بار، ثم جلس فقال: ما أحسن - والله - ما جلس ما دنا ولا نأى، وذهب الفتى ليتحوط، فأخرج ريحاً فقال: ما أحسن - والله - ما أغنها، وما أطنها، ولا بربرها، ولا فرفرها، ونهض الفتى خجلاً، فقال: ما أحسن - والله - ما نهض، ما أبطأ ولا أسرع، فقالت المرأة: حسبك بهذا، وجه إليك من يرده، فوالله، لو سلح في ثيابه لزوجناه. وسمع بعض الملوك أن ملك الروم المجاور له عزم على أن يدخل أرضه ويحصر بعض بلاده، فأراد أن يبعث إليه رسولاً، يطلب منه الصلح، فشاور وزراءه، ونبهاء فرسانه فيمن يبعث إليه، فأشار عليه كل واحد منهم برجل من كبار خدامه، ونبهاء فرسانه، وسكت منهم واحد، فقال له الملك: لم سكت؟ قال: لا أرى أن ترسل واحداً ممن ذكروا، قال: فمن ترى أن ترسل؟ فقال له: فلان، وذكر له رجلاً غير وجيه، ولا مشهور بنباهة ولا بفصاحة، فقال له الملك: أتهزأ بي في مثل هذا؟ وظهر عليه الغضب، فقال له: معاذ الله يا مولاي، ولكنك تريد أن تبعث إليه من نرجو رجوعه، مقضي الحاجة، قال: وذلك مرادي، قال: وإني فكرت ونظرت فلم أجد غير ذلك الرجل؛ لأنك وجهته في كذا فأنجح، وفي كذا فقضيت حاجته، وما ذلك إلا بنجحته، لا بفصاحته، ولا نباهته ولا شجاعته، فقال له: صدقت، وأمر أن يوجه عنه، فجاءه، وأمر أن يدفع إليه كل ما يحتاج إليه في السفر، فدفع إليه، وخرج، فسمع ملك الروم أن يأتيه رسول، فقال لخدامه: إن هذا الرسول الذي هو يأتي من أكبر من عند المسلمين، فإذا وصل فأدخلوه قبل إنزاله، فإن فهم عني ما أقوله له أنزلته، وقضيت حاجته، وإن لم يفهم عني، لم أنزله، ورددته غير مقضي الحاجة، فلما وصل أدخل عليه، فلما سمع عليه أشار إليه ملك الروم بأصبعه الواحد إلى السماء، فأشار ذلك الرجل بأصبعه إلى السماء والأرض، فأشار النصراني بأصبعه قبالة وجه الرجل، فأشار الرجل بأصبعين قبالة وجه النصراني، فأخرج النصراني زيتونة من تحت بساطه، وأشار بها إلى الرجل، فأخرج الرجل بيضة من تحته وأشار بها إليه، فطابت نفس النصراني وأمر بإنزاله وإكرامه، ثم سأله: فيم جاء؟ فأخبره، فقضى حاجته وصرفه، فقيل للنصراني: ما قلت له حتى فخمك، وقضيت حاجته؟ فقال: ما رأيت أفهم منه ولا أحذق، أشرت له بأصبعي إلى السماء، أقول له: الله واحد في السماء، فأشار لي بأصبعه إلى السماء وإلى الأرض يقول لي: هو في السماء وفي الأرض، ثم أشرت له بأصبعي قبالته أقول له: جميع ما ترى من الناس إنما أصلهم واحد وهو آدم، فأشار إلي بأصبعين يقول لي: أصلهم آدم وحواء، ثم أخرجت له زيتونة أقول له: انظر، ما أغرب حال هذه، فأخرج هو بيضة، وقال: حال هذه أغرب من تلك؛ لأنه يخرج منها حيوان، فهي أعجب، فلذلك قضيت حاجته، فقيل بعد ذلك للرجل: ما الذي قال لك النصراني حين أشار إليك وفهمته؟ قال: والله، ما رأيت أثقل روحاً، ولا أجهل من ذلك النصراني ساعة وصولي إليه، يقول لي: آخذك في طرف أصبعي وأرفعك هكذا، فقلت له: أنا أرفعك بأصبعي هكذا، وأنزلك في الأرض هكذا، فقال لي: أخرج عينك بأصبعي هكذا، فقلت له: أنا أخرج عينيك الاثنتين بأصبعي هذين، فقال: ليس معي ما أعطيك إلا هذه الزيتونة، بقيت من غدائي، قلت له: يا محروم، وأنا أخير منك، فإني بقي لي من غدائي هذه البيضة، ودفعتها له، ففزع مني وقضى حاجتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وكان بالكوفة رجل مشهور بالبرد. فسمع أن بالبصرة رجلاً آخر أبرد منه، فقال: لابد أن أختبره، حتى أرى من أبرد منا، فأخذ كراريس من الكاغد كثيرة، وصنع منها سفراً كبيراً وسفره وكتب فيه: سلام عليكم، وفرق الحروف في بعض الأوراق وترك سائرها بياضاً، ودفعه لميار، وقال: تدفعه بالبصرة لفلان، وتطلب منه الجواب، فأخذه الميار، وذهب إلى البصرة، وسأل عن الرجل، فدل عليه، فأتاه، ودفع إليه السفر وقال له: أريد جواب ما فيه، قال: نعم، غداً إن شاء الله، ثم فتحه فوجد أوراقه بيضاً، فجعل يحول الأوراق، فوجد السين ثم اللام حتى كمل سلام عليكم، ولم يجد غير ذلك، ففكر في نفسه، فعلم أن ذلك من فعل بارد مثله يرى أن يقيسه فذهب إلى نجار، وقال له: اعمل لي تابوتاً كبيراً، فعمله له، فلما عاد الميار يطلب الجواب، قال له: تأتي غداً، وتأخذ هذا التابوت وتحمله للذي لك الكتاب وتقول له: هذا جوابك، وهذا مفتاح التابوت تدفعه له، ثم دفع أجرته، وقال: إني أسافر الليلة، فإذا كان غداً فأت إلى هنا، وخذ التابوت، فيه ما يحتاج من المأكول والمشروب، وغلقه، وإذا بالميار قد جاء، فأخذ التابوت وذهب، فلما وصل إلى الكوفة أتى الرجل الذي دفع له الكتاب: فقال: هذا التابوت جواب كتابك، ثم دفع له المفتاح ففتحه، فخرج منه الرجل، وقال وعليكم السلام ورحمة الله، فقال له: أشهد أنك أبرد مني ومن جميع الناس. وحكى أبو عبد الله بن عبد البر المدني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم، وكانت له قينتان يقال لإحداهما: رشأ وللأخرى جؤذر، وكان يعجبه السماع، وكان بالمدينة مضحك، لا يكاد يفارق مجالس المتظرفين، فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به، فلما أتاه قال له المضحك: أصلحك الله، أنت في لذتك، ولا لذة لي، قال: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذاً؛ فإنه لا يطيب لي عيش إلا به، فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ، وأمر أن يطرح فيه سكر، فلما شربه المضحك، تحركت عليه بطنه، وتناوم عنه الهاشمي، وغمز جاريتيه عليه، فلما ضاق عليه الأمر، واضطر إلى البراز، قال: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين، وأهل اليمن يسمون الكنف المراحض، فقال لهما: يا حبيبتي، أين المرحاض؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني: رحضت فؤادي فخليتني ... أهيم من الحب في كل واد فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني، أظنهما مكيتين، وأهل مكة يسمونه المخارج، فقال: يا حبيبتي، أين المخرج؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني: خرجت بها من بطن مكة، بعد ما ... أقام المنادي بالعشاء فأعتما فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: لم تفهما علي، أظنهما شاميتين، وأهل الشام يسمونها المذاهب، فقال لهما: يا حبيبتي، أين المذهب؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني: ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقاً كل هذا التجنب فغنتاه الصوت، فقال في نفسه: لم تفهما عني، ما أظنهما إلا مدينتين، وأهل المدينة يسمونه: بيت الخلاء، فقلت لهما: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى: خلى علي أخو الأحزان إذ ظعنا ... من بطن مكة، ألتسهيد والحزنا قال: فغنتاه، قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) ، ما أحسب الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش، فقال: أين بيت الحش؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى: أوحش الخبران فالربع منها ... فمناها، فالمنزل المعمور فاندفعتا تغنيانه، فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف، فقال لهما: أين الكنيف؟ فقالت إحداهما: نعس سيدنا، هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل، قالت: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى: تكنفني الهوى طفلا ... فشيبني، وما اكتهلا قال: فغلبته بطنه، وعلم أن ذلك منهما ازدراء عليه، والهاشمي يتقطع ضحكاً، فقال لهما: كذبتما يا زانيتين، أعلمكما ما هو؟ فرفع ثيابه وسلح عليهما، وانتبه الهاشمي، فقال: سبحان الله، أتسلح عن وطائي؟ قال: الذي خرج مني أعز علي منه؛ إن هاتين الزانيتين حسبتاني أني أسأل عن الحش لإخراج الريح، فأعلمتهما ما هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: والله لأحدثنك حديثاً، ما سمعه أحد مني قط، وهو أمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حياً، قلت: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا) ، قال لي: يا أبا محمد، إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه، قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة؟ آخذه على ما أحببت، قال: بينما أنا بسوق الإبل بمكة بعد أيام الموسم، إذا أنا بامرأة من نساء مكة معها صبي يبكي، وهي تسكته، فيأبى أن يسكت، فسفرت وأخرجت من فيها كسر درهم، فدفعته إلى الصبي فسكت، فإذا وجه رقيق كأنه دري، وإذا شكل رطب ولسان طويل، فلما رأتني أحد النظر إليها قالت: اتبعني، قلت: إن شرطي الحلال، قالت: ارجع، ومن يريدك على الحرام؟ فخجلت، وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها، فدخلت في زقاق العطارين، فصعدت درجة، وقالت: اصعد، فصعدت، فقالت: أنا متزوجة، وزوجي رجل من بني مخزوم ولكن عندي جارية، عليها وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة، أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأصغر سليم، قلت: وما أصغر سليم؟ قالت: بدينار واحد في يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة، وتزويجها صحيحاً، قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت، قال: وصفقت بيديها إلى جارتها، فاستجابت لها، فقالت: قولي لفلانة: البسي عليك ثيابك، وبحياتي عليك لا تمسي طيباً؛ فحسبنا بدلالك وعطرك فإذا جارية قد أقبلت من أجمل ما يرى، فسلمت وقعدت كالخجلة، فقالت لها الأولى: إن هذا الذي ذكرتك له، وهو في هذه الهيئة التي ترين، قالت: حياه الله، وقرب داره، قالت: وقد بذل لك من الصداق ديناراً، قالت: أما أخبرته شرطي؟ قالت: لا، والله يا بنية، لقد نسيت، ثم نظرت إلي فغمزتني، وقالت: أتدري ما شرطي؟ قلت: لا، قالت: أقول لك بحضرتها، وما أظنها تكرهه، هي والله، أفتك من عمرو بن معدي كرب، وأشجع من ربيعة بن مكدم، ولست بواصل إليها حتى تسكر، ويغلب عليها السكر، فإذا بلغت تلك الحال، ففيها مطمع، فقلت: ما أهون هذا وأسهله، قالت الجارية: وتركت شيئاً آخر، قالت: نعم، والله اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها، وترى مجرداً مقبلاً ومدبراً، قلت: وهذا أيضاً أفعله، قالت: هلم دينارك، فدفعته إليها قالت: فصفقت بيديها مرة أخرى، فأجابتها امرأة، فقالت لها: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلما الساعة، فإذا بشيخين نبيلين، قد أقبلا، فصعدا، فقصت عليهما القصة، فخطب أحدهما، وأجاز الآخر، وأقررت بالتزويج، وأقرت المرأة، ودعوا بالبركة، ثم نهضنا، فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المثونة فأخرجت ديناراً آخر، ودفعته إليها، وقلت: هذا لطيبك، قالت: لست ممن يمسي طيباً لرجل، إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت، قلت: فاجعلوه لغدائنا اليوم، قالت: أما هذا فنعم، فنهضت الجارية، فأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت فتغدينا، ثم جاءت بوسادة وقضيت وقعدت، ودعت بنبيذ فأعدته، واندفعت تغني بصوت لم أسمع قط مثله، وإني ألفت بيوت القيان نحواً من ثلاثين سنة، فما سمعت مثل ترنمها قط، فكدت أخر سروراً وطرباً، فجعلت أروم أن تدنو مني، فتأبى، إلى أن تغنت بشعر لم أعرفه، وهو: راموا يصيدون الظباء وإني ... لأرى تصيدها علي حراما أعزر علي بأن أروع مثلها ... أو أن يذقن على يدي حماما فقلت: جعلت فداك، من يغني هذا؟ قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سريج، وابن عائشة، فلما نعى إلينا النهار نفسه، وجاء المغرب، تغنت بصوت لم أعرف معناه؛ للشقاء الذي كتب علي، فقالت: كأني بالمجرد قد علته ... نهال القوم أو خشب البراري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 قلت: جعلت فداك، ما أفهم هذا البيت، ولا أحسبه مما يتغنى به، قالت: أنا أول من تغنى به، قلت: فإنما هو بيت مفرد لا صاحب له، قالت: معه بيت آخر، ليس هذا وقته، وهو آخر ما أتغنى به، قال: وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها، فلما أمسينا وصلينا المغرب، وجاءت العشاء الأخيرة وضعت القضيب، فقمت وصليت، وما أدري كم صليت عجلة وشوق فلما سلمت قلت: أتأذنين لي - جعلت فداك - في الدنو منك، قالت: تجرد، وأشارت إلى ثيابها، كأنها تريد أن تتجرد، فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها، فتجردت، وقمت بين يديها، فقالت: امضي إلى آخر البيت وأقبل حتى أراك مقبلاً ومدبراً، وإذا حصير في الغرفة عليه طريق إلى آخر البيت، فخطرت عليه، وإذا خرق إلى السوق تحته، فإذا أنا فيه، قد وقعت في السوق قائماً متجرداً، وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا نعالهما، وكمنا لي ناحية، فلما هبطت عليهما، نهضا إلي، فقطعا نعالهما على قفاي، واستعانا بأهل السوق، فضربت - والله - يا أبا محمد، حتى نسيت اسمي، فبينما أن أضرب بنعال مخصوفة، وأيد شديدة، إذا صوت من فوق البيت يغني: ولو علم المجرد ما أردنا ... لحاذرنا المجرد في الصحارى فقلت في نفسي: هذا - والله - وقت هذا البيت، فنجوت إلى رحلي، وما في عظم صحيح، فلما انقضى حجنا، وانصرفنا، جعلت طريقي على ذلك الموضع، فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب، قلت: لعنها الله، ولعن الذي هي منه. وحكى أبو سويد عن أبي العتاهية عن دعبل بن علي الشاعر قال: بينما أنا ذات يوم بباب الكرخ، وأنا سائر، وقد استولى الفكر على قلبي في أبيات شعر نطق بها اللسان، فقلت: دموع عيني لها انبساط ... ونوم عيني له انقباض فإذا بجارية رائعة الجمال، فائقة الكمال، حوراء الطرف، يقصر عن نعتها الوصف، لها وجه زاهر، ونور باهر، فهي كما قال الشاعر: كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة ... في كل جارحة منها لها قمر وكانت تسمع قولي، فقالت: هذا قليل لمن دعته ... بلحظها الأعين المراض فأجبتها، فقلت: فهل لمولاي عطف قلب ... أو للذي في الحشا انقراض فأجابتني فقالت: إن كنت تبغي الوداد منا ... فالود مني ديننا قراض قال دعبل، فما أعلمني خاطبت جارية تقطع الأنفس بعذوبة ألفاظها، وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمتها، مع تلاعة جيد، ورشاقة قد، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق، فحار - والله - البصر - وذهل اللب، وجل الخطب، وتجلجل اللسان، وتعلقت الرجلان، وما ظنك بالحلفاء أدنيت لها النار، ثم ثاب إلي عقلي، وراجعني علمي، وذكرت قول بشار: لا يمنعنك من محذرة ... قول تغلظه، وإن جرحا عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعدما جمحا هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه، واليأس منه، فكيف لمن وعد قبل المسألة وبذل قبل الطلب، فقلت مسمعاً لها: أترى زمان يسرنا بتلاق ... ويضم مشتاقاً إلى مشتاق؟ فقالت مجيبة لي في أسرع من نفسي: ما للزمان يقال فيه، وإنما ... أنت الزمان فسرنا بتلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قال دعبل: فلاحظتها، فتبعتني، وذلك في أيام إملاقي، فقلت: ما بي إلا منزل مسلم صريع الغواني، فصرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فخرج فقلت: أحمل لك الخير، معي وجه تقل له الدنيا بما فيها، قد حصل مع ضيقة وعسر، فقال: لقد شكوت ما كدت أبادرك إليه، ايت بها، فلما أتيت ودخلت قال: والله، ما أملك غير هذا المنديل، ففلت: هو البغية، فناولنيه، وقال: خذاه، لا بارك الله فيه، فأخذته وبعته بدينار عين وكسر، فاشترين لحماً وخبزاً ونبيذاً، وصرت إليهما، فإذا هما يتساقطان حديثاً كأنه قطع الروض الممطور، فقال: ما صنعت؟ فأخبرته، فقال: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس، مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب؟ فارجع لتمام ما بدأت، قال: فخرجت، فاضطربت في ذلك حتى رجعت به، فألقيت باب الدار مفتوحاً، فدخلت، فلم أر لهما خبراً، ولا شيئاً مما أتيت به أثراً، فسقط في يدي، وقلت: أرى صاحب الشرطة أخذهما؟ فبقيت متلهفاً حائراً، أرجم الظن، وأجيل الفكر سائر يومي، فلما أمسيت قلت: يا نفسي، أفلا أدور الدار؛ لعل الطلب يوقعني على أثر، ففعلت، فوقفت على سرداب، وإذا هما قد هبطا فيه، وأنزلا معهما جميع ما يحتاجون إليه، فأكلا وشربا وتنعما، فلما أحسستهما دليت رأسي، ثم ناديت: يا مسلم، ويحك، فلم يجبني حتى ناديت ثلاثاً، فكان من إجابته لي أن غنى بصوت يقول فيه: بت في درعها، وبات رقيبي ... جنب القلب، طاهر الأطراف قال: فضحكا ثم سكتا، واستجلبت كلامهما، فلم يجيباني، وبت بليلة، يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولاً وغماً وهماً، حتى إذا أصبحت، ولم آكل، خرج إلي مسلم، فجعلت ألومه، فقال لي: يا صفيق الوجه، منزلي ومنديلي، وطعامي وشرابي، فما شأنك في الوسط؟ فقلت له: حق القيادة والفضول والله لا غير، فولى وجهه إليها، وقال: بحياتي إلا أعطيته حق قيادته وفضوله، فقالت: أما حق قيادته فتعرك أذنه، وأما حق فضوله فتصفع قفاه، فاستقبلني فعرك أذني وصفع قفاي، فقلت: ما هذا؟ قال: جرى الحكم عليك بما جرى من العدل والإنصاف. وحكى أبو بكر الوراق قال: حدثني الحسن بن هانئ قال: حججت مع الفضل بن الربيع، حتى إذا كنا ببلاد بني فزارة، وذلك في أول أيام الربيع نزلنا بإزاء باديتهم، إذا روض أريض، ونبت عريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة، والنمارق المصفوفة، فقرت بنظرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء، فأسفت غمامها، وتدانى ركامها حتى إذا كان كما قال أوس بن حجر: دان مسف، فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح همت برذاذ ثم بطش ثم برش، ثم بوابل، ثم أقلعت، وقد غادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق، ورياضاً مونقة، ونوافح من ريحها عبقه، فسرحت طرفي، واقعاً منها بأحسن منظر، واستنشقت من رياحها أطيب من المسلك الأذفر، فلما انتهينا إلى أوائلها، إذا نحن بخباء على بابه جارية متبرقعة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، قد أشعرت لواحظها فتوراً، وملئت سحراً؛ فقلت لصاحبي: استنطقها، فقال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ فقلت: استسقها، فاستسقيناها ماء، قالت: نعم ونعما عين، وإن نزلتم فعلى الرحب والسعة، ثم نهضت تتهادى، كأنها خوط بان، أو قضيب خيزران، فراعني - والله - حسنها، وما رأيت منها، ثم أتت بالماء فشربت منه، وصببت باقيه على يدي، وقلت: وصاحبي أيضاً عطشان، فأخذت الإناء وذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول: إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع يريك عيون المها غرة ... ويكشف عن منظر أشنع قال وسمعت كلامي، فأتت، وقد نزعت البرقع، ولبست خماراً أسود وهي تقول: أر حي ركبي معشر قد أراهما ... أطالا، ولما يعرفا مبتغاهما هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فشبهت كلامها بعقد در، وهي سلكه، فانتثر، بنغمة عذبة رخيمة لو خوطب بها صم الصلاب لانجست، مع وجه يظلم لنوره ضياء العقول، وتتلف في روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير، فلم أتمالك أن خررت ساجداً، وأطلت، من غير تسبيح، فقلت: ارفع غير مأجور، لا تذم بعدها برقعاً، فلربما انكشف عما يمنع الكرى، ويحل القوى، ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة، ولا قضاء وطر، إلا الحين المجلوب، والقدر المكتوب، والأمل المكذوب، فبقيت - والله - معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي لطريق الصواب، فالتفت إلى صاحبي فقال، لمار رأى هلعي، كالمسلي عن بعض ما أذهلني: ما هذه الخفة لوجه برقت لك منه بارقة، ولا تدري ما تحته، أما سمعت قول ذي الرمة: على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الشين لو كان باديا فقالت: أما ما ذهبت إليه، لا أبا لك، فلا، والله؛ لأني بقول الشاعر أشبه: منعمة حوراء، يجري وشاحها، ... على كشح مرتج الروادف أهضم خزاعية الأطراف، مرية الحشا ... فزارية العينين، طائية الفم لها بشر صاف، وعين مريضة ... وأحسن إيماء بأحسن معصم من قول الأخرق، ثم رفعت ثياباً، حتى بلغت بها نحرها، وجاوزت منكبيها، فإذا فضة قد شيبت بماء الذهب، تهتز على مثل قضيب نقا، وصدر عليه كالرمانتين، وخصر لو رمت عقده لانعقد، منطوي الاندماج، على كفل رجراج، وسرة مستديرة، يقصر فهمي عن بلوغ نعتها، وفخذان لفاوان، وساقان تخرسان الخلاخل، وقدمان كأنهما لسانان ثم قالت: أشين ما ترى؟ لا أبالك، قلت: لا، والله، ولكن سبب القدر المتاح، ومقرب من الموت الصراح، فيطبق على الضريح، ويتركني جسداً بغير روح، قال: ثم خرجت عجوز من الخباء، وقالت: امض لشأنك؛ فإن قتيلها مطلول لا يودي، وأسيرها مكبول لا يفدي، قالت: دعيه، فإنه مثل قول غيلان: فلا تعبن يوماً محياً مبرقعاً ... فربتما أشجاك ما أنت عائب فنحن كذلك، حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل، وكرب داخل، وأنا أقول: يا حسرتي مما يحن فؤادي ... أزف الرحيل بغربتي وبعادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين، مررنا بذلك المنزل، وقد تضاعف حسنه، وإذا هي تتهادى بين خمس، ما تصلح أن تكون خادماً لأدناهن، وهن يجتلين من حسن ذلك النبات، فلما رأيننا وقفن، فقلنا لهن: السلام عليكم، فقالت من بينهن: وعليك السلام، ألست صاحبي؟ قلت: بلى، قلن لها: أو تعرفينه؟ قالت: نعم، وقصت عليهن القصة، ما تركت حرفاً، قلن لها: ويحك، ما زودته شيئاً يتعلل به؟ قالت: نعم، زودته لحداً ضامراً، وموتاً حاضراً، فانبرت لها أنضرهن خداً، وأرشقهن قداً، وأسحرهن طرفاً، وأبرعهن شكلاً، فقالت: والله ما أحسنت بدءاً، ولا أجملت عوداً، ولقد أسأت في الرد؛ إذا لم تكافيه في الود، فما عليك لو أسعفته في رغبته، أو أنصفته في مودته، وإن المكان لخال وما معك من ينم عليك، فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئاً، أو تشركيني في حلوه ومره، قالت لها: (تلك إذا قسمة ضيزى) ، قالت أخرى منهن: لقد أطلتن الخطاب من غير فائدة فسلن الرجل عن نفسه وقصته وبغيته، فلعله لغير ما أنتن فيه، فقلن: حياك الله، وأنعم بك عيناً، من تكون، وممن أنت، وإلى من قصدت؟ قلت: أما الاسم، فالحسن بن هانئ من اليمن، ثم من سعد العشيرة، وأحد شعراء السلطان الأعظم، ومن يدني مجلسه، ويتقي لسانه، ويرهب جانبه، وأما قصدي، فلتبريد غلة، وإطفاء لوعة، قد أحرقت الكبد وأذابته، قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كريم المخبر، وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك، وتنال بغيتك، ثم أقبلت عليهن فقالت: ما لواحدة منكن عن مثله مرغب، فتعالين نشترك فيه، ونقترع عليه، فمن واقعتها القرعة منا تكن بادئة، فاقترعن فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري، فعلقن إزاراً على باب غار يجاورهن، وأدخلت فيه، وأبطأن عني، وجعلت أتشوق لدخول إحداهن علي، إذا دخل علي أسود كأنه سارية، بيده شي كالهرارة، ثم صحت بصاحبي، وكان قريباً، فجاء إلي وخلصني منه بعد عسر، فخرجنا من العار، وإذا هن يتضاحكن، ويتهادين إلى الخيمة، فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنماً إلى جانب الغار، فدعونه، ووسوسن إليه شيئاً: فدخل عليك، قالت: أتراه كان يفعل؟ قال: أتراك في شك من هذا؟ وانصرفت وأنا أختزي. قال أبو بكر مالك أبعدك الله، لقد كتمت هذا الحديث مخافة هذا التأويل، حتى ضاق به صدري؛ فرأيتك موضعاً له، فبحقي عليك، لا تذعه، قال: فما فهمت به حتى مات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وقال السندي بن شاهد قائد الخليفة: بعث إلي المأمون، وأنا بخراسان، فطويت المراحل، حتى أتيت باب أمير المؤمنين، وقد هاج بي الدم، فوجدته نائماً، فأعلمت قصتي الحاجب، وقدمت إليه عذري، وما هاج بي من الدم، وانصرفت إلى منزلي، فقلت: ائتوني بحجامي، فقالوا: هو محموم، قلت: فهاتوا حجاماً غيره، ولا يكون فضولياً، فآتوني به، فما هو إلا أن دارت يداه على وجهي، فقال: هذا وجه ما أعرفه، فمن أنت؟ قلت: السندي بن شاهد، قال: ومن أين قدمت؟ فإني أرى أثر السفر عليك، قلت: من خراسان، قال: وأي شيء أقدمك؟ وكم لك في الطريق؟ قلت: وجه أمير المؤمنين إلي، ولكن إذا فرغت سأخبرك بالقصة على وجهها إن شاء الله، قال: وتعرفني بالمنازل التي جئت عليها؟ قلت: نعم، قال: فما هو إلا أن فرغ ودخل رسول أمير المؤمنين، ومعه كركي، فقال: أمير المؤمنين يقرئك السلام، وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم، وقد أمرك بالتخلف في منزلك حتى تغدو عليه إن شاء الله، ويقول: ما أهدي إلينا اليوم شيء غير هذا الكركي، فقال الحجام: يصنع كذا وكذا، فقلت: يصنع كما قال: وعزمت على الحجام ألا يبرح، فحضرت الغداء فتغدينا وهو معنا، ثم قدم الشراب، فلما دارت الأقداح قلت: يعلق الحجام في العقابين فعلق، ثم قلت له: إنك سألتني عن المنازل التي قدمت عليها، وأنا مشغول في ذلك الوقت، وأنا أقصها عليك الآن فاسمع: خرجت من خراسان وقت كذا، فنزلت بموضع كذا، يا غلام: أوجع، فاضربه عشرة أسواط، ثم خرجت إلى موضع كذا، يا غلام: أوجع، فاضربه عشرة أسواط مرة أخرى، فلم يزل يضربه لكل منزلة عشرة أسواط، حتى انتهى إلى سبعين سوطاً، فالتفت إلى الحجام وقال: يا سيدي، أين تريد تبلغ؟ قلت: سألتني بالله إلى بغداد، قال: ليس تبلغ والله إلى الري حتى تقتلني، قلت: فأتركك على ألا تعود؟ قال: والله لا عدت أبداً، قال: فتركته، وأمرت له بسبعين ديناراً، فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر، قال: وددت أنك بلغت به إلى الري على أن تأتي على نفسه. وحكى الزبير بن بكار قال: كان بمكة رجل يجمع بين الرجال والنساء ويعمل لهم الشراب، فشكي إلى عامل مكة، فصرفه إلى عرفات، فبنى بها منزلاً، وأرسل إلى إخوانه وقال: فما يمنعكم من أن تعودوا لما كنتم فيه؟ قالوا: وأين بك وأنت في عرفات؟ قال: حمار بدرهمين، وقد صرتم إلى الأمن والنزهة، ففعلوا، فكانوا يركبون إليه، حتى أفسد أحداث مكة، فعاودوا شكايته إلى والي مكة، فأرسل فيه، فأتي به، فقال: يا عدو الله، طردناك من حرم الله، فصرت بفسادك إلى المشعر الأعظم؟ قال: يكذبون علي، أصلح الله الأمير، فقالوا: بذلك أصلحك الله على ما نقول، أن تأمر بحمير مكة وتجمع، وترسل بها أميناً إلى عرفات، فإن لم تقصد إلى منزله من بين المنازل لعادتها إذا ركبها سفهاؤنها فنحن مبطلون، فقال الوالي: إن في هذا دليلاً عدلاً، فأمر بحمير من حمير الكراء، فجمعت، ثم أرسلت، فسارت إلى منزله، حتى كأنها دلها عليه دليل، فأعلمه بذلك أمناؤه فقال: ما بعد هذا شيء، جردوه، فلما نظر إلى السياط قال: لابد، أصلحك الله، من ضربي؟ قال: نعم، يا عدو الله، قال: ما في ذلك شيء هو أشد علي من أن يشمت بنا أهل العراق، ويضحكون منا، ويقولون: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير، فضحك الوالي، وخلى سبيله. الحديقة الثالثة في نوادر أولي العقول والألباب، وحكايات المستخفين والمغفلين من المولدين والأعراب وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول في النوادر المستغربة والنكت المستعذبة نظر القاضي إياس إلى ثلاث نسوة فزعن من شيء، فقال: هذه حامل، وهذه مرضع، وهذه بكر، فسئلن، فوجدن كذلك، فسئل. من أين علم ذلك؟ فقال: لما فزعن وضعت كل واحدة يدها على أهم المواضع لها، فوضعت الحامل يدها على بطنها، والمرض على ثديها، والبكر على فرجها. وسمع نباح كلب، فقال: هذا نباح كلب مربوط على شفير بئر، فنظر، فكان كما قال، فقيل له في ذلك، فقال: سمعت عند نباحه دوياً، ثم سمعت بعده صوتاً يجيبه، فعلمت أنه عند بئر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ونظر بعضهم إلى أعورين يذهبان في الطريق، ويد أحدهما في يد الآخر، فقال: إني أرى أعورين، وأعمى بينهما، فنظر أصحابه فقالوا: لا نرى إلا أعورين، وليس بينهما أعمى، فقال: ضموا عور هذا إلى عور هذا؛ فإنه ينشأ بينهما رجل أعمى، وكان أحدهما أعور العين اليمنى، والآخر أعور اليسرى، فاستظرف أصحابه ذلك. وقال الجاحظ: جلست امرأة من العرب إلى فتيان يشربون فسقوها قدحاً، فطابت نفسها، ثم سقوها آخر، فاحمر وجهها ثم سقوها ثالثاً، فقالت: خبروني عن نسائكم بالعراق، هل يشربن من هذا الشراب؟ قالوا: نعم، قالت: زنين ورب الكعبة، والله، ما يدري أحدكم عن أبوه. وسقي أعرابي أقداحاً من شراب لم يكن يعرفه، فحركته الأريحية، فسألوه عنها، فقال: والله، ما أدري ما هي غير أني أراكم تجبون إلي، وأراني أسربكم، وما وهب لي أحد منكم شيئاً. ومر أعرابي بقوم يشربون، فدعوه فنزل، وعقل ناقته، فلم أخذ منهم الشراب قام إلى الناقة، فنحرها، وشوى لهم من كبدها وسنامها. وقيل لأشعب: ما تقول في ثروة مغمورة بالسمن، مسقفة باللحم؟ قال: وأضرب كم؟ قيل: تأكلها من غير ضرب، قال: هذا ما لا يكون، ولكن أضرب، وأتقدم على بصيرة. وقال المبرد: أضاف رجل رجلاً، فأطال المقام عنده، حتى كرهه، فقال الر جل لامرأته: كيف لنا أن نعلم مقدار مضافه؟ فقالت: إلق بيننا شراً، حتى نتحاكم إليه، ففعل، فقالت المرأة للضيف: بالذي يبارك لك في شفرك غداً أينا أظلم؟ فقال: والذي يبارك لي في مقامي عندكم شهراً أو أزيد، ما أعلم. ونزل بصري على مدني، وكان صديقاً له، فأطال المقام عنده، فقال المدني لامرأته: إذا كان غداً، فإني أقول لضيفنا: كم ذراعاً تقفز؟ ثم أقفز فإذا قفز هو فأغلق الباب، فلما كان من الغد، قال له المدني: كيف قفزك يا أبا فلان؟ قال: جيد، فعرض عليه أن يقفز معه فأجابه، فوثب المدني من داره إلى خارج ذراعاً، وقال للضيف: ثب أنت، فوثب الضيف إلى داخل الدار ذراعين، فقال: وثبت أنا إلى خارج الدار ذراعاً، ووثبت أنت إلى داخلها ذراعين، فقال الضيف: ذراعان في الدار خير من أذرع برا. وسئل بنان الطفيلي: هل تحفظ من كتاب الله شيئاً؟ قال: نعم، آية، قيل: وما هي؟ قال: (فلما جاوزوا قال لفته ائتنا غداءنا) . وكان يقول: التمكن على المائدة خير من ثلاثة ألوان. وقال طفيل العرائس: ليس في الأرض أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى، ومنبر الخليفة، وخوان الطعام. ومن وصيته لأصحابه: إذا دخلتم عرساً، فلا تلتفوا إلى الملاهي، وتخيروا في المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام، فليحضر أحدكم، ولا ينظر في عيون الناس؛ ليظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة، وأهل المرأة أنه من أهل الرجل، وإن كان البواب فظاً وقاحاً، فليبدأ به، وليأمره ولينهه من غير عنف، ولكن بين النصيحة والإدلال. وقال بعض الطفيليين: الحلواء مثل الملك، يدخل بيتاً فيه قوم جلوس، ليس فيه متسع لأحد، فإذا نظروا إليه تضايقوا، ووسعوا له. وحضر طفيلي بالكوفة طعام قوم، فجلس يأكل، فجعل الغلام يحرك الطست والإبريق، فقال: من ذا الذي يرجف بنا قبل انقضاء عملنا؟ وبينما طفيلي يأكل، إذ سمع صوت الطست، فامتنع عن الأكل، فقيل له: لم لا تأكل؟ قال: حتى يسكن هذا الإرجاف الذي أسمع. وكان الأعمش إذا حضر مجلسه ثقيل أنشد: فما الفيل تحمله ميتا ... بأثقل من بعض جلاسنا وذكر له ثقيل، كان يجلس بجانبه، فقال: إني والله، لأبغض شقي الذي يليه من أجله. وكان حماد بن سلمة إذا رأى من يستثقله قرأ: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) . وقال خالي الأستاذ أبو عبد الله محمد بن جزي: وثقيل نحن منه ... في عذاب وامتحان قد دعونا إذا أتانا ... بدعاء في الدخان وقالت عائشة رضي الله عنها: نزلت آية في الثقلاء: (فانتشروا ولا مستئنسين لحديث) . وروي عن الشعبي أنه قال: من فاتته ركعة الفجر، فليلعن الثقلاء. وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول، إذا استثقل رجلاً: اللهم اغفر له، وأرحنا منه. وقيل لجالينوس: لما صار الرجل الثقيل أثقل من الحمل الثقيل؟ قال: لأن ثقله على القلب دون الجوارح، والحمل الثقيل يستعين عليه القلب بالجوارح. وقال طبيب للحجاج: إياك ومجالسة الثقلاء، فإنا نجد في الطب أن مجالستهم حمى الروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وكان بعض الظرفاء إذا رأى ثقيلاً قال: قد جاءكم الجبل، فإن جلس عندهم قال: قد وقع عليكم. وسمع الأعمش كلام ثقيل فقال: من هذا الذي يتكلم، وقلبي يتألم. وسلم ثقيل على بعض الثقلاء، فقال: وعليك السلام شهراً. وجلس ظريف عند ثقيل، فسئل عن ذلك، فقال: كانت نفسي قد عزت علي، فأردت أن أهينها بذلك. وقيل لظريف كان له ثلاثة أولاد ثقلاء: أي أولادك أثقل؟ فقال: ليس بعد الكبير أثقل من الصغير إلا الوسط. وقال زياد بن عبد الله: قيل للشافعي: هل يمرض الروح؟ قال: نعم، من ظل الثقلاء. فقال: فمررت به يوماً، وهو بين يدي ثقيلين، فقلت: كيف الروح؟ قال: في النزع. ومن ملح ابن عباد، أنه خرج يوماً مع جملة وزرائه الأدباء، فاجتازوا بأشبيلية بالموضع الذي يباع فيه الجير والجبس، فلقي جارية من أجمل النساء وأقلهم [هكذا] حياء، قد كشفت عن وجهها، فأقبل ابن عمار، وقال له: يا ابن عمار الجيارين، فقال له: نعم يا مولاي والجباسين، وضحكا معاً، فعلم من حضر أنهما لم يريدا أن يعرفا كل واحد منهما صاحبه بما ذكر. وسألوا ابن عمار عن مرادهما بذلك، فقال له ابن عباد: لا تبعها منهم إلا غالية، ثم إن ابن عمار أخبرهم أن ابن عباد أعجبه حسن الجارية، وعابها بقلة الحياء فحصف "الحياء زين" فجاء منه "الجيارين" وصفحت أنا "والخناشين" فجاء منه "والجباسين"، فاستغربوا من حضور أذهانهما وحسن كنايتهما. ودخل قوم على النضر بن شميل، يعودونه في مرض، فقال له رجل يكنى أبو صالح: مسخ الله ما بك، فقال: لا تقل: مسخ بالسين، ولكن بالصاد، بمعنى أذهب، وهو كلام العرب، فقال أبو صالح: إن السين تبدل من الصاد، كالصراط والسراط، وسقر، وصقر، فقال له النضر: فأنت إذن أبو سالح، فخجل الرجل. ووقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - فقالت له: أشكو إليك قلة الجرذان بداري - وهي الفئران - فقال: ما أحسن هذه الكناية، املأوا لها بيتها براً لحماً وسمناً، وبيان ذلك أن الفئران لا يقمن بالموضع الذي ليس فيه طعام. وأخذ المعني أبو حفص الوراق، فكتب رقعة إلى الصاحب بن عباد، منها: "وحال عبد مولانا في الحنطة مختلفة، وجرذان داره عنها منصرفة، فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، فعل، إن شاء الله، فوقع الصاحب فيها: أحسنت يا أبا حفص قولاً، وسنحسن فعلاً، فبشر جرذان دارك بالخصب، وأمنها من الجدب فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست من غيرها من النفقة بممنوع". ووجد أعرابي سراويل في طريق، فظنها قميصاً، فأدخل يديه في ساقيها، والتمس من أين يخرج رأسه، فلم يجد، فرمى بها وقال: هذا قميص شيطان. ومن نوادر أشعب قال سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه لأشعب: ما بلغ بك من طمعك؟ قال: لم أنظر لاثنين يتحدثان في شيء إلا قدرت أنهما يأمران لي بشيء. وقال له ابن أبي الزناد: ما بلغ من طمعك؟ قال: ما زفت بالمدينة امرأة إلى زوجها، إلا كنست بيتي، رجاء أن يغلط بها إلي. وكانت عائشة بنت عثمان كفلته مع ابن أبي الزناد، فقال أشعب: تربيت معه في مكان واحد، فكنت أسفل ويعلو، حتى بلغنا ما ترون. وقيل لعائشة بنت عثمان: هل آنست منه رشداً؟ فقالت: أسلمته منذ سنة يتعلم البز، فسألته بالأمس: أين بلغت في الصناعة؟ قال: تعلمت نصف العمل، وبقي نصفه، تعلمت النشر في سنة، وبقي تعلم الطي، فكيف يؤنس رشده. وساوم أشعب رجلاً فني قوس بدينار، فقال أشعب: والله، لو كنت إذا رميت بها طائراً، وقع في حجري مشوياً بين رغيفين، ما اشتريتها بدينار. ووقف إلى رجل يعمل طبقاً فقال له: أسألك الله إلا ما زدت فيه طوقاً أو طوقين. فقال له الرجل: ولم ذلك؟ قال: لعله أن يهدى لي يوماً فيه شيء. ثم قال: دعوا هذا، امرأتي أطمع مني ومن الراهب، فقيل: وكيف حالك؟ قال: إ، ها قالت لي: ما يخطر على قلبك شيء يكون بين الشك واليقين إلا وأنا أتيقنه. وقبل له: أرأيت أطمع منك؟ قال: كلبة آل فلان، رأت رجلاً يمضع علكاً، فتبعته فرسخين، تظن أنه يأكل شيئاً. وقيل له: ما بلغ بك الطمع؟ قال: أضجرني الصبيان يوماً، فقلت: أشغلهم عني، فقلت لهم: إن بموضع كذا عرساً، فامضوا نحوه، فلما ذهبوا، قلت في نفسي: ولعل ثم عرساً، فتبعتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وقيل لأشعب: لو أنك حفظت الحديث حفظك لهذه النوادر لكان أولى بك، قال: قد فعلت، قالوا له: فما حفظت من الحديث؟ قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كانت فيه خصلتان، كتب عند الله خالصاً مخلصاً، قالوا: إن هذا حديث حسن، فما هاتان الخصلتان؟ قال: نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى. ورأى بعضهم قاصاً، يقص غداة يوم، ثم رآه في العشي في بيت خمار والقدح في يده، فقال: ما هذا؟ فقال: أنا بالغداة قاص، وبالعش ماص. وقال بعضهم: أتيت الخليل، فوجدته على طنفسة صغيرة، فوسع لي، وكرهت أن أضيق عليه، فانقبضت، فأخذ بعضدي، وقدمني إلى نفسه، وقال: ما يضيق سم الخياط بمتحابين، ولا تتسع الأرض لمتباغضين، ولقد صدق، أخذ المعنى أبو محمد غانم بن الوليد المالقي فقال: صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين ولا تسامح بغيضاً في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين وقال الأصمعي: مر بي أعرابي سائلاً، فقلت: كيف حالك؟ قال: أسأل الناس إلحافاً، فيعطوني كرهاً فلا يؤجرون، ولا يبارك لي فيما آخذ منهم. وخطب ثقيل في تزويج، فقام واحد من القوم وقال: إذا فرغ الثقيل - بارك الله لكم - فإن لي شغلاً أريد المبادرة إليه. وكان صائد يصيد العصافير في يوم بارد، فكان يذبحها، ودموعه تسيل من البرد، فقال عصفور لصاحبه: لا عليك من الرجل، أما تراه يبكي؟ فقال له الآخر: لا تنظر إلى دموعه، وانظر إلى ما تصنع يده. وصلى رجل مراء، فقيل له: ما أحسن صلاتك، فقال: ومع ذلك فإني صائم. وقال طاهر بن الحسين لأبي عبد الله المروزي: كم لك منذ نزلت العراق؟ قال: منذ عشرين سنة، وأنا أصوم الدهر منذ ثلاثين، فقال: يا أبا عبد الله، سألناك عن مسألة واحدة، فأجبتنا في مسألتين. وقال مقاتل بن سليمان يوماً، وقد دخلته أبهة العلم، سلوني عما تحت العرش إلى أسفل الثري، فقال له رجل: ما نسألك عن شيء من ذلك، وإنما نسألك عما معك في الأرض، أخبرني عن كلب أهل الكهف، ما كان لونه؟ فأفحمه. وصعد ابن قتيبة يوماً للمنبر وقال: يسألني من شاء عما شاء، فقام إليه أحد المغفلين، فقال له: ما الفتيل والقطمير؟ فلم يحر جواباً، ونزل خجلاً، وانصرف إلى منزله كسلاً، فلما نظر اللفظتين وجد نفسه أذكر الناس لهما. وقال قتادة: ما سمعت شيئاً قط إلا حفظته، ولا حفظت شيئاً قط فنسيته، ثم قال: يا غلام، هات نعلي، فقال: هما في رجليك، ففضحه الله. وقال: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد، حفظت القرآن في سبعة أشهر، وقبضت على لحيتي، وأنا أريد أن أقطع ما تحت يدي، فقطعت ما فوقها. وسمع كثير عدي بن الرقاع ينشد الوليد بن عبد الملك قوله: وعلمت، حتى ما أسائل عالما ... عن علم واحدة لكي أزدادها في قصيدة طويلة، فقال كثير: كذبت، ورب البيت الحرام، فليمتحنك أمير المؤمنين في صغار الأمور دون كبارها، حتى يتبين جهلك، وما كنت قط أحمق منك اليوم، حتى تظن هذا من نفسك. وقال ابن موسى المنجم: ما أحد تمنيت أن أراه، فإذا رأيته أمرت بصفعه إلا عدياً، فقيل له: ولم ذلك؟ قال: لقوله هذا البيت، كنت أعرض عليه أصناف العلوم، فكلما مر عليه شيء لا يحسنه، أمرت بصفعه. وكان الواثق يقول بخلق القرآن، ويعاقب من خالفه، فأدخل عليه رجل فقال له: ما تقول في القرآن؟ فتصامم الرجل، فأعاد السؤال فقال: من تعني يا أمير المؤمنين؟ قال: إياك عني، قال: مخلوق، وتخلص منه. وقيل لآخر: ما تقول في القرآن؟ فأخرج يده، وجعل يعد أصابعه: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، هؤلاء الأربعة مخلوقة، يعني أصابعه، وتخلص منه. ومما يستظرف من ذلك، أن رجلاً تعذر عليه الوصول إلى المأمون في ظلامة، فصاح على بابه: أنا أحمد النبي المبعوث، فأدخل عليه، وأعلم أنه تنبأ، فقال له: ما تقول فيما حكى عنك؟ قال: وما هي؟ قال: ذكروا أنك تقول: أنا نبي، فقال: معاذ الله، إنما قلت: أنا أحمد النبي المبعوث، أفأنت يا أمير المؤمنين ممن يحمده؟ فاستظرفه، وأمر بإنصافه. وخرج شريح القاضي من عند زياد، وتركه يجود بنفسه، فسأله الناس عن حاله فقال: تركته يأمر وينهي، فجزعوا لسلامته، فما راعهم إلا صياح النائحات عليه، فسئل شريح عن قوله، فقال: تركته يأمر بالوصية، وينهي عن البكاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وسئل ابن شبرمة عن رجل ليستعمل، فقال: إن له شرفاً وقدماً وبيتاً، فنظروا فإذا هو ساقط، فقيل له في ذلك، فقال: شرفه أذناه، وقدمه الذي يمشي عليه، وبيته الذي يأوي إليه. وذكر المتنبي في مجلس أمير بمحضر المعري وجماعة، فأخذ الأمير يطعن على المتنبي، ويضعف شعره، ويذكر مقابحه، وكان المعري حاملاً على الأمير؛ لقلة إحسانه إليه، فحمله ذلك على أن خالفه، وأثنى على المتنبي، وقال: هو أشعر الشعراء، وأحسنهم شعراً، ولو لم يكن له إلا قصيدته التي أولها: لك يا منازل في القلوب منازل فأمر الأمير أن يضرب بالسياط، فضرب وأخرج، فعظم ذلك على من حضر المجلس، وقالوا للأمير: رجل كبير من أهل العلم تضربه؛ لما يقول عن المتنبي، إنه أشعر الشعراء؟ ما ذاك بصواب، فقال: ليس كما قلتم، وإنما ضربته على تعريضه بي، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لأنه لم يفضله بقصيدة من عالي شعره، وإنما فضله بتلك القصيدة مع أنها ليست من عالي شعره؛ لأنه يسقول فيها بعد أبيات: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل فاستحسن من حضر فهمه، وحدة ذهنه، وعذروه فيما فعل، وسئل المعري بعد ذلك، فقال: والله ما قصدت غير ذلك. ومثل ذلك ما حكي أن ابن الصائغ، بلغه عن الفتح بن خاقان صاحب "قلائد العقيان" أنه خططه فيها بذم، فقال فيه: "رمد عين الدين وكمد نفوس المهتدين، لا يتظهر من جنابة، ولا يظهر مخايل إنابة"، فمر على الفتح وهو جالس في جماعة، فسلم على القوم، وضرب على كتف الفتح وقال له: شهادة، يا فتح، ومضى، فلم يدر أحد ما قال إلا الفتح، فإنه فهمه، فتغير له، فقيل له: ما قال لك؟ فقال: إني وصفته في كتابي بما تعلمون، وأنا - والله - ما بلغت بذلك عشر ما بلغ هو بهذه الكلمة، إنه يشير لي بها إلى بيت المتنبي. وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل وحضر جحظة المغني مع جماعة فيهم علي بن سام، فأخذ كل واحد منهم مخدة، فقال جحظة: ما لي لا أعطى مخدة؟ فقال له ابن بسام: عن فالمخاد كلها إليك تصير، يريد حين يرمونه بها. وقال أبو زيد: رأيت أعرابياً كأن أنفه كوز من عظمه، فرآنا نضحك منه، فقال: ما يضحككم؟ فوالله لقد كنت في قوم يسموني الأفطس. وقال: ما رأيت الديك في بلد قط إلا وهو يدعو الدجاجة إذا وجد الحبة، ويلتقطها لها إلا بمرو، فإني رأيته يأكل وحده، ولا يدعو الدجاجة إذا وجد الحبة، فعلمت أن لؤمهم كثير جداً، وهو طبع فيهم. وقال: رأيت بها طفلاً صغيراً، وبيده بيضة، فقلت له: أعطنيها فقال لي: ليس تسع في يدك، فعلمت أن المنع طبع مركب فيهم. وجلس ثقيل إلى بشار بن برد، فخرج من بشار ريح منكرة، فظن الرجل أنها فلتة، فمشى في حديثه، فأعادها بشار ثانية وثالثة، فقال له: يا أبا معاذ، ما هذا؟ قال: رأيت أو سمعت؟ قال: بل سمعت، قال: كل ما سمعت ريح، لا تصدق حتى ترى. وكان لعبد الملك بن مروان جارية تتكلم بلغة من يكسر حروف المضارعة فتقول: أنت تعلم، فقال الشعبي: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في الغض منها؟ قال: افعل، قال: يا جارية، ما بال قومك لا يكتنون؟ فقالت له: أما فعلت ذلك؟ فقال: لا، والله، ولو فعلت لاغتسلت، فخجلت من ذلك، واستغرق عبد الملك في الضحك. وقال الحجاج يوماً لجلسائه، وقد وصلت إليه الشمس ووجد حرها: ما كان حوجنا إلى كن نكتن فيه، فقال سعيد بن مطعم المارزي: قد أصبت لك أيها الأمير كناً، قال: وأين هو؟ قال: تنوري، فوالله ما سخن منذ ثلاثين يوماً، فقال له الحجاج: تلطفت في المسألة، وأمر له بجائزة. وحكي أن رجلاً قام من مجلس خالد بن عبد الله يوماً، فقال: إني لأبغض هذا الرجل، وما أذنب لي ذنباً، فقال بعض من حضر: أوليته معروفاً قط؟ قال: لا، قال: فأوله معروفاً يخف على قلبك، ففعل، وخف على قلبه، وصار واحداً من جلسائه. وقال بعضهم: رأيت قبرين، مكتوب على أحدهما: من رآني فلا يصغرن قدري؛ أنا كنت أحبس الرياح وأفرقها، وعلى الآخر: كذب ابن الزانية، إنما كان يجمع الرياح في الزق ثم يخرجها، قال: فما رأيت مشاجرة بين ميتين غيرهما. وقال آخر: رأيت قبرين، مكتوب على أحدهما: أنا ابن سافك الدماء، وعلى الآخر: أنا ابن مستخدم الرياح، فسألت عنهما فقيل لي: أحدهما ابن حجام، والآخر ابن حداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وقال بعضهم: مثل الحريص في طلب الدنيا، كمثل رجل يصلي خلف الإمام، وهو مستعجل لحاجته، فهو يسبق الإمام بالركوع والسجود، استعجالاً للفراغ، ولا ينفعه ذلك ولا يخرجه من الصلاة إلا سلام الإمام. وحكى الأنماطي أن المتوكل على الله، كان طلب من محمود الوراق جارية مغنية، وأعطاه فيها عشرة آلاف دينار، فأبى، فلما مات محمود اشتراها بخمسة آلاف، وقال لها: كنا أعطينا فيك لمولاك عشرة آلاف. وقد اشتريناك بخمسة آلاف، قالت: يا أمير المؤمنين، إن كانت الخلفاء تتربص بلذاتها المواريث، فنشتري بأرخص مما اشتريت. وحكى إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لاعب هارون الرشيد جارية من جواريه الشطرنج على إمرة مطاعة. فغلبته، فقال: مريم شئت، فقالت: تقوم إلى السرير، فقام، ثم لاعبها فغلبته فقالت: قم لميعادك، قال: لا أقدر على ذلك، قالت: فاكتب لي كتاباً أن آخذك به متى شئت، قال: افعلي، فدعت بدواة وقرطاس، ثم كتبت: هذا كتاب فلانة على مولاها أمير المؤمنين، أن عليه فرداً آخذه به متى شئت، وأنى شئت من ليل أو نهار، وكان على رأسها وصيفة لها، فقالت لها: يا سيدتي، إنك لا تأمنين الحدثان، فزيدي في كتابك، ومن قام بهذا الذكر فهو ولي ما فيه، فضحك الرشيد حتى استلقى على فراشه، واستظرفها، وأمر أن تنزل مقصورة ويجرى عليها رزق سنين، وشغف بها، ويقال: أنها مراجل، أم المأمون. وارتفع رجل وامرأته إلى بعض القضاة، وكانت متنقبة، فأخذ القاضي معها، ففطن الرجل لذلك، فقال: أيها القاضي، قد شككت أنها زوجتي، فمرها تسفر عن وجهها، فوقع ذلك على اختيار القاضي، وقال: اكشفي عن وجهك، فلما كشفت عن وجهها، رآها قبيحة، فقال: أخزاكن الله، تجيء إحداكن بعيني مظلومة، فإذا كشفت، كشفت عن وجه ظالمة. واختصم رجلان عند قاضي في خصومة بينهما، فأهدى إليه أحدهما منارة، والآخر بغلة، فلما وقفا للخصومة، رأى مهدي المنارة القاضي يميل عليه في الحكومة، فقال: أعز الله القاضي، إن حقي أشهر من منارة، وردد ذلك مراراً، فقال: يا هذا، إن البغلة كسرت المنارة برجلها. وجاءت امرأة إلى موثق يشهد عليها في عقد، فوجد اسمها جميلة، فلما نظر إليها وجدها قبيحة، فرمى العقد من يده وقال: لا أشهد بالزور؛ إنما أنت قبيحة. وكان بإشبيلية فقيه لوذعي، فجلس يوماً مع طلبته في نزهة، وبين أيديهم طعام، فيه بيض، فتكلم بعض القوم بكلام فيه ضعف، فأخذ الفقيه فص بيضة، فألقاه قدامه، ففطن القوم وضحكوا. وودع رجل رجلاً كان في قلبه منه شيء، فقال له: امض في ستر من حفظ الله، وحجاب من كلاءته، ففطن الآخر، وقال الآخر: رفع الله مكانك، وشد ظهرك، منظوراً إليك، أراد أن يكون مصلوباً. ووجه المبرد غلامه في حاجة، وقال له بحضرة الناس: إن رأيته، فلا تقل له، وإن لم تره، فقل له، فذهب الغلام ورجع، وقال له: لم أره فقلت له، فجاءه، فلم يجيء، فسئل الغلام عن معنى هذا، فقال: بعثني إلى غلام، وقال لي: إن رأيت مولاك، فلا تقل له، وإن لم تر مولاه، فقل له، فذهبت فلم أر مولاه، فقلت للغلام ما أمرني، فجاء مولاه، فلم يجيء الغلام. وأرسل أعرابي غلامه إلى امرأة يواعدها موضعاً، يأتيها فيه، فذهب الغلام، وأبلغها الرسالة، فكرهت المرأة أن تقول للغلام ما بينهما، فقالت له: والله لئن أخذت أذنيك لأعركهما عركاً، وأشدك إلى تلك الشجرة، حتى تغش عليك العتمة، فانصرف الغلام إلى مولاه، وحكى له قولها، فعلم أنها واعدته تحت الشجرة، وقت العتمة. وأراد أحد تلامذة أبي حنيفة أن يتزوج، وكان فقيراً، فلم يأخذه أحد لفقره، فشكى ذلك لأبي حنيفة، فقال له: ضع يدك على ذكرك، وسر واخطب، فإن سألك الناس عن حالك، وما عندك فابعثه إلي، ففعل الطالب ما أمره، فجاء شخص إلى أبي حنيفة، فسأله عن حال ذلك التلميذ، وهل عنده شيء أم لا؟ فقال أبو حنيفة: رأيت بيده سلعة، إذا أهلكت عليه، ثمنها خمسمائة دينار، فأخذوه فلم يجدوا عنده شيئاً. ومر طفيلي بقوم يأكلون، فقال: السلام عليكم معشر اللئام، قالوا: لا، والله، إلا كرام، فجلس، وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين، واجعلني من الكاذبين. وخطر طفيلي على قوم يأكلون، فجلس يأكل معهم، فقالوا له: هل تعرف منا أحداً؟ قال: نعم، قالوا: من هو؟ قال: هذا، وأشار إلى الخبز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ومر طفيلي بقوم يأكلون، فقال لهم: ما تأكلون؟ فقالواً: سماً، قال: لا خير في الحياة بعدكم، وجعل يأكل معهم. وقال بعضهم: كانت لي حاجة عند بعض الحكام، فلم يقضها لي، فجلست في طريقه، فكل من يأتي إليه أصلح بينهم بدراهمي، حتى قطعت عليه معيشته من الناس، فقيل له عني، فبعث إلي، وقضى حاجتي. وكان آخر له محفظة، لها طاقتان، طاقة نظيفة، والأخرى غير نظيفة، وعنده دراهم طيبة، ودراهم رديئة، فإذا أراد شراء اللحم، فإن قطع بائع اللحم له ما يرضيه، جعله في الطاقة النظيفة، وأعطى من الدراهم الطيبة، وإن كان غير ذلك جعله في الطاقة الأخرى، وأعطى من الدراهم الرديئة، فإن رد الدراهم، رد له هو اللحم، وقد سوده. واشترى رجل ثنا [هكذا] ، وأنفق عليه مثل ثمنه، فوجده مالحاً، لا يستطيع أحد أكله، فذهب به لبائعه، ورغب إليه في رد ثمنه، ويخسر ما ينفق عليه، فأبى من ذلك، فجلس بالقرب منه، فكل من يجيء، ليشتري منه يقول له: إياك أن تشتري منه، وإن شئت فذق هذا، فإنه منه، فلم يشتر أحد منه، فأعطاه ثمنه وما أنفق عليه، وانصرف عنه. وكان لنصراني قرد، فأعطاه دجاجة ينتفها، فأخذتها حدأة من بين يديه، فبقي القرد خائفاً من سيده، فجرح نفسه، ولطخ جسده وبقي ملقى على قفاه بالأرض، كأنه ميت، فلما أكلت الحدأة الدجاجة، رجعت تتشوف، فرأته على تلك الحال، فنزلت إليه لتأخذه، فقبض عليها، وقطع رأسها ونتفها، ودفعها إلى سيده، وقد كان ينظر فعله. وأودع رجل عند آخر جرة من زيت، وقال له: أسلفني دراهم حتى نبيعها، ونعطيك، ففعل، فلم يرجع إليه بعد، فأراد بيعها، فوجدها ملأى، وعلى وجهها شيء يسير من الزيت. ومن أبو العيناء يوماً بدرب بشر، فقال له غلامه: إن بالدرب جملاً سميناً، وليس معه أحد، فقال: خذه، فأخذه وسار به إلى منزله، فلما كان من الغد، جاءته رقعة من بعض الرؤساء الساكنين في ذلك الدرب، مكتوب فيها: جعلك فداك، ضاع لنا بالأمس جمل، فأخبرني بعض صبيان الزقاق أنك أخذته، فاردده متفضلاً، فكتب إليه: سبحان الله، مشايخ عندنا يزعمون أنك فطيم فلم أقبل قولهم، ولا صدقتهم، وتصدق أنت صبياً من صبيان دربك؟ وزاحم أبا العيناء رجل بالجسر، راكب على حمار، فضرب بيده على الحمار، وقال: يا رجل، قل للحمار الذي عليك: يقول: الطريق. وولد لأبي العيناء ولد، فأتى ابن مكرم، فسلم عليه، ووضع حجراً بين يديه، وانصرف، فأحس به، فقال: من أدخل هذا الحجر، قيل له: ابن مكرم، قال: لعنة الله، إنما عرض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". ومر أبو العيناء بموسى بن المتوكل، فقال له: انزل على ما حضر، فقدم له صحفة بلحم، وخبزاً، فأدخل أبو العيناء يده، فقلبها، فما وقعت يده إلا على عظم، فقال: يا سيدي، هذه صحفة أو قبر؟ فضحك موسى، وأمر له بإحضار شيء آخر. ومر ببشار بن برد قوم، وهم يسرعون بجنازة، فقال: ما أظنهم إلا سرقوه، فيخافون أن يؤخذ منهم. ومرت امرأة من الأعراب بقوم من بني نمير، فلحظوها بأبصارهم، فقالت: والله، يا بني نمير، ما أخذتم بواحدة من اثنتين، لا بقول الله سبحانه، ولا بقول الشاعر، أرادت بقول الله سبحانه: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصرهم) ، وأرادت بقول الشاعر: فغض الطرف؛ إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا ومرت امرأة ماجنة، برجل، وهو يأكل، فقالت له: أعرس في بطنك؟ نرى لحيتك ترقص. وأتى رجل إلى خاطبة فقال لها: أريد امرأة ترضع ابني، فجعلت تعرض عليه كل ما عندها، وهو لا يرضى منهن شيئاً، فقالت له: عندي جارية بكر مليحة ظريفة، أتريدها ترضع ابنك؟ قال: نعم، قالت له: فأنت تريدها لنفسك لا لابنك. وقال بعضهم: إن قوماً من المسلمين غزوا قوماً من الروم، فكان بين من قتل إخوة وأمهم حاضرة، فكرهت الحياة بعدهم، فقالت للذي صارت إليه: أرأيتك إن علمتك شيئاً لا يقطع فيك الحديد به، أتخلي سبيلي؟ قال: وكيف نعلم ذلك؟ فقالت له: أول ما تجربه في، قال: نعم، فجلست، وقالت له: اضرب عنقي، وبقيت تحرك شفتيها، كأنها تقول شيئاً، فضرب بالسيف، فقطع رأسها، فعلم أن ذلك كان حيلة منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ورفع قوم غريماً لهم إلى بعض القضاة، فقالوا: لنا عليه كذا وكذا ديناراً، فقال: نعم، لهم عندي ذلك، إلا أني سألتهم أن يؤخروني أياماً يسيرة؛ حتى أبيع عقاري وغنمي وبقري وإبلي، وأدفع لهم ما عندي، فقالوا: كذب، والله، ما عنده شيء من ذلك، قال: فاشهد لي عليهم، بأنهم شهدوا لي، أني فقير عديم، فقال القاضي: ركبوه حماراً، ونادوا عليه ألا يعامله أحد، ففعلوا ذلك النهار كله، فلما كان العشي، قال له صاحب الحمار: أعطني أجرة الحمار، قال: فيم كنا اليوم كله؟ فمضى وتركه. وارتفع خصمان إلى سوار القاضي، وكان سوار يبغض أحدهما، فقال له: يا ابن اللخناء، قال: كذلك خصمي، قال خصمه: احكم لي عليه، قال: نعم، خذ له بحقه مني، وخذ لي بحقي منك، فندم سوار، وسأله الصفح. ولما أراد شيرويه قتل أبيه، وجه إليه من يقتله، فلما دخل عليه قال: إني أدلك على شيء يكون فيه غناك، وذلك لوجوب حقك علي، قال: وما هو؟ قال: الصندوق الفلاني، فذهب إلى شيرويه فأخبره الخبر، فأمر بإخراج الصندوق، فوجد فيه ربعة، وفي الربعة حق، وفي الحق حب، وعلى الحق مكتوب: من أخذ منها حبة عاش من غير مضرة ولا ضعف، فطمع شيرويه في صحته، فأخذه وعوضه به، ثم أخذ منه حبة، فكان هلاكه فيها. ومرض مولى لسعيد بن العاص، ولم يكن له من يخدمه، ويقوم بأمره، فبعث إلى سعيد فأتاه فقال: ليس لي وارث غيرك، وها هنا ثلاثة آلاف درهم مدفونة، فإذا مت فخذها، فقال سعيد حين خرج من عنده: ما أرانا إلا قد أسأنا لمولانا هذا، وقصرنا في تعاهده، وهو من شيوخ موالينا، فبعث إليه من يخدمه ويتعاهده، فلما مات، اشترى له كفناً بثلاثمائة درهم، وحضر جنازته، فلما رجع حفر الموضع كله، فلم يجد شيئاً، وجاء صاحب الكفن، وطلب ثمناً، فقال: لقد هممت أن أنبش عليه. وجاء رجل إلى أبي حنيفة فشكى إليه أن أودع عند بعض الناس المشهورين بالأمانة والديانة مالاً، وأنه أنكر الوديعة، وكان ذلك المستودع يعتني بأبي حنيفة، فقال أبو حنيفة للرجل: تعود لي، وخلا أبو حنيفة بالرجل الذي أودع عنده، فقال له: إن هؤلاء قد بعثوا إلي يستشيرونني فيمن يصلح للقضاء، فهل تنشط لذلك؟ فتمانع الرجل قليلاً، وأقبل أبو حنيفة إليه يرغب فيه، ثم انصرف عنه، وهو طامع في القضاء، ثم جاء الرجل صاحب الوديعة في أبي حنيفة فقال أبو حنيفة: اذهب إلى الرجل، فقال له: احسبها، أنسيت الحال، وأنا أودعتك في وقت كذا، والعلامة كذا، فذهب الرجل وقال له ما أمره به، فرد عليه الوديعة، فلما رجع ذلك الإنسان إلى أبي حنيفة قال له: إني نظرت في أمرك، فرأيت أن أرفع قدرك، ولا أسميك؛ حتى يحضر ما هو أجل من هذا. وجاء رجل إلى أبي حنيفة فشكا إليه أن دفن مالاً، في موضع ولا يذكر الموضع، فقال أبو حنيفة: ليس هذا فقهاً، فأحتال لك، ولكن اذهب، فصل لربك الليلة، فإنك ستذكره إن شاء الله، ففعل الرجل ذلك، فلم يقم إلا أقل من ربع الليل، حتى ذكر الموضع، فجاء إلى أبي حنيفة فأخبره، فقال: قد علمت أن الشيطان لا يدعك أن تقوم ليلتك حتى يذكرك، فهلا أتممت ليلتك شكراً لله تعالى. وأقبل رجل إلى أبي حنيفة وقال له: إن لصوصاً دخلوا علي، وأخذوا مالي، وحلفوني بالطلاق ألا أسميهم، وخرجوا عني، فقال أبو حنيفة: أحضر لي إمام مسجدك والمؤذن والمشهورين من جيرانك، فأحضرهم، فقال لهم أبو حنيفة: هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه؟ قالوا: نعم، قال: فاجمعوا كل داعر ومتهم، وأدخلوهم في دار أو في مسجد، ثم أخرجوهم واحداً واحداً، وقولوا له: هذا من لصوصك؟ فإن لم يكن منهم فيقول: لا، وإن كان منهم فيسكت فاقبضوا عليه، ففعلوا ذلك، فرد الله عليه ماله. وقال أبو حنيفة: احتجت وأنا بالبادية إلى ماء، فجاءني أعرابي، ومعه قربة من ماء، فأبى أن يبيعها إلا بخمسة دراهم. فدفعت له ذلك، وقبضت القربة، ثم قلت: يا أعرابي، هل لك في سويق؟ قال: نعم، فأعطيته سويقاً ملتوتاً بزيت، فجعل يأكل حتى امتلأ، فعطش، فقال: شربة ماء، فقلت: بخمسة دراهم، فأعطاني خمسة دراهم في قدح من ماء، وبقي بقية الماء ربحاً. وجاءت امرأة إلى أبي حنيفة فقالت: إن زوجي حلف بطلاقي أن أطبخ قدراً فيه مكوك ملح، ولا يتبين طعم الملح فيما يؤكل منها، قال: خذي قدراً، وألقي فيه مكوك ملح، واسلقي فيه بيضاً، فإنه لا يوجد طعم الملح في البيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ودخل شريك القاضي على بعض العمال، فأخذ العمال بيده، ثم قال: يا غلام جئنا بعود، فلم يدر الغلام أي عود أراد، فعاد الغلام، ومعه عود الغناء، فلما رآه العامل لم يخجل، ولم يتغير، وقال: أخذنا رجلاً معه هذا، ما ترى في كسره؟ فأفتاه بكسره، فقال: هات لنا بخور! وكان لجعفر بن عبد الواحد صديق، يوجه له كل يوم سلة برطب مع غلام له، فقيل له: إن الغلام يأخذ من السلة، فاختمها، فختمها، فوجد السلة قد فتحت، فقال لصاحبه: اجعل فيها زنبورين قبل أن تختمها فكان إذا فتحها وطار الزنبوران علم أنها لم تفتح. وجاء فتيان إلى نباذ، فشربوا عنده نبيذاً، ثم قالوا: ما عندنا شيء فخذ منا رهناً، فقال: وما الرهن؟ قالوا: تأخذ من كل واحد منا صفعة، ففعل، فلما كان بعد أيام جاءوا إليه، فقالوا له: خذ حقك ورد الرهن، فرغب إليهم أن يتركوه، فلم يفعلوا، فصفعوه وضحك أهل سوقه عليه. وكان زياد بن عبد الله الحارثي على شرطة المدينة، وكان بخيلاً، فدعا أشعب في رمضان يفطر مع جماعة عنده، فقدم إليهم معقودة، فجعل أشعب يمعن فيها وزياد يلمحه، فلما فرغ من الأكل، قال زياد: ما أظن لأهل السجن إماماً يصلي بهم في هذا الشهر، فليصل بهم أشعب، فقال أشعب: أو غير ذلك، أصلح الله الأمير؟ قال: وما هو؟ قال: أحلف ألا آكل معقودة أبداً، فخجل زياد وتغافل عنه. وكان لزياد هذا كاتب، فأهدى له طعاماً، قد تفنن فيه، فوافاه، وقد تغدى، فغضب زياد، وقال: يبعث أحدكم الشيء في غير محله، ثم قال: ادع لي المساكين يأكلونه، فبعث إليهم حرسياً يدعوهم، فقال له رسول الكاتب: أصلح الله الأمير: إن أمرت أن يكشف لك عنه حتى تنظر إليه قال: اكشفوا عنه، فإذا به دجاج وسمك وحلواء، فأعجبه ذلك، وقالوا: ارفعوه، ثم جاء المساكين، فقال: اضربوهم عشرة عشرة؛ فإنه بلغني أنهم يفسون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبولون على بابه، فرغب فيهم، فصرفهم. وأتى طفيلي دار عرس، فمنع من الدخول، فذهب إلى بعض أصحاب الزجاج، فرهن عنده رهناً، وأخذ منه أقداحاً، وقال للموكل بالباب: افتح حتى أدخل هذه الأقداح التي طلبوها، ففتح له ودخل، فأكل وشرب، ثم أخذ الأقداح وردها إلى صاحبها، وقال: لم يرضوها. وجاء طفيلي آخر إلى باب عرس، فمنع من الدخول، فأخذ إحدى نعليه، وجعلها في كمه، وعلق الآخر، وجاء إلى الموكل بالباب، كالمستعجل، وقال: أخذت فردة تعلي، وتركت الأخرى، فتفضل بالله إخراجها، فقال له البواب: أنا مكلف بهذا الباب، ولن أتركه، فادخل أنت، وخذ متاعك، فدخل وأكل، وخرج. واجتمع ثلاثة من الطفيليين، فلم يظفروا بأكل، ولا قدروا عليه، فاجتمع رأيهم على أن يأتوا صاحب الشواء والرقاق، ولا يكون إقبالهم في دفعة؛ لئلا يشعر بهم، فتقدم أحدهم، فأخذ شواء ورقاقاً، ودخل يأكل، فلما أمعن، أقبل الثاني، فأخذ مثل الأول، وقعد ناحية يأكل، ثم أقبل الثالث، فأخذ مثلها، فلما قارب أن يخلص أكله، قام الأول يريد الخروج، فقال له الشواء: هات ما عليك، قال: دفعت لك، قال: متى؟ قال له الثاني: حين أعيتك أنا، قال له: ومتى أيضاً أعطيتني أنت؟ فقام الثالث إليه حنقاً وهو يقول: أتراك، يا ابن الفاعلة، تنكرني كما أنكرت هذين؟ فلما سمع الشواء كلامهم على أنهم طفيليون، فترك سبيلهم. وقال بعضهم: نزل رجل على ديراني بالشام، فقدم إليه أربعة أرغفة، وذهب ليأتيه بعدس، فلما جاءه به وجده قد أتى على الأرغفة، فوضع العدس بين يديه، وذهب ليزيده رغيفاً؛ لكي يأكل به العدس، فلما جاء به وجده قد أكل العدس، فوضع الرغيف وذهب، فجاءه بصحفة أخرى من عدس، فوجده قد أكل الرغيف، فما زال كذلك حتى أتى على وظيف تسعة أنفس، فلما فرغ سأله الديراني عن حاله ومقصده، قال: أريد الأردن؛ فإنه بلغني أن فيه طبيباً جيداً، وأنا في هذه المدة أصابني سوء هضم، وقلة شهوة الطعام، فقال له الديراني: عسى بالله، إذا رجعت، وقد تطببت أن تأخذ على غير هذا الطريق؛ فإن هذا الدير لقوم ضعفاء، فخجل الرجل، وقال: نعم. وكان بعض الناس يتخدم ليونس بن أسباط، فانقطع عنه مدة، فقال يونس لبعض من حضره: ما فعل فلان؟ فقال: لا أدري، ولكن لو مات ما كنت تفعل معه؟ قال: أكفنه وأقبره، قال: فإنه عريان، فضحك، وأمر له بكسوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وكان ابن هرمة مولعاً بالشراب، فحد فيه مراراً، فأتى المنصور ومدحه، فاستحسن شعره، وقال له: سل حاجتك، قال: تكتب إلى عامل المدينة ألا يحدني إذا أوتي بي سكران، فقال له المنصور: ويلك، هذا حد من حدود الله عز وجل، لا يجوز لي تعطيله، قال: فاحتل يا أمير المؤمنين، قال: أما هذا فنعم، وكتب إلى عامل المدينة: من أتاك بابن هرمة وهو سكران، فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين، فكان العون بعد ذلك يمر به وهو سكران، فيقول ابن هرمة: من يشتري مائة بثمانين؟ وحكى ابن دهمان قال: مررت يوماً ببشار، وهو جالس على بابه وحده، وليس معه أحد، وبيده قضيب، وبين يديه طبق فيه تفاح وأترج، فلما رأيته، وليس معه أحد، جئت قليلاً قليلاً، ومددت يدي لأتناول ما بين يديه، فرفع القضيب، وضرب يدي ضربة كاد يكسرها، قلت: قطع الله يدك، أنت الآن عند نفسك أعمى، قال: يا أحمق، فأين الحس؟ وحكى المدائني عن محمد بن حجاج قال: كنا عند بشار بن برد الضرير، فأتاه رجل يسأله عن منزل رجل، قال: فجعل بشار يصف له ويفهمه، وهو لا يفهم، فوثب بشار، وأخذ بيده، وجعل يقول: أعمى يقود بصيراً، لا أبالكم ... قد ضل من كانت العميان تهديه وحاسب بشار يوماً وكيله، وذكر في بعض حسابه عشرة دراهم في جلاء مرآة، فقال بشار - وصفق بيديه -: واغوثاه، جلاء مرآة لأعمى بعشرة دراهم، والله لو صديت عين الشمس، حتى يبقى الناس في ظلمة، ما ساوى جلاؤها عندي عشرة دراهم. وكان أبو العتاهية يهوى عتبة، فلبس يوماً ثياب راهب، ووقف على طريق عتبة، ولما مرت به، قال: أنا راهب، وكنت في صومعة منذ سنين كثيرة، وأتاني أت في منامي، وأمرني بالإسلام على يديك، وتقبيل يديك، ولست أبغي منك على ذلك جزاء ولا شكوراً، فسرت بذلك، ومدت يدها اليمنى وقبلها وقال: إنما أمرت بتقبيل يدك اليسرى، فمدتها وقبلها، وقال: بأبي أنت من يد قريبة العهد بأحب المواضع إلي، قالت: ماجن ورأس المهدي. وحكى المبرد أن عتبة جاءت إلى عبد الله بن مالك برسالة ريطة بنت أبي العباس في مماليك لتشتريهم وتعتقهم، وإذا بأبي العتاهية قد دخل وهي لا تعرفه، وقال: إني - جعلني الله فداك - شيخ ضعيف وموالي يسيئون ملكي، فإن شئت أن تأمريه يجعلني فيمن يعتق، فكلمت عبد الله بن مالك في ذلك، فقال: أفعل إن شاء الله، فقال لها أبو العتاهية: قد أحسنت وتفضلت فأذني في تقبيل يدك، فمدت يدها فقبلها وانصرف، فقال عبد الله بن مالك: أتدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هذا أبو العتاهية، فاستحيت وقالت: يا أبا العباس، ما ظننتك تعبث مثل هذا العبث. وقرأ الحجاج في سورة هود، فلما انتهى إلى ابن نوح، لم يدر كيف يقرأ (إنه عمل غير صلح) أو عمل غير صالح، فبعث حرسياً، فقال: ائتني بقارئ، فذهب وأتى به، وقد ارتفع الحجاج من مجلسه، فحبسه ونسيه، حتى عرض الحجاج حبسه بعد ستة أشهر، فلما انتهى إليه قال: فيم حبست؟ قال: في ابن نوح، أصلح الله الأمير، فأمر بإطلاقه. وكتب زياد إلى معاوية: قد أخذت العراق بشمالي، وبقيت يميني فارغة، وهو يعرض له بالحجاج، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اكفنا يمين زياد، فخرجت به قرحة في يمينه، قتلته. وقال خالد بن الوليد عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي قيس شبر، إلا وفيه طعنة أو ضربة أو رمية، ثم هاأنذا أموت على فراش، حتف أنفي، فلا نامت أعين الجبناء. ووعظ مالك بن دينار فبكى وأبكى أصحابه، ثم افتقد مصحفه، فلم يجده، فنظر إلى أصحابه، وكلهم يبكي، فقال: كلكم تبكون، فمن أخذ مصحفي؟ ودخل أبو العيناء على إبراهيم بن المدبر، وعنده الفضل بن اليزيد وهو يلقي على ابنه مسائل في النحو، فقال: في أي باب هذا؟ فقال: في باب الفاعل والمفعول به، فقال: هذا بابي وباب الوالدة، حفظها الله، فغضب الفضل وانصرف. وقال له ابن مكرم يوماً: أنا أجمع بين الصلاتين، قال: نعم، بالترك. وكان أبو يوسف يكتب كتاباً، وإلى جانبه رجل يتطلع عليه، ففطن به أبو يوسف، فلما فرغ من الكتاب، التفت إلى الرجل، وقال له: هل أبصرت فيه خطأ؟ فقال: لا، قال أبو يوسف: جزيت عن الجساسة خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 واشترى رجل كبشاً في العيد، فلما دخل به على زوجته، ورأته ضعيفاً، قالت له: هذا الكبش يشبهني ويشبهك، قال: وكيف ذلك؟ قالت: يشبهني في الشحم، وإياك في القرون. وكان لابن أبي عتيق جارية تخدمه، وكان يتبعها جار له، فبينما هي ذات يوم توضئه، إذ وقع حجر بين يديه، فتغافل، فلما كان بعد ساعة وقع حجر آخر، فقال بأعلى صوته: إنها مشغولة، فانقطع الرجم. وكتب عبد الله بن الزبير إلى بعض عمله: عمدت إلى مال الله فأكلته، فكتب إليه: إذا لم آكل مال الله، فمال من آكل؟ لقد طلبت من الشيطان ماله مرة، فما فرج عني كربة. وغضب بعض عمال عيسى بن صبيح امرأة موضعاً، فجاءت إليه، ومجلسه قد غص بأهله، فقالت له: بالذي أعز النصرانية بسماء غلامك، وأعز اليهود بهارون كاتبك، وأذل المسلمين بك إلا أنصفتني، فخجل عيسى وقال: ردوا عليها موضعها. وقال الرشيد لابنه المعتصم: ما فعل وصيفك فلان؟ قال: مات واستراح من المكتب، قال: وبلغ بك المكتب هذا المبلغ؟ والله، لا تحضره أبداً، ووجهه إلى البادية، فتعلم الفصاحة، وكان أمياً. وكان بعض الكتاب يكتب كتاباً، وإنسان يتطلع عليه، فشق ذلك عليه، فكتب: ولولا ابن ألف كذا وكذا، كان يقرأ كتابي حرفاً حرفاً لأعلمتك، فقال الرجل: ما كنت أنظر في كتابك، قال: فمن أين لك معرفة ما أنكرت؟ وروي أن يزيد بن معاوية، لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة، اعترض الناس، فمر به رجل معه ترس قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشام: مجن ابن ربيعة كان أحسن من مجنك، يريد قوله: فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر وقال الشعبي: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: ما غلبني أحد قط، إلا غلام من بني الحارث بن كعب، وذلك أني خطبت امرأة من بني الحارث، وكان عندي شاب منهم، فأصغى إلي، فقال: أيها الأمير، لا خير لك فيها، فقلت: يا ابن أخي، وما لها؟ قال: إني رأيت رجلاً يقبلها، فتركتها، قال: ثم بلغني أن الفتى تزوجها، فأرسلت فيه، فقلت: ألم تخبرني أنك رأيت رجلاً يقبلها؟ قال: نعم، رأيت أباها يقبلها. وحكى الأصمعي قال: كان رجل من ألأم الناس وأنجلهم، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف، فقال: الموت، أو أشرب من لبنه، فأقبل ومعه صاحب له، حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، غشي عليه وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه، يسترجع، فخرج صاحب اللبن، فقال: ما باله؟ فقال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله ها هنا، وكان قال: أسقني لبناً، قال صاحب اللبن: هذا هين موجود، يا غلام، ائتني بقدح من لبن، فأتاه به، فأسند صاحبه إلى صدره، وسقاه حتى أتى عليه، وتجشأ، فقال صاحبه لصاحب اللبن: أتقول: هذا راحة الموت؟ ففطن لهما وقال: أماتك الله وإياه. وقال الأصمعي: مر رجل بأبي الأسود الدؤلي، وهو يقول: من يعشي هذا الجائع؟ فقال: علي به، فأتاه بعشاء كثير، فأكل حتى شبع، ثم ذهب السائل ليخرج، فقال: أين تريد؟ قال: أريد أهلي، قال: لا أدعك تؤدي المسلمين الليلة بسؤالك، اطرحوه في الأوهم، فبات مكبولاً حتى أصبح. ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم، فجعل يقبله، ويقول في شق: لا إله إلا الله، وفي شق: قل هو الله أحد، ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذاً أو رقية، ورمى به في الصندوق. وكان ابن عيسى بخيلاً، وكان إذا وقع الدرهم بيده، طعنه بظفره، وقال: كم مدينة دخلتها، وأيد درجتها، فالآن، استقر بك القرار، واطمأنت بك الدار، ثم يرمي به في الصندوق. ونظر أشعب إلى رجل قبيح، فقال: ألم ينهكم سليمان بن داود عن الخروج بالنهار؟ وحكى المدائني وقال: أتت ليلة الشك في رمضان. فكثر الناس على الأعمش يسألونه عن الصوم، فضجر، ثم أرسل إلى بيته في رمانة، فشقها، ووضعها بين يديه، فكان إذا نظر إلى رجل قد أقبل يريد أن يسأله، أخذ حبة فأكلها. وكفى الرجل السؤال، ونفسه الرد. وقال رجل لمحمد بن مطروح الأعرج - رحمه الله -: ما تقول في رجل مات يوم الجمعة، أيعذب عذاب القبر؟ قال: يعذب يوم السبت. وقال آخر: أتجد في بعض الكتب أن جهنم تخرب؟ قال: ما أشفاك إن اتكلت على خرابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وكان يجلس إليه خصي لزرياب، قد حج وتنسك، ولزم الجامع، يتحدث في مجلسه، بأخبار زرياب، ويقول: كان أبو الحسن رحمه الله يقول كذا وكذا، فقال له الأعرج: من أبو الحسن هذا؟ قال: زرياب، قال: بلغني أنه كان أخرق الناس. وسأله مرة أخرى، ما تقول في الكبش الأعرج، أيجوز للذبيحة؟ قال: نعم، والخصي مثل ذلك. الباب الثاني في أخبار الأعراب والمتنبئين ونوادر المجان والمستخفين قدم إلى أعرابي كامخ، فأكل منه، فلم يستطبه، وخرج إلى المسجد، والإمام في الصلاة يقرأ: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) ، فقال الأعرابي: والكامخ، لا تنسه، أصلحك الله. وكان موسى بن عبد الملك قد اغتال نجاح بن سلمة في شراب شربه عنده، فقال المتوكل لأبي العيناء بعد ذلك: ما تقول في نجاح بن سلمة؟ فقال: ما قال الله عز وجل (فوكزه موسى فقضى عليه) فاتصل ذلك بموسى، فعتب عليه وقال له: أردت قتلي، فاعتذر له، وافترقا عن صلح، فلقيه بعد ذلك موسى، فقال له: يا أبا عبد الله قد اصطلحنا، فما بالك لا تأتينا؟ فقال: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) فقال موسى: ما أرانا إلا كما كنا. وقال المتوكل لأبي العيناء: إبراهيم بن نوح النصراني وجد عليك، فقال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) . وقال له المتوكل يوماً: إن سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين أمنوا يضحكون) . وقال له رجل: يا مخنث، فقال: (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه) . ولقي خالد بن صفوان الفرزدق، وكان الفرزدق قبيحاً، فقال له خالد: يا أبا فراس، ما أنت بالذي (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن) فقال له: ولا أنت بالذي قالت الفتاة لأبيها: (يا أبت استئجره إن خير من استئجرت القوى الأمين) . وبعث المنصر سليمان بن راشد، إلى الموصل، وضم إليه ألف فارس من العجم، وقال له: قد ضممت لك ألف شيطان تذل بهم أهل الأرض، فلما أتى الموصل عاشوا في نواحيها، وقطعوا الطريق، وانتهبوا الأموال، وانتهى خبرهم إلى المنصور، فكتب إليه: كفرت النعمة يا سليمان، فكتب إليه في الجواب (وما كفر سليمن ولكن الشيطين كفروا) فضحك المنصور، وعرف عذره، وأنذر له بجيش غيرهم. وأتي بأعرابي إلى سلطان، وبيده كتاب فيه مكتوب: (هاؤم اقرءوا كتابيه) فقيل له: إنما قال هذا يوم القيامة، فقال: هذا، والله، أشد، فإن يوم القيامة يؤتى بحسناتي وسيئاتي، وأنتم جئتم بسيئاتي فقط، وتركتم حسناتي. ورأى أبو الضمضم القاضي رجلاً قريباً من مجلسه يسمع نوادره، فرماه بالدواة، وأمر بسجنه، فقال له الكتاب: كيف أكتب قصته في الديوان؟ قال له: اكتب (استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) . وأتى أعرابي المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فقام يصلي، فما فرغ قال: اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم حجرت واسعاً يا أعرابي؟ وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً يقول في الطواف: اللهم اغفر لأمي، فقلت له: مالك لا تذكر أباك؟ فقال: أبي رجل يحتال لنفسه. وسمع أعرابي رجلاً يقرأ: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعملاً) فقال: أنا أعرفهم، فقيل: ومن هم؟ قال: الذين يبردون ويأكل غيرهم. وكان ابن أبي علقمة غزير اللحية كثيرها، وكان ابن والان قليل اللحية، فاجتمعا يوماً، فقال ابن أبي علقمة لابن والان يعرض بقلة لحيته: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) ، فقال ابن والان: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) . وجلس أعرابي مع معاوية على المائدة، فقدم ثريد كثير الدسم، ففجره الأعرابي بإصبعه إلى جهته، حتى سال الدهن إليه، فقال معاوية: (أخرقتها لتغرق أهلها) فقال الأعرابي: لا، ولكن (سقنه لبلد ميت) . وقرئ بين يدي أعرابي: (كأنهن الياقوت والمرجان) فقال: هؤلاء خلاف نسائكم العجاف. وكان رجل شهر بالشراب والمعاصي، فوعظه أحد الناس، وقال له: ما تكون حجتك يوم القيامة؟ قال: خضراء مزججة. وخطب وكيع بن أبي سويد بخراسان، فقال: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أشهر، فقيل له: في ستة أيام، فقال: أردت أن أقولها، فاستقللتها. وقرأ: ألم غلبت الترك، فقيل له: الروم، فقال: كلهم أعداء، كفانا الله مئونتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وصلى رجل فقال في سجوده: يا رب، عبدك العار بن العار، سجد لك، الأيمان تلزمني، ما يغفر لي غيرك. وقيل للحسن بن هانئ: أي شيء تشتهي؟ قال: ما لا أجده في الدنيا ولا في الآخرة، قيل: وما هو؟ قال: ركوب الصبيان على الحلال. وكان إمام يطول الصلاة على الناس بالقراءة، فقال له الجماعة: إما أن تقصر، وإما أن تترك الجامع، فصلى يوماً، فلما قرأ: الحم لله، قال: ما تقولون في عبس، قال له الآخر: كيست من فيها. وقيل لأعرابي يدعي حفظ القرآن: ما أول الدخان؟ قال: الحطب الأخضر. وقيل لأعرابي: أتحفظ: (لم يكن) ؟ قال: أنا لا أحفظ ما كان، فكيف أحفظ ما لم يكن؟ وقرأ رجل بين يدي قوم: (قل هو الله أحد) فخجل ولم يستطع تمامها، فقال آخر؛ من أراد أن يحضر بقية السورة، فليأت غداً إن شاء الله. وقيل لأبي النخاس، صاحب الأير الكبير، يدخل فيه سبع قولات مصريات: هل جامعت قط بكراً؟ قال: ما أحصيهن كثيرة، قيل: ويكف كن يأتينك؟ قال: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) . وجعلت عصيدة بلا عسل بين يدي أعرابي. فقال: عملت هذه العصيدة من قبل أن يوحي ربك إلى النحل. وقيل لأعرابي: في أي سورة هو: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها، فنفسه ظلما؟ ففكر ساعة وقال: في حم الدخان. وقال أعرابي لآخر: أيهما أفضل عيسى بن مريم أو معاوية؟ فقال: ويلك، تشبه بني النصارى بكاتب الوحي؟ وقال الأصمعي: خرج على قوم في بادية ريح شديدة، فيئسوا من الحياة، ثم سلموا، فأعتق كل واحد منهم مملوكاً أو مملوكة؛ شكراً لله على ذلك، وكان فيهم رجل من بني غفار، فقال: اللهم إنه لا مملوكة لي ولا مملوك، ولكن امرأته طالق ثلاثاً لوجهك. وكان رجل يقرأ، فقرأ سورة تبارك حتى وصل إلى قوله تعالى: (قل أرئيتم إن أهلكني الله ومن معي) فأرتج عليه، فجعل يكررها، فقال له أعرابي من خلفه: أهلكك الله وحدك، فما ذنب من معك؟ وحكى الأصمعي قال: قرأ رجل: (إنا أرسلنا نوحاً) فأرتج عليه، فجعل يرددها، فقال له نبطي: إن لم يذهب نوح، فأرسل غيره. وكان ببجاية قاض ماجن؛ فكلما أقبل إليه غلام يعجبه، أو يجلس في حلقته، يقوم على قدميه، ويقول: قولوا عند دعائي: آمين، اللهم ولنا أدبارهم، اللهم اكفلنا أكفالهم، اللهم كبهم على وجوههم، اللهم أعر عوراتهم، واللهم سلط رماحنا عليهم. ومرض قاض، فدخل عليه أصحابه، فقالوا له: أبشر بالجنة، تقدم عليها، فتأكل من ثمرها، وتشرب من مائها، وتنكح من حورها، فقال بصوت ضعيف: ولكن عندكم أحب إلي. وجاء رجل إلى قومه، فجعلوه إماماً لصلاتهم، وكان أكثر ما يطعمونه خبزاً وكامخاً، فلما طال عليه ذلك، افتتح الصلاة ذات ليلة، بفاتحة الكتاب، ثم قرأ: يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله، ولا تطعموا إمامكم كامخاً، بل لحماً، فإن لم يكن لحماً، فشحماً، فإن لم تجدوا شحماً فبيضاً، ومن لم يفعل ذلك فقد خسر خسراناً مبيناً، ثم قرأ في الركعة الثانية بعد فاتحة الكتاب: فإن لم تجدوا بيضاً فسمكاً، فإن لم يكن سمكاً فلبناً، ومن لم يفعل ذلك فقد ضل ضلالاً بعيداً، فلما فرغ من الصلاة، قالوا له: في أي سورة هذا؟ قال لهم: في سورة المائدة. ومات لامرأة ولد، فأعطت القارئ الذي يقرأ عليه أجرة لم ترضه، فقرأ (خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه) ، فقالت له: ما هذا الذي قرأت عليه؟ قال لها: قرأت عليه ما يناسب عطيتك، فزادته، فقرأ: (على سرر موضونة متكئين عليها متقبلين يطوف عليهم ولدن مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفكهة مما يتخيرون ولم طير مما يشتهون) . وكان فقيه يشرب الخمر مع شخص من أبناء الدنيا، فقال له يوماً: يا فقيه، ما يكون جوابك يوم الحشر، لله تعالى؟ قال: أقول: (بنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) . وسمع ابن أبي مريم هارون الرشيد، يقرأ في صلاة الليل: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) ويرددها، فقام من فراشه وقال: لا أدري، والله، فقطع هارون الصلاة، وضحك، وقال: لا تعد. وسمع أبو العيناء مغنياً غير محسن، فقال: صدق الله: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) . وقال أبو نصر: نظرت إلى أبي نواس، وهو يصلي العصر، ثم رأيته بعد ذلك يصلي ركعتين، فقلت له: ما هذا؟ قال: اسكت، يصعد إلى السماء خبر طريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ومر بشار برجل في عنقه غل، فقال الرجل، الحمد لله، فقال بشار: استزده يزدك. وكان رجل يقول الشعر، فيستبرده قومه، فكان يحمل ذلك منهم على الحسد، فقال لهم: بيني وبينكم بشار، فأتى، فأنشده، فلما فرغ قال له بشار: أظنك من أهل بيت النبوة، فقال: وكيف ذلك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: (وما علمنه الشعر وما ينبغي له) فضحك القوم وانصرفوا. وسمع مزيد جاراً له يضرب غلامه، وهو يستغيث، فخرج إليه، وقال له: ما لك تضرب هذا الغلام؟ فقال له: ذنبه عظيم، قال: وما ذنبه؟ قال: سرق حبلاً، حج به أبي، واعتمرت به أمي، فقال: والله لو سرق الكعبة حتى يبقى الناس بلا حج، وما وجب عليه هذا؟ وقال منصور بن عمار يوماً في مجلسه: اللهم اغفر لأعظمنا ذنباً، وأقسانا قلباً، وأقربنا بالخطيئة عهداً، وأشدنا إصراراً على الذنب، فقال مزيد: امرأته طالق إن كان أراد بهذا كله إلا إبليس، فإن هذه الخصال كلها فيه. ودخل مزيد على خالصة المغنية، فرأى مكتوباً في بعض جانب البيت: آدم وحواء، فقال: ما هذا؟ قلت: سمعت أن الشيطان، لا يدخل بيتاً، مكتوب فيه: آدم وحواء، قال: يا خالصة، دخل عليهما، وهما في جوار رب العالمين، فكيف لا يدخل بيت مغنية. وشكا رجل إلى مزيد سقوط أسنانه، فقال: الذنب منك، لا لك؛ لأنك تقرأ القرآن، والله تعالى يقول: (إنا سنلقى عليك قولا ثقيلاً) . وخرج سالم بن عبد الله متنزهاً بأهله وحرمه، فبلغ أشعب الخبر، فوافى الموضع، فصادف الباب مغلقاً، فتعلق بالحائط، فقال له سالم: ويلك يا أشعب، تكتشف على عيالي وبناتي؟ قال: (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) ، فأخرج له من الطعام، فأكل وحمل. وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً شيخاً، متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: يا رب، أنا سفلة من خلقك، وضيع محروم، فمن أنا يا رب حتى تعاقبني؟ فبعزك إلا رحمت ضعفي، وخشيت وذلي، وفقري وناقتي وحرماني وشؤمي وشماتتي، وتفضلت علي، وغفرت لي. وتغدى الفاخري مع بعض أشراف المدينة، وكان بخيلاً، فلما أحضرت الغداء، قال: يا غلام، هات الدجاجة، فجاء بقدر فيها دجاجة، فلما أكلا منها يسيراً، قال: يا غلام، ارفع، فلما كان في العشاء فعل مثل ذلك، فقال الفاخري: ما أظن هذه الدجاجة إلا من آل فرعون، قال: وكيف ذلك؟ قال: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) . ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك، وبين يديه جام فيه فالوذج، فقال: ادن يا أعرابي فكل؛ فإن هذا مما يزيد في الدماغ، قال: لو كان الأمر كما تقول، كان رأس الأمير مثل رأس البغل. ونظر أعرابي إلى جنازة، والناس يقولون: كان سبب موته التخمة، فقال الأعرابي: وما التخمة؟ قيل له: أكل كثيراً فمات، فقال الأعرابي: اللهم اجعل موتي من التخمة. وضل لأعرابي جمل، فبينما هو يطلبه، إذ رأى في باب الأمير بختياً، فتعلق به وادعاه، فقيل له: جملك عربي، وهذا بختي، فقال: كان عربياً فبتخت عند الأمير، فرفع خبره إلى الأمير، فضحك، وأمر له به. ودخل أعرابي على معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطني البحرين، قال: لست لها بأهل، قال: فاستعملني على البصرة، قال: صاحب أخذته لها، لا أريد عزله، قال: فهب لي ألف درهم وقطيفة، قال: مد أمرت لك بذلك، فلما رجع الأعرابي إلى أهله قيل له: رضيت بعد سؤالك البحرين بألف درهم وقطيفة؟ قال: اسكتوا، فوالله لولا ذلك ما أعطيت شيئاً. وحج أعرابي، فسبق الناس، فطاف بالبيت وصلى ركعتين، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اغفر لي، قبل أن يدهمك الناس. ووقفت امرأة على قوم يصلون جماعة، فقرأ الإمام بعض آيات السجود، فسجد وسجدوا، فقالت: صعق الناس، ورب الكعبة. وصلى رجل بقوم من الأعراب في شهر رمضان، فقام في الصلاة، وخلفه نسوة خلف صف الرجال، فقرأ: "وأنكحوا الأيامى منكم" وأرتج عليه فكررها مراراً، فلما انصرفوا، قالت امرأة منهن لأخواتها: والله، ما زال يأمرهم بنا حتى خشيت أن يثبوا علينا. وكان أعرابي من بني ضبة، إذا توضأ بدأ بوجهه فيغسله، ثم يغسل فرجه بعد ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: والله، لا أبدأ بالخبيث قبل وجهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وقيل لأعرابي: أتحسن القرآن؟ قال: نعم، قيل: فاقرأ شيئاً، فقرأ: (تبت يدا أبي لهب وتب) فلما بلغ: (وامرأته حمالة الحطب) سكت، فقيل: لم تتم، قال: لا يليق بمثلي ذكر نساء الأشراف. وقيل لأعرابي: أتحسن سورة القرآن؟ قال: والله لا أحسن قراءة بنته، فكيف أمه. وقال الأصمعي: قلت لأعرابي: أتحفظ من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، خمس سور، قلت: اقرأها علي، فقرأ ثلاثاً ثم سكت، فقلت: اقرأ السورتين الباقيتين، قال: إني علمتهما ابن عم لي، فوهبتهما له، والله، لا أعود فيما وهبت له. وقال الأصمعي: صلى أعرابي بالبادية، فقرأ: "الحمد لله" بفصاحة وبيان، ثم قال: ويوسف إذ أدلاه أولاد غيلة ... فأصبح في قعر الركية ثاويا ثم ركع، فلما فرغ قلت: يا أعرابي، ليس هذا في القرآن، قال: بلى، والله، قد سمعت كلاماً هذا معناه. وصلى أعرابي خلف إمام صلاة الغداة، فقرأ في صلاته سورة البقرة، وكان الأعرابي مستعجلاً، فلما فرغ حتى انقطع الأعرابي عن شغله، فلما كان في الغد، بكر الأعرابي ليصلي وينصرف في حاجته، فقرأ الإمام سورة الفيل، فقطع الأعرابي صلاته، وولى هارباً، وهو يقول: ما أنت إلا رسول إبليس، قرأت البقرة، فلم تفرغ منها إلى نصف النهار، وتريد أن تقرأ الفيل، فما أظن تفرغ منه إلا مع الليل. وقيل لأعرابي: من أين معاشكم؟ قال: لو نعيش إلا مما نعلم، لم نعش. وسأل رجل من بني تميم عن رجل، فقيل له: دعاه ربه فأجاب، قل: ولم أجاب: أو ما علم أن الموت أحد المهالك؟ ودخل أعرابي إلى الحاضرة يوم جمعة، فمر بالجامع والناس قعود، والإمام يخطب، فقال لبعضهم: ما يقول هذا؟ وكان المستول ماجناً، فقال: هو يدعو إلى الطعام، ويقول: ما يرضي الأعراب أن يأكلوا حتى يحملوا معهم، فتخطى الأعرابي رقاب الناس، حتى دنا من الإمام، فقال: يا هذا، إنما يفعل هذا سفهاؤنا. وقيل لأعرابي: هل لك في النكاح يا أعرابي؟ قال: لو قدرت أن أطلق نفسي لطلقتها. ونزل عطار يهودي ببعض أحياء العرب، فمات، فأتوا إلى شيخ لهم، لا يقطع أهل الحي في أمر دونه، فأعلموه خبر اليهودي، فجاءه وغسله وكفنه وتقدم وأقام الصلاة خلفه وقال: اللهم إن هذا اليهودي جار لنا، وله ذمام، فأمهلنا نقضي ذمامه في لحده، وشأنه لقه. واشترى أعرابي غلاماً، ثم قال للبائع: أفيه عيب؟ قال: لا، إلا أنه يبول في الفراش، قال: ما هذا عيب، إن وجد الفراش فليسلح. وقدم أعرابي على آخر، فقدم إليه قرصاً يابساً، وملحاً جريشاً، فأكله الضيف، فقال له: أشبعت؟ قال: لا، قال: لأنك لم تذكر اسم الله عليه، قال: وكيف أذكر اسم الله الطيب، على قرصك اليابس الخبيث؟ ومر أعرابي وبيده رغيف بغلام بيده سيف، فقال له: يا غلام، بعني ذلك السيف بهذا الرغيف، قال: ويلك، مجنون أنت؟ كيف أبيعك سيفاً برغيف؟ قال الأعرابي: لعن الله شرهما في البطن. ولقي أعرابي أعرابياً، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من خلقي، قال: وأين تريد؟ قال: أمامي، قال: كيف العشب؟ قال: رطب ويابس، قال: كيف الماشية؟ قال: ضأن ومعز، وقال: ممن أنت؟ قال: من أم وأب. وولي أعرابي موضعاً، فلم يحدث في ذلك الموضع حادثة يرتفق بها، فلما طال عليه ذلك، جمع اليهود، وقال لهم: ما الذي فعلتم بالمسيح؟ قالوا: قتلناه وصلبناه، قال: والله، لا تبرحوا حتى تؤدوا ديته، فلما برحوا حتى أدوا ما طلب منهم. وكان أعرابي والياً على اليمامة، فإذا اختصم إليه خصمان في شيء، يشكل الحكم فيه، يحبسهما حتى يصطلحا، ويقول جزاء ذي اللبس الحبس. واستعمل أعرابي على بعض كور خراسان، فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر، وقال: الحمد لله، فارتج عليه، فقال: أيها الناس، إياكم والدنيا؛ فإنكم لن تجدوها إلا كما قال الله تعالى: وما الدنيا بباقية لحي ... ولا حي على الدنيا بباقي فقال له كاتبه: أصلح الله الأمير، هذا شعر، وليس من كلام الله، قال: فالدنيا باقية على أحد؟ قال: لا، قال: أفيبقى عليها أحد؟ قال: لا، قال: فيكفيك إذن. وشهد أعرابي على رجل بشيء لم يره منه، فقال: ويحك، تشهد بشيء لم تره مني؟ قال: نعم، كما أشهد أنك ابن أبيك، ولم أر أباك حين عملك في أمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وسئل أعرابي عن مسألة في الفرائض، ففكر ساعة، ثم قال: انظروا هل مات مع هذا الميت أحد من قرابته؟ فقالوا: ولم؟ فقال: لأن هذه الفريضة لا تصح إلا بموت آخر. وقال أبو العيناء لأعرابي: إن الله محاسبك، فقال الأعرابي: سررتني؛ إن الكريم إذا حاسب تفضل. وقال الأصمعي: حضر أعرابي عند الحجاج، فقدم إليه فالوذج، فلما أكل الأعرابي منه لقمة، قال الحجاج: من أكل هذا ضربت عنقه، فامتنع الناس، فجعل الأعرابي ينظر إلى الحجاج مرة وإلى الطعام مرة، ثم قال: أوصيك بالصبية خيراً، وأتى على الأكل، فضحك الحجاج حتى استلقى على ظهره، وأمر له بجائزة. وقال الأصمعي: دخل علي أعرابي من فزارة بعد المغرب، وأنا أتعشى، فقلت: العشاء، قال: إني صائم، فقلت: قد دخل الليل، قال: قد علمت، ولكني وجدت صوم الليل أهون من صوم النهار، وهما جميعاً واحد، ولن يكلف الله نفساً إلا وسعها. وقال الأصمعي: سألت أعرابياً عن شهر رمضان، كيف صاموه؟ قال: تجرد منا ثلاثون رجلاً، فصام كل واحد يومه. وذكر قوم قيام الليل وما فيه من الأجر، وعندهم أعرابي، فقالوا له: يا أعرابي، أتقوم الليل؟ قال: إي والله، أقوم أبول وأرجع. وشهد أعرابي عند معاوية، فقال له معاوية: كذبت، فقال الأعرابي: الكاذب، والله، المتزمل في ثيابك، فضحك معاوية، وقال: هذا جزائي. وقيل لأعرابي: أتقرأ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، أم القرآن، ومدحة الرب، وهجاء أبي لهب. وضل لأعرابي جمل، فجعل ينشده، ويقول: من وجده فهو له، فقيل له: لم تطلبه وقد وهبته لواجده؟ فقال: وأين لذة الوجدان؟ وضل لأعرابي جمل، فحلف بالله أنه إن وجده باعه بدرهم، فوجده، فلزمه بيعه، فشد في عنق الجمل سنوراً، وقال: السنور بمائة درهم، والجمل بدرهم، ولا أبيعهما إلا معاً. وجمع أعرابي أولاده، وقال: يا بني، أوصيكم بالناس شراً، كلموهم شزراً، وأطعموهم نزراً، ولا تقبلوا لهم عذراً، ولا تقيلوا لهم عثرة، ولا ترحموا لهم عبرة، وقصروا الأعنة، واشحذوا الأسنة، وإياكم والوهن؛ فيطمع الناس فيكم. وقرأ أعرابي في الصلاة: إنا بعثنا نوحاً إلى قومه، فقال له رجل من خلفه: (إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه) فقال: والله ما يفرق بينهما إلا جاهل. وسقط أعرابي عن بعير، فانكسرت أضلاعه، فأتى المجبر، فقال له: خذ زبيباً، وانزع عجمه وأقماعه، ودقه واعجنه بعسل، وضمد به الموضع، فقال الأعرابي: من داخل أضمد، أو من خارج؟ قال: اجعله حيث تعلم أنه ينفعك. وقيل لأعرابي، وقد رئي مغتماً، ما شأنك؟ قال: سوء الحال، وكثرة العيال، قيل: لا تغتم؛ فإنهم عيال الله، قال: قد صدقتم، ولكن كنت أحب أن يكون الوكيل عليهم غيري. وشوي لأبي جعفر الهاشمي دجاج، ففقد فخذاً من دجاجة، فأمر، فنودي في داره: من هذا الذي تعاطي فعقر، والله، لا، أخبز في هذا التنور شهراً أو يرد، فقال ابنه الأكبر: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) . ورأى أعرابي رجلاً سميناً، فقال له: إني أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك. وحضر أعرابي على مائدة المغيرة، فجعل يأكل ويتعرق، فقال المغيرة: يا غلام، ناوله سكيناً، فقال الأعرابي: كل امرئ سكينه في رأسه. وغز أعرابي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوتك هذه؟ قال: حط عنا نصف الصلاة، وأرجو في غزوة أخرى أن يضع عنا النصف الآخر. وقيل لأعرابي: ألا تغزو الأعداء؟ قال: كيف يكونون لي أعداء، وأنا لا أعرفهم ولا يعرفونني. وقيل لآخر: ألا تجاهد في سبيل الله؟ فقال: والله، إني لأبغض الموت على فراش، فكيف آتيه ركضاً؟ فصل في المتنبئين قال أبو الطيب اليزيدي: أخذ رجل ادعى النبوة في أيام المهدي، فأدخل عليه، فقال له: أنت نبي؟ قال: نعم، قال: وإلى من بعثت؟ قال: أو تركتموني أذهب إلى أحد؟ ساعة بعثت ثقفتموني في السجن، فضحك المهدي وخلى سبيله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وادعى آخر النبوة بالبصرة، فأتى به سليمان بن علي مقيداً، فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة، فإنني نبي مقيد، قال: ويلك، من بعثك؟ قال: ما هذه مخاطبة الأنبياء يا ضعيف العقل، والله، لولا أني مقيد لأمرت جبريل يدمدمها عليكم، وقال: والمقيد لا تجاب دعوته؟ قال: نعم، الأنبياء خاصة إذا قيدوا لا يرتفع دعاؤهم، فضحك سليمان، وقال: إني أطلقك الآن، فأمر جبريل، فإن أطاعك آمنا بك وصدقناك، قال: صدق الله حيث يقول: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) فضحك سليمان، وسأل عبد الله بن حازم عنه فشهد له أنه ممرور، فخلى سبيله. وقال خلف بن خليفة: إني لجالس في مجلس عبد الله بن حازم ببغداد، وإذا بجماعة قد أحاطوا برجل ادعى النبوة، فقال له عبد الله بن حازم: أنت نبي؟ قال: نعم، قال: فإلى من بعثت؟ قال: إلى الشيطان الرجيم، فضحك عبد الله، وقال: دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم. وقال ثمامة بن أشرس صاحب المأمون: كنت في السجن فأدخل علينا رجل ذو هيئة جميلة ومنظر حسن، فقلت له: من أنت - جعلت فداك -؟ قال: أنا نبي مرسل، قلت: فهل عندك دليل؟ فإنك تعلم أن النبوة لا تقبل إلا بالأدلة، قال: نعم، معي أكبر الأدلة، ادفعوا إلي امرأة؛ فإني أحبلها لكم، فتأتي بولد ذكر، يشهد لي بالرسالة. وقال محمد بن غياث: رأيت في أيام الرشيد جماعة، قد أحاطوا برجل له هيئة حسنة، فقلت: ما قصة هذا؟ قالوا: ادعى النبوة، قلت: كذبتم عليه، مثل هذا لا يدعي الباطل، فرفع رأسه إلي وقال: وما علمك أنهم قالوا على الباطل؟ قلت: فأنت نبي؟ قال: نعم، قلت: وما دليلك على ذلك قال: دليلي أنك ولد زنى، قلت: نبي يقذف المحصنات؟ قال: لهذا بعثت قلت: أنا كافر بما بعثت به، قال: (ومن كفر فعليه كفره) فإذا بحصاة قد وقعت على رأسه، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: ما أردتم بي خيراً؛ إذا طرحتموني في أيدي هؤلاء الجهال. وقال محمد بن غياث أيضاً: ادعى النبوة في أيام المأمون رجل، فقال المأمون ليحيى بن أكثم: امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا الرجل، وإلى دعواه، فركبا في الليل متنكرين، ومعهما خادم، حتى ضربا عليه الباب، وكان مستتراً بمذهبه، فقال: من أنتما؟ قالا: رجلان يريدان أن يسلما على يديك، ففتح لهما ودخلا، فجلس المأمون عن يمينه ويحيى عن يساره، فقال له المأمون: إلى من بعثت؟ قال: إلى الناس كافة، قال: فيوحى إليك، أم ترى في المنام أم تناجي؟ قال: بل أناجي وأكلم، قال: ومن يكلمك؟ قال: جبريل، قال: ومتى يكون عندك؟ قال: أول الليل قبل مجيئكم بيسير، قال: فما قال لك؟ قال: إنه سيدخل عليك رجلان، فيجلس أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك والذي يجلس عن يسارك ألوط خلق الله، قال المأمون: أشهد أنك رسول الله، وضحك من قوله، وخرجا من عنده. وحدث بعض الكوفيين قال: بينما أنا جالس في منزلي، إذ جاءني صديق لي، فقال: إنه ظهر بالكوفة رجل يدعي النبوة، فقم بنا إليه نكلمه ونعرف ما عنده، فقمت معه إلى أن دخلنا عليه، فإذا شيخ خراساني، أخبث من رأيت على وجه الأرض، فقال صاحبي، وكان أعور: دعني حتى أسائله، قلت: افعل، قال له: - جعلت فداك - من أنت؟ قال: نبي، قال: وما دليلك؟ قال: أنت أعور من عينك اليمنى، فاقلع عينك اليسرى، حتى تصير أعمى، وادعني فنرد عليك بصرك، فقلت لصاحبي: أنصفك الرجل، فاقلع عينك، قال: إقلع أنت عينيك جميعاً، وخرجنا من عنده. وأتي المأمون برجل يدعي النبوة، فقال له: ألك علامة؟ قال: نعم، علامتي أن أعلم ما في نفسك، قال: قربت علي، فما في نفسي؟ قال: في نفسك أني كذاب، قال: صدقت، وأمر به إلى السجن، فأقام فيه أياماً ثم أخرجه، فقال: أوحي إليك شيء؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: الملائكة لا تدخل السجن، فأمر بإطلاقه. وتنبأ رجل، وتسمى نوحاً صاحب الفلك، وذكر أنه سيكون طوفان على يديه يهلك الناس إلا من ابتعه، ومعه صاحب له قد آمن به وصدقه، فأتى به الوالي، فلم يتب، فأمر به فصلب، وأتى بصاحبه فتاب، فناداه من الخشبة: يا فلان، أسلمتني في مثل هذه الحال؟ قال له: يا نوح، قد علمت أنه لا يصحبك من السفينة إلا الصاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وتنبأ رجل في أيام المأمون، فقال: يا ثمامة، ناظره، فقال: ما أكثر المتنبئين في دولتك يا أمير المؤمنين فهون عليك، ثم التفت إلى المتنبئ فقال: ما دليلك على نبوتك؟ قال: تحضر لي امرأتك يا ثمامة، فأنكحها بين يديك، فتلد غلاماً ينطق في المهد، ويخبرك أني نبي، قال ثمامة: أشهد أنك رسول الله، قال له المأمون: ما أسرع ما آمنت به، قال: وأنت يا أمير المؤمنين ما أهون عليك أن ينكح امرأتي على بساطك، فضحك المأمون وأطلقه. وادعى رجل النبوة في أيام المهدي، فأتى به، فقال له: من أنت؟ قال: نبي، قال: ومتى تنبأت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ قال: في أي موضع جاءتك النبوة؟ قال: وقعنا في شغل، ليس هذا من مسائل الأنبياء، إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما أقول لك فاعمل بقولي، وإن كنت عزمت على تكذيبي، فدعني، أذهب عنك، قال المهدي: هذا لا يجوز؛ إذ فيه فساد الدين، قال: وا عجباً لك تغضب لفساد دينك، ولا أغضب لفساد نبوتي، أما والله، ما قدرت علي إلا بمعن بن زائدة، والحسن بين قحطبة، وما أشبههما من قوادك، وكان عن يمين المهدي شريك القاضي، فقال له: ما تقول في هذا النبي؟ قال: شاورت هذا في أمري، ولم تشاورني في أمره، قال له القاضي: هات ما عندك، قال: أخاصمك بما جاء به من قبلي من الرسل، قال القاضي: قد رضيت، قال: أكافر أنا عندك أم مؤمن؟ قال: كافر، قال: فإن الله تعالى يقول: (ولا تطع الكفرين والمنفقين) فلا تطعني ولا تؤذني، ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين؛ فإنهم أتباع الأنبياء، وادع الملوك والجبابرة؛ فإنهم حطب جهنم، فضحك المهدي وخلى سبيله. وقال ثمامة بن أشرس: شهدت المأمون، وأتي برجل يدعي النبوة، وأنه إبراهيم الخليل، فقال المأمون: سمعتم أجرأ على الله من هذا؟ فقلت له: يا هذا، إن إبراهيم - عليه السلام - كانت له براهين، قال: وما براهينه؟ قلت: أضرمت له نار، فألقي فيها، فصارت عليه برداً وسلاماً، ونحن نضرم لك ناراً، ونطرحك فيها، فإن كانت عليك كما كانت على إبراهيم عليه السلام آمنا بك، قال: هات ما هو أقرب من هذا، قلت: فبراهين موسى عليه السلام، قال: وما كانت؟ قلت: عصاه التي ألقاها فصارت حية تسعى، وضرب بها البحر فانفلق، قال: هذا صعب، هات ما هو أقرب من هذا، قلت: فبراهين عيسى عليه السلام، قال: وما هي؟ قلت: كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، قال: ما معي من هذا كله شيء، وقد قلت لجبريل: إنكم توجهونني إلى شياطين، فأعطوني حجة أذهب بها إليهم، وأحتج عليهم، فغضب علي وقال: بدأت بالشر، اذهب الآن، فانظر ماذا يقول لك القوم، قلت: هاجت بي مرارة يا أمير المؤمنين، قال: قد صدقت فدعه. وتنبأ رجل بخراسان فأتى به العامل، فقال: من أنت؟ قال: نبي، قال: وما صناعتك؟ قال: حائك، قال: فنبي حائك؟ قال له: فأردت أنت صيرفياً؟ (الله أعلم حيث تجعل رسالته) فضحك منه وأمر بإطلاقه. الباب الثالث في أخبار المغفلين وأهل البله وما يحكى عن المجنونين، ومن لا عقل لهم قال بعضهم: أردت النكاح، فقلت: لأستشيرن أول من يطلع علي، فأعمل برأيه، فأول من طلع علي هبنقة القيسي الأحمق، وهو راكب على قصبة، فقلت له: إني أستشيرك في النكاح، قال: البكر لك، والثيب عليك، وذات الولد لا تقربها، واحذر فرسي؛ لئلا يضربك، فلم أر أعقل منه في هذا الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وحكى بعض الناس قال، دخلت حمص، وفي فمي درهم لأشتري بعض ما أشتهي، فإذا برجل بباب المسجد، جالس على كرسي، وعلى رأسه عمامة، وقد تقلد سيفاً، وفي حجره مصحف يقرأ فيه، وإلى جانبه كلب رابض يمسكه بحبل، فسلمت عليه، وقلت له: أترى القوم صلوا؟ فقال لي: يا أحمق، وأنت أعمى أما تراني قاعداً؟ قلت: من أنت؟ قال: أنا خالد إمام المسجد، قلت: مع هذه الحيلة؟ قال: نعم، ورد رجل زنديق، يقرأ السبع الطوال، ويشتم أبا بكر الصناديقي، وعمر القواريري، وعثمان بن أبي سفيان، ومعاوية بن أبي غسان، الذي هو من حملة العرش وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنته في زمن الحجاج بن يوسف، فاستولدها الحسن والحسين، قلت: ما أعرفك بالتاريخ والأنساب، قال: وما خفي عليك أكثر، قلت: أتحفظ القرآن؟ قال: نعم، قلت: فاقرأ شيئاً منه، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، (وإذ قال لقمن لابنه وهو يعظه يبنى) (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً) (وأكيد كيداً فمهل الكفرين أمهلهم رويداً) ، فرفعت يدي فصفعته صفعة سقطت بها عمامته، فصاح بالناس: احملوه إلى المحتسب، فأوصلوني إلى رجل حاسر حاف، قد لبس دراعة بلا سراويل، فقال: ما فعل هذا؟ قال: صفع إمام المسجد، قال: يا مسكين، هلكت نفسك، قلت: هذا حكم الله فصبراً عليه فقال: أيما أحب إليك سمل عينيك، أو قطع يديك، أو تدفع نصف درهم؟ فرفعت يدي، وصفعت المحتسب صفعة شديدة، ثم أخرجت الدرهم من فمي، وقلت: يا سيدي، خذ نصف درهم لك، ونصفه لإمامك، وانصرفت، وبأهل حمص يضرب المثل في الحمق. وحدث الزبير عن عبد الملك الهاشمي قال: مررت ببعض المعلمين، ويعرف بكسرى، فرأيته يصلي بصبيان صلاة العصر، فلم أزل واقفاً أنظر إليه، فلما ركع أدخل رأسه بين رجليه؛ لينظر ما يصنع الصبيان خلفه، فرأى صبياً يلعب، فقال له، وهو راكع: يا ابن البقال، إني أرى ما تصنع. وقال الجاحظ: مررت بمعلم، وقد كتب على لوح صبي: "قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً" "وأكيد كيداً، فمهل الكافرين أمهلهم رويداً" فقلت: ويحك أتدخل سورة في سورة؟ قال: نعم، عافاك الله، إن والده يدخل أجرتي شهراً في شهر، وأنا أيضاً أدخل سورة في سورة، فلا أنا آخذ شيئاً، ولا الصبي يتعلم شيئاً. وقال أبو بكر القبطي: مررت بمعلم، وهو يملي على صبي بين يديه: "فريق في الجنة وفريق في الشعير" فقلت له: ما هذا؟ ما قال الله من هذا كله شيئاً، إنما قال: (فريق في الجنة وفريق في السعير) فقال: أنت تقرأ على حرف ابن عاصم بن العلاء الكسائي، وأنا أقرأ على حرف أبي حمزة بن عاصم المدني، فقلت: معرفتك بالقراء، أعجب من معرفتك بالقراءة. وحكى الجاحظ قال: كان بالمدينة معلم يفرط في ضرب الصبيان، فلاموه في ذلك، فساء حاله معهم، فجلست عنده يوماً، فاستفتح صبي فقال: يا سيدي (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) ، فقال المعلم: بل عليك وعلى والدك. وقال له الآخر: يا سيدي: (فاخرج منها فإنك رجيم) ، ما بعده، قال: ذلك أبو السجان. وقال الجاحظ: وخرجنا مرة إلى حرب، ومعنا معلم كان يقول: إني أتمنى أن أرى الحرب، فأخرجناه معنا، فأول سهم وقع في رأسه، فلما انصرفنا، دعونا له معالجاً، فنظر إليه فقال: إن خرج الزج، وفي رأسه شيء من دماغه مات، وإن لم يخرج من دماغه شيء، لم يكن عليه بأس، فسبق إليه المعلم، وقبل رأسه وقال له: بشرك الله بكل خير، انزعه؛ فما في رأسي من دماغ، قال الحجام: ولم؟ قال: لأني معلم، وما في رءوس المعلمين ذرة من دماغ، ولو كان في رأسي ذرة من دماغ ما كنت ها هنا. وقال غيره: كان في دربنا معلم طويل اللحية، فكنت أجلس إليه كثيراً، فجئته يوماً، وبين يديه صبي، يقول له: ويلك، الدجلة من حفرها؟ قال: عيسى بن مريم، قال: فالجبل من خلقه؟ قال: موسى بن عمران، قال: فالبعر من دوره في است الجمل؟ قال: شيطان، قال: أحسنت، فآدم من أبوه؟ قال: نوح، قال: أحسنت، فقلت: يا سبحان الله، أليس آدم أبا البشر؟ قال: نعم قلت: فكيف يكون نوح أباه؟ قال: ويلك، أتعرفني بآدم؟ وأنا أبو عبد الله المعلم، يا صبيان، كرفسوه، فكرفسوني بالبزاق، حتى صرت أبلق، فحلفت ألا أقف على معلم أبداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقال الجاحظ: أتت امرأة إلى معلم بولدها، وكان المعلم طويل اللحية، براق العينين، قبيح الوجه، فقالت: إن هذا الصبي عازم ألا يطيعني، فأحب أن تفزعه، فأخذ المعلم لحيته، وألقاها في فمه، ونفخ شدقيه، وبرق عينيه، وحرك رأسه، وصاح صيحة، فأخرجت المرأة ريحاً من الفزع، وقالت: إنما قلت لك: أفزع الصبي، لا إياي، قال لها: مري يا حمقاء؛ إن البلاء إذا نزل أهلك الصالح والطالح. وقال الأصمعي: مررت بمعلم بالبصرة يضرب صبياً، ثم أقام الصبيان صفاً، وجعل يدور عليهم ويقول: اقرأوا، فلما وصل إلى الصبي المضروب قال للذي إلى جانبه: قل له: يقرأ؛ فإني لست أكلمه. وقال طلحة بن عبيد الله: دخلت يوماً على كثير في نفر من قريش، وكنا كثيراً ما نهزأ به لحمقه، فقلنا له: كيف تجدك يا صخر؟ وكان مريضاً، فقال: بخير، هل سمعتم الناس يقولون شيئاً؟ قلت: نعم، سمعت الناس يتحدثون أنك الدجال، قال: أما والله، إني لأجد في عيني ضعفاً منذ أيام. وقال الأصمعي: كان أبو حية النمري جباناً مع حمق وبله فيه، وكان له سيف سماه لعاب المنية، فدخل تحت سريره كلب، فظن أنه لص، وسمعه جار له وهو يقول: أيها المغتر المجترئ علينا، بئس ما اخترت لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، وهو لعاب المنية الذي سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته، اخرج بالعفو عنك، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني إن أدع قيساً ملأت الأرض عليك خيلاً ورجالاً، سبحان الله، ما أكرمها وأطيبها، وخرج الكلب، فقال أبو حية: الحمد لله الذي مسخك كلباً، وكفاني حرباً. وقال الشعبي: ما شبهت تأويل الروافض إلا بتأويل رجل مصفوف من بني مخزوم من أهل مكة، وجدته قاعداً بفناء الكعبة، فقال لي: يا شعبي، ما عندك في تأويل هذا البيت؟ بيت زرارة محتب بغنائه ... ومجاشع أبو الفوارس نهشل فإن بني تميم يغلطون فيه، ويزعمون أنه إنما قيل في رجال منهم، فقلت له: وما عندك أنت؟ قال: البيت هو هذا البيت، وأشار إلى الكعبة، وزرارة الحجز زر حول البيت، ومجاشع زمزم، جشع بالماء، وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة، قلت له: فنهشل؟ قال: هذا أشدها، ففكر طويلاً ثم قال: قد أصبته، هو مصباح البيت طويل أسود، وهو النهشل. وقال رجل لغلامه: أي يوم صلينا الجمعة؟ ففكر ساعة، وقال: يوم الثلاثاء. وكان الجصاص يسبح في كل يوم، فيقول: نعوذ بالله من نعمه، ونتوب إليه من إحسانه، ونسأله عوائق الأمور، سبحان الله، وحسبي الله والملائكة الكرام، اللهم أدخلنا من دعائه في بركة القصور على قبورهم، سبحان الله، قبل الله، سبحان الله. وركب أحمقان في زورق واحد، فتحركت الريح، فقال أحدهما: غرقنا، والله، فقال الآخر: قل: إن شاء الله، قال: لا أستثني. وقال الجاحظ: دخلت على مؤدب، ورأسه في حجر صبي، وفي أذنه خرقة معلقة، وكان المؤدب أصلع، والصبي يكتب في رأسه، ويمحوه بالخرقة، ثم يكتب مرة أخرى، فقلت له: ما هذا الذي يصنع الصبي في رأسك؟ قال لي: يا فلان، هذا الصبي يتيم، وليس له لوح، ولا ما يشتريه، فأنا أعطيه رأسي يكتب فيه؛ ابتغاء ثواب الله. وكان في زمان ابن عباد أحمق، يخرج كل يوم إلى السوق، وينادي بأعلى صوته: أغنى الله الأغنياء ليشكروا، فلم يشكروا، وأفقر الفقراء ليصبروا، فما صبروا، حرم هؤلاء، وحرم هؤلاء. وكان أحمق يمشي في الأسواق في زمان البرد، ويصيح: ما هذا صواب، ولا في المدينة احتساب، يؤخذ الحر كله ويجعل في الحمامات، وتترك الدنيا بالبرد. وخطر أحمق بغرناطة الآن، ويعرف بفاضت، على جماعة، فقالوا له: فاضت، قال: إي والله، فاضت، إن زراداً وقميصاً ويحيي ماتوا وبقي البلد كله على أكتافي. وسئل رجل كان ينظر في الفرائض، عن فريضة، فالتمسها في كتابه، فلم يجدها، فقال: هذا الرجل لم يمت، ولو كان مات لوجدت ذلك في كتابي. وقيل لرجل: كيف برك بأمك؟ قال: ما ضربتها - والله - بسوط قط. وقيل لأبي مروان عبد الملك: لأي شيء تزعم أن أبا علي الإسواري أفضل من سلام بن المنذر؟ قال: لأنه لما مات سلام بن المنذر مشى أبو علي في جنازته، ولما مات أبو علي لم يمش سلام في جنازته. وأراد أبو سنان الحج، فبكى أولاده، فقال لهم: لا تبكوا؛ فإني أرجو أن أضحي عندكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وقال الجاحظ: شيعت عبد العزيز المخزومي قاضي مكة إلى منزله، وبباب المسجد مجنونة تصفق وتقول: أرق عيني صوت ريح القاضي، فقلت له: أظنه قاضي مكة. وركب بعض المحدثين في سفينة، ومعه في السفينة نصراني فتغديا، ثم استخرج النصراني ركوة فيها شراب، فصب منه في كأس وشرب ثم صب فيها وعرضها على المحدث، فأخذها وشربها من غير كأس فقال له النصراني: إنما عرضت عليك كما يعرض الناس على الناس، إنما هي خمر، قال: ومن أين علمت أنها خمر؟ قال: غلامي اشتراها من يهودي حلف له أنها خمر، فشرب مرة أخرى مستعجلاً، وقال له: أنت أحمق، نحن - أصحاب الحديث - نضعف حديث سفيان بن عيينة وزيد بن هارون، فكيف نصدق نصرانياً عن غلامه عن يهودي؟ والله، ما شربتها إلا لضعف الأسانيد. وأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل بكيس فيه دراهم، مختوم بخيط، فقال له الرجل: اخذ الخيط معه، فقال له عمر: دع الكيس وانصرف. وجاء رجل إلى الحاكم بغلام، فقال له: اضربه ألف سوط، فإنه شتمني، قال له الحاكم: يموت، قال: فاضربه نصف سوط، قال له: كيف شتمك؟ قال: قال لي: يا مسوس، قال له: صدق، ما يلزمه شيء. وكان الأستاذ أبو علي الشلوبيني، على جلالة قدره، ومعرفته بالنحو، فيه تغفل، فتروى عنه أشياء غريبة، طلع يوماً في زورق بوادي اشبيلية، مع طلبته، ومعه كراريس ينظر فيها، فسقطت له كراسة في الماء، فأخذ أخرى يخرجها بها. وطلع يوماً آخر، في زورق في الوادي، فأعطاه بعض طلبته عنقود عنب، فألقاه في الماء، فلما كان بعد ساعة، وقد ساروا في الوادي نحو أربعة أميال، أدخل يده في الماء ينظره، فقالوا له: ما تنظر يا سيدي؟ قال: العنقود الذي أعطيني، كنت جعلته في الماء يبرد، فلم أجده. وتقدم يوماً يصلي بقوم، فقرأ في الركعة الأولى: الحمد لله، و (قل أعوذ برب الناس) ثم قرأ في الركعة الثانية: الحمد لله، وسكت، فقال رجل من الجماعة: اقرأ أبجد، فضحك القوم. وكان إذا جلس يقرئ الطلبة، ينضم إليهم قليلاً قليلاً، وهو لا يشعر، ثم إذا وصل إلى الذي يليه تذكر، ورجع إلى موضعه، فاتفق الطلبة يوماً على أن يتأخروا قليلاً قليلاً، كما انضم إليهم، ففعلوا، فجعل ينضم إليهم، وهم يتأخرون عنه، فلما كان آخر القراءة جاء ليسند على الحائط، كما كانت عادته، فسقط على ظهره، ووجد نفسه في وسط المسجد. ونصبوا له يوماً القرق، حين أراد الخروج، وجعلوه له محولاً، فلبس الفردة، وجاء ليلبس الأخرى، فلم يمكنه، فنزعها، ودار فلبس الأخرى، وجاء يلبس الأخرى، فلم يمكنه فنزعها، ودار فلبس الأخرى، وجاء يلبس الأولى، فلم يمكنه، فنزعها، ولم يزل كذلك ينزع الواحدة، ويلبس الأخرى، فرآه صبي صغير يفعل ذلك، فأخذ الفردة الواحدة، وصوبها له مع الأخرى، فقال له: لله درك؟ ما أحذقك، ثم سأله عن والده، واجتمع معه، وقال له: دعه يقرأ؛ فما رأيت أحذق منه. وجاء يوماً، وعليه ثوب امرأته، فنظر إليه الطلبة، وقالوا له: يا سيدي، ما هذا الثوب؟ فنظر إليه، وقال: قمت مستعجلاً، فلم أدر ما لبست. وجاء يوماً، وغفارته محولة، صدرها من ورائه، وظهر أمامه. وخرج يوماً، وعليه غفارة دون ثوب تحتها، فلقيه رجل، فرفع يده، ليصافحه، فظهرت عورته. وركب يوماً بغلة، يمشي بها إلى جنان بعض أصحابه، فأخذته الهراقة، فنزل يبول، فلما ركب دارت به البغلة، فسار إلى أن وصل إلى البلد، فقال: ما أنا أريد إلا الجنان. وركب يوماً فرساً، وسار مع الطلبة إلى موضع واحد منهم، فصادفوا في الطريق فارساً يجري، فجرى الفرس به، فقالوا: شد يدك في اللجام، فرمى اللجام من يده، وأخذ بعرف الفرس، فلم يقف، فرمى نفسه في الأرض، وأسرع الطلبة فرفعوه، وأخذوا الفرس، وقالوا له: يا سيدي، لو شددت يدك في اللجام لوقف، فقال: ما أجهلكم، هو لم يقف حين شددت يدي بالمتصل، فكيف بالمنفصل؟ وقال بعضهم: سألت السرجي عن أربعين رأساً من الغنم، نصفها ضأن، ونصفها معز، كم يجب فيها من الزكاة؟ فقال: شاة، نصفها ضأن ونصفها معز. وكسر لوزة، فخرج منها لوزتان، فقال: سبحان الله الذي يصور في الأرحام كيف يشاء. وقيل له: لا تأكل الثلج؛ فإنه يضر البصر، فقال: لست أزيد على مصه، وأرمي تفله. وقال له غلامه: سرق الحمار، فقال: الحمد لله الذي لم أكن على ظهره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ودخل يوماً السوق، ليشتري نعلاً لابنته، فقال له: كم سنها؟ فقال: لا أدري، ولكنها في حجم الشجرة. وجاء رجل من البادية إلى الحاضرة، فقالت له زوجته: اشتر لنا حصيراً كاملاً، يفرش من الطارقة إلى آخر البيت، فلما وصل إلى الحاضرة، قال لصاحب الحصور: أعطني حصيراً جيداً كاملاً يفرش من الطارقة إلى آخر البيت، فقال له: كم يكون طوله من شبر؟ قال: لا أدري، هكذا قيل لي. وقال بعضهم: صليت يوماً إلى جانب ابن الجصاص، فسمعته يدعو في إثر صلاته: اللهم اغفر لي ذنوبي، ما تعلمه منها وما لا تعلمه. وقال: صليت يوماً إلى جانبه يوم جمعة، فلما قال الإمام: ولا الضالين، قال لي: لعمري، أراد بها آمين. ودخل ابن الجصاص على المقتدر يوماً، والمقتدر قد حلق رأسه، ودهنه، فقال لي: يا أمير المؤمنين: دعني أقبل رأسك، قال: دعه الساعة؛ قإن عليه الدهن، قال: والله، أقبله، ولو كان عليه السحل. وأخرج يده من الفراش في ليلة باردة، ثم أعادها إلى جسده في ثقل النوم، فأيقظته ببردها، فقبض على يده بيده الأخرى وصاح: اللص، وقد قبضت عليه، أدركوني، أدركوني؛ لئلا يكون عنده حديد، فأتوا بالسراج، فوجدوه وهو قابض على يده. ودخل على ابن له قد مات، فبكى، وقال: كفاك الله يا بني محنة هاروت وماروت، فقيل له: وما هاروت وماروت؟ فقال: لعن الله النسيان، إنما أردت يأجوج ومأجوج، فسئل: وما يأجوج ومأجوج؟ قال: فطالوت وجالوت، قيل له: لعلك تريك منكراً ونكيراً؟ قال: والله ما أردت غيرهما، يريد ما أردت غيرهما. وجاءت طباخته يوماً، فقال لها: ليس هذا يوم طعام ولا شراب، فأخبر ولده بذلك، فأتاه فوجده مفكراً مطرقاً، فقال له: يا أبت، ما دهاك؟ قال: يا بني، فكرت في أمر، لو فكرت فيه قبل هذا ما هنأ لي عيش، قال: وما هو؟ قال: تمنيت على الله أن يخلقني امرأة، ويزوجني من أبي بكر في الجنة، فقال له ابنه: فهل تساميت بالأمنية إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: قد كنت ترمي عندي بالرفض، وأنا أدافع عنك؟ والآن صح عندي، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك أردت أن أكون ضرة لعائشة رضي الله عنها. ودخل عليه أهله يوماً، فوجدوه كالميت، فقالوا له: ما لك؟ قال: فكرت في كثرة مالي، وكثرة مصادرة السلطان في هذا الوقت وتعديه، فغلقت عيني، حتى أرى كيف صبري، فانتشبت، ولم أقدر على التخلص، حتى كدت أن أموت، لولا ما دخلتم علي. وكان المعتضد يقول - إذا رأى ابن الجصاص -: هذا الأحمق المرزوق. وقال ابن الجصاص يوماً: إني أتمنى أن أخسر، فقيل له: اشتر التمر بالكوفة، وبعه بالبصرة، فاتفق أن نخل البصرة لم تحمل في تلك السنة، فربح ربحاً عظيماً. وكان وهب الصيدلاني أكثر الناس غفلة، كتب إلى أبيه، وقد خرج يريد الحج؟ إن قدرت أن تضحي عندنا؛ للفرح بهذا العيد، فافعل. وجاء إلى حجام، ليأخذ من شعره، فلما جلس بين يديه، ذكر أنه نسي منديل كمه، فقال وقال للحجام: لا تأخذ من شعري شيئاً، حتى أعود إليك. وسقطت ابنته في البئر، فقال: لا تبرحي، حتى آتي بمن يخرجك. وأتاه ساكن في دار له، فقال له: قد انفتح الكنيف، قال: قد رأيته منذ عامين، فعلمت أنه ينفتح، ولكني ما ظننت أنه ينفتح بهذه السرعة، وإلا كنت أتغداه قبل أن يتعشاني. وتبخر في ثيابه فاحترقت، فحلف بالطلاق ألا يتبخر إلا عريان. وجاء ليكسر لوزة، فخرجت من تحت الحجر، فقال: كل شيء يفر من الموت حتى البهائم. ووقف مغفل على باب داره يبكي، فقال له بعض أصحابه: ما شأنك؟ قال: ولدي الكبير افتصد، فغرق المبزق في ذراعه، وجرى دمه. وجاء رجل الواعظ، وكان مغفلاً، فوجده يبكي بكاء شديداً، وقال له: ادع الله؛ فقد ارتكبت أمراً عظيماً، قال: وما هو؟ قال: أريد كتمه عن الناس، فأدنني منك، فأدناه وأعطاه أذنه، فقال: إني نكحت بقرة، فأعلى الواعظ صوته وقال: أمنوا على دعائي؛ فإني أدعو الله لهذا الخاطئ أن يتوب عليه؛ فإنه نكح بقرة، فغظى الرجل وجهه وانصرف. وكان أبو علقمة الصوفي، يجمع الصبيان ويدهن رؤوسهم، ويخرج لهم ريحاً، والصبيان يضحكون، فقيل له في ذلك، فقال: ليس لي شيء أعطيهم. وأحييت أن أفرحهم بهذا، حتى ينصرفوا مسرورين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ومر بعض أهل البله بباب شوكي، فوطئ شوكة، فدخلت في رجله، فقال للشوكي: اجعلني في حل؛ فلست أقدر على إخراجها الساعة، فأردها لك، قال: قد جعلتك في حل. وكان ابن عبد النور من أهل ألمرية، مع فطنته في العلم، كثير التغفل، يحكي أنه تفقد قدراً كان يطبخ فيه في بعض متنزهات الطلبة، فذاقه، فوجده ناقص الملح، فزاد فيه غرفة، وبقي فيه من المرق ما في المغرفة دون ملح، ثم عاد وذاق ما بالمغرفة، فلم يجد طعماً، فزاد إلى أن بلغ الملح بالقدر حيث لا يصلح للأكل البتة. وأدخل يده في مفجر صهريج، فصادفت يده ضفدعة كبيرة، فقال له من حضر: هل وجدت فيه شيئاً؟ قال: نعم، حجر رطب ثم. وأتى يوماً إلى بعض ولاة ألمرية، وكان له من عتاق الخيل، فطلبه له، وقد كان يعلم حاله في التغفل، فسأله: ما يصنع به؟ قال: أسقي به في السانية بعض اليوم، فصرفه، ووجه له دابة تليق بذلك. واشترى يوماً فضلة ملف للباسه، فبلها فنقص من ذرعها على العادة، فسار إلى التاجر يطلبه بما نقص منها، فأخذ التاجر يبين له العادة، فلم يقبل منه، وحمله على الكذب. ونظر بعض أهل البله إلى الهلال، فقال: ربي وربك الله، سبحان الله، خلقك من عود يابس. ورقد رجل في بيته، فدخلت عليه الشمس من طاق هناك، فعطى وجهه بكمه، فجاءت الشمس على كمه، فغطى كمه بثوب، فطلعت الشمس على ذلك الثوب، فقال: هذا شيء لا يغطى. وتسوق دلال ثوباً لرجل، فلم يسو له اختياره، فقال الرجل: أنا أولى برخيصي، فدفع للدلال ثمنه الذي بلغ، وأخذ ثوبه. ودخل رجل على مريض يعوده، وكان شديد المرض، فقال له: (كل نفس ذائقة الموت) . وتوقف إمام في لفظة من القرآن، فرد عليه شخص بصوت ضعيف، فقال له آخر: ارفع صوتك؛ فإنه أصم، وكانوا جميعاً في الصلاة. وقال بعضهم: رأيت مؤذناً أذن، ثم عدا، فقلت: إلى أين؟ قال: أنظر إلى أذاني إلى أين بلغ. وقال: رأيت مؤذناً آخر قد أذن، ثم ذهب، فقلت إلى أين؟ قال: أسمع أذاني من بعيد. وكان مؤذن يؤذن، وفي يده رقعة، فسقطت من يده، فاحتملتها الريح، فجعل يجري وراءها ويقول: أمسكوا أذاني، أمسكوا أذاني. واختصم رجلان في جارية مملوكة، فوضعوها على يد مؤذن ليلة، فلما أصبح قال المؤذن: ذهبت الأمانة في الناس، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أودعوا هذه الجارية عندي على أنها بكر، وقد اختبرتها البارحة، فوجدتها ثيباً. وكان مؤذن قد اتخذ قرعة يابسة، وثقب فيها ثقبتين، وكان يملؤها بالماء، فإذا وصل الماء إلى الثقب الأول أذن الظهر، وإذا وصل إلى الثقب الثاني أذن العصر، فظن به أحد المؤذنين، فوسع الثقب الأول، فأسرع جري الماء، وتفقدها المؤذن على عادته، فوجد الماء قد وصل إلى الثقب الأول من غير وقت أذان، فأذن فصاح به الناس، فقال: مهلاً عليكم، فإني أعرف بقرعتي. وكان لقوم إمام أحمق، فقال لهم يوماً، وقد انفتل من صلاته: ويلكم تسابقونني في الصلاة، قالوا: ومن أين لك معرفة هذا؟ قال: ما أركع ركعة ولا أسجد سجدة إلا التفت إليكم؛ أرى ما تفعلون. وأحدث إمام في الصلاة، فتأخر وقدم رجلاً، وذهب يجدد الوضوء، فظن الرجل الذي قدم في نفسه، أنه لا يجوز له أن يصلي، فوقف ينتظر الإمام، فلما طال قيامه، تنحنح له قوم، فالتفت إليهم وقال: ما لكم، إنما قدمني لأحفظ مكانه. وتقدم بعض الحمقى، فصلى بقوم المغرب في شهر رمضان، فابتدأ سورة البقرة، فانصرف القوم وتركوه، فلما رآهم قد انصرفوا جعل يقول: سبحان الله، سبحان الله، (إنا أعطينك الكوثر) . وكان عبد الله اليشكري عاملاً لموسى بن عيسى على المدائن، فصعد المنبر، فلما قال: الحمد لله، ارتج عليه فسكت، فقال بهلول: الذي ابتلانا بك، فجلس وضحك على كل من حضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وصعد أبو العنبس منبراً من منابر الطائف، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فأرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: لا، قال: فما ينفعكم أن أقول لكم ما لا تدرون؟ ونزل، فلما كان في الجمعة الثانية صعد المنبر، فقال: أما بعد، ثم أرتج عليه، فقال: أتدرون ما أقول لكم؟ قالوا: نعم، قال: فما حاجتكم إلى أن أقول لكم ما قد علمتم؟ ثم نزل، فلما كان في الجمعة الثالثة، صعد المنبر، فقال: أما بعد، ثم أرتج عليه، فقال: أتدرون ما أقول لكم؟ فقالوا: بعضنا يدري، وبعضنا لا يدري، فقال: فليخبر الذي يدري للذي لا يدري، ثم نزل. وخطب عبد الله بن عار البصري يوم عيد الأضحى، فأرتج عليه، فقال: والله، لا أجمع عليكم عياً ولؤماً، من أخذ شاة من السوق، فهي له، وعلي ثمنها. وكان بسجستان رجل يعرف بأبي العباس، يتقلد أعمال السلطان، فجاءه أبوه في أمر إنسان، فاشتد عليه وأضجره، فقال لأبيه: إذا جاءك أحد أن تكلمني فقل له: ليس ذلك ابني، فقال: هذا الذي أقول لهم منذ ثلاثين سنة، فلا يقبلون مني، فخجل الابن، وندم على ما قال. وكان هبنقة يحسن إلى السمان من إبله، ويسيء إلى المهازيل، فقيل له في ذلك، فقال: أكرم من أكرم الله، وأهين من أهان الله. وضل له بعير، فجعل بعيرين لمن جاء به، قال: أتجعل بعيرين في بعير؟ فقال: إنكم لا تعلمون فرحة من وجد ضالة. وافترس الذئب له شاة، فقال له رجل: أخلصها من الذئب، وآخذها؟ فقال له: إذا فعلت، فأنت والذئب سواء، وترك الذئب مضى بها. وقال نافع: كان الفاخري من أحمق الناس، فقيل له: ما رأيت من حمقه؟ فسكت، فلما أكثروا عليه قال: قال لي مرة: البحر من حفره، وأين ترابه، وهل يقدر أمير المؤمنين أن يحفر مثله في ثلاثة أيام؟ واشترى باقل شاة بأحد عشر درهماً، فلقيه رجل فقال له: بكم اشتريتها ففتح يديه، ونشر أصابعه، وأخرج لسانه، فمضت الشاة طريقها. وضاع باز لمعاوية بن مروان، فقال: أغلقوا أبواب المدينة؛ لئلا يخرج. وجاء إليه رجل أحمق منه، فقيل له [هكذا] : تعير لنا ثوباً، نكفن إنساناً وترده إليك، فقال: أخشى أن ينجسه، فلا نلبسه. وجاء إليه قوم، فقالوا له: مات جارك فلان، وما ترك شيئاً، فعسى أن تأمر له بكفن، فقال: ما عندي اليوم شيء، ولكن تعودون إلينا في غير هذا الوقت. وقال قاص: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف عليه السلام كذا، وقالوا له: ومتى أكله الذئب؟ قال: فهو اسم الذئب الذي لم يأكله. وكان بالبصرة ثلاث إخوة من بني عتاب، كان أحدهم يحج عن حمزة، ويقول: استشهد ولم يحج، وكان آخر يضحي عن أبي بكر وعمر، ويقول: أخطأ السنة في ترك الأضحية، وكان الثالث يفطر أيام التشريق عن عائشة ويقول: غلطت في صومها أيام التشريق. وخطب عدي بن وتاد الإيادي، فقال: أقول لكم كما قال العبد الصالح: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فقيل له: فرعون قال هذا، قال: يا قوم، من قاله فقد أحسن. ووقع بين شخص وابنه كلام، فقال الابن للأب: والله، لولا أنك أكبر سناً مني، لرأيت ما كنت أصنع بك. وتلا أبو بكر القاضي في وعظه يوماً قوله تعالى: (يتجرعه ولا يكاد يسيغه) ثم قال: اللهم اجعلنا ممن يتجرعه ويسيغه. وكان قوم من أهل العلم يتناظرون في أمر علي ومعاوية، فقال له أحد القوم: وتعرف أنت من علي؟ قال: نعم، أليس هو أبا فاطمة؟ قال: ومن كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبي صلى الله عليه وسلم بنت عائشة، أخت معاوية، قال: فما كانت قصته؟ قال: قتل في غزوة صفين مع النبي صلى الله عليه وسلم. ووقف على شيخ من أهل العلم، فقال: أصلحك الله، سمعت الساعة في السوق شيئاً منكراً، قال: وما هو؟ قال: يشتمون الأنبياء، قال الشيخ: ومن هو من الأنبياء الذي شتم؟ قال له: معاوية، قال له: يا ابن أخي، ليس معاوية نبياً، قال: فقيه نصف نبي، أيشتم؟ وقال أبو علي اللواز يوماً لقوم من أصحابه، دخلوا عليه في داره: والله، لو كان عندي دجاج مشويات، لذبحتها لكم. وتعرض الأسد لأهل رفقة، فخرج إليهم رجل منهم، فلما رآه سقط الرجل في الأرض، فوثب عليه الأسد، فشدوا عليه بأجمعهم، فتنحى عنه الأسد، فقالوا له: كيف أنت؟ فقال: لا بأس علي، غير أن الأسد خرا في سراويلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ومر رجل بحمار على المقابر، فنفر الحمار عند قبر منها، فقال: ينبغي أن يكون صاحب هذا القبر بيطاراً. ورأى أبو عوانة قوماً قد صلبوا، فجعل يقول: هذا ما وعد الله، وصدق المرسلون، بارك الله لنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. وقال أبو العباس: اجتزت يوماً في بعض طرق بغداد، فإذا أنا بامرأة قد عرضت لي، فقالت: بالله، ما اسمك؟ فقلت: أحمد، قالت: وأنا أحب الغرباء فهل لك أن أزوجك جارية حسنة؟ قلت: نعم، قالت: وتلد ولداً وتدعه ينصرف إلى المكتب، فيطلع يوماً للسطح، ويقع منه، وينشق رأسه ويموت، ثم صاحت وصرخت وبكت ولطمت وجهها، فخفت منها أن تكون مجنونة، فمضيت وتركتها، فرأيت شيخاً ينظر إلي على باب الدار، فقال لي: ما لك؟ فحدثته فقال: لا تأخذ عليها، ما الموت إلا مصيبة، ومن يرزق مثل صبرك؟ قال: فرأيت الشيخ أحمق منها. وكان لبعضهم بغلة، فغضب عليها، وقطع عنها العلف، ثم ركبها فلم تستطع المشي، فقال لخادمه: ما بالها لا تمشي؟ قال: لأنك قطعت عنها العلف، قال: أعطها علفها، ولا تعلمها أني قلت لك شيئاً. وجرى ذكر رجل، فقال آخر: هو رجل سوء، فقيل له: ومن أين تعلم هذا؟ قال: أفسد علي بعض أهلي، قيل: ومن هن؟ قال: أمي. وكتب المنصور إلى عبد الله الحارثي، وهو والي البصرة: اقسم المال بين القواعد من النساء، وهن اللائي قعدن عن النكاح، وبين أهل الأعذار، فقال له رجل فقير: اكتبني في العميان، قال: اكتبوه؛ فإن الله تعالى يقول: (فإنها لا تعمى الأبصر ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ، قال: واكتب ابني في الأيتام، قال: نعم، من كنت أباه فهو يتيم، اكتب ابنه في الأيتام. وقال ابن الماجشون: كان لي صديق فقدته زماناً، ثم رأيته، فسألته: أين غاب؟ قال: كنت بالكوفة، فقلت: وكيف صبرت فيها وهم يشتمون أبا بكر وعمر؟ قال: يا أخي، صبرت لهم على ما هو أشد من هذا؟ قلت: وما هو؟ قال: فإنهم يفضلون الكتابي على معبد في الغناء. وماتت جارية لبعضهم، فلما حملت جنازتها، جعل يقول: خدمت مولاك حق الخدمة في حياتك، وأنا اليوم أكافئك، اشهدوا أني قد حررتها لوجه الله تعالى. ودخل رجل على مريض، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) إذا رأيتم العليل على هذه الصفة، فاغسلوا أيديكم منه، فقال له العليل: قم عني؛ فقد قتلتني. قال رجل لآخر: قد أحكمت النحو كله إلا ثلاث لقطات أشكلت علي، قال له: وما هي؟ قال: أبا فلان وأبو فلان، وأبي فلان، ما الفرق بينهما؟ قال له صاحبه: أما أبو فلان فللملوك الأمراء والقضاة والحكام، وأما أبا فلان فللتجار وأرباب الأموال والوسط من الناس، وأما أبي فلان فللسفلة والأسقاط والأوباش من الناس. وقال عبد الله بن طاهر: قلت مرة لرجل: كم اليوم من الشهر؟ قال: ليس أنا، والله، من هذه البلدة. وختن محمد بن الخليل ولده، فقال للحجام: ارفق به، فإن هذه أول مرة ختناه. ودخل بعضهم على رجل قد ذهب بصره، والناس يعزونه، فقال له: لا تغتم يا أخي؛ فلو رأيت ثواب ذلك لتمنيت أن يقطع الله يديك ورجليك، فقال له الرجل: فعل الله ذلك بك، وأجزل لك الثواب. وقال بعضهم: مررت بمؤدب، والصبيان يضربونه، فتقدمت لأخلصه منهم، فقال: دعهم؛ فإنس أتسابق معهم. فإذا سبقهم ضربتهم، وإن سبقوني ضربوني، وهم اليوم قد سبقوني. وقال صبي لأبيه: ما الذي يزرع حتى ينبت به الخرفان؟ قال: القرون، فجمع القرون وزرع، وما زال يسقيها شهراً، فلم ينبت، فنبشها لينظرها، فلسعته عقرب، فقال: أنتم لم تنبتوا بعد، وصرتم تنطحوني. وقال الشيباني: مررت ببهلول المجنون، وهو يأكل خبيصاً، فقلت له: أطعمني منه، فقال: والله، ما هو لي، قلت: فلمن هو؟ قال: لعائكة بنت الخليفة، بعثته لي؛ لآكله وحدي. وحدث الوليد بن بكار قال: كان ابن إدريس عيباً، وكان هو وجماعة يخرجون إلى العقيق يتنزهون، فكان أصحابه يبعثون إلي بيته على لسانه، فيأخذون ما يريدون، فعلم بذلك، فقال لهم: اجهدوا جهدكم؛ فقد قلت لأهلي: إذا جاءكم رأسي في طبق، فلا تبعثوا إلي بشيء، فمضى الرسول إلى أهله وعرفهم بهذا الكلام أمارة، وطلب لهم ما أراد، فأعطوه، فلما حضر ذلك بين يديه قال لهم: قد أعيتني الحيلة فيكم؛ فالله حسيبكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وقال الجاحظ: مررت بمعلم، وهو قد حبس ديكاً، وهو يضربه، ويقول له ألف شين، ألف شين، فقلت له: ما هذا؟ فقال لي: أعزك الله، انظر إلى تلك المزبلة، وأشار إلى مزبلة أمام مكتبه، فقال: أنا أنصب فيها فخاخاً؛ لصيد العصافير، فيأتي هذا الديك، فيلتقط الحب الذي أجعله لها، فقلت له: اش، فلا يفهمني، فقلت: لعله لا يعلم، وأردت أن أعلمه؛ حتى يفهمني. ومات ولد لبعضهم، فقيل له: يغسله فلان، فقال: بيني وبينه عداوة متقدمة، وأخاف أن يرد غيظه على ابني فيهلكه. واستعمل معاوية رجلاً من كلب على بعض الأعمال، فحضر عنده يوماً أهل علمه، وجرى ذكر المجوس، فقال الكلبي: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم وأخواتهم والله، لو أعطيت ألف دينار ما نكحت أمي، فبلغ الخبر معاوية، فقال: قبحه الله، ما أظنه إلا لو زاده لفعل. وكان بالبصرة مجنون يأوي إلى دكان خياط، وبيده قصبة، قد جعل في رأسها كرة، ولف عليها خرقة، لئلا يؤذي الناس بها، فكان إذا أحرجه الصبيان التفت إلى الخياط، فقال له: إنه قد حمي الوطيس، وطاب اللقاء، فما ترى؟ فيقول شأنك بهم، فيشد عليهم بالقصبة وهو يقول: أشد على الكتيبة، لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواه فإذا أدرك منهم صبياً، رمى الصبي بنفسه على الأرض، وأبدى له عورته، فيتركه وينصرف عنه، ويقول: عورة المؤمن حمى، ولولا ذلك لتلفت نفس عمرو بن العاص يوم صفين، ثم يقف ويناديهم: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش، كرأس الحية المتوقد ثم يرجع إلى دكان الخياط، فيلقي القصبة من يده، ويقول: فألقت عصاها، واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر ودخل أبو عتاب المصاب مع قوم يعودون مريضاً، فبدأ يعزي قومه، فقالوا: إنه لم يمت، فخرج وهو يقول: يموت إن شاء الله، يموت إن شاء الله. وأغمي على رجل من الأزد، فصاح النساء، وبعث إلى أخيه، فوجده حياً، فقال لهم: اغسلوه؛ فإنكم لن تفرغوا من غسله، حتى يقضي به. ووعد رجل رجلاً من الحمقى بنعل حضرمية، فطال عليه الانتظار، فأخذ قارورة وبال فيها، ثم أتى إلى الطبيب فقال: انظر في هذا الماء، إن كان يهدي إلى بعض إخواني نعلاً حضرمية. وكان عيناوة الأحمق جيد القفا، فربما مر به من يزيد العبث به، فيصفعه فجعل سحلاً في قفاه، وقعد على الطريق، فكان إذا ضرب أحد قفاه، قال له: شم يدك يا فتى، فلم يكن أحد يصفعه. وقال الأصمعي: سوبق بين الخرنفش وهبنقة، أيهما أحمق؟ فجاء الخرنفش بحجارة خفاف من جص، وجاء هبنقة بحجارة ثقال وترس، فبدأ الخرنفش، فقبض على حجر، ثم رفع رأسه، وقال: الترس، ثم رمى بالحجر، فأصاب الترس، فانهزم هبنقة، فقال أصحابه: مالك انهزمت؟ فقال: إنه قال: الترس فأصاب الترس، فلو أنه قال: العين، أما كان يصيب عيني. وتبع داود بن المعتمر امرأة ظنها من الفواسد، فقال لها: لولا ما رأيت عليك من سيماء الخير ما اتبعتك، فضحكت المرأة وقالت: إنما كان يعتصم مثلي من مثلك بسيماء الخير، وأما إذا صار سيماء الخير هو المعزي، فالمستعان الله. وقال أبو دحية القاص: ليس في ولا فيكم خير، فتبلغوا بي، حتى تجدوا خيراً مني. وقال ثمامة بن أشرس: سمعت قاصاً ببغداد، وهو يقول: اللهم ارزقني الشهادة، أنا وجميع المسلمين. ووقع الذباب على وجهه، فقال: ما لكم؟ كثر الله بكم القبور. قال: ورأيت قاصاً يحدث بقتل حمزة، فقال: ولما بقرت هند عن كبد حمزة فاستخرجتها عضت عليها ولاكتها، ولم تزدردها، فقال النبي عليه السلام: لو ازدرتها ما مستها النار، ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال: اللهم أطعمنا كبد حمزة. وتزوج مالك بن زيد فتاة من تميم، فلما دخل على امرأته، رأت منه الجفاء والجهل، فجلس ناحية منقبضاً، فقالت له: ضع شملتك، قال: بدني أولى بها، قالت: فاخلع نعليك، قال: رجلاي أحق بهما، فلما رأت ذلك، قامت وجلست إليه، فلما شم رائحة الطيب ارتاح لها. وأرسل ابن العجل فرساً له في حلبة، فجاء سابقاً، فقال لأبيه عجل كيف ترى أن أسميه؟ قال: افقأ إحدى عينيه، وسمه الأعور، وفيه يقول الشاعر: رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وأي عباد الله أنوك من عجل أليس أبوهم عار عين جواده ... فأضحت به الأمثال تضرب في الجهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ومر معاوية بن مروان بحقل له، فلم يعجبه، فقال: ما كذب من قال: كل حقل لا يرى قفا صاحبه لا يفلح، ثم نزل عن دابته، فأحدث فيه ثم ركب. وهو الذي قال لوالد زوجته: ملأتنا ابنتك البارحة بالدم، قال: إنها من نسوة يخبئن ذلك لأزواجهن، ولو كنت خصياً ما زوجناك، فعلى الذي دلنا عليك لعنة الله. وكان أبو العاج والياً بواسط، فأتاه صاحب شرطته بقوادة، فقال: ما هذه؟ قال: قوادة، قال: وما تصنع؟ قال: تجمع بين الرجال والنساء، قال: إنما جئتني بها لتعرفها بداري، خل عنك، لعنك الله ولعنها. ودخل قوم على كردم، فقالوا له: أين القبلة في دارك؟ فقال: والله، ما اهتديت لها؛ لأني إنما دخلت هذه الدار منذ ستة أشهر. ودخل كردم على رجل فدعاه للغداء، فقال: قد أكلت، فقال له: وما أكلت؟ قال: قليل أرز، فأكثرت منه. ومرض كردم، فقال له عمه: أي شيء تشتهي؟ قال: رأس كبشين، قال: لا يكون ذلك، قال: فرأسي كبش، قال: وهذا لا يكون، قال: فلست أشتهي شيئاً. وكان أبو إدريس السمان يكتب: فلا صبحك الله إلا بخير، ولا حيا وجهك إلا بكرامة. وأتى عامر بن عبد الله بن الزبير بعطائه وهو في المسجد، فقام ونسيه، فلما سار إلى بيته ذكره، فقال لغلامه: إئتني بعطائي الذي نسيت في المسجد، قال له: وأين يوجد وقد دخل بعد ذلك المسجد جماعة؟ قال: وبقي أحد يأخذ ما ليس له؟ وسرقت نعله، فلم يلبس بعد ذلك نعلاً حتى مات، وقال: أكره أن أتخذ نعلاً، فيجيء من يسرقها فيأثم. وقال بعضهم: مررت ببعض طرق الكوفة، فإذا أنا برجل يخاصم جاراً له، فقلت: ما بالكما؟ فقال: إن صديقي زارني، فاشتهى رأساً فاشتريته وتغدينا، فأخذت عظامه فوضعتها على باب داري؛ أتجمل بها عند جيراني، فجاء هذا فأخذها، ووضعها على باب داره؛ يوهم الناس أنه اشترى الرأس. وقال بعض المتبردين: أفطرت البارحة على رغيف وزيتونة ونصف زيتونة أو زيتونة وثلث، أو زيتونة وربع، أو زيتونة وما علم الله من زيتونة أخرى، فقال له بعض الحاضرين: يا فتى، إنه بلغنا من الورع ما يبغضه الله، وأحسبه ورعك. ونظر آخر إلى أهل عرفات فقال: ما أظن الله إلا قد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم. وحكى الأعمش قال: أتاني عبد الله بن سعيد، فقال لي: ألا تعجب؟ أتاني رجل فقال: دلني على شيء إذا أكلته مرضت؛ فقد استبطأت العلة، وأحببت أن أعتل فأؤجر، فقلت: اسأل الله العافية؛ واستدم النعمة، فإن من شكر الله على النعمة كمن صبر على البلية، فألح علي فقلت له: كل السمك المملوح، واشرب النبيذ الحار، وقم في الشمس، واستمرض الله يمرضك إن شاء الله. ودخل قوم على رجل من الزهاد، فوجدوا عنده رائحة قبيحة، فقالوا له: ما هذا؟ نظنه في بعض نعالكم، فقال الزاهد: ليس كما قلتم، هو من حشو الكنيف، أودعته شاربي؛ رياضة للنفس وإذلالاً لها، ألا تطلع إلي الروائح التي تحرم عدا رائحة الجنة. وسمع آخر تشاجر قوم في تاريخ شيء فقال: ليس هذا كما تزعمون، إنما كان هذا قبل ابتدائي بصيام الدهر، فلا كان هذا ولا كان صيامه. وكان بغرناطة رجلان أحمقان، يقال لأحدهما: حسين، وللآخر: يحيى، فاشترى يوماً يحيى زناراً جديداً، فرآه حسين عليه، فأعجبه، فقال له: جرده وألبسه أنا أقيسه، والبس أنت زناري، فلبسه حسين، وأعطاه زناره المبتذل، ونظر عليه يميناً وشمالاً، ثم ذهب به مسرعاً، فقال له: جرد زناري، وذهب خلفه، إلى أن وصلا إلى البيازين، واجتمع عليهما الناس، فلم يقدر أحد أن يجرده له، فقالوا له: رد زناره، ونشتري لك غيره، ففعلوا، وبقي ذلك الزنار عليه. وجمع بعض الملوك بين مجنونين؛ ليضحك عليهما، فبعث بهما، فأسمعاه ما يكره، فدعا بالسيف، فقال أحد المجنونين لصاحبه: كنا اثنين، فصرنا ثلاثة. الحديقة الرابعة في الوصايا والحكم وفيها باب الواحد الباب الأول لما وجه ابن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان، قال له: أوصيك بثلاثة: حاجبك؛ فإنه وجهك الذي تلقى به الناس، إن أحسن، فأنت المحسن، وإن أساء فأنت المسيء، وصاحب شرطنك؛ فإنه سوطك وسيفك، وحيث وضعتهما، وضعتهما، وعمال الفرد، قال له: وما عمال الفرد؟ قال: أن تختار من كل كورة رجالاً لعملك، فإن أصبت فهو الذي أردت، وإن أخطأت فهم المخطئون، وأنت المصيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وقال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية: دلني على قوم من القراء؛ أولهم، فقال له: القراء ضربان، ضرب يعملون للأخوة، لا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا، فما ظنك بهم، إذا أمكنتهم منها؟ ولكن عليك بذوي البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم، فولهم. وقال معاوية: إني لا أضع سيفي، حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها. وقال عليه السلام: من تواضع لله رفعه. وقال بعض الحكماء: كل ذي نعمة محسود عليها، إلا التواضع. وقال عبد الملك بن مروان: أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوة. وسئل بعض الحكماء: أي الأمور أشد تأييداً للعقل، وأيها أشد إضراراً له؟ فقال: أشدها تأييداً له ثلاثة أشياء: مشاورة العلماء، وتجربة الأمور، وحسن التثبت، وأشدها إضراراً به: الاستبداد، والتهاون، والعجلة. وقال بعض الحكماء: ما كنت كاتمه عن عدوك، فلا تظهر عليه صديقك. وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلاً سراً، فلمته عليه إذا أفشاه؛ لأني كنت أضيق صدراً حين استودعته منه حين أفشاه. وحكى أسامة بن زيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا غزا أخذ طريقاً، وهو يريد أخرى، ويقول: الخرب خدعة. وعن مالك بن أنس قال: كان مالك بن عبد الله الخثعمي، وهو على الطائفة، يقوم في الناس، كلما أراد أن يرحل، فيحمد الله ويثني عليه، ثم يقول: إني آخذ بكم غداً، إن شاء الله، على موضع كذا وكذا فتفترق الجواسيس عنه بذلك، فإذا أصبح الناس سلك بهم طريقاً أخرى، وكانت الروم تسميه الثعلب. وقال عمرو بن معدي كرب: الفزعات ثلاث، فمن كانت فزعته في رجليه، فذاك الذي لا تقله رجلاه، ومن كانت فزعته في رأسه، فذاك الذي يفر من أمه، ومن كانت فزعته في قلبه، فذاك الذي يقاتل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. وقال عليه السلام: اصطناع المعروف يقي مصارع السوء. وقال أبو ذر: إن لك شريكين في مالك، الحدثان والوارث، فإذا استطعت ألا تكون أبخس الشركاء حظاً، فافعل. وقال بعضهم: إذا أقبلت الدنيا عليك، فأنفق منها؛ فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك، فأنفق منها؛ فإنها لا تبلى، أخذ الشاعر هذا المعنى فقال: لا تبخلن بدنيا، وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالشكر منها إذا ما أدبرت خلف وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه، فانظروا إلى ما يتبعه من حسن الثناء. وقال بعض أهل التفسير، في قوله تعالى فيما حكى عن إبراهيم عليه السلام: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) أنه أراد حسن الثناء من بعد. وقال عليه السلام: استعينوا على حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود. وفي الحديث: من نشر معروف فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره. وقال ابن عباس رضي الله عنه: لو أن فرعون مصر أسدى إلي يداً صالحة، شكرته عليها. وقال بعضهم: إذا قصرت يداك عن المكافآت، فليطل لسانك بالشكر. وقيل: ما نحل الله عباده أقل من الشكر، واعتبر ذلك بقول الله سبحانه: (وقليل من عبادي الشكور) . وقال سهل بن هارون: العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلم. وقيل: الروح عماد البدن، والعقل عماد الروح، والعلم عقاد العقل، والبيان عماد العلم. وقال عليه السلام: إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة. وقال الأحنف بن قيس: أحق الناس بالعفو، أقدرهم على العقوبة. وقال ابن سيرين: العلم أكثر من أن يحاط به؛ فخذوا من كل شيء أحسنه. وقيل لأبي عمرو بن العلاء: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟ قال: إن كان يحسن به أن يعيش، فيحسن به أن يتعلم. وقال عروة لبنيه: اطلبوا العلم، فإن تكونوا صغار قوم لا يحتاج إليكم، فعسى أن تكونوا كبار قوم، لا يستغنى عنكم. وقال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه: أريد أن أطلب العلم، وأضاف أن أضيعه، قال: فكفاك بترك العلم إضاعة له. وقال بعض الحكماء: اقصد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى لنفسك، وأخف على فلبك؛ فإن نفاذك فيه على قدر شهوتك له، وسهولته عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقال رؤبة بن العجاج: قال لي النسابة البكري: يا رؤبة، لعلك من قوم إن سكت عنهم لم يسألوني، وإن حدثتهم لم يفهموني، قلت: أنا أرجو ألا أكون كذلك، قال: فما آفة العلم ونكده وهجنته؟ قلت: تخبرني؟ قال: آفته النسيان، ونكده الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله. وقال عبد الله بن مسعود: إن العبد لا يولد عالماً، وإنما العلم بالتعلم، أخذه الشاعر فقال: تعلم؛ فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل وإن كبير القوم، لا علم عنده ... صغير إذا احتفت عليه المحافل وإن صغير القوم، والعلم عنده ... كبير، إذا ردت إليه المسائل وقال بعض الحكماء: علم علمك من يجهل، وتعلم ممن يعلم؛ فإنك إذا فعلت ذلك حفظت ما علمت، وعلمت ما جهلت. وقال مالك بن أنس رحمه الله: إذا ترك العالم: لا أدري، فقد أصيبت مقاتله. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من سئل عما لا يدري، فقال: لا أدري فقد أحزر نصف العلم. وقالوا: العلم ثلاثة: حديث مسند، وآية محكمة، ولا أدري، فجعلوا لا أدري من العلم، إذا كان صواباً من القول. وقالوا: الحكمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان، لم تجاوز الآذان. وقال الحسن البصري: لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام تفكر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت، قلب الأحمق من وراء لسانه، فإذا أراد أن يقول قال. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العقل في الدماغ، والضحك في الكبد، والرأفة في الطحال، والصوت في الرئة. وقال عمر رضي الله عنه: من لم ينفعه ظنه، لم ينفعه يقينه. وسئل بعضهم: من أحب بنيك إليك؟ قال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يرجع، والمريض حتى يفيق. وقال صلى الله عليه وسلم: لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها؛ فتظلموها، ولا تمنعوها من أهلها؛ فتظلموهم. وفي الحديث: خذ الحكمة ولو من ألسنة المشركين. وقال عليه السلام: الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها ممن سمعها، ولا يبالي من أي وعاء خرجت. وقال زياد: أيها الناس، لا يمنعنكم سوء ما تعلمون منا، أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا؛ فإن الشاعر يقول: اعمل بقولي، وإن قصرت في عملي ... ينفعك قولي، ولا يضررك تقصيري وقيل لقيس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة؟ قال: معرفة الرجل نفسه، قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه، قيل له: فما أفضل المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. وقال الحسن: التقدير نصف العيش، والتوزر نصف العقل، وحسن طلب الحاجة نصف العلم. وقيل: ثلاثة لا تكون إلا في ثلاثة: الغنى في النفس، والشرف في التواضع، والكرم في التقوى. وقيل: ثلاثة لا تعرف إلا في ثلاثة، ذو البأس لا يعرف إلا عند اللقاء، وذو الأمانة لا يعرف إلا عند الأخذ والعطاء، والإخوان لا يعرفون إلا عند التوائب. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أخوف ما أخاف عليكم شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. ومر أعرابي برجل صلبه السلطان، فقال: من طلق الدنيا، فالآخرة صاحبته، ومن فارق الحق، فالجذع راحلته. وقال قس بن ساعدة: من فاته حسب نفسه، لا ينفعه حسب أبيه. وقال عليه السلام: لا دين إلا بمروءة. وقال ربيعة: المروءة ست خصال، ثلاث في السفر، وثلاث في الحضر، فأما التي في السفر، فبذل الزاد، وحسن الخلق، ومداعبة الرفيق، وأما التي في الحضر، فتلاوة القرآن، وملازمة المساجد، وعفاف الفرج. وقيل: من أخذ من الديك ثلاثة أشياء، ومن الغراب ثلاثة أشياء، تم بها أدبه، من أخذ من الديك سخاءه وغيرته وشجاعته، ومن الغراب بكوره في طلب الرزق، وشدة حذره، وسترة سعاده. وقال المأمون: الرجال ثلاثة، فرجل كالغذاء لا يستغنى عنه، ورجل كالدواء يحتاج إليه حيناً، ورجل كالداء لا يحتاج إليه أبداً. وقال الخليل رحمه الله: الرجال أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك العالم فاسألوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك الناسي فذكروه، ورجل لا يدري، ويدري أنه لا يدري فذلك الجاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك الأحمق فارفضوه. وفي الحديث: إذا أحب الله عبداً حببه إلى الناس، أخذ المعنى ابن عبد ربه، فقال: وجه عليه من الحياء سكينة ... ومحبة تجري مع الأنفاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وإذا أحب الله يوماً عبده ... ألقى عليه محبة للناس وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا راحة لحسود، ولا إخاء لملول، ولا محب لسيء الخلق. وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله، قيل: من يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. وقال عليه السلام: شر الناس من اتقاه الناس لشره. وعرض على أبي مسلم فرس جواد، فقال لأصحابه: لماذا يصلح مثل هذا الفرس؟ قالوا: أن يغزى عليه العدو، قال: لا، ولكنه يركبه الرجل، فيهرب منه من الجار السوء. وقالت الحكماء: لا شيء أضيع من مودة من لا وفاء له، واصطناع من لا شكر عنده، والكريم يود الكريم عن لقية واحدة، واللئيم لا يصل أحداً إلا عن رغبة أو رهبة. وقال صلى الله عليه وسلم: من أوتي حظه من الرفق، فقد أوتي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق، فقد حرم حظه من خير الدنيا والآخرة. وقال بعض الحكماء: العين باب القلب، فما كان في القلب ظهر في العين. وقيل لبعض الحكماء: علام أسست عبادتك؟ قال: على أربعة أشياء، علمت أن لي رزقاً لا يفوتني، فلم أشغل قلبي به، ولم أطلبه، وعلمت أن لي أجلاً يبادرني فأنا أبادره، وعلمت أن لي فرضاً لا يقيمه غيري، فأنا مشتغل به، وعلمت أني لا أغيب عن نظر ربي، فأنا مستح منه. وقال بعضهم: عشرة من مكارم الأخلاق، صدق الحديث، وصلة الرحم، وحفظ الجار، وأداء الأمانة، وبذل المعروف، ومكافآت الأيادي، ورعاية ذمام الصاحب، وقرى الضيف، وكتمان السر، ورأسهن الحياء. وكان يقال: أربعة من كن فيه فقد حيزت له الدنيا والآخرة، صدق الحديث، وأداء الأمانة، وعفاف الطعمة، وحسن الخلق. وقال بعض الحكماء: ستة إن أهينوا، فلا يلوموا إلا أنفسهم، المستخف بالسلطان، واللاعب مع الصبيان، ومعترض السكران، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه، ومن قعد مقعداً ليس بأهل له، ومن تقدم إلى طعام لم يدع إليه. وقال بعض الحكماء: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثه، فقد أخل بنفسه. وقالت الحكماء: إمام عادل خير من مطر وابل. وقال الشعبي: قال لي ابن عباس، قال لي أبي: إني أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب - يستفتيك ويقدمك على الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني موصيك بخلال أربع، لا تفش له سراً، ولا يجرين عليك كذباً، ولا تطوعنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً، قال: قلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف، قال: إي والله، ومن عشرة آلاف. وقال بقراط الحكيم: العفو يفسد من اللئيم بقدر ما يصلح من الكريم. ومن حكم البخلاء ووصاياهم، قال أبو الأسود الدؤلي: إمساكك ما بيدك خير من طلبك ما بيد غيرك. وقال: لو أطعنا المساكين في أموالنا لكنا أسوأ حالاً منهم. وقال لهم: لا تجادوا الله؛ فإنه أجود وأكرم، ولو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل، ولكنه علم أن قوماً لا يصلحهم، ولا يصلح لهم إلا الغنى، وقوماً لا يصلحهم ولا يصلح لهم إلا الفقر. وقال رجل من تغلب: أتيت رجلاً من كندة أسأله، فقال: يا أخا بني تغلب، إني، والله، لو مكنت الناس من داري لنقضوها طوبة طوبة، والله ما بقي بيدي من مالي وعرضي إلا ما منعه من الناس. وقيل لخالد بن صفوان: مالك لا تنفق؛ فإ، مالك عريض؟ فقال: الدهر أعرض منه، فقيل له: كأنك تأمل أن تعيش الدهر كله، قال: لا، ولكني أخاف ألا أموت في أوله. وقال الجاحظ: قلت لرجل: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم؛ لأنه لا يقال لي: بخيل، إلا وأنا ذو مال، فسلم لي المال، وسمني بأي اسم شئت. وقال شبيب: اطلبوا الأدب؛ فإن مادة العقل، دليل على المروءة، صاحب في الغربة، مؤنس في الوحشة، صلة في المجلس. وقال الخليل - رحمه الله -: من لم يكتسب بالأدب مالاً، اكتسب به جمالاً. وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: عليكم بالأدب؛ فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالاً، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالاً. وقال عبد الملك بن مروان: سمعت بعض الأعراب يقول: الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن. وقال الخليل بن أحمد رحمه الله: ثلاثة أحبها لنفسي، ولمن أريد رشده، أحب أن يكون بيني وبين ربي من أفضل عباده، وأكون بيني وبين الخلق من أوسطهم، وأكون بيني وبين نفسي من شرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقيل: ثلاثة ينسين المصائب، مر الليالي، والمرأة الحسناء، ومحادثة الرجل وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: ثلاثة تجلو البصر، النظر إلى الخضرة، والنظر إلى الماء الجاري، والنظر إلى الوجه الحسن. وقال ابن عباس رضي الله عنه: من لم يجلس في الصغر حيث يكره، لم يجلس في الكبر حيث يحب. ومر ابن الخطاب رضي الله عنه ببنيان يبنى بآجر وحصى، فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعامل من عمالك، فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها، وأرسل إليه من يشاطره ماله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمجاشعي: إن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإن كان لك دين فلك كرم. وكان سعد بن عبادة رضي الله عنه يقول: اللهم ارزقني حمداً ومجداً؛ فإنه لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال. وقال حكيم لابنه: يا بني، أوصيك، عليك بطلب المال، فلو لم يكن فيه إلا أنه عز في قلبك، وذل في قلب غيرك [؟] . وقال آخر لابنه: أوصيك باثنين، لن تزال بخير ما تمسكت بهما، درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلقان يحبهما الله، وهما السخاء والسماحة، وخلقان يبغضهما الله، وهما البخل وسوء الظن، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله على قضاء حوائج الناس. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إنا - معشر قريش - نعد الحلم والجود سؤوداً، ونعد العفاف، وإصلاح المال مروءة. وقدم وفد على معاوية، فقال لهم: ما تعدون المروءة؟ فقالوا: العفاف، وإصلاح المعيشة، قال: اسمع يا يزيد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم من العرب: من سيدكم؟ فقالوا: فلان على بخل فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوى من البخل؟ وقال كسرى: عليكم بأهل السخاء والشجاعة؛ فإنهم أهل حسن الظن بالله. وقال صلى الله عليه وسلم: اصنع المعروف مع من هو أهله، ومع من ليس من أهله، فإن أصبت أهله فهو من أهله، وإن لم تصب أهله، فأنت من أهله. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: القرابة قد تقطع، والمعروف قد يكفر، وما رأيت كتقارب القلوب. وقال أكثم بن صيفي: القرابة تحتاج إلى مودة، والمروءة لا تحتاج إلى قرابة. وقيل لبعضهم: من أحب إليك أخوك أو صديقك؟ فقال: ما أحب أخي إلا إذا كان صديقي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله أكثرهم تحبباً إلى الناس. وقال بعض الحكماء: إذا أيسر الرحل ابتلى بثلاثة، صديقه القديم فيجفوه، وامرأته يتزوج عليها، وداره يهدمها ويبنيها. وقال رجل لبكر بن عبد الله: علمني التواضع، فقال: إذا رأيت من هو أكبر سناً منك، فقل: سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح، فهو خير بني، وإذا رأيت من هو أصغر سناً منك، فقل: سبقته إلى الذنوب فهو خير مني. وقال الشافعي رضي الله عنه: أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مودة من لا ينفعه. وقال أيضاً: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلم اللغة رق طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه. وقال بعض الحكماء: أقل الدنيا يكفي، وأكثرها لا يكفي، أخذه أبو فراس فقال: ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... وإذا قنعت فكل شيء كافي وقال صلى الله عليه وسلم: سافروا تغنموا، وصوموا تصحوا. وقال موسى بن عمران عليه السلام: لا تذموا السفر؛ فإني أدركت فيه ما لم يدرك أحد، يريد أن الله تعالى كله. وقال رجل لمعروف الكرخي: يا أبا محفوظ، أتحرك لطلب الرزق أم أجلس؟ قال: لا، بل تحرك؛ فإنه أصلح لك، فقال له: أتقول هذا؟ فقال: ما أنا قلته، ولكن الله تعالى قاله وأمر به، قال لمريم: (وهزي إليك بجزع النخلة تسقط عليك رطبا جنيا) ، ولو شاء أن ينزله عليها لأنزله، أخذه الشاعر فقال: ألم تر أن الله أوحى لمريم ... وهزي إليك النخل تساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزها ... جنته، ولكن كل شيء له سبب قيل لأعشى بكر: إلى كم ذا الاغتراب، أما ترضى بالدعة؟ فقال: لو دامت عليكم الشمس لمللتموها، أخذ المعنى حبيب فقال: وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه، فاغترب تتجدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فإني رأيت الشمس زادت محبة ... على الناس أن ليست عليهم بسرمد وقال الحكماء: لا تدرك الراحة إلا بالتعب، ولا الدعة إلا بالنصب. وسئل بعض الحكماء: أي الأشياء أحلى؟ قال: النصرة على العدو بعد الهزيمة، والاستغناء بعد الحاجة، والغلبة للمتكلم. وحكى الأصمعي قال: كنا بطريق مكة في بعض المنازل، إذ وقفت علينا أعرابية، فقالت: أطعمونا مما أطعمكم الله، فناولها بعض القوم شيئاً، فقالت: كتب الله لك كل عدو إلا نفسك. قال معاوية: كل الناس أقدر على أن أرضيهم إلا حاسد نعمة؛ فإنه لا يرضيه إلا زوالها. وقيل: للمعروف خصال، تعجيله وتيسيره وستره، فمن أخل بواحدة فقد بخس المعروف حقه. وحدث الشعبي قال: صاد رجل قمرية، فقالت له: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أفكك وآكلك، فقالت: والله، ما أشبعك من جوع، وخير لك من أكلي أن أعلمك ثلاث خصال، واحدة وأنا في يدك، والثانية وأنا على الشجرة، والثالثة وأنا على الجبل، قال: هات، قالت: لا تلهفن علي شيء فات، فخلى سبيلها، فلما صارت على الشجرة قالت: لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون، فلما صارت على الجبل قالت: يا شقي، لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين في كل واحدة عشرين مثقالاً، فعض الرجل على يده ندماً وتلهفاً، ثم قال: هات الثالثة، قالت: أنت قد نسيت الأولى والثانية، فكيف أخبرك بالثالثة؟ ألم أقل لك: لا تلهفن على ما فات، ولا تصدقن بما لا يكون أنه يكون؟ أنا ولحمي ودمي وريشي لا يكون في عشرون مثقالاً ثم طارت. الحديقة الخامسة في أمثال العامة وحكمها وفيها باب واحد مرتب على حروف المعجم وفيه فصول ال فصل الأول أشهر من الريحان في دار العرس أخذه الشاعر فقال: فضله بين الورى مشتهر ... شهرة الريحان في دار العروس حرف الألف أسخف من عبو الفحام الذي يزين الفحم بالورد أذل من قط ابن أحمد الذي يغرم الجزية للفرين أضر من أقرع أثقل من غريم أسلط من مجذوم أرق من دين طبينة أقدم من إبليس أكسى من بصلة أكسى من حجارة أعز من مجتاز في قرية تقل قدم من الذي يجلس الكلب أزلط من فار الجامع أرق من دين يهودي أعجز من الطريس يسلح فعش أضيع من قنديل مع الشمس أسخف من قطاط الذي يحرز الغنم بالبطين أغزر من جحيم أغرش من ثعلب. قال الشاعر: كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة أحوج من أنقر لعين أحوج من مبطول المد ساق أخف من بق فشق أقل عقل من خياط المي أشط من عام الجوع ينظر إلى قول الشاعر نبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول فصل أهين من البول فالسرير إذا كان المحدث أحمق يكون المستمع عاقل إذا رأيت لحية جارك تنتف اجعل متاعك في الدباغ إذا حج جارك بع دارك وإذا حج مرتين بع بالدين إذا رأيت الدجاج تبق عين الفروج يسر السل للبيض إذا بليت بالسعي اقصد الديار الكبار ينظر إلى قول الشاعر: وإذا لم يكن من الذل بد ... فالق بالذل إن لقيت الكبار إذا وقعت البقرة اجتمعت السكاكين إذا وصلت لحاجتك لا تتكلف إذا كان القاضي خصيمك لمن تشتكي قال الشاعر: يئست من الإنصاف بيني وبينه ... ومن لي بالإنصاف والخصم يحكم إذا انطارب الزمار طاب العرس إذا كنت ميجم مراس وإذا كنت وتد انصب راس إذا كنت قادر كن نعم القادر إذا فاتك الطعام قل شبعت إذا بات الهم فات إذا اجتمعت الغمار يتناصف إذا عطب الفيل فعظامه راس ميل إذا أصبت الزياد أبشر بالنقصان إذا أراد الله يعطيك دارك يدل إذا غاب الوجه إش للقفا من حرمة إذا لم ينفعك الباز انتف وهذا كقول الشاعر: إن لم يكن رشد الفتى نافعا ... فغيه أحسن من رشده إذا بار الريح فالبنيس يدخل إذا رأيت حمارك يمشي لا تزد منخص إذا فاق العليل اشتهى خبط الطبيب إذا رأيت حنش يلمع ادري أن آخر بلع إذا عدم الصوف يجز الكلاب ينظر إلى قول الشاعر: خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤود إذا أكلت الخنزير كول سمين إذا غلا القمح اش لو حصا له إذا أصيب القمح أهرق الشعير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 إذا كنت فضولي كن في جبهة المخزن إذا كان السخا من الشامل لا يسبقك به أحد إذا كثر همك أرقدك إذا حبك القمر لا تبالي بالنجوم إذا كان معك جار لطيف ادعي إلى الله أن لا يزول وهذا كقول الشاعر: كنت أشكو من التباعد دهرا ... صرت أبكي من التفرق دهري إذا دخلت بلد خذ من سير أهل وهذا كقول الشاعر: وكن أكيس الكيس إذا كنت منهم ... وإن كنت في الحمقى فكنت أنت أحمقا إذا ترى الأكل إقرب وإذا ترى المقرع إهرب إذا كان الطريق آمن لا عليك من بعد إذا يجي الرزق يجي بدول إذا اشتريت افتكر في يوم تبيع إذا كثر الطير سلح بعض لبعض إذا طارت لا تقله اش فصل إش يعمل الكيس في البيت الفارغ وهذا كقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي إش يعمل العقرب بين الجراد وهذا كقول الشاعر: تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد إش تجي عزيز من القاضي إش ما يصيب الغبار يحمل للدار اشحل تاكل صايم تصبح اشحل نذري أكثر يخصك وهذا كقول الشاعر وهو حازم: أهل درى عارف وجدي أن ... ما لم يدر أكثر مما قد درى إش شيء أن لا يدري قال شيء لا ينوي إش أسود إذا قال سيدي أحمد إش دخل ضرط لمنجل إش دخل باسم الله في خبزنا إش دخل قفا لقلب قال العروق متصل إش بين ترنج وبظيخ قال مبيت ليل اش شيء أسرع من البرق قال يدفعني إذا قال خذ إش كلنا حتى نشرب عليه اش برطل واش مرق وش لزم في ساق اش ما كتبت أنت قريت أنا اش بين الأحمق والعاقل قال كشف عورة اش يراد الطاس يبزق فيه الدمك وهذا كقول الشاعر وهو أبو فراس: ولا أنا راض إن كثرن مكاسبي ... إذا لم تكن بالعز تلك المكاسب اش لو الشابع من الجايع اش ينفع الضراط عند الموت اش يوصل غربتي لأهلي قال الشاعر: في الشرق أحبتي ... وفي الغرب أنا اش الشخينة في يد سلوة إش ما في القدير المغيرف تخرج اش ما وفر العنزي في دار الدباغ يخليه فصل اش يقوم حيط من حيط إلا في عمارة اش بنا ألف إلى الذي يجي وراه اش المد قد القداح اش للباز إلا ما حاز اش ينوح إلي مقروح اش في البقير ما تشرب العجيلا إش اطا من طا وهذا كقول أبي فراس: ولا الفضة البيضاء والتبر واحد ... نفوعان للمكدي وبينهما صرف اش للراس أنقى من المس اش تربي الكشفا ولد أحد اش تعلم اليتيم البكا قال الشاعر: فلا تصفن الحرب عندي فإنها ... طعامي مذ بعت الصبا وشرابي اش عمل الصور إلى لأبناء الحلال اش تسع العفافي في رأس كل أحد اش ينطب الأحمق إلى فالعذران اش يجي كيس إلا من مشعوف اش يرى الأحدب حدبة إلى متاع غير اش عليه البغل من ركض أم اش يخرج قنديل للريح اش يكل سبع إلى في عام سو إش يقول الحق إلى صبي أو أحمق اش تشبه ضرط لجرقب اش الخل طعام القطاطيس اش يضرب السارق على سرقته على قلة ذريته اش ينبح الكلب إلا قدام دار اش ينفع الحلقين بالراطل اش يصطاد باز قدام عقاب اش يهرب قط من مطباخ وهذا كقول جرير: لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزاً ... ولو رضيت رمح استه لاستقرت اش يلوم الشيء إلا من لا يقدر عليه اش يمشي مركب في البر إش تبقى الحم دون مبطول اش يبكي إلى على ما يخلي اش خلف كما تعرف اش يسمعني فالقلب نفسي وهذا كقول الشاعر: وهل يجمع السيفان ... ويحك في غمد اش تخرج شوكة بقطن اش يسمع القاضي من سكت اش تغلي قدر في نفسي اش الجراز يكبر اللقم وهذا كقول ابن عمار: عيرتموني بالنحول وإنما ... شرف المهند أن ترق شفاره اش كل مدور كعك وينظر هذا إلى قول الشاعر: أكل امرئ تحسبين امرءاً ... وناغر توقد بالليل نارا إش يطل الكعك إلى من يد الصناع اش تقع حجة إلى في نفسي إش يأكل الحرام إلا بالاتفاق اش يقول أحد عن قط حزير اش يقال الحق إلى بشواي من باطل إش ينفض الجوز إلى بالمقرع اش قدر للحمار رجع للبردع اش يدري حمار اش زنجبيل اش يقرن الخز لوبر المعز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 إش يصطاد الكلب إلا خانق اش يلد الحنش إلا طويل إش زلت الحول حتى أرت الدول اش يقوم كفوها بحفرها اش قطعت أذنيها إلى أن تكون صياد فصل اش قال على الطيران أصبتني اش غيرك فالعش فصل الله يجعل آخرنا أحسن من أولنا الله يخلطنا مع من هو أحسن منا الله لا يورينا نهار سوء إن نمدح الله يعطينا رزق ويعطينا فاش نجعلوه فصل البيان في الفدان خير من اللطام في الأندر الغربيل الجديد أربعين يوم يعلق الناس في العرق وهو يقول المرددوش للغرس المفتح في حربتي والناس في غرفتي الكيس بالسوم وغير ذي سوق الحمار يدري في وجه من يضرط الزلط ما لومروة الكلب الجويل إش ياكل من عظام دار العشت الطيب من بحين تظهر البويل في السرير أقوى صول البيت فيت الجبال لها عينين والحيطان لها أذنين الشيء كثير والشاكل قليلة الفقيه الدكالي اعمل بقولي ولا تعمل بأعمالي اللون يبيع البرذون الناس مع الناس والريق مع الفاس الدراهم تجلب الدرهم المعروف في وقت خلا البيض الشقر كيف السود النقر المريب يقول خذوني قال إبراهيم بن سهل اليهودي: هيهات لا تخفى علامات الهوى ... كاد المريب بأن يقول خذوني الزمر فالأصابع السلف مردود وصاحبه مشكور الكركر والعيش المر البالغ لا ترضيه السبع أي يدي اش يدي الجلوس بلا شغل يحمق الحديد في يد الأحمق يمتد التجار مضمونة آكن اش تربح تخسر الكبار ولو كان حصارم وينظر هذا إلى قول المتنبي: التاركين من الأشياء أهونها ... والراكبين من الأشياء ما صعبا الغازي والفار لا تعلمهم الدار الظن اللطيف لا تفارق السياط للسيف سلامة الضراط مع الأصم نزيهة الفرن انبنى قبل الجامع الضرب يعلم الرقص وقال ابن الجهم: ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر المطير في البيض يعتر الكل ذلك الرجل قال الشاعر: ولا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند الجالس على الغدير عوام الرهن بيد القصار الحك أوكد من الفلي القرض من العرض والزريع وحد قال أبو الأسود: فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بعلبانها الطرق الكبار وإن طالت والعزبات وإن بارت اللقيته الرملي من فسيوه الجيد في قاع السل يبقى الدخول بالمرو هين والخروج منها صاعب والدور والتحليق على الدقيق المقتول منا والدي علينا العوينيت إلى تورك من بعيد تضحك لك وهذا كقول الشاعر: أصادق قلب المرء من قبل جسمه ... وأعرفها في لحظه والتكلم المهدي مقبول ولو كانت قول الطلي من أول شيء ما هو شيء القطيع لي نصرا إذا كان قطع فأخرى الحواجل بالمحفل عربد الشيء فالزين نقص من القول بالعزلة لا ترى ولا تدري الغول إذا نور شهر يدور فصل أرى الجبن ولم يرى القط انبت كميمن حتى يزرعك سليمان انصف الناس وشاركهم في أموالهم اقسم البحر يرجع سواقي اربط صبعك صحيح تجاد أورلي حق وكل انطح موسى يقع عيسى أما قيمة اليوم ولولا ما دخل الليل كتخد واحد أو انتي أحول بوقيع يجي من أعمى اسأل العليل ولا تسأل الطبيب اعط الكبش لمن يهنك الكرش أخر العصير سل آخر الصيف قد يرى احتكت الحمار والزيتونة جى منها أهل وخثونة اذكر الكلب يسر المقرع اذكر الحبيب يسر الزبيب اعمل خير وارقد فالطريق أمنا تغري ولدنا يجي بالأخبار أخو من شتى زياد فالأعدى قال أبو فراس: فأقصاهم أقصاهم من إساءتي ... وأقربهم ممن كرهت الأقارب اخدم باطل ولا تجلس عاطل اسم على واه اش يغطي رجلي إما نموت بالعطش وإما نمشو فالسيل وهذا كقول أبي فراس: ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر أسير الصلح اش لو فدى أعمش يلعب غبار أعطني قطير نبكي معك دميعه انزل عليه عمك خالك أي وحش تفضي لك أعطني متاعك أو إلى نكسر دراعك اخز الصغار يشعوف الكبار أدب حموا يدق فالجبص ويصفر فالجامع أسود بلا سياط بحال جامع بلا حصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 اكسر قدح يجك أملح أقل للمحروم اتغصص قال بعد العيد أرخص أطيب تينة وقعت في الزيت انتظار المجبنا خير من أكله أيام إن مضت لش تعود أشكرني نمدحك أسلف يطلبك ازوج في غرناطة ومت في بليش انجبرت الخرجير بصاطل أضعف ساق الله يكسار وهذا كقول أبي فراس: رعى الله أوفانا إذا قال ذمة ... وأنفذنا طعناً وأثبتنا ضربا إبليس بلا بطاق أدرى إذا بطق لو افتح كرنب سلقتكم إن اللحم غالي أما تستر الثياب قال أبو فراس: وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئاباً على أجسادهن ثياب إن حضر إش يشور وإن غاب إش ينتظر قال الشاعر: فيقضى الأمر إن غابت تميم ... ولا يستأذنون وهم شهود اقرأ النقيض مع كل أحد تفلح اخرج عن بلدك وبل بالواقف ارم أحدب (تجد أحدب) وهذا كقول الشاعر: وليس يهلك منا سيد أبداً ... إلا افتلينا غلاماً سيداً فينا انتظر من توعد يجك من لم تظن به أي م يمشي المحروم بقليه فحص يجاد اشقطير تحت يد فونير ارحموني خضر والمحيرم إلى على الحمار ارحمني وارحم جارتي متى الساحل احبسوا لي ذا الحمير ندخل في الشرير أعجز أولادك شياع للحطب اتبع القليبق حتى تعميه أنا أمير وأنت أمير فمن يقود الحمير قلت الكلب قال الكلب لذناب آخر لقمة عجين أكل فقي دون زريب امدح العوام ولو كانوا أعاديك أعطني مميز تنفق عليه قال المميز ينفق على روح أرنب تأكل لحم قال بالي بجلدي كنخلص وهذا كقول الشاعر: وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب حرف الباء بحال من مضال ما شط وأصاب حمام بحال غازي لا ينكرك ولا يعطيك بحال سوق بلش فالهبط بحال بندق أكبر من الذي عمال بحال موج إذا أراد يجوط يجوط وإذا أراد يموا يموا وهذا كقول الشاعر: فإذا ما أردت كنت رشاء ... وإذا ما أردت كنت قليبا بحال رخام يسكت عام ويقول نسلح بد كيبوس اجعل من فوق هبط من أسفل بحال فخار إن معيوب زوج في واحد بحال أمشاط طول النهار ويبيت الليل معنقين بحال من سعى واهتر فل بحال فاس يخدم باللقمة بحال استرنج في فج بحال خروف جنان بحال فرس القيوني أول خرجت اش يعجبك وما مضى يخلى بحال ميز غمارا نفسي في كدى بحال فروج يدن واش يصلي بحال عرس إبليس يسمع واش يرى بحال شرطي يأكل معك ويكسر الصحفة بحال قنديل يضي للناس ويحرق روح وهذا كقول الشاعر: كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... نبى بطنها هذا الضلال عن الرشد ويشبهه أيضاً قول أبي فراس: وأظمأ حتى ترتوي الأرض والقنا ... وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر بحال صياح بليل عمد ولا من يخرج بحال أعمى لا ندر أن مدري بحال عجوز لقول الباطل بحال اشقرا أكن اش تتكلم تهز رأسك بحال قفه نبي تصل للسقف وترجع بحال فرس سلطان مليح وعاقل بحال (حانوت) فخار فالبسيس فالولح بحال برغوت الأكل والقرك والكفن بحال رحا ابزازر يدور على الشميل بحال يهودي في غضب الله بحال محروم في مال بحال شريط تكسى بالنهار وتعرى بالليل بحال شمس فخندق بحال بلوط زوال الششتى وارم في النار بحال بقير الجاموس القرن والحفى والرقاد في المي بحال طيز فيز فرد اذن وميت قرن بحال من يرقص ربيب كبير أو فلى كبير بحال سوس ياكل واش يشروب بحال عزى في حبس بحال فسيس في جنين بحال غربيل شدق وشاعر بحال جرعود رأسه في الخرا وذنبه مرفوع بحال قط باخراص بحال ضبيه وترمي ومصارن بحال قنبر الخوا والفرج فصل بيدم التمق حامد الرامي أخذ الحصن بيدم ويجي الترياق من بيت المقدس يذهب صحيح الوجع بيدم تمتد مرى يرقد زب خوان فصل برور الشيخ بيد وهذا كقول زهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره، ومن لا يتق الشتم يشتم بين الأخ والخالا يمضي الابن خسارا بل صاف وادخل أصباعك في عين الحكيم بالكيل الذي تكيل يكيل لك بيع القط فاليد فالذنب بدلة لون أحسن من معسل بنخالتنا نستغني عن درمك جارتنا بين أخذ الدك وإطلاق ينكسر ساق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 برج أبو دلامة إن ترق إليه ترق بالطول يتمشى المبطول بنيان العمالق بالخرا والطرج بدل جنب تصب راح بيدق حاشي خير من لا شي بطن يدل أي صنيع تشكل بشي لك قل بكل شي بالجديد يغني برطل في فمك أحسن من مي ذهب في كمك بشهوة للموت أصبح في المقابر برج حمام أبيض من برا أسو من داخل حرف التاء تحلق ابن بياضة تقع سري فالخنقيق تربية الحبس لا أدب ولا شكل تعرف الخيل ركابه تاجر بلا قطاع قليل الخروج ترد أم حكم إلي استنجت بيد المهريز تبيين الواضح فاضح تحليق للجنة خير من المقصود للنار تنظيم قناوة جوهرة وفوقنة تنبرت مرماد أطم من فسوة مجذم تد تكسب عدو ضريل سير وانقطعا لو تد تربح لا تفتح تد تعيش كثير لا تطلع ثمار ولا تهبط في بير حرف الثاء ثوبي فالعنق من أمارة الحمق ثوب العير لا يدوم ولا يدفي ثوب العير قصير ثمار ريش ذل بلا طعم حرف الجيم جي يدعي لرب خرق الفروج في عين وهذا كقول الشاعر: إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد جي يعمل حسنه خرجت لو سيئة ويشبه هذا قول الشاعر: إذا لم يرزق الإنسان بختاً ... فما حسناته إلا ذنوب جي يعمل حكمة عمل نقمة جي يفسي عمل بو فصل جلسة خير من أكله جندون حر يسبح بالسلح في فم جول نجول للشرق أولا جوب أن تهدا بشابع لا عليك من جواب أبناء القحبات السكوت قال الشاعر: إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت جراد في يدك أحسن من يرطال يطير جويجل منصور تسمع من وراء السور جوزني ذا الخندق واذبحني في آخر جنيزت يهودي الجري والسكوت جن رمل أسود مغبر جمل بدرهم وأين الدرهم حرف الحاء حاج بقطاع يهودي يقضيها حاجة إن لا يدري بها جارك فاضل هي صاف حكم العزيز حديث إن شاط في حاجة إن يسيرة حسب دبوري لا قر ولا عسل وهذا كقول الشاعر: هو الكشوت فلا أصل ولا ورق ... ولا نعيم ولا ظل ولا ثمر حوت الشمال اش لو شوكة حزن الجماعة فرح وهذا كقول الخنساء: حمار بحمار أحسن إلي يدل الدار حبل الدقيقة وحدت السبيل حقنا اش نصلول نطلبو عبار الوزانة حمورا فالوجه ولا تخم فالقلب حرف الخاء خذ من الموقف ورد مشرف خذ السارق قبل أن يأخذك خذ فالأحمر خذ فالأصفر خذ من يد وبقط في الحيط خذ بالموت حتى يرضى بالحمى خذ واش تجعل قال المعري: إذا ما النار لم تطعم ضراما ... فأوشك أن تمر بها رمادا خرج الغزق أكبر من الزقاع خرج خروج الوبر من العجين خرجت الشبعا في العرق خرج خروج حضرى اصباع في قفا تجرى خبز الشرك داع يحترق خبز المقيت مرتى يطل خبز أرملة واحد أو صغير خلي جدي وجدك وارجع لجلدي وجلدك خل من قال خير فالناس غير خير السلع ما عجب المشتري خبطناهم على البول سلحوا خفت عليلش إلى اسقى لاح بالدرج وثنى بالغرفة خادم شنوع شاقى ملعون خليفة موسى العطار ماعك حنة خير الخير عاجل قال الشاعر: خذوا ما أتاكم به واعذروا ... فإن الغنيمة في العاجل حرف الدال دقم وشفتي مقادلهم لي دقم دوة الحبس دخلناهم ارمينا عليهم جردونا دع النيس يصير أكديس دنيا بلا أكل أخرى أحسن منها دردورا وارجع لقورا حرف الذال ذيب التهمت الجد لثقب أذنيها وهذا كقول المعري: أبعد حول تناجي النفس ناجية ... هلا ونحن على عشر من العشر ذيب عول انبهك الطوس ذكروا الأواني قام البسيس قال تراني ذكرت المدون قامت اللقون ذا الجواجل على بزغات هيت حرف الراء رأس بلا خرب قراع أحسن من رأس بلا عينين ما يسوى حبتين رجع حسن كما كان رجع الخرا لمجراه والعبد لمولاه رى عيشه إلى باعت مدينة بسيول رى قحبة ان سكرانه طرفه محلول ووسطه مبلول رضى الشرطي بالشرطنة وم يرضى بالبرصنة ركض الحمار ومات رخيص كسر القراعة بموت الفار رحم الله ديك الحمير إلي كيسلح الأنجاص حرف الزين زد للمليح مرود ويتغد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 زيد للطين بلة زاد الله للكدس كديش زياد للقراح قطاعة البراح زقلي مقلي اش تقم خدمتي بأكلي زبلين احشارش أربعة على بفقارش زواج أهل بسطه بالحبال فالأقارب زواج مباطل يقلب لواحد صحيح زوجني واضمن لي بخت زجة نافذة خير من سقام وإن طويل زبل خراز لا للجنان ولا للفدان زن الطرار يلتهم لروح زد النقيلة فالقيلة زامر قرى لش يلهى وهذا كقول الشاعر واطو المراحل عن أرض تهان بها ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب حرف الطاء طلع الريح من شرونه طلع في قصيبة سنبل طلع لو الشرق من المغرب طير عين وادهن لو بشحيمة طالع البكور أسود بالفاضل هو طالع البكور أسود مخطط طار طيرك وخاد غيرك طربتنا فرحناك طاق طاق أحسن من سلام عليك وهذا كقول أبي فراس: لقد قنعوا بعدي من القطر بالندى ... ومن لم يجد إلا القنوع تقنعا حرف الظاء ظنى به صيدون قيد ظنى متجروه فالرسميل ينقر ظالم أو مظلوم مع متاعك تقوم ظالم بظالم البادي أظلم ظهر الفساد بذنوب العباد ظلام الليل يستر الوبل ظلمة الهم أشى تضي بقنديل حرف الكاف كل من يجى فينا يتهجى كل شيء فيه مليح حتى بويلت فالطس تصيح وهذا كقول الفرزدق: فيا عجباً حتى كليب تسبني ... كأن أباها نهشل أو مجاشع كل أحد يضم النار لخبيزه كل طريق للجامع ينفد وهذا كقول الشاعر: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد كل واحد لأصل يرجع وهذا كقول الشاعر: إن يتخلق امرؤ لك لا يدم ... وتغلب عليه عن قريب طبائعه كل موجود رخيص كل ديك في مزبلة أمير كل شهر إن لش لك فيه زرق لا تعد أيام كل أقرى بلى كل شيء في وقته حتى البليط ينير كل أحد يدري من أش يوجع راس كل أحد في شر غير حليم وهذا كقول الشاعر: يصيرني أن ضقت ذرعا بهجره ... ويجزع ان ضاقت عليه خلاخله كل ما هو باطل يعشيش فيه البراطيل كل أحد يعجاب غينه كل برطل على سيوله كل بلد وهلال وكل زمان ورجال كل أحد في سوق يبيع حزوق فصل كلب الورد لا يشم ولا يخلي من يشم كيف ما يبيع السارق بالفاضل هو كيف دفن جحا أم لا للظهر ولا للعصر كم من حمال على ذا الميت كم من سلامة في طرق الغدر كثرة الوصية من قلة الاطمأنينة كثرة الاطمئنين تولد القرون كلام عمي أحمد شط بارد بلا فايد كلام بجواب اش ينتقض من كلام الحبيب يبكي ومتى العدو يضحك كن حبيب امليح ولطام الريح كرار يخرج ضرار كنا أصدقا صرنا معارف كل البقلة ولا تسأل عن المبقلة كذا وجدنيها وكذا نخلوها كيكون ذا الغرس في مرس كيجي ابريل يصيب بكير كلاب الحدادرين يرقود للزبار ويقم للقم حرف اللام لو زويج الكلب ما نبح لو كان فالغراب خير ما يكرموه الصياد لو جا أحسن مننا كينكسر فالطريق لو كان فالبوم خير ما كيسلم على الصياد لو مشى للبحر كيصيب مرج لو كان ماع أسود عاقل كيعشش في قراع لو دري السارق ما يدري صاحب الدار اش كيقدرل أحد لو كان فالبراني خير ما كيرمي ومن الكرنب لو جى الرزق بالطيب ما كيحل أحد لو ردت خبز وزيتون حرة داري كنكون فصل لولا حاجتي ما زرتك يا جارتي لولا أبناء القحبات كيمش السبع فالسوق لولا ما أصبح كيعسلج فصل ليلة بلا عشا ما تخلف أبداً ليلة هيت مع معربد اللحم اش فالسوق فدا الأحرش مني لقا ما يلقا فلو العطار إذا أهرق الربعا لسان العز فصيح لبد بحال شيخ على بليط للضراط مفاصل ليس البديل بيذق بفيل لطمة الجار مخلوف حرف الميم من بغض الكسبور في شارب يكبر من بغض يد قطاع من يعمل ما يريد يلقى ما لا يريد من وفر الزز في رقابة تحصل وهذا كقول زهير: ومن لا يزد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم من ملك مل وابزق في دل وهذا كقول امرئ القيس: وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ومثل قول أبي فراس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 إذا الخل لم يهجرك إلا قلالة ... فليس له إلا الفراق عتاب من أراد كل فات جل من حب السقا قلال وهذا كقول أبي فراس: تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر من لطم يد لخد إش ماع لمن يشتكي من وقع في البير يقلل بالدعا من حصل لا يطرب من خطبك أزواج من اتكل على أديم جارة تصبح قشيرة على الغطا من هددك ارقد في بيب دار من خرج غروف انتف ريش من خرج عزيز حان زز من جاء بوحده لا تلعبوه من ردت عليه بريش لا تعامل إلا بالنتف من زاد عليك بنهار زاد عليك بخبار من رفع من غديه لعشيه لشي ينتقموه أعديه من عمل الخصلة قال ولد سهل قال سيف سدموم من عمل الذنب لا ينكر العقوبة من ضرا لعق العسل يمشي باصباع معوج من مات من شبعة لا أقام الله منها من لا ماع بالي اش مع من جديد قال العرجي: سميتني خلقاً لخلة قدمت ... ولا جديد لشخص ما له خلق من دخل بين الظفر واللحم ينتن من صبر ظفر قال الشاعر: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا من عام قلوق يفتي فيه من توضأ قبل الوقت يصلي فالوقت من عليك أن تفارق لا تخاسروا من ربا جرو نجر عواقب وهذا كقول المتنبي: ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده ... تصيده الضرغام فيما تصيدا من مدح العروس قال أمه وخالته من تزارع يقلاعه من لا ماع راح اش ماع تجارا من انتلفت انسيل تدلك أعميل من عطا ولم يoأخذ طلب ولم يعط من كذب مرة لا تصدق أكثر من خيرك حيرك من باع خبيز يعطيه لش ياكل وهذا كقول الشاعر: والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل من ماع مغرافة اش يحترق يد من ماع فالفرن راس ما يجيه نعاس من هو عبد الله في عباد الله من هو برناط في جنوا من أمنك لا تخونوا من اختلط مع النخال أكلوه الكلاب من رق أم في سوق النخاسين يسمع من نهاقه ومن ضراطه من لا يشكل قفيل يشكل جبيل من لا يسمع من كبير يرجع السلح تصير من هو نصيب جناح اش يخد صدره من صفت فطاع فشياع من قدم زيب يصب قنديل وهذا كقول الشاعر: خدم العلى فخدمنه وهي التي ... لا تخدم الأقوام ما لم تخدم من عرفت كسوته جاز عريه من لا أرى في دار أم حينه يتعجب في قبة الفرن من صبر على جوع بلاد ينال من رخاها من ماع ترقجه لينير يرفاعه من هو عيب في وجه كيف يخفى من اهترق زيت في دقيق يعمل كعك ويكل من دخل بلا نفقة خرج بلا أجرا من لا يقبل النصيحة أوغيه من لا ينفع ادفع وهذا كقول حازم في مقصورته: والبعد مما لا يفيد قربه ... فائدة حقيقة أن تقتنى من افتقر اتخلص من واضب الرحا يطحن وهذا كقول الشاعر: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا من غاب عن العين غاب عن القلب من غاب خاب وأكل نصيب الأصحاب من اسطحى من بت عمه اش تنفس لو ولد من كثرة صناع قلت قطاع من لش ينفعك حياة فموت عرس وهذا كقول الشاعر: والمرء ما لم تفد نفعاً إقامته ... غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر من غر الرخيص وقع فالرخيص من بدل يخسر العريان من بدل لحيته بأخرى خسر الاثنين من عمل حزمة إن ثقيله لعنق بحماله من اشتغل بوتدي واحد يسع في سواه من قرا لش يشقي من لو حاجه يغير الحجة من لا يبيت اش ينتظر من عمل بحمق يحمل لعنق من هو في سعود النميلة تقود من كثر بنات كين الكلاب اختينوا من بنى في غير بلاد لا لو ولا لي من عاند حمار الوحش ينقطع في صفاق قلبي وهذا كقول الشاعر: وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويطمع أن يأتي بها بضريب فصل من طيور غافق يجي يسلح وينسى الطيران من بني أميه يرى النعمة ويضراط من إل فزع فيه وقع من أي ما يدور القمح لعين الرحا يرجع من طيب الجنة ومن رطوبة الكف من درج لمدرج حتى لقبة الفرن من بي لبو حتى لضراط من قنطار من اهنا لغداكم من أمر ينقضي قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ما بين غمضة عين وانتباهتها ... يصرف الحال من حال إلى حال من ذا العيب انباع ذا الدار من كثرة المصائب رجع الأعدا حبايب قال الشاعر: يا ويح من يرثي له الشامت [من] النقط تتلف الأودي من خلاع بجينه يدرس الزرجونة ويشكر من الله جيت ذا السفنجين من أين ندخلك يا نص خبزه من شيت تتنوع فصل ما لا يقضى صعب ما أطيب العرس لولا النفاقة ما بعد السماس صباغ قال المتنبي: والهجر أقتل لي من أن أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل ما بقى للسقا فالويد الكبير ما يغلك فالزق بقله ما كان أول شرط كان آخر سلامة ما بعد العصر ما ينتظر وهذا كقول الشاعر: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار ما أهين ما هو الحرب عند النظارا ما سوي ترس ولد مبارك ما يدري قيمة للشيء حتى يفقد وهذا كقول مهيار: ما كنت أعرف ما مقدار وصلكم ... حتى هجرتم وبعض الهجر تأديب فصل متى دخلت القصر قال أمس فالعصر متى يعمل أبو فسس عسل متى تريني وخرني نهار متى كان الباز نديم الرخام فصل مع من تسكن بحال تكون مع كل ريح إقلاع وهذا كقول الشاعر: صعدة نابتة في حائز ... أينما الريح تميلها تمل مع ساعتك كن وهذا كقول الشاعر: ما مضى فات والمؤمل غيب ... ولك الساعة التي أنت فيها فصل ميزت الكلب وما تميز وبر وهذا كقول الشاعر: متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام مدغ الزفت أسود على البطن مسروقة هي ذا الغنم منك فيك يؤتي عليك قال أبو فراس: فأقصاهم أقصاهم من إساءتي ... وأقربهم ممن كرهت الأقارب مشرب رحا تطحن قال للسعي جت مشغول هو الفول بنوار مر إلي مشت الحمار بأم عمر ولا الحمار رجاعت ولا أم عمرو سمع له خبر مضى الحايل وبقي الفدين منت عيش بدشيشه البارد ماعك ما تاكل قال لا وما تغرم قال ندبر فيه محمد بسراول ولد مت مع الناس ولا تمش وحدك قال الشاعر: ولو أني حبيت الخلد فردا ... لما أحببت بالخلد انفرادا ميت بلا نياح قال آخر الليل تسمع الصياح من ريح ومن بريح مدحنهم حتى سلحناهم من أمس في الرماد يقع است برغيفه محبة الرايس فالقلاع مسمعين إلي يا السلح أو أخوه متعلم قرين وقبح زبلح مسلم ضاع يهودي أحسن من مليح ويغني مشينا لمصر إن تعز صبنا الفقهاء ثم يزر منقر اللحم معوج هيت حرف النون نفس في القارب قال من سرق القيدوم نفس على الحاج صاحب المتاع فصل نحن نقرو ولش نفلح إدعي إذا نفنوا نحنا نبخروها وهي تنتن نحن نتقارب على الميس واه فطلب عقيد فصل نكونوا نفسي نسيروا صفي نمل الشجر يمشوا مع الملى ويجي مع الفروع نزل مع الجحترق الأخضر نصحنهم فما قبلوا نص غبار تكفي للأعمش نظر الله وم يعطي للمعز ذنب لش يغطي سوته قال الشاعر: فلا حسب فخرت به لتيم ... ولا جد إذا ازدحم الجدود حرف الصاد صفا ما طبخ صفا عرس سليمان من لو يسعى سعى صفا حبي من عتاب فصل صاحب بخسار عدو أحسن من صاحب مدينة فتشني عندك أحد صاحب الدابة أولى بمقدمها صاحب الحاجة أعمى قال الشاعر: صاحب الحاجة أعمى ... لا يرى إلا قضاها فصل صحبت الأسيود يشجعني برق عين وفزعني صاحب هو الأكل حتى يفتدي صدف خير من وعد صاحب العمش للمرى صار البير يعير للمهريز يقل مريا محفور قال المعري: إذا وصف الطائي بالبخل مادر ... وعير قساً بالفهاهة باقل وقال السها للشمس أنت خفية ... وقال الدجا يا ليل صبحك حائل حرف الضاد ضريبت الحبيب محبه ولو كينت بمرزبه ضربة في جنب غيرك أو في الحيط سوا ضربي هي الصخرا بالقطارا ضبة صالح إلى حمالة الناس فالسيل ضرطت لكم اغفروا لي حرف العين عاد الفاخر لداخل عاد يجي من موسى رجل على ساحل كيسك تمد رجليك على وجه البهيمة تميز زبدة على فرد است نبول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 عيشه اش معه ما تلعق على الجريز تصدق عيشه تعطي متاعه من يمناعه عينين ضراط في حميم عيني واش بكيكم عين إلا يرى قلب إن لا يوجع عنب السبيكة أسود وبارد عنب الغروس أبيض مسوس علش خطبوه قال هم يدروا عزك الرايس وعطاك دويرا فاحشا عجينة مرتين أخذ الجوع أكله عيبك أولا رد علي عش نهار تسمع خبار علة من الحنكة وأخرى من الجري وهذا كقول الشاعر: فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق عريان يجري ورا مجرد عزة الزمار يمشوا ركبان يجوا على ساقيهم عنكبوت يلعب ركض عرضت الجوهر على البصالين قالوا عندنا ما هو أجل وأنتن عود البرقوق أسود معقد عند البطون تذهب العقول عد سبع أضالع وانحر عمد يالفقون من فوق تكون عند الحقيقة تنحل البنيقة عطى للبربري شبر طلب دراع عطيه ذراع طلب مرى فاش يتمتاع وهذا كقول الشاعر: وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفس على مقدار كفيك تطلب حرف الغين غزر الشد حل غزر الذهب يحمق غزر العم يضحك غزر الجفا يقطع أصول المحبة غزر الأيدي تخرق أست النفيسة غزر الجراد يرخص القمح غزر الصحبا تسوان قال حبيب: فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد غالي السوق خير من رخيص الدار حرف الفاء في فم خالك ما تقبل وما يبقى لك في ساقي ولا في السباط في كل قرية بلية فأخر عقد يضراط النجار فالدنيا اش يندك في الآخرة نبلغ لك السليم فالأواخر تكبر المفاخر فالوجه مملاسه فالقفا مكناسه فرخ القق واحدو مطيار فرخ الصقر مبروم محروم فرخ أبو جعران لورا لورا فضول فن أكره قال أناجيت باطل فضول في رحا عبدون فدين بشريك ما ياكل من فريك فاران قلوق ما يجي من طوبه فم نحنا أي كنا وكشف العورا زياد فول في قاع مطموره قفا فحر كلب أحسن من فالأموال ولا فالأبدان فارح بأحزان فالإشارة ما يغني عن السؤال قال الشاعر: قد كان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر حرف القاف قم من المكين قد جي من هو أحسن منك قم أجدتي أنت أخف مني قال الشاعر: قيراط البخيل ألف مثقال هو قيراط للسوق وتزول شهوة الدنوق قربوا لي نعجن لكم قبل فم تنسى آخر قرد مهاود خير من غزال ان نفور قيحط لي نجبن لك قسمة حنش النصف لي والنصف بيني وبنيك قشيرة بلوط من الله يعطيك تهيك قرقول من سعا قليل ويدوم خير من كثير وينقطع قفل على مقبض قل قل للحمار سير حتى تجوز الواد قلبي عليك ملى كلفتي وترى قرابة من شوق أهل قلوق ما يطحن فارحا قصب الفول شط خاوى قبر يهودي شط ضيق قنديل الرحى لا يضيء ولا ينطفئ حرف السين سود باخفاف من الخلاف سود زنت معز فست سلامة القدر شيء محمود وهذا كقول الشاعر: ومن تعرض للغربان يزجره ... على سلامته لابد مشئوم سلامة الفنقع لا تضر ولا تنفع سبع أخوا على شربيل مرتاين وقالوا أراه على الغربة سليخة ودم وزيل الهم سوم سوعداوا سارق ويبغض السراق قال أبو الأسود الدولى: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم سعد يزوي حراك يزوى سلام عليك قال يجيك من خديك سفر فالشتا نقيمة الأعداء ساكن حلوى لين قطع سخر العاجز يرجع كاهن سيف ينير يبرق وش يقطع سوه ألم تضرا سراول يجيها الحال صعب وهذا كقول الشاعر: وما كنتم عودتم الصب جفوة ... وصعب على الإنسان ما لم يعود حرف الشين شيخ الخناقين أكبرهم أحمقهم شيوخ بجاية يحن ولاش يرحام شرى الجبن فالمراحل سعيه شرى فقيه طيب ورخيص وموصل للدار شغل العكرك لا يعجبك ولا يسرك شوكة مع عروجة يجي منها بطلان شمس الله أكثر من شقاق القصارين شقفه بلقفه شوارد جيجة شقف وخرابة شرب الخل ولا العطاله شرب الدويب يعكر المي شرارا تحرق بلاد شحم قرد لا يكل ولا يدهن به شجرة ابلش كل من يجي يعلق مزيود حرف الهاء هند غمار يعطي الجزى للرصاص هشوش ما يقضي حلفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 هم الزاس أوكد من الأضراس هم الغدى والعشى ما يتم أبدى همك ثقب الطاجين همي وهم الناس متى نفلح هم البنات للممات هرب أخزاه الله أحسن من قتل رحمه الله هو يقل اش نبت شي وهو يجرد سراول هو ولا تخبط هدرة حاوي لا تهولك هز المحسا في زر الخيل يقوم المدبر بالزوج هم عجنوها وهم يلطموها هرب إلى قاله هل أكسب مالا هل أموت غريباً وهذا كقول امرئ القيس: فقلت له لا تبك عيناك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا حرف الواو واحد مرق وآخر يسعى فيه وهذا كقول الشاعر: ولجندب سهل البلاد وعذبها ... ولي الملاح وحزنهن المجدب واحد سوط وآخر ارتعش واحد مرمي واتبع البقى واحد أمير وآخر يقود الحمير قال الشاعر: وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب واحد بمصران على دراع وآخر يقل ارم طريف للقط قال الشاعر: كعصفورة في كف طفل يسومها ... تذوق حياض الموت والطفل يلعب واحد يقود وآخر يضرب بالعود واحد يقول وآخر يزكي وصل الحمار للماء اشرب أو فلا شرب وصل الكداب لباب دار واطليق وفي الأحمق خير من عطاه وجد المقالا فقالا وجه الا يرى ألف مثقال يسوى وقع الحك وأصاب غطاه قال الشاعر: وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام وبر من است الخنزير خير ان كثير ولدي وعبدي على قرض سعدي ولدي بلا لقم بحال جنز بلا رشم حرف لام الألف لا تقل واحد حتى تحصل في العدل لا تلطم من دنا أجل لا من الكلاب ولا من الصياد لا مع الطيور ولا مع الوحوش لا ستي شيء ولا سيدي شيء لا ديري ولا حب الملوك لا است ولا طوير لا تكذب إلا على ميت وهذا كقول الشاعر: نقدت على المبرد ألف بيت ... كذاك الحي يغلب ألف ميت لا بشطاط عزيز ولا بقصر ابنته لا قربة ان تهدي ولا زبد ان يجتمع لا صبي إن يحفظ ولا أديب ان يعذر لا مع أم ولا في العرس لا حاجة إن قضينا ولا وجه ان بقينا وهذا كقول الشاعر: إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى ... فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقيا لا تلهم الدب لرمي الحجار لا ترى القرد في طلوع إلا في هبوط لا تلم العصير حتى تقلع النويله لا راحة مع عقاب لا يجاع الذيب ولا يظلم الراعي حرف الياء يبيع النهار ويشتري الليل يطلب بجاجن في اسفنج يطلب الاسفنج فأطراف الذرو يعمل من الجريح قريح يا علي بياع الدقيق يعقل يدخول بين الظفر واللحم يفرق مال على متعلمين يدخل الجنة برحمه رب يزين الحبس حتى يتمنى فيه رقدا وهذا كقول حبيب: وتكفل الأيتام على آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام يتكي على رزق بالوظف يعيش فالخنزرا باطل يا زايرين العصير أي كنتم وقت الزبير وهذا كقول الشاعر: أفي الولائم أولاد لواحدة ... وفي الكريهة أولاد لقلات يخدم جهنم ويموت بالبرد وهذا كقول الشاعر: جل حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما يخلي الصيد ويتبع الأثر يضرب في حديد ان بارد يطلب الغنيمة فالهزيمة يبني قاصر يهدم مدينة يضرب الطبل تحت الكسا يوقف زول إن ناقص للحيط يسرق مع السارق وينوح مع صاحب الدار يرقي يد لعين الشمس يغسل البول بالسلح يقسم السلح بعظم الجيفة يميم سهل يكل رزق بالسكوت يقل لك اش هنا شيء. قال الشاعر: لا لا أبوح بحب بثنة إنها ... أخذت علي مواثقاً وعهودا يجعل الله لكل شيء سبب قال الشاعر: نذم من جهلنا الدنيا وتعجبنا ... وكل شيء إلى شيء له سبب يغطي عين الشمس بسلم قال زهير المهلبي: وإني لأخفي منك ما ليس خافيا ... وأكتم وجداً مثله ليس يكتم يربى الحمار من النعايم الكبار وهذا كقول الشاعر: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا يد إن لا تقطع قبال يخرج من الورد شوكه ومن الشوكة وردة الحديقة السادسة في الحكايات الغريبة والأخبار العجيبة وفيها ثلاثة أبواب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الباب الأول في الحكايات المستطرفة والأخبار المستظرفة كان الحجاج قد استعمل مالك بن أسماء بن خارجة، على الجزيرة، وكانت أخته هند تحت الحجاج، فبلغه عنه شيء، فعزله، وبعث إلى أهل الجزيرة، وأمرهم أن يقولوا: ظلمنا، وأخذ أموالنا، فقال بعضهم لبعض: حتى الأمير يغضب عليه اليوم، ويرضى غداً، لا تتعرضوا لذلك، ولما دخلوا على الحجاج، قدموا شيخاً لهم، فسأله الحجاج عن سيرته فيهم، فأثنى عليه الشيخ خيراً، فأمر به الحجاج فضرب مائة سوط، فقال الباقون: كذب الشيخ، بل كان يظلمنا ويأخذ أموالنا فقال مالك: أيها الأمير، مثلي ومثلك، قال: قل، فقال: زعموا أنه كان أسد وذئب وثعلب، اشتركت مرة فيما تصيد، فصادت حمار وحش، وظبياً، وأرنباً، فقال الأسد للذئب: اقسم بيننا واعدل، فقال الذئب: لك الحمار، ولي الظبي، وللثعلب الأرنب، فضربه الأسد، وقطع رأسه، ووضعه بين يديه، وقال للثعلب: اقسم بيننا واعدل، فقال: الحمار لك تتغدى به، والظبي تتعشى به، والأرنب تتفكه بها فيما بين الغداء والعشاء، قال الأسد: ما أعدلك في القسمة، من علمك هذا؟ قال: الرأس الذي بين يديك، فضحك الحجاج، ورده إلى موضعه. وصعد خالد بن عبد الله القسري منبر مكة يوم الجمعة، وهو أمير الوليد بن عبد الملك، فأثنى على الحجاج خيراً، فلما كان في الجمعة الثانية، وقد مات الوليد، ورد عليه كتاب سليمان، فأمر بشتم الحجاج، وذكر عيوبه، وإظهار البراءة منه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إبليس كان يظهر من طاعة الله عز وجل، ما كانت الملائكة ترى به فضلاً، وكان الله قد علم من غشه، ما كانت الملائكة قد خفي عنها، فلما أراد الله فضيحته ابتلاه السجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه، وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له فضلاً، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين على غله وغشه، على خلاف ما أخفي عنا، فلما أراد الله فضيحته، أجرى الله ذلك على يدي أمير المؤمنين، فالعنوه، لعنه الله، ثم نزل. ومر غيلان بن خرشة الضبي مع عبد الله بن عامر، بنهر أم عبد الله الذي يشق البصرة، فقال عبد الله: ما أصلح هذا النهر لأهل البصرة، فقال غيلان: أجل، يا أمير المؤمنين، يتعلم العوم فيه صبيانهم، ويكون لسقيهم، ويأتيهم بميرهم، ثم عاد غيلان، فساير زياداً عليه، فقال زياد: ما أضر هذا النهر لأهل هذا المصر، فقال غيلان: أجل يا أمير المؤمنين، تتهدم به دورهم، وتغرق به صبيانهم، وتكثر لأجله بعوضهم. ويحكى أن حاتماً نزل به أعرابي، فبات عنده جائعاً، فلما كان في السحر ركب وانصرف، فتقدمه حاتم، فلما خرج من بيت البيوت لقيه حاتم متنكراً، فقال له: أين كان بيتك البارحة؟ فقال: عند حاتم، فقال: فكيف كان؟ فقال: خير مبيت، نحر لي ناقة، فأطعمني اللحم، وسقاني الخمر، وعلف راحلتي، وسرت من عنده بخير حال، فقال له: أنا حاتم، والله، لا تبرح حتى ترى ما وصفت، فرده، وقال له: ما حملك على الكذب؟ فقال له الأعرابي: إن الناس كلهم يثنون عليك بالجود، فلو قلت شراً، لكذبوني، فرجعت مضطراً إلى قولهم؛ إبقاء على نفسي، لا عليك. وأمر الوليد بن يزيد بحمل ابن شراعة من الكوفة، فلما قدم عليه قال: يا ابن شراعة، والله، ما أرسلت من الكوفة إليك؛ لأسألك عن كتاب الله، وسنة نبيه، قال: يا أمير المؤمنين، لو سألتني عنهما لوجدتني حماراً، قال: أرسلت إليك؛ لأسألك عن الفتوة، قال: أنا دهقانها الحكيم، وطبيها العليم فسل عما بدا لك، قال: أخبرني عن الماء، قال: لابد لي منه، والكلب والجمل يشاركاني فيه، قال: فما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته إلا استحيت من أمي لطول ما أرضعتني إياه، قال: فالسويق؟ قال: شراب المحرور، والمسافر العجلان، قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: مرعى، ولا كالسعدان، قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش، ضراط كله، قال: فما تقول في الخمر؟ قال: تلك صديقة روحي، جلت عن المثل، تلك التي تزيد الدم إشراقاً، قال: وأنت يا ابن شراعة صديقي، إجلس، أي الطعام أحب إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين، ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم، غير أن أنفعه أدسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وكان أعرابي قد تعشق جارية، فقيل له: ما كنت صانعاً، لو ظفرت بها، ولا يراكما غير الله؟ قال: إذن، والله، لا أجعله أهون الناظرين، لكني كنت أفعل بها ما كنت أفعله بحضرة أهلها، شكوى، وحديث عذب، وأعراض عما يسخط الرب، ويقطع وصل المحبوب، إذا سمح لمثال هذا، فعصيان النصيح واجب. وحكي عن بشار الطفيلي أنه قال: رحلت إلى البصرة، فلما دخلتها، قيل لي: إن هنا عريفاً للطفيليين، يبرهم ويكسوهم، ويرشدهم إلى الأعمال، ويقاسمهم، فسرت إليه فبرني وكساني، وأقمت معه ثلاثة أيام، وله خلق يأتونه بما يأخذون، فيأخذ النصف ويعطيهم النصف، فوجهني معهم في اليوم الرابع، فحصلت في وليمة، فأكلت وأخذت شيئاً كثيراً، فجئته به، فأخذ النصف وأعطاني النصف، فبعت ما وقع لي بدراهم، فلم أزل على هذا أياماً، ثم دخلت يوماً على عرس جليل، فأكلت، وخرجت بشيء كثير، فجئته به وأعطاني النصف، فلقيني إنسان، فاشتراه مني بدينار، فأخذته وكتمت أمره، وأخذ جماعة الطفيليين وقال: إن هذا الطفيلي البغدادي خان، وظن أني لا أعلم ما فعل، فاصفعوه وعرفوه ما كتمنا، فأجلسوني شئت أم أبيت، فما زالوا يصفعوني واحداً بعد واحد، يصفعني الأول منهم ويشتم يدي ويقول: أكلت مصيرة، ويصفعني الآخر ويشم يدي ويقول: أكلت بقيلة، حتى ذكروا كل شيء أكلته، ما غلطوا بزيادة ولا بنقصان، ثم صفعني شيخ منهم صفعة عظيمة وقال: بعت ما أخذت بدينار، وصفعني آخر وقال: هات الدينار، فدفعته إليه، وجردوني الثياب التي أعطانيها، وقال: أخرج يا خائن في غير حفظ الله، فخرجت إلى بغداد، وحلفت ألا أقيم ببلد، طفيليوها يعلمون الغيب. وكان إبراهيم بن المدبر عاملاً على البصرة، وكان له ندماء، لا يأنس بغيرهم، وكل واحد منهم منفرد بنوع من العلم، وكان طفيلي يعرف بابن الدراج، من أكمل الناس أدباً وأخفهم روحاً، فاحتال ودخل في جملة الندماء، ودخل إبراهيم فرآه، فقال لحاجبه: قل لذلك الرجل: ألك حاجة؟ فسقط في يد الحاجب، وعلم أن الحيلة تمت عليه، وأنه لا يرضى ابن المدبر من عقوبته إلا بقتله، فمر يجرر رجليه، فقال له: يقول لك الأستاذ: ألك حاجة؟ فقال: قل له: لا، فأدخله عليهم، فقال له: أنت طفيلي؟ فقال: نعم، أصلحك الله، فقال: إن الطفيلي يحتمل في دخوله بخصال، منها أن يكون لاعباً بالشطرنج، أو بالنرد، أو ضارباً بالعود، أو بالطنبور، فقال: أيدك الله، أنا لما ذكرته في الطبقة العليا، فقال لبعض الندماء: لاعبه بالشطرنج، قال: أعزك الله فإن غلبت؟ قال: أخرجناك، قال: وإن غلبت، قال: أعطيناك ألف درهم قال: أحضرها؛ فإن في حضورها قوة للنفس، فلعبا، فغلب الطفيلي، ومد يده لأخذ الدراهم، فقال الحاجب: أعزك الله، ذكر أنه في الطبقة العليا، وإن غلامك فلاناً يغلبه، فحضر الغلام فغلبه، فقيل له: انصرف، فقال: أحضروا النرد، فلوعب به فغلب الطفيلي، فقال الحاجب: لكن فلاناً بوابنا يغلبه، فأحضر البواب فغلبه فقيل له: أخرج. فقال: علي بالعود، فأعطى عوداً، فضرب فأصاب، وغنى فأطرب، فقال الحاجب: يا سيدي، إن في جوارنا شيخاً يعلم القيان، هو أحسن منه، فأحضر، فكان أطيب منه، فقيل له: أخرج، فقال: فالطنبور، فأحضر، فضرب ضرباً لم ير أحسن منه، فقال الحاجب: إن فلاناً أطيب منه، فأحضر، فكان أحذق منه، فقال ابن المدبر: قد تقصينا لك بكل جهد، فأبت حرفتك إلا طرحك، قال: يا سيدي، بقيت معي فائدة حسنة، قال: وما هي؟ قال: تأمر أن تحضر قوس بندق، مع خمسين بندقة من رصاص، ويقام هذا الحاجب، فأرميه في دبره، فإن أخطأته بواحدة، فاضرب عنقي، فضج الحاجب، ووجد ابن المدبر شفاه نفسه في عقوبته، فأمر بخشبتين، وشد الحاجب فوقهما، وأعطى الطفيلي القوس، فرماه بخمسين بندقة، فما أخطأ دبره بواحدة، وخلا الحاجب يتأوه لما به، فقال له الطفيلي: يا قرنان هل على باب الأستاذ من يحسن شيئاً من هذا؟ فقال له الحاجب: أما ما دام الغرض استي، فلا، وذهب الضحك بابن المدبر وأصحابه كل مذهب، ثم أعطاه ألف درهم، وانصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وصاحب طفيلي رجلاً في السفر، فلما نزلوا ببعض المنازل، قال له الرجل: خذ درهماً، وامض اشتر لنا لحماً، فقال الطفيلي: إني متعب، والله، ما أقدر، فمضى الرجل واشتراه، ثم قال للطفيلي: قم فاطبخه، قال: لا أحسن، فطبخ الرجل ثم قال له: قم فأثرد، فقال: أنا والله كسلان، فثرد الرجل، ثم قال له: قم الآن، فاغرفه، قال: أخشى أن ينقلب على ثيابي، فغرف الرجل حتى ارتوى الثريد، ثم قال له: قم الآن فكل، فقال: نعم، إلى متى هذا الخلاف، قد، والله، استحييت من كثرة خلافي عليك، وتقدم فأكل. ووجه المأمون في جماعة من زنادقة البصرة، فجمعوا، فرآهم طفيلي، فمضى معهم، فأدخلوا في سفينة، فمضى معهم، وجيء بالقيود فقيد معهم، فقال: هذا آخر تطفيلي وأقبل عليهم فقال: فديتكم، أي شيء أنتم؟ قالوا له: بل من أنت، وهل أنت من أصحابنا؟ قال: والله، ما أعرفكم، غير أني طفيلي، خرجت من منزلي، فرأيت منظراً جميلاً، ونعمة ظاهرة، فقلت: شيوخ وكهول وشبان، ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع، فدخلت وسطكم، كأني أحدكم إلى هذا الزورق، فرأيته قد فرش ومهد، ورأيت سفراً مملوءة، فقلت: نزهة إلى بعض البساتين، إن هذا اليوم يوم مبارك، فزدت ابتهاجاً، إلى أن جاء هذا الموكل بكم، فقيدكم فطار عقلي، فما الخبر؟ فضحكوا وفرحوا به، وقالوا له: قد حصلت في الإحصاء، ونحن مانية على مذهب ماني القائل بالنور والظلمة، نسير إلى المأمون، فيسألنا عن مذهبنا، ويدعونا إلى التوبة، ويظهر لنا صورة ماني، ويأمرنا أن نبصق عليها، ونتبرأ منها، فمن أجابه نجا، ومن لم يجبه قتل، فإذا دعيت فأخبره باعتقادك، وللطفيلي مداخلات وأخبار، فاقطع سفرنا بها، فكان كذلك، فلما دخلوا على المأمون دعاهم بأسمائهم وامتحنهم، فأمر عليهم بالسيف، وبقي الطفيلي، وقد استوعب العدة، فسأل الموكلين بهم، فقالوا: وجدناه معهم، فجئنا به، فقال له: ما خبرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق، إن كنت أعرف من أقوالهم شيئاً، وإ، ما أنا رجل طفيلي، ثم قص قصته معهم، فضحك المأمون كثيراً، ثم أظهر له الصورة فلعنها، وتبرأ منها، وقال: أعطوها لي؛ حتى أسلح عليها، والله، ما أدري ما ماني، أيهودي هو أم مسلم؟ فقال المأمون: يؤدب على فرط تطفيله، ومخاطرته بنفسه، فقال: يا أمير المؤمنين، بحياتك، إن كنت ولابد عازماً، فاجعل السياط كلها على بطني، فهي التي حملتني على هذا الغرر، فعاد إلى الضحك، وكان إبراهيم بن المدبر واقفاً على رأسه، فاستوهبه منه بحديث في تطفيله، يذكر في باب الحكايات ذوات الأشعار. وحكى المبرد قال: كان بالبصرة طفيلي مشهور، وكان ذا أدب، فمر على قوم عندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي، فأنكره صاحب المنزل، فقالوا له: لو صبرت يا هذا حتى يؤذن لك، لكان أحسن لأدبك، وأجمل لمروءتك، فقال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، والحشمة قطيعة، واطرحها صلة، وقد جاء في بعض الآثار: صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك. وكان ملك من ملوك فارس، له وزير مجرب حازم، فكان يتعرف اليمن في مشورته، فهلك الملك، وأقام ابنه بعده، فلم يرفع له رأساً، فذكر له مكانته من أبيه، فقال: كان أبي يغلط فيه، وسأريكم ذلك، فأحضره، وقال له: أيهما أغلب، الأدب أو الطبيعة؟ فقال: الطبيعة؛ لأنها أصل، والأدب فرع، وكل فرع يرجع إلى أصله، فدعا الملك بسفرة، فوضعت، وأقبلت سنافير معلمة، بأيديها الشمع، فوقفت حول السفرة، فقال له: اعتبر خطأك، وضعف مذهبك، حتى كان أبو هذه السنانير شماعاً؟ فقال له: أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة، قال: ذلك لك، وخرج الوزير، وأمر غلامه أن يسوق له فأرة، فساقها له حية، فربطت بخيط، فلما راح إلى الملك وضعها في كمه ودخل، فأحضرت السفرة والسنانير بالشمع، فألقى لها الوزير الفأرة، فاستقبلت إليها، فتطايرت الشمع، حتى كاد البيت يضطرم عليهم ناراً، فقال للملك: كيف رأيت، غلبت الطبيعة الأدب؟ قال: صدقت، ورجع إلى ما كان عليه أبوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وخرج فتيان في صيد لهم، فأثاروا ضبعاً فنفرت ومرت، واتبعوها فلجأت إلى خباء لهم، فخرج لهم بالسيف منصلتا، فقالوا له: يا أبا عباد الله، لم تمنعنا من صيدنا؟ فقال: إنها استجارت بي، فخلوا بيني وبينها، فخلوا بينه وبينها، فنظر إليها مهزولة مضرورة، فجعل يسقيها اللبن صباحاً ومساء، حتى سمنت وحسن حالها، فبينا هو ذات يوم متجرد، إذ عدت عليه فشقت بطنه وشربت دمه. وحكى الفنجديهي بسنده إلى أبي محمد الحسن بن إسماعيل قال: كنت قاعداً أنسخ وبين يدي قدح فيه ماء، وطبق فيه كعك وزبيب ولوز، فجاءت فأرة، فأخذت لوزة ومضت، ثم عادت فأخذت أخرى، ففرغت الماء الذي في القدح، فعادت الفأرة فكببت القدح عليها، واشتغلت بشغلي بساعة، فإذا فأرة أخرى قد جاءت فدارت حول القدح، فشقشقت وبقيت ساعة على ذلك، والفأرة الأخرى تشقشق من داخل القدح، فلم تجد حيلة في خلاصها فمضت وأتت بدينار فوضعته ووقفت، ولم أرفع القداح عن الفأرة فمضت وأتت بدينار آخر ووقفت، فلم أرفع القدح ففعلت ذلك إلى أن أتت بسبعة دنانير، ووقفت ساعة فلم أرفع القدح عن الفأرة فمضت، واتت بقرطاس فارغ فعلمت أنها لم يبق عندها شيء، فخليت عن الفأرة. ودخل أبو يوسف القاضي على الرشيد ومعه الكسائي، وهما في مذاكرة وممازحة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الكوفي قد غلب عليك، فقال: يا أبا يوسف، إنه ليأتيني بأشياء، يشتمل عليها قلبي، ويأخذ بمجامعه، فقال الكسائي: يا أبا يوسف هل لك في مسألة؟ فقال: في نحو أو فقه؟ فقال: بل في فقه، فضحك الرشيد، وقال: تلقي على أبي يوسف الفقه؟ قال: نعم، قال: يا أبا يوسف، ما تقول في رجل قال لزوجه: أنت طالق إن دخلت الدار؟ قال: إذا دخلت طلقت، قال: أخطأت يا أبا يوسف، فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟ فقال: إذا قال: أن وجب الفعل ووقع الطلاق، دخلت الدار بعد أو لم تدخل؟ وإن قال: إن بالكسر لم يجب ولم يقع الطلاق، حتى تدخل الدار. وكان لرجل عند الحجاج حاجة، فوصف له بالجهل والحمق، فأراد أن يختبره، فقال له: أعصامي أنت أم عظامي؟ فقال له الرجل: عصامي عظامي، فظن الحجاج أنه يريد: أفتخر بنفسي بفضلي، وبآبائي لشرفهم، فقال: هذا من أفضل الناس وقضى حاجته، ثم جربه بعد ذلك، فوجده أجهل الناس وأحمقهم فقال له: لم أصدقني، وإلا قتلتك، كيف أجبتني لما سألتك بعصامي وعظامي؟ فقال له الرجل: لم أعلم معناهما، فخشيت أن أقول أحدهما، فأخطئ، فقلت في نفسي: أقول بهما معاً، فإن ضرني أحدهما، نفعني الآخر، فقال الحجاج: المنابر تصير الغبي خطيباً، فذهبت مثلاً. والعصامي هو الذي يسود بنفسه، والعظامي هو الذي يفتخر بآبائه الذين صاروا عظاماً. ويحكى أن حامد بن العباس سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة عن دواء الثمل، فأعرض عن كلامه، فقال: ما لنا وهذه المسألة، فخجل حامد منه، ثم التفت إلى القاضي أبي عمرو، فسأله عن ذلك، فتنحنح القاضي لإضلاح صوت، ثم قال: قال سبحانه: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ، وقال الرسول عليه السلام: "استعينوا في الصناعات بأهلها" والأعشى هو المشهور بالخمر في الجاهلية، وقد قال: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها ثم تلاه أبو نواس في الإسلام فقال: دع عنك لومي؛ فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء فأسفر وجه حامد، وقال لعلي بن عيسى: ما ضرك يا بارد، أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في المسألة بقول الله أولاً، ثم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثانياً، وبين الفتيا وأدى المعنى، فكان خجل علي بن عيسى من حامد بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه، لما ابتدأه بالمسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ويحكى عن أمية بن أبي الصلت، أنه كان يشرب مع إخوان له في قصر غيلان بالطائف، إذ سقط غراب على شرفات القصر، فصاح صيحة، فقال له أمية: بغيك التراب، فقال له أصحابه: ما يقول؟ قال: يقول: إذا شربت الكأس التي بيدك مت، ثم صاح صيحة، فال أمية مثل ذلك، فقالوا له: ما يقول؟ قال: زعم أن علامة ذلك أن يقع غراب على تلك المزبلة أسفل القصر، فيأخذ عظماً، فيجش به فيموت، فبينما هم يتكلمون إذ وقع الغراب على المزبلة ليلتقط، فأخذ عظماً، فأراد أن يبتلعه، فجشي به فمات، فانتكس أمية، ووضع الكأس من يده وتغير لونه، فجعلوا يغيرون عليه ويقولون: ما أكثر ما سمعنا بمثل هذا، وكان باطلاً، فألحوا عليه حتى يشرب الكأس، فمال فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ثم فاضت نفسه. وحكى الأصمعي قال: وجه عبد الملك بن مروان الشعبي إلى بعض ملوك الروم في بعض الأمر، فاستكبر الشعبي، فقال له: من بيت عبد الملك أنت؟ قال: لا، فلما أراد الرجوع إلى عبد الملك حمله رقعة لطيفة، وقال له: إذا بلغت صاحبك جميع ما يحتاج إلى معرفته من ناحيتنا، فادفع له هذه الرقعة، فلما رجع إلى عبد الملك ذكر له ما احتاج إلى ذكره ونهض، فلما خرج ذكر الرقعة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه حملني إليك رقعة أنسيتها فدفعها إليه ونهض، فقرأها عبد الملك وأمر برده، فقال له: أعلمت ما في الرقعة؟ قال: لا، قال: قد عجبت من العرب كيف لم تملك مثل هذا؟ أفتدري لم كتب إلي بمثل هذا؟ قال: لا، قال: حسدني فيك فأراد أن يغريني بقتلك، فقال: لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني، فبلغ ذلك ملك الروم وما قال عبد الملك، فقال: لله أبوه، والله، ما أردت إلا ذلك. وقال الأصمعي: أتي عبد الملك بن مروان برجل، كان مع بعض من خرج عليه فقال: اضربوا عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا جزائي منك، قال: وما جزاؤك؟ قال: والله، ما خرجت مع فلان إلا بالتطير لك، وذلك أني رجل مشئوم، ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم، وقد بان لك صحة ما ادعيت، وكنت عليك خيراً من مائة ألف معك فضحك، وخلى سبيله. وقال دعبل: كنا يوماً عند سهل بن هارون وأطلنا الحديث، حتى أضر بنا الجوع، فدعا بغدائه، فإذا بصحفة فيها مرق ولحم ديك قد هرم، حتى ما يقطع فيه سكين ولا تؤثر فيه ضرس، فأخذ قطعة من خبز، وحرك المرق بها، ففقد الرأس، فبقي مطرقاً ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام فقال: أين الرأس؟ قال: رميت به، قال: ولم؟ قال: ظننتك أنك لا تأكله، قال: ولم ظننت ذلك؟ فوالله إني لأمقت من يرمي برجله فضلاً عن رأسه، والرأس رئيس الأعضاء، وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، وفيه عيناه، وبهما يضرب المثل فيقال: شراب مثل عين الديك، ودماغه عجيب لوجع الكلية، فإن كان قد بلغ من جهلك أني لا آكله، فإن عندنا من يأكله، انظر: أين هو؟ قال: والله، ما أدري أين رميت به؟ قال: أنا والله، أدري، رميت به في بطنك. وروي أن رجلاً كان جاراً لأبي دلف ببغداد، فأدركته حاجة وركبه دين حتى احتاج إلى بيع داره، فساموه فيها، فسألهم ألف دينار، فقالوا: إن دارك تساوي خمسمائة دينار، فقال: أبيع داري بخمسمائة دينار، وجوار أبي دلف بخمسمائة دينار، فبلغ أبا دلف الخبر، فأمر بقضاء دينه ووصله، وقال: لا تنتقل من جوارنا. وكان الأعمش كثير الضجر والتبرم، فكثر عليه الشعر، فقال له تلامذته: لو أخذت من شعرك، فقال: لا نجد حجاماً يسكت، قالوا: نأتيك به، ونأخذ عليه أن يسكت حتى يفرغ، قال: افعلوا، فأتي بحجام، ووصي ألا يكلمه، فبدأ بحلقه فلما أمعن سأله عن مسألة، فنفض ثيابه، وقام بنصف رأسه محلوقاً حتى دخل بيته، فأخرج الحجام وأتي بغيره، فقال: والله، لا أخرج حتى تحلفوه، فحلف ألا يسأله، وحينئذ خرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقال سهل بن سعد الساعدي: دخلت على جميل بمصر أعوده في مرضه الذي مات منه، فقال: يا ابن سعد، ما تقول في رجل لم يزن قط، ولم يشرب خمراً قط، ولم يقتل نفساً قط، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ فقلت: أظنه قد نجا، فمن هذا الرجل؟ قال: إني أرجو أن أكونه، فتضاحكت وقلت: أبعد عشرين سنة تأتي بثينة وتقول فيها الأشعار؟ والله، ما سلمت من قول الناس، قال: إني لفي آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فلا نالتني شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إن كنت حدثت نفسي بحرام قط، فضلاً عما وراء ذلك. ويروى أن امرأة معن بن زائدة عاتبت معناً في يزيد بن مزيد، وقالت له: إنه لتقدمه وتؤخر بنيك، ولو رفعتهم لارتفعوا، فقال لها معن: لم تبعد رحمة ولي حكم الوالد، إذ كنت عمه، وبعد، فإنهم أعلق بقلبي وأدنى من نفسي، بقدر ما توجبه الولادة، ولكني لا أجد عندهم ما أجده عنده، يا غلام: ادع جساساً وعبد الله وزائدة، فلم يلبث أن جاءوا في القلائد والغلائل المطيبة والنعال السندية، بعد هدأه من الليل فسلموا وجلسوا، وقال: يا غلام ادع يزيد، وقد أسبل ستراً بينه وبين المرأة، وإذا بيزيد قد دخل عجلاً، عليه السلاح كله، ووضع رمحه بباب المجلس، ثم دخل يتبختر، فلما رآه معن قال: ما هذه الهيئة يا أبا الزبير؟ قال: جاءني رسول الأمير، فسبق لنفسي أنه يريدني لوجه، وقلت: إن كان ذلك مضيت، ولم أعرج، وإن كان خلافه فنزع هذه الآلة أيسر الخطب، قال له معن: وريت بك زندي، انصرف في حفظ الله، فقالت امرأة معن: قد بان لي اختيارك. ولما بعث عبد الملك الحجاج والياً على العراق، أتى الكوفة، وصعد المنبر، وهو متلثم متنكب قوسه، فقال: يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم، فلم يقل أحد شيئاً، فقال الحجاج: اسكت، يا غلام، هذا أدب ابن بهية، والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمن، اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المجلس إلا وقال: وعلى أمير المؤمنين السلام، ثم نزل. وقال الشيباني: كان رجل من أهل الكوفة قد بلغه عن رجل من عمال السلطان أنه يعرض صنيعة له بواسط للبيع، في مغرم لزمه للخليفة، فحمل وكيلاً له على بغل، وأعطاه خرجاً بدنانير، وقال له: اذهب إلى واسط؛ فاشتر هذه الصنيعة المعروضة، فلما خرج عن البيوت لحق به أعرابي، على حمار له، معه قوس وكنانة، فقال له: إلى أين تتوجه؟ قال: إلى واسط، قال: فهل لك في الصحبة؟ قال: نعم، فسارا حتى رأوا ظباء عنت لهما، فقال الأعرابي: أي الظباء أحب إليك، المتقدم منها أم المتأخر فأذكيه لك؟ قال: المتقدم، فرماه بالسهم فاقتضه، فاشتويا وأكلا، واغتبط الرجل بصحبته، ثم عرض لهما سرب قطاة، فقال: أيها تريد؟ فأشار إلى واحدة منها، فرماها فلم يخطئها ثم اشتويا وأكلا، فلما انقضى أكلهما، فجعل الأعرابي سهماً على القوس، ثم قال: أين تريد أن أصيبك؟ قال: اتق الله، واحفظ ذمام الصحبة، قال: لابد من ذلك، قال: اتق الله واستبقني، ودونك البغل والخرج فإنه مترع مالاً، قال: فاخلع ثيابك، فانسلخ من ثيابه ثوباً ثوباً، حتى بقي مجرداً فقال له: اخلع خفيك، قال له: اتق الله، ودع لي الخفين؛ فإن الرمضاء تحرق قدمي، قال: لابد من ذلك، قال: فدونك الخف فاخلعه، فوضع القوس وتناول الخف، وذكر الرجل خنجراً كان معه في الخف الآخر، فاستخرجه، فضرب به صدره، فشقه إلى عانته وقال: الاستقصاء فرقة، فذهبت مثلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ودخل أبو دلامة على المهدي، فأنشده أبياتاً أعجب بها، فقال له: سلني أبا دلامة، واحتكم ما شئت، قال: كلب، يا أمير المؤمنين أصطاد به، قال: قد أمرنا لك بكلب، وها هنا بغلت همتك، وإلى ها هنا انتهت أمنيتك؟ قال: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، فإنه بقي علي، قال: وما بقي عليك؟ قال: فرس أركبه، قال: قد أمرنا لك بفرس تركبه، قال: وغلام يقود الكلب، قال: وغلام يقود الكلب، قال: وخادم يطبخ لنا الصيد، قال: وخادم يطبخ لك الصيد، قال: ودار نسكنها، قال: ودار تسكنها قال: وجارية آوي إليها، قال: وجارية تأوي إليها، قال: بقي الآن المعاش، قال: قد أقطعناك ألف جريب عامرة، وألف جريب غامرة، قال: وما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: التي لا تعمر، قال: أنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد، قال: قد جعلناها لك عامرة كلها، قال: فيأذن لي أمير المؤمنين في تقبيل يده؟ قال: أما هذه فدعها، قال: ما نفعتني شيئاً أيسر على أم عيالي من هذا. وحكي أن سائلاً أتى عبد الله بن عباس، وهو لا يعرفه، فقال له: تصدق فإني نبئت أن عبد الله بن عباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه، فقال له: وأين أنا من عبد الله؟ قال له: أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال؟ قال: فيهما جميعاً، قال: أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت، وإذا فعلت كنت حسيباً، فأعطاه ألفي درهم واعتذر له من ضيق نفقته، فقال له السائل: إن لم تكن عبد الله فأنت خير منه، وإن تكن إياه فأنت اليوم خير منك أمس، فأعطاه ألفاً آخر، فقال السائل هذه هزة حسب كريم. وبعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعية وكلاب وثياب من ثياب الهند، فلما أتاه الرسل بالمدينة، أمر الأتراك فصفوا صفين، ولبسوا الحديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق، وأذن للرسل فدخلوا عليه، فقال لهم: ما جئتم به؟ فقالوا له: هذه أشرف كسوة بلادنا، فأمر الرشيد أن يقطع منها أجلالاً لخيله فصلب الرسل على وجوههم ونكسوا رءوسهم، ثم قال لهم: ما عندكم غير هذا؟ قالوا: هذه سيوف قلعية لا نظير لها، فدعا الرشيد أن يؤتى بالصمصامة سيف عمرو بن معدي كرب، فقطعت به السيوف بين يديه سيفاً سيفاً كما يقطع الفجل، ثم عرضت عليهم الصمصامة، فإذا هي لا فل فيها، فنكس القوم رءوسهم، ثم قال: ما عندكم؟ قالوا: هذه كلاب، لا يبقى لها سبع إلا عقرته، قال لهم الرشيد: إن عندي سبعاً، فإن عقرته، فهي كما ذكرتهم، ثم أمر بالأسد فأخرج، فلما نظروا إليهم هالهم، وقالوا: ليس عندنا مثل هذا السبع، قال: هذه سباع بلادنا، قالوا: فنرسلها عليه، وكانت الأكلب ثلاثة، فأرسلت عليه فمزقته، فأعجب الرشيد بها، وقال لهم: تمنوا في هذه الكلاب ما شئتم، قالوا: ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به سيوفنا، قال لهم: هذا ما لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح، ولولا ذلك ما بخلنا به عليكم، ثم أمر لهم بتحف كثيرة، وأحسن جائزتهم. وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؛ قال: من قيس بن عاصم المنقري، رأيته قاعداً بفناء داره، متحبياً بحمائل سيفه يحدث قومه، حتى أتي برجل مكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك، قال: فوالله ما حل حبوته، ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه، فقال: يا ابن أخي، أثمت بربك، ورميت بسهمك، وقتلت ابن عمك، ثم قال لابن آخر: قم يا بني، فوار أخاك، وحل كتاف ابن عمك، وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها؛ فإنها فينا غريبة. وقال الشيباني: خرج أمير المؤمنين أبو العباس متنزهاً، فأمعن في نزهته، وانتبذ من أصحابه، فوافى خباء لأعرابي، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ قال: من كنانة، قال: من أي كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة، قال: فأنت إذن من قريش، قال: نعم، قال: فمن أي قريش؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش؟ قال: فأنت إذن من ولد عبد المطلب، قال: نعم، قال: فمن أي ولد عبد المطلب؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى عبد المطلب، قال: فأنت إذن أمير المؤمنين، السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فاستحسن ما رأى منه، وأمر له بجائزة عظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وكان ابن الرومي الشاعر كثير التطير، فقرع البحتري يوماً عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقال البحتري: سخط الحي القيوم، والمهل والغسلين والزقوم، يأخذ جميع الردم، وكل بلاء كان أو يكون إلى يوم الدين، فأغلق ابن الرومي بابه ولزم داره، فسأل عنه الموفق، فقيل له: في سجن البحتري وحده القصة. وقيل لأبي أيوب صاحب المنصور: إنا نراك إذا دعاك أمير المؤمنين يتغير وجهك، ويضطرب حالك، فقال: مثلي معكم كباز قال لديك: ما رأيت أشر منك، تكون عند قوم من صغرك إلى كبرك، يطعمونك ويسقونك. فإذا أرادوا في وقت من الأوقات ينتقلون من دار إلى دار، وطلبوا أن ينقلوك معهم لم تمكنهم من نفسك إلا بعد جهد شديد، وأنا يرسلونني في الصحارى التي فيها ربيت والمواضع التي فيها نشأت، فأرجع إليهم، وأصيد طعمهم ولا أحتاج إليهم، قال له الديك: أنت لم تر قط بازاً في سفود، وأنا قد رأيت عشرين ديكاً في سفود مراراً كثيرة. وحكى بعضهم قال: كانت أعرابية تحاجي الرجال، فلا يكاد أحد يغلبها، فأتاها جني في صورة إنسان، فقال لها: أحاجيك؟ قالت: قل، قال: كاد العروس أن يكون أميراً، قال: كاد، قالت: كاد المنتعل يكون راكباً، قال: كاد، قالت: كاد النعام يكون طائراً، قال: كاد، قالت: كاد الفقر يكون كفراً، قال: كاد، قالت: كاد المريب يقول خذوني، ثم أمسك، فقالت له: جاوبتك، فأين جوابي؟ فقال لها: قولي، فقالت: عجبت، قال: عجبت للسبخة كيف لا يجف ثراها، ولا ينبت مرعاها، فقالت: عجبت، قال: عجبت للحصى، كيف لا يكبر صغيره، ولا يهرم كبيره، فقالت: عجيب، قال: عجبت لحفرة بين فخذيك، كيف لا يدرك قعرها، ولا يمل حفرها، قال: فخجلت من جوابه، ولم تعد إلى ما كانت عليه. ودخل سارق دار تاجر، وكان التاجر غائباً، واستخفى، ثم دخل آخر واستخفى، ولا يعلم الأول بالثاني، فلما جن الليل خرج السارق الأول، فذبح الخادم، ودخل على المرأة، وقال لها: هات ما عندك، فأحضرت له جميع مالها وحليها وحلفت له أن ذلك جميع ما على ملكها، فأراد ذبحها، فقالت: ولأي شيء تفعل هذا؟ وقد أعطيتك جميع ما عندي، فقال لها: لا يؤكل مال حي، وعزم على قتلها فبكت وخضعت، فأشفق عليها السارق الثاني، وخرج عليه بسرعة، فقتله، فدهشت منه، فقال لها: لا خوف عليك، والله، لا آخذ لك شيئاً، فناوليني فأساً أو مسحاة، فناولته، فحفر في الدار، ودفن السارق والخادم، وأراد الخروج، فرغبت إليه في معرفة موضعه، فعرفها لما جاء زوجها عرفته بما كان في غيبته، فمضى إليه وقاسمه ماله، وكان صديقه إلى الموت. وحكى الحسن بن خضر عن أبيه قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس، اختفى رجل من بني أمية يقال له: إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك حتى أخذ له أمان من بني العباس، فقال له أبو العباس يوماً: حدثني عما مر بك في اختفائك، فقال: كنت يا أمير المؤمنين متخفياً بالحيرة في منزل على الصحراء، فبينا أنا ذات يوم على باب بيتي، إذ نظرت إلى أعلام سود، قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في نفسي أنها تريدني، فخرجت متنكراً، حتى دخلت الكوفة، ولا أعرف بها أحداً، فبقيت متحيراً، فإذا أنا بباب ورحبة واسعة، فدخلت الرحبة فجلست فيها فإذا رجل وسيم الوجه، حسن الهيئة على فرس، فدخل ومعه جماعة من أصحابه وأتباعه، فقال: من أنت وما حاجتك؟ فقلت: رجل يخاف على دمه، واستجار بمنزلك، قال: فصيرني في حجرة تلي حرمه، فمكثت عنده حولاً كاملاً في كل ما أحببت من مطعوم ومشروب وملبوس، لا يسألني عن شيء من مال ويركب في كل يوم، فقلت له يوماً: أراك تدمن الركوب، ففيم ذلك؟ فقال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبراً، وقد بلغني عنه أنه مختف، فأنا أطلبه، فقلت: يا هذا، قد وجب حقك علي، ومن حقك أن أقرب عليك الخطوة، قال: وما ذلك؟ قال: أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك، فخذ بثأرك، فأطرق ملياً، ثم قال: أما أنت فستلقى أبي، فيأخذ بحقه منك، وأما أنا فغير مخفر ذمني، فاخرج عني؛ فلست آمن نفسي عليك، فأعطاني ألف دينار، فلم أقبلها منه، وخرجت عنه، فهذا أكرم رجل رأيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقال أبو الربيع البغدادي: كان في جوار أبي عمر القاضي رجل ظهر في يده مال جليل بعد فقر طويل، قال: فسألته عن أمره، فقال: ورثت مالاً جليلاً، فأسرعت في إتلافه، حتى أفضيت إلى بيع أثاث داري، ولم يبق لي حيلة، وبقيت لا قوت عندي إلا من غزل أم أولادي، فتمنيت الموت، فرأيت ليلة من الليالي كأن قائلاً يقول لي: غناؤك بمصر فاخرج إليه، فبكرت إلى أبي عمر القاضي وتوسلت إليه بالجواب في كتب إلى مصر ففعل وخرجت، فلما وصلت مصر، ودفعت الكتب وسألت التعريف، فسد الله علي الوجوه، ونفدت نفقتي، وبقيت متحيراً، وتفكرت في أن أسأل الناس بين العشاءين، فخرجت أمشي في الطريق، ونفسي تأبى المسألة، إلى أن مضى من الليل كثير، فلقيني الطائف، فقبض علي، ووجدني غريباً، فأنكر حالي وسألني فقلت: رجل ضعيف، فلم يصدقني، وضربني بمقارع فصحت وقلت: أنا أصدقك، فقالت: هات، فقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها وحديث المنام، فقال لي: أنت أحمق، والله، لقد رأيت منذ كذا وكذا سنة في النوم قائلاً لي: ببغداد في الشارع الفلاني، في المحلة الفلانية مال، فذكر شارعي ومحلتي، ثم قال: دار يقال لها دار فلان، فذكر داري واسمي، وفيها بستان فيه سدرة، تحتها مدفون ثلاثون ألف دينار، فامض فخذها، فما فكرت في هذا الحديث ولا التفت إليه، قال: فقوي قلبي بذلك الحديث، فأطلق عني، فخرجت من مصر إلى بغداد، وقلعت السدرة، فوجدت تحتها ثلاثين ألف دينار، فأنا أعيش فيها. وقال أبو المثنى: كنت أمشي يوماً بين يدي رجل على رأسه قفص زجاج وهو مضطرب المشي، فما زلت أرتقب وقوعه، فزلق وتكسر القفص، وتلف جميع ما فيه، فبهت الرجل وأخذ يبكي، ويقول: هذا والله، جميع بضاعتي، ووالله، لقد أصابتني بمكة مصيبة أخرى، وما دخل على قلبي مثل هذا، فاجتمع حوله جماعة يرثون لحاله، فقالوا: ما الذي أصابك بمكة؟ قال: دخلت قبة زمزم، وتجردت للاغتسال، وكان في يدي دملج وزنه ثمانون مثقالاً، فخلعته واغتسلت، فخرجت ونسيته، فقال رجل من الجماعة: هذا دملجك له معي منذ سنتين. وحكى بعضهم أن شيخاً أتى سعيد بن مسلم، فكلمه في حاجة، فوضع زج عصاه على إصبع سعيد، حتى أدماه، فما تأوه سعيد لذلك ولا نهاه، فلما فارقه قيل لسعيد: لم صبرت على هذا ولم تعلمه؟ قال: خفت أن يعلم جنايته، فينقطع عن طلبه الذي جاء فيه. وقال آخر: صاح رجل بيحيى بن خالد: يا أبا علي، متوسل بالله إليك أقعدني في دهليزك، وأحبر علي كل يوم ألف درهم، فقال: نعم، فأقعده وأجرى عليه النفقة كما ذكر ثلاثين يوماً، ثم انصرف، فقيل ليحيى: إنه انصرف، فقال: بمن توسل به، لو أقام حتى يموت لكان له كل يوم ألف درهم. ودخل عمارة بن حمزة على المنصور، فجلس في مجلسه فقال رجل للمنصور: مظلوم، يا أمير المؤمنين، قال: من ظلمك؟ قال: عمارة ظلمني، وأخذ صنيعتي، فقال المنصور: قم يا عمارة؛ فاقعد مع خصمك، فقال عمارة: ما هو لي بخصم، قال: وكيف ذلك؟ قال عمارة: إن كانت الصنيعة له فلست أنازعه فيها، وإن كانت لي فقد وهبتها له، ولا أقوم من موضع شرفني به أمير المؤمنين. وحكى أبو سهل الداري عمن حدثه عن الواقدي أنه قال: كان لي صديقان، أحدهما هاشمي، فكنا كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة، وحضر العيد، فقالت لي امرأتي: أما نحن في أنفسنا، فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا فلا صبر لهم، فقال: فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي بما حضر، فوجه لي كيساً مختوماً، وذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراره، حتى كتب لي صديقي الآخر يشكو إلي حاله فوجهت إليه الكيس بما فيه وخرجت إلى المسجد، فأقمت به الليل مختفياً من امرأتي، فبينا أنا كذلك إذ وافاني صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، وقال: أخبرني عما فعلته فيما وجهت إليه به، فعرفته الخبر، فقال: إنك وجهت إلي، وما أملك إلا ما بعثت إليك، ثم كتب إلى صديقي أسأله المواساة، فوجه إلي الكيس بخاتمي، قال: فاقتسمنا ألف درهم فيما بيننا ثلاثاً، فوصل الخبر إلى المأمون فدعاني، فشرحت له ما كان فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، ألفين لكل واحد، وللمرأة ألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وكان رجل له مال كثير، وكان لا يقدر أحد على أن يأتي عليه في أمر؛ لشدة حزمه، وكان يقول لمن عليه أمر: ضيعت الحزم، فاتفق جماعة على أن يفعلوا معه أمراً يقولون له بسببه: ضيعت الحزم، فأتوا داره ليلاً، وأخذوا خادمه وربطوها، وقالوا لها: إن لم تصيحي على سيدك، وتقولي له: أصابني وجع، وأنا أجد الموت فاخرج لي، وإلا قتلناك، ففعلت الخادم وجعلت تصيح به، فقالت له زوجته: اخرج إليها، وانظر ما دهاها، فقال: لا أفعل، فقالت: دعني أنا أخرج إليها، قال: لا يفتح بابي بالليل، قالت: فدعني أناولها معجوناً من تحت الباب، قال: افعلي، فأخرجت يدها من تحت الباب بالمعجون، فقبضوا على يدها، وأوثقوها بشريط، فاستغاثت بزوجها، فقال لها: ألم أقل لك: ضيعت الحزم، فقالوا له: إن لم تعطنا كذا وكذا، وإلا قطعنا يدها، فقال لهم: إن أعطيتكم ما طلبتم وزيادة، والله أنكم تطلقونها؟ قالوا: نعم، قال: فاذهبوا إلى الموضع الفلاني فاحفروا، فذهب بعضهم وحفر، فوجد إناء فيه ألف دينار كما طبعت، فأخذوها، وأطلقوا يد المرأة، واقتسموا الدنانير وانصرفوا، وكان هو قد صنع تلك الدنانير مدلسة، وأعدها لمثل ما جرى له، فلما أصبح الصباح انتظروه يعلم الناس بما جرى له، فيقولون له: ضيعت الحزم، فلم يعلم أحد بذلك، ثم ذهبوا، وتصرفوا في تلك الدراهم، واشتروا بها أسباباً وحوائج، ووقع الناس على دلسها، فرفعوا إلى الحاكم، ودخلت ديارهم، فوجدوا باقي الدراهم بها، فضربوا وطوفوا فلقيهم، وقال لهم: ضيعتم الحزم، فلا حملتم الميلق معكم؟ فعلموا أنه لا يقدر ليه أحد؛ لشدة حزمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وكتب الإسكندر كتاباً إلى بعض ملوك الهند، يقول له فيه: أما بعد، إذا أتاك كتابي هذا، فإن كنت قائماً فلا تقعد، وإن كنت ماشياً فلا تلتفت، وإلا مزقت ملكك، وألحقتك بمن مضى من الملوك قبلك، فلما ورد الكتاب عليه أجاب بأحسن جواب، وخاطبه بملك الملوك، وأعلمه أنه اجتمع عنده أشياء، لم تجتمع عند غيره، فمن ذلك ابنة لم تطلع الشمس على أحسن منها، وفيلسوف يخبرك بمرادك، قبل أن تسأله؛ لحدة ذهنه وحسن قريحته، واعتدال مزاجه، واتساع علمه، وطبيب لا تخشى معه دواء ولا شيئاً من العوارض، إلا ما يطرأ من الفناء والدثور. وقدح إذا ملئ بالماء شرب منه عسكر له بجمعه، ولا ينقص منه شيء، وأنا منفذ جميع ذلك إلى الملك، فلما قرأ الإسكندر الكتاب، ووقف على ما فيه، قال: كون هذه الأشياء عندي، ونجاة هذا الملك الحكيم من صولتي أحب إلي من ألا تكون عندي ويهلك، فأنقذ إليه الإسكندر جماعة من حكماء اليونانيين والروم وعدة من الرجال، وقال لهم: إن كان صادقاً فيما كتب، فسوقوا تلك الأشياء، ودعوا الرجل في موضعه، وإن تبين لكم أن الأمر على خلاف ذلك، فأشخصوه إلي، فمضى القوم حتى انتهوا إلى مملكة ذلك الرجل، فتلقاهم بأحسن قبول، وأنزلهم أحسن منزلة، فلما كان اليوم الثالث، جلس لهم مجلساً خاصاً، للحكماء منهم، دون من كان معهم من المقاتلة، وتكلم معهم في أصول الفلسفة، ثم أخرج الجارية، فلما ظهرت لأبصارهم، ورمقوها بأعينهم لم يقع طرف واحد منهم على عضو من أعضائها إلا وقف عنده، ولم يمكنه أن يتعدى إلى غيره، ثم أراهم بعد ذلك ما تقدم الوعد به وصرفهم، وصير الفيلسوف والطبيب والجارية والقدح معهم، فلما وردوا على الإسكندر أمر بإنزال الطبيب والفيلسوف، ونظر إلى الجارية، فحار عند مشاهدتها، وبهرت عقله، وأمر بقية جواريه بالقيام عليها، ثم صرف همته إلى الفيلسوف، وإلى علم ما عند الطبيب، وقص عليه الحكماء ما جرى لهم من المباحثة مع الملك الهندي فأعجبه ذلك، ثم أراد مباحثة الفيلسوف على ما خبر عنه فخلى بنفسه وأجال فكره فيما يختبره به، فسنح له سانح من الفكر بإيقاع شيء يختبره به، فدعا بقدح، فملأه سمناً، وبعثه إليه، فلما ورد الرسول بالقدح على الفيلسوف، نظر الفيلسوف بصحة فهمه، فقال: لأمر ما بعث هذا الملك الحكيم هذا السمن إلي، فأجال فكره فيه، حتى ميز المراد به فدعا بنحو من ألف إبرة فغرز أطرافها في السمن ثم رد القدح إلى الإسكندر، فأمر الإسكندر أن يعمل من الإبر كرة مدورة، وأمر بردها إلى الفيلسوف، فلما وصلت إليه أمر ببسطها وأن يتخذ معها مرآة ترى صورة من قابلها من الأشخاص لصفائها، وأمر بردها إلى الإسكندر، فلما نظر إليها ورأى أحسن صورته فيها، دعا بطست، فحمل المرآة فيه، وأمر بإراقة الماء عليها حتى ترسب وأمر بحملها إلى الفيلسوف، فلما نظر إليها أمر بالمرآة، فصنع منها إناء، وجعله في الطست طافياً فوق الماء، وأمر برد ذلك إلى الإسكندر، فلما وصل إليه أمر أن يملأ ذلك الإناء من تراب ناعم، وأمر برده إلى الفيلسوف، فلما نظر الفيلسوف إلى ذلك تغير لونه، وجرت دموعه، وأمر برده إلى الإسكندر، من غير أن يحدث فيه شيئاً، فلما ورد الرسول على الإسكندر، وأخبر بفعله وحاله، تعجب منه، فلما كان في صبيحة تلك الليلة، جلس له الإسكندر جلوساً خاصاً، ودعا بالفيلسوف، ولم يكن رآه قبل ذلك، فلما أقبل، ونظر إليه الإسكندر، وتأمل قامته وصورته، رأى رجلاً معتدل البنية، حسن الخلقة، فقال في نفسه: إذا اجتمع حسن الصورة وحسن الفهم، كان صاحب ذلك واحد زمانه، ولست أشك أن هذا الفيلسوف قد اجتمع له الأمران، فإن كان هذا الفيلسوف علم كل ما راسلته به وأجابني عنه من غير مباحثة، فليس في زمانه أحد يدانيه في حكمته، وتأمل الفيلسوف الإسكندر عند دخوله عليه، والإسكندر ينظر إليه، فأدار الفيلسوف أصبعه السبابة حول وجهه ووضعها على طرف أنفه، وأسرع نحو الإسكندر وهو جالس على سرير ملكه، فحياه بتحية الملوك، فأشار إليه الإسكندر بالجلوس، فجلس حيث أمره، فقال له الإسكندر: ما بالك حين نظرت إلي أدرت أصبعك حول وجهك، ووضعتها على طرف أنفك؟ قال: تأملتك أيها الملك بنور عقلي، وصفاء مزاجي، فتبينت فكرك، وتأملك لحسن صورتي، فقلت في نفسي: إنه قد قال: إن هذه الصفة قل ما تجتمع مع الحكمة، فإذا كان هذا فصاحبها واحد زمانه، فأدرت أصبعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 مصداقاً لما سفح لك، وأريتك مثالاً شاهداً، وجعلت وجهي بمنزلة الدنيا، فكما أنه ليس في الوجه إلا أنف واحد، فكذلك ليس في مملكة الهند غيري، قال له الإسكندر: ما أحسن ما تأتي لك، فما بالك حين أنفذت إليك قدحاً مملوءاً سمناً غزرت فيه إبراً ورددته إلي؟ فقال الفيلسوف: علمت أنك تقول: إن قلبي امتلأ علماً مثل هذا الإناء من السمن، فليس لأحد من الحكماء فيه مزيد، فأخبرت الملك أن علمي سيزيد فيه، ويدخل كما دخلت هذه الإبر في هذا السمن، قال: فأخبرني، ما بالك حين علمت من الإبر كرة، وبعثتها إليك صنعت منها مرآة صقيلة ورددت إلي؟ قال: علمت أنك تريد أن قلبك قد قسا من سفك الدماء، والشغل بسياسة الملك بقساوة هذه الكرة، فلا يقبل العلم، فأخبرتك بسبكي هذه الكرة، والحيلة في أمرها، حتى جعلت منها مرآة ترى الصور عند المقابلة، فكذلك أفعل بقلبك، قال الإسكندر: صدقت، فأخبرني أيها الفيلسوف حين جعلت المرآة في الطست، وجعلت عليها الماء حتى رسبت، لم صنعت منها إناء يطفو فوق الماء ثم رددتها إلي؟ قال: علمت أنك تريد أن الأيام قد قصرت، والأجل قريب، ولا يدرك العلم الكثير في الأمد القليل، فأجبتك ممثلاً أني سأعمل الحيلة في إيراد العلم الكثير في الأمد القليل إلى قلبك، بتقريبه من فهمك، كاحتيالي للمرآة من بعد كونها راسبة في الماء، جعلت طافية عليه، قال الإسكندر: صدقت، فأخبرني، ما بالك حين ملأت لك الإناء تراباً رددته إلي، ولم تحدث فيه شيئاً كفعلك فيما سلف؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تريد بالتراب الموت، وأنه لابد منه، ومن لحوق هذه البنية بهذا العنصر البارد الذي هو الأرض، ومفارقة النفس الناطقة الشريفة لهذا الجسد، فأعلمتك حين لم أحدث فيه شيئاً ألا حيلة في ذلك ولا عمل، قال له الإسكندر: صدقت، ولأحسنن إلى الهند من أجلك، وأمر له بجوائز كثيرة، فقال له الفيلسوف، لست أحتاج شيئاً يلهيني عن عملي، ولا أدخل عليه ما ينافيه، وخيره الإسكندر بين الإقامة عنده، أو الرجوع إلى وطنه، فاختار الرجوع إلى وطنه، فخلى عنه، وأما القدح فأدهقه بالماء، ثم أورد عليه الناس، فلم ينقص منه شيء، وكان فيما يقال معمولاً بمضروب من خواص الهند، وقد قيل: إنه كان لآدم عليه السلام بأرض سرنديب من أرض الهند، مما نزل في الجنة، فورث عنه، وتوارثه الملوك إلى أن انتهى إلى هذا الملك من ملوك الهند، وأما الطبيب، فإنه كان له معه أخبار طويلة، ومناظرة عجيبة في صنعة الطب. الباب الثاني في الحكايات والأخبار ذوات الأشعار كان أحمد بن المدبر، إذا مدحه أحد، ولم يرض بشعره، قال لغلامه: امض به إلى المسجد، ولا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة، ثم خله، فتحاماه الشعراء إلا الأفراد المجيدون، فجاءه الحسين بن عبد السلام الضرير المعروف بالجمل، فاستأذنه في الإنشاد فقال له: أعرفت الشرط؟ قال: نعم، وأنشد: أردنا في أبي حسن مديحا ... كما بالمدح تنتجع الولاة فقلنا: أكرم الثقلين طراً ... ومن كفاه دجلة والفرات فقالوا: يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهن الصلاة فقلت لهم: وما تغني صلاتي ... عيالي، إنما الشأن الزكاة فأما إذ أبى إلا صلاتي ... وعاقتني الهموم الشاغلات فيأمر لي بكسر الصاد منها ... لعلي أن تنشطني الصلات وحضر أبو نواس مجلس منصور بن عمار، فرآه الناس يبكي، فظنوا أنه تاب، وجعلوا يهنئونه، ويقولون: نرجو لك الله، فقال: أنا أهون على الله من ذلك، وليس كما تظنون، ولكن أبكي لبكاء ذلك الغزال، ونظر إلى غلام بالمجلس يبكي من وعظ منصور، ثم قال: لم أبك في مجلس منصور ... شوقاً إلى الجنة والحور لكن بكائي، لبكا شادن ... تقيه نفسي كل محذور تنتسب الألسن في وصفه ... إلى مدى عجز وتقصير وحضر مجلس بعض القصاص أيضاً، فقالوا له: لعل الله تعالى قد أقبل عليك، فقال: إنما حضرت لأجل هذا الغزال، ثم قال: خلياني والمعاصي ... ودعا ذكر القصاص واسقياني الخمر صرفا ... في أباريق الرصاص وعلى وجه غزال ... طائع ليس بعاصصي بين فتيان كرام ... قد تواصوا بالمعاصي إن لي رباً غفوراً ... وعلى الله خلاصي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ونظر يزيد بن مزيد الشيباني إلى رجل ذي لحية عظيمة، وقد تلففت على صدره وإذا هو خاضب، فقال: إنك من لحيتك في مئونة، فقال: أجل، ولذلك أقول: لعمرك لو يعطي الأمير على اللحى ... لأصبحت قد أيسرت منه زماني لها درهم للدهن في كل جمعة ... وآخر للحناء، يبتدران ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوت في حافاتها الجلمان فأمر له بعشرة آلاف درهم. وحكى أبو جعفر الشيباني قال: أتانا يوماً أبو شاش الشاعر، ونحن في جماعة فقال: ما أنتم فيه؟ فقالوا: نذكر الزمان وفساده، قال: كلا، الزمان وعاء ما ألقي فيه من خير أو شر كان على حاله، ثم أنشأ يقول: رأيت حلى تصان على أناس ... وأخلاقاً تزال، ولا تصان يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا، وما فسد الزمان ودخل ابن عبدل على بشر بن مروان لما ولي الكوفة، فقال: أيها الأمير، إني رأيت رؤيا، فأذن لي أقصها، قال: قل، فقال: أغفيت قبل الصبح، نوم مسهد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها فرأيت أنك رعتني بوليدة ... ممشوقة، حسن علي قيامها وببدرة حملت إلي، وبغلة ... شهباء ناجية، يصل لجامها فقال: أبشر بكل شيء قلته أو سمعته عندي، إلا البغلة، فليس عندي إلا دهماء، قال: امرأته طالق ثلاثاً، إن كنت رأيتها إلا دهماء، لكني غلطت. وقال بعض الشعراء، قدمت على علي بن يحيى، فكتبت له: رأيت في النوم أني راكب فرساً ... ولي وصيف، وفي كفي دنانير فجئت مستبشراً، مستشعراً فرحاً ... وعند مثلك لي بالفعل تبشير فوقع في آخر كتابي: (أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) ثم أمر لي بكل ما رأيت في منامي. ومن ملح الصاحب بن عباد، ما يحكى عنه أن بعض الشعراء كتب إليه: أبا من عطاياه تدني الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا كسوت المقيمين والزائرين ... كساً، لم يخل مثلها ممكنا وحاشية الدار يمشون في ... ثياب من الخز، إلا أنا فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة، أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوباً غير ما أمرت لك به لحملتك عليه، وقد أمرنا لك بجبة وقميص ودراعة، وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف، ورداء وكساء، وجورب وكيس، ولو علمت لباساً غير هذا لأعطيناك، ثم أمر بإدخاله إلى الخزانة. وقال المفضل: دخلت على الرشيد، وبين يديه جارية مليحة شاعرة وورد قد أهديت إليه، فقال: يا مفضل قل في هذا الورد شيئاً تشبهه به، فقلت: كأنه خد معشوق يقبله ... فم الحبيب وقد أبقى به خجلا فقالت الجارية: كأنه لون خدي، حين تدفعني ... كف الرشيد، لأمر يوجب الغسلا فقال: قم يا مفضل؛ فإن هذه الماجنة قد هيجتنا، فقمت، وأرخيت الستور. وقال بعض الرواة: دخلت على أبي العشائر، أعوده من علة، فقلت: ما يجد الأمير؟ فأشار إلى غلام قائم بين يديه، ثم أنشد: أسقم هذا الغلام جسمي ... بما بعينيه من سقام فتور عينيه من دلال ... أهدى فتوراً إلى عظامي وامتزجت روحه بروحي ... تمازج الماء بالمدام وشرب المأمون وعبيد الله بن طاهر ويحيى بن أكثم القاضي، فتعامل المأمون وابن طاهر على سكر يحيى، فغمزا به الساقي فأسكره، وكان بين أيديهم ردم من ورد وريحان، فأمر المأمون فشق له قبر في الردم، وصيراه فيه كأنه ميت، وعمل بيتي شعر وقال لمغنية: عن بهما على رأسه، فجلست عند رأسه وغنت بهما: ناديته وهو حي لا حراك به ... مكفن في ثياب من رياحين فقلت: قم، قال: رجلي لا تطاوعني ... فقلت: خذ، قال: كفي لا تواتيني فانتبه يحيى لرنة العود والجارية بالبيتين فقال: يا سيدي، وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني إني غفلت عن الساقي، فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين لا أستطيع نهوضاً؛ قد ذوى بدني ... ولا أجيب لداع حين يدعوني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وخرج الحسن بن هانئ، وهو أبو نواس، ومعه مطيط حاجبه، حتى أتيا دار خمار، فقال أبو نواس لمطيط: ادخل بنا نتماجن على هذا الخمار، فدخلا، فلما سلما رد عليهما السلام، فقال له الحسن: أعندك خمر عتيقة؟ قال: عندي منها أجناس، فأي جنس تريد؟ قال: التي يقول فيها الشاعر: حجبت حقبة وصينت فجاءت ... كجلاء العروس بعد الصيان وكأن الأكف تصبغ من ضوء ... سناها، بالورس والزعفران فملأ الخمار قدحاً من خمر صفراء، كأنها ذهب محلول، فشربه الحسن وقال: أريد أحسن من هذا، فقال الخمار: أي نوع تريد؟ فقال: التي يقول فيها الشاعر: رققتها أيدي الهواجر، حتى ... صيرت جسمها كجسم الهواء فهي كالنور في الإناء، وكا ... لنار، إذ ما تصير في الأحشاء فملأ الخمار قدحاً من قهوة، كأنها العقيق، فشربه، وقال: أرفع من هذه أريد قال: أي جنس؟ قال: التي يقول فيها الشاعر: فإذا حسا منها الوضيع ثلاثة ... سمح الوضيع بفعل ذي القدر في لون ماء الغيث، إلا أنها ... بين الضلوع، كواقد الجمر فملأ له القدح من خمرة بيضاء، كأنها ماء المزن، فشربه الحسن، فقال للخمار: أتعرفني قال: إي والله، يا سيدي، أنا أعرف الناس بك، قال: فمن أنا؟ قال: أنت الذي سكر من غير ثمن فضحك، وقال لمطيط: ادفع له ما معك من النفقة، فأعطاه مائة درهم وانصرف. وكان بالبصرة رجل ذو ضياع، فأنفق ماله في الشراب، فباع ضيعة يوماً، فلما وقع البيع، قال المشتري: تأتي بالعشي أدفع ذلك المال وأشاهدك، قال له: لو كنت ممن يظهر بالعشي، ما بعت الضيعة، ثم أنشأ يقول: أتلفت مالي في العقار ... وخرجت فيها عن عقار حتى إذا كتب الكتاب، ... وجاءني رسل التجار قالوا: الشهادة بالعشي، ... ونحن في صدر النهار فأجبتهم؛ ردوا الكتاب، ... ولا تعيروا بانتظاري لو كنت أظهر بالعشي، ... لما سمحت ببيع داري وحكى الأصبهاني أن موسى بن داود الهاشمي عزم على الحج وقال لأبي دلامة: أحجج معي، ولك عشرة آلاف درهم، فقال: هاتها، فدفعها إليه، قال: فأخذها وهرب إلى السواد، فجعل ينفقها هنالك في شرب الخمر، فطلبه موسى فلم يقدر عليه، وخشي فوات الحج وخرج، فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجاً من قرية إلى قرية أخرى، وهو سكران، فأمر بأخذه وتقييده، وطرح في محمل بين يديه، فلما سار غير بعيد، أقبل على موسى فناداه: يا أيها الناس قولوا أجمعين معي ... صلى الإله على موسى بن داود كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا بدا لك في أثوابه السود إني أعوذ بداود، وأعظمه ... من أن أكلف حجاً يا ابن داود خبرت أن طريق الحج معطشة ... من الشراب، وما شربي بتصريد والله ما في من أجر، فتطلبه ... ولا الثناء ولا ديني بمحمود فقال موسى: ألقوه من المحمل، لعنه الله، فألقي فعاد إلى موضعه بالسواد، حتى أنفق المال. وكان الحكم بن عبدل أعرج أحدب، هجاء خبيث الهجاء، وكان الشعراء يقفون بباب الملوك، فلا يؤذن لهم، وكان يكتب حاجته على عصاه ويدفعها، فلا تؤخر له حاجة، فقال يحيى بن نوفل: عصا حكم بالباب أول داخل ... ونحن على الأبواب نقصى ونحجب وكانت عصا موسى لفرعون آية ... وهذي لعمر الله أدهى وأعجب وجلس المأمون يوماً للمظالم، فكان آخر من تقدم إليه امرأة، وقد هم بالقيام، وعليه أهبة السفر، وثياب رثة، فوقفت بين يديه وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم القاضي، فقال يحيى: وعليك السلام يا أمة الله ورحمة الله وبركاته، تكلمي في حاجتك فقالت: يا خير منتصب يرجى له الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد تشكو إليك ... عميد الملك أرملة عدا عليها، فلم يترك لها لبد وابتز مني ضياعاً بعد منعتها ... ظلماً وفرق مني الأهل والولد فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه وقال: في دون ما قلت، زال الصبر والجلد ... عني وأقرح مني القلب والكبد هذا أوان صلاة العصر، فانصرفي ... وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ... ننصفك منه، وإلا المجلس الأحد فجلس يوم الأحد، فكانت أول من تقدم إليه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: وعليك السلام، أين الخصم؟ قالت: واقف على رأسك، وأشارت إلى ابنه العباس، فقال: يا أحمد بن أبي خالد، أجلسه معها للخصومة، فجعل كلامها يعلو كلامه فقال لها أحمد: يا أمة الله، أنت بين يدي أمير المؤمنين وتكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك، فقال المأمون: دعها يا أحمد؛ فالحق أنطقها، والباطل أخرسه، ثم قضى لها برد ضياعها، وأمر لها بنفقة، وكتاب إلى عامل بلدها؛ بحسن معاملتها. وحكى الأصمعي قال: كان أعرابيان متآخيين بالبادية، ثم إن أحدهما استوطن الريف، واختلف إلى باب الحجاج، فولاه أصبهان، فسمع أخوه خبره، فسار إليه فأقام ببابه حيناً لا يصل إليه، ثم أذن له في الدخول، فأخذه الحاجب، فمشى به وهو يقول: سلم على الأمير، فلم يلتفت إليه، ثم أنشأ يقول: فلست مسلماً ما دمت حياً ... على زيد بتسليم الأمير فقال زيد: لا أبالي، فقال الأعرابي: أتذكر إذ لحافك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير قال: نعم، فقال الأعرابي: فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك القعود على السرير وقدم أعرابي البصرة، فنزل على ابن عم له، فلما رأى البصري شعث الأعرابي، فأراد أن ينظفه، فقال: أن الناس يتطهرون للجمعة، وينتظفون، ويلبسون أحسن الثياب، فتعال: أدخلك الحمام؛ لتتنظف، وتتطهر للصلاة، فدخل معه الحمام، فلما وطئ الأعرابي فرش أول بيت في الحمام، ولم يحسن المشي عليه لشدة ملامسته فزلق وسقط على وجهه، فشج شجة منكرة، فخرج وهو ينشد: وقالوا: تطهر؛ إنه يوم جمعة ... فأبت من الحمام غير مطهر تزودت منه شجة فوق حاجبي ... بغير جهاد، بئس ما كان متجري وما تعرف الأعراب مشياً بأرضها ... فكيف ببيت ذي رخام ومرمر وقال محمد بن سكرة: دخلت حماماً، فخرجت وقد سرقت نعلي، فعدت إلى داري حافياً وأنا أقول: إليك أزف حمام ابن موسى ... وإن فاق المنى طيباً وحراً تكاثرت اللصوص عليه، حتى ... ليحفى من يطيب به ويعرى ولم أفقد به ثوباً، ولكن ... دخلت "محمداً" وخرجت "بشرا" يريد: بشر الحافي، وكان من كباد الزهاد، لزم المشي حافياً، فلقب: الحافي. وقال بشار لراويته: أنشدني ما قال حماد في، فقال: دعيت إلى برد، وأنت لغيره ... وهبك ابن برد نكت أمك من برد؟ فقال بشار: أها هنا أحد؟ قال: لا، قال: أحسن، والله، ابن الزانية، ولقد تبين له علي في بيت واحد خمسة معان في الهجو وهي: دعيت إلى برد معي، وأنت لغيره. ثان، وهبك ابن برد معنى ثالث، ونكت أمك، شتم واستخفاف مجرد وهو معنى رابع، ثم ختمها بقوله: من برد؟ فأتى بالطامة الكبرى. وكان الحطيئة قبيح المنظر، كثير الشر، فالتمس يوماً إنساناً يهجوه، فلم يجده، فوقف على ماء، وجعل يقول: أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بشر ولا أدري لمن أنا قائله ثم نظر إلى الماء، فرأى وجهه، فقال: أرى لي وجهاً قبح الله خلقه ... فقبح من وجه، وقبح حامله وقال أبو القاسم بن الأزرق: دخلت على الشافعي - رحمه الله - فقلت: يا أبا عبد الله، ما تنصفنا، لك هذا الفقه تفوز بفوائده. ولنا هذا الشعر، وقد جئت تداخلنا فيه، فإما أفردتنا بالشعر، أو أشركتنا في الفقه، وقد جئت بأبيات إن أجزتنا بمثلها تبت من الشعر، وإن أعجزت عنها تبت، فقال لي: إيه يا هذا، فأنشدته: ما همتي إلا مقارعة العدا ... خلق الزمان، وهمتي لم تخلق والناس أعينهم إلى سلب الفتى ... لا يسألون عن الحجى والأولق لكن من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان، أي تفرق لو كان بالحيل الغنى، لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلقي فقال الشافعي: ألا قلت، كما أقول، ارتجالاً: إن الذي رزق اليسار، فلم يصب ... حمداً ولا أجراً، لغير موفق فالجد يدني كل شيء شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق فإذا سمعت بأن مجدوداً حوى ... عوداً، فأثمر في يديه، فحقق وإذا سمعت بأن محروماً أتى ... ماء ليشربه، ففاض، فصدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وأحق خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى برزق ضيق ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب، وطيب عيش الأحمق ولربما عرضت لنفسي فكرة ... فأود منها أنني لم أخلق فقلت: تالله، لا قلت شعراً بعدها. وقيل للمنصور: إن أبا دلامة لا يحضر الصلاة، وأنه معتكف على الخمر، وقد أفسد فتيان العسكر، فلو أمرته بالصلاة معك لأصلحته وغيره، فلما دخل عليه قال أبو دلامة الماجن، قال: يا أمير المؤمنين، ما لنا والمجون؟ فقال: دعني من اشتكائك وتضرعك، وإياك أن تفوتك صلاة الظهر والعصر في مسجدي، فإن فاتتك لأحسنن أدبك، ولأطيلن حبسك، فوقع في أمر عظيم، فلزم المسجد أياماً، ثم كتب رقعة، ودفعها إلى المهدي، فأوصلها إلى أبيه، وفيها: ألم تعلما أن الخليفة لزني ... بمسجده والقصر، ما لي وللقصر؟ أصلي بها الأولى جميعاً وعصرها ... فويلي من الأولى، وويلي من العصر أصليهما بالكره من غير مسجدي ... فما لي في الأولى، وفي العصر، من أجر يكلفني من بعد ما شبت توبة ... يحط بها عني الثقيل من الوزر ووالله، ما لي نية في صلاتها ... ولا البر والإحسان والخير من أمري لقد كان في قومي مساجد جمعة ... ولم ينشرح يوماً لغشيانها صدري وما ضره، والله يغفر ذنبه ... لو أن ذنوب العالمين على ظهري فقال: صدق، وما يضرني ذلك، والله، لا يصلح هذا أبداً، دعوه يفعل ما يشاء. وحكى إسحاق الموصلي قال: دخلت على الرشيد، وهو مستلق على قفاه، وهو يقول: أحسن والله، فتى قريش وظريفها وشاعرها، قلت: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال في قوله: لا أسأل الله تغييراً لما فعلت ... نامت، وقد أسهرت عيني عيناها فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها ثم قال: أتعرفه؟ قلت بصوت ضعيف: لا، فقال: بحقي عليك؟ فقلت: نعم، هو الوليد بن يزيد، قال: استر ما سمعت مني، وإنه ليستحق أكثر مما وصفته به. ولما بنى المأمون على بوران، وأراد غشيانها حاضت، فقالت: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) ، فنام في فراش آخر، فلما أصبح دخل عليه أفاضل ندمائه يهنئونه، ويدعون له، فأنشدهم بديهاً: فارس في الحرب منغمس ... عارف بالطعن في الظلم رام أن يدمي فريسته ... فاتقته من دم بدم وجاء رجل إلى خياط؛ ليصنع له قميصاً، فقال: والله، لأفصلنه لك تفصيلاً لا يدرى أقميص هو أم قباء، ففعل ذلك، قال صاحب الثوب: أنا - والله، لأدعون، لك دعاء لا يدرى أهو لك أم عليك، وكان الخياط أعور يسمى بشراً فقال: خاط لي بشر قباء ... ليت عينيه سواء وروي أن المنصور أنشده أبو دلامة ما أعجب به، فكساه طيلساناً، وأمر له بمال، وعاهده ألا يشرب الخمر، فحلف له، وخرج إلى بني داود بن علي، فضحكوا به، وقص عليهم الخبر، فسقوه حتى أسكروه وأخرجوه، فأعلم المنصور الخبر، فأرسل فيه، وأمر المنصور بسجنه، وتمزيق ساجه، وألا يمكن من قرطاس ولا مداد، ففعل به الرسول ذلك، فانتبه في جوف الليل، فنادى جاريته، فقال له السجان: أطعنه في كبدك؟ فقال له: ويلك، من أنت؟ وأين أنا؟ فقال: سل نفسك، أين كنت عشاء أمس؟ فاستحلفه من أنت؟ فقال: أنا السجان، بعث بك أمير المؤمنين، وأنت سكران، فأمرني أن أحبسك مع الدجاج، فقال له: أحب أن تسرج لي سراجاً، وتأتيني بدواة وقرطاس، ولك عندي صلة، فقال له: أما السراج فنعم، وأما القرطاس والدواة فما أمرت أن أمكنك منهما، فلما أتاه بالسراج وجد ساجه ممزقاً، متلطخاً بأزبال الدجاج، ورأى نفسه جالساً بينها، فقال له: ادع لي أبو دلامة، فدعاه، فأمره أن يجيد حلق رأسه، وأن يأتيه بفحمة، فتب على رأس ابنه: أمن صهباء صافية المزاج ... كأن شعاعها لهب السراج تهش لها القلوب، وتشتهيها ... إذا برزت ترقرق في الزجاج أقاد إلى السجون بغير جرم ... كأني بعض عمال الخراج ولو معهم حبست، لكان خيراً ... ولكني حبست مع الدجاج أمير المؤمنين، فدتك نفسي ... ففيم حبستني وخرقت ساجي على أني، وإن لاقيت شرا، ... لخيرك بعد ذاك الشر راج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذه أمانة، فإذا قرأت، فمزق الرقعة، ثم أمر دلامة أن يدخل على أمير المؤمنين، ويقرئه ما في رأسه، فأتى الباب وصاح: دعوة مظلوم، فأعلم المنصور بذلك، فأقر بإدخاله، فكشف رأسه وقال: إن ظلامتي مكتوبة في رأسي، فأدنى منه حتى قرأها، فاشتد ضحكه، وعجب من حيلته وأمر بإخراجه وقال: ما أحوج هذه الرقعة أن تمزق، ثم وصله بصلة، ونهاه أن يوجد وهو سكران. وضلت ناقة لأعرابي في ليلة مظلمة، فأكثر طلبها، فلم يجدها، فلما طلع القمر وانبسط نوره وجدها إلى جانبه ببعض الأودية، وكان قد اجتاز بموضعها مراراً، فلم يرها؛ لشدة الظلام، فرفع رأسه إلى القمر وقال: ماذا أقول، وقولي فيك حصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا إن قلت: لا زلت مرفوعاً، فأنت كذا ... أو قلت: زانك ربي، فهو قد فعلا وكان أبو هرمة أبخل الناس على ادعائه الكرم في شعره، فأتاه يوماً جماعة، فقال: ما جاء بكم؟ فقالوا: شعرك، حيث تقول: أغشى الطريق بقبتي ورواقها ... وأحل في قلل الربى، وأقيم إن امرءاً جعل الطريق لبيته ... طبناً، وأنكر حقه للئيم فنظر إلينا، وقال: ما على الأرض عصبة أسخف منكم عقولاً، أما سمعتم قول الله سبحانه: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) في الشعراء؟ والله، إني لأقول ما لا أفعل، وأنتم تريدون أن أفعل ما أقول، والله، لا عصيت ربي في رضاكم. وكان عبد الصمت مؤدب الوليد لوطياً زنديقاً، وكان سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت جميل الوجه شاعراً، فدخل على عبد الصمد، فأراده في نفسه، فسبه وخرج مغضباً، فدخل على هشام بن عبد الملك وهو يقول: إنه والله، لولا أنت، لم ... ينج مني سالماً عبد الصمد قال هشام: ولم؟ قال: إنه قد رام مني حطة ... لم يرمها قبله مني أحد قال: وما هي؟ قال: رام جهلاً بي، وجهلاً بأبي ... يدخل الأفعى إلى غيل الأسد فضحك هشام، وقال: لو فعلت به شيئاً لم أنكر عليك، وهذا من أبدع الكناية، وقد أحسن التعبير حيث رقق هذا المنكر الأكبر، وعبر عنه بلفظ يليق أن يقابل به خليفة. وقال أبو بكر الصولي: اجتمعت الشعراء بباب المعتصم، فبعث إليه محمد بن عبد الملك الزيات، وقال لهم: أمير المؤمنين يقرئكم السلام، ويقول لكم: من كان يحسن أن يقول مثل قول النمري في الرشيد فليدخل، وأنشد له: إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع من لم يكن بك، يا هارون معتصما ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع فقال ابن وهب الحميري: فينا من يقول مثله، وأحسن منه، وأنشد له: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر تحكي أنامله في كل نائبة ... الغيث والصمصامة الذكر وقال الزبير بن بكار: ذكر عبد الله بن مالك الخزاعي قال: كنا بالرقة، مع هارون الرشيد، فأتى موت الكسائي وإبراهيم الموصلي والعباس بن الأحنف في وقت واحد، فقال لابنه المأمون: أخرج فصل عليهم، فخرج في وجوه قواده وخاصته، وقد ذهبوا له، فقالوا له: من تقدم منهم؟ فقال: الذي يقول: يا بعيد الدار من وطنه ... مفرراً يبكي على شجنه كلما هاجت صبابته ... زادت الأسقام في بدنه ولقد زاد الفؤاد شجاً ... هاتف يبكي على فننه شفه ما شفني، فبكى ... كلنا يبكي على شجنه فقالوا: هذا، وأشاروا إلى نعش العباس بن الأحنف، فقدمه عليهم. وقال أيضاً الزبير بن بكار: أنشد منشد أبا العباس المخزومي: بيناهم سكن بجيرتهم ... ذكروا الفراق، فأصبحوا سفرا فبكى أبو السائب وقال: ويحهم، أما علقوا سفره، أو أوكوا قربة، أو ودعوا صديقاً؟ قال الزبير: رحم الله أبا السائب، كيف لو سمع قول العباس بن الأحنف: سألونا عن حالنا: كيف أنتم ... وقرنا وداعهم بالسؤال ما نزلنا حتى رحلنا، فما نفرق ... بين النزول والترحال وقال أحمد بن إبراهيم: وقع بين أحمد بن حامد وامرأته شر، كادا يخرجان معه إلى القطيعة، وكان يحبها، فلقيته يوماً، فسألته عن حاله. فأومأ أنه استراح، إذ هجرها، فقالت له: ذهب عنك قول العباس بن الأحنف: تعب يكون به الرجاء مع الهوى ... خير له من راحة في الياس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 لولا كرامتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس ثم غنت فيه لحناً، وغنته إياه، واصطلحا. وعن إسحاق الموصلي قال: غضب الفضل بن الربيع على جارية له، كانت أحب الناس إليه، وتأخرت عن استرضائه، فوجه إلي يعلمني بذلك، ويشكوها إلي، فكتبت إليه: لك العز والشرف، ولأعدائك الذل والتلف، استعمل قول العباس بن الأحنف: تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... تفارق من تهوى، وأنفك راغم ففعل ذلك فاصطلحا، ووصلني بجائزة. وغضب الرشيد مرة على زبيدة أم جعفر وترضاها، فأبت أن ترضى، وأرق ليلة وقال: افرشوا لي على دجلة ففعلوا، وقعد ينظر إلى الماء، فسمع غناء في هذا الشعر: جرى السيل، فاستبكاني السيل إذا جرى ... وفاضت له من مقلتي غروب وما ذاك إلا أن تيقنت أنه ... يمر بواد أنت منه قريب يكون أجاجاً دونكم، فإذا انتهى ... إليكم، تلقى طيبكم فطيب فيا ساكني أكناف دجلة، كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب فسأل عن الناحية التي فيها الغناء وعن المغني، فإذا هو الزبير بن دحمان، فسأله عن الشعر، فقال: هو للعباس بن الأحنف يا أمير المؤمنين، فأمر بإحضاره، واستنشده، وجعل الزبير يغنيه، والعباس ينشده حتى أصبح، ودخل إلى أم جعفر، فسألت عن دخوله إليها فعرفت، فوجهت إلى العباس بألف دينار، وإلى الزبير بخمسمائة دينار. وكان لمخارق من الكلف بجارية أم جعفر بهار ما لا غاية بعده، وعلمت بذلك أم جعفر، فشق على مخارق علم أم جعفر بحبه، فاستعمل الجفاء بينه وبينها؛ إجلالاً لأم جعفر، وطمعاً للسلو عنها، فبينما هو منصرف ليلة من الليالي من دار المأمون، وأم جعفر مشرفة على دجلة، فلما حاذى دارها رفع عقيرته، فتغنى بشعر العباس بن الأحنف: إن تمنعوني ممري قرب داركم ... فسوف أنظر من بعد إلى الدار لا يقدرون على منعي وإن جهدوا ... إذا مررت فتسليمي بإضماري سيما الهوى عرفت، حتى شهرت بها ... إني محب، وما بالحب من عار فسمعته أم جعفر، وأمرت خدمها، وصاحوا بالملاح: قدم، فقدم الزورق حتى حاذى باب الدار، ونزل مخارق، وطلع إلى أم جعفر، ودعت له بكرسي، وكأس فيه نبيذ، فشرب وخلعت عليه وأجازته، وقالت لجواريها: اضربن عليه، فكان أول ما غنى به قول العباس بن الأحنف: أغيب عنك بود، لا يغيره ... نأي المحل، ولا صرف من الزمن فإن أعش، فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت، فقتيل الهم والحزن قد حسن الله في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسناً، ما ليس بالحسن فاندفعت بهار تغني جواب ما غنى به مخارق فقالت: تعتل بالشغل عنا ما تكلمنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدن فضحكت أم جعفر وقالت: ما سمعت بألطف من مخاطبتكما، خذها مخارق، وقد وهبتها لك فحملها مخارق من وقته إلى داره. ويروى أن أبا نواس والعباس بن الأحنف والحسين الخليع، وصريع الغواني خرجوا إلى متنزه لهم، ومعهم رجل يقال له: يحيى بن المعلي، فحضرت الصلاة فقدموه يصلي بهم، فنسي: (الحمد) ، وقرأ: (قل هو الله أحد) وأرتج عليه في نصفها فقال أبو نواس: أكثر يحيى غلطاً ... في قل هو الله أحد وقال العباس بن الأحنف: ونسي الحمد، وما ... مرت له على خلد وقال صريع الغواني: قام طويلاً راكعاً ... حتى إذا أعيا سجد وقال الحسين الخليع: كأنما لسانه ... شد بحبل من مسد وقال أبو العتاهية: سبقني أبو نواس إلى ثلاثة أبيات، وددت أني سبقته إليها بكل ما قلت من الشعر، منها قوله: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق وقوله: فإن يك باق إفك فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بلف خصيب وقوله: يا كثير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر ولله دره، ما أكثر إنصافه. وقال أبو عمر الشيباني: دخلت على المأمون، فقال لي: يا أبا عمر، من أشعر الناس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، اختلف العلماء في ذلك، وهم القدوة، ونحن المقتدون، وقد قالوا: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب، قال المأمون: من الذي يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل قلت: أبو نواس: قال: فمن الذي يقول: فتشمت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم قلت: أبو نواس، قال: فمن الذي يقول: هي الخمر لا زالت تذيع فضائحي ... وتفعل ما شاءت بي الخمر من أمر متى أكتسب مالاً، فللخمر شطره ... ويحكم رب الخرد العين في الشطر قلت: هذا من ديباج قول أبي نواس، قال: فمن الذي يقول: أقل ما فيه من فضائله ... أمنك من طمثه ومن حبله قلت: هو أبو نواس، قال: هو أشعر الأولين والآخرين من الإنس والجن، قال: فعجبت من المأمون، وعنايته بأبي نواس، وحفظه لشعره. وقال الأصمعي: قلت يوماً لبشار: رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك التي في المشورة، وهي قولك: إذا بلغ الرأي المشورة، فاستعن ... بقول نصيح، أو مشورة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي عدة للقوادم وخل الهوينى للضعيف، ولا تكن ... نئوماً؛ فإن الحزم ليس بنائم وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يقيد بقائم فقال بشار: أما علمت أن المشاورة على إحدى الحسنيين، صواب يفوز به، وبثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه، قال الأصمعي: أنت، والله، في قولك أشعر منك في شعرك. ودخل على الحجاج سليك بن سلكة فقال: أصلح الله الأمير، أعرني سمعك واغضض عني بصرك، واكفف عني عزك، فإن سمعت خطأ أو زللاً فدونك والعقوبة، قال: قل، قال: عصى عاص من العشيرة، فخلق على اسمي، وحرمت عطائي، وهدم منزلي، فقال الحجاج: هيهات، أما سمعت قول الشاعر: جانيك من يجني عليك، وربما ... تفدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ... ونجا المقارب صاحب الذنب قال: أصلح الله الأمير: إني سمعت الله يقول غير هذا، قال: وما ذاك؟ قال الله: (يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متعنا عنده إنا إذاً لظالمون) قال الحجاج: علي بيزيد بن مسلم، فوقف بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، ومر منادياً ينادي في الناس: صدق الله، وكذب الشاعر. ولما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر بالشعر الذي يقول فيه: دع المكارم، لا ترحل لبغيها ... واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي استعدى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنشده البيت، فقال: ما أرى به بأساً، قال الزبرقان: والله، يا أمير المؤمنين، ما هجيت ببيت قط أشد علي منه، فبعث إلى حسان بن ثابت فقال: انظر إن كان هجاه، فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه، ولم يكن عمر رضي الله عنه يجهل موضع الهجاء، ولكن كره أن يتعرض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله، وأمر بالحطيئة إلى السجن، وقال: يا خبيث، لأشغلنك عن أعراض المسلمين، فكتب إليه من السجن: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر ما آثروك بها، إذا قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بها الأثر ولما هجا النجاشي رهط تميم بن مقبل، استعدوا عليه عمر بن الخطاب، وقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه هجانا، قال: فما قال فيكم؟ قالوا: إنه قال: إذا الله عادى أهل لؤم وذلة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل فقال عمر: رجل دعا، فإن كان مظلوماً استجيب له، وإن لم يكن مظلوماً لم يستجب له، قالوا: فقد قال بعد هذا: قبيلتهم لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل فقال عمر رضي الله عنه: لبيت آل بني الخطاب مثل هؤلاء، قالوا: فإنه يقول بعد هذا: ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل فقال عمر: ذلك أجم لهم وأمكن قالوا: فإنه يقول بعد هذا: وما سمي العجلان إلا لقوله ... خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل فقال عمر: سيد القوم خادمهم، فما أرى بهذا بأساً، ولم يكن عمر رضي الله عنه ينكر أن ذلك هجو، ولكنه أراد أن يدرأ الحد بالشبهات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وكان بنو عبد المدان الحارثيون يفخرون بطول أجسامهم، حتى قال فيهم حسان بن ثابت: لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير فقالوا له: يا أبا الوليد، والله، لقد تركتنا ونحن نستحي من ذكر أجسامنا، بعد أن كنا نفخر بذلك. وكان بنو نمير أشراف قيس وذؤابتها، وكان الرجل منهم يفخر بذلك ويقول: النميري، ويمد صوته حتى قال جرير: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا فانكسرت شوكتهم من يومئذ، ولم تعرف لهم علامة بعد ذلك. وكان بنو أنف الناقة يسمون بهذا الاسم، يسأل الرجل منهم عن نسبه فيخفيه، ولا ينتسب لأنف الناقة، حتى قال فيهم الحطيئة: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا وجاء أعرابي إلى أبي داود بن المهلب فقال له: إني مدحتك فاسمع مني، قال: قف قليلاً، ثم دخل بيته وتقلد سيفه، وخرج فقال: قل، فإن أحسنت حكمناك، وإن لم تحسن قتلناك، فقال: أمنت بداود وجود يمينه ... من المحدث المخشي والبؤس والفقر فأصبحت لا أخشى بداود نبوة ... من الحدثان، إذا شددت به أزري له حلم لقمان، وصورة يوسف ... وحكم سليمان، وعدل أبي بكر فتى تفرق الأموال من جود كفه ... كما يفرق الشيطان من ليلة القدر فقال له: قل، فقد حكمناك، فإن شئت على قدرنا، وإن شئت على قدرك، قال: بل على قدري، فأعطاه خمسين ألفاً، فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدر الأمير؟ قال: لم يكن في ماله ما يفي بقدره، فقال له داود: أنت في هذا أشعر منك في شعرك، وأمر له بمثل ما أعطاه. وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد، إذ دخل عليه إبراهيم الموصلي فأنشده: وآمرة بالبخل قلت لها: اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل فعالي فعال المكثرين تجملاً ... ومالي كما تعلمين قليل وكيف أخاف الفقر، أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل فقال له الرشيد: لله أبيات، تأتينا بها، ما أحسن أصولها، وأبين فصولها، وأقل فضولها، يا غلام: أعطه عشرين ألفاً، قال: والله، لا أخذت منها درهماً، قال: ولم؟ قال: لأن كلامك، والله، يا أمير المؤمنين، خير من شعري، قال: أعطوه أربعين ألفاً، قال الأصمعي: فعرفت أنه أصيد الدراهم الملوك مني. وقال الشيباني: ولد لأبي دلامة ابنة ليلاً، فأوقد السراج، وجعل يخيط خريطة شقق، فلما أصبح طواها بين أصابعه، وغدا بها إلى المهدي، فاستأذن عليه، فأذن له، وكان لا يحجب عنه، فأنشده: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم، لقيل: اقعدوا يا آل عباس ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج ... إلى السماء، فأنتم أكرم الناس فقال المهدي: أحسنت، والله، يا أبا دلامة، فما الذي غدا بك إلينا؟ فقال: ولدت لي جارية، يا أمير المؤمنين، قال: فهل قلت فيها شعراً؟ قال: قلت: بللت علي ... لا حييت ثوبي فبال عليك شيطان رجيم فما ولدتك مريم أم عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم ولكن قد تضمك أم سوء ... إلى لباتها، وأب لئيم قال: فضحك المهدي وقال: فيم تريد أن أعينك في تربيتها؟ قال: تملأ لي هذه يا أمير المؤمنين، وأشار إليه بالخريطة بين أصابعه، قال له المهدي: وما عسى أن تحمل هذه؟ قال: من لم يقنع بالقليل، لم يقنع بالكثير، فأمر أن تملأ له، فلما نشرت بلغت صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم. وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات: إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الرب الرحيم فأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأنصار قبح من غريم لزوم ما علمت لباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرقيم له مائة علي ونصف أخرى ... ونصف النصف من صك قديم دراهم ما انتفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم فبعث إليه بمائة ألف. ولقي أبو دلامة أبا دلف في صيد له، وهو والي العراق، فأخذ بعنان فرسه، وأنشد: إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق، وأنت ذو وفر لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهماً حجري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فقال: أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فنعم، وأما الدراهم، فلما نرجع إن شاء الله، فقال: جعلت فداك، لا تفرق بينهما، فاستسلفها له، وصبت في حجره، حتى أثقلته. ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده: سألت الندى: هل أنت حر؟ فقال: لا ... ولكنني عبد ليحيى بن خالد فقلت: شراء؟ قال: لا، بل وراثة ... توارثني عن والد بعد والد فأمر له بعشرة آلاف درهم. وصنع بعض الناس وليمة، وكان فيها المبرد، وكانوا يسمعون غناء مغنية من وراء ستر، فاندفعت تغني: وقالوا لها: هذا حبيبك معرض ... فقلت لهم: إعراضه أيسر الخطب وما هي إلا نظرة ثم حسرة ... فتصطك رجلاه، ويسقط للجنب فطرب كل من حضر طرباً شديداً، إلا المبرد، فأخذ صاحب الوليمة يعاتبه على عدم طربه، فقالت له المغنية: دعه يا سيدي، فلعله توهم أني لحنت في قولي؛ هذا حبيبك معرض، ولم يعلم أن ابن مسعود قرأ: (وهذا بعلى شيخاً) ، فبلغ الطرب بالمبرد أن شد في ثيابه، وهذا من أحسن ما يوجد من طرب النساء وكمالهن. وأهدى رجل من الثقلاء إلى رجل من الظرفاء جملاً، ثم نزل عليه حتى أبرمه، فقال فيه: يا مبرماً أهدى جمل ... خذ وارتحل ألفي جمل قال: وما أوقرها ... قلت: زبيب وعسل قال: ومن يقودها ... قلت: له ألفا بطل قال: وما لباسهم ... قلت: حلي وحلل قال: وما سلاحهم ... قلت: سيوف وأسل قال: عبيد لي إذن ... قلت: نعم، ثم خول قال: وقد أضجرتكم ... قلت: أجل، ثم أجل قال: وقد أبرمتكم ... قلت له: الأمر جلل قال: وقد أثقلتكم ... قلت له: فوق الثقل قال: فإني راحل ... قلت: العجل، ثم العجل يا جبلاً من جبل ... في جبل فوق الجبل وبينما خالد بن الله القسري جالس في مظلة، إذ نظر إلى أعرابي يخب إليه بعيره، مقبلاً نحوه، فقال لحاجبه: إذا قدم فلا تحجبه، فلما دخل عليه سلم وقال: أصلحك الله، قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا أناخ دهر، ألقى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا فقال خالد: أرسلوك وانتظروا، والله لا تنزل حتى تنصرف إليهم بما يسرهم، وأمر له بجائزة عظيمة، وكسوة شريفة. ووقف رجل من الشعراء إلى عبد الله بن طاهر، فأنشده: إذا قيل: أي فتى تعلمون ... أهش إلى البأس والنائل؟ وأضرب للهام يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل؟ أشار إليك جميع الأنام ... إشارة غرقى إلى ساحل فأمر له بخمسين ألف درهم. وقال أحمد بن مطير: أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتاً، كنت مدحت بها بعض الولاة، وهي: له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم، فيه للناس أنعم فيقطر يوم الجود من كفه الندى ... ويقطر يوم البؤس من كفه الدم فلو أن يوم البؤس خلى عقابه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم ولو أن يوم الجود خلى نواله ... على الأرض لم يصبح على الأرض معدم فقال: كم أعطاك عليها؟ قلت: خمسة آلاف، قال: فقبلتها؟ قلت: نعم، قال: أخطأت، ما ثمن هذه إلا مائة ألف. وحدث أحمد بن زهير قال: كان أحمد بن زيدان الكاتب قاعداً بين يدي يحيى بن أكثم يكتب، وكان شاباً جميلاً، فقرص يحيى خده، فاستحى ابن زيدان، واحمر وجهه، ورمى القلم من يده، فقال له: خذ القلم واكتب، فأخذ القلم وكتب: أيا قمراً جمشته فتغضبا ... وأصبح من تيه به متجنبا إذا كنت للتخميش والقرص كارهاً ... فكن أبداً يا مينتي متنقبا ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة ... وتجعلها من فوق خدك عقربا فتقتل مشتاقاً، وتفتن نكاسا ... وتترك قاضي المسلمين معذبا ودخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري، فرأى عنده شعراء وهم ينشدونه فسكت الأعرابي يسمع المدائح، وينظر إلى الجوائز تفرق، فقام ثم قال: جعلت فداك، يا أمير المؤمنين، ما يمنعني من إنشادي إلا قلة ما معي مما قلته فيك من الشعر، فأمر أن يكتب ما معه فكتب: تبرعت لي بالجود، حتى ملكتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب فأنت الندى وابن الندى وأبو الندى ... وحلف الندى، ما للندى عنك مذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قال: وما حاجتك؟ قال: علي دين، قال: كم؟ قال: خمسون ألف درهم، فقضاها عنه، وأمر له بمثلها. وزار إسماعيل بن خارجة صديق له، فلما كان بباب الدار وثب كلب فانصرف، وكتب إليه: لو كنت أحمل خمراً حين زرتكم ... لم ينكر الكلب أني صاحب الدار لكن أتيت، وريح المسك يقدمني ... وعنبر الهند مصبوب على الساري فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ... وكان يعرف ريح الزق والنار وكان جد خارجة خماراً. ودخل أعرابي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن الفقهاء، فدل على ابن أبي ذيب، فأتى خلقته، فقال: أيكم الذيب؟ فقال: ما تريد؟ قال: أنت هو؟ قال: نعم، فسأله عن مسألة في الطلاق، فقال: ما أراك خانثاً، فولى الأعرابي وهو يقول: أتيت ابن ذيب، أطلب الفقه عنده ... فطلق ليلى البت، بتت أنامله أتترك في فقه ابن ذيب حليلتي ... وعند ابن ذيب أهله، وحلائله؟ وقدم عمر بن أبي ربيعة، فأقبل إليه الأحوص ونصيب، فجعلوا يتحدثون، ثم سألهما عن كثير عزة، فقال له نصيب: هو ها هنا قريب، فلو أرسلنا إليه، قال: هو أشد باساً من ذلك، قال: فاذهب بنا إليه، فألفوه في خيمة له، فوالله ما قام للقرش، ولا وسع له، فجلسوا إليه وتحدثوا ساعة، فالتفت كثير إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له: إنك لشاعر، لولا أنك تشبب بالمرأة وتدعها، وتشبب بنفسك، أخبرني عن قولك: ثم اسبطرت تشتد في أثري ... تسأل أهل الطواف عن عمر والله، لو وصفت بهذا هرة أهلك لكان كثيراً، ألا قلت كما قال هذا، يعني الأحوص: أدور، ولولا أن أرى أم جعفر ... بأبياتكم، ما درت حيث أدور وما كنت زواراً، ولكن ذا الهوى ... إذا لم يزر، لابد أن سيزور قال: فانكسر عمر بن أبي ربيعة، ودخلت الأحوص زهوة، ثم التفت إلى الأحوص وقال له: أخبرني عن قولك: فإن تصلي أصلك، وإن تبيني ... بهجر بعد وصلك ما أبالي والله، لو كنت حراً لباليت، ولو كسر أنفك، ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب: بزينب ألمم قبل أن ينزل الركب ... وقل: إن تملينا، فما ملك القلب فانكسر الأحوص، ودخلت نصيباً زهوة، ثم التفت إلى نصيب، فقال: أخبرني عن قولك: أهيم بدعد ما حييت، فإن أمت ... فوا كبدي من ذا يهيم بها بعدي أهمك ويحك، من يفعل بها بعدك؟ فقال القوم: الله أكبر، استوت الفرق، قوموا بنا من عند هذا. ودخل كثير على سكينة بنت الحسين فقالت له: يا ابن جمعة، أخبرني عن قولك في عزة: وما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يحج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها ويحك، وهل في الأرض زنجية منتنة الإبطين، توقد بالمندل الرطب نارها، إلا طاب ريحها؟ ألا قلت كما قال عمك امرؤ القيس؟ ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً؛ وإن لم تطيب وسهر عبد الملك بن مروان ذات ليلة، وعنده كثير عزة، فقال له: أنشدني بعض ما قلت في عزة، فأنشده حتى انتهى إلى هذا البيت: هممت وهمت، ثم هابت وهبتها ... حياء، ومثلي بالحياء خليق فقال له عبد الملك: أما والله، لولا بيت أنشدتنيه قبل هذا لحرمتك جائزتك قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك أشركتها في الهيبة ثم استأثرت بالحياء دونها، قال: فأي بيت عفوت به عني يا أمير المؤمنين؟ قال: قولك: دعوتني، لا أريد بها سواها ... دعوني هائماً، فيمن يهيم ودعا الأعور بن سنان التغلبي الأخطل الشاعر إلى منزله، فأدخله بيتاً قد فرش بالفرش الشريفة، والوطاء العجيبة، وله امرأة تسمى برة، في غاية الحسن والجمال، فقال له: يا أبا مالك، إنك تدخل على الملوك في مجالسهم، فهل ترى في بيتي عيباً؟ قال: ما أرى في بيتك عيباً غيرك، قال: إنما ألوم نفسي؛ إذ كنت أدخل مثلك بيتي، اخرج عليك لعنة الله، فخرج الأخطل، وهو يقول: وكيف يداويني الطبيب من الجوى ... وبرة عند الأعور بن سنان ويلصق بطناً منتن الريح دائماً ... إلى بطن خود دائم الخفقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ودخل الشعبي على بشر بن مروان، وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان وعنده جارية، في حجرها عود، فلما دخل الشعبي، أمرها فوضعت العود، فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده، قال: صدقت، ثم قال للجارية: هات ما عندك، فأخذت عودها وغنت: ومما شجاني أنها يوم ودعت ... تولت، وماء العين في الجفن حائر فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إلي التفاتاً، أسلمته المحاجر فقال الشعبي الصغير أكيسهما يريد الزير، ثم قال لها: يا هذه، أرخي من فمك، واشددي في زيرك، قال له بشر: وما علمك؟ قال: أظن العمل فيهما، قال: صدقت، ومن لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه. وقال الأصمعي: قدم أعرابي بعدل من خمر العراق إلى المدينة، فباعها إلا السود، فشكى ذلك إلى الدرامي، وكان قد تنسك، وترك الشعر، ولزم المسجد، فقال له: ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها؟ قال: حكمك، فعمد الدرامي إلى ثياب نسكه فألقاها عنه، وعاد إلى مثل شأنه الأول، وقال شعراً ودفعه إلى صديق له من المغنين، وقال له: تغن بهذا الشعر: قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا أردت بزاهد متعبد قد كان شمر للصلاة رداءه ... حتى وقفت له بباب المسجد ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تفتنيه بحق دين محمد فشاع هذا الغناء بالمدينة، وقالوا: قد رجع الدرامي، وتعشق صاحبة الخمار الأسود، فلم تبق مليحة بالمدينة إلا اشترت خماراً أسود، وباع التاجر ما كان معه، فكان إخوان الدرامي من النساك يلقون الدرامي فيقولون له: ما صنعت؟ فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين، فلما أنفذ العراقي ما كان معه، رجع الدرامي إلى نسكه وثيابه فلبسها. وقال الأحوص يوماً لمعبد: امض بنا إلى عقيلة نتحدث معها، ونستمع من غنائها، وغناء جواريها، فمضيا، فألفيا على بابها معاذ الأنصاري وابن صياد، فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم إلا الأحوص، فقالت: نحن على الأحوص غضاب فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها، وقال: ضنت عقيلة عنك اليوم بالزاد ... وآثرت حاجة الثاوي على الغادي قولا لمنزلها: حييت من طلل ... وللعقيق، ألا حييت من وادي إني وهبت نصيبي من مودتها ... لمعبد ومعاذ، وابن صياد وخرج أبو السائب مع عمر بن أبي ربيعة متنزهاً إلى بعض نواحي مكة، فذهب أبو السائب ليبول، وعليه طويلة، فرجع دونها، فقال له ابن أبي عتيق؛ ما فعلت طويلتك؟ قال: ذكرت قول كثير عزة: أرى الإزار على لبنى فأحسده ... إن الإزار على ما ضم محسود فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لساني، فأخذ ابن أبي عتيق طويلته، ورمى بها وقال: إلى من تقدمته أنت إلى بر الشيطان. وقال الأصمعي: كان أبو الطمحان شاعراً مجيداً، وكان يطلب الإذن على يزيد بن عبد الملك، فلم يصل إليه، فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من الشعر تغني بهما أمير المؤمنين، فإن سألك من قالها، فأخبره أني بالباب، فما رزقني الله منه فهو بيني وبينك، قال: هات، فأعطاه هذين البيتين: يكاد الغمام الحر يرعد أن رأى ... محيا ابن مروان، وينهل بارقه يظل فتيت المسك في رونق الضحى ... تسيل به أصداغه ومفارقه قال: فغناه بهما في وقت أريحيته، وطرب لهما طرباً شديداً وقال: لله قائلهما، من هو؟ قال: أبو الطمحان، وهو بالباب يا أمير المؤمنين، قال: ما أعرفه، فقال بعض جلسائه: هو صاحب الدير يا أمير المؤمنين، قال: وما قصة الدير؟ قال: قيل لأبي الطمحان: ما أيسر ذنوبك؟ قال: ليلة الدير قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت ليلة دير نصرانية، فأكلت عندها طفيشلا بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وسرقت كساءها ومضيت، فضحك يزيد، وأمر له بألفي درهم، وقال: لا يدخل علينا، فأخذ أبو الطمحان الألفين، وانسل بهما وخيب المغني. وقال إبراهيم الموصلي: دخلت على هارون الرشيد، فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهن على الرجال، غنيته بأبياته التي يقول فيها: ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فارتاح وطرب، وأمر لي بعشرة آلاف درهم. وقال أبو العباس: حدثت أن أبا العباس عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة، فسمعت غناء من القرى لم أر مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه، فإذا هو عبد أسود، فقلت: أعد علي ما سمعت، فقال: والله، لو كان عندي قرى أقريكه لفعلت، ولكني أجعله قراك، فإني، والله، ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى، ثم اندفع يغني: وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض، ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها قال عمر: فحفظته عنه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فهو كما ذكر. وحكى الشيباني قال: كان بالعراق قينة، وكان أبو نواس يختلف إليها، فكانت تظهر له أنها لا تحب غيره، وكان كلما جاءها وجد عندها فتى يجلس إليها ويتحدث معها، فقال فيها: ومظهرة لخلق الله وداً ... وتلقى بالتحية والسلام أتيت فؤادها أشكو إليها ... فلم أخلص إليه من الزحام فيا من ليس يكفيه خليل ... ولا خمسون ألفاً كل عام أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له: هجاء الأضياف، وهو القائل في ضيف له: تجهز كفاه، ويحدر حلقه ... إلى الزور، ما ضمت عليه الأنامل أتانا، وما ساواه سحبان وائل ... بياناً وعلماً، ما الذي هو قائل فما زال عنه اللقم، حتى كأنه ... من العي، لما أن تكلم باقل وحكى ابن عدي قال: نزل على أبي حفصة الشاعر رجل باليمامة، فأخلى له المنزل، ثم هرب؛ مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة، فخرج الضيف، فاشترى ما احتاج إليه، ثم رجع وكتب إليه: يا أيها الخارج من بيته ... وهارباً من شدة الخوف ضيفك قد جاء بزاد له ... فارجع وكن ضيفاً على الضيف وصلى الوليد بن عقبة بأهل الكوفة الصبح ثلاث ركعات، وهو سكران، ثم التفت إليهم وقال: وإن شئتم زدتكم، فشهدوا عليه وجلده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان رضي الله عنهما، وهو أخو عثمان لأمه، فقال فيه الحطيئة، وكان نديمه: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر نادى، وقد تمت صلاتهم ... ليزيدهم خيراً على خير ليريدهم خيراً، ولو قبلوا ... لقرنت بين الشفع والوتر كبحوا عنانك إذ جريت، ولو ... تركوا عنانك لم تكن تجري وكان بعض الظرفاء ينادم رجلاً من الرؤساء، فكان يكسوه إذ سكر قميصاً، فإذا صحا نزعه عنه، فقال في ذلك: كساني قميصاً مرتين، إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا فلي فرحة في سكره بقميصه ... وفي الصحو روعات تشيب النواصيا فيا ليت حظي من سروري وترحتي ... بكسوته أن لا علي ولا ليا وحدث أبو جعفر قال: بينما الأمين في قصر له، إذ مر بجارية سكرى، وعليها كساء خز، تسحب أذياله، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا على ما ترى، ولكن إذا كان في غد إن شاء الله، فلما كان من الغد، سار إليها، فقال لها: الميعاد، فقالت: يا أمير المؤمنين، أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار، فضحك، وخرج من مجلسه وقال: من بالباب من الشعراء؟ فقيل له: مصعب والبرقاش وأبو نواس، فأمر فأدخلوا عليه، فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً، يكون آخره: كلام الليل يمحوه النهار: فقال الرقاشي: متى تصحو، وقلبك مستطار ... وقد منع القرار، فلا قرار وقد تركتك صباً مستهاما ... فتاة، لا تزور ولا تزار إذا استنجزت منها الوعد، قالت: ... كلام الليل يمحوه النهار وقال مصعب: أتعزلني، وقلبي مستطار ... كئيب، لا يقر به قرار بحب مليحة صادت فؤادي ... بألحاظ، يخالطها احورار ولما أن مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار ولما جئت مقتضياً، أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار وقال أبو نواس: وليلى أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار وهز الريح أردافاً ثقالا ... وغصناً، فيه رمان صغار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التكريه، وانحل الإزار فقلت: الوعد سيدتي، فقالت ... كلام الليل يمحوه النهار فقال: أخزاك الله، يا حسن، أكنت معنا، أم مطلعاً علينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عرفت ما في نفسك، فأعربت عما في ضميرك، فأمر له بأربعة آلاف درهم، ولصاحبيه بمثلها. وحدث حماد بن إسحاق الموصلي قال: حدثني أبي قال: غدوت يوماً وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة، فركبت عازماً على أن أطوف في الصحراء وقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة، فعرفوه أني ركبت في مهم لي، ومضيت وطفت ما بدا لي، وعدت وقد حمى النهار، فوقفت في ظل شارع لأستريح فلم ألبث أن جاء خادم يقود حماراً فارهاً، عليه جارية، عليها لباس فاخر، فرأيت لها شمائل ظريفة، وطرفاً فاتراً، فحدست أنها مغنية، فدخلت الدار التي كنت واقفاً عليها، فعلقها قلبي، ولم أستطع براحاً، وأقبل رجلان يتماشيان، لهما هيئة تدل على قدرهما، وهما راكبا، فحملني حب الجارية، وحسن حالهما أن توسلت بهما، فدخلت معهما، فظنا أن صاحب الدار دعاني، وظن هو أني معهما، فجلسنا ودعا بالطعام فأكلنا وجيء بالشراب، فخرجت الجارية، وفي يدها عود، فرأيت جارية حسناء، فغنت غناء صالحاً، فتمكنت من قلبي وشربنا، ثم قمت للبول، فسألهما صاحب الدار عني، فأنكراني، فقال: هذا طفيلي، ولكن ظريف، فأجملوا عشرته، فجئت وجلست، فغنت في لحن لي: ذكرتك، أم مرت بنا أم شادن ... أمام المطايا تستريب وتسنح من المؤلفات الرمل، إذ ماء خدها ... شعاع الضحى في لونه يتوضح فأدته صالحاً، ثم غنت من صنعتي في شعري: قل لمن صد عاتبا ... ونأى عنك جانبا قد بلغت الذي أردت، ... وإن كنت لاعبا واعترفنا بما ادعيت، ... وإن كنت كاذبا فغنته أصلح من الأول، فاستعدته منها، فأقبل علي أحد الرجلين وقال: ما رأيت طفيلياً أصفق وجهاً منك، لم ترض التطفيل حتى اقترحت؟ وهذا تصديق المثل: طفيلي ويقترح، فلم أجبه، وكفه عني صاحبه، فلم ينكف، ثم قالوا: للصلاة، فأخذت عود الجارية وأصلحته إصلاحاً محكماً، وعدت إلى موضعي فصليت، ثم عادوا، فعاد ذلك الرجل في عربدته علي، وأنا صامت، فأخذت الجارية عدوها وجسته وقالت: من مس عودي؟ فقالوا: ما مسه أحد، فقالت: والله، لقد مسه حاذق ومتقدم، وشد طبقته، فقلت لها: أنا أصلحته، فقالت: بالله عليك خذه واضرب به، فأخذته منها وضربت، فبدا ظريفاً عجيباً، فيه نقرات محكمات، فما بقي منهم أحد إلا وثب فجلس بين يدي وقالوا: بالله، يا سيدنا، أتغني؟ قلت: نعم، وأعرفكم بنفسي، أنا إسحاق الموصلي والله، إن لأتيه على الخليفة، وأنتم تشتمونني اليوم؛ لأني تملحت معكم بسبب هذه الجارية، والله، إني لا نطقت بحرف، ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد، ونهضت لأخرج، فتعلقوا بي، وتعلقت الجارية، فقلت: والله، لا أجلس إلا أن يخرج، فقال له صاحبه: من شبه هذا حذرت عليه، فأخرجوه، فغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، فطرب رب الدار طرباً شديداً وقال لي: هل لك في أمر أعرضه عليك؟ قلت: ما هو؟ قال: تقيم عندي شهراً، والحمار والجارية مع ما عليها لك، قلت: أفعل، فأقمت عنده ثلاثين يوماً لا يعرف أحد أين أنا، والمأمون يطلبني، فجئت بذلك منزلي بعد شهر، وركبت إلى المأمون، فقال لي: إسحاق، ويحك، أين كنت؟ فعرفته الخبر، فقال: علي بالرجل الساعة، فعرفتهم موضعه، فأحضر، وقال له: أنت رجل ذو مروءة، وسبيلك أن تعاون عليها، ثم أمر له بمائة ألف درهم، ونهاه أن يعاشر ذلك المعربد الرذيل، وأمر لي بخمسين ألفاً، وقال: أحضروا الجارية فأحضرت فغنته، فقال: قد جعلت لها نوبة في كل يوم ثلاثاء، تغني مع الجواري، وأمر لها بخمسين ألفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وتشبه هذه الحكاية حكاية إبراهيم بن المهدي، إذ تشفع إلى المأمون من طفيلي، قدمنا ذكره في الباب قبل هذا، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، أحدثك بحديث في التطفيل عن نفسي، قال: قل، قال: خرجت يوماً فمررت في سكك بغداد، فشممت رائحة أبزار وقذور قد فاحت، فسألت خياطاً عن رب الدار، فقال: هو رجل من التجار اسمه فلان، وخرج من شباك في أعلى الدار كف ومعصم، ما رأيت مثلهما قط، فذهب عقلي وبهت، فإذا رجلان مقبلان، فقال لي الخياط: هذان نديماه، وهما فلان وفلان، فحركت دابتي، ودخلت بينهما وقلت: قد استبطأكما أبو فلان، فأتينا الباب ودخلنا، فلم يشك صاحب الدار أني منهما، فرحب بي، وأجلسني في أجل موضع، فأتينا بالألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: أكلت الألوان، وبقي الكف والمعصم، ثم سرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا هو أنبل مجلس، وصاحب الدار يقبل باللطف والحديث علي؛ لما ظن أني منهما، فخرجت جارية تتثنى، كأنها خوط بان، فسلمت وجلست وأخذت عوداً وجسته، فتبينت الحذق في جسها، وغنت بهذا الصوت: أشرت إليها: هل حفظت مودتي ... فردت بطرف العين: إني على العهد فحدت عن الإظهار عمداً لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضاً على العمد فجاءني ما لم أملك معه نفسي، وقلت: السلام، ثم غنت: أليس عجيباً أن بيتاً يضمنا ... وإياك، لا نخلو، ولا نتكلم؟ سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وترجع أحشاء على النار تضرم إشارة أفواه، وغمز حواجب ... وتكسير أجفان، وقلب متيم فحسدتها على حذقها وقالت: يا جارية، بقي عليك شيء، فغضبت ورمت بالعود وقالت: متى كنتم تحضرون البغضاء في مجالسكم مثل هذا؟ فندمت، ورأيت تغير القوم، فدعوت بالعود وغنيت: ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم بعد المدى فبلينا راحوا العشية روحة مذكورة ... إن متن متنا، أو حيين حيينا فأكبت على رجلي تقبلها وتقول: المعذرة يا سيدي، ما سمعت من يغنيه مثلك، وقام مولاها وصاحباه فصنعوا مثلها، وشربوا بالطاسات طرباً، ثم غنيت: غداً محبك مطوياً على كمده ... صب مدامعه تجري على جسده له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به، ويد أخرى على كبده يا من رأى كلفاً مستهدفاً أبداً ... كانت منيته في طرفه ويده فصاحت الجارية: السلام، هذا، والله، الغناء يا مولاي، وسكروا، وأمر صاحب الدار غلمانه بحفظهم إلى منازلهم، وبقيت أشرب معه، وكان جيد الشراب، وقال لي: يا سيدي، ذهب، والله، ما خلا من أيامي باطلاً، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت؟ فأخبرته، فقبل رأسي، وقال لي: أنا أعجب من هذا الأدب، وسألني عن قصتي، فأخبرته خبر الطعام والمعصم، فأحضر جواريه فلم أره: فقال: ما بقي غير أمي وأختي، ولأنزلهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، وقلت: أبدأ بالأخت، فلما رأيت معصمها قلت: هي هي، فأرسل إلي عشرة مشايخ، وأحضر بدرتين وقال: أشهدكم أني زوجت أختي فلانة من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم، فدفعت إليه بدرة، وفرقت الأخرى على المشايخ فانصرفوا، وقال لي: يا سيدي، أمهد لك بعض البيوت، فاحشمني، فقلت: بل أحملها إلى منزلي في عمارية، فو حقك يا أمير المؤمنين، لقد جمل إلي من جهازها ما ضاق عنه بعض دوري، فتعجب المأمون من كرمه، وأمر بإحضاره فصار من خواصه؛ لأجل كرمه. الباب الثالث في حكايات الأولياء والصلحاء والزهاد، وما يرجع إلى ذلك حدث محمد بن مسلم الرجل الصالح قال: رأيت يحيى بن أكثم في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا شيخ السوء، لولا شيبتك لأحرقت بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه، فلما أفقت، قالها ثانياً وثالثاً، فقلت: يا رب، ما هكذا حدثت عنك، فقال تعالى: وما حدثت عني؛ قلت: حدثني عبد الرزاق قال: حدثني معمر بن راشد عن الزهري عن أنس بن مالك عن نبيك صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عنك يا عظيم أنك قلت: "ما شاب لي عبد في الإسلام شيبة إلا استحييت أن أعذبه بالنار"، فقال الله تعالى: صدق عبد الرزاق وصدق معمر، وصدق الزهري، وصدق أنس، وصدق نبيي، وصدق جبريل، أنا قلت ذلك، انطلقوا به إلى الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وجاء في حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يتجر من بلاد الشام إلى المدينة ولا يصحب القافلة توكلاً على الله، فبينما هو جاء من الشام إذ عرض له لص على فرس، فصاح بالتاجر: قف، فوقف التاجر وقال له: شأنك ومالي؟ فقال له اللص: المال مالي، وإنما أردت نفسك، فقال له: أنظرني حتى أصلي، فقال: افعل ما بدا لك، فصلى أربع ركعات، ورفع رأسه إلى السماء وجعل يقول: يا ودود، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما يريد، أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وأسألك بقدرتك التي قدرت بها على خلقك، وبرحمتك التي وسعت كل شيء، لا إله إلا أنت، يا مغيث أغثني، ثلاث مرات، وإذا بفارس بيده حربة، فلما نظر إليه اللص ترك التاجر ومضى نحوه، فلما دنا منه طعنه الفارس فأداره عن فرسه وقتله، وقال للتاجر: اعلم أني ملك من السماء الثالثة، دعوت الأولى فسمعنا لأبواب السماء قعقعة، فقلنا: أمر حدث، ثم دعوت الثانية ففتحت أبواب السماء ولها شرر، ثم دعوت الثالثة، فهبط جبريل ينادي: من لهذا المكروب؟ فدعوت الله أن يوليني قتله، واعلم يا عبد الله أنه من دعا بدعائك هذا في كل شدة أغاثه وفرج عنه، ثم جاء التاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: لقد لقنك الله أسماء الله الحسنى التي إذا دعي بها أجاب، وإذا سئل بها أعطى. ووجه سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد إلى العراق، فأطلق أهل سجون الحجاج، وضايق على يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج، فظفر به بعد ذلك يزيد، لما ولي أفريقية فجعل محمد يقول: اللهم احفظ لي إطلاق الأسرى، وإعطاء الفقراء، فلما دنا يزيد منه، وفي يده عنقود قال: يا محمد، مازلت أسأل الله أن يظفرن بك، فقال له محمد: وما زلت أستجير الله منك، قال: فوالله، ما أجارك ولا أعاذك مني، والله، لأقتلنك قبل أن آكل هذه الحبة من العنب، والله لو رأيت ملكاً يريد قبض روحك لسبقته إليها، وأقيمت الصلاة، ووضعت حبة العنب بين يديه، وتقدم فصلى بهم، وكان أهل أفريقية قد اجتمعوا على قتل يزيد، فلما ركع ضربه رجل بعمود فقتله، وقيل لمحمد: اذهب حيث شئت. وقال أبو علي الدارني: صحبت الفضيل ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكاً ولا مبتسماً إلا يوم مات ابنه، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله تعالى أحب أمراً فأحببته، والفضيل هذا من رجال رسالة القشيري، مشهور بزهد وصلاح، وكان يقول: إذا رأيت الليل مقبلاً فرحت، وقلت: أخلو لربي، وإذا أبصرت الصبح استرجعت؛ كراهة أن يجيء من يشغلني، وكان في أول أمره شاطراً يقطع الطريق، وسبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو ذات ليلة، يرتقب الجواز إليها، إذ سمع تالياً يتلو: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) ، فقال: يا رب، قد آن، فرجع إلى خربة، فإذا فيها قافلة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى يصبح؛ فإن الفضيل على الطريق يقطع علينا، فأمنهم وجاور الحرم. وقال محمد بن المبارك: كنت مع إبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرة رمان، فصلينا ركعات، فسمعت صوتاً من أصل الرمانة يقول: يا أبا إسحاق، أكرمنا بأن تأكل منا، فطأطأ رأسه قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: يا محمد، كن شفيعنا إليه، ليتناول منا شيئاً، فقلت: يا أبا إسحاق، لقد سمعت، فقام فأخذ رمانتين، فأكل الواحدة وناولني الأخرى، فأكلتها، وهي حامضة، وكانت قصيرة، فلما رجعنا مررنا بها، وهي شجرة عالية، ورمانها حلو، وهي تثمر في كل عام مرتين، وسموها رمانة العابدين، وإبراهيم هذا من كبار شيوخ الصوفية وهو من رجال رسالة القشيري. وركب في مركب فهاجت ريح شديدة، فلف رأسه، وطرح نفسه مع الناس، فسمعوا من البحر صوت يقول: لا تخافوا؛ ففيكم إبراهيم بن أدهم، وصاح الناس في المركب: أين إبراهيم بن أدهم، ثم سكنت الريح، فخرجوا وما عرفوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وتوفي رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مسرفاً على نفسه، وحين حضرته الوفاة رفع رأسه، فإذا أبواه يبكيان عليه، فقال: ما يبكيكما فقالا: نبكي؛ لإسرافك على نفسك، فقال: لا تبكيا؛ فوالله ما سرني أن الذي بيد الله من أمري بأيديكما، فأتى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن فتى توفي اليوم، فأشهده بأنه من أهل الجنة، فاستكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه عن عمله، فقالا: ما علمنا عنده شيئاً من خير إلا أنه قال عند الموت: كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ها هنا، إن حسن الظن بالله من أفضل العمل عنده". وكان محمد بن نافع الناسك صديقاً لأبي نواس، قال: لما بلغني موته أشفقت عليه، فرأيته في المنام، فقلت: أبو نواس فقال: لات حين كنية، قلت: الحسن؟ قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: بأي شي؟ قال: بتوبة تبتها قبل موتي بأبيات شعر قلتها، قلت: وما هي؟ قال: هي عند أهلي، فسرت إلى أمه، فلما رأتني أخذت في البكاء، فأخبرتها بما رأيت، وبما قال، فسكتت، وأخرجت إلي كتباً منظمة، فوجدت بخطه كأنه قريب: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو المسيء المجرم أدعوك رب، كما أمرت تضرعاً ... فإذا رددت يدي، فمن ذا يرحم؟ ما لي إليك وسيلة إلا الرجا=وجميل ظني، ثم إني مسلم وقال سفيان الثوري لرابعة العدوية: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوف النار، ولا رجاء الجنة، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً فيه وشوقاً إليه، وقالت في معنى ذلك: أحبك حبين، حب الهوى ... وحبا لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا واحتاجت إلى شيء، فقيل لها: لو بعثت إلى فلان، فقالت: والله، لا أطلب الدنيا ممن يملكها، فكيف من لا يملكها. وزارها أصحابها، فذكروا الدنيا، وأقبلوا على ذمها، فقالت: اسكتوا من ذمها؛ فلولا موضعها من قلوبكم، ما أكثرتم من ذكرها، ألا من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وقال عبد الواحد بن زيد: رأيت ليلة مات الحسن البصري في النوم أبواب السماء، كأنها منفتحة، وكأن الملائكة صفوف، فقلت: إن هذا لأمر عظيم، فقال لي قائل: الحسن البصري قدم على الله، وهو عنه راض. وكان للمأمون غلام، فبينما هو يصب الماء على يده، إذ سقط الإناء، فغضب المأمون، فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول: (والكاظمين الغيظ) ، قال: قد كظمت غيظي، قال: (والعافين عن الناس) ، قال: قد عفوت عنك، قال: (والله يحب المحسنين) قال: اذهب، فأنت حر. وقال بكر بن سليمان الصواف: دخلنا على مالك بن أنس رضي الله عنه في العشية التي قبض فيها، فقلنا: يا عبد الله، كيف تجدك؟ فقال: لا أدري ما أقول لكم، ستعاينون من عفو الله تعالى ما لم يكن في حسابكم، ثم ما خرجنا حتى غمضنا عينيه. وقيل: إن ثلاثة نفر من العابدين اجتمعوا في الموقف، فقالوا: تعالوا، حتى نعرض أنفسنا على مولانا، ونصف حالتنا، فتقدم أحدهم ورمى بثوبه عن عاتقه، وبقي في المتزر، ثم قال: نفسي معيوب، وكلامي معيوب، والكل مني معيوب، فإن كنت تقبل معيوباً، فلبيك اللهم لبيك، قال: فنودي في سره: عبدي، لم تعيب نفساً أنا خلقتها وبلطفي رزقتها، ولولا أني غفرت لها لما أدنيتها، وتقدم الثاني فقال: نفسي مطلوب، وعقلي مغلوب، ولساني مقر بالذنوب، فما حيلتي يا علام الغيوب؟ فنودي في سره: عبدي، لم تقبح نفسك ولم أجعل بيني وبينك ثالثاً، عصيتني سراً، وغفرت لك سراً، وتقدم الثالث فقال: مولاي، ما لي لسان أناديك، ولا سر أناجيك، ولا يد أرفعها لك، فارحم تضرعي وتذللي بين يديك، فنودي في سره: عبدي حجك مبرور، وسعيك مشكور، وذنبك مغفور، وقد وهبنا لك أهل الموقف، فمن جاءنا، بالذلة والافتقار، استقبلناه بالعز والافتخار، ومن جاءنا بالذلة والخضوع استقبلناه بحسن الرجوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وسئل سهل بن عبد الله التستري عن أصل عبادته فقال: اعلموا، رحمكم الله، أني كنت ألفت حوضاً من الجامع أصلي فيه، فلما كان في بعض الأيام، وكان يوم جمعة، توضأت وأسرعت إلى المسجد، فوجدته قد غص بالناس، فبقيت متحيراً، فأسأت الأدب، وتخطيت رقاب الناس، حتى وصلت إلى ذلك الحوض، فركعت وجلست، فإذا عن يميني شاب حسن الصورة، وعليه ثياب صوف بيض، وعلى كتفيه طيلسان أبيض، فنظر إلي وقال: كيف تجدك يا سهل؟ فقلت: بخير، أصلحك الله، وبقيت مفكراً في معرفته لي، وأنا لم أعرفه، فبينما أنا كذلك إذ أخذتني حرقة بول، فأكربتني، وبقيت على وجل حياء من الناس أن أسيء أدبي وأتخطاهم ثانية، وإن جلست لم يكن لي صلاة، فبينما أنا كذلك، إذ التفت إلي الشاب وقال: يا سهل، هل أخذتك حرقة البول؟ فقلت: أجل، فنزع طيلسانه من منكبيه، وغشاني به، ثم قال لي: يا سهل اقضي حاجتك، وأسرع تلحق الصلاة، قال: فأغمي علي ثم فتحت عيني، فإذا أنا باب مفتوح، وسمعت قائلاً يقول: لج، يرحمك الله فولجت الباب، فإذا قصر على البنيان شامخ الأركان، وإذا في وسطه نخلة قائمة، وإذا جانبها مطهرة مملوءة ماء، ونظرت إلى موضع إراقة الماء، وإذا منشفة معلقة وسواك، فحللت سراويلي وبلت واغتسلت، وتوضأت وضوءاً كاملاً، وتنشفت، فسمعته يقول: قد قضيت أربك؟ قلت: نعم، فوضع الطيلسان، فإذا أنا جالس في مكاني، لم يشعر بي أحد، فبقيت متحيراً، لا أدري ما حل بي، وأنا مكذب لروحي فيما جرى، وقامت الصلاة، فلم أدر ما صليت، ولم يكن همي غير الفتى، فلما خرج تتبعت أثره، فإذا به قد دخل إلى درب عظيم وأنا خلفه، فالتفت إلى ورائه، فلما رآني قال: يا سهل، كأنك ما أيقنت؟ فقلت: كلا، فقال: لج الباب يرحمك الله، فنظرت إلى الباب بعينه، فولجت القصر، فرأيت النخلة والمطهر والحال بعينه، والمنشفة مبلولة بحالها، فقلت: آمنت بالله تعالى فقال: يا سهل، من أطاع الله أطاعه كل شيء، يا سهل، اطلبه تجده، فتغرغرت عيناي بالدموع، فلما مسحتهما فتحتهما، فلم أر الفتى ولا القصر، فبقيت متحيراً على ما فاتني منه متأسفاً، فاجتهدت عند ذلك في الخدمة، واستعنت بالله تعالى فأعانني. وقيل: إن سهلاً هذا صام من يوم خروجه من بطن أمه إلى دخوله إلى القبر، لم يفطر في عمره إلا أيام العيدين، وذلك أن أمه كانت تعرض عليه ثديها بالنهار فلا يرضعه فإذا كان المغرب رضعه، فلم يزل كذلك إلى أن بلغ سبع سنين، فأخذ في الصيام والعبادة، حتى لقي الله عز وجل. وقيل: لما كان يوم وفاته، خرج الناس بنعشه في يوم حر وشمس، فإذا بيهودي يصيح: معشر الناس، هل ترون ما أرى؟ فنظروا، فإذا بنسور قد سدت الأفق، ونشرت أجنحتها؛ تستر الناس من الشمس، فقال اليهودي عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله حقاً حقاً، ثم قضى نحبه من ساعته، فأخذوا في غسله وتكفينه، وصلى عليهما جميعاً، ودفن إلى جانب قبر سهل. وقال ابن شريح في مرضه الذي مات فيه: رأيت البارحة في المنام كأن قائلاً يقول: هذا ربك يخاطبك، فسمعت: "ماذا أجبتم المرسلين فوقع في قلبي أنه يراد مني زيادة في الجواب، فقلت؛ بالإيمان والتصديق، غير أنا قد أصبنا من هذه الذنوب، فقال: أما أني سأغفرها لكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وكان رجل شريف جمع قوماً من ندمائه ودفع إلى غلام له أربعة دراهم ليشتري بها فواكه للمجلس، فمر الغلام بمجلس منصور بن عمار الواعظ، وهو يسأل لفقير شيئاً، ويقول: من دفع له أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات، فدفع له الغلام الدراهم، فقال له المنصور: ما الذي تريد أن أدعو لك به؟ فقال: أن يعتقني الله من العبودية، فدعا منصور، وأمن الناس على دعائه، قال: والثانية يا غلام؟ فقال أن يخلف الله على الدراهم فدعا له وأمن الناس، ثم قال له والثالثة يا غلام؟ فقال: أن يتوب الله على مولاي، فدعا وأمن الناس، ثم قال: والرابعة يا غلام؟ قال: أن يغفر الله لي ولمولاي ولك يا منصور وللحاضرين، فدعا منصور، وأمن الناس على دعائه، فرجع الغلام فقال له مولاه: لم أبطأت؟ فقص عليه القصة، قال: وبم دعا؟ قال: سألت لنفسي العتق، قال: اذهب، فأنت حر، قال: والثانية؟ قال: أن يخلف الله على الدراهم، قال: لك أربعة آلاف درهم، قال: والثالثة؟ قال: أن يتوب الله عليك، قال: تبت إلى الله عز وجل، قال: والرابعة؟ قال: أن يغفر الله لي ولك وله وللحاضري، قال: هذه واحدة ليست إلي، فلما بات رأى في المنام كأن قائلاً قال له: أنت فعلت ما كان إليك، أتراني لا أفعل ما كان إلي؟ قد غفرت لك وللغلام ولمنصور وللحاضرين أجمعين. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120