الكتاب: مختصر سنا البرق الشامي المؤلف: الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني، أبو إبراهيم (المتوفى: 643هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- مختصر سنا البرق الشامي البنداري الكتاب: مختصر سنا البرق الشامي المؤلف: الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني، أبو إبراهيم (المتوفى: 643هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ـ[مختصر سنا البرق الشامي]ـ المؤلف: الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني، أبو إبراهيم (المتوفى: 643هـ) [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] سنا البرق الشامي تضم المكتبة السليمانية باستنبول النسخة الوحيدة من سنا البرق الشامي برقم أسد أفندي 2249. ويقع سنا البرق الشامي في تسع وسبعين ورقة من القطع الكبير من 163ب: 242 أ. وقد وجدته مجلداً مع كتاب حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة لجلال الذين السيوطي. وعلى الصفحة الأولى من المخطوط (كتاب حسن المحاضرة في تاريخ مصر القاهرة ويليه الجزء الأول من كتاب سنا البرق الشامي لعماد الدين الكاتب الأصفهاني) ويبدأ بمقدمة كتبها البنداري ويذكر انه انتهى من اختصاره للبرق عام 622هـ 1224م وباستعراض الموضوعات الواردة في الأوراق الاثنتي عشر الأولى يتضح لنا عدم انتظامها وعدم تتابعها ففي ورقة 164ب يذكر وصول العماد إلى الشام في 562هـ 1166م، ويتبع ذلك وصول شاور إلى دمشق عام 563هـ 1167م ثم يذكر حملة اليمن، وفجأة يذكر موت نور الدين محمود 569هـ 1174م. ويأتي خلال ذلك إشارة إلى بعثة ابن القيسراني إلى مصر ويلي ذلك مؤامرة عمارة اليمني ضد صلاح الدين عام 564هـ 1168م. وربما حدث ذلك خلال اختصار البنداري للنص، أو ربما وقع من الناسخ خلال كتابته له في عصر لاحق. وينتظم بعد ذلك المخطوط إلى أن يصل إلى الأوراق الثلاثة الأخيرة فنجد أن المادة التاريخية بها غير منتظمة، وغير مترابطة. والمخطوط على العموم مكتوب بخط غير جميل، وهناك كثير من الفجوات، والأخطاء الإملائية ربما حدثت خلال النسخ وكان هدف التحقيق هو تصحيح وضبط النص. وقد شكى الفتح البنداري وغيره من المؤرخين صعوبة أسلوب العماد وطوله وإسهابه، وتعقيده. فقد ذكر الصفدي أن شعره ألطف من نثره لأنه أكثر الجناس فيه وبالغ حتى يعود كلامه كأنه درب من الرقي والعزايم وقد عاب الناس ممن له ذوق ونظرة سليمة كثرة الجناس لأنه دليل التكلف. وقد ذهب ابو الشامة نفس المذهب في وصفه لأسلوب العماد فقال بأنه مسهب مطنب يصيب الإنسان الكلل والملل من قرأته أما ياقوت وابن خالكانى فقد ذكروا أن العماد والقاضي الفاضل كانا يميلان إلى التلاعب بالألفاظ مثال ذلك (سر فلا كبا بك الفرس) ، (ودام علا العماد) ومثل هذه العبارات يمكن قراءتها من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين. ومما هو جدير بالإشارة أن البنداري حين اختصر البرق كان أميناً، ولم يحاول التغيير في الأسلوب والتزم بخطة واضحة طوال النص. أما مصادر التحقيق فقد تمثلت بالضرورة في الجزئيين الثلث والخامس من البرق الشامي الأصل وقد شكل هذان الجزءان مصدراً هاماً من مصادر التحقيق خاصة في غياب نسخة تفيد في المقارنة. كذلك كان للمقتطفات التي وردت في كتاب الروضتين لأبي شامة أهمية كبيرة فقد ملأت العديد من الفجوات وساعدت في ضبط الكثير من أجزاء النص وقد اعتبرت ما تبقى من البرق بالإضافة إلى مقتطفات أبى شامة أصلاً ثانياً للتحقيق. هذا بالإضافة إلى الاستعانة بالمصادر اللاحقة على البرق الشامي كالكامل في التاريخ لابن الأثير، ومفرج الكروب لابن واصل، والخطط لتقي الدين المقريزي، وكلها قد أفاد كاتبوها من مؤلفات العماد الكاتب لا سيما البرق الشامي. كذلك اعتمدت على بعض المصادر غير المنشورة كتاريخ ابن ابي الهيجاء، والعسجد المسبوك، ورسائل القاضي الفاضل. وتجب الإشارة إلى أن البنداري ذكر في مقدمته انه سوف يذيل مختصره بمقتطفات من رسالتي العماد العقبي والعتبي، وخطفه البارق وعطفه الشارق إلا انه لم يفعل. وريما كان سبب ذلك انه لم يستكمل البرق، فيقول العنوان الجزء الأول من سنا البرق الشامي، إيماء إلى انه سيكون هناك جزء ثان، ولكننا لم نعثر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 [مقدمة المؤلف] وما توفيقي إلا بالله (1163) لنا بعد حمد الله على نعم نافحة الرياض، ونح طافحة الحياض، ونرتع في سارحها ليلاً ونهاراً، ونكرع في شارعها سراً وجهاراً، ونلبس فضفاضها سائغاً ونرد غياضها سابغاً ثم الصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوة الأنام المطل من المجد على الغارب والسنام، الملحى بأنوار هدايته ظلم ليالي الباطل المحلى بقلاليد رسالته بحر الزمان العاطل وعلى آله وأصحابه مصابيح الرحمة ومجاديع الحكمة ومفاتيح الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 فأني لما رأيت أبلغ المراتب وأنجح الوسائل إلى خدمة مولانا السلطان الملك المعظم ملك ملوك العرب والعجم أبي الفتح عيسى بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب لا زالت سماء الجلالة موشحة بدراري سيره الزاهرة ومطالع الإقبال منورة بأشعة مكارمه الباهرة، والتمسك بعصم العلوم وأهداب الآداب والتوسل بإخراج درر الكلم من لجج الحكم الطامية العباب. حبست نفسي ووقفت نفسي مشيعاً مآثر حضرته العالية، سالكاً مناهج الإخلاص في السريرة والعلانية. فالجنان يضم الولاء النافع، واللسان ينشر الثناء الشايع، والبنان يحرر بل يجيز من مدحه الوشايع أفرغ الاستطاعة جرياً على مقتضى الخدمة والطاعة فيما يرجع بتخليد آثار بيته الكريم، ويعود بأعلى صيته العظيم في نظم تطبق فضائله اللآفاق وتملأ بمناقبه خراسان والعراق، ونثر ينشر حلل معاليه في محافل السلاطين وأندية الملوك، ويبث عرف أياديه وينظم عقد مساجيه مثل العنبر المفروك والجوهر المسلوك. ولما ترجمت لخزانته العالية كتب شهنامة التي توجت فيه سير الملوك والسلاطين الأقدمين يغير مفاخرة وفضلت قلايد مناقبهم وعقود مكارمهم بزهر مآثره نظرت في الكتاب الموسوم بالبرق الشامي للأمام السعيد عماد الدين الأصفهاني فوجدت عمايمه تتدفق بأنواع الفوايد، وكمايمه تتفتق عن أنوار الفوايد، تحتوي من البلاغة على إبكارها وعونها، وتشتمل من البراعة على غررها وعيونها، فيه من السير السلطانية الناصرية والعادلية وساير الدوحة الكريمة الأيوبية ما ينطبق على مثله كثير من الكتب المصنفة في التواريخ والسير القديمة منها والحديثة. لكنني وجدت درر مقاصدة مكنونة في بحار أسجاعه المتلاطمة الأمواج، ورأيت غرر فوايده مغمورة في غمار أوصافه المتتابعة الأفواج ما بين قراين تشابكت قرون لواحقها في إصلاء سوابقها، وأفانين تشاجرت فنون أغصانها في أرجاء حدايقها، فشذبت شجيراتها أدنيت جنا جناتها لقاطفيها وجناتها، واقتصرت منها على ألفاظ هي كالمعارض لخرايد معانيها الرايقة، وكالواسطة في قلايد قراينها المتناسقة، وكشفت أطباق حجبها بل استار سحبها عن محتلى دراري سماتها، وأرحت قساطل خيلها وغياطل ليلها عن مطالع مسمياتها، وتباشير أسمائها ولم أحم من الكتب النشأة في الوقايع المذكورة إلا حول جهة من الكلم الجليلة الفاضلية، ونبذ من الكتب البديعة العمادية سالكاً مسلك الاختصار وناهجاً منهج الاقتصار ثم وقفت له رسالتين في ثلاث مجدات وسم احدتهما بالعقبى والعتبى وهي مشتملة على ما جرى بعد الأيام الصلاحية مدة ثلاثة سنين، ووسم الثانية بخطفة البارق وهي محتوية على الوقايع التي جرت من مفتتح سنة ثلاث وتسعين إلى رمضان سنة سبع وتسعين وفيها تصرمت أيامه رحمه الله. (1164) فرأيت أن أذيل بما أنتخبه منهما هذا المختصر لاشتمالهما على طرف من السير الكريمة العادلية أنار الله برهانها ولمع من مطالع أنوار دولة السلطانين العادلين مولانا الملك الكامل ومولانا الملك المعظم خلد الله سلطانهما وأعز أنصارهما وأعوانهما ونتف في مدايحهما الزاهرة ومحامدهما الباهرة ونبذ من أحوالهما في مفتتح جلالهما ومقبل إقبالهما وريعان سلطانهما وعنفوان شأنهما خدمة منى للمواقف الكريمة والعتبات العالية وقضاء لبعض حقوق نعمهما العايدة البادية وأياديها الرابحة العادية وسميته سنا البرق الشامي واستعنت في ذلك وفي جميع أموري بالله سبحانه وتعالى وهو حسبي ونعم الوكيل. [مقدمة العماد الأصفهاني] قال الأمام العالم ذو البلاغتين عماد الدين ابو عبد الله بن محمد بن محمد ابن حامد الكاتب الأصفهاني رحمه الله في صدر كتابه الموسوم بالبرق الشامي وبعد فإن الكريم من عرف حق المنعم عليه وشكر فضل المحسن إليه وإذا خدم مخدوماً أوجد كرمه بذكره وان صار معدوماً وعرف من بين ما عرفه ما كان مكتوماً ومن استكفاني بالإنشاء لتنفيذ أوامره في حياته كافية بالأحياء في إنشاء مفاخرة في مماته وهو الملك الناصر صلاح الدنيا والدين ابو المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله. فأني صحبته فكان خير مصحوب، وخطبت وده فألفيته الآن مخطوب، ولما انقضى عصره وانقضت عمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 خشيت أن ينقرض ذكره فأنشأت هذا الكتاب وأعطيته من البلاغة حظاً وأعرته من الفصاحة لحظاً وافتكرت وابتكرت صياغته معنى ولفظاً وسميته البرق الشامي لأني وصلت في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة في دولة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سقى الله عهده عماد الرحمة فصادفت الدولة في أيامه والأيام الصلاحية إلى السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين متناسقة المحاسن وهيبتها بطيبها مستمرة على حسنها مستقرة، ثم التفت فإذا هي كبرق ومض وطرف غمض وما أسرع ما انقضت وانقرضت تلك الليالي والأيام والشهور والأعوام. وقد انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام. قال وأنا أقدم في هذا الكتاب ذكر نبذ من أحوالي مع السلطان ثم أبتدئ بذكر معرفتي به وخدمتي له وأضف مبادئ دولته إلى أن وصل إلى الشام وحضرت خدمته، وأصف سيره كل سنة وآتى بشرح حسناته بكل حسنة. قال: ولم يزل قلمي لسيفه مشاركاً ولملكه مداركاً هذا للرزق وذاك للأجل، وهذا للأمن وذاك للوجل. وكان السلطان يعتمد على قلمي وينصر كتابته وهو يقول: الحمد لله الذي لم يضع على العماد اعتمادي وحاط إلى سداده سدادي ثم ما وفي أحد بعهده وفائي بعهده من بعده فأني سيرت معاني معاليه بالنازي الفاضلة وخلدت ذكره في مصنفاتي إلى قيام الساعة وأحييت ذكره بالوفاء وأهديت له حياة ثانية بعد الحياة. ولما نقله الله الكريم إلى جناب جناته واقتسم أولاده ممالكه قلت يسلكوا وينسكوا مناسكه وانهم يعرفون مقداري ويرفعون مناري ويشرحون صدري ولا يضعون قدري فأخلف الظن حتى قطعوا رسومي ومنعوا مرسومي وغوروا منابعي وكدروا مشارعي. قال ومما كتبته في كتاب يتضمن شكوى الحال ما حال ما غصبت أملاكه إملاكه ونصبت إشراكه فكتبت إلى المولى الفاضل في فصل يسلم فيه على ولدي القاضي الولد مقبل العين ويحييه إلى أن تصل القبل إلى اليدين والى أن يسر والده إذا هما في الفضل ثاني اثنتين وما أحسن قول سيدنا غصبت أملاكه ونصبت إشراكه إشراكه واستحسنت ازدواج هاتين الكلمتين ووقعتا مني بموقع بمشاركتي له في المكروهين قال وتمام هذا الفصل من الكتاب الفاضلي وقد شرح من أحواله واعتزاله وصبره واحتماله وتلطفه في تجويز الوقت واحتياله وشكره لقوم لا على إيصال ما لهم إليه ولكن على إيصاله إلى ماله ما ذكرني بابن حيوس وقد مطله صاحب دار الوكالة ببيع بضاعة له. مضى الكرماء صانوا ماء وجهي ... بجود لا برفق بالسؤال وما أنا بعد هم في الناس أبغى ... كريماً يشتري حمدي بمالي قال ومما كتبته إلى الأجل الفاضل في شكوى قصيدة منها: دمشق تقصد عظمي ... بعرقه أي عرقه إخفاقه لرجائي فيها ... وللقلب خفقه أقمت فيها وحيداً ... كالدر ضمته حقه [دولة نور الدين زنكي] ذكر الوصول إلى الشام في سنة اثنتين وستين وخمسمائة قال: وصلت إلى دمشق في أيام جلاء حسنها وانجلاء حزنها وغناء أفنانها بالأغاريد وانتشاء إنشائها بالأناشيد فقدمتها في أطيب زمان ونزلت من المدرسة التي وليتها في أحسن مكان. وكان ملكها والذي يتولى ممالكها الملك العادل نور الدين ابو القاسم محمود بن زنكي وأعف الملوك واتقاهم وأثقبهم وأصلحهم عملاً واحجهم أملاً وأرجحهم رأياً وأوضحهم أيا. وهو الذي أعاد رونق الإسلام إلى بلاد الشام فاستفتح معاقلها واستخلص عقايلها وكانت للفرنج في أيام غيره على بلاد الشام قطايع فقطعها وعفى رسومها ومنعها ونصره الله عليهم مراراً حتى أسر ملوكهم وبدد سلوكهم وصان الثغور منهم وحماها عنهم وأحيا معالم العلوم الدوارس وبنا لمذاهب السنة والجماعة المدارس وانشأ الخانكات للصوفيه وكثرها في كل بلد وكثر وقوفها وأجد الأسوار والخنادق وأمر في الطرقات ببناء الربط والخانات وهو الذي أعان على فتح مصر وأعمالها وأنشأ دولتها ورجالها. وكان صلاح الدين أحد خواصه وأخلص ذوي استخلاصه ولد نجم الدين أيوب من أكابر أمرائه لا يفارقه راكباً في ميدانه ولا جالساً في إيوانه يقف على رأسه ووالده من جلاسه وقد اقتدى به في جميع ما اتصف به من التقى والعفة والنزاهة والنباهة وآداب الملك وأحكام السلطنة فتلقن منه مبادئ الخيرات ثم جاوز بها في أيامه الغايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وكانت بيننا وبين نجم الدين أيوب معرفة قديمة من تكريت حيث كان بها والياً وسببه أن عمي العزيز أحمد بن حامد ودعه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه في قلعة تكريت إشفاقاً عليه من قصد من صار في منصبه فجد في نصيبه وبذل فيه ثلثمائة ألف دينار ليعتقل ويحضر هو ما بذله ويعجل فمال إلى المال وسير العزيز إلى تكريت برسم الاعتقال وذلك في سنة خمس وعشرين وخمسمائة فسعى ذلك الوزير في قتل السلطان بالسم واجلس أخاه طغرل في السلطنة وتفرد بالحكم فعلق رهن العزيز ودأب مراراً إلى تكريت من يباشر قتله فلم يقبل واليها نجم الدين خدعه وقتله وتولى أخو الوالي أسد الدين شيركوه صوته ولم يزل في حمايته وعونه. قال وسمعت أسد الدين في سنة اثنتين وستين وهو يحكي إلى نصرته لعمي فلما كنت جالساً في المحراب يوماً عنده وهو يقرأ من القرآن ورده فسمعت هاتفاً يقول: قد جعلك الله عزيزاً كما دافعت عن العزيز فالتفت غلي وقال: أعمل وأعلم. قال أسد الدين: فمن ذلك اليوم سمت همتي وتمت عزمتي وبدهاء عمك العزيز طمعت في مصر وان أصير عزيزها وحرصت على أن أملكها وأحرزها. ذكر سبب وصولي إلى دمشق قال: وكان انصرافي من بغداد ووصولي إلى الشام لا لقصد أحد من الكرام ولكن استوحشت هناك لفارط الاستدراك وذلك أن الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيره مال لفضله إلى فضلي واقتطعني إليه وولاني نيابته بالبصرة تارات وبوسط كرات وعرفت به فلما توفي في سنة ستين أقمت بغداد بعده وكل من هو إليه منسوب مكبوت ومكبوب وما طرقتني بحمد الله آفة ولا عرتني مخالفة وأنا إلى الفقهاء منقطع، وبالمناظرة وبالمباحثة معهم منتفع، ومنهم فقيه من أهل دمشق يصف طيب رياضها وبهجة جواهرها وأعراضها وصحة هوائها وقلة أمراضها فراقتني معرفته وشاقتني صفته فقلت أجعلها سنة فرجة أسافر لأسفار صبحي بسري دجله وأقصد إيناس قلبي وتنفيس كربي ورافقني وما فارقني حتى وصل بي إلى قرب دمشق فانقطع عني وساء بعد الإحسان به ظني فلم أدر في أي مطار طار والى أي مصير صار فبقيت غريباً وحيداً ولقيت من استيحاشي هما شديداً وقلت لأصحابي: أضربوا لي خيمة عسى أن نعرف أحداً يسدي يدا فقد رضينا بمصيف ومقيل بلا قيل وظل ولو انه غير ظليل. وقد نمى خبري إلى بعض الصوفية فدخل إلى القاضي كمال الدين ابي الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهروزي وهو يومئذ قاضي دمشق وقال له فلان قد ورد البلد فبينا نحن في تحير وتفكر وتوهج وتسعر إذا جاء خواص القاضي وحجابه وعدول مجلسه ونوابه يعتذرون عن تأخره لأمر أناله وانه يخفي عنك سؤاله ويقول انزل حيث تختار النزول بالمدرسة فنزلت في المدرسة التي أنا الآن مدرسها وترددت إلى القاضي في محافل علمه ومجالس حكمه واستددلت واعترضت في الأصول والفروع على الأئمة الفحول. وعرف (1165) الأمير نجم الدين بالوصول فبعثته معرفة العم العزيز على التعرف بي فبكر إلى منزلي لتبجيلي وتحقيق تأميلي واستقبلته وأسرعت إلى بساط الأدب فقبلته وخدمته بهذه القصيدة في أواخر شوال سنة اثنتين وستين وأخوه أسد الدين شيركوه وولده صلاح الدين يوسف قد توجها في هذه السنة إلى مصر وهي النوبة الثانية. قلت وأول القصيدة: يوم النوى ليس من عمري بمحسوب ... ولا الفراق إلى عيشي بمنسوب لم أنس أنسى بكم والشمل مجتمع ... وعيشتي ذات تطريز وتذهيب أرجو إيابي إليكم ظافراً عجلاً ... فقد ظفرت بنجم الدين أيوب ومنها في ذكر أخيه وابنه وما تفرس من ملك مصر وقد تم ذلك بعد سنتين. غداً يشبان في الكفار نار وغى ... بلفحها يصبح الشبان كالشيب ويستقر بمصر يوسف وبه ... تقر بعد التنائي عين يعقوب ويلتقي يوسف فيها باخوته ... والله يجمعهم من غير تثريب فأرجوا الإله فعن قرب بنصرته ... سيكشف الله بلوى كل مكروب فصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 قال: كان شاور وزير مصر في أيام العاضد قد وصل إلى دمشق في سنة ثمان وخمسين يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول ملتجأ إلى نور الدين فنصره على عدوه وسير معه أسد الدين شيركوه يوم الخميس العشرين من جمادى الأول سنة تسع وخمسين على قرار عينه وأمر بينه فمضى معه ونصره واسترد له موضعه وإعاده إلى مجلسه عادته وأظهره بعدوه فلما تمكن من منصبه قال لأسد الدين: اذهب فقد وقع عنك الغنى وغدر بعهده واخلف في وعده فأنف أسد الدين وأقام يتأسد ويبرق ويرعد. وكان شاور قد شاور الفرنج وهداهم في حرب الإسلام النهج فوصلوا بحميتهم وجمرتهم فتحصن شيركوه ومن معه بمدينة بلبيس وشاور في جنود مصر وحشودها والفرنج في قوامصها وكنودها. حاصروا ثلاثة أشهر فيها وهو يحميها حتى فلت جدودهم وملت جنودهم فبذلوا له قطيعة يأخذها منهم وينفصل عنهم وكانت المحاصرة في مستهل شهر رمضان إلى مستهل شهر ذي الحجة. قال: وفي تلك السنة اغتنم نور الدين خلو الشام من الفرنج وقصدهم واجتمعوا على حارم فضرب معهم المصاف ورزقه الله الانتقام منهم وقتلهم وأسرهم ووقع في الاسار ابرنس انطاكية وقومص طرابلس وابن جوسلين ودوك الروم وذلك الحادي العشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين وتسلم منهم بانياس. وعاد أسد الدين إلى الشام وجرى على عادته في خدمة نور الدين وفي قلبه من شر شاور الاحن وكيف تمت بغدره تلك المحن إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة فجمع وسار في أمل ووصل في سادس شهر ربيع الآخر إلى أطفح وعبر منها إلى الجانب الغربي وأناخ بالجيزة أقام عليها نيفاً وخمسين يوماً على محاذاة مصر واستعان شاور بالفرنج واستنجد بالكفر وفسح لهم في طروق الديار وجوس خلال الأمصار ورتبوا لهم بالقاهرة سوقاً أشاعوا كفراً وفسوقاً وعبر بهم من البلاد الغربية إلى الغرب وساقوا لموافقته على الحرب فلما عرف أسد الدين عبورهم رحل قدامهم فقربوا منه في موضع يعرف بالبابين فعبى صفوفه أطال في الملتقى وقوفه وحشاً قلبه بأثقاله وجماله وطبوله وأعلامه ووقف جانباً برجاله وأبطاله وظنوا انه في القلب وساق أكثرهم وراء المنهزمين ووقف الباقون وقوف المغيرين. وكان صلاح الدين واقفاً في صحبه في أبطال من حزبه فاغتنم خلو العرصة وانتهز بدو الفرصة وحمل على القوم وهم المقدمون فكسرهم وأسرهم وركب أكتاف فتاكهم وأعرى بيضه وسمره بهلاكهم وكان فيهم ملكهم وقد كاد يدركه ويدركهم. واجتمع إلى صلاح الدين من المفلولين جماعة فما شعروا إلا بالفرنج من وراء المنهزمين عايدة وكان ملك الفرنج في نفريسير وشاور معه وكاد يظفر به العسكر الإسلامي لكن الأصحاب (165ب) رأوا الفرنج عايدة اشتغلوا بهم وقتلوا منهم ومن تبعهم من المصرية ألوفاً وضايقوهم وأوسعوهم حتوفاً وحصل سبعون فارساً من فرسانهم في الإسار وقيدوا في خرايم الذل والإقتسار ولما تمت لصلاح الدين النصرة أقام وجمع الفل وجاء عمه أسد الدين وساروا بمن معهم إلى الإسكندرية ودخلوها ووجدوا مساعدة أهلها وحلوها ثم قال أسد الدين: أنا لا يمكنني أن أحصر نفسي وجماعتي في البلد فأخذ العسكر وسار إلى بلاد الصعيد واستولى عليها وجبى خراجها وصام بها وأقام إلى انقضاء العيد، وأقام صلاح الدين بالإسكندرية متصناً بها. وأما شاور والفرنج فما كانت سلم منهم لمن سلم منهم قوة ولا نهضة وراء القوم مرجوة فعادوا إلى القاهرة وصمموا على قصد الاسكندرية فحاصروا صلاح الدين ودام الحصار شهوراً فما زاد المحصور على الحاصر الظهور وبلغ الحصار أربعة شهوراً وقوى أسد الدين بقوص واستنهض لقصد القوم العموم والخصوص فسمح الفرنج ذلك فرجعوا عن الحصار للخوف والاستشعار مما هو عليه من الاستظهار. وكان شاور قد استمال جماعة من التركمان الذين كانوا معه بالدينار. فلما راسلوا في المهادنة أجاب إلى القرار وطلب منهم عوض ما غرمه فبذلوا له خمسين ألف دينار ورجع صلاح الدين من الإسكندرية فقفلوا إلى دمشق ودخلوها بكرة يوم الاثنين ثامن عشر ذي القعدة وعادوا إلى عادة السعادة من الخدمة النورية والحسنى والزيارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 قال: ولما دخل أسد الدين إلى دمشق عرف خبري فحضرت عنده للسلام وتلقاني بالإكرام والاحترام وكان يجلس كل ليلة للأفاضل وأكثر حديثه معي في تقريظ عمي العزيز وتأبينه ووصلني بمعرفته ومعروفه وخصني من عموم بره بصنوفه فخدمته بهذه القصيدة ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وستين. بلغت بالجد مالا يبلغ البشر ... ونلت ما عجزت عن نيله القدر إسكندر ذكروا أخبار حكمته ... ونحن فيك رأينا كل ما ذكروا ورستم خبرونا عن شجاعته ... وصار فيك عياناً ذلك الخبر يستعظمون الذي أدركته عجباً ... وذاك في جنب ما ترجوه محتقر قال: واتصلت بيني وبين صلاح الدين مودة ولم يزل يستهديني نظمي ونثري وأول ما خدمته بهذه الكلمة قلت ومن سردها: نار قلبي لضيف طيفك تبدو ... كل ليل فيهتدي ويزور كيف يصحو من سكره مستهام ... مزجت كأسه الحسان الحور أورثته سقاماً الحدق النجل ... وأهدت له النحول الخصور ولكم عودة إلى مصر بالنصر ... على ذكرها تمر العصور فاستردوا حق المامة ممن ... خان فيها فانه مستعير قال: وكان صلاح الدين في خدمة نور الدين المساعد والمعين وبهذه المعرفة السالفة من الأسلاف خصصت منه أيام دولته بالإسعاد والإسعاف. ذكر دخولي في خدمة نور الدين قال: عرفني إليه القاضي كمال الدين الشهروزي ورغبه في استثباتي وقرر لديه من حساب آمالي ما لم يكن في حسابي. وقال: لا بأس بان تكتب إليه أبياتاً ونحن نرجو لك في دولة ثباتاً وفي روضته نباتاً فأنشأت هذه القصيدة وعرضت من جانب القاضي وهي التي أولها لو حفظت يوم النوى عهودها ... ما مطلت بوصلكم وعودها ماذا جنت قوبنا حتى غدا ... في النار من شوقكم خلودها لم أنسها إذا نثرت دموعها ... في خذها ما نظمت عقودها إذا قربتني للوداع نحوها ... فبان في وصلها صدودها كأسهم الرامي متى قربها ... يكون في تقريبها بعيدها (1166) قال فرتبني في ديوانه منشياً وذلك لاستقبال سنة ثلاث وستين قال: ودخلت سنة ثلاث وستين ورحل لملك العادل نور الدين رحمه الله أقام بحمص أياما، ورتب بها أسباباً وأحكاما، وخرجت معه ورآه ورحلت معه إلى حماه وأنزلني أسد الدين شيركوه في حماه وضرب لي خيمة بقربه وأنا أمضي كل يوم إلى الديوان مبكراً ومما أقدم عليه فمن خدمة لا دربة لي بها مفكراً على أن أهل ديوانه ينظرونني شذراً ويعدون كثير ما عندي من الفضل نزراً وكنت أظن أن صناعة الكتابة لا سيما الإنشاء صعب حتى قرأت كتب المصار والمراسلات الواصلة من ساير الأقطار فوجدتها في غاية من الركة وياليتها كانت بعبارات معسولة فتجرأت على الكتابة وغيرت تلك الأوضاع الوضيعة واخترعت أسلوباً ما عرفوه والفت مصنوعاً ما ألفوه ووفيت بالبلاغتين، ونفيت الغش عن الصياغتين، وكتبت إلى الأعاجم وصارت نواب ديوانه يستغربون ويستهزئون ويهزمون وأرشدتهم من ضلالتهم فحكت نسج المداراه وما سلكت نهج المماراة حتى جرى بسكوني وسكوتي قلمي وعلا بمنار علمي ورجعوا إلي واجتمعوا على ولنا على مر الجديدين أتجدد في بناء النباهة واجعلوا بأسراري أسارير وجه الوجاهة وزاد نور الدين دنوي نوراً وملأت صبح دولته ووجه مملكته بما أمليه أسفاراً وسفوراً وتأكدت رغبته وتمهدت محبته وتكررت موهبته. ولما أراد قصد حلب حل أسد الدين شيركوه قبله بأيام فوصى بي ابن أخيه صلاح اليدن وترك الخيمة المضروبة لي بما فيه من جميع الآلات فاقمت مدة مقامه أرافقه ولا أفارقه حتى مضى نور الدين إلى حلب ونزل في قلعتها في ذروتها ونزلت في مدرسة ابن العجمي وكان الشتاء كالحاً يابساً ووجه الدهر عابساً وكنت أتردد إلى صلاح الدين في منزله واسترسل إليه في تفاصيل أملي وجمله واستدعى مني أن اعمل له أبياتاً في الشوق يرصع بها كتبه إلى من يشتاقه ويحبه فمنها ما نظمته له: وحرمة الود الذي بيننا ... ومالنا من كرم العهد ما نفضت عهدي لكم جفوة ... ولا أحالت حالة ودي ولا تغيرت ويأبى الهوى ... ذلك في قرب وفي بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 عاد الحديث إلى ما تجدد لنور الدين قال: واتفق أن صاحب منبج ابن حسان ارتكب العصيان إليه من حاصره وانتزعها منه ثم تمكن عنه وتوجه إليها لتهذيب أحوالها وترتيب أعمالها وسار منها إلى قلعة نجم وعبر الفرات إلى الرها وانتظم بأمرها وكان بها قطب الدين ينال بن حسان عم غازي صاحب منبج فنقله إليها مقطعاً ووالياً وأعاد ذلك الصفح بايالته حالياً وأقام بها مدة في قلعتها ومدحته بهذه الكلمة وتحجب لي في عرضها عنده صلاح الدين وتحجب لي في عرضها عنده صلاح الدين قلت ومن هذه الكلمة قوله: ماصين عنك الصين لو حاولتها ... والمشرقان فكيف منبج والرها ماللملوك لدى ظهورك رونق ... فاذا بدا شمس الضحى خفى السها قال: وعدنا إلى حلب في شهر رجب وضربت خيمة نور الدين في رأس الميدان الأخضر، وكان مولعاً بضرب الكرة وربما دخل الظلام فلعب بها بالشموع ويركب صلاح الدين مذكراً كل بكرة وهو عارف بآدابها في الخدمة وشروطها المعتبرة. واقطعه في تلك السنة ضيعتين إحداهما من ضياع كفر طاب مدكين والأخرى من ضياع حلب وزردنا وزعم انه بلغ به المنهى في المنى. ذكر أسد الدين والأنعام عليه بحمص قال: ولما كان ثغر حمص اخطر الثغور تعين أسد لدين لحمايته وحفظه ورعايته لتفرده بجده واجتهاده وبأسه وشجاعته فانعم نور الدين عليه بها فسار إليها وضبط أمورها وكان (166ب) نور الدين قد جدد سورها وسأله في السلو عن حب مصر وشرط على نفسه الحمل في كل سنة وكان لما أراد أسد الدين الانفصال عن الديار المصرية وصلاح الدين عن الإسكندرية اجتمع الكامل بن شاور بشهاب الدين محمود خال صلاح الدين وقال له: أوصل إلى نور الدين سلامي وعرفه شغفي بخدمته وغرامي وأنا أتوسط في جمع الكلمة ورد هذه القلوب المتبددة إلى عقود القلوب المنتظمة، والتكفل بما احمله من مالي على وجه الهدية اقصد بها سلامة البلاد والرعية فلما وصل شهاب الدين محمود أعاد على نور الدين مقاله وذكر سؤاله وسأله مكاتبة الكامل والرضا بما التزم به التزام الكافي وكان دخولي إليها يوم الأربعاء ودخلناها يوم الخميس. ذكر توجه فخر الدين شمس الدولة تورانشاه بن أيوب من مصر إلى بلاد اليمن مستهل رجب سنة تسع وستين قال كان فخر اليدن اخوة صلاح الدين وقد شاع صيت مروته، وكان لا يفي موجود مصر بجوده ورأى أن حظه من قوص منقوص ولم يرضه ارض تضيق عن سما سماحته فسمت همته وتصممت عزيمته، وكان بمصر شاعر من اليمن يقال له عمارة ولم يزل يمدحه ويكثر فيه المدح ويحثه على ملك اليمن ويرغبه فيه. ولما اشتد عزمه واحضر عسكره ورحل مستهل رجب ووصل السير باليسرى وفلا الفلا وجاز أجوازها وعان بالوصول إلى مكة ثم خلف وراءه غور الأرض ونجدها وحجازها واستدل بسعادته ونحا البيد نحو زبيد فغلب عليها وقبض على عبد النبي الخارجي وسلمه إلى نايبه الأمير سيف الدولة المبارك بن منقذ فرأى أن مصلحة الملك في هلكه فأراده وشمس لدولة غايب، ومضى إلى عدن وفيه ياسر الأمير عز الدين عثمان الزنجيلي واستنابه وفتح القلاع ومنح ملكاً عظيماً وفتح اقليماً وافترع بكراً وخلف ذكرا. قال: واما سيف الدوية ابو الميمون المبارك بن كامل بن منقذ المستناب في زبيد فانه كان من الكرماء الكفاه وذوي الآراء والدهاة والحمس الكماة ولم يزل بشيمته متكرماً وبحسن الذكر متوسماً دأبه والفضل شرعه والأفضال صنعه ومن شعره. لما نزلت الدير لصاحبي ... قم فاخطب الصهباء من شماسه فأي وفي يمناه كأس خلتها ... مقبوسة في الليل من نبراسه وكأن ما في كأسه في خده ... وكأن ما في خده من كأسه قال: وفي هذه السنة كان تسيير نور الدين المهذب أبا الحسن على ابن عيسى بن النقاش إلى الديوان العزيز للأعلام بمسير شمس الدولة إلى اليمن لأخذها والبشارة بكسر الروم ثانية وفقدهم كلمان وكان قديماً أسيرا عند نور الدين من نوبة حارم وفداه بخمسة وخمسين ألف دينار وخمسمائة وخمسين ثوب أطلس وهو أسير من أسيرا معه إسراء في الروم وذلك في شعبان سنة تسع وستين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 قال: وكان المهذب النقاش كنعته مهذباً وبآرائه للدول مرتباً، وهو من أهل بغداد وقد سافر إلى الشام وشاع صيته بالفضل لا سيما في علم الطب ومعرفته ونفق عليه نور الدين وأقطعه ضيعة وملكه أخرى، وكل طبيب في الشام يستحجج الآن بأنه تلميذه، وعرض جاهه وتقاصر عنه أشباهه ونجح سعيه لنور الدين في مرضاته ونجح سؤله للفوز بمرضاته وصار له عنده وخروج دخول ورأى مقبول وسعى بالنجاح مكفول فندبه نور الدين في هذه السنة للسفارة. قال: وكلف نور الدين في هذه السنة بإفادة الألطاف والزيادة في الأوقاف وتكثير الصدقات، وتوفير النفقات وتعفير آثار الأيام وإسقاط كل ما يدخل تحت شبه الحرام. وأمر تكتب مناشير لجميع البلاد بإطلاق الطراف من الرسوم والتلاد فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات على قوايم المنهاج. وحسبنا ما تصدق به على الفقراء في تلك الأشهر فزاد على ثلاثين ألف دينار من الذهب الأحمر قال: وكان إذا أمر بصدقة غلة أو ذهب تقدم خازنه بإحضار جماعة من أماثل البلد وعدوله من أهل كل محلة فيقول لكل واحد: كم تعرف في جوارك من ذي إضافة وصاحب فلقه (1167) ومستحق ومقتر ومعيل وغيرهم فيقول: أعرف كذا وكذا فيسلم إليه صدقات أولئك الأعداد حتى يستقرئ بالسؤال جميع الحاضرين من الأمجاد ثم يأتيه كل منهم ثبت بما فرقه. قال: وكان برسم نفقته الخاص في كل شهر من جزية أهل الذمة مبلغ ألفى قرطيس في كسوته ونفقته ومأكوله ومشروبه وحوائجه المهمة حتى أجرة خياطه وخيطه وإبرته وجامكية طباخه وقدره ومعرفته من ذلك المقرر المعين النزر ثم يستفضل ما يتصدق به في آخر الشهر ويفضه على المساكين وأهل الفقر. وأما ما يهدى له من الثياب والألطاف والبرود والأفواف وهدايا الملوك من المناديل والسكاكين والمهاميز والدبابيس وكل كثير وقليل ودقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه بل يعرض بنظره عنه وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصل أثمانها الموفورة ويصرفها في عمارة المساجد الهجورة. وأمر بإحصاء ما في محال دمشق من مساجد هجرت وخربت فأفاق على مائة مسجد وموضع يتبرك به ومشهد فأمر بعمارة ذلك كله وعين له وقوفاً وأدنى له من جهات استثمرها قطوفاً. قال: ولو اشتغلت بإحصاء وقوفه وصدقاته في كل بلد لطال الكتاب ولم أبلغ إلى أمد ومشاهدة أبنيته الدالة على خلوص نيته يغني عن خبرها بالعيان، ويكفي أسوار البلدان فضلاً عن المدارس والربط. وواظب على عقد مجالس الوعاظ وأكبرهم قطب الدين النيسابوري وهو شغوف ببركة أنفاسه المنبر وشاقه وعظه وراقه لفظه، وكذلك وفد إليه الفقيه شرف الدين عبد المؤمن بن شوروه ونال منه الحظوة وما أيمن تلك الأيام وأبرك تلك الشتوة. قال: وفي يوم الاثنين رابع شهر رمضان ركب نور الدين على العادة وكنا نحن في إيوانه وكل منا متفرغ لشغله آخذ في شأنه فجاءني من اخبرني أن نور الدين نزل إلى المدرسة التي تتولاها وبسط سجادته في قبلتها لسنة الضحى وصلاها فقمت في الحال فلقيته في الدهليز خارجاً لما رآني توقف فقلت له: أن الموضع قد تشرف أما تراه انه من أيام الزلزلة كيف تشعث فقال: نعيده إلى العمارة، ثم حملت إليه وجوه سكر وشيئاً من ثياب وطيب وعنبر وكتبت معها. عند سليمان على قدره ... هدية للنمل مقبولة لا تقصر الملوك عن نملة ... عندك والرحمة مأمولة رقى لمولانا وملكي له ... وذمتي بالشكر مشغولة قال: ورأى محراب المدرسة غير مفصصة فنفذ لعمارتها فصوصاً مدهبة وذهبا ثم حم مقدور حمامه دون إتمامه. ووقعت إلى الموصل فرأيته ليلة في المنام يقول: الصلاة فلما انتبهت عرفت انه أشار إلى المحراب وانه الآن على هيئة الخراب فكتبت إلى الفقيه الذي كان الذهب عنده مودعاً أن يشرع في عمارته مسرعاً فلما عدت إلى دمشق في الأيام الصلاحية دخلتها يوم فراغ الصانع من عمارة المحراب وفزت من الغنيمة بحسن الإياب. ذكر تفويض شحنكية دمشق إلى القاضي كمال الدين الشهرزورى رحمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 قال: ولما اسقط نور الدين الجهات المحظورة عزل الشحن وصرف عن الرعية بصرفهم المحن وقال للحاكم انظر أنت في العوادي وما يجري فيها من الدعاوى وميز بين المحاسن والمساوئ واحمل الأمور فيها على الشريعة فرتب على بابه حاجبه أبا نصر وأمره بما يصلح في كل أمر وحمل للخزانة من عنده من الأطلس مائة ثوب وأراد الخالص فلم يخل من شوب، ولم يكن كمال المواريث الحشرية حاصل ولا لديونه طائل فجعل نور الدين ثلث ما يحصل من الحشرى للقاضي كمال الدين فوضحت حواده وصحت مواده وكان من قبل لا يخلو الحشرى من وصية يثبت محضرها وقضية يحرر موردها ومصدرها، ودين يدعى وجانب يرعى فلما صار ثلثه للقاضي أزال نوابه نوايبه وصرفوا عنه شايبه ووفروه وكثروا وأعذبوه عده (167أ) وأعزروه وما كان نور الدين يحاسب القاضي على الوقوف وقال: أنا قد قلدته أن يتصرف بالمعروف وما فضل من مصارفها وشروط واقفها يأمره في بناء الأسوار وحفظ الثغور وكانت دولته نافذة الأوامر منتظمة الأمور. عاد حديث مصر وما دبره صلاح الدين قال: ولما رسول نور الدين وهو الموفق خالد أطلعه على كل ما فيه، أحصى له الطريف والتالد وقال: هؤلاء الأجناد فأعرضهم واثبت أخبارهم وتأمل اعتبار إقطاعياتهم ومقادير واجباتهم ولا يضبط مثل هذا الإقليم إلا بآمال العظيم، وشرع في جمع مال يسيره ويحمله بجهد ويبذله وقال: الموارد مشفوهة والشدايد مكروهة وحصل لخالد ما لم يحصل في خلده وجاء مطرف غناه أضعاف متلده. قال: واجتمع جماعة من دعاة الدولة المصرية وتوازوا واعتقدوا منية عادت عليهم بالعقبي منية، وعينوا الخليفة الوزير، وأحكموا الرأي والتدبير وكان عمارة اليمني الشاعر فيهم عقيدتهم ودعا للدعوة قريبهم وبعيدهم وكانوا قد ادخلوا عدة من أنصار الدولة الناصرية في جملتهم وكان الفقيه الواعظ زين الدين علي بن نجا يناجيهم فيما زين لهم من أعمالهم ويدخلهم مطلعاً على أحوالهم فجاء واطلع صلاح الدين على فسادهم وطلب ما لابن كامل الداعي من العقار والدور وكل ماله من الموجود والمدخور فبذل له صلاح الدين كل ما طلبه وآمره بمخالطتهم فصار أمرهم يقوى وحديث حادثهم يروى فأمر صلاح الدين بإحضار مقدميهم واعتقالهم لإقامة السياسة فيهم. وصلب يوم السبت ثاني شهر رمضان جماعة منهم عمارة ورجل يعرف بالعويرس وآخر بعبد الصمد وآخرون وانقطع حديثهم وهلك جريرهم وبعيثهم. وكان منهم داعي الدعاة ابن عبد القوي وكان عارفاً بخبايا القصر وكنوزه وخفايا السر ورموزه فهلك دون إخفائها وباد ولم يسمح بإبدائها وبقيت تلك الخزائن مدفونة وتلك الدفاين مكنونة وقد دفن دافنها وخزن تحت الثرى خازنها إلى أن يأذن الله في الوصول إليها والاطلاع عليها. قال وهذه لمع من شعر عمارة فمنها قوله في قصيدة: ملك إذا قابلت بشر جبينه ... فارقته والبشر فوق جبيني وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... إيوانه لثم الملوك يميني ومنها قوله في شمس الدولة تورانشاه بن أيوب من قصيدة. لي في هوى الرشاء العذري عذراً ... لم يبق لي مذ أقر الدمع أزكار لي في القدود وفي لثم الخدود وفي ... ضم النهود لبانات واوطار هذه اختياري فوافق أن رضيت به ... أو لا فدعني وما أهوى واختار أول كتاب فاضلي من صلاح الدين إلى نور الدين: أدام الله تعالى سلطان المولى الملك العادل نور الدين وحرس من النعم ما خوله وأنهضه بالأمر الذي حمله وحمى من الكدر منهله وصان من الغير منزلته ومنزله ولا زالت الأيام مطايا إلى بلوغ الأماني واكتب تتفاتح إليه بمعاني التهاني وزمانه مسفراً عن نيل المراد في أهل الإلحاد وإقامة حدود الله فيهم بالغرامات الشدد والسيوف الحداد. قال: وأمر نور الدين ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر واحتفلنا لهذا الأمر وغلقت محال دمشق أياماً وبنيت القصور طباقاً وكل منهم رتب المغاني بأغاني وطيب الأوطان بتهادى التهاني وعاش معبد والغريض وشاع النشيد والقريض واتفق الطهر في أيام الورد وعصر طرده للبرد. قال: ونظمت في الهناء بالطهر والعيد قصيدة أولها. عيدان فطر وطهر قريب ونصر ... كلاهما لك فيه حقاً هناء وأجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قال: وفي يوم الأحد ركب نور الدين على الرسم المعتاد والقدر يقول له هذا آخر الأعياد ووقف في الميدان الأخضر الشمالي لطعن الحلق ورمى القبق وحوله كماة الكفاح ورماة الحدق والأكابر تحت ركابه وقوف والعساكر للمثول ببابه صفوف والسوابق مضمرة والبيارق مشهرة (واليوم يوم الزينة) والنظارة أهل المدينة، وكان قد ضرب خيمته في الميدان الأخضر (1168) وأمر بوضع المنبر وخطب له القاضي شمس الدين بن الفراش قاضي العسكر وعاد إلى القلعة طالع البهجة بهيج الطلعة وانهب سماطه العام على رسم الأتراك وأكابر الأملاك ثم حضرنا على خوانه الخاص وما وضح بشره وأوضع نشره وأضحك سنه وأبرك يمنه وفي يوم الاثنين ثاني أيام العيد بكر وركب وكان الفلك بتيسييره جار والطود الثابت (يمر مر السحاب في وقار ودخل الميدان والعظماء يسايرونه والفهماء يحاورونه وفيهم همام الدين في كلامه عظة لمن يغتر بأيامه: ترى نكون ههنا في مثل هذا اليوم من العام القابل فقال نور الدين ما معناه قل هل نكون بعد شهر فان السنة بعيدة فجرى على منطقهما ما جرى به القدر الساكت فان نور الدين لم يصل إلى العام. ثم شرع نور الدين في اللعب بالأكرة مع خواصه فاعترضه في حاله أمير آخر برتقش وقال له: باش فأحدث له الغيظ والاستيحاش واغتاظ على خلاف مذهبه الكريم وخلقه الحليم وزجره ونهره وساق ودخل القلعة ونزل واحتجب واعتزل ولا شك أن المريض تمكن منه وهو واكب عن إظهار ما به ناكب فبقى أسبوعاً في منزله مشغولاً بنازله والناس لا هون بالختان فما انقضت تلك الأفراح إلا بالأتراح وما انقضى ما أتيح من السرور إلا بظهور القضاء المتاح وما نهض الجناح إلا منهاض الجناح وما صلح الملك بعده إلا بالملك الصلاح. ذكر وفاة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر رحمه الله بقلعة دمشق قال: واتصل مرض نور الدين وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع وانتقل يوم الأربعاء حادي عشر من شوال من مرتع الفناء إلى مرتع البقاء ولقد كان من أولياء الله المؤمنين وعباده الصالحين وكانت له صفة في الدار التي على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال وكان جلوسه عليها في جميع الأحوال فلما جاءت سنة الزلزلة بنى بازاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولا يبرح فدفن في ذلك البيت الذي اتخذه حمى من الحمام وأذن بناؤه لبانيه بالانهدام. واخرجوا يوم وفاته الملك الصالح وهو مجزوز الذوايب مشقوق الجيب حاف حاسر وأجلسوه في الإيوان الشمالي على التخت والدست الباقي من عهد تاج الدولة تتش فوقف الناس يضطربون ويضطرمون ولما كفن ودفن حضر القاضي كمال الدين وشمس الدين محمد بن المقدم وجمال الدولة ريحان وهو أكبر الخدم والعدل ابو صالح بن العجمي أمين الأعمال والشيخ خازن بيت المال وتحالفوا على أن تكون آراؤهم واحدة وأيديهم متساعدة وان ابن المقدم مقدم العسكر. قال: وأنشأت في ذلك اليوم كتاباً عن الملك الصالح إلى صلاح الدين ترجمته ولده إسماعيل بن محمود ومفتتحه أطال الله بقاء مجلس سيدنا الملك الناصر السيد الأجل وأدام سموه وعظم أمراء الحضرة ومماليك الدولة وإنشاء النعمة وأولياء الطاعة وأرقاء الخدمة على البيعة المؤكدة والإيمان المغلظة والمواثيق المستحكمة بعقائد متعاقدة على الصفاء وأعضاد متعاضدة بالوفاء وحلف الأصاغر والغيب والحاضر وأذعنت الرؤوس (وعنت الوجوه) وسكنت النفوس وعمت بركات الوالد السعيد رحمه الله في ثبات ملكه أو أن زلزال طوده الشامخ وسكون الدهماء بعد حال تخلخل عزه الباذخ. ومنه وما ههنا ما يشغل السر غير شغل الفرنج خذلهم الله وقد عرف السيد أدام الله علوه ما يتعين عليه في مثل هذا الخطب الملم واليوم الدلهم من كل ما يعرف من خصوص وفائه وخلوص ولائه وطيب المحتد وزكائه وكرم النجر وسنائه فما كان اعتماد مولانا السعيد الملك العادل رضى الله عنه إلا عليه وسكونه إليه إلا لمثل هذا الحادث الكارث فقد أدخره لكف أنياب النوايب وأعده لحسم أدواء المعضلات اللوازب وأمله ليومه وغده ورجاء لنفسه وولده ومكنه قوة لعضده وأيدا ليده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 قال: واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين على الثغر وقصدهم بانياس ورجوا أن يتم لهم الأمر ثم ظهرت خيبتهم وبان الياس وذلك أن شمس الدين بن المقدم خرج وراسل الفرنج وخوفهم بقصد صلاح الدين (168ب) بلادهم وانه قد عزم جهادهم وتوصلوا وتكلموا في الهدنة وقطع مواد الحرب والفتنة وحصلوا بقطيعة استعجلوها عدة من أساري الفرنج استطلقوها وتمت المصالحة وعقدت المصافحة. قال: أنشأت في ذلك كتاباً إلى صلاح الدين بما تم من المصالحة في ثالث ذي الحجة في الاعتذار عن ترك أعلامه بالحال ومنه. اتفق عند الصدمة الأولى من الحادثة الكارثة نزول الفرنج على بانياس في أعداد من الخيل والرجل خارجة عن حد القياس على حين غفلة من أهلها وقلة من ذخيرتها وخيموا على حزنها وسهلها ولم يسع الوقت لمكاتبة المجلس العالي ثانية وظننت أن الأولى كافية ولأعنة عزايمة إلى نجدتنا ثانية فأخبار الكفار ليست بخافيه. كتاب بالإنشاء الفاضلي عن الملك الناصر تعزية للملك الصالح بوفاة والده رحمه الله أوله "لقد كان لكم في رسولي الله أسوة حسنة" انزل الله الصبر وضاعف التأييد والنصر بالجناب العالي الملكي الصالحي وبيته في محل الامتحان والاختيار وبصره بحجة التذكر والاستبصار وأخلصه بخالصة ذكرى الدار والهمة تدرس قوله (إنما هذه الدنيا متاع وان الآخرة هي دار القرار وهنأه بالمملكة التي اقتعد ذروتها وعلا محلها واحتلي عقيلتها وكان كفوها وبعلها وأورثه سريره وسريرته وكان أحق بها وأهلها أن تعاطي الخادم الإبانة عما دهمه من ألم الفجيعة الفظيعة والمصيبة التي رمت القلوب بالسهام المصيبة احتاج إلى خاطر حاضر وبنان جار وبيان محار وهيهات فالقلوب بأسرها في أسرها والعقول بجمعها معقولة من سمعها والصدور بالهموم مملوءة والوجوه بالوجوم ممنوه ليوم سرت الحادثة فيه مسرى الزلزال هز أعطاف كل بلد وطلع مطلع الكسوف بذ الأنوار عن كل عين ويد واستولى الخلق فيه فمن المعزى واعتدى الحق فيه بين الحزن المجتمع والشمل المجزي ياله ناعياً فجع الإسلام باسكندره فتوحاً وجنوداً وبحضرة ذكر مثله في الطيب وخلوداً (أنا لله وإنا إليه راجعون) قول من عز عزاؤه وصدع قوله وتفرقت أجزاؤه وصبر مغلوباً ويرجو أن يكون على الله جزاؤه، ولو وقى من الحمام واق أو أخر أحد من العمر فوق المقسوم قدر فواق لوفي تلك الروح الكريمة ذلك الفعل الكريم، وتلك اليد التي ما أظلم الخطب البهيم إلا طلعت بيد كيد الكريم ولكنه القدر الذي يتجرأ على الجازع والصابر والمشرع الذي يؤلف بين الوارد والصادر والقضاء الذي يسوق الخلق إلى الصعيد الواحد والمواعد الذي لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والد حتى يرث الله الأرض ومن عليها ويعيد الخلق منها إليها، وإذا ودعنا الدارج رضوان الله عليه بلا حول ولا قوة إلا بالله فانا نستقبل القايم بالحمد لله شكراً على بقاء من وهب وصبراً عن لقاء من ذهب، فان قضى أجل فقد قضى أمل، وان صدع القلوب وجل فقد جبرها جذل، وان خر جبل فقد علا والحمد لله جبل، وان ثلم جانب من المجد فقد سلم جانب، وان أفل طالع من سماء المجد فقد طلعغارب، وان فارقنا العز فقد وهن منه العظم فقد استأنفناه عقد قد راق منه النظم، وان استقل سرير الفنا بمودعه راحلاً فقد استقبل بمودعه نازلاً لا جرم انه سد ثلم الرزية واطلع التهنية آخذه باعناق التعزية يلتقي اللفظان فيصطرعان ويحل الضدان في القلب وعجباً لهما في محل واحد كيف يجتمعان حتى إذا تؤمل ثواب الله الذي قدم عليه القادم وسلطان الله الذي قدم إليه القايم زادت السلوة ورجحت واحتجبت الأيام به ونجحت وكادت العيون تسترجع ماءها الذي سمخت والقلوب تنسخ آية السلو التي قال قايل إلا إنها نسخت وهذه الخدمة نايبة عنه في العزاء بهذه النيابة وفي الهناء بالموهبة الثانية وللدولة من الخادم يدان فان انقبضت فعلى قايم سيف نصرها وان انبسطت فبالعطاء الذي به قيام أمرها، وعينان عين تكلؤها على البعاد وعين لولا استزادة طيف مفقودها ما صافحت يد الرقاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ومنه أصدرت هذه الخدمة يوم الجمعة التي أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم وصرح فيه بذكره في الموقف العظم والجمع الذي لا لغو فيها ولا تأثيم وأشبه يوم الخادم أمسه في الخدمة ووفي ما لزمه من حقوق النعمة وجمع كلمة الإسلام عالماً أن الجماعة رحمة والله تعالى يأخذ ملك المولى الملك الصلاح ويصلح به (1169) وعلى يديه ويؤكد عهود العلماء الراهنة لديه ويجعل للإسلام باقية واقية عليه، ويوفق الخادم لما ينويه من توثيق سلطانه وتشييده ومضاعفة ملكه ومزيده وييسر منال كل أمل صالح وتقريب بعيده. قال: ولما وصل صلاح الدين ما كتب إليه من الكتب الصالحية لم يعجبه ما جرى مع الفرنج من المهاداة والمهادنة وتأثر قلبه بما آثرته قلوبهم وكيف اندملت ندوبهم إلى جماعة من الأعيان بالشام كتباً دالة على التوبيخ والملام. قال: ولما توفي نور الدين رحمه الله اختل أمري وأعتل سري وفاض دمعي وغاض بحري وغلب حسادي وبلغ مرادهم أضدادي. وكان لملك الصالح صغيراً فصار العدل ابن العجمي وزيراً وتصرف المخالفون في الخزانة والدولة كما أرادوا وولوا وصرفوا ونقصوا وزادوا واقتصروا بي على الكتابة محروم الدعوة من الإجابة فمشيت أمرهم على عرج وتجلدت على كربهم منتظر فرج وفي عزمي العود إلى العراق وشاقني إليه لاعج الأشواق ومما نظمته في تلك الأيام قبل الخروج من دمشق في العشرين من ذي الحجة في الشوق والحنين نور الدين: ترى يجتمع الشمل ترى يتفق الوصل ... ترى العيش الذي مر مريراً بعدهم يحلو ترى من شاغل الهم فؤادي المبتلى يخلو ... بغيري شغلوا عني وعندي بهم شغل وكانوا لا يملون فما بالهم ملوا ... وراموا سلوة المغرم والمغرم لا يسلو ترجى يرجع من طيب زماني ذلك الفضل ... أخلائي ببغداد وهل لي غيركم خل هبوان الفيه منكم فبالأرواح ما تعلوا ... أعيذوني من الهجر فبهجركم قتل لفقد الملك العادل ... يبكي الملك والعدل وقد أظلمت الآفاق ... لا شمس ولا ظل فأين الكرم والعدل ... وأين النافل الجزل قال: وكانوا لضعف وثوق بعضهم ببعض يتبعون ما أبرموه أمس في يومهم بنقض ولهم كل يوم قسم جديد على قسم حدوده ويمين يمين الحالف بها لا محالة بما شروطه فيها من المقال أكدوا وكم عقدوا ما حلوه وحلوا ما عقدوه. قال: وكان الأمير كمشتكيين النايب قد سمع بمرض نور الدين فأخفاه واستأذن في الوصول إلى الشام فأذن له سيف الدين غازي وخرج وسار مرحلتين وسمع النعي فأعذ السير ونجا بماله وندم صاحب الموصل على الرضا بترحاله وكان عنده بوفاة عمه بشارة وظهرت على صفحاته منها أمارة فنودي في الموصل يوم ورود الخبر بالفسحة في الشرب جهاراً وزال العرف وعاد النكر وأنشد قول ابن هانئ: فلا تسقني سراً ... فقد أمكن الجهر وقيل انه اخذ المنادى على يده دفاً وعليه قدح وزمر وزعم انه خرج بها أمر فلا حرج على من يغنى ويشرب ويسكر ويطرب وعادت الضرائب والمكوس. وأما كمشتكين فانه وصل إلى حلب واجتمع هناك بالأمير شمس الدين علي وأخيه مجد الدين ابي بكر وهو رضيع نور الدين وقد تربى معه ففوض إليه جميع مقاصده وحكمه في ملكه وكانت حصونه به محصنة ومعاقد معاقله بشره مبرمة وكان يسكن معه في قلعة حلب، وشيزر مع أخيه شمس الدين علي، وقلعة جعبر وتل باشر مع سابق الدين عثمان، وحارم مع بدر الدين حسن وعين تاب وعزاز نوابه فيها وهو يصونها ويحميها، وهم أعيان الدولة وأعضادها وأبدال أرضها وأوتادها فلما توفي نور الدين رحمه الله لم يشكوا في أنهم يكفلون بولده فأقام شمس الدين علي وهو أكبرهم وأنبههم وأجودهم وأوجوههم ودخل قلعة حلب وسكنها وعرف ما جرى بدمشق من الاجتماع واتفاق ذوي الأطماع فكاتبهم وأمرهم بالوصول إليه في خدمة الملك الصالح ونفذ ثم استقر الأمر المحوط واستحكمت الأسباب والشروط وحمل المال وحسنت الأحوال واستمر الأمر وسكن الدهر إلى أن قصد الفرنج تلك الديار وسيأتي شرح ذلك في موضعه أن شاء الله تعالى. ذكر تيسير فتح قلعة جعبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قال: كان صاحبها شهاب الدين مالكبن علي بن مالك من آل عقيل من بنى المسيب نازلا في مناط الكوكب سامي المرقى (196 ب) والمرقب وهي التي قتل زنكي بن آقسنقر وهو على حصارها وتحقق عند الناس أن القدر من أنصارها. فاغتر برقدات عيون الليالي عنه ونزل فيها مسترسلاً وقصد أن يتصيد فتقتنصه ينو كلب وتقربوا به إلى نور الدين وذلك في رجب سنة ثلاث وستين فلم يزل عنده بحلب محبوساً وبعين حفظه محروساً فتارة يرغب وآونه يرهبه، مرة يعده يوعده. وسير فخر الدين بن مسعود الزغفراني فحصرها ودام الحصار وأبطأت في استفتاحها الأقدار ومضى مجد الدين أبو بكر أكبر أمراء نور الدين وهو رضيعه وصنيعه فلم ير له في فتحها مجالا فلم يزل يتوسط مع صاحبها حتى أصحب بعد جماحه واشتط فيما اشترطه من اقتراحه وهو سروج بأموالها والملوحة وأدوم والباب بأموالها وعشرون ألف دينار فإذا تعجل له ذلك كله وحصل من اليمن على استظهار سلم القلعة عن اختبار منه وإيثار فأخذ جميع ما شرط وسلم القلعة في صورة مكره في صورة مختار. قال: ودخلت سنة أربع وستين وخمسمائة وتسلم مجد الدين قلعة جعبر وصعد إليها يوم السبت منتصف المحرم ووصل كتابه إلى حلب فسار نور الدين وأنا في خدمته وطلع إلى القلعة يوم الخميس العشرين من محرم فأنشدته هذه القصيدة قلت ومنها. اسلم لبكر الفتوح مفتوحا ... ودم لملك البلاد منتزعا كان قيماً منها على الفلك الأعلى ... شهابا بنوره صدعا لكنما الشهب ما تنير ... إذا لاح عمود الصباح فانسطعا يدفعها طايعا إليك وكم ... عنها أبا بجهده دفعا ذكر مسير الفرنج إلى مصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 قال: كانت الفرنج في النوبتين اللتين استعان بهم شاور على أسد الدين قد شاهدوا الديار المصرية واطلوا على العورات وكشفوا المستورات وطعموا في البلاد وتجمعوا لها بالأحشاد وتوجهوا إليها سايرين وشايعتهم على قصدهم من أعيان مصر جماعة ما كانت للمصرييين طاعة وشاوروا الفرنج على شاور لأنهم اعداؤه وقد أعياهم دواه وهم ابن الخياط وابن قرجلة وأمثالهم وتوجهوا من عسقلان في النصف من المحرم ووصلوا إلى بليس أول يوم من صفر واستولوا على أهلها قتلا وأسرا وأقاموا بها خمسة أيام ثم أناخوا على القاهرة في عاشر صفر وأحرق شاور مصر اليوم التاسع منه وخاف عليها من الفرنج وبقيت النار تعمل فيها إلى خامس شهر ربيع الأخر وكان غرضه أن يأمن عليها من العدو الكافر ثم ضاق الحصار وعرف شاور أنه يضعف عن الحماية وأن مبدأ الحفظ لا يصل إلى الغاية فشرع في تمحل الحيل فأرسل إلى ملك الفرنج يبذل له المودة وقال أمهلني حتى أجمع لك الدنانير وأطعمة في ألف ألف دينار معجلة منجمة ثم قال له: ترحل عنا وتوسع الخناق وتظهر الأرفاق وعجل له مائة ألف دينار حيلة وخداعا وواصل بكتبه إلى نور الدين مستصرخاً ومستنفراً وبما نال الإسلام من الكفر مخبرا وسير الكتب مسودة بمدادها كاسية لباس حدادها وفي طيها ذوايت مجذوذة ظن أنها من شعور أهل القصر للأشعار بما عراهم من بليه الحصر وأرسلها تباعاً ورادف بها نجابين سراعا وعامل الفرنج بالمطال وبالارسال حتى أتى الغوث ولما سمع أسد الدين بخبر الفرنج ساق من حمص في ليلة واحدة إلى حلب وقال لنور الدين أن الفرنج قد استحكم في البلاد المصرية طمعهم، وليس سواك في الوجود من يزحمهم ومتى تجمع العسكر وكيف تدفعهم فقال له: أن خزانتي لك فخذ منها ما تريد وأطلق في العاجل مائتي ألف دينار وأمر خازنه ولى الدين إسماعيل بأن يوصل إليه كثير ما يلتمسه والقليل. فمضى نور الدين لتسلم قلعة جعبر ومضى أسد الدين وحشد التركمان ولما عاد استقل نور الدين إلى دمشق وقدم صلاح الدين إليها السبق وكان وصوله إليها بكرة الأحد التاسع والعشرين من صفر وخرجنا إلى الفور وأسد الدين هناك في العسكر الجرار وأطلق لكل فارس عشرين ديناراً وعرضنا أكثر من خمسة آلاف (1170) من الرجال الأبطال وأضاف إليهم نور الدين ألف فارس من أمراء مماليكه عز الدين جرديك وغرس الدين قلج ومن أمراء خواصه عين الدولة ابن كوخات وينال بن حسان ومن شذ عني ذكرهم واجتمع في يوم كتاب الديوان والبيوت والأمراء وركبت العساكر في تلك الصحراء في عددهم الموفورة وألويتهم المنشورة فعرضناهم في ساعة واحدة بأقلام متعددة ورحلوا على قصد مصر في نصف شهر ربيع الأول وخيم نور الدين فيمن أقام معه برأس الماء نازلاً بمنزلة الفقيع على تلها مقيماً إلى أن يأذن الله في تلك العقدة بحلها فوصل المبشر برحيل الفرنج من القاهرة عند وصول خبر وصل العسكر فسيرنا كتب البشاير بالفتح والظفر. ذكر ما اعتمده أسد الدين عند وصوله إلى مصر وكأن وصوله إليها في سابع عشر ربيع الآخر قال: ولما سمع الفرنج نهوض عسكر الإسلام أجفلوا إجفال النعام ورحل ملكهم إلى بلبيس ثم عاد إلى الساحل ودخل أسد الدين في التاسع منه إلى الإيوان وخلع عليه وفي العاشر منه نزل أهل مصر وسكنوها وتودد شاور إلى أسد الدين وتردد وتجدد بينها من الوداد ما تأكد فقال صلاح الدين هذا أمر يطول ومسألة فرضها يعول ومعنا هذا العسكر الثقيل ولا استيلاء شاور ولا سيما إذا راوغ وغارر فأنفذ أسد الدين الفقيه عيسى إلى شاور وقال: أخشى عليك ممن معي من الناس فلم يكترث بمقالة وركب على سبيل انبساطه واسترساله فاعترضه صلاح الدين في الأمراء النورية فبغته وشحته وقبضه وأثبته ووكل به في خيمة ضربها له وحاول إمهاله فجاء من القصر من يطلب برأسه، جاء الرسول وأبوا أن يرجعوا إلا بنجح السؤل فحم حمامه وحمل إلى القصر هامة وذلك يوم السبت سابع عشر ربيع الآخر وتقلد أسد الدين الوزارة واستقل بأوزارها وعاد بالقاهرة إلى دارها ونعت بالملك المنصور ولما جاء المبشر إلى الشام كتبت إليه أهينه بقصيدة أولها: بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم راحة جنيت من دوحة التعب أفخر فإن ملوك الأرض قاطبة ... أفلاكها منك قد دارت على قطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فتحت مصر وأرجو أن يصير بها ... ميسرا فتح بيت القدس عن كثب وكتبت إلى صلاح الدين كلمة أولها: لو أن عذرى لك يالاح لاح ... ما كنت عن سكري يا صاح صاح وما شقائي وسقامي سوى ... لواحظ الغيد المراض الصحاح قال: وكتب لأسد الدين منشوراً من القصر كتب العاضد في طرته بخطه هذا عهد لا عهد لوزير بمثله وتقلد أمانة رآك فلان أهلا لحملها فخد كتابك بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ للفوز سبيلاً (ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) . ذكر وفاة أسد الدين يوم الأحد الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وولاية صلاح الدين في الخامس والعشرين منها قال: ولما تسنى أمر أسد الدين وعلا سنا سلطانه وملك بملكه زمام زمانه وقر غرار الكرى وغرار الظبي في أجفانه فاجأه القدر وجاءه الكدر في صفائه وقضى القضاء لأمل بانقضائه فخمدت ناره وغاض ماؤه وتوفى يوم الأحد الثاني والعشرين من جمادى الآخرة. ولما فرغ العسكر بعد ثلاثة أيام من التعزية اختلفت آراؤهم واختلطت أهواؤهم فاجتمعت الأمراء النورية على كلمة واحدة وأيد متساعدة وعقدوا لصلاح الدين وقالوا هذا مقام عمه وألزموا صاحب القصر بتوليته ونادت السعادة بتلبيته. وشرع في ترتيب الملك وترتيبه، وفض ختوم الخزائن وفرق ما جمعه أسد الدين في حياته، ورأى أولياءه تحت ألويته وراياته وأحبوه ولم تزل محبته غالبة على مهابته وهو يبالغ في تقريبهم كأنهم ذوو قرابته وما زاده الملك إلا ترفعا وما زاده إلا تأصلا في السماح وتفرعا. وكتب له العاضد من القصر منشور الوزارة (170ب) ولقبه بالملك الناصر ومن ألفاظ هذا المنشور في مخاطبته صلاح الدين: فيومك واسطة في المجد (بين يديك) فامسك وكل ناد من أندية الفخار لك أن تقول فيه ولغيرك أن يمسك فبشراك أن أنعمة موصولة بوالد وولد وأن شمس ملكه بكم كالشمس أقوى ما كانت في بيت الأسد. قال: وكان بالقصر أستاذ له على حكم القصر ستحوز وبدا من شرار شره دخان ومن رشاش كيده رذاذ، وتآمر هو ومن شايعه على أن يكاتبوا الفرنج فكتبوا ملطفات بالاستدعاء وسيروها على سبيل الخفاء فأتفق أن رجلاً من التركمان عبر بالبيضاء فرأى نعلين جديدين مع إنسان فأخذهما على سبيل الامتحان. وقال: لو أنهما للبسة لكان بهما أثر استعمال فأخدهما وجاء بهما إلى صلاح الدين ووصف الحال فأمر بنقبهما ووجد في طيهما أحرفا مكتوبة وتأملها فإذا هي الفرنج من القصر وكان مقصودهم أن صلاح الدين إذا سمع بخروج الفرنج خرج إلى القتال ويخرجون وراءه لانتهائه ويقدم الفرنج على لقائه ويأخذون أمامه والمصريون من ورائه فأخذ الكتاب وقال: دلونى على كاتب هذا فدلوه على يهودي من الرهط فلما أحضروه ليسألوه ويعاقبوه قدم التلفظ بالشهادتين والدخول في عصمة الإسلام ثم اعترف بما جناه وأن الآمر به مؤتمن الخلافة فرأى إخفاء هذا السر واستشعر الخصى فما صار يخرج من القصر مخافة وإذا خرج لم يبعد مسافة وصلاح الدين عليه مغضب وعنه إلى أن استرسل. وكان له قصر يقال له الخرقانية فخلا فيه يوما للذة له ولم يدر أنه يوم ذلته فانهض إليه صلاح الدين من اخذ رأسه ونزع من حياته. لباسه وذلك في يوم الأربعاء العشرين من ذي القعدة سنة أربع وستين ولما قتل ثار السودان وثأروا يوم الخميس يوم قتله وكانوا أكثر من خمسين ألف من كل أخضر ينظر من عينه الموت الأحمر، وأغبر لا يجلوه إلا اليوم الأغبر. وكانوا إذا قاموا على وزير قتلوه فحسبوه أن كل بيضاء شحمه وأن كل سوداء فحمة فأقبلوا ولضرامهم حجمه ولضرابهم فحمه فقال أصحابنا: هذا مبدأ الروع وريعانه وعنفوان العنف وعنوانه فهاجموا إلى الهيجاء وكان المقدم الأمير أبو الهيجاء السمين فاتصلت الحرب بين القصرين وأحاطت العسكرية بهم من الجانبين ودام الشر يومين حتى أحس الأساحم بالحين كلما لجأوا إلى محله أحرقوها عليهم وحووا ما حواليهم أحرجوا وأخرجوا إلى الجيزة وأذلوا بالنفس عن منازلهم العزيزة وذلك يوم السبت الثامن والعشرين من الشهر فما خلص السودان بعدها من الشدة ولم يجدوا إلى الخلاص سبيلا وأين ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وسير نور الدين الأمير فخر الدين تورانتشاه بن أيوب أخا صلاح الدين إلى مصر وكان خروجه من دمشق عاشر شوال ووصوله إليها ثالث ذي القعدة ورأى أن يمده به ويشد به أزره ويصون مصر بصفوة فخره ويستدسم على الكفر والبدعة ظهوره قال: وكثرت كتب صلاح الدين إلى أصدقائه بالشام فمنها كتاب وضمنه هذا البيت. انثر الدمع من قبل أبيضا ... وقد حال مذ بنتم فأصبح ياقوتا ومنها كتاب آخر ضمنه هذا البيت. ما كنت بالمنظور أقتنع منكم ... ولقد رضيت اليوم بالسموع قال: وفي هذه السنة قتل العاضد بالقصر ابني شاور وعمهما يوم الأثنين رابع جمادى الآخر وذلك أنه لما قتل شاور عادوا بالقصر وكانما نزلوا في القبر. قال: ودخلت سنة خمس وستين ونزل الفرنج مستهل صفر على دمياط وأحاطوا بها بحرا ً بمراكبهم وبراً بكتايبهم فوقع اليأس والبؤس وقنطت النفوس فسبق إليها تقى الدين بن أخي السلطان وشهاب الدين خاله وتوافد إليها الأمراء فرجع إليها بعد الأشقاء الرجا. وأقام صلاح الدين بالقاهرة في دار ملكة ينهض إليها المدد بعد المدد واتصل الحصار واستشرى الشر لكن الأصحاب أولياء أولياء الله صبروا وصابروا وتزاوروا وأمسوا على القتال وأصبحوا وتاجروا لله وربحوا وهدوا بنيان الكفر المرصوص المرصوف وأهلكوا بالعشرات الألوف وأقاموا على دمياط أحدا وخمسين يوما ودب فيهم الفناء (1171) وهب عليهم البلاء (وذهب عنهم الرجاء) ورحلوا بالذل الأكمل والصغار الأشمل. ولما وصل الخبر إلى الشام أغتنم نور الدين وأمر الأمير قطب الدين خسرو الهذباني أن يسير بالعسكر ويخوض بهم العجاج الأكدر فوصل قبل رحيل الفرنج بأسبوع فوقع روعه من الكفر في كل روع فان للنجدة قليلة كانت أو كثيرة صيتاً يورث شمل العدد تشتيتاً وحبل ذي العتد تبتيتاً. قال: وكتبت عن الملك العادل نور الدين إلى العاضد كتاباً منه: أطال الله بقاء فلان ولا زالت عوادي نعمة محدقة بأوليائه إحداق الأجفان بالأحداق، وعوادي نقمة محرقة لأعداءه إحراق النيران أهل الشقاق وما أعلت رايات النصر للدين وتليت آيات الذكر المبين الخادم يهنئ بما أسناه الله من الظفر الذي أضحك سن الأيمان وحصل أهل الشرك في شرك الخذلان وأعاد جيش الكفر وأهي الجأش وبدا الضلالة بادية الارتعاش حتى عاد حزب الشيطان مخذولا وسيف الله في رقاب أعدائه مسلولا وذلك ببركات الدولة التي سطع فخرها ولولا صدق اهتمامه بأهل الإسلام وحفظ الأولياء الذين يذبون عن الدين ويحافظون على الذمام لكاد ركن الحق يميل لكيد الباطل فوفق الله فلانا وأيده بنصره وأجرى قضاه وقدره على وفق أمره ورد كيد العدو الكافر في نحره. قال: وفي هذه السنة كنت رسولا بخلاط عن نور الدين وخرجت من دمشق ضحوة نهار الأربعاء تاسع ذي الحجة ومتوليها حينئذ ظهير الدين سكمان المعروف بشاه أرمن ودخلت خلاط ثاني صفر وعدت على طريق ماردين ومتوليها البى بن تمر تاتش بن الغازي ابن ارتق المنعوت بنجم الدين وعدت إلى دمشق في ربيع الأول أول فصل الشتاء وعدت إلى عادتي في الإنشاء وكانت سفرتي في الرسالة ممزوجة لم يف بشكايتها شكرنا. قال: وفي أول هذه السنة خرج نور الدين إلى داريا فأعاد عمارة جامعها وتبرك بضريح أبي سليمان الداراني رحمه الله عليه وعمر مشهده وأعاد إلى الحالة الحالية مسجده وشتا بدمشق. ولما دخل فصل النيروز استأذن الأمير نجم الدين أيوب في قصد ولده والخروج من دمشق إلى مصر بأهله وجماعته وسبده ولبده. وسار ووصل إلى مصر في السابع والعشرين من رجب وقضى العاضد من حقه ما وجب، وركب لاستقباله. ولما عزم التوجه إلى مصر شرع في تفريق أملاكه وتوفير ماله فيه شركة على إشراكه، ولم يستصحب شيئاً من موجودة وجعله نهبه جودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وكان نور الدين لما برز نجم الدين خرج إلى رأس الماء بعسكره وخيامه وأرهف للجد في الجهاد حد أغرامه ثم أقام بعد توديعه والوفاء بحق تشييعه إلى أن اجتمعت عليه عساكره ثم توجهنا إلى بلاد الكرك مستهل شعبان ونزلنا أيامنا بالبلقاء على عمان، وكانت الشعاب معشبة والمراعي ممرعة، ثم سرنا على طريق الوالة إلى الكرك وأقمنا أن نبلغ الغرض ونؤدي في فتحها المفترض لكن وصل الخبر بأن الفرنج قد اجتمعوا ووصلوا إلى ماعين فقال نور الدين نرى أن نصرف اعنتنا إليهم وبالله نستعين فرحلنا ومعنا ومعنا أمراء بنى ربيعة وقد استصحبوا من العرب المشيخة المطيعة ومقدما الفرنج هنفري وفليب بن الرقيق في مائتي رمح وألف فارس من التركبولية وراجل كثير من السرجندية فلما رأوا مثار عجاجنا ولوا مدبرين وقالوا: قد حصل مقصودنا من رحيلهم عن الحصن ولما عدنا وصلنا إلى حوران واستقبلنا شهر رمضان فختمنا بعشترا وادينا فرض الصيام. ذكر الزلزالة التي عمت بلاد الشام قال: وأصبحنا يوم الاثنين الثاني عشر من شوال وانا في خيمتي جالس فأحسست بالارض تحتى تموج كالبحر إذا عصفت به الرياح الهوداج فما أروعها زلزلة وأصدعها آية من الله منزلة وتواصلت الأخبار من جميع بلاد الشمام بما أحدثته من الإنهداد والانهدام وأن معاقد معاقلها انحلت واختلت (والتقت ما فيها وتخلت) فرحل نور الدين من عشترا يوم الثلاثاء ووصل إلى بعلبك يوم الأربعاء وسقنا وراءه ووصلنا يوم الخميس. وقد شرع نور الدين لما تهدم (ب) من بنيانها في التأسيس وكانت قلعتها تعلقت فأقام بنية تشييد أركانها ثم أتها الخبر بما تم على حمص وحماه وبعرين وحلب لأن أمر الله لا سيما بحلب غلب نزع عمارتها وسلب السلب فتقدم بترتيب أمور العمارة، وسلم إلى الثقات مالاً ووكل بالعمل صناعاً ورجلاً ثم سار إلى حمص وأظهر للم شعثها الحرص. وأما حصن بعرين فقد كان بيد الأمير زين الدين عمر بن لاجين فلما وقع سيبه وأخذ الله الأمير الكبير عين الدولة بن كوخات في خمسمائة فارس فإنه كان من الفرنج على خطر فجعلهم من مجاورته على حذر. وكان الهم الكبير في حلب لانهدام مبانيها وانهداد مغانيها فوصل نور الدين إليها وجد في عمارتها وأقبل عليها ورد إلى احكم القواعد بنيانها وأما سور البلد فإنه جدد منه المنهدم وكان بذلك مغرماً فلم يستكثر المغرم وأخذ له في كل بلد مجلساً حتى يكون من الزلزلة بعون الله مصوناً. قال: من مكاتبة أنشاتها إلى المواقف المقدسة المستنجدية في المغنى قد أحاط العلم الشريف أجله الله بهذه الحادثة التي ألمت بالشام من الزلزالة التي تداعت له الثغور بالائتلام والمعاقل والحصون بالانهداد والانهدام ولم يكن إلا (عبرة لأولى الأبصار) موعظة وآية من الله لعبادة منذرة موقظة وقد عمت حتى عطلت كل حال وشغلت كل بال والحقت كل جديد ببال والحمد الله على كل حال وما سكنت النفوس من رعبها إلا بما دهم الكفار من أمرها فأنها وافقت يوم عيدهم وهم في الكنائس فأصبحوا للردى فرايس (شاخصة أبصارهم ينظرون) (فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) ولولا اشتغالهم بما عراهم حيث انقلعت كل قلعة لهم من أساس بنيانها ورجف كل بلدة في أيدهم بهلاك سكانها لم تؤمن في نوبة هذه النبوة معرتهم ولم تخش بعد هذه المضرة إلا مضرتهم وأن بالثغور الإسلامية شدة افتقار إلى تحصينها وإعادة أبنية حصونها قبل أن يستفحل الداء ويتفرغ لشغلها الأعداء وما أولى المواقف المقدسة بإيلاء الأيادي وإسدائها وإعانة من تكفل بسد ثغور الإسلام وصد أعدائها وما أحوج الخادم إلى نظرة شافية وعازفة لهذا المذور كافية ولا ينهض بعبء هذه النوبة إلا بما يرفد به من المعونة وبما يشمله من بركات الأيام الزاهرة الميمونة. ذكر توجه نور الدين إلى الموصل بعد وفاة أخيه قطب الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 قال: فوصل الخبر بوفاة قطب الدين مودود بن زنكي بالموصل فأشفق من أمرها المهمل أن الخادم المنعوت بفخر الدين عبد المسيح قد تعرض للحكم وأقام أحد أولاده وهو سيف غازي مقام أبيه ليتحكم في الموصل وفيه فقال نور الدين أنا ولي بالبلاد والشفقة على الأولاد وسار حتى عبر الفرات عند قلعة جعبر واستصحب العسكر واد لج ليلاً وسار وأسرى وأصبح على الرقة وفيها أمير يسمى كردك فتمنع فأخذ منه البلد عنوة بالسلم شبيهه وأطاعه لما عجز ولم يلق كريهة. قال ودخلت سنة ست وستين: يوم نزلنا على الرقة ونور الدين ساطع النور جامع الأمور مصمم العزم آخذ بالحزم جار من عدله وإحسانه على الرسم قال: واستدعاني نور الدين ونحن بظاهر الرقة وقال: قد أنست بك وأمنت إليك وأنا غير مختار للفرقة لكن المهم الذي عرض لا يبلغ فيه غيرك الغرض فتمضي إلى الديوان العزيز جريدة وتؤدي عني رسالة سديدة سعيدة وتنهي أني قصدت بيتي وبيت والدي ومعي طريقي وتالدي فأمضي وخذ لي أذناً في ذلك. وأمر ناصر الدين محمد بن شيركوه أن يسير بي إلى الرحبة في رجال مأموني الصحبة وسرت منها على البرية غربي الفرات بخفير من بنى خفاجة وعبرت على هيت ثم عرسنا بالأنبار ورحلنا منها وجزنا على نهر شيلا وعقرقوف فلما وصلنا إلى قرب بغداد سيرت غلامي إبراهيم ليخبر الديوان العزيز بالوصول وانتظرت ما جرت به العادة في تلقي الرسول فجاءوا وعبروا بي إلى الديوان العزيز وخصوني باسباب (1172) التمييز واجتمعت بالوزير شرف الدين بن البلدي وكانت بيني وبينه صداقة صادقة في أيام الوزير ابن هبيرة فإنه كان نايبه بواسط وأنا مشرفة ثم انتقل هو إلى الديوان الشريف بها ناظراً ونبت عن الوزير فمن هناك تأكدت الصداقة فما صدق كيف رآني وبحبه وحباته حباني وقرظني عند امير المؤمنين وقال له بمثله لا نسمح بل يكرم ويخدم ويشرف ويمنح فاحتبسني عنده شهرين يعدني من الأمام بأجل منصبين من الإنشاء والنيابة وشفع سؤلى في حق مخدومي بالإجابة والإصابة فقلت له إذا قضيت حق الرسالة عدت إلى عدتك في الحيلة والحالة فلما مرض المستنجد بالله ورأيت مبادئ وهنه تتجدد على مر الجديدين استأذنه في العود فأذن وسير معي في الرسالة الفقيه مجد الدين اليزدى المدرس الحنفي وذلك في العشر الأخير من شهر ربيع الأول فسلكنا الشهباء على النهج الأسهل وجينا إلى سنجار ونور الدين على حصارها وهدم أسوارها ولما فتح البلد دخله وملك من ذخره منتخبه ومنتحله ثم سلم البلد إلى ابن أخيه عماد الدين زنكي بن مودود ولم يزل فيه لكونه خصه مخصوصاً بكل مقصود ومطلوب ثم رحل نحو الموصل وقصد بلد واستوضح منها الجد ونزل هناك في دجلة على مخاضته فاستسهل من خوضها العبور فيها ما ظن متصعباً. وجاء دليل تركماني قدامنا وهو يقطع دجلة تارة طولاً وتارة عرضا أمامنا ونحن وراءه كخيط واحد حتى عبرنا إلى الجانب الشرقي برجالنا وأثقالنا وأقمنا بقية ذلك اليوم حتى تم عبور القوم ثم رحلنا فنزلنا على الموصل من شرقها وخيمنا على تل توبة فاستعظم أهلها تلك النوبة فما خطر ببالهم أننا نغير بغير مراكب وأنا نأخذ عليهم ذلك الجانب فعرفوا أنهم محصورون مقهورون وانقطعت عنهم السبل من الشرق، وتعذر عليهم الرقع لاتساع الخرق، وبسط العطاء وكشف الغطاء وتكلما في المصلبحة والمصالحة الوسطاء ومد الجسر وقضى الأمر وأنعم نور الدين على أولاد أخيه ومثلوا بناديه وأقر سيف الدين غازي على قاعدة أبيه والبسه التشريف الذي وصل من أمير المؤمنين المستضيء وأعاده إلى البلد ثم دخل قلعة الموصل من باب السرو وأقام بها سبعة عشر يوماً وحدد مناشير أهل المناصب وتوقيعات ذوي المراتب فأمضى قضاء القاضي حجة الدين بن نجم الدين الشهروزر على قاعدته ونظر في أحوال الموصل بمعاملاتها ووجوه أموالها جباتها فألفى معظمها محظوراً محذوراً فتقدم بإسقاطها وإطلاق قناطها وأمرني فكتبت بذلك منشوراً. ذكر الشيخ عمر الملاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قال: كان بالموصل رجل من شيوخ الصالحين وأئمة العارفين يعرف بعمر العلاء وكان العلماء بل الملوك والأمراء يزورونه في زاويته وله كل سنة دعوة في أيام مولد النبي صلى الله عليه وسلم يحضره فيها صاحب الموصل ويحضر الشعراء وينشدون في ذلك المحفل في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وكان يخرج لهم جوايزهم. وكان نور الدين من أخلص محبيه وأحب مخالصيه وكان يستشيره ويكاتبه، وكان بالموصل خربة واسعة متوسطة للبلد وقالوا ما شرع في عمارتها إلا من ذهب عمره فأشار الشيخ عليه بابتياعها وبنائها جامعاً تقام فيه الجمع والجماعات فانفق فيها أمولاً جاوزت حد الغزارة ووقف عليها ضيعة من ضياع الموصل. وكان الفقيه عماد الدين النوقاني الشافعي تلك السنة من الوافدين إلى الشام وكان من أكابر علماء الإسلام من أصحاب محمد بن يحيى ومعاصريه فسأله أن يكون مدرساً في هذا الجامع فقال: وكتبت له منشوراً عند عودنا إلى دمشق بذلك في سنة سبع وستين. قال وحضر مجاهد الدين قايماز صاحب اربل في الخدمة النورية بالموصل وذلك في مستهل جمادى الآخرة وزخرت الموصل بأمواج هداياه الزاخرة. قال: وولى نور الدين سعد الدين كمشتكين بقلعتها نابياً وأر فخر الدين عبد المسيح بأن يكون له في خدمته مصاحباً واقتطع عن صاحب الموصل حران ونصيبين والخابور والمجدل وعاد إلى سنجار واعاد عمارة أسواها. ونزلنا بحران في خامس عشر (172ب) جمادى الآخرة ثم رحلنا على قصد حلب ووصلنا إليها في خامس رجب قال ونظمت هذه الأبيات على مذهب لزوم ما لا يلزم. أحمد لله فزنا وللمطال حزنا ... حزنا السرور ومات الحسود هما وحزنا إن الأعادي ذلوا بنصرنا وعززنا ... وعاد سهلاً من الأمر كل ما كان حزنا قال: وفرض القضاء والحكم بنصيبين وسنجار إلى الشيخ شرف الدين أبي سعد بن أبي عصرون فولى بها نوابه وحكم فيها أصحابه. ذكر وفاة الأمام المستنجد بالله وولاية الإمام المستضيء أبي محمد الحسن ووصول رسله إلينا قال: ووصل الخبر بوفاة المستنجد بالله وجلوس الأمام المستضيء بأمر الله وقد بويع يوم السبت تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وكان الوزير أبو جعفر المعروف بابن البلدي ركب يوم وقوع الإرجاف في عدة معه وعدة من الأمراء فلما لم يصح الخبر تفرقوا إلى منازلهم ورجع الوزير إلى داره وقيل أن أمير المؤمنين خف ما به فأغلق أستاذ الدار باب العامة فأحس الوزير حينئذ بزوال السلامة وقرع سن الندامة وجاءه أحد الحجاب يعزيه وللحضور في المشايعة يستدعيه فمضى ومعه زعيم الدين أبو جعفر صاحب الخزن فلما دخل صرف به إلى موضع كان فيه مصرعه وأمضه بالسيف من دمه تجرعه وشفع عماد الدين بن عضد الدين رئيس الرؤساء في الزعيم فبقى على سننه القويم وتولى عضد الدين الوزارة وأخرج جميع من في الحبوس ومن جملتهم مخلص الدين بن الكيا الهراس فإنه اعتقل من مبتدأ خلافة الأمام المستنجد إلى منتاها وعاش بعدها حياة في عطلة ما اشتهاها. وقيل قتل في ذلك اليوم في الحبس جماعة لم يؤثر الوزير ظهورهم ومنهم عز الدين محمد بن الوزير ابن هبيرة وغيره. وجاءنا رسل الخلافة ونحن بشرقي الموصل قصد تل توبة مبشرين بخلافة الأمام المستضيء بأمر الله واتفق ذلك اليوم عبور دجلة واجتاب نور الدين تشريف الإحتباء وركب يوم النزول عن التل في الأهبة السوداء واليد البيضاء وذلك بمرأى ومنظر من أهل الموصل الحدباء وأمرني بإصدار خدمة إلى الوزير يشكر الآلاء والأمتثال للأوامر الشريفة بإقامة الدعوة الهادية في جميع الأقطار والأمصار والخطبة على منابرها ونقش سكة الدرهم والدينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قال: وكنت يوماً عند نور الدين في ناديه وهو مقبل على بأياديه ويسألني عن الديوان العزيز ورسومه ثم قال: وأنت تمضي في الرسالة إلى منزل الجلالة وتهنئ الإمامة والوزارة وهناك الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون جالس وهو في الزاوية كالس ووجهه لما يشكوه من المرض عابس وكأنه متحيد عن نور الدين وقربه متفقد رأسه في عبه فلما سمع حديث بغداد رفع رأسه وحولق واستعاذ وأبل واستقل واعترض واستدل وانقلب وما به قلبه وتكلم وكلماته مهذبة وثاب ما معناه: أنا للقيام بالرسالة وإقامة الدلالة والنصرة والأدلة وجلا الجلالة فقلنا: هو شيخنا وكبيرنا وهو الأولى فليعتمد عليه المولى وليس لهذا المقام مثله ولا دراك هذه الفضيلة إلا فضله وإذا وضح الأمام المذهب إلى الإمام فقد تسدى مرامي المرام. واستقر أن يسير رسولاً يستقبل اقبالاً وقبولا. قال وعلقت أنا على شغلى من الانتشاء وحررت أجوبة الكتب الواصلة مع الرسل للهناء ونظمت هذه الأبيات وخدمت بها الفرض الإشراف قلت ومنها: قد أضاء الزمان بالمستضيء ... وارث البرد وابن عم النبئ جاء بالعدل والشريعة والحق ... فيا مرحبا بهذا المجيئ فهنيئاً لأهل بغداد فازوا=بعد بؤس بكل عيش هنئ قال: ولما وصل الرسل إلى مدينة السلام وعرض التهنئة التي نظمتها تاج الدين أخي المقيم بها وسير لي تشريف بأهبة أمامية ومبلغ مائة دينار أميرية وصار التشريف والذهب مع تشريف أخي أنعاماً مستمراً وإدراراً استمر لاستقبال سنة ست وستين وأمضاه الأمام الناصر لدين الله في أيامه في كل سنة. قال: ووصل هذا الإنعام بحلب في شعبان من هذه السنة فنظمت هذه الكلمة وأرسلتها إلى أخي تاج الدين ليعرضها وأولها: هل عايد زمن الوصال المنقضي ... أم عايد لي في الصبابة ممرضى لا اشتكى إلا الغرام فإنه بلوى ... على من السماء بها قضى (1173) لهفى على زمن الشباب فإنني ... بسوى التأسف عنه لم أتعرض ومنها: يا حسن أيام الصبى وكأنها ... أيام مولانا الأمام المستضي قسم السعادة والشقاوة ربنا ... في الخلق بين محبه والمبغض أصفى ظلام العدل بعد تقلص ... وبنى أساس العدل بعد تقوض قال وقد عرف العالمون أنني من إنشاء الدولة الأمامية واحد تابعيها وما عشت إلا بعيشها ولا درجت إلا من عشها وأنا إلى الآن في محاسنها وميامنها. قال: في ذكر صديق له ببغداد يقال له علم الدين على بن إسماعيل الزكاندار هذا الصديق كان ببغداد لي مصادقاً وفي حبي صادقاً، وقد جمعنا الفضل وانتظم بالموانسة بيت الشمل. وكنا متصاحبين ليلاً ونهاراً ومتصافيين سراً وجهارا فلما سافرت إلى الشام وحالت بيننا دواعي البين وعوادي الأيام شق عليه التفرق وأوحشه وعدم الورد الذي اعتاد رويا عطشه وتوالت إلى كتبه وبعث خاطري على اعتياب عتبة فمن الرباعيات التي صدرت بها الكتب إليه: ما اخحلني وقد أتتني الكتب ... تشكوا وتقول أنهم قد عتبوا هم أهل مودتي رضوا غضبوا ... ما أعظم زلتي إذا لم يهبوا ومنها: هبتى سحراً فنهبت وسواسى ... نشوي خطرت عليلة الأنفاس أهدت أريج الرجاء بعد اليأس ... ما أطيب بعد وحشتي إيناس قال: ومن المقطوعات التي كنت أواصل بها ذلك الصديق: جامع الشمل بعد طول الفراق ... للمحبين كافل بالتلاقي ولعل الأيام تسمح بالوصل ... وتقضى لبانه المشتاق يا إخلائي الكرام المضاهين ... بطيب العروق طيب العراق ومنها: يا صبورا على الصبابة بعدى ... لك طول البقاء ما أنا باق فأجرني من النوى بالتلاقي ... وأرث لي لا لقيت ما أنا لاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 عاد الحديث إلى المتجددات بمصر والشام في هذه السنة قال: فوصل نور الدين إلى دمشق وأدى فرض الصيام وخرج بعد العيد إلى الخيام وكان قد أخرج سرادقه إلى جسر الخشب ناجح الرأي راجح الأرب. وكان بها شهاب الدين الأرتقى ومحمد بن الياس بن ايلعازي بن أرتق صاحب البيرة وهو ذو الرتبة المنيفة في طريق القصد إلى الخدمة وقد فارق حمص ونزل باللبوة وركب متصيداً فصادف الفرنج قد أغاروا في ثلثمائة راكب من كل سال عن الحياة للحياة سالب فصادفهم وصادفوه وأنكروه وما عرفوه فما زال يغلبهم ويشلهم ويتلهم بدمائهم ويعلهم حتى تم على يده قتلهم بأسرهم وأسرهم وذلك في يوم الأربعاء السابع عشر من شوال هذه السنة. ورحل إلينا ونحن بعشترا فركب نور الدين ووقف وجاء شهاب الدين ونزل وقبل وشكر نور الدين جلادته وجلده وعرض عليه الاسارى المقدمين (مقرنين في الأصفاد) مسجونين في الأغلال والأقياد ومعهم مقدم الاسبتار الكبير الأعور بحصن الأكراد وعدة مقدمون من أهل الشرك والعتاد وفرق شهاب الباقين من الأسارى على الأمراء والأجناد. قال: وكان بمصر حبس للشحن يعرف بدار المعونة لإقامة العقوبات وسفك الدماء فأعادها صلاح الدين مدرسة للشافعية وعمرها فنشر بها إعلام الأدلة الشرعية وذلك في أول سنة ست وستين. وفي النصف من المحرم عمل دار الغزل مدرسة للمالكية. وعول على القاضي صدر الدين عبد الملك بن درباس في القضاء والحكم بمصر والقاهرة وساير أعمالها الظاهرة وذلك في السادس والعشرين من جمادى الآخرة، وخرج في هذه السنة إلى الغزاة بعساكره وأغار على الرملة وعسقلان وهجم على ربض غزة وأفلت على الداروم ملك الفرنج تجري معه (173ب) الذقن ورجع في الحادي عشر من شهر ربيع الأول إلى القاهرة ثم وصل الخبر بخروج قافلة من دمشق فيها أهله فأشفق وأحب أن يجمع بها شمله فخرج في النصف من ربيع الأول وكانت بايله قلعة في البحر قد حصنها أهل الكفر فعمل لها مراكب وحملها إلى ساحلها على الجمال وفتح القلعة في العشر الأول من ربيع الآخر واستحلها واستباح بالقتل والأسر أهلها وشحنها بالعدد والعدد وحصنها بأهل الجلاد والجلد واجتمع عليها بأهله ثم ساوروا على سمت القاهرة ودخلوا إليها في السادس والعشرين من جمادى الآخرة وسار إلى الإسكندرية ليشاهدها ويرتب قواعدها وهي أول دفعة قدم إليها في أول سلطانه فعم أهلها بأحسانه وأمر بعمارة سورها وتجديد بنيانه. وفي النصف من شعبان اشترى تقي الدين عمر بن شاهنتشاه بن أيوب ابن اخي السلطان العز بمصر وجعلها للشافعية مدرسة واشترى الروضة وحمام الذهب وغيرها من الأملاك ووقفها عليها. وفي النصف من جمادى الآخرة أغار شمس الدولة أخو السلطان بالصعيد ثم دخل القاهرة في عاشر رمضان. وفي الثالث والعشرين من جمادى الآخرة مات القاضي ابن الخلال وكان من الأماثل الأفاضل ولم يزل صاحب ديوان الإنشاء ولما كبر جلس في كير الانزواء وكان الأجل الفاضل يوصل إليه كل ما كان له وقام به مدة حياته لكرم عهده وتكفله. ودخلت سنة سبع وستين قال: استفتح السلطان سنة سبع بجامع كل طاعة وسمع وهو إقامة الخطبة في الجمعة الأولى منها بمصر لبنى العباس وعادت الدولة بها ثابتة الأساس، وعفت البدعة وصفت الشرعة، وأقيمت الخطبة العباسية في الجمعة الثانية من المحرم بالقاهرة للإمامة المستضية المضية الزاهرة وأعقب وفاة العاضد في عاشورا بالقصر. وجلس السلطان للعزاء وأغرب في الحزن والبكاء ثم تسلم القصر بما فيه من خزاينه وذخايره ودفاينه. وكان قد نافق مؤتمن الخلافة وقتل وصرف من هو زمام القصر وعزل ووكل بهاء الدين قراقوش بالقصر وجعله زمامه واستنابه مناب نفسه وإقامة مقامه فما دخل إلى القصر شيء ولا خرج إلا بمرأى منه ومسمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ولما توفي العاضد أمر السلطان بالاحتياط على أولاده في موضع خارج القصر جعله برسمهم على الانفراد، وقرر ما يكون رسمهم للكسوات والأقوات والازواد قال: وهم إلى اليوم في حفظ قراقوش واحتياطه واستظهاره يكلؤهم ويحرس بعين حزمه في ليلة ونهاره وجمع الباقين من عمومتهم وعترتهم من القصر في إيوان وأبعد عنهم النساء لئلا يتناسلوا وهم الآن محصورين وقد نقص عددهم وقلص عددهم. ثم عرض من بالقصر من الجواري والعبيد أكثرهن حراير فأطلقهن، وجمع أموال لهن موات فأعتقهن وجمع الباقيات فوهبهن وفرقهن وأخلى دوره وأغلق قصوره وسلط الجود على الموجود وأبطل الوزن والعد عن الموزون والمعدود وأخذ كلما صلح له ولأهله وأمرائه وخواص مماليكه وأوليائه من أخاير الذخاير وزاواهر الجواهر والعقود والنقود والمنظوم والمنضود وما لا يعد إحصاء ولا يعد استقصاء فوقع فيها القضاء وكشف عنها الغطاء وأرسف فيها العطاء، وأطلق البيع بعد ذلك في كل رخيص منها وغال وبال وأسمال ومنقول ومحمول ومصنوع ومعمول واستمر البيع فيها مدة عشر سنين وتنقلت إلى البلاد بأيدي المسافرين ومن جملتها الكتب فأني قد أخذت منها جملة في سنة اثنتين وسبعين وكانت خزاينها مشتملة على قريب من مائة وعشرين ألف مجلدة مؤيدة من العهد القديم مخلدة، وفيها بالخطوط المنسوبة ما اختطفته الأيدي واقتطفه التعدي ونقلت منها ثمانية أحمال إلى الشام وتقاسم الخواص بدور القصر وانتقل إليه الملك العادل سيف الدين لما ناب عن أخيه واستمر سكناه فيه. وخطب لأمامنا المستضيء في قوص وأسوان والصعيد البشاير وسار بها البادى والحاضر وتملك السلطان أملاك المنتمين إليهم من أشياعهم وضرب الألواح على دورهم ورباعهم ثم ملكها أمراءه وخص بها أولياءه وباع منها أماكن ووهب مساكن. كتاب فاضلي من صلاح الدين إلى المبارك بن منقذ والى قوص وكتابنا هذا وارد على الأمير مجد الدين: عندما كان من نفوذ قضاء الله وقدره محتوماً فيما منصوباً وموسوماً وذلك لمرض امتدت فيه أيامه واستولت عليه آلامه إلى أن انقصمت به عراه وانحلت معه قواه وأتاه من أمر الله ما أتاه وحضرنا في إيوانه ونقلنا بانتقاله أسرار الأمر إلى خلانه ليعلم أن الله استأثر (174أ) بوفاته وآثره لحسن العهد بموافاته وبلغنا الغاية في أحمال أمره والتوديع له إلى قبره واطابة نفوس مخلصيه وإقرارهم في قصره وانكفأنا إلى مستقرنا والأمور لدينا مطردة والأحوال قبلنا متمهدة والدهماء ساكنة والدنيا بنظرنا آمنة، وسبيل الامير أن يوعز إلى الخاطئ يوم الجمعة بالدعاء لمن الكلمة عليه مجموعة والدعوة له في الاقطار مسموعة وهو الامام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين ولا يلزم الناس العافية فإنها أسبغ عطاء وأسبل غطاء في تنقل الأيام عبرة (لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد) ومن تعظه الأيام من قريب (فأولئك ينادون من مكان بعيد) . قال: وكان صلاح الدين لا يخرج عن أمر نور الدين ويرجع في جميع النصائح إلى رأيه المتين وقد كان كاتبه نور الدين في شوال سنة ست بتغيير الخطبة وانتزاع نكر هذه القضية وأيقن أن أمره متبوع وقوله مسموع ونطقت بذلك الخواص والعوام فسير نور الدين شهاب الدين أبا المعالي المطهر بن الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون بهذه البشارة وإشاعة ما تقدم له بها من الإشارة وامرني بإنشاء بشارة عامة تقرأ في ساير بلاد الإسلام وبشارة خاصة للديوان العزيز بحضرة الإمام في مدينة السلام. ذكر وصول عماد الدين صندل رسولاً من دار الخلافة بالخلع والتشريفات لنور الدين، وصلاح الدين قال: كان عماد الدين صندل هذا من أكابر الخدم المقتفوية وتولى استاذيه الدار العزيزة بعد عزل عماد الدين بن عضد الدين عنها وهو أكبر من أرسل وجاء بالتشريف لنور الدين بأهبته السوداء العراقية وحلله الموشية وطوقه الثقيل وسرجه الخاص الشريف وحصانه المنيف ولواء الحمد المعقود وفرجية النسج المعمود ومثال التقليد المشهور وكتاب التقريظ المحمود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وعين يوم يحضر فيه الرسول ونصوا على من يحضر في مجلس نور الدين عند اجتيابه تشريف الاحتباء وأغفاوا ذكرى قصداً منهم لاغمامي فلما حضرت الرسل طلبني نور الدين فلم يرني فنفذ ورائي واستحضرني وقام لقيام الرسل حتى حضرت وكان مقصودة أن يعرفهم منزلتي واختصاصي عنده فناولني الكتاب الشريف لأتلوه فتناوله مني الموفق بن القيسراني خالد وكان عنده في مقام الوزير وله انبساط زايد فداريته وما ماريته وتركته يقرأ وأنا أرد عليه وأرشده في التلاوة إلى مالا يهتدي إليه حتى أنهاه فأعجب نور الدين صمتي وسمتي وأجتاب الاهبة ولبس الفرجة وتقلد السيفين طوقها وخرج وركب من داخل القلعة وهو حال بما عليه من الخلعة مركوبة والآخر بحليته مجنونة وسألت عن معنى تقليد السيفين فقيل هما للشام ولمصر والجمع بين البلادين وخرج إلى ظاهر دمشق حتى انتهى إلى منتهى الميدان الأخضر ثم عاد جميل المحضر جليل المنظر لبيقاً بالأعظمين السرير والمنبر. وكان وزن الطوق مع أكرته ألف دينار من الذهب الأحمر، وحملوا لصلاح الدين تشريفاً رايقاً رايعاً، لكن تشريف برمته إليه بمصر ليجتابه وشرف أيضاً من عنده بخلع يشرف بها أصحابه وصلت تلك الخلعة إليه فلبسها وطاف بها في الحادي والعشرين من رجب وهي أول أهبه عباسية دخلت الديار المصرية فقضى أهلها منها العجب، وكانت مع ارسل اعلام وبنود ورايات ففرقها على المساجد والجوامع والخطباء والقضاة والعلماء. قال: وكان صلاح الدين واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك والشوبك ويتشاورا فييما يعود بالصلاح المشترك فخرج من القاهرة في الثاني والعشرين من المحرم فاتفق للاجتماع عايق ولم يقدر للاتفاق قدر موافق في تلك السفرة شدة وعدم خيلاً وظهراً وآب إلى القاهرة في النصف من شهر ربيع الأول. قال: كان مع الرسول لخاصتي من الإمام رسم التشريف والأنعام وهو مائة دينار وأهبة شريفة وعمامة. وكان لي أيضاً مع رسول الوزير عضد الدين وهو الحافظ الدمشقي آخر العجيب المائة عن مكارمه ومناقبه منبية ولما عاد الرسول في سابع عشر جمادى الآخرة سيرت إلى الوزير هذه المدحة واستزدت المنحة قلت وهي قصيدة أولها: عسى أن تعود ليالي زرود ... ويقضى المنى بنجاز الوعود وتشرف أيامنا الزاهرات ... ويورق في روضه الوصل عودي (174ب) قال: ولما عاد الرسول عاد معهم شهاب الدين بن عصرون بأجوبة الكتب عن نور الدين. قال: وكان نور الدين لا يقيم في المدينة أيام الربيع والصيف محافظة على الثغر ورعاية للبلاد وهو متشوق إلى أخبار مصر وأحواتلها فرأى اتخاذ الحمام المنسيب ةتدريجها على الطيران لتحمل إليه الكتب بأخبار البلدان وتقدم الي بكتب منشورة لأربابها وإعزاز أصحابها. قال: وفي رجب من هذه السنة فوض إلى المدرسة التي بحضرة حمام القصر وعول علي في التدريس بها والنظر في أوقافها وكان الشيخ فيها الفغقيه ابن عبيد فلما توفي خلف ولدين واستمرا فيها على رسم الوالد ثم خدعهما رجل مغربي استهواهما بعمل الكيمياء ونهج بهما سبيل الإغواء فصاهراه وظاهراه فغاظ نور الدين المعنى وأحضرهما واستوفى عليهما أنواع التوبيخ فلم يجد من أحدهما لأمره سمع النصيح فقال لي: تسلم الموضع ورتبني فيه مدرساً وناظراً وكان ليلة الخميس وحضر القاضي كمال الدين وعلماء البلد بكرة التدريس فاستمرت الولاية وشملتني من الله الرعاية. قال: ودخلت سنة ثمان وستين والامور سديدة والثغور مسدودة وألوية الاولياء بالنصر معقودة والظالع مسعودة والمواسم مشهودة والمواسم المحمودية محمودة. قال: ذكر تفيض إشراف ديوانه إلى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 كان نور الدين رحمه الله كلما رتب لديوانه وجده إلى نواب ديوانه متعرضاً وبتصرفهم فمنهم من يقصر عن مطاولتهم ولا ينهض لمقاوتهم فإذا عرف انه لا يسوء ولا يسر ولا ينفع ولا يضر عنفه وصرفه وعزف عنه وتعيفه، ومنهم من يعرف انه إذا حادثهم ونافقهم لا يظفر بقبول ولا يفوز بمأمول فيوافقهم ويرافقهم فإذا عرف حاله بعد حين بعزله غير ضنين. وكنت قد توليت شغله وتفيأت ظله بح نوابه في خفض قدري وضيق صدري وأنا أحلم عنهم ولا انتقم منهم فلما كثر منهم التهاون وظهر منهم التعاون ولم يخف عن نور الدين سر أمري وعلم أن لطى المداراة معهم أمري وكان ذكياً ألمعيا لا يخفى عليه الأحوال ولا يتهرج لديه الرجال ولم يزل لا بناسبه بي واطلاعه على سري يشملني بما لا يخطر ببالي عافته وعاطفته. وأنا إذا انصرف النواب من ديوانه أجلس ملازماً للخدمة في إيوانه فإذا خرج الخادم لشغل ولا يرى منهم أحداً حاضراً عاد إليه فأخبره بغيبتهم ويقول ما رأيت إلا فلاناً وربما خرج وتقدم إلى بكفاية ذلك المهم وأعجبه دوام تلك الشيمة مني وكان يريد تقديمي ولكنه للحزم على الثبات والتأني. فبينا أنا ذات يوم أطلت القعود وأدمت على الباب الركود وألفيت لنار حركاتي بعد الظهر الخمود فنزلت إلى منزلي لا تبلغ بقوت وأعود إلى الباب في وقت موقوت إذا جاء من يطلبني وعلى الغيبة يعتبني فتضجرت في نفسي وعدمت انسي وقلت: ما أصعب هذه الخدمة وما أصعب هذه الغمة أما أترك لطعامي ومتى مرامي. وحين حضرت خرج إلى خازنه ولي الدين إسماعيل وقال: يأمرك بأن تتولى إشراف مملكته وتكون الحافظ الأمين في دولته فقلت يعفيني في دولته فأنا وحيد في الغربة وبهذا العمل عديم الدربة وهؤلاء النواب قد خلا لهم الميدان وطاوعهم على تقادم السنين الإمكان، ولهم خبرة بالأعمال ومعرفة بالأحوال وكأنهم على حصنهم العربية قد حازوا قصب الرهان وكأني على برزون أعرج فكيف أسابقهم في الميدان. فعاد بالجواب وقال اتبع أو امرنا وأنت على الصواب فجمعت بين لنصبين وقسمت زماني على النصيبين فمرة للكتب والناشير وتارة للإثبات في الدساتير ولم أثق بنايب وباشرت العمل بنفسي على أنهم لا يلتفتون نحوي ولا يبالون بكدري وصفوي ولا يجرون إلا على ما ألفوه من العادة ولا يشاورونني في الإبداء والإعادة. فما زلت أرد طباعهم واصد أطماعهم حتى قويت على العمل ورويت من عله النهل. قال: وكان من عادة نور الدين انه إذا أقطع أميراً إقطاعا وعين بعبرته ضياعاً قرر عليه رجلاً ذوي عدد لا ينقصون في خيل وسلاح وعدد فإذا نقص مغل الإقطاع عن المبلغ أتم له نقداً من خزانته. قال: وأمر أن يركب كل أمير بعدته وهيئة بأسه في الحرب وشدته ونحن نبكر لعرضه والأمير الحاجب ضياء الدين بكر يسان متولى هذا الأمر وهو يجمعنا كل يوم من الفجر وكان هذا الأمير أكبر حجاب أسد الدين شيركوه وأخص أصحابه فلما توجه مخدومه إلى مصر لم يصحبه ولم يرقه ملك مصر بترك وطنه بالشام ولم يعجبه. فمال إليه أمور الدين لزنة حصاه وزينة حجاه (175أ) ورفع قدره إلى رتبة الأمراء الأكابر واعتمد على نهضته في الموارد والمصادر. ذكر ما سيره صلاح الدين من مصر من الأموال قال: ولما عرض صلاح الدين بعد العاضد بالقصر خزانته واستخرج منها دفاينه سير منها عدة من الأمتعة المستحسنة والآلات المثمنة من قطع البللور واليشم والاواني التي يتصور وجود مثلها في الوهم ومعها ثلاثة قطع من البلخش أكبرها نيف وثلاثون مثقالاً، والثانية ثمانية عشر مثقالاً والأخرى دونها وقرن بها من الآلي مرصوفها وكنونها وحمل معها من الذهب ستين ألف دينار ووصلت من غرايب المصوغات بما لا يجمع مثله في إعصار وإعمار ومن الطيب والعطر مالم يخطر ببال عطار فشكر نور الدين همته وقال: ما كانت بنا حاجة إلى هذا المال ولا نسد به خلة الإقلال فهو يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في ملك مصر وبنا فقر إلى الذهب تمثل بقول أبي تمام: لم ينفق الذهب المربي بكثرته ... على الحصا وبه فقر إلى الذهب فاستنزه وما استغزره واستقل المحمول في جنب ما حرزه وتروي فيما يدبره فيما يقدمه في هذا المهم ويؤخره. ذكر خروج الملك الناصر صلاح الدين ونزوله على الكرك والشوبك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قال: خرج في النصف من شعبان ومعه الفيل والحمارة العنابية والذخاير النفيسة التي انتخبها من خزائن القصر وقد سبق ذكر تسييرها إلى نور الدين ووصلت الحمارة وكثر لهم النظارة، وأما الفيل فانه وصل إلينا في سنة تسع وستين ونحن بحلب فأهداه نور الدين إلى ابن أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل ثم سيره نور الدين إلى بغداد هدية للخليفة وسير نور الدين الحمارة إلى بغداد مع هدايا وتحف سنايا. وأما صلاح الدين فانه أقام على تلك الحصون وأدار عليها رحى الحرب الزبون ولم يبرح حتى برح بها عنها وعربها وخرب عمارتها وشنت على أعمالها سرايا بغاراتها ومن جملة عربانها الذين رغبهم وسيرهم إلى الشام نور الدين صلخد بنو عباد فانهم وصلوا في مائتي فارس من أبطال الحرب وكماة الطعن والضرب ووصل على أيديهم صلاح الدين الفاضلي ونسخته. سبب هذه الخدمة إلى مولانا الملك العادل أعز الله سلطانه ومدّ أبداً إحسانه ومكن بالنصر أمكانه وشيد بالتأييد مكانه. علم الملوك بما يؤثر المولى أن يقصد الكفار بما يخمص أجنحتهم ويقلل أسلحتهم ويقطع موادهم ويخرب بلادهم وأكثر الأسباب المعينة على ما نرى أن لا يبقى في بلادهم أحد من العربان وأن ينتقلوا من ذل الكفر إلى عز الإيمان ومما اجتهد فيه غاية الاجتهاد وعده من أعظم الأسباب ترحيل كثير من أنفارهم والحرص في تبديل ديارهم إلى أن صار العدو اليوم إذا نهض لا يجد بين يديه دليلاً ولا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً ولو كان هؤلاء العربان يرغبون في الديار المصرية لكان يحمل كلهم ويسوقهم كلهم ولكن هواهم في الشام ورغبتهم في بلاده دون غيرها من بلاد الإسلام. ولو أن المولى خلى لهم إقليماً وأقطعهم إقطاعاً عظيماً ليقطعهم عن الكفر وبلاده ويبعدهم عن تكثير سواده لكان في ذلك قد أحسن فعلاً وحمل عن المسلمين ثقلاً فكيف وهم يخدمون في البلاد خدمة من عرف مدالجها وخبر طرقها ومناهجها فما يدعون جهداً في أخرابها وشن الغارة عليها متواصلة الفتك فيها. ذكر بعض المتجددات في الشام قال: حضرت عند الملك العادل نور الدين بدمشق في العشرين من صفر والحديث يجري في طيب دمشق ورقة هوائها وبهجة بهائها وإزهار رياضها وأنها كزهر سمائها وكل ما يمدحها ويطريها فقال نور الدين أنما حب الجهاد يسليني عنها فما أرغب فيها، قال: فارتجلت في هذا المعنى فقلت: ليس في الدنيا جميعا بلدة مثل دمشق ويسليني عنها في سبيل الله عشقي قال: واتفق أن خرج كلب الفرنج اللعين في جنود الشياطين يقصد الغارة على ناحية زرا من حوران وأناخ بأول ليلة بقرية بسمكين ووصل الخبر إلى نور الدين وهو نازل بالكسوة إليهم وأقدم بعساكره عليهم فلما عرفوا وصوله رحلوا إلى منزلة الفوار وأصبحوا بكرة السبت غرة شهر ربيع الأول راحلين إلى السواد صارفين أعنة الجياد عن أسنة الصعاد وشلتهم مقدمة عسكرنا حتى نزلوا بالشلالة ونزل نور الدين بعشترا وأنفذ سرية إلى أعمال طبرية ولما عادت لحقها الفرنج عند المخاضة فوقف الشجعان (175ب) وثبت من ثبته الإيمان حتى عبرت السرية بجمالها وعادت وقد نصرت صوارمها ونفدت لهازمها ولما أنهضنا السرية رحلنا من عشترا وخيمنا بظاهر زرا. قال: وكنت عند مسيرنا إلى اللقاء لنور الدين مسايراً وله مجاوراً وهو يقول كيف تصف نهوضنا إلى الجهاد وسواد وجوههم بدخولهم في السواد وهو يبتسم وقد تقدم أمراؤه إلى المعركة ويقول لم أرك قوي القلب وأقول وكيف لا يقوى قلبي بخدمتك وأنا في عصمتك هذه القصيدة في وصف الحال: عقدت بنصرك راية الإيمان ... وبدت لعصرك آية الإحسان قلت منها: كم مصعب عسر المقادة قدته ... نحو الردى بخرا يم الخذلان ومنها: وعلى غناء المشرفية في الطلا ... والمهام رقص عوالي المرأن وكأن بين النقع لمع حديدها نار ... تألق من خلال دخان غطى العجاج به نجزم سمائه ... لتنوب عنها أنجم الخرصان ولوا وقلب شجاعهم في صدره ... كالسيف يرعد في يمين جبان يمتاح من قلب القلوب دماها ... بالسمر منح الماء بالأشطان فمن العراق إلى الشام إلى ذرى ... مصر إلى قوص إلى أسوان لم تله عما في البلاد وإنما الهاك ... فرض الغزو عن همذان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أذعنت لله المهيمن أذعنت ... لك أوجه الأملاك بالإذعان سير لو أن الوحي تنزل أنزلت ... في شأنها سور في القرآن قال: وفي هذه السنة غزا شمس الدولة تورانشاه أخو صلاح الدين بلد النوبة وفتح حصناً لهم عرف بابريم وهي بلاد عديمة الجدوى عظيمة البلوى ثم جمع السبي وعاد به إلى أسوان وفرق على أصحابه في الغنايم السودان. ذكر وفاة نجم الدين أيوب والد السلطان قال: وركب نجم الدين فشب به فرسه وذلك بالقاهرة عند باب النصر وسط ذي الحجة يوم الاثنين الثامن من ذي الحجة وعاش ثمانية أيام بعد وقوعه وتوفى في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة في الساعة الرابعة وكان ولده صلاح الدين عنه غايباً في بلاد الكرك والشوبك فدفن إلى جانب أخيه أسد الدين في بيت بالدار السلطانية ثم نقلا بعد سنتين إلى المدينة النبوية. عاد الحديث إلى الشام قال: ودخل نور الدين دمشق وشتا بها ولما طاب الزمان تقاضاه عزمه بالحركة، وكان قصده بجانب الشمال لتسديد مااختل هناك من الأحوال ولتجديد العهد بتلك الأعمال فبدأ بمصر وشرع في أنفاذ من يستكفيه من الرجال في تقدير ما يحمل كل سنة إليه من الأموال. ذكر مسير الموفق خالد القيسراني إلى مصر قال: وكان نور الدين منذ ملكت مصر يؤثر أن يقرر له فيها مال للحمل يستعين به على تحمل كلف الجهاد والأيام تماطله والأقدار تحول بينه وبين ما يحاوله وهو ينتظر أن صلاح الدين يبتدئ من نفسه بما يريده وهو لا يستدعي منه ولا يستزيده فلما حمل من أخاير الذخاير ما حمله وعلم مجمله ومفصله تقدم إلى الموفق أن يمضي ويطالب ويقتضي. ويعمل أيضاً حيازة بالأعمال المصرية وعين له ما يحمل إليه معه من الهدايا والتحف السنايا والثياب المعلمة والخيل المسومة ورحل نر الدين على سمت البقاع وخرج خالد معه للوداع فأعاده بعد أن قرر معه ما أراده وأمره بالمقام إلى حين دخول خازنه بتسليم ما سبق ذكره من الأقسام فلما نزلنا بعين الجر تذكر ما عد به من الأمر فاستدعى ولى الدين إسماعيل متولي خزانته وشهاب الدين أبا صالح بن العجمي ناظر ديوانه فاستدعى ولي الدين إسماعيل وعدل خزانته وأمرهما بالعود إلى دمشق وتسليم ما كان عنده ليتسلمه خالد وكلاهما بعد انجاز الشغل إلى المعسكر معاود. قال: ولما ودع الموفق (1176) خالد مستوفي المملكة النورية أراد أن يستنيب بين الإنشاء والإشراف والاستيفاء. ووجدت الخدم الثلاث بكفالتي الوفاء. ثم تعصب فخر الدين الزعفراني وكان من الأمراء الكبار لرضي الدين يعقوب رئيس سنجار وبذا في منصبي خمسة ألاف دينار فقال نور الدين: أما العماد فلا نبيع كفاة الرجال بالقناطير المقنطرة من المال وأخذ عشرة آلاف دينار وولاه منصب الاستيفاء وجلس معناً أشهراً. فكتب يوماً إلى نور الدين أنني أريد أن يكون لي في كل بلد نايب حتى أقدر الوفاء بما بذلته فقال نور الدين: كأنه يريد أن يوفيني المال من مالي وفرا يد أعمالي فصرفه ورد إلى العمل وحقق منه بتقديره إلى الأمل. قال وخرج يوماً من عند نور الدين من قال: قد أمر المولى أن كل من كان للموفق عليه رسم يوصله إلى العماد فإنه بعده بمحل الاعتماد وقد مال إلى وعول في مناصبه على وطالعته كل يوم بمرافق عملي ومنافع شغلي فما أتحف بتحفه ولا أخص من أحد بعطية إلا أطالعه بها وأطلعه على سببها فكان يعجبه مني تلك الشيمة ويقول: تصرف فيك تصرفك في مالك. وكانت مواد عنايته لي وافرة ومن وجوه رعايته سافرة ثم اعتمد عليّ اعتماداً كلياً وجعلني له نجيباً وإذا أراد أن يكتب إلى أحد منهم يقول أكتب إليه من عندك. ومن جملة ذلك أن سعد الدين كمشتكين وكان نايبه بالموصل في خدمة سيف الدين صاحبها أخذ من رجل ألف دينار بعلة عللها فجاء وتظلم فأمر لي نور الدين أن أكتب إليه بردها عليه فقال: ما ينفعني إلا كتابه وتوقيعه فأنهيت ذلك إليه فقال ما معناه: أما يعلم كمشتكين أنك كاتبي وأميني وصاحبي ولا تكتب إلا بأمري فأخالف كتابك إليه قلعت عينيه فمضى إليه بكتابي فسارع إلى طاعته ورد عليه الألف في ساعته. ذكر الوصول إلى حلب والتوجه منها إلى الروم وفتح قلعتي مرعش وبهنسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 قال: ووصلنا إلى حلب واستغزرنا من ردها الحلب وقضينا الأرب وكان السلطان قلج أرسلان صاحب الروم وقد تعدى على بلاد قر أرسلان فكتب يشكو ويتضرر وأن مقاومته عليه تتعذر فغار من ذلك غيرة المغتاظ وعزم على قصد بلد قلج أرسلان وبدأ ببلدة مرعش ونزل على حصنها في العشرين من ذي العقدة وأمن من فيها وتسلمها وما حاصرناها أكثر من يوم فما غالونا برسوم. قال ومما كتبت إلى صديق لي بدمشق ومنها: كتابي فديتك من مرعش ... وخوف نوايبها مرعشى ترنحنى نشوات الغرام ... كأنى من كأسه منتشي أسر وأعلن برح الغرام ... فقلبي يسير ودمعي يشي قال: فرتب فيها والياً وجدد من رثها ما كان بالياً، وتولى عنها وجاء إلى بهنسى وواليها يعرف بقايماز السلطاني فأطلنا حصارها وأزلنا استظارها وقامت المجانيق على سورها ورخصت المهج الغوالي في سوقها ودام مرجوماً حتى انقض الجدار فطلب من فيها الأمان ودخلها نور الدين وفرعها ونعتها بعد أن صرعها وملك تلك البلاد وأقطعها الأجناد. قال: وفي هذه السنة وصل الفقيه الإمام العالم قطب الدين النيسابوري وهو فقيه في عصره ونسيج وحده قدوة الإسلام ومفتي الأنام فسر نور الدين بدنو نوره وحضر غايب أنسه بسنا حضوره ونزل في حلب بمدرسة باب العراق فأطلعه إلى دمشق ودرس وشرع نور الدين في إنشاء مدرسة كبيرة للشافعية لفضله وأدركه الأجل دون إدراك عمارتها لأجله ونقل الله قطب الدين إلى جواره في الأيام الناصرية في سنة ثمان وسبعين. قال: وعلى ذكر قطب الدين ذكرت وفادة شيخ الشيوخ عماد الدين أبي الفتح محمد بن علي بن محمد حموية إلى الشام في أوائل سنة أربع أو في سنة ثلاث وستين وأغفلت ذكره في موضعه فاستدركه ههنا. وكان كبير الشأن لم يكن له في علم الطريقة والحقيقة مساو فأقبل عليه نور الدين بكليته وأمرني بإنشاء منشور له بمشيخته صوفية الشام ومن جملة ما أتحفه به عمامة بأعمدة ذهبية نفذها صلاح الدين إليه فآثر بها شيخ الشيوخ فبذل فيها ألف دينار بزنة ذهبية فلم يجد من سامها إلى طلبها فقال: (176ب) دخلت سنة تسعة وستين ونور الدين قد فتح الحصون مرعش وبهنس واربيل وكيسون وكان مليح بن لاون متملك الأرمن في خدمته آوياً إلى ظل عصمته. وقد وصل إلى خدمته ضياء الدين مسعود ابن قفجان فخصه بالحباء والتشريف وأنزله من ظل إحسانه في المحل المنيف ووفد إليه صاحب ملطيه فأجزل له العطية وهو الذي قتله أخوه وملك البلد وحده ولم يفلح بعده. وكان في خدمته أيضاً الأمراء من المجدل فسرحهم بالعطاء الأجزل وأظهر أنه ينزل على قلعة الروم على الفرات فتقبل مستخلف الأرمن بالبراءة وحمل خمسة آلف دينار على سبيل الجزية والصغار، وعاد إلى حلب وقد نجح في كل ما طلب. ذكر عود القاضي كمال الدين الشهرزوري إلى بغداد قال: كان القاضي كمال الدين توجه من دمشق عام أول إلى بغداد رسولاً ووجد من الديوان العزيز عزة ودنواً وإقبالاً وقبولاً. وأمر أمير المؤمنين المستضيء بضرب دنانير للنثار لا ينقص كل دينار عن عشرة مثاقيل واحضر لنور الدين مما وصل إليه من النضار المطبوع باسم النثار خمسين عدداً وزنها خمسمائة دينار فشكر علو تلك الهمة وسأل دوام النعمة. قال: وكانت ناحيتا درب هرون وصريفين من أعمال العراق لزنكي بن آقسنقر والد نور الدين قديماً من أنعام أمير المؤمنين فسأل نور الدين إحياء ذلك الرسم في حقه فأنعم بهما أمير المؤمنين المستضيء عليه ووجه بهما مثاله إليه. وكان من مراده أن يستوهب ببغداد على شاطئ دجلة أرضاً ويبني فيها للشافعية مدرسة ويقف عليها الناحيتين فقيل له: ما ثم موضع يصلح لهذا (الأمر إلا دار التمر) فعاقه أمر القدر عن قدرته عن الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فقال: وأراد نور الدين أن يسرع إلى دمشق الأوبة ويقضي فيها الشتوه فالتاث سره لالتياث سريته وشكاة جاريته فتصدق عنها بالألوف والتزم لله في شفائها بنذور ووقوف وأقام حتى ترجح ترجى إبلالها ثم سيرها في متحف وتحمل على أيدي الرجال وتأخر نور الدين جريدة مع عدة من مماليكه وأمرائه وتقدم إلى أن أسايره وأسامره في طريقه فسرنا على طريق قبه وملاعب والمشهد وسلمية، وكان إذا سار لا يدركه من يسايره، فوصلنا إلى سلمية من حلب في يومين، فجاءه الخبر بأن الفرنج قد أغارت على حوران، فركب قبل العشاء وأدلج ووصل إلى دمشق والصبح قد تبلج وسمع الفرنجة به فتفرقوا. وكان أخوه سابق الدين عثمان رسولاً وكان رجلاً بعيداً عن الدهاء، غير خبير بتدبير الأحكام وآلايها يحمل قول كل قايل على الصدق، وهو كما يقال ساذج سليم القلب فلما وصل إلى دمشق تلقوه بالإكرام وأنزلوه في دار بعيدة عن الأقوام ي11بكرون إليه كل يوم للسلام وإذا جاء إلى القلعة تلقوه إلى الباب وأجلسوه في صدر الإيوان وقام بين يديه حواشي السلطان، وهو لا يعلم بما يدبرونه وما الذي يقررونه ثم قال شمس الدين هو الوصي والولي وبأمر الملك الكفيل الملى فنريد أن يستظهر منه باليمين. وقال شهاب الدين العدل لسابق الدين أنا أصل إلى حلب معك فأعطني يدك أن تنفعني وأنفعك فمضى وخرج معه. قال وخرجت إلى طريق سابق الدين لأودعه وحسبته لا تخفى عليه الإشارة فإذا هو أعجمي لا توقظه العبارة، وخلوت به وقلت احترزوا من الكيد قبل أن تقعوا كالصيد في القيد، وصرحت له بالأمر وخوفته من الغدر وحسبته مأموناً على السر فلما سايره غي الطريق العدل أبو صالح وجاذبه أطراف الكلام أمال إليه أعطاف الاستسلام ووفاه في صوره الوفا مكايل مكايده، وأراه أنه يزجى له محامل محامده حتى إذا وصل إلى حلب وبعد شمس الدين على خرله ساجداً وأظهر أنه لم يزل يتمنى المثول في خدمته مغرماً واحداً واستوثق يمينه وشمس الدين لطهارة دينه يعتقد طهارة دينه، واستقر الأمر على أن يحملوا الملك الصالح إلى قلعة حلب، وهو يتسلم ممالكه ويكون فيها أتابكه ورد أخاه سابق الدين للمضي في الخدمة، ووصل سعد الدين كمشتكين أيضاً في تلك الأيام إلى دمشق ليجدد بالخدمد عهده، ويذكر من الرأي ما عنده، واستقبلهم الملك الصالح وكنت راكباً في موكبه مسايراً إلى جنبه وهو لا يسمح في أن أتباعد عن قربه فلما أبصرني العدل صعب عليه قربي وسايرني إلى جنبي وقال: سابق الدين حدثني بما حدثته ولو كان ممن ينبعث لبعثته وألغيت من أنفاسه دخان الجمر لفحني منها شرر الشر فجيت إلى كمشتكين أعتقد أنه صديق الدهر فمت إلى بعذر الذعر. وقال: انقطع عني حتى أصلح أمرك فعرفت أنهم أدخلوا رأسه في المخلاة وأنه ليس من الأمتعة المخلاة فهجرتهم على قصد المقاطعة (1177) ولم أجد أبداً من المسالمة والموادعة لأن لي تجملاً وثروة وخيلاً وعدة لو تركتها ونجوت بنفسي لكسفت في الآخذ بالحزم شمس، لكني أوهمتهم أني معهم، ومعاذ الله أن أدعهم حتى وصلت إلى حلب في صحبتهم ثم عرجت على دار محي الدين الشهرزوري بالحاضر وأقمت مدة أظهر لهم المودة. ثم أزمعت ورحلت وقطعت الفرات والجزيرة إلى الموصل والتقيت بها العصا لما وصلت. ذكر مسير الملك الصالح من دمشق إلى حلب بتاريخ يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قال ولما عزم الملك الصالح المسير بيت الجماعة التدبير، فأقام شمس الدين بن المقدم بدمشق، وجمال الدين ريحان وإلى القلعة، والقاضي كمال الدين الشهرزوري وسار الملك الصالح ومعه كمشتكين والعدل ابن العجمي الوزير وولي الدين إسماعيل الخازن ومعهم سابق الدين عثمان وهم يستعطفونه ويتلطفونه حتى قربوا من تل السلطان، ووصلت رسل شمس الدين علي بالإحسان فخلفوا الرسل وراءهم، ورحلوا للمسافة مساهم وأدلجوا حتى وصلوا وثوب الليل شقه الصباح، وصدر الفجر رحبه الانشراح فتلقاهم الكبير والصغير والمأمور والأمير. وكان شمس الدين بالقلعة راقداً عشاشه وناشداً انتعاشه فجاء أخوه بدر الدين الحسن متلفياً فبغتوه بالقبض عليه وجاهروا سابق الدين في مبرم عقده بالنقض واستصحبوهما محمولين، وسبقوا الخبر ركضا حتى دخلوا القلعة، وكان وإليها شاذبخت، وهو معهم في الباطن مطلعاً على سر الشر الكامن فما أحس بهم الشمس إلا وقد كسفوه وأظهروا له خفى كرههم وكشفوه واعتقلوا الأخوة الثلاثة في مطمورة وشعثوا القلوب بما جنوه فعادت غير معمورة. وجاء ابن الخشاب مقدم الشيعة فسفكوا دمه على الحالة الشنيعة وغاظ السلطان صلاح الدين هذا الخبر وتطاير من حلب إلى مصر من نارهم الشرر، ومن بعدها كم فاضت العبرات واستفاضت العبر. قال: ودخلت سنة سبعين وخمسمائة والملك الصالح في قلعة حلب مسقر وأمره مع أصحابه مستمر وأنا في دار القاضي محي الدين مقيم، والي التوفيق من الله مستقيم أترقب للانفصال الوقت، ولا أجد من الممقوتين إلا المقت. وجاءني من أخبرني أنهم وضعوا عليك من الإسماعيلية من يتمم حيلة وتقتل أأاأأأأ غليه، فقلت ما مع هؤلاء سلامة، وما على الكرم أن فارق أهل اللوم ملامة فتحولت عن المنزل النائي وجعلت الدأب دأبي، وانقلبت إلى حران وسيف الدين غازي صاحب الموصل قد خيم على سروج فقدمت على قصده العروج لأستأذن وإلى الركب أعرج وقصدت فخر الدين عبد رب المسيح وأنبأته بعزمي الصريح ورغبتي في خدمة سيف الدين، فأبيت وقلت ما جيت بهذه النية فأخذ لي كتاباً إلى الموصل، وقد مضيت إليها وأقمت بها على عزم العود إلى بغداد لأجمع بأخي شملي لكن صدني المرض، وحرف مزاج جوهري العرض وذلك في شهر ربيع الأول. وشغف بالتردد إلى كمال الدين بن الوزير جمال الدين محمد بن على أبي المنصور الجواد فكتبت إليه وقد عادني قطعة منها. قل في الكرام له ... مشبه وإن كثروا همة مباركة في ... الشفا لها أثر ليس في السيوف ... سوى للمهند الأثر قال: وسأذكر خروجي من الموصل في أوانه في ريعان الملك الصلاحي وعنفوانه قال: وطمع سيف الدين غازي في بلاد عمه، وعاد فخر الدين عبد المسيح إلى خدمته وعاد عزه في مكانته ومكنته، واستعاد الخابور والرقة وحران وسروج والرها وأدرك في تلك الأعمال كل ما اشتهى، فمضى العدل بن العجمي من حلب إليه للإصلاح ودخل له تحت الاقتراح وتمت المصالحة، وعلق رهن أخوة مجد الدين في الاعتقال، وضيقوا عليهم في القيود والأغلال، والزموهم بتسليمه الحصون ورفضوا حكم المروة، وتقضوا عهد الفتوة. وكان الموفق خالد بن القيسراني قد وصل ونحن بدمشق من مصر وحمل معه لخاصته المال الوثر وأخذ أمان ملك الفرنج حتى عبر الساحل وطوى إلينا المراحل، ولزم داره بسكون وعقل ولم يدخل مع القوم في شغل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وأما صلاح الدين فإنه اعتقد أن ولد نور الدين يتولاه بعده أخوة مجد الدين وهم أصدقاؤه وخلصاؤه، وغارلهم والملك النوري، وقال: أنا أولى بحفظه وصونه، وكتب إلى شمس الدين بن المقدم ينكر ما أقدموا عليه من تفريق الكلمة وكيف أجترأوا على أعضاء الدولة وأركانها بل أهلها (177ب) وإخوانها وأنه يلزمه أمرهم أمرها، ويضره ضرهم وضرها فكتب ابن المقدم إليه يردعه عن هذه العزيمة ويقبح له استحسان هذه الشيمة ويقول: لا يقال عنك أنك طمعت في بيت من غرسك وأصفى مشربك، وأضفى ملبسك فما يليق بحالك ومحاسن أخلاقك وخلالك غير فضلك وأفضالك فكتب إليه صلاح الدين بالإنشاء الفاضلي: وصل كتاب الأمير أطال الله بقاءه، وأحطنا بإنشائه والمكتوب وما نريد معرفته أنا لا نؤثر للإسلام وأهله إلا ما يجمع شملهم ويؤلف كلمتهم، وللبيت الأتابكي إلا ما يحفظ أصله وفروعه، ويدفع ضره ويجلب نفعه، فالوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر العداة، وبالجملة أنا في واد والظانون ظن السوء في واد، ولنا من الصلاح مراد لن يبعدنا عنه مراد، ولا يقال لمن طلب الصلاح أنك قادح ولا لمن ألقى السلاح أنك جارح وما مرادنا إلا مصلحة تؤثر لا فتنة تثار، وخدمة تنير لا مضرة تسدى وتثار فلو زرنا على غير هذا السبيل لما سلكنا مراجعة الخطاب ومطالعة الكتاب فلا يحمل أمرنا إلا على أحسنه، ولا يظن بنا إلا الخير الذي طبعنا أخص بوجوده من معدنه. قال: وكان عزم صلاح الدين أن يسارع إلى التلاقي، ويعتمد في إصلاح الدولة وإنجاح البغية اعتماد الوفى الوافي، فاتفقت عوايق وطرقت طوارق راعت مباديها ثم أحمدت غاياتها، وانحلت بعد الملمات المدلهمات غياباتها فمنها نوبة الكنز ونفاقه أسطول صقيلة ووصوله إلى ثغر الإسكندرية وأرهاته، وكان وصولة إليها في السادس والعشرين من ذى الحجة تسع وستين وانهزامه مستهل المحرم سبعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قال ووجدت كتابا من صلاح الدين إلى بعض أمراء الشام بشرح الحال وهو: هذه المكاتبة صادرة من الأمير بعد أن وصل الأسطول الصقلى إلى ظاهر ثغر الإسكندرية حماها الله تعالى في وقت الظهر من يوم الأحد السادس والعشرين من ذي الحجة ولم يزال متواصلا إلى وقت العصر وكان ذاك حين غفلة من الموكلين بالنظر لا على حين خفاء من الخبز فأمر هذا الأسطول توالت به الأخبار وعظمت الشناعات عنه في الأفاق والأقطار وروع ابن عبد المؤمن في البلاد المغربية وهدد به في الجزائر الرومية صاحب قسطنطينية وكان عسكر الوالي غايباً ولم يحضر في ذاك اليوم إلا العدد القليل منه وأصبحوا في يوم الاثنين الذي يليه على ما هم عليه من انتشار راجل الثغر فأشار جماعةً من عقلاء الأتراك بأن يرد الناس من المكان البعيد ويقفوا من السور من المكان القريب فخلا البر وأمكن الأسطول الصقلى في النزول الأمر، واستنزلوا خيولهم من الطر أيد ورجالهم من المراكب فأما الخيل فعدتها على ما يرام ما حققته أخبار الأسارى على الانفراد وعلم بالارجاف السابق إلى البلاد ألف وخمسمائة رأس منها رامحة ألف وتركبولية خمسمائة وكانت عدة رأجلهم في كل شيء مائة وخمسين راجلاً فيكون ثلاثين ألف مقاتل عن شيء وكانت عدة الطرايد ستا وثلاثين طريدة تحمل الخيل وكانت عدة السفن التي تحمل آلات الحرب والحصار من الأخشاب الكبار وغيرها ست سفن وكانت عدة المراكب الحمالة برسم الازورار للرجال أربعين مركبا وفيها من الراجل المتفرق وغلمان الخيالة وصناع المراكب وأبراج الزحف ودباباته المنجنيقية ما يتمم خمسين ألف راجل ولما تكاملوا نازلين على البحر خارجين من البحر حملوا على المسلمين حملة لم يكن حاضرها من أصحابنا سوى محمود بن البصار فاستشهد في سبيل الله واستمرت الحملة على المسلمين إلى إن أوصلتهم إلى السور وجدفت مراكب الفرنج داخله إلى الماء وكانت به مراكب مقاتله ومراكب مسافرة فنسبقهم أصحابنا إليها فخسفوها واغرقوا ما احترق منها واستمر القتال إلى وقت العشاء من يوم الاثنين المذكور ونزلوا بخيامهم وضربوها على البر وكانت ثلاثمائة خيمة وباتوا على الاهتمام بالات الحصار ولما أصبحوا يوم الثلاثاء زحفوا وضايقوا ونصبوا ثلاث دبابات وثلاثة مجانيق كبار تضرب بحجارة سود استصحبوها من صقيلة وإما الدبابات فإنها تشبه الأبراج في جفاء أخشابها وارتفاعها وكثرة مقاتليه مقاتليها وزحفوا بها إلى أن قاربت السور ولجوا في القتال عامه النهار ووردنا الخبر إلى منزلة العسكر بفاقوس على جناح الطاير يوم الثلاثاء ثالث نزول (1178) العدو فاستنهضنا العساكر إلى الثغرين الاسكندريه ودمياط وكان الأميران بدر الدين أيوب وفارس الدين تميزك فتسبقا إلى الإسكندرية برجالهما ونضاف إليهما من كان في إقطاعه بالبحيرة المجاورة للإسكندرية من المقاويد وغيرهم في يوم الثلاثاء والأربعاء وعاد بعض عسكر تقي الدين من برقه من الغرب واستمرت الحرب وقدمت الدبابات وضربت المنجنيقان وزاحمت السور إلى إن صارت منه بمقدار الاماح فاتفق أصحابنا على إن فتحوا أبوابا من قبالتها من السور ففتحوا الأبواب على غفلة وخرجوا منها على غزة وركب من كان هناك من الأمراء والخيل وخرجوا فارين من الأبواب وتكاثر صياح أهل الثغر من جميع الجهات فاحرقوا الدبابات المنصوبة وصدقوا القتال وانزل الله على المسلمين النصر وعلى الكفار الخذلان والقهر. وما زالت المكافحة بالسيوف إلى وقت العصر من يوم الأربعاء وقد ظهر فشل الفرنج ورعبهم وقصرت عزا يمهم وفترت حربهم وأحرقت آلات قتالهم ودخل المسلمون إلى الثغر لقضاء فريضة الصلاة واخذ ما يكون به قوام الحياة وهم على نية المباكرة وكنا قد سيرنا احد المماليك فركب فرسنا وجنب فرسين فأوقف الثلاثة طاويا واخذ رابعا من ضيعته ودخل الثغر بعد العصر بعد إن اعلم كل من لفيه من الأتراك انه فارقنا على المعدية وسبق بين أيدينا بالبشارة فارتفعت الصيحة وعلت وخرجت الخلايق التي كانت للصلاة والعشاء دخلت وثابت إليها عزيمتها بعد الكلال، وتداعت رجالها وقبائل الثغر إلى القتال وأوقع الله في قلوب المسلمين أنا في أوساطهم وبين ظهورهم، وصار الخارج من بيته يروم أن يتسرع ليجاهد بين أيدينا، ولنرى أثر الذي كان يرجوا أن يصل خبرة ألينا وقضى الأمر ونزل النصر وواقعوا الفرنج في خيامهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وهاجموهم، وقد كاد يخلط الظلام وتسلم أهل البلد الخيام بما فيها من همم الملوك العالمية وتحملاتهم الغالية وفتكوا في الرجالة أعظم فت، وتسلم أصحابنا الخيالة فلم يسلم الا من نزع لبسه ورمى في البحر نفسه وتقحم أصحابنا البحر على بعض المراكب المذكورة فخسفوها وأتلفوها فولت بقية المراكب هاربة وجاءتها أحكام الله غالبه وبقي العدو بين قتل وغرق وأسر فريق واحتمى ثلثمائة فارسفي رأس تل فأخذت خيلهم ثم غلب أهل الثغر عليهم فقتلوا وأسروا وفيمن أسر رجل كبير كان عمرة خمسين شينياً، وأما المأخوذ من اليزك والنعم والآلات والأسلحة فقد ذكر أنه لا يملك مثله ولا يوجد لفرنجة الشام أيسره، وأما الخيل فأنها أكاديش فحول ولم يعد معهم فرس واحد منها. وأقلع هذا الأسطول من الثغر يوم الخميس ولا يعلم أين يقصد من البلاد والأعمال على أنه لا بقية فيه لحرب ولا قتال. وكان عدواً ثقيلاً وكان خطبة جليلاً إلا أن ذكروا أن مكيدتهم في اللقاء ضعيفة وحضر من عقلاء خيالتهم المأسورين من أستجير أن يصدق فذكر أن النفقة كانت في الفارس لخمسة أشهر وهم ألف فارس منهم سبعمائة نقدية من ثلاثين دينار مشاهرة إلى خمسة وعشرين دينار إلى عشرين إلى خمسة عشر ومنهم من له خمسون ومنهم من له مائة من مشاهيرهم، وأن الإقطاعية ثلثمائة فارس وأن التركولية خمسمائة فارس لكل منهم دنانير ومؤنته على ملكهم على أن فرسا لا يموت، ومنهم من له عشرة دنانير وللقائد والرئيس عشرون ديناراً وأن العدة تناهز أربعة ألف رجل خارجة عن جرخية وسرجندية عدتهم خمسة آلاف رجل وأن المقدمين ثلاثة أحدهم ابن عم ملك صقلية والحمد لله على هذه النعمة التي أحدثت للقلوب استبشاراً وخفضت للشرك علماً ورفعت للتوحيد مناراً، وأظهرت للملة الحنفية على أعدائها استعلاء واستظهار، وأعلنا الأمير ليكون في شكر الله عليه مشاركاً ويأخذ من حمده تعالى بحظ يتعين على مثله أن لا يوجد له تاركا أن شاء الله تعالى. قال: وفي أول هذه السنة سنة سبعين قام من كان المعروف بالكنز في الصعيد وجمع من كان في البلاد من السودان والعبيد، وكان عنده من الأمراء أخ لحسام الدين أبي الهيجاء السمين ففتك به وبمن هناك من المقطعين ففارت حمية أخيه وثارت للثأر وساعده أخوه السلطان الملك العادل سيف الدين وعز الدين موسك ابن خاله وجاءوا إلى المدينة (178ب) طود فأتى السيف على أهلها، وباتت بعد عزلها بذلها ثم قصد الكنز فسفك دمه وظهر بعد ظهور وجوده عدمه ولم يبق للدولة نعد كنزها كنز وسال دمه فلم ينتطح فيها عنز. [دولة صلاح الدين اليوبي] ذكر توجه صلاح الدين إلى دمشق وتملكه قال: ولما خلا باله مهد لاستضافة المماليك، وأضح بعزايمة إقامة سنن المساليك وخرج إلى البركة مستهل صفر ورحل إلى بلبيس ثالث شهر ربيع الأول وكان رسل صاحب بصرى شمس الدين جاولى وشمس الدين ابن المقدم عنده تستورى في البعث والبحث زنده وتستقدمه وجنده فسار ووصل إلية بالسرى إلى أن أناخ على بصرى فاستقبله صاحبها بكل ما أسعد به ذخره، وشد أذرة، وسدد أمره، واستضاف إلى بصرى صرخد، وتفرد بالسبق إلى الخدمة وتوحد وسار في الخدمة معه إلى الكسوة وركب صلاح الدين يوم الاثنين انسلاخ شهر ربيع الأول وسار واعتمد في تعبيه عساكره الاستظهار وحسب إن في البلد من يقوى للامتناع ويقوى بالدفاع فأقبل وهو يسوق حتى دخل وخرقها كأن الله خلقها إلى دار العقيقي مسكن أبية وبقي جمال الدين ريحان الخادم في القلعة على تأبيه فراسله حتى استمالة وأغزر له نواله حتى تملك المدينة والقلعة، وملك ابن المقدم دارة وكل ما حواليها وبذل له طلبته التي أشار إليها وأظهر أنه جاء لتربية الملك الصالح وتدبير ملكه وأنه أحق بصيانة حقه وأجتمع به أعيانها وأصبح هو سلطانها فزاره القاضي كمال الدين الشهرزوري فوفاه حقه من الاحترام وأجراه على مالاق بسعادته والسلام. فصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 من كتاب فاضلي عن صلاح الدين: إن الله ملكنا دمشق عناية وعنوة ولم يكتب فيها بحمد الله إلى خطية خطوة، ولا حدث عثرة فيقال في أمرها لعله يقال، ولا استعيرت صفة في ذكرها لعلة تقال. وعرض في المبادئ تعرض من العسكر الدمشقي فعلموا أن الهشيم تذور الرياح والصريم يمحوه الصباح، والسيف أصدق أنباء والحق أعز أبناء والباطل يضمحل عفاء. "والزبد يذهب جفاء " إلا وأنا رأينا العفو أقرب للتقوى، وأمثل في سلوك الطريقة المثلى فحفظنا الدماء في أهبها وأرحنا القلوب من نصبها، ورددنا السيوف عن قرب تغيظها في قربها، وتركنا الرماح وأطرافها تضطرم وقدا وتضطرب حقدا، وقلنا لنا الغيظ "يا نار كوني بردا ونظرنا في أحوال البيت النورى أعلاه الله فإذا هو قد أطفيت مصابيح نورة، وكاد ذكره في الذهاب يلحق بمذكورة فاستأنفنا تدبيرات نؤمل أن الله سبحانه يقيم البيت الكريم على عمدة ويغنيه عن مسايدة من لا يعنيه عن سنده، وقضينا حق الملك الكريم الصالح وحق والده رحمه الله بإظهار الإحسان في كفالته، واستشعارا لجميل في خدمته. وقدكان ريحان مانع بتسليم القلعة ريثما علم أن لا يبقى بالرماح ريحانه وبقدر ما احتوى ضال فكره وأبصر حيرانة فأعطيناه أمانا وبوأناه منها مكانا، وصعد الأجل الأخ سيف الإسلام فملكها وسكنها واستقر ركابنا بالدار النجمية لتنفيذ الأمور والأوامر، وتدبير الرعايا والعساكر. قال: ولما سمع المدبرون للملك الصالح بإقبال صلاح الدين الؤذن بإدبارهم حاروا في حوارهم، ولبسوا شعار استشعارهم وراسلوا بالعنف معنفين وبالعسف متعسفين. وكان الواصل منهم قطب الدين ينال بن حسان وقد تجنب في قوله الإحسان وقال له: هذه السيوف التي ملكتك مصر وأشار إلى سيفه تردك وعما تصديت له تصدك فحلم عنه السلطان واحتمله، وتغافل كرما وأغفله وذكر أنه وصل لترتيب الأمور، وتهذيب الجمهور وتربية ولد نور الدين، واستفاد أخوة مجد الدين. فقالوا له: أنت تريد الملك لنفسك ونحن لا ننزع في قوسك ولا نبني على أسك فارجع حيث جئت أو أجتهد وأصنع ما شئت ولا تطمع فيما ليس فيه مطمع ولا تطلع حيث ما لصعودك فيه مطلع. ونال من تقطيب القطب ينال ما أحال الحال وأبلى البال وأبدى التبسم وأخفى الاحتمال. ذكر رحيل السلطان إلى حمص مستهل جمادى الأول قال: ولما رأى أن القصد لا يقضي إلى مقصود، وأن القوم لايميلون إلى نهج محمود عول على أخيه سيف الإسلام طغتكين " 179ا" في دمشق وأنالتها ورعاية رعايتها، ورحل ونزل على حمص يوم الأحد حادي عشر جمادى الأول ودخلها يوم الثلاثاء. وبقيت القلعة على الامتناع إلى أن أذن الله تعالى لها في الاستفتاح ورتب عليها من الأمراء من تفى حركته بسكون الدهماء وقلعتها أمتنعة وعلى سيوفها ارتفعت فسار إلى حماة وأخذها في مستهل جمادى الآخر ومضى ونزل حلب في ثالث هذا الشهر على قصد الحصر، وكانت الشتوه ذات أنواء وثلوج، وعواصف هوج، ومضايق كربة بلا فروج ومداخل شدة بلا خروج. وجرت شدة امتدت للمساق عدوة الشقاق مدة. وعصم الله حشاشته في تلك النوبة من سكاكين الحشيشيه، وأجرى من حفظه ما كان في غيب من المشيه. قال وسبب ذالك أن الحلبيين لما أشتد عليهم الحصار أستعانو بالإسماعيلية، وعينوا لهم أموالا وضياعا، وبذلوا من البذول أنواعا. فجاء منهم في يوم بارد من فتلكهم كل عات فعرفهم صاحب بو قبيس ناصح الدين خمارتكين. وقال لهم: لأي شئ جئتم، وكيف تجاسرتم على الوصول وما خشيتم فبدروه بسكينهم وقتلوه، وجاء من يدافع عنه ففتكوا به وبالجراح أثخنوه، وعاد أحدهم ليهجم على السلطان في مقامه وقد شهر سكين انتقامه وطغرل الأمير جاندار واقف ثابت حتى وصل إليه فشمل بالسيف رأسه، وما قتل الباقون حتى قتلوا جماعة وأقام السلطان إلى مستهل رجب ثم رحل وإلى حمص تحول وبحصر حصنهم أشتغل. وسبب ذالك أن قومس طرابلس ريمند الصنجيلي كان في أسر نور الدين رحمه الله مذ كسرة حارمن، وبقي في الأسر أكثر من عشر سنين ثم سعى الأمير فخر الدين الزعفراني في خلاصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وكان في آخر عهد نور الدن فغلب عليه وهو أكر خواصه وخلصه بمبلغ مائة وخمسين ألف دينار، وفكاك ألف أسير اتفق هلاك ملك الفرنج في أول هذه السنة فتكفل بالملك بين يدي ولده المجذوم فلما نزل السلطان على حلب وجد فيما طلب كاتب الحلبية الحشيشيه فجرى منهم ما ذكروا ثم كاتبوا القومص بطرابلس وقالوا له أنت طليقنا، وكنت رفيقنا في الأسر والآن أنت عتيقنا وحقنا عليك متعين وبرهان ذلك فجاء الخبر بتوجه القومص في الإفرنجية إلى حمص فرحل عن حلب مستهل شهر رجب فرجع الملعون ناكصا على عقبيه خوفا مما يقع فيه ويتم. وأقام السلطان على قلعة حمص شهرا، وقد أستشهد من الجانبين عدة وجرت شدة والسلطان مقيم في بيت في أعلى المدرسة يشاهد منه الحرب حتى هاجم رجالة يوما باب القلعة وهجم عليها الرجال من فوق فقبضهم أهل القلعة ثم راسلوا السلطان في طلب الأمان فهاب لأجل الرجال المقبوضين عليهم فأعطاهم الأمان، وسلموا الحصن وسلموا وتجاوز عما أجرموا ثم نهد إلى بعلبك وفيها خادم يعرف بيمن فسلم الموضع بسلم وهدنه وذلك يوم السبت رابع شهر من رمضان. قال: ووجدت كتابا عن السلطان إلى أخيه الإسلام وهو بدمشق يبشره بفتح قلعة بعلبك وهو بالمثال الفاضلى ومنه: نحن نبشر الأخ أدام الله طروق البشاير سمعة ونزول المسار ربعه بفتح قلعة بعلبك بالسلم الذي أغمدت فيه السيوف وقرت به من الأولياء العيون ورغمت من الأعداء الأنوف وكتابنا هذا إله وسنجقنا فوق قلعتها مستقل، ومعتمدنا من أعلى شرفاتها مطل، فالحمد لله الذي قرب كل بعيد وسهل كل شديد وجعلنا حيثما كنا مقصودين بعادات نصره محفوظين بمعقبات أمره، والأخ يضرب نوبة البشارة ويظهر اثر موهبتها السارة ليزيد الله العدو هوانا ويعلم كل من حالف سلطاننا أن الله لم يجعل له سلطاناً. قال رحمه الله في ذكر ما آل إليه أمره وهو بالموصل: قال فوصل نجاب وذكر أنه فارق صلاح الدين بالكسوة فهاجنى الطرب لقصده لسابق معرفته، وقديم وده، وخرجت من الموصل رابع جمادى الأولى وعبرت الخابور في مخاضه المجدل وجئت إلى الرقة ودخلت إلى دمشق في ثامن من جمادى الآخر، وصلاح الدين نازل على حلب، فنزلت في مدرستي، وعدت إلى منزلي، وألغيتها وفيها مدرس يتولاها وقالوا أن العماد خلاها. فدخلت إليها وأخرجته وأبعدته عن النهج الذي نهجه وكنت في غبر ألمى وعقاييله أرتقب اعتدال مزاجي، فأقمت حتى استقمت وصبرت إلى أن عاد السلطان إلى حمص وانتظرت طيب الزمان ومطاوعة الإمكان، وقصدت السلطان وقد تسلم قلعتها في شعبان قال وهنأته في فتح بعلبك بأبيات منها (179ب) فتح تسنا في الصيام كأنما ... شكرا لما منح الأنام صيام من ذا رأى في الصوم عيد ... سعادة حلت لنا والفطر فيه حرام باليمين هذا الشهر مشهور ... كما قد عم بالبركات هذا العام قال: ولزمت خدمته أرحل برحيله وأنزل بنزوله، وأواصل حضرته وأنشده شعري وأقول ليت شعري إلى ما يؤول أمري. أحضر في كل وقت على سبيل المجالسة ونهج الموانسه لا أمت بمعرفة ولا انبس ببنت شفة ولمى كثر ترددي إليه وتوددي وتصبري على العطلة وتجلدي اقترحت على قرائحي الإكثار للسلطان من مدايحي، واحتجت إلى أحياء الموات والأذكار بسابق الحرمات فهام به الفهم وكثر فيه النظم إلى أن دخلت في خدمته وصرت كاتب حضرته فشغلني إنشاء الرسايل عن إنشاء المدايح، فغلب النثر وقل النظم ولو ذكرت مدايحي في هذه السنة لكبر حجم الكتاب وخرج عن حد الإسهاب. قال: وكنت ليلة عند السلطان وهو يذكر جماعة من الشعراء وعنده ديوان الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، وهو به مشغوف وقد أستحسن قصيدة له طائيه ولو عاش السلطان لأقر بفضلها فنظمت في مدح السلطان كلمة أولها: عفا الله عنكم مالكم أيها الرهط ... قسطتم وفي قلب المحب لكم أقسط شرطم له حفظ الوداد وخنتم ... حنانيكم ما هكذا العهد والشرط ذكر الوقعة الأولى مع المواصلة والحلبيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 قال رحمه الله: لما تسلم السلطان قلعة بعلبك عاد إلى حمص وخيم ثامن رمضان بظاهرها وخيمنا في عاشره على حماه. وكان قد وصل عز الدين مسعود أخو سيف الدين غازي صاحب الموصل نجدة لها ولما عرفوا أن السلطان مشغول بالحصون تركوا وجاءوا إلى حماه فحصروها فعرفوا أنهم لا ينالون منها فرحلوا عنها. وراسل مقدموا حلب المواصلة النايب السلطاني في حماه قبل وصوله إليها أننا وصلنا للصلح والاجتماع فيما يعود بين الجانبين بالنصح والنجح فكتب إلى السلطان وهو ببعلبك يحثه ويحضه لعله يتم عقد صلح لا يتأتى نقضه فمضى السلطان في خف وجمع غير وجف وجاء للايتلاف وتنكب مذهب الخلاف فجاء من الحلبيين الأمير سعد الدين كمشتكين وشهاب الدين أبو صالح العجمي واجتمعوا بالسلطان لما طلبوا أن يرد عليهم الحصون، واستقر أن يقنع بدمشق نايبا عن الملك الصالح وله خاطبا وعلى الانتماء إليه مواظبا، وأن يرد كل ما أخذه من الخزانة وأن يسلك فيه سبيل الأمانة. فلما رأوه لكل ما يلتمس منه مجيبا، ولكل ما يستبعدونه من مرام قريبا، ورأوه في عسكر خفيف ومطمع عفيف ومجمع لفيف قالوا خبره صحيح وإن الذي يعرض له من عجزه صريح، وهو في قافلة ما أهون أخذها، فشرعوا في الإشتطاط، وجاوزوا حد الاشتراط، وطلبوا الرحب وأعمالها فقال هي لابن عمي ناصر الدين محمد بن شيركوه، وكيف ألحق به في رضاكم المكروم فقاموا متغضبين ونفروا وارتحلوا ونفذوا وراءهم من يردهم فما اكترثوا به ولا احتفلوا وذهبوا، وهم يقولون كيف نرتاح لقول هؤلاء والى متى نصبر على البلاء، وفارقنا إلى مخيمهم وربضوا تلك الليلة في مجسمهم، وأصبحوا على الرحيل إلى جانب العاصي وأظهروا أنهم على المصاف وعزم الانتصاف فعبر السلطان إلى سفح قرون حماه خيامهم وركز في مقابلتهم لمقاتلتهم أعلامه وقد أجتمع عسكر الموصل والجزيرة وحلب والسلطان ينتظر وصول أمرائه الواصلين إلى دمشق من مصر قال: فوصل في ذلك الوقت لتوفيق الله ومساعدة قدره العسكر المصري في عشرة من المقدمين الأكابر وهم تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه أبناء أخي السلطان، وشهب الدين محمود بن تكش خاله وخواص رجاله ووصلوا إلى المعركة أمام الزحف واقتسموا ميمنة وميسرة تقدموا زحفا وسدا واستدنوا ما ظهر بعيدا فأبصروا أولئك ما لم يبصروه وأنكرا ما لم يعرفوه، واسودت الدنيا في عيونهم وأحسوا بإخفاق ظنونهم، ونحن وقفنا وراء الصفوف نبصر عجاجهم ونسمع ضجا جهم ثخم رأينا الغبرة تبعد عن صوبنا فقلت أن النصر لحزبنا فإن الهزيمة لو كانت علينا لثارت الغبرة إلينا فكان الأمر كما ظننته، فإن السلطان لما هزمهم طردهم الخيل حتى طرد النهار الليل وسار حتى زحزحهم عن أثقالهم وأحمالهم ودوابهم ورجالهم. وحقن الدماء وسكن الدهماء ونزل في منزلتهم واستقال الدين من ذلتهم ثم سرنا ونزلنا بقرأ حصار من أعمال حلب وهناك عيدنا عيد الفطر وشكرنا (180 ا) الله على أداء فريضة الصوم واقتناء فضيلة النصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 كتاب فاضلي إلى زين الدين الواعظ في المعنى أوله: لله سبحانه وتعالى الحمد عندنا عوايدهم قد صارت كالأمر المعروف، والواقع المألوف والضياء اللازم للصباح، والعرف المتضوع مع الرياح فلا تستغرب غرايبها وإن كانت بديعة ولا تبهر عجائبها وإن كانت وسيعة وشيعة. وكان الحلبيون والمواصلة قد صاروا بنيانا مرصوصا في الخلاف، وعقدا واحدا في الشقاق والانحراف، وحصروا حماة أياما وهم فيها المحصورون، وأن جندنا جند الله وهم المنصورون ثم ارتحلوا عنها ولم تزل المراسلات تكرر والمعاقدات تنقض بعد أن تقرر إلى أن كان آخر رسا يلهم ما بيننا إلا السيف فرضينا به حكما وأرسلنا حبلهم على غاربهم، وعلمنا أن البغي معترض دون مطالبهم ولما كان يوم الأحد التاسع عشر شهر رمضان ركبنا والعساكر قد انتظمت عقودها والاطلاب قد أطرد مسرودها، والسيوف قد كادت تلفظ غمودها، والرماح ساقها إلى الأوراد ورودها فلما تصافحت أطراف القنا مع النحور ووصلت صدور الرماح إلى الصدور، تخور له الصخور وأنزل الله نصره علينا فلاذوا بالفرار، وذموا عواقب الاغترار، واستولت على أبطالهم حلقات الإسار وحاز العسكر المنصور من القوة والعتاد وآلات الحرب والطراد ما ملئ كل يمين وشمال حتى لم يبق فارس إلا قاد الجنايب ولا راجل إلا سب الراكب بما أستكثر من المراكب وكان المقام كريما واليوم عظيما، وكان هذا الفتح لفتوحنا أميرا وهذا اليوم بما بعده من سعادات الأيام بشيرا، وكتابنا ونحن على أثر المنهزمين سايقون إلى مستقر القرار الذي يسترجون سابقون. قال ونظمت في هذه الوقعة في مدح ناصر الدين محمد بن شيركوه قصيدة أولها: وكتيبة مثل الرياض كأنما ... راياتها منشورة أزهار وكأنما خض البيارق للقنا ... ورق وهامات العداة ثمار وكمايم الأغمار عن زهر الظبا ... فتقت فكل صقيلة نوار وعلى شعاع الشمس لمع حديدها ... يبدو كما يعلوا الجبين نضار عبيتها بعزيمة مشفوعة بالنصر ... منك تعينها الأقدار ومنها: أهلا بجلق والعراق مراقبوا ... حالي وطرف رجائهم نظار وقطعت أبواب الملوك إليكم ... ليكون منك إلى النجاح بدار بادرت نحوك بالرجاء مؤملا ... والصفو تهجر دونه الأكدار قال: فنزل السلطان قرأ حصار بنية الحصار فجاءت رسلهم بالاقتياد وأجابوا إلى المراد وقالوا: اقتنعوا بما أخذتموه إلى حماه ولا تشمتوا بنا العداة فاسترد عليهم كفر طاب والمعرة على أنا لا نسومهم المضرة والمعرة واستوفينا عليهم الإيمان المستقرة وأحضرني السلطان في ذلك اليوم لتحرير نسخة اليمين ورآني الحلبيون اللذين فارقتهم أني إلى جانب السلطان جالس وبأمره مستأنس فنظروا شزرا وعظموا ما ظنوه نزرا فما وقف السلطان في عرض ولا شاب صحة قولة بمرض وسألهم في المعتقلين أخوة مجد الدين فأجابوا وفرجوا عنهم وتم الصلح وعم النجح ورحلنا ظافرين ظاهرين ونزلنا بحماة يوم الاثنين ثاني عشر شوال وهناك التقينا العصا فما استقرت بنا النوى ونوينا إلى حصار بعرين. ذكر وصول رسل دار الخلافة قال: ولما وصل السلطان إلى حماة تلقاه رسل دار الخلافة بالتشريفات السنية والأمثلة الرضية والجنايب العربية والتحف الأمامية والتقليد والتمليك والتحكيم والتفويض فأفاضوا على السلطان وأقاربه الخلع واتبعوا في التشيع به الأتباع والشيع ولبس الأهبة السوداء كأنه بدر التمام تجلى أنواره في الظلام، وكأنه إنسان عين الإسلام نظر من سوادها، وصحيفة السعادة تلألأت إمدادها من مدادها، وركب ولواء الحمد فوقه خافق والمركب الخاص تحته سابق وأفيض على ناصر الدين محمد بن شيركوه بن عم السلطان تشريف مقارب للتشريف السلطاني منير منيف وخص من الديوان العزيز بالتفضيل والتمييز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 قال (180 ب) ولم يبق في ذلك الصوب إلا حصن بعرين مع الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني، ولما وصل السلطان إلى الشام لجأ إلى ظل الإكرام، ولازمه ظنا منه أنه يقدمه على العساكر ويجريه على عادته في العهد النورى سقاه الله فإن نور الدين رحمه الله قدمه على العساكر في آخر عمره، وأقطعه الرها وحماه وكفر طاب وحمص وسلمية وبعرين فعرف أنه لايتم له هذا المراد ولا يصح عليه الاعتماد فأصبح يوما مفارقا ولحجاب الحجى خارقا، فنزل السلطان على بعرين فأخذها سلما في العشر الآخر من شوال وانتظمت تلك الفتوح على تواتر ونوال. قال: واذكر إنا عبرنا نهر العاصي عايدين وقد انكسفت الشمس وادلهم النهار وغلب القلوب الاستشعار، وخفيت الرسوم، وظهرت النجوم، وجينا إلى حمص ثم إلى بعلبك ثم إلى البقاع بعزم العودة إلى دمشق، وأقطع حماه خاله وصهره شهاب الدين محمودا، وأنعم بحمص على ابن عمه ناصر الدين مجمد بن شيركوه ووصلنا إلى دمشق في هذا الشهر برايات الفتح والنصر. ذكر ما أسفر عنه حالي ومال آمالي قال: قد قرر حسادي عند السلطان، وقالوا: شغله الكتابة وهي منصب الأجل الفاضل، وهو يستنيب فيه من يراه من الأفاضل، وهذا (تصرفه برفد جزيل) ووجه جميل، والسلطان مع رغبته في متوقف وإلى ظهور وجه النجاح في أمري متشوف وكنت قد آنست مدة مقامي في المعسكر بالأمير نجم الدين بن مصال وهو ذو فضل وأفضال وله يد عند السلطان في النوب التي قصدوا فيها مصر لا سيما عند كونه محصورا بالإسكندرية، فلما ملك أحبه وأختار قربه فلزمت له التردد إليه، وجعلته الوسيط بيني وبين الأجل الفاضل والخدمة من أنجح الوسايل ووقفت خاطري على تقاضيه نظما ونثرا فدخل الأجل الفاضل إلى السلطان وعرفه أنه في راغب وأنه في ترتيب حاجب فقال له أنت كاتبي ومدبر ملكي وصاحبي ولو رتبت كاتبا لظن أن في الحال نقصا. فقال أنا لا يمكنني أن الملازمة الدايمه في كل سفره وغدا تكاتبك ملوك الأعاجم ولا يستغني في ذلك عن عقد الملطفات وحل التراجم، وأنا ما أحضر في كل أوان والدولة مفتقرة إلى كافل بها غير متوان والعباد يفي في الوفاء باختراع كل بكر اختراع كل عوان، ولك أختاره وقد عرف في النوبة ألنوريه مقداره، والجواد عينه قراره، فوافق قوله مراد السلطان وعرف أن الأجل الفاضل أجل فضلى وحلى عطلى وأخذ خط السلطان بما قرر لي من شغلي فاعتل كبت من حسد وأنحل عقد ما فسد، وراح من الفضل ما كسد، وعاود الروح منه الجسد. ودخلت سنة إحدى وسبعين والسلطان في مستهل المحرم في مرج الصفر من دمشق بالمخيم والإسلام وافي المغنم بادي المغرم والعساكر على حظوظها من العز وخاصته والسلطان حاف ولسر عزمه باث فبينا نحن في تصميم عزم وتتميم حزم إذا وصل رسل الفرنج وقد جنحوا للسلم وغرضوا بسوم الهدنة وضرعوا في تقلد المنة وفيهم ماجد غلام هنفري وهو يثق بقولة السلطان فما زال يرددهم حتى دخلوا تحت كل شرط وقربوا من المراد كل ما شحط وتقبلوا بكل ما فيه للإسلام غبطه، فترجمت الفايدة ووضحت في المصالحة المصلحة الزايدة. ولما تمت الهدنة أزن السلطان لعسكر مصر في الانصراف وأستجدد العدد منها والاستئناف والإقامة ريثما يستوعب المغل ويخرج في المهام الدخل وسار الأجل الفاضل ليزول به هناك الشواغل ولما تم مع الحلبيين الصلح لم يقطع المواصلة مواصلتهم بالعتب والرسل والكتب فحملوهم بالبعث بعد البعث على النقب والنكث وحالفوهم في الباطن وهم مستمرون معنا على الوفاق الظاهر، وأتفق أن المواصلة نفذوا إلى الحلبيين من أخذ عليهم المواثيق وتوجه ذلك الرسول منهم إلى دمشق ليأخذ للمواصلة من السلطان عهده ويكشف ما عنده فلما خلا به لخلابه طالبه بنسخة الرأي المقتدح والشرط المقترح فغلط وأخرج من كمه نسخة يمين الحلبيين لهم ناولها إياه فتأملها وأخفى السر وما أبداه وردها إليه وقال لعلها قد تبدلت وما أعلمه بالقضية التي عليها اشتملت فعلم الرسول انه غلط ولم يمكنه تلافي مافرط وقال السلطان: كيف حال الحلبيين للمواصلة ومن شرط إيمانهم أنهم لا يعتمدون أمرا إلا بمراجعتهم لنا واستئذانهم، وعرف من ذلك اليوم أن العهد منقوض والوفاء مرفوض والغدر عندهم مفروض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قال: وفي أول هذه السنة وصل إلى دمشق الجماعة الذين خرجوا (181 أ) من بغداد موافقة لقطب الدين قايماز وما بدا لأنفسهم بالالتجاء إلى السلطان والاحتراز. ذكر السبب في ذالك قال: كان قطب الدين قايمار محكما في الدولة الإماميه من أول الأيام المستنجديه، وهو الآمر والناهي، والمفاخر والمباهي وقد بلغ في التحكم إلى أقصى غايات التناهي، والإمام المستنجد توفاه الله وهو عنه غير راض واجترأ عليه والقدر عنه متغاض، وبسط يده في الدولة المستضيه، وصل وعقد وأصدر وأورد، وقرب وأبعد وصوب وصعد ثم تجبر وتكبر، وقوي على وزير الخليفة عضد الدين بن رئيس الرؤساء وأخافه وراما أتلافه حتى أستعاد منه برباط شيخ الشيوخ وسلم بحمايته من أذى المذكور فأرتكب مخالفة الخليفة وخرج عن أمر السنة الشريفة وعن له أن يحيط بالدار إحاطة الحصار وحسب أنه فاز من القوة والجند بالاستظهار فلما نجح الخليفة في إزعاجه وإعجازه لم تفي حقيقة عزه بمجازه وحكم بإذلاله القدر الذي حكم بإعزازه، ولم ينج لما أحيط بداره إلا بفتح باب في جداره وركب وخرج مفلتا غير لافت، وحل بالحلة الزيدة في أوائل ذي القعدة سنة سبعين ففارقها متوجها نحو الموصل متشوشا أمره متشورا فكره قد خلاه خلانه وخانه إخوانه وأحاط به غمد إحسان الإمام وغفرانه وجذبه إلى الأجل نهاية زمانه، ومرض وعانى المضض وتوفى في قرى الموصل بقربها وتحول إلى تربها، وتفرق من صحبه من أصحابه في البلاد، فمنهم من رجع إلى بغداد على سبيل السداد ومنهج الرشاد، ومنهم من جاء إلى الشام والتجأ إلى ظل الإكرام، ومنهم حسام الدين تميرك بن يونس وكان في قديم الدهر للسلطان المؤمل ففرج بلقائه وابتهج بروائه، ومنهم عز الدين أقبوري بن أرغش، وطالما إليه تعطش فإنه كان صهره قديما وعنده كريما، وأسف عز الدين على ماتركه من ماله وكان ذا خزائن مملوءة، وآلاف مؤلفة من بدر النضار وعقود الجواهر والخيل المسومة، فخرج بفرشه منهلا خاليا وعنها ساليا فآواه واعز مأواه وكتب في حقه إلى الديوان العزيز كتب شفاعة فما كان الذنب الذي ارتكبوه مما يقبل الصفح، ومازال السلطان يسعده ويسعفه حتى صح وزنه ومسح حزنه وهون عليه ذهب مصر ذهاب ما سواه ولكن أين الترب الذي تولى بعدما تولاه. وكان عز الدين أقبورلي عند السلطان أعز الأعزة وعزمه في مصالحة غضب المهزة والسلطان خال بنته وهي زوجة عز الدين فرخ شاه ابن أخيه وصعب عليه من محل عزه فحاجه ولزمه بحكم القرابة والمروءة والسماحة حاجة وكثر على الديوان العزيز لحرمانه ومواته وخدماته احتجاجه. قال: وهذا فصل من كتاب في المعنى إلى نجم الدين نجاح عن السلطان وهل تكون الشفاعات إلا لأهل الكباير، يسع عواطف الأيام الالذوي الجراير وعفو أمير المؤمنين وهو أرأف بأوليائه وأرحم، ولاغنى عن جذبة من جذبات همته المباركة في التكفل بأمر المذكور لازالت مكارمه متكفلة بإنجاح الأمور. قال: ولما سار الأجل الفاضل إلى مصر اعتمد علي في تنفيذ الأوامر والتفرد الإصدار والإيراد في الأمر. وواظب السلطان على الجلوس في دار العدل والقيام بدار البدل لكشف المظالم وبث المكارم. ومن جمله ماحصل في خزانته بمصر من الاعلاق النفسي دوى محلاة نضارية وفضيه ثقيلات الأوزان غاليات الأثمان فتسلط عليها يد أياديه وفرقها على جماعة موالية فقال لي يوما اكتب لأمين الدين قاضي حماه إلى مصر بدواة محلاة فقلت بل أكتب بدواتين أحدهما للطالب والأخرى للكاتب فتبسم أستبشارا بالسؤال واهتزازا للنوال ووقع بهما في الحال. وكتبت إلى الأجل الفاضل رسالة في صفة الدواة، ومنها قد أحاط العلم الأشراف بأن الكاتب معظم أدواته دواته، وها يتوفر وتحيا حرماته ومواته وهي صاحبته التي لا يؤثر طلاقها ومعشوقته التي لا يحب فراقها، المرضعة لبنها الهيف الهيم، الملحفة النهار ليلها البهيم. قال: ومدحت في مستحل شهر ربيع الأول الملك تقي الدين وكان قد فوض إليه ولاية دمشق بقصيدة أولها أحاط بورد وجنته الجنى ... بنفسج خط عارضه الطرى وجال وشاحه في الخصر منه ... مجال الوهم في السر الخفى وجاذب حقفه غصن قصيف ... فيا ويح الضعيف من القوى 181ب) يواخذ طرف بالذنب قلبي ... فيا جور السقيم على البرى ومنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 يفيد العاقل اليقظ التغابي ... فيا جور السقيم على البري ولم يصب السهام على اعتدال=بها لولا اعوجاج في القسى قال: وشاع الخبر عن المواصلة بالخروج في الربيع، وحشد الجموع وحشر الجميع، وإطلاق ألسنتهم بالتشنيع. وكنا في كانون ونحن لبيوت المغاني في دمشق بانون وأمرني السلطان بأن أنشئ عنه إلى الملك العادل سيف الدين وهو بمصر ما يشيع له السر، ويعرفه الأمر، وأن يلمز الأمراء بالاستعداد لوقت الاستدعاء قال ثم ظهر من المواصلة الخلاف وصح عنه الإرجاف وجاؤوا إلى نصيبين بجنودهم وبنودهم وحشدوهم فكتب السلطان إلى الأمراء بالإستدعاء والاستبطاء، فوصل من مصر من وقع على حضوره التنصيص، ونفذ بالأمر التعميم والتخصيص. ووصل الأجل الفاضل وشملت الفواصل ونجحت الوسائل. ولما تحقق اجتماع الموصلية والحلبية وباتفاقهم بالهمم الأبية أيقنا منهم صدق القصد وضلالهم عن نهج الرشد فرحلنا من دمشق في شهر رمضان فما عرجنا على بلد، ولا انتظرنا ما ورآنا من مدد حتى جزنا حماة، وخيمنا بقرب بو قبيس في فرجه وعث النصر في أوجه وبحر الظفر في موجه فألقينا ذلك الشعب مشعبا فاسمنا الخيول وضممنا الذيول فركب السلطان عند استكمال إمداده، واحتفال أجناده ففرض وفرض وحرض وحرض وصرح بالجد وعرض وجاءنا الخبر أنهم في عشرين ألف فارس سوى سوادهم وما وراءهم من إمدادهم أنهم موعودون من الفرنج بالنجده، وإنهم يزيدون كل يوم في القوة والشده وما كان أجتمع من عسكرنا سوى ستة آلاف فارس فقال الصواب مسيرنا إليهم والأقدام عليهم. ونحن بالقعود لانستزيد عددا وهم كل يوم في زيادة جموع، وما بقى وراءنا من أنا ننتظر وبقدومه نستظهر فرتب عسكره ميمنه وميسره وقوى بقلبه قلبه، وأمد الله بحزب ملائكته حزبه. ذكر الوقعة مع المواصلة والحلبيين يوم الخميس عاشر شوال قال: وأقمنا بقية شهر رمضان بالمرج القبيسي فقد الحرب النسى ونقول قد وصلوا إلى حلب وما عرفنا منهم الطلب فإن خرجوا في الطلب إلى حدودنا خرجنا إليهم بجدودنا وذكرناهم بعهودنا. ولما وصلت المواصلة إلى حلب أطلقوا من كان في الأسر من ملوك الكفر وفيهم أبرنس الكرك وجوسلين خال الملك وقرروا معهم أن يدخلوا من مسعدتهم في الدرك. وكان وصولنا إلى مرج أبو قبيس في الخامس والعشرين من شهر رمضان فلما عيدنا ووصل الخبر بوصولهم إلى تل السلطان عبرنا العاصي عند شيزر ورتبنا العسكر وأعدنا الأثقال منها إلى حماة وجردنا الكمت والكماة وسار يوم الثلاثاء بعزم اللقاء وتفرق الخيل على الجباب والمصانع يوم الأربعاء، وأخذ حظها من الارتواء ثم أدلج ليلا وصبح القوم بكرة الخميس بالخميس وعرس بقربهم الأسد مع العريس. ولما طلع الفجر نظروا وإذا الخيل عليهم مطلة وبوارق البيارق فوقهم مستهله، والصواهل محمحمة والقنا طل مدمدمة والجاليشية دايرة والجاوشيه فاغره والخبايا مرنه والمنايا مرجحنة فحين غامرهم الجيش خامرهم الطيش وقالوا ما أوقع هؤلاء أما عرفوا أنهم عند بحارنا جداول وعند جبالنا جنادل وعند صقورنا بغاث وعند ذكورنا إناث فأمتطت جبالهم الرماح وهزوا بالمراح الرماح وشاموا بوارق القضب وأنقضوا بشهب الشهب، وسلوا من النبل الجعاب ومن الزعف العباب وصف سيف الدين غازي صاحب الموصل أمام قلبه وتراكمت قدامه سحب صحبه وقد فوق إليهم السهم كأنه مستوى بيت القوس وشمس برج الأسد للفرس يخطب كفو الكريم لإقامة العرس ملابس وللجمال جميل اللبس، شاب حوله الشباب، وشهاب تجلله من لثام الزرد سحاب بعزه معتز وبغرورة مغتر، وبعطف اللدن مثل رمحه إلى اللقاء مهتز بعمره غير مبال لا يخطر الخطر له ببال والملك الصالح مع الحلبيين في خلابه بارز في أطلابه وقد جمع كل بطل كمي وأجدل مضرحي ومن ساير قبائل الأكراد ومن المماليك الأتابكيه (182 ا) كل كميش وهجان وأكديش وكان الأمير مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كوجك على ميمنته وهو في كتيبته الشهبا وداهيته الدهيا ودهته الحشا، وفي مقابلته ميسرتنا وفيها شمس الدين صاحب بصرى ومعه جماعة مجمعة فحمل عليهم مظفر الين ففلجها وطحنها وأوهى عقودها وأوهنها وساق أثقالها وقتل رجالها فظنوا أنهم ظفروا وفازوا وكثروا وحازوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وكان السلطان في قلبه وراء التل وهم لايبصرونه فتحين إليه فل الميسرة المكسورة فهاج نحوه بالهمم الموتورة، وساق وأشرف من التل على القوم، وقال: لاونية بعد هذا اليوم وبدر من أصحابه أميران بالجملة واختلطا مع الجاليشية فأحاطوا بهما ولم يفلتا واتلفا، وحينئذ ظهر البرج مبرح الغطا وكانوا حلفوا أنهم لايبقون على أحد ولايقرون من الصلاحية روحا في جسد. وقويت أطماعهم بظفر الميمنة وقتل من لقوه في المقدمة فحملوا حملة واحدة راكضة إلينا طاردة والسلطان واقف في صفه ألف بالفه، واثق بزحفه، مايح بحره في غدير زعفه. وكانت حملتهم من مسافة بعيدة وشقة مديدة فقال لأصحابه تثبتوا وقفوا دعوهم يتعبروا ويركضوا وينقضوا قواهم ويرفضوا وإذا قربوا منا أبعدناهم، واذاوصلونا قطعناهم فنحن نعطيهم الأشواط، ونوليهم الإفراط، وهم يصلون متسابقين متفرقين فإذا دنوا من بنيان صفنا المرصوص أنقض عليهم جداره، ولفح وجوههم أواره. وكانت حملتهم وقدام الألوف مائون وإمام المائين عشرات وقد سبقتنا آحاد منتشرات، فلما حملتهم حملتنا وصدمتهم صدمتنا عكستهم وأركستهم وردت أولهم على آخرهم وسيارهم إلى سايرهم، ولم يعرف ساقيهم ماتم على مقدمهم، ووقع التخاذل والتفاشل في ميمنتهم وميسرتهم، وركب السلطان أكتافهم حتى أخرجهم من خيامهم ووكل بسرادق سيف الدين غازي عز الدين فرخشاه، وركض وراءه حتى علم أنه تعداه، ووقع في الأسر جماعة من الأمراء المقدمين ثم من عليهم بالخلع والتشريفات بعد نقلهم إلى حماة، وأطلقهم وأعتقهم بعد أن أسترقهم. ثم نزل في السرادق السيفي فتسلم خزاينه واصطبلاته ومطابخه ورواسي عزه ورواسخه، والقدور على المواقد رقود، والندامى المواعيد قيام وقعود، والخمور مقدمة، والزمور مقدمة، والملحنون والمرقنون جلوس وبأيدي البدور شموس، والخيل على طايلها صفون، وما نطول الحديث فللحديث شجون، فبسط في جميع ذلك أيدي الجود وفرقها على الحضور والشهود وأبقى منها نصيبا للرسول والوفود، ورأى في بيت الشراب بل في السرادق الخاص طيورا من القمارى والبلابل والهزاز والببغاء في الأقفاص فاستدعى أحدى الندماء هو المظفر المعرى الأقرع وهو مما به يتجشى ويتجشع فقال له: طب نفسا فاستبدل من الوحشة أنسا وخلع عليه وقال له: خذ هذه الأقفاص واذهب إلى سيف الدين وأوصلها إليه وسلم عنا عليه وقل له: عد إلى اللعب بهذه الطيور فهي سليمة لا توقعك في المحذور. ولما كسر القوم وولوا مدبرين ركضوا إلى حلب فلم يقف بعضهم على بعض، وظنوا أن العسكر ورائهم ركضا وراء ركض، وما سار ورائهم عسكر لكنهم لشدة رعبهم قطعوا نياط القلب، وما صدقوا كيف يصلون إلى حلب فيغلقون أبوابها ويسكنون اضطرابها. وأما سيف الدين فأنه ركض في يومه من تل السلطان إلى بزاعة، وجاوز في سوقه الاستطاعة، وفرق وفارق الجماعة. ومن الإنشاء ألفاضلي في هذه الوقعة إلى الأستاذ جلدك بدمشق كتاب منه نشعرك أيها الأستاذ الجل بكسرة المواصلة والحلبيين والديار بكريين يوم الخميس عاشر شوال على تل السلطان بعد أن وقفوا وواقفوا، وأخلف الله ظنونهم بما نكثوا وعصوا وخالفوا فأظهر الله فيهم القدرة ودمر عليهم بهذه الكسرة، وأخذهم من أمرهم على غرة، وأجرانا على أفضل عوايدنا من الاستظهار والنصرة. ولم تزل الجيوش بعقب المنهزمة فإذا طرح الراكب إلى الأرض عفت عنه السيوف المتضرمة، وكذلك عودنا الله أن نغفر مع الاقتدار، ونقيل عظيم العثار، والحمد لله الذي مكن لنا الأرض، ولم يجعلنا ممن يفعل في العباد ما لم يرض. قال رحمه الله: (182 أ) ذكر وصول شمس الدولة تورانشاه أخي السلطان من اليمن ودخوله إلى دمشق في سابع شوال فكتب السلطان بخطه من الإنشاء ألفاضلي: ((قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا أنه من يتق ويصبر فإن الله لايضيع أجر المحسنين)) فالحمد لله الذي أذهب الحزن ووهب الحسن وأغاث الشام بسحاب منشؤه من اليمن، وأرضانا باللقاء اليوم كما أسخط أمس بالفراق على الزمن. نفسي الفداء لغايب عن ناظري ... ومحله في القلب دون حجابه لولا تمتع مقلتي بلقائه ... لوهبتها لمبشري بايابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 واسعد الله المجلس السامي في مقدمه، وأسعد هذه الأعمال بموطىء قدمه، وأجرى الأرزاق بحكمي سيفه وقلمه وأعاد الإسلام وأهله بنعمه وجوده عن نقمة عدمه ويقسم الخادم أنه لو جاز أن تسافر نفس عن جثمانها، وترحل عن أجفانها لسرت مهجته إلى لقاء آمالها، واهتدت مقلته إلى مجلسه الكريم بما أفاض من الأنوار على مسالكها، والحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله قول الشاكر الذي قدر النعمة حق قدرها، وعلم بعد الطالة أنه عاجز عن شكرها، وانهض الله بركاتها حمله وسقى الله طريقا أوصله وان نحلت سحب عليها فا جفاني ن واهلا بليلة قدر لقاؤه في صبيحتها بقدر وصبيحة عيد الفطر هلالنا فيه نير وجهه الأكبر، ولو أن اليوم يصام فيه الفرض لنذر كلما كررته الجمعة صيامه، ولولا الشغل بالعدو الذي لا مشغل للقلب إلا به لا لقيناه من حيث كان في مقامه الجليل مقامه وما انطوت في الغسولة ليلة الاثنين الثاني والعشرين من شهر رمضان. عاد الحديث إلى ما جرى بعد الكسرة قال: أما صاحب الموصل فإنه أسرع إليها أوبته وشكر سلامته واستأنف اللهو واللعب، وأكل وشرب ولعن الحرب واصطنع الطعن والضرب وأما الحلبيون فأنهم أوثقوا الأسباب وغلقوا الأبواب واسقطوا في أيديهم حين أفرطوا في تعديهم، وتصرفوا بالاستبصار وتهدفوا للحصار، وأما السلطان فإنه عبر بحلب ولم يعرج عليها ولم يعج إليها ونزل على حصن بزاعه. وتسلمه وفي سلك ملكه نظمه وذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من شوال. وأما منبج فإنه كان فيها الأمير قطب الدين ينال والسلطان لاينال منه الإحسان، وكان في جر عساكر الموصل إليه أقوى أقوى سب ولا يحفظ معه شرط أدب، ويواجه بما يكره فلما قرب من بلده آثر أن يثيره منه ويأخذه من يده فسلط النقابين على حصنه فنزل مستأمنا، وسلم القلعة بما فيها والذخاير التي تحويها فقوم ما تسلم بلثماية ألف دينار وساومه على أن يخدم ويأخذ بلدة وذخيرته وعدده فأبت نخوته ونبت حميته، وأنفت غيرته وغارت أنفته، وسهل عله عسيرة وأمر أمره، ومال عليه في ماله دهره، وكأنما جمع ذالك المال ليفرقه هذا الجود، ومطل بديون المكارم ليقضيها هذه النقود. ومضى إلى صاحب الموصل فأقطعه الرقة وبقي فيها إلى أن أخذها السلطان منه مرة ثانية في سنة ثمان وسبعين. وعادته عادة منبج وصاروا بحاله الذي جمعه متفرقين، ثم عاش بعد ذلك أحوالا وأثث أحوالا، وجمع مالا وانتهت به صروف الدهر وأحداثه واستحقه من بعده وراثه فأقرضوه السلطان على أن يقتنوا به أملاكا، وينالوا به من فارطهم استدراكا، فانقضى عصر السلطان ونعب بالتفرق غراب البين ولم أدر كيف جرى حديث ذلك البين. قال: ثم سلم منبج إلى من بجده عمرها وبجوده غمرها، وبسياسته ساسها وأنس ناسها. ذكر النزول على عزاز في ثالث ذي العقدة قال: ولما كان حصن عزاز أعز الحصون، والإسلام ضاحك عن ثغرة المصون وهو من الثغور الإسلامية التي يتعين سدادها، ويجب بأمداد الرجال أشفق السلطان لموافقة الحلبيين للفرنج من هذا الحصن فانه إن تسلمه الفرنج عادت معاقد الإسلام في معاقلها إلى الوهن، فنزل عليها وقطع بين الحلبيه وبين الفرنج وكان حصارها (183 أ) حصار حلب على الحقيقة، وخيم عليها وأخذ بمضايقها القوادم والأجنحة، وهي غير ملبيه لدعاتها، ولا مباليع بعداتها لا ته اذعانا، ولا تهاب سلطانا فخطب السلطان كيف تسلط خطبها، وقدم نصبه في تقديم منجنيقات ونصبها، ورجم الحصن رجم الزاني المخصن، وأستشهد عليه وفيه جماعة، وصعب الأمر وأستمر الحصر وعيل الصبر، وضجر المقاتل وحرض بالباسل الباسل. وأخرج السلطان مناطق الذهب ونقوده، وقلايد العقيان وعقوده يعني أن من أغنى أغناه، ومن أبلى فقامت هناك للموت أسواق واشتريت بأعلاق النفوس من النفايس أعلاق. ذكر قفز الحشيشة على السلطان ليلة الأحد حادي عشر ذي العقدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 قال: وكان الأمير جاولي الأسدي خيمته قريبه من المنجنيقات، وكان السلطان يحضر فيها كل يوم لترتيب المهمات وحض الرجال، والحث على القتال ليكون المقاتل إذا كان بمرأى من السلطان أحتد وأشتد وبذل الجهد، وهو غار يناديه بار يبث أياديه. والحشيشه في ذي الأجناد وقوف والرجال عنده صفوف إذ قفز واحد منهم فضرب رأسه بسكينه فعاقته صفائح الحديد المدفونات في كمته عن تمكينه، ولفحت المديه خده فخدشته، وساحت قطرات دم غشته، فقوى السلطان قلبه وثبت لبه وحاش رأس الحشيشي وجذبه ووقع عليه وركبه وأدركه سيف الدين يازكوج فأخذ حشاشة الحشيشي وبضعه وقطعه وجاء آخر فأعترضه الأمير داوود بن منكلان فمنعه فجرحه الحشيشي في جنبه بحد سكينه، وكانت منيته بعد أيام في تلك الضربة. وجاء آخر فعانقه الأمير علي بن أبي الفوارس وضمه من تحت أبطيه وبقيت يد الحشيشي من وائه لايتمكن من الضرب فنادى أقتلوني معه فقد قتلني وأذهب قوتي فطعن ناصر الدين محمد بن شيركوه بطن الجارح بسيفه ومازال يخوضه حتى ألقاه لحتفه وخرج آخر من الخيمة منهزما وعلى الفتك بمن يعارضه مقدما فصادفه الأمير شهاب الدين محمود فتنكب عن الطريق ووافقه حسني التوفيق فثار على الكلب أهل السوق فقطعود إربا إربا. وأبن السلطان فإنه ركب وجاء إلى سرادقه وصوته جهوري وزهوه قسوري، ودم خده سايل وعطف روعه مايل، وطوق كراغنده بتلك الضربة مشكوك مفكوك لكن نهج سلامته بوقاية الله وعصمته مسلوك فما أفرج روع روعه حتى علم أن جرح خده سالم، وأن صبح جده باسم فإنه كان سلا سلامته وأقام القوم قيامته من بعد دين رغب ووهب واحترز واحتجب، وضرب حول سرادقه على مثال خشب وبرز للناس كالمحتجب وما حدث إلا من عرفه ومن لم يعرفه صرفه، وما قرب إلامن يثق باعتقاده ويعتمد على سداده وإذا ركب وأبصر في موكبه من لايعرفه أبعده ثم سأل عنه فإن كان مستشفعا أو أشفعه وأسعده. قال: وانس بي فمن عرفته قربه ومن أثبت على كفايته استكفاه وندبه وقد اصطنعت أقواما فرعوا المراقب، وافترعوا المراتب فجحدوا من بعده عارفي ومعرفتي، وانكروا صفوتي وصفتي، وليتني خلصت من شرهم ونجوت من ضرهم، وكان السلطان ألي مستنيما ولصحبتي مستديما حتى لايؤثر غيبتي عن ناد يحضره وكل ما أسوغه من أمر يحضره. ذكر مكرمة فاضلية قال: قال الأجل الفاضل للسلطان تنبيها له في حقي على الإحسان أن الذي عينت للعماد من الجامكية بدمشق حوالته ولم يتسع به عندنا ضائقته، فإن الطرق مقطوعة، والسبل ممنوعة فعين له من الخزانة في الصحبة كل شهر ما ينفقه فقرر لي مثل ما كان لي من قبل واستمر المبلغان وتقلدت بهذه العارفة طولي الامتنان ومن تمام إنعامه أني هنيته بعزاز يوم عيد الأضحى على العادة ثم جئت إليه العصر مسلما ولبعض الأحوال مستعلما فقال ما جئت اليوم مرتين إلا لأمر باعث وقد فهمت المعنى. وقع له أني لتشريف السلطان متقاضى وأننى عليه إلا بما يرضاه لي منه غير راض. وأرسل إلى الخزانة وأخذ لي أحسن وأثمن ثوب وعمامه واتبع ذلك نفقة مشفوعة بكرامة سوى ما قرره للعيد من وظيفة وإقامة. ذكر فتح عزاز يوم الاثنين حادي عشر ذي الحجة (183 ب) قال: وأقام السلطان عليها ثمانية وثلاثين يوما يسومها القتال سوما حتى وجت جنوبها، وكثرت ثقوبها، ونحبت قلوبها، فاقتصر من فيها بعد طول النزال على النزول وانتهت مدة وقوفنا منها على الطلول وسلوا القلعة كرها، قال: وقلت فيها قصيدة أولها: سلطت المطل على نجازها ... وضيعت حقي في مجازها وصالها من الحياة منيتي ... من لي بالفرصة في انتهازها وجنتها الوردة في احمرارها ... وقدها البانة في اهتزازها شمس الضحى في الحسن لم تضاهها ... بدر الدجى في التم لم يوازها ومنها: تمل من فتح غزاز نصرة ... أوقعت العداة في اغترارها اليوم ذلت حلب فإنها ... كانت تنال العز من غزازها ذكر خلاص رجل مسلم من نكبه عظيمة بشفاعة كريمة قال: كان عسكر حلب مدة مقامنا على عزاز يطلب من عسكرنا غرة فأعارها يوما على العلاقة وبلغ إلينا ضريح المخافة، فركب السلطان والعساكر معه نحو الصارخ وأخذ الحلبيون ما وجدوا وعادوا فما أدرك أصحابنا إلا فارسا فأخذوه وسيروه إلينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وجاء السلطان وهو مغتاظ ومعه من أصحاب الموتورين قوم غلاظ فأحضر وأمر بقطع يده، وكان المأمون بإقامة تلك السياسة حسام الدين سنقر الخلاطي روهو كامل الكياسة فقلت له بمسمع من السلطان سهل ساعة لعله يقبل مني شفاعة، ثم هلت هذا لا يحل وقدرك بل دينك عن عهدا بحل وما زلت أكرر عليه الحديث حتى تبسم، وشاهد عبوسي فنشر، ورجع عما به ثم أمر بحبسه، ودخل ناصر الدين بن أسد الدين وكلح وبسر ودمدم وزمجر وقال لما لا يقتل ولماذا أعتقل فوعظه السلطان وسكن غيظه ثم أطلق سراحه وتم نجاحه. ذكر النزول على حلب منتصف ذي الحجة قال: ولما أمنا من جانب عزاز وجدنا من الله في عدته النجاز سرنا إلى حلب ونزلنا عليها عند حاضر الياروقيه، والسلطان يركب كل يوم مع العسكر، وربما طاف حول البلاد وتأمل أسواره، وأستوضح بعيانه أسراره، وأقمنا نتصرف في الأعمال ونصرف العمال لجباية الأموال، والبلد في ضجيج وأجيج وأمر مريج، وسب تشنيع وتجنيس في القد وتطبيق وتنويع فما تم إلا ألسنه تعيث وطبول تستغيث والمراسلة بالقول العنيف، ومواصلة بالتنفيذ والتعنيف والسلطان لا يهمه غمهم ولا يغمه همهم ويزيد بحمد الناس له ذمهم، وقد علم أنهم جاهلون بنيبهم ذاهلون وأنه سوف ينبوا حدهم ويخبو وقدهم قال: وكان حصن حارم قد تولاه سعد الدين كمشتكين وأشفق عليها، ومضى إليها خوفا من النزول عليها وما ظن أن السلطان يعجل من عزاز النجاز فلم يرى منها إلى حلب الجواز فلما حضرناه وحصرناها ضاق كمشتكين بالمقام في حارم ذرعا فعاد يمتري في الضراعة إلينا ضرعا ويقول: لوفسحتم لي في دخول حلب لقضيتم من وفائي بشرط خدمتكم العجب وهو يخشى أنه إن أستمر هنا مقامه بطل في سلك جماعته انتظامه، وتفردوا دونه بما يصدرونه ويوردونه، وهو على النار الحاميه وعساكرنا قد أخذت عليها الطريق فكتب إلى السلطتن يسأله أن يرفع عن نهجه الحجر، وكتب إلى الحلبيين يسألهم أن يراسلوا في أمره فراسلوا السلطان في شأنه وأن يقلدهم من إجازته طوق امتنانه فإنه أول حضوره يبتدئ بالوصول إلى حضرته والمثول لخدمته وقرروا على أنفاذ معروف رهينه تقيم عنده إلى أن يدخل عليهم ويستوفي عليهم في اليمين عقده ونفذوا بحكم الرهن نصرة الدين بن زنكي حتى يدخل الرسول ويخرج فأمرني بالدخول بصحبة الرسول وهو شمس الدين الوزير أبي المضاء فلما دخلوا أبعدوا عنا الغلمان وأفردوني ورفيقي في مكان ضيق بغير اسراج ولا مرفق ولا بساط ولا كساء ولا خبز ولا ماء وبتنا بليلة الغدر ونحن جياع عطاش ولا لحاف ولا فراش وعندنا جماعة يحرسون فإنهم يشتمون ويشمتون، ويلعنون ويطعنون، وما أنسنا حتى تبسم الفجر وقلنا لعله يرتفع الحجر. (1184) فأحضرنا عند الملك الصالح وعنده ابن عمه عز الدين مسعود أخو صاحب الموصل وكان عملوا نسخة يمين فما نظرت في شرط ولا تعيين فحلفناهم كما أرادوا وسكتنا فيما نقصوا وزادوا وخرجنا إلى غلماننا ودوابنا وهم في أخر نفس وخرجنا إلى السلطان كأن قد نشطنا من قيد وعر ضنا النسخة وقلنا له كل من حلف بهذه اليمين يمين ولا كانت حلب ولا كمشتكين. قال: وجاء كمشتكين وعبر أمنا ولم يزل منافقا مداهنا وعاتبني السلطان وعصب بي جرمهم وألزمني حكمهم ثم عرف الحال وألان المقال وعاد أليهم رهنهم. وتوبتنى تلك النوبة وصحت الإنابة وما حدثت نفسي بعدها برسالة ولا تعرضت لعثار يحوجني إلى استقالة، ورفهت قدمي ووجهت قلمي أتوسل بالخط لا بالخطى واسطوا بقلمي الداري على نوى السطى وأرسل الرسل برسايلي ولا أخرج من فضاء فضايلي ولا أدخل في لواذع عواذلي قال: ودخلت سنة اثنتين وسبعين والسلطان بظاهر حلب مقيم وللمصابرة في حصرها مستديم، وكنتا نؤثر أن تصير الكلمة واحدة، والألسنة لسنة الجحود جاحدة، والملك الصالح من حكم الخارجين خارجا حتى يتولاه السلطان بالتربية ويبادر إلى ندائه بالتلبية. لكن قومه قاموا بالإصرار على الإصرار، وسدوا عن مطالعة سبيل الأنوار ثم عادوا إلى السلطان مستعطفين وللاحسان مستسعفين وعرفوا أن العقوبة أليمة، وأن العاقبة وخيمة فدخلوا من باب التدلل والتذلل ولاذوا بالتوصل والتوصل واظهروا التودد، وأكثروا التردد، وحضروا بأذهانهم بعدما غابوا واعترفوا بأنهم أخطأوا وما أصابوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وصفى السلطان وصفح، وأصلح واصطلح، ولما ملك انتجح وأبقى للملك الصالح حلب وأعمالها، وأستقرى كل عثرة فأقالها ورد إليه عزاز واعتذروا عن كل ما أسخطه وحلفوا له على ما شرطه، وكان الصلح لهم وللمواصلة وللديار بكريه عاما، ولشمول المصالح الجامعة ضاما وكتبت نسخ أيمان بأسامي ملوك ديار بكر والروم وصاحب الموصل على الشرط المعلوم وهو أنه إن غدر منهم واحد وخالف ولم يف بما عليه حالف كان الباقون عليه يدا واحدة حتى يفي إلى الوفاء والوفاق ويرجع إلى مرافقة الرفاق. وسار بهذه الرسالة إليهم سعد الدين أبو حامد وكان جلدا كافيا وبتدبير الأمور وافيا فمضى إلى الملوك ونظمهم من سلك نهج الموافقات في السلوك. ذكر الرحيل من حلب قال: ولما أنتظم بحلب الصلح وتم النحج ذكر السلطان ثأره عند الإسماعيلية وكيف قصدوه بتلك البلية، فرحل منها يوم الجمعة لعشر بقين من المحرم مصمما على الجهاد الأعظم وأناخ على حصنهم مصيات فانهض إليه الرجال وحرض الأبطال وأمر بنصب المنجنيقاي الكبار. وأقام أياما واستطال عليهم فريقه واستطار فيهم حريقه، وشرع العسكر يخرب ديارهم ويقرب دمارهم حتى جاء خاله شهاب الدين الحارني وهو صاحب حماة وشفع فيهم لأن بلده جار نواحيم، أراد الأمن من خوف عواديه وكانوا قد راسلوه وأرغبوه وأرهبوه. ولكن شهاب الدين مقبول مأمول الطول ورأى أيضا من أمرائه ميلا إلى الانكفاء وأبت تركهم همته الأبية لولا الشفاعة الشهابيه ورحلنا وقد انتقمنا منهم. ذكر كسرى على الفرنج قال: كان شميس الدين بن المقدم متولي بعلبك وأعمال هو مدبر أحوالها فعرف أن الفرنج قد أغاروا على البقاع فكمن لهم عند العياض وأوتر عليهم حنايا المنايا لتفريق التوفيق في الأنباض وأسر منهم سوى من قتل أكثر من مائتي أسير وأحضرهم عندنا ونحن على مصياف، ولولا هذا الحادث لم يصرف عنها الأحداث. وكان قد خرج الملك المعظم شمس الدولة أخو السلطان حين سمع أن الفرنج على الخروج وباسطهم عند عين الجر في تلك المروج ووقع عدة من أصحابه في الآسار منهم سيف الدين أبو بكر بن السلار وأجترا الفرنج في تلك الجوله واغتروا بتلك الصولة وانبسطوا في تلك العياض وانهاضوا بما قدم أبن المقدم من الأنهاض. ووصل السلطان إلى حماة فاجتمع فيها بأخيه شمس الدين يوم الثلاثاء ثاني صفر وهو أول يوم لقائه بعد ما أزمع عنه إلى اليمين السفر، وتعانق الأخوان في المخيم في الميدان وتحدثا في الحدثان. وكان قد وصل إلى السلطان من أخيه هذا عند مفارقة اليمن كتاب ضمنة هذه الأبيات من شعر أبي المنجم. المصري قلت ومنها: (184) أبدى التجلد والجوانح تلتظى ... وأرى التصبر والحشى تتقطع وحملت من فقد الأحبة مفردا ... ما ليس يحمله الأحبة أجمع وإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مضني الصبابة موجع جزعا لبعد الدار منه ولم أكن ... لولا هواه لبعد داري أجزع ولا ركبن إليه متن عزائمي ... ويخب بي ركب الغرام ويوضع حتى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع قال: فسألني السلطان أن أكتب في جوابها على وزنها ورويها فقلت أبياتا منها: صب تولى حالتيه في الهوى ... جلد له عاصي ودمعي طيع ذو ناظر ربع الكرى في جفنه ... صبح السيادة من سناه يطلع لولا ترجى قرب عودك لم يكن ... لي في الحياة لأجل بعدك مطمع قسما ببيت أمه زواره ... والطايعون الساجدون الركع أن لي سواك من الحوادث ملجأ ... أو لي سواك من النوايب مفزع قال: ولما رآني بالمخيم بميدان حماه عند أخيه مخصوصا بتوقيه وتوخيه بشرلى وبش، وشرع في تقريظي والثناء على قريضي. ثم سرنا إلى دمشق ووصلنا إليها في سابع عشر صفر، ووجه النجح قد سفر، وفوض ملك دمشق إلى أخيه الملك المعظم وعزم على السفر إلى مصر. ذكر ووفاء القاضي كمال الدين بدمشق في سادس المحرم وما آل إليه أمر القضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قال: كان القاضي كمال الدين بدمشق في الأيام النورية الحاكم المطلق وكان صلاح الدين حينئذ يتولى في دمشق أسباب الشحنكية، وكمال الدين يعكس مقاصده بالأحكام الشرعية، وربما كسر أغراضه وأبدى عن قبوله إعراضه وأهدى إلى صحته أمراضه إلى أن نقله الله من نيابة غالشحنكيه إلى الاستقلال بالملك فصار كمال الدين من قضاة ممالكه المنتظمة الملك وكان في فليه منه ما فيه وما فرط منه فات تلافيه. فلما ماك دمشق أجراه على جملته وأحترم نوابه وأكرم أصحابه وفتح لشرع بابه وأذهب بحقوقه حقودة وأعرض عن عقوقه عقوده. وكان أبن أخيه ضياء الدين القاسم بن تاج الدين الشهرزوري قد هاجر إلى صلاح الدين بمصر في ريعان ملكه، فأذنت هجرته في درك المراد بإدارة فلكه، وأنعم عليه هناك بجزيرة الذهب، ومن دار الملك بمصر بدار الذهب، ووفر حظه من الذهب وملكه دارا بالقاهرة جميلة جليلة، ورتب له وظايف، وخصه بلطيف. ووصل مع السلطان إلى الشام وأمره جار على النظام ولما اشتد بكمال الدين المرض، وكاد يفارق جوهره العرض أراد أن يبقى في ذويه فوصى مع حضور ولده بالقضاء لضياء الدين بن أخيه علما منه بأن السلطان يمضي حكمه لأجل سؤاله فيه وتوفي في سادس المحرم من هذه السنة وعمره ثمانون سنة لأن ولده كان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وفارق ولم يخلف مثله، ومن شاهده شاهد العقل المكنون والفضل المدون، وكان بارا بالأبرار مختارا للأخيار. وإذا كان له صاحب حفظه ونبه له ناظر حظه وأيقظه، وقد قواه نور الدين رحمه الله وقلده الحكم في أيامه سدد مرامي مرامه، وهو الذي سن دار العدل لتنفيذ أحكامه بحضرة السلطان حتى لا يبقى عليه مغمز ولا ملزم لذوى الشأن فيما دبره من الشأن. وهو الذي تولى بناء أسوار دمشق ومدارسها والمارستان، واستقرت قاعدته في دولة السلطان. وتوفي ونحن لحلب محاصرون. وجلس الضياء ابن أخيه مكانه فأثبت وأمضى وأغضب وأرضى وأشهد وسجل وجرح وعدل. وكان الفقيه شريف الدين (185 أ) أبو سعد عبد الله بن أبي عصرون قد هاجر من حلب إلى السلطان وقد أنزله بدمشق، وهو شيخ المذهب الشافعي وأقوم العلماء بالفتيان وأعرفهم بما يقتضيه (10) الشريعة من مصالح الدين والدنيا. والسلطان يؤثر أن يفوض إليه منصب القضاء ولا يرى عنه عزل الضياء، وأفضى بسر مراده إلى الأجل الفاضل، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى يتعصب لشيخه ويجد في رفع الحكم الضيائي بفسخه، واستشعر القاضي ضياء الدين من عزله وتزلزلت قدمه في شغله ولو قوى نفسه ونفسه وثبت على الإناء المحض أسمه لما خرج القضاء على حكمه ولا واجه السلطان بصرفه عن منصب عمه. وأشاروا عليه بالاستعفاء، وإنه كاره لمنصب القضاء فكتب يستعفي فقيل لأوجه لاستعفائك فلح القول فاستفهم عن معنى طلبه وإبداء سببه فقال: ما أوثر إلا فراغ الشر والخلاص من تبعات هذا الأمر فأصيب ٍسؤله وأجيب سؤاله وهنئ بأنه مجدد قبوله وإقباله وأبقى غليه الوكالة الشرعية عنه في بيع الأملاك واستجد عليه الإقبال السلطاني بعطلته وعزا عنده بعزلته وزاد في أعلاء منزلته. ذكر وفاة شمس الدين بن أبي المضاء الوزير قال: كان رسولا كافيا وبما يمضي فيه من مهم وافيا، وهو أول خطيب بالديار المصرية في عصرنا للدولة العباسية، وفيه ترفع وتكبر، يعجبه الناموس ولا بوحشه إلا الجاه المأنوس وإذا مضى إلى الديوان العزيز قصده الشعراء فأكثر خلعهم وجوازيهم وبعث على مدحه سريرهم وربما عاد وعليه ديون تراه في هيأته وهيبته كأنه وزير، وكلامه إذا خاطبته نذر يسير وهو الذي ضوع للسلطان وعرف عرف ظهير الدين منصور العطار وشد به ظهر الاستظهار، وحصل للسلطان بصدق صداقته الانتفاع والارتفاع، وتزايدت له في القوة والحظوة الأشياء والأشياع. فوصلنا إلى دمشق وقد قضى نحبه وأتى ربه، وكانت وفاته ليلة الجمعة الثاني عشر من صفر فحمل السلطان غمه، وقرب ولده وجبل بتربية يتمه. ثم تعين ضياء الدين الشهروزرى بعده للرسالة إلى الديوان العزيز واستتبت له على أخر العهد السلطاني هذه وتمهدت بتردده في الجانبين العمارة، وذاك بعض المضي إلى مصر والعد إلى الشام فإنه بعد ذلك خاطبت في هذا المرام. ذكر مؤيد الدولة أبي الحرث أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ وعوده إلى الشام عند علمه بوصول السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 قال: كان من الأمراء الفضلاء، والسادة القادة العلماء، قد متعه الله بالعمر وطول البقاء، وهو من المعدودين من شجعان الإسلام وفرسان الشام ولم بنو منقذ ملاك شيزر، ولما تفرد بالمعقل من تولاه لم يرد أن يكون معه فيه سواه فخرجوا منه سنة أربع وعشرين وسكنوا دمشق وغيرها من البلاد وكلهم من الأجاود المجاد وما فيهم إلا ذو فضل وكمال ونبل، ومامنهم إلا من له نظم مطبوع وشعر مصنوع وهذا مؤيد الدولة أعرقهم في الحسب، أعرفهم بالأدباء وكانت جرت له نوبة في أيام الدمشقيين وسافر على مصر وأقام هناك سنين في دولة المصريين وعاد إلى الشام لم يمكنه نور الدين من المقام وصار إلى حصن كيفا وتوطن وأبتنى هناك الدار والعقار ولما سمع بالملك الصلاحي نبا إلى دمشق وذلك في سنة سبعين. قال: وكنت اسمع بفضله وأنا بأصفهان وأنشدني له مجد العرب العامري بها سنة خمس وأربعين هذين البيتين وهما من مبتكرات معانيه في سن قلعه: وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظري افترقنا فرقة الأبد قال: فلما لقيته في دمشق سنة سبعين أنشد فيهما مؤيد الدولة لنفسه مع كثير من شعره المبتكر من جنسه. وشاهدت ولده عضد الدين أبو الفوارس مرهفا وهو جليس صلاح الدين وأنيسه وبابن حمدون النديم ليقيسه. وقد كتب ديوان شعر أبيه لصلاح الدين وهو لشغفه به مفضله على ساير الدواوين ولم يزل هذا الأمير (185 ب) العضد مرهف صاحبا له بمصر والشام إلى آخر عمره. وتوطن بمصر فلما جاء أبوه أنزله أرحب منزل وأورده أعذب منهل، وملكه من أعمال المعرة ضيعة زعم أنها قديما تجري في أملاكه وأعطاه بدمشق دارا ووظف له غيثا من فواضله مدرارا فإذا كان بدمشق جالسه وآنسه وذاكره في الأدب ودارسه. وكان ذا رأي وتجربه وخلال مهذبه يستشيره في نوابيه ويستنير برأيه في غياهب وإذا غاب عنه في غزواته كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته ويستخرج رأيه في كشف مهماته وحل مشكلاته وبلغ عمره سبعا وتسعين سنه فإن مولده سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ومات سنة خمس وثمانين. ومن أبيات أوردها عماد الدين لنفسه في هذا الموضوع قوله نفسي فدا شادن ... على الدل نشا وأتى زيف قهره ... بحملهما مرتعشا وخده من أثر الثم ... كأنه قد خدشا وكاد يمحوا لثمه ... عذارة المنتشا كأنما وجنتيه ورد ... بطل رشتا رأيته فكدت من عجبي=به أن أدهشا هممت أحيانا به ... لولا التقى أن أبطشا ذكر تفويض القضاء إلى أبن أبي العصرون قال: ولما أستعفي القاضي ضياء الدين لم يبقى في منصب القضاء إلا فقيه ينعت بالأوحد كان ينوب عن كمال الدين فأمره السلطان بأن يجري على الرسم ويتصرف في الحكم، وكان السلطان لإحياء القضاء في البيت الزكوي مؤثرا ولذكر مناقبه مكثرا وقد سبق منه الوعد للشيخ شرف الدين أبن أبي عصرون ففوض إليه القضاء والحكم والإمضاء على أن يكون محيي الدين أبو المعالي محمد بن زكي الدين والأوحد داود قاضيان يحكمان، وهما عن منابته يوردان ويصدران، وتوليهما بتوقيع من السلطان. فاستمر الأمر ولم يزل الشيخ شرف الدين متوليا للقضاء سنتي اثنتين وثلاث وسبعين في ولاية أخي السلطان المعظم فخر الدين. فلما عدنا إلى الشام إلى ابنه محيي الدين أبي حامد مجمد كأنه نايب أبيه واستمر القضاء إلى القضاء اسمه من سنة سبع وثمانين. وفوض ديوان الوقوف بجامع دمشق وغيره من المساجد إلى القاضي الأجل مجد الدين بن الزكي فتولاه إلى أن انتقل إلى موقف من عمل الأعمال وتولاه بعده أخوه محيي الدين على الاستقلال إلى أخر عهد السلطان وبعده. وبنى على قاعدة الشريعة فيها حلة وعقدة ثم تولى القضاء بدمشق بعد صرف من قبله واحيي بما اعتمده بيته وفضله. ذكر وصلة السلطان للخاتون العصمية بنت الأمير معين الدين في أخر صفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قال: كانت هذه الخاتون المنعوتة بعصمة الدين في عصمة نور الدين فلما توفى رحمه الله أقامت في منزلها في دمشق بالقلعة مستقلة بأمرها ونهيها. ساكنة في إحدى حجرها أمنة في خفارة خفرها. صادقة في إخراج الصدقات صالحة في الاستكثار من الأعمال الصالحات، فرأى السلطان أن يحلى عطل الملك بخطبتها، ويصل جناح النجاح بوصلتها فاحضر الشيخ شرف الدين والقضاة وأخوها لأبيها سعد الدين مسعود بن انر حاضر وعقد بإذنها وتمت عقدة النكاح ودخل عليها وبات عندها ثم خرج بعد يومين لدمشق مودعا وعلى عزم المسير إلى مصر مزمعا. ذكر الخروج من دمشق بكرة يوم الجمعة رابع شهر ربيع الأول قال: ولما استتمت بالشام للسلطان أمور ممالكه، وامن على مناهج أمره ومسالكه وبلغ حساب النصر إلى فداكه ازمع إلى مصر الإياب وسحب إليها وقد أمحلت بعده السحاب، وعاود بحر نيله بحر نيلها وأعاد من عساكره الأسد إلى غيلها، وبرز مضاربه من أول الشهر وتقدمه الأمراء والملوك إلى المنازل، وخرج بكرة يوم الجمعة رابع الشهر بمرج الصقر، ثم رحل منه قبيل العصر إلى قريب الصنمين قال: وكنت أقمت حتى أديت فرض الجمعة فخرجت بعد الصلاة ووصلت إلى (1186) المخيم السلطاني وقد مضى من الليل هزيع وقبلى إلى الأهل ولمفارقتهم جزوع ولشدة أشواقي مازلت منزلا إلا ونظمت أبياتا فمن ذلك ما قلت يوم المسير: بعت بمصر دمشق عن غرر ... منى فيا غبن صفقة البائع وقلت بالزرقاء: أعدتك يا زرقاء حمراء أنني ... بكيتك حتى شيباؤكم بالدم فياليت شعري هل أعود إليهم ... وهل ليت شعري نافع للمتيم قال ونظمت في طريق مصر قصيدة مشتملة على ذكر المنازل بالترتيب واتفق السلطان في بعض السنين سير الملك المظفر تقي الدين إلى مصر، وكان لا يستدعي منى شادية لإنشادها في ناديه، ويطرب لسماعها، ويعجب بإيقاعها وأولها: هجرتكم لا عن ملال ولا غدر ... ولكن لمقدور اتيح من الدهر واعلم أني مخطىء في فراقكم ... فعذرى في ذنبي وذنبي في عذرى أسير إلى مصر وقلبي أسيركم ... ومن عجب أسرى وقلبي في اسر تذكرت أحبابي بجلق بعدما ... والمشتاق يانس بالذكر ومن فارق الأحباب مستبدلا بهم ... سواهم فقد باع المرابح بالخسر قال: وكان الدخول إلى القاهرة يوم السبت السادس والعشرين من شهر ربيع الأول، وتلقى السلطان أخوه الملك العادل سيف الدين، وتلقانا خير مصر وجنت النا ثمراتها، وجلبت علينا زهراتها، وحلقت أنظارها وعلقت أقراطها، وزينت أطرافها وأوساطها، ودخل السلطان داره، وراجع الفلك مداره ووفق الله في جميع الامرو إيراده وإصداره. قال: ولم يبق لي من الشغل الا الكتب التي إلى الشام ولم يكن ذلك على الدوام فان في كل دوام ديوان كتابا وفي كل عمل نوابا فتوفرنا على الاجتماع في المغازي لاستماع الأغاني والشعر في الجزيرة والجيزة والأماكن العزيزة والاستمتاع بالجواهر والأعراض، والحضور في المدارس للاستدلال والاعتراض والتدريس للطلبة ورواية الأحاديث النبوية والمباحثة تارة في المعنى الأدبية وتارة في المسائل الفقهية، والحضور عند السلطان في كل ليلة للمشاورة الملكية والمحاضرة الإنسية، والمذاكرة النسكية. وكان مشغوفاً بمجالسة خواصه من العقلاء وموانسة ذوى اختصاصه من الفضلاء فإذا أراد الانصراف بعد هزيع الليل قام إلى صلاة العشاء وإذا فرغ من الصلاة جماعة تفرق الجمع ورفع الشمع فإن كانت له حاجة إلى إنشاء كتاب أو البوح بسر صواب أجلسني وأملى علي مقاصده وقمت وسهرت تلك الليلة لتحرير الكتب ثم أبكر إليه وأعرضها عليه فإن رأى الزيادة فيها أو تبديل شيء من معانيها وصل بي إلى مقاطعها ووفقني على مواضعها فما أبرح حتى أسوي قوامها وأروي أوامها وإذا إستصابها وقد أتممت نصابها توجها بتوقيه ويقول توجهها ولا تعوقها وتسددها إلى الأغراض وتفوقها. قال: ذكر نموذج من أنعامه علي بمصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كان لبيع الكتب في القصر كل أسبوع يومان, وهي تباع بالمجان وأرخص الأثمان, وخزانتها بالقصر مزينة البيوت مقسمة الرفوف مفهرسة بالمعروف فقيل للأمير بهاء الدين قراقوش متولي مصر, والحال والقاعد للأمر هذه الكتب قد عاث فيها العث وتساوى سمينها والغث, ولا غنى عن تهويتها ونفضها وإخراجها من بيت الخزانة إلى أرضها وهو تركي لا خبرة له بالكتب, ولم يدر أن في نفضها أنفاضهاوإن في تصحيحها أمراضها, وهي مبوبة في مقاصيرها معينة في محاجيزها, مثبتة بخطوطها المنسوبة وإعدادها المحسوبة في دساتيرها. وكان المقصود دلالي الكتب أن يوكسوها ويخرموها ويعكسوها فأخرجت وهي أكثر من مئة ألف من أماكنها وغربت عن مساكنها وخربت أوكارها وذهبت أنوارها وشتت شملها فاختلط أدبيتها بنحويتها, وشرعيتها بمنطقيتها, وطبيها بهندسيتها, وتواريخها بتفاسيرها ومجاهيلها (186ب) بمشاهيرها. وكان فيها من كتب الأمصار والتواريخ الكبار ما يشتمل كل كتاب على خمسين أو ستين مجلدا إذا فقد منها جزء لا يخلف أبدا فاختلطت واختبطت فكان الدلال يخرج عشرة عشرة من كل فن كتبا متبرة فتسام بالدون وتباع بالهون. والدلال يعرف كل شدة وما فيها من عدة ويعلم أن عنده من أجناسها وأنواعها وقد شارك غيره في ابتياعها حتى إذ1 ألفى كتابا قد تقوم عليه بعشرة باعه بعد ذلك لنفسه بمائة. فلما رأيت الأمر حضرت القصر واشتريت كما اشتروا ومريت الأطباء كما مروا, واستكثرت من المتاع المبتاع, وحويت نفائس الأنواع ولما عرفت السلطان ما ابتعته وكان بمائتين انعم بها علي ثم وهب لي أيضا من خزانة القصر ما عينت عليها. ودخلت عليه يوما وبين يديه مجلدات كثيرة انتقيت من القصر وهو ينظر في بعضها فبسط يدي لقبضها وقال لي كنت طلبت عينتها فهل في هذه منها فقلت كلها وما استغنى عنها فأخرجتها من عنده بحمال. وكان هذا منه بالإضافة إلى سماحته أقل نوال وأهنا رفد بغير سؤال. قال: وكتبت إليه رقعة ذكرت فيها أنني غرمت في طريق مصر ما يقارب ثلثمائة دينار وأنني من تعويض عنه على أمل وانتظار فأمر بطلاق ذلك من بيت المال. وشملني النعام الفاضلى في تحصيله وتعجيله للحال, ورتب لي بمصر وظيفة دارة وميرة بمصالحي بارة, واقطعني من الأنعام ما بقي بعده على الدوام ومرور الأيام مستمرا مضافا إلى ما هو مقرر بالشام فما يزال يتبع الأنعام بالأنعام ويقرن الفرد منه بالقوام, ويعلم أن الدنيا قليلة اللباث كثيرة الأحداث فتناهز فرصه بالاغتنام وادخار حمد الكرام. ذكر القاضي ضياء الدين القاسم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري قال: وكانت للقاضي ضياء الدين بالقاهرة دار جميلة, هي دارة بدره ودايره قدره ومجال جماله وفضل أفضاله, وبمصر له منزل هو قطعة من دار الذهب بدار الملك القديم مقيمة على قواعدها المستقيمة, فهو تارة يضيفنا في داره بالقاهرة بمقاريه الباهرة وتارة يقرينا في منزله بمصر بألطافه الظاهرة, ونحن عنده في أرب وجد وسماع وغناء واستمتاع واستغناء. قال: وعملت في تلك الأيام أبياتا يغنى بها ومنها: إن لم تجد بالوصل مت بحسرتي ... إن الفراق منيتي يا منيتي لك ناظر ذو صحة في علة ... ما صحتي إلا لديه وعلتي كم منة لك في الوصال قوية ... وأراك في البحران تضعف منيتي ومنها: قلبي العليل فكيف سوغ ... وصف طرفك بالعليل وأنا المحب المستهام ... فما لحضرك والنحول سلبت شمايلك العقول ... فما يراد من الشمول وسلاف ثغرك ليس يشفي ... غير رشفتها غليلي ولقد ظميت فسل سبيلا ... نحو ذاك السلسبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قال: واقترحنا على القاضي أن يفرجنا في الأهرام فأضاء وجه بشره لهذا المرام. وكانت له جزيرة الذهب في طريقها فعبر بنا إليها وتحمل من الكلف ما هو غير مطيقها فبتنا فيها ومعنا فلك ومراكب, وملك ومواكب وشداة وحداة وولاة وحماة, وقصدت تلك الليلة لطيبها, وأخذ كل نفس بمصيبها. وبكرنا وسيف الصباح قد شق برد الظلماء وابن ذكا قد جلا وجه السماء, وقدمنا المراكب وعدينا الجنايب فلما انتهى العبر وانقضى الصبر جزنا بالجيزة فرأينا أرضا رضية وبقعة فضية فيها قوم قعود في حلق متطلسون وبزى فقهائنا في العراق والشام متلبسون فظننتهم طلبة علم يدرسون فلما أحسوا بنا طاروا وصاروا إلى حيث صاروا وقيل لهم شاربوا المزر وحاقبوا الوزر فقلت لهم ما بال كل منهم بطرحة فقالوا هذا زي هذه البلاد ولا لوم على العرف المعتاد. ثم مضينا ودفعنا إلى المخاض وارتفاع بعد انخفاض فخاضت بغلة القاضي وعثرت وتوحلت (187 أ) والقلوب لاجلة توجعت وتوجلت فخرج سالما ولتطييب أنفسنا باسما فاستأنفنا قصد الأهرام وقد سبقنا إليها غلماننا بالخيام فنزلنا ودرنا حول الهرمين وطاف عليها القاضي من حسن خلقه وحسن تخلقه بكرمين. وكان معنا القاضي شمس الدين أبو فلان فما منا إلا من هو زهير وقد ظفر بهرمين وشب لنا هناك المكان والزمان وطالما كانا في تلك الرمال هرمين (وقد ظفر بهرمين) ودرنا في تلك البراري والرمال والصحاري, وهالنا أبو الهول, وضاق في وصفه مجال القول. ورأينا العجائب وروينا الغرايب واستصغرنا في جنب الهرمين كل ما استعظمناه. وتداولنا الحديث في الهرم ومن بناه فكل يأتي في وصفه بما نقله وعقله واجتهد في الصعود إليه فلم يوجد منهم من يوقله وحارت العقول في عقوده, والأفكار في توهم حدوده ولما أتممنا الفرجة عزمنا العودة وما أرفق تلك الشيمة وأهنأ وأسنى تلك الصنيعة النصيعة. ذكر بناء السور على القاهرة ومصر قال: ولما ملك السلطان مصر وأتاه الله على الأعداء بها النصر رأى أن مصر والقاهرة لكل واحدة منهما سور لا يمنعها, ولا قوة لأهلها تحميها وتردها وقال: ولو أفردت كل واحدة بسور احتاجت إلى جند مفرد ونظر مجرد والرأي أن أدير عليهما سورا واحدا من الشاطئ إلى الشاطئ ثم يتكل في حفظها على الله الكالئ. فأمر ببناء قلعة في الوسط عند مسجد سعد الدولة على جبل المقطم فابتدأ من ظاهر القاهرة ببرج في المقسم وانتهى به إلى أعلى مصر ببروج وصلها بالبرج الأعظم. ووجدت في عهد السلطان ثبتا رفعه النواب, وتكمل فيه الحساب وهو داير البلدين مصر والقاهرة بما فيه من ساحل البحر والقلعة بالجبل تسعة وعشرين ألف وثلثمائة ذراعا. شرح ذلك قياس ما بين قلعة المقسم على شاطئ النيل والبرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة ألف وخمسمائة ذراع, ومن الربعة بالمقسم إلى حايط القلعة بجبل مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم سبعة ألف ومائتي ذراع قياس داير القلعة بمسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف ومائتي وعشرة أذرع, وذلك بطول قوسه وأبدانه وأبراجه من النيل إلى النيل على التحقيق والتعديل وذلك بالذراع القاسمي بتولي بهاء الدين قراقوش الأسدي, وبنى القلعة على الجبل وأعطاها من حقها من أحكام العمل وقطع الخندق وهناك مساجد يعرف أحدها بمسجد سعد الدولة اشتملت عليها القلعة ودخلت في الجملة. وحفر في رأس الجبل بئرا ينزل فيه بالدرج المنحوتة من الجبل إلى المعين, وتوفي السلطان وقد بقيت من السور مواضع, والعمارة فيها مستمرة وأمر بناء المدرسة بالتربة المقدسة الشافعية وتولاها الفقيه نجم الدين الخبشاني وأمر باتخاذ دارا في القصر بيمارستان. وقال: وخرج السلطان من القاهرة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان وقد استصحب من أولاده الأفضل عليا والعزيز عثمان, وجعل طريقه على دمياط, ورأى في الحضور بالثغر المذكور ومشاهدته الاحتياط. وكان له بها سبى كبير جلبه الأسطول فامتد بظاهر البلد يومين ليتبعه النزول قال: ووهبت منه جارية اخترتها وآثرني بثمنها لما اشتريتها. ثم وصلنا إلى ثغر الإسكندرية وترددنا مع السلطان إلى الشيخ الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد بن السلفي الأصفهاني, وسمعنا عليه ثلاثة أيام يوم الخميس ويوم الجمعة ويوم السبت رابع شهر رمضان. قال ونظمت في الطريق مقطوعات ومنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يوما بجى ويوما في دمشق وبالفسطاط ... يوما ويوما بالعرافين كان جسمي وقلبي الصب ... ما خلقا إلا ليقتسما بالشوق والبين ومنها أحبكم حب النفوس نقاها ... واشتقاقكم شوق الظماء للورد ترحلت عنكم والفؤاد بحاله ... صبور على البلوى مقيم على الوجد (187 ب) فإن رمتم عذرى فإني على الوفا ... وإن خنتم عهدي فأني على العهد ذكر اللسان الصوفي قال: وكان حينئذ بمصر شيخ صوفي من أهل بلخ قد جرب الدهر وعانى العقد والفسخ، وعاين الإثبات والنسخ وجاور بغداد والكرخ، ظريف طريف، عفيف، لطيف لا يأكل وحده ولو انه رغيف. له مع نجم الدين أيوب صحبة قديمة ومودة كريمة وقد ملك من قلوب الملوك قبولا، ولم يزل بشمول عارفتهم مشمولا فبنى دارا على شاطئ النيل وفتح بابه لمن يضيفه من أبناء السبيل، وفيها بركة وبستان وروح وريحان، ومن كل شهى ولذيذ ألوان وللحلاوات على شيمته الحلوة حوالات، وللحاجات عند سجيته السمحة ناجات له فيما يدخل السرور في أنفس أصدقائه اخراجات. وما زال يدعونا إلى داره ولا يخلينا في ليالي الجمع من انتظاره، ويضيفنا مفردين ومجتمعين، ويحضرنا المستمعين والمغردين. وكان محبا للأدب ولدفاتره مستنسخا ومؤثرا للفضل ولمعاشرة معاشر مصرحا فإذا عرف ميلنا إلى كتاب قدمه وقدم على تقديمه قسمه ويحلف انه لا يأخذ ثمنه وانه لأجلنا ادخره وخزنه ثم وقف على الصوفية من بعده وانتقل بعد سنتين إلى النعيم وخلده. عاد الحديث قال: ولما عدنا من ثغر الإسكندرية صمنا بقية الشهر في القاهرة، والسلطان متوفر على نشر العدل وإفاضة الجود وسماع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وهناك لسماطه سموط وخوان مبسوط وكلنا بما هو فيه من النعمة مغتبط مغبوط، وكان إذا فرغ من الطعام، وخف ثقل الزحام تخلف عنده من جرت عادته من الجلساء وخواص الأمراء ثم قضينا فرض العشاء ووصلنا بالتراويح والاستغفار والتسبيح. ثم أن شاء جلس وبمن يقربه استأنس وإذا أراد البكور قاس وجلا من نشره القس وبكر وركب "والصبح قد تنفس". ذكر وصول الرسل ووقوع بعضهم في الأسر قال: قد سبق ذكر انفاذ سعد الدين أبي حامد رسولا إلى الأطراف للاستحلاف ورفع الخلاف وتأليف الكلمة العايدة بالإسعاد والإسعاف. ومضى أبو حامد وسرنا نحن إلى مصر ثم وصل الخبر بأنه قد عاد بعد ما استفاد وبلغ في تبليغ الرسالة المراد. ووصل ومعه من صاحب الموصل القاضي عماد الدين بن كمال الدين الشهر زاوي والحاجب ضياء الدين أبو بكر البغدادي ورسولان احدهما من نور الدين قرا أرسلان يقال له المظفري والآخر من قطب الدين صاحب ماردين وهو الضياء الرحبي، وحضروا بدمشق عند الملك المعظم شمس الدولة أخي السلطان واستحلفوه ودخل لهم تحت ما كلفوه، واستوفوا عليه اليمين بالموافقة على ما شرطوه ووصفوه. فأما القاضي الشهرزوري فانه عاد إلى الموصل واستبعد طريق مصر واستعمل الوقار فما خف وعاف وعف، فأما الباقون فانه حسن لهم سعد الدين ركوب الخطر وكروب السفر ووعدهم بالغنى وأخذهم على طريق في بلد الفرنج، أن قطعوه في يومين على غرة منهم نجوا فما جاء أمرهم كما رجوا بل شعر بهم القدر فاعرضهم وأخرجهم بالمضايقة وأحرضهم فسبق أبو حامد والضياء أبو بكر بمن معهما في نهج وعر، وحصل رسولا الحصن وماردين في اسر الملاعين الماردين ووصل الناجون إلى مصر واجروا حديث حادث السفيرين الأسيرين فاغتم السلطان واهتم ثم فكهما من الأسر بعد سنين حين فتح حصن بيت الأحزان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 كتاب فاضلي إلى صاحب الموصل في هذه النوبة مع رسوله: أحق المودات أدام الله أيام المجلس وأنفذ عزمته وأعلى كلمته وأتم نعمته وشرف همته وحفظ ذمته وسدد حكمه وحكمته بان يؤكد أسبابها ويقصد استثباتها ويحافظ وجود استقامتها مودة ارض الله سبحان انتظامها وأتم النعمة على أهل الإسلام تماما وعادت على مسرات الأولياء بتخليصها وعلى جموع الأعداء بتمحيصها وعلى الملة الحنيفية بأفرادها بمزية النصر وتخصيصها وعلى عباد الله ورعايا أوليائه بسبوغ ظلال الإلفة بعد تقليصها ووعدت في انتظام المصالح واتصالها، وفل شافة الكفر واستيصالها وسددت إلى نحور الكاشحين ما كان طايشا من مناصل الأولياء ونصالها وتلك المودة هي التي تلقى الدعوة إليها بالتامين وتلقى الراية (188أ) المنصور منها باليمين. ورفع الكتاب الواصل بسببها على الجبين وعلم أن الخير ماى أشتمل عليه نجواه والصواب ما دل عليه فحواه. قال سبحانه في كتابه الكريم "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقه أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف بؤتيه أجرا عظيما". وأحلى الصفو ما تبع الكدر وأجلى الصحو ما كان غب المطر، واهنا الراحات ما كان في اثر تعب السفر. والآن وقد حفظت المودة مجراها، وألقت الثقة عصاها، ولاح لعين السرى دجاها بل أشرقت شمسها وضحاها، وجرت عمدة الله الإيمان " وقد افلح من زكاها وقد خاب من دساها " سورة الشمس آية رقم 9- 10 ووصل الحاجب أبو بكر كتب الله سلامته وأحسن صحابته بعد أن عاد القاضي عماد الدين إلى مستقر عزه من الحضرة، وقنع بحضوره واستيفاء اليمين الملكية المعظمية البرة. وكانت القناعة في موضوعها والثقة في مستقرها ومستودعها فان النفس واحدة ولكنها ساكنة في جسدين والمصافحة لازمة واليد منها كاليدين ووصل هذا الحاجب بعد أن لقى من سفره نصبا، وكانت سلامته مع اخذ المضيق عليه من طريقه اية عجبا فأنها شقة بعيدة ومشقة شديدة وبلاد مطموحة ومسالك تكاد يكون فيها أسباب العطب مرجحة. ولم يكن التزم من مقصده إلا الكتاب الذي كان على يده فان التعظيم بحسب قدر المناسب إلى قدرة العلى ومجده وشرفه الأولى، وعن الذي هو أبلا أعيان الأوصاف عين الملا، فسرت فيه نعمة السلامة وتوفرت عليه مزية الكرامة ونظمت اليمين التي احتفل بمحضرها واقترنت الأحكام بظاهرها والصفاء بمضمونها وأقام إلى أن أستكرم له التوفيق واختبرت له الطريق, وتوجه مصحوبا بلطف الله وأمانه داخلا في حرز كنايته وضمانه, ونسخة اليمين على يده سايره والمشافعة له تستولي على المقاصد الباطنة والظاهرة. وقد سرى هذا الاتفاق من الألسنة إلى القلوب وتأكدت فيه قضايا سفرة الوجوب مؤكدة الرجوب, واستبشرت الأنفس بأن الله سبحانه يجعله أحد ما ينجز به وعد نصره المكتوب ولزم للمنة به شكران يحمله الله سبحانه وتعالى فقد "ضعف الطالب والمطلوب". وكذا للأمير مجاهد الدين قايماز أدام الله تأييده في ذلك السعي المشكور والأثر المأثور وتجارة الخير التي لا تبور, والعزم الذي يتوضح في ظلام الخطب منه " نور على نور" فهو شكور بلسان إحسانه, معدود إذا اتسع ميدان الفضل من سبقه وفرسانه. وأما الكنب الكريمة الاتابكية فإنها نعمة لا يخفى قدرها, ومنه لا يمطل شكرها, وحسنة تتقدم الحسنات ذكرها, ولو أن المودة قد تأكدت لقيل أنها مما يتأكد به عهدها, وينتظم به عقدها ويشرق به في آفاق الخواطر سعدها وبحسب ذلك نرغب في أن نجعل قوت الأنفس منها إدرارا وسماء أأنعام بها مدارا مع يودع من أخبار نعمة الله سبحانه لديه على أنها نعمة ظاهرة آثارا متظاهرة إيثارا. لا زال الجناب السامي لتحايل الصدور مستخلصا, ولنهر المكارم مستفرصا, ولصفقات المودات مسترخصا, وللقلوب على ما يجب من الموالاة مستحرصا ولا برحت الأيام بحسناته موسومة وأتم الله نعمه فإنها بينه وبين الخلق مقسومةوهو تعالى فاعل ذلك بكرمه أن شاء ذكر خروج السلطان إلى مرج الفاقوس في ذي الحجة من السنة. قال: وخرج السلطان إلى الفاقوس وخيم بمرجها وزجرت بحار عساكره هناك بفوجها وموجها. وكان مقصوده إرهاب العدو في ثغره وإزعاجه بذعره وهو يركب للصيد والقنص والتطلع إلى أخبار الفرنج لانتهاز الفرص. ولم يخل يوم من إنهاض سرية سرية واعتراض البرية الكافرة في كل معقل وبرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وكان مرحبا رضيا, وفضاء مضيا, وصحاري واسعة, وبراري شاسعة وهو مصطاد وسيع ومصطاف وشيع, ومراد مريع كله ربيع, وشملنا فيه جميع ولكل رجاء من الجود السلطاني شفيع, ولكل توقيع توقيع. ودخلت سنة ثلاث وسبعين والسلطان بمرج الفاقوس من أعمال مصر الشرقية, والإسلام زاهر زاه والكفر واهن واه, والنصر مضمون, والعصر ميمون, وسر التوحيد سار, وقلب الشرك محزون, وذخر المال مبذول, وكنز الحمد مذخور ومخزون ونحن في اجتماع واتساع وارتفاع وامتناع لاشيم كهام ولا رنة شاك ولا أنة باك, ولا شكاية مظلوم, ولا حكاية محروم, والأيام ظاهرة الأيامن باهرة المحاسن, وقد طابت للزمان وأهله أنفاس ونفوس ودارت على الدنيا من ألطاف الله كئوس. قال ونظمت في الأجل (188 ب) الفاضل قصيدة ميمية في منتصف المحرم وأولها: يم هضيم يروم هضمى ... من سقم عينيه عين سقمي د نقطت شمس وجنتيه ... للحسن من خاله بنجمي اهي مناط الوشاح حلت ... فيه بوجدي عقود عزمي طاقة في القياس نطق ... يدور من خصره بوهمي ومنها ندي مواعيد للمعالي تمطل ... دهري فيها برغمي نتيجة النجح منك تقضي ... أن المواعيد غير عقمي ذكر علم الدين الشاتاني قال: قد سبق ذكره في الأيام النورية, وهو من أدباء الموصل وشعرائها بل من فصحائها وظرفائها وله نتف وطرف. ووفد سنة اثنتين وسبعين إلى مصر واصطنعه الملك عز الدين فرخشاه وأنزله في داره, وقرر له إحسانا دارا, وجمع له من رفده ومن الأمراء ذوي الفواضل مبلغ ألف دينار, وأذن صبح نجح أمله منه بأسفار, وكان عندنا في المخيم في المحرم من هذه السنة وقد مدح السلطان بكلمة مطلعها: إذا النصر معقودا براياتك الصفرا ... فسر وافتح الدنيا فأنت بها أحرى وأقام حتى اجتاب خلعة الاحتباء وعقد له السلطان حبى الباء. قال: وكتب الأجل الفاضل من عنده مكاتبه إلى عز الدين يحمده على اصطناعه ورفعه من حضيض حظوظه إلى بقاع ارتفاعه. فصل منها: لولا حق وجب على الملوك أداؤه, وسر خدمة تعين عليه إبداؤه لامتثال الأمر في أن يدوم سرور المجلس السامي بالحباية, وأن لا يعارض صفو عيشه بكدر كتابه. لكن لم يتسع له مع عود القاضي الفقيه الإمام الرئيس الكامل علم الدين وهو ينهي أن المذكور صايغ حليه الذكر وفارس خلية الشكر وخطيب الأيادي, والعالم بما يورده في كتب محاسنه (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وما برح مذ فارق الركاب العالي في هذه الأيام التي طالت عليه ببعده فكأنها أعوام كما قصرت عليه تلك الأيام بقربه فكأنها أحلام إذا ذكر المولى سبح بحمده وبادر من غير تشيع بتعفير خده وصلى على ذكره وسلم وأورد من آيات مجده ما كان بإيراده أقوم ولا نقول أعلم فإن الخلق قد أشركوا في هذا العلم وامتروا في هذا الحكم. عرف العالمون فضلك بالعلم ... وقال الجهال بالتقليد بل لا يقول أحد بالتقليد في فضايله لما عندهم من فواضله: فإن مر من يثني عليه حقايب ... فأنت الذي تثنى عليه الحقايق وكل سحاب يمطره فالمولى منشئ أفواجه, وكل بحر يغمره فهو باعث أمواجه, والمولى مقفو أثر الإحسان متبوعه, ومن الذي يتبعه فيستطيعه, فمن أعطاه أوادنا فإنما عرفه بتعريفه واستشرف ناظره إليه بتقريبه له وتشريفه والمولى كما قال حبيب الأدباء حبيب: ففي كل نجد في البلاد وغاير ... مواهب ليست منه وهي مواهبه وفي هذه القصيدة بيت يليق بأوصاف بيته الكريم وهو: إلى سالب الجبار بيضة ملكه ... وأمله عاد عليه فسالبه والمملوك لايستزيد الإحسان لأنه ناقص عن غاية ولكنه يشاركه في الشكر وإن كان المذكور أشهر اياه وأظهر آية. ذكر بروز السلطان بقصد الغزاة إلى غزة وعسقلان ونوبة الرملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قال: وعاد السلطان إلى القاهرة وأقام بها ثم تقاضته عزمته واهتمت بالغزاة وجد بالجهاد وجده وجهده وجردت سربجياته وأسرجت جرده وقلقت بغرارية أجفانه وفاضت على النحور غدرانه, وتلبست بالأجسام أبدانه, وصافحت أشجع الشجعان صفاحه, وأسفر في ليل العجاج من غرر وهمه صباحه وخرج من القاهرة يوم الجمعة ثالث (189 أ) جمادى الأولى بعد الصلاة وخيم بظاهر بلبيس في خامسها بخيمته لقصد الغزاة, ثم تقدمنا إلى السرير وخيمنا بالبرز, قال: ونودى خذوا زاد عشرة أيام أخرى زيادة للاستظهار, فقلت لغلامي قد بدأ وقد خطر الرجوع ببالي وأنا صاحب قلم لا صاحب علم وقد استشعرت نفسي في هذه الغزوة من عاقبه ندم, والمدى بعيد والخطب شديد والطريق كله في الرمل وجمالي وبغالي لا تقوى على الحمل وهذه نوبة السيوف لا نوبة الأقلام والواجب على كل منا أن يلزم شغله ولا يتجاوز محله لاسيما ونواب الديوان قد استأذنوا في العود وأظهرت سرى للمولى الفاضل فسره إشفاقا علي. وكان السلطان أيضا يؤثر إيثاري ويختار اختياري فقال أنت معنا أو عزمت أن تدعنا فقلت العزم للمولى وما يختاره لي فهو أولى, فقال تعود وتدعو لنا وتسأل الله أن يبلغنا في القصر سؤلنا. قال وكنت كتبت إلى المجلس الفاضلي أبياتا ونحن بالمبرز يوم الاثنين العشرين من الشهر مما على سبيل المداعبة ومنها: قيل لي سر إلى الجهاد وماذا ... بالغ في الجهاد جهد مسيري ليس يقوى في الجيش جأشي ... ولا قوسي يرى موترا إلى موتور قال: وما انقطعت عن السلطان في غزواته إلا في هذه الغزوة, وقد عصمني الله فيها من النوبة. قال: وكنت لما فارقت القاهرة استوحشت وتشوقت إلى أصدقائي وتعطشت. وكتبت من المخيم ببلبيس إلى القاضي شمس الدين محمد بن محمد موسى بن الفراش اذكر له لوا عج الاستيحاش وكان أصدق صديق وأشفق شفيق وقد تصاحبنا من الأيام النورية واستشرته في التأخر عن السلطان فكتب في الجواب وقال: رافقه ولا تفارقه فإنه يعرف لك حقك فكرهت رأيه وتلوت سور الخطر وأية وضمنت الكتاب هذه الأبيات: إذا رضيتم بمكروهي فذاك رضا ... لا أبتغى غير ما تبغون لي غرضا وإن رأيتم شفاء القلب في مرضي ... فإنني مستطيب ذلك المرضا أنتم أشرتم بتعذيبي فصرت له ... مستعذبا أستلذ الهم والمضضا إن رممتم عوضا في محبتكم فحاشى ... لله أن أبغي بكم عوضا الله عيش يقضي عندكم ومضى ... وكان مثل سحاب برقه ومضا قد أظلم الأفق في عيني بغيبتكم ... فإن أذنتم لشخص في الحضور أضا ما كنت أعهد منكم ذا الجفاء ولا ... حسبت أن ودادي عندكم رفضا قال فكتب إلى في الجواب أبياتا منها: أرسلت سهم عتاب قد جعلت له ... قلبي وإن لم تكن عينته غرضا لا تنسبوني إلى إيثار بعدكم ... فلست أرضى إذا فارقتكم عوضا عاد الحديث قال: ثم ودعت السلطان وعدت وما تأخرت إلا إلهاما من الله تعالى بالنجاة من تلك الورطة حيث حكم في تلك النوبة بالعثرة, ورجعت وأنا بين عادل وعاذر وناه وآمر ثم رحل في سلطان مقدما ولعزمه في الجهاد مصمما وسار في جيش مجر من سواد القتام في ليل ومن بياض البيض في فجر, ومن حب الغزو في وصل ومن سلو الحياة في هجر فنزل على عسقلان يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى وسقاهم من الموت فسبى وسلب وغنم وغلب وجمع من كان معه من الأسارى هناك فضرب منهم الأعناق وسقاهم من الموت الكأس الدهاق, وتفرق الفرق في الأعمال مغيرين ومبيدين ولما رأوا أن الفرنج نايمون خامدون استرسلوا وانبسطوا (189 ب) وناموا وأقاموا وتوسط السلطان البلاد وسلط عليهم البلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 واستقل يوم الجمعة مستهل جمادى الآخرة بالرملة راحلا ليقصد بعض المعاقل فاعترضه نهر عليه تل الصافية فازدحمت على العبور العساكر المتوافية فما شعروا إلا بالفرنج طالبة بأطلابها حازبة بأحزابها مصحرة, حادرات أسادها في غابها, زايرة بزئيرها في مساعير سعيرها وذلك يوم الجمعة أول الشهر وقد تفرق الجمع وأمن الروع وسرنا والضياع مغبرة ولرحى الحرب عليهم مديرة فوقف الملك المظفر تقي الدين وتلقاهم بصدره, وسبك الرجالة بنيران سيوفه, وصدهم عن الحملات وقوفه ثم حمل على الخيالة بخيله وجرفهم بسيله فاستشهد من أصحابه عدد من الكرام انتقلوا إلى نعيم دار المقام, وهلك من فرسان الفرنج أضعافها. وكان لتقي الدين ولد يقال له أخمد شاب أول ما طر شاربه وهو في ريعان شبابه الطري فقال له يا ولدي قد جاءت نوبتك فأين سطوتك فأقر عيني بأقدامك وأحسم داء الفزع ببراعتك وحسامك, فحمل وبلغ الطعان وراع تلك الرعان فأردى فارسا وفرسه وصد العدو وحبسه وخرج سالما إلى أبيه يعتقد أن تلك النهضة تكفيه. فقال له: عد يا أحمد فأن العود أحمد وقسا قلبه حتى كان مراده أن يستشهد فقدم الولد طاعة الله وطاعة والده على هوى نفسه وغامر وحشة الروع بأنسه, وأذنت الحملة الثانية بكسوف شمسه فأستشهد. وكان له ولد آخر اسمه شاهان شاه في الأسر, وسبب ذلك عزته الداعية إلى الاغترار فإنه خدعه بعض مستأمني الفرنج بدمشق وقال له تجي إلى الملك وهو يعطيك الملك, وزور له كتابا واستحضر على لسان بعضهم خطابا فسكن إلى صدقه وصحبه ولم يدر أنه خدعه وسلبه فلما تفرد به شد وثاقه وغله وقيده وضيق خناقه إلى الداوية, وأخذ به مالا وجدد عندهم له حالا وجمالا وبقي في الأسر أكثر من سبع سنين حتى فكه السلطان بمال كثير وأطلق للداوية كل من كان عنده لهم من أسير. قال ولو أن لتقي الدين رداء لأودى القوم وأغلى السوم لكن الناس لما عرفوا الوقعة تفرقوا وراء أثقالهم ثم نجوا برجالهم دون رحالهم, وضربوا مجملتهم على السلطان فثبت ووقف على مقدمته من تخلف. وسمعته يوما يصف تلك النوبة ويقول رأيت فارسا يحث نحوي حصانه وقد صوب إلى مجرى سنانه ومعه آخران قد جعلا شأنهما شأنه فرأيت من أصحابي خرج كل واحد منهم إلى واحد فبادروه وطعنوه وقد تمكن من قربي فما مكنوه وهم إبراهيم بن قنابر وفضل الفيضي وسويد ابن غشم المصري واتفق بسعادة السلطان أن هؤلاء وأمثالهم من فرسان العسكر وافقوه وما فارقوه ومازال السلطان يسير ويقف حتى لم يبق من ظن أنه يتخلف ودخل الليل وسلك الرمل ولا ماء ولا دليل ولا كثير من الزاد واعلف ولا قليل وتسعفوا السلوك في تلك الرمال والأوغاث والأوعار حتى وصلوا إلى الديار المصرية وأذن ذلك بتلف الدواب وفقد كثير ممن لم يعرف له خبر ولم يظهر له اثر. وفقد الفقيه ضياء الدين عيسى وأخوه الظهير ومن كان في صحبتهم فضلوا عن الطريق وكانوا سايرين إلى وراء فأصبحوا بقرب الأعداء فاكتمنوا في مغارة وانتظروا في بلد الإسلام على عمارة فدل عليهم الفرنج من زعم انه يدل بهم فأسروا وما خلص الفقيه عيسى وأخوه إلا بعد سنين بستين أو سبعين ألف دينار وفكاك جماعة من الكفار عندنا من أسار وما اشتدت هذه النوبة بكسرة ولا عدم نصرة وأن النكاية في العدو وبلاده بلغت منتهاها وأدركت كل نفس مؤمنة مشتهاها لكن في الخروج من تلك البلاد تشتت الشمل وتوعر السهل وسلك مع عدم الماء والدليل الرمل, وقبض من ضل به الطريق الأسر والكبل. ومما قدره الله تعالى من أسباب السلامة استظهار الأجل الفاضل في دخوله إلى بلاد الأعداء باستصحاب الأدلاء وأنهم ما كانوا يفارقونه في الغداء والعشاء وينفق عليهم ويقوم بكل ما يحتاجون إليه فلما وقعت الوقعة بدوابه وغلمانه وأصحابه وأثقاله وجماله وثب أصحابه في تلك الرمال والوهاد التلال حتى أخذ خبر السلطان فقصده وفرق ما كان معه من الأزواد على المنقطعين وجمعهم في خدمة السلطان (190أ) أجمعين وكان الناس في مبدأ توجه السلطان ودخول الأجل الفاضل معه إلى البلاد ربما تحدثوا وقالوا لو قعد وتخلف كان أولى فإن الحرب ليست من دأبه. ثم عرف أن السلامة والبركة والنجاة في استصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قال: وجاء الخبر إلى القاهرة مع ناجين فخلع عليهم وأركبوا وأشيع بأن السلطان نصره الله وأن الفرنج خذلهم الله, وأنهم كسروا وغلبوا وركبت لأسمع حديث الناجين وكيف نصر الله المسلمين, وإذا هم يقولون أبشروا فإن السلطان وأهله سالمون وأنهم واصلوا غانمون فقلت ما بشر بسلامته إلا وقد تمت كسرة وماتم سوى بسلامته نصره وكان كما حررته. ولما قرب خرجنا إلى تلقيه ودخل القاهرة يوم الخميس منتصف الشهر ونابت سلامته مناب النصر وسيرنا بها البشاير وأنهضنا ببطاقاتها الطاير لإخراس ألسنة الأراجيف وأبدال التأمين من التخويف, فقد كانت نوبتها هايلة ووقعتها غايلة. كتاب فاضلي عن السلطان إلى بعض الأمراء يذكر مما دفعه الله في نوبة الرملة من البلاء, نعم الله سبحانه في كل ما تصرفنا عليه توجب أن نصرف إليه شكرنا, وألطافه الجميلة في كل ما يفضي بنا إليه يقتضي أن نبلي في حبها عذرنا. ومكاتبنا إلى الأمير صادرة في يوم الخميس الخامس عشر من جمادى الآخرة عند قفولنا من الغزاة التي صرفنا الله فيها عن الكفار ليبتلي صبرنا. والعساكر المنصورة سالمة بجمهورنا مقسومة نعم الله في الكافة بين آمرها ومأمورها. وقد كانت هذه العساكر جاست خلال ديار الكفار وقاتلت البلاد وأهلها بالسيفين الحديد والنار, وحكمت القتل تحكيما عجل فيه الارتياح إلى أمر الله عن مهلة الأسار واستباحت لهم معاقل وأصابت لهم مقاتل, وشغلت العساكر كسرتها وفيها للعساكر دوما شغل شاغل. وكانت العدو رامها مستيقظة فلم يطقها وبارزها على باب عسقلان فلم يثنها من غاية ولم يعقها بل ولاها ظهره عجلا وفر تحت الليل وجلا ثم طرقها في حال انبثاث منها وانتشار وشغل بالنهب والاغترار وتباعد من الأطلاب وخفة من رجالها وخلو من الأسلحة التي احتاجت في لباسها إلى أثقالها فقتل من العدو أضعاف المقتولة من المسلمين وكانت البادرة للكافرة والعاقبة كما وعد الله للمتقين, وسلم الله الخلق من المهالك الموحشة والمجاهل المعطشة, والظلم المدهشة والافتراقات التي منها تفلل الجيوش المجيشة حفظا لدينه ونعمة يجب شكرها على كل مسلم وإلا فإن الأعمال موبقة والسيئات موثقة والكثرة أعجبت وأعجلت والثقة بغير قادر أخجلت. ولم يفقد مع البعد في المسافة والتتبع بالمحافظة فقد الماء في القفز وعدم الأدلاء وكثير من أظهر من أمراء العسكر وأكابرها وأصاغرها إلا نفر قليل أكرمهم الله بالشهادة مقبلين غير مدبرين ومتقدمين غير متأخرين وليس منهم من لاسمه في الأسماء شهرة ولا من يعتقد العدو أن له بقتل مثله كثرة وعدنا فحملنا الضعيف والمنقطع ورفقنا في السير حتى لحق المفترق بالمجتمع والأمير يتلو كتابا على بياض الثغر وذوي هيأته ويستدعي شركتنا في شكر الله الذي هو أيسر واجباته ليسكنوا أن الأمور قايمة والعساكر سالمة والغزوات تتصل ولا تنقطع والطلبات للعدو بإذن الله تسهل ولا تمتنع وراية هذا الدين ترتفع ولا تنخفض, وأنوار هذه الملة تتسع ولا تنتقض. ولا فلت لنا والحمد لله هذه النبوة عزيما ولا أحالت منا عن طلب الكافرين غريما وما عدونا ما قال الله سبحانه (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما. قال: وحيث كانت للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب في هذه الغزوة اليد البيضاء أنشدته قصيدة في سابع رجب وأولها: جفون البيض أم بيض الجفون ... وسمر الخط أم هيف الغصون ألا يا عاذلي دعني وشأني ... وما يجري المدامع من شئوني فإن صبابتي داء دفين وكم ... أبقي على الداء الدفين وحايلة الوشاح رأت جمالي ... على هوجاء حايله الوضين (190 ب) بكت شجوا وأرزمت المطايا ... وهاج أنينها الشاجي أنيني فلي ولها وللانضاء شجوا حنين ... في حنين في حنين وقالت ما ظننتك قط تنوي ... مفارقتي لقد ساءت ظنوني فقلت سراي للعليا وأني ... تخدت لها أمينا من أموني إلى عمر بن شاهنشاه قصدي ... ثقي بغناي منه وارقبيني ولست أرى سوى علياك تاجا ... يليق بدر مدحتي الثمين واهتم السلطان بعد ذلك بإفاضة الجود وتفريق الموجود وانتقاد الناس بالنقود والنسايا الصادقة الوعود وتعويض ما وقف من الدواب ونفق من الغراب حتى حصلوا على أحسن منها وأجود وأحمى وأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ذكر ما في هذه السنة بالشام قال: وقعت المنافسة بين الحلبيين مدبري الملك الصالح واستولى على أمره ابن العجمي أبو صالح, وكان مرهوب الشداة مشبوب الشباه مخوف البطش مخشي النهش ولا يلزم طوره ولا يعرف أحد غوره ولا يرض أمرا فوق أمره ولا يريد إلا الاستبداد بخيره وشره. وكان سعد الدين كمشتكين الخادم مقدم العسكر وأمير المعشر وكبير المحشر وهو صاحب حصن حارم وقد حسده أمثاله من الأمراء لأنه مستقل بالإدارة فسلموا للعدل الاستبداد والتمكين من منافسة كمشتكين فصار يبرئ ويقسط ويرفع ويحط وبرأيه يتسلط وفي المخاوف يتهور ويتورط فقفزت عليه الإسماعيلية في جامع حلب بعد الصلاة وفجعوه في الحياة وشغلوه بمرارة المنون عن المنى الحلوة المشتاة. ومن بعده انبسط كمشتكين بعد انكماشه, واغتر بوفور ريشه ورياشه, وترك المبالاة بأوشاب الملك وأوباشه فقالوا هو الذي قتل العدل وحسن للإسماعيلية الفتك به والقتل, وحسنوا للملك الصالح وهو صبي وعلموه وهو غبي وقالوا: أنت السلطان ولا حكم إلا لك وقد استكملت الحجر ارفع عنك الحجر وهذا كمشتكين يحتقرك وأنت كثير ويستصغرك وأنت كبير وبالأمس تقلد وزر وزيرك وأشار بالفتك بمشيرك, ومازالوا به حتى بسطوا يده على قبض المذكور وطالبوه بتسليم قلعة حارم وارتكبوا في تعذيبه المحارم فكتب إلى نوابه بها فنبوا وأصروا على الامتناع وأبوا فحملوه ووقفوا به تحت القلعة فلما طال أمه قصر عمره فتركوا رقبته وفكوا رقبته واستبد الصغار بعده بالأمور الكبار وامتنعت القلعة عليه ونزل عليها الفرنج ودافع عليها الكمشتكينية ولزموا في حفظها النخوة والحمية ثم رحل الفرنج عنها بقطيعة بذلها لهم الملك الصالح, ونزل أصحاب كمشتكين عنها وهم رزايا طلايح, وولى بها مملوكا لأبيه يسمى سرخك. ذكر نزول الفرنج على حماه يوم الأحد العشرين من جمادى الأولى ورحيلهم عنها بعد أربعة أيام قال: قد وصل في هذه السنة إلى الساحل من البحر كند كبير يقال له كند أفكنت من اكبر طواغيت الكفر. ونايب السلطان بدمشق أخوه الملك المعظم شمس الدين فخر الدين تورانشاه وقد بذل الفرنج ما آمنت به البلاد من معراتهم وسلمت الغلات من غاراتهم، وهو خايض في أمره وانفاد غايض في بحر ملاذه، واشتغل كل من الأمراء في ثغره بهزله وجده وبدا للكافر الواصل ضعف العاقل وخلوها من الجند المقاتل ومن جمله شروط هدنة الفرنج إنهم إذا وصل لهم ملك كبير ما لهم في دفعه تدبير إنهم يعاونونه ولا يباينونه ويحالفونه ولا يخالفونه فا ذا عادت الهدنة كما كانت وبحكم هذا الشرط حشدوا الجنود وجندوا الحشود. ونزلوا على حماه في العشرين من جمادى الأولى وصاحبها شهاب الدين محمود محموم، والملك بمرضه مهموم مغموم. وكان سيف الدين على بن احمد المشطوب بالقرب فدخلها وخرج للحرب، واجتمع إليه رجال الطعن والضرب وجرت ضروب من الحروب، وكاد الفرنج تهجم على البلد فأخرجوهم من الدروب وواصلوا الاشتجار وقطعوا الأشجار، وكشفوا الأسوار وابعدوا (191 أ) في الإنجاد والأغوار، فأعجزهم القدر الغالب وتجمعت على كتبهم الكتايب، وهم في كل يوم يقلون، والمسلون يكثرون ثم سقطت مهابتهم فما صدقوا كيف يرحلون، فكسفت أدبارهم وكسحت آثارهم وكثر قتلهم واسارهم ثم تجمعوا بعد حين ونزلوا على حارم وقالوا رجالها على صاحب حلب عاصية، وهي من نجدة المسلمين قاصية، وصاحبهم قد قتل وهم موتورون فحاصروهم شهرين وجرح أكثر من في الحصن وغلب وهن الوهن. ثم تسامع الحلبيون برحيلنا من مصر لقصد الشام، وقالوا أول ما يصل صلاح الدين يتسلم حارم فراسلوا الفرنج وارهبوهم وقالوا صلاح الدين واصل فتنازلوا عن النزال بما قرروه من قطيعة المال وعدة من الاسارى فرسان القتال ورحل الفرنج وما انفصلوا عن حارم إلا بعد انفصالنا عن مصر. وأما الحلبيون فإنهم راسلوا من بقي بحارم، وقد قتل وجرح مقاتلوهم، ولما فرج الله عنهم تركوا في طاعة الله العصيان، وخرجوا، ومضى كل واحد في طريقه (وحصلت القلعة للحلبيين)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 قال: وقد مضى ذكر شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي خال السلطان وصهره ومرضه عند نزول الفرنج على حماه وقد مرض أيضا ولده الأمير تكش وهو شاب في ريعان أيامه وعنفوان حسنه وإحسانه فمات يوم الأربعاء سابع جمادى الآخرة ومات شهاب الدين يوم الأحد بعده بثلاثة أيام وانتقلا إلى جوار الواحد الأحد وافق ذلك وقت وقعة الرملة فأصيب السلطان في الشام بخاله وابن أخته منه وكان هذا شهرا طويلا أورث عويلا وحزنا طويلا، وسلم السلطان إلى القضاء الله وقدره وعلم أن كل صفو مردف بكدره فانفق أموالا استوعبت الآمال، وأعادت بعد الاعوجاج والاعتلال الصحة والاعتدال فشد الرحال وعزم الترحال. ذكر الخروج من القاهرة والتوجه إلى بلاد الشام قال: وخرجنا لقصد الشام من القاهرة يوم السبت السادس والعشرين ورحلنا بالخميس بعد صلاة عيد الفطر يوم الخميس. وكان الخبر قد وصل بان الفرنج حين انفصلوا عن حماه نزلوا على حارم فحث السلطان العزايم سابع الشهر وقطعنا عقبة ليله يوم السبت العاشر واروينا الخوامس والعواشر وهناك على الساحل يحفر الرمل فيخرج الماء العد العذب ويروى منه الركب وتحمله الصحب. وههنا سألني السلطان أن اعمل أبياتا خفيفة لطيفة يكتب بها إلى أخيه بدمشق فارتجلت. الشوق ابرح ما يكون ... إذا دنا أمد اللقاء وتزيل أيام التداني ... جور أيام التنائي العبد يخدم بالسلام ... وبالتحية والدعاء للسيد الملك العظيم ... ذي الجلالة والعلاء قال: وكنا سايرين في رفقة من أهل الأدب فعبر بنا مرموق في صورة ملك اسمه شاه ملك فاقترح على لغزفي اسمه فارتجلت. اسم محبوبي سد أسى إذا سقط=الثلث فعكس الكلمة وإذا قدم ثاني شطره فهو ... سلطان لنا ذو عظمة عربي عجمي نصفه كله ... معنى لمن قد فهمه قال: وإنما أوردت هذه اللمعة لأعلم إني في ظعني وإقامتي ما خلوت ممن يقترح زناد قريحتي ويقترح ما ينشره من فضلتي. قال: وما زلنا نسير حتى وصلنا إلى دمشق يوم السبت الرابع والعشرين من شوال فاستقبلنا أهلها بنعم ذات نوال، وامددنا من فواكهها برخايص وغوال وجددنا العهد يلقيا أصدقائنا من أديب ولبيب وطبيب وأمين وأمير ووال قال: تذكرت في جلق داركم بمصر ... فيها بعد ما بيننا وما أتمنى سوى قربكم ... وذلك والله كل المنى (191ب) كتاب فاضلي إلى السلطان ورد على الملوك أدام الله أيام المجلس العالي الملكي الناصري ونصره على أعدائه، وملكه أرضه بعدل حكم سمائه، ولا اخلي من نعمتي نظره وخيره قلوب وعيون أوليائه، واعز الإسلام ورفع عن أهله البلوى بلوائه. الكتب الكريمة التي تسر الناظرين بشعارها الأصفر وتبشر الأولياء إن كانوا غايبين مع الغيب بان خطهم حاضر مع الحضر. وقد كانت الفترة قد طالت أيامها واستطاعت آلامها، والطرقات التي سبق إلى الأنفس اتهامها (الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن) وأولى من النعمة ما اشترى الحمد عنا بلا ثمن، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ووعده سبحانه منتظر إذ يقول في كتابه (وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا وصدق صلى الله عليه وسلم واله في قوله: أم اختيار الله للمؤمن خير من اختياره، وان مواقع أمله خير منها مواقع امضية الله وأقداره. فقد كانت حركة احتاجت إليها البلاد التي انفصل عنها, والبلاد التي قدم عليها أما المصرية فبكونها على عدة من نجدته آجلا, وأما الشامية فبكونها على تقدة من نصره عاجلا فقد تماسكت من المسلمين الأرماق وقد انقطعت عن المشركين الأعناق. تهاب بك البلاد تحل فيها ... ولولا الليث ما خيف العرين وعرض المملوك جميع ما وصل إليه من مكاتبات المولى على العلم العادلي, فأدركها تحصيلا وأحاط بها جملة وتفصيلا. والمولى خلد الله ملكه فكل ما أشار إليه من عزيمة أبداها ونية أمضاها فهو الصواب الذي أوضح الله مسالكه, والتوفيق الذي قرب الله مداركه ومن أطاع الله أطاعه كل شيء ومن استخاره بين الرشد من الغي فالله يجعله من كل حادثة بنجوة ويكتب أجره في كل حركة ونفس وخطوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ومنه قد كان العدو خذله الله نهض ووصل إلى صدر فوجدها أمنع من عقاب لوح الجو, وعاد متخلف النية مخلف النو وكفى الله أمره وصرف شره. ومنه المملوك ينهى أنه وقف على نسخ الكتب العراقية المباركة وهي دالة على جميل النية, ووقوع الاهتمام بهذا الجانب وحمل إليهم بما يجري له مع الأعداء, والمشاركة المشكورة في (السراء والضراء) وأوهب أن يتلقى هذا الإحسان بغاية الاعتداد, ويجرد فيه لسان الشكر والاحماد وتوسع القول في أن جميل الآراء الشريفة هو العدة والعمدة والمرجو في الدنيا والآخرة, والعاجلة والآجلة، وتعجل إعادة الرسول فما يكون كلفته إلا واسعة والمطالب بإقامته متشتتة. ومنه في صفة الرسول ومن يختار للرسالة وشروطها، إن كان ولابد من رسول فيلمح المولى من أمره النزاهة حيث لا يثقل تثقيلا لا ينفعنا، ويستثقل به من نفد إليه، والعقل حتى يعرف ما يأتي ويذر، والصدق فانه لاراى لدرب والاستقلال بالقول فان غيبة الحجة في وقتها خذلان عظيم والمولى يعرف من طلب فما ينبغي إن يقال مع معرفته خذ فلانا ودع فلان ولو أن عندنا عرضا مهما لكان إنهاض الفقيه قطب الدين النيسابوري واجبا لان حرمته كبيرة ومعرفته ثاقبة فلا يعدل عن استشارة ظهير الدين فقد تجرد لقضاء الحق والانصباب إلى هذا الجانب والتشهي بمحبته والخطب في جله. ومنه في معنى شرف الدين بن عصرون وكان قد كف بصره، وحديث قاض قضاة دمشق لا يعجل في أمره ولا يستبدل به الأبعد ظهور الخيرة فيمن تقدمه فالمنصب كبير وجمع شروط الاختيار عسير وإيلام قلب رجل شارف منتهى عمره مع كونه لم يظهر منه ما يذم من اثر مما لا يحتاج إليه. ومنه ونوبة العدو في الرملة فقد كانت عثرة علينا ظاهرة، وعلى العدو باطنها ولزمنا ما نسى من اسمها ولزمهم ما بقي من عزمها، ولا دليل أدل على القوة من المسير بعد شهرين من تاريخ وقعتها إلى الشام نخوض بلاد الفرنج بالقوافل الثقيلة والحشود الكثيرة، والذي تضمنه صاحب منبج عن الحلبيين والمواصلة فما هو إلا ظن توهمه اون نقلة ناقل يجب أن يتفهمه فأي سبب يحمل قوما افردتهم الأيام بلذاتهم، وقام المولى بينهم وبين أهل معاداتهم يسهر وهم ضاجعون ويتعب وهم وادعون، ثم إنهم قد جربوا ولدغوا وطلبوا فما بلغوا ما هو عنها بالحديث المرجم. عاد الحديث قال: لما دخلنا دمشق وجدنا رسل دار الخلافة قد وصلوا بأسباب العاطفة والرأفة، وكان حينئذ صاحب المخزن ظهير الدين (182أ) أبو بكر منصور بن نصر العطار وهو من ذوي الأخطار وله التحكم في الإيراد والإصدار وقد توفر على محبة السلطان وتربية رجائه، وتلبية دعائه فوصل كتابه ورسوله بكل ما سر السرير، وكان الكتاب بخطه واقترح على السلطان أبياتا يكتبها في كتاب إليه بخط فقلت ما ضمنه الكتاب وهو: وأفاض في شكر العوافر عارفا ... بقصور باع الشكر عن نعمائه وتأمل الخط الكريم فأشرقت ... أنوار حسن من أثنائه أضحى ظهير الدين أفضل صاحب ... يستمسك الداجي بصدق ولائه مكاتبه فاضلية في التهنئة بمولود. الملوك يبل الأرض بالمقام العالي الناصري، نصر الله الإسلام بمقامه واهلك أعداء الحق بانتقامه ويهنىء المولى بنعمة الله عنده وعند الإسلام وأهله من زيادة في ولده وكثرة في عدد وهو الأمير أبو سليمان داود أنشاه الله نشوة صالحي خلقه، وجعله كما جعل أباه من أنصار حقه، وكانت ولادته في الساعة الرابعة من ليلة الأحد لسبع بقين من ذي القعدة ومن الله بكمال خلقه ووسامة وجهه وسلامة أعضائه وتهلل عزته وابتسام أسرته ودل على أن هذا البيت الكريم فلك الإسلام لا يطلع فيه إلا بدر البدور كما دل على عناية ربه بابيه فانه تعالى قال: " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور". وهذا الولد المبارك هو الموفى لاثني عشر ولدا بل لاثني عشر نجما توقد فقد زاد الله في أنجمه عن أنجم يوسف عليه السلام نجما ورآهم المولى يقظة ورأى هو تلك الأنجم حلما ورآهم ساجدين له ورأينا الخلق له سجودا وهو سبحانه قادر على أن يزيد حدود المولى حتى نراهم آباء وجدودا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ومن كتاب فاضلي آخر. أدام الله دولة مولانا الناصر وخصه بتشييد بناء السلطان ولا أخلى منه عيون الأولياء فأما القلوب فإنه لها ساكن وأنها له أوطان, وأوزعه أن يشكر ما به من نعمة وألهمه أن يخلف محمدا صلى الله عليه وسلم بأحسن الخلافة في أمته, وحفظ عليه كل عمل, بيده قاضيته, ولقاء كل خير بيده ناصيته: وإن أكثر الداعون فيما دعوا له ... فلا تلحين من بات يدعو لنفسه كتبت هذه الخدمة بعد انقضاء عيد النحر على ما شرع فيه من سنة واستحب من قربه وعلى نيابة المولى الملك العادل أوفى نيابه وعلى هذا فإن الخلق لغيبة المولى. تراهم كبيت غير الكسر وزنه ... فألفاظه نثر ومعناه قايم * * دنا العيد أو تدنوا كعبة المنى ... وركن المعالي من ذوابة يعرب فيا عجبا للدمع يرمى جماره ... ويا بعد ما بيني وبين المحصب كتب المولى عند المملوك كالجنة التي قال الله تعالى واصفاً لها: " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون " وإن لم يخلد المملوك فيها جسما فقد خلده الفخر فيها اسما ونعمة المولى بها وبخيرها تجل عن الوصف. وما عمت لساني كل عن صفة ... وما علمت إلا فوق ما أصف والله ما يهيج البروق اللامعة, والحمايم الساجعة والنسيم في الأصال والخواطر إذا خطر بها أيام الوصال ما يهيج هذه الكتب وأنها لتلفح من سحب العيون ما تلفحه مراقات السحب وبالجملة كل دم حقنة المولى لجهاده قد أجراه دمعا وذكر المولى أنشودة وأنها ربما كانت للقاء ميعادا: متى أن يكن حقا أحسن المنى ... يابرد ذاك الذي قالت على كبدي فسوغوني المنى حتى أعيش بها وقد ينعش الفتى بعد عثرة ... ويصطنع الحسنى سراة بني عجل * * * سقى الله دارا شوقتك بغيرها ... وأذنتك نحوي يا زياد بن عامر أصايل قرب ارتجي أن أنالها ... بلقياك قد زحزحن برد الهواجر * * * والمملوك الآن يعالج من الأشواق غريمين كريمين غريم ينزع به إلى كعبة الحزم وغريم يرجع به إلى كعبة الأمم. لو سرت من ذا إلى هذا وكيف به ما=ما سرت من حرم إلا إلى حرم وحديث ما يلزم الخزانة من المغارم فقد قال أحد وزراء الرشيد له وقد أراد سفرا إلى إحدى غزواته يا أمير المؤمنين تكثر الكلف قال ومتى قلت: (192 ب) لا يستقر بكفه أمواله ... فكأنما هي عابرات سبيل وما ضاع ورث الحمد أهله. ومنه المولى أولاد صاروا رجالا ويجب أن يستنجد للقلاع رجالا كما فعل السابقون أعمارا وأعمالا, وقيل القلاع أنوف من حملها شمخ بها ما في الرجال على النساء أمين. وزهدني في الناس معرفتي ... وطول اختياري صاحب بعد صاحب ولا كنت أرجوه لدفع ملمة ... من الدهر إلا إحدى النوايب ومنه عز الدين أقبوري يطول المولى عنان صبره, ويودعه بلطف خلقه وتحمل جفوة ظاهرة, مع السلم بسلامة باطنه, ومن كان يخص أيادي الموت عنده تسفيره بستة آلاف دينار فلا بد من احتماله لتناسب أسباب المعروف عنده ومنه من أبيات في ذكر السلام وتبليغه إلى ولده الملك العزيز عثمان: وغريبة قد جئت فيها أولا ... ومن اقتفاها كان بعدي الثاني فرسولي السلطان في إيصالها ... والناس رسلهم إلى السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ومن إجابة السلطان عن بعض الكتب الفاضلية بالإنشاء العمادي. وردت المكاتبات الكريمة الصادرة عن الحضرة السامية الأجلية الفاضلية ضاعف الله سمو ظلالها ونمو أفضالها وبلوغ آمالها وسبوغ ظلالها مؤرخات بثالث عشر شوال ورابع عشر ومنتصفه نظام سطر الطرس وظلام ديجور النفس في صدفة وسدنة متضمنات شكر ما من الله به من سلف الإحسان مبشرا بما أعده لنا من مونيقة مهديات للنصائح الفصايح, فأضاءت بطلوعهن مطالع المطالب عن سنا النجح, ووصلت مناهج المسار ومباهج المبار سافرة الوجه مسفرة الصبح وتضاعف من الأنس بمطالعة الكتب الوحشة لما ينوب من مشاهدة طلعة القرب. فأما ما أنهاه المجلس السامي بعد رحيلنا من بزاعة المقيم فإنه شرح ما تجدد لنا بغيته, وأوضح طرفا مما وجدناه من الوجد عند عدم الاستيناس بكريم حضرته أحاط علم الكريم بأن اليمن مقرون بحضوره وأن استقامة الملك في أموره بحسن تدبيره ولولا متابعة إرادته ومطاوعة بغيته لما سمعنا على الكرة بغيته, ولكننا ضننا به لكننا ظننا أنه يجد من ذلك التعب الدايم راحة ويكون حمام موارد الإحجام له مستباحة مستماحة. إني والمملكة بارئه وآلائه متسقة العقود, مشرقة السعود, فايزة العهود, ناجزة الوعود لا زالت أقلامه لمقاصد النجاح محررة وأحكامه لقواعد الصلاح مقررة والأيام بميامنه المباكرة مباكرة والممالك لمشاركة تدبيراته المشكورة مشاركة. ومنها وتلقينا رسل الخلافة المعظمة بألطاف البشرى وأصناف اليسرى والرسالة المباركة مشتملة على ثلاثة فصول ضامنة لإجابة كل سؤال وإصابة كل سؤل. فأول الفصول إظهار الاغتمام بما جرى من نبوة تلك النوبة, وثانيها عرض المال والرجال الذين بهما مال الرجا إلى دار الحظوة, وثالثها قبول الشفاعة في عز الدين أقبوري والاعتداد بها وعدها من المنن الحلوة والمنح الصفوة. عاد الحديث قال: وخرج السلطان للصيد في ذي الحجة نحو قارا فشكوت ضرسي وعدمت أنسي, واتفق رجوع عز الدين فرخشاه لحمى عزته ورجعت معه أحاضره وأسامره ليلا ونهارا وأجتني من رياض أخلاقه المونقة أزهارا فأنشدني بيتي المتنبي: وزايرة كأن بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلام إذ ما فارقتني غلتي ... كأن عاكفان على حرام فقال: وحماتي بالصد منها فإنها لا تزور إلا نهارا ولا تهجم إلا جهارا ولا بفرقتي يفرق ولا أخلص من نارها بعرق فنظمت فيه كلمة طويلة في صفة الحمى. (193 أ) وزايرة وليس بها حياء ... فليس تزور إلا في النهار ولو عرفت لظي سطوات عزمي ... لكانت من سطاي على حذار أحماك استعارت لفح نار ... لعزمك لم تزل ذات استعار وما أحمى مزاجك غير لطف ... ليوقد ناره عند الغوار ولفح العارض السارى دليل ... من الغيث الملث على انهمار وما إن حم ليث الغاب إلا ... لخلقك سالب لب العقار ذكر استشهاد عضد الدين وزير الخليفة في العاشر من ذي القعدة في هذه السنة قال: ولما صفى للوزير عضد الدين أبي الفرج بن المظفر رئيس الرؤساء موارد النعماء، وامن من صروف الدهر نوايب الاعتداء تفرد بشغله وفاض عدله وفيض فضله واستكمل الري من نهله وعله، وتغاشت أبضار الملوك عن الصعود إلى محلة. وذهل وغفل والخطب غير فأفل وعزم على الحج لأداء فرضة وارتقى بحركته إلى سمائه وقد قرب سكوته تحت أرضه وكان من أمره فيما باح القضاء بسره انه سير الأثقال وقدم الرجال، وحسب الأرزاق ولم يحسب الآجال وخرج في موكب تعنوا له وجوه نجوم الأملاك وتخبوا لشمسه نجوم الأفلاك وهو يتجلى في بهو جلاله وهو حليته حالته كالبدر في هالته. وأمر أن لا يحجب عنه مظلوم ولا يمنع عنه مهضوم ولا يبعد ذو غصة ولا رافع قصة. فانه قد خرج من بيته إلى الله مهاجرا وإلى بيته الحرام سايرا فوقف له في مضيق غربي دجلة كهل فيه جرأة وكفر وجهل، وفي يده قصة عليها يتحدث وبها يتغوث وهو يصرخ ويقول لا اسلم قصتي من يدي إلا إلى يد مولانا الوزير فهو كهف المضيم، ومويل المستجير. فقال: دعوه ولا تمنعوه فاوما ليوصل قصته فانتهز فرصته وقرب نحوه وضربه بمدية وهتك حجاب روحه وغادره لقي بجرحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وبدر كمال الدين أبو الفضل بن الوزير فقتل قاتل أبيه بسيفه وكان مع ذلك الجاهل رفيقان فخرجا ومعهما سكينان فجرح أحدهما صاحب الباب بموافقة الوزير في شهادة الوفاة فعثا الملاحدة وقطعوهم واحرقوهم قبل دخولهم النار بالنيران وختم الله للوزير بالشهادة وفاز في عليين بالشهادة فاستقل ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر العطار صاحب المخزن بالدولة وكان لسلطاننا ظهيرا، وللملك الناصر نصيرا وكان الرسل قد مضوا إلى الوزير فلم يصادفوه وتولى ظهير الدين أمرهم فألفوه في الاعتناء بالأمر كما ألفوه. وكان المندوب في الرسالة القاضي ضياء الدين الشهرزوري فانه كان يترشح وبادريتها يتوشح ورأى السلطان فيه يترجح فتعين للرسالة وسار بقوة القلب والبسالة فلقي من ظهير الدين ما دنا به من الظهور وحصل منه على الوفر الموفور والعرف المشكور واقتضت المهام مقامه هناك عدة من الشهور، وكانت من الأنعام الامامى وظيفة داره، ومبرته به وبمن معه باره. وكانت ميماومته بالدنانير الأمامية تبلغ العشرين فازا انقضى الشهر تضاعف مائين وذلك سوى وظايف الطعام والعلوفة والأغنام وسوى التحف والهدايا والتشريفات وما وصله من الصلات سفر به وشرف من نقود النفقات كان السلطان قد نفذ معه على عادة انفاذه كل سنة إلى أعيان العراق وأمثاله واكارمه وأفاضله والعلماء والشعراء والمتصوفة من الفقراء عطايا وهدايا وخلعا وتشريفات وسنايا. وربما بلغ المبلغ الوفا يسري بها إلى ذوي المعروف معروفا. ذكرى مكرمة ههنا قال: جئت إلى الصفا بن القابض المتولي والخازن وقلت له أطلعني على أسماء الذين سيرتم إليهم العطايا على يد الرسول فتلقى قوله بالقبول فلما تأملت الدستور فقدت له: ههنا خمسة أسماء جماعة من الأصدقاء قد أهملت في العطايا فقلت له: ههنا خمسة أسماء لم يجر ذكر (193 ب) ويغتنم لهم حمد ودعاء وشكر فقال: كم نصيبهم فقلت مبلغ مائتي دينار فلم يقابل قولي بإنكار فوزنها وحدها وسلمها إلى عدنان النجاب وقال: الحق بها الرسول وخذ منه بها الوصول. فقلت له هلا استأذنت السلطان فقال قولك المقبول والسلطان لا يقول في هذا ما لا تقول. فصل من إنشاء الفاضل في مطالعة إلى السلطان النوبة الحادثة للوزير عضد الدين نوبة نابية راجعة فاجعة واعظة رادعة " وما ربك بظلام للعبيد" فقد كان عفى الله عنه قتل ولدي الوزير ابن هبيرة رحمه الله وأزهق أنفسهما وجماعة لا يحصى. من ير يوما يريه والدهر لا يغتر به وهو من ذرية لم تزل قاتلة مقتولة وما زالت السيوف عليها ومنها مسلولة فهم في هذه الحادثة المسمعة المصمة كما قال: دريد أبى القتل إلا آل صمة والأبيات المولى يحفظها وهي في الحماسة ومنها: أبى القتل إلا آل صمة أنهم ... أبوا غيره والغدر يجري إلى القدر قسمنا بذلك الدهر شطرين ... بيننا فما ينقضي إلا ونحن على شطر وقد ختمت له السعادة بما ختمت به له الشهادة لا سيما وهو خارج من بيته إلى بيت الله قال سبحانه " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ". أن المساءة قد تسر وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا أن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان الوزيرا هذان البيتان قالهما شاعر في أيام السفاح أبى العباس أول خلفاء بني عباس في وزيره أبى سلمى بن الخلال، وكان دعامة دولتهم وقام دعوتهم ولذلك قصة طويلة. ذكر عز الدين اقبورى وعوده قال: قد سبق ذكر الأمير عز الدين اقبورى بن ارغش وانه في نوبة قطب الدين قايماز خرج وخلى ببغداد من أمواله وذحايره القناطر المقنطرة فاعتنى به السلطان وكرر الشفعة في حقه ورد سناه من رضاء الديوان العزيز إلى افقه، وسفره بأمواله وسيره بإجلال، وسمع في طريقه باستشهاد الوزير فجبنت نفسه وزال بالعودة إلى بغداد انسه فلما وصل كتابه اخلف في أمره حسابه. من كتاب فاضلي في معناه. وما للمماليك حاصل الاهتمام به واستثبات النظر في أمره أمر الأمير عز الدين اقبوري وعودته وضعف نفسه وكان سبيله أن يتوكل ويقدم فان ذمة المولى ما كانت تخفر فيه والقاتم الآن مقام الماضي صاحب غير متهم المودة وبالجملة المخاطر كثير الخواطر ومالي غير هذا الرأس رأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ولقد ضربنا في البلاد فلم بجد ... أحدا سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتنا التي عودتنا ... أولا فأرشدنا إلى من نذهب وقال: فلو كنت تحصى ما وهبت من الندى ... تبينت ما تجنى عليك المكارم قال: ولما وصل الرسول إلى الموصل بلغه استشهاد الوزير فتوقف ووافق وصوله إليها وفاة ابن عمه القاضي عماد الدين احمد بن القاضي كمال الدين الشهرزوري. فصل من كتاب فاضلي في ذلك كله مكاتبة ضياء الشهرزوري بالإتمام لطيته والنفوذ لوجهته صواب، وعلم أيضا وفاة ابن عمه فسبحان من قارب بين الخلق في الأرزاق والآجال. يدلى ابن عشرين في قبره ... وتسعون صاحبها راتع اغتبط الولد مع نضا ... رة الشباب المقتبل وعمر الوالد مع ذبو ... ل المشيب المشتمل ليعلم أن الشباب ليس بمسلم ... وان الشباب الغض ليس بمانع وليكون العبد حذرا من نعيات الآجال في كل الأحوال، والله تعالى يطيل للمولى العمر كما أطال له في القدر ويسمع منه ولا فيه ويبقيه سندا للدين الحنيفي فان بقاءه يكفيه. (194أ) ذكر الأمير شمس الدين بن المقدم قد سبق ذكره وانه من أكابر الأمراء المقدمين وله سوابق وموات وشوافع وحرمات، وهو السابق إلى مكاتبة السلطان في تصويب رأيه إلى الوصول إلى الشام وتدارك أمر الإسلام، وان السلطان لما تسلم قلعة بعلبك انعم بها عليه فأقام بها مستقرا، ولما وصلنا في هذه نوبة إلى الشام لم يحضر كما جرت العادة للخدمة والسلام فانه انتهى إليه أن الملك المعظم شمس الدولة طلبها من أخيه وانه لا يمكنه الرد في نحر مباغيه وعلم انه إذا احضر حظر عليه العود وكوتب مرارا سرا وجهارا فأبى إلا الإباء وشارف السلطان منه ومن أخيه الحياء، ومكث طويلا عسى إن يجمع بين القلوب ويدفع ما لزم من الخطوب وهو في ذلك يستعين بالله في هدايته إلى الصواب. وفي هذه السنة اربعنا عن مخيم السلطان بتل حارم من الشعراء ونزلنا منها بالعراء والعشب واص والخطب قاص والزمان غير عاص، ونجح الآمال غير متعاص والمرعى مريع وشمل المسار جميع ولله في الإحسان إلينا صنيع نصيع وروض لنا وسيع وشيع. ودخلت سنة أربع وسبعين والسلطان في أمر بعلبك مفكر, والرسل بينهما إلينا رايح أو مبكر وشمس الدولة أخوه لا يقبل عذرا ولا يرى عما طلبه صبرا, وكانت سلطنة الشام له فلما وصل السلطان أخذت عقوده في الانحلال وأموره في الاختلال فأراد موضعا ينفرد بحكمه, ويجري فيه من طيب عيشه على رسمه فلم يتعين له سوى بعلبك فطلبها والسلطان يريد أن يحفظ قلب ابن المقدم فكلما رفق به عنف, وكلما أستأنف معه لاستمالته عزف فما زالت الموارد الصافية تتكدر والضماير السهلة تتوعر حتى استأذن الملك المعظم في التوجه إلى بعلبك فأذن له وعقد بها أمله وقصر على تسلمه عمله. وتوجه عز الدين فرخشاه إلى حوران لحفظ الثغور ورعاية الجمهور وسرنا إلى حمص ونزلنا على العاصي لاستدناء الآمال القواصي العواصي. فصول من كتب فاضلية وردت في أوايل هذه السنة. فصل له من كتاب فأما المتحصن بقلعة بعلبك فقد ضرب بينه وبين السعاد بحجاب, وصرف عن باب الخير وهو باب مولانا الذي ما بعده سوى لله باب وقد خدعه الرأي الذي تبعه وولاه النظر الذي دله. ولو هدى لصوابه ووفق لرشاده فتحت له أبواب الإنابة ومهدت لدعائه أسباب الإجابة قبل أن يحق عليه الكلمة وتشتد عليه حدب الحكمة, وتخبطه الأرجل خبط السلمة. فصل آخر من كتاب آخر في المشورة والفكر المملوك يقول: إن كثرة الشك محاماة عن اليقين المعتقد, وكثرة أمن من تطرق الرأي المستنقد وأنه لا تنال الزبدة إلا بالمخض ولا يتأكد الإبرام إلا بعد النقض, وإذا تكرر صقل السيف كان التكرار أظهر لجوهره, وإذا تكرر سقي الغصن كان أخرج لثمره ولاسيما وكل أمر ابتدأ به المولى واستدركه ونهى عنه ثم أمر به لم يفت منه فايت ولا خرج عن اليد منه خارج. فصل آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 لاشك أن المولى تغرق الجبال في بحره, وتضيق العظايم في سعة صدره, وهذه عادة الخواطر والله سبحانه قد أشرك بين الخلق فيها ولكنه عند الصواب أفرده. والملك فيما يرد عليه منها بمثابة الشجرة فيما يرد عليها من مائها ما يتنقى صفوه تستسيغه فينبو عن قذاه فتمجه وتلفظه. ومن أمثال العرب رب عجلة تهب ريثا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان الخرق في شيء إلا شأنه ". ولعمر والله أن الفرص إذا لاحت لا يحمد الرفق فيها وإنما يحمد إلى أن يلوح مضاربها ويحمد مطالبها. والله تعالى يقدر المولى على نيل أعراضه ويسدد سهمه لطابقة أغراضه. فصل آخر المولى عفيف إلا أن نوابه والمشارف مأمون إلا أن كتابه إلا أنه غير متصرف. ولكل شرع آفة موجودة ... نور السراج على سراه يدخن فصل آخر وأما سور القاهرة فعلى ما أمر به المولى شرع فيه والله يعمر المولى إلى يراه مستديرا على البلدين, وسورا بل سوارا يكون به الإسلام محلى اليدين محلا الضدين والأمير بهاء الدين قراقوش ملازم الاستحثاث بنفسه ورجاله لازم لما يعينه بخلاف أمثاله قليل الثقيل مع حمله لأعباء التدبير وأثقاله. فصل آخر في حق نقل القضاء (194 ب) من شرف الدين إلى ابنيه. أما ما أورده المولى دفعة وثانية في معنى الحكم بدمشق فالمولى متوقف في مقاما لتوقف متردد في مكان التردد ولن يخلو الأمر من قسمين والله يختار للمولى خير الأقسام. أما إبقاء الأمر باسم الوالد بحيث يبقى رأيه ومشاورته وفتياه ويتولى النيابة ولداه ويشترط عليهما المجازاة لأقل زلة وترك الإقالة لأقل عثرة فطالما بعث حب المنافسة الراجحة على اكتساب الأخلاق الصالحة وأما أن يفوض إلى الإمام قطب الدين فهو بقية المشايخ وصدر الأصحاب ولا يجوز أن يتقدم عليه في بلد إلا من هو أرفع طبقة في العلم منه. فصل آخر من كتاب في معنى أخيه شمس الدولة وأما المولى المعظم وما قام به من المغارم الجليلة وحمله من التكاليف الثقيلة فالمولى لا يحاسبه فيما يعطيه فإنه إذا أعطاه فقد جعله واسطة بينه وبين سليليه. وقد كان معاوية أجاز عبد الله بن جعفر بعشرة آلاف ألف درهم فقيل له فيها واستكثرت فقال: إنما أعطيت بني هاشم وبني أمية وأهل الحرمين فلم يعد عبد الله إلى بيته إلا بعد أن تحمل خمسة آلاف درهم دينا والدين داء يصيب إكرام ويسلم منه اللثام ولو كان ما يفعله المولى المعظم فعل صديق لوجب أن يفدى بالحداق فكيف فعل أخ لا يجري المماليك مجراه في التوفيق والوفاق. فصل في ذم ملء دمشق عرف المملوك من الكتب الواصلة التياث المولى الأمير عثمان والحقير مما ينال ذلك الجسم الكريم يؤثر في قلوب الأولياء الأثر العظيم وقليل قذاة العين غير قليل وماذا يقول في بلد لو صحت الحمية من مائة لكانت أكثر من أسباب صحة المحتمى وشفائه فإنه ماء يوكل وبقية الأمواه تشرب ويجد وخامته من ينصف ولا يتعصب ونرجو بكون هذا المولى قد أمسك عن الفاكهة الدمشقية التي لا يخفى كثرة فضلاتها وعن أكل اللحوم المجلوبة التي نقلها سير الطريق إلى شر حالاتها. فصل آخر والعرب جنس كالحنظل كلما زيد سقيا بالماء العذب أفرطت مرارة ثمره وعزت نضارة خضرته. فصل آخر وأما الحديث ملك النوبة فإنه من أن يسخى بحجر لنباحه أو يشمر عن ساق لخوض ضحضاحه ولو أن شرارة من زند العزم أو ريشة من ريش السهم هتفت إليه لذاق وبال أمره وعرف بقدر وجهه الذي هو أشد سوادا من قدره. ومنه إذا وصلت من المولى رفقة نجابين فكأنهما عسكر نجدة قد بشرت وإذا فض منها كتب فكأنها الوية فتح قد نشرت ورسله وكتبه بالإضافة إلى شغله, ومهماته كثيرة ولكنها بالإضافة إلى تطلعنا وتشوقنا قليلة. وما استكثرت في اليوم منها ألفها ... وواحدها في الحول منك كثير وكتاب المولى إلى المملوك مزينة سماؤه من حروف خطه بمصابحها, ومفتوحة له أبواب السعادة من أسطره بمفاتيحها. فلا عدمت عيناي كاتبه الذي ... له الفضل مكتوبا إليه وكاتبا صبحت به والله أعظم نعمة ... فلا زال مصحوبا ولا زالت صاحبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فصل آخر في معنى إزالة المنكرات أما المأمور في معنى المنكرات الظاهرة وإزالة أسبابها وغلق أبوابها وتحصين كل مهتوكة من عصمة وتطهير كل موصومة فالله يثيب المولى ثواب من غضب ليرضيه بغضبه وحمل الخلق على منهاج شرعه وأدبه. وقد أستدعى الملك العادل أحد الواليين وسلم إليه ما كوتب به من مولانا وأسمعه الأنكار العنيف. وأشار المخاطب إلى جهات تحمي بيوت المنكرات. فقال لو استقام العود لما إعوج ظله ولو تنتهي أنت لانتهى غيرك, ولكنك ملجم عن أنكارها لأنك شريك فيه وأجيب إلى أن يرتب من الأصحاب العادلية من يغلق مواضع الخنا ويحجر على فواسد النسا. وما وقفت خواطر العصيان عند الزنا إلا أن زادت مصحفة وهو الربا فلا حول ولا قوة إلا بالله من محارم فيه منتهكة, وكاسب قد نزع الله منها البركة, ومروات قد سقطت ووجوه قد توقحت وأموال قد تحرمت وشريعة منه قد خولفت نشكو إلى الله دنيا لا نحن نتركها ولا نحن ندركها. غدارة بالناس غرارة قريبة العرس من المأتم (195 أ) وليس لحوادثها ونوايبها قرن إلا التقوى والله المسئول أن يوفر منها حظ المولى وأما فلان فإنه بطل كثير السر والحيلة والمال والرجال فلا يحتقرنه وبعد أن أيقظه فلا ينم عنه والحيلة في بعض الأوقات ترجح على القوة على أن الساعي مخذول ومن سل سيف بغي فهو عما قليل به مقتول وواجب أن يظهر العذر. فما أحسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من ساير الناس عاذر وإذا اقترن بكل مل يريده المولى حسن النية كانت العاقبة للتقوى على أن المولى ظاهر عذره والمشار إليه ظاهر ذنبه ومكره, قال الله سبحانه وتعالى في مثل المولى " ولمن انتصر بعد ظلم فأولئك ما عليهم من سبيل " وقال حاله مثل حاله: "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله" ورب سبيل بدؤه مطير ونعم السبيل إلى الخير نية الخير قال: وإنما أوردت الفصول الفاضلية لأن في كل فصل منها ذكر سيرة وفيها فوايد كثيرة وبواعث للخواطر مشيرة, وفيها أحاديث وأعاجيب الاوهات والدمايث. ذكر ما أسقطه السلطان من المكوس بمكة شرفها الله قال: كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حاج المغرب على عدد الرؤوس ما ينسب إلى الضرائب والمكوس فإذا وصل حاج حبس حتى يؤدي مكسه ويفك بما يطلبونه نفسه وإذا كان فقيرا يحبس وتفوته الوقفة بعرفة. فقال السلطان نريد أن نعوض أمير مكة عن هذا المكس بمال ونغنيه عنه بنوال وإن أعطيناه ضياعا استوعبها ارتفاعا وانتفاعا ولا يكون لأهل مكة فيها نصيب فقرر أن يحمل إليه في كل سنة مبلغ ثمانية آلاف أردب قمح يحمل في جلابها إلى ساحل جدة ويهدي بها إلى أهل الحجاز وجدة فإن الأمير بها يحتاج إلى بيعها للانتفاع بأثمانها وأهل الحرمين يثقون من الدولة بدوام إحسانها وقرر أيضا حمل جلاب الغلات إلى المجاورين والفقراء بها من الشرفاء فسقطت المكوس واغتبطت النفوس واستمرت النعمة ومر البؤس وذلك في سنة اثنتين وسبعين. فصل من كتاب فاضلي في المغنى ومن البشاير التي عهد لملك من ملوك الديار المصرية بالحصول على فخرها وأجرها انقطاع المكاسين عن جدة وعن بقية السواحل ويكفي أن تمام هذه المثوبة موجب للاستطاعة مقيما لحجة الله في الحج فقد كانت الفتيا على سقوطه مع وجود الحامل ووصلت كتب من مكة تضمنت أن القمح ويبه وربع بدينار مصري وأن الغني في شدة وأن الفقير هالك وأن هذه الجلاب بمشيئة الله قدرة من قدره " يحيي العظام وهي رميم " وفرج عظيم انتهى إلى البلاد بعد أن تناهى الكرب العظيم والله تعالى يفرج عن أهل دينه ضايقات الكروب ويفك عن أهله حيرة حلقات الكروب قال واستمر مقامنا بالمخيم بظاهر حمص والسلطان يصمم العزم للجهاد ويجد الحرص قال ذكر الحوادث في هذه السنة ونحن بحمص ومنها وفاة المهذب أبي الحسن علي بن عيسى المغروف بابن النقاش البغدادي بدمشق في المحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 قال: وأكن المهذب كنعته مهذبا ومن الملوك لنفرده بفضله مقربا وهو في وقته مبرز ولملك الشام بمحاسنه مطرز ومنها وفاة نجم الدين بن مصال في الثامن عشر من جمادى الأولى وقد جاءنا نعيه ونحن بحمص فزاد اغتمام السلطان برزئه حتى جاز حده وجلس في بيت الخشب مستوحشا وحده وقال: لا يخلف الدهر لي مثله صديقا بعده وأجرى ما كان له جميعه لولده وحفظ عهده وكان لجماعة من الأعيان والشعراء والأدباء بعنايته من السلطان رزق فأباه عليهم كأنه عليه حق مستحق ومن جملتهم رجل من أولاد أبي حصينة فلما توفى المذكور قصدني فقلت للسلطان لو أن نجم الدين بن مصال كان حيا وشفع إليك في رزق مستحق أما كنت تقبله فقال بلى فقلت فاقبل شفاعته وهو في دار البلى ثم ذكرت له ابن أبي حصينة وصداقته النجمية فضاعف أدراه واذهب عنه إقتاره. ذكر الظفر بخيل ورجل للفرنج أغارت على بلد حماه في العشر الأول من شهر ربيع الأول (195ب) قال: وكان متولى عسكر حماه الأمير ناصر الدين منكورس ابن الأمير خمارتكين صاحب حصن بو قبيس، وكانت طايفة من الفرنج ومن انضم إليهم من ذوبان الكفر قد ألهبوا الأعمال بنارهم وألهبوها بغوارهم. ولكم أغاروا على غرة وامتاروا مرة بعد مرة. وكانت لحماه مع ناصر الدين عدة معدودة لا تبلغ مائة فعرف القوم أن أعمال حماه شاغرة فنهضوا في جمع جم فخرج إليهم ناصر الدين في عدته وعدته وتوكل على الله في نصرته ونجدته وصحنهم بثقالة ونطحهم بكباش رجاله واخذ عليهم المضايق وصوب إليهم البوايق فوقعوا في فخاخه وفنيت شغلهم جاء إلى الخدمة السلطانية بمنقبته مستقلا وبنهضه مذلا وساق أولئك الاسارى والأغلال في أعناقهم والآجال آخذة بارماقهم فركب السلطان في اليوم الحادي عشر من شهر ربيع الآخر ووقف راكبا ووقفنا راكبين وحضر الأمير منكورس وترجل ولثم الأرض وتقدم وصافح السلطان وقبل يمينه بعد أن عفر بقدمه جبينه ثم احضر الأسارى من الفرنج والنصارى " كأنهم سكارى وما هم بسكارى" فأمر بفتح أغلالهم وضرب أعناقهم وان يتولى ذلك أهل التقى والدين من الحاضرين وان يكون هلاك المشركين بأيدي الموحدين " فأعتق أمامه الضياء الطبري إلى برى عنق وتلاه الشيخ سليمان الديري" المغربي وتلاه آخرون وكان الأمير اقطفان بن ياروق حاضرا فتقرب إلى الله بضرب رقبته احد أعدائه. قال: وجاءني في تلك الحالة رسول من السلطان يدعوني فظننت انه لمهم لا يكفيه غيري ولا ينهز به دوني ولما أجبته وهو يقول جرد سيفك لهذا الكافر وخذ به ما يشتمل على سمعه وبصره فقلت أنا للقلم ولا أزاحم السيوف، وانشر الفتوح ولا أنشئ الحتوف ولكن هب لي ذلك الصغير لأملك رقة وغيري ينوب عني في ذلك الأسير فيضرب عنقه فتبسم فعاينت منه الضحوك القتال وأقالني وأجاب في النوال السؤال فقال: هذا الصغير نسفتك به من المسلمين أسير ونهب لك من سبى الأسطول بمصر مملوكا كما تؤثر أثيرا فانتهزت الفرصة وأحضرت دواتي ودرجي واستعنت بالأمير عضد الدين مرهف بن مؤيد الدولة أسامة بن منقذ فكتب لي توقيعا وأخذت فيه علامة السلطان. وأما نزلت حررت إلى المولى الفاضل رسالة في المعنى ووصفت المملوك المطلوب بأوصاف يتعذر وجودها فسير لي في جوابه مائة دينار مصرية عن المملوك عوضا. وقال رأيت تحصيل غرضك مفترضا والرقيق الذي احضره الأسطول ما فيه يوافقه وجودهم يساوي ثلاثين دينارا وما رأيت ذلك مختارا وقد أخذت من الديوان عن المملوك خمسين وعن الخزانة العادلية ثلاثين ومن خاصتي عشرين فأثمر قلبي بما عف عنه السيف وما ضيعت اللين أما جاء الصيف ولو أرقت الأحمر وإنما أعرضت عن ذلك مخافة أن يضحك مني ذلك الجمع كما ضحكوا مني الباقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 قال: وعاود السلطان ذكر بعلبك وأشفق عليها وأزمع أن يسير إليها وخل فصل الخريف ومالت الطباع إلى التحريف واصفرت الأوراق واغبرت الآفاق وقد تشاجرت عواصي العواصف مع الأشجار وألقت حواملها لجنة الإثمار ونشا النشاص وربا الرباب وسحب ذيل نيلة السحاب وارتجت الأرض وارتجت السماء ووصلت النار وهجر الماء وقال الأمر لسلطان هذا أوان الانصراف ووقت الانحراف فقال قد بقيت في النفس حاجة بعلبك نقضيها وعزيمتنا في تسلها نمضيها فان المتحصن بها بحكم هواه متصرف وعن أمرنا متوقف، فنحضره ونحصره ونعظه ونوقظه وان أهملنا أمره فربما اطمع فينا الفرنج وأفضى بسر الشر إلى الجهر على أن حق ابن المقدم متقدم ولا شك انه متندم ودينه قوي ويقينه روى ولعله لا يحوجنا إلى المطاولة ولا يخرجنا إلى المنازلة فسرنا على طريق الزراعة وجينا وراسلناه بالاستعطاف والاستعفاف وداريناه لشيخوخته كالأطفال بالألطاف. وكان نزولنا بظاهر بعلبك على رأس عينها وطالت الإقامة عليها اشهرا. واطلج المذكور في ليل لجاجة فلم يبد في سفارة منه واليه صبحا مسفرا ونحن نشفق من نزاله ولا نصدق (196 أ) في قتاله ونرفق به على عنقه في أحواله فتارة نخوفه فيتجلد وتارة نرعبه فلا يجيب بل يتبلد. ودخل الشتاء ووقع الثلج ومتلا به ذلك المرج وأصبحنا وصباحنا ابيض، وجناحنا لا ينهض والعروق لا تنبض والبروق لا تومض وتانيران مقرورة وشباه الجليد مطرودة والزناد كابية والأجناد ايبة ونحن كأننا من ضيمنا في حبوس وقد جمدنا كأننا بلا نفوس فلبدنا على المرابض في مضارب اللباد وكنا في الاكنان حول الكوانين كانا في صوامع العباد نطري افلاذ الأكباد بشي افلاذ الأكباد فعلى المناقل الشيشات شريح، وللاقتراحات على الطهارة قرايح وللسلطان في كل بكور ركوب للصيد وله طرايد وطرايح فما الذي شتوة وأهناها نوبة لم نر لها نبوة لكانها كانت غفوة لم تذكر للدهر لولا انقضاؤها هنوة وهيهات أن ترى بعدها في طيب عيشها عيشة أو غدوة. ذكر مكرمة للسلطان قال: كتب إليه النواب بدمشق أن الأموال ضايعة وان الأطماع زايغة وقد أفنى الجود مجموع الموجود، وأنا عند الاحتياج إلى كف ملم ودفع مهم لا نجد ما ننفقه وان في أرباب الصدقات أغنياء لا يستحقونها وما لهم رقبة من الله وان المصلحة تقتضي أفراد جهات لما تسنح من مهمات فأمر بهم في كتابه يكتب مؤامرة فجاءت مطالعة مكملة بالأسماء مفصلة. فقال لي السلطان: أقراها علي فبدأت بذكر أرباب الصدقات، وقدمت ذكر جهتهم على الجهات، وكان مبلغ احد عشر ألف دينار للصدقات وقدمت ذكر جهتهم على الجهات، وكان مبلغ احد عشر ألف دينار للصدقات في مثل دمشق قليل والعطاء بحمد الله جزيل والصنع جميل فقال اكتب عليها جميعها بالإمضاء ولا يكدر على ذوى الآمال موالي العطاء. فقلت أما أتلو بقية الأسماء فقال بل نزهني عن الأشياء فبقيت تلك الرسوم دارة وللآمال سارة بل تضاعفت على السنين أضعافا واستضافت آلافها ألافا ولما طال المقام على حصر بعلبك لم ير السلطان مقابلة المسلمين فيه ولا كسر الناموس فرتب طغرل الجاندار وجماعة معه يكفون من الرجال ووصاهم بالا يتعرضوا للقتال بل يمنعون من الدخول والخروج ووصلنا دمشق في العشر الاواخر من رجب، وتمادى الأمر إلى أن رضي ابن المقدم بحصن بعرين وإعماله وببلد كفر طاب واعيان نواح وقرى من بلدة المعرة، وكان الذي اخذ أكثر وانفع مما خلاه وما خطر بباله وما حصل له ولا ترجاه ولأتمناه. قال: وسألني السلطان أن اعمل أبياتا يكتبها إلى مصر فقلت: يا ساكني مصر لا والله مالكم ... شوقي الذي لذعت قلبي لواعجه أصبحت أطلب طرق الصبر اسلكها ... هيهات قد خفيت عني مناهجه ذكر المقياس بمصر هذا المقياس موضع مبنى في عهد خلفاء بني العباس ليعرف زيادة الماء ونقصانه بالقياس، وهناك عمود في الماء مقسوم بالأذرع، والأذرع مقسومة بالأصابع في مسجد ينوب في الجزيرة عن الجامع تصلي فيه الجماعات والجمع ويتولاها من العهد القديم متولي من بني الرداد من وهو معروف بالنزاهة والعلم والسداد وله راتب دار ورسم وقرار وخلع وتشريفات في المواسم وحرمة متوالية المعنى سامية المعالم. ذكر حديث حصن بيت الأحزان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 قال: كان السلطان على بعلبك نازلا ولتسلمها محاولا وطال مقامه عليها فانتهز الفرنج فرصة الخلو واستخلوا عصر العتو وجاءت الداوية منهم وشرعوا في بناء حصن على مخاضة بيت الأحزان واحكموا بناء ذلك المكان وكان يقول للسلطان متى احكم هذا الحصن تحكم على الثغر الإسلامي الوهن وغلق الرهن فان بينه وبين دمشق مسافة يوم فيقول إذا أتموه رحلنا وهدمناه إلى الأساس وجعلناه من الرسوم الادراس فندعهم الآن حتى يستنفذوا بقية أحوالهم وينفقوا عليه أموالهم ويتعبوا (196ب) رجالهم فإذا قصدناه عكست آمالهم والحينا نالهم فنقول منعهم من الابتداء أسهل من الدفع في الانتهاء. وإذا فات الفارط لا يستدرك وهو الآن هين فلا يترك وهو صابر بقوة دينه، ساكن بنور يقينه فان العاقبة الحميدة بعد سنة كانت كما جرت على لفظة من عدة حسنة. فلما انفصل أمر بعلبك لم يزل أمر الحصن من همه وقصد حصاره في عزمه وكان العام مجدبا والجدب عاما والشام لروايح الحوايج شاما وللأسعار أسعارا وللأسرار استشعار وللضر استضراء وللشر استشراء، وعلى العباد من ثقل المحل أعباء وللرجال من لطف الله تعالى رجاء على اليادي السلطانية نابت عن الأنواء ونادت في الأندية بالانداء فرتعنا من إحسانه في مرعى مريع وشرعنا في سلطانه من منبع منيع. ذكر وصول رسول دار الخلافة قال: ووصل في هذه السنة رسول دار الخلافة بالعارفة والعاطفة والرافة، وهو الاجل فاضل أفضل الخدم، وهو خاص الجهة الشريفة مخصوص بالمنزلة المنيفة، وسر السلطان بوصوله وحل كل بجح بحلوله وببركات ذلك رخصت الأسعار ونقص الإعسار وتفرجت العيون وتفجرت العيون وسكن القرار، وقر السكون. كان الرسول كريما أكنه في سواده إنسان عين كله نور وبالحسن والحسنى مشهور وزرته فالفته طلق الوجه بشرا واليد برا فلما خرجت من عنده سير لي من هداياه وألطافه وتحفه وفرا، ولم يدع أحدا من أكابر الدولة إلا وحباه بحباته، وحياة من حيا سحبه وكانت الجهة الأمامية مالكة قد ملأت يده بمال وافر ليصل ويعود بوجه سافر فما رأيت رسولا وجه في وجاهته ونباهته وهمته ونزاهته وشغف السلطان به وكلف بقربهوا ستصحبه معه إلى الغزاة وشن الغارة على العاة ووقف به على الحصن الذي استجده الفرنج على المشهد اليعقوبي وكان السلطان بهذا الرسول الأمامي مغتبطا واليه في كشف أسراره منبسطا ولما جهزه ليعود بالعطايا السنايا والخيل السبايا فرقها قبل قفوله ومن جملة ما حمل له بغله شهباء موصوفة لا يوجد لها نظير كأنها السرج هضبة من ثبير. وكان رسولنا ضياء الدين بن الشهرزوري عنده حاضرا. وقال كنت على عزم طلب هذه البغلة من السلطان وقد فرحت لك منه بهذا الإحسان فقال: أنت أولى بها وبما معها. فأخذتها منه بما تبعها وفيها حصان عربي منسوب وحجرة ما لها قيمة وكان إذا أهدى له باقة ريحان حزاها بخلع حسان، وانفصل منتصف ذي القعدة بالإكرام موصولا وبالإعظام مشمولا. ذكر نوبة هنفرى ومقتله في أواخر هذه السنة قال: وكانت الأخبار قد توالت على الأسنة جواسيس الفرنج أنهم على عزم الخروج فتقدم السلطان إلى ابن أخيه عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه وقد قدمه على عساكر دمشق أن يخرج على الثغر في عسكره ويرتب كلا في مركزه محترزا في مورده ومصدره. وأقام مدة واستكمل عدة فلما كان مستهل ذي القعدة من هذه السنة تواترت الأخبار بخروجهم على الألسنة فجرى من النصر الذي لم يحتسب والنجح الذي إلا بعون الله لم يكتسب ما وصفته في كتاب إنشاته عن السلطان إلى الأجل الفاضل ومنه: قد سبقت المكاتبة بما سناه الله وأسناه من النصرة الحلوة وذلك يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة فانه فضل بنصرة خميس الإسلام على كل خميس وضيق على الأسود السود من بني الأصفر كل عريس وخيس، وأثمر من ورق الحديد الأخضر في مربع الموت الأحمر منهم براس كل رئيس. وكان الإرجاف قد شاع بخروجهم منذ أيام والظنون مرتابة والقلوب مرتاعة، والفكر غير حاضر لان السنة جدب ومجاعة وليس في مقابلة الفرنج في ذلك الثغر إلا ولدنا عز الدين وهو في عدة من عسكرنا المنصور لا تبلغ ألفا وهو معرض بإرسال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الحمام عند علمه بخروجهم لنخرج إلى لقاءهم فأمرناه ان يجفل البلد وان ينور الآكام وينذر وانه لا يلقاهم بل يتوقاهم ولا يخاطر بالجماعة الذين معه بل يحمى بهم ويتحاماهم وفي كل يوم يرجف برجفتهم وهم متمادون متباطئون وعلى مجافلة البلد متواطئون فلم يشعر مقدموا الطلايع ذلك اليوم إلا وقد خالطوا القوم فتحيزوا عنهم إلى الفئة وهم دون المائة فاخرج ولدنا الرماة (197 أ) الكماة وقدمهم إلى العداة العتاة ليشغلوهم ساعة ويحولوا بينهم وبين طعان الحرب الجافلة، ولم يكن في زعم العزم إنهم يستدرون أخلاف النصرة الحافلة واستمرت المراماة عند تل الجارة وطلب أصحابنا طلب الملك فما تركه مماليكنا الترك حتى ولو طرحوا وجرحوا فرسانه فحمل طلب هنفرى ليحميه وأبي الله انه كما رمى الملك إلا ان يرميه وقتل دونهما برهان صاحب الناصرة ونجا الملك يجر معه الذقن وقد تجرع كاس الشجب والشجن، وحمل هنفرى جريحا وأودع بعد يومين ضريحا وما زالت الرماة يرمونهم ويرامون ويدانون حتى نقصت الكماين وانفضت الضغاين وكانت نصرة اثيلة ونوبة أثيرة، وثورة من أعداء الله في تلك الفورة مستثيرة وحالة صدقت قوله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبن فئة كثيرة) وتم هذا الغزو ولم يتم مدد العسكر الغربي ورجع الفرنج من الخزي بذلك الزى وآذنتنا بطاقة الطير في دمشق ذلك اليوم بكرة بكرتهم وبادرنا الخروج لدفع مضرتهم وكشف معرنهم فما وصلنا إلى الكسوة إلا ورعوس رعوسهم متوافية والبشاير دانية وألطاف الله كافية والشغف بحمل السعف إلينا زايد والواحد لثلاثة وأربعة من الاساري قايد. ذكر مسير شمس الدولة إلى مصر قال: وكان الملك المعظم فخر الدين توارنشاه بن أيوب قد ملك اليمين فلما ملك السلطان دمشق بعد نور الدين رحمه الله كتب إليه في اليمين بالتشوق والاستيحاش بالوحدة فجاء سنة إحدى وسبعين فسر بقدومه. ولما عزم السلطان المسير إلى مصر في سنة اثنتين وسبعين لتجديد العهد بملكها عول على أخيه هذا في السلطنة بالشام وفوض الأمر وولاه تولية مطلقة وكان بحرا في الجود مواجا يغني بواصله من الوفود بعد الأفواج أفواجا وراسله الملوك وتواصل إليه من الإطراف والأوساط السلوك. وكان الملك الصالح إسمعيل بن نور الدين رحمه الله مستقرا في حلب فيمن بقي معه من مماليك أبيه فجرى معه شمس الدولة على الوفاء والوفاق وسبيل الإشفاق. وأقام السلطان بمصر إلى يوم عيد الفطر من سنة ثلاث وسبعين ثم رحل عايدا إلى الشام ولما عاد إلى دمشق جرى على عادة سلطانه وأمره ونهيه وانقطع شمس الدولة إلى مواصلة لذاته وانتهت إحكام سلطانه فاقترح على أخيه تسليم بعلبك إليه والأنعام بها عليه فتسلمها له من شمس الدين بن المقدم على ما سبق فانتقل إليها يتصرف فيها ولما عن المحل رأى السلطان أن يستدعي من عسكر مصر مقدمين يتقدمون في عدة منتخبة ورأى ورأى أن الشام لا تحمل إثقال العساكر الكثيفة فرغب أخاه شمس الدولة بما زاده من الديار المصرية في قصدها وانه يجدد بسعده سعدها وكان رحيله من دمشق بعد صلاة العصر في قصدها وانه يحدد يوم الجمعة لست بقين من ذي القعدة وصحبة كثير من التجار والرجال والنساء والأطفال. قال: وكتبت عن السلطان كتابا منه قد بان له وجه الصواب في استدعاء عدة متوسطة من إنجاد العسكر المصري الإنجاب بحيث يخف وطؤها وتثقل في العدو نكاؤها فتكتب إلى أخينا الملك العادل بمصر ان ينتخب لنا من الأقوياء بالخيل والعدة ألفا وخمسمائة فارس واشرنا على الملك العظيم بالتوجه إلى مصر مستصحبا معه من طال بالشام بيكارة وبان انفاضه واقتاده ورأينا المصلحة في مسيرة لمنافع كثيرة وفوا يد أثيرة منها التخفيف عن الشام في مثل هذا العام وذلك بعد ان رتب في بعلبك نوابه واقطعها أصحابه. ومنها أن في وصوله إلى مصر وقد خرج منها عسكر اسما كبيرا وصيتا عظميا فان الإرجاف شايع بأسطول صقلية المخذول وخروجه ووصول أخينا يكسر من عزم العدو ويحطه من ذروة العتو. ومنها انه إذا أقام بالقاهرة تصرف أخونا الملك العادل في البلاد بعسكره وعذب صفو مقصده في مورده ومصدره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قال رحمه الله: وفي هذه السنة غدر ابرنس إنطاكية وأغار على خشير شيزر وغدر القومص بطرابلس بعد الأمان بجماعة من التركمان فان الإفرنجية اجتمعوا وقالوا: الصواب ان نفرق عسكر الإسلام في ثغوره بالارغاب والإرهاب فإنا إن هادناهم من جانب توفر عسكرهم من الجانب المجانب وتجرد لأصابتنا بالمصايب فاقتضى الأمر أن رتب السلطان ولد أخيه تقي دين في ثغر حماه ومعه شمس الدين بن المقدم وسيف دولة على المشطوب وصاحب شيزر بعسكره محتاط في مورده ومصدره وأمرهم بالاتكثار من (197ب) الرجال واستخدم نخب الأبطال ورتب ناصر الدين محمد بن شيركوه في حمص في مقالبة القومص. وكلهم مأمور بالتنبيه بكل صوب والاصاخة إلى كل صوت رابض في مكانه وإذا أحس بدناه وثب عليها ممسك بعنانه وإذا سمع هيعه طار إليها. قال: وبعد توديع السلطان أخاه شمس الدولة أغار على بلاد الفرنج لمشاهدة الحصن الذي بنوه. فصل في معناه قصدنا البرج ونازلناه وما زلنا نقاتل حتى أزلناه واحتموا بباطنه فما خرج احد رأسه وسنعود إليه بعون الله ونقلع أساسه فصل آخر وأما الإطراف فان ملوك ديار بكر إلينا ملتجون ولنا مرتجون ومن سلطان الروم مستشعرون وبسلطاننا مستظهرون ووصل رسول سلطان الروم قلج أرسلان يعف لنا صفاه ويوفينا وفاة ويعرض وده ويعرض بما عنده وقد توافر اجتهادنا على أن نستميل كلا إلى الجهاد ونجمع شملهم على الاتفاق والاتحاد والله تعالى يوثق لنا مواثق رضاه من أمر رحيل هذا المرام وامراع مراد هذا المراد. قال: وانتقل السلطان إلى الشعراء وخيم في مروجها وسام الخيل في اكلاء خروفها وخروجها ولما تطوحت الأعشاب وصوخت الشعاب وانتقل إلى بانياس وقد وفد من البوادي من جرى بسيله الوادي فرام أعتاب البرية وأعراب البرية وقال: هؤلاء إذا اكتالوا السنة من الشام بلى العام بالمحل العام وجمع عنده الجموع فبلغت الخيم إلى حدود بلد الكفر وكان في كل يوم يركب وفي خدمته الخواص ويظهر أن غرضه الاصطياد والاقتناص ثم ينزل على النهر ويجرد فرسان الجلاد والقهر ويسير قبائل العرب إلى بلد صيدا وبيروت حتى يحصدوا غلات العدو ويجمعوا القوت وما يبرح مكانه حتى يعودون بجمالهم وأحمالهم موثقة بأثقالها حتى خف من زرع الكفار بالقرب ولم يحصل من ذلك كفاية الغرب. وأشفق على الناس وجمع الأمراء وشاروهم في الأمر وقال: قد علمتم غلا الغلات وإقلال الأقوات وظهور أعراب البادية وخفاء الأعشاب البادية وما كان بالقرب من غلات العدو وزروعه استجناه واجتحناه ولم يبق إلا أن تنهض عساكرنا بالنوبة ونقيم بقوتها إلى حين الأوبة فأجابوه بالسمع والطاعة وما زالت المقانب تنهض والطلايع على مراكزها تربض والمزارع تحصد والمواضع تقصد والثمار تصرم والضرام تضرم قال: ودخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة والسلطان صلاح الدنيا والدين نازل على تل القاضي ببانياس وقد عم بالإيناس الناس وفي كل يوم يصاحبون بلد العدو ويماسونه، ويداوون جرح الجدب بما ينقلونه من الغلات ويأسونه حتى لم يبق هناك الا اليسير واجمعنا على أنا نستجيبه في يوم واحد ونسير. وكان المقدم على العسكر عز الدين فرخشاه بن أخي السلطان شاهنشاه وكان مخيمه على بعد من السرادق السلطاني وقدامه فلما استهل محرم هذه السنة حضر عند السلطان عمه وقال أن المقام ههنا يصعب لا سيما والحر قد تضرم، والزرع قد تضرم وأهل الشرك هاجمون واجمون ولظنونهم فيما هم راجون راجمون فنتحول إلى حيث نتبدل من الضيق بالسعة فقال السلطان ما أنجب الرأي الذي رأيتموه وانجح السعي الذي سعيتموه وقد بقي لكم أن تنهضوا الليلة أجمعين وعلى بلاد الكفر مجمعين فتجمعون منها ما بقي في مواضعها المتفرقة وإذا عدتم سالمين غانمين رحلنا صوب البقاع واستأنفنا ما يعود للإسلام ولارتفاع والانتفاع. ذكر وقعة مرج عيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قال: ولما نهض أصحابنا واد لجوا وخاضوا بحر الظلام ولججوا أصبح السلطان يوم الأحد راكبا ومعه صمصام الدين أجك وإلى بانياس في موكب خفيف وجمع غير كثيف ووقف على الطريق وسال الله حسن التوفيق فرأى في تلك العياض أبقارا حافلة، وسروجا عن مراتعها زايلة. وجاءه بعض الرعاة واخبر انه شاهد عسكره العداة وإنهم عبروا بالقرب على قصد المتعلقة فعجب السلطان من هذا الخبر واستبعده وقال: لو كان للفرنج قصد لجاءنا الجاسوس فما صدق الخبر حتى جاء (198 أ) من أوائل العسكر من ارتاع وعجل في العود الإسراع فجاء السلطان إلى المخيم وقت الظهر ونادى في متخلفى مماليكه بالحضور. وكان في اصطبله خيل عراب شدت للتضمير وجياد عتاق أعدت ليوم النفير فبدل مصونها وأصفى لخواصه صفونها وقال: اركبوا وأدركوا العدو وما زال ينهض مجربا وينقب منقبا حتى انتظمت له كتيبة شهباء وساروا والخضراء من وقع الحوافر ونقع الحوافر غبراء وقلقت في أشباح الغمود الاروح وجرت بالجبال الرياح وطارت العقبان مع أمثالها من الرايات، وتنزلت الملائكة من نص النصر بالآيات وجرى سيل الخيل وجر القتام على النهار ذيل الليل والسلطان في موكب جلالته كالقمر المبدر في هالته ورايد النصر يرشده بدلالته فلم يزل يعتق ويعب حتى ترى الجمعان ودنا الرعان من الرعان وصافحت الصفاح اشاحع الشجعان، وطلعت في ابراج العجاج نجوم الخرصان. واتفق ان الفرنج حملوا وبرز ابن بارزان مقدما من مقدميهم وحمل لحملتهم وقادوا يكسفون الأنوار ويكشفون الأستار فثبت السلطان أمامهم وردهم وراءهم وتضاعف المدد وترادف العدد فحملوا حملة كادت تتم، وسر الشر متم، وطعن فيها صمصام الدين أجك وخشي إنها لا تتدارك فردهم خوف الردى إلى الجبل وضاقت عليهم واسعات الحيل ثم أحدقت بهم أسودنا أحدق النار بالجان وخاضت غمرة الهيجاء فاسر الفرنج بأسرهم وصح النصر من كسرهم, ودخل الليل فأخفى بسواده سوادهم وقيد بخواتم الذل قوادهم وما فرس فرسانهم, ولا شجي وشجب إلا شجعانهم فإن الرجالة لما شاهدوا عسكر الإسلام تبدد شملهم في الوهاد والآكام فما ضغم إلا كل ضيغم ولا أقدم إلا كل مقدم ولم يفلت من بينهم إلا الملك المجذوم وقيل أن أحدهم حمله على قفاه ثم نجا به ونجاه. وعاد السلطان إلى مخيمه بعد هدء من الليل ووافت البشاير إلى المعسكر المنصور بالنصر من العصر فجلس في سرادقه ونحن عنده جلوس وحول شمسه من الأفاضل شموس وهو يحدثنا ويقول لولا التأييد من الله سبحانه لكان الخطب خطيرا فإنهم لو بدلوا بالمعسكر لأعجلوا عن الإلجام والإسراج وسدوا على اكب مناهج الأفراج ووجدوا الفرصة بادية والعرصة خالية لكن الله تعالى صد قصدهم وأعمى لخطاياهم عمدهم ثم أذن في تقديم الاسارى وهم يتهادون كأنهم سكارى فأول من قدم ابن بارزان بادوين وقد أسره من أمرائنا الأكراد محمد بن خوشترين. ثم قدم أود مقدم الداوية الكبير وأحضر هو ابن القومصية وقيد أخو صاحب الجبيل وجماعة من مقدميهم الأكابر وأنا جالس بجنب السلطان منفردا استعرضهم بقلمي في الدستور فأجلسهم من حوله وآنستهم بقوله فاقروا بتطوله وطوله، ومن ألطاف الله أنا وخواصه الحاضرون لم نزد على عشرين والاسرا قد أنافوا على سبعين وقد انزل الله علينا السكينة وخصهم بالذلة والمسكنة فطلع الصباح ورفع المصباح فقمنا وصلينا بالوضاء الذي صلينا به العتمة ثم جلسنا حتى تم عرض المأسورين فبلغوا مائتين ونيفا وسبعين من الفرسان المقدمين سوى من أسر أسروه في خيمته وسوى من لا يذكر من الأتباع فإنهم عدوا من سقط المتاع ثم نقل الأسرى إلى دمشق واعتقلوه وبالحديد أوثقوا فإما ابن بارزان فانه بذل بعد سنة في نفسه مائة وخمسين ألف دينار وإطلاق ألف أسير من المسلمين وكان الفقيه ضياء الدين عيسى من نوبة الرملة عندهم فالتزمه راكه وان يودى من قطيعته المذكورة القطيعة التي عرف بها فكافة وأما هو فانه استفكته أمه بخمسة وخمسين ألف دينار صورية وأما أود فانه انتقل من عيشته إلى سجين فطلبت جيفته بإطلاق أسير من مقدمي المؤمنين وطال اسر الباقين فمنهم من هلك وهو عان ونمهم من خرج بأمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قال: ومن حسن الاتفاقات ان الأسطول المصري النصور غزا في أول هذا العام وتوغل في الجزاير على أهل الجزاير وظفر ببطشة كبيرة فلقيها بالبطشة الكبرى واستولى عليها وعلى أخرى وعاد إلى الثغر المحروس مستصحبا ألف راس من السبي وكان تاريخ استطالة الأسطول على الفرنج بمصر في البحر تاريخ بطشتنا بالشام من غير تأخير بحزب الكفر. (198 ب) فما اقرب بين النصرين في المصريين وما أعذب عذاب الفئتين وتجريعهما الأمرين من المرين. ذكر منقبة لعز الدين فرخشاه قال: ذكر عز الدين أنني في تلك المعركة والجولة الحالية أما عن المملكة وأما عن المهلكة تذكرت قول المتنبي: فإن تكن الدولات قسما فإنها ... لمن يرد الموت الزؤام تؤول ومن هون الدنيا على النفس ساعة ... وللبيض في هام الكماة صليل فهان أموت في عيني فما أفرق بين حياتي وحيني وحكى الأمير حسام الدين تميرك بن يونس وكان مع عز الدين في الوقعة أنا كنا في أقل من ثلاثين فرسا فقد تقدمنا من أهل الفتك فشاهدنا خيل الفرنج في ستمائة فارس واقفين على جبل وبيننا وبينهم الماء فقال نعبر النهر إليهم ونحمل عليهم فقلت له كيف تقول هذا وبمتى تحمل عليهم فقال إذا عبرنا النهر إليهم ذلوا وتبعنا من رآنا من عسكرنا وإن وقفنا لهم طمعوا فينا وجاءوا وعملوا ما شاءوا فسار إليهم وعبر الماء فما وصل إلى القوم إلا في عدتهم وقل من حد عدتهم ووافق ذلك رجف السلطان ونصر الإيمان. ذكر غيبة تقي الدين عن هذه النوبة قال: كان سلطان الروم قلج أرسلان أرسل في طلب قلعة رعبان وادعى أنه من بلاده وإنما أخذه نور الدين رحمه الله على غير مراده وأن الملك الصالح ولده قد أنعم به عليه ورضي بعوده إليه وأبى ذلك سلطاننا فعد قصده ومنعه ورده وكان مع شمس الدين بن المقدم وفيه نوابه فانهض قلج أرسلان عسكرا مجرا نزل على حصاره وشرع في تشعيث نواحيه وأقطاره فندب السلطان ابن أخيه تقي الدين ومعه سيف الدين على المشطوب ليتوليا إزالة رعب رعبان ويرسلا الروع على روع عسكر قلج أرسلان فنهضا وهما في ألف وكانت تلك الحشود في ألوف مجمعة فلما شاهدوا أصحابنا قد جرى بسيل خيلهم الوادي أجفلوا من عدوي تلك العداوى وزال عن رعبان رعبها وأمن سربها وعذب شربها وأرجت بأرجائها مهاب المهابة وطافت ألطاف عصمة الله الذابة بالإصابة, وكتب تقي الدين توبتها الدايلة وبنوبتها الزايلة وأنه فتح لم يحتسب ومنح من الله إلا بفضله لم يكتسب وغزو إلا إلى تأييده لم يعز ولم ينتسب ولم يزل تقي الدين بهذه النصرة المبتكر فأنه هزم بآحاد الوفا وأرغم بأعداد من الأعداء أنوفا. فصل من كتاب سلطاني إلى مجاهد الدين قايماز بالموصل وكتب تقي الدين بإذن الله ثلاثين ألفا من عسكر المذكور بألف وكانوا ضعف وقد علم الله تعالى أنه شاء فاكسرنا من سهم المهيب ومؤاخذته على رأيه المخطي المصاب لا المصيب فإن المذكور يمشي زمانه بناموسيه ويؤسي نهاره من أشعة الإفلات من شموسه. ذكر النزول على حصن بيت الأحزان وتيسير فتحه في أقرب زمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قال: لما ضعف الكفر بالنوب التي نابته بلا بأس الإسلامي قوي العزم السلطاني في قصد البرج وسير إلى التركمان وإلى البلاد لجمع الراجل فأمر بإعداد الدقيق وتكثيره للتر كمان فخرجنا في جيش فضل بالقضاء ختام قتامه وورد على الأصباح بإظلامه ودارت بفوز القداح أقداحه ولاحت غرره وأوضاحه وحملت أآلات وكملت الحالات ووصلنا إلى مخاضة بيت الأحزان يوم السبت والحصن مبنى دونها من الغرب فخيمنا منها بالقرب ورفعنا على تلك الأكام آكاما من الخيم ورمينا من الحمايم والعمايم مسامع الآفاق بالصمم وقلنا حصن ومكان مكين ولابد من نظم ستار لنصب المنجنيقات وجمع الأخشاب ولآلات فركب السلطان بكرة الأحد إلى ضياع صفد وكانت قلعة ضفد يومئذ للداوية وهي عش (199أ) البلية وأمر بقطع كرومها وحمل زرجونها وأخشابها واستكملت المنجنيقات كل ما يتم به أسباب أسبابها وعاد إلى المخيم بعد الظهر وخرج بعد العصر, وجمع أمراءه وعارض بآرائهم آراءه فأل له عز الدين حاولي الأسدي تأذن لنا في الزحف قبل نصب المنجنيق حتى نذوق قتالهم ونجرب نزالهم فقال: استخيروا الله حيث اخترتم فنودي في البوادي بالأقدام والحضور في مقام الانتقام فثاروا إلى الثأر وطاروا إلى الأقطار ودنوا من الباشورة وباشروا وشاقوا معاشرها كأس المنية وعاشروها. وعهدي بشاب من العوام في جرأة الضرغام عليه قميص خلق وفي يده قضيب ودرق وقد فرع الجدار وهو يدافع ويقارع ويجالد ويماصع فتبعه ضرب من إضرابه في الضرب وشيعه آخر على حزب الحرب فتخاذل القوم ودخلوا الحصن وأغلقوا الأبواب ووقفوا وراءها على شرفاته وأشرفوا على شرفاته وملك أصحابنا الباشورة وملأوها وانتقلوا بكليتهم إليها وكلأوها. وباتوا طول الليل يحرسون والسلطان يمدهم بالإمداد وينجدهم بالإنجاد ويشفق من فتح الأبواب وكبسهم الناس فقيل لنا أنهم وقدوا خلف كل باب نارا ليأمنوا على أنفسهم اغترارا ولا يلقوا غوارا فقر قرار الأصحاب وغاد الجماح إلى الأصحاب ثم جمع الأمراء والكبراء وفرق عليهم البناء فأخذ عز الدين فرخشاه الجانب القبلي وجمع عليه الصناع النقابين وأخذ السلطان النقب في الجانب الشمالي وأخذ ناصر الدين محمد ابن شيركوه بقربه نقبا وأفرد تقي الدين قسما وكذلك كل كبير شرع في طرف وأخذ العمل فيه بسرعة الفرنج من فوقهم على السور وراء الستاير يرمون القوارير وكان الحصن شد سد البناء فعسر على النقابين إخراج حجره وإظهاره مضرة ثم تم النقب السلطاني وغلق وحشي بالحطب ليلة الاثنين وأحرق وظن أنه يقع والنقب في طول ثلاثين ذراعا وفي عرض ثلاثة أذرع في المقدار وكان عرض السور سبعة أذرع فما تأثر بالتعليق والتحريق فأصبح يوم الاثنين والقلوب قد أشفقت والظنون قد أخفقت ولا سبيل إلى تعميق النقب للنيران الملتهبة فيه فأخرج السلطان صرة فيها ثلاثمائة دينار مصرية وتركها على يد عزا لدين وأمره أن يعطي كل من جاء بقربة من الماء دينارا فرأيت الناس للقرب حاملين ولأوعية الماء ناقلين حتى أغرقوا النقب فعاد نقابوها فخرقوه وعمقوه ثم علقوه واستظهروا فيه يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ثم أحرقوه ووصل الخبر بأن الفرنج قد اجتمعا بطبرية وأنهم ملأوا بخيلهم ورجلهم تلك البرية فحصن الصناع. ولما كان الخميس الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول أصبح الخميس قد حمى الوطيس وقد عض الأسد الخيس والدنيا تضطرب والبلوى تضطرم ونحن ننظر إلى السور وقد طال الانتظار ووقع من بطء وقوعه الاستشعار ولما تعالى النهار وعيل الاصطبار وزال القرار انقض الجدار وتباشر الأبرار وتسابق الناس إلى الثملة وكان الفرنج قد جمعوا وراء الواقع حطبا فلما وقع الجدار دخلت الرياح فيها فعادت عليهم النار وأحرقت البيوت الدانية منها في الجوانب وبلوا من كل صوب بالمصايب فاجتمعوا إلى الجانب البعيد من النار وقد لفحهم وهج الاستعار وصاحوا بالأمان وأظهروا الإذعان وجلس السلطان وقد حمد الله سبحانه وحده فمن أحضر من الأسرى عنده استنطقه فإن كان مرتدا أو راميا يخرج ضرب عنقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وخلص من الأسر أكثر من مائة مسلم أحضروهم للعمارة وقطع الحجارة. وأكثر من أسر قتله الغزاة المطوعة والرعاع المجمعة فكان فتحا هنيا ومنحا سنيا وما ظن لتوثيق بنائه وتوغير سبله يتأتى افتتاحه أو يتصور اجتياحه وكان قد بذل في هدنة لهم ليأمن الناس منهم مبلغ ستين ألاف دينار فلم يذعنوا بالقرار وبلغ المبلغ مائة ألف دينار فثبتوا على الإصرار. وقال: ورأيت السلطان مستبشرا يتلألأ وجهه بنور السرور وعنده رسول القومص معافى وهو يشاهد بلية أهل ملته, وكان الحر شديدا لا يطاق ودم الشرك مباحا يراق, وقد وقد القيظ وأن وقد الغيظ وسير من أبقاه الأسار إلى دمشق فأقام السلطان في مخيم والأموات قد جافت والأحياء قد عافت وقال: ولا أبرح حتى أهدم الموضع من أساسه وأعيد الرجاء في أعادته إلى بأسه فقسمناه أذرعا على البأس حتى (199ب) هدوه إلى الأساس وعاد المشهد اليعقوبي مزورا ورأى الابتهاج بزيارته منشورا. ودخلت الحصن فشاهدت العجب ورأيت فارسا قد ألقى على النار حصانه وهو راكبه فانظر إلى هذه الحمية والأنفس الأبية. وأقام السلطان في ذلك المنزل الكريه حتى فرغ من التخريب ورحلنا يوم الأربعاء وعند الوصول إلى دمشق مرضنا من وبال ذلك الوباء ونتن ذلك الهواء وانتقل إلى جوار الرحمة أكثر من عشرة من الأمراء ومن الله غلة بعد الأشقاء بالشفاء. قال: وهنأ الشعراء السلطان بفتح هذا الحصن فمما بقي على ذكرى من ذلك ما أنشدنيه الفتى أحمد بن نفاذه: هلاك الفرنج أتى عاجلا ... وقد آن تكسير صلبانها ولو لم يكن قد دنا حتفها ... لما عمرت بيت أحزانها ولأبي الحسن علي بن محمد الساعاتي الخرساني من أهل دمشق قصيدة أولها: بجدك أعطاف القنا تتعطف ... وطرف الأعادي دون مجدك يطرف وقفت على حصن المخاض وأنه ... لوقف حق لا يوازيه موقف أيسكن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها وهي تحلف نصحتكم والنصح في الدين واجب ... ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف ولأبي الفتح سعادة الضرير الحمصي من قصيدة: وقدت إلى الأعداء جيشا عرمرما ... إذا أبرقت فيه الصوارم أرعدا خميسا كسوت الجو ثوبا ممسكا ... به وكسوت الأرض ثوبا موردا لها ما يريك الشمس ثاير نقعه ... يقلب مطرفها من الطرف أرمدا ترى الليث فيه بالحباب مؤبطا ... نزا البدر فيه بالشهاب مقلدا طما بالمحاصير الصواهل بحره ... الخضم وبالبيض المباتير أزبدا وأبدى من الخرصان لمعا مفضضا ... يعود يوشك الطعن لمعا معسجدا فلم تبق للطغيان شملا مجمعا ... ولم تبق للأيمان شملا مبددا وللأمير نجم الدين محمود بن الحسن بن نبهان العراقي من أهل الحلة المزيدية في السلطان أيضا من كلمة: وأوردت بيض الهند ماء رقابهم ... وأصدرتها تختال في حلل حمر جلوت بها صمصامة الدين بعد ما ... علا متنها من بغيم صدء القسر هي للفتكة الغراء لا زلت قايما ... بأمثالها للدين في السر والجهر فأصبح في أقصى خرسان ذكرها ... وفي كل قلب منه جيش من الذعر قال: وفي هذه السنة كان طهر الملك العزيز أبي الفتح عثمان ولد السلطان وسمعته يقول مولد عثمان بمصر ثامن جمادى الأولى من سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان أحب أولاده إليه وأعزهم وأثناهم لأعطاف سروره به وأهزهم وهو ريحان شمه وفينان ضمه ورأس ماله وأساس أقباله. وكانت فراسته فيه من علم الغيب الذي أطلعه الله عليه فهو الذي من بعده نظم سلكه وضم ملكه وجمع شمله وأبقى أفضاله وفضله ولزم إحسانه وعدله. ولما وصل من مصر إلى الشام في سني سبعين برح به اشتياقه وأزعجه فراقه فاستقدمه إليه فطلع قمره وينع ثمره وثاب أنسه وبلغت المنى نفسه وقال: وأنشدت أسلطان تهنية بقدومه كلمة منها: (200أ) يا أسد تحمي عرين العلي ... هنيت جمع الشمل بالشبل ياطيب الثمر بلغت المنى ... تمليا بالطاهر النجل يحكيك أقداما وبأسا فما ... أشبه هذا الفرع بالأصل ملك قضى الله له أنه ... على ملوك الأرض يستغنى شمله المجموع آمالنا ... بنجمها مجموعة الشمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فلم يفارق الملك العزيز أباه واستصحبه إلى مصر في سنة اثنتين وسبعين ثم عاد به إلى الشام في سنة ثلاث وسبعين. قال وقال السلطان عند قرب رحيله من مصر: اطلب لولدي هذا معلما يصحبه ويتسنى به تأدبة وتهذبة وكان نجم الدين يوسف بن الحسين بن المجاور إلى متوددا ولشكوى الزمان معددا ويحب الفضل إلى أهله مترددا إليه ودللت عليه ورغبته في الصحبة، وأخذت له مركبا ونفقة، وجاءت أسبابه موافقة موفقة فتولى الصفي بن القابض وأكن متولي الخزانة والديوان والأعمال بدمشق. أسباب ختان الملك العزيز: ولقد كان عالي الهمم من أهل التمييز فوسع الإنفاق وصاغ النحوت والأطواق وأطلق الأموال ونمق الأحوال وأول من وجد بركة هذا الطهر المبارك المؤدب فقد سعد نجمه وصح شيمه ووضح غيمه وتحلى في اللباس الذهبي باللباس الأدبي والمركب النضاري والمركوب العربي وزين المزيون وأعيدت عليهم الخلع السنية وبالسناء أعيدوا وخلع السلطان علينا في المخيم تشريفا لأحوالنا مناسبا وأمسى كل منا لذيل الاعتزاز مصاحبا ومن جملة ما حباني به حجرة عربية وعدة لها ذهبية وعز الملك العزيز في ختام ختانة وعم الفضل والحسنى بأفضاله وإحسانه. قال: وفي هذه السنة خرجنا إلى بعلبك لتسلمها إلى عز الدين فرخشاه ابن أخي السلطان وكانت الشتوة صعبة، وكان طريقنا على الرواد يف وهي عقاب يتلوها عقاب وطرقها صعاب وفي ذي القعدة من هذه السنة جمع غز الدين فرخشاه من رجال بانياس وماحولها من الأعمال من جرب عادته وجترات عدته فصبح صفد صباح الأربعاء ثامن عشر الشهر فسبى وسلب وعنم وعلب واحرق ما شاء الله وأخرب ومر مر السحاب وعاد بالسبايا والنهاب وأبت عناية الله نصر النصارى وإسلام الإسلام، وشق بالإصباح سراير الإظلام. قال وفي العشر الأخير من شوال من هذه السنة خرج الأجل الفاضل من دمشق إلى الحج وعاد إلى مصر وكان عام أول سنة أربع وسبعين حج من مصر على البحر وجاء الشام. ذكر وفاة الإمام المستضيء وخلافة الإمام الناصر رضي الله عنهما قال: وقي هذه السنة وهي سنة خمس وسبعين توفي الإمام المستضيء بأمر الله فأظلمت الأضواء وبويع لولده الإمام الناصر فأضاءت الظلماء، وكانت البيعة صبيحة ليلة الوفاة وذلك مستهل ذي القعدة فأقرت القواعد وأمرت المعاقد وقد حضر الحجيج من المشرقين وامتلأ بالملويين، وتولى عقد البيعة المباركة ظهير الدين بن العطار ولاح بشره وفاح نشره وظن انه قد تم أمره وعرته مرضه أقعدته وعادية عدوى فأعدته وانتقل إلى جوار الحمة التي إعمال الخير بها وعدته وتمكن من الأمر في الخلافة الناصرية مجد الدين بن الصاحب وكان رسولنا ضياء الدين الشهرزوري حاضرا فحضر وبايع وأخبر بحلية الحال وطالع وبادر السلطان إلى الخطبة في جميع البلاد واهتزت بالسمة الشريفة أعطاف الأعواد ومضى صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الحليم بن إسماعيل من بغداد إلى بهلوان رسولا وألزمه حتى خطب بهمدان وأصفهان وعمت الدعوة الهادية بلاد خراسان ثم لما رجع شيخ الشيوخ جاء إلينا رسولا في سنة ست وسبعين وأخذه السلطان معه إلى مصر وحج منها وركب البحر وأنعم مولانا الناصر لدين الله أمير المؤمنين (200ب) بإجراء رسمي وإدراري وهز أعطاف فخارى, ومدايحي في أمير المؤمنين قد سارت في آفاق الإشراق أنارت ومن جملتها كلمة سيرتها سنة فتح القدس ومنها: ورثت من سلفي رقى لطاعته ... وذلك الرق للأسلاف أحساب ما كان لولا الرضا والسخط منه ... لنا خصب ومحل وأحداء وأحداب قد قلت لولا التقى ما غير صارمه ... للعمر والرزق مناع ووهاب معمد بعمود الصبح بينهم ... له من الشهب أوقاد وأطناب أبشر بفتح أمير المؤمنين أنني ... وصيته في جميع الأرض جواب ما كان يخطر في بال تصوره ... واستصعب الفتح لما أغلق الباب وحام عنه الملوك الأقدمون وقد ... مضت على الناس أحقاب وأحقاب نصر أعاد صلاح الدين رونقه ... إيجازه مبلغ في القول إسهاب نفى من القدس صلبانا كما نفيت ... من بيت مكة أزلام وأنصاب قال ودخلت سنة ست وسبعين وفي هذه السنة توجه السلطان إلى بلد الروم وبلد الأرمن. ذكر السبب في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 قال: كان نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن أرتق صاحب حصن كيف تزوج بابنة السلطان قلج أرسلان وهوي بغيرها وقد تزوج بمغنية وهو عليها يستخيرها, وهي في سر سترها وفي ضمير خدرها زهراء في أوجها صابرة على جور زوجها تخفي بلواها ولا تبدي شكواها وما ذلك لوجود شين أو لعد زين فإنها تالية القمرين وثالثة النيرين سلجوقية النجار سلطانية الفخار. وكان زوجها للنساء المغنيات زيرا فغلبت عليه فمنهن نصف هو بحبها منصف ومن عيشه بملازمتها منتصف وبمنادمتها مع الندماء منتظم مرتصف فاختار العجوز على الشابة وحسب أن الخطأ عين الإصابة ولكن الهوى ما عليه قياس ولا يتحكم من رجاءه بأي ولله في التوفيق مواهب وللناس فيما يعشقون مذاهب. فعرف أبوها ما هي فيه من الضرة وأبت له عزة الملك الرضا بذلة المعرة فسرح أهل الارغاب وأوضح سبل الإرهاب وأبدل الإعصار بالأعصاب فبان قرار ابن أرسلان وعزب وأضطرم بتوقي التوقع واضطرب. وكاتب سلطاننا صلاح الدين يستدني إصلاحه ويستجدي أنجاده وإنجاحه وأرسل وتوسل وأعتذر عما يقال عنه وتنصل فأرسلنا إلى قلج أرسلان رسلا لاستكفافه وتحذيره علقبة خلافه فكتب يهدد ويذكر الذنوب وينشر العيوب ويقول أبيت الحكم بيني وبينه ولا بد أن يدين ويؤدي دينه ولما صاهرته جعلت له قطعة من مملكتي فإذا لم ينزل حكمي فليعد إلى ما كان بأسمى ولينزل عن تلك الحصون ليتحصن منى بالسكون فأجبناه بأنه تركته قبلنا المنة وأن قصدته ثنينا لنصره الأعنة وكان ابن قرا أرسلان لقربه من بلاد حمية يخشاه ولا يرى من يحميه ورسله وكتبه إلينا متواصلة متراسلة وهم جيرانه وأقاربه الأرتقية وغيرهم عنه متفاصلة متناسلة فحميت حمية سلطاننا وتحركت همته وتصممت عزيمته وكان الفرنج قد جنحوا للسلم ودخلوا له في الحكم فهادنهم وفدى ابن بارزان نفسه من الأسر بمبلغ مائة وخمسين دينار صورية واطلاق ألأف أسير من المسلمين وأحضر ما تهيأ له من المال والأسارى وأحضر رهائن على الباقي والباقين وقرر على هو ابن اقومصية قطيعة مبلغها خمسة وخمسون ألف دينار وخلص الأسرى المقدمون كل واحد بقرار فلما فرغ سره من جانب الشام سار بصدق (201 أ) الاعتزام وعبرنا إلى حلب والملك الصالح بن نور الدين رحمه الله مالكها فمنعتنا من طروقها مسالكها فجزنا على قرأ حصار وعبرنا على تل باشر فأضافنا صاحبها بدر الدين دلدرم وهو سخي لد الجود والكرم ووصلنا إلى رعبان وخيمنا على نهر يقال له كوك سو وزخرت بحار معسكرنا بأمواج القباب وانباح اغراب وجاء نور الدين بن قرا أرسلان وأخوه وامتزجت النفوس وابتهجت الوجوه ودارت الأفلاك وتزاورت الأملاك واحتفل السلطان بضيافة القوم في سرادقه وتوشيع نمارقه فكون الأكوان ولون الألوان وجمع من مكارمه البكر والعوان, وبسط الخوان وسماهم الأخوان وشرفهم بنفايس الخلع وحمل لابن قرا أرسلان من الحصن والحجور الغربيات والأطواق والشخون والصياغات وأحمال الثياب المستعملات المصريات ما قوم بمائة ألف دينار وأما ما أخرجه من الخيل فلم يحرز بمقدار ولم يبق في معسكرهم راجل إلا ركب ولا عايل إلا أترب وقد نقلنا إليهم كل ما أصبحنا من أثاث ومتاع ومركوب وكراع ثم عمل ناصر الدين محمد بن شيركوه بن عم السلطان دعوة واقتدى بسلطانه في إظهار حسنه وأحسانه ثم اختار عز الدين فرخشاه بن أخي السلطان يوما للقرى وأجزل جوده وبذل مجهوده بل موجوده. واعتمد ما دخل في الامكان من الإحسان وقرت بما أبداه وأبدعه عين عمه السلطان وما زلنا مدة المقام ببذل الاذعان وجاء الأميراكبير اختيار الدين الحسن بن غفراس وكان لملك الروم الركن والأساس وأحضرني السلطان وهو عنده وأنشأت باتفاقها عهدا أكدت بالشرايط عقده وانصرف هو وأصحابه بخلع سنايا وحسنت السجايا, وأمنت الأذايا بتحف وهدايا ووثقت الألايا ووفقت القضايا. ذكر دخول بلد الأرمن وفتح حصن المانوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قال: وقد كان متملك الأرمن بن لاوان فاستمال قوما من التركمان حتى يرعوا في مراعي بلاده بالأمان ثم صبحهم بغدره وحصلوا بأسرهم في أسره، وكثرت شكاية المسلمين من نكايته فرأى السلطان أن الأولى دخول ولايته فسرنا بعساكرنا المنصورة وخيمنا على النهر الأسود وثمرنا على دياره بالدواير وبالقرب دنا على الجبل قلعة شامخة الذرى على رأس محفوفة من نبات الأفلاك بأحراش، وهي من عقايل المعاقل محصنات الحصون، وكانت في ضمير الجبل كاسر المصون فأضرمها الأرمن ناراً ولم يحسب مع استفرادنا بداره قراراًَ فقصدناها وبادرنا إلى إخراج غلاتها وإبراز مودعاتها فأشفع العساكر منها بالزاد والعلف وارتفع عنهم مدة المقام أثقال المون والكلف وخاف الأرمني ودخل الرعب قلبه فأرسل باطلاق الأسارى مذعناً وبذل من مجهود في الإسترضاء والاستعطاف ما كان ممكناً وكان الوقت متعسراً والقوت متعذراً وكان من لطف الله اذعان الأرمني حتى عجلنا رحيلنا بالنصر والعز الهني. وعملنا على أعمال حلب، ووصنا إلى حماة في العشر الأوسط من جمادى الآخرة، ووصنا إلى حمص وخيمنا على عاصيها، ودانت لنا عواصي الأمور ودنت قواصيها، والمطاب قد أشرقت مطالعها، والمآرب قد ملكت نواصيها. قال: وجاء الفقيه المهذب بن أسعد الموصلي بمديحة على الرسم وكان غزير الفضل وافر العمل، ورسمه كلما عبر السلطان بحمص مائة دينار مصرية وخلعة مثمنة فمما مدح به السلطان قصيدة مطلعها: أما وجفونك المرضى الصحاح ... وسكرة مقلتيك وأنت صاح وما في فيك من برد وشهد ... وفي خديك من ورد وراح لقد أصبحت في العشاق فردا ... كما أصبحت فردا في الملاح يقرب جودة أقصى الأماني ... ويضمن بشره أسنى النجاح ومبسوط بنايلة يداه إذا ... انقبضت به أيدي السماح فمن هرم وكعب وابن سعدى ... رعا الشاء والنعم المراح (2. 1ب) جواد بالبلاد وما حوته ... إذا جادوا بألبان القداح ذكر وفاة شمس الدولة أخي السلطان في هذه السنة قال: وتوفي الملك فخر الدين شمس الدولة تور أنشاه أخوه السلطان بثغر الإسكندرية في المحرم سنة ست وسبعين ووصل الخبر والسلطان بظاهر حمص فجاد مزن حزنه بالقطرات، وفاضت عين عينه بالعبرات وتقلص ظل صبره وتنقص ورد عمره وخلا ذلك اليوم في بيت خشبة يندب فضل أخيه في كرمه وحسبه وأستدعى كتباً في المراثى متألماً يتأملها، وكان كتاب الحماسة على حفظه فدام ينشد أبيات مراثيها، وينشد ضالة معانيها، وهو يتأسى ويتأسف ويتلب ويتلهف. وكان شمس الدولة أكبر أخوته قد فضلهم بجوده وفضله ومروته، وهو لا يبقي مالا ولا يذر وكم اقتضت من غرايب رغايته وأبكار مواهبه العذر. ولما ملك صلاح الدين مصر رأى أن تلك الممالك لا تفي بمكارم أخيه وأن كل من يدخر لهم جوده لا يبقيه فجهزه إىل اليمين في سنة سبع وستين ففتح بلادها وحاز طرافها وتلاها ثم لما ملك الشام استدعاه وجرى من الأمر ما ذكرناه ونوابه في زبيد وعدن وساير بلاد اليمن جارون على السنن ويحمل إليه من أمواله ما يحمله عن خزانيه الجود على أنه يضيق عن همته السمحة الوجود. وودعه في آخر سنة أربع وسبعين وسار إلى الديار المصرية وحكمه في أعمال ثغر الإسكندرية واتفقت وفاته بها. قال: ولقد كان مقبلاً على ومايلاً إلى ولى فيه مدايح ومنها مدحه خدمته بها عند وصوله من اليمن ولقائه للسلطان في حماة يوم الثلاثاء ثاني صفر سنة اثنتين وسبعين وأنشد يوم السبت سادسه بالمخيم في الميدان وهي التي أولها: صب لتذكار أهل الجزع ذو ... جزع أطاعه دمعه والصبر لم يطلع وكان يطمع في طيف وقد بان ... الرقاد فما في الطيف من طمع يا لايما يدعى نصح المحب ولم يترك ... له وجده مسمعا ولم يدع أتعبت نفسك تنتهي غير متبع ... حكم الملام ويلحى غير مستمع أن يجدى لومى فكم في الجود عاشقه ... تور أنشاه كلانا غير مرتدع هو الجواد الذي عشق السماح به ... أفضى إلى أمد في الجود مخترع يارايدا للخطب أن تقصد ذراه تجد ... في ظله خير مصطاف ومرتبع قال: وكتب شمس الدولة إلى السلطان قبل وصوله بخطه كتابا ضمنه هذين البيتين: كتبت ولولا أن قلبي واثق ... بقرب التلاقي وما حوته الأصابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ولو لم أعد إنسان عيني فأنه ... يراكم سريعا غرقته المدامع فسألني الملك الناصر أن أجزيهما ليكتب إليه فقلت: بنفسي وما أحوى وروحي ومهجتي ... كتاب لأسباب الفضائل جامع يخبر عن قلب حوته أضالع ... ويوم النوى قلبي نفته الأضالع ومن عجب إنسان عني ظاميا ... وقد غرقته في المياه المدامع فلما وصل شمس الدولة إلى تيما وقرب من الشام نظم شاعره المعروف بابن المنجم جواب الأبيات وكتب: ولبته لما دعاني منازعا ... بنفسي ومالي والمشوق منازع وأني بيوم واحد من لقائه ... على عظم المزية بايع (2. 2 أ) وما الملك إلا راحة أنت ... زندها يضم على الدنيا ونحن الأصابع فيا برق طالعه بأني واصل إليه ... وإن طال التردد راجع فأحضرني السلطان عند وقوفه على الكتاب وحثني على نظم الجواب وذلك يوم أول شوال وأعتمد لسرعة أمره الإرتجال فكتبت قصيدة طويلة كتبتها إليه ومنها: تألق برق من تهامة لامع ... يبشر أن الله للشمل جامع يحاكي خفوق القلب مني ... خفوقه فهل راعه مثلي من البين رايع لقد طال ليلي لانتظار صباحكم ... فهل لتباشير الصباح طلائع كأنك شمس الدولة البدر بيننا ... ونحن حواليك النجوم الطوالع قال: ولما أقام بدمشق وفد على جانبه الوفود وأفنى موجوده الجود وشفه بالواردين بحر عطائه المورود، وما زال يفكر في إطلاق ما يليق إلي من الجائزة ففرض لي من فرضه عيذاب مواهبه الغراب وأمر في توقيعه بها النواب وحسب ما أعطاني العطاء الحساب، ولم يكن قط في توقيه تعويق فقلت: قد أحالني البحر على عيذاب ونونها مهامه إذا قطعها الحديد ولم يع ذاب ومن لي بها ومن لاستدنائها وتقريبها فقيل لي أدنى هباته من أقصى اليمن وعيذاب على كل حال أقرب من عدن فأدرجت التوقيع في كتاب إلى المولى الفاضل وأودعته الخريطة السلطانية وثوقا بالوصول فولت إلى مصر وقد سار على عزم الحج على طريق البحر فسيرت إليه تلك الخريطة فاتفق وصولها ساعة ركوبه بحر عيذاب فتسلم الكتاب وأحضر النواب وعرض التوقيع وفض الجميع فما رأيت عطاء منه أهنا ومن المن أبرأ وما عرفته إلا من الوارف الفاضلية. ذكر وصول الرسل من الديوان العزيز قال: وفي رجب سنة ست وسبعين وصلت رسل الديوان العزيز الأمامي الناصري وهم صدر الدين شيخ الشيوخ أبو القاسم عبد الرحيم ومعه شهاب الدين بشير الخاص بالتفويض والتقليد والتشريف الجديد فتلقيناه بالتعظيم والتمجيد. وقد عرف السلطان ما بيني وبين شيخ الشيوخ من الأواصر الموشجة المتمازجة واللحمة المتمازجة فإن أولاده من ابنة عمي العزيز فأمرني بالوصول إليه والمبيت عنده ليلة وصوله إلى القصر فخرجت أوان العصر ودخلت إليه ولمت عن السلطان عليه وبت طول ليلتي أسامره وركبت سحرا من عنده لأسبق بالدخول وأخبر بالوصول فجئت إلى السلطان وقد ركب للاستقبال ولما ترآى الرسل الكرام ووجب لهم الاكرام والاعظا نزل وترجل وأبدى الخضوع وتوجل، ونزل الرسل إليه وسلموا عن أمير المؤمنين عليه فتقبل الفرض وقبل الأرض ثم ركبوا ودخلوا المدينة وأنزلوا بنزولهم السكينة وانشرحت الصدور واستبشرت الوجوه بصدر الدين وبشير وظفر السلطان من صدر الدين بصديق صدوق مشفق مشير، وكان قد عزم على قصد الديار المصرية وسلوك طريق ايله والبرية فحسن لشيخ الشيوخ مصاحبته، ورغبته في زيارة الشافعي فقال قد عزمت على الحج فأقبلوا عذر المحتاج المحتج ثم قال: أصل معكم إلى القاهرة بشرط إقامة يومين ولا أدخلها وإنما أسكن التربة الشافعية فأنزلها وأسير منها إلى بحر عيذاب وأركبه إلى جده فلعلي أدرك صوم رمضان بمكة وأغتنم وأقيم وأقضي الحج إذا حل موسمه فأجيب إلى القترح وأعاد السلطان أصحابه إلى بغداد ليأتوه من أيبتها إلى الحجاز، وسير السلطان شهاب الدين بشيرا في جواب رسالته على رسم عظمة الديوان العزيز وجلالته وسار معه رسولنا ضياء الدين الشهرزورى لهدايته إلى الراشد ودلالته واستصحبنا شيخ الشيوخ معنا إلى مصر فأقام يومين كما ذكر وتوجه منها إلى مكة على البحر فأدرك بها الصوم. (202ب) ذكر الرحيل إلى مصر يوم الاثنين ثامن عشر رجب والوصول إلى القاهرة ثالث عشر شعبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 قال: ولما عزم السلطان على التوجه خص ابن أخيه عز الدين فرخشاه باليابة عنه بالشام وقلد أمر أجناده وأعماله بسائر أحواله وشحذ عزمه وأنفذ حكمه. ولقد كان عزيز المثل عزيز الفضل معقود الضريب محمود الضريبة مخصوصا من قبول اقلوب بالمهابة المحبوبة والمهيبة المحبة. ولقد جرت مدة أيالته أحوال دمشق على احلى حالته وله أياد وغايات في المكارم ومباد ولى فيه مدايح طالت قصائدها وجالت في الأعناق قلايدها وأذكر في هذا الكتاب ما هو شرطه ورسم شرحه وبسطه وكتب إليه يوم توديعه كلمة شينية عظم شأنها وتمم بلإحسان احسانها وسير لي مع فروة واكديش عطاء لم يترك اسراعه للحمد إبطاء ومن أبياتها: اسأل الله العلي أن نعيش ... ألف عام لنصرة مستجيشا رعبكم يقلع القلاع ويضحى الرعب ... ههنا للحمد من بأسكم منقوشا ما أكرى شيئا سوى فروة منك ... وأبقى لسفرتي أكديشا كيف يخلو من ذي ظهر وظهر ... سالك طريق أيله والعريشا قال: ولما نزلنا ببصرى إلى مصر متوجهين جلست في خيمتي وحولي أصدقائي المودعون مجتمعون فقال أحد الجمالين قد وقفت لي جمل وما لنا في صحبته أمل فأبغ جملا نبتاعه وإلا فقد حصل على الأرض متاعه. وعندي صديق قام وغاب وتركني أخطب في شرى الجمل الأصحاب ثم عاد سريعا ومعه ثلاثة من حجاب ثلاث من الأمراء الموعين وقالوا سمعنا بابتياعك الجمال لحمل الأثقال، وقد أتينا بخير ما عندنا من الجمال فعرفت أن ذلك الصديق قام وقصدهم وقال: إن كنتم تريدون أن تتقربوا إلى فلان بما يقبله فسارعوا إلى إهداء الجمال له فشكرته على هذه المكرمة ونسقتها في عقود مكرماته المنتظمة وهذا الصديق المعروف بموفق الدين أبى يعلى حمزة العنزي من أعيان حماة وأمثالها. وكان ذا همة تروي المكارم من مناهلها وأراد في تلك النوبة أن يصحبنا إلى مصر فاحتاج السلطان إلى من يديه فكتب له وودعته وسرنا وسار وشب شوق الأحبة في القلوب النار ووصلنا القاهرة على طريق أيله ثالث عشر شعبان واستقبلنا أهلها والملك العادل أخو السلطان حينئذ بمصر نايبه وتلقتنا مواكبه وخدمته بكلمة منها: أحبة قلبي طال ليلي بعدكم أسى ... فمتى ألقى بوجهكم الفجرا فقدت حياتي مذ فقدت لقاكم ... فهلا أخذتم فيه من ناره حذرا لقد عاد أنسى وحشة بفراقكم ... فهل لحياتي منكم نشأة أخرا سكنتم فؤادي وهو في نار شوقكم ... كما عاد عرف الدهر بعدكم نكرا وقد كنت مغترا بأيام وصلكم ... ولا يأمن الأيام من كان مغترا قطعنا بأيام وصلكم ... ومن قصد بحر الندا يقطع البحرا إلى عزمة في المجد غير قصيرة ... وكان قصارى أمرنا أن نرى القصرا قال رحمه الله: وفي أوايل سنة ست وسبعين توفي صاحب الموصل وهو سيف الدين غازي بن مودود زنكى ونحن مقيمون على كوك سو من حدود بلد الروم وجلس مكانه أخوه أحمد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى فجاءنارسول مجاهد الدين قايماز وهو الشيخ الفقيه فخر الدين أبو شجاع ابن الدهان البغدادي يلزمنا بحكم اليمين مع سيف الدين وقد سير معه بنسخة اليمين التي حلف بها السلطان وفيها إبقاء سيف الدين على ولايته وأنه لا يغير على نوابه وأخوته. وقال هذا أخوك الذي حلفت أنك لا تغير عليه فبأي تأويل تقبض ما ف بعد الوفاة (203أ) ونحن نرى رأينا فيما نعتمده ونحله في الأمر ونعتقده، ونطالع الديوان العزيز النبوي أعز الله نره ونمتثل في ذلك أمرنا وأعدنا الرسو على عادة الكرام بالتشريف والأنعام، وشرعنا في العود إلى دمشق واليقين من الله بتسديد مرامي المرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قال: وأقام السلطان بمصر مشتغلا بمصالح الدين والدولة مشتملا من نعم الله على التفضيل وبالجملة محتفلا بمجالسة العلماء ومذكراة الفضلاء والجلوس في دار العدل للمالم وكسر المحامد بالمكارم ونحن في لهية وعشية رغدة بل هنية. قال: وفي هذه السنة عربت كتاب كيمياء السعادة تصنيف الإمام أبي حامد الغزالي في مجلدين وفزت من تعريبه وعلم ما فيه بسعادتين وذلك بأمر فاضلي لزمني امتثاله وشملني في إتمامه إقباله. قال: وفي سنة ست وسبعين مات صاحبي المعتمد إبراهيم (بدمشق وأنا بمصر) وفجعني مصاب كمصابه وفل شبا صبرى لفل شبا شبابه وقد كان بمصالحي كافلا وجهده في صون حوائجي باذلا خدمني في أول أيامي بالعراق وفراسة والدي رحمه الله دلت على ما وجدته فيه من الإشفاق ومما رثيته به قصيدة أولها: أرى الحزن لا يجدي على من فقده ... ولو كان في حزني مزيدا لزدته تغيرت الاحوال بعدك كلها فلست ... أرى الدنيا على ما عهدته عقدت بك الأمال بالنجح واثقا ... فحلت يد الأقدار ما قد عقدته أردت لك العمر الطويل فلم يكن ... سوى ما أراد الله لا ما أردته فيا وحشتا من مؤنس قد عمدته ... ويا وحدتا من صاحب قد فقدته فقدت أحب الناس عندي وخيرهم ... فمن لا يمي فيه إذا ما أنشدته قال ودخلت سنة سبع وسبعين والسلطان مقيم بالقاهرة، والأيام ظاهرة الليالي زاهرة، والدزلة العالية ضاحكة المباسم مالكة المرايم مهتزة الأعاطف، معتزة الأطراف، سنية الألطاف، والأنعم مستمرة مستقرة، والأعين قريرة والألسن مقرة، وأنامل الأنام بالدعاء إلى الله مرفوعة، وأدعية الصالحين في ذمام دولته مسموعة، ولرواية الأحاديث النبوية رواء، وللأرواح من أورادها أرواء. وكان البندهي المسعودي فصيح الحجة، صبيح البهجة، عالي الرواية، حالي الدراية يؤدي بقراءته الصحاح صحيحه، تسمع من ألفاظه ألفاظها الفصائح فصيحة وتسمع من ألفاظ السلطان قد عين له للسماع ميقاتا وجمع به من العلم والعلماء أشتاتا فما أحسن شمايله وأشمل محاسنه وأزين محافله وأحفل مزاينه وأمكن فضايله وأفضل أماكنه. قال: وفي هذه السنة ورد كتاب عز الدين فرخشاه من الشام يذكر ما من الله تعالى به على الأنام من الأنعام، وإن ولادة التوم كثرت في هذا العام فأنشات رسالة توأمية أصدرتها إلى الأجل الفاضل فإنه يعرض في سوقه بضاعات الفضايل ومنها: لئن أتأم العام بالحنين وأتى بالحسنين فما زال لكل قد توأمان فللعدل العمران وللدهر القمران وللسماء سوى توأميها الفرقدان وللأرض (مرج البحرين يلتقيان) لكن الزمان لم يزل بميل مولانا الفاضل عقيما واولا صحة فضله وحة أفضاله لكان الدهر سقيما فهو واحده وأوحده وماجده وسيده وبراعته أم البراعة قد أتأمت ملكي مصر والشام وعززت من القن بثالث بيمين الإسلام، والملك توأماه الناصران العباسي بلأمانة كفيل وجود الماجد الأيوبي في نيابته وكيل، والمال والنصر توأما نعت فخره وتميما نحت نجره، وكوكبنا سعد فخره ومركبا جاش حزمه وموكبا جيش عزمه وكذلك النظم والنثر توأما الفضل ومولانا الفاضل مربيهما، وهما نجيبا بنانه وجنينا عنانه وإنسانا عين بيانه فلا جوار لمها من جور عناد الدهر إلا عنده ولا رواح لرجائهما بين كرام العصر إلا ف سوقه ومجده. (203ب) ذكر وفاة صاحب حلب الملك الصالح رحمه الله قال: قد سبق ذكر الملك الصالح اسمعيل بن الملك العادل نور الدين رحمه الله، وأنه أقام مقام أبيه وأقام عند السلطان إلى الشام على تأبيه. وكان قصد صلاح الدين إصلاحه وأن يضمه إليه ويضمن نجاحه وفلاحه فصده عنه ممالك كفلوه فأخذت بلاده كلها بلجاجهم وفرضت دولته لسوء علاجهم فامتنع بحلب وبعد عله من استعادة البلاد ما طلب ولم يزل بحكم المسئولين عليه مكفولا ولا يجد لحلف رأسه عقولا فأسرعت شمسه لبازغة افولا وسعت سعادته عنه قفولا. ووصل صاحب الموصل عز الدين مسعود إلى حلب فجمع ظاهره وباطنه وأخذ خزانيه وإخراج دفاينه وأخلى كنائنه ثم عرف أنه لا ستقر له بها أمر فرغب أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار في تعويضها له بحلب فمال إلى بذله ورغب وتسلم حلب وسلم سنجار وأقام في رغد لو أمن الجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ولما سمع السلطان بوفاة الملك الصالح في مصر تحرك عزمه واحتد أواره وندم على النروج من الشام مع قرب هذا المرام وشرع في جد الأهتمام وصدق الإعتزام وكتب إلى ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه وهو يتولى له المعرة وحماة وأمره بالتأهب والربوض لفرصة التوثب وكان نايبه بدمشق عز الدين فرخشاه قد نهض ف مقابلة الفرنج فأن الإبرنس الكركي كان يحدث نفسه بقصد تيما في البرية وأعد لذلك الأزواد والروايا مع السرايا السرية فحركت عز الدين دواعي الحمية وبواعث النخوة الدينية فعرف السلطان أشتغاله بذلك المهم وأنه يتفرغ لدفع الملم فشحذ عزايم نوابه بالشام بتحديد المكاتبات لهم وبعثهم على الاستعداد وحملهم وكان الأمير معين الدين عبد الرحمن صاحب راوندان في حضنه وهو يشتد بركنه فكاتبه بما أرهف حسه واستسعف في المساعدة جده. فصل من كتاب إليه من مصر في أواخر شعبان سنة سبع وسبعين وقد عرف ما تجدد من وفاة صاحب حلب وهي ولايتنا التي لا نثني عنها عنان الطلب فإنها في تقليدنا بأمر أمير المؤمنين وما تركناه للملك الصالح بعد التصرف فيها وحصول حصونها ومعاقلها في أيدينا إلا رعاية لحقوق أبيه ورغبة فيه، ولا مانع اليوم عنها إلا من يمين معقودة ولا عدة معهودة، وقد وفينا المتوفي بعهده والآن فقد سفر لنا وجه الحق وبأن ودنا لنا مصعبه وأصحب ودان. وولدنا تقي الدين هناك بالقرب وعساكره جارية على حكمه وعزيمتنا معقودة بما هي عزمه فلتكن أيديكم متساعدة متعاقدة والقلوب واحدة. ومنه ومعين الدين ينهض بنفسه وبعسكره ويؤثر في هذا المقام حسن أثره ويعمل عمل المرء لنفسه وينتصف ليومه من أمسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وقال: وحررت في المعنى مكاتبة إلى الصاحب مجد الدين استاذ الدار العزيز في منتصف شهر رمضان سنة سبع وسبعين. ومنها أصدر مملوك الدار العزيز ثبت الله قواعد مجدها وشد بعرى النر معاقد سعدها مطالعةه التي أعرب فيها عن صاحب الموصل فغنه طمع في جانب وطمع إليها ومد يد التعدي بالاحتواء عليها ونكث الإيمان المبرمة ونقضها وترك المراقبة التي فؤضها الله ورفضها وأن حلب وأعمالها داخلة في ولايتنا التي يشهد بها شريف المثال وينطق بحقه المنشور العالي الموقع له من به العظمة والجلال. ومنها ورسوله إلى الفرنج يستجديهم في شغلنا ويغريهم ويبذل لهم الرغايب ويضربهم وقد راسل الحشيشية والمراد من الرسالة غير خاف والعلم بالمعتاد منها غير كاف وما تهيأ للمذكور الوصول إلى حلب إلا بسبب غيبة ابن أخينا في أقصى بلاد الفرنج في أول بريةتيما وهي دهليز على ساكنيها أفضل السلام وأغنم كون البرية معشبة في هذا العام قففا ابن أخينا أثره ومنع الكافر المخذول وصد قصده ولم يعلم بوفاة ابن نور الدين رحمه الله إلا بعد عودته ومن العجب أن نحامي عن قبر النبي صلوات الله عليه مشتغلين بمهمة والمذكور ينازع في ولاية هي لنا ليأخذها بيد ظلمه وكم بين من يحارب الكفر ويحمل إليهم قواصم الآجال وبين من يتخذهم بطانة دون المؤمنين وتحمل إليهم كرايم الأموال وبين بعيد من دار الخلافة المعظمة يفترض الطاعة (204أ) ويستفرغ في مراضيها الاستطاعة، وبين آخر يدعى أنه أقرب جيرانها ولا يمت بل لا يموت إلا عصيانها وكل يعمل على شاكلة أصحابه فهو يمرى بيد المرير أخلاف أخلافه ونحن لا ندين إلا بطاعة الإمام ولا نرى ذلك إلا من أركان الإسلام هذا مع ما نعد من سوابق في الملة الحنيفية والدولة الهادية العباسية لا يعد مثلها أولا لأبي مسلم لأنه أقدم ثم عام وأمال ثم آلام ولا أحرا لطغر لبك فإنه نصر ونصب ثم حجر وحجب وقد عرف ما فضلنا الله به عليهما في نصر الدولة وتطهير المنابر وحسن الأدعياء وأطلاع أنوار السمات الشريفة كاشفة لظلمة تلك الأسماء وإنارة صباح الهدى بعد امتداد رواق الضلالة والمدلهمة الظلما ولم يفعل ما فعل لأجل الدنيا فاجزا منه بالحسنى طولع في الأخرى غير أن التحدث بنعم الله واجب والنجح بالخدة الشريفة والإفتخار بالتوفيق فيها على سجيته غالب ولا غنى عن بروز الأوامر الشريفة إلى المذكور بأن يلزم حده ولا يتجاوز حقه فلا ولا بذله من خليقة يقترن بها المضاد ولا وراثة له في أرض الله فإن الأرض لله يورثها من يشاء، فإن أطاع وأناب ورجع عن الخطأ وعاود الصواب وألا فما صنا إلا أن نقاتله وهو لأمر الخلافة المعظمة مخالف ونحن طايعون والمشار إليه متصامم ونحن سامعون. ومنها فأن جنى جان على الدولة العباسية بالنيابة عنه في ذلك لا يقرب عن دخل معتقده وتنكب نهج الحق وجوده فالأولى تقليد المذكور جميع الولاية فأن دخول الأيدي المختلفة من الأعداء شاغل ويحتاج إلى مغرم ينفق فيه العمر بغير طايل وبقاؤنا في هذه الدار القليل اللبث القصير المكث يؤثر أن نغتنمه في الخدمة الشريفة النبوية والطاعة الإمامية في مجاهدة العدو الكافر الذي صار له البيت المقدس محلا للارجاس ومضت عليه دهور وملوك لم يحصلوا من رجائهم تطهيره إلا على اليأس. هذا وما بنا بحمد الله قصور عن أن نصده عن قصده ونريده ثوب العجز برده ونكيل له بضاعة ونعثره في عثير إسراعه وقد طالع الديوان العزيز بطيه مستشفعا ولشرح قصته مستوفيا ولعذره في جميع الأحوال مبليا ولا غنى من نظره السامي ليكون للأحوال متوليا ولراية الحق معليا لا زال لذخاير الحمد مقتنيا ولقواعد المجد مينا ورأيه أسمى. قال رحمه الله: وفي هذه السنة سنة سبع توجه الإبرنس بالكرك إلى تيما وتقرب من المدينة النبوية على سكانها السلام فشد عز الدين فرخشاه واستعد ووجد التوفيق الإلهي وجد وتوغل في البرية وما زال على مقابلة الإبرنس حتى نكص ذلك اللعين على أعقابه وأذله عز الدين بحق باسه فبطل ما كان في رأسه. وقد جرى ذكر ذلك في الكتاب الذي أنشئ إلى الديوان العزيز وأعرب عنه باللفظ الوجيز. قال وفي هذه السنة توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية وخيمنا عند السوارى وشاهدنا بسنا قدومه أشعة زند الإقبال الداري وشاهد الأسوار التي جددها وأمر بالإتمام والاهتمام بالأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وقال السلطان: نغتنم حياة الشيخ الإمام أبي طاهر بن عوف وهو اسمعيل بن علي بن عوف فحضرنا عنده وسمعنا عليه موطأ مالك بروايته عن الطرطوسي في العشر الأخير من شوال. وتم له ولأولاده ولنا السماع والوالي بالثغر المحروس فخر الدين قراجه وقد ارتفعت بحسن سيرته عن تلك البلاد السماجة. وفزعنا منارة الإسكندرية وقضينا منها عجبا وخرجنا من البلاد ولم نقض على الكمال اربا وعدنا إلى القاهرة في ذي القعدة وشرع البركة بالبركة مضاربة وكتب بحكته إلى الآفاق وتحركت كتايبه فكتب مناشير البلاد وقسم عسكر مصر قسمين فقسم في ثغورنا بحكم الملك العادل وقسم ف الصحبة ووصى بملازمة الثغر الذي هو فيه، وأمر بهاء الدين قراقوش بإتمام السور الداير على مصر والقاهرة، وأمره بمواد ذكر رحيله في آخر السنة إن شاء الله تعالى. ذكر آفة ضيافة قال رحمه الله: كان الأمير مجد الدين سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ لشمس الدولة نايبا بزبيد ثم اسقاله وانفصل وناب بزبيد أخوه حطان وكان قد ابتاع من السلطان الناحية المعروفة بالعدوية وعدل أحوالها بالعمارة السوية وهو من أهل (204ب) المجد والأبوة والفضل والمروة وكانت بيني وبينه صداقة بصدق العقيدة معقودة ومقاربة بزمام النسب الأدبي والحسب العربي مقودة وربما أقام بالعدوية أياما وه ذات جنان وعيون وأفنان وحدائق فاخرة، وهي على الحقيقة جنة القاهرة فداخلها إليه بها يوما وذلك في أول السنة فمضينا في جمع من الأفاضل منهم شمس الدين ابن الفراش قاضي العسكر، وموفق الدين أبو يعلى حمزة بن الحسن العنزي وجمال الدين الفقيه والشاعر أبو علي الحسين بن رواحه حتى قربنا فقربنا القاضي واستقبلنا وتلقانا فوفى كلا حقه من السلام والترحيب والإكرام وترجلنا ودخلنا دارا دارت له الأقدار بالأقدار ووردنا عذبا عدا لم تطرقه يد الأكدار وأجلسنا في الرواق كالملوك والمماليك في الروق قيام واستيقظ لحظنا ناظر الدهر وصروفه عنا نيام، وما زلنا في جد ومراح حتى طما على نهر النهار من الليل السيل وجر على الآفاق من جلابيب غياهبه الذيل فأزهرت نجوم الشموع في أبراج تلك الأروقة وأشرقت شموسها للشموس المشرقة وما منا إلا من زكت أثمار غرسه وذكت أنوار شمسه ونثرت عقود نظمه وكثرت نقود فهمه حتى تبسم الصباح وسعت ينابيع النور من ساحل لجة الديجور فأصبحنا على ما أمسينا عليه من جوا وار وشعار من العار عار. وقال الأمير الأديب: ما تقولون في نزول النيل فقلنا: لأمرك الأتباع وحكمك المطاع فركبنا عشاريا مخضت بالمحاسن عشاره وأغرب من نجاره العربي نجارة فتوسطناه بالأملاك شموسا والبدور على الصبا تصبى النفوس وشموسه الحجال تحجل الشموس والمركب صاعد ونازل والراكب جاد وهازل، وعندنا ل طيب وطاهر وبهي وباهر وزاه زاهر ثم استوت السفينة وأحوتت عليها السكينة وملنا للخروج وعدنا إلى الجلوس وقلنا: قد أطلنا وأحجرنا وأمللنا وأضجرنا فإن أذنت فحلف أننا لا نقوم بل نقيم وأنه يتكلف بكل ما نروم ولا نريم، فذبح من الغنم قطيعا، وصنع قرى وسيعا، ثم رأينا أننا نتريح بالقيلولة لعزم البيتوتة فقمنا وقلنا ومال بنا الكرى وملنا ولم ندر أن النور غيور والأصل عثور فما شعرنا حتى أيقظنا الإرتياع والإرتياب وتقطعت بالمتواصلين الأباب وأصحاب الأمير تشاوروا وتشوروا فقلنا ما الخبر وهم غشا صفونا الكدر فقالوا هذا الأمير قراقوش قد أحدق ببسيطة هذه الحديقة لقبض الأمير وقد شغلته مسامرة الحادثة عن الحادثة السمير ففرقنا وتفرقنا وركبنا إذ أنكبنا ونتفنا ولا عطف أحد على أحد، ولا أخذت يد بيد حتى عدنا إلى القاهرة متأسين متأسفين ملتهبين ملتحفين، وكل من يلقانا من أصدقائنا يغطبنا بالمداعبة ويقول كنتم على الأمير مبارك مباركين فلم لما أخذ كنتم له تاركين وهلا كنتم في المكروه له مشاركين فنقول: هذا قدر محتوم وسر للغيب مكتوم، وشاع عند سلطاننا سره وأعجبه أمرنا وأمره ونقول ما أسفنا على تلك الحلاوة التي مرت ومرت والطلاوة التي سادت يوما بعدما سرت وأحمدت ووجدت العتبى. ذكر السبب في القبض عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قال كان خواص السلطان إذا خلوا به ذكروا المذكور وأن له الذخر الموفور وأنه استوعب أموا زبيد وأقنى الإماء والعبيد، وكنز كنوزا تأبى أن تبيد ولو حضرت ملأت البيد فيقول ما عليه سبيل ولا لما تذكرون دليل، وقد أغناه اله في دولتنا فلا نفقره، وعظمه بعظمتنا فلا نحقره، فكانوا يمتعضون من هذا الحديث، ويتقولون عليه الأقاويل، ويحققون فيه الأباطيل إلى يوم الدعوة العدوية، واشتغاله بأشغالها وتوله إليها لا حوالها، واستدعاء آلات من البلد واحتفاله بجمع المطرف والمتلد. فقالوا للسلطان أن سيف الدولة اليوم في همة عظيمة وحث عزيمة ونهز هزيمة، فإن لم تدركوا فات، وهيهات هيهات، فأمر بهاء الدين قراقوش بأن يعدي إلى العدوية العدوي وأن يركب الجد في احضاره وجدوى فجاءه فجأة على تلك الحالة ولما رآنا عنده عرف اخلال تلك المقالة فأركبه على عادته الجميلة وعزته الجليلة ونحن معه (205أ) وللأمير قراقوش عاتبون وسرنا إلى العصر حتى وصلنا إلى القصر فأرد الملك العادل له فيه دارا ورتب له ولأصحابه من وصايف الطعام والشراب أدرارا فسمح السلطان خاصته بثمانين ألف دينار ولم يظهر فيها بيع متاع ولا اتدانة عقار وعزم لأخوي السلطان الملك العادل وتاج الملوك ما حافظ به على نهج كرمه المشكور وخرج مشرفا مكرما وزاد السلطان في تكريمه ورفع مرتبته ونفذ إليه خط يده بأن المبلغ دين في ذمته ثم باعه أملاكا بمصر بثلاثين ألف دينار وبذل له كل ما طلب عن إيثار واختيار. وكان هذا الأمير من رجاحة عقله وحصافة فضله ما سمعت منه قط شكوى ولا حكاية في بلوى، وقتل أخوه حطان بزيد وأخذ ماله فلم يظهر للسلطان منه كراهة وكل نزاهة ونباهة قال ومما أنشدينه لنفسه قوله ف حال أحضرت. وهيفاء ما زالت عساكر حسنها ... تغير على العشاق ثأره ثائر لها في احمرا الخد خال مورد به ... خضرة شفافة للنواظر فقلت لها ماذا النجيع الذي أرى ... وهل صيغ خال قلبه من جواهر فقالت وقد لاح الحياء وجهها ... حالت جيوش البحر بين المجاهر سكفت دماء واشتققت مزايرا ... فما ذاك إلا من دم ومزاير قال وفي هذه السنة تقرير مع سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب أن يمضي إلى بلاد اليمن وزبيد وعدن ويقطع بها الفتن ويتولاها ويولي ويعزل ويستثبت ويستبدل. فسار بعد مسيرنا إلى الشام وجرت مملكته فيها على أحسن النظام وذلك في سنة ثمان وسبعين. ووصل إلى زبيد وحط حطان عن رمحته فاستشعر وآوى إلى بعض الحصون في ذروته وأمنه وسكنه وزال مخافته وأظهر له رأفته ومارجه ومازحه (ونافقه وأمنه) وأثر له في داره وأدخله الجنة وهو في ناره وهو يقول: أمري بمشية مشيتك يتمشى وملكي بتوشية تدبيرك يتوشى وأنا في مراد مرادك أتغدى وأتعشى فقال له حطان: أنت السلطان ومنك الإحسان وفي تخلية سبيلي لك الامتنان وقد تأكدت منك بالأمان الإيمان فقال له ما أردتك عندي إلا ليرى رأيك زندي ثم أذن له الإنفصال إلى الشام وهو يبدي الكراهية ويريه أن لعيشته بمقامه لديه الرفاهية فجمع حطان كل ماله من سبد ولبد ولجين وعسجد وياقوت وزبرجد وآلات وعدد وحصن وحجور غراب ومال أنفذه من اليمن بغير حساب ثم قدم أمامه أحماله وأثقاله وظن أنه نجا وفاز وركب الأوقات فورد إليه ليودعه ثم يشيعه ويركب معه فلما دخل إليه اعتقله وسير وراء ماله من أقفلة وغلى خزانته نقله ثم أنفذه إلى بعض معاقله فحسبه ثم قتله ومما ذكر السلطان عن خبر ذهبه أن نيفا وسبعين غرفا من غلف الزرد كانت مملوءة بالذهب الأحمر المنقدة وقوم الأخود بألف ألف دينار، وأما صاحب عدن الأمير عثمان الزنجلي فإنه لما سمع بسف الإسلام تجهز إلى الشام قبل أن يحطم كتحطم حطان بالحطام. ذكر عاطفة مستغربة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قال: أقام الملك عز الدين فرخشاه بعد أن صار السلطان إلى مصر بالشام فهيب ورجى وأمل وخشى فعن للفقيه العلم خطيب مرة أن يزور إلى السلطان مثالا يتضمن له منالا شبيه فيه بالخط السلطاني وخطى ووقع له أن يصيب بالتوقيع وهو المخطي فعرضه على عز الدين فما خفى عليه تزويره ودار في الإيقاع به مع أنه من أهل العلم تدبيره، وهابه العلم وارتاع وارتاب وأجاب غراب البين ونوى الإغتراب ووصل إلى مصر وهو مرتعد ومرتعب وقد سير عز الدين بالتوقيع المزور إلى مصر نجانا وترقب في أمره بالعنف جوابا فما تحدث السلطان (205ب) بحديثه بل أذن للعلم في الدخول وأجلسه إلى جانبه وأكرمه وسأله فيما وفد لأجله من مطالب وأنسه بالبشر والطلاقة وصان ماء وجهه من الإراقة فقال له: أية حاجة أوفدتك وأية ضرورة ن قرب الأهل بعدتك فهل كتبت إلينا بالغرض فكنا نعد قضاءه من المفترض فقال له: أصصدقك عن حالي وأخلي بالي المشغول عن بلبالى قد جرى مني كيت وكيت فضاق بي بعده البيت فقال: هذه القضية تعزي بك إلى التغريب وأنت تثري بمأمولك ولا تثريب ونحن ما نحقق ما عدوه مزورا ونودع روح المعلي فيما أحضر مصورا وأمرني بأن أكتب له توقيعا بضعف ذلك الإدرار وكتب له بخطه الأشرف وشرفه بالكسى والمال وأعاده إلى الديار فتعجب الناس من هذه الرغبة الغريبة والصنيعة البديعة فعادة السلاطين الإنتقام ممن يزور على توقيعهم بالإيقاع الشنيع والعقاب الفظيع فخالف تلك الطباع وخرق ذلك الإجماع وأبدع مع عفوه الإصطناع. وقال ومن كرمه وحلمه أنه كان له أمام يصلي به وهو يكتب مثل خطه فأطلق به أموالا وأصلح وأنجح بتزويره لأصدقائه أحوالا وآمالا ولا يشك صاحب ديوان ولا متولي حزانة في أنه صحيح وبالجود صريح فلما دام سنين انكشف وشارف عند السلطان التلف وجلس خواص السلطان واماؤه عنده يغزونه به فمنهم من يقول تقطع يده ومنهم من يقول يقتل ويعلق جسده فلما فرغوا من حديث العقوبة جذبته المثوبة وقلت له بالعجمية سرا تهبه للقرآن فقال وهبته مرضاة للرحمن فتنفس خناقه وعجل وكاد يحبس أطلاقه وأبقى عليه خيره حين استبدل به غيره وصار بعده للملك العادل أماما وبقي شغله معه مستداما وعزم ذلك الإمام على الحج ذلك العام فودع السلطان وقال له اجعلني في حل فقال السلطان: بل أنت تدعو إلي في حلك والإحرام وثق مني عند عودتك بالبر والإكرام. ذكر سهوة تطير قال: كان السلطان عشية توديعه لأهل مصر جالسا في سرادقة آنسا بفيالقه والمجلس غاص وعارض فضله بتلك العراض عراض وكل واحد منا ينشد بيتا في الوداع، ويورد أحسن ما قيل في برح النزاع وهو يقول ما أعبق هذا الشميم وأطيب هذا النسيم، وما أزهى هذه الأزهار وما أسحر هذه الأسحار فأخرج أحد مؤدبي أولاده رأسه وصوب للتنفس كريه أنفاسه وأنشد مظهرا لفضله: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار فلما سمعه خمد نشاطه وتبدل بالانقباض انبساطه ونحن ما بين مغضب ومغض بعضنا إلى بعض وكأنه نطق بما هو كاين في الغيب فأنه ما عاد بعدها إلى الديار المصرية حتى انتقل من دار الغفران إلى غرفاتها العلية. قالومن جملة نسج المعلمين في القول ما حكاه لنا شيخنا أو محمد ابن الخشاب بالعراق قال: ولت إلى تبريز وقد أحضرني رئيسا في داره وقد احتفل في مرابعه بمباره وأجلس ولده بين يدي ليقرأ بعض ما تلقنه علي فقابلت إحسانه بإحساني وقرظت ذلاقة لسانه بلساني وقلت فرخ البط سابح فقال معلمه زكان حاضرا نعم وجرو الكلب نابح فخجلت من خطأ خطابه ومقصوده أن يذكر قرينه ولا يبالي بعينه قريرة أم سخية ودأب آداب أولاد الملوك والرؤساء لاجترائهم على أعزة أولادهم الإجتراء على الآباء وإنما يصلح لمجالسة الملوك من يحتفظ في كلامه ويتيقظ حتى في منامه ويوافق محة مرامه ويلازم مهابه مقامة ويجري في عقود النقود وخصوص الفصول على نظامه وختامه. ذكر بطشه فرنجية وقعت إلى البحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فصل من كتاب إلى الديوان العزيز بشرح ذلك: وجرى عند ذلك من الاتفاقات الحسنة في هذهالسنة أن بطشة كبيرة من مراكب الفرنج مقلعة من بلد لهم يقال له يوليه تحتوي على ألفين وخمسمائة نفس من الرجال القوم وأبطالهم وهم على قصد زيارة القدس في الساحل فالقتهم الريح إلى ثغر ديماط المحروس بجدهم المنكوس فغرق منهم الشطر (206أ) وشمل الباقين بأسرهم الأسر وسقط الفرنج في أيديهم وحل منهم في الأسر زهاء ألف وستماية وستة وسبعين نفسا ذل لها جانب الكفر وقامت بها على الكفرة الفجرة حجة النصر. قال: ودخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة والسلطان لمضاربه مبرز والإيمان لعساكره مجهز ومصر قد أبرزت أثقالها وحقت (وألقت ما فيها وتخلت) وقد خفقت ذوايب الدوابل وانتظمت بحار السوابح وأطردت جداول الصفايح وخرجت المعارف للتوديع والأشياع للتشييع ونحن على العزم الصريح السريع وما من استكثر من الطهر والزاد واستظهر بوفور الإمداد وعزمنا على الرحيل من بركة الجب خامس المحرم على طريق صدر وايلة ثم كانت منازلنا على الجسر ووادي موسى ووصلنا السير بالسرى حتى قطعنا بعد خمس ليال إلى ألة العقبة وسمعنا بأن الفرنج مجتمعون بالكرك لقصد الطريق فصممنا العزايم على جمعهم بالتفريق وشحذنا الجدود وأنفذنا إلى أطرافنا الجنود ثم فرضنا عقبة شتار وذكرنا الأوتار وشددنا بالقسى الأوتار فلما وصلنا إلى القريتين أقمنا لتدمير العدو وأغرنا تلك الأيام العشرة على طرف بلاد العدو ونواحيها وأزلنا نقوش عروشها بمواحيها وأنبتنا في ثنايا تلك الثغور من بيضها بيض أفاعيها فمكثنا على أنهم بغاراتنا يسمعون وفي غزواتنا يطمعون فما برحوا من وراء جواهم ورأى جدواهم فقال السلطان أزوادنا ما تفي بالمقام ومعنا خلق كثير من الخواص والعوام فأقام في كماته المجردة وقال لاخيه تاج الملوك بورى: خذ الناس معك واقصد بهم على طريق مأمونة يمنة فسارت آلايه منتظمة وأتخذت الدجنة جنة وأدلجنا وسار السلطان على سمت الكرك وبيننا وينه وهو مقابلنا فب العرض مسافة يجمع ويقصر فيها الفرض فوردتنا البشاير بنصر عز الدين فرخشاه وظفره وأنه غنم وعاد بكرم مآثره وحسن أثره وسأذكر شرح هذا الظفر بعد انتهاء هذا السفر. ثم اجتمعنا بالسلطان بعد اسبوع على الأردن ثم جئنا إلى بصرى وهنا استقبلنا أنعم الشام وتلقينا أيام من الأيام وجاء الملك المنصور عز الدين فرخشاه وقال قد نال الإسلام بإقباله ما كان يرجوه والكفر ما كان يخشاه وأقرت بجماله وجميله الأعين والألسن وشهدت له شواهد فضله بأنه المحسن المضل وجنت إلينا دمشق ثميراتها ووجبت بحكم الشوق المسارعة إلى الدخول جناتها ووصلنا إلى دمشق يوم الاثنين سابع عشر صفو ووجه الدولة قد سفر ودخلنا منها إلى جنة النعيم وفزنا منها بالمقام الكريم. ذكر ما تم بنهضة عز الدين فرخشاه قال رحمه الله لما عرف الفرنج رحيلنا من مصر وجمع من الناس التجار وأهل الشام الذين يغربوا خوف اللا من الشام اجتمعوا إلى الكرك للقرب من الطريق لعلهم ينتهزون فرصة التعويق أو يقفون على بعض العقاب ويتطرفون للأطراف والأعقاب فعرف عز الدين فرخشاه بدمشق هذا الخبر فنفر وجمع جموع الشام واغتنم خلو بلاده من حماتها وفراغها من كماتها وتسبيبها على رعاتها فنهض إليها نهضة شمرى مشمر وصحبها صباح مدبر على الكفر مدمر وأغار على دبورية وجاز إلى حبيس جلدك بالسواد وهو شقيف طالما شقب بأشقيائه أهل البلاد فأسعد الله عز الدين فرخشاه بفتحه المبين وتم به ذل الكفر وعز الدين، فجاءت خيبة الفرنج من ورائها وقدامها وتنوعت عليها في صحة عزمه أقسام سقامها ولما استقر بنا المقام مدحت عز الدين فرخشاه بقصيدة طويلة أذكر فيها سعادته بهذه الغزوة، ومطلعها: حتى متى يجفى المحب أنه ... إلى الأحباب ذنب والأم تنبو في محبتهم ... له جفن وجنب (206ب) سهل عليكم ما ألاقى ... فيكم وعلى صعب يا ظاعنين وهم نزول في ... الحشا فالبعد قرب من شوقكم أبدأ بأهدابي ... لدر الدمع ثقب لي بالعراق فديتهم أهل ... وجيران وصحب بهم أرى الدنيا فهم ... أقمار داجية وشهب ومنها: كيف اللقاء ودارنا ... وديارهم شرق وغرب من آل أيوب الذين هم ... لغيث الجود سحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ألقوا صوارمهم كأن ... أكفهم للبيض عقب فلك يدور من العلى ... وله معز الدين قطب المدح صدق في علاء ... وبعض مدح الناس كذب ومنها: وكان أرشية الرماح ... لها قلوب القوم قلب وكان سيفك ناظر ... من حوله الأرماح هدب وعرفت أن وكيدهم ... الا لسيفك لا يرب بأس وجود أن ذكرتهما ... فمن عمرو وكعب علياك علمت الفصاحة ... كلنا فالعجم عرب قال: ونعت عز الدين بمعز الدين له وتفضيلا، وقد حسنت البلاد بمحاسنه وزينت بمزاينه، وأخصبت بوجود جوده وسعدت مطالعه بمطالع سعوده، وله مهابة ومحبة في قلوب القبول وتناسب وتناسق في عقود العقول. ذكر نهوض السلطان إلى طبرية وبيسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قال رحمه الله: ولما ألقينا بدمشق عصا النوى عاد غلينا الغزاة الهوى وقال السلطان: لا راحة إلا في التعب ولا دأب لنا غير الدأب، وكيف لا نغتنم طيب الزمان وفرصة الأمكان، والعساكر بحمد الله ماضية العزايم مضية الصرايم، وبرز بجموع العساكر والبحور الزواخر وأغار على طبرية وبيسان وفتك وهتك وكسر وأسر وسل السيوف وقتل الألوف وأذل الأنوف، وكانت وقعة شديدة ونوبة للهداة مبدية وللعداة مبيدة. واستشهد من المؤمنين رجال إلى حمى الحمام عجال وعاد السلطان ولحزبنا القاهر قبول وإقبال ولحرب الكفر الباير أوجال وأوجاع وكانت عودته من غزوة طبرية رابع شهر ربيع الأول، وكان مخيم السلطان في هذا الفوار وعاد إليه في الغزو والفوز، وطال مقامنا به وبلينا بأحبتنا بمكروه، ولم نقدر على اجتيابه فإن ماءه ثقيل وهواءه وبي وبيل وجوه عاقد وجواه واقد وعينه أجون وما لسكانه سكون فالحيات أتراب أترابه والضفادع جازات ضيائه والأساور أساور أحجاره والأفاعي مشاجرات أشجاره، فخفت على مزاجي من انحافه، وأشفقت على نشاطي من انصرافه وانشأت رسالة وعرضها على الأجل الفاضل في تلك المنازل وسميتها برسالة اليات من الرسايل وهي التي من ألفاظها: المملوك في منزلة عيونها سخينة وقطافها ثخية وفوارها فوار وانجادها أغوار وسكانها غير ساكن، وقاطنها غير آمن وجدا جداولها علاقم، وخبا جنادلها أراقم، وحياتها موحيات ونافثاتها نافذات، تسعى ملتويات وتلتوي ساعيات كأنما ترك الترك سهامها والقسى، وألقت السحرة حبالها والعصى أو نبذت السرايا بالعراء السراء وقيدت الغزاة بأذاهم (207أ) أساورها الإسراء، ساعيات بالشر كالأقلام السعايات، تاليات بألسنتها آيات النكايات، كأنما صاغت من سنابلها الخلاخل أو أراغت من لوازعها الغوايل أو رمت للمساوي مساويكها للنساك، ووضعت للعصيان غضبها الفتاك أو حذفت للقارع وراء الغيض الفرسان وناورت في المأزق على إيمان الشجعان المران، ثقال الرؤؤس فإنها قصب الغروس، وهي حطب الخطب وخشب الأشب وخراعات المحن وقذافات الأحن وحذفات السفن وجاريات القدر وحادثات العبر، من طول كحرب الزنج وقصار كبيادق الشطرزج، وأوساط كأوساط العذاب، سراع كأنامل الحساب، وخاطفات كبارقات السحاب، وممارقات النشاب، مشجرات ف الأشجار كأنها أغصانها مستكنات في الأحجار، كأنها خباتها نواظر بعيون كالجمر أو كالشرار، كوامن تحت الصخور كأنها أسرار قلوب الأشرار أن صعدت في الصعاد فالاسنة، وإن أشفقت في أجهاد الجياد فالاعنة وإن تعلقت بقواميها فأشباه الأشباح، أو قيود القيود كالرياح، وإن غلتفت على أذيابها فكالأمطار، وإن نشبت في سبورها فكالأسبار من خضر كضغابيس الخضر وهم كفرايس الحضرة، تخفف كصوائح الأصداع أو كنافخ الصواغ أو كباشق الأتراك أو كألوية الأفلاك وبتر كأيدي السارقين، وسود كأعمال المجرمين، قوابل كأطماع الغيرين، فواتك كأسياف الغيرين مخذولات كلأزمة في الهرين بهامات كالكرين وقامات كاتساع الوضين، تنساب كجداول البساتين وتنثني كأغداق العراجين وتعدم في دار الديموم كأنما تسبح وتعوم كالاساطين كان البطاح بها أجم وأوهاد بها أكم والرمال منها أعلام، وكأنها مكاحل كحالنا الشريف وانبساطه، وصفارته أشباه العهود وأهب الفهود أو حنك الشهود أو سك اليهود أو نكل ذوات النهود أو أذناب النمور وأعضاب الخيل وأنياب الفيول، أو طوامير الكتاب أو مسامير الأبواب من كل غليظة متعطفة على دقيقة منوقة، رشيقة كالخوص وأسهم الوتر على الحقيقة ومن كل رشقاء إذا استلخت من جلدها، ألفت كم درع وأبقت حديد ذرع وسوداء كصحيفة المجرم كصفحة المتلوم، قصيرة مقصرة الأعمار، دقيقة جليلة الأخطار، رشيقة كسهم الراشق، نحيلة كجسم العاشق خفيفة كخفاف الباشق ومن كل صل شجاع ومن كل أسود سالح وأبتر نافح وأشم شامخ وأصم باذخ وأرقط كالواشي المنمنم كأنه رشا المائح أو قصبة الماسح أو صعدة الرامح، أو كأنه سجل الحاصد أو مبضع القاصد، أو كأنه مزمار الزاط أو زنار القبط إن استدارت فقره التارس، وإن استقامت فخشبة الحارس ومن كل أقران كان في رأسه سنابق سنلبين أو في حجاجه سراجين، أسود تفرق بين المرء وحياته فهو غراب البين، حنش في أنفه خنس في خيشومه فطس في عنقه قعس، ناظره نار أو دينار أن قرب فثوار، وإن تلوى قصم سوار هامته مستديرة كالرحى وأنيابه عضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 كالمدى مدرع بنظر عيناه من وراه قيتر، أو كأنما النسيم عض وجه الغدي، لسانه كذبالة الشمعة عند النضنضة وشدقاه كفكي عجوز عند المضمضة تكش كشيش البكر، وينش نشيش القدر، أهابه لاذ ونابه فولاز، وعطفه مايل، ووشاحه حايل ومنه خايل سمه قاتل فهذه حالة هذه الحلة في همامها وهمومها وسمومها، وهواؤها وبي وبيل، كل صحيح غير النسيم عليل بها نفقت سوق الأطباء وخفقت سوق الأحباء وضعفت جسام الأجسام وتضاعفت أقسام الأقسام. ذكر مكرمة للملك عز الدين فرخشاه قال: ولما رحل السلطان من الفوار إلى رأس الماء والأرض طيبة الهواء أرجة الأرجاء والخيم قد نزلت بوادرها وانتظرت أوايلها ليصل بها أواخرها وأنا ساير في موكبي صاير إلى مصري، وقد نزل الملك معز الدين في مقدمة السراديق السلطاني على مرج بهيج، وروض أريج وعين تعرف بأم الدنانير وقد بسط عليها قدام مضاربه من البسط الموشاه الموشعة التخيير فلما أبصرني قال: هذا العماد ساير وهو علينا عابر فنادى بي إلى ناديه ووردت حلول واديه فوثب لي مكرما ورحب بي منعما وأجلسني إلى (207ب) جانبه معظما، وقد أحضر عنده بطيخ أعدت بدوره أهله، وأقامت صدوره على طلاوة ظاهرة ومؤنسه فقلت له: هل عرف المولى أن هذه العين تعرف بأم الدنانير ولا نظير لنضرة رياض دولتك في هذه الروض النضير فاعتقده مني بطلب الدنانير تعريضا وأخفاه في نفسه الكريمة، ثم تعجل رحيلنا صوب الشرق، ولما خيمنا على بعلبك عابرين خرج إلينا صارم الدين خطلخ وإليها وأخرج إلي مائة دينار مصرية في صرة وواصل أيدي بره بميرة من حنطة ودقيق وشعير ومن الأغنام والطيور كل كثير، وناولني كتابا من مخدومه معز الدين مضمونه تبريح لوايح الأشواق والتصريح بلواذع الفراق أنني ما نسيت عين الدنانير فسيرتها وعنيت المحمدة وتخيرتها فكتبت في جوابه ما أكرم من أتيت في يدي وأقر ما قر من عان أبي الطبيب ولله در الجود البكر المولدي ولا سيما وبكر حمدى واسطا فألبثت وأطلت الرسالة بذكره وخلدت ذكرها كتخليد ذكره ثم تعجبت من تيقظه للمكارم وتحفظه من المكاره وما بينه للكرم غير الكريم التائه وجمعت في مديحه نظما ونثرا بين المحكم والمتشابه. ذكر مكرمة مشتركة قال رحمه الله: كان السلطان بمصر زوج إحدى خطاياه أمهات أولاده لأمير كبير من أكبر أمرائه، وكانت عند السلطان في موهبة متسعة ومرتبة مرتفعة، وكانت لها في الخزانة رواتب ممضاة، ووظايف مجراة ولها نفقات وميرات ورسوم وكسوات فلما وصلنا إلى الشام قال السلطان: في بعض الأيام أكتب إلى مصر بقطع ما لفلانة من صلة ورواتب متصلة فقلت له ما يستحسن ما نكارى ووافق إيثاره إيثاري وشكرني على التنبيه شكر النبيه للنبيه وبقيت تلك النعمة مدة عمره عليها داره وتلك المسيرة بها بارة هذا على أنه لم يكن لي بها ولا بزوجها معرفة إلى حسن المناب عنها داعية ولم تعها مني في القضية إذن واعية، ولا ذكرت هذا الحسان ولا عقدت به الإمتنان وإنما ذكرته الآن من مكارم السلطانية ومنايحه السنية. ذكر العزم على قصد حلب وعبور الفرات قال: ولما وصل إلى الشام أظهر إلى قصد حلب صدق الاعتزام وأنه لا بد من استضافتها للأمن من آفتها، ولما عاد من غزوة طبرية وبيسان توجه على سمت بعلبك وخيم بالبقاع. وكان قد وعد أسطول مصر أن يتجهز إلى بعض بلاد الساحل ليوافقه عليه، ويسير بعساكره إليه فجاءه الخبر بأنه وصل إلى ساحل بيروت فبادره السلطان بعسكره جريدة فلما وصل رأى أن أمر بيوت يطول، واكن قد سبى الاسطول منها وسلب، وظفر من غنيمتها بما طلب، فأعار السلطان في تلك البلاد وأتى في تخريبها وأحرقها بالمراد ورجع وأعاد الملك معز الدين إلى دمشق ليقوم في سد الثغور وتسديد الأمور بالنيابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وسرنا لقصد الشرق وجينا إلى بعلبك وخيمنا بمرج عدوسة أياما، وأحكمنا أسبابنا، وسببنا أحكاما، ورحلنا على حمص على طريق الزراعة ونزلنا على العاصي مذعنيين لله بالطاعة ورحل السلطان ووصل إلى حماة وكانت حماة للملك المظفر تقي الدين عمر وهو معه فأمره أن يرتب أمور ذلك الثغر ويتبعه فامتثل الأمر وما فارقه ونقل الأمراء ورافقه وسار فلما قرب من حلب تردد عزمه في المسير إليها والعبور عليها فما شعرنا إلا برسول مظفر الدين كوكبورى بن علي كوجك يشير بعبور الفرات وحضور تلك الولايات. وقال له: أنا مواليك والمعالي فيك وصديق صديقك ومعادي معاديك، وهذه البلاد لك وليس من النصح أن لا أدلك وأنا لديك وبين يديك، فإذا ملكت تلك الممالك، وسلكت تلك المسالك فحلب تبقى من ورائك وأنت بعد ذلك على أيثار عزمك ورأيك وإلا فحلب تشغلك عن الأمور ومهماتها والجزيرة وولاياتها، ولك المحبة العامة والمهابة التامة فإذا عبرت الفرات سلم لك الأقاليم أقاليدها، وجمعت لك طاعات العباد ناديدها، وما زلت شوقا إليك في حران حران وغلى الرق من ورد خدمتك ظمآن، وهي لك مبذولة وبأوليائك مأهولة. والرها لا تعتبر أمرها والرقة لرقك والخابور في انتظار خبرك، ودارا دارك ونصيبين (208أ) نصيبك إذا ظهر استظهارك وملك الموصل يوصلك إلى الملك وما هذا أوان الونا وهل يقدم أحد على عيانك وأنا أنا ثم عبر مظفر الدين إلى بلدته عايدا وبنصرته واعدا وحليت صورة اجتهاده، وتليت سورة أحماده، ووصل البحر إلى الفرات وتبدل بالغنى فقر المقفرات، خيمنا على الفراي من غربي البيرة، وارتاعت العدى من عدوى سطواتنا المبيرة، ومد الجسر كما على الطريق السطر. وكانت البيرة قد طمع فيها صاحب ماردين واستولى على مواضع من أعمالها فلما سمع بنا تخلى ابن إلياس الأرتقي وشرعنا ف تهيئة أسباب العبور وبدأنا بنقل الأثقال على السفن ليحصل من مخاطرة الزحام على الأمن، وضرب كل منا خيمته بالجانب الشرقي يحول إليها رحله وأمددنا من معاقل الأرض بعدة من السفن. والخلق كثير والجمع جم غفير فلما جزنا الفرات وجمعنا من الرجال والرحال الشتات تسلمنا البيرة والعمق كاتبنا أصحاب الأطراف بالوفود للوفاق والتحني عن مذهب الخلاف فإنه من جاء مسلما وللأمر مستسلما سلمت بلاده وصينت طرافه وتلاده على أنه من أجناد لغزو لبكفر وجهاده. وعاد رسولنا من نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب حمص كيفا يذكر أنه مذعن بالطاعة مؤذن بالتباعة واصل برجاله ورحاله وأشياعه وأشيائه وطلب عند وفائه بالعهد وقيامه بحسن البلاء أن يعان على صاحب آمد فإنه تجرد في عداوته وكان العاند العامد فشكره السلطان وأجاب سؤاله وأصاب سؤله ورد إليه مع رسوله رسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ثم رحلنا من البيرة والميرة مبرة، وألطاف الله مستديرة وفي كل يوم قوم لهم في بحرنا عوم وفي كل فجر فجر ولكل جمع جمر وعسكر وافد وعثير عاقد وبيارق تبرق وبوارق تخفق. ونزلنا بالرها واستمرت أياما حصرها. وفيها الأمير فخر الدين مسعود بن الزعراني فتنمر وتذمر وتربض وتصبر ثم رأى أنه لا طاقة فاستبدل من عبوسه الطلاقة وأرسل إلينا بتسليمها لسلامته ووفينا حق كرامته، وتسلمها مظفر الدين وغلى حران مضافة ووجد بهما في رتبة العلاء أنا قد جئتنا إلى حران ظافرين ظاهرين قادرين قاهرين وسحب البأس بارقة راعدة، ومثارات القتام من تحت الصلاد فوق الصعاد صاعدة وأقمنا حتى أقمنا الشعار وأتممنا الاستشعار فرحلنا إلى الرقة وتم الحصر والنزال وفيها الأمير ابن حسان قطب الدين ينال فدارت على قطبه الرحى ورأى من النازلين عليه جنح الدجى في زاد الضحى ثم عرف أنه لا يطيق ومن مكر خطبه لا يفيق فبذل أذعانا وسأل أمانا وسلم وعصم المال والدم وخرج بنفايس أمواله بعد ترك ذخاير عدده وغلاته وفارق وما رافق ووفا لصاحبه وما وافق ورفقنا ريثما أصلحنا الفاسد، ووفقنا الكاسد وولينا في البلد من أهل الجلد من يفي بحفظ المطرف وصون المتلد. ولما أتممنا المصالح وأجملنا المناجح هززنا معاطف الزمان إلى مشهد الرمان وأثنينا اعنة العراب إلى عرابان وحين قربنا منها تلقانا قضاتها ورؤساؤها ورجالها ونساؤها وخينا على ظاهرها فرفعنا منهم الرؤوس ووضعنا عنهم المكوس وضربنا على الضرايب وقللنا بنوب النوايب وتواصلت أخبار وصولنا إلى الخابور وهبت فيه قبول أقبالنا أدبار البور وشاع العدل وذاع ورنبنا على قانون المعدلة الأوضاع وفتحت من عين رأسها عينها وأصلحت بالطاعة والتباعة بيننا وبينها. وقطعنا نهر الخابور على قنطرة التنين وأخذنا الطريق إلى نصيبين يسرة ونصبنا بنصبين خيامنا بعد ثلاث وسلكنا مسالك سهول وأوعاث ودخلنا المدينة وأنزلنا بها السكينة، وجئنا إلى القلعة وقد تحصنت وبمنعتها تحسنت وأشفقنا في حصرنا من سفك الدم وهتك الحرم ووكلنا من يمنع من الدخول والخروج وسلطنا إلى اللجاج على واليها اللجوج فأرسل بعد برهة من الأيام في الغسلام والإستسلام، وتسلمناها بما فيها من أخاير الذخاير وعولنا في تولي نصبين على حسام الدين أبي الهيجاء السمين وكنا قد ولينا الخابور جمال الدين خوشترين. ولما توفر نصيبنا بنصيبين واختلينا من مشرق الظفر النصر المبين وكانت الحشود مجتمعة والوفود مزدحمة والعقود منتظمة والسعود ملتيمة وقطعنا أعمال بين النهرين وأزرنا الرعية زور الرعاية وأمرنا بالعدل والغحسان في تلك الولاية ثم حزناها إلى أعمال البقعة ووضلنا إلى بلد وأشرفنا على دجلة وكنا أوردنا خيلنا في أشهر من تلك السنة في أسفارنا الحسنة (208ب) نيل مصر والفرات ودجلة فأصغت إلينا المسامع ومالت نحونا المطالع، وتواصل إلينا مقطعوا البلاد وترادفوا أمدادا بعد الإمداد ومن ثم صممنا عزم الوصول إلى الموصل وبشرنا الصواري بقرب المنهل وأطرنا الاطراد برياحها الأربع وسرنا إليها بقصد المصيف والمربع وقربنا منها في مراحل متقاربة وقد دمدمت بما أثار الأسد عين القراة وبطشت من ليل العجاج بصفو النهار يد الأزلة وعادت تلك البراءى من مراكز رماحنا بساتين ومن مراكض جيادنا ميادين والليوث معتقلات ثعابين ممتطيات سراجين وكأنها رياض تخلوا بأيديها من القواصب رياحين قال: ولما قربنا من الوصول كبرنا تكبير من ظفر بالسؤال وتقدم السلطان في الأمراء ذوي الآراء ودار حول السور وعين لكل مقدم مقاما ولكل مقدم أقداما فنزل هو وراء البلد وتقي الدين من شرقيه بأهل الجلد وأخوه تاج الدين بورى عند باب العمادية، ودايقنا الأسوار أشد المدايقو وصاحب الموصل حين إذاً أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي وتولى نايبه مجاهد الدين قايماز حافظ البلد بأحسن تدبير وتلقى كل ما قابله من العسر بوجه يسير. وكان قد كاتب الديوان العزيز لإيعاز بأعزاوه وإيعانته على أعوازه وله موعد إنجاح وإنجاد عند الصاحب مجد الدين فتقاضى بإنجازه. ذكر وصول رسل دار الخلافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قال: ووصل إلينا الخبر بأن رسل دار الخلافة المعظمة واصلون، وفي أمر الموصل شافعون وهم شيخ الشيوخ وشهاب الدين بشير ومعهما من خواص الديوان العزيز جمع كثير فتلقاهم السلطان بالصدر الرحب والبشر العذب والخطاب المتوجه بصرف وجه الخطب وكنت إلى جنب السلطان له مسايرا وفي الهام ناظرا ومناظرا والموكب مشهود والطلع مسعود وشاع أن شيخ الشيوخ قد وصل في الصلح وأغلق باب الفتح وإطفاء الوقود وإخفاء الحقود. ووصل مظفر الدين قزل ارسلان حسن الجاندار واجتمعت رسل الآفاق داعين إلى الوفاق فقال الذين لاذوابنا من أهل البلاد من الأجناد الأتراك والأكراد هؤلاء غدا يصطلحون ونحن نحظى بالإخفاق وحرمان الأرزاق ونبوء (بالشقاق والشقاء) وأخذوا أمان البلد ودخلوا واعتذروا لأننا نشبنا ووافقهم جماعة من أصحابنا طمعوا في الخلع وهذه من أيسر جنايات الطمع ونحن نصرع باب المصلحة والإستواء على المكافحة وترك قبول الشفاعة وإفراغ المجهول في شغل الحصر وبذل الإستطاعة في كل يوم نناوب القتال ونعاقب النزال، والملك المظفر تقي الدين يحمل من جانبه ويبلي ويجري في مضمار النضال وهو الساق المجلى وتاج الملوك أخو السلطان يبارز ويحاجز وجمرات اللظى تضطرم وغمرات الوغى تقتحم وشيخ الشيوخ ينهى وينكر ويقول أنا جئت في التوسط والمنع من التورط وهذا الفعل الممقوت إذ غبت لا يفوت فإن كان لي قبول فاصبروا حتى أرسل من اليوم إلى القوم أو أتكفل في متاع هذه المتاعد برفع الثوم فقلنا له: السمع والطاعة والحب والكرامة وما أحسن مرادك إذ أردت السلم والسلامة. وتحولنا إلى جانب لا يبعد على الرسل طريقه وارسل شيخ الشيوخ إليهم صاحبه وذكر مطالبه فشرعوا يندبون في كل يوم رسلهم ويملأون بالمراسلات الخادعة سبلهم فخرج أول يوم جمال الدين محاسن مع أخ الشريف النقيب واستفتحا فيما عراهم بالتقريع والتأنيب وكان حضورهم في خيمة شيخ الشيوخ فأنفذ إلى السلطان من عرفه وصولهم واستدعى من ثقاته الذين يسمعون فصولهم فتقدم إلى لأجل الفاضل وغلى الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري بأن نحضره ما يقولون ونحصي فإذهبوا ذلك اليوم بالشكاية ولم يواصلوا مبدأها إلى الغاية ثم قالوا ندخل غدا بالحديث المين والأثر المعين وجاءوا ضحوة الغد وذكروا مطالب متكثرة ومآرب متعذرة واقترحوا إعادة البلاد المأخوذة وقصدوا بها تقليل الجدود المشحوذة وأن نعود إلى الفرات ثم نتكلم بما يعود بجمع الشتات ومكثنا على هذا السننقريبا من شهر ولا ننتهي إلى أمر مستقر وشيخ الشيوخ ينسبنا إلى أن لا نؤثر الفضل فدخلنا في كل ما أراده وانفصل الأمر على أنهم يريدون إلينا حلب ونرد على صاحب الموصل كل ما طلب وكان قد عرف الأجل الفاضل فحوى مقالهم ودعوى (209أ) مجالهم فانقطع بعد أيام عن الحضور وكنت أحضر والفقيه عيسى للسماع والإنهاء والتحمل والأداء ثم انقطع الفقيه عنهم وتأنف منهم واستمر ترددي ولم أجذب عن المهم المقاتل والمخاتل ويظهرون الوفاق ويذهبون في الشر إلى الخلاف حتى وردهم صفو وأن وعدهم من الخلاف خلو فمضى إليهم شيخ الشيوخ في أبرام العقد المنسوخ فظن أن وردهم صفو وأن وعدهم من الخلاف خلو فمضى إليهم ورآهم متفرقين في طرف التلون والتلم غير مجتمعين على سلوك النهج الأقوم وأنكروا كل ما ذكره رسولهم وأن سوى ما شاء سؤلهم وأن صلاح الدين أن أراد وفاقا رد بلادنا ورحل عنا ونحن نخلي بينه وبين حلب ولا يطلب أيضا اعادنا عليها فإن لعماد الدين زنكي أخينا معنا يمينا فكيف يجد منا عليه معينا فإن رضيتم بما سألنا وإلا فما سمع الناس وما قلنا. وكان المقرر مع الرسل أنهم يسلمون إلينا حلب ويستعيدون منا البلاد ويحضرون معنا الجهاد ثم ندموا على ما قدموا من التقرير وأخذوا في غيره من التدبير فانصرف مغضبا وخرج إلى بغداد متوجها وعلى نكر مكهم متنبها فخلوا إليه وتضرعوا وتشفعوا وقالوا: تعود وتعيد ما سمعته وتحلي من المعنى مااستملته فعليك ترد لطف ما صعب إلى المنهج الأسهل ويأتي العل بعد النهل فرجع بغير مارجا واستكشف عندهم حجاب الحجى فلما اجتمع بالسلطان استعفى من الكلام واستوفى حديث ما سمعه وأبصره من الأقسام فقال له: هذه أشهر شراف وقد عزمنا أن نرحل ونهب لوصولك الموصل وكان نزولنا عليها في رجب ودخل شعبان وامتد الزمان. ذكر الرحيل إلى سنجار وفتحها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قال: كان من سنجار من عسكر الموصل مدة عليها يقطع دوننا الطريق ويمنع السير فأمر السلطان ابن أخيه الملك المفر تقي الدين عمر أن يمضي لحصر سنجار وقسر من جار فسار في الأسد والغاب والجيش الغضاب فنهض في بحوره وأمواجه وجموعه وأفواجه، وخفقت كواسره ورعدت قساوره وترتبت ميمنة وميسرة، وقلبا وجناحا عساكره وصبح بمنزلة بارنجان قريبا من سنجار عسكرا من الموصل إليها مجردا فأخذ خليهم وعددهم مشتت عدوهم ووكل بهم من ردهم إلى الموصل رجالة ونالوا من عثرتهم منه اقالة واحتبس عنده مقدمين محترمين مكرمين وكتب بخبرهم إلينا وقال: قد وفينا بما علينا فاغتنموا استضافة سنجار فإنها غعنيمة وخير ما تصمم له عزيمة فرحلنا ومعنا رسل دار الخلافة ومطالع المطالب مؤنة بالانابة والأناقة ولاح سنا سنجار بعد ليال ونزلنا على عيونها، وطرقتها الخيل طروق خيال واقتسمنا المنازل حواليها وولينا الوجوه إليها. وفيها شرف الدين أخو صاحب الموصل فاحتمى منها بالمعقل، وكان معنا نور الدين بن قرا رسلان صاحب حصن كيفا فأنزلناه في أنزه الرياض وأنضرها وأرج البساتين وأعمرها فأذن نزولهم بنزولها والحاق معالمها بمجاهلها فقطعوا أشجار ووصلوا أشجانا ورموا جدرانا وخروا عمرانا. وأنهى غلالسلطان اجتراء القوم واجتراحهم ومراى فسادهم وكان المرام اصلاحهم فيغتم ويمتعض ويرتقب إلى ذروة الاباء ويرتمض ويبتعد ويمتنع ووبخ ويقرع. فصل من كتاب أنشأته إلى الديوان العزيز عن السلطا وقد ترك الموص في العاجل اكراما للشفاعة والتزاما للتباعة واشتغل بسنجار لينظمها في السلك ويضمها إلى بلاده الداخلة في منشور الولاية. ومنه: ومن جملة نعم الله التي نحمده على اتمامها وصول المبشر اليمن بفتح زبيد وأن حطان ابق اباق العبيد وأن الكلمة فيها قد اتحدت القلوب قد اتفقت. وكان الخادم قد جهز إليها جيشا من مصر لتمهيد أمرها وإخراج من خرج بها منها فجرى الأمر على وفق المراد وانتظم في سلك السداد. ومن جملة البشاير الواصلة من مصر عود الأسطول المنصور نوبة ثانية إليها كاسبا غانما غالبا بعد نكايته في أهل الجزاير بالخساير وبعد أخراب ما وجده فيها من الأعمار والعماير ومن جملة ما ظفر بطشه كبيرة من مراكب الفرنج تحمل أخشابا منجورة إلى عكا ومعها نجارون ليبتنوا منها سواري فأسر النجارون ومن معهم وهم نيف وسبعون وأما (209أ) الأخشاب فقد انتفع بها المجاهدون وكفى شرها المؤمنون وللخادم عسكر في المغرب قد بلغ أقصى افريقية فتوجه وعادوا به بهاء الدين في تلك البلاد روجه. قال: ولما أنخنا على سنجار واستفتحن الاستفتاح بالرسايل وقريبا من السور من يكلمهم فكلموه وأفهمناهم الرشد فما فهموه وناظروا بالسنة النصال ونظروا بأعين المصال فقدم المنجنيق وهدهم النيق الوثيق وأغرينا النقابين برفع نقاب السور وهتك حجابه المستور. ودخل رمضان فقلنا شهر مبارك وبر متدارك ففترنا ونحن في زي الإرهاب وسكنا مظهرين التحرك للإرعاب فطال عليهم الأمد وضاق بهم الجلد، وتمادت المدد فسكنوا إلى السكون وركنوا إلى الركون فجاءنا ليلة من أخبرنا بأن الحراس نيام فندب إليهم منا أنداب نجازهم ونجادهم وضبطوهم وربطوهم وأنقضوا عليهم انقضاض البزاة على القنص، واغتنموا في قبضهم انتهاز الفرص، وهم من المقدمين وأعلام المعلمين فأصبح الذي بسنجار بادي الغنكسار قد عرف العقبى واعترف بالعتبى وأحسن في التقاضي وأقتضى الحسنى وأجيبت دعوته ورعيت أذمته وسيرت إليه هدايا وتحف وزلف لكونه من الأولاد الاتابكيه، وشرف أصحابه وخرج عن العطاء الحساب بحسابه وخرج من سنجار بكوسه وعلمه وحشره وحشمه وعبيده وخدمه وأخلى لنا المدينة فأسكناها السكينة، وخرج إلينا أعيانها وحسن بنا ظهورها وظهر إحسانها أفراح رعاياها فرحين برعايتنا منتصفين من الليالي بأيامنا مستسعفين ألاء أنعامنا. وما أسرع ما أعدنا عمارتها واستجلينا بالمباهى مباهجها وأخلينا من المناهى مناهجها وألفينا رياستها لصدورها بنى يعقوب فأتيناهم من كرامتهم سؤلهم المحبوب المخطوب. وعول السلطان في قضائها على نظام الدين نصر بن المظفر فإنه كان أعرفهم بحكم الشرع المطهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وكان الأمير سعد الدين أنر مسعود أنار سعده وسار بالذكر الحسن مجده والسلطان يعتمد عليه في إعلانه وأسراره وإيراده وإصداره وأخته ابنة معين الدين أنر في حيالته فلم يعتمد إلا عليه ولم يسلم مدينة سنجار وقلعتها إلا إليه وولاه وقدمه وحكم سيفه وقلمه وأبقى عنده من خواصه من استحمد شيمه واستفرد في النجح ديمه. ولما قضينا بسنجار الآراب شاورنا الأمراء فقالوا قد توسطنا الشتاء والصواب الإقامة بمكان حتى ينقضي فصله وحينئذ نستأنف الفتوح ونستزيد من الله بزيادة الشكر بره الممنوح فرحلنا إلى نصيبين فأقمنا حتى ودعنا شيخ الشيوخ صدر الدين وشهاب الدين بشيرا وركبنا معه حتى توجه سايرا إلى العراق وشكى أهل النصيبين ما هاج من نصبهم بأبي الهيجاء فاستملنا إليه بصرفه رحال الرجاء واستصحبنا المذكور معنا ورحلنا إلى دارا وتلقانا أميرها صمصام الدين بهرام الأرتقى فأكرمناه واحترمناه وأرفدناه وأفدناه ووصلنا إلى حران في أوائل ذي القعدة وألقينا بها حران. وسار الملك تقي الدين بعسكره وعبر الفرات إلى حماه وعاد كل متغرب من بلده إلى مثواه وأقمنا بالمخيم بظاهر حران في الخواص من ذوي الاستخلاص في أحلى حالة وأجلى جلالة وقلنا أن الدهر قد أطمأن والأمر قد أرجحن، وأهل الموصل مع من وازرهم في حشد وطي ونشر وأظها، أيد وأظمار كيد وقد اغتنموا لتفرق جموعنا الجموع واعتزموا إلينا لرجوعنا الرجوع ونحن مع قلتنا ثابتون وفي حلتنا نابتون وهم يعتمدون إنا إذا سمعنا بجمعهم نتفرق وأننا نتأخر ولا نتقدم وعلى ما فرطنا في حقهم نتندم فاستحال تخيلهم واختل تحيلهم على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر وفاة الملك المنصور معز الدين فرخشاه بدمشق في جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين قال: وبعد انفصالنا عنه بالشام لازم الجهاد بجد الاجتهاد وصدق الاعتزام فوعك في نهضة من نهضاته وأعضلت خلاف ما اعتاد من أعضائه، ونهك بمرضه اشتدت عليه فعاد على دمشق منيبا إلى الله في طلب مرضاته وانتقل من حومة الشهادة إلى حمى السعادة ومن غار الاغترار إلى مقر الاستقرار ومن الرتبة إلى التربة ومن الوطن إلى الغربة فتبا للدهر ما تبقى بناته على بنيه ولا يلي بكبواته بالسوء سوى مواليه. لقد فجعت الدين والدولة به ملكا هماما ماجدا ماجد في الأمر إلا بلغ وغلب ولا سعى لنجح إلا ظفر بما طلب ولم تزل المستشار المؤتمن والمستجار المتمكن وكان السلطان (210أ) يقطع برأيه ويصل ويكلأ الثغور إليه ويكل. قال: رآني يوما بين يدي السلطان وهو يأمرني بفصول أكتبها ومقاصد في مجاوبات مكاتبات أرتبها وأنا ساكت مصغ وساكن غير لاغ ولا ملغ فعجب مني في السكوت والسكون وأطراقي وترك استفهامي عن طرق تلك الفنون فلعبت به مرجمات الظنون فقمت وكتبت الكتاب ونظمت تلك الآراب وكسوت كل معنى لفظ الفضل وختمت كل قضية بنص الفصل وزدت وزنت وعبرت بحصا الحصافة ما وزنت وجئت بالكتاب مسطورا وبالأدب منشورا فأقراه معز الدين فرخشاه فقال لله درك من فضلاء الكتاب وتلا " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب" ولقد كان له في عقودي اعتقاد ولأموري افتقاد وهو من أهل الفضل ويفضل على أهله ويغني الكرام عن الابتذال بكرم بذله وكان من أخص خواصه وذوي استصفائه واستخلاصه الصدر الكبير العالم تاج الدين أبو اليمن الكندي أوحد عصره ونسيج وحده وقريع دهره، وهو علامة زمانه وحسان إحسانه ووزير دسته ومشير وقته ورفيق درسه وشعاع شمسه يروي بصوب روائه صواب آرائه. قال: وكانت منايح عز الدين بواعث القرايح ودواعي المدايح ولي فيه قصائد منها كلمة هائية موسومة مدحته بها في أول سنة صحبت فيها السلطان إلى مصر وهي سنة اثنتين وسبعين وعارضها تاج الدين أبو اليمن بكلمة بديعة في وزنها ورويها فأما كلمتي فهي: بين أمر حلاوة العيش الشهي ... وهو أحال طلاوة الزمن البهي وصبابة لا أستقل بشرحها عن ... حصرها حصر البليغ المدره أما عقود مدامعي فلقد وهت ... وأبت عقود الود مني أن تهي ومنها في المدح: أنت بني أيوب أكرم عصبة ... هذا الزمان بفضل سؤودكم زهى إن الملوك تخلفوا وسبقتم ابن ... السوام من العتاق الفره أن يجحد الشاني علاك فهل ... ترى إشراق عين الشمس عين الأكمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بك أصبحت راياته منصورة ... يا سيدا عنت الوجوه لوجهه وأما الكلمة التاجية فهي التي أولها هل أنت راحم عبرة وتوله ... ومجير صب عند مأمنه دهى من بل من داء الغرام فأنني ... مذحل من مرض الهوى لم أنقه يا مفردا بالحسن أنك كنت ... فيه كما أنا في الصبابة منته قد لام فيك معاشرا فانتهى ... باللوم عن حب الحيوه وأنت هي كم آهة لي في هواه وأنه لو كان ... ينفعني عليه تأوهي ومآرب في وصله لو أنها تقضي ... لكانت عند مبسمه الشهي ومنها في المدح فليحجج العلياء منه مجرب ... يوم الجلاد وفي الجدال بمدره متنبه للمكرمات ولم يكن ... يوما ينام فيبتدي يتنبه إني على شرف القريض لهاجر ... للنظم هجرة آنف متنزه أضحى وأهله كمهد وحيهم ... في جهل قيمة ذي الحجا والاوره كل المميز سامعا ومنشدا ... في الناس بين مفهه ومفوه (210 ب) ذكر نصرة الأسطول المتوجه إلى بحر قلزم وكانت في شوال سنة ثمان وسبعين والمقدم فيه الحاجب حسام الدين لؤلؤ قال: لما صعب على الإبر نس صاحب الكرك ما توالى عليه من نكاية أصحابنا المقيمين في قلعة ايله وهي في وسط البحر لا سبيل إليها لأهل الكفر أفكر في أسباب احتياله، وفتح أبواب اغتياله فبنى له سفننا ونقل أجسامها على الجمال إلى الساحل ثم ركب منها مراكب وشحنها بالرجال والآلات ووقف منها مركبين على جزيرة القلعة يمنع أهلها من استسقاء الماء ومضى الباقون في مراكب نحو عيذاب فقطعوا طريق التجار وشرعوا في الفتك والنهب والإسار ثم توجهوا إلى أرض الحجاز فتعذر على الناس وجه الاحتراز فإنه لم يعهد في ذلك البحر طروق الكفار فعظم البلاء وأعضل الداء وأشرف أهل المدينة النبوية على خطر، ووصل الخبر إلى مصر والملك العادل متوليها ورافع أعلام الإسلام ومعليها فأفكر فيمن يسلك إلى القوم في البحر ويفتك بأهل الكفر ووقع على السهم المختار والليث المغوار الحاجب حسام الدين لؤلؤ، فعمر في بعمر في بحر القلزم مراكب وملأها بالرجال البحرية ذوي التجربة والتحرية من أهل النخوة للدين والحمية وسار إلى إيله فظفر بالمركب الفرنجي عندها فحرق السفينة وأسر جندها ثم عاد بأهلها إلى عيذاب وشاهد بأهلها العذاب، ودل على مراكب العدو فاتبعها وظفر بها بعد أيام فأوقع بها وأوقعها فخرجت إلى بعض سواحل البرية بشعابها مجتمعة في تلالها مرتقية ولم يزل الحاجب لؤلؤ ناكب مراكبها وراكب مناكبها حتى أزالها وهجم على كثرتها فاستقلها، فما استقرت وفرت وتفرقت وما بدا بالسفن فأطلق المأسورين من التجار ورد عليهم كل ما أخذ منهم من المتاع والدرهم والدينار.. ثم صعد إلى البر فوجد أعرابا قد نزلوا منه شعابا فركب خيلهم وراء الهاربين فحاصرهم في شعب لا ماء فيه وألحاهم بالإظماء حتى استكانوا واستهانوا واستأمنوا واستسلموا فأسرهم بأسرهم وكان ذلك في أشهر الحج فساق منهم أسرى إلى منى كما يساق الهدى، وعاد إلى القاهرة ومعه الأسر والسبي، وقد بذل وسع النجح ونجح السعي وجاءت البشرى بما من الله تعالى به من النصر فكتب السلطان إليه بضرب رقابهم وقطع أسبابهم بحيث لا يبقى منهم عين تطرف ولا أحد يعلم طريق ذلك أو يعرف. ذكر تولية الأمير شمس الدين بن المقدم بعد الملك معز الدين فرخشاه قال: لما وصل إلينا بوفاة معز الدين النعي فترمنا إلى البلاد الشرقية السعي وكنا عبرنا الفرات على قصد الرهى وقد دنا منها دارها ودرها. فتقدم السلطان إلى شمس الدين بن المقدم بالعودة إلى دمشق أخذا بالأحوط الأحزم وهو أكبر الأمراء المقدمين، وأكرم الأكابر المكرمين، وهو القرم الذي لا يوجد قريعة. والقرن الذي الذي لا يستقل في الوغى صريعا وأمرني بإنشاء منشورة وتحكيمه في أحكام أوامره وأموره. ذكر مكرمة لمظفر الدين كوكبوري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال: لما وصل السلطان حران عند عبوره الفرات وبعد تسلم الرهى أبلغ في إكرام مظفر الدين المنتهى المشتهى وقام المذكور بما وجب عليه من حق الخدمة وشكر النعمة واحتفل بنزولها على بلده وسخى لنا بسبده ولبده ومن غرايب رغايبه أنه نفذ إلى صاحبه بألطافه وأنه يعتزر عن المقدم المنقود بوعد إضعافه ويقول ههنا بحران قرية من قراها وقد جعلت برسم وفادتك قراها ولم تزل هذه الضيعة المسماة ضرعة باسم كاتب الموصل وأنت أولى بها فأنت يمين الدولة وأجل كتابها، واستأذن السلطان في كتبها إلى ملكية شرعية معقودة مرعية فأشهدت عليه وعلى السلطان بإجازتها وتغردت بحيازتها عشر سنين إلى آخر العهد السلطاني سقاه الله العهاد. قال: وفي هذه السنة أنعم السلطان على نور الدين بن قرار أرسلان لأعمال الهيثم ثم سلمها إليه دون أعمالها تحلة ليمينه ووفاء بوعده لكرمه ودينه، ولما جاء لمساعدتنا في هذا العام خصه عاجلا بهذا الإنعام ثم وهب له قلعة الجديدة وهي من نصيبين (1211) قريبة ولاستصراخ من يدعو أمنها مجيبة ووعده بفتح أمد له وأن ينجح بتسليمها إليه أمله فقط كان أبوه فخر الدين قرار أرسلان درج على حسره أمد وكان الرئيس علي بن نيسان مرتبا لحصافتها ومزيلا لحصانتها، ولم يزل منها الإبلق الفرد راكبا ولكل من يقاربه فيها مجانبا، وكان يضرب بأحكامها المثل، وفي تيسير فتحها يحقق الأمل، وابن نيسان متغور في كهفه متكهف في غاره، آمن من النوازل والدواير بمنزله وداره، وكان لآمد أمير قديم يقال له ايكلدي من أيام السلاطين القدماء، وولده محمود شيخ كبير عنده يطعمه ويسقيه ويدعي أنه من غلمانه ومصطنعيه وانه يحفظ البلد له ولا يغدر به ولا يؤثر بدله وإذ جاء رسول يحضره عند أميره، ويسند ما يديره إلى تدبيره، ويقول: أنه غلام وما معه كلام ولا عليه فيما يجري ملام. وكنت عبرت في سنة خمسة وستين لآمد، فقد سيرني الملك العادل نور الدين رحمه الله في مهم، ودفع ملم، واتفق نزول بظاهر آمد بكرة جمعة وحسبت صلاتها على غير ممتنعة فقيل لي تحتاج إلى إستيذان الرئيس وذلك محتاج إلى مقدمات ونتائج ومواصلات ووشايج فقلت: هذا عزر وقدح ضاق الوقت ثم تقدمت إلى غلمان ببتياع مل لا بد منه للطريق من الطعام والعليق فقيل هذا أيضا مشروط بإذن الرئيس فأسرعت الرحيل إزالة للكربة بتنفيس فقدر الله بعد سنين في الدولة الصلاحية أنني دخلتها بالسيف وحللتها حلول المالك لا الضيف، وإنما شرحت هذه الحال استدلالا بها على حزم ابن نيسان. قال: وتوفي وتولى مكانه ابنه مسعود على رسم أبيه وجرى على عاده ثابتة ولم يخطر ببال أحد من الملوك الطمع فيه حتى جاءت الأيام الصلاحية، وصار ابن قرار أرسلان من أشياعها وتدين بأتباعها وأطعمته في إقتناص أبكار الفتوح وافترعها وعرفته أن آمد آمد لا يبعد وأنه عن القيام بمساعدته فيها لا يقعد، وحلف السلطان له على هذا الوعد، وأنه يحقق في حقه صدق القصد. قال: وكان جمال الدين عيسى صاحب السويداء مسايرا لي في طريق ومذاكرا في جليل ودقيق، وفي جملة ما قاله هذا سلطانكم يحلف على المستحيل فإن فتح آمد ممتنع الدليل فقلت له: سعادته من الله تزلل المصاعب، وتسهل المطالب ولما خيمن بحران بعد العودة من الموصل تقاصى ابن قرار أرسلان بإنجاز عدته فأذن في تفرق المعسكر للاستراحة ووعده بتحقيق الوعد عند العودة واستمر على هذا العهد إلى أن وصل الخبر باجتماع شاه أرمن صاحب خلاط، وأنه اتصل به صاحب الموصل عند ماردين وأنهم خرجوا على نية أن يكونوا لنا طاردين ماردين ذكر السبب في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قال: كان عند نزولنا على الموصل وصلت رسل شاه أرمن فيها شافعين ولأسباب الحروب رافعين ثم استتب الرحيل عنها إضهارا لقبول الشفاعة الأمامية وإعلانا بسر الطاعة الناصرية. ونزلنا على سنجار ووصل سيف الدين بكتمر وهو أعز أصحاب شاه أرمن وبذل السلطان في الشفاعة في سنجار كل ما أمكن فاشترطنا شرايط ما قبلها فنفر سيف الدين وسار مغيظا وأبدى خلقا خشنا، وقال قولا غليظا، ولم يقبل خلعه ولا نفقه ومضى إلى صاحبه ونحاه ونقله عما توقاه إلى ما توخاه، وشاه أرمن ظهير الدين سكمان هو خال صاحب ماردين قطب الدين الكازي بن ألبي بن تمر تاش وهذا ابن خال صاحب الموصل عز الدين مسعود بن مودود بن زنكا وكتب إليه واستدعاه وخرج واجتمع به وأتاه الياروقية وغيرهم من عسكر حلب ونزلوا من ماردين إلى ضيعة يقال لها حرزم وموج قصدهم يرزم. وجاءنا خبرهم فلم يندبه إكتراثا ولم يظهر لصحته التياثة، وكتبنا إلى أمرائنا الغائبين فبادر الملك المظفر تقي الدين من حماه إلى حران في خمسة أيام ووافانا بجد اهتمام وصدق اعتزام وقال: قوموا بنا إلى القوم فلا تعودوا بعد اليوم فقلنا أنهم في كثرة ولا بأس بالإحتراس من عثر وهو العشر المبارك من ذي الحجة والنصر مع الصبر واضح المحجة (211ب) فأبا إلا الرحيل موافقة لرأي السلطان ومتابعة لأمره ومشايعة لسرور سره. وأقمنا حتى صلينا العيد، واستقبلنا الطالع السعيد، وقدمنا الإزماع وأجلنا الاتساع وسرنا بالأسود في غارها، والبروق في سحابها وقدمنا من الرعب جيشا وأبدينا من الحلم طيشا وعلونا الجدد لعزا يم صحيحة غير عليلة، وتلونا كم من فئة قليلة ونزلنا برأس عين فطار الخبر إلى القوم فطاروا شعاعا وتفرقوا ولم تدر لما در من شموسهم شعاعا وذلك يوم عرفة فتركوا الوقوف، وعزموا العزوف ونفروا قبل يوم النفر، ونحروا أضاحي جلدهم قبل النحر وعاد الخلاط إلى خلاط باختلاطه، ورجع الموصلي إلى الموصل بمواصلة احتياطه، واعتصم المارد يني بحصنه المارد وهتكوا حزر حزرم الصادر والوارد وهاب عسكر حلب العودة إليها ونحن على طريقه فأذن جمعه بتفريقه، ومضى معظمهم إلى الموصل فعبر الفرات عند عانة ولم يجدها إعانة الإعانة ونسفتهم ريحنا وهم جبال وذهبوا بقلوب النساء وجاءوا وهم رجال ووصل إلينا خبرهم ونحن للقصد سايرون ولجناح النجاح مطا يرون وأكملنا المسير وقلنا هذا أخلى المشاه وقعته ببيارقه وأفراسه ورخاخه وخاف وقوعه في الشرك قبل نصب فخاخه، واستصرخ صاحب الموصل به فلم يظفر باصراخه ولم يصغ إلى نصائح أشياخه فإن مجاهد الدين قايماز مايزال يشير بالثبات ويحذره مخاوف الزلات ومواقف العثرات، وعرف بنور فراسته عاقبه الحال ومغبة الاستعجال. ولما نزلنا في منزلة القوم لم نسمع لهم خبرا ولم نعاين لهم أثرا، وهناك بحزرم لصاحب ماردين قصر مشيد على حسنه مزيد وقد زوقه وصوره وحاله جنة (تجري من تحتها الأنهار) ويترنم من فوقها الأطيار وتترنح منه حولها الأشجار فأبقينا بأسه الأثير الأثيل وأشفقنا بنيته الكثيف الأثيب، وعصمنا عمارته من التشعيث، وأقام فيه تاج الملوك أخو السلطان برسم التنزه بحفظه عين التنبه. ذكر المسير إلى آمد وفتحها وكان النزول عليها يوم الأربعاء سابع عشر ذي الحجة وفتحها يوم الأحد قال: ولما أحمدنا المقاصد وقصدنا المحامد واغتنمنا أمد القرب من آمد وقلنا ننجز لنور الدين المواعد، وكنا لما رجعنا من الموصل كتبنا نطلب الأذن من قصد آمد بتقليد أمامي نجعله أمامنا ونتخذه أمامنا فوصل التقليد بملكها والأذن بفتحها فقوي العزم وتحقق بالصدق القصد الجزم وما زالت قلوب أهلها صادرة إلى وردنا، وألسنتهم صادحة بحمدنا فتصدينا لها لنعتقها من الرق النيساني، ونوثقها بالحق السلطاني وأعدنا إلى الشام من أكابر أمرائنا من يسد الثغور ويسدد الأمور، وتوجهنا في أيام التشريق وتأييد الله معنا في الطريق وجزنا على قلعة البارعية فتلقانا بالبر البار الرعية وما اعترضنا بلدا، ولا عارضنا أحدا ونزلنا على آمد فنصبت المنجنيقات، وكان معنا منجنيق يقال له المفتش لأن حجره يدور في الزوايا بدواير المنايا ويشوش وشرعنا في أدوات الحصر وحصر أدواته واشتعل الجمع وأشتعل الجمر، ووقع الحجر على البلد الحجر. قال ودخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 والعسكر السلطاني للنصر في حصر آمد آمل والشمل جامع والجمع شامل فصبحناهم بالسلالم وطمعنا منهم في التسلي من البلد بالتسليم، وصعد فيها الرجال وحالت في قلوب الخصوم الاوجال، وملك أصحابنا بين الورين قطعة من الفصيل وتعمدوا عقد بنائها بالتحليل، وتطرقوا فيها فإذا هي مسدودة السبيل فشرعوا في النقب وابن نيسان في البلد قد جمع الرجال وفرق الأحوال وحرض الكماة وحض الكماة وانهض الحماه وظن أننا نكل ونمل وكلما شددنا العقد ينحل فألفوا كل يوم جدنا جديدا ووجدوا من بأسنا عليهم مزيدا، وكتب في إعداد من النشاب فصولا للارغاب والإرهاب نعدهم تارة ونتوعدهم ونهديهم مرة ونهددهم ففترت عنه مساعدة الاستطالة وشرعوا معه في الاستقامة فبدا له وجد الخذلان وخيانة الأخوان أهل المدينة وحصلوا منا على الوثوق والسكينة (1212) وقد كانوا تضجروا بولاية ابن نيسان، وعدموا العدل وألفوا العدوان فتقاعدوا عن الاستطالة وشرعوا معه في الاستقالة فبدى له وجد الخزلان وخيانة الإخوان وخطاب الخطوب وحدث الحدثان. فعرف أن سلامته في السلم فأرسل في الاستعطاف والاستسعاف قبل طلب الأمان واصبحنا بعض الأيام مواضع النقب نخشى عليها من الانهدام، والعمل منتهى إلى التمام إذ خرج نسوة من المدينة ذوات جاه وقدر قد أخرجنا فأخرجنا من أعز خدر لا عهد لأقمارهن بالتبرج من البروج ولم يحوجهن إلا صرف الزمان الجافي إلى الخروج فارتدينا على الإضراب برداء الأضرار وطلعنا سحرة طلوع كواكب الأسحار معتمرات إلى حرم الكرم الفاضلة معتفيات نصرة العفو الناصري مستشفعات بشفيع كريم لا ترد شفا عته بل تراد لطاعة الله طاعته فآواهن إلى فناء خيمته وعرف السلطان أن القصد لحرم حرمته وان المعتصمات بعزة عزة وعصمته وإنهن نسوة الأمير والرئيس يسألن ما خربهن بالتنفيس فأكرمن واحترمن وشفعن فيما له شفعن وأعطينا الأمان على أنهم إن قاموا توفرت عليهم الأملاك والأموال وأن تحولوا سهل عليهم الانتقال ولم يسألن في البلد لعلمهن أنه لا يخلى وإنما سألن إلا أن تسلم المدينة إلا أن يفرغ من نفايس أعلاقهم وتخلى فأعطين الأمان على أنهم يخرجون بكل ما يقدرون عليه مدة ثلاثة أيام بلياليهن وأن نعينهم بدوابنا وأصحابنا على أخراج جميع ما لهم فيها وعدنا بما وعدنا وما سعدنا كيف ما أسعدن وأن قربن أبعدن وأن شفعن في استتبات أمورهن فقد رجعن بخراب معمور هن وهذه عادة الليالي العادية، وقضية الأقدار القاضية في إرخاء الطول وانقضاء الدول وإيقاظ النواظر بشوك أقذايها وإيقاظ النوظر بشوك أزوائها. قال: ولما استقر تسليم المدينة بعد ثلاثة أيام تقدم السلطان برد النساء بإكرام واحترام فنفذ ابن نيسان يخبر بأن غلمانه خرجوا عن طاعته وانه لا يقدر على نقل ما له أن وكل إلى مجرد استطاعته فندب له من خواصه من يراعي بإعانته أحواله ودواب من إسطبلاته تنقل أمواله ونزل في غير منزل وضربت له خيمة بممعزل فشرع بنقل درهمه وديناره ويحول إليها من كلا الجنسين أوقاره ويعجل منها ما خف حمله وخيف عليه إذا لم يعجل نقله، ونقل المسوغات النضارية والفضية والمنسوجات الذهبية والجواهر والفرايد. والعقود والقلايد ولم يقدر في المدة المضروبة إلا على تحويل الأمتعة الكريمة المحبوبة، وكم نشبت الطوارق في طرقه بنشبه وكم ذهبت أعوانه في مذاهبه بذهبه، وكان من أصحابه جماعه ندبو لإعانته فاستغنوا بما أصابه وذكر أنه كان يحمل من داره عشرة أحمال بأثقال الأموال فربما وصلت إليه من تلك العشرة ثمانية فيسأل عن الباقي فيقال دوابها وافية وهي في الوصول متدانية، وما تزال تدخل جملة في جملة وقد عبثت بها أيدي جانية وهو لما به من روع وكره بغير طوع يحصر لدى التكلم ويقصر عن التظلم فلما انقضى الأجل خامرة الوجل واعترف بأنه عن نقل ذخايره عاجز وأن غدر الزمان بينه وبين ما غادره حاجز فتركها من غير أن فركها وفاته دركها وما أدركها ولو استزداد مهلة لاستفاد نيلة لكنه هاب وارتاع وارتاب وفي مظنة الرجاء خاب وعلى مطية التجاء نجى وغاب ولو رشد لنشد ضارته في ظل السلطان وأوى إحسابه إلى مأوى الإحسان لكنه بعد فبعد ولو أسعده لسعد. ذكر تسليم مدينة أمد إلى نور الدين محمد بن قرار أرسلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 قال: ولما انقضت مدة الأمان فتحت لأولياء الله أبواب الجنان، وذكرنا أن النزول على آمد في سابع عشر ذي الحجة وكان الاشتغال بالقتال باقي السنة فما استهلت السنة إلا وقد سفرت الحسنة ونطقت للبشاير الألسنة، وقيل للسلطان هذه آمد فيها ذخائر تربى على ألف ألف دينار، وما دخلت عن الوعد بأمد في شرط ولا قرار فقد بها المهام وخص وعم بها الخواص والعوام، وابن قرار أرسلان يقنع بأمد فارغة ويعدها حجة بالغة ونعمه سابغة فقال: نور الدين صار من أشياعنا فلا نضني عليه بهذه الأشياء ولا يظن بجحود هذه النعمة وهبنا وهبنا له الأصل مع الضفة بالفرع فما يليق بما سننته مكرماتنا من الشرع. فأما ما كان في الإهراء من أجناس الغلات وأنواع الحبوب فما يحويه علم المظنون وعلم المحسوب وأما الأمتعة والأسلحة (212ب) والعدد فما يحسره العدد ومنها أن برجا من سور المدينة يحتوي على ثمانين ألف شمعة، وأما المستعملات الأمدية من البسط والفرش والخيام فلا يدخل حصرها تحت الأوهام وكان من جملة المستودعات القطن فقد أمتلئ به البلد ولا أقول الخزن وذكر أنه بيع منه سبع سنين فما فنى مع أن متولي البلد ببيعه غنى قال: وإنما ذكرت ذلك ليعلم أن الدنيا ما كان لها عند السلطان قدر وأنه لم ينطوا منه على قلبها صدر فأول يوم فتحها نصبت على سورها أعلامه ونفذت فيها أحكامه ثم سلمها إلى نور الدين بن قرار أرسلان وكتبت له بها وبأعمالها التقليد وتسلم منى لمغاليق المعاقل الاقليد واستعبد السلطان منه حرا وفاة ثمنه ووفى له ومكنه. قال: ودخل السلطان إلى المدينة وجلس في دار الإمارة فهي على أحسن ما يمكن من العمارة، عالية الأبواب حالية البنيان رايقة الرواق شايقة الإشراق يحدث ربيع ربوعها بنيسان وتحدث ذكرى نباهتها بناء نسيانها هذه شيمة الدنيا لا يمق وامقا ولا يرمق رامقا في جنى منها جنت عليه، ومن علت يده فيها علت عليه وقد ظهرت آثار غدرها بابن نيسان حيث غادرته وقد رجا نصرها مخذولا، وتركته وقد اعتصم بها مبتذلا لليالي مبذولا، وهكذا نور الدين امتد زمانه وامتد إلى داره بعد سنين مكانه وسيأتي ذلك في موضعه ويشرح شأنه. ولما استقر السلطان في الدار استحضر نور الدين وأخذ يده واستوثق معه لحلف أكده وعقد ميثاق عقده وعاهده من طاعته على ما عهده وأقامه لملكه وفي دسته أقعده وشرط عليه طاعته وفي كل غزاة متابعته ومبادرته عند الاستدعاء ومسارعته وأنه يعمر البلد وأعماله ويعمها بإحسانه ويعيد ما تشعث منها إلى عمرانه ويسقط المكوث ويغبط النفوس ويبغى السعود ويمحى النفوس ثم استودعته وودعه بعد إن نور العيون مطلعه وأوضح وأعذب منهجه ومنهله وأتاه بجميلة تفصيلية جملة. ذكر القوام أحمد بن سماقة وزير نور الدين محمد بن قرار أرسلان قال: كان صدرا رحيب الصدر جليل القدر متحببا إلى القلوب بكرمه متقربا إلى الملوك بخدمته ناصحا بخدمة مخدومه مدبرا بقلمه لإقليمه، وهو الذي عطف قلب السلطان على صاحبه باستعطافه ونال مراده منه باستسعافه. ولما سأله السلطان في مبتدأ سفارته ومفتتح زيارته عن مشتهى مخدومه ومنتهى مرومه وما العمل الذي يقترحه وما الذي يستنجحه فقال: أنا أباه فخر الدين قرار أرسلان درج على جبره آمد فإن فتحتها له استعبدته للأبد وأرشدته للجد لخدمتك إلى أوضح الجدد وأخذ اليد الناصرية لإتخاز يد نصرته وحسر لثام الحرص على تحصيل ما هو في حسرته فسبق الوعد وصدق واتفق من الفتح ما اتفق وكان الوزير المنعوت بقوام الدين قوام دولته وقوام مملكته. ودخل إلى سلطانه من باب عرفان وانتظم مع إخوانه ولم يزل نحوى مترددا وإلى متوددا حتى أخجلني بمننه وأثقلني بمنحه وشغلني بفروضه وسننه وجعلني في مقاصده مقصدا واتخذ عندي بصدق صداقته يدا، ونجحت له عند السلطان وسهلت حجابه وصوبت يديه آراءه وآلايه وقرر لي على مخدومه وظائف عطايا ورواتب هدايا استمرت من إحسانه واستقرت إلى أخر زمانه وسيأتي ذكر ذلك في مكانه ذكر الرحيل عن آمد والتوجه إلى الفرات لقصد حلب والولايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 قال: ولما تسنى الغرض وتؤدي المفترض وحصل المقصود رميت النوبتية وقد دنت العيشة فعرفنا دليل الرحيل، ونهجنا سبيل التحويل وشرعنا في ضم نشر الأحمال وجمع شتات الأثقال وتفويض ذات العماد وحمل الأطناب وقلع الأوتاد فاستقلت الجمال نصف الليل آخذة في الأعناق كأعناق السيل، وأصبحنا على الركوب وملأنا الشعاب بالشعوب والصواهل في الأعنة تمرح والذوابل بالأسنة تلمح وبحر البر بالجيش جايش وقلب الجو من جوى النقع طايش والأرض قد تنقبت من وقع الحوافر فما تحرك الخميس حتى صار بالأسد العريس وتعينت المنازل وتبينت المراحل. وكان عندنا رسل ملوك الأطراف قد وصلوا على اختلاف المقاصد باتفاق الاستعطاف وكل يسأل في سؤل بكتاب منه ورسوله وأحضرني السلطان تلك الليلة عنده (1213) وأفردني بخطابه وحده حتى أنجزت الكتب وجهزت الرسل فمنهم من أحلت على رسله بسؤله ومنهم من بشرته بإقباله وقبوله ومنهم قطب الدين ايلغازي بن ألبي بن تمرناش الأرتقى رتق فتقه ورعى في اعتذاره حقه وكان أمره كما ذكر في فصل من كتاب وهو لما رأى صاحب ميافارقين أن أخت صاحبته قد ابتنى بها ابن عمه خاف أن يجمع له بين الأختين فراسل يبذل الخدمة ليكون فيها لنور الدين ثاني اثنين وقرر أن ينهض عسكره في أوقات الملاقات وينتقل عن حكم النفاق إلى حكم الثقات. فصل من كتاب آخر كان الملك نور الدين بن قرار أرسلان في الخدمة منذ عبرنا الفرات بنفسه وعسكره ملازما لنا لحرصه على المناصحة وتوفره فأنجزنا له في آمد موعده لدينا وحملته إنشاء بالأعمال والبناء ورأى صاحب ماردين أن ابن عمه قد فاز بالسبق وقد حاز الفضيلة فدعانا بالإدعان وابتغى إلينا الوسيلة وقد كنا فتحنا من بلاده طرفا وحركنا من قلبه شغفا فحين عاد إلى الحمد شملته عاطفتنا بالاصطناع والاختصاص وملكناه ما ملكناه عليه وأعدنا كل ما أخذناه من ولايته إليه واستمسك بنا من حبل العصمة واستقر أيضا أن يكون عسكره معنا في الخدمة. ذكر القفول وعبور الفرات وفتح تل خالد قال: ووصلنا إلى الفرات في مراحل وعبرنا ببحر الجيش اللجي وغزونا النهار بليل العجاج الدجوجي وأسدلنا على الخضراء ستر الغبراء وسلونا عن السوداء بحب الشهباء ونزلنا على تل خالد يوم الثلاثاء ثاني عشر محرم وكان قد تقدمنا تاج الملوك أخو السلطان إليها وأناخ عليها. ولما أطلت عليه راياتنا ألقى من فيها بيده وأنجز النصر صادق وعده. فصل من الإنشاء الفاضلي في المعنى فإن راياتنا المنصوبة المنصورة قد صارت مغناطيس البلاد تجذبها بطبعها، وسيوفنا مفاتيح الأمصار نفتحها بنصر الله لأخذها ولا يقطعها ولما قطعنا الفرات3بعثنا سرعات المعسكر المنصور إلى تل خالد فنزلوا بعقوبتها ورفع المنجنيق يده إلى ذروتها فلما نزلنا بها نزل من فيها على حكمنا وأجزيناه مناالأحسان على رسمنا واستجار من حربنا بذمة سلمنا وطوينا الى أخرى بمشيئة الله بها العيون أسرع من لمحها. قال: ثم نزلنا على عين تاب حائزين فنزل لأصاحبها إلينا وهو ناصح الدين محمد بن خمارتكين وتبرع بطاعته وشرع في بذل استطاعته فمكناه في مكانه وأحسنا إليه لإحسانه فهنأنا له النحلة وعجلنا عنه الرحلة ووصلنا إلى حلب وعماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ثاقب سمائها وراكب شهابها وآمرها وناهيها وزاهرها وزاهيها وهو مع ذلك على ما في يده متخوف وإلى سنجار بلده متشوف ومن استئناف الحرب مع امكان السلم آنف لكنه بأمر الأمراء النورية مستنير ولرأيهم مستشير وهم أوقدوا للحرب نارا وخرجوا لأسلافهم وأخلافهم على الإسلام الحقوق والسلطان لا يؤثر جراحهم وخرجوا مدججين ودفعوا عن مقاربة السور وهم على كل حال أجناد الجهاد وأجلاد الجلاد ومنهم النورية الأذكاء القارية الرماء ومنهم الياروقية الروق وقد سلفت اجتياحهم، وقد راقه بأسهم وبسالتهم وترجحت في نظرة استمالتهم وكان هو مع عقلاء العسكر يتقي واليزكية مع الجهلاء المعشر تلتقي. وكان تاج الملوك فارس ومعفر الأقران بحكم شبابه الطري وشباه الطرير ولما سبق حكم الله في التقدير يسرع إلى الحملات ويشرع الأسلات ومازال به الأقدام حتى توقظ وسنذكر شرح ذلك مع النزول بظاهر حلب في منزلتين: المنزلة الأولى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قال: نزلنا بالميدان الأخضر في الزمان الأنضر والربيع في ريعانه والزهر في زهوه والروض في ضوعه وضوئه فضربت سرادقات السلطان في صدر الميدان وضربت خيمتي عن يمينها على العادة في البستان، ولقد أسفت على تلك المستنزهات كيف تشعثت وأيدي التعدي بها قد تشبثت. ثم للعساكر على كثرتها من بعيد بالبلد أحاطت واشتطت في حب الكريهة واستشاطت، وفي كل غدوة وعشية وكرب إلى كروب وهبوب إلى وثوب وتاج الملوك موقد نارها وخايض تيارها والسلطان لاشفاقه على الرجال الإسلام وأبطال الشام (213ب) يأمرهم بالكف وينهاهم عن الزحف والشباب يشبون الضرام ويحبون الأقدام فأصابت تاج الدين طعنة لم يكترث بها وفكت ركبته وقلت ركبته وقضت بفلول شبا شبابه ودبول جني جنانه ومؤول رتبته إلى ترابه. المنزلة الثانية: ثم رأى السلطان أن مقامه في الميدان الأخضر لا يقضي بتضييق حصر ولا يفضي إلى تحقيق نصر فصبحنا بعد أيام على عوم الرحيل وازماع التحويل وعبرنا بمن معنا من العساكر على بيوت الحاضر ولما وصلنا إلى جبل جو شن ضربنا عليه الخيام وأطلنا به المقام وأحضر السلطان بنائين وصناعا وأمر بحفر أساس لقصر يبنيه ونصر يحييه وقال: نحن نتصرف في البلاد والأعمال ونقطعها للرجال ونترك حلب على ما بها من الحال وأمر بترك القتال والإعفاء عن النزال وسكنا ماكثين وركنا لابثين ولرسل الترهيب باعثين وفي عقد الترغيب نافثين ونذكر أننا من عباد الله الصالحين الذين جعلهم الله للأرض وارثين ولقد صفت حلب بحلبها وضنت ببيضها ويلبها وسمع شفاه شفاهها وقطع فحسن أفواهها والسلطان يحمل ويحلم ويتغابى وهو يعلم ويعاود الاستمالة ويواعد بالإقالة وكان عماد الدين صاحب حلب للسوء عايفا وبعواقب الأمر عارفا راغبا في التحدي بالإتحاد والاعتداد بالاعتضاد أماطة للبلاء عن البلاد فأفكر ووجد عليه في كل شهر ما ينفقه ثلاثين ألف دينار على الأجناد وكان يعتمد على رأي الأمير حسام الدين طمان وهو قديما يوالي السلطان ويؤثر المرافقة والموافقة ويحب في مضمار الولاء المسابقة فأشار على عماد الدين بما كشفه من ضميره ووعده إذا سفر فيه بإذكاء الغرس وتثميره وتسهيل الصعب وتيسيره فخرج ليلا من باب السر سرا وبر بالحضور وأحضر برا وقد قر بقربه السلطان وخلا لخلابه وشفي عتابه بأعتابه وسامه أصحاب الأسد الحادر من غابه وأعطاه يمينه مع سطر يمينه في كتابه فعاد الأمير طمان مطمئن الجنان مرجحن الميزان وأفضي إلى مخدومه بسر مكتوبه فأصبحنا بكرة ببكر الفتح وقد جليت وراية النصر قد أعليت وعروس القلعة قد حليت والأبواب قد فتحت والاراب قد نجحت وعرف الأمراء فمنهم من خجل ومنهم من وجل فأرسل إليهم السلطان واستزال روعهم وخوفهم واستزاد طوعهم وشوقهم ومدح لجاجهم وحمد ارتياحهم وشفع انكسارهم بجبرهم وقرضهم على صبرهم وحدثهم بما طيب النفوس بعد الحادث الذي شيب الرعوس وأزال ببشره العبوس وأوجد النعمى وأعدم البوس ذكر نكتة قال ومدح القاضي محي الدين بن الزنكي السلطان بأبيات منها وفتحكم حلبا بالسيف في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب فوافق فتح القدس كما ذكره فكأنه من الغيب ابتكره ففي صفر سنة تسع وسبعين كان فتح حلب وكان فتح القدس سنة ثلاث وثمانين في رجب. قال: ويشبه هذا أنني في سنة اثنتين وسبعين طلبت من السلطان جارية من سبى الأسطول المنصور بأبيات هي: يومل المملوك مملوكة ... تبدل الوحشة بالإنس تخرجه من ليل وتواسيه ... بطلعة تشرق كالشمس فوجدة الغربة قد حركت ... سواكن البلبال والمس فلا تدع يهدم شيطانه ما ... ما أحكم التقوى من الأس فوقع اليوم بمطلوبه مما ... سبى الأسطول بالأمس وإنني آمل بعدها بكرايم ... السبى من القدس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قال: فجاء الأمر على وفق الأمل كما قلت ووهب لي تلك السنة ما سألت وأعطاني عام فتح القدس ما أملت. عاد الحديث قال: وخرج عماد الدين إلى خيامه التي ضربها وسارع في استنجاز الموعد في البلاد التي طلبها ولفم يزل وزيره شمس الدين بن الكافي مترددا في الطلب وأمر السلطان بإنشاء عهده وإيجاب عقد يتأكد به الميثاق ويتمهد به الوفاق فلازمني (1214) أياما حتى حررت نسخة حكمها المحكم لا ينسخ وعقدها المبرم لا يفسخ وأنعم عليه ببلدة سنجار وزيد الخابور ونصيبين والرقة وسروج. قال: ولما فتحنا حلب ودانت لنا معاقلها بقي حارم مع أحد المماليك الصغار النورية وقد طمع أن يحميها ثم أن أجناد حارم اتهموه بمراسلة الفرنجة ومداخلتهم فأخرجوه وأكرهوه على النزول ونزل به المكروه وأعلنوا بشعارنا فسرنا إليها وتسلمناها ودبرنا أمرها وأحكمناها ووفرنا من الإحسان قسط أولئك المسلمين وتلونا في حقهم " إن الله لا يضيع اجر المحسنين " فراسل صاحب أنطا كية ضارعا وللعجز عارضا وإلى الانقياد إلينا مسارعا وسير إلينا من أسارى المسلمين جماعة وافية وأظهر إسكانه فيه لأسباب الإيقاع نافية. ذكر عبرة قال: وعين السلطان يوما للضيافة العمادية وكان ذلك في المخيم قبل انتقاله إ'لى البلد فكملت له أسباب وشروط ونظمت للسماط سموط وترنم الشادي وترنح النادي وكأنما اجتمع القمران بجلوس عماد الدين بجنب السلطان وبنياهم في أحظى حضور وأحبى حبور وأتم نشاط وأتم اغتباط اذ جاء بعض الحجاب وأسر إليه بنفي أخيه تاج الملوك فما تنكب عن منهج ثباته المسلوك ولم تتغير طلاقة وجهه وأمر سرا بتجيزه ودفنه، وأعطى تلك الضيافة حقها وبسط بسنا انبساطه أفقها ثم انتقل السلطان إلى حلب وأقام بالقلعة ووظف المكارم وكشف المظالم وأسقط المكوس وكتب إلى أصحاب الأطراف والأوساط باجتماع عساكر جميع الجهات عنده للرباط ويتم له ملك الشام وسر سره بالتمام، وحالفه عماد الدين في الموافقة في ساير المرام. وأمرني بكتب المناشير لأكابره وأمثاله بعد ما خص أرباب الفضايل بفضائله واعتصمت العواصم بعصمته ووقفت القلوب في القبول بين مهابته ومحبته وأحس رعاية محسني الرعية وأعاد القضاء والخطبة إلى أهل مذهب الشافعية. ذكر القلاع وما ترتب من وجوه الاصطناع قال: وأبقى عين تاب على صاحبها وخصه بأبادي يده ومواهبها وأم تل خالد فإنه أنعم بها على بدر الدين دلدرم بن بهاء الدولة بن ياروق مضافة إلى تل باشر فهدم قلعتها وتصرف في أعمالها واستبد بارتفاعها وعلاها. وأما قلعة عزاز فإن عماد الدين الزنكي كان قد هدمها لتوفر قوته على حفظ حلب فأقطعها وأعمالها علم الدين سليمان بن جندر فأعاد عمارتها كما كانت وظهرت آثار كفايته وبانت، وسلم حارم إلى أحد الخواص من أهل الولاء والإخلاص وولى القضاء في حلب محي الدين أبا المعالي محمد بن زكي الدين على القرشي فاستناب فيها القاضي زين الدين نبأ بن الفضل ابن سليمان المعروف بابن البانياسي وأقام في قلعة حلب سيف الدين يازكوج واليا وولى الديوان العميد ناصح الدين اسمعيل بن العميد، وجعل حلب باسم ولده الملك الظاهر غازي وكان قد اصطحبه من مصر عند وصوله إلى الشام وعادت الأمور بسيرته السارة إلى نظام وما برح السلطان من حلب حتى استقامت أحوالها على جدد الصلاح واستتامت آمالها إلى مدد النجاح وضرب باسمه درهمها ودينارها وأنارت معالمها وعلا منارها وصدحت بالأدعية منابرها وصدق لإرعاء الرعية منابرها قلت: وأورد ههنا مناشير من إنشائه لأماثل منها منشورا للشيخ الإمام علاء الدين الكاساني مدرس المدارس الحنفية بحلب ومنشور للمحتسب بها ولم يسمه وآخر باسم طبيب ثم قال: ذكر بشاير بوقعات نصر فيها الإسلام وصلت ونحن في حلب منها وقعة برية بالفرنج على ما يعرف بالعسيلة ووقعة بحرية في ظفر الأسطول وذلك في محرم سنة تسع وسبعين وشرح ذلك في كتاب من الإنشاء الفاضلي إلى الديوان العزيز يتضمن الوقعتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أدام الله أيام الديوان ولا زالت منازل ملكه منازل التقديس والتطهير وموالاته ووسيلة التمحيص والتكثير، ومواقف الأولياء ببابه مواطن السجود والتعفير والولاية من قبله علامة التمليك والتأمير، والوقوف بأقصى المطارح من مرائه موجب التقديم والتصدير وآيات نعمة الله في وجوده واضحة تغنى فيها الألباب عن التبيين والتفسير، والأمة مجموعة بأمامته جمع السلامة لا جمع التكسير الخادم ينهي الذي يحمله على ما يحمله إلى الديوان العزيز من كتبه ويبديه من رسله ويجيب به دواعي طبعه في الولاء المسترسل على لا سجيته أو يحركه المنبعث فيه على رسله أمران أحدهما أن الذي يفتتحه من البلاد ويتسلمه أما بسكون التغمد (214ب) أو بحركة ما في الأغماد إنما يعده طريقا إلى الاسنتنفار إلى بلاد الكفار وإنما يحسبه جناحا يمكنه به المطار إلى ما لامسه الكفر من الأقطار. والثاني أعلام أمير المؤمنين أن تقليداته وتقليدات آبائه الطاهرين إذا صدرت عنه وعنهم قريت وما عصيت، ونفذت وما نبذت فيعلم أن له عبدا يمتثل أمره ويلزم الناس امتثاله وخادما يطيع الحكم الجليل ويحكم على غيره بطاعته وإجلاله. وعلى هذه التقدمة فهو يستفتح هذه الخدمة بذكر ظفرين للإسلام برى وبحرى أحدهما وهو البحرى عود أحد الأسطولين اللذين أغزاهما أخوه أبو بكر بمصر وكانت مدة غيبته من وقت خروجه إلى وقت عوده إلى دمياط تسعة أيام لأنه غادرها في خامس عشر المحرم وقفته رابع عشرينه فظفر ببطشه مقلعة من الشام فيها ثلثمائة وخمسة وسبعون منهم خياله ذووا شوكة وازعة وتجار ذووا ثروة واسعة فأخذ الله بأيدي الأولياء برقابهم ومكن الحطم والقصم من صلبهم وأصلابهم ومسخ عزة أقدامهم بذلة أحجامهم وسيوفهم اللاتى في أيديهم سلاسل ومليت آمال المجاهدين أموالا وأثقالا وانقلبوا بالقلوب خفافا وبالأيدي ثقالا وبرد مغنمهم بعد ما تقدمه من حر الحرب وعادوا عن البحر الملح شاكرين لما أوردهم من المشرب العذب. والظفر الثاني وهو البري ما طولع به من مصر من نهوض فرنج الداروم إلى أطراف بعيدة وهذه العصبة ملعونة لا ترع الأعنة ولا تنزع الأسنة تسري فتسبق الصباح وتدلج فتستصيح الرماح فنزل بهم وإلى الشرقية فركب الليل فرسا أركبوه حملا وسروا ثقيلا وسرى رملا فتوافى الفريقان إلى ماء يعرف بالعسيلة سبق الفرنجة إلى موردته والسابق إلى الماء محاصر المسبوق ووردوا الازرقة فتعصب لأرزقتهم فظن المؤمن أن الكافر مرزوق واشتد بالمسلمين العطش وفل أيديهم الدهش فأنشأ الله في ناجز الهواجز سحابة ماء صيفي شفاهم بها "من فوقهم ومن تحت أرجلهم" وأمسك به أيديهم فاستمسكت على أنصلهم فثابوا إلى الفرنج بقوة أنجاد السماء بالماء وثاروا إلى الملاعين الأعداء بالعزم الجري ذاكرين معجزة اليوم البوري يوم من الله على أهله بالتطهير والري فلم ينجي من الفرنج إلا رجلان أحدهما الدليل والآخر الذليل وانجلت الجلا بعد أن صاروا معصفين، وتساقوا كؤوس الموت تحت ليل العجاج مغتبقين فاقطعت شوكة شديدة وفلت شكا طفر جديدة وعاد المسلمون برؤوس عدوهم في رؤوس القنا وقد اجتنوا ثمراتها وبأرواحهم في صدور الظبي وقد أطفأوا بمائها جمراتها. قال: ولما تم الفراغ من شغل حلب وأعمالها وتسديد اختلالها فاستصحبنا عساكر حلب والجزيرة واجتمعنا في جموع كثيفة كبيرة وتلون السلطان بتل السلطان مخيمين على غزو الغزاة مصممين فنما وصلنا إلى حباب التركمان حتى وصلت قبائل التركمان فتفرقت العساكر في الطرق وأجدت في الجيب والعنق حتى ناطحتنا قرون حماه، وصافحاتنا سعود قرانه، وقرت بنا عيون أعيانها فأول من تلقانا ببره القاضي أبو القاسم حاتم الأكارم وقاسم المكارم وكان هذا القاضي أمين الدين بن حبيش لم يزل ذا سجية وعيشة رخية فإذا وصل إلى حماه سلطان أو أمير أو معروف أو كبير دعاه إلى ربعه وأجراه على كريم طبعه فإن لم يزره زارته تحاياه وقرته في مخيمة تحفه وهداياه وله من القلوب أتم القبول ولكل نازل به أهنئ نزل وأكرم نزول. ولهذه الشوافع لم ترد له عند السلاطين والأكابر شفاعة ولم يعر شيئا من حقوقه المصونة إضاعة. ولم يكن هذا القاضي متوليا لعمل ولا قضاء ولا حكم له في إنفاذ ولا إمضاء وكان قانعا بحدى ملكه ويستثمره بفضل جاهه ويفوق المعروفين بتيقظة وانتباهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قال: وكان الملك المظفر تقي الدين بي أخي السلطان صاحب حماه ومالكها، وقد تولى بالأمن والعدل مسالكها وممالكها فوشع ذراه ووسع قراه وحبر يديه رحب نداه وحصن الحصن الذي في حماه وحماه، وقصر نظرنا على قصره الناظر الذي اعتنى به وابتناه وما أبهج وأبهى بهوه وبهاه وأعظم إيوانه وأكرم أيواه فتفرقنا بعد الاجتماع وجذبنا زمام الإزماع واستنى العسكر سنن الرستن فعبرنا العاصي في طاعة الله لقصد الغزاة وجرد تحت المرد والكمد تحت الكماه، ومالت بنا أعناق الأعناق، وقصدنا إلى حمص أشواط الأشواق، وخيمن على عاصيها وضاقت بجمو عنا أدانيها وأقاصيها وجئنا إلى الزراعة ثم اللبوة ووصلنا إلى بعلبك حتى قربنا من دمشق ودخلنا إليها وهي ببشرنا مستبشرة وعن صباح سفورنا مسفرة ولم يطل بها المقام وعجلنا الرحلة عنها، واغتنمنا حضور العساكر المتضاعفة العدد المتظاهرة العدد فخرجنا نحو العدو متوجهين (215 أ) وفي رياض مراسه الله متنزهين فأول ما وقع البأس ببيسان وجاء الفرنج فرابطهم السلطان على عين الجالوت وواقع بأعداء الله أولياء الطاغوت وقد صفت غزوة بيسان. وفي كتاب أنشأته عن السلطان وهو: وأقرب غزواتنا عهداً بالفرنج غزوة بيسان في كتاب أنشأته كان من حديثها المبهج أنا سرنا بعساكرنا الموفورة وقطعنا الأردن وعبرنا مخاضة الحسينية بخلوص الضمير في سبيل الله وحسن النية وذلك يوم الخميس تاسع جمادى الأخر فلما وصلنا إلى بيسان وجدنا بأسنا قد أخلاها أهلها فعاجلها الأصحاب بما أحل لأهلها الكفار من النيران وعقدوا تحت سماء العجاج منها سماء الدخان فما برحنا حتى عفونا أثارها ونهب العسكر فيها من زاد وقوت ما زاد به قوة وكانت هذه المقدمة نصرة مرجوة ألحقنا بها مدنا معمورة وقلاعاً حصينة وأضرمناها نارا ولم نذر بها من الكافرين دياراً ووقعت مقدمة العساكر المنصورة في أول يوم على خيل ورجل للفرنج عابرين من نابلس فأوقعت بهم وسدت عليهم طريق مهربهم وقتلت راجلهم وأسرت جماعة من الفرسان قيدوا في الأقياد وتوغل الباقون في الجبال بحزازات القلوب وحرارات الأكباد، وكان مقدمهم ابن هنفرى ففر ووصل الخبر بأن الفرنج وأتوا بجمعهم المحشود وحشدهم المجموع وكانوا في ألف وخمسمائة رمح ومثله تركبلى وخمسة عشر ألف راجل وزحفوا كأنهم أسود الشرى في آجامها وهضاب شروري بأعلامها فبعثنا إليهم الجاليشية فجالت أمامها وجاشت قدامها وعينا الأطلاب للموت طلاباً وللنصر بلسان الفصل خطابا وكثر الله المؤمنين في أعين الكافرين فعادوا بعد الأنس نافرين ولما رأوا بأسنا أخلدوا الى الأرض مهطعيين وخندقوا حولهم وأسندوا الى الجبل بالذل لابدين واركزوا قنطارياتهم في مركز دايرة الخذلان وطلبوا ربح سلامتهم من الخسران وأقاموا كذلك خمسة أيام أخرها الأربعاء خامس عشر جمادى الآخرة ونحن في كل يوم نتوقع منهم الحملة التي هي عادتهم والمبادرة في اللقاء التي هي في الصدمة الأولى سورتهم فنكبوا عن اللقاء وما هاجروا الى الهيجاء وعساكرنا المنصورة حولهم حايمة في بحار السوابع في بلاد الساحل دونهم عايمة ويعادونهم مساء وصباحا والفرنج قد يبست أيديهم على الأعنة وغلت في صدورهم وحراب الرعب على صدور الألسنة والمغيرون في بلادهم يشنون الغوار ويكثرون القتل والأسار فلما رأيناهم لا يبرحون رحلنا عنهم يوم الخميس لخناقهم منفسين فما صدقوا حتى جفلوا أجفال النعام وتوغلوا في الجبال وهم أضل من الأنعام، وتصاعدوا في العقاب ونكصوا على الأعقاب، ونحن قد بلغنا النكاية فيهم غايتها والغنايم، والأساري قد ملأت الأيدي وثقلت الظهور، وعجل الله للأسلام وعسكره النصر والظهور، وعدنا سالمي سالبين غانمين غالبين "والحمد لله رب العالمين" وقد شرعنا الآن في غزوة ثانية لعزب الكفر ثانية والمسير بالعسكر الذي عدنا به إلى الكرك والالتقاء بالعسكر الواصل من مصر عليها فإن الفرنج قد بان لنا هوانها وهذا وقت منيتها وأوانها فما نزال بتأييد الله نوالي الغزوات حتى يأذن الله في فتح الأرض المقدسة والسلام. ذكر العودة إلى الكرك واستدعاء الملك العادل من مصر لتولى حلب واستنابة الملك المظفر تقي (الدين في مصر وشرح أسباب في ذلك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 قال: وكان الملك العادل سيف الدين أبو بكر أخو السلطان على عادته في تولي الديار المصرية مستمرا ولأمورها بفضل سياسته وحسن رعايته ممرا، وهو مستقل بالأمر والنهي يولي ويعزل ويعلي وينزل وهو سلطان الديار المصرية على الحقيقة ومرتب أمورها الجليلة والدقيقة. والسلطان بالشام في مهام الإسلام وهو بأخيه كثير وبحسن أثيره أثير وهو يمده بالرجال والمال ويجري الأرزاق والآجال فلما ملك حلب كتب الملك العادل لها طالبا وفيها وفيما يجري معها من البلاد والمعاقل راغبا فكتب إليه لسؤاله مصيبا ولسؤاله مجيبا وواعده إلى الإجماع به على الكرك ليفوز من بغيته بالدرك واستصحب معه الملك المظفر تقي الدين ابن أخيه ليوليه في مصر ويستنيبه وكل ذلك بمشورة الأجل الفاضل وعنايته بالساير والواصل فإن السلطان ما يزال يأخذ بإشارته ويعطي ويصيب ببركات آرائه ولا يخطئ ولما آب السلطان من الغزوة جعل مآب الجهاد إلى جهة مآب من اقليم الشراوة ونزلنا بادرادر واستأمن إليها أهلها المسلمون فأذقناهم بحلية الدين حلاوة الأمان وساكنوا تلك الأعمال مسلمون من قديم الزمان وتربى أولادهم في حكم الفرنج فألفوا ما ألفوه وخافوا منهم على ظهور حبهم لنا فأخفوه ثم خيمنا على الرية ثم حصرنا الكرك وحصرناها وكانت المناجيق (215ب) تراوحها وتغاديها وتعاودها وتباديها وتحول السلطان إلى الربض ملازما للغرض وأقام بدار الرئيس ليقرب من المناجيق المنصوبة ويشاهد مواقع النكاية في القلعة المحصورة وكانت سبعة قد فتحت لأهل جهنم سبعة أبواب وفغرت أفواهها وكشرت عن انيابها وفصلت أوصال السور بسوء خطبها وخطابها وقد رتب السلطان نوب الرملة على رجال الأمراء في الصباح والمساء ولم يزل يرجم الحصن ويهدم والسلطان في هذه الأثناء منشغل من جانب بتعمير البلاد وترتيب الممالك ومن جانب بتدمير الكفر والتدبير له في المهالك. ثم انقضى شهر رجب وعلم باجتماع الفرنج في الموضع المعروف بالوالة فقالوا هذا حصر يطول ومسألة تعول وقد أضعفنا الحصن ومكنا منه الوهن، وهذه نصرة قد أحكمنا أسبابها ولا خوف من فواتها وما نزال نعاود بالإضعاف حتى نفوذ بالفتوح ونحوز ذخر الظفر الممنوح وهذا جمع الفرنج ملتئم وحمرهم مضطرم وقد اجتمعوا فنحن نقصدهم ونلقاهم ونقدم عليهم ولا نتوقاهم وسيأتي ذكر عودنا في موضعه. ولما وصل الملك العادل أظهر عن حب مصر سلوه وطلب من حلب وأقطاعها مرجوه فعول السلطان على تقي الدين في تولي الديار وزاد منه اقطاعه بالشام اقطاعا في مصر وأنعم عليه بالأعمال اليومية وساير نواحيها بجميع جهاتها وجواليها وزاده القبيبات وبوش وأبقى عليه بالبلاد الشامية مدينة حماه وقلعتها وجميع اعمالها وجمله بصحبه سيدنا الفاضل حتى إذا وصل تقي الدين إلى مصر اقتدى بالتدبير الفاضلي واهتدى بسنا رأيه الجليل الجلي. وكان السلطان لا يؤثر مفارقته ولا يحضره أنس إذا فارق حضرته ولما لم يجد من توجه تقي الدجين إلى مصر بدا وكأنه سيكون بالأعمال مستبداوكانت في تقي الدين إلى مصر جدة لم تكن في الملك العادل احتاج إلى تقويمه إلى تدبير الأجل الفاضل فأذن له في السفر بشرط الاسراع في العودة والمبادرة إلى الاجابة عند تحقق الدعوة فسار بمن في صحبتهما وعاد السلطان بالملك العادل وكتبت لهما منشورتين في شعبان سنة تسع وسبعين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قال: وكتبت إلى سيدنا الأجل الفاضل عند الرجوع من وداعه وكان رحيله من الكرك في منتصف شعبان: رجع المملوك من الوداع وداعي الأسى يحفزه وعاد الأسف يزعجه ويعجزه فعدم الشمس التي تفيض عليه والظل الذي يفيء إليه. لا مجيب لاستدعائه ولا مجير لاستعدائه ولا قابل له ولا قايل به ولا منفق لنقده ولا موثق لعقده ولا مروج لرجائه وظل كضالة لا ينشد وكالضال لا يرشد وكالفقيد لا يفتقد وكالزيف لا ينتقد وكيف حال من حالت كيفيته أياسه بأسوة أم نيته أمنيته ياليت المولى قبله صاحبا لركابه وراكبا في صحبه متلاشيا في أشعة آلائه متعاشيا في سابغ لألايه وضيعا مع الشرفاء ثقيلا مع الظرفاء سقيما مع الأصحاء هجينا مع الصرحاء والعقد الثمين ربما أنتظمت فيه لصرف العين الخرزة وسدت بالخرزة ثلمتها المعوزة على أنه إذا أقامه في كنف الرعاية مرعى الكنف غبطة السايرون وتحاماه الضايرون ولم يثر إليه الثايرون ولا غنى بالملوك في كل وقت لاستزادة محقه واستزالة مقته عن تجديد جاهه وتوجيه جده واسعاد رجائه وإجراء سعده فالفارس يستثمر بالتربية غرسه ولا يضيع المملوك الذي ملك رقه بإحسان عشر سنين " إن الله لا يضيع أحر المحسنين ". ذكر الرحيل إلى الشام ولما رأينا أمر الكرك يطول، ودافعنا عن حقه القدر المطول جهز السلطان العسكر المصري في الخدمة التقوية التي بالصحبة الفاضلية يقويها ومن آرائها في كل ما ينادي له تلبيتها وتربيتها وانصرف بعسكر الشام عايدا إلى دمشق عود الحيا الهاطل إلى الثرى الماحل، وألقينا بها العصا واجرينا ذكر من أطاع وعصى، وعدنا من فرض الجهاد إلى فرض الصيام إ ووقع الشروع في إراحة العساكر عند استقبال العام واستيناف الجمع لنصرة الإسلام وتولى الملك العادل سيف الدين أخو السلطان حلب وقلعتها وجميع أعمالها وجميع قلاعها، ومدينة منبج ومعاقلها وصار إليها وتسلط بها سلطانه وتمكن منها مكانه، وتحكمت ولايته وتولتها أحكامه، ونفذنا أوامره في أمورها نقضه وإبرامه ودرت على مراده أخلاقها بوضوح مذهبه في الزفاق خلافها وانصرف نواب السلطان إلى دمشق في خدمة الملك الظاهر ظاهرين بصفو الموارد والمصادر. (216 أ) ذكر وصول شيخ الشيوخ وشهاب الدين بشير في الرسالة الشريفة الأمامية ووصول محي الدين الشهرزوري معهما رسولا من الموصل قال: ولما استقر بنا في دمشق المقام وتم الصيام جاء من رافد نعم الله التمام ووصلت رسل امير المؤمنين عليه السلام فوفيناهم في الاستقبال كل حق وذكرنا من الإسراع إلى الاستسعاد بهم كل سبق. ولقي السلطان الرسل فنزل ونزلوا وأقبل عليهم وأقبلوا ثم قدم لهم المراكب التي أعدت لهم فركبوا وسايرهم السلطان واصطحبوا ونزل شيخ الشيوخ بالرباط على المنبع ونزل القاضي محي الدين بن كمال الدين الشهرزوري في جوسق بستان الخلخال ونزل شهاب الدين بشير جوسق صاحب بصرى على الميدان. قال: وكان بيني وبين شيخ الشيوخ قرابة قريبة فإنه اتصل إلى ابنة عمي عز الدين أبي نصر أحمد بن حامد وقد كانت عقيلة بيت السؤدد، وكان مز راء الزمان وعظماء دولة السلطان يخطبونها رغية في طيب النجار ونزاهة العنصر واتفق حضور هما بالكعبة المعظمة في سنة خمس وأربعين وتكررت منه الخطبة وصحت الرغبة فأجيب لدينه وأصله وتقواه وفضله وبارك الله منها في ذريته ونسله، وكان له منها أولاد نجباء أستأثر الله بهم في ريعان شبابهم وبقي الذي اصطحبه في هذه الرسالة وكان منعوتا مكنى مسمى بما كان لجده العزيز أبي نصر أحمد فمرض في الطريق واصطحبه معه في محفه فوصل ونفسه رهينة بنفس وقد جاء الأجل وذهب الأمل وانقضى العمر وقضى الأمر. وجلس ثاني يوم وصوله للعزاء وحضر السلطان وجماعة الأمراء وصلى عليه ودفن بالمقبرة بمحاذية الرباط وبردت حرارة الرسالة وشغلت حادثته عن محادثته حتى انقضت ثلاثة أيام موسم التعزية ولم يقدر على التسليم والتسلية. ذكر السبب المقتضى لهذه الرسالة في هذه السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 قال: لما عرف صاحب الموصل ما تسنى لنا من فتح آمد وحلب وتيسر كل ماأراده السلطان وطلب خطر بباله خطر البلوى وعود العدوى فمال إلى الإستعطاء والإستعطاف وشرع في استعساء رسله للإستعساف واستدعى من الديوان العزيز إرسال شيخ الشيوخ للإستشفاع لعلمهم أنا لا نرى إلا الإئتمار بالطاعة للأمر المطاع وندب قاضي القضاة محى الدين أبا حامد محمد ابن محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزورى للرسالة من جانبه وأناط بسعيه نجح مطالبه فجاء في جاه أنيق ولسان دليق وترفع وتعزف وتقنع وتقشف وترق في ذروة الخطاب بحلو اّية على سريرة نبرة الخطابة ولو تخلق بخلق مرسله في الدفع بالتواضع لكفي الغرض وشفي المرض فإنه لما وصل لزمه ناموسه وأطال في محل بستانه جلوسه واظهر كأنه الأمين نزل بالوحي من السماء وجاز بالعطارد في بيته بالجوزاء ولم يأخذ في طريق الاستحذاء وظن أن ذلك لمخدومه نصيحة وخدمة وبغية صحيحة على أنه السلطان قابل شدته باللين وأعطى يمينه على أخذ اليمين فاشتط واشترط وكلما قاربناه شحط وكلما أرضيناه سخط وكلما توخينا جامعا للمصالح أبى ألا مراده المارد ولم يوافق مصادره الموارد ولو أنه تلطف واستعطف حصل المخطوب ووصل المطلوب وتأكدت العقود وتمهدت العهود لكنه الزم ما لا يلزم وجزم ما لا يجزم وعين شرطا له مانع وفيه منازع. ذكر كشف الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قال: كانت قد وصلت رسل صاحب الجزيرة وكان صاحب أربل وصاحب تكريت والحديثة يشكون من صاحب الموصل وتكليفاته وأثقاله الكثيرة الكبيرة فأما صاحب الجزيرة فهو معز الدين سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي وهو خايف من صاحب الموصل عمه وأنه يلزمه أن يدخل تحت حكمه ويخشى أن يكشف ضياء حاله ظلمة ظلمه وأما صاحب اربل فهو زين الدين يوسف (بن بكتكين) بن علي بن كوجك وهو أيضا شفق من أمره محترق بجمره وكذلك صاحبا الحديثة وتكريت يرهبان وفي الاعتزاز بنا يرغبان وكل أخذ من السلطان عهدا على أنه يحميه ويقيه ويسعده ولا يشقيه، وانصرف رسلهم على هذا القرار. ثم كان وصول شيخ الشيوخ صدر الدين ومحى الدين الشهر زورى ووقع الشروخ في حديثهم وحادثهم وإجازة دواعيهم وإجابة بواعثهم. وكان القاضي محي الدين الشهر زورى سالفا في المدرسة النظامية ببغداد رفيقي وآنفا في الأيام النورية صديقي فصدفوه في هذه المرة عن مشاورتي وصرفوه (216 ب) عن محاورتي ولو استشارني لعرفته النهج وسلكت به طريقنا للمصالح جامعة وللعواقين رافعة فصرت عن سره بمعزل حتى استقرت قاعدته ولم يبقى إلا عقدة للتأليف تقرر ونسخة التحليف تحرر فاستدعاني السلطان ذات يوم غدوة وقال: اكتب لنا شرطا ليكون لنا في الوفاق قدوة فقلت له: كيف تستثنى أولئك الذين وثقوا بعهدك، وسكنوا إلى وعدك وهؤلاء لايرضون بالاستثناء وكيف تنسب إلى ترك الوفاء فقال: اكتب ما ينزهني عن الخلف وينبهني على صدق الحلف فقلت تحلف لصاحب الموصل على موصله ونجح مؤمله وتعجل أمر أصحاب تلك البلاد إلى اختيارهم عمن اختارنا تم منا له مناله ومن اختاره فله عنده سؤله وسؤاله، وهو يشرع في استدعائهم واسترضائهم على وفق آرائهم فأن صح لنا في عودهم إليه أمرهم بسط عذرنا وقبض عذرهم. فقال: امض الآن إلى شيخ الشيوخ وعرفه بالقضية وأرضه بهذه الحالة الرضية وألم أيضا بمحى الدين وأنا قد أجبناه على هذه الشريطة إلى اليمين. فأما شيخ الشيوخ فإنه عرف واعترف وأسعد بالمراد وأسعف، وأما محى الدين فإنه أبى ألا الأباء وأنكر الأستثناء وقال: هذا مستحيل ولا ينقطع به القال والقيل وأولئك في بلادنا ونوابنا وفي ولايتنا ولاتنا وأصحابنا وفي خروجهم علينا ما لا خفاء به من تفريق الكلم وتشتيت الشمل المنتظم، وإذا علموا أنكم لهم توثقتم وعليهم أشفقتم خرق إجماعهم، وزاغت عنا أسماعهم وأبصارهم فاتركونا وإياهم زاعتذروا إليهم بأنا إنما قبلناكم أيام السخط واللآن فقد كمل الصلح فاجروا على العادة ولا تخالفوا في الإرادة فقلنا تأخذ الآن عهدا كما شرحنا وشرطنا وحفظنا به الجوانب واحتطنا وأنتم أشرعوا في الاستمالة وتنبكوا طرق الاستحالة فما قبل الرسول ولا تم بقبوله السؤل. ثم استأذنوا في الانصراف والاستيمار على ما تقرر في الاستحلاف فاكرم الرسل الكرام وقضيت حقوقهم بكل تشريف وعطية وتحفة وهدية وكان شيخ الشيوخ كبير الهمة أثيراً لا يقبل قليلا ولا كثيرا فإذا حمل له الطعام فرقة على الأجناد الذين معه من الديوان العزيز الأمامى، وعصم أحواله بالخلق العصامى فما زلت به حتى أجاب كل يوم إلى رغيف وباجة متخذة من دجاجة. فلما خرجوا من دمشق عازمين على المسير وعرف السلطان أنهم خيموا بالقصير قال السلطان: قد استحييت من صدر الدين شيخ الشيوخ، وقد عولت على أن أركب لوداعه وأقابل مقاله بامتثاله وأقبل مقاله لأجله ولإجلاله، ويكتب نسخة اليمين كما يمليه بعبارته. فسبقت إليهم منم أمر السلطان، وعرفتهم بسرعة وصوله، فلما وصل نزل في خيمة الصدر منشرح الصدر متضح البشر ثم كشف له في القناعة ما سأله القناع وسأله بالرسول في عقد الإجماع الاجتماع. فأرسل إليه من يعلم بالأمر ويقفه على السر وضيق عليه سعة العذر فلما رأى تواضع السلطان ترفع وقال: أنا بعد ما جرى من الحال لا رغبة لي في الاسترسال حتى أنهى إلى من خصني بالإرسال. ولعلكم اعتقدتم انه ليس لنا مظاهر ولا مظافر ولا موازر بل لنا من يشتمل علينا ويعصمنا ويميل إلينا ونحن نكاتبه. ونستشير به ولا نتوخى خلاف مذهبه وأشار إلى سلطان العجم والبهلوان فأذن هذا القول منه بنفار السلطان وترك ما عزم عليه وودع وركب، وبعد الأمر الذي كان قد قرب وكان قد أرسل للإطفاء فأسعر وللاستحذاء فتكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقال السلطان فاتر العزم في العود إلى الموصل فهاجمه وحرف إليها مزاجه ولو تمسك منه بظاهر يمين لفاز لمرسله في مكانه بتمكين وكأنه ذكر بما نسي واستعجل فيما أنسى، فخطب خطابه خطوباً وغير تغير قلبه قلوباً وجر ذنبه تجريه ذنوباً، وحدثت كوارث، وكرثت حوادث كلها إلى هذه الحالة منسوب ومن هذه المقالة محسوب وسيأتي ذكر ذلك في مكانه بشرحه وبيانه. قال: ووصل رسسول عماد الدين زنكي صاحب سنجار فاتخذ توخي المصلحة في المصالحة وعاد فعرف ما أفضى إليه الأمر وما جرى عليه رسل الموصل من الآباء والعود إلى عادة الاعتداء. وانا في هذه السنة المقبلة قد عزمنا على الكر إلى الكرك وأنا راغبون في جهاد قال: (217 أ) وكثرت الأمطار في شتوة هذه السنة والثلوج وتعذرت الحركة والخروج. ودخلت سنة ثمانين والبرد قد تقوض اساسه وانقرض بأسه وسقطت جمرانه وسخطت غمراته فتتقاضى السلطان عزم الجهاد وحزم الاجتهاد فاستدعى الأجناد واستعد وخرج إلى مرج الدلهمية من عمل البقاع وقد أذن مرعها بالأمراع وغضب الشعاب ورضت الأعشاب وأمكن الرعي وتمكن السعي وشرع الجند في الاجتماع والجد في الارتفاع وتواصلت الرسل وتراسلت الوصل، وجاء رسول نور الدين بن قرا أرسلان يظهر لما يومئ به الانقياد والاذعان وهو وزيره قوام الدين أحمد بن سماقه وهو حاكم ملكه وناظم لسلكه وأخص خواصه وأخلص ذوي استخلاصه ودخل إلى السلطان من بابي واستفتح خطابه بمفاتحة خطابي وفرق على الخواص والعوام تحفاً وهدايا خصت وعمت، وطرفاً وسنايا مقاصده بها استتمت. ورده السلطان سريعاً وأتحفه إحساناً وسيعاً وشيعاً وسامه بالوصول بمخدومه في خصوص عسكره وعمومه وأقمنا حتى وصلت البشرى بقدومه. وركبنا وتقليناه على فراسخ وشاهدنا منه الطود الراسي الراسخ وأنزله السلطان في سرادقه وعام فيالقه في فيالقه واستصحبه إلى دمشق فأبدى بمنتزهاتها العشق وأضافه وازاره الطافة وأدنى من فضله قطافه ولاعبه بالكره في ميادينها وداعبه بالطرف في بساتينها. ولما تم عبير الربيع في عبوره ونمنم حبي الحبير في حبوره تقاضى غريم الغرام بقضاياه وأعلن العزم السلطاني بخفاياه وأخرج خباياه وأيقن الإسلام بأمانيه ولاكفر بمناياه. واجتمعت العساكر برأس الماء على الملوك والأمراء والأكابر والعظماء، وأشفق السلطان من تكليف ابن قرا أرسلان تجشم المشاق فأنزله في مقام الأرقاد والآفاق وتقدم إلى أخيه الملك العادل سيف الدين بالإقامة معه لا يناسبه. وكان قد قدم كتباً إلى الأجل الفاضل بالوصول العاجل، وإلى تقي الدين نايبه بالديار المصرية بإقباله منها بالجحافل، وسار على سمت الكرك واستصحب عدد الحصر وعدد الأبصار والعسكر اللجب والمنظر المعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فصل في كتاب إلى صدر الدين شيخ الشيوخ ببغداد في شهر ربيع الأول سنة ثمانين قد توافدت العساكر الشامية والجزرية والديار بكرية ووصل نور الدين بن قرا أرسلان في عسكره المجر وجنده المصحوب بالنصر، وعسكر صاحب ماردين في جمع كثيف ومطلع في السعد منير منيف وصاحب داراً وشهاب الدين أخو صاحب سنجار، وكل منهم ماضي العزم شديد السهم لما مهدنا له من المهم. ونحن متوجهون إلى الكرك يسر الله فتحه وقرن بمتجرنا في سبيل ربحه وقد استدعينا العساكر المصرية وتواعدنا بالوصول إليه والحصول عليه فأنا كنا أضعفناه وخربناه وخبرنا القتال عليه وجربناه وأن فتحه يستدعي تكرير العود إليه بالحصر وتكرير صفو العيش على أهل الكفر ولعل بمهمة سيدنا يتخذنا في الملتقى ويسعدنا في نيل الفتح المبتغي، قال وسرنا بالنصر واثقين وفي العزم صادقين ووصلنا الأساد بالتأويب والخبب بالتقريب حتى أنخنا في خامس ربيع الأخر بأعمال الكرك على أدر وما منا إلا من شرح الله له الصدر. ووصل الخبر بقرب العسكر المصري بالنصر الناصري والبأس العمري فتشوقنا إلى اللقاء وجينا إلى الكرك ونزلنا قبالة الحصن علة واديها وعادتها منا عواديها ووصلت العساكر المصرية ووصل الأجل الفاضل ثم وقع التظافر وكمل التظاهر على مضايقة الحصن بإعادة قوتها إلى الوهن فعبر السلطان إلى الربض ليقرب سهمه من الغرض وسكن دار الرئيس ونصب تسعة من المنجنيقات الكبار ورتب عليها نوب الليل والنهار وكان نصبها صفا قدام الحصار مبنية والأستار موثقة بأسباب الاستظهار فزارت الأسوار ورامتها بالداهية الدهياء حتى هدت اركانها وهدمت بنيانها وجردت من العمارة جدرانها وعمرانها، ولم يبق بيننا وبين الحصن مانع إلا الخندق الواسع العميق وقد تعذر فيه الطريق وكان من الأودية الهائلة والمهاوي والمهالك الغايلة ولم يكن في الرأي إلا طمسه وملوه بكل ممكن وردمه فبعد ذلك من الأمور (217ب) الصعاب وتعذر لحزونة الأرض وتمخرها إليه حفر الأسراب فأمر السلطان يوم الخميس سابع جمادى الأول بضرب اللبن وجمع الأخشاب وبناء الحيطان المتقابلة من الربض إلى الخندق وتسقيفها. وتسفيف ستايرها وتأليفها ولما تمت دروبها ومنافذها وكانت شعاب واسعة لا يزحم فيها الجاي الذاهب ولا يصدم فيها الماضي الايب وتوافدت رجال العسكر على ذلك وأتباعه وأشباعه على نقل ما يرمى في الخندق ويخشى به عرض ذلك المخرم وعمق ذلك المخرق فتمادى على ذلك تتابع الأيام والليالي وكاد أن يتساوى بالهدم والطم مخارم الأسافل والأعالي وكاد الفتح يقرب والنجح يكتب حتى عرض الونا وعنا وما عنا ودنا القدر بما دنا. فصل من الكتاب إلى ابن قرا أرسلان وهان طم الخندق بالدبابات التي قدمت والأسراب التي بنيت وأحكمت فوجد الناس إليه طريقا مهيعا فهم يزدحمون آمنين من الخراج عاملين على الإفراج وقد أمتلأ الخندق حتى أن أسيرا مقيدا رمى بنفسه من السور إليه ونجا بعدما توالى من الفرنج رمي الحجارة عليه. قال: ووصل كتاب الملك العزيز وكان مقيما بدمشق بوصول رسل الديوان العزيز صدر الدين شيخ الشيوخ وشهاب الدين بشير ومن معهما فكتبت من السلطان جوابا منه: وما أسعده حين فاز بخدمة سيدنا صدر الدين ولقد وفق في حضور حضرة جلاله كل يوم والتيمن بأنوار عزته والتبرك بإيثار أدعيته وقد ظهر أثر قدومه المبارك وبشرت ببشر وجهه وجوه الممالك فلنا كل يوم نصرة ومبرة من الله مبرة ومسرة معلنة بالمنايح مسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 من كتاب فاضلي إلى الديوان العزيز: أصدر الخادم هذه الخدمة من الكرك يسر الله فتحه وعجل فدحه وتوجه إليه عقب منصرفه من بلاد الساحل وبعد قضاء مفترضه وأعرض عنه أولاً وهو قصده أعراض الرامي عن مراده وغرضه فأنه لجى في الحناجر وقذى، ورصد الطرقات المسلوكة وصير في السبل المشكوكة وقد أخذ من الآمال محققها وقعد بأرصاد العزايم وطرقها وصار ذنباً للدهر في ذلك الفج وعذر التارك فريضة الله من الحج وجلس من هام الاسلام بمكان عمامته وختم على أنفاس الحجاز فما يدع نفساً يصعد من تهامته وخف بهذه القطيعة مدينة قد عقل الجبل حبوتها وأزلق الغراب أن يطأ ذروتها وعصم سوار الوادي القوي بعصمها وحمت عزة الجبل المطل أدهمها والخيل تصعد منه أنجماً في فلك بين طالع طالعها وغارب في واديه لغاربها وجناً المنجنيق بحاكمها وقامت كف كفنه تزاحمها ولسان حبله للنضض يخاصمها. قال: واستمر مقامنا واستحر غرامنا وقد آن أن يفتح الفتح المرتجى بابه المريج ويحد الحد المبتغى المنهج البهيج وما في الفرنج من أهل الحصن من رأى له مخرجاً وفرجاً وتطايرت كتبهم إلي من ورائهم بالاستصراخ واستأيس روع الكفر من الأفراخ. ذكر القفول من الشام واجتماع الفرنج في الموضع المعروف بالواله قال: وصل الخبر ونحن على حصار الكرك وقد ضايقناها أشد مضايقة وعالقناها أحد معالقه بأن الفرنج قد أقدموا مجتمعين ولنداء المحصورين مستمعين وقد جاءوا مدججين وفي بحر الموت ملججين فلما سمعنا بجمهم طمعنا في وقعهم وقلنا متى رقمنا القوم وعاودنا السوم في مجمعهم وربضنا للكريهة كارهون، وكانت مسالك الدخول إليهم صعبة وعرة وطرق التطرف نحوهم متعمقة متقعرة فقلنا نحصرهم ونصبر عليهم ونصابرهم حتى يخرجوا فيخرجوا إلى مفازة البلقاء فيفوزونا للقاء وأطاف العسكر بهم أياماً فلم يطق أقداماً فرحل عنهم لخناقهم منفساً فبقى الأمير عز الدين جاولي هناك مقيماً للاطلاع على أحوالهم مستديماً حتى إذا عرف بحركتهم للخروج وأعلمنا بحالهم وأقدمنا على قتالهم فأصبح وربعهم خال ورسهم بال وأنهم لم ينالوا بركوب الخطر في طريق لم يخطر ببال فاتخذوا الليل حملاً ورجعوا القهقرى وسلكوا في المضايق سبلاً وفروا من الشرك وكروا إلى الكرك فأسفنا على فوت الفرص وإفلات الطاير من القفص، واجتمعت العساكر في عماق بالأثقال وركزنا زرق الأسنة الزرقاء وقربنا بلقيا الخير قرى البلقاء وعدنا بالسلامة نذكر سلامة الأعداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ولما رأى السلطان أن الفرصة (218 أ) فاتت استدراك الفارط بغزوة قدمها وخطوة اغتنمها وجاب نابلس وأجرى إليها الخيل وجر عليها الذيل وسبى وسلب وغنم وغلب وأقام بها بياض يومه بسواد قومه حتى استخرج العسكر المغانم من المغاني وتفرقوا في أقاصي شعابها والأدانى. وفي طريق عوده نزل على سبيطه وفيها مشهد زكريا عليه السلام وقد اتخذه الفرنج كنيسة وأودعوها أقمشة نفيسة وبها من الفرنج سكان وأقساء ورهبان فغدوها بأسارى مسلمين ولاذوا بالأمان معتصمين. ثم أناخ على جنين فأهبط أوجها وهدم برجها وآب بالنهاب والسبايا والمراع والصفايا فاجتمعنا على الفوار وبادرنا بالوصول إلى دمشق للاستسعاد برسل الديوان العزيز وبرؤية شيخ الشيوخ وكان البحر متوهجاً وضرام الجو متأججاً وفشت الأمراض ووشت بالجواهر الأعراض ومرض شيخ الشيوخ فتعفف عن مواصفة الأطباء واستمر في ذلك على شيمة المتوكلين الأتقياء وقال: إن المبلى بالمرض هو المنعم بالشفاء. ومرض أيضاً شهاب الدين بشير وأصحابه وخواصه وحجابه فضجوا ومجوا وأبوا الإقامة وأبدوا السآمة وظنوا في الرحلة السلامة وقضى كثير من أصحابهم فتشا عموا بمصابه وأسفوا على شبابه والسلطان يستمهلهم خوفاً على مزاجهم ورجاء نصح علاجهم فأشفق أصحاب بشير لشدة مرضه من وفاته وأساءوا الظن بعده بعطايا السلطان وصلاته فأرادوا أن يستعجلوا نقودهم ويستعملوا نفوذهم ويجتابوا خلعهم ويرحلوا ويأخذوه معهم فما عليهم بعد ذلك ما يقضي به القدر ويقضي به بعد قضاء وطر الورد الصدر فحملوا لأجله المطمع في نفعهم مخدومهم على القدر وساء حظه الخطر وحسنوا له أن الهواء وبى وبيل وأن رسم الصحة في هذا المحل محيل فطلب بشير الإذن في الرجوع بعد استماع جواب قوله المسموع فقضى السلطان حق إكرامه وأدى فرض إجلاله وإعظامه ومد له حصناً عراباً وحجوراً عتاقاً وأطلق لأصحابه أعنة جوده على حسب اقتراحهم إطلاقاً فلما كمل لهم العطاء وكشف لهم عن ستر الراحل الغطاء رغبهم في المقام رفقاً بذوي السقام فلم يكن للأصحاء بعد استيفاء حظوظهم في اللبث حظ ولا لزمهم لأجل مرضاة مرضاهم حفظ وأصبحوا وقالوا لمريضهم الثقيل أنت اليوم في خفة وحملوه راحلين به في محفة وأجاؤا شيخ الشيوخ وهو في بحرانه للعوم في بحرهم ولفح حر وجهه في وجههم لحرهم فلم يرى أن يقعد عنهم وأن كان مرضه مقعداً وقال: إن القضاء المحتوم أن لم أدركه اليوم أدركه غداً وعاده السلطان بل تردد إليه كل يوم وليلة في الرباط بالمنبع ثم استقل مودعاً وداع الأبد ولم يعلم أن الأمل فيه منقطع الأمد وكان من سنجار حسام الدين طمان مقدم عسكرها معناً في الجهاد فأذن له السلطان في عوده إلى مقره بعسكره وأمره بمرافقة صدر الدين والرسل معه والرفق بهم في مسيرهم ومذهبهم فساروا على سمت الرحبة واغتنم الأمير طمان بركة تلك الصحبة فواجهوا مهاب السموم ودبت الأمراض فيهم مدب السموم ولما بلغ بشير إلى السخنة ووصلوا بشيخ الشيوخ إلى الرحبة وهناك لقى ربه وورد من الكوثر شربه فهو ممن رفع سريره الملايك ووضعت له في عليين الأرايك. ولما جاء السلطان نعيه ساء وعيه ولم يزل يجري على قلبه ولسانه ذكره وشكره ولم يصف لا حد كما صفا له بشره وكانت وفاته في شعبان بوأه الله الجنان. ذكر الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ووصوله مع عمه إلى دمشق وعوده إلى مصر منتصف شعبان قال: كان تقي الدين نايب عمه السلطان بمصر ولما استدعاه مع عسكرها للغزاة رتب بالديار المصرية نوابه ووصل لعمه موازراً مظاهراً وبمضاء مضاربه له مظافراً فلما وصلنا إلى دمشق حضر بها معناً وأبدى مكارمه وأبدعها بما وسعنا وبث الزند وبث الحمد وكانت بيني وبينه صداقة لصدق الاعتقاد معقودة وأثمان صنايعي في سوق صنايعه مفقودة وأنا أثبت في هذا الكتاب قصيدة ثائية مدحته بها في سادس رجب سنة ثمانين بدمشق حرصاً مني على تخليد ذكره وتعمير مجده قلت ومنها: إذا شئتما من غير قلبي تحدثاً ... فما حل فيه الهم إلا ليلبثا حذا شاهدي صدق على صحة ... الهوى ضناً ساكناً مني ودمعي محدثاً (218 ب) رثى لي عدوي من جفا عيني رنا ... هيك من حال عذرى لها ممثلا غدت دمعتي في هدب عيني كأنها ... وقد علقت فيه غريق تشبثا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 واهيف حزني في أرث في الحشا ... من النار ما في خده الحسن وارثا يقول خليلاي الشقيقان لو مشى ... على غير متن الهوى ما توعثا رأيتم طريق الحب وعثاً وإنني ... أرى طرقات الصبر عندي أو عثا قال: وخرجنا من دمشق في شعبان وخيمنا على الفقيع ودعا السلطان تقي الدين فأمره أن يرجع بالعسكر إلى مصر بعد ما ودع في منتصف شعبان وعاد إلى القاهرة ثم رجعنا من فرض الجهاد إلى فرض الصيام وأجدنا شهر رمضان في دمشق راحة المقام ورجع كل عسكر إلى مركز ملكه وكل تبر إلى أربع فلكه. ذكر الشيخ العالم زين الدين أبي الحسن علي بن نجا الواعظ المقيم بمصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قال زين الدين هذا من أهل دمشق ومن ساكني مصر ذو لهجة في الوعظ صحيحة وبهجة في الفضل صبيحة وقبول من القلوب وفصول في فصل الخطاب الخطوب، وكان السلطان يستشيره ويروقه تدبيره ويتيمن بندبه واستحبائه ويمده بميراته ويوده بمكرماته. ووصل في هذه السنة منه كتاب إلى السلطان يتضمن برح لوافح الأشواق وشرح فوادح الفراق ويشوق إلى مصر ونيلها ونعيمها وسلسبيلها ودار ملكها ومدار فلكها وملتقى البحرين ومرتقى الهرمين وريفها الريف وصيفها الخريف وأن شتاءها ربيع وشتاتها في الفضل جميع وذكر في كتابه ما دل به على فضيلة تلك الديار من الآيات والأخبار فكتبت إليه في جوابه عن السلطان بتفضيل دمشق على مصر: وردت مكاتبة الشيخ الإمام زين الدين أطال الله تعالى على ما تضمنه من النعم المستمرة والمواهب المستقرة المستدرة وعرفنا طيب الديار المصرية ورقة هوائها وترفرف آلايها وضحك أرضها من بكاء سمائها وبعد شهادة زين الدين بزينة مشهدها واجتلاء العيون برسمها مقام أثمدها قد حكمنا بفضلها وفضيلتها وحفظ وسيلتها وصدق محلتها ونحن نسلم له المثلة في طيبها وتوفر نصيبها ورقة نسيمها ورايق تسببها لكن لا ريب أن الشام أفضل وأن أجر ساكنه أجزل وأن الزلال البارد به أعل وأنهل فإن الهواء في صيفه وشتائه وأن الجمال فيه أكمل وأن الجمال فيه أجمل ودمشق حديقته الناضرة ومنه: لا سيما وقد تمسكنا بالآية والسنة والإجماع وغنيناً بهذه الأدلة عن الاختراع والابتداع أما قسم الله بدمشق في قوله " والتين والزيتون " والقسم من الله بها أدل دليل على فضلها المصون أما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرة الله من أرضه يسوق إليها خيرة من عباده وهذا أوضح برهان على أنه خير بلاده. أما الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على اختيار السكن بالشام. أما فتح دمشق بيكر الإسلام وما ينكر أن الله ذكر مصر وسماها أرضا فما الذكر والتسمية في فضيلة القسم ولا الأخبار عنها دليلا على الكرم وإنما اكتسب الفضيلة من الشام بنقل يوسف الصديق إليها عليه أفضل السلام ثم المقام بالشام أقرب للرباط وأوجب للنشاط وأين قطوب القطب من سنا ينير وأين ذرى منف المشرف من ذروة الشرف المنيف المنير وأين الهرم الهرم من الحرم المحترم وبينهما فرق ما بين الفرق والقدم وهل النيل مع طول نيله وطول ذيله واستطالة سيله برد بردا في نقع الغليل وما لذلك الكثير طلاوة هذا القليل وسبيل هذا السلسبيل ونحن ما نجفوا الوطن كما جفاه ولا نأبى فضله كما أباه وحب الأوطان من الإيمان ومع هذا ما ننكر أن مصر إقليم عظيم الشأن وان مغلها كثير وأن ماءها نمير وان ساكنها ملك وأمير ولكن نقول كما قال المجلس السامي الأجلي الفاضلي أسماه الله أن دمشق يصلح أن يكون بستان لمصر ولا شك أن أحسن ما في البلاد البستان وزين الدين وفقه الله قد تعرض للشام فلم يرضى أن يكون المساوى حتى شرع وعد المساوى ولعله يرجع إلى الحق إن شاء الله تعالى. قال: وذكرت بما أنشأته في تفضيل دمشق كتابا كريما أصدره مولانا الفاضل إلى السلطان يشوقه إلى مصر وأولاده بها ويصف طيبها وذلك في سنة أربع وسبعين وهو (219 أ) أدام الله سلطان مولانا الملك الناصر وأعلى ولائه في صدور الأولياء ومكن أسنته من ظهور الأعداء ولا عدمت السنة منه أمداد التعماء ولا زالت بادية لعين صوابه وجوه الآراء باسمة إلى قلوب رجال رجائه أسارير السراء المملوك يقبل الأرض وينبئ أنه وردت المكاتبات الكريمة والتشريفات البارة والشروح الشارحة المسار السارة وتسلم منها حصته التي لا تتبع حظه فيه بملء الأرض ذهبا ولا تأخرت عنه أسار خلقها بنفسه طلبا وجمع بين خطاب المولى وسمعه وخطه وقلبه طامعا أن يجمع الله بين عينيه ووجهه وذلك يوم يكون فيه كما قيل: رفعت عن الدنيا المنى غير حبها ... فما أسأل الدنيا ولا استزيدها أو مما قال قيس: متى بات هذا الموت لا يلف حاجة ... وقيل الإجابة عند الفضول فبشر بما جرت العادة به لا قطع الله تلك العادة من سلامة وصحة وعافية شملت أولاد السادة أطاب الله الخير إليهم عن المولى وإلى المولى عنهم وعجل لقاءه بهم ولقاءهم له فإنه من يلق منهم فلك دستة برجه وفارس مهده سرجه فمن الذي لا يصلح له منه السرح: فهل لدى منهم ما محالة الميدان ... والدرج تبين فيهم ميسم المجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 تبين فيهم ميسم المجد والعلى ... وليدا يفدي بين أيدي القوابل لم يستهل بلى ولكن وحشه ... لم لا تعد له الدروع لفايفا فهم والله بحمد الله بهجة الدنيا وزينتها وريحان الحياة وزهرتها، وإن فؤادا وسع فراقهم لوسع، وأن قلبا قنع بأخبارهم لقانع وأن طرفا ما نام عن البعد عنهم لهاجع، وأن ملكا ملك تصبره عليهم لحازم، وأن دهرا جاد بهم لسخى ثم إذا أبعد عنهم الظالم، وإن نعمة الله فيهم لنعمة بها العيش ناعم إنك إن أبصرتها مرة أكبرتها أن يتمناها فدعونا من تعليل البلد الأعسر وملعبها الملعب الأصفر وشتائها العذاب الأكبر، ومن رأس عينها الضيقة المحجر، ومن ثلجها الذي مقسى الجبال بعينه ومن بردها الذي لا يشفع الخمر عنه إلا بإذنه. وعود إلى ما أترفتهم فيه من مساكنكم فإنها قد علتها وحشة لعطينها وسالت مطالع رسومها عن أقمار سلاطينها، واذكروا النيل الذي وفي لكم هذه السنة بنقصه وإلى أن يكون ماءه ذخيرة لغير جودكم الذي أحصاه الله ولم يحصه، واذكروا فرطها فقد بلغ شطاطه إلى الجناد وعلت أفراطه إلى أن يكاد يصافح أفراط اللحم متمكنا، واذكروا ما طوبتها فقد كاد يقيم الحجة على ملك الشام ووجمه ويتغلغل برده فيسرى إلى قلب العليل وكأنه جار على غير طريق فمه واذكروا صحة هوائها وتقضيته لآمالكم حتى أنعم الله عليكم قبل صحة أجسامها بصحة أجسامكم ولولا أنكم أهنتم الذهب الأحمر وألبستموه للروع من جودكم الشعار الأصفر لقلنا واذكروا ذهب مصر لكن قد أهنتموه وأذهبتموه مجانا حتى غلب همم العافين فأسقلوا منه بما اتخذه الأملاك تحايا واذكروا رياحين القلوب من زهرات أولادها، وقطعات أكبادها أما يشتاق جيد المولى بدررهم أما تظمأ عينيه 'لى أن يتروى بنظرهم. كم ذا التجلد والأحشاء راجفة ... أعيذ قلبك أن تسطو على كبدي وللمولى أبقاه الله أن يقول: وما مثل هذا الشوق تحمله مضغة ... ولكن قلبي في الهوى بقلوب فلو أطيع المملوك وقبل رأيه المسئول لكانت كنية المولى إلى الأملاك فإنها كنية حققها القدر وما يحليها ووسمه بها أولاده لا كتابه وساق بها كتاب الله ومن المملوك وما كتابه وقد كان الرشيد رحمه الله يسمى أبو الأمناء لمكان أولاده الأمين والمأمون، وإذا كانت الكنية لثالثة فلا يكون أبا ثلاثة عشرة أنا بنت القناة وعثمانهم كسنانها وكليالي البدر ولأنها ليلة سرار نقصانها. والمملوك في هذا الفصل رسول مصر وما هو عنها في البلاغ بلاغ لا صاغ عنها من القول إلا ما ساغ، وهو ينتظر جواب الرسالة وقد خالطها بإنشاد وما هجروا أوطانهم عن ملالة وللآراء العالية فضل الشمول. ذكر صاحب أربل الأمير زين الدين أبي سعيد يوسف نيالتكين بن زين الدين علي بن بكتكين وانتمائه إلى الخدمة قال: كانت أربل من ولايات الموصل معدودة وايالتها بايالته مشدودة فأراد صاحب أربل أن ينفرد بالاستبداد (219 ب) ويستقل بالبلاد فكاتب السلطان بالاعتزاز به والاعتزاء والانحياز إلى حوزته والاشتداد بقوته فترددت كتبه ورسله ووضحت في الموالاة والمشايعة سبله وأخذ اليمين على حفظه وصيانة حقه ورعاية حظه ولزم عقده وحزم عهده. وكاشف بالمواصلة بالمقاطعة وأظهر المناب عن المتابعة وترادفت رسا يله في حظه بالحض وإقامة جداره المنقض فإن المواصلة قامت قيامتهم بقيامه فما أقعدتهم غير المهابة والخواطر المرتاعة من الأخطار المرتادة فداروا أعراضهم بالاستعطاف وداووا أمراضهم بالاستلطاف فعز عليهم وعزف وركب الأنف وغنى عن السواقي بالبحر الخضم وأعاد نشر أمره بالانضمام إلينا إلى الضم ونفذ يطلب المنشور ببلاده وتحكيمه باستبداده وانفراده فأجيب إلى مراده، وكتبت له منشورا وفق أربه وفق طلبه في مستهل المحرم سنة ثمانين وتفصيل ما كتب في منشوره: أربل وقلعتها وأعمالها وجميع ما قطعه الزاب الكبير شهرزور وأعمالها، معايش بيت القرايلي الدشت والزاوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 قال: وممن لجأ إلى السلطان واحتمى بحمايته معز الدين سنجر شاه ابن سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الجزيرة فنفذ فقيه الجزيرة مع حاجبه في استحلاف السلطان فأكرم الرسول وأبرم السول وكان يحث على قصد الموصل وكان هو ولي عهده والموصى له من بعده فلما فل شبا شبابه ونقل من بين أترابه إلى ترابه خلفه أخوه عز الدين مسعود وقنع ابن أخيه هذا سنجر شاه بالجزيرة وكان بعد ذلك على عمه من الجزيرة فرجا من السلطان وأمل أن يحدد له من العز منهجا مبهجا. ذكر صاحب ماردين قطب الدين ايلغازي بن تمرتاش ابن ايلغازي بن ارتق وفاته في هذه السنة قال: هو من جملة أمراء الارتقية ممن رتق أولوهم فتوق الإسلام ووقفوا في نصرة الدين مواقف الكرام ولهم في مبادئ خروج الفرنج غايات في الجهاد لا تدرك وملكوا من قياد المصاعب وعاد المطالب وما لا يكاد يملكوا وحفظوا حلب وأبطلوا من الفرنج عنها الطلب، ونزلوا البيت المقدس قبل استيلاء المصريين عليه وحموا ببأسهم ما حواليه فما أخذه الفرنج إلا من المصريين في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وبقيت تلك الخطة وبلاد الساحل مع أهل الشرك وعجز عنهم ذووا الملك إلى أن يسر الله سبحان فتحها للملك الناصر صالح الدين والدين يوسف بن أيوب في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وسيأتي ذكر ذلك في مقامه عند ورود عامه. فبقيت ديار بكر وبلادها في أيديهم وتفردوا فيها يتوليهم وذبوا عن محصنات معاقلها ومحصنات عقايلها فبهم بقاء بقاعها وبها يتم ضياء ضياعها وبأمرهم أمور ولاة قلاعها يتوارثها كابر عن كابر وماجد عن ماجد. وقد تقدم في عصرنا هذا ملكان أحدهما هذا قطب الدين ايلغازي صاحب ماردين ومعه ميافارقين وتلك الولايات والبلاد التي تجاورها والأعمال والمعاقل التي تقاربها والأخر نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سكمان بن أرتق وهو صاحب حصن كيفا وخرتبرت والبلاد التي تناسبها فلما ملك سلطاننا الشام ولزم أمره النظام فأول من لاذ ببابه وعاد بخبابه نور الدين بن قرا أرسلان فإنه خاف من حمية قلج أرسلان كما سبق فقصده السلطان ودخل حدود بلاد قلج أرسلان وخيم على كوك سو حتى زال الخوف وأمن السوء وذلك في سنة ست وسبعين وقد مضى ذكره وشاع في ذلك أمره فلما خرج من مصر سنة ثمان وسبعين راسل هذا نور الدين وابن عمه قطب الدين صاحب ماردين في مساعدته على قصد الموصل فأجاب نور الدين دعاه ولبى نداه وسار إليه وقدم عليه ونبا قطب الدين وأبى فأن صاحب الموصل ابن عمته وما لاق خذلانه بكرم سيمته ولكون شاه أرمن صاحب خلاط خال صاحب ماردين ثبت على مؤازرته بمضاء عزيمته فلا جرم سعى السلطان في نصرة نور الدين وفتح آمد ووهبها له وأناله من المال والجاه ما أناله. ثم راسله صاحب ماردين بالوفاق وتنكب نهج الشقاق فأثبت عذره ونفى ذعره ولم يزل عيشه رغيداً والظل مديداً إلى أن قلصه القضاء المحتوم والقدر المعلوم ونعى شبابه ونعب غرابه وخلف عيالاً وأولاداً أطفالاً وله ابنان صغيران أكبرهما ينيف على العشر سنة فسفرت بولايته (220أ) بعد قطوبهما الوجوه وكفل به في ماردين أحد الأعيان من مماليك أبيه نظام الدين البقشي وتولاه تولية المشفق النبيه واستقامت الأحوال واستنابت الآمال وافتقروا إلى إشفاق السلطان وأشباله وإبدال أعراضه بإقباله وإيوائهم إلى وافر أفضاله ووارف ظلاله. ذكر ما اعتمده السلطان في باقي هذه السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قال: أقام السلطان في دمشق حتى دخل الشتاء وعارضت عارض نداه الأنداء وجادت كجوده السماء ومنح في خصب السنة كما منح في إحسانه الرجاء وتفرقت بأيدي أوليائه كأمواله الأعداء وأقام حتى انقضى رمضان ولم يرض بالمقام في كن كانون وآثر الدنو من أعدائه الذين لا يدينون ولا يدنون فهمت همته وحميت حميته وأخذ بالحزم ونفذ بالعزم واستحض واستحث وحظر اللبث وأصبح في يوم أصحت سماه وصحت في الحسن والطيب أسماره فأخرج مضاربه على سمت بعلبك وضربت خيامه من دمشق على فرسخين وهو يركب كل يوم لصيده وقنصه واهتبال فرصه. وأقام أياماً حتى اجتمعت إليه الشداد واتصلت بتوامها الأقداد وشد زمام الزماع للأسراء والإسراع وسار على طريق البقاع وفزعت تلك الجبال بفوارع الجبال وأصحرت الأساد الخوادر من الفيافي الأغيال وسالت أودية الشعاب ببحر الجيش ذي العباب وسرنا حتى خيمنا على بعلبك بظاهرها ودخلت البلد هناك في العشرين من ذي القعدة مفارقاً للمخيم بسبب المرض الملم وشق على السلطان انقطاعي وتوجع لما راعه من أوجاعي فانقطع أملي واتصل ألمي. ورحل السلطان إلى حمص فسير إلى طبيبها ابن الصوري وسمع المخدوم الأجل الفاضل بخبري وكان بدمشق فجمع الأطباء وخاطبهم في تدارك حالي فندب من وقته الموفق بن المطلوب وسار في يوم وليلة إلى بعلبك من دمشق فرأيت منه عمل من طب لمن حب فشفيت بعدما أشقيت وعجلت أوبتي إلى دمشق وكان وصولي إليها في ثامن ذي الحجة وأخرست بحضوري شقاشق المرجفين وأقمعت بأوبتي مناشق المتشوقين وأقمت إلى أن عاد النشاط وتيقن على المزاح الاحتياط والسلطان لحماه يرقب قربي ويطلب أوبي وجاءه عند استشعار اليأس مني من بذل له في منصبي بذولا فما استحسن عني إليهم عدولاً وخلع على البشير بسلامتي. وحين استقام مزاجي استقمت على منهاجي ووافيته وما برح من حلب حتى جئته وما لقيت السعادة حتى لقيته وما أمر بالرحيل حتى وضعت بمخيمه رجلي وأبدى لي أن مقامه من أجلي. قال ودخلت سنة إحدى وثمانين والسلطان بظاهر حماه مخيم وللعزم على قصد الموصل مصمم والثناء قد انكسر والنور قد انحسر ووصلت إلى السلطان يوم عزمه على الرحيل وإذن وصولي بأحياء رسم منصبي المحيل ورحلنا لأرب منتبهون وإلى حلب متوجهين ولما قربنا من تل السلطان تلا السلطان سورة الحمد وتلاه السلطان السعد وجاء أخوه الملك العادل سيف الدين صاحب حلب لتلقيه وقد أقبل بالإقبال وجلا وجه الجلال ومعه عسكر حلب في هيئة رايقة وهيبة رائعة فاستبشر السلطان بلقائه ودعا له بلقائه. ولما وصلنا إلى حلب در حلبها وتلقانا عجمها وعربها وخرجوا وتبرجوا وتنزهوا وتفرجوا وخيم السلطان بظاهرها ظاهر المخيم طاهر الأديم مستقيماً من أمر الله على المنهج القويم وأقام أمامها إلى أن سأل عن الأحوال ومال نحوه بالنوال وأطلع بدور البدور في آفاق الانفاق وأطلق قيود النقود بالإرفاد والإرفاق وتوجه للمسير ماطر السماء سامي المطار سامي الإقتداء قوي الاقتدار. وكنت في ستة من مماليكي وخدمي وأشياع أملي وأتباع عملي والمحتدين إحسان السلطان والمعتفين سلطان إحساني. ولما تكاملت جموع الجنود وتواصلت وفود الحشود رمي قبل العشية دهليز النوبتية في صفر وفض الختام وقوض الخيام. وأصبح السلطان راكباً في عسكره ساحباً ذيل عشيره وهو قمر هالته وشمس جلالته ووصلنا إلى مضيق جبلان ثم سرنا في سهول وأوعاث في مراحل ثلاث حتى خيمنا على الفرات ببحر المبرات ونزلنا بمكان تحت البيرة على فرسخين نعرف ترتيباً. والفرات قد تحاجزت مدوده وتجاوزت حدوده ومحت من جسوره سطوره وأعجزت ورده وصدره إعجازه وصدوره (220ب) وهو متلاطم الأمواج متزاحم الإثباج وكان السلطان قد سير إلى معاقل الفرات وقلاعه ونواحيه وضياعه وأمر عليها بعمارة كل سفينة ومركب وزورق فحالت جواريها كالجبال الرواسي فعلونا آكامها ورفعنا أعلامها " بسم الله مجريها ومرساها " وأقمنا ثلاثة أيام للعبور وأحمدنا مصبحها وممساها وأخضنا الخيل الماء فغامرت الداء فسبحت السوابح في تياره وتسابقت السوابق في مضماره ولما وقع العبر توقفنا حتى ضم النشر فأخذنا على سمت حران في طريق برج علوة والبيضاء وقد ضايق بالعسكر واسع الفضاء ووصلنا إلى حران في عدة مراحل وخيمنا بظاهرها ظاهرين وبإمداد نعم الله مظاهرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ذكر الأمير المظفر الدين كوكبوري صاحب حران قال: قد مضى ذكر الأمير مظفر الدين كوكبوري زين الدين على كوجك في سنة ثمان وسبعين عند توجه السلطان إلى الموصل ووصوله إلى الخدمة وحلوله محل المشاركة في الدولة والنعمة ولم يفارق الخدمة على الموصل وسنجار وكان معنا على آمد عند افتتاحها واختتم كل خدمة نجاحها وحلب على حلب أفاويق الوفاق وظاهر في الغزوات وظافر على العزمات ولم يزل بأخيه زين الدين يوسف بن علي صاحب اربل يستعطفه ويستجديه ويحسن له الالتجاء إلى الخدمة السلطانية ويرغبه. وصار مظفر الدين لكل من يرغب في الخدمة قدوة ونال بذلك من القرب والزلفى حظوة وعاد من يهتدي به يقتدي وبوسيلته يحتذي وبخطابه يبتدي ولما عدنا من غزوة الكرك في سنة ثمانين وأفام السلطان بدمشق لأداء فرض الصوم وظن أنه يريح ويستريح. وتواصلت كتب مظفر الدين بالحض والحث وتتابعت رسله على هوى الهواده عادلين وللمعونة بالمئونة باذلين وبذل رسوله الخاص ابن ماهان عن صاحبه ما عز وما هان وقال: أن مظفر الدين إذا عبرتم الفرات يستدرك كل ما فات ويقول بكل ما يحتاج إليه في تلك اليلاد ويقدم يوم الوصول إلى حران خمسين ألف دينار وكتب خطه بما أفصح به من قول وأوضحه من قرار وأرغب الأمراء والحجاب والخواص في البذول فسرنا على ماسبق ذكره على البلاد والإقامة بها بارزة الاستعداد حتى خيمنا على حران بالشرح الذي تقدم وسكت السلطان عن طلب ما كان من البذول وما تكلم فإن شيمته الحياء وسجينته السخاء لكنه لما وجد مظفر الدين غير منبعث لحركة ولا متحرك في مملكته وهو غير مبد للاهتمام ولا مجد بالتزام أرتاب بسكوته وسكونه وتواجهت مختلف ظنونه ووشى الوشاة وسعى السعاة وقيل لولا عمارة الحال بينه وبين المواصلة لبقي على حميته وتحقق بفعله ما تبرع بقوله وسيرني السلطان ومعي شمس الدين بن الفراش قاضي العسكر وقال: احضرا لديه واكشفا عن حالتيه وأخبراه بما أخبر عنه رسوله وبما سبق به بذوله وبما أستأنفه من الإعفاء والأغفال دون الاحتفاء فلما بصر بنا مظفر الدين أنبأته الفراسة بما جئنا فيه وشرع في إثبات ما ينافيه وقام قبل أن يقعد وجاء بمصحف كريم وأقسم به قسم بر على الولاء مقيم. ولما فتح المصحف ووضع عليه يده ليحلف قرأت منه " يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود " فقلت له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 يا أمير هذا يأمرك بالوفاء وقد أتى القرآن لكل مرض بالشفاء فما رفع يمينه حتى استوفى يمينه واستحسان أمينه وكذب رسله وجحد ما اعترفوا به من قوله وبذله كله ثم صرف وزيره وادعى عليه تزويره ولولا ذلك ما هان ابن ما هان ولم يصدق على إن ما كان. فجئنا واخبرنا السلطان بحلية الحال وأن ما سبق من القول كان محالا على محال فتذمر وتذمم وتلون وتلوم وتعجب من القضية وأنها ليست على الحالة المرضية ثم سكت عن شأنه مطرقا حتى أصبح وركب الميدان وفرغ من اللعب بالصولجان استصحب معه مظفر الدين إلى سرادقه على العادة وأطاع فيه حكم الإرادة ونقله إلى خيمته ووكل فيها به ومنعه من أصحابه فوقع الخبر بخفضه وشاع سر قبضه وهاج العسكر وماج المعشر وقام المحشر واجتمع الأمراء عند السلطان وأشاروا عليه بخلات العفو والإحسان وأجمعوا على أن ينقلوه إلى قلعة حلب وخافوا أنه إذا خلى سبيله هرب وفات الطلب فلما انصرف الأمراء وتصرفت بهم الآراء وخلا وجه السلطان وأنا عنده والفقيه ضياء الدين عيسى وقاضي العسكر وعرفنا منه سجية (221 أ) الإحسان فقلنا له انتهز فرصة الإمكان وقلد المذكور طوق الامتنان وما بلغ الأمر إلى الإيحاش وما فقد العثار مهلة الانتعاش والذي أشاروا به ليس من الصواب ولا يحكم فيه بظن الارتياب وكان هذا رأيه فوافقه وعلم أنه قد ما خصه ومازحه وناصحه وما نافقه وانه بالغبن مصاب وبالمنن مغتاب، وقال: امضوا إليه فاكتنفوا ضمايره واستوضحوا سرايره وسكنوا من روعه وأعيدوا أفقه حلقة عادتى ضوءه وضوعه فوافينا وهو مرتاع مستشعر فاجتلى منا وجوه المعارف وهش بهشاشتنا وسر ببشر أسرتنا وقلنا له لا تغتم لما بك فإن السلطان يطلب بعتبك أعتابك وإنما أجلسك ليقرب عليه المراسلة والمخاطبة. فقال: هو مالك رقي وعارف حقي وأنا أسمح بما معي من البلاد وأخرج إليه من الطراف والتلاد وأخدمه ويبين له صدقي الذي أعزمه فقلنا له بل تسلم إليه قلعتي الرها وحران وتظهر بذلك له الأذعان. فقال: كل ما تتسيرون به فهو مقبول وعلى الرأس والعين محمول، وعدنا إلى السلطان ولم يبرح من المكان وأمر من الخزانة بتشريف يليق فقد شفعه التأييد والتوفيق، واستدعى به فقبل الأرض وتقبل الفرض وعاد إلى بيته بالحمد جديد السعد سعيد الجد وتسلمت منه القلعتان ثم أعيدتا إليه غي آخر السنة ومحيت سبة توهموها بكل ما استمحاه من الحسنة. ذكر الرحيل من حران وما جرى بعده قال: وأقمنا بحران في صفر ووجه المنى قد صفر ودخل شهر ربيع الأول في أوائل الربيع واغتنمنا مرعى المراد في المراد المريع. وقال السلطان: لا مكث بعد اليوم ولا لبث في قصد القوم فصممنا على الرحيل وجينا إلى رأس عين فملأنا سهولها وحزونها وكدنا نشفه عيونها وعبرنا على بلاد رمت إلينا بأكبادها وملكنا طوعاً وكرهاً أزمة قيادها ونزلنا بداراً لنا أميرها ووصل إلى الخدمة وامتزج بنا وأنشج بالود وانتسج وكان قد وفد بعساكر ديار بكر عماد الدين أبو بكر بن قرا أرسلان بسبب مرض نور الدين أخيه فشكرنا على تهديه في توخيه. وأقمنا بنصبين ريثما قضينا الأشغال ونضونا الأسمال ثم سرنا وخبب الفلق على نسيج الفيلق مزرور وطرف الشمس الأرمد بكحل العجاج مذرور وأقبل صاحب الجزيرة معز الدين سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي وكان قران النيرين والتقاء البحرين بين النهرين فأصبحنا لإقباله حامدين ولاستقباله عامدين والتفيناه بدراً طالعاً في هالات أعلامه وأسداً خادراً في سلات آجامه واختليناه قمراً في نجومه وسررنا بقدومه فانتظم في السلك واحتكم في الملك وفاض الجود له ولأصحابه حتى دنت كل شاحط ورضيت كل ساخط. واستدركنا بالإحسان كل فارطة لأجل تراكم الجحافل والتزاحم على المناهل قصدنا دجلة من اقرب الطرق وتركنا طريق الدولعية والمرق ونزلنا على بلاد دجلة على بلد وكان وصولنا إلى هذه المدينة في آخر شهر ربيع الأول ثم حدنا على الشاطئ للتنقل والتحول حتى تصل إلى الموصل ثم خيمنا على الإسماعيليات وهناك ألقينا العصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 واستقرت بنا الهوا وتلونا سورة " والنجم إذا هوى * ماضل صاحبكم وما غوى " وضربت الخيام إلى المع رقه مغربه ومشرقه ومجتمعه ومتفرقه، وقد هزتنا إلى النصر الأشواق وأستفزتنا إلى ممالكها الآفاق وطارت الأخبار إلى الأطراف ورجفت الأداني والأقاصي بالإرجاف. وأول ما بدأ به يوم نزوله ببلد قبل الإسماعيليات تقديم ما هو آثم الواجبات وألزم المفترضات وندب القاضي ضياء الدين أبا الفضايل القسم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري في الرسالة إلى المواقف الشريفة النبوية وسدة المنيفة الأمامية الناصرية وإنهاء الأحوال وذكر الأسباب المقتضيه للنهوض وإن أهل الموصل مواصلون الأعاجم وخاطبون لسلطانهم القايم وناقشوا أسمه في الدنانير والدراهم وإنهم يتعززون بالبهلوان وإنهم يرسلون إلى الفرنج ويقوون أنفسهم على قصد الثغر وتفريق الجمهور وإنه ما جاء طمعا في استضافة ملك ولا قلع بيت قديم (221 ب) ولا قطع أصل كريم وإنما مقصوده الأصلي ومطلوبه الكلي ردهم إلى طاعة الإمام ونصرة الإسلام وقطعهم عن مواصلة الأعجام وإلزامهم بما يجب عليهم من حفظ الجار وصلة الأرحام. فهذا صاحب الجزيرة وهو أبن أخي صاحب الموصل ولي عهد أبيه ولم يرع فيه ذمة أخيه وأبعده عما أستحقه بالإرث والتوليه وأجاز حربه وطح رحمه ولو تمكن منه لأطاح دمه ولولا خوفه من جانبه لما التجأ إلى هذا الجانب وما أختار الأجانب على الأقارب. وهذا صاحب إربل جار الموصل أبوه زين الدين على هو الذي حفظ بيتهم وخلف في أحيائهم ميتهم وهذا ولده في جوارهم يشكوا جورهم ولا يعرف في المكيدة عليه غورهم وقد استجار وهو جارهم الأدنى حديث صاحب الحديثة في حديثه لا يخفى وقد أشرف على الضرار وأشفى وعين من تكريت من مخافتهن لا تكره وهلم جره من نوايب وصروف لا تحصى وضرايب ومكوس عنها لا يستقصي أهل الشرك في تفريق الكلمة وتبديد السلك وعود في ذكر هذا كله مشافهة الرسول وعلى ما يراه من علاقات الود والقبول وكتبت إلى الديوان العزيز وإلى الصاحب كتبا برسالته والحواله على مشافهته وكان ضياء الدين الشهرزوري الوزير يشير بمدحة أسيرها إلى الصاحب واستدرار ما في الديوان باسم من رسوم المواهب فأصبته كلمة مطلعها: قضى الوجد لي أن لا أفيق من الوجد ... فيا ضله اللاجئ إذا ظن أن يهدي أيا حادي الأظعان خل زمامها ودعها ... على خد بظعنهم تحدي وما كنت أدري قبل صارم حتفه ... وقبلي أن السيف يقتل في الغمد ولا صبح إلا وجهه الواضح السنا ... ولا شمس ألا زايد الثاقب الزند ما رعوس الأعدا إلا سنابل ... وما نبتت إلا لسيفك والحصد كان لثام الزعف من فوق وجهه ... عام لبدر التم وفراقه مبدي بدرع كان البحر في البحر ذاخر ... وطرف كان البرق يومض في لبد تساور أفواه الجراح رماحه ... مساورة الأميال للا عين الرمد وما لأمير المؤمنين كيوسف ... فتى في مراضيه بمهجته يفدي قال: وشرع السلطان في إقطاع البلاد والتوسع بها على الأجناد وسيل الأمير سيف الدين علي بن أحمد بن المشطوب الهكاري ومعه الأمراء من قبيلته والأكراد من شيعته إلى بلد الهكاريه وجماعه من الأمراء الحميديه إلى العقر وأعماله لاستفتاح قلاعها واستغلال ضياعها ونصبنا الجسر وعبر مظفر الدين صاحب حران وخيم بالجانب الشرقي ووافقه جماعه من الأمراء في العزم الماضي المضي وجاء أخوه زين الدين من أربل بجنوده وبنوده وجموعه وحشوده وترفت بالأقاليم أقلامه ونفذت في تلك الممالك أحكامي وكان السلطان قد خصني بما كان للوزير الجواد جمال الدين بالموصل من الخواص فاغتنمت فيه نهزة الافتراص وشحنت على صنيعي بأحد يداه وغيرها ورد على مدة مقامنا حلب خيرها وناقشني نواب الديوان فيها وكتبوا إلى السلطان أن يأخذ ما بذل فيها خمسة عشر ألف دينار وأنتم تحتاجون في إجرائها إلى إستيمار فرمي الرقعة إلي وقال: تأمل هذا الهذيان فقمت له وشكرت الإحسان وتسلطت على أدوات الديوان بالسلطان. ذكر ما رآه السلطان من ترك القتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قال: ولما نزلنا بالبلاد وجدنا الحر قد وفدت ناره ولفح أواره وقد وقد شهرا ناجرا والهجير غير هاجر وجاشت الجيوش وشاقت الجيوش فأشفق السلطان على رجاله من لبس الحديد ومن أوار الحر الشديد وقال: نستمهل ولا نستعجل ونقيم ولا نرحل ونسكن إلى أن تحل الحركة وتحل البركة وكفى بأهل الموصل أنهم فيه مسجونون وبما هم فيه محزونون (222 أ) ، والغرض من التصرف في الممالك حاصل والمدد من ألطاف الله متواصل فسلكنا وهدانا واشتغلنا بما به بدأنا وكان حينئذ ماء دجلة في نقصانه ونضوب بحرها في بحرانه، فجاء من زعم أنه يمكن سد دجلة وسكرها وفق فرصة أخرى وكسرها ونقلها أو تحويلها إلى دجلة نينوى ويعطش الموصل إذا الماء عنه انزوى فضحكنا من هذا القايل وقلنا له ومالك ولهذا الرأي القايل فأصر على القول وطول في ادعاء حقيقة الطول. وكان الفقيه العالم فخر الدين أبو شجاع بن الدهان البغدادي حاضرا فجعلناه في الأمر ناظرا، وكان وحيد عصره وفيلسوف دهره ومهندس زمانه موسوس إحسانه وإنسان عين الفضل وعين إنسانه وله الحظ الوافر من جميع العلوم ولاسيما في المنثور والمنظوم والحكمة والهندسة والنجوم. وكان من عهد قديم سكن بالموصل ولما سمع بكرم السلطان تفيأ بظله وتعرف إلى فضله فركب في خدمة السلطان ووقف على المكان وشاهد ما توهموه من سدد دجلة ومأخذه وفتحها للتحويل ومنافذه. وقال هذا يمكن ولا يتعذر وصدق القائل على رأيه وآمن بأيه ولم ير خلاف مذهبه في در خلف مطلبه ثم وصل الخبر بوفاة شاه أرمن صاحب خلاط فتحول إليها العزم وترجح بها الحزم. ذكر شرح ذلك قال: ولما كان يون السبت العشرين من شهر ربيع الآخر ورد الخبر بوفاة شاه أرمن صاحب خلاط وأنه توفى يوم الخميس تاسعة وحينئذ ترددت الآراء وتنوعت الأواب واختلفت في المشورة الأمراء والأصحاب فمنهم من أشار بسلام إلى حصول المرام ومنهم من رأى المصلحة في البدار إلى تلك الديار ومنهم من قال نجمع بين الأمرين فنترك ههنا من العسكر بقدر ما يحصل به مضايقة القوم من الجانبين ويعجل بالمسير بالعسكر الباقي إلى تلك البلاد والله كفيل بالمراد. وبيتنا في هذه الأقسام الثلاثة منزوين بإرشاد الله في استخارته متقدين فلما أصبحنا وردت كتب الأولياء بالولايات بخلاط وبدليس واظهروا المماحضة والموافقة والتأنيث ثم رأينا من أمراء خلاط وقد وصل عماد الدين بابل وقال للسلطان: أدرك أوليائك وأحباءك وهذه خلاط خلا طريقها فارق إلى قبولك بالقلوب فريقها وإن أهلها بالأعاجم لم يخلصوا من المظالم فعجل بدارك وأحسن إلينا بآثار إيثارك فما زال بالسلطان يحرك همته ويحرض عزمته ويذكر حلو العرضة ويخوف من فوت الفرصة وهذه الموصل مأمونة القوات مأمولة في ساير الأوقات وهي إليك واصلة وفي اليد حاصلة فأصبح السلطان ورأيه في الرحيل راجح في الرحيل وغدا الرسول وسعبه في التأمين ناجح وأمر الأمراء بالتأهب للرحيل وعرفهم ماتصمم في عزم التدبير ثم أرسل إلى زين الدين صاحب أريل بالعود إليها وقواه بالأمير سيف الدين على بن أحمد وأمره بنصرته والمقام عليها. فصل من كتاب أنشأته إلى الديوان العزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ومما ينهيه الخادم وفاة شاه أرمن أورث الله المواقف المقدسة أعماق الخلايق ونصر ألوية أوليائها في المغارب والمشارق ولم يخلف أحدا وبلاده سايبة شاغرة وأفواه المطامع من الأعاجم نحوها فاغرة وكذلك ديار بكر جميعها قد خلت واختلت ومعاقد الاستقامة بها قد حلت. فصاحب ماردين توفى وخلف ابنين صغيرين أحدهما في عمر عشر سنين والأخر في عمر سنتين، كذلك صاحب حصن كيفا توفى وله ولد في عمر عشر سنين ودولتشاه صاحب أرزن وبدليس موجود في حكم العدم ومن علة الصرع كلحم على وضم وخلاط الآن قد صار طعمه العاجم وابنة بهلوان فما زوجها أبوها من صاحب خلاط إلا طمعا في مملكته وأن يحتوى بعده على ولايته. والخادم منذ نزل على الموصل لم يشتغل بالحصر لما اشتغل من وقد الحر ورأى الصابرة إلى يطيب الزمان وشرع في تحويل دجلة الموصل عنها واحضر المهندسين فوجدوه هينا والنفع لسهولة الفتح بينا وأحضرت الآلات وشرعت في حفر المحولات فلما وصل خبر وفاة صاحب خلاط (222 ب) تردد عزمه في الإقامة والرحيل ثم وردت كتب المقدمين هناك في مسيره راغبين وللأعاجم كارهين فتعين حينئذ أن يجيب المستدعي ويجر المستدعى. أما الموصل فما يفوت أمر هؤلاء يعيد بعد العود إليها بمشيئة الله حصرها. ومنه وقد عرف أنه لم بق لتلك الممالك خصم سوى البهلوان وما مقابلته إلا الخادم وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم وهو يسأل من العوارف الجزيلة ويرغب إلى العرايد الجميلة في مثال شريف يجمع ديار بكر وخلاط والموصل حتى يفتتح بتقاليده الأقاليم ويسلك بهدايته في النصر على الأعداء. ذكر رحيلنا إلى ديار بكر قال رحل السلك كان بعسكره عن الموصل في أواخر شهر ربيع الآخر سيرا ببحر جحافله الزاخر جامعا بالبأس والفأل وشمل المفاخر، يتقدم إلى أبن عمه ناصر الدين بن شيركوه أن يسير في المقدمة إلى الخلاط ثم قواه بمظفر الدين صاحب حران فلما وصلوا هناك وجدوا من المتغلبين بها الحران. وكان سيف الدين بكتمر من مماليك شاه أرمن قد دخلها وحمى معقلها فوقف ناصر الدين دونها وحبس على طيور سكانها وكونها، وكان قد جاور بدليس إلى الطيطوانه ولو سبق إلى المكان لم يسبق إلى المكانة لكن وزير خلاط مجد الدين بن رشيد كان يظهر للسلطان فناصحته ويسر مشايعته ويبدي الإشفاق ويذكر الوفاق وهو في ذلك صاحب عثار وطالب إيثار فكتب إلى ناصر الدين للإقامة على القرب لتحقيق الهيبة به والرعب وجاء بهلوان في عساكر الشرق وهو شمس الدين أبو جعفر محمد بن أيدكز متولي البلاد بقضه وقضيضه وسمره وبيضه ونزل بقرب خلاط من الجانب الآخر وقيل أن الوزير أيضا كاتبه وأطعمه وأفضى إليه بسر خلوصه وأستودعه وهو في أثناء ذلك يثقل الموازين حتى آل الأمر إلى ما آل وتولى بكتمر وأنصرف الحاج والمعتمر وسيأتي ذكر ذالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عاد الحديث: وأستشعر ملوك ديار بكر حركتنا وقالوا صلاح الدين مذ عين رغبته إلى مملكتنا وكانا صاحبا أمد وماردين صغيرين يقوم بأمرهما أمراؤها المقدمون فخافوا من الانتهاء إليهم والاستيلاء عليهم. فأما متولي ماردين وهو نظام الدين البقشي فإنه أحترز وكشف وجد الحزن في التحصين وأما من بآمد فإنه خاف أن يستدرك السلطان الفارط ويستعيد آمد التي فتحها ووهبها إذا لم يجد كما قرر الشرائط فقد كان عند وفاته نور الدين قرا أرسلان يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الأول أشير عليه باسترجاعها وقيل له إنما سلمتها إلى نور الدين محافظة على مرات خدمته موثوقا بمعدلته وحفظا لمنزلته وقد انتقل الآن منها وخلاها خالية وابنه يتيم وهؤلاء الكافلون بأمره قد عرفت سيرته وعلمت سريرته فكيف يحل لك أن تقلدهم وتجراهم على الرعية وتجردهم فقال: هذا أمر لا يفوت استدراكه وقدمنا ما يجب تقديمه ويازم بعد الشروع فيه تتميمه ونحن نقدم أنفاذ من نثق به على وجه الرسالة لشامل ما هم فيه من الحلية والحالة وكانت بيني وبين وزيرهم القوام بن سماقه معرفة صدقت به الصداقة فكتبت له أن يبادر بالوصول مع مخدوميه جاريا من استصحاب المحمول والمبذول على رسومه. وندب للرسالة إلى آمد القاضي شمس الدين محمد بن محمد ابن الفراش فمضى إليهم فوجدهم على جادة العزم جادين فحثهم على الحضور وجاء قدامهم بخبر وصول ولد نور الدين محمد وهو قطب الدين سكمان وشيمته الطاعة والإذعان ولما وصلنا في أول جمادى الأول إلى ميافارقين وكان دخلها من أمراء ماردين أسد الله يرتقش فتنمر وتشمر وشغل البال وأشعل القتال ونصب المنجنيقات وجود العرادات وملأ الأبراج بالأعلاج والأسماع بالضجاج متعاليا بأمره واشتعلنا بجمره وأبصرنا ما لم نكن نظنه واستصعبنا ما كنا نستسهله ودام قتالها صباح ومساء وسام نزالها من الجرح والقتل كل ما سل وساء وخرجوا مرارا وأحرقوا منجنيق فكم دم أريق وأصر حمل وما أطيق وشاجانا ذاك الشجب وجاء الأمر كما لايحب وأستشهد يوسف منجنيقي وكان بالرجال ولم يزل له في مواقف الجهاد كل مجال وندمنا على ما قدمنا من حصر البلد وقصر الجلاد على ما ليس في الجلد وكانت الخاتون ابنة قره أرسلان زوجة قطب الدين صاحب ماردين متوفى في المدينة مقيمة وعلى سنن حفظها مستقيمة وهي ذات يتامى وإلى لطف الله بهم مستقيمة وللصوم والصلاة برفع يدها في الدعاء مستديمة وأنها أيم مالها قيم متقنعة بكفافها متمتعة بعفافها حاضنه من بناتها لعدد (223 أ) الثريا ساليه بدينها عن الدنيا يحميهن أميرهن في المدينة حماية الغيران وتضرم من دون حماهن جواحم نيران ظلماء لج الحصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وراسلنا الأمير المذكور بمن يستلبنه ويستكشف نهج الصواب من جانبه ويستبينه فذكر أنه يقضى حق من وجب عليه حقه وكان له ملكه ورقه وأن قطب الدين مذ أدرج في كفنه درج أفراخه إلى كنفه ولا يزال في عونهن ويبزل روحه في صونهن، والخاتون مالكة الأمر ونحن لأمره نطيع ولخلافها لانستطيع فراسلنا الخاتون وتردد الذاهبون إليها والآتون وقلنا نحن أولى بحفظ بيتك وأحق برعاية حق ميتتك وهذه المدينة إذا دخلناها فلا خروج عن رضاك ولا دخول إليها إلا وفق هواك ونصاهرك في إحدى عقايلك ويبقى على الإبرام لك معاقدة معاقلك، وقلنا للأمير الأسد سرا: فد مالت الخاتون إلى المقاربة فلا تصر أنت على المجانبة وأتخذ عندنا قبل أصحاب جماحها يدا وكن في الانقياد لنا مقتدا. وقيل للخاتون: إن أسد الدين لانت عريكته ودانه أريكته وأحمد أمره وأخمد جمره، وأستقر بعد ذالك الأمير أسد الدين، وأن بتقطع إلى الخدمة ويتصل بالنعمة ووفور الحرية ويخص بولاية جليجور وأعماله ويقطع عدة نصيبهم من خواص رجاله وتقرر مع الخاتون أن يبقى عليها كل ما باسمها وباسم خدامها وجواريها وأيتامها وسألت أن يفرض لا حضن الهتاخ ليكون لها عشا للأفراخ. وخطبنا إليها إحدى كرايمها لأبن السلطان الملك المعز فتح الدين أسحق، والتمست اليمين مؤكدة بالحجج والعتاق وأخذت اليد السلطانية أبرام العقود وأحرز نسخ المواثيق، والسلطان يسارع إلى بزل كل ما يقترحونه علية مخافة التعويق، وأعيان البلد حاضرون وفي الأحوال ناظرون. ولما أصبحنا يوم الأربعاء آخر جماد الأول تقدم السلطان إلى موالى القاصي نجم الدين بركات أبن عبد الله أبن أبي عصرون ومعنا جماعه مقدمون أن ندخل البلد لعقد نكاح على ابنة قطب الدين لإسحق أبنه وأن نبتدئ الأمر بنجاح ذالك المقصد ويمنه، فدخلنا المدينة وأنا وكيل السلطان لأبنه في قبول العقل، وأذنت الخاتون أم اليتيمة لأبن عصرون لها في تعيين المهر وتسلم النقد فتم النكاح وعم الصلاح وكمل بالفتح وال استفتاح. وجلس السلطان في سرادقه وخرج إلها أعيان البلد من المقدمين والأمراء والأماثل والكبراء، وسير السلطان إلى الخاتون برسم حمولا وهدايا وبذولا وعطايا ومصوغات ذهبيه ومستعملات عراقيه مغربيه وحصنا وحجورا عربيه وسلم إليها الهتاخ بصياغة وأجرى خدمها وخواصها على أقطاعاتهم ومكنهم من تسلم ارتفاعاتهم وأخذ الأسد المنشور بجليجور وألف الله القلوب ونظم الأمور وسألت الخاتون أن يخلى القاضي أبو الفرج يوسف بن هبة بن بام الجبلي على قضائه فكتب له منشورا في مستهل جمادى الآخر وأجريناه على تولية حكم والقضاء والاحتساب بميافارقين ونواحيها وما يجري معها من الحصون والبلاد، والهتاخ وجلجور وذى القرنين استجابة إلى أمانته ووثوقه بعلمه وأمانته. ذكر وصول صاحب آمد ونحن على ميافارقين في جمادى الأولى قال: قد سبق ذكره وذكر صغر سنه ومخافته وأمنه وذالك أن وزيره القوام كان عارفا بالمصلحة فأنتقل بالأمر ووصل بمخدومة قطب الدين سكمان أبن محمد بن قرا أرسلان قادما بالسادة الرابعة والبشارة الرايعه وأرسى خلاص الولاء من أبيه متقربا باستصحاب صحبه ومقربه. ولما ورد خبر إقباله أمر السلطان باستقالة فتلقيناه على مرحله فتلقاه السلطان بعد أمرائه بالقرب وأقبل عليه وحياه بالقبول والحب وأكرمه وبجله ووقره وعجله وأفاض عليه جوده حتى أخ0جله وعجل إعادته إلى آمد بعد أن شرفه واجباه ثمار عواطفه وأقطفه وخلع على أمراء دولته ومقدمي مملكته واسهم بإحسانه أكابر ديوانه وأصاغر غلمانه فعاد إلى آمد وقد تزينت له وتعلقت وتألفت بتآلف شمل أبن نورها وتألقت وتمكن الوزير وأمر ونهى وأدرك من منصبه المشتهى. ذكر النزول على شاطئ قرامان ومراسلة بهلوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قال: ولما أستتب الفتح وخلصنا ميافارقين تجدد لنا ذكر خلاط وكيف كثر انشغالنا بسواها النشاط ولما تمادى الزمان وقرب (223 ب) منها البهلوان راسله بكتمر وحمل إليه مع أبنته زوجة شاه أرمن الأموال التي أودعه المخزون وندب السلطان إليها الفقيه ضياء الدين عيسى فدخلها وتكلم مع الوزير وشاوره ظنا بصدق فناصحته في التدبير فظهر له من فحوى خطابه ما مخضت به الزبدة ونتجت به لواقح الآراء المستجدة وأحال الحال على البهلوان وأنه جاء ليملك المكان ولو استعجلتم لسهل ما صعب وهان وكان الفقيه عيسى قد صار صاحبا له إلى المعسكر البهلواني للتجسس ومعرفة الأحوال بلتفريس فلما حضر هناك أدعى أنه رسول وأن قوله فيما يريده ويصدره مقبول فقالوا له أن صاحبك إن جاءنا تحقق في المصلحة والمصالحة رجاؤنا فكتب إليه الفقيه عيسى يعلمه بما ذكروه وأن بحضوره تسكن الدهماء ويؤمن المكروه فكتب إلى السلطان بأن القوم قد طلبوه وله مع ما سنح من الخطوب خطبوه فكتبت إلى أتابكة شمس الدين بهلوان كتابا بإرسال الفقيه إليه عن السلطان فتوجه الفقيه رسولا وصادف إقبالا وقبولا ووجد كل ما يقترحه مبذولا وكانوا منا مستوحشين فأنسوا ومن قصدنا إياهم مستشعرين فأمنوا، ومن حركتنا حذرين فسكنوا، وبجلوا ضياء الدين وعظموه وكفلوه بالأمر وأطلعوه على السر وصيروه بالأحوال محيطا وجعلوه بيننا وبينهم وسيطا. فعاد إلينا نشيطا يدرس من شرح حشرهم وجيزا وبسيطا، وأتانا من عند أتابك بهلوان رسل مكرمون وخواص مقربون، وفتحت أبواب الرسالة وسنحت أسباب الاستعطاف والاستمالة، وعرفنا أن خلاط قد حمى عسلها نحلها، وأن غابة عقرها قد ذب عنها فحلها وأنها أعرضت بعدما تعرضت وأبلست بعدما تمرضت ففارقنا قصدنا بعدما فات انتهاز فرصة الإمكان وخلو عرضة المكان من عسكر البهلوان ولا رغبة في إيذاء الإحن وإذكاء الفتن، فتركنا الدست قايما والخصم خايفا خايما، ولبثنا أياما لترتيب ذلك الإقليم ومباشرة ضعفها وأمنها بالتقوية والتقويم وفوض السلطان ولاية تلك البلاد إلى مملوكه حسام الدين سنقر الخلاطي فحسم بايالته داء الشر ومحاسنا محاسنه بالعرف سنة النكر وأقام السياسة وأدام الحراسة. ولما دخل رجب أصحت السماء التي أضحت تحجب وجاء نذير البراد مسمعا صوت الرعد وسعا من البرق الودق بالودق فرأى السلطان أن يعجل إلى الموصل أمامه ويحكم هناك أحكام العزم وأسبابه وقال: نقضي بها هذه الشتوة وتستتم بالإقامة الخطوة فقوضنا المضارب وفوضنا إلى الله المآرب وجبنا السبايب وعبرنا السور ونكبنا مزورين عن ماردين الزور وألمنا بدار وأقمنا مسترحين ثم نصبنا الأعلام على أعلام نصيبين وورد كتاب من آمد مضمونه أن سيف الدين مايفارق قصد ميافارقين وأنه على قصد أن ينهض إليها فما رفعنا بهذا الخبر رأسا ولارأينا باسا وعرفنا أنه مع سكوننا لايتحرك ولحجرنا لايتحكم ثم انفصلنا عن نصيبين للوصول إلى الموصل وفكرنا فيما نقيم به من المنزلة بحيث يسهل على من بالجزيرة أمدادنا بالإمداد فوقع الاختيار على كفر زمار فقطعنا إليها نواحي البقعة حتى وصلنا وقررنا منازلنا بها ونزلنا في شعبان وأغلقت الموصل أبوابها وكثرت للنكاية أبوابها وأرتجت ارتجفت مغالقها وكان السلطان يركب في بعض الأيام ويشرف عليها، وهي ترفع أيدي الضراعة رجاء عاطفته إليها وهو مقيم في منزلته لا يريم ومقدم على غرامته لا يخيم، ودجلة تمد بفلكها وأفلاكها واكلاء عينا وأكلاها، والعزم مصمم على الهدو والمكث والسكون واللبث إلى أن ينقضي البرد ويقتضى بالرى والورد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وأصبحنا ذات يوم وكانت يأتينا في الرسالة قوم بعد قوم فقيل قد أقبلت محفات فيها مخدرات خواتين أتابكيات لا عهد لشموسهن بشروق ولا لنفوسهن بخفوق، ولا لمطالعهن بهبوط ولا لمطالبهن بقنوط فخرجن يستشفعن ويستفعن فانزلن خير منزل وأوردنا من الإكرام أعزب مورد واصفا منهل. وقال السلطان: إنما جينا لتأليف كلمة الإسلام وإعادة الأمور بإزالة الخلف إلى النظام وقد قبلة شفاعتكن ورأيت في عصيان العزم طاعتكم ولكن لابد من مصلحة تتم ومصالحه نفعها يعم فأستقر الأمر على أن يكون عماد الدين صاحب سنجار أخوا صاحب الموصل وسيطا في البين وحكما فيما يعود بمصلحة الجانبين فإنه كانت شفاعته سابقه ومسألته قي ذالك صادعة صادقه فرأى بهذا الرأي قضاء الحقين ووقف السداد (224 أ) فيه على الطريقين وتعطف تلطف لأجلهن ولإجلالهن وأتى من الكرامة والمبرة بما يليق بأمثالهن وكنا ظنن أنه لايقين بحرمة قصدهن ولا يشتغل بأمر يؤذن بما ردهن فدخلن المدينة متلومات متزممات وبلطف الله لايزات معتصمات. ذكر وصول عماد الدين في الوساطة وما عرض من مرض السلطان قال: وكان السلطان لما دخل شهر رمضان داوم قراءة القرآن وحفظه والإتقان واشتغل بالصيام والتقليل من الطعام، وظهر انزعاجه وتغير مزاجه وطال مرضه وأمتد وحال مضضه وأشتد ومبدأ ذالك أنه أصبح يوم الأربعاء ثامن رمضان محموما وقي أياما سقامه مكتوما رجاء أن يزول ولا يطول ثم سار خبره وطار شره وقدم على رد الشوافع وردع الشوارع، وسير إلى عماد الدين صاحب سنجار في إنفاذ رسوله ليوعز بكل ما يعود بسؤله فوصل وزيره الكافى شمس الدين بن الكافى وكان من قل قد سق القول في تسليم بلاد شهرزور وقلاعها وحصنها وكذالك ما وراء الرأس من البوازيخ والرستاق وتلك بلد القرابيه وبني قفجاق فدخل أبن الكافي وأن الفراش قاضي العسكر من جاننا إلى الموصل لإجراء العهد على هذا الملتزم المستقبل، ورحل السلطان قبل عيد الفطر بيوم وهو من بحر بحرانة في عوم وخيمنا على نصيبين في شوال ولم نترقب عود الرسل نجاز الأشغال ثم أستمر الصلح وصلح الأمر وخلص ما بينهم وبينه السر والخر وخطب في جميع بلاد الموصل للسلطان بعد قطع خطبه السلجوقية وفي ديار بكر أيضا والديار الارتقيه وضرب اسمه الدينار والدرهم وأنحل الإشكال وانكشف المبهم. ولما تسلمنا البلاد منهم نفذ السلطان إلى شهرزور مملوكه مجاهد الدين اياز شريك فتمنى بها وتملك وكان التركمان الأيوانية مستولية فشتت شملها وفتك وند للنظر في تلك الأعمال القاضي شمس الدين بن الفراش فمضى وحل وعقد وأصدر وأورد، وأقطع لبعض خواصه المماليك البوازيخ وسير إلى البلاد نوابه ورتب فيها أصحابه، ورتب ضيعة بالبوازيج تعرف بباقلا على ورثة شيخ الشيوخ ببغداد، وأقام السلطان على نصيبين أياما قلايل ثم رحل مستقلا في منازل ومراحل حتى القينا بظاهر حران عصا النوى والقلوب لمرض السلطان متخاذلة القوى وأجتمع عندنا من البلاد الأطباء وللمرض ضرم يفلح وللسقم قسم لا يبرح والأمل مرتعب والجدل محتجب والسماح يقول هذا أوان كسوف سمائي ونضوب مائي والدين يندب والملك يصخب والأيدي إلى الله مرفوعة والنيات بالإخلاص مشفوعة والأنفس متوجعة متولجه والأنفس بالدعاء مبتهلة والرجاء تحت الخوف والبلاء فوق الوصف وفي الغيب أسرار وللقمر أدار تارة وسرار الدموع منا غزار والضلوع حرار وما كنا نعلم أن النعمة في سر تلك البلية وأن الصحة ظاهرة في تلك السريرة الخفية وان لهذه الترحه فرحة وأن لهذه الغمة فرجه وأن لهذه الليلة دلجه وأن العافية عافيه وأنت كفاية الله كافيه وسيأتي ما من الله تعالى به من الرجاء في الشفاء بعد الإشقاء. ذكر شيمة السلطان في مرضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قال: وكلما زاد ألمه زاد في لطف الله أمله وكل ما بان ضعفه قوى على الله توكله وأنا ملازمه ليلا نهارا وهو يملي على وصاياه ويفرق بقلمي على إعفائه عطايا، واشتدت به الحال ليلة أيس منه فيها الأطباء فلما أصبح المعتقون والوافدون إلى بابه وضجوا ضجة ارتجت منها الدهماء ولانت لسماعها الصخرة الصماء فسأل عن تلك الرجة وما موجب هذه الضجة فقيل له هؤلاء وفدك ورجائهم رفدك، وقد أشرفوا على الخيمة وخرقوا لأجلها حجاب الهيبة فدعاني وأمر بكتب أسمائهم وتفريق ما أجتمع في خزانته من المال على أقدارهم وتحقيق رجايهم وأعطى كل سايل وأغنى كل آمل فوجد بتلك السماحة راحة ترجى لعلته بها إزاحة واستمر مدة استمرار مرضه على بزل جوهر ماله وعرضه وكان خلقه أحس ما كان في حال الصحة يخاطبنا بسجاياه السهلة السمحة ولا يخلوا مجلسه من ذوي فضل وأولا نباهه وهم يتجاذبون بحضرته أطراف الفوايد ويهزون لمكارمه أعطاف المحامد فتارة في أحكام شرعيه وآونة في صناعات شرعيه ومره في أحاديث الأجواد وشيم الأمجاد ودفعة في ذكر فضايل (224 ب) الجهاد ينزر أنه إن خلصه الله تعالى من نبوة هذه النوة أشتغل بفتح بيت المقدس ولو يبزل نفايس الأموال والأنفس وأنه لا يصرف بقية عمره إلا في قتال الأعداء الله والجهاد في سبيله وإنجاد أهل الإسلام والإقبال على قبيلة وأنه لا يترك شيمة الجود والسماحة بالموجود وربما استراح في بعض ساعات الليل والنهار إلى السماع إشارة الأشياء لأجل التفريح والانتفاع فإن ظفرنا بمفرد مغري ومطر ومطرب وصانع صوت وحسن لحن أحضرناه عنده فربما راقه وشاقه ووجد به أفراحه. ذكر الملك العادل سيف الدين ووصوله إلى حران قال: ولما سمع الملك العادل في حلب بمرض أخيه ووصوله إلى حران بادر بالوصول وقام بضبط الأمور وسياسة الجمهور والجلوس كل يوم في النوبة السلطانية لتولي مصالح الرعية وإقامة وظيفة السماط والعمل في كل مهم وبالاحتياط والتعدي لكشف المظالم وبث المكارم وسماع مشافهات رسل الجوانب وإبلاء كل عزر وإجلاء كل ذعر وتيسير كل عسير ورفع كل خرق ورتق كل فتق ولقد عصمنا إذ كنا على خوف من إرجاف يقوى وانتشار خبر سوء لا يخفى ولا سيم إذا خرج الأطباء وقالوا ما فيه أمل ولكل عمر أجل فهناك ترى الناس يستشعرون وبإبعاد ما يعز عليهم من أعلاقهم ودوابهم يستظهرون ما أراك من المهملين لا من الموقنين فقلت له: أنا لا أخاف إلا على سلطان فإذا ذهب فلا شداد لساني والذي يفوت أعز من المال والدواء ولأخاف على ذلك مع ذهاب الأصل من الذهاب فزال بالحضور العادل كل مخافة وسلم الله برأفته من كل آفة وكان الملك العزيز عثمان ولد السلطان مع أبيه مقتد بمعاليه مقتف بمراضية وكان من جملة وصاياه عند أشقائه أن أدرنني المحتوم ودنا اليوم المعلوم فقد خلفت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وكلهم أراه بمراد في إقامة الجهاد مليا يعنى بأبا بكر الملك العادل أخاه وبعمر تقي الدين بن أخيه وبعثمان وعلي ولديه الملك العزيز والملك الأفضل ورأى عليهما بكفالة سيف الدين وتقي الدين في مصر والشام العون وأقام الملك العادل إلى أن وضح المنهاج وصح المزاج وطابت القلوب وغابت الكروب ثم وصل مع أخيه إلى حلب وتم معه إلى حمص ودمشق وهب له نسيم مصر فاستجد لنشره النشق. وبدى له من بعد ما اندمل ... الهوى برق تألق موهنا لمعانه وسيأتي ذكر مضيه مع الملك العزيز إلى مصر في سنة اثنتين والثمانين ووصول الملك الأفضل من مصر وبعده الملك المظفر تقي الدين. قال: وكان الأجل الفاضل في هذه السنة بدمشق مقيما والى إحسان منابى عنه في الحضرة السلطانية مستنيما فلما وصلنا في هذه النوبة إلى حران أول ما فتحت عيني عمى الملوك الفاضلي سافرا مسافرا وقد اصحبه لي تشريفا شريفة ووفرا أوفرا وأحضرني رزمة ثياب أرزمت لي ركابها بنجح منى ومنيح كل غنى وناولني كتابا وأوقفني على البحر بجواهره والفلك بجواهره. ذكر نوع من المكارم السلطانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 قال: لما نزلنا على الموصل في النوبتين اجتمع شعراء البلاد وحضر الحاضر والبادي ومابقى من ينظم وهو قعيد بيته بيتا ويجري في مضمار فروسيته كمينا إلا وقد أتى بمدحه ليعود بمنحه فتناولها فقيه ضياء الدين عيسى وكان معينا في كل نعمى وبؤس وجرح الكرام بكرمه يوئس وحملها إلى السلطان ولعلها مئة قطعة أو قصيدة لمواهب مستريدة ولعوارفه مستزيدة فقال سلمها إلى العماد ليتأملها ويعرف أصيلها ومنتحلها فمن استحسن شعره حسن بالتشريف شعاره وأكثرها درهم ودينار فإن نجود لمن يجود ومن أفاد يستفيد فسلم الفقيه تلك الأوراق وعرض مافيها على فما استملحت أكثر مااستملحت وفيها منتحل ومنتحل ومقول ومنقول وصحيح وسقيم ولاقح وعقيم معووج ومستقيم وسمين وغث وجديد ورث فلو حملنا أمرهم على مقتضى الأمر لقل من استقل بالنفع وباء الباقون بالضر فضممت نشرها وطويت خبرها وسترت عيوبها وزررت جيوبها ودرجتها في دووجها وأبقيت نجومها في بروجها وجئت إلى السلطان وقربت تلك المقروبات بسروجها وقلت ماهذا أوان الانتقاء (2225 أ) والانتقاد وطارد الرجاء فيك للكساد ومامن هؤلاء إلامن استفرغ وسعه وقطع في الطريق شعثه وأحال على نضو أمله نسوه وأتى بجهد المقل وهم وفدتك وقد هديه نارك وحددتههم أخبارك فجد لهم على أقدارهم ولاتشعرهم بشعار أشعارهم فقال: مابه أشرت ولنشره بعرفنا عرفت ونشرت ثم أحضر الأكياس وأجرى في تفريق جمعها القياس وأوجد الرجداء وأعدم اليأس وأغنى الوفد وزخر الحمد. ذكر حكاية أخرى وقال: من معارفي فقيه قد تأدب وأعجم قد تعرب وعن له أن ينظم في السلطان قصيدة كانت ألفاظها مضحكة وكلماتها بالعربية والعجمية مستدركة فأوصلها إلى لاوصلها إلى السلطان وأهز بها منه عطف الإحسان فارتقبت لعرضها ليلة موافقة لأداء فرضها وجئت إلى السلطان بها وقد سر بشفائه وقر بما أقر الله عينه من أماطة أدوائه فأنشدها من جلسائه من صوته أندى ونشاده أجدى والسلطان يضحك من سماعها وتعجب من أعاجيب إبداعها وجلسائه يوافقونه على ضحكه وينظمون النظم المسموع في مسلك الاستغراب وسلكه وأنا ساكن لاابدي حركة فتعجب السلطان من سكوتي وسكوني واستغرابهم الضحك فقلت إنه استعان بي في إحسان المناب فلا اقل أن لاأسهمه بالارتياب والاغتياب فلما كان موسم أرضاء الوافدين وإغناء القاصدين وحررت ورقة بأسمائهم وتجردت لتفرقة عطائهم عين لصاحب ذلك النظم ثلاثون دينارا وجعلها له إدرارا فقلت له بل تضعفها وتجعلها ستين فإنكم ضحكتم لثلاثين وجائزة قصيدته ثلاثين فقال: أنصفت وأحسنت النيابة ولو كانت الجائزة بمقدار القيمة لم يبلغ خمسة صداق تلك اليتيمة فاستغنى ذلك المعلم وحصل له في مظنه المغرم المغنم. ذكر الصدقة في المرض قال: لما مرض قال لي اكتب إلى الولات والنواب بالديار المصرية والشامية أن يتصدقوا على الفقراء والمساكين من المال المعد للحمل على قدره في التعيين ولم يبق في المماليك إلا من وصل إليه نصيب ودعا بالصالحات لمن الله في دعائه مجيب ومن جملة تلك الصدقات أنه أمرنا أن اكتب إلى الصفي القابض أن يتصدق بخمسة ألاف لنفوز من الثواب بأضعاف. قال: ولما امتد زمان مرضه أمر ببناء دار عند سرادقه وحمام في أربعة أو خمسة أيام وكان من استحضر من دمشق ولديه الصغيرين تورانشاه وملكشاه وأمهما فأسكنهم فيها مدة مقامه فسماها دار العافية البرء فيها من سقامه ثم خلاها لمن يترك بها ضيوفه وجعلها للآوين إليها وقف فلله وطن وطر عمرت بعمارته الأوطان وبيت سرور خرجت بدخوله إليه من بيوت الكرام الأخوان وبنيان سلطان شاد مبان السلطنة ومكان عز تفاضل بفضله عز الأمكنة ومربط أسد تقشعر من بأسه الأسود ومجثم سداد يترافد إلى رفده الوفود وكان مثل السلطان في تلك المنزلة وهو مقيم كما قال الله تعالى في حق يونس ((فنبذناه بالعراء وهو سقيم)) فيها ألق حبل الحياة وأزجا النجاة وخص الله السلطان بفضيلة فتح القدس وقضى حاجته التي كانت في النفس وسيؤتى إن شاء الله تعالى شرح كل فتح في موضعه وكيف أشرق سنا النصر في مطلعه. ذكر من توفى في هذه السنة من أكابر الدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قال: توفيت الخاتون العصمية بدمشق في ذو العقدة وهي عصمة الدين ابنة معين الدين أنر وكانت في عصمة الملك العادل نور الدين رحمه الله فلما توفى وخلفه السلطان بالشام في حفظ بلاد الإسلام تزوج بها في سنة اثنتين وسبعين وهي من أعف النساء ولها أمر نافذ ومعروف بأيدي المعروفين آخذ وجناب مايزال يلوذ ويعوذ به لائذ وهي في الدولة حاكمة ولها صدق وصدقات ورواتب للفقراء وإدرارات، وقد بنت للفقهاي والصوفية بدمشق مدرسة ورباط وذلك سوى وقوفها على معتقيها وعوارفها وأياديها وكان السلطان حينئذ بحران في بحر المرض وبحرانه فما أخبرناه بوفاتها خوفا على زايد علته ووقد غلته وهو يسدعى كل يوم درجا ويكتب إليها كتابا طويلا حتى سمع نعى (225 ب) ناصر الدين محمد ابن شيركوه ابن عمه فنعيت إليه الخاتون وقد تعدى عنه إليهما المنون وكانت وفاة ناصر الدين بحمص في تاسع ذي الحجة من هذه السنة من غير مرض أشعر بها ولاعلة أضيف حكم الحمام إلى سببها فجأته المنية فجأة فوجدنا من القدر ببقاء السلطان إحسانا وبوفاة ناصر الدين إساءة وكادت مطالع الأنس تظلم اولا أننا استأفنا لها بالشفاء السلطاني لها إضاءة وكان ناصر الدين هذا إلي محسنا وبفضيلي معلنا ولي فيها مدايح وله عندي منايح وإن أوردتها طالع الكتاب وأول مامدحته بها في الأيام النورية سقاها الله كلمة منها. قد أذل الكفر قاهره ... وأعز الدين ناصره كم ساع في الزمان ... له كرمت منها عشايره وعلى دون الملوك له ... عقدت فيها محاصره وفي هذه السنة في جمادى الآخر توفي الأمير سعد الدين مسعود ابن أنر ونحن قد فتحنا ميافارقين ولقد كان من الأكارم الأكابر ولم أرى أحسن منه خلقا وأزكى عرقا ولم يزل في الدولتين النورية والصلاحية أميرا مقدما وعظيما مكرما ولسفور فضا يله ووفور فوا ضله رغب السلطان وهو زوج أخته أن يكون هو زوج أخته وواصله السعد تحقيقاً لنعته بالتي تزوج بها مظفر الدين كوكبرى بعده وجدد بها إسعاده وسعده. قال الفتح بن علي بن محمد الأصبهاني منتخب الكتاب وهذه الجهة المصومة بقية شعب الدوحة الأيوبية وهي الآن ساكنة بدمشق وقدمتها في سنة عشرين وستمائة والملك المعظم أبو الفتح عيسى بن السلطان الملك العادل هو القايم بشرايط تعظيم قدرها وتفخيم أمرها وهي التي توسطت بين السلطان وبين زوجها مظفر الدين في اتصال الملك الناصر أبي سليمان داود بن السلطان الملك المعظم حتى يميره من دمشق إلى إربل في رمضان سنة إحدى وعشرين وستمائة وهو الآن متملك تلك البلاد والمتكفل فيها بأموال العباد والله تعالى يبلغه تحت ظل أبيه غاية الطلب ونهية المراد. قال: ولم يزل سعد الدين لي متعصباً ولسعودي متقرباً ولقربه من السلطان يتحجب عنده في مطالبي وينوب عني في تقرير مراتبي. قال: وفي هذه السنة رد السلطان قلعتي الرها وحران إلى مظفر الدين كوكبري لتوفره في الخدمة على حفظ القوانين وظهر منه كلما حقق الاستظهار وأوجب لأمره الإمرار ورغب في مصاهرة السلطان وقلده وطوق الامتنان. وفي هذه السنة توفي عز الدين جاولي وهو أكبر الأمراء الأسدية ولم يزل في الجهاد يحسن بلاؤه ويصدق غنائه. ولما عدنا بعد فتح ميافارقين إلى الموصل طرقه البلاء وأوقعه القضاء وقفز لحصانه بعض السواقي فعثر به وأكسرت رجله ثم اشتد ألمه وطال سقمه وانتقل إلى دمشق وتوفي بها في أواخر هذه السنة أو في أول سنة اثنتين وثمانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وفي هذه السنة يوم الأربعاء ثامن رمضان قتل بآمد وزير قرا أرسلان وهو قوام الدين أبو محمد عبد الله بن سماقة قتله مماليك مخدومة غيلةً ومحلوا في مباغتته في الفنا حيلة. والسبب في ذلك أنه كان قد تمكن من الأمر وسكن إلى قوة نفسه وركن وكان أحد الأمراء الكبار المعروف بالصلاح فبلغ أنه تولى الأعراض وأنف من الوزير ولم يرض أن يتبعه وكلاهما مستشعر من صاحبه فتسبق الوزير إلى قبضه وحبسه واشتغل في التدبير بنفسه وتدانى أمسه وسيثق بقوم به يفتكون ولدمه يسفكون وكأنه تعلق بما في الغيب مكتوم وفي اللوح المحفوظ مكتوب محتوم فإنه وصل الخبر بقتله على ما تم من ختره وختله فإن جماعةً من المماليك المفردين تآمروا بينهم على الفتك بالوزير فجاء واحد إليه وهو جالس في ديوانه وإيوانه في الدست الأشير وعنده الأكابر والأماثل وهم ينتظرون الإذن على العادة فقال: الملك يدعوك وحدك يسألك عن حديث عندك فقام يسحب ذيل اختياله ولم يدر بما يستصحب من ويل اغتياله فدخل الدهليز وقد أغلقوا الباب الذي يصل فيه إلى الأمير وأغلقوا وراءه الباب الآخر لما تصوروه من التدبير فاغتالوا وفتكوا به وقتلوه ثم أخرجوا الصلاح من حبسه فلما تمكن قبض وسط وشرك أصحاب الوزير وقتل منهم من أدركه واستولى على كل ما ملكه ثم قتل أولئك القاتلين وكانوا به واثقين وعن مكره غافلين وبقي متولياً للدولة إلى أن أدرك الأمير رشده وإلى أن يبلغ أشده فاستبد بملكه وأخرجه من سلكه. وفي هذه السنة توفي الفقيه المهذب عبد الله بن أسعد الموصلي بحمص وكان المدرس وكان علامة زمانه في علمه ونسيج وحده في نظمه وقد أوردت في صدر الكتاب ما يستدل به على فضله. ذكر العزم على الرحيل من حران قال: وكان السلطان قد كمل علاجه واشتد مزاجه وأراد أن يكون حركته بعد استكمال السكون واستيفاء الحظ من السهول قبل الحزون ولأنه في وسط الممالك وعلى جواز المسالك فتواترت في البلاد أخبار أبلاله وأنباء استبداده واستقلاله وكان عنده ولده الأعز الملك العزيز وأولاده الصغار الأعزة، والملك الظاهر بدمشق مقيم والأمر هناك مستقيم فلما ورد نعى الخاتون وناصر الدين وخلا شبله أسد الدين بعده في العرين وخيف على بلاده لصغر أولاده واحتج أيضاً إلى الاحتياط على ما في خزائنه واستخرج ما خلفه من ورثته من دفاينه. وكذلك الخاتون عصمة الدين خلفت أملاكاً وتراثاً وأوقافاً واسعةً وأثاثاً ولم يكن من الحركة بد ولم يكن إلا بحضور السلطان لتلك الخلات والاختلالات تسديد وسد. قال: وفي هذه السنة لما كنا على ميافارقين وقد فتحناها ورد للسلطان مثال شريف امامي ناصري بتفويض ولاية ماردين وحصن كيفا إليه تاريخه غرة جمادى الأول. قال: ودخلت سنة اثنتين وثمانين والسلطان ساير بعساكر مفاخر عساكره وخيم على شاطئ الفرات وقد مشط البؤس وصفا من الصحة العبوس، وودعنا مظفر الدين صاحب حران من الفرات مصحوباً بالقوة والثبات مشحوناً وفلك آماله بالمكرمات، ورحلنا صوب حلب والملك العادل سيف الدين سلطانها على المقدمة وقد هيأ لقدومنا أسباب التكرمة ونزلناها في العشر الأوسط من المحرم فألفيناها كما ألفناها بالعدل آهلةً ومن الفضل ناهلةً والخطوب عنها زاهلة والقلوب بحب الدولة عامرة والنفوس بنعمة ربها متحدثةً ذاكرةً. واحتفل الملك العادل بأخيه السلطان وحمل عنه وله وأظهر مجمل جميله ومفصله وقام بكل فرض وسنة في الخدمة وتقبله وما خلى أحد من خواصه إلا خولة ومولة. وأضافنى الصنيعة ابن النحال كاتب الملك العادل واستضاف معي قوماً وفيهم نجم الدين بن المجاور الوزير العزيزي وقد بعثتني على مصاحبتي إليه وده العزيزي. وكان سكن الضيعة من قلعة حلب في برج من أبراجها وكانفي ذلك مذعوراً معذوراً فإنه كان بالإحتراز من المخالطة مأموراً وكان قد نفق على مخدومه واختص بسره واطلع على مكنونه ومكتومه. وكان نصرانياً من القبط ثم اضطر إلى الإسلام بسبب امرأة هوى بها وعشقها وحظى بها ورضيها وما سلمت له إلا بالإسلام فأذن سعده في إسعادها بتمامه واستقر أمره على نظامه وأفضى به التوفيق إلى التمكين ولم يزل معه حتى انتهى عمره في سنة تسعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قال: ولما قضينا بحلب الأرب رتب الملك العادل فيها نوابه وأحكم أحكام الملك العادل وأسبابه، وصحب أخاه السلطان منفذاً لأوامره ومدبراً لعساكره اشفاقاً من تعب يلحقه وإرفاقاً به في نصب يرهقه كأنه كان في غب وعتكة ولا يؤمن من مضرة حركته، ووصلنا إلى حماه في مراحل طاب مراحها وأسفر بحمد مسراها صباحها وتلقانا النايب عن الملك المظفر تقي الدين بكل جمال وجميل وحسن وإحسان جلي جليل وتقي الدين حينئذ نايب السلطان في الديار المصرية وقد عول في حماه على نظر ناصر الدين منكورس بن ناصح الدين خمارتكين وفيه السماحة والحماسة والحجى الصحافة وكان تقي الدين منذ تولى حماه حصن قلعتها وعمق خندقها وأدام بعمارتها اشتهاره وبإرادة إدارتها استظهاره فلما ندبه السلطان للنيابة عنه في مصر سأله أن ينزل عن حمص فأبى فوافقه على مراده وأبقاه لما عرف من اجتهاده فسلمها إلى ناصر الدين منكورس وشكرته الرعية. وكانت بيني وبينه صداقة بصدق الاعتقاد معقودة. واتفق أن سرقت لي في طريقها إلى حمص ثلاثة جمال بمالها من عدة ورجال وكنت قد سلوتها وتمكن عندي فوتها، فجاءنا هذا الأمير بعد يومين بقطارين من الجمال المسروقة وقال: لما سرتم عرفت أن وراءكم لصوصاً فرتبت أصحابي في المواضع البعيدة من العمارة ليترصدوا أهل الذعارة فوجدوا هذه الجمال التي أحضروها فتأملتها فإذا هي جمالي نفسها فشكرت همته الكريمة على إحسانها ولم تزل الثغور لسداده مسدودة والرعايا بسياسته محروسة ورايات الكفر بنكاياته منكوسة. فصل قال: وهؤلاء الذين قرضتهم ووصفتهم تنكرت معرفتهم بعد الأيام السلطانية وهم صدقوني لصدق الحاجة فلما استغنوا عني حملوا معرفتي وأنكروا عارفتي وهذه شية أخلاء الدنيا في دين الإخلال وملة الملال واستحالة الحال. ذكر الوصول إلى حمص وتقرير أمر أسد الدين أبي الحرث شيركوه بن محمد بن شيركوه مكان أبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قال: كان قد وصل صاحب أسد الدين إلى الفرات لتقرير ما يجري له من الولايات فأمر السلطان بنظم منثوره وضم نشره وكتاب منشوره فأجرى عليه جميع ما كان لأبيه وجئنا بعد ذلك إلى حمص وأقمنا واستعرضنا خزاينه واستخرجنا دفاينه وقسمنا ميراثه. وكانت أخت السلطان الحسامية زوجة ناصر الدين وهي مستحقة للثمن والباقي بين البنت والابن وخلفت عيناً وورقاً ومجتمعاً ومفترقاً ومبلغ التراث في الملك والعين والأثاث أناف على ألف ألف دينار فما أهاره السلطان طرفة ولا أمتري خلفه بل تركه على أهل التركة وأبقاه برمته لهم وأسد الدين مع صغره وإن كان شهماً لبيباً وسهماً مصيباً احتاج إلى أمير أمين يتقدم على أصحابه ويتولى مصالح بابه فرتب أميراً من الأسدية يعرف بأرسلان بوغا فولاه وأرلاده ولم يزل مستقلاً بالولاية إلى أن تفرد الأمير بالأمر لسداده وبلغ في السن مدى رشاده ونعت بالملك المجاهد وفي نسخة منشورة: وأنعمنا عليه بكل ما كان لوالده رحمه الله من البلاد والضياع والمعاقل والإقطاعات والولايات وقررناه عليه مستمراً على الدوام مصوناً من الأحداث معصومة سرايره المحصنة من الإنكاث وذلك حمص، سلمية، تدمر، وادي بني حصين، الرحبة، زلبية. واعتمد على الأمير الحاجب بدر الدين ابراهيم بن شروة الهكاري في ولاية قلعة حمص وما رأيت من الأكراد مثله ديناً ومروةً وكرماً وقوةً فأقام بها مدة حسنت فيها آثاره وشاعت بالخير أخباره إلى أن نقله السلطان إلى قلعة حلب فكان كما رغب ثم طلبه الملك العزيز في آخر عهد السلطان ورتبه في قوص. ولما فرغنا بحمص من إشغالها مرتبنا ولاة ولاياتها ونواب أعمالها عادنا هوى جلق وطيب هوائها وموافاة أندية أندائها ومعاودة جنا جناتها ومواعدة لذاة لذاتها فلما ترتبنا واستطبنا لها النشر والنشق قال لي السلطان: جرد القلم فأبد مشق دمشق واكتب إلى الأولياء وبشرهم بوصولنا فقد هبت لهم قبول إقبالنا باقبال قبولنا والحمد لله الذي أعادنا ورد إلينا برد البلاء بلادنا ولما شاع بدمشق خبر دنونا احتفل أهلها واجتمع بالمسار شملها وطلعت أعيانها ونبعت عيونها ووافت أكبارها وعونها وتطبقت على سنة الأمن بقدومنا جفونها وراقنا تلقي أود الأمل وملقى أخلاء العمل فاتفقت المتعشقة وسمعت الطليقة ودخلنا المدينة وزينة الدنيا خارجة وسكينة النعمى فارجة وكان الناس قد ساءهم خبر المرض فسرهم عيان السلامة وما ألذ الرجاء بعد الإبلاس والثراء بعد الإفلاس وانهم ظفروا في الإيحاش بالإيناس وامنوا بمشاهدة الأنوار السلطانية حنادس الوسواس واجتمع السلطان في القلعة بأهله واقلع الزمان عن جهله وشاهدنا الفضل والكرم بالمشاهدة الفاضلية وعدنا إلى السعادة القديمة واجتمع السلطان به فبثه أسراره وزاره مرة واستزاره ودخل جنته وجنى ثماره وراجعه في مصالح دولته واستشاره وعمل بما أشار به بعد أن شاء الله واستخاره وعاد الهوى وعدنا وزاد الحجى وزدنا ووفينا بما نذرنا وانجزنا ما وعدنا وأحيى السلطان سنتي السعاف والإنصاف وأجنى قطاف الألطاف وجلس في دار العدل لكشف المظالم وبث المكارم واحياء المعالم. ذكر ما استأفه السلطان من نقل الولايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 قال: وكان السلطان لملازمه أخيه العادل له ما قد مال إلى رأيه وغنى بغنائه ووثق بنفاذه في الأمور ومضائه وهو يشير عليه بما يتمكن في نفسه ويقترن بأنسه ويتصور في حدسه. وكان الملك الأفضل نور الدين علي بمصر وهو ولده الأكبر قد بدأ يظهر وقد مالت إليه بمصر جماعة وله منهم طاعة وربما نقم تقي الدين النائب هناك من واحد أمراً فوقعت فيه منه شفاعةً فكتب يشكو من اختلال أمره وأنه لا يسعه خلاف من استبد بحكمه ولا يمكنه أيضاً ما يقع من المصلحة برغمه في عزمه. وكان في نفس السلطان أن ينقل ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر ليكون عزيزها وليحرز ملكها ويحوزها وهو مفكر في وجه تقريره وطريق تدبيره حتى بدا له نقل الأفضل بخطه بكل ما يستميله إلى بلاد الشام فإذا وصل نظر حينئذ في إتمام ما يؤثره من المرام فكتب من الأفضل بخطه يستميله6 ويضمر بالنجح تأميله ويذكر له فرط اشتياقه وأنه لا افراق من ألم فراقه فليصل بجميع أهله وجماعته ووالدته وحشمه وأصحابه وسحره بمعاني الترغيب كتابه فلما قرأ كتاب والده وثق بنجاح مقاصده وأيقن بنجاز مواعده فودع مصر وداع القالي وأزمع عنها ازماع السالي واعتمد في الرحيل على أمر الله تعالى وسار بالهمم العوالي والأحوال الحوالي وجاء البشير بوصوله يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الأولى فأمرنا السلطان بتلقيه في خواصه وحشمة وحواشيه فركبنا سحرة هذا اليوم المبارك وخرج معنا الأمراء والولاة والقضاة وكان العوام والخواص، ودخل في زي موكب السلطان وجاء به وأنزله في القلعة في دار رضوانة ومكن مكانه وكتب إلى تقي الدين أنه قد ازلجت علته وشفيت في الاستبداد بمصر غلته فابتهج تقي الدين بتفرده وانتهج سر توحده ولم يدر أن الوهن بطرق إلى وثوقه أن الكساد يسوقه إلى سوقه وإن كان في ذمة ولد السلطان وعصمته وأن تمام حرمته بحرمته فلو استمسك به واعتصم بسببه وقال: لا ولاية لي في بلدك إلا بولاء ولدك وأنني في التربية كفيلة وفي التولية وكيله لصعب تحويله وما أمكن تبديله لكن قضاء الله ماض وقدره قاض. ذكر تسليم حلب إلى الظاهر قال: ولما دخلنا دمشق كان بها من أولاد السلطان غياث الدين غازي فزار عمه العادل وهو صهره وقد اشتد بمظاهرته ظهره فقال له قد نزلت عن حلب لك وخليت بها عطلك وأنا اقنع من أخي بإقطاع أين كان والزم الخدمة ولا أفارق السلطان وأطلبها من أبيك أن كانت ترضيك وجاء إلى السلطان فقال: هذه حلب مع رغبتي فيها أرى أن أحد أولادك بها أحق وملكها به أليق وولدنا الملك الظاهر أحب أنني بها أوثره وملك الدنيا فملك حلب له لا استكثره وأنا مع ملازمتي لخدمتك ومساهمتي في نعمتك لا يعوزني بلد وقال السلطان: مالنا الآن لها عوض ولا لنا فيما ذكرته غرض المهم الآن تدبير أمر ولدي العزيز فان مصر لا بد أن يكون لي بها ولد اعتمد عليه واسند ملكها إليه والصواب خروجنا إلى البلقاء ونخيم على الزرقاء ونرتب معه من يمضي إلى مصر من الأمراء. فرحنا ومعنا الملك العادل والعزيز والظاهر والأمراء والخواص وسرنا حتى خيمنا على الزرقاء وأرعبنا بقربنا مكن الثغور قلوب الأعداء (227ب) وكان مضى أن الملك العادل قد زهد في حلب وطلبها الملك الظاهر والتمس عوضها بلاداً عينها ونواحي بمصر بينها وكان قد مال الملك العزيز إليه لإشفاقه عليه فسأل إياه أن يسير معه الملك العادل فانه نعم الكافي الكافل وحلف انه عن عمه غير عادل ومازالت الرسالات تترد والاقتراحات تتحدد حتى أعطاه السلطان بمصر البلاد المعروفة بالشرقية واعتمد عليه في ساير المماليك المصرية وسمع تقى الدين في مصر هذا الخبر فنبا ونفر وإذا تولى ابو بكر فلا عمر فعبر إلى الجيزة مظهراً انه يمضي إلى بلاد المغرب ليملكها وكتب إلى السلطان أن لا يمنعه من سلوك مسلكها وسمت همته إلى مملكة جديدة وأقاليم ذات ظلال مديدة وقد كان أحد مماليكه المعروف بقراقوش قد جمع من قبل الجيوش وسار إلى بلاد برقه وهدته الأمنية إلى النفايس في بلاد نفوسة ف فإدركها وتجاوز إلى أفريقية وهو يكتب إلى تقي الدين مالكه برغبته في تلك المملكة ويقول أن البلاد سايبه وعرايسها لكفوها منها خاطبة فلما تجدد ما تجدد عبر تقي الدين بعسكره وجنده ومالت إليه عساكر مصر لبذوله ومخالفة عدوله وقدم مملوكه يوازبه ليكون في المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ولما انتهى إلى السلطان خبر عزمه قلق بتغربه وعلق بتقربه وقال لعمري أن فتح المغرب مهم لكن فتح البيت المقدس أهم والفايدة به أتم وإذا توجه تقى الدين واستصحب رجالنا المعروفة وأبطالنا الموصوفة ذهب العمر في اقتناء الرجال وإذا فتحنا القدس والساحل طوينا إلى تلك الممالك المواحل وعلم لجاج تقي الدين في ركوب اللجة واحتجاجه في سلوك تلك المحجة. قال: ولكننا نكتب إليه بالوصول ليشافهه بوصايا ويطلعه على خفايا وحينئذ يعزم ويصمم فإذا وصل إلينا شغلناه وإذا استقالتا عثره أقلناه فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه. ولما استقر أمر الملك العادل في المعيشة التي بها توحد الولاية المصرية التي بها تفرد استدعى نجاز أمر العزيز للسير معه فقرر السلطان لولده قوص وأعمالها ومرافقها وأموالها وأضاف إليه أجنادها ورجالها ورتب له رواتب ووظف له وظايف وعين له من خواصه حجاباً ومن ذوي استخلاصه أصحاباً ودون له ديوان وكتاباً، وودعه في العشر الأول من شعبان، وكان دخولهما إلى القاهرة في خامس رمضان. وأما الملك الظاهر فان السلطان سيره إلى حلب وانعم عليه بها وببلادها وساير قلاعها وأقاليمها وضياعها وأمر أمرائها يطاعته ومتبوعيها بتباعته، وندب معه شجاع الدين عيسى بن تلاشوا، ولم يزل الملك الظاهر من أيام صغره كبير القدر نسيج الدهر شديد التيقظ، سديد التحفظ بعيد المنال قريب النوال. وأما الملك المظفر تقي الدين فانه لما وصل كتاب عمه بالاستدعاء سارع إلى تلبية النداء، فجاء يغذ السايرين نداء وخلى بمصر أصحابه وأسبابه فوصل الخبر بوصوله في العشر الاخير من شعبان وخرجنا لتلقيه، وخيم السلطان على كنف المصري فوق قصر أم حكيم فلما قرب ركبنا إلى موكبه وقرت عينه بلقيا عمه وظفر من السعادة وما في قسمه ونسى ذكر المغرب لإنارة مشرق سعده فلم يرجع إلى ذلك الحديث من بعده، وخاطبه السلطان بكل ما عاد بانسه النافر والسلو عن أمسه القابل ودخل إلى دمشق في آخر شعبان فابصرنا على وجهه هلال رمضان وعاد إلى ما كان له من البلاد ومنبح والمعرة ثم أضاف إليه ميافارقين وجميع ما في ذلك الإقليم من المعاقل وخصه من ممالكه بالكرايم والغنايم وكتب إلى مصر باستدعاء رجاله وإعلامهم بتأخر عزم المغرب بل إبطاله فامتثلوا الأمر وفارقوا إلى الشام مصر سوى ملوكه زين الدين يوزبه فانه رتب له عسكراً إلى المغرب فأخذه مأسوراً ثم اغزاه مع الغز في ثغرة من الثغور فألفاه مشهوراً مشكوراً فقدمه على الغزية الغزاة ولهم بلاء حسن في تجمع الكفر ولا قدر للبغاث مع البزاة. ذكر مكرمة لتقي الدين قال: أجلسني عنده يوم قدومه بالمخيم على المصري يبثني أسراره ويذكر لي في الحسن والإحسان آثاره وأطال معي حديثه عتيقة (228 أ) وحديثه فجاءني من سارني بخبر أزعج خاطري وذلك انه أخبرني احتراق دكان في جواري غلبت عليه النار حتى أشرقت بها الدار فسألني تقي الدين عن المبارك فقد كان العصر القديم وقوع لنار في القربان إمارة قبوله وعنوان حصوله فأثر هذا القول في أريحيته ونفذ إلى يوم وصول إلى دمشق مائتي دينار وقال رم بهذا ما تشعث من هدم أو نار ولم يكن العهد بعيد بإنفاذ رسمي من مصر ودنانير مصرية مائتين ولم يستكثر فيكون الضنين وكم له عندي من أياد مبتكرة وكان يسمع لي قصيدة إلا استأنف لها جايزة جديدة ومما مدحته به في هذه الدفعة قصيدة سينية تشتمل على مائة وأربعين بيتاً أنشدتها إياه في ثالث رمضان من هذه السنة ومطلعها: عفا الله عنكم من ذوي الشوق نفسوا ... فقد تلفت منا قلوب وأنفس أما لكم ببلواى سلوة ... ولا لكم إلا بهمي تأنس جرحتم فؤادي بل هدمتم تجلدي ... فهلا بعثتم طيفكم يتحسس لم أنس أنسى بالحمى سقى الحمى ... عيشة لي مجنى ومجلس ولي فيه من ثغر الحبيب وخده ... ومقلته راح وورد ونرجس طننتم إنها تألف الكرى ... فهلا بعثتم فؤادكم يتحسس ومنها في المدح: بتوقيعه تجرى المواهب بحراً ... فهل قلم في كفه أم قلمس وهل بظما الراجى مكارم ماجد ... عيون الندى من كفه يتحيس تشكى إليه الغرب جور ملوكه ... فأشكيته والجور بالعدل يعكس يستر بالنقع السماء كأنها بخو ... في فتاكم بالعجاج يترمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 شموس ظبي تغدوا لها الهام ... سجداً فلله نصرانية تتجمس وكم كفى الإسلام سوءاً بملككم ... كفيتم على رغم المعاذير كل سو إذا ما تقى الدين صال تساقطت ... لإقدامه من عصبة الشرك أرؤس بانمار شكري غرس نعماك مثمر ... وتزكوا ثمار الغرس أن طاب مغرس ذكر ظهور كذب المنجمين في شعبان هذه السنة قال: كان المنجمون في جميع البلاد يحكمون بخراب العالم في هذه السنة في شعبان عند اجتماع الكواكب الستة في الميزان بطوفان الريح في ساير البلدان وخوفوا بذلك من لا وثوق له باليقين ولا أحكام له في الدين من ملوك الأعاجم والروم وأشعروهم من تأثير النجوم فشرعا في حفر مغارا وتعميق بيوت في الأسراب وتوثيقها وسد منافسها على الريح وقطع طريقها ونقلوا أيها الماء والازواد وانتقلوا إليها وودعوا الطراف والتلاد وانتظروا الميعاد وكلما سمعنا بخبارهم ضحكنا من عقولهم الواهية العقود وسلطاننا يسخف آراء أولئك الملوك وكيف خص الله بصايرهم بالإظلام والحكوك فلما كانت الليلة التي عينها المنجمون لمثل ريح عاد ونحن جلوس عند السلطان في فضاء واسع وناد للشموع الزاهرات جامع وما يتحرك لنا نسيم ولا يسرح للهوا في رعى مناقب الأنوار مسيم فذاكرنا ما ذكره المنجمون وشرعنا في رواية أحاديث الرسول وذكر ما يدل على بطلان أقاويلهم من المنقول والمعقول فما رأينا ليلة مثلها في ركودها وركونها وهدوها وهدوئها. ذكر الحوادث في هذه السنة قد سبق ذكر أتابك شمس الدين محمد بن أتابك ايلدكز المعروف ببهلوان وعساكرهم وانهم وصلوا إلى قرب خلاط عام أول في جمادى الآخرة (228ب) ونحن على ميافارقين فلما انصرفنا انصرف وتصرف بهلوان وجرى بما قدره الله الحدثان ومرض مرضاً أعيى الأطباء دواؤه وأعضله داؤه وآيسه عن الصحة أطباؤه وانقطع رجاؤه من الثرا إلى الثرا ومن البراءة إلى السرا وجاءنا نعيه في أول سنة اثنتين وثمانين فما ندري أكانت وفاته في هذه السنة أم قبلها وكانت حياته متصلة للجد والجدى إلى أن جذ القدر حبلها واضطربت م بعده تلك الممالك وتطرقت إلى البلاد من بلائها المهالك وأحربت أصفهان والى اليوم من سنة أربع وتسعين ما وضعت أوزارها وما ببالي أزور عنها من استولى بها أوزارها. قال الفتح علي بن محمد الأصفهاني مختصر الكتاب والى اليوم من سنة اثنتين وعشرين وستماية الحروب في اصفهان قايمة على ساقها وافتن مميحة فيها على سكانها بأوراقها والله تعالى يفرج عن أهلها ويبدل حزن أحوالها بسهلها. قال: وتولى بعد بهلوان أخوه قزا أرسلان فازال مهابة الملك السلجوقي وسلك بالسعيد الشقي إلى أن تضع السلك وطمعت خراسان في العراق وعدمت الأفاقة من الآفاق. عاد الحديث: قال: واتصلت المواصلة بننا وبين المواصلة واستمرت المراسلات بالصلات وفقدت الحقود في الحقوق وجاء البر من العقوق وأعد السلطان لاتابك الموصل هدايا وتحفاً ومستعملات مصرية وثياباً وحصوناً وحجوراً عراباً وطيباً أهداه أخوه سيف السلام من اليمن وكذلك لوالدة الاتابك وصاحبته ولابنة نور الدين رحمه الله عليه ولأترابهن ما يليق بهن من البدلات الثمينات والمفاخر الذهبيات وقلايد العنبر الأشهب ونفايس الملبس المذهب. وأعد لمجاهد الدين قايماز مدبر ملكهم ما يعز نظيره من الخلع النضارية والهدايا الكثيرة والمركوب العرب وقوم ما سيره إليهم بما يربي على عشرة آلاف دينار سوى الخيل والطيب والشيء البديع الغريب ورخص وضر ما نزع به الشيطان ورفع الشنان وارتفع الشأن واستظهر بمظاهرتهم السلطان. ذكر جمال الدين محاسن بن محمد المعروف بابن العجمي ووصوله إلى الخدمة السلطانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 قال: قد أجريت حديثه لما نزلنا على الموصل في النوبة الأولى وانه المتردد في لرسالة وانه ذو رأي وبصيرة وفضل وفطنة وهو أمين الأمير مجاهد الدين قايماز وحاجبه ومهديه التي تتضح بسنا رأيه مذاهبه. وفي تلك الدفعة عند حضور شيخ الشيوخ على الموصل في لشفاعة يخرج كل يوم هذا محاسن بحديث ويحضر وهو عاد في ذي مستعد مستغيث حتى بردت تلك الحرارة بطبه وفلت عن الموصل حدود بأسنا بحده وعزمه، ولما رحلنا عنهم تلك الكره وفتحنا بلادهم بالخابور وسنجار واشتغلنا بحصار آمد في اوايل سنة تسع وسبعين وجئنا إلى حلب وحلبنا درها ونظمنا في سلك الفتوح أمرها جاءنا الخبر بدمشق أن أتابك الموصل قبض على مجاهد الدين وحبسه وأخفى موضعه الذي فيه أجلسه وكان من قبل اعتقاله له قد توجه الحاجب محاسن إلينا بإرساله فعلم بحاله وكان قد قرب من حلب فأبعد عنه ممن وراءه الطلب وكتب إلى السلطان وأمره بالوصول وأعطاه حتى أغناه وحقق له من الإقطاع والاصطناع كل ما اقترحه وتمناه ثم استخلصه لنفسه واستخلصه لأنسه وأنساه بجوده الموصل والاتابك وقال الحمد لله الذي آتى بك وهو من جميل دأبه وحسن آدابه كل يوم في زيادة وحسن وسعادة دين ودنيا. وكان يعتمد عليه في المهام العظايم وأرسله مرات إلى قزا أرسلان والى السلطان السلجقي بهمدان وأما مجاهد الدين فانه طال اعتقاله اشهراً وآيس صديقه لما لم ير له مظهراً ثم رأى صاحب الموصل بعد حين انه من أمر مملكته في تهويم وتهوين واستيقظ وإذا أموره بسواه مختلة وعقوده منحلة فعرف وانف واستدرك ما فرط وكان مجاهد الدين عنده مكرماً ولم يزل له مستشيراً معظماً فأخرجه يوماً بعد اليأس منه إلى مرتبته وسر السلطان بما سمعه من خلاصه فانه لم يزل من مريدي الخير وخواصه ولما نزلنا في المرة الثانية في سنة إحدى وثمانين على الموصل صحبنا جمال الدين محاسن من جملة خواصه الأمراء ومن المعدودين في المشاورات والآراء واقطعه من أعمالها باوشنايا وانفصلت بتوصله وتوسله هناك القضايا ولما صالحناهم اعتمدوا على محاسن في حفظ مصالح الجانبين فاستقرت الألفة وكفايته (229أ) طوارق الفساد وتخيروا في النصرة الناصرية على ما سيأتي شرحه إلى الجهاد ونقل جمال الدين محاسن أهله وولده إلى الشام ووفرت حظوظه من الإكرام والإنعام. قال: وكان مجاهد الدين قايماز في أيام الملك العادل نور الدين محمود ابن زنكي رحمه الله وهو يتولى اربل يتوفر على مصالحي ويؤثر مناجحي زلما جاءت الدولة الصلاحية وانتقل هو إلى الموصل جرى معي على إحياء تلك المعرفة فلما تنفس صبح الصلح حررت عهداً عمرت به معاهد الأحرار واسوت بإبراء إساءة كلمي كلم الأبرار وقصدت التحقيق وأحكمت المواثيق وقضيت حق الكلم فقضوا حق الكرم وأنفذوا إلى بغلة مسرجة ومائتي دينار وثلاثين ثوباً من مقدمات أنواع الوشى. ولما أقمنا بدمشق سنة اثنتين وثمانين أنفذوا على يد جمال الدين محاسن ذلك الرسم بل أضعفوا فان مجاهد الدين تقرب من خاصة بما أحرزته قصب السبق وأبقى إلى انقضاء بقاء السلطان صداقه الصدق، قال: واشتغل السلطان في بقية سنة اثنتين وثمانين في استقراره بدمشق ومقامه إشفاقاً لنكس سقامه في بعض أيامه بالصيد والقنص فكان يركب إلى تل راهط بالبزاة والشواهين مع مماليكه الخواص الميامين وله شاهين يجري كأنه بحر، وإذا حلق فشرار، وإذا أحرق فجمر فكلى المدار ملكي المطار شهاب ثاقب في الديجور عذاب واصب على الطيور وكم صاد ليوسف يعقوباً وعقر في إنجاز وعد صيده عرقوباً ولما رأيت للسلطان هذا الجارح غبطته عليه وطلبته إليه وقلت له هب لي هذا الشاهين فتعجب من سؤالي المستغرب فقال أنت للقلم والدواوين والحجج والبراهين فمالك وللبزاة والشواهين فقلت: يكون في ملكي وكل ما يقتنصه يأمر لي به المولى وهذا أربح لي وانفع وأولى. فقال: نعم وهبته لك ولما أصبح وعاد من القنص سيرلي سبعة عشر قطعة من طير ماء حجل وقال: سنين والسلطان يصطاد به ولى قنصه فمازال لى على هذا الحق محافظاً ولهذه النكتة ملاحظاً إلى أن ولى أن أودى الجارح في الله دره من سلطان خاطره بهم الممالك مشغول وعلى قلبه عبء الدنيا والآخرة محمول ولا ينسى ذكر هذه القضية التي أعاد مزاجها جداً والشدة لى حقاً معيداً فدون حقه على مثله انه يوسف ومن حقنا بعده أن نتلوا: "يا أسفي على يوسف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ذكر ما انعم به في شهر رمضان من هذه السنة قال: لما دخل شهر الصيام نوع أقسام الأنعام وأصل وفرع وأعرب وأبدع وأتفق أن بعض التجار كانت بضاعته بياقير رفيعة مالها نفاق ولا له في إخراجها ارتفاق فحملها إلى الخزانة السلطانية وهي أكثر من مائة قطعة فقال خذوها واكتبوا أثمانها إلى مصر. فاشتريت منه وكتبت له بذلك توقيع على ما في مصر من المال الحاضر وكان من كرم شيم السلطان إذا عرف في خزانته موجوداً انه لا يستطيب تلك الليلة حتى يفرقه جودا فقال لي قد اجتمعت لنا بياقير وعمايم فقد تقاضتني نفسي بجعلها على أهل الفضل والمكارم فنبدأ بأهل الدين والتقوى ونجعل لهم أوفر خط من الجدوى وكان في الوافدين ومن اهل البلد وعاظ وعلماء وحفاظ فيكون كل يوم بكرة نوبة لمن يتكلم على المنبر ثم يخلع عليهم وعلى القراء ويفضل بعدهم على الشعراء فاشتغل مدة أسبوعين بالمواعظ وسماعها وضع المنبر في ايوان القلعة للناس واجتماعها ولما فرغ الزعاظ من شغلهم وأتوا بظلهم ووريفهم قلت: قد قضينا حق الوعاظ وبقى حق الفقهاء وهم العارفون بأداة الشرع ناقلون حكم الأصل والفرع ولابد من إحضارهم في الأيام الباقية من هذا الشهر وسماع مناظرة أئمة العصر فقال: أنهم يقضي بهم الخلاف إلى التشاحن والتضاغن فقلت: أنا أضمنهم ولا أحضر إلا أوقرهم وأوزنهم فقال: أنت تتعصب لهم لأجل إجلالهم لا يمهلهم ولا تغفل عنهم فحضر أول يوم في ذلك المحفل جماعة أكابر من مشايخ أهل أفضل فجرت مناظرة مفيدة ومباحثة مبدية للفضل معيدة فأول من أشار إليه السلطان بالاستدلال من هو منظور بعين الاستقلال وهو مدرس الحنيفية في المدرسة النورية برهان الدين مسعود فتأبى وتنكب وخاف أن يعرض عليه من لا يباريه في نظاره ولا يجاريه في مضماره فقلت له أبدر إلى الميدان منطلق العنان فما يقوم برهان إلا بالبرهان فقال: أن كنت تعرض فأنا بحكمك افترض فأجبته إلى مراده وأمنيته أن يجاريه سواي في ميدانه (229ب) وبجلته بان أكون في أقرانه فشرع إلى الدليل وقضى حق السايل في السؤال والجواب ثم نص السلطان علي في الاعتراض فباشرت إبكار أفكاري بالاقتضاض ونفيت العلة وشفيت الغلة وحللت الأشكال وأعدلت ما مال وبنيت فيه الاختلال. وكان تمسكه بحديث ثم شرع في إثبات الحكم بالقياس فألزمته الانتقال فشرع فقي الجواب واحسن بما أمكن وتعوض النادي وسال بالفوايد الوادى. كان في اليوم الثاني محفل أحفل واستدل فيه أكبر مشايخ الحنفية بدر الدين عسكر واعترض عليه من أصحابنا القاضي محي الدين بن الزكى ففاض الفضل ودر الحفل، وكان السلطان يجلس كل يوم لطايفه ويجدد ذكر كل تالدة بطارفه فلما دنا العيد وقرب من الأمل البعيد أمر بإثبات ما يخص بالخلع فكانة أكثر من مائتين وخرجوا عن عدة المعينين فأمر بابتياع العمايم وإحياء سنة المكارم ونقل جميع ما في الأسواق إلى الخزانة للإنفاق وكنت قد أخذت رسم التشريف في أول شهر رمضان فسحبت في العيد بالدخول في زمرة العلماء بالخلع المستجدة الأردان وكان قد اجتمع الوفود والرسل من الأطراف فدخلوا في عموم الإسعاف بخصوص الألطاف. قال: وفي هذه السنة بنيت داري بدمشق مقابل القلعة وكان السلطان لا يكاد يقيم في بلدة ولا يستقيم على أحد ينتقل في البلاد أما للجهاد وإما للاستكبار من الممالك وإخراج الملوك إلى الانقياد فلما أقام في هذه السنة سنة اثنتين وثمانين بدمشق للاستراحة كان يستدعيني ليلاً ونهاراً ويستكفيني في المهمات والملمات سرا وجهارا فبنيت داري للقلعة مجاورة ليقرب طريق قصده وأدخل داري إذا خرجت من عنده فهي الآن مربعي ومناخي وبه أفراحخي وهي حقه دري وحقه دري وبيت عطاردي ونظم أو أنسى وشواردى. ذكر ما تجدد من الخلف بين الفرنج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 قال: كان قومص طرابلس ريمند بن بيمند الصنجلي تزوج بالقومصية صاحبة طبرية وجعل بها لأجلها سكناه وقصر على تملك الفرنج مناه فان الملك المجذوم لما هلك اصى لابن أخته وهو الذي بعده ملك ولأجل صغره كفله القومص وهو على تربيته يحرص وبثوب الاستبداد يقمص وهو بالقوة والرأي مسلسل ويزعم انه بالأمر مستقل فهلك الصغير وبطل عليه التدبير فان الملك انقل إلى أمه وبطل ما كان في زعم القومص وزعمه فوقعت عينها على أحد المقدمين العرب فاستخلصته للقرب وأنكحته نفسها وبدت لسهمه قوسها ومكنته من مزرعتها لسقيها وحرثها وأدنته من خلوتها لإدناء خلخالها من رعاتها وقالت: أن الفرنج ذكورها أقوم بالملك من إناثها ثم جمعت المقدمين والبارونية والاسبتار والداوية وقالت: هذا زوجي قد نقلت إليه ملكي وعقدت به مسلكي فوضعوا على رأسه التاج فزجر بحره وعب وماج فسقط القومص في يده وخرج من جلد جلده وعمى عليه واضح جدده وطولب بحساب ما تولاه فنفر منه وأباه وناداه الملك وما لباه وادعى أن ذلك الفقه في الملك الصغير والذي رباه ثم حل حباه وسل ظباه واختزل واعتزل ومن ذورة العتو ما نزل ولاذ بسلطاننا وأنفذ رسله ببذل الاستطاعة في الطاعة والجري على حكم التباعة وأنه وإن دعى أجاب وإن رعى أهاب فأعجب السلطان قوله وقالوا ربما كان هذا ختلاً وختراً وخداعاً ومكراً فقال: أليس قد وقع بين الكفر اليأس وحمل لهم من إصلاحه البأس فيجري به مجرى المؤلفة القلوب وكان الأمر على ما تفرسه والعقبى الحميدة على ما جد منه فان ذلك كان من أسباب وهن الكفر ومنزل نص النصر، وكان في الأسر خيالة من أًحاب القومص قد قررت عليهم قطايع ثقيلة فأجاب سؤاله في المن والإطلاق وأخرجهم إلى عز السراح من ذل الاسترقاق حتى كاد القومص لولا خوف أهل ملته يسلم وصار بدولة السلطان وملكه يقيم ومال إليه من الفرنج جماعة وظهرت له منهم للطاغية وأمن الثغر وسكن الدهر ودخلت جانبهم إلى بلادهم السبايا وخرجت الغنائم والسنايا وللقومص قوم صدق يساعدونه في كل باطل وحق فغل بهم أهل الساحل وبلوا منه بالشغل الشاغل. (230أ) ذكر غدر ابرنس الكرك قال: كان هذا الابرنس أرناط أغدر الفرنجية وأخبثها وأفحصها عن الردى وأبحثها وأنقضها للمواثيق المحكمة وأنكثها وهو على طريق الحجاز ومن نهج الحاج على المجاز. وكنا في كل سنة نغزوه وبالبوايق نعزوه وقد ألجأنا إلى مضايق المضايقة والإضاقة فأظهر أنه في الهدنة والهدوء شديد الفاقة فتعرض للتضرع وجنح للسلم وأخذ الأمان لبلده وأهله وبقى الأمن شاملاً والقفل من مصر في طريق بلده متواصلاً وهو يمكس الجاي والذاهب ويحيى من الضروب والضرايب وينكب النواكب حتى لاحت له فرصة في الغدر فانتهزها وقطع الطريق وأخاف السبيل ووقع على قافلة ثقيلة ونعمة جليلة فاجتاحها واستباحها وكان معها من الأجناد فأوقعهم في الشرك وحملهم ال الكرك فأرسلنا إليه وذممنا فعاله وقبحنا احتياله فأبى إلا الإضرار والإصرار وأضرم الشرار وأضرى الشرار فنذر السلطان دمه فأظفره الله به يوم حطين فقدمه ووفى في إراقة دمه بما التزمه. وأقام السلطان بقية سنة اثنتين وثمانين بدمشق وقد شغل الفرنج بعضهم ببعض وعسكر الجهاد في العرض ونحن بين عداد الأعداد واستمداد الإمداد في إقامة سنة وأداء الفرض. قال الفتح بن علي الأصفهاني مختصر الكتاب: قد أورد الصدر السعيد عماد الدين رحمه الله ههنا رسايل لفضلاء العصر مبينة على حروف معينة أكثرها وإن اشتملت على الألفاظ البارعة والمعاني البديعة لا تخلو من نكلف تمجه الأسماع وتعسف تنبو عنه الطباع فتركناها وأضربنا عن ذكرها صفحاً وطوينا دون وصفها كشحاً وساكنا طريق الاختصار وأعزناها جانب الازورار واختصرنا على إيراد هذه ابتداءات الفاضلية بين كتبه الجليلة الجلية فمنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وقفت على كتابه الذي توالت فيه سجعا الصاد ولسيدنا فخر كل من ينطق بها كما قال أبو الطيب وتناسقت محاسنها تناسق قطرات السحاب الصيب وهو يتناول الألفاظ والمعاني من مكان قريب وإن مد باعه فمن سحاب وإن اغترف فمن قلب والله لا يخلي الأنفس من أنفاسه المستطابة والدولة من آرائه المستصابة. أخرى سلام له من صاحب وأهلاً بكتابه ومتى نقول أهلاً بالكاتب وفداه من يعرفه وإن أبوا فأنا والطالب الغالب وسبحان من خصه بمعجزة بنوته فسيح القلم بين أصابعه وتفجرت الحم من ينابعه وجعله إماماً ومن الذي لا يفخر بأن توسم تتابعه. أخرى: أدام الله توفيقه والتوفيق به وصرف عنه كل مكروه من صروف الدهر ونوبه ولا أخلى المملكة من كريم مرتبته وشريف منصبه ولا زالت مسرات الخلق مضمونة على رسله وكتبه وعين الله كالية له في منصرفه ومنقلبه. أخرى: أحظى الكتب أدام الله سعادة الحضرة العاليةوأحضر التوفيق لمقاصدها وأعلن اللسان على فروض محامدها والقلب على شجون تباعده وأجراها على جميل عوايده لديها كما يجري الأصدقاء على أحسن عوايدها وفسح في مدتها ومدة محييها حتى تستدركوا فوايت فوايدها عند عبدها وأدعها إلى تملك رق الحر من شكره وأولى المطلة فإن تحت المحظور من نشعره سكره ما كان قريب العهد بمواطر خواطرها مذكراً بأيام الربيع من لقائها التي فيها ذكرى لذواكرها فلذلك لا يقرأ منها حرفاً إلا قرأناه من الثقيل ولا يبين منه صدرا إلا قال أن من البيان لسحرا وهي أدام الله نعمتها إذا أرسلت نسها على السجية أتت بالمطبوع التي تقصر عنه الطباع ف إذا جاءت بالأمور المهمة أتت بالمصنوع الذي يملأ الأسماع فلها الفضلان مسترسلة ومختزلة والصوابان مرية ومرتجلة والأحسانان متأنية ومستعجلة كيف ما شاءت جاءت وكيف ما أرادت وفي أي حلة برزت قال رحمه الله. ودخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وهي السنة الحسنة المحسنة والزمان الذي تقضت على انتظار إحسانه الأزمنة وطهر فيه المكان المقدس الذي سلمت بسلامة الأمكنة وخلصت بمنحة الله من المحنة الأرض المقدسة الممتحنة ونصرت الدولة الناصرية وخذلت الملة النصرانية وتميز الطيب من الخبيث وانتقم التوحيد من التثليث وشاع في الدنيا بمحاسن الأيام الصلاحية حسن الأحاديث. (230ب) قال: وقد وصفت في الكتاب المرسوم بالفتح القدسي الأحوال ووسعت ووشعت الأقوال وحليت التوح وأثببت الشروح وأنا أورد في الكتاب مما أوردته جملته الجميلة الجليلة. ذكر مقدمة لذلك مباركة قال: كان السلطان قدم الكتب لاستقدام الكتايب وقرب جانبه لأجانب والأقارب وواصل الموصل وسنجار ونصيبين وآمد وديار بكر من البر بالإمداد بعد الإمداد واستدعى لذلك ممالك الشام من الأطراف والأوساط وأمرهم بالاحتياط وبرز من دمشق يوم السبت أول المحرم في العسكر العرمرم والعزم المصمم ومضى بأهل الجنة لجهاد أهل جهنم فلما وصل إلى رأس الماء وجعلها محط مضارب سرادقه ومجرى صوانعه ومجرى سوابقه وأمر ولده الملك الأفضل نور الدين عليا بالإقامة هناك ليستدنى إليه الأمراء الواصلين والأملاك وسار السلطان إلى بصرى وخيم على قصر السلامة وقد استقبل من الله الكرامة والاستقامة. ذكر سبب ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقد سبق ذكر غدر ابرنس الكرك وهو على طريق العسكر المصري والحاج وكان في الحج حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ووالدته أخت السلطان وجماعة من الخواص وأقام إلى تلقي الحجيج وذلك في آخر صفر ثم لما فرغ باله حم إلى الكرك استلاله وتقدم بمن معه من العساكر حتى نزل على حصنها فأقمنا هناك حتى أجتث أصولها وفروعها وأستأصل كرومها وزروعها. ووصل العسكر المصري يقوى الاستظهار، وأقمنا على الحالة الحالية والجلالة الجالية، وأما الملك الأفضل فإنه اجتمعت عنده الجنود من كل فريق وأتوه من كل فج عميق وضاق بوفودهم الفضاء وفاض بوفورهم الفضاء انقضى من السنة شهران وطال بهم انتظار السلطان فرأى الملك الأفضل أن يشغلهم بغزوة يعودون منها بحظوة فانهض منهم سرية ورتب على خيل الجزيرة وما جاء من الشرق وديار بكر مظفر الدين كوكبرى صاحب حران وعلى عسكر حلب والبلاد الشامية بدر الدن دلدرم ابن ياوق وعلى عسكر دمشق وبلادها صارم الدين قايماز فأسرجوا الخيل وأدلجوا الليل وصبحوا صفورية في أواخر صفر وصباح النصر قد أسفر، وخرج إليهم افرنج في الدواية والاسبتار والبارونية والدركبولية ووثبوا في وثبات الأساد وحملوا في ثبات الأطواد فلولا أن الله أصحب أصحابنا التوفيق لكاد الكفر ينجو والإسلام لا يدرك ما يرجوا لكن أمراءنا الكرام استطابوا الحمام فلاقوهم بقلوب الصخور وهبوب الصقور وفازوا وظفروا وقتلوا وأروا وهلك مقدم الاسبتار وحصل جماعة من فرسانهم في قبضة الإسار فعادوا سالمين غالبين غانمين وكانت تلك النوبة باكورة البركات ومقدمة ما بعدها من ميامين الحركات وجاءتنا البشرى ونحن في نواحي الكرم فلما قرأنا الكتب عدنا واجتمعنا بالعساكر وانتظم شمل الأوايل والأواخر وخيمنا على عشترا وقد ص بخيل الله الوهاد والذرى وأشتمل المعسكر على فراسخ عرضا وطولا وملأنا الملأ حزنا وسهولا وعرض العسكر في اثني عشر ألف مدجج ولما أنقضى العرض وأقتضى الفرض وسالت بأفلاك السماء الأرض كان السلطان قبل رحيله بيوم أركب العسكر بعدته ورتبه أطلابا وحزبه أحزابا وعين رجال القلب ومن يف بالقلب والميمنة وحماتها والميسرة وكماتها والجناحين وقوادمها من ذوي الأقدام والمقدمة والساقة على سنن النظام وعين مواقف الرجال ومواضع الأبطال وعين الجاليشية من كل طلب بأسمائها ورماة أحداقها وحداق رماتها وقرر هيأتهم في الركوب والنزول وسار يوم الجمعة سابع عشر ربيع الآخرة بالعساكر وسارت على تعبيتها وترتيبها وأناخت ليلة السبت على صفين والكفر مخسوف والشرك مكسوف ونسيم النصر من تربها مسوف وباتوا تلك الليلة فلما بكروا ركبوا وقد أخذ بحرهم في الإلتجاج وبرهم في الارتجاج ونزلوا بثغر الإقحوانة وضربت الخيام وزهى الإسلام وأمكن من الكفر الانتقام وأقام السلطان هناك خمسة أيام إلى يوم الخميس ثم صممنا على الإقدام وسلب لبس السلامة من ملابس (231أ) عداوة الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وأما الفرنج فإنهم لما سمعوا باجتماع كلمة الإسلام ووصول أمداد العساكر المصرية والجزرية إلى الشام فزعوا وشرعوا ف إصلاح ذات بينهم ورجعوا عن التغاير والتنافس وقالوا نحن أنصار الطرسة وأصلاب الملة الصليبية وآثروا صلح القومص ووصلوا على مرادو مطالع أمانيه بالخلص وتزاوروا وتوافدوا وحشدوا وحشروا وجمعوا عنده الناسوت واللاهوت ورفعوا صليب الصلبوت وأصحروا بصحراء صفورية وطما سيل خيلهم على الوهاد والربى ودب راجلهم كرجل الدبا واجتابوا سوابغ واجتنبوا سوابق والمعوا البوارق واسمعوا الصواعق وشبوا نار الفرق وأشابوا المفارق وما زال السلطان مستخيرا ولا عوانه مستشيرا فأشار الأمراء ذووا الآراء بالصدود عن اللقاء والمحافظة على زمار الإسلام وصون الدماء، وقالوا لم يسبقك أحد إلى مضايقة القوم فلا تعركم عقال المعركة ولا تلق بأيديهم إلى التهلكة وهذه بلادهم قد خلت منهم فتشتغل بالإغارة على بلادهم الخالية ونقدهم بأقدامنا عطل أحوالها الحالية. فقال السلطان: الأيام غير مأمونة والأعمار غير مضمونة الجهاد قد تعين فرضه ولا بد لي من اللقاء وقد قال أصدق القائلين: (ولينصر الله من ينصره) فقالوا خصك الله بهذه الفضيلة ونجح الوسيلة وحيث استرخت الله في الإقدام فأنا نبذل المهج بين يديك للإسلام فلما أصبح يوم الخميس سار عنان الحوض عنان الجواد المطلق ولاح سنا الموت الأحمر في السنان الأعرق وأشرف على الفرنج في معسكرها العسكر وقام المحشر وماح البيض والسفور وارتفعت الأصوات بقول الله أكبر فلو برزوا للحصاف لطالت عليهم يد الانتصاف لكنهم ربضوا وما نبضوا وهدءوا وما نفضوا فلما عرف السلطان أنهم لا يبرحون من قرب صفورية أمر أمراءه أن يقيموا على مقابلتهم وقدموا على عزم مقابلتهم ونزل هو في خواصه العشية على مدينة طبرية وعلم أنهم إذا علموا بنزولنا ثاروا للوصول إليها فحينئذ نتمكن من قتالهم ونجهد في استئصالهم فحضر طبرية وجمع العساكر على أحد أبراجها فوقع ذلك البرج وانهزم عنه الفرنج ونصبت عليهم سلاليم الإسلام ودخلوها في جنح الظلام واستضاءوا بما أعلوا من الغرام وعادت ليلة معدودة من الأيام ووقعت النار في مخازن كبار واهراء الأغلال وبقيت الدور فارغة شاغرة وأفواه الأطماع إلى أزواد ما يحويه فاغرة وتحصنت القومصة ست طبرية في قلعتها ومعها بنوها وحموها بسيوفهم وعصموها ووقع الاشتغال بحصارها ونقب جدارها وقصم سورها فجاء من أخبر بأن الفرنج قد ركبوا وارتكبوا وجاءوا في ليل القتام مداجين وغلى حرب التوحيد بحرب التثليث مخرجين فلما سمع السلطان بحركتهم أيقن بهلكتهم وقال: الحمد لله الذي أنجز وعده وأيد جنده ونهض بجباله إلى جبالهم وار لقتالهم وضيق عليهم سعة مجالهم ووقف بصفوفه أمامهم وقد الحر واستشرى الشر وللصدى شعل ولأولئك الكلاب بين الله لهب وفي ظنهم أنهم يردون الماء ويردون الدماء فخلاتهم الحالة الحالية وعالتهم العلة العايلة وذلك في يوم الجمعة ووراء عسكرنا بحيرة طبرية والورد عد ومأمنه بعد ود قطعت على الفتوح طريق الورود وبلوا من العطش (بالنار ذات الوقود) فوقفوا صابرين مصابرين على ضرواتهم وشربوا ما في أدواتهم وشفهوا ما حولهم من المصانع واستنزلوا حتى الماء المدامع، ودخل الليل وسكر السيل وماتوا بظماء برح وقدوا أنفسهم على الشدة واستعدوا بالعزايم المحتدية وسهر السلطان تلك الليلة حتى عين الجاليشية من كل طلب بأسماء رجالها ملأ كتايبها وكان ما فرقه من النساب أربعمائة حمل ووقف سبعين جمارة في حموة الملتقى يأخذ منها من خت جعابه ورغ نشابه من تعالق يفتح من باب الموت والمغلقوتواضيح لخراق المضاعف الفسيح وناوكات ذوات نكايات وزياريات وزنبزركات. ذكر يوم حطين وهو السبت الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قال: وأصبح الجيش على تعبيته النصر على وبرز رجال الجاليش وارتجزت دعاء التحريض والتحريش وقامت (231ب) الجرب على ساقها ووفت بميثاقها، والفرنج متكاثر العدد متكاثفة العدد آخذة طريق البحيرة بطوارق الحيرة قد أحاط رجلها بخيلها جارية إلى القرار بسيلها فاعترهم سدنا واعتراها صدنا فعرفوا أنه لا سبيل إلى الحياة إلا بسلوك نهج الموت وأنه لا مطمع في اللقاء إلا باستحلاء طعم الفوت والسلطان وقف قلبه ووقف على الوثوق بنصر الله قلبه وهو يمضي بنفسه على الصفوف ويحضهم على حظهم من الفتوح والحتوف وكان له مملوكا اسمه منكورس من شموس الترك قد كمل الله تعالى له حسن الخلق والخلق وصله في الفروسية وهو راكب أمام العسكر وأراد أن يكون له فضيلة السبق في الإقدام فوثب بحصانه وثوب الضرغام وحمل حملة جرى فيها عنانه وشكر لها إحسانه وظن أنه يوافقه في الركضة أعوانه فجذبه لقوة رأسه حصانه وخلاه خلانه فلما رآه الفرنج وحيدا ووجدوا المدد عن نصرته بعيدا رجعوا إليه ورموه عن ظهر حصانه وأحاطوا به في مكانه فأثتت في مستنقع الموت رجله وقاتل إلى أن بلغوا قتله فلما أخذوا رأسه ظنوا أنه بعض أولاد السلطان وزعموا ظهور الكفر على الإيمان وأما عساكرنا فإنها لما رأت استشهاده حمت حميتها وخلصت لله في إرداء أعدائه بنيتها وصممت الجاليشية تلفحهم بلوافحها وتقدحهم بقوادحها وبرح بالفرنج العطش ووجدوا الطرق مصدودة والسبل مسدودة. وكان النسيم أمامها والحشيش قدامها فرمى بعض مطوعة المجاهدين النار في الحشيش فتأجج عليهم أسعارها وتوهج أوارها فوصلوا في ورطة الاحتدام فضايقت ذيابهم منا الضراغم وعارضت صقورها منهم القثاغم ودارت بمساعير الجحيم وداير الشعرا بجواحن، ونظر القومص من مبتدأ الأمر إلى غيته وعلم أن القوم قد تداعى بنيانهم ودعاهم خذلانهم فأفكر كيف ينجو فقال لهم: أنا أسبق بالحملة وأفضلهم بالجملة فأجتمع هو وآزروه جماعة من المتقدمين هم مظاهروه وصحبه صاحب صيدا وباليان بن بارزان فحمل القومص ومن معه على الجانب الذي فيه الملك المظفر تقي الدين ففتح لهم طريقه ورمى من أتباعهم فريقا فمضوا على رعوسهم ونجو بنفوسهم ولما عرفوا أن القومص نفد في الهزيمة هانوا ثم اشتدوا وما لانوا وحملوا حملات راضوا بها جماع الحرب وخلصوا فيها غمار الطعن والضرب وعدموا فيها استطاعة القدر بل طاعة القدر واستعرنا النصر عليهم من النصل المستعر فوعنا فيهم وقوع النار في الحلفاء وصببنا ماء حديد للأطفال فزاد في الأزكاد فحطموا خيامهم على غرب حطين حين رأونا بهم محيطين فعجلناهم عن ضب الخيان بضرب الهام وأزللنا أقدامهم عن مداحض الأقدام وما زالت الجج تغيض والمهج تفيض والنفوس تقع والرعوس تطير حتى كسد أشلاء مشلوليهم عرى العراء وحشت شفاه الشفاء من أفلاء مفلوليهم أحساء الدماء وانكسر من الصليب صلبه وبطل طلبه وحيرت كماته كمته وقبابه وقببه وملك عليهم صليبهم الأعظم وذلك مصابهم الأعظم ولما شاهدوا الصليب سليبا أيقنوا بالهلاك وأثخنوا بالضرب الدراك وما برحوا يؤثرون ويقتلون وللوثوب يحفون وبالخراج يثقلون فنكبوا في أرواحهم وأنفسهم ووصلنا إلى مقدميهم وملكهم وأبرنسهم فتم أثر الملك وأبرنس الكرك وأخذ الملك جفرى ودوا صاحب جبيل وهنغرى وأثر من الأثارة وجبر الإسلام بكثرهم وأسروا بأسرهم فمن شاهد القتل قال ما هناك أثير ومن عاين الأثر قال ما هناك قتيل ومنذ استولى الفرنج بساحل الشام ما شفى للمسلمين كيوم حطين غليل فالله عز وجل سلط السلطان وأقدره على ما أعجز عنه الملوك ونظم له في حتوف أعدائه وفتوح أوليائه الملوك وخصه بهذا اليوم الأعز والنصر الأبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 قال: هذه النوبة المباركة كانت للفتح القسي مقدمة ومن عجايبه أن فارسهم ما دام فرسه سالما لم يدم لمصرعه فإنه من لبسه الزردى من فرقه إلى قدمه كأنه قطعة حديد ودراك الضرب والرمي إليه غير مشيد لكن فرسه إذا هلك فرض وملك فلم يغنم من خيلهم (232أ) ودوابهم وكانت الوفا فرس سالم وغنمنا ما لا يحصر من بيض مكنون وزعف موضون وبلد وحصون وابتدلنا منهم بهذا الفتح كله إقليم مصون وذلك سوى ما استفتح من مال مخزون واستخرج من كنز مدفون ولما صح الكسر وقضى الأمر وسكن البحر وتمكن النصر ضرب للسلطان في تلك الحومة دهليز السراديق وتوافت إليه فرسان الحقايق ونزل السلطان وصلى للشكر وسجد وجدد الاستبشار بما وجد وأحضر عنده من الاسارى الملك والابرنس وأجلس الملك بجنبه ليزايله الوحشة ويحل له وهيهات الإنس وألفاه يلهث للعطش وينظر مبهوتا نظر المتوحش فأمر له بماء مثلوج فشربه ثم ناول الملك الابرنس القدح فاستشفه ثم حضر الترجمان حتى يعرف جواب ما يخاطبه به السلطان وما زال يقرعه بغدر وبغيه ويذكره بجله وغيه ثم ركب وخلاهما ولم ينزل حتى شاهده ضرب سرادقه وبطست نمارقه وركزت أعلامه وبيارقه ثم نزل وأمر بإحضار الابرنس فقام إليه بالسيف فحل عاتقه وحفظ مع الله في نذر دمه مواثقه وكان عنده جادم ثم فجر برجله بعد أن أخذ رأسه وهد أساسه فلما شاهده الملك يسحب بقدمه ويشحب في دمه طار عقله وثار خلبه واستحضره السلطان فخانت رجله فجاه مرتعبا مرتعشا وظن أنه كرفيقه هالك فقربه وسكنه وأدناه وأمنه وقال: ذاك بصنعه لعهده ضيعه وإصراره على غدره صرعه وأجلسه وآنسه وهيهات يبتعش من الله أتعسه أو يسعد من الكفر أنحسه ثم جمع الأسارى العروفين وسلمهم إلي وغلى قلعة دمشق الناصح وسلمهم إلى أصحابه وأمرهم أن يأخذوا خط الصفى القابض في دمشق بوصولهم ويحناط عليهم في أغلالهم وكبولهم فتفرق العسكر بمن ضمته أيدي السبى على أهل الأحد وسار الناس منهم بالمدد. وعبرت بحطين فرأيتها موضع الاعتبار وشاهدت ما فعل أهل الإقبال بأهل الإدبار وعاينت أعيانهم خبرا من الأخبار ورأيت الرعوس طايرة والنفوس بايرة والجسوم رمتها السوافي والرسوم درستها العوافي ولما أبصرت خدودهم ملصقة بالتراب وقد قطعوا أرابا تلوت قول الله تعالى (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) ولما أصبح السلطان يوم الأحد خيم على طبرية وأرسل القومصية وأخرجها من حصنها بالأمان ووفى لها ولبنيها الفرسان شروط الإيمان فخرجت بمالها وعيالها ورجالها وأقلها وولى طبرية صارم الدين قايماز النجمي فعادت بعادته الجميلة آهلة بأهل اليمن والإيمان معتدلة المحاسن بالعدل والإحسان وسكنت مساكنها وعمرت أماكنها وقبضت مخازنها عرضت دفانيها وعاد الإسلام الغريب منها إلى وطنه والدين الحافل منها إلى مأمنه وأصبح السلطان يوم الإثنين السابع والعشرين من الشهر مغتبط بما شهره الله له من سيف النصر فرأى أنفاذ مقدم الداوية مع الملك وأخيه وجماعة الأكابر إلى دمشق كما سبق ذكره ثم نفذ في الأسارى الداوية والاسبتارية خاصة أمره وقال: لا نفع في ابقائهما وهما جنسان نجسان فلا بد من أبادتهما وأردائهما فما جرت عادتهما بالمفاداة ولا يقلعان من المفاداة فتقدم باحضار كل أسير داوى واسبتارى ليمض فيه حكم السيف ثم علم أن كل من عنده أسير لا يسمح به فجعل لكل من يأتيه بأسير منهما من الدنانير الحمر خمسون فأتوه في الحال بمائين وأمر بإعطابهم وضرب رقابهم وكان بحضرته جماعة من المطوعة المتورعة والمتصوفة ومن تمت بالزهد والمعرفة قد اعتقلوا إلى ضرب الأعناق ووقف كل منهم حاسرا عن ساعد ومشمرا عن ساق فمنهم من أمضى عقبه وأمضى ضربه ومنم ما كبا زنده ونبا جده والسلطان جالس وماله عن انفاذ حكم الله فيهم حابس ووجهه باشر ووجه الكفر عابس فشاهدته الضحوك القتال والمختال المغتال وكان الأسارى قد سبق هم إلى البلاد الناس ولم يقع على عددهم القياس فكتب إلى الصفى بن القابض نايبه بدمشق أن يعجل لطلب الداوية والاسبتارية السبق ويضرب عنق من يجده منهم فامثل الأمر في أزهاقهم (232ب) وضرب أعناقهم فما قتل إلا من عرض عليه الإسلام فأبى أن يسلم ورأى لشدته في كفره أن ينقاد للقتل ولا يستسلم وما أسلم إلا آحاد حسن إسلامهم وتأكد بالدين غرامهم. ذكر السبب في نذر السلطان دم ابرنس الكرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قال: وما زلت أبحث عن ذلك حتى حدثني الأمير عبد العزيز بن شدد بن تميم ابن باديس وهو ممن يتولى الأفضال الفاضى من دونه التنفيس ولم يزل له بحاضرته ومحاورته الأنيس وهو من البيت الكبير وكان جده صاحب أفريقية والقيروان وكانوا يتوارثون ملكه إلى قريب من هذا الزمان ذكر أن الأجل الفاضل حدثه بما حدث من مرض السلطان وأنه لما عاد إلى دمشق من حران عد المرضة وذلك في سنة اثنين وثمانين وهو في عقابيل سقمه لا يفارق الأنين وأشفى ذات يوم على الخطر واستسلم للقدر وحضره في يوم الجمعة وهو يوصيه وهو في تفطر أنفاسه المعدودة وترقب قلوص ظلال عمره الممدودة وقد قنط من الحياة وفاته أمكان من الوفاة فقال فأردت أن اشغله عن الوهم والهم وقلت ما معناه قد أيقظك الله وما يعيذك من هذا السوء سواه فانذر أنك إذا أبللت هذا المرض تقوم بكل ما لله من المفترض وأنك لا تقاتل مع المسلمين أحدا أبدا وتكون في جهاد أعداء الله مجتهدا وأنك إذا نصرك الله في المعترك وظفرت باقومص وابرنس الكرك تتقرب إلى الله تعالى باراقة دمهما وأعطاه يده على هذا النذر وأنجاه الله وفريضته وجرى من مقدمات الجهاد ما جرى وخيم السلطان في جموع الإسلام يعشترا وركب يوما في عسكره وأموج بحره وأفواه معشره وقد التقا الطلعة المباركة من الأجل الفاضل فقال ليكن نذرك على ذكرك وستزد نعمة الله بمزيد شكرك ولا تخطر غير قمع الكفر بكفرك فما أنقذك الله من تلك الورطة ونعشك من تلك السقطة إلا لتوفر حظك من هذه الغبطة فتوكل على الله عازما وجاز الأردن حازما وأرعب جأش الكفر وفل جيوشه وثل عروشه ووقع في الشرك ابرنس الكرك فوفى بضرب عنقه نذره وأما القومص فإنه أخذ في الملتقى بالهزيمة حذره ولما وصل إلى طرابلس أخافه في مأمنه القدر وسلمه مالك إلى سقر. ذكر فتح عكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قال: ورحل السلطان ظهر يوم الثلاثاء والتوحيد ظاهر على التثليث والطيب قد امتاز عن الخبيث ونزلنا بأرض لوبية عشية وأصبح سايرا إلى عكا (فساء صباح المنذرين) ولما أشرفنا عليها بفتحها فما كان فيها من يحميها وما صدقنا كيف نمتلكها ونحويها وظهر أهلها على الأسوار لإظهار الممانعة وخفقان ألويتها يشعر بقلوبها الخافقة وأرواح جلدهم الزاهقة ووقفنا نتأمل طلولها ونأمل حصولها وخيم السلطان بقربها وراء التل ولبث عساكرها في الحزن والسهل وبتنا تلك الليلة وقد هزتنا الأطراب كأنما دار علينا الشراب والسلطان جالس ونحن عنده وهو يحصي جنده ويقدح معهم في اقتباس الآراء زنده ومنا من يستسح رفده ومنا من يستنجر وعده ويواصله بالدعاء ويشافهه بالهناء إلى أن نادانا ابن ذكا فلبينا ونادينا العسكر فعبيناه ووقفنا بإزاء البلد صفوفا وأطلنا على أطلاله وقوفا فخرجوا إلينا رجالا ونساء وأكثروا ضراعة ودعاء وبذلوا الأذعان وطلبوا الأمان فأعطيناهم الأمان على الأنفس من المال والأنفس وخيرناهم بين المقام والترحيل والسكن في وطنهم والتحول فشرع معظمهم لشدة الخوف في التنقل وأرخينا لهم طول التمهل وفتحوا يوم الجمعة في مستهل جمادى الأولى بابها ودخلنا لإقامة الجمعة وزادوا في الدخول عدة من المتطوعة وجماعة من الطمعة وأخياف من الأتباع لا تخاف من التبعة فما منهم إلا من ركن على دار رمحه وأسام فيها سرحه فحطوا على دور أخلاها أربابها وأموال خلاها أصحابها (233أ) وجينا إلى كنيستهم العظمى وحضر الأجل الفاضل فرتب بها المنبر والقبلة وهي أول جمعة أقيمت بالساحل وكان الخطيب والأمام فيها عبد اللطيف بن الشيخ أبي النجيب ولما رآه السلطان أتقى وأزكى ولاه مناصب الشريعة في عكا فتولى القضاء والوقف والحسبة والخطبة وفوض عكا وضياعها ومعاقلها وقلاعها إلى ولده الأكبر الملك الأفضل نور الدين علي وجعل للفقيه ضياء الدين عيسى بن محمد الهكارى كل ما كان للداوية من معيشة وأقطاع ودور ورباع فتصرف فيها وحصل على حواصلها وعلق بكراميها وعقايلها ووقع في مراعيها المربعة نوابه وأثرى بثراه وثروتها أحابه وولجوا المخازن واستخرجوا الدفاين وكذلك ماليك الملك الأفضل وولاته ونوابه نشبوا المخازن وفتشوا المزاكن واستباحوا الخزون والمدفون والمحروس والمصون ومن جملة ذلك أنهم احتاطوا بغير علمي على دار باسمي فباعوا منها متاعا بسبعمائة دنار فإنها كانت من أنفس العقار وإنما وصفت هذا لعلم ما غنموه وما التهبوا على حيازته والتهموه، وتصرف الملك تقي الدين في دار السكر فاقتفى قنودها واستوعب موجودها وقد أشرت إلى هذا المعنى في كتاب الموسم بالفتح القدسي وقرئ على السلطان منه ليلة ونحن بالقدس سنة ثمان وثمانين وسمع ولو ذخرت تلك الذخاير وجمع لبيت المال المجموع الوافر لكان عدة ليم الشدايد وعدة لنجح المقاصد فقال السلطان: هذه رفيعة على ثلاثة اثنان منهما في جوار الرحمة والآخر باق في مقر العصمة يعني بالاثنين الفقيه عيسى وتقي الدين وبالآخر الباقي ولده نور الدين ولعمري هو كما ذكره لكن الملك الأفضل نور الدين ما حصل له بخاصة بل لذوي اختصاصه بالحالة التي شاهدتها. عاد الحديث وأقام السلطان بخيمة على عكا أياما وأعلى بالمنى أعلام وكان يوم فتح حطين قد كتب إلى أخيه الملك العادل سيف الدين بما من الله به على الإسلام والمسلمين من الظفر والتأييد والتمكين فوصل بعسكره ورعيله ومعشره وجاء كتابه مبشرا بوصوله ومذكرا بسؤله وأنه فتح في طريقه بمن صحبه من فريقه الحصن المعروف بمجدل يافا وأنه حاز منه الغنايم والسبايا وأنه مجد في طي السهول والحزون وفتح ما يستقبله من الحصون فسطر جوابه وشكر صوابه وأنه يقيم في ذلك الجانب جامعا للكتايب ليجتمع به الواصلون من مصر الآملون معه النصر. وتوجه عدة من الأمراء إلى الناصرة وقيسارية والبلاد المجاورة لعكا وطبرية وأبوا بالغنيمة والسبى خير أوب وجاءونا بكل مليحة مليحة متعبة مريحة مقبلات أوايب طويلات الذوايب ثقيلات الروافد خفيفات المعاطف فكم أجد الله لنا من نعمى هنيئة وأمددنا من حبى سنية فما إلا من أنفض وغضب وفي كل يوم فتح عتيد وتأييد يتبعه تأييد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قال: وفي هذه السنة نكب الصاحب مجد الدين أبو الفضل عبد الله ابن الصاحب أستاذ الدار العزيز بجزيرة جرت عليه القتل وجريمة ما أطلع عليها وما أقيل عثرتها وذلك ظهر يوم السبت رابع عشر ربيع الأول فجاء القدر من كمينه وفجأة الكدر من معنية وبينا هو في أمر قاطع وفجر ساطع وفخر صادع وشمل جامع إذا بغتة الزمان ومحنة الحدثان وعثر منه على جناية أسعت إلى دمه قدمه ودعت إلى وجود عدمه وإنما أوردت ذكر مقتله في هذا الموضع لأنه جرت العادة منا بمكاتبة من يكون أمر الديوان إليه فيما يسنح من المقصود المتوقع فلما مضى لسبيله قام في موضعه عميد الدين أبو طالب بن زادة فتولى الثاني لما بدأ به الأول الإعادة ووصل كتابه وكتب جوابه وفي بعض الكتب إليه: والبلاد والمعاقل التي فتحت هي طبرية وعكا والناصرة وصفورية ونابلس وحيفا ومعليا وفوله والوطر والشقيف. قال: وأما الفولة فهي قلعة للداوية حصينة لما خرج سكانها لم يدخلها سكينه فإن الداوية الذين كانوا فيها قد هاجوا إلى الهيجاء وطروا في القتلى والإسراء الحماة وغيل غالت (233ب) ليوثه عداتها الهداة وفيها ذخاير كنايسهم وأخا ير نفايسهم وسبايك نضارهم وكرايم أعاقهم ولم يبق في الحصن إلا أحداد من الغلمان وأتباع الفرسان فخافوا على النفوس وارتاعوا من البؤس ومالوا إلى ألاذعان وسلموا الموضع بالأمان وتسلمنا بتسلمها جميع الثغر وأما حيفا فإنها من عكا وقيسارية على البحر وتسلمت لسيف النصر وأما نابلس فإن أهل ضياعها ومعظم أهلها كانوا مسلمين وفي سلك الرعية مع الفرنج منتظمين وفيها أفرنج ونصارى مقيمون مدبرون وقد أقروا منذ استولوا عليها المسلمين على عوايهم في قضائهم وحكمهم ومشاهدهم ومساجدهم وهم يجبون كل عام منهم قرارا ولا يغيرون لهم شرعا ولا شعارا فلما عرفوا كسرهم وأنهم لا يرجون جبرهم وخافوا من مساكنة المسلمين وأشفقوا وأخذوا بالحزم لما فرقوا وتفرقوا وكسبهم أهل الضياع في الدور الرباع وغنموا ما وجدوه من الذخاير والمتاع وطلبها من السلطان ابن أخته الأمير حسام الدين عمر بن محمد بن لاجين وكان الأمير القوي وهو عزيز عند خاله ملى بفضله وأفضاله متقبل شيمة السلطان في بأسه ونواله متفرد من الأملاك بمحاسن خلاله فاقطعه السلطان نابلس وأعمالها ضياعها ومعاقلها وقلاعها متوجه لفتوحهم وصحب جموع جماعة من الأصحاب وسال بالجبال (وهي تمر مر السحاب) أوقعوا بضعفائهم وضايقوا الحصون على أقويائهم وطلبها من السلطا فأول ما أناخ على سبسطية وفيها مشهد زكريا عليه السلام وقد أتخذها الأقسام كنيسة منذ فارقها الإسلام وفيها أواني وآلات فضيات وذهبيات وقومتها من الرهابين فيها مقيمة ولا يؤذن في الزيارة إلا لمن معه هدية لها قيمة فدخل الموضع وأغلق بابه وأفرد عنه حجابه وأصحابه وأمر بجمع ذلك المصوغ والملوك والمسبوك والعقود والسلوك كل ما يعز وجوده في خزاين الملوك فاقتناه جميعه لنفسه خاصة وأمن أن يرى عدها خصاصة وصارت له خزانة ثقيلة وذخيرة جليلة وأبقى في الموضع من الفرش والآلات ما لا يستغني عنه المشهد ولا يحسن أن يخلوا من مثلها المسجد وفتح للمسلمين أبوابه وأظهر للمصلين محرابه ولما فرغ من شغله سار إلى نابلس عليها منيحا ولدعاء المسلمين بها مصيخا وطال حصره للفرنج بالحصن ثم استنزلهم بالأمان واستمال من سكانها من ضرب عليه الجزية بعد زمان فعادت بلدة محشوة بساكنيها كالرمان وبقيت إلى آخر عهده وعمرت بعدله وإحسانه ورفقه ورفده قال: وكانت بيني وبينه صداقة بصدق العقيد معقود ومودة أسباب النقص فيها مفقودة فنظمت هذه القصيدة قلت ومطلعها: أستوحش القلب مذ غبتم فما أنسا ... وأظلم اليوم مذ نبتم فما شمسا قلبي وصبري وغمضي والشباب وما ... ألفتم من نشاطي كله خلسا ذكر فتح تبنين وصيدا وبيروت وجبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 قال: وكان السلطان مدة مقامنا بعكا يندب العساكر إلى الولايات وسير الملك المظفر تقي الدين وأمره بقصد تبنين فمضى إليها واستسهل اجتيازها ووجد بالمنعة اغترارها ورأى إلى وصول الشام ونزوله عليها أغوارها فكتب وتواترت كتبه وافية بالحشد والتحريض والبعث بالتصريح والتعريض فأخذت العزايم في الاقتضاء والصواب في الانتظار ورحلنا يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى رواحا وأعرنا العزم على تأييد الله في منزلة نزلت بها الألطاف وعذبت لمواردنا النطاف وأصبحنا على الرحيل وبتنا ليلة السبت دون تبنين ونزلنا عليها يوم الأحد الحادي عشر فوجدناها قالعة أرضها في السماء وقلعة في جوزها جواز الجوزاء ما يمر السحاب إلا على سفوحها ولا تسترق شياطين الكفر إلا من سطوحها لا جرم جعلنا (234) نجوم النصال لها نجوما وأنزلنا الوبال عليهم سجوما وهاج بهم وهج الرعب وأبدوا وجوما وأخرجوا من عندهم من أساري المسلمين قرية وطاعة تبدو بهم للشفاعة منهم ضراعة ثم أمن السلطان أهل القلعة وأمهلهم إلى أن ينزلوا خمسة أيام وخرجوا من مقدميهم جماعة رهابين فضربنا عليهم خيمة إلى أن انتهت المدة وتسلمت القلعة واقتضت العذرة وخلص الحصن بما فيه وترتب وإليه وملكت أباعده ونواحيه. وأما صيدا فأنا لما فرغنا من شغل تبنين رحلنا على سمتها معدين وعبرنا في طريقنا على صرفند ونشقنا رياح رياحينها ونظرنا نضرة بساتينها وجلنا لحكم الرياضة في رياضها وربضت أسودنا في آجامها وغياضها وافتتحتا بفتحها ثم انصرفنا عن صرفند نحو صيدا صابرين ودخلناها ساعة الوصول وحالة النزول فإن صاحبهما كان ناظرا في العواقب ساترا جرح النوايب فتقدم إلى نوابه أن يفتحوا لنا بابها ويرفعوا أحجابها ويخلوها ويعطلوها حتى يحلها المسلمون فيحلوها فلما جيناها حليت لنا عروسها وجنيت غروسها وذلك يوم الأربعاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى فحان الفتح الميسر على الوجه الأسهل. وأما بيروت فأنا لما حصلت لنا صيداً سرنا في يومنا على سمت بيروت وبتنا ليلة الخميس دونها وصبحنا بكرة يوم الخميس في خميس بكر للصباح وضايقناهم أياماً ودافعوا أشد دفع ومانعوا أحد منع فبيناهم في أحر حرب وأمر طعم طعن وضرب إذ صاح صائحهم وناح نايحهم أنهم يركبون السفينة وينزلون المدينة فأصبحنا يوماً على العادة المستمرة في المقارعة والمضايقة إلا بحروج واحد يستدعي الأمان ويستدعي الإيمان على أنه يأخذ خط السلطان بجميع شرايط الإيمان واتفق في ذلك اليوم لي تغير المزاج وتعذر العلاج واحتجت إلى مفارقة الخدمة للضرورة والوصول إلى دمشق لمداواة الأدواء المحذورة ولما احتاج السلطان لتأمينهم إلى إنشاء مثال طلبني فاعتالت فعذرني وأحضر عنده كتاب العسكر ومتصرفيه ومن يظن به فضلاً ويعتقد فيه وحسب أن كل من يحمل قلماً كاتب وأنه يستحق الرتبة من له راتب وكل من كتب الإيمان المطلوب تناوله منه وتأمله واستنقصه واستزاده. فقال السلطان لكل عمل رجال ولكل جواد في حلبة السبق مجال وهنا عرف قدر العماد وأنه موافق موفق للإتيان بوفق المراد، فجاء إلى النجيب العدل بالحديث ووجدني في العارض الكريث وقال: أكتب هذا الأمان فإن هذا الفتح بقلمك مصدوق وقد خصك خالقك بالفضيلة فما يشاركك فيه مخلوق فقلت له: قد غلق رهني وذهب ذهني وحبس قلمي إلي فقال: إن كنت ما تكتب فأمل فقلت: أرجو أن تشملني السعادة السلطانية فاكتب ما يرضي فوفقني الله تعالى للمراد وهداني في الإنشاء لما يجب من الإصدار والإيراد ووقع ذلك التوقيع الموقع الحسن وسلم البلد خطى ثم ارتحلت إلى دمشق وعدت عند إبلالي وحال اعتدالي يوم فتح القدس وسلمت بيروت بحضوري وخرج منها ومن قلعتها الفرنج وامتلأ بهم إلى السور النهج وعاد الإسلام الغريب منها إلى وطنه وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من جمادى الأولى وكانت مدة النزول عليها إلى نزول أهلها ثمانية أيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وأما جبيل فإن صاحبها أود كان في جملة من نقل الملك الأسير إلى دمشق فتحدث مع الصفي القابض في أمره وباح إليه بسره وقال له: ما لكم في أسري فائدة ولا غنيمة على فتح جبيل زايدة وأنا أسلمها بشرط سلامتي فأنهى الصفي حاله فاستصيب ما قاله فأمر بإحضاره في قيده والاحتراز من كيده فوصل به ونحن على بيروت فطلبنا منه الشرط الموعود والأجل الموقوت فسلم جبيل وسلم وربح لخاتمه وغنم ومضى إليها من تولاها وتبعها فتح بيروت وتلاها وانتظمت هذه البلاد المتناسقة بالساحل في سلك للفتوح متسق وأمرها من الاستقامة في متفق. ذكر ما تجدد في صور من خروج القومص منها ووصول المركيس إليها قال: وما شك القومص أن السلطان إذا عاد لا يتعدى صور وأنه يجمع عليها العسكر المنصور فأخذ بالحزم ومضي إلى طرابلس ولم يلبث قليلاً (234ب) حتى هلك وبتوا من أسفل السافلين في النار الدرك ولما كان من مراد الله بقاء صور وصل إلينا المركيس وهو الذي أغاث الشرك وكان من خبره أنه وصل إلى الساحل هذا العام لفتح بلادها فأربى على عكا مركبه ثم صوت نحوها مذهبه ثم رأى فيها غير الذي بالمعتاد فحداه الارتياب بالارتياع إلى الارتياد فاستخبر فأخبر بالحال فشرع في التخلص والاحتيال وكانت الريح راكدة فنادى من متولي هذا البلد فقيل: الملك الأفضل فقال: هاتوا لي خطة واكتبوا في الأمان شرطة فما زال يرد الرسل حتى طابت الريح فأقلع وطار بجناح شراعه وفات إدراك من يخرج لإتباعه ومضى إليها وقد خرج منها القومص وقد لاح منها الفرص فأقام فيها وهو على تحصينها يحرص ولما عبر السلطان لم يسنح عليها ولم يصح إليها وقال: فتح بيت الله المقدس أنعم ونفعه أتم وأعم وهذه صور ربما طال حصارها واستطال أنصارها والأصواب الأصلح الاشتغال بما هو أنجح وأنجح وكان من قضاء الله تعالى بقاء صور فإنها ضمت من الكفر الجمهور وجمعت الحسود والحسور وما فتحنا بلداً إلا وانتقل أهلها بالأمان إليها ونزلوا حواليها ومجاورتها في هذه النوبة أعادت أرماقها وأرخت خناقها وحفر المركيس لها خنادق أحدثها وغور أعماقها وآوى إليها الواصلون من البحر وملأت آفاقها وكانت لما عبرنا بها على ما حكي أمرها سهلاً ولكن ما لمراد الله مرد وليس مما قضاه الله وقدره بد. ذكر فتح عسقلان والنزول عليها والاجتماع بالملك العادل والاتفاق على فتحها قال: كان السلطان على الاجتماع بالملك العادل حريصاً ويرى لمدلولات الآراء بما يشير به وينص عليه تخصيصاً وقد وصل كتابه يستحثه على انتهاز الفرص في فتح بيت المقدس وقصده والاشتغال بما عداه من بعده فإن أوقات الإمكان مغتنمة وأنفاس الأسحار للارتياح باستنشاقها متنسمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قال الفتح بن علي بن محمد الأصبهاني منتخب الكتاب: ر حدثني الأمير ظهير الدين غازي بن الأمير السعيد مبارز الدين سنقر الحلبي في محرم سنة اثنتين وعشرين وستمائة وهو أحد الأمراء السلطانية الملكية المعظمية قال: سمعت الملك العادل بحماة يقول لبعض المؤرخين: ومما شافهت به السلطان صلاح الدين في انتهاز الفرصة في فتح القدس مبالغاً في ذلك أني قلت: إن عادتك أن يأخذك القولنج في بعض الأوقات فلو أخذك الليلة وجرى عليك ما لا بد منه من الوفاة علق رهن بيت المقدس في يد الكفر فاجتهد في ذلك وأقضي حق ما أنعم الله به عليك بواجب الشكر فقال: اعمل ما تأمر به وتشير إليه ولا يخالف ما تحكم به وتنص عليه فما فتح المقدس الشريف وما منح ذلك المجد المنيف إلا بالجد العادلي والجد الناصري قدس الله أرواحهما وسهل إلى الفردوس معدلهما ومراحهما. قال الإمام السعيد عماد الدين: فراح السلطان مغز للغزاة الروح مستفتحاً بما هو حل الفتوح وسار واجتمع بالملك العادل في طريقه وتفاوضاً في شكر ما أنعم الله به من نصره وتأييده وشرعاً بعد ذكر الأشواق وتبريحها في موازنة الآراء وترجيجها وتنقيح أداة الصواب وتلقيحها وقد استخار الله تعالى بالنزول على عسقلان يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة وكان السلطان قد استدعى من دمشق ملك الفرنج ومقدم الداوية المأسورين واستصحبهما محمولين بقيادهما وشرط أنه إذا فتح البلاد بهما أطلقهما فلما نزل على عسقلان راسل الملك أهلها في التسليم فعملوا أنه مستكره فأسقطوا حكمه وعصوا أمره فبسط السلطان عذره وشرع السلطان في مضايقة البلد ونصب عليها من المجانيق كل جاث على الركب جاث للركب جالب معاطن الإبل المعاطن سالب بسكون المساكن وما زال الحجاز ترفض والجدار ينقض والمنجنيقات تضرب وترض حتى خلا السور من حاميه وأمن المقاتلة نكاية مراميه فأقدم النقابون على نقبه ورفعوا عن عروس البلد حجب نقبه وباشروا بالتخريب البواشير ولافح المساعير المساعير ورفعوا عن عروس البلد وقابل المقابيل المدابير فيئسوا من رجاء الانتعاش وتهافتوا على نار الحرب كالفراش فلما أحس الملك بما أحسوا به من الشدايد راسلهم واستحضر منهم عقلاء لا يحملون (235أ) قوله على أنه فرد ولا يردون نصحه بالتهمة وقال: أنتم تعلمون أنني لا أريد الخير إلا لأهل ديني وهذا السلطان في عزمه يريدكم ويرديني فإن سمعتم مني أطعتموني في أمري وأنقذتموني من أسري أما إذا خلصت وخلصت وكنت أعلوا عليكم فكيف رخصت وتكررت بينه وبينهم مراسلات وكانوا يلحون ختى علموا أنهم مغلوبون فقبلوا نصيحة الملك وراسلوا في طلب الأمان بشروط اقترحوها والعفو عن جرائم اجترحوها فإن الأمير حسام الدين ابراهيم الحسين المهراني وهو من أكابر الأمراء استشهد على عسقلان فخاف الفرنج أن تثور عليهم الأكراد لثأره فاشتطوا واشترطوا وسروا إلى ما أجيبوا إليه واعتصموا فسلموا البلد بأنفسهم وأموالهم وخرجوا منها برجالهم ونسائهم وذلك يوم السبت لانسلاخ الشهر وكانت مدة الحصار إلى أن تسلمناها أربعة عشر يوماً أبدر لنا فيها قمر الظفر والانتصار وعاد بها بدرهم إلى المحاق والمرار وما برح السلطان مقيماً بظاهر عسقلان حتى تسلم المعاقل المجاورة لها والبلاد المقاربة منها. أما الداروم فقد حاف من بها فسلمها وكذلك غزة وظهرت بظهورها علينا عزتها وتبدل بالإسلام بعد الكفر ربها والرملة ويبنى ظل بها موقف الضلال يهدم ومربع الهدى يبني وبيت لحم ومشهد الخليل صلوات الله عليه وعليه السلام عاد إلى وطنه منهما الإسلام وأما لد فإنها أخرجت منها خصومها اللد ومعصومها في الشرك إلى التوحيد رد وتسلم كل ما كان للداوية مع غزة كبيت جبريل والنطرون وأخلى منهم تلك الحصون وكان مقدم الداوية معه وشرط أنه إذا تسلم معاقله فك عنه قيوده وسلاسله فما زال معه على الشرط والشرع المضبوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 قال: ووصل الملك العزيز واجتمع بوالده بعد فتح عسقلان وكان وصوله ببأسه وصوله وقوته من الله وحوله وبأسه ومعشره وقومه وعسكره وولاة بلاده ووراة زناده وآلافه وآحاده وعدده وأعداده فحنا قلب السلطان على كبده ووضع يده في يده فأعدتها الجود فمدده اليوم من مدده. ولما انتظم شمل كتايب البر وكرم وصولها وصلت مراكب البحر وقدم أسطولها وهي شواني شواتي للشتاء زواين للغزاة عقبانها منقضة كالبزاة وغربانها ناعبة بين الغداة جاءت كقطع من الليل أو دفع من السيل كأنها في خضراء الخضرم كواكب ولرجوم الشياطين ثواقب، أعلام في شعار الإعلام العباسية سود وأكام تمدها من أكام الأمواج مدود تولاها حسام الدين الحاجب لؤلؤ منظم سموطها ومهد الأحكام لنصر أسبابها وشروطها واستمرت بالسواحل تكبس وتكسب وتغنم وتجلب ففي كل يوم لنا غزوة صحيحة ونوبة شديدة ونابية لذرى الشرك مبيرة مبيدة والحاجب لؤلؤ مجاهد عظايمها وممضي عزايمها كلما ألقت مركباً للعدو تلقته وألفته وأسعدها الله وأشقته وكيف ما أمكن أحرقته أو أغرقته واجتمعت على جمعه وفرقته ووقع حقها على الباطل فأزهقته. ذكر فتح بيت المقدس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قال: ورحل من عسقلان على سمت القدس وقصده واستيصال نبات الشرك وحصده من أرض الله تعالى ونقدس بتطهير الأرض المقدسة بإهلاك الطايفة الطاغية النجسة وتقدمه الرعب إلى قلوب الفرنج فوقعوا في الأمر المرتج المضطرب المرتج وكان بالقدس حينئذ البطرك الأعظم وهو الشاني العظيم الشأن وباليان بن بارزان وهو وملكهم في التسلط سيان والذين أغفلتهم حياطة الحطين من الفرسان الداوية والاسبتارية والبارونية من ذوي الكفر والشنان وقد حشروا وحشدوا وقالوا: السمح عند اللقاء بالمهج ونسيح داما الدماء في اللجج وما الذي أصاب عزنا حتى نهون ونحن نشعل عليهم الحرب الزبون فأخرجوا إليهم حتى نلقاهم وهذه رماحنا بأيدينا فاجانأهم فجعناهم وأوجعناهم وأخذنا بثأر يوم حطين إذا صرنا بمراكزهم بدوايرنا محيطين فقال لبيبهم المجرب فارسهم المتدرب عدواً عن هذا الرأي وما بلغتم في الغي إلى هذا الغاي وأنتم عند مقبرة ربكم تحمونها وتقاتلون دونها والقدس لنا جامع وسورة عن السوء مانع (235 ب) وإذا خرجنا فما ندري على ماذا نحصل وهل نقطع أو نصل ثم شرعوا في السر وأمروا بالأمر وقسموا على الأسوار الأقسام الأسراء ونشروا على كل قطر منه لواء اللواء على كل نيق منجنيقه وحفروا في الخندق حفراً عميقاً وأعادوا بل نهج واسع بما وعروا به مضيقاً وخرج جماعة منهم على سبيل اليزك وأدلجوا ليلاً وجروا للجرأة ذيلاً واعترضوا عدة من أصحابنا غارة وعلى طريق السلامة مارة، وكان قد شد من المقدمة المنصورة أمير تقدم وما تحرم وهو جمال الدين شروين بن حسن الزرزاري فلما علمه أثبت في مستنقع الموت رجله وشد من الدنيا إلى الآخرة رحله وكان في موضع يعرف بالقبيبات فساء السلطان نعيه وسره سعيه وسار ساراً وللجحفل الجرار حاراً ولم يدع لجفنه في يومه ونومه غراراً ووصل السري بالسير ليلاً ونهاراً ونزل على القدس يوم الأحد منتصف رجب وقد قضى من حق الله في طلب بيته ما جب وفي القدس ستون ألف مقاتل من فارس وراجل. وخيم في أول الأمر على غربيه وأقام خمسة أيام يدور على البلد ويقسم على حصاره أهل الجلد وأبصر في شمالها أرضاً رضيها للحصار فانتقل إلى المنزل الشمالي يوم الجمعة العشرين من الشهر متمكناً من القهر ظاهر القوة بالله قوة الظهر فشرع في نصب المجانيق فما أصبح يوم الأحد إلا على منجنيقات نصبت بلا نصب من كل مغتص برد الردا معتصب يشق الجلمود بالجلمود ويدق الصنجود بالصنجود يقضي ختام التأليف ويرضى هام الشراريف ومازالت المجانيق ترمي وترمي وتدمي وتدمي والنزال دايم والقتال قايم وفي قنطاريات الفرنج من الفرج قنوط ولخطيات اليراع بأيدي كتب الكتايب في الظهور خطوط ولشموس اليزك من أفق الترابك بزوغ ولثعلب العواسل في ضلوع الأساد ولوغ وكان فرسانهم في كل يوم يباشرون دون الباشورة أمام جموعهم المحشورة ويتطاعنون بالذوابل ذوات الذوايب المنشورة ويبرزون يبارزون ويحاجزون وينجازون ومطاعيننا المطيعون لله عليهم يحملون وهم كما قال الله تعالى " يجاهدون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون" وممن استشهد مبارزاً ولم يشهد بينه وبين الجنة حاجز الأمير عز الدين عيسى بن مالك كان أبوه صاحب قلعة جعبر. وكان في كل يوم يفرس فوارساً ويلقي ببشر وجهه وجوه المنون العوابس فاغتم المسلمون من صرعه وهان عليهم في تلف مهجته أتلاف المهج وهاجوا وهجموا أكناف الوهج وهجروا الجلد إلى الجلاد وركبوا أصناف الوهج حتى وصلوا إلى الخندق فخربوه وبددوا جمعه وفرقوه والتصقوا بالسور فنقبوه وعلقوه وحشوه وأحرقوه وصدقوا وعد الله في القتال لأعدائه فصدقوه وأرهقت المنجنيقات وأزهقت وسنحت وسحقت فتمكن رعبنا في قلوبهم وأذنت حربنا بكروبهم وعرف الفرنج إنهم مغلوبون وعن النجاة محجوبون فعقدوا بينه مشورة وقالوا ما لنا إلا الإستيمان فقد أخذ منا بخطه الخذلان والحرمان وأخرجوا كبراءهم ليؤخذ لهم الأمان فأبى السلطان إلا قتالهم وتدميرهم واستئصالهم وقال ما آخذ القدس منهم إلا كما أخذوه من المسلمين منذ أحدى وتسعين سنة فإنهم استباحوا القتل ولم يتركوا طرفاً يستزير وأمعنوا في رجالهم قتلاً ونسائهم سبياً فقال باليان بن بارزان في الحضور مستأذناً مستأمناً وباح بما بان في فكر الكفر من الشر كامناً وقال السلطان: قد رجوناك فلا تخيبنا ووصلنا فلا تصدنا وجئنا فلا تردنا ومتى استوحشنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وايسنا أسقلنا الهلاك واستقتلنا وما نخرج من منزل حتى نخربه ولا نظفر بدم محقون حتى نسربه فالديار نخربها والدماء نحرقها وقبة الصخرة نرميها وعن السلوان نعميها والمصانع نخسفها والمطالع نكسفها وعندنا من المسلمين خمسة آلاف أسير مابين غني وفقير وكبير وصغير فنبدأ بقتلهم وشت شملهم فقيل للسلطان هؤلاء إن أخرجوا لجواً وأسلفوا الأهوال وأتلفوا الأموال وسفكوا الدماء وقتلوا الإسراء والصواب أن نحسبهم اسارنا فنبيعهم نفوسهم وندخل في القطيعة رئيسهم ومرئوسهم فأذن بعد لأي فيما رآه المسلمون من رأي فما زالوا يتوصلون ويترددون ويتلددون حتى استقر أمرهم على قطيعة اشتروا بها المهج ونفوا دونها عنهم الحرج (236 أ) وهي عن كل رجل عشرة دنانير وعن كل امرأة خمسة وعن كل نسمة صغيرة أو صغير ديناران الذكر والأنثى فيه سيان فمن وفى بالحق خلص من الرق ومن عجز بعد أربعين يوماً ضرب الرق عليه ونهج به منهج العبيد والإماء وبذل باليان بن بارزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار وانفصل بما التزمه من قطيعة وقرار وسلموا المدينة في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب أوان وجوب صلاتها وطلعت الرايات الناصرية على شرفاتها وأغلقت أبوابها بعد تسلمها لحفظ ناسها في طلب القطيعة والتماسها وضاق وقت الفريضة وتعذر أدائها وللجمعة مقدمات وشروط ولم يكن استيفاؤها وكان الأقصى بلا محرابه مشغولاً بالخنازير والخنا مملوءاً بما أحدثوا من النسى مغموراً بالنجاسات حتى حرم علينا في تطهيره منا ألوفاً فوقع الاشتغال بالأهم الأنفع وهو حفظهم وضبطهم إلى أن يؤخذ قسطهم فرتب السلطان على كل باب أميراً أميناً فلو أديت الأمانة لملأت الخزانة لكنها اختلفت عليها الأيدي وتعدت إلى التعدي وكثرت الأقلام الضابطة فقل الضبط وتزاحم الرابطون فانحل الربط والنواب الأكابر استنابوا أضاعراً أقاموا في تقصيرهم المعاذر وقنوا لأنفسهم الذخائر وادعى مظفر كوكبوري أن بها جماعة من أرمن الرها وعددهم ألف نسمة فجعل إليه أمرها وكذلك صاحب البيرة ادعى العدة الكثيرة وكذلك كل من استوهب عدة أطلقها وحصل له مرفقها ثم تولى الملك العادل استخراجهم وقوم على الأداء منهاجهم وسهل بأوفى نصيب ورعى منه في مرعى خصيب. وكانت بالقدس ملكة رومية متعبدة مترهبة في دين التثليث موحدة وعندها حول وخدم وعبيد وجوار ووصايف ونواب وأمناء وأصحاب وظائف فلما دهتها الداهية وعراها في تمسكها بكنيستها عراها الواهية عاذت السلطان فأعاذها وأبقى عليها من المصوغات من صلباتها الذهبية المجوهرة جذاذها فخرجت بجميع مالها وحالها ونسائها ورجالها وأسقاطها وأعدالها والصناديق بأقفالها والتفاريق بأحمالها وتبعها من لم يكن من أتباعها وشيعت بشفاعتها من ليس من أشياعها وسارت الملكة الرومية لمرامها مالكة ولمسالك ممالكها سالكة. وكذلك خرجت الملكة زوجة الملك كي ابنة الملك أماري وهي بأبيها بتر وبزوجها بتارى وعزمت على أنها تداوي مرض حالها وتداري وتسأل في شيعتها وعيشتها ورزقها ومعيشتها وحاشيتها وغاشيتها فوهب لها جميع ما سألته وعجل لها نجح ما أملته وكان الملك زوجها مقيماً في برج نابلس من قيده مطلقاً ومن رقه معتقاً لكنه موكل به ليوم تسريحه وقد غلب إلى زوجته لاعج تباريحه فأذن لها في قصده فسرت وسارت بخدمها وجواريها وحليها وحللها وبسطها وفرشها وأحمالها وأوساقها وجواهرها وأعلاقها وأقامت عند زوجاً وبلت بغرته غلة أشواقها. وكذلك خرجت الأبرنساسة أم هنفري وهي زوجة الأبرنس الذي سفك يوم حطين دمه وفاء بالنذر وهي صاحبة الكرك وهي بنوابها محوطة وبرأيها منوطة فجاءت سايلة في ولدها العاني فوعدت بالجميل وشفاء مالها من الغليل وأنها إن سمحت بحصنها سمح لها بابنها ثم سلك لها في الأعفاء والإطلاق سبيل الباقيات وعصمت في نفسها ومالها وأصحابها بالراعيات الوافيات. ذكر وصولي إلى خدمة السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قال: سبق ذكر ما ألم بي من السقم وانقطاعي إلى دمشق للتداوي فلما سفر وجه صحتي توجهت وللعود إلى الخدمة تنبهت فوصلت إلى السلطان يوم السبت ثاني يوم الفتح فاستبشر بقدومي وخلع على البشير قبل أوبتي، وكان أصحابه يطالبونه بكتب البشائر ليغربوا ويشرقوا ويسيروا في البلاد ويتفرقوا ويقول لهم: لهذه القوس ثأر ولهذه المأدبة نار ولهذا الوادي من سبيل الخاطر الفلاني سيا جار ولعله يفد ولا رواينا يرد ثم اجتمع كتابه في غيبتي وعملوا بالبشارة نسخة منها ينسخ أصلها ويفرع ويفرخ وهم بها مشتغلون وبنارها مشتعلون حتى أقبلت وجاءهم الربح وركدت الريح (236ب) وفاح العرار ورمي لاشيح وقالوا: مرحباً بمن صبحنا وجهه الصبيح ولقيني السلطان بكل عرف بهيج وعرف أريج وتقريظ وإطراء وتقريب وأدناء وأنه من كرامة الفتح اتفاق وصولك وإقبال قبولك وقدومك في هذا اليوم وسموك بهذا السوم وهذا ميدانك فأين جوادك وأين أقلامك فهي أقاليد الأقاليم وإذا أعوجت فهي للتقويم واستردا الكتب التي تخيروها واستثقل البطاقات التي طيروها فأجريت ضامري في المضمار وانهيت قمري إلى الأبدار وبريت بقلمي للإيراد والإصدار وكتبت في ذلك اليوم سبعين كتاب بشارة وكل كتاب بمعنى بديع وعبارة ثم أردفتها في تلك الليلة بكتب نابت في سمائها عن شهب استوعبت في كل كتاب الشروح واستفتحت بتعظيم وعظمت الفتوح. ذكر جلوس السلطان يوم الفتح للهنا بالمخيم على ظاهر القدس وخطبة الجمعة قال: وجلس السلطان يوم الفتح ونص النصر ظاهر ووجه العز سافر والأمراء والعظماء قيام وجلوس وفي المطالع بدور وشموس وللموائح أنفاس وللمنائح نفوس وهو في كيكته وجلالته كاقمر في هالته والدنيا حالية بحالته والدين مدلول دلالته وأعين الأمثال منتظرة لمراسمه وألسن الإقبال مثنية على مواسمه وقلوب القبول ممتلية تمتار وأيدي الآمال متملية بنبله والجمع حافل والخطب عال ولبضائع الفضل أرباع ولصنائع الأفضال أفراح ولأجسام المكرمات أرواح فلم يتقوض المجلس إلا عن مجد مشيد وحمد عتيد وجد سعيد وسعد جديد ولما كان يوم الجمعة التالية لجمعة الفتح تقدم السلطان ببسط العراص وإخلائها لأهل الخلاص وتنظيفها من الأدناس وكنس ما في أرجائها من الأرجاس وكان قد سبق أمره من مبدأ الأمر بهدم ما هناك من أبنية الكفر فقد كان الداوية بنوا غربية داراً وأدخلوه فيها وخلطوه بمبانيها واتخذوا منه جانباً مستراحاً للأعلال وجانباً هرياً للأغلال فأمر في العاجل بكشف قناعه ورفع الوضيع من أوضاعه حتى ظهر موضع المنبر والمحراب واستظهروا بإقامة أقدامه من الحجاب واجتمع الخلق في ذلك الأسبوع على تفريق ذلك الهدم المجموع وتعاونوا حتى كشفوه ونظفوه ورشوه وفرشوه. وكان قد أمر بإتخاذ منبر في تلك الأيام فنجروه وركبوه ولما أصبحنا يوم الجمعة وجدنا العلل مزاحة والهمم مراحة وهناك فضلاء بلغاء وعلماء أتقياء وكل منهم قد سبق لخطبته الخطبة وأمل الفوز بفضيلة تلك الرتبة وأعد لذلك المقام مقالاً ونشط بشقشقة فصاحته من قرم حصافته عقالاً حتى إذا جعل الداعي وتعين الفرض على الساعي حضر السلطان للصلاة في قبة الصخرة وامتلأت تلك العراض والسكون واستعبرت للفرح بما يسيره الله العيون فعين السلطان القاضي محي الدين أبا المعالي محمد بن علي القرش بن الزكي للخطبة فصعد فسعد وحمد وأحمد وأبلغت بلاغته وأوردت زناد القلوب صياغته وأدت المعاني ألفاظه وأنبه الأقاصي والأداني أيقاظه فاهتزت لمقامه أكناف المنبر واهتزت لكلامه أعطاف المعشر ودعاً لأمير المؤمنين ثم لسلطان المسلمين ونزل وقام في المحراب أمامها أكمل بصلاته الفرض وأرضى بسمت دعواته والطمأنينة في ركعاته وسجداته السماء والأرض. وسر السلطان بنصبه ورفعه وامتلأ صدره حبوراً منه لجلاء بصره وسمعه فقد أخذت أشعة أنوار الخطبة في سواد الأهبة وعظمت أخطار المهابة في خواطر اللجة. ثم رتب السلطان بعده خطيباً يستمر إقامته الجمع والجماعات ويستقر ملازمته لأداء الصلوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وكان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في عهده عرف بنور فراسته فتح البيت المقدس من بعده فأمر في حلب باتخاذ منبر للقدس. تعب النجارون والصناع والمهندسون فيه سنين وأبدعوا في تركيبه الأحكام والتزيين وبقي ذلك المنبر بجامع حلب منصوباً سيفاً في صوان الحفظ مقروباً حتى أمر السلطان في هذا الوقت بالوفاء بالنذر النوري ونقل المنبر إلى موضعه القدسي فعرف بذلك كرامات نور الدين التي أشرف سناها بعده بسنين وكان من المحسنين الذين قال الله فيهم " والله يحب المحسنين " ثم أمر السلطان بترخيم المحراب (237أ) وتعظيمه وتخصيصه في عمارته بأعم أسباب تكريمه فجاء على ما تشاهده الآن العيون ويتفرع من حسنه وإحسانه الفتون. قال: ولما قضيت الصلاة تلك الجمعة نصب سرير الوعظ. وتقدم السلطان إلى الفقيه ابن نجا الواعظ لشرع السرير وينفع بعظاته الصغير والكبير وحضر المجلس بمرأى منه وسمع وكان أنور مجلس وأجلى وأشرف جمع ومجمع فحقق ورفق وأشهد وأشهق وذكر الفتح وبكارته والقدس وطهارته وما أعه الله لهذه الطائفة من الطارفة الطارقة وما أنزله من الأمن على القلوب الخائفة ووصف ببلاغته ما لا يبلغ إليه الألسن الواصفة وكان يوماً راجحاً وصوماً رابحاً. وأما الصخرة المقدسة فإن الفرنج كانوا بنوا عليها كنيسة وأعادوا رسومها القديمة دريسة وستروها بالأبنية وكسوها صوراً هي أشنع من التعرية وملؤوها بتصانيف التصاوير ونبتوها في ترخيمها أشباه الخنازير فتقدم السلطان بكشف قناعها ورفع أوضاعها ومحو صورها ورخص وضرها فحببت بالقبل وفديت بالمقل وغسلت بالأدمع واشتعلت بنار الأضلع ولما ظهرت الصخرة وجدناها قد أبقت بها النوائب حزوزاً فإن الفرنج كانوا نقلوا إلى بلادهم منها قطعاً وأبدعوا فيها بدعاً حتى قيل أنها بيعت بوزنها ذهباً وأفضى الأمر بها إلى أن يكون حجرها منتهياً فغطاها بعض ملوكهم إشفاقاً عليها لئلا تمتد يد ضيم إليها فأبقت جزورها في القلوب حزازات وما حديث جلاتها في الآفاق بروايات وإجازات. وتولاها بعد ذلك الفقيه ضياء الدين عيسى فضلها بشبابيك من حديد وثبت أركانها بكل تشديد وأقام السلطان بها أماماً أحسن التلاوة وحافظاً للقرآن وحمل إليها وإلى المسجد الأقصى ربعات ومصاحف ورتب بها للقراءة أوراده وظايف فافتتح فيها بالختمات وختمت بالدعوات ودعيت بالصالحات والحمد لله الذي شد ظهر الإرشاد إلى صخرته وملأ قلوب الأولياء بمسرة الدين ونصرته أسرته. ذكر ما شرع فيه الفرنج من أداء القطيعة قال: وشرع الفرنج في إخلاء البيوت وبيع ما ذخروه من الأثاث والقوت وأمهلوا حتى باعوا بأرخص الأثمان وكان خروجها بالمجان ولا سيما ما تعذر لثقله نقله وصعب حمله وكان كما قال الله "كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قواماً آخرين " فباعوا ما تهيأ على البيع إخراجه وغلبوا على ما في الدروس الماعون والمذخور، وكانت كنيسة قمامة وهي كنيستهم العظمى مبسوطة بالبسط الرقاع مكسورة بالستور من النسيج والحرير الممزوج من ساير الانواع والذين يذكرون أنه قبر عيسى عليه السلام محلى بصفائح الفضة العين ومصوغات الذهب واللجين مصفح بالنضار مثقل من نفايس الحلي بالأوتار فأعاده البطرك منها عاطلاً وتركه طللاً ماثلاً فقلت للسلطان هؤلاء إنما أخذوا الأمان على أموالهم فما بال هذا المال وهو بالوف يحملونه في أثقالهم فقال هم يعرفون هذا التأويل ويقولون لم يحفظوا العهد ولم يلحظوا العقد ونحن نجيبهم على ظاهر الامان ونغريهم بذكر محاسن الإيمان وكانت المهلة أنه من عجز بعد أربعين يوماً عن أداء ما عليه من القطيعة ضرب عليه الرق فتولاهم النواب بعد خروجنا من القدس وبقي منهم من ضرب عليهم الرق خمسة عشر ألفاً في الحبس ففرقهم السلطان وتناهيت بهم الممالك وحصلت لي منها سبايا نسوان وصبيان وذلك بعد أن وفي بارزان بالضمان وأدى ثلاثين ألف دينار واخرج من ذكر أنه فقير بحسب الإمكان وكانوا تقدير ثمانية عشر ألفاً واعتقد أنه لم يبق فقير وبقي على أداءه على ما ذكرناه كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وأما النصارى الساكنون بالقدس فإنهم بذلوا مع القطيعة الجزية ليسكنوا ولا يزعجوا ويؤمنوا ولا يخرجوا وأقروا بوساطة الفقيه عيسى واقر السلطان من قسوس النصارى أربعة قوام لقمامة وأعفاهم ولم يكلفهم الغرامة وأقام في مدينة القدس وأعمالها منهم وكانت برسم الفرنج ومقدميهم مجاورة الصخرة وعند باب الرحمة مقبرة وقباب معمرة وأجداث واحداث تعفينا آثارها ورخصنا أوصارها (237 ب) وقلعنا صفايحها المخرمة وأعمدتها المرخمة وسوينا بها الأرض وسلطنا عليها النقض وأشير على السلطان بتخريب كنيسة قمامة فلم يترجح في رأيه تخريبها ولا توضح عنده تصويبها. وقام السلطان بظاهر القدس حتى حقق الآمال وفرق الأموال وقسم الأنفال وعصى في طاعة الله بإفناء تلك النفايس العزال فقد كان أخوه الملك العادل وجماعته يرون وهو من الرأي الصواب إبقاءها للذخائر وإعدادها لما يدور من الدواير وكان ذلك أولى في شرع الحزم لكنه جرى من فرط سماحته على الرسم وسمعت الملك العادل يوماًَ في أثناء حديثه في ناديه وهو يجري ذكر إفراطه في بث أياديه أنني توليت باستيفاء قطيعة القدس فانفذت له ليلة سبعين ألف دينار وقلت قد حصل منه على استظهار فجاءني خازنه بكرة وقال: نزيد اليوم ما نخرجه على إنفاق مما عندنا فما كان بالأمس باق فنفذت ثلاثين ألف دينار أخرى في الحال ففرقها على رجال الرجا بيد النوال ونفد إلى الملوك الذين كانت عساكرهم في الفتوح حاضرة هدايا وتحفاً والطاف جازية. ذكر الرحيل عن القدس على عزم الحصار صور وهو يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قال: كانت صيدا وبيروت مع الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وهما لمجاورة صور معرضتان للخطوب وقد وصلت كتبه محرضة على حصار صور خاصة وعلى بنان التندم لخوف فوات الفرص خاصة وإنها بالمرابطة فيها والصابرة عليها تملك وفي كل يوم فرصة إذا فاتت لا تستدرك وإلى متى البث وحتام المكث ولم يبق في النفس إلا حاجة صور فانهضوا إليها عسكر المنصور فقد أينع في القلوب غرس ضمها وما بقي في كنانه الكفر غير سهمها ولا بد من العزم الجزم في خوض هذا الخضم وكف الملم وكفاية المهم فرحل السلطان عن القدس بالبوارق الملتمعة والفيالق المجتمعة والأفلاك بكواكبها والأملاك بمواكبها وكان الملك الأفضل قد رحل قبله بأيام ليحكم ما بعكا التي يتولاها من أسباب وأحكام ثم تبعه الملك المظفر تقي الدين ثم رحل السلطان في اليوم المذكور وودع ولده الملك العزيز وسار معه منزلة وأعاد إلى مصر عزيزها وجدد بمحاسنه تطريزها وذلك آخر العهد بلقاءه وإن مد الله سبع سنين بعد الفتح في حياة السلطان وبقاءه ثم استصحب معه الملك العادل واستظهر بصحبته ووصلنا إلى عكا يوم الخميس مستهل رمضان وبصور من خبر مصيرنا ما أقعد الكفر وأقامه وكان المركيز قد حفر الخندق للبلد من البحر إلى البحر قدامه ووثق سورة وأسعر عليه مساعيره وبنى بواشيره وأحكم " في التعمير تدبيره " واستكثر إلى جموعه العدد كثر من جنوده العدد ورحلنا إلى صور بقوايم قوية وصوارم ظامية روية ووصلنا إليها يوم الجمعة تاسع الشهر وخيمنا بإزاء السور بعيداً منه على النهر وأقمنا ثلاثة عشر يوماً حتى تلاحقت الأمداد وتكاتفت العدد وتكاثرت الأعداد وهيأنا آلات الحصار وتنكبنا عنها عن نهج الاقتصاد والاقتصار وحول السلطان مضاربه إلى تل قريب من السور مشرف منه على الجمهور " وكان تحوله إليها يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر وأقام مقامه المصابر الصبور" وحجز على السفهاء العدى بالحجازات وضايقهم بالأبراج والمنجنيقات والعرادات والدبابات وقد تكفل كل واحد من الملوك بجانب يكفيه فالملك العادل سيف الدين بدر في جانبه وتحرف الأقران بمضاء مضاربه، وتقي الدين في جانب آخر نازل منازل مقابل، والملك الأفضل خيمته من وراء السلطان قريبة وعزمته لدعاء الصباح مجيبه الأمراء والكبراء وعساكر ملوك الأطراف والحاضرون في الخدمة لا يحصون ولا يحصرون ونحن نرجو من الله أنهم على أعداء الله ينصرون. وفي هذه الأيام وصل الملك الظاهر غياث الدين غازي غازياً وللدين بقيامه وافياً واستظهر السلطان بالظاهر ابنه وركن إلى شدته لشدة ركنه وأنزله بقربه ورتب رجاله في أماكنها وأبطاله في مكامنها وعين لها مواقفها في مياسرها وميامنها وتعاضد أولياء الله على قتال أعدائه وانتظروا نزول نصره من سمائه وكانوا يقاتلون (سماء) صباح مساء وفي كل يوم بل في كل ساعة بأس شديد وقتال جديد ونوال مبيد (238 أ) وأما المنجنيقات فإنما شقت حجاب السور بشورة الأحجار وهتكت ما نضدته للستاتر من الستار الأبراج فانقضت على الكفر من النضال نجومها وقذفت الشياطين من القوارير رجومها واستدعى السلطان السطول المصري وكان بعكا فجاءت منه شوان عشر لها على القتال ضم ونشر جبالها "تمر مر السحاب" وهضابها تجرى في الأمواج على الهضاب. وكانت للفرنج في البحر مراكب خفاف وحراريق لها بحريق النصال قذاف وفيها رماه الجروخ والزنبوركات والنكابات بالناوكات فهي تجرى بقرب الساحل موتره للمنايا موثرة للمنايا يرمون من دنا من البحر ويدمونه ويصممون على ماقاتلهم فلما جاء أسطولنا استطال عليها وأبعدها من صور وحواليها فأجترأنا على الدنو من البحر والهجوم عليهم فيه بالقهر، وأحطنا بهم وقاتلناهم براً وبحراً وصدعنا أكبادهم رعباً وذعراً وكاد الفتح لنا يتم والحتف فيهم يهم ونحن نحرص ونحرس ونقتص ونفرس فبينا نحن في أهنأ ظفر وأصفى ورد وصدر إذا أصبنا ليلة وفجعنا بقطع مدده الموصول وذلك ان رئيسه عبد السلام المغربي ومتوليه بدران الفارسي ومقدميه ورجاله ألفوا على الاستقامة أحواله واغتروا بالأقدار ونعسوا ولم يحترسوا عن نوايب الأسحار وذلك أن خمس شوان منها كانت بإزاء البلد في بعض الليالي مرساة بإرصاد العيون على الكفر معراة فنامت بإزاء ميناء صور وقد نسى المقدور وجرت إلى السحر ومالت إلى راحة العين من تعب السهر فما شعروا إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 بمراكب العدو مالكة وبرجالها فاتكة فدخلوا بها إلى الميناء " وملك الفرنج خمسة من شواني المسلمين وأسروا مقدميها ورئيسهم عبد السلام المغربي ومتوليه بدران الفارسي وأمراءه " وبدر أمراؤها المقدمون وتواقع إلى الماء رجالهم الباقون فمنهم من نجا وخلص تحت ستر الدجى ومنهم من قنط من خلاصه المرتجى فأصبحنا وقد وجمنا من تلك الليلة وبغتتنا نبوة تلك النوبة ثم قلنا هذه المراكب التي سلمت لا انتفاع بعدتها القليلة ولا حاجة إلى بقاء الباقيات الصالحات عندنا وإن الله سينصر بدونها في حماية الدين جندنا فجرنا لنسير إلى بيروت وننجو من المعرة ونفوت فلما أقذف بها ملاحوها بصرت بمراكب الفرنج وراءها فخافت اعتراكها واجتراءها فتواقعت إلى الماء خارجة على الوجوه مشفقة من المكروه وكانت مجمعة بجريد وبجفوة مصرية ونجا منها شيني رئيس جبيل كأنها الجبل وانحدر على البحر كأنه سيل وكانت رجاله منتخبين بالبأس والبسالة منتخبين وأما الشواني التي تخلوا عنها فأنا رفعناها إلى الأرض وبسطنا فيها أيدي النقص وعدنا إلى ما كنا عليه من قتال البر وأطعمت الفرنج شئون تلك الشواني فقالت ما هذا أوان التواني فاستعدت يوماً وقت العصر وخرجت عن الحصر وأقدموا مدججين في بحر اللجاج ماججين يجرون من أبدان السوابغ ذيولها ويجرون من أمواه السيوف القواطع سيولها فما ترى إلا فل الحديد بالحديد وشل العديد بالعديد وهز الصوارم وحز الغلاصم وحطم الموازن وبث المكنون ونقل الكناين ومازالت الرؤوس كالزروع تحصد والعوالي في الضلوع تقصد والقنا في السابري تندق والكلى باليسرى تنشق حتى انفل الحديد وتكسر وانحل السديد وتيسر وكانت الدايرة على الكفرة فانفجرت على نصالها عيون الفجرة وانتكصوا مغلولين مأخوذين وأسر فيمن أسر منهم مقدم كبير قدم سلبه بأموال وعد لحماسته ولبسالته برجال ما سلم نفسه حتى سلمت دونه نفوس وما غل عنقه حتى طارت دون وقوعه رؤوس وتباشر الناس وقالوا أسر المركيس وحصل في القبض إبليس وكل من يتألمه يشبهه بالمركيس ويمثله. وكان الليل قد جن والسيل قد أرجحن فسلمه السلطان إلى الملك الظاهر ليحفظه ويعين الحراسة يلحظه فقدم المقدم وضرب بيده عنقه ولما أقمنا صروحاً تبين أن المركيس في الحياة مهله إبليس وعادت بالحروب في كل يوم يحدد فيها المنون وتدور برحاها الحرب الزبون تجد ويجدون وتشتد ويشتدون ولو أقمنا لرجونا من عون (238ب) الله تعالى أن ينصرنا وقلنا قد آن للصبح أن يسفر وللنجح أن يظهر لكن مراد الله أمضى وقدره أغلب وأقضى. ذكر الرحيل عن صور وبيان السبب فيه وذلك في آخر شوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قال: كان أصحابنا قد ألغوا من مفتتح الفتح الحصول من غير تعب على هني الربح فما التقطوا إلا درةً ثمينةً ولا اشترطوا إلا لقمة سمينة فلما حصروا صور وأبصروا الأمور وشاهدوا الشهادة واحتاجوا إلى هجر المعيشة الرحبة المألوفة وأنفقوا الأموال في جلب القوت والعلوفة مشي رجالنا ومالت إلى الزوال أموالنا وفيها جماعة كرهوا الرحيل وقالوا: قد أوهنا العدو ورزقنا الله عليه الغلبة والعلو وقد فرق علينا السلطان من الأموال آلافاً مؤلف5ة حتى استتبت الأسباب فإذا رحلنا أحبطنا الأعمال وأذهبنا غبنا تلك وقد قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " وإذا امتثلتم هذه الأوامر فإنكم بوعده الصادق تفلحون وتفتحون ومن الناس من هو ساكن ساكت حتى يبصر ما يكون من حكم القدر ويقضي الله أما بالرحيل وأما بالفتح والظفر فجاء الألوف إلى السلطان وقالوا: قد بان تعذر الإمكان وقد أشرفنا على كانون وكل ومل المؤمنون وما ينقضي يوم إلا ويقضي أو يجرح فيه قوم وهؤلاء رجالك فلا تفرط فيهم ولا تحملهم على ما يرديهم وبين أيدينا بلاد أهون من صور فأرح لفتحها عسكرك المنصور فقال السلطان: قد أنهينا في بحر الاجتهاد العوم فكيف يطرق بالرحيل إلينا اللوم وما عذرنا إذا فرجنا عن عداته وخرجنا عن مواقيت عداته وبالصبر ينال الظفر وبتوفيق الله لإتباع أمره يوافق القدر وهذه صور إن بقيت أتعبت وإن نفس كربها أكربت ولم يبق بهذا الساحل مدينة للسوء سواها وما نخاف اجتماع مدد الفرنج إلى الساحل لولاها فإذا فتحنا رتاجها فتحنا كل رتاج وأوضحنا كل منهاج والحصون والمعاقل الباقية في يد الكفر مجاورة لبلادنا في البر وما أهون فتحها إذا يئس رجالها من إمداد البحر وإذا تركنا هذه الجمرة في رمادها وهذه الشعلة المتوارية في زنارها أعصفت بها نكب الرياح وعنت بوريقها الذي للإقتداح فانتشر حريقها واتسعت للطورق طريقها وقد قرب من نار شره الخمود وتعذرت من سوره الحدود وإذا مضينا وتفرقنا فمتى نجتمع ونعود وقد أمكننا الغربة وأنتم الاسود وقد لاحت الفرصة وقد حميت الحمية فماذا الخمود فتأبوا إلى ما رآه وأتوا على رضاه فأقمنا بعد ذلك أياماً نوفي الباصرة حقها والمرابطة صدقها والسلطان يفرق على الرجال الأموال ويحبب إلى أولياء الله في سبيله القتال في انفس المتضجرين بالمقام ما فيها وكم ثبتت متجلدة على ما ينافيها فتمكنت الفترات في عزماتها وتطرقت السكنات إلى حركاتها وصارت تخل بنوب المنجنيق وتدعى سانحات اسباب التعويق ويقول الأمير: رجالي يجرحون فكيف يعدون للنوبة أو يروحون وبقيت المنجنيقات واقفة لا فادح لزنادها بحجارة ولا قابل لسومها بيع ولا إجارة وقد استوفيت شرح ذلك في كتاب الفتح القدسي واديت العنى باللفظ القسي فعزم السلطان على الرحيل وأمر بنقض الابراج والمنجنيقات ونقل الأثقال والآلات فحمل بعضها إلى صيدا وبيروت في البحر والبر وأحرق بعضها لئلا يحصل بها نفع للكفر وانتقل السلطان إلى المنزلة الأولى وشرع جمع العسكر في الإفتراق كأنهم قد أطلقوا عن الوثاق ورحل الملك المظفر تقي الدين وسار إلى دمشق على طريق هونين واستصحب معه عساكر الشرق وجموع الجزيرة والموصل وسنجار وديار بكر وماردين ثم استقل السلطان راجلاً وسلكناً بالخيل في خدمته ورأى الباقين فوق الجبل في ثلاث مراحل حتى انخنا بظاهر عكا عند التل وخيم السلطان (239 أ) هناك وأقر الفضل وأرف الظل وعين يوم رحيله أمراء يقيمون على صدر إلى أن يعرفوا عبور النقل فإن طريق الناقورة في الجبل المطل على البحر ضيقة المسلك لا نعبر بها إلا جمل جمل فعبرت بها الأثقال والأحمال في أسبوع وسار الملك العادل إلى مصر والملك الظاهر إلى حلب واستأذن أيضاً بدر الدين دلدرم الياروقي في المسير وصار هاولا في الجم الغفير والجمع الكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وفي هذا التاريخ استشهد سيف الدين أخو عز الدين جاولي في عفربلا كبسته فرنج حصن كوكب آخر ليلة من شوال وكان محمود السيرة منتبه الغريرة طاهر الذيل من الدرن ظاهر الميل إلى الأثر الحسن وكان قد تخلف من الحصون التي لم تملك حصناً كوكب وصفد وإنما طال أمد فتحهما لأن في كوكب جمهرة الإستبار وفي صفد جمهرة الداوية فرأى السلطان الحاجة في فتحهما إلى المطاولة والمحاجة من غريمهما بالمماطلة فوكل بهما أميرين أمينين فأصلت على أشقياء صفد سيف الدين اللصتي مسعود ورأى أن يوكل بكوكب غير محمود وكلاهما استشهد وحكم مراد الله غير مردود فأما محمود فإنه أقام في حصن عفر بلا وهو قريب من حصن كوكب ونغص على المقيمين فيه المطعم والمشرب وضيق عليهم حتى ضاق خناقهم وحاق إرهاقهم وآن أن ينصال أرماقهم فدخل الشتاء واعتل الهواء واغتر محمود بجمود القوم وخمودهم وترك النوم واشتغل بعادته في حصنه ولما كان آخر ليلة من شوال وهي ليلة راعدة بارقة خلا محمود خلاله المحمودة وسهر وحرض إلى السحر وهو في غرة في غار الغير وأخل أصحابه الاحتراس ومالوا ((فغلبهم النعاس)) فما استيقظوا إلا وفرنج كوكب عليهم باركة وللبنة حياتهم هاتكة فمازالوا يدافعون عن أنفسهم حتى استشهدوا ونقل الفرنج إلى كوكب ما وجدوا من عدة ومتاع وسلاح وكراع. ووافق نعيه رحيل السلطان من صور فتقدم إلى صارم الدين قايماز النجمى أن يرابط كوكب في خمسمائة فارس ولم يزل عليها منيخا حتى تسلمنا الموضع في أواخر سنة أربع على ما سيأتي ذكره. وفي هذه السنة كان فتح حصن هونين أيام مقامنا على حصار صور وذلك أنه لما فتحت تبنين امتنعت هونين فوكل بها من الأمراء من رابطها وصابرها ولم يزل مقاتلا لها حتى راسلوا في طلب الأمان وتسليم المكان وجاء الخبر إلى السلطان فأمر الأمير بدر الدين دلدروم الياروقي في التوجه إلى هناك وخرج الفرنج منها آمنين والحمد لله رب العالمين. ذكر دخول السلطان إلى عكا قال: وأقام السلطان بظاهر عكا في سرادقه ناظرا في غاية حقوق الدين وحماية حقايقه واتفقت في تلك الليالي رياح مختلفة وعواصف مرجفة وكان الملك الأفضل في برج الداوية مقيما فسكن السلطان بالقلعة في محل الرفه والرفعة واستقر بها إلى أن دخلت السنة الأخرى ورتب الأمير عز الدين جرديك واليا وأعاد به عاطل الولاية حاليا وإنما عول عليه لنزاهته ونباهته فسدد المختل وشفى المعتل وأقام السياسة وأدام الحراسة ووقف دار الإسبتارية نصفين نصفاً على المتصوفة ونصفاً على المتفقهة وأهل المعرفة من الطائفتين ووقف دار الأسقف إلى جمال الدين بن أبي النجيب المتولي بها أمور الشريعة وأدت الحال بتفريق رياضها الوسيعة. ذكر حسن خلق السلطان قال: كان أيام حصار صور قد فرق أمولاًُ كثيرة على الولاة في البلاد لجمع الرجال فلما قضى الله بالارتحال ذكر بتلك الأموال فأضرب عن ذكرها ولم يخرج أمره في أمرها وكان والي أعمال عكا حينئذ شمس الدين علي بكريسان وقد سير إليه ألف دينار قبل الرحيل من صور بأيام فلما حم الرحيل كوتب برد المال فقلت للسلطان: أنه من الكماة الكفاه فأنعم عليه بما عنده فلم يعد لذكره بعده واحتسب تلك الأموال للآخرة ذخراً ولم ير لما جبره من كنز إنفاق كسرا. (239 ب) ذكر الرسل الواردين في هذا التاريخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قال: فأول رسول وصل وسؤله حصل رسول الديوان النبوي منزل الرسالة ومحل الجلالة وهو أخي تاج الدين أبو بكر حامد بن محمد بن حامد وكان وصوله ونحن على صور فحين وردت البشرى بقربه أمر بعض الأمراء بتلقيه ويحميه في المنزلة التي يبيت بها ويقيه ولما بكر أمر الأمراء بالتبكير لاستقباله والتوقير لجلاله وتلقاه الملوك الحاضرون الملك العادل والأفضل والظاهر وعقدت بمحاسن ذلك المقدم المشهود المحاضر ثم ركب السلطان آخراً وتلقاه وقام بحق الخدمة الأمامية ووفاه واستصحبه معه إلى موقف القتال ومقام مناصب الأبراج ومراكب الأمواج ثم أنزله بقربه وحباه بحبه ثم عبر يوماُ لحضوره وأدى الرسالة النبوية بحقها وأبدى الجلالة المنيفة في أنفتها. وكانت معه تذكرة مشتملة على العتب والتقريع فيما مر به الأعداء من السعي الوضيع والوشي الشنيع فقابل العتاب بالأعتاب ورد الخطأ إلى لصواب وبين أن الحسود اخترع الزور وشهد أنواره رام أن يستر بظلامه الفلق ومضى أخي إلى القدس وزاره وشهد أنواره وأقام إلى آخر السنة ومنزلته موقرة معظمة ثم كتبت على يده ما استقام به على جدده. وكان من جملة الواصلين الفقيه كمال الدين الشاشي قاضي أرز الروم فأسهمه السلطان خصوص أنعامه والعموم واتفق وصولنا أو إن رحيلنا من حصار صور وسار معنا إلى عكا ولقيته وقد أنجز أمره وهو يشكي وسألته عن شكواه فذكر لي اقتراحاً يسيراً وشكى تقصيراً فقلت حقك يقضي وتلوت " ولسوف يعطيك ربك فترضى " ثم استأذنت له تلك الليلة على السلطان وأحضرته ووفيته حق تبجيله وقربته وقلت: لعل مولانا ما عرف أنه فقيه عن النظراء ومتميز وفي المناظرة مبرز فهل يؤذن في حل مشكلة والكلام في مسألة فبش لذلك القول وهش بالطول فقال: مبارك يشرع ويجيد ونسمع ويفيد فشرع في مسألة مستدلاً معللاً وأصغيت له مبجلاً وهززت له عطف الاستحسان وأعززت قدره ومكانته بقدر الإمكان وقربته إلى قلب السلطان ثم اعترضت على كلامه وأعدته أحسن إعادة وذيلته من المعاني البديعة. قلت للسلطان: هذا من الفقاء الأعيان يعود إلى تلك البلدان ويتحدث بأخبار فتوحك وأنباء غدوتك في الجهاد وصبوحك وقد رغب في التبرك بما يستصحبه معه من عدتك في الغزو والملبوس فإن لها قبولا في القلوب ونفاسة في النفوس فأدناه منه تأنيساً ووهب من كل عدة خاصة لها علقاً نفسياً حتى أعطاه قميصه المزرور عليه وملأ بعوارفه يديه فخرج وودعه وودعته وأشاع حمدي وبالحمد شيعته هذا ولم يزل أدبي وقضاء حقوق الكرام من أنجح آدابي والسلطان يقلدني في مذهب سماحه ويقلدني في المنن في الإرشاد مقصد معارفي هذا وإنجاحه. قال: ومن جملة الواصلين في التاريخ رسول الأتابك مظفر الدين قزل أرسلان. ذكر نبذة من أحواله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 كان هذا مظفر الدين قزل أرسلان وهو عثمان شمس الدين أيلدكز مستولياً على بلاد العجم بعد أخيه يهلوان وهو عم السلطان السلجوقي ليس معه أمر نافذ ولا بيده في الملمات منه آخذ وقد حكم على البلاد جميعها أرانيه وأذربيجان والري واصبهان ومن حد حلوان إلى حد خرسان وقد هرب السلطان السلجوقي ليخرج من تحت حكمه ويتسلط على عادة كل سلطان ورسمه ثم قوي وعاد ولم ينتظم لسوء تدبيره أمر ولم يرتفع له قدر فإنه كان كثير التحيل من خواصه يرتاب بغش ذوي استخلاصه فإذا أوهموه في أعظم أمرائه أمراً عظيماً لم ير في الإيقاع بهم تهويناً ولا تهويماً فما يشعر به الواقف على رأسه إلا ورأسه طاير ودمه ماير فخانه مقربوه وانتزحوا فكل منهم نافر ومازال قزل أرسلان يتتبعه ويرده تارة ويردعه حتى ظفر به وسيره إلى بعض القلاع وحبسه وهذا قزل أرسلان كان يجد لي أمراً في السماح والأموال في أنامله كالهشيم على مهب الرياح ومن جملة سجاياه الكريمة أنه تبقى عنده رسل الأطراف مقيمين في ظل الإسعاف مشمولين من تفقده بكرا يم الألطاف (240 أ) فلو أقام الرسول سنة أقام بتبجيله وتشريفه حتى تستغني بدقيق أنعامه وجليله فإذا استأذن في العود أجزل له عطاءه ووفر له الاءه وأعاده مملوء الحقائب مطوق الجنائب مثقلاً بالنضار وكان إذا عرف اجتماع الرسل عنده من الأمصار وأقاصي البلاد وأداني الديار أحضرهم في إيوانه وغمرهم بإحسانه فمن وافقته على أنسه أقام ومن عف عن القعود في ذلك المجلس قام. وكان على مذهب ملوك العجم في إدمان الشرب وسمعت أنه أنهب آلات مجلسه الذهبية والفضية وكانت ألوفاً لندماه مراراً وكم مرة لم يبق في خزانته غرضاً ولا درهماً ولا ديناراً وكانت هذه شيمته في دولة أبيه وهو يحبه إذا افتقر ويغنيه فلما اتسع ملكه وتوحد واتسق سلكه وتفرد ولم يخل خليفته ولم يزل طريقته وكلما سنحت الدنيا له سخاً بها ووهب الدرر بسخائها والدرر لسحابها. وإذا ركب تعد له المواكب وتمد له الجنايب والمراكب مثقلة بالسرقسات المدثرة والأطواق والسحوت العسجدية المجوهرة وهو راكب أزهاها حلياً وأبهاها جرباً. وحكى أنه أنعم على أحد الرسل بمركوب غال فجاءه كل سابح كأنه بحر ساطع كأنه فجر ضامر كأنه صقر ذي حافر كأنه صخر وقد ركب الأمير وهو يسايره ويحادثه ويحاوره وتحت الأمير مركوب في كون مركوبه بعينه بطوقه وسحته ونضاره وتحته مد فرس الرسول وترح وتجهد فقال: ما بال جوادك إلينا يسهل وعلينا يحمل فقال: يطلب رفيقه وينادي شقيقه وهو من فراقه على فرق ومن اشتياقه على قلق فنزل الأمير عن حصانه ووهبه له بقلايده وعقبانه وركب غيره وصان ببذله خيره وقبل سايره قاض من قضاة تلك البلاد وهو على بغلة عاطلة هزيلة والأمير على بغلة فارهة جميلة بمصوغات التبر في الحلي ثقيلة فقال يا قاضي: ما لبغلتك قد عجفت فقال: أدمغتها الغيرة من أختها فما هي على تختها ولا في طوقها وسحتها فأعطاه البغلة بسرجها وطوقها وأمر لبغلة القاضي بمثل زينتها لتقرن بها بقرينتها وزاده عطية لأجل علفها وإزالة هزلها وضعنها فاستغنى القاضي بها بقية عمره ووجد جده وعدم عدمه. ومن جملة مكارمه أن الأثير الأخسيكي شاعر دهره وساحر عصره مدحه بستة أبيات من شعره فجاد له بستة آلاف دينار من تبره وقال: لو زادني زدته. وحكى أيضاً أنه وصل إلى المعسكر شاب أديب قد حوى من كل فضل طرفاً وحاز من كل غريبة طرفاً لكنه فقير قد أدركته حرفة الأدب وأحوجه الأضرار إلى الاضطراب وأخرجه الاغترار بالاغتراب فلما وصل إلى المعسكر اجتمعوا حوله وسمعوا قوله وعرفوا معرفته ووصفوا صفته ونما الخبر إلى الأمير على ألسنة ندمائه فأمر بإحضاره ولما حضر فاكهه وشافهه واستطرف أدبه واستوصف آدابه ونظم في وصف الحال رباعية بالفارسية فأحضر له ألف دينار حمر وقال: خذ هذه واتسع بها وشفع وقد وصلناك فلا تنقطع فلما بسط الكف وقبض الألف طار من الفرح كالفرخ إلى وكره وأبعد الدموع إلى تلك الدنانير عن ذكره ورجع إلى البلد وقرت عين الوالدين بالولد وطلبه مظفر الدين قزل أرسلان فأخبر بانفصاله وأنه قنع بما تهيأ به من أفضاله فقال: ما كان أدنى همته ولو عرفنا لاجزلنا عطيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ومن جملة انحرافه في سماحته أن المجير البيلقاني الشاعر بالفارسي تعلق له أمل بجمل فكتب إلى قزل أرسلان مقطوعاً في أحد وعشرين بيتاً لم يخل كل بيت عن لفظه الجمل بمعنى ليس في البيت الآخر بديع وسبك نصيع فوهب له أحد وعشرين بازلاً نجيباً. قال: وهذه نبذ من مكارمه ليقتدي بها الكرام ولأنوب في الشكر عمن شمله الأنعام وهو من الملوك الذين سيرت إليهم البشارة من المملوك وسار بالبشائر والهدايا والتحف والأساري إليه ابن أختي جمال الدين أبو الفتح إسمعيل بن الحسن بن عبد ربه وكان ينوب عني في الكتابة وهو سهم كاف كثير الإصابة فاختاره السلطان لهذه السفارة وجعله أميناً في أداء أدوات البشارة ومضي سفيراً فقوبل وفوده من القبول بالوفور وأرسل معه أعز من عنده وحمله مشافهة وشكره وهو عز الدين الطالبي فوصل وأوصل الهدايا والتحايا وأحضر لما حضر نفود المكرمات والثنايا وكنا حينئذ بعكا وهي بالأولياء معمورة وبالآلاء مغمورة فأنزلنا في أكرم منزل وشاهد مواقف الكرام ومفامات الأقدام وأقام في (240ب) إقامة هنية وكرامة مضية وفي كل يوم إهداء مركوب وعطاء غير منسوب فلما آن انفصاله وحان ارتحاله أغناه وأعطاه مل لم يخطر في مناه وعين لصاحبه من أنواع الهدايا ما جاوز تقويمه الألوف وأطاع في سماحة طبعه الألوف وأخذ الهدية القزلية من الجواهر الثمينة والمستعملات المصرية والثياب المعدنية والعتاق العربية وكل ما حاز به يد الأيد في جهاد من طريف التلاد وعقابل الطرف والتلاد والخوذ والنزول والعقود والسلوك وغير ذلك مما يصلح للملوك وسلم جميع ذلك إلى جمال الدين نسيبي وجعل له تلك الرسالة من نصيبي وأهدى لأمرائه وخواصه وذوي قربه واختصاصه هدايا على أقدارهم ومنازل كبارهم وصغارهم وتوجه وتوجه الرسول ومعهم رسولنا وقد شملنا اقبالنا وقبولنا وكتبت على أيديهم بالفارسية كتباً بالبدايع مشحونة فلما وصلتهم الكتب والرسل تواصلت بيننا وبينهم الصلات وتهادت المهاداة واسترسلت المراسلات وانقلبت إلى المصافات الصفات. قال: وسأذكر نبذاً من تخرقه في السماحة وأغفلتها ثم تندمت كيف أهملتها أصبح يوماً في عنفوان هبوب صباحنا وقد وهب جميع ماله من لبسه وثيابه واصطبله بآلاته ودوابه وخيمته بما فيها من سبده ولبده وقعد على الأرض متجرداً عن كل ملك شاذاً من كل عقد وسلك وذلك في زمان أبيه فلما نما الخبر إليه بما سخا به وأنه صفر يده أحضره وزجره واستجهله فيما عرف منه وأنكره. قال: ومن أنت ومن يقال لك ومن لهذا الطريق الذي سلكه سلك فقال ما معناه أنا أبي خير من أبيك وأشرف وأعظم. أنت الأتابك شمس الدين إيلدكز والدي فمن كان والدك ولا تنكر إذا وردت مواردك وأنت تخاف وتسعد عنه وأخلف عليه أفضل ما كان له وأوفر. ومن حكايات مغنية في مجلس أنسه والتهاب طربه في طيب نفسه فقالت مالدو أيرى علف وما لما أنفقه على علفها خلف فقال سراً لخادمة خذا غراره فأملأها بثياب ديباج وحرير وأطلى رأسها بحشيش وشدها وأعدها وإذا طلبناها أحضرها فأما أحضرت قل لها هكذا هذا العلف خذوني هذه الساعة إذا كان هذا جودك وموجودك فكنت تخل مجلسك من إحضاره وتبقيه عارياً من عاره فقال لها وحلف أنها تتولى أخذ الغرارة المحشوة وتفريغ الفرد المملوة فقامت كرهاً على القدم لأجل إجلال القسم فأخرجت منها غنى الأبد فخرت ساجدة وفخرت واجدة وعاد منها غنى الإحسان بإحسان الغنى وأخذت في الإطراب والإطراء. ومن حكاياته أن شاعراً مدحه بقصيدة سبعين تناهزت أعطافه فقال يحكم على فيما أعطيك ولا ترضى إلا بما يرضيك فقال: قد قنعت بسبعين ديناراً عدد أبياتها فقال له: ما أدنى همتك لو طلبت مني سبعين ألف دينار ولا حرمتك منها ولا حظرتها ثم أعطاه ألف دينار وحلا وجه أمله وصفح نجحه بسفور وأسفار. قال: وهذا كله لا يكون في بحر سلطاننا جدولاً ولا لأحد أمليه في سماحته منهلاً وكان مهذب المذهب طاهر المحفل والموكب وقد خصه الله بالصدر الأرحب والعرق الأطهر الأطيب للخالق تقواه وللمخلوقين جدواه وإنما يريد للآخرة دنياه فلا جرم ختم الله بالحسنى عقباه. قال وفي هذه السنة سنة ثلاث وثمانين استشهد الأمير الكبير شمس الدين بن المقدم وهو محمد بن عبد الملك يوم عرفه في عرفات. ذكر السبب في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قال: لما وقع الفراغ من فتح القدس دنا الحج واستقام منه المفلحون على النهج وقالوا نحرم من المسجد الأقصى إلى البيت الحرام ونفوز مع إدراك فضيلة القدس في هذا العام بأداء فريضة الجهاد وحج ركني الإسلام فاجتمع جمع من أهل ديار بكر والجزيرة والشام وسار بهم الأمير شمس الدين بن المقدم شيخ أمراء الإسلام الكرام فودعه السلطان على كره من مفارقته واستمهله ليحج في السنة الأخرى على موافقته فقال ما معناه: إن العمر قد فرغ والأمل قد بلغ والشيب قد أنذر والقدر قد حذر واغتنم فرصة الإمكان قبل أن يتعذر فمضي والسعادة تقوده والشهادة تروده حتى وصل إلى عرفات وما عرف الآفات فشاع وصوله وسالت سيوله وحالت حيوله وضربت خيامه وخفقت أعلامه واشتغلوا ليلة عرفة بالمناسك فلما أصطبحوا نقرت على العادة نقاراته ونعرت (241أ) بوقاته فغاظ ذاك أمير الحاج العراقي ففاض غيظه وغاض برد رضاه ولفح فيضه وركب إليه في أحرابه وكماة طعانه وضرابه فأوقع به وبأصحابه وأبلاهم بخراجه ونهابه وجرى حكم الله الذي كان ضرب الطبل أوكد أسبابه وقتل جماعة من حاج الشام وجرحوا وهتكت أستارهم ونقل طاشتكين شمس الدين بن المقدم إلى خيمته وهو مجروح وفيه روح وحمله معه إلى منى فقضى ودفن بالعلى وارتاع أمير الحاج بما اجترمه وكيف لم يراقب الله وأحل حرمه وكيف عدا على العائذ بالله وسفك دمه فكتب محضراً على ما اقترفه بعذره فيما اجترحه وألزم أعيان الحاج على ما عينه من المراد فكتبوا مكرهين ووقعوا له على الأنفس والأموال وسلكوا معه طريق السلامة في الأحوال وكان عذره أنه أنكر عليه ضرب الطبل فأبى وثبت عليه من الحرب السبا فلما انتهت إلى الغرض الأشرف تلك الحالة وان العثرة أخطأتها الأقالة أنكرها إنكاراً شديداً ونسبها إلى طيش طاشتكين ولم يجد له رأياً سديداً فلا جرم وضع عنده قدره ووهى أمره حتى نكبه بعد سنين وحبسه وأطال سجنه ثم عفا عنه بعد مدة مديدة وشدة جرت عليه شديدة وولاه حرب بلاد خوزستان وخراجها وأوضح بسياسته منهاجاً ولما وصل إلى السلطان خبر استشهاد ابن المقدم وجماعته لامه على ترك الحزم وإضاعته واحتسبه عند الله غازياً شهيداً ساعياً إلى الجنة بقدمه سعيداً وأقام ابنه عز الدين إبراهيم في بلاده مقامه وأقر عليه أنعامه ووجده على سمت أبيه وسمده وهديه وهدوه وكبر قدره وعلوه ومثلث يوم الحضرة الكريمة الفاضلية فتجاذبنا أطراف العوايد وتناولا أقطاف الفوائد فوجدت بحر خاطره يتدفق لإلقاء الدرر وسنا رأيه يتألق لإبداء الغرر فتفاوضنا في همة السلطان وغزواته وعزمته وفتكاته ومعجبات كراماته ومعجزات مكرماته فارتجل الأجل الفاضل بديهيه في صفة سيوفه مقطوعاً علقت بحفظي من أبياته بعض قطوفه وهي: ماضيات على الدوام دوام ... هن في النصر نجدة الإسلام في يمين السلطان أن جردتها ... أشبهتها صواعق في غمام تنثر الهام كاحروف فما أشبه ... هذي السيوف بالأقلام في محاريب حربه البيض صلت ... وركوع الظبي سجود الهام ودعا للسلطان فقال: أدام الله استعباده الأحرار وتحريره العبيد وتبعيده من التوب القريب وتقريبه من الأمل البعيد. ووصف بحالي أنوار سعادته أثمار إرادته وقال: طلب مونعها فما مونعها ومن التحنيس قوله: فيم وقوفنا على قوم وقوفنا. ومنه: لولا كرك بالكرك لما عدمت شوبك بالشوبك وأنشأ مرتجلاً: أحرق مني كبدي في ... خده الحمر الندى قال: نكت من مكاتباته. فمنها: أبا الاسكندر الملك أفتديتم ... فما تضعون في أرض وسادا وإن من النصرات إلى مجرى ... الفرات إلى فريق مستزادا والله يصون الحضرة العالية عن عدواء السكر ورعشائه ويحملها على سهل الطريق ومثابه ويمتع بأقوالها التي شفع الناس نيلها وأقوالهم ترهب ذهاب غيابه. قال: ووصف كتب إليه ووقف منها على البلاغة المسرودة الموصوفة والجواهر الثمينة المكنونة والثمرات التي اجتنيتها من شجرة اللاغة الطيبة ومن الناس من يجتني ليجنيها من الشجرة الملعونة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فصل من أخرى وقفت منه خاطري الحيران على ما هداه لقصده وقلبي الظمآن على ما جمع بينه وبين ورده ويسرت حللل الإنس ورقعت ولولا القلق لقلت له ورياض القدس وأشرفت على أيام الأعياد وليالي العرس فلا عدمت ذلك الفضل الواسع والخلق البارع والأطناب (241أ) والمعنى النافع واللفظ الناقع والمعنى الواقع والسرو الطالع والحديث الذي بث في الأرواح شعاع الروح والعلم الذي يذبح الطروس بوشي الوشائع والقوافي التي إلى هذه الحلى وأحل لها عقدة الحبي واهتز لقطرها كما يهتز لحب القطر الربي وأنني أقراها معاوداً ثم لا أقضي منها إرباً وقد تمادت الفرقة والشوق متماد وهام خاطري ومنه في كل واد إلا وادي السلو ... ليس له بواد ولا هو له بواد أما في صروف الدهر أن يرجع النوى ... بهم ويدل القريب فيهم على البعد بلى في صروف الدهر كل الذي ... أرى ولكنما أغفلن حظى على عمد وأما الأخبار الطيبة بتلك السياقة المستعذبة فقد أوردها بلسان الإحسان وأحسن فيها العبارة عن الزمان وهو ترجمان الزمان وهو المعيد لبنائه لمل يملأ الملوان ولقد جئت أن ذلك البيان مما زين للناس من الشهوات وما حظر عليهم من حوادث النشوات بل هو من نعيم الجنة الذي كلما نفد جدد ومن ثمراتها الذي كلما أريد ردد لأعدمت الدولة الناصرة من قلمة ناصراً ومن رأيه ناظراً ومن فكره جيشاً لجيش الأعداء كاسراً. ومن أخرى أقلام المجلس السامي إذا صفاها صوب فكره أطفأت كل نار وإذا أنجدها جد عزمه أخذت كل ثار وأدام الله أسفار وجوه كتبه ورسله وسأذكر ما حضرته من قوله الحسن والإحسان والروح والريحان وثبوت ذهنه على أن الطبع شجاع والفكر صاع وقلمه في كرسي مملكة يده نافذ الأمر مطاع، قال: وقد سبق ذكر أخي تاج الدين رسولاً من الديوان العزيز في هذه السنة بتذكرة غلظ فيها القول واحفظ منها الصول وأتت إلى العلم الكريم الفاضلي فوصل منه جواب. فصل وقفت على ما أشار إليه من حديث التاج أبقاه الله وتأويل التذكرة وما جدده تأملها من مغائظ وضبائط وما أشار إليه الحاضرون وما نظر فيه الناظرون واستنجاده برأيي واستمداده بكتابي وانتظاره لما يسفر عنه من السلطان عن بصره جوابي وقد علم سيدنا أنني أمللت الأقلام فيما كتبته وأخفيتها فيما أردته وحررت المشورة في دمج هذه القضية وسير هذه الحلية والإمساك أما على معنى التخصص أو معنى التربص فرب صبر استقل بحمود العاقبة ورب مكروه الفاتحة أدى إلى محمود الخاتمة. وأصل هذه التذكرة مبني على جواب الباطن والتعاطي الظاهر ومن كان صلاحه التوقي فتساعده عليه ومن كان رضاه القول فنرشده إليه وقد كتبت الآن بما اتسع لي أن أكتبه وسألت أن يدفع هذا الغيظ فما جاء ما أوجبه وأنا واثق من حسن النية أن المولى التاج أبقاه الله يخرج من هذه القضية سالماً غانماً لا راغماً غارماً فإن حريته وفضل سجيته يجردانه من الذنب ولا يجعلان لقلبه بهذا الأمر شغلاً فما رأيت قط الثأر العثار إلا حيث لا يستقيم إليه ولا يخلص الطوبة. جواب مكاتبة أخرى وقفت على كتاب كريم يتضمن من أحوال المولى تاج الدين إلا من جهتين من جهة المودة ومن جهة إطراح ما يردد في حقي من المهودة وبالله أقسم لقد بذلت المجهود وما من شرط بذله بلوغ المقصود وودت لو اطلع على الكتب التي كتبتها فإن فيها عذراً ونصحاً يقتضيان قبولاً ونجحاً وقد جددت في هذا الوقت الذي كشفت فيه وجه النصيحة وأوردت فيها قضية الرأي الصحيحة وأرجو أن يسرد على أصغار ولا يرد على ما ورد عليه ما قبل من إلغاء ومن فقرة الأسدين فلا بأس فنزل الأنس الدين. أخرى هو مغض على كل مغضب ومجد على كل مجدب يستقل بكل مضلع ويكشف كل معضل وقد علم قاصده أنه مفض منه إلى مفضل. قال: وقال استلامت البلاغة بزرد أحرفه فقلت واستنت المعاني في طرق طرفه. قال وفي التعزية لشهيد وليس من السنة أن يرتع في رياض الرضا ونحن نسخط في جنان الجنان ونحن في الأسى نتورط فإن الله لا حكم على علمه ولا علم لنا بحكمه. وله والحر أصبر قلباً والعبد أصبر جسماً. وله: كتابي يملي على القلم ويكاد يستمد من الدم. وله: وصمته بما استوى فيه نطقه وصمته ألفت منه ود اللام للألف والواو للحلف. (242 أ) وله في التوسط بين الأصدقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ما أدخل بينكم إلا كدخول المرود في الأجفان بيد لها ما ذهب من النور والغمض وكالنسيم بين الأغصان معطف بعضها على بعض وله: لمجت لواهج التصغير برويد والضرب بزيد. ومن دعائه للسلطان: جعل الله الأرض التي يملكها مبقلة والأرض التي يطأها مقبلة والأرض التي يجر عسكره مثقلة والأرض التي يلاقي عدوه بها مقتله. استفدته من محاضرة السلطان صلاح الدين قال كان يعدل في البذل فقال: أحسن ما سمعته في حب العدل للفقيه زين الدين بن الحكيم. من ذم عاذله فإني شاكر للعذل ... أيقاظه فاهتزت لمقامه أكناف المنبر واهتزت مبتصثبتصثبتصأأسيلللسيلصبصبقففغاقفما ضرهم إغراؤهم بالعدل إن لم أقبل تعبت الملام عليهم وحلاوة التذكار لي ... لهم القلب من ذكر الأحبة ممتلي وكان نقاداً للشعر جيد الفكر ولكنه يلوم أهله على أظهار النظم ويقولون يتعرضون للذم. وجرى عنده يوماً حديث وحيش الشاعر من أهل عصرنا فقال: استحسنت أبياته في القاضي كمال الدين الشهرزوري وقد مطله: سنة تمر وتتلوها سنة ... شهر يكر وبعده شهر والمدح مني غير مقتصر ... ونداك لا قل ولا كثر وأروح بالإحسان مشتملاً ... حتى كان عطيتي كفر واستحسن لحسان الكلبي من أهل عصرنا في وصف دمشق: لشام شآمة وجنة الدنيا ... كما أن إنسان مقلتها الغضيضة جلق من روضها لك جنة مال تنقص ... ومن الشفيق جهنم ما تحرق قريب الخطو يحسب لو رآني ... ولست مقيداً لي بقيد وأنشده عنده: كان بزاته أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدروع واستحسن الفاضل قول الشاعر في معنى اقتضاء الوقت: شر من عاش ماله ... فإذا حاسبه الله سره الإعدام وجرى بالمجلس الكريم الفاضلي ذكر حب الصغير وان القلب الضيق ربما ضاق عنه فارتجل في الحال هذه الأبيات: طفل كفاه القلب داراً له ... كأنما القلب له قالب ويوسف الحسن وقلبي له ... سجن وما تم له صاحب أصبح والقلب لباس ... له لا قاصر عنه ولا ساحب وهو كعيني وهو إنسانها ... وهي له من الخارج حاجب ضاق به ضيق عناقي له ... فلم يسع ما قاله العايب تام الجزء الأول من كتاب سنا البرق الشامي ويتلوه في الثاني ودخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164