الكتاب: نور الطرف ونور الظرف المؤلف: إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، أبو إسحاق الحصري (المتوفى: 453هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- نور الطرف ونور الظرف الحُصري القيرواني الكتاب: نور الطرف ونور الظرف المؤلف: إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، أبو إسحاق الحصري (المتوفى: 453هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة الحمد لله الذي لا فضل إلا منه، ولا طول إلا من لدنه، وصلى الله على كاشف الغمة عن الأمة، نبي الرحمة، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً. وصل الله بسيدي (الجليل) جناح الصنع الجميل، وواصل لديه السول، وأوصل إليه المأمول، وعمر بحبه ربوع أنسي، وأمطر بقربه ربيع نفسي، وأراه بناظر فهمه في مرآة علمه الصقيلة الساحة والأرجاء، الصافية من دنس الأقذاء، أن ما أبديه وأظهره، غير ما أطويه وأضمره، من ناطق الود، عن صادق العهد، وخالص الحب، عن مخلص القلب، كالنقطة في البحر، والذرة في القفر. (شعر) : يا من عقدتُ بحبِّهِ ... دونَ الورى حبلَ اعتلاقي فأخذتُ منه بموثقِ الأك? ... ?راب مشدود العراقي لم يرقْ جارُ أبي دؤا ... دٍ معقلاً، أنا منكَ راقِ أجني بهِ ثمرَ المنى ... غضَّ الجنى عذب المذاقِ في حين أمَّنني الرَّدى ... ووقى من الحدثانِ واقِ قيَّدتَ مطلقَ همَّتي ... وملكتَ لي رقَّ اشتياقي فالقلبُ موقوفٌ عليكَ ... الدَّهرَ وهو إليكَ تاقِ وافى كتابكَ مشرقاً ... بحلى معانيهِ الدِّقاقِ وأنا في الجّوابِ مقصرٌ ... عن رومِ أسباب اللِّحاقِ ولو أنَّ مطبوعَ الحجازِ ... يمدُّ مصنوع العراق وملكت ذاكَ فسقتُهُ بقريحتي خيرَ المساقِ لسعيتُ مرخى الذيلِ بالتقص? ... ?ير محلولَ النطاقِ لا أستقلُّ مشمراً ... أجري إلى قصبِ السباقِ ليس الرقيقُ من الرَّكيك ... ولا الزُّلالُ من الزُّعاقِ أنا لا أزال أطال الله بقاءك، وأدام نعماءك أطأ بساط كرمك، وأطالع من بسيط نعمك، ما أقابل به كريم عهدك، وأقبل عليه من صميم ودك، وأقابل معه من عظيم مجدك، وأجتلي فيه من زهر أنعامك واقتفائك، وأجتني له من ثمر إكرامك واحتفائك، ما أقول إذا غمر صدري، وبهر فكري: اللهم نصراً، على ما لا أطيق له شكراً، من فضل ينتظم بأخيه، ويلتئم مع ما يليه، مما يكثر أعداد تواليه، ويقل اعتداد مواليه، وهو بخنصر الفخر محسوب (و) في صفحة الدهر مكتوب، يقرأ في أعلام الإنعام، طرازاً على الأيام، يحني بصفائح الصحائف وأسنة الأقلام، قبل أن تمحى آثاره، وتنطفئ أنواره، فلا زلت راتعاً في زهرة رياضك، شارعاً في غمرة حياظك، فإنها رياض لا تغض جفون غضارتها، ولا تغيض عيون نضارتها، وحياض تصدر القلوب الصادية عن مواردها الصافية، وقد رويت غللها، وشفيت عللها، إذا جرعها الفراق من مر مذاقه، وسقاها الدهاق من زعاقه: قرأتُ على قلبي كتابكَ إذ أتى ... وقلتُ له: هذا أمانكَ في الدَّهرِ به يرجع نافرك، إذا طار طئرك، ولا يسكن لاعجك، إذا هاج هائجك، فهو العوذة للهاجس، من خطر الوساوس، والراحة للنفس، من فقد الأنس، والشفاء للقلب، من طول الكرب، إذا كان معلم الجمال، وعلم الكمال، وباعث الجذل، ودافع الوجل، وحضور السرور، وذهاب الأوصاب، والمحذور، فياله من طرس، أحيا حشاشة نفس، وكتاب أماط مضاضة اكتئاب، فقلت لما رأيت ما يكاد يبيض الحبر من نوره، ويعبق المسك من كافوره: (شعر) نقشتَ بحالِكِ الأنقاس نوراً ... جلا لعيوننا نوراً وزهرا فدبِّج من بسيطِ الفكر روضاً ... أنيقاً مشرقَ الجنبات نضرا لو استسقى الغليلُ به لأروى ... أو استشفى العليلُ به لأبرا هفا عطرُ الجنوبِ له نسيمٌ ... أقول إذا أناسمُ منه نشرا نثرتَ لنا على الكافورِ مسكاً ... ولم تنثُرْ على القرطاسِ حبرا أمرت فيه أعلى الله أمرك، وأسنى قدرك قلباً لا يتقلب إلاّ في طاعتك وصباً لا يتصرف إلا في مرضاتك، أن يمد يد الاختيار والاستجادة، لما يقع منك بحسب الإشارة والإرادة، من تصنيف كتاب لطيف، ينظم نظم العقود، ويرقم رقم البرود، في مقطعات أدب كقراضة الذهب، من شذور منثور، وعيون موزون، ترتاح الأرواح إلى خفة أرواحها، وكثرة غررها وأوضاحها، ولطف متونها وحواشيها، وحسن عيونها ومعانيها، المشرقة التذهيب، المونقة التهذيب، التي إذا جلبت للطبع الذكي، وجليت على السمع الكفي، هزته أريحية الكريم إذا انتشى بماء الكروم: (شعر) : بسماعٍ أرقَّ من دمعة الصبِّ ... وشكوى المتيَّم المهجور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 تجتني الأذن منه أحسن مما ... تجتني العينُ من وجوهِ البدور يشغلُ الفهمَ منظرٌ ثمَّ نطقٌ ... فهو يصغي بظاهرٍ وضمير صافح الأذنَ بالذي تشتهيهِ ... فأذاقَ النفوسَ طعم السُّرورِ وقلت: اجعله كالمختصر في الكتاب الموسوم بزهر الآداب وثمر الألباب، الذي ضمنته كل لطيفة، ونظمته بكل طريفة، فجاء بديع الغرر، رفيع الدرر، صحيح الحوك، مليح الحبك. (شعر) : ألذُّ من النجوى وأطيبُ نفحةً ... من المسكِ مفتوقاً وأيسر محملا أخفُّ على روحٍ وأثقلُ قيمةً ... وأقصر في سمعِ الجليس وأطولا ليكون لما استعاره من حليه، ولبس من حلله، وأخذ من صفاته، وسلك من سبله، كالأنموذج له والمدخل إليه، والمعرف به، والمنبه عليه، فيكون المطلع على أغراضه ومقاصده، والمتصفح لمصادره وموارده، كالعارف بما في ذاك والواقف على ما هناك، فقديماً دلت الأوائل على الأواخر، وعرفت البواطن من الظواهر. فأجبتك إلى ما إليه أشرت، على ما أحببت وآثرت، من غرائب العجائب، وظرائف اللطائف، وجواهر النوادر، وقرنت الفصول بالأصول، وضممت الأشعار إلى الأخبار، ووشحتها بالمستندر والمختار من كلام ملوك النظم والنثر، من أفراد أهل العصر، الذين قهروا السابقين، وبهروا اللاحقين، بكريم عنصر البلاغة وصميم جوهر البراعة، والتهاب الإبريز في إغراب التطريز، (شعر) : من كلِّ معنىً يكادُ الميتُ يفهمهُ ... حسناً ويعبدهُ القرطاسُ والقلمُ والنفوس قد طبعت على استطراف ما سمعت، مما لم يتكرر فيتكدر، ويتوالى على الأسماع، فتمجه الطباع، وتكثر روايته، فتمل حكايته، ولو كنت أعلم غيب ما لديك، لما أوردت شيئاً مما وقع إليك، من حديث ولا قديم، وفي نثير ولا نظيم، ولكنني أجهد جهدي، وأبذل ما عندي. (شعر) : فإن وقفتْ بي قدرتي دونَ همَّتي ... (فمبلغُ نفسٍ عذرها مثل منجحِ) ومع علمي أنك أغرق في الفهم نصولاً، وأعرق في العلم أصولاً، فلعله يمر بك في تضاعيف هذا التأليف شيء تستندره، مما تؤثره، فيكون عيي سعيداً، ويقع سهمي سديداً، ببلوغ الزلفى من حبك، والقربى من قلبك، وتلك أمنيتي حتى ألقي منيتي التي لا أتعداها ولا أتمنى سواها. وفيما ألقي إليك في هذا الكتاب، الذي هو "نور الطرف ونور الظرف"، المختار الكثير مما ليس في الكتاب الكبير، وإنما كان كالمخ من سبيكته، والمح من تريكته، لأنه يحذو حذوه، وينحو نحوه، في ملاحة النثر. ورجاحة الشعر، دون الاستلاب لنفيس مطارفه، والاجتلاب لنفوس طرائفه، وإنما يدل عليه، ويهدي إليه، بدليل الاقتدار على جميل الاختيار، [إذا الاختيار] ميسم العقل، ومعلم الفضل، وهو باب يتصافى ولا يتنافى، ويتشاكل ولا يتنافر، ويتعارف ولا يتناكر، فإذا عرض هذا المختصر على نيران الفكر، وعجم بإنسان النظر، (شعر) : فكان كالذَّهبِ المعروف مخبرهُ ... يزيدُ في السبكِ للدينارِ ديناراً وكذلك جميع ما صنفته، وكل ما ألفته، وإن أجريت إلى غير لك، في جميع المسالك، (شعر) : فلستُ بأوّلِ ذي همَّةٍ ... دعتهُ لما ليسَ بالنائلِ وأنا أقسم بالله يميناً ما كنت أوليها، لو خفت حنثاً فيها، ما حركني الأشر، ولا أدركني البطر، ولا ملكني الإعجاب، فأقول في مثل هذا الكتاب، (شعر) : والمرء يُفتنُ بابنهِ وبشعرهِ ... لكنَّ هذا فتنةُ العقلاءِ وإني لأرضى من الوبل بالذهاب، بل من الغنم بالإياب، وحسب العاقل أن يسلم دون أن يغنم، لما يعلم من تحكك المعارضين أو تحرك المناقضين، (شعر) : وإنّ امرأً أمسى وأصبحَ سالماً ... من الناسِ إلاّ ما جنى لسعيدُ لا سيما فيما ليس بمعجزٍ ولا معوزٍ، وإنما هي فروع تنتزع وتنقل، لا أصول تخترع وتوصل. وليس للناقل من الفضل أكثر من تجويد النقل، وقد قالوا: "اختيار المرء وافد عقله، ورائد فضله"، وقالوا: "اختيار الكلام أشد من نحت السلام"، وقال حكيم اليونانيين: "لكل شيءٍ صناعة وصناعة الاختيار صناعة العقل" وأنشدوا (شعر) : قد رضيناكَ باختيارك إذا كا ... ن دليلاً على اللبيبِ اختيارهُ وقال بعض المحدثين: قالوا: خذ العينَ من كلٍّ فقلتُ: همُ ... في العينِ فضلٌ ولكن ناظر العينِ حرفانِ في ألفِ طومارٍ مسوِّدة=وربَّما لم تجد في الألف حرفينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 ولم أوغل في هذا الكتاب كما أوغلت في "زهر الآداب وثمر الألباب" من تعليق المعاني بما تعلق بأفنانها، وتشبث بأغصانها، وتسرب في شجونها، وتشرب من عيونها، إذ لو توفرت في التصريف على ما يوجبه التصنيف في تلك التصاريف، لأخللت بالإحسان في الافتنان، فنثرت ما سطرت على غير تبويب، وجمعت ما صنفت على غير ترتيب، وذلك أقرب لنشاطك، وأوجب لانبساطك. ولعل ما تركت أولى مما أدركت، إذ كان قليلاً من كثير، وثماداً من بحور، ولكن إذا لم يخص المؤلف وجهاً يقصده، ولا فناً يعتمده، فكل الكلام تمتد إليه حباله وتنثال عليه رماله، فإنما حقه انتقاء ما اتصل بناظره، واقتفاء ما وصل إلى خاطره، إذ لا معنى يقتضيه دينه، إلا وغيره يقتضيه عينه. وقد خفت أن أخرج بصدر الكتاب إلى معيب الإسهاب. والداعي إلى الإطالة وإن صارت إلى الملالة، والاستمتاع في مكتبتك بلذة مخاطبتك التي هي أجمل من وصل المهجور، وأفضل من أمن المذعور، (شعر) : وأحسنُ موقعاً منّي وعندي ... من البشرى أتتْ بعد النَّعيِّ وهذا حين أبتدي وبالله أهتدي. حدثني أبو محمد الحسن بن القاسم قال: حدثنا أبو الخير رواحة بن عبد الله الهاشمي بالري قراءةً عليه، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا يموت بن المزرع عن خاله أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قال: يحب للرجل أن يكون سخياً لا يبلغ التبذير، حافظاً لا يبلغ البخل، شجاعاًُ لا يبلغ الهوج، محترساً لا يبلغ الجبن، حيياً لا يبلغ العجز، ماضياً لا يبلغ القحة، قوالاً لا يبلغ الهذر، صموتاً لا يبلغ العي، حليماً لا يبلغ الذل، منتصراً لا يبلغ الظلم، وقوراً لا يبلغ البلادة، نافذاً لا يبلغ الطيش. ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع ذلك في كلمة واحدة، وهي قوله عليه السلام: "خير الأمور أوساطها". فعلمت أنه عليه السلام أوتي جوامع الكلم.، (وعلم) فصل الخطاب. قلت أنا: وليس بعض كلامه صلى الله عليه وسلم بأولى من بعض بالتقديم، ولا أحق بالإجلال والتعظيم، وإنما بدأت بكلمته تيمناً ببركته. وأنا أحذف أسانيد ما رويته، وآتي بمتون ما رأيته، إذ هي الغرض المطلوب من استمالة القلوب، بما تحويه من سحر البيان، وسر البرهان. وقد قال الجاحظ يصف كلام النبي صلى الله عليه وسلم: استعمل التوسط وهجر الغريب ورغب عن الهجين، فلم ينطق إلا عن حكمة، ولم يأت إلا بكلام حف بالعصمة، وسدد بالتأييد، وهو الكلام الذي ألقى الله عز وجل عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والجلالة والإفهام، وقلة عدد الحروف، مع قلة حاجة السامع إلى معاودته، فلم تسقط له كلمة، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم إلا أفحمه. خطيب بذ الناطقين، وحاز قصب السابقين، لم يلتمس إسكات الخصم بنا لا يعرفه الخصم، ولم يحتج إلا بالصدق، ولم يطلب الفلج إلا بالحق، لا يلمز، ولا يهمز ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر، فلا يسمع الناس كلاماً أعم نفعاً، ولا أقصد لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه من كلامه صلى الله عليه وسلم. كان علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بسام هجا علي بن عيسى بن داود بن الجراح الوزير لما نفي إلى مكة، فلما ردت إليه الوزارة، جلس يوماً للمظالم فمرت عليه في جملة القصص رقعة فيها مكتوب: وافى ابنُ عيسى وكنتُ أضغنُهُ ... أشدُّ شيءٍ عليَّ أهونهُ ما قدر الله ليسَ يدفعهُ ... وما سواهُ فليس يمكنُهُ فقال (علي) بن عيسى: صدق ابن بسام، والله لا ناله مني مكروه أبداً. وكان ابن بسام فصيح اللسان، صحيح البيان، جميل الثناء، خبيث الهجاء، ولم يكن له حظ في التطويل، وإنما تحسن مقطعاته، وتندر أبياته، وهو القائل: أما ترى اللّيلَ قد ولَّتْ غيابُهُ ... وعارضُ الفجرِ بالإشراقِ قد طلعا فاشربْ على وردةٍ قدمتْ ... كأنَّها خدُّ ريمٍ فامتنعا وقال يرثي علي بن يحيى بن (أبي) منصور بن المنجم: قد زرتُ قبركَ يا عليّ مسلِّماً ... ولك الزِّيارة من أقلِّ الواجبِ ولو استطعتُ حملت عنكَ ترابهُ ... فلطالما عنّي حملتَ نوائبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقد أنشد هذين البيتين أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري، قال: أنشدني علي بن سليمان السلمي لنفسه، فأنشدهما وزاد (فيهما) : ودمي، فلو أني علمتُ بأنَّهُ ... يروي ثراكَ، سقاهُ صوبُ الصائبِ لسفكتهُ أسفاً عليكَ وحسرةً ... وجعلت ذاك مكانَ دمعٍ ساكبِ ولئن ذهبتَ بملءِ قبركَ سؤدداً ... فجميلُ ما أوليتَ ليس بذاهبِ وقال ابن بسام أيضاً: كم قد قطعتُ إليك من ديمومةٍ ... نُطفُ المياه بها سوادُ الناظرِ في ليلةٍ فيها السماءُ مرِذَّةٌ ... سوداءْ مظلمةٌ كقلبِ الكافرِ والبرقُ يخفقُ من خلالِ سحابهِ ... خفقَ الفؤادِ لموعدٍ من زائرِ والقطرُ منهلٌّ يسحُّ كأنّه ... دمعُ المودِّع إثر إلفٍ سائرِ ومن ظريف ما في هذا المعنى قول بعض أهل العصر، وهو أبو العباس الناشئ حيث يقول: خليليَّ هل للمزنِ مهجةُ عاشقٍ ... أم النَّارُ في أحشائها وهي لا تدري أشارت إلى أرضِ العراقِ فأصبحتْ ... وكاللُّؤلؤِ المنثورِ أدمعها تجري سحابٌ حكتْ ثكلى أُصيبتْ بواحدٍ ... فعاجت له نحوَ الرِّياضِ على قبرِ تسربلُ وشياً من خزوزٍ تطرَّزت ... مطارفها طرزاً من البرقِ كالتّبرِ فوشيٌ بلا رقمٍ ونقشٌ بلا يدٍ ... ودمعٌ بلا عينٍ وضحكٌ بلا ثغر وكتب أبو الفتح محمود بن الحسين السندي المعروف بكشاجم إلى بعض إخوانه في يوم شك بقوله: هو يومُ شكٍّ يا عليُّ ... وأمرهُ مذ كان يحذرْ والجوُّ حلَّتهُ ممس? ... ?كةٌ ومطرفة معنبرْ والماءُ فضيُّ القميصِ ... وطيلسان الأرضِ أخضرْ نبت يصعِّدُ زهرهُ ... في الرّوضِ قطر ندىً تحدَّرْ ولنا فضيلاتٌ تكو ... ن ليومنا قوتاً مقدَّر ومدامةٌ صفراءُ أد ... ركَ عهدها كسرى وقيصر فانشط لنا لنحثَّ مِنْ ... كاساتنا ما كانَ أكبرْ أو لا فإنّكَ جاهلٌ ... إن قلتَ: أنَّك سوف تعذرْ وقال علي بن العباس الرومي: من عذيري مِنْ أضعفِ النّاس ركناً ... وبعينيهِ صولةُ الحجَّاجِ شادنٌ يرتعي القلوبَ ببغدا ... دَ ولا يرتعي الكلا بالنّباحِ ولئن قلتُ: شادنٌ إنَّ قلبي ... لأسيرٌ لغادةٍ مغناجِ أقبلتْ والربيعُ يختالُ في الرَّو ... ضِ وفي المزنِ ذي الحيا الثَّجَّاجِ ذو سماءٍ كأدكنِ الخزّ قد غيم? ... ?ت وأرضٍ كأخضر الديباجِ فتجلّى عن كل ما يُتمنّى ... موعد الكذْ خذاةِ والهيلاجِ فظللنا في نزهتين وفي حس? ... نينِ بين الأرمالِ والأهزاجِ بفتاةٍ تسرُّنا في المثاني ... وعجوزٍ تسرُّنا في الزُّجاجِ أخذتْ من رؤوسِ قومٍ كرامٍ ... ثأرها عند أرجلِ الأعلاجِ وقال بعض أهل العصر، وهو أبو محمد الحسن بن (علي) بن وكيع: قمْ فاسقني والخليجُ مضطربٌ ... والريحُ تثني ذوائبَ القصبِ كأنَّها والرِّياحُ تعطفها ... صفُّ قناً سندسيَّةِ العذبِ والجوُّ في حلَّةٍ ممسَّكةٍ ... قد طرَّزتْها البروقُ بالذَّهبِ وقال: وسحابٍ إذا همى الماءُ فيه ... ألهبَ الرَّعدُ في حشاهُ البروقا مثلُ ماءِ العيونِ لم يجرِ إلاّ ... ظلَّ يُذكي على القلوب حريقا وقال أبو الفتح علي بن محمد البستي: يومٌ له فضلٌ على الأيّامِ ... مزجَ السَّحابُ ضياءهُ بظلامِ فالبرقُ يخفقُ مثلَ قلبٍ هائمٍ ... والغيم يبكي مثلَ طرفٍ هامِ وكأنَّ وجهَ الأرضِ خدُّ متيَّمٍ ... وصلت سجامُ دموعهِ بسجامِ فاطلبْ ليومك أربعاً هنَّ المنى ... وبهنَّ تصفو لذَّة الأيّامِ وجهُ الحبيبِ ومنظراً مستشرفاً ... ومغنياً غرداً وكأس مدامِ ومن مجموع ألفاظ أهل العصر في الربيع وحسن منظره، وفضل أحواله (وطيب) مخبره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 أسفر الربيع عن ظلٍ سجسج، وروضٍ مدبجٍ، فعطر السهول والوعور، وعطل المسك والكافور. تبرجت الأرض للنظارة، وبرزت في معرض الحسن والنضارة. قد حلت يد الأمطار أزرار النوار، وأذاع النسيم أسرار الأزهار. والرياض كالعرائس في حليها وزخارفها، والقيان في وشيها ومطارفها باسطة زرابيها وأنماطها، ناشرة حبرها ورياطها، كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد، روضة قد تضوعت بالأرج الطيب أرجاؤها، وتبرجت في ظلل الغمام شجراؤها، وتفاوحت بنوافح المسك أنوارها، وتعارضت بغرائب النطق أطيارها، أشجارٌ كأنَّ الحور أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلتها عقودها، انظر إلى طرب الأشجار لغناء الأطيار. يوم سماؤه كالخز الأدكن، وأرضه كالديباج الملون، يوم غاب نحسه وهوى، وطلع سعده واعتلى، والزمان ساقطة جماره، مفعمة أنهاره، مونقة أشجاره، مغردة أطياره، ونحن في غب سماء قد أقلعت بعد الارتواء، وأقشعت عند الاستغناء، والنبت خضل ممطور، والنقع ساكن محصور. ريش ريش النسيم، وابتل جناح الهوى، وضربت خيمة الغمام، واغرورقت مقلة السماء، قام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق، كأن البرق قلب مشوق، بين التهاب وخفوقٍ، سحاب حكة المحب في انسكاب دموعه. والتهاب ضلوعه. سحابة يضحك عن بكائها الروض، وتخضر لسوادها الأرض. وقال أبو العباس النامي يمدح سعد الدولة أبا المعالي شريف بن سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء بن عبد الله بن حمدان: كأنَّ مرآةَ فهمِ الدَّهر في يدهِ ... يرى بها غائبَ الأشياءِ لم يغبِ ما يرفعُ الفلكُ السَّامي سماءَ عُلاً ... إلاّ علاها شريفٌ كوكبُ العربِ يا من بعينِ الرِّضى يلقى مؤملهُ ... والبخلُ يطبقُ أجفاناً على الغضبِ أغربتَ في كلِّ معنىً طيبٍ حسنٍ ... فليس ذكركَ في أرضٍ بمغتربِ لو يكتبُ المجدُ أسماءَ الملوكِ إذاً ... أعطاكِ موضع "بسم الله" في الكتبِ أخذ قوله: " لو يكتب المجد.. البيت" من قول أبي العباس عبد الله بن المعتز بالله (في ناقة) : وناقةٍ في مهمةٍ رمى بها ... همٌّ إذا نامَ الورى سرى بها فهي أمامَ الركبِ في ذهابها ... كسطر "بسم الله" في كتابها ومن ظريف ما جاء في ذكر اسم الله، وإن لم يكن في هذا المعنى، قول بعض أهل العصر، وهو أبو سعيد الرستمي: أفي الحقِّ أن نُعطى ثلاثونَ شاعراً ... ويحرمَ ما دون الرِّضى شاعرٌ مثلي كما سامحوا عمراً بواوٍ زيادةً ... وضويق "بسم الله" في ألفِ الوصل دخل أبو دلف العجلي على المأمون، فقعد بينه وبين الحسن بن سهل، وكان عليه المأمون مغضباً، فقال: أنت الذي يقول فيه علي بن جبلة العكوك: إنَّما الدُّنيا أبو دلف ... بين مبداهُ ومحتضره فإذا ولَّى أبو دلفٍ ... ولَّت الدُّنيا على أثره فقال: يا أمير المؤمنين شهادة زورٍ، وقول غرور، وملق معتف سائل، وخديعة طالب نائل، أصدق منه وأعرف بي ابن أخت لي حيث يقول: ذريني أجوبُ الأرضَ في طلب الغنى ... فما الكرجُ الدُّنيا ولا النَّاس قاسم وأنا كما قال بكر بن النطاح: شعر أبا دلفٍ إنَّ الفقير بعينه ... لمن يجتدي جدوى يديك ويأمله أرى لكَ باباً مقفلاً متمنعاً ... إذا فتحوه عنك فاللُّؤم داخله كأنَّك طبلٌ رائعُ الصَّوتِ معجب ... خلاءٌ من الخيرات قفر مداخله وأعجب شيءٍ فيك تسليم أمره ... إليكَ على جهلٍ وأنَّك قابله فأسفر له عن وجه الرضا، وقال [له] أخبرني عن عبد الله بن طاهر، فقال: أمين غيب، نصيح حرب، يستعذبه وليك إذا رام جوده، ويشرق به عدوك إذا عجم عوده، يرد معضلات الأمور بأيده، ويعرف مخبأة الصدور بكيده، وإنه في الشجاعة لكما قال العباس بن مرداس السلمي: (شعر) أشدُّ على الكتيبةِ لا أبالي ... أحتفي كانَ فيها أم سواها وفي الجود كما قال زهير: تراه إذا ما جئتهُ متهلِّلاً ... كأنَّك مُعطيهِ الذي أنتَ سائله فقال بعض الحاضرين: ما أفصحه على جبليته! فقال [الحسن بن سهل] : إن بالجبل قوماً أمجاداً، لهم ألسنة لا يفل غربها، ويراعة لا ينكسر قلبها وإنهم ليوفون السيف حقه يوم النزال، ويعطون اللسان حظه عند المقال، وإن أبا دلف منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وكان أبو دلف كريماً وسيماً، صريحاً فصيحاً، وهو القائل: الحربُ تضحكُ عن كرِّي وإقدامي ... والخيلُ تعرفُ آثاري وأيَّامي سيفي مُدامي وريحاني مثقَّفتي ... وهمَّتي مقةُ التَّفصيل للهامِ وقد تجرَّد لي بالحسن ذو بدعٍ ... أمضى وأشجع مني يوم إقدامي سلَّت لواحظهُ سيف السِّقام على ... جسمي فأصبح جسمي ربع أسقامي وقال أيضاً: أحبُّكِ يا جنانُ وأنتِ منّي ... محلُّ القلبِ في جسدِ الجبان ولو أنّي أقول: محلُّ روحي ... لخفتُ عليكِ بادرة الزَّمانِ لإقدامي إذا ما الخيلُ جالت ... وهابَ كماتها حرَّ الطعانِ وكان أبو دلف يتعشق قينة بمدينة السلام، فإذا شخص إلى الحضرة ألم بها، فأتى في بعض الأوقات، كمتقدم العادات، فمشى فرسه على طرف طيلسان بعض التجار فقده، فأخذ بعنانه، وقال: يا قاسم ليس هذا كرجك، هذه حضرة أمير المؤمنين، الشاة والذئب فيها يشربان من ماء واحد، فثنى عنان فرسه راجعاً إلى الكرج، ولم يسلم على السلطان، ولا ودع الإخوان، وكتب إلى صاحبته يقول: قطعتْ عن لقائكِ الأشغال ... وهمومٌ تترى عليَّ ثقال في بلادٍ يهانُ فيها عزيزُ ال? ... ?قوم حتى تنالهُ الأنذال حيثُ لا مدفعٌ بسيفٍ عن الضي ... يم ولا للجياد فيه مجال ومقامُ العزيزِ في بلد الهو ... نِ إذا أمكن الرّحيل محال فعليكِ السَّلام يا ظبية الكر ... خِ أقمتم وحان منّا ارتحال كتب بعض أهل العصر، وهو شمس المعالي بن وشمكير ملك جيلان وجرجان إلى بعض أصدقائه: كتبت أطال الله بقاء مولاي وما في جسمي جارحة إلا تود لو كانت يداً نكاتبه، أو لساناً يخاطبه، أو عيناً تراقبه، أو قريحة تعاتبه، بنفس ولهى، وبصيرة ورهى، وعين عبرى، وكبد حرى، منازعة إلى ما يقرب منه، وتمسكاً بما يتصل بي عنه، ومثابرة على أمل هو غايته، وتعلقاً بحبل عهد هو نهايته، وخاطري يميل نحوه ويحنو، ونفسي تأمل حنوه وترجو، وتقول: أتراه؟ بل لعله وعساه، يرق لنفسي قد تصاعد نفسها، ويرحم روحاً قد فارقها روحها ومؤنسها، فكيف بقلبه لو عاين صورة هذه صورتها، وشاهد مهجة هذه جملتها، فليرفق جعلت فداه بمن عاند برحاً عظيماً، وكابد قرحاً أليماً، وليرق لكبد مزقها البعاد، وعين أرقها السهاد، وأحشاء محرقة بنار الفراق، وأجفان مقرحة، بمدمعها المهراق، وقلب في أوصابه مقلب، ولب في عذابه معذب، ولو أني سعدت فأعطيت الرضى، وخيرت فاخترت المنى، لتمنيت أن أتصور صورتك، وأطالع طلعتك، فأمثل لها مثالي لتراه، وأخبر بكنه حالي [ومعناه] ، أترفق ما أزله الدهر إلي، وأتلطف لإماطة ما أفاضه علي، وأشكو بعض ما نابني من نوائبه وغوائله، وأعلقني في أشراكه وحبائله، فإن كان ما رجوته مدركاً مبذولاً، وما بذلته مؤهلاً مقبولاً، وإلا تضرعت إلى الله تعالى في الخلاص، وسألته أن يأخذ لي بالقصاص، فوالله العالم بالسرائر، المطلع على الضمائر، ما لي طاقة بما تجدده الساعات من مقيم الاشتياق ومقعده، ولا استطاعة لما تؤكده الأوقات من أليم الفراق ومكمده، فإن عطف إلي استعطافي، وعاد إلى عيادتي وإلطافي، وأنعم في جوابي بمجاوبتي، وشفع في تشفيعي لمأربتي، واهتز اهتزاز المشوق إذا عوتب، ورجع رجوع الموموق إذا كوتب، كان كمن أعاد نفساً في نفسه، ونشر ميتاً من رمسه، وحقن مهجة قد أراقت خالص دمها المسفوح، وأحرز دمعاً قد دمي جفنه المقروح، فلا يرغب جعلت فداه عن الأجر في مداواة عليل، ولا يغفل عن المساعدة في شفاء غليل. وليعلم أن الأوقات إذا انجلت وتعضت، والساعات إذا ترحلت وقوضت، تمده بما شكا، وتزيده مما حكى، وقد رجوت أن يتأمل رسالتي، ويتصور بالغيب حالتي، تأملاً يجرر فيه أذيال إحسانه ويسحبها، وينشر أثواب امتنانه ويصحبها، ويتطول بالطول في المكاتبة، ويعود إلى الفضل في المخاطبة، بما يبرئ عليلاً، ويشفي غليلاً، ويفك أسيراً، ويحيي قتيلاً (إن شاء الله، والسلام) . وكتب إليه جواباً عن جواب رسالته هذه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وصل كتاب مولاي، جعلني الله فداه في النوائب كلها، مفصلها ومجملها، فأوصل نعمةً جددت الوصل، وأعادت الطول والفضل، وسادت ما تقدم من أخواتها رفعة وجلالاً، وعلت على ما سلف من أترابها علية وجمالاً، وذكرت كل ما قدم عن نعمه، وتقدم من كرمه، لا لقصور عن الأولى فيما يتلوها ويؤكدها، ولا لفتور عن الأخرى فيما ينشرها ويجددها، لكن لكل جديد لذة تستطاب، ولكل قادم فرحى في المآب، ولكل غريب دولة في الأحباب، وطرفة في الأزمان والأحقاب. وأقبل علي بالسرور بإقباله فملك عناني، واسترقني بقدومه بأرق أجفاني، وغمرني ما يغمر الصب بمن يهواه، وسرني ما يسر الوامق بمن يراه، وعاد علي عائد بالبشاشة يعتادني، وطرقني طارق (بالمسرة) ينتابني، واجتمعت المسار في قلبي فتزاحمت وتلاصقت وتآلفت البشائر في صدري فتلاءمت وتضايقت، واستخفني الطرب في كل نوب، وحف بناحيتي من كل أوب، فيالها نعمةً زادت في الأمل ففسحته، وعمرت الصدر وشرحته، ويا لها منّة حلت العقد وأرضته، وباعدت الهجر وأوهته، ويا لها يداً أيدت الأفضال وهذبته، وأوصلت الوصال وقربته، أحيا الله من أحيا نفسي بقدومها ووفودها، وأبقى من استبقاني برجوعها وورودها، وخفف ظهر من أثقل ظهري بحملها، وأضعف جوارحي بنقلها، فالحمد لله الذي رده إلى عادته المألوفة بعد جماحه، وعطفه علي عادة ظني فيه ومخيلتي له، إلى أيامه الغر وأوقاته الزهر، التي تفوق أيام الشباب حسناً وبهجة، وإشراقاً وجدة، وساعاته التي هي أشهى من مسارقة النظر، ومخالسة القبل، وعيشه الذي ينسي سكرة الصب، ولذة الحب، وعهده الذي يوفي العهد، وينجز الوعد، وكتابه الذي هو أحسن من رياض الزهر، واشغف من العيون المراض، وأبهج من قدوم الغائب. وأزكى من الروض العازب، فكأن الأيام عفت آثار ما صنعه الهجر، ومحت نوافثها من الصدر، فأخمدت ناراً كان الغدر أومض شعاعها، وسكنت نفساً كان الشوق هاج نزاعها، وقد كنت أتصور ذلك وأعلمه، وأتخيل موقعه وأتوسمه، قبل أن تقربه الزلفى، وتتواتر به البشرى، من رجوعه إلي، وانعطافه علي، فكان برقه غير جهام، وحسامه غير كهام، وأملي فيه محققاً، وظني به مصدقاً، والله يكفيني نوائب الهجر، ويقيني غوائل الغدر، ويقيمه على هذه الخليقة الوسيمة، ويجريه على هذه الطريقة المستقيمة، ولا يخيب فيه حسن ظنوني، ولا يكدر فيه صفاء يقيني، (إن شاء الله والسلام) . وشمس المعالي القائل وقد جرت عليه نكبة: قل للذي بصروف الدَّهرِ عيَّرنا ... هل عاندَ الدَّهرُ إلاّ من له خطرُ أما ترى البحرَ تطفو فوقهُ جيفٌ ... ويستقرُّ بأقصى قعرهِ الدُّررُ فإن تكن عبثتْ أيدي الزَّمانِ بنا ... ونالنا منْ تمادي بؤسهِ ضررُ ففي السَّماءِ نجومٌ ما لها عدد ... وليس يُكْسَف إلاّ الشمسُ والقمرُ وأما بيته الثاني فمن قول ابن الرومي: دهرٌ علا قدرُ الوضيعِ به ... وغدا الرفيعُ يهينهً شرفهْ كالبحر يرسُبُ فيهِ لُؤلُؤهُ ... سفلاً وتطفو فوقهُ جيفهْ أكثر ابن الرومي من هذا المعنى، ومن جيد ما قاله منه قوله: لمْ يضحكِ الشيبُ في فوديهِ بل كلحا ... سمِّ القبيح من الأسماء ما قبحا في قصيدة يقول فيها: قالت: علا النَّاسُ إلاّ أنت، قلت لها ... كذاكَ يسفلُ في الميزان ما رجحا وقوله: "ففي السماء نجوم" في البيت الأخير من قول أبي تمام: إنّ الرِّياح إذا ما استعصفتْ قصفتْ ... عيدان نجدٍ ولم يعبأنَ بالرَّتم بناتُ نعشٍ ونعشٌ لا كسوف لها ... والشَّمس والبدر منه الدَّهر في الوقم ولشمس المعالي وقد أهدى إليه عضد الدولة سبعة أقلام: قد بعثنا إليك سبعة أقلا ... مٍ لها في البهاء حظٌّ عظيم مرهفاتٍ كأنَّها ألسنُ الحيّ ... ياتِ قد حاز حدها التقويم وتفاءلت إن ستحوي الأقا ... ليم بها كلُّ واحدٍ إقليم وأهدى أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلاباً بقدر الدرهم محكم الصنعة، وكتب إليه: أهدى إليكَ بنو الحاجاتِ واحتفلوا ... بمهرجانٍ عظيمٍ أنتَ تعليه لكنَّ عبدك إبراهيمَ حين رأى ... سموَّ قدركَ عن شيءٍ يدانيه لم يرضَ بالأرضِ يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلكَ الأعلى بما فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وأهدى أبو أسامة الكاتب في يوم نوروز إلى بعض إخوانه سهماً وديناراً ودرهماً، ووردة، وكتب إليه: لا زلتَ كالوردِ نضيرَ الميسمِ ... ونافذاً مثل نفوذِ الأسهم في عزِّ دينارٍ ونجح درهمِ ولشمس المعالي في الرقيق من الشعر قوله: ما ضرَّهم لو أسعدوا أو أرفقوا ... وتعمَّدوا لصنيعِ ما هو أليقُ ما كنتُ أملكُ غيرَ نفسٍ حرَّةٍ ... رُهنتْ وأحسبُ أنَّ رهنيَ يغلقُ أنا معدنُ الياقوتِ جسمي أصفرٌ ... ومدامعي حمرٌ وقلبيَ أزرق وهذا البيت ينظر إلى قول محمد وكيع في فحواه دون نجواه، ولفظه دون معناه، وهو: جوهري الأوصافِ يقصرُ عنه ... كلُّ وصفٍ وكلُّ ذهنٍ دقيق شاربٌ من زبرجدٍ وثنايا ... لؤلؤٍ فوقها فمٌ من عقيق ولأبي العباس عبد الله بن المعتز بالله في هذا النوع من الأبيات: كأنَّ عذاريهِ على قمرٍ على ... قضيبٍ على دعصٍ رطيب الثَّرى ندي تبسَّمَ إذا ما زحتهُ فكأنَّما ... تكشَّف دُرٌّ عن حجاب زبرجد وقال الشريف العقيلي: ومعذرينَ كأنَّ نبتَ خدودهم ... أقلامُ مسكٍ تستمدُّ خلوقا قرنوا البنفسجَ بالشَّقيق ونظَّموا ... تحت الزبرجد لؤلؤاً وعقيقا فهمُ الذين إذا الخليُّ رآهم ... وجدَ الهوى بهم إليه طريقا وما أملح ما قال كشاجم: وعذَّبني قضيبٌ في كثيبٍ ... تشارك فيه لينٌ واندماج أغارُ إذا دنت من فيهِ كأسٌ ... على درٍّ يقبّلهُ زجاج وشعر شمس المعالي يضعف عن نثره، ولكن الشيء يدخل في شفاعة غيره. ومن الحسن في وصف الحسن قول ابن المعتز بالله: ليلٌ وبدرٌ وغصنُ ... شعرٌ ووجهٌ وقدُّ خمرٌ ودرٌّ وورد ... ريقٌ وثغرٌ وخدُّ وقال بعض الظرفاء: شادنٌ خدُّهُ وعين ... اهُ وردي ونرجسي إن يبجد لي بخمرِ في ... هِ فقد تمَّ مجلسي وقال كشاجم: أيا نشوانُ من خمرٍ بفيه ... متى تصحو وريقك خندريس أرى بك ما أراه بذي انتشاءٍ ... ألحَّ عليه بالكأس الجليس تورَّدُ وجنةٍ وفتور طرفٍ ... تمِّرضه وأعطافٌ تميس وقال بعض أهل العصر، وهو أبو الفتح عثمان بن جني النحوي: غزالٌ غيرُ وحشيٍّ ... حكى الوحشيُّ مقلته رآه الوردُ يجني الور ... دَ فاستكساه حلَّته وشمَّ بأنفهِ الرَّيحا ... نَ فاستهداهُ زهرته وذاقت ريقه الصَّهبا ... ءُ فاختلستهُ نكهته وقال ابن المعتز بالله: قد صادَ قلبي قمرٌ ... يسحرُ منهُ النظرُ بوجنةٍ كأنَّما ... يقدح منها الشَّررُ وشاربٍ قد همَّ أو ... نمَّ عليه الشَّعر ضعيفةٌ أجفانه ... والقلب منه حجر كأنَّما مقلته ... من فعلهِ تعتذر الحسن فيه كاملٌ ... وفي الورى مختصر وقد قال ابن وكيع في المعنى الأخير من هذه الأبيات: صوَّرهُ خالقنا جامعاً ... لكلِّ شيءٍ حسنٍ بارع فكلُّ حسنٍ في جميع الورى ... مختصرٌ في ذلك الجامع وقد قال ابن الرومي في مثل هذا المعنى: لا شيءَ إلاّ وفيه أحسنه ... فالعينُ منهُ إليه تنتقل فوائدُ العينٍِ فيه طارفةٌ ... كأنّّما أخرياتُها الأُوَلُ وقال ابن وكيع: عشقت من لا ألامُ فيهِ وما ... يخلو من اللَّومِ كلُّ من عشقا رأي الهوى في سواهُ مختلفٌ ... وأنتَ تلقاهُ فيه متفقا فكلُّ قلبٍ إليه منصرفٌ ... كأنّما من جميعها خُلقا ألم فيه بقول مخارق بن إبراهيم الموصلي: "كأنه خلق من كل قلب، فهو يغني كلاً بما يشتهيه". وأخبرني بعض المصريين قال: كان ابن وكيع يهوى غلاماً نصرانياً بتنيس، فلامه [فيه] بعض إخوانه وقال له: مكانك في العلم والأدب، وشرف الأصل والمركب [والمنصب] بحيث اشتهر في كل مكان، وظهر على كل لسان، وقد بلغت من الغرام بهذا الغلام إلى غاية تسوء وليك فيك، ويسر بها معاديك، فقال له: ويحك أرأيت من عليه لحيت، قال: لا، وأقبل الغلام وهما يتراجعان في الكلام وهو في صورة: ليس فيها ما يقالُ لها ... كملتْ لو أنَّ ذا كملا كلُّ جزءٍ من محاسنها ... كائنٌ من حسنهِ مثلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فقال له العاذل عندما بهره جماله، وجهره في كماله: لو في هذا ظهر أمرك، لقام عند الناس عذرك، فقال لوقته: أبصرهُ عاذلي عليه ... ولم يكنْ قبل ذا رآهُ فقال لي: لو هويتَ هذا ... ما لامك النَّاسُ في هواهُ قل لي: إلى منْ عدلتَ عنه؟ ... فليس أهلُ الهوى سواهُ فصار من حيثُ ليس يدري ... يأمرُ بالحبِّ من نهاه والوكيعي مشرق الفكر، مونق الشعر، رائق الطلاوة، فائق الحلاوة، وهو القائل: زادني في دجى الظلامِ البهيمِ ... قمرٌ بات مؤنسي ونديمي بحديثٍ كأنّهُ عودةُ الصِّحةَ في ال ... جسم بعد يأسِ السَّقيم تتلقّى القلوبُ منه قبولاً=كتلقّي المخمورِ بردَ النسيمِ وهذا كقوله: ظفرتُ بقبلةٍ منه اختلاساً ... وكنتُ من عين الرَّقيبِ على حذارِ ألذَّ من الصَّبوحِ على غمامٍ ... ومن بردِ النسيمِ على خُمارِ وله: غُصنٌ ظلَّ مثمراً ... بظريفٍ من الثَّمر ما رأى الناسُ قبلهُ ... غُصناً أثمرَ القمر قال لي إذا عجبتُ من ... هـ: ألا تحسنُ النظر؟ لا تقسْ غرسَ ربِّنا ... بالذي يغرسُ البشر ومن ألفاظ أهل العصر في محاسن الغلمان والمعذِّرين: شادنٌ يضحك عن الأقحوان، ويتنفس عن الرَّيحان، كأنَّ قدَّهُ خوط بانٍ، سكرانُ من خمر طرفه، وبغداد مشرقة، من حسنه وظرفه، الشكل أجمع من حركاته، وجميع الحسن بعض صفاته، كأنما وسمه الجمال بنهايته، ولحظه الفلك بعنايته، فصاغه الله من ليله ونهاره، وحلاه بنجومه وأقماره، ونقشه ببدائع آثاره، ورمقه بنواظر سعوده، وجعله بالكمال أحد جدوده، له طرة كالغسق، على غرة كالفلق، جاء في غلالةٍ تنم بما يستره، وتجفو مع رقتها عما يظهره، له وجه بماء الحسن مغسول، وطرف يميل السحر مكحول، وثغر حمي حماية الثغور، وجعل ضرة لقلائد النحور، وما هو إلا خال في خد الظرف، وطراز على علم الحسن، ووردة في غصن الدهر، ونقش على خاتم الملك، وجهه عرس، وصدغه مأتم، ووصله جنة، وهجره جهنم، وإن كانت عقرب صدغه تلسع، فترياق ريقه ينفع، إذا تكلم تكشف حجاب الزمرد العتيق، عن سمطي الدر الأنيق. لعب ربيع الحسن في خده، فأنبت البنفسج في ورده. قال أبو المقدام الأسدي: سالت علينا سائلة من طيئ، وكان غلام منا يختلف إلى جارية منهم فيتحدث إليها، فخرج يوماً في طلب إبل له، فأرسلوا رائدهم، فرجع وإذ هم ينفضون الأنماط، وقد قوضوا العمد، وأجمعوا على الظعن، فأنشأ الغلام يقول: متى ما يقلْ أهلي: أقيموا، وتصبحي ... رهينةَ برقٍ بالشَّقيقة لاحق أمت كمداً من لوعةِ الحبِّ أو أكن ... كذي البثِّ أبلاه جلاءُ الأصادق فقلت له: فهلاَّ وفي الأيَّام ويحكَ غرَّةٌ ... شكوتَ وفي الواشينَ عنكَ سكونُ ولكن كتمتَ الحبَّ حتى تقطَّعتْ ... قوى الوصلِ واستولى عليه قرينُ وهذا يضاهي قول القطامي، وهو عمرو بن شييم التغلبي: قطعت إليكَ بمثل جيدِ جدايةٍ ... حسنٍ معلَّقُ توميتهِ مطوَّق هلاَّ طرقتِ إذ الحياةُ لذيذةٌ ... وإذ الزَّمان جديده لم يخلقِ أو قبل ذلك عندَ غرَّاتِ الصِّبا ... والعيش غضٌّ صفوه لم يرنقِ بخلتْ عليك فما تجودُ بنائلٍ ... إلاّ اختلاس حديثها المتسرقِ وقال علي بن محمد العلوي: يا حبّذا الدهرُ إذ نُسقى مسرَّته ... صرفاً ونمزج إنجازاً بميعادِ وإذا نبيت وقلبانا قد اتفقا ... جاري عناقٍ وإسعافٍ وإسعادِ بسرَّ من را سقاها الله ما شربتْ ... من رائحٍ ضاحكٍ بالمزنِ أو غادِ فليت دهري بها عادت بشاشته ... حتى نُموِّه إصلاحاً بإفسادِ يضاهي هذا المعنى قول جحظة: إن كنت تنكر ذلّتي وتلدّدي ... وسقامَ جسمي وامتداد عذابي فانظر إلى جسمي الذي موهتُهُ ... للناظرينَ بكثرة الأثوابِ وقال أيضاً: أأيامك تهتز اهتزاز الغصن الرطبِ تذكرتَ وفي تذكارها نصبٌ من النَّصب لياليكَ وأيامكَ ظلُّ اللَّهو والعجب تروق الأعينَ النجلَ وتصبي كبد المصبي وتختالُ من النضرة في أرديةٍ قشب زمانٌ كارتشاف الصَّبِّ للمرتشف العذب صفاء الشُّرب لا يعقب إلاّ كدر الشُّرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وقال أيضاً: واهاً لأيام الوصا ... لِ بعدنَ عن عهد قريبِ أيام شرخُ شبابهِ ... ريّانُ معتدل القضيب أيام كان من الغوا ... ني لي السّوادُ في القلوبِ لو يستطعن جعلنه ... بين المخانقِ والجيوبِ حتى نهاه عن الصِّبا ... ونهى الصِّبا وضحُ المشيب فكفاه عيبُ الشَّيبِ أن ... ينظرنَ منه إلى العيوبِ وقال أيضاً: واهاً لأيامِ الشبابِ ... وما لبسن من الزَّخارف وذهابهن بما عرفت ... من المناكر والمعارف أيام ذكركَ في دوا ... وين الصِّبا صدرُ الصحائف واهاً لأيامي وأيّا ... م النقيات المراشف الغارسات البانَ قضّبا ... ناً على كثبِ الرَّوادف والجاعلات البدرَ ما ... بين الحواجب والسَّوالف أيّام يُظهرنَ الخلا ... ف بغير نيّات المخالف وقف النَّعيمُ على الصِّبا ... وزللتُ عن تلكَ المواقف وقال بعض أهل العصر، وهو أبو عبد الله الحسين بن عبد الرحيم الزلزالي: نظرةٌ كانت لحتفي سبباً ... جلبَ الحينُ لها ما جلبا ضحكت أسماءُ من ذي لمَّةٍ ... ضاحك الأشيب منها الأشيبا إنما يعرف أيام الصبا ... من صبا في غير أيّامِ الصِّبا وقال أبو حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع: زمان الصِّبا ليتَ أيامنا ... رجعنَ لنا السَّالفات القصارا زمانَ عليَّ غرابٌ غدافٌ ... فطيَّره الدَّهر عنّي فطارا ولا يبعدُ الله ذاك الغرابَ ... وإن هو لم يبقِ إلا ادِّكارا وهازئةٍ إذ رأت كبرةً ... تلفعَ رأسي بها فاستنارا أجارتنا إنَّ ريبَ الزمانِ ... قبلي أعيا الرجالَ الخيارا فإما تري لمَّتي هكذا ... فأكثرت مما ترينَ النِّفارا فقد ارتدي وحفةً ظلةً ... وقد أشغف الفتياتِ الخفارا قد كنتُ أسحبُ فضل الرداءِ ... وأُرخي على العقبين الإزارا ورقراقةٍ لا تطيق القيا ... مَ إلاّ رويداً وإلاّ انبهارا كأنَّ على الشمسِ منها الخمار ... إذا هي لاثت عليهِ الخمارا خلوت بها نتجارى الحديثَ ... فحيناً علاناً وحيناً جهارا وقال ابن المعتز بالله: سقياً لظلِّ زماني ... وعصرهِ المحمودِ ولَّى كليلة وصلٍ ... قُدّامَ يومِ صدودِ وقال أبو عثمان سعيد بن الحسن الناجم: إلى كم أروحُ إلى حسرةٍ ... وأغدو إلى سقمٍ واصب وأرجو غداً فإذا ما أتى ... بكيتُ على أمسهِ الذاهبِ قطعت حبالك من واصلٍ ... وأظهرت زهدك في راغبِ وقد صرت أرضى بلينِ اللِّحاظِ ... وأقنع بالموعد الكاذبِ ومن أناشيد إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ألا يا حبذا جنباتُ سلمى ... وجاد رياضها جودُ السِّحابِ خلعت بها العذارَ ونلت منها ... منايَ بطاعة أو باغتصابِ أسومُ بباطلِ طلبات لهوي ... ويعذرني بها عصرُ الشباب قال يحيى بن خالد لكلثوم بن عمرو العتابي، وكان لا يبالي أي ثوبيه لبس، وقد رأى عليه بزة دنيئة: يا أبا عمرو ما لك لا تجيد الملبوس؟ فقال: إنما يرفع المرء أدبه وعقله، لا حليه وحلله، لحى الله امرءاً يرضى أن يرفعه هيئتاه: جماله وماله، لا والله حتى يشرفه أصغراه: لسانه وقلبه، ويعلو به أكبراه، همته ولبه. وقال مالك بن طوق العتابي: يا أبا عمرو رأيتك كلمت فلاناً فأقللت كلامك، قال: نعم كانت معي حيرة الداخل وفكرة صاحب الحاجة، وذل المسيألة، وخوف الرد وشدة الطمع. وكان العتابي جيد العقل واللسان، حسن العبارة والبيان، في النثر الرائع والشعر البارع، وقلما اجتمع هذا. ولما دخل على الرشيد قال له: تكلم يا عتابي، فقال له: يا أمير المؤمنين، الإيناس قبل الإبساس، لا يمدح المرء بأول صوابه، ولا يذم بأول خطابه، لأنه بين كلام زوره، أو حصر اعتوره. وهو القائل في الرشيد: أوافي أميرَ المؤمنين بهمَّةٍ ... توقَّلُ في نيلِ المعالي فنونها رعى أمَّةَ الإسلام فهو إمامها ... وأدى إليها الحقَّ فهو أمينها مقيمٌ بمستنِّ العُلا حيث تلتقي ... طوارقُ أبكارٍ الخطوب وعونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وما كلُّ موصوفٍ له الحقُّ يهتدي ... ولا كلُّ من أمَّ الصُّوى يستبينها وله يذم رجلاً بقوله: وكمْ نعمةٍ آتاكها الله جزلةٍ ... مبرّأةٍ من كلِّ خلقٍ يذيمها فسلطتَ أخلاقاً عليها ذميمةً ... تعاورنها حتى تفرَّى أديمها ولوعاً وإشفاقاً ونطقاً من الخنا ... بعوراءَ يجري في الرجال نميمها وكنتَ امرءاً لو شئت أن تبلغ المدى ... بلغت بأدنى نعمةٍ تستديمها ولكنْ فطامَ النفسِ أثقلُ محملاً ... من الصخرة الصَّماء حين ترومها وله في البرامكة: إنَّ البرامكَ لا تنفكُ أنجيةً ... بصفحةِ الدِّين من نجواهم ندبُ تخرمت حججٌ عشرٌ ومنصلهم ... مضرَّج بدمِ الإسلام مختضبُ فيما بعد ما بين هذا وبين قول أبي جعفر، محمد بن مناذر الصبيري، مولى لبني صبير بن يربوع بن تميم فيهم: أتانا بنو الأملاكِ من آل برمك ... فيا طيبَ أخبارٍ ويا حسن منظر لهم رحلة في كلِّ عامٍ إلى العدا ... وأخرى إلى البيتِ العتيق المطهَّر فتظلم بغدادٌ وتجلو لنا الدُّجى ... بمكّةَ وما حجُّوا ثلاثة أقمر إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقتْ ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر فما خلقت إلاّ لجودٍ أكفهم ... وأقدامهم إلاّ لأعوادِ منبر إذا راض يحيى الأمر ذلَّت صعابهُ ... وحسبك من راعٍ له ومدبر ترى الناس إجلالاً له كأنّهم ... غرانيقُ ماءٍ تحت بازٍ مصرصر قال أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي: قال لي الرشيد: هل تعرف كلمات جامعات لمكارم الأخلاق، يقل لفظها، ويسهل حفظها، تكون لأغراضها لفقاً، ولمقاصدها وفقاً، تشرح المستبهم، وتوضح المستعجم، قلت: يا أمير المؤمنين، دخل أكثم بن صيفي حكيم العرب على بعض ملوكها فقال: إني سائلك عن أشياء ما تزال بصدري معتلجة، وما تزال الشكوك عليها والجة، فأنبئني عنها بما عندك منها، فقال أكثم، أبيت اللعن، سألت خبيراً، واستنبأت بصيراً، والجواب يشفعه الصواب، فسل عما بدا لك، قال: ما السؤدد؟ قال: اصطناع العشيرة، واحتمال الجريرة، قال: فما الشرف؟ قال: كف الأذى، وبذل الندى، قال: فما المجد؟ قال: حمل المغارم، وابتناء المكارم، قال؛ فما الكرم؟ قال: صدق الإخاء، في الشدة والرخاء، قال: فما العز؟ قال: شدة العضد، وكثرة العدد، قال: فما السماحة؟ قال: بذل النائل، وإجابة السائل، قال: فما الغنى؟ قال: الرضى بما يكفي، وقلة التمني، قال: فما الرأي؟ قال: لب تعينه تجربة، قال له الملك: أوريت زناد بصيرتي، وأذكيت نار خبرتي، فاحتكم، قال: بكل كلمة هجمة من الإبل، قال هي لك. قال الأصمعي: فقال لي الرشيد: ولك عندنا بكل كلمة بدرة، [قال] : فانصرفت بثمانين ألف درهم. كتب بعض أهل العصر، وهو أبو بكر الخوارزمي إلى بعض إخوانه جواباً: قرأت كتابك العذب الموارد والمصادر، الحلو الأوائل والأواخر، الذي نثره غرر، ونظمه درر، ونشره مسك وعنبر، يقطر منه ماء الكتابة، وتنسم منه روائح البلاغة، وتهب من ألفاظه رياح الخطابة، وينطق عنه لسان الفصاحة، وقد شكرتني أيدك الله على قضاء حق لم يسعني إلا أن أقضيه، وعلى أداء دين لم يجز لي إلا أن أوفيه، وزعمت إني عرفتك من جهلك، ونبهت لذكرك من لم يكن انتبه لك، لا وحق الحق، فإنه الواجب على الخلق، ما رأيت أحداً لا يعرفك إلا منن لا يعرف القمر طالعاً، والفجر ساطعاً، والبرق لامعاً، والبحر زاخراً، والفلك دائراً، وهل يخفى على الناس النهار؟ وهل يستتر علم في رأسه نار؟ وقد شكرتك على هذا الشكر، فلا تعد لغيره آخر الدهر. وله اعتذار عن تخلف المكاتبة: أتاني مع الرُّكبانِ ظنٌّ ظننته ... لففتُ له رأسي حياءً من المجد كتابي إلى مولاي أطال الله بقاءه، وحفظ به على الزمان بهاءه، وأدام عزه، وعلاه، وأراه في أوليائه، وأعدائه ما تمناه، وجعل الأيام إلى مطالبه سفراءه، والسعود بحاجاته كفلاءه، والأقدار غرماءه، وأنا من الحياء عليلٌ، ومن الشربة التي سقانيها ثقيل، وخماري منها عريض طويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ذكر سيدي أني قطعت مكاتبته تناسياً له وتهاوناً به وإعراضاً عنه، وجهلاً بما كان في يدي منه، وقد صدقته في الأولى، ولم أسلم له في الأخرى، أما المكاتبة فقد انقطعت، والمودة ما ضيعت، والعهد بمائه، وعلى صفائه، ولكن للأيام في قطع علائق الحبال، وأسباب الوصال، أفعالاً بعضها من ذنوب الإنسان، وبعضها من ذنوب الزمان، وقد أقررت التقصير، والتزمت تبعة الذنب بالمعاذير، فإن كنت أسأت حين قصرت، فقد أحسنت حين أقررت، وإن عققت لما لم أقم لمودة سيدي بعنايتها، ولم أرعها حق رعايتها، فقد أجملت لما وفرت عليه بسهمه الفضل، وخليت له في السبق الخصل، وبسطت لسانه بالعدل، فوضع قلمه كيف شاء من الملام، وركض على ما أراد من حلبة الكلام، فلولا أنه وجد بجنابي تراباً لما تمرغ، ولولا أنني أجررته بإساءتي رسن البلاغة لما أبلغ. وله استبطاء: يا أطيبَ النَّاس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادةَ أطرافِ المساويكِ قد زرتنا مرةً في الدَّهرِ واحدةً ... عودي ولا تجعليها بيضة الدِّيكِ زارني أيده الله نصف زورة، ثم هجرني مدة فترة، فليت شعري ما الذي أنكر من أحوالي، وما الذي سخط من أفعالي وأقوالي، فأقلع عنه، وأتوب منه، ما أحب يا سيدي أن تكون خفيف ركاب الملال، قصير خطوة الوصال، لا يدوم لإخوانه على حال، وهذا وهو بالأمس يعلم إخوانه كيف يرب الود، وكيف يحفظ العهد، وكيف يرعى الغيب، وكيف يراض على الوفاء القلب، وما أتهم عليه غير عيني، فإني قد أصبته بها، فأبعدته بسببها، فمن ألون وأنا المشكو الشاكي، وبم أتداوى وأنا المرمي الرامي، سقى الله ليالي لقيت فيها سيدي، فلقد كانت قليلة، إلا أنها كانت جليلة وقصيرة، لكن حسرات فقدها طويلة، وأظنني لم أشكر عليها الدهر فسلبنيها، ولم أعرف قدر النعمة فأدبني فيها (شعر) : قلبتُ لها ظهرَ الزَّمانِ وبطنه ... فلم ألق من أيامها عوضاً بعدُ وإني لأخشى أن أتعلم من سيدي السلوة، وأن أقارضه الجفوة، فيعديني بدائه، ويغريني بقلة وفائه، فيجمع علي ألم الفراق، ويسلبني كرم التلاق، وإنما القلوب عيون تتراءى، ووجوه تتلاقى، وتجار تتبايع وتتشارى. ومن شعره قوله: ما أثقل الدهرَ على منْ ركبهْ ... حدَّثني عنهُ لسانُ التجربة لا تحمدِ الدَّهر لشيءٍ سبَّبه ... فإنه لم يتعمد للهبه وإنما أخطأ فيك مذهبه ... كالسَّيلِ إذ يسقي مكاناً خربه والسُّمُّ يستشفي به من شربه وكان رافضياً غالياً، في مرتبة الكفر عالياً، أخبرني من رآه بنيسابور، وقد كظه الشراب فطلب فقاعاً فلم يجده فقال: لعن من قال إذا أَعوزَ الفقَّاع لمّا طلبته ... هجوتُ عنيقاً والدَّلامَ ونعثلا فإذا كان يهتف بهذه الجملة لغير علة، فكيف به مع تقريع العلل، وتوسيع الأمل، ممن يطابقه على كفره، ويوافقه على شره. وكان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني المعروف ببديع الزمان قد اشرقه بريقه، ووعر عليه السهل من طريقه، وسأطلع إليك فيما بعد إن شاء الله مما جرى بينهما قطعة، وألمع لك في أخبارهما بلمعة، فرماه الخوارزمي ببغض عليٍّ رضوان الله عليه، وأغرى به الطالبيين فقال البديع: يقولونَ لي ما تحبُّ الوصيَّ؟ ... فقلت: الثرى بفم الكاذب أحبُّ النبيَّ وآل النبيِّ ... وأختص آلي أبي طالب وأعطي الصحابة حقَّ الولاء ... وأجري على سنن الواجب فإن كان نصباً ولاءُ الجميع ... فإني كما زعموا ناصبي وإن كان رفضاً ولاء الوصيِّ ... فلا برح الرفض من جانبي فلله أنتم وبهتانكم ... ولله من عجب عاجب يرى الله سري إذا لم تروهُ ... فلمْ تحكمون على الغائبِ؟ فإن كنتمُ من ولاةِ الوصيِّ ... على العجب كنتُ على الغاربِ أعزُّ النبيَّ وأصحابه ... فما المرءُ إلاَّ مع الصاحب أيرجو الشَّفاعة من سبَّهمْ ... بل المثلُ السُّوء للضارب حنانيكَ من طمع باردٍ ... ولبَّيكَ من أمل كاذب يوقَّى المكاره قلب الجبانِ ... وفي الشُّبهان يدُ الحاطب لفظة الوصي استعملها الشيعة بدعواهم فكثر بها نطق من سواهم. وقال أبو بكر الخوارزمي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 عليكَ بإظهارِ التجلُّدِ للعدا ... ولا تظهرنَّ منك الذُّبول فتحتقرا ألستَ ترى الرَّيحانَ يشتُّم ناضراً ... ويُطرحُ في الميضاةِ إمّا تغيَّرا ومن شعره أيضاً: لا تصحب الكسلانَ في حاجاته ... كم صالحٍ بفساد آخر يفسد عدوى البليدِ إلى الجليدِ سريعة ... كالجمرِ يوضع في الرَّمادِ فيخمد وهكذا كقول الوكيعي: لا تُلفينَّ مقارناً ... من لا يزينكَ في الصِّحاب فالثوب ينفضُ صبغهُ ... فيما يليهِ مكن الثيابِ وقال الخوارزمي لبعض أخوانه: رأيتكَ إنْ أيسرت خيَّمت عندنا ... لزاماًَ وإن أعسرتَ زرتَ لماما فما أنتَ إلاّ البدرُ إن قلَّ ضوؤه ... أغبَّ وإن زاد الضياءُ أقاما وأنشد أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ولم يسم قائله: ولكنَّ الجواد يا أبا هشامٍ ... نقيُّ الجيب مأمونُ المغيب بطيءٌ عنك ما استغنيت عنه ... وطلاَّعٌ عليك مع الخطوب إذا أمرٌ عراكَ حماك منه ... وعاد به على عطنٍ رحيب قال: وهذا ضد قول الآخر: وإذا دعوت أخا إخا ... ئكِ عند نائبةٍ تنوبُ ألفيتهُ أحد الخُطو ... بِ إذا تتابعت الخطوبُ والمعنى الأول كقول إبراهيم بن العباس الصولي: أسدٌ ضارٍ إذا مانعته ... وأبٌ برٌّ إذا ما قدرا يعرفُ الأبعدُ إن أثرى ولا ... يعرفُ الأدنى إذا ما افتقرا وإبراهيم بن العباس القائل: أميلُ مع الذِّمام على ابن عمّي ... وآخذُ للصَّديقِ من الشقيق وإن ألفتني ملكاً مطاعاً ... فإنك واجدي عبد الصَّديق أفرق بينَ معروفي ومنّي ... وأجمعُ بين ماليَ والحقوقِ قال أبو محمد عبد الله بن درستويه النحوي: قال لي البحتري يوماً وقد اجتمعنا على خلوة عند المبرد، وسلكنا مسلكاً في المذاكرة: أشعرت أني سبقت الناس إلى قولي: سقى الغيثُ أكنافَ الحمى في محلةٍ ... إلى الحقفِ من رملِ الحمى المتقاودِ ولا زال مخضرُّ في الرَّوضِ يانعٌ ... عليه بمحمرٍّ من النَّورِ جاسدِ يذكِّرني ريَّا الأحبَّةِ كلّما ... تنفَّسَ في جنحٍ من اللّيلِ باردِ شقائقُ يحملنَ الندى فكأنَّهُ ... دموعُ التصابي في خدودِ الخرائدِ ومن لؤلؤٍ في الأقحوانِ منظَّمٍ ... على نكتٍ مصفرَّةٍ كالفرائد كأنَّ يد الفتح بن خاقانَ أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرَّواعدِ فاستحسن بذلك المبرد استحساناً أسرف فيه، وقال: ما سمعت مثل هذه الألفاظ الرطبة، والعبارة العذبة لأحد تقدمك، ولا تأخر عنك، فاعترته أريحية جربها رداء العجب، فكأنه أعجبني ما يعجب الناس من مراجعة الكلام، فقلت: يا أبا عبادة إنك لم تسبق إلى هذا، بل سبقك قولك: شقائقُ يحملن الندى.. البيت، سعيد بن حميد الكاتب في قوله: عذب الفراق لنا قبيلَ وداعنا ... ثم اجترعناه كسمٍّ ناقعِ فكأنَّما أثرُ الدُّموعِ بخدِّها ... طلٌّ سقيطٌ فوقَ وردٍ يانع وشركك فيه صاحبنا أبو العباس الناشئ بما أنشدنيه آنفاً: بكتْ للفراقِ وقد راعني ... بكاءُ الحبيبِ لفقدِ الديارِ كأنَّ الدُّموعَ على خدِّها ... بقيَّةُ طلٍّ على جُلَّنارِ وما أساء أبو الحسن علي بن العباس الرومي، بل أحسن في زيادته عليه إذ يقول: لو كنتَ يومَ الوداعِ شاهدنا ... وهنَّ يطفئنَ لوعةَ الوجدِ لم ترَ إلاّ دموعَ باكيةٍ ... تسفحُ من مقلةٍ على خدِّ كأنَّ تلكَ الدموعَ قطرُ ندىً ... يقطرُ من نرجسٍ على ورد وسبقك أبو تمام إلى الخروج فقال: من كلِّ زاهرةٍ ترقرق بالنَّدى ... فكأنَّها عينٌ عليه تحدَّرُ تبدو ويحجبها الجحيم كأنَّها ... عذراءُ تبدو تارةً وتخفَّرُ خلقٌ أطلَّ من الرَّبيع كأنَّه ... خلقُ الإمام وهديه المتيسّرُ في الأرضِ من عدلِ الإمام وجودهِ ... ومن النَّباتِ الغضّ سرجٌ توهر ينسى الربيعُ وما يروضُ وفعله ... أبداً على مرِّ الليالي يذكر فشق ذلك عليه، وحل حبوته [ونهض] ، فكان آخر عهدي من مؤانسته وغلظ ذلك على محمد بن يزيد، وقدح في حالي عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقال بعض أهل العصر، وهو أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن يونس المصري في نحو أبيات البحتري الأول: سقى الغيثُ أخيافَ اللوى كلّما سقى ... بصوبٍ من المزنِ الكنهورٍِهامل إذا ضربتْ ريحٌ جمانَ سحابةٍ ... غدا وهو حليٌ للرياض العواطلِ به خفق برقٍ ليس بين جوانحٍ ... وسواس رعدٍ ليس بين مفاصلِ إذا كاد درُّ القطر يلمسُ نبتهُ ... تلقَّاه درُّ النَّورِ بين الخمائل وكان أبو الحسن لطيف الصنع، رهيف الطبع، متصرفاً في العلوم، مختصاً بأحكام النجوم، أنشدني له بعض المصريين يصف قينة: غنَّت فأخفتْ صوتها في عودها ... فكأنَّما الصوتان صوتُ العودِ غيداءُ تأمر عودها فيطيعها ... أبداً ويتبعها اتّباعَ ودودِ أندى من النُّوّارِ صبحاً صوتها ... وأرقُّ من نشرِ الثَّنا المعهودِ فكأنَّما الصوتان حين تمازجا ... ماء الغمامة وابنة العنقودِ وأنشدني له في غلام يهواه قوله: يجري النسيمًُ على غلالةِ خدِّه ... وأرق منهُ ما يمرُّ عليهِ ناولته المرآة ينظر وجههُ ... فعكستُ فتنة ناظريهِ إليه جملة من النظم والنثر فقي وصف النَّوْر والزهر كتب علي بن العباس الرومي إلى علي بن عبد الله بن المسيب: أدركْ ثقاتكَ إنَّهم وقعوا ... في نرجس معه ابنةُ العنب ريحانهم ذهبٌ على دررٍ ... وشرابهم درٌّ على ذهب فهم بحالٍ لو بصرت بها ... سبَّحتَ من عجبٍ ومن عجب في روضةٍ شتويةٍ رضعت ... درَّ الحيا حلباً على حلب واليوم مدجونٌ فحرَّتهُ ... فيهِ بمطَّلعٍ ومحتجبِ ظلَّت تسايرنا وقد بعثتْ ... ضوءاً يلاحظنا بلا لهب هذا في وصف الشمس كما قال ابن المعتز بالله: تظلًّ الشمسُ ترمقنا بطرفٍ ... خفيٍّ لحظهُ من خلف ستر تحاولُ فتقَ غيمٍ وهو يأبى ... كعنينٍ يحاول فتقَ بكرِ وكان ابن الرمي لهجاً بالنرجس، مفضلاً له على الورد، وله في ذلك شعر كثير وقد عارضه وناقضه [في ذلك] جماعة من البغداديين وغيرهم فما شقوا غباره، ولا لحقوا آثاره. وصنّف بعض الظرفاء كتاباً في الترجيح بينه وبني معارضيه، فحكم له على مناقضيه. وكان كسرى أنوشروان يقول: "النرجس ياقوت أصفر بين در أبيض على زمرد أخضر"، أخذه بعض المحدثين فقال: وياقوتهٍ صفراءَ في رأس درَّةٍ ... مركَّبةٍ في قائم من زبرجدِ كأنَّ بهيَّ الدُرِّ عقدُ نظامها ... بغير فريدٍ قد أطافَ بعسجدِ كأنَّ بقايا الطلِّ في جنباتها ... بقيةُ رشحٍ فوق خدٍّ مورَّدِ وإنما ذهب أنوشروان إلى معارضة أردشير بن بابك في قوله: "الورد در أبيض، وياقوت أحمر، على كراسي زبرجد أخضر، بوسطه شذر من ذهب أصفر، له رقة الخمر، ونفحات العطر". أخذه محمد بن عبد الله بن طاهر فقال: كأنَّهنَّ يواقيتُ يطيفُ بها ... زمرُّدٌ وسطهُ شذرٌ من الذَّهبِ فاشرب على منظرٍ مستظرفٍ حسنٍ ... من خمرةٍ موةٍ كالجمر في اللَّهبِ وقال ابن بسام: أما ترى الوردَ يدعو للورودِ على ... حمراءَ صافيةٍ في لونها صهبُ مداهنٌ من يواقيتٍ مركَّبةٍ ... على الزبرجدِ في أجوافها ذهبُ خاف الملالَ إذا طالت إقامته ... فصار يظهر أحياناً ويحتجبِ وقال ابن الرومي: خجلتْ خدودُ الوردِ من تفضيلهِ ... خجلاً تورُّدها عليه شاهد لم يخجلِ الوردُ المورَّدُ لونه ... إلاّ وفاخرهُ الفضيلة عائد للنرجسِ الفضلُ المبينُ إذا بدا ... للناظرين طريفهُ والتالدُ ?فصلُ القضيّة أنّ هذا قائدٌ ... زهر الربيعِ وإنَّ هذا طاردُ شتّان بين اثنين هذا موعدٌ ... يتسلُّب الدُّنيا وهذا واعدُ وإذا احتفظتَ به فأمتع صاحبٍ ... بحياتهِ لو أنَّ حيّاً خالدُ ينهى النديمَ عن القبيحِ بلحظهِ ... وعلى المدامةِ والسَّماعِ مساعدُ اطلبْ بعفوك في الملاح سميَّهُ ... أبداً فإنك لا محالةَ واجدُ والوردُ إن فتَّشت فردٌ في اسمه ... ما في الملاحِ له سميٌّ واحد هذي النجومُ هي التي ربتهما ... بحيا السحابِ كما يربَّي الوالدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فانظر إلى الولدين من أدناهما ... شبهاً بوالدهِ فذاك الماجدُ أين العيونُ في الخدود نفاسةً ... ورياسةً لولا القياسُ الفاسدُ وقال أحمد بن يونس الكاتب رداً عليه: يا من يشبِّهُ نرجساً بنواظر ... دعجٍ تنبَّه إنّ فهمك راقدُ إنَّ القياسَ لمن يصحُّ قياسه ... بين العيونِ وبينه متباعدُ والورد أشبهُ بالخدود حكاية ... فعلامَ نجحد فضله يا جاحدُ ملكٌ قصير عمره مستأهلٌ ... تخليده لو أنَّ حياً خالدُ إن قلت أنّ الورد فردٌ في اسمه ... ما في الملاح له سميٌّ واحد فالشمس تفرد باسمها والمشتري والبدر يشرك في اسمه وعطارد أو قلتَ: إنَّ كوكباً ربتهما ... بحيا السَّحابِ كما يربي الوالدُ قلنا: أحقُّهما بطبعِ أبيه في الج? ... دوى هو الزَّاكي النَّجيب الراشدُ زهر النجومِ تروقنا بضيائِها ... ولنا منافعُ بعد ذا وعوائدُ وكذلك الوردُ الأنيقُ يروقنا ... وله فضائلُ جمّةٌ وفوائد وخليفهُ إذا غاب ناب بنفحهِ ... وبنفعه أبداً مقيم راكد إنْ كنتَ تنكرُ ما ذكرنا بعدما ... وضحتْ عليه دلائلٌ وشواهد فانظر إلى المصفَرِّ لوناً منهما ... وافطن فما يصفَّرُ إلاّ الحاسد هذا ومن غيره ما اختير، وإنما ألمع هنا باليسير. وقال ابن الرومي في جملة الروض: أصبحتْ الدُّنيا تسرُّ من نظر ... بمنظرٍ فيه جلاءٌ للبصر أثنت على الله بآلاء المطر ... واهاً لها مصطنعاً لقد شكر فالأرض في روضٍ كأفوفا الحبرْ ... تبرَّجتْ بعد حياءٍ وخفرْ تبرُّجَ الأنثى تصدَّت للذَّكر وقال ابن المعتز: جلا لنا وجهَ الدُّجى عن منظرٍ ... كالعصبِ أو كالوشي أو كالجوهرِ من أبيضٍ وأصفرٍ وأحمرٍ ... وطارفٍ أجفانه لم ينظر تخاله العينُ فماً لم يفغرِ ... وفاتقٍ كاد ولم يُنوَّر كأنَّه مبتسمٌ لم يكشِرِ ... وأدمع الغدرانِ لم تكدَّرِ كأنَّها دراهمٌ في معثر ... أو كعشور المصحف المعشرِ والأرضُ ريّا ذات عودٍ أخضرٍ ... فيه النَّدى مستوقفٌ لم يقطرِ كدمعةٍ حائرةٍ في محجر وقال أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان: وجلَّنارٍ مشرقٍ ... على أعالي شجره كأنَّ في رؤوسه ... أحمره وأصفره قراضةً من ذهبٍ ... في خرقٍ معصفره وقال أبو القاسم محمد بن هانئ يصف نوارة رمان قطعت ولم تتفتح: وبنتِ أيكٍ كالشَّباب النَّضرِ ... كأنَّها بين الغصونِ الخضرِ جنان بازٍ أو جنانُ صقرِ ... قد خلقته لقوةٌ بوكرِ كأنَّما مجَّت دماً من نحر ... أو سقيت بجدول من خمرِ أو نبتتْ في تربةٍ من جمرِ ... لو كفَّ عنها الدّهرُ صرفَ الدَّهرِ جاءت بمثلِ النَّهدِ فوق الصَّدرِ ... تفترُّ عن مثل اللّثات الحمرِ في مثلِ طعم الوصلِ بعد الهجر وقال الأمير أبو الفضل عبيد الله الميكالي في حديقة ريحان: أعددت محتفلاً ليومِ فراغي ... روضاً غدا إنسانَ عينِ الباغي روضٌ يروضُ همومَ قلبي حسنُهُ ... فيه لكأسِ اللَّهو أيُّ مساغِ وإذا بدت قضبانُ ريحانٍ به ... حيَّت بمثل سلاسل الأصداغ وقال في النرجس: وما ضمَّ شملَ اللهو يوماً كنرجسٍ ... يقومُ بعذرِ اللَّهو عن خالع العذرِ فأحداقهُ أقداحُ تبرٍ وساقهُ ... كقامةِ ساقٍ في غلائله الخضرِ وقال الوكيعي في المشمش: بدا مشمشُ الشجارِ يذكو شهابهُ ... على خضر أغصانٍ من الريِّ ميَّدِ حكى وحكت أشجارهُ في اخضرارها ... جلاجلَ تبرٍ في قبابِ زبرجدِ وقال في الباقلاء: كأنَّ أوراق وردٍ ... للباقلاء بهيَّه خواتمٌ من لجينٍ ... فصوصها حبشيّه وقال فيه أيضاً: نوَّرَ الباقلاء نوراً ظريفاً ... جلَّ في حسنهِ عن الإشكال قد حكى وردهُ لنا إذ تبدَّى ... شررَ الرُّوم ضمِّخاْ بغوالِ وقال في الطلع: وطلعٍ هتكنا عنه جيبَ قميصه ... فيا حسنه من منظرٍ حين هُتِّكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 حكى صدرَ خودٍ من بني الرُّومِ هزَّها ... سماعٌ فقدَّتْ عنه ثوباً ممسكاً وقال في الخشخاش: وخشخاشٍ كأنّا منه نفري ... قميصَ زبرجدٍ على جسمِ درِّ كأقداحٍ من البلُّورِ صينتْ ... بأغشيةٍ من الدِّيباجِ خضر ومن ألفاظهم في هذا النحو: إذا ورد الورد، صدر البرد، مرحباً بأشرف الزهر، في أظرف الدهر، كأنه عين النرجس عين، وورقه ورق. النرجس نزهة الطرف وظرف الظرف، شقائق كأصداغ المسك على الوجنات المورّدة، كأن الشقيق جام أحمر ملئت قرارته بمسك أذفر. ولهم في تشبيه الربيع بمحاسن الأشراف: غيث الربيع مشبه بخلقك، وزهره مواز لبشرك، كأنما استعار حلله من شمائلك وشيمك، وحليه من سجيتك، واقتبس أنواره من محاسن أيامك، وأمطاره من جودك وأنعامك، قدم الربيع منتسباً إلى خلقك، مكتسباً محاسنه من طبعك، متوشحاً بأنوار لفظك، متوضحاً بآثار يدك. أنا في بستان كأنه من شمائلك سرق، ومن خلقك خلق، وقد قابلتني أشجار تتميل فتذكر ترنح الأحباب، إذا تداولتهم أيدي الشراب. ومن ظريف أخبار القيان: اجتمع أربعة عشاق لقينةٍ، وكلهم يوري عن صاحبه بسره، ويطوي دونه خبره ويومئ إليها بحاجته، ويناجيها بلحظته، وكان أحدهم غائباً فقدم، والآخر مقيماً قد عزم على السفر، والثالث قد سلفت أيامه، والرابع مستأنفة مودته، فضحكت بعينها إلى الأول، وبكت إلى الثاني، وآيست الثالث، وأطعمت الرابع. واقترح كل واحد منهم ما يشاكل بثه وشأنه، فأجابته، فقال القادم: جعلت فداك أتحسنين: ومن ينأ عن دار الهوى يُكثرُ البكا ... وقولاً: لعلِّي أو عسى ويكون وما اخترتُ نأيَ الدّار عنكِ لسلوةٍ ... ولكنْ مقادير لهنَّ شجونُ فقالت أحسنه، وما أقيم لحنه، وقد كان مطارحه لي لا يخليه من عقيب يقرنه به، أنا به أحذق، ثم غنت: وما زلتُ مذْ شطَّت بكَ الدَّار باكياً ... أؤملُ منك العطفَ حين تؤوبُ فأضعفت ما بي حين أُبتَ وزدتني ... سقاماً وإعراضاً وأنت قريبُ فقال الظاعن: جعلت فداكِ، أتحسنين: أوفَ الفراقُ فأعلني جزعاً ... ودعي العتابَ فإننا سفرُ إن المحبَّ يصدُّ مقترباً ... فإذا تباعد شفَّهُ الذّكرُ فقالت: نعم، وأحسن من شكله في إيقاعه: لأقيمنَّ مأتماً من قريبِ ... ليس بعد الفراقِ غيرُ النحيب ربِّ ما أوجعَ النَّوى للقلوب ... ثم لاسيّما فراقُ الحبيب فقال السالف [جعلت فداكِ] أتحسنين: كنّا نعاتبكم ليالي عودكمْ ... حلو المذاقِ وفيكم مستعتبُ فالآن حين بدا التنكُّر منكم ... ذهب العتابُ وليس عنكم مذهب فقالت: لا، ولكن أحسن منه في معناه [حيث أقول] : وصلتكَ لمَّا كانَ ودُكَ خالصاً ... وأعرضتُ لما صرتَ نهباً مقسما ولن يلبث الحوضُ الجديدُ بناؤهُ ... على كثرة الوُرَّاد أن يتهدما فقال المستأنف: أتحسنين [جعلت فداكِ] أن تغني: إني لأعظمُ أنْ أفوهَ بحاجتي ... فإذا قرأتِ صحيفتي فتفهَّمي وعليكِ عهد الله إن نبأتهِ ... أحداً وإن آذنتِهِ بتكلُّم فقالت: نعم قدِّمت قبلك، ومن غناء صاحبه: لعمركَ ما استودعتُ سرّي وسرِّها ... سوانا حذاراً أن تذيعَ السَّرائر ولا خاطبتها مقلتاي بنظرةٍ ... فتعلم نجوانا العيون النواظرُ ولكن جعلتُ الوهمَ بيني وبينها ... رسولاً فأدَّى ما تجنُّ الضّمائر أكاتمُ ما في القلبِ بقيا على الهوى ... مخافةَ أن يغرى بذكرك ذاكرُ فتفرقوا وكلّهم قد أومأ بحاجته، وأجابته بجوابه. وكتب البديع إلى أبي عامر عدنان بن محمد الضبي يعزيه عن وفاة بعض أقاربه: إذا ما الدَّهرُ جرّ على أناسٍ ... كلاكلهُ أناخَ بآخرينا فقل للشامتينَ بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أحسن ما في الدهر عمومه النوائب، وخصوصه بالرغائب، فهو يدعو الجفلى إذا أساء، ويختص بالنعمة الرؤساء، فليفكر الشامت، فإن أفلت فله أن يشمت، ولينظر الإنسان في الدهر وصروفه، والموت وصنوفه، ومن فاتحة أمره، إلى خاتمة عمره، أيجد لنفسه أثراً في نفسه؟ أو لتدبيره عوناً على تصويره؟ أم لعمله تقديماً لأمله، أم لحيله تأخيراً لأجله؟ كلا! بل هو العبد {لم يكن شيئاً مذكوراً} ، خلق مقهوراً، ورزق مقدوراً، فهو يحيا جبراً، ويهلك صبراً، وليتأمل المرء كيف كان قبلاً، وإن كان العدم أصلاً، والوجود فضلاً، فليطم الموت عدلاً، فالعاقل من رقع جوانب الدهر ما أساء بما سر، ليذهب ما نفع بما ضر فإن أحب ألا يحزن فلينظر يمنة، فهل يرى إلا محنة ثم ليعطف يسرة، فهل يرى إلا حسرة؟ ومثل سيدي أطال الله بقاءه من نظر هذه الأسرار وعرف هذه الدار، فأعد لنعيمها صدراً لا يملؤه فرحاً، ولبؤسها قلباً لا يطير ترحاً، وصحب الدهر برأي من يرى أن للمتعة رداً، وللأمور مدى، ولقد نعي إليّ أبو قبيصة قدس الله روحه، ونور ضريحه فعرضت علي آمالي قعوداً، وأمانيّ سوداً، وبكيت [ولكن] السخي جوده بما يملك، وضحكت، وشر الشدائد ما يضحك، وعضضت الإصبع حتى أفنيته. وذممت الموت حتى تمنيته، والموت أطال الله بقاء الشيخ الرئيس خطب عظم حتى هان، وقد خشن حتى لان، ونكر حتى قد عمَّ وعاد عرفاً، والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها، وخبثت حتى صار أقلَّ عيوبها، ولعل هذا السهم آخر ما في كنانتها، وأنكى ما في خزانتها، ونحن معاشر التبع نتعلم الأدب من أخلاقه، والفضل من أفعاله، فلا نحدوه على الجميل وهو الصبر، ولا نرغبه في الجزيل وهو الأجر، فلير فيهما رأيه إن شاء الله تعالى. وله إلى بعض إخوانه جواباً عن كتاب يهنئه بمرض أبي بكر الخوارزمي: الحر أطال الله بقاءك، لا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي إذا نظر علم أن نعم الدهر ما دامت معدومة فهي أماني، فإن وجدت فهي عواري، وأن محن الأيام وإن مطلت تستنقد، وإن لم تصب فكأن قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، فالشامت إن أفلت فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت، وما أقبح الشماتة، بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لفظة، وعقيب كل لحظة?! والدهر غرثان طعمه الأخيار، وظمآن شربه الأعمار، فهل يشمت المرء بأنياب آكله؟ أم يسر العاقل بسلاح قاتله؟ هذا الفاضل شفاه الله وإن ظاهرنا بالعداوة قليلاً، فقد باطناه وداً جميلاً والحر عند الحمية لا يصطاد، لكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد، فلا يتصور حالي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتفجع لمرضته وقاه الله المكروه، ووقاني سماع المحذور فيه، بمنه وحوله ولطفه وكرمه. وهذا ضد قول الخوارزمي، وقد بلغه موت بعض أعدائه: فلان قبض، وأستغفر الله فإنما يقبض الأقوام، بل نفق كما تنفق الأنعام، فالحمد لله الذي قصر خطوة أجله، وختم عمره بسوء عمله، وأبقى بعده من كان يرجو أن يموت قبله: (شعر) : وإنَّ بقاءَ المرءِ بعد عدوِّه ... ولو ساعةً من عمره لكثير وكانت بين الخوارزمي والبديع منافرة ومناظرة بكته فيها وأسكته البديع، وقد ذكر جميع ما جرى بينهما فقال: أول الأمر مع الخوارزمي أنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور داراً، والأجواد السادة جواراً، لا جرم أنا حططنا بها الرحل، ومددنا عليها الطنب، وقديماً كنا نسمع بحديث هذا الفاضل منتشوقه، ونخبره على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، أخرج لنا في العشرة عن القشرة، [وفي المودة عن الجلدة] ، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الآداب نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع: أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكل غريبٍ للغريبِ نسيبُ فأخلف ذلك الظن كل الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف، وقد كان اتفق علينا في الطريق اتفاق، ولا يوجبه استحقاق، من بزة بزوها، وفضة فضوها، وذهب ذهبوا به، ووردنا نيسابور براحة أنقى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار، وزي أوحش من طلعة المعلم، بل إطلاعه الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره، هذا بعد رقعة قدمناها، وأحوال أنس نظمناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ونسخة الرقعة: أنا بالقرب من دار سيدي الأستاذ أطال الله بقاءه: كما طربَ النشوان مالت بهِ الخمر ومن الارتياح إلى لقائه: كما انتقضَ العصفورُ بلَّله القطرُ ومن الامتزاج بولائه كما التقت الصَّهباء والباردُ العذبُ ومن الابتهاج لصفائه كما اهتز تحت البارح الغصن الرَّطبُ فكيف نشاطك الأستاذ سيدي لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل ما بين عتبتي نيسابور وجرجان؟ وكيف اهتزازه لضيف: رثُّ الشَّمائلِ منهجُ الأثوابِ ... بكرتْ عليه مغيرةُ الأعرابِ وهو أيده الله ولي إنعامه، بإنفاذ غلامه [إلى مستقري] لأفضي إليه بسري إن شاء الله. فلما أخذتنا عينه سقانا الدردي من أول دنه، وسوء العشرة من أول فنه، من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره، لكنا أقطعناه جانب أخلاقه، ووليناه خطة رأيه، ووصلناه إذ جاذب، وقاربناه إذ جانب، وشربناه على كدرته، ولبسناه على خشونته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستمد وداده، ونستلين قياده، ونستميل فؤاده، ونستقيم منآده، بما هذه نسخته: الأستاذ أبو بكر والله يطيل بقاءه أزرى بضيفه أن وجده يضرب إليه آباط القلة، في أطمار الغربة، فأعمل في تربيته أنواع المصارفة، [و] في الاهتزاز له أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ للكلام، وتكلف لرد السلام، وقد قبلت ترتيبه صغراً، واحتملته وزراً، واحتضنته نكراً، وتأبطته شراً، ولم آله عذراً، فإن المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، أتقزر [من] صف النعال، فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت: إن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناس يجرون المطارف، ولا يمنعون العارف، (شعر) : وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههُمْ ... وأنديةٌ ينتابها القولُ والفعلُ فلو طرحت بأبي بكر إليهم طوارح الغربة، لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيباً، ووجه المضيف خصيباً، ورأي الأستاذ أبي بكر أيده الله في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه شهد، موفق إن شاء الله. فأجاب بما نسخته: وصلت رقعة سيدي ورئيسي أطال الله بقاءه إلى آخر السكباج، وعرفت ما تضمنه من خشن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضجرة التي لا يخلو منها من مسه عسر، ونبا به دهر، والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه، فأما ما شكاه سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه رغم في القيام، فقد وفيته حقه أيده الله سلاماً وقياماً، على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلا السيد أبا البركات أدام الله عزه، وما كنت لأرفع أحداً على من أبوه الرسول، وأمه البتول، وشاهده التوراة والإنجيل، وناصره التأويل والتنزيل، والمبشر به جبريل وميكائيل، فأما القوم الذين صدر سيدي عنهم، فكما وصف: حسن عشرة، وسداد طريقة، وجمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، [ونلت المراد] : فإنْ ألُ قد فارقتُ نجداً وأهلهُ ... فما عهدُ نجدٍ عندنا بذميمِ والله يعلم نيتي للإخوان كافة، ولسيدي من بينهم خاصة، فإن أعانني على ما في نفسي بلغت له ما في الفكرة، وجاوزت به مسافة القدرة، وإن قطع علي طريق عزمي بالمعارضة وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار بيد الاضطرار. (شعر) : وما النَّفس إلاّ نطفةٌ بقرارةٍ ... إذا لم تكدَّرْ كان صفواً غديرها وبعد فحبذا كتاب سيدي، إذا استوجبنا عتباً، واقترفنا ذنباً، فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله عليه، ولست أسومه أن يقول: {أستغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين} ، ولكني أسأله أن يقول: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فحين ورد الجواب، وغير العذر رائده، تركناه بعره، وطويناه على غرة، وعمدنا إلى ذكره فسحوناه ومحوناه، وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه، وتنكبنا خطته، وتجنبنا خطته، فلا طرنا إليه، ولا طرنا به، ومضى على ذلك الأسبوع، ودبَّت الأيام ودرجت الليالي، وتطاولت المدة، وتصرم الشهر، وصرنا لا نعير الأسماع ذكره، ولا نودع الصدور حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها السماع من لسانه، وتردها إلي، وكلمات تحفظها اللسنة من فمه، وتعيدها عليّ، فكاتبناه بما نسخته: أنا أرد من الأستاذ سيدي أطال الله بقاءه شرعة وده، وإن لم تصف، وألبس خلعة بره، وإن لم تضف، فإني، وإن كنت دعي النسب في الأدب، ضعيف السبب، ضيق المضطرب، سيء المنقلب، أمت إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفاً في الود، إن زرت زار، وإن عدت عاد، وسيدي أيده الله ناقشني في القبول أولاً، وصارفني على الإقبال ثانياً، فأما الحديث الإفضال، وأمر الإنزال، فنطاق الطمع ضيق عنه، [غير] متسع لتوقعه منه، وبعد فكلفة الفضل هينة، وقروض الود متعينة، وارض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم اختار قعود التعالي مركباً، وصعود التقالي مذهباً، وهلا ذاد الطير عن شجر قد ذاق الحلو من ثمرها، فقد علم الله أن شوقي إليه قد كد الفؤاد، برحاً على برح، ونكأه قرحاً على قرح، ولكنها مرة مرة، ونفس حرة، لم تغذ إلا بالإعظام، ولم تلق إلا بالإكرام، وإذا استعفاني من معاتبته، وأعفى نفسه من كلف الفضل بتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرعها، وكم أعزه من نفسي، وأنا لو أعرت جناحي طائر لما طرت إلا إليه، ولا رففت إلا عليه: أحبُّكَ يا شمسَ المعالي وبدرها ... وإن لامني فيك السُّها والفراقدُ وذاك لأنَّ الفضلَ عندكَ باهرٌ ... وليس لأنَّ العيشَ عندك باردُ فلما وردت عليه هذه الرقعة حشر تلاميذه وخدمه، وزم عن الجواب قلمه، وجشم للإيجاف قدمه، وطلع مع الفجر علينا طلوعه، ونظمتنا حاشيتا دار الأمير الإمام أبي الطيب، فقلت: الآن تشرق الحشمة وتثور، وننجد في العشرة ونغور، وقصدناه شاكرين لما أتاه من فعله، وانتظرنا عادة بره، [وتوقعنا] مادة فضلة، فكان خلباَ شمناه، وآلاً وردناه، وصرفناه في تأخره، وتأخرنا عنه إلى ما قاله عبد الله بن المعتز بالله: إنّا على البعادِ والتفرُّقِ ... لنلتقي بالذّكرِ إن لم نلتقِ وأنشدناه قول ابن عصرنا: أحبُّكَ في البتول وفي أبيها ... ولكنّي أحبُّكَ من بعيد وبقينا نلتقي خيالاً، ونقنع بالذكر وصالاً، حتى جعلت عواصفه تهب، وعقاربه تدب. والمجلس طويل، والإفراط ثقيل، فلذاك وقفت عن الغاية، وقطعت دون النهاية. وقال بعض الظرفاء: أنتَ الذي تشبهُ منْ أهوى ... يا بدرُ قد أبطلتَ في الدعوى بلى عسى يشبههُ كلَّما ... صدَّ ولم يستمعِ الشَّكوى ولابن وكيع في هذا النحو: إنْ قلتُ إنكَ بدرٌ ... غلطتُ بابَ السَّدادِ أنى يقاسُ لبيبٌ ... مميَّزٌ بجمادِ وقال الأمير تميم فيه: سألتهُ قبلةً من على عجلِ ... فاحمرَّ من خجلٍ واصفرَّ من وجلِ واعتلَّ من بينِ إسعافٍ يرقّقهُ ... وبين منعٍ تمادى فيه بالعللِ وقال: وجهي بدرٌ لا خفاءَ به ... ومبصر البدرِ لا يدعوه للقبلِ وقال: صادفتْ لامَ صدغها صادُ لثمي ... فأرتها المرآةُ في الخدِّ لصَّا فاستشاطتْ ممّا رأت ثم قالت: ... أكتاباً أرى ولم أرَ شخصا وهذا ينظر إلى قوله: أباحَ لمقلتي السَّهرا ... وجارَ عليَّ إذ قدرا غزالٌ لو جرى نفسي ... عليه لذابَ وانفطرا ولكن عينهُ حشدتْ ... عليّ الغنجَ والحورا ومن أودى به قمرٌ ... فكيف يعاتب القمرا كأنه ذهب إلى طريقة أبي نواس في قوله: كأنّ ثيابهُ أطلع? ... ?ن في أزرارهِ قمرا يزيدك وجههُ حسناً ... إذا ما زدتَهُ نظرا بعينٍ خالط التفتي? ... ?رُ من أجفانها الحورا ووجهٍ سابريِّ لو ... تصوَّبَ ماؤهُ قطرا وقيل للجاحظ: من أشعر المحدثين؟ فقال: الذي يقول: وأنشد هذه الأبيات. وقال تميم [بن المعز] : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ما هجرتُ المدامَ والوردَ والبدْ ... رَ بطوعٍ لكن برغمٍ وكرهِ منعتني من الثَّلاثةِ من لو ... قتلتني لمْ أحكِ والله من هي قالت: الوردً والمدامةُ والبد ... رُ رُضابي ولونُ خدّي ووجهي قلت: بخلاً بكلِّ شيءٍ؟ فقالت: ... لا ولكن بخلتُ بي وبشبهي قلت: يا ليتني شبيهك ِقالت: ... إنما يقتلُ المحبَّ التشهيّ وقال [عمر بن أبي ربيعة] فيما يتعلق بالبيت الأخير: أصبح القلبً مستهاماً مُعَنّى ... بفتاةٍ من أسوأ النَّاس ظنّا قلت يوماً لها وحرَّكتِ العو ... دَ بمضرابها فغنَّتْ وغنَّى ليتني كنتُ ظهرَ عودكِ يبوماً ... فإذا ما احتضنتني صرت بطنا فبكتْ ثم أعرضت ثم قالتْ: ... من بهذا أتاكَ في اليومِ عنّا لو تخوفتَ جفوةً أو صدوداً ... ما تطلَّبت ذا لعمرك منّا قلتُ لما رأيتُ ذلك منها ... بأبي ما عليكِ أن أتمنّى وقال أبو الفتح كشاجم فيه: تمنَّيتُ من خدِّها قبلةً ... وما كنتُ أطمعُ في قبلته وكأساً أناولها ملأها ... فتبدا وأشربُ من فضلته فأبلغها ذاك عنّي الرسو ... لُ في بعضِ ما نصَّ من قصته فقالتْ لأقرب أترابها: ... ألا تنظرينَ إلى همَّته فقالت: أنجمعُ هجرانهُ ... وبخلاً عليه بأمنيته وكان تميم بن المعز يقتفي طريق ابن المعتز في التشبيهات، وبدائع الصفات، ويتابعه في سلوك ألفاظ الملوك، وكانت يد فكره قاصرة عن مرماه، فيما عنَّ له معناه، ولكنه أدمن فأحسن، في كثير مما اعتمده وقصده، وشعره بمصر مع استحكام السن، في غاية الحسن كقوله: سقّياني فلستُ أصغي لعذلِ ... ليس إلاّ تعِلَّةُ النَّفس شغلي أأطيعُ العذول في ترك ما أه? ... ?وى كأنّي اتَّهمت رأيي وعقلي علّلاني بها فقد أقبلَ اللّي? ... ?ل كلونِ الصُّدود من بعد وصل وانجلى الغيم بعد ما أضحكَ الرَّو ... ض بكاءُ السَّحاب فيه بوبلِ عن هلالٍ كصولجانِ نضارٍ ... في سماءٍ كأنَّها جامُ ذبلِ وله أيضاً: رُبَّ صفراءَ علَّلتني بصفرا ... ء وجنحُ الظَّلامِ مرخى الإزارِ بين ماءٍ وروضةٍ وكرومٍ ... وروابٍ منيفةٍ وصحاري تتثنّى بها الغصونُ علينا ... وتجيب القيانُ فيها القماري وكأنّ الدُّجى غدائر شعرٍ ... وكأنّ النُّجومَ فيها مداري وانجلى الغيمُ عن هلالٍ تبدّى ... في يدِ الأفقِ مثلَ نصفِ سوارِ وله أيضاً: إذا حذرتَ زماناً لم تسَرَّ به ... كم قد أتى سهل أمرٍ دون أصعبه فأقبل الدَّهر ما أعطاك مختلطاً ... لعلَّ مرَّك يحلو في تقلبه خذها إليك ودع لومي مشعشعة ... من كفِّ أقنى أسيل الخدِّ مذهبه في كلِّ مقعد حسنٍ منه معترضٌ ... عليه يحميهِ من أن يستبدَّ به فكحل عينيه ممنوعٌ بخنجره ... وورد خدَّيه محميٌّ بعقربه لا تتركِ القدحَ المملوءَ في يده ... إنّي أخافُ عليه من تلهّبه وصنهُ عن سقينا إنّي أغار به ... وسقِّهِ واسقني من فضلِ مشربهِ وانظر إلى اللّيل كالزِّنجي منهزماً ... والصُّبح في أثره يعدو بأشهبه والبدرُ منتصبٌ ما بين أنجمه ... كأنّه ملكٌ في صدر موكبه وقوله أيضاً: عقرب الصُّدغِ فوق تفاحةِ الخ? ... دِّ نعميٌ مطرزٌ بعذابِ وسيوف الألحاظِ في كلِّ حينٍ ... مانعات جنة الثَّنايا العِذابِ وعيون الوشاةِ يفسدنَ بالرّق? ... بة والمنع رؤية الأحبابِ فمتى يظفرُ المحبُّ ويشفي ... بالتّداني مضاضة الاكتئاب وقوله: ترى عذاريهِ قد قاما بمعذرتي ... عند العذول فأضحى وهو يعذرني ريمٌ كأنَّ له في كل جارحةٍ ... عقداً من الحسنِ أو نوعاً من الفتنِ كأنَّ جوهرهُ من لطفهِ عرضٌ ... فليس تحويهِ إلاّ أعينُ الفطنِ أخفى من السِّرّ لكنْ حسنُ صورته ... إذا تأملّته أبدى من العلنِ والله ما فتنت عيني محاسنهُ ... إلاّ وقد سحرت ألفاظه أذني ما تصدر العينُ عنه لحظها مللاً ... كأنّه كلُّ شيءٍ مرتضىً حسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 يا منتهى أملي لا تُدنِ لي أجلي ... ولا تعذّب ظنوني فيكَ بالظننِ إن كان وجهكَ وجهاً صيغَ من قمرٍ ... فإنَّ قدَّك قدٌّ قُدَّ من غصن وقوله أيضاً: أأعذرُ قلبي وهو لي غيرُ عاذرٍ ... وأعصي غرمي وهو ما بين أضلعي نأوا والأسى عنّي بهم غير مُنتأٍ ... وودَّعتهم والقلب غير مودعِ فأوَّل شوقي كانَ آخر سلوتي ... وآخر صبري كان أول أدمعي وقوله أيضاً: إن كانتِ الألحاظُ رسل القلوبْ ... فينا فما أهونَ كيدَ الرَّقيبْ قبَّلتُ من أهوى بعيني ولم ... يشعر بتقبيلي خدُّ الحبيبِ لكنَّه قد فطنت عينهُ ... لسرِّ عيني فطنةَ المستريبِ إن كان علمُ الغيبِ مستخفياً ... عنّا فعندَ اللَّحظ علمُ الغيوبِ وقوله أيضاً: ألا يا نسيمَ الرّيح عرِّجْ مُسلِّماً ... على ذلك الشخصِ البعيدِ المودِّع وهُبَّ على من شفَّ جسمي بعادُهُ ... سموماً بما استمليت من نار أضلعي فإن قال ما هذا الحرورُ فقل له: ... تنفُّس مشتاقٍ لوجهك موجَعِ وكان أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله رقيق حاشية اللسان، أنيق ديباجة البيان، وكان كما قال ابن المرزبان: إذا انصرف عن بديع الشعر إلى رفيع النثر، أتى بحلال السحر، وهو أبدع الناس استعارات، وأحلاهم إشارات، وليس بعد ذي الرمة أقصد منه للتشبيهات، وكان ذو الرمة يقول: "إذا قلت: كأن، فلم أجد مخرجاً فقطع الله لساني". وسأريك قطعة من منثوره الظريف، ومنظومه الشريف: قال أحمد بن سعيد الدمشقي: كنت أؤدبه، فتحمل البلاذري على قبيحة أم المعتز بقول سألوها أن تأذن له في الدخول عليه لتأديبه وقتاً من النهار معي فأجابت أو كادت أن تجيب، فلما اتصل الخبر بي جلست في منزلي غضباً لما بلغني عنها، فكتب إلي وهو ابن ثلاث عشرة سنة يقول: أصبحت يا بن سعيدٍ حُزتَ مكرمةً ... عنها يقصِّرُ من يحفى وينتعلُ سربلتني حكمةً قد هذَّبت شيمي ... وأجَّجت نار ذهني فهي تشتعل أكون إن شئت قُساً في خطابته ... أو حارثا وهو يوم الحفلِ مرتجلُ وإن أشأْ فكزيدٍ في فرائضه ... أو مثل نعمان لما ضاقت الحيلُ أو الخليل عروضياً أخا فطنٍ ... أو الكسائي نحوياً له عللُ تعلو بداهة ذهني في مركَّبها ... كمثل ما عُرفتْ آبائي الأُوَلُ وفي فمي صارمٌ ما سلَّهُ أحدٌ ... من غمدهِ فدرى ما العيش والجذلُ عُقباك شكرٌ طويلٌ لا نفاد له=تبقى معالمهُ ما أطَّتِ الإبلُ قس الذي ذكره: هو قس بن ساعدة الإيادي، وحارث: هو الحارث بن حلزة اليشكري، ووصف ارتجاله يوم حفله في إنشاده عمرو بن هند قصيدته التي أولها: آذنتنا ببينها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يملُّ منه الثَّواءُ وزيد هو زيد بن ثابت الأنصاري، وغليه انتهى علم الفرائض، ونعمان هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت رئيس أهل العراق في الفقه، والخليل بن أحمد الفرهودي منسوب إلى الفراهيد بطنٌ من اليحمد من الأزد، وعلي بن حمزة الكسائي الكوفي. وقال ابن المعتز: سلي بي إذا ما الحربُ ثارتْ بأهلها ... ولم يكُ فيها للجبان قرار وعمَّ السّماءَ النقعُ حتى كأنَّه ... دخانٌ وأطرافُ الرِّماح شرارُ ولي كلُّ خوّارِ العنان مُجرَّبٌ ... كميْتٌ عناه الجري فهو مُطارُ كأنَّ الرياحَ الهوجَ يحملن سرجه ... إذا ابتلَّ منه محزَمٌ وعذارُ وعضبٌ حسامُ الحد ماضٍ كأنّه ... إذا لاح في نقع الكتيبةِ نارُ وقمصُ حديدٍ ضافيات ذيولها ... لها حدقٌ خزر العيون صغار وقال يمدح الموفق: إليك امتطينا العيس تنفخُ في البُرى ... وللصبحِ طرفٌ بالظَّلام كحيل فبتنا ضيوفاً للفلاةِ، قراهمُ ... عنيقٌ ونصٌّ دائمٌ وذميلُ يهزُّ ثيابَ العصْبِ فوق متونها ... نسيمٌ كنفث الراقيات عليلُ ولمَّا طغى فعلُ الدعيِّ رميته=بعزمٍ يردُّ العضبَ وهو فليل وجرِّد من أغمادهِ كلَّ مرهفٍ ... إذا ما انتضته الكفُّ كاد يسيلُ جرى فوق متنيهِ الفرندُ كأنّما ... تنفِّس فيه القينُ وهو صقيلُ وقال أيضاً في سيف يصفه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ولي صارمٌ فيه المنايا كوامنٌ ... فما يُنتضى إلاّ لسفك دماءِ ترى فوق متنيه الفرندَ كأنَّه ... بقيَّةُ غيمٍ رقَّ دون سماءِ وقال "مقصورة": وكأسٍ سبقتُ إلى شربها ... عذولي كذوبِ عقيقٍ جرى يسيرُ بها غصنٌ ناعمٌ ... من البانِ مغرسهُ في نقا إذا شئتُ كلَّمني بالجفو ... نِ من مقلةٍ كُحِّلتْ بالهوى له شعرٌ مثلُ نسج الدُّروعِ ... وطرفٌ سقيمٌ إذا ما رنا ويضحك عن أقحوان الرِّيا ... ضِ يغسلهُ بالعشيِّ النَّدى ومصباحنا قمرٌ مشرقٌ ... كترسِ اللُّجين يشقُّ الدُّجى وقال أيضاً: وفتيةٍ كسيوفِ الهند قلت لهم: ... سيروا فما فثؤوا رأيي ولا خرقوا ساروا وقد خضعت شمسُ الأصيلِ لهم ... حتى توقَّد من ذيل الدُّجى الشَّفق وقال أيضاً: لبسنا إلى الخمّار والنَّجم غائرٌ ... غلالةَ ليلٍ طرِّزت بصباح وظلَّت تدير الرّاح أيدي جآذرٍ ... عتاقٍ دنانير الوجوه ملاح وقال: وعاقدِ زُنَّارٍ على غصنِ الآس ... مليح المعاني مخطفِ الخصر ميَّاس سقاني عُقاراً صُبَّ فيها مزاجها ... فأضحك عن ثغرِ الحبابِ فمَ الكاس [وقال: يقول العاذلون: تسلَّ عنها ... وداوِ لهيبَ قلبك بالسُّلوِّ وكيف وقبلةٌ منها اختلاساً ... ألذُّ من الشماتة بالعدوِّ] وقال: وآثار وصلٍ في هواك حفظتها ... تحيّاتُ ريحانٍ وعضّاتُ تفاحِ وكتبٍ لطافٍ تربها المسكُ أدرجتْ ... على وصفِ أشجانٍ وتعذيب أرواحِ يخلنَ تعاويذاً بجنبي كأنّني ... أمسُّ بخيلٍ في مسائي وإصباحي ومن نثره المستندر قوله: وسار فلان في جنود عليهم أردية السيوف، وقمصان الحديد، وكأنّ دروعهم زبد السيول، وكأن رماحهم قرون الوعول، على خيل تأكل الأرض بحوافرها، ويمتد بالنقع سرادقها، قد نثرت في وجوهها غرر كأنها صحائف الرق، وأمسكها تحجيل كأنه أسورة اللجين، وقرطت عذراً كأنها الشنوف، تتلقف الأعداء أوائله، ولما تنهض أواخره، قد صب عليهم وقار الصبر وهب معهم ريح النصر. وهذا في صفة الجيش بديع كله. وله في النظم مثله مما رمى فيه بالتشبيهات، على مراقي الاستعارات. فجاء مفرغاً في قالب الكمال، مطلعاً في طالع الجمال، وهو قوله يمدح المكتفي بالله لما قدم من الرقة بعد القبض على القرمطي، وهاك الكلمة بجملتها: لا رمَّانِ النُّهود ... فوق أغصانِ القدود وعناقيد من أصدا ... غٍ وورودٍ من خدود ووجوهٍ من بدورٍ ... طالعاتٍ بالسعودِ ورسولٍ جاء بالميعاد ... من بعد الوعيد ونعمي من وصالٍ ... في قفا طول الصُّدود ما رأت عيني كظبي ... زارني في يوم عيد في قباءٍ فاختيِّ الل? ... ون من لبس الحديد كلما قاتل جند ... ي بسيف وعمود قاتل الناس بعيني? ... ن وخدين وجيد قد سقاني الرَّاح من في? ... ?هـ على رغم الحسود وتعانقنا كأنّي ... وهو في عقدٍ شديد نقرع الثغر بثغرٍ ... طيّبٍ وعذب الورود [مثلما عاجل بردٌ ... قطر مزنٍ بجمود] مرحباً بالملك القا ... دمِ بالجدِّ السعيد يا مُذلَّ البغي يا قا ... تل حيَّات الحقود عش ودم في ظلِّ عيشٍ ... خالدٍ باقٍ جديد فلقد أصبح أعدا ... ؤك كالزرع الحصيد ثم قد صاروا حديثاً ... مثل عادٍ وثمودِ جاءهم بحر حديد ... تحت أجبال بنود فيه عقبان خيولٍ ... فوقها أسدُ جنود وردوا الحرب فمدّوا ... كلَّ خطيّ مديد وحسامٍ شرهِ الحَ? ... دِّ إلى قطع الوريد ما لهاذ الفتح يا خي? ... ?ر إمامٍ من نديد فاحمد الله فإن ال? ... حمدَ مفتاحُ المزيدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 كتبت هذه القصيدة لأنها فريدة، تجري على النفس مجرى الطبع، والكلام الجيد الطبع مقبول في السمع، قريب المتناول، بعيد المنال، أنيق الديباجة، رقيق الزجاجة، يدنو من فهم سامعه دنوه من وهم صانعه، والمصنوع مثقف الكعوب، معتدل الأنبوب، يطرد ماء البديع على جنباته، ويجول رونق الحسن في صفحاته، كما يجول السَّحر في الطرف الكحيل، والأثر في السيف الصقيل، وحمل الصانع شعره على الإكراه في التعمل لتنقيح المباني دون تصحيح المعاني يعفي آثار صنعته، ويطفئ أنوار صيغته، ويخرجه إلى فساد التعسف وقبح التكلف، فإلقاء المطبوع [بيده] إلى قبول ما يبعثه هاجسه، وتنفثه وساوسه، من غير إعمال النظر، ولا تدقيق الفكر، ويخرجه إلى حد المستهدم الرث، وحيز المستوخم الغث، وأحسن ما أجري إليه، وعول عليه، التوسط بين الحالين، والمنزلة بين المنزلتين في الطبع والصنعة. وقد قال أعرابي للحسن البصري: علمين ديناً وسطاً، لا ساقطاً سقوطاً، ولا ذاهباً فروطاً، قال: أحسنت، (خير الأمور أوساطها) . والله قد جعل البيان مقسماً في خلقه، وأجل حظ البحتري، إذ كان عن هذه القوس ينزع، وإلى هذا النحو يرجع. ومن كلام ابن المعتز في صوف الكتاب والقلم قوله: الكتاب والج للأبواب، جريء على الحجاب، مفعم لا يفهم، وناطق لا يتكلم، به يشخص المشتاق إذا أقعده الفراق، والقلم مجهز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، ويسكت واقفاً، وينطق سائراً، على أرض بياضها مظلم، وسادها مضيْ، كأنه يقبل بساط سلطان أو يفتح نوار بستان. وهذا كقوله في القاسم بن عبيد الله، قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي لمات عرض القاسم على المعتضد بالله ليخلف أباه: فقال ابن المعتز: قلم ما أراه أم فلك يج? ... ري كما شاء قاسم ويسير خاشع في يديه يلثم قرطا ... ساً كما قبل البساط شكور مرسل لا تراه يحبسه الش? ... ك إذا ما جرى ولا التفكير ولطيف المعنى جليل نحيف ... وكبير الأفعال وهو صغير كم منايا وكم عطايا وكم حت? ... ف وعيش تضم تلك السطور نقشت بالدجى نهاراً فما أد ... ري أخط فيهن أم تصوير وقال بعض البلغاء: صورة الخط في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال أبو الطيب المتنبي: دعاني إليك العلم والحلم والحجى ... وهذا الكلام النظم والنائل النثر وما قلت من شعر تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيض من نورها الحبر وصف أحمد بن صالح بن شيرزاد جارية كاتبة فقال: كأنّ خطها أشكال صورتها، وكأن مدادها [سواد] شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قلمها بعض أناملها، وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها غنج لحظها، وكأن مقطعها قلب عاشقها. ومن ألفاظ أهل العصر في وصف الخط وسرعة يد الكاتب: الكلام الفائق، بالخط الرائق، نزهة القلب، وفاكهة النفس، وريحانة الروح، خط كأنه يواقيت في نظام، وصفحات نور عليها سطور الظلام. خط أحسن من عطفة الأصداغ، وبلاغة تميل بالآمل أوذن بالبلاغ. خط كما تفتح الزهر غب المطر، كأنه خطوط الغوالي في خدود الغواني. خط أملح من بنفسج الخط، وأحسن من الدر في السمط. خط أحسن من بدور الغرر، في ليالي الطرر. فلان يغرس في ارض القراطيس، وينشر عليها أجنحة الطواويس. خط كأن القلب يشعر منه نوراً، [وتجنى العين منه نورا] . خطه خطة الحسن، ويده ضرة البرق، وقلمه فلكي الجري، ويده ظئر البلاغة، وأم الكتابة، وضرة الريح، وينبوع الفضل. قطعة من مقطعات تجري في شعرهم في التمثيل والمحاضرات في معانٍ مختلفة: أبو فراس الحمداني: ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر أبو الحسن بن لنكك البصري: جار الزمان علينا في تصرفه ... وأي دهر على الأحرار لم يجر؟ عندي من الدهر ما لو أن أيسره ... يلقى على الفلك الدوار لم يدر وقال: عدنا من زماننا ... عن حديث المكارم من كفى الناس شره ... فهو في جود حاتم أبو عبد الله بن الحجاج: دعوت نداك من ظمأٍ إليه ... فعناني بقيعتك السراب سراب لاح يلمع في سباخ ... ولا ماء لديه ولا تراب وقال أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 لحى الله امرءاً أعطاك سراً ... فبحت به وفض الله فاه فإنك بالذي استودعت منه ... أنم من الزجاج بما وعاه وهذا كقول السري الموصلي: وإنك كلما استودعت سراً ... أنم من النسيم على الرياض ولابن وكيع [في هذا المعنى] : صديق قد ندمت على اختياري ... له لما تأمله اختباري ينم بسر مسترعيه سراً ... كما نم الظلام بسر نار أنم من النصول على مشيب ... ومن صافي الزجاج على عقار أبو الحسن الموسوي النقيب: ما السؤدد المكسوب إلا دون ما ... يومي إليه السؤدد المولود فإذا هما اتفقا تكسرت القنا ... إن غولبا وتضعضع الجلمود وقال: أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بني العز والهوان ومنظر كان بالسراء يضحكني ... يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني وقال: أنت الكرى مؤنساً طرفي وبعضهم ... مثل القذى مانعاً عيني من الوسن لقد تمازج قلبانا كأنهما ... تراضعا بدم الأحشاء لا اللبن وقال: اشتر العز بما بي? ... ع فما العز بغال بالقصار الصفر إن شئ? ... ت أو السمر الطوال ليس بالمغبون حظاً ... مشترٍ عزاً بمال إنما يدخر الما ... ل لحاجات الرجال والفتى من جعل المعرو ... ف أثمان المعالي أبو الفضل بن العميد: لن يصرف الدهر عن سجيته ... إرب أريب وحول ذي حيل أي معين صفا على كدر الد ... دهر وأي النعيم لم يزل وقال: آخ الرجال من الأبا ... عد والأقارب لا تقارب إن الأقارب كالعقا ... رب أو أشد من العقارب وقال الكندي: الأب رب، والأخ فخ، والعم غم، والخال وبال، والولد كمد، والأقارب عقارب. وإنما المرء بصديقه. [وقال] الصاحب أبو القاسم بن عباد: حفظ اللسان راحة الإنسان ... فاحفظه حفظ الشكر للإحسان فآفة الإنسان في اللسان وقال: مرادي من الدنيا صديق مساعد ... وليس يريد الدهر لي ما أريده ومن يكن القاضي خصيماً له فقد ... أضر به إقراره وجحوده فمهما ادعى حقاً له عاد باطلاً ... ولو أن كل العالمين شهوده وعز على الإنسان إثبات حجة ... إذا كان حكاماً عليه عميده [وقال] علي بن عبد العزيز القاضي: يقولون لي: فيك انقباض، وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما إذا قيل: هذا مورد قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما ولم ابتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت إلا لأخدما أأغرسه عزاً فأجنيه ذلة ... إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا ... محياه بالإعراض حتى تجهما [وقال] أبو بكر الخوارزمي: علق غدا بياعه ... مبتاعه لهوانه كالفرج لم يخطب فصا ... ر أخوه من أختانه [وقال] إسماعيل الشاشي: وجود المنى ألا تكاثر في المنى ... ونيل الغنى ألا تفكر في الغنى ومن كان للدنيا أشد تضوراً ... تجده عن الدنيا أشد تصونا عبرة: لا يؤيسنك من عثمان حدته ... وإن تطاير من أثوابه الشرر فإن حدته والله يكلؤه ... كالبرق والرعد يأتي بعده المطر [وقال] أبو الفتح البستي: إذا أحسست في لفظي فتوراً ... وخطي والبلاغة والبيان فلا تعجب لذاك فإن رقصي ... على مقدار إيقاع الزمان وقال أيضاً: بقية العمر عندي ما لها ثمن ... وإن غدا خير محبوب من الثمن يستدرك المرء فيها ما أفات ويح? ... يي ما أمات ويمحو السوء بالحسن ونثر هذا النظم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه [وقال] الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي: كم والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الأبعد كالعين لا تبصر ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد وقال: أطالب أيامي بإنجاز موعدي ... وها هي تلوي بالوفاء وتجمح أقول عساها أن تلين لمطلبي ... قليلاً فبعض الشوط بالتمر يسمح أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 تعلم من الأفعى أمالي طبعها ... فآنس إذا أوحشت تعف من الذم لئن كان سم كامن تحت نابها ... ففي لحمها ترياق غائلة السم وقال: الله يعلم أني لست ذا بخلٍ ... ولست ملتمساً في البخل لي عللا لكن طاقة مثلي غير خافية ... والذر يعذر في القدر الذي حملا [وقال] أبو بكر الخالدي: وأخ رخصت عليه حتى ملني ... والشيء مملول إذا ما يرخص ما في زمانك ما يعز وجوده ... إن رمته إلا صديق مخلص [وقال] أخوه أبو عثمان: يا هذه إن رحت في ... خلق فما في ذاك عار هذي المدام هي الحيا ... ة قميصها خزف وقار أبو نصر بن نباتة: ولا تحقرن عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر فإن السيوف تجذ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر وله: أرى همم المرء اكتئاباً وحسرة ... عليه إذا لم يسعد الله جده وما لامرئٍ في حادث الدهر حيلة ... إذا نحسه في الأمر وافق سعده وله: وعنفني في مركب الهول معشر ... وقالوا: أيهوى الجدب من هو في الخصب وإني لأدري أن في العجز راحة ... وأعلم أن السهل أوطا من الصعب ولو طلب الناس المكارم كلهم ... لكان الغنى كالفقر والعبد كالرب ولكن أشخاص المعالي خفية ... على كل عين ليس تبصر باللب يقول في هذه القصيدة يمدح علي بن المزربان: ومن كعلي للفوارس تدعي ... وللخيل سامتها القوائم للوثب ترى الشمس أماً والكواكب إخوة ... وتنظر من بدر السماء إلى ترب رأى الفلك الدوار تربة بابل ... أحق وأولى منه بالأنجم الشهب يدب ويسري نشركم في نسيمها ... ويعبق منكم في المياه وفي الترب وما بشروق الشمس منها تشرفت ... بكم شرفت شرق البلاد على الغرب ابن وكيع: لئيم لا يزال يلم وفراً ... لوارثه ويدفع عن حماه ككلب صيد يمسك وهو طاو ... فريسته ليأكلها سواه وقال: تعمدني بنصحك في انفرادي ... وجنبني النصيحة في الجماعة فإن خالفتني لتريد نقصي ... فلا تغضب إذا لم تعط طاعة وقال: امزح بمقدار الطلاقة واجتنب ... مزحاً تضاف به إلى سوء الأدب لا تغضبن أخاك إن مازحته ... إن المزاح على مقدمة الغضب [وقال] أبو إسحاق الصابي: وأحق من نكسته ... بالصغر من درجاته من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته وكتب إلى صديق له من السجن بقوله: نحن في الصحبة كالنسرين لكني واقع وعلى الطائر أن يغشى أخاه ويراجع وكان سبب سجنه أنه في أيام عز الدولة بختيار بن معزها أحمد بن بويه الديلمي كان على ديوان الإنشاء، وكانت بين بختيار وعضد الدولة فنا خسرو منافسة في الرئاسة، فلما خلع الفضل بن جعفر المقتدر [وهو المطيع] وأقيم مكانه ابنه أبو الفضل عبد الكريم الطائع سنة أربع وستين وثلاثمئة، استولى على جميع الأمر عضد الدولة، وقتل بختيار وأمحى أثره، فأحضر الصابي، وقال: قد علمت ما كنت تعاملني به من قبيح المخاطبة في المكاتبة، وقد أحفظني ذلك، فأوجب حلفي على قتلك إذا ظفرت بك، وقد رأيت ذلك من الفساد إذ كنت مقدماً في صناعتك، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً. واستصفى أمواله وحبسه، وولى ديوان الإنشاء أبا منصور المرزبان الشيرازي، وكان غاية في البلاغة والفصاحة وحسن آلات الكتابة. وزارة أبا إسحاق الصابي في السجن أبو الفرج الببغاء الشاعر زورة ثم قطعه فكتب إليه: أبا الفرج أسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص مضت مدة أستام ودك غالياً ... فأرخصته والبيع غال ومرتخص وآنستني في محبسي بزيارة ... شفت كمداً من صاحب لك قد خلص ولكنها كانت كحسوة طائر ... فواقاً كما يستفرض السارق الفرص وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي ... وعادك عيد من تذكرك القفص فعوفيت يا قس الطيور فصاحة ... إذا سرد المنظوم أو تلي القصص من المنسر الأشغى ومن حزة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص ومن صعدة فيها من الدبق لهذم ... لفرسانكم عند اللقاء بها قعص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحداثه جرع الغصص فأجابه أبو الفرج الببغاء: أيا ماجداً في حلبة المجد ما نكص ... ويا كاملاً في رتبة الفضل ما نقص ستخلص من هذا السرار وأيما ... هلال توارى في السرار فما خلص بدولة تاج الملة الملك الذي ... له في أعالي قبة المشتري خصص تقنصت إنصافي وما كنت قبل ذا ... أظن بأن المرء بالبر يقتنص فأصبحت لا أخشى أذية جارح ... ورأيك لي وكر وقلبك لي قفص ولعضد الدولة: طربت إلى الصبوح مع الصباح ... وشرب الراح والغرر الملاح وكان الثلج كالكافور نثراً ... وناري بين نارنجي وراحي فمشمومي ومشروبي وناري ... وثلجي والصبوح مع الصباح لهيب في لهيب في لهيب ... صباح في صباح في صباح تنازع إبراهيم بن المهدي ويختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي دؤاد [في مجلس الحكم] في عقار بناحية السواد، فأربى عليه إبراهيم وأغلظ له، وأغضب ذلك ابن أبي داؤد، فقال: يا إبراهيم إذا نازعت في مجلس الحكم بحضرتنا امرءاً فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتاً ولا أشرت بيد، وليكن قصدك أمماً، وطريقك نهجاً، وريحك ساكنة، وكلامك معتدلاً، وورف مجالس الخليفة حقوقها من التوقير والتعظيم والاستكانة والتوجه إلى الحق، فإن هذا أشكل بك، وأجمل بمذهبك في محتدك، وعظيم خطرك، ولا تعجلن، فرب عجلة تهب ريثاً، والله يعصمك من الزلل، وخطل القول والعمل، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل.. إن ربك عليم حكيم. فقال إبراهيم: أمرت أصلحك الله بسداد، وحضضت على رشاد، ولست عائد لما يثلم قدري عندك، ويسقطني من عينك، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فها أنا ذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه، باخع بجرمه، لأن الغضب لا يزال يستفز بمواده، فيردني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندك وعندنا منك، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد جعلت حقي في هذا العقار ليختيشوع، فليت ذلك يكون وافياً بأرش الجناية عليه، ولم يتلف مال أفاد موعظة، وبالله التوفيق. وفضل إبراهيم بن المهدي أشهر من أن يذكر، وكانت أخته عليه تعدل بكثير من أفاضل الرجال، في فضل العقل وحسن المقال، ولها شعر رائق وغناء رائع، وهي القائلة: اشرب على ذكر الغزا ... ل الأغيد الحلو الدلال اشرب عليه وقل له ... يا غل ألباب الرجال أبقيت جسمي ناحلاً ... وسكنت في ظل الحجال وبلغت مني غاية ... لم أدر فيها ما احتيالي وقالت، ولها فيه لحن: يا عاذلي قد كنت قبلك عاذلاً ... حتى بليت فصرت صباً ذاهلاً الحب أول ما يكون جهالة ... فإذا تفرع صار شغلاً شاغلا وقالت: وضع الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج ليس يستحسن في وصف الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج وقليل الحب صرفاً خالصاً ... لك خير من كثير قد مزج كأنها ذهبت في البيت الأول إلى قول العباس بن الأحنف: وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وزاد منصور بن سلمة النمري في هذا فقال: راحتي في ملامة العذال ... وشفائي سؤالهم عن حالي لا يطيب الهوى ولا يحسن الح? ... ب لخلق إلا بخمس خصال بسماع الأذى وعذل نصيح ... وعتاب وهجرة وتقال وأنشد كشاجم لابن الرومي: لولا اطراد الصيد لم تك لذة ... فتطاردي لي بالوصال قليلا هذاالشراب أخو الحياة وماله ... من لذة حتى يصيب غليلا وأنشد الأصمعي: لا خير في الحب وقفاً لا تحركه ... عوارض اليأس أو يرتاحه الطمع لو كان لي قلبها أو عندها جزعي ... لكنت أملك ما آتي وما أدع إذا دعا باسمها داع ليحزنني ... كادت له شعبة في مهجتي تقع لا أحمل اللوم فيها والغرام بها ... ما حمل الله نفساً فوق ما تسع وسمعت أم جعفر، زبيدة بنت جعفر، علية تغني في شعر العباس بن الأحنف: عندي مثالك لعبة عاجية ... لو كان يقنع بالشبيه متيم فإذا فقدتك ساعة كلمتها ... لكنها خرساء لا تتكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وإذا بكيت حسبتها تبكي معي ... وإذا ضحكت حسبتها تتبسم فأمرت أم جعفر فصنعت لها لعبة من عاج، وكتبت على صدرها أبيات العباس، وأهدتها إلى الرشيد، فما زال يشرب عليها بقية ليلته، فلما أصبح سألها عن القصة، فأخبرته، فأحضر علية فغنته بالشعر فجدد صبوحاً، ولم يمر له يوماً أطيب من يومه. وخرج الرشيد إلى الري ومعه علية، فلما صرا بالمرج عملت شعراً وغنته وهو: ومغترب بالمرج يبكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون على الحب إذا ما أتاه الركب منن نحو أرضه ... تنشق يستشفي برائحة الركب فلما سمع الصوت بكى ورق لها، وعلم أنها اشتاقت إلى بغداد، فأمر بردها. قال إسحاق الموصلي: كانت علية إذا طهرت لزمت المحراب، وقرأت القرآن، وإذا لم تصل غنت، وكانت قليلة الشغف بالشراب، إلا أنها تتناول منه، وكانت تكاتب بالأشعار خادمين يقال لأحدهما: طلا، وتكني عنه بظل، والآخر رشأ، وتكني عنه بزينب على أنهما جاريتان. فمن شعرها في طل: يا رب إني غرضت بحبها ... فإليك أشكو ذاك يا رباه ظل ولكني حرمت نعيمه ... وهواءه إن لم يغثني الله وأقامت أياماً فلم تره، فمشت على ميزاب حتى رأته وحدثته وقالت له: قد كان ما كلفته زمناً ... يا ظل من وجدي بكم يكفي حتى أتيتك زائراً عجلاً ... أمشي إلى حتفي على حتفي فبلغ ذلك الرشيد، فحلف عليها ألا تكلم طلاً ولا تذكر اسمه، فدخل عليها على غفلة، وهي تقرأ في المصحف: {فإن لم يصبها وابل..} فما نهى عنه أمير المؤمنين، فضحك وقبل رأسها، وقال: ولا كل هذا، وقد وهبت لك طلاً. وقيل: أنه كان قتله. وحجب طل عنها عند أول ما أحس الرشيد بما بينهما فقالت: أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل إليك سبيل متى يلتقي من ليس يرجى خروجه ... وليس لمن يهوى إليه دخول ومن قولها في رشأ: وجد الفؤاد بزينبا ... وجداً شديداً متعبا أصبحت من وجدي بها ... أدعى شقياً منصبا ولقد كنيت عن اسمها ... عمداً لكي لا تغضبا وجعلت زينب سترة ... وكتمت أمراً معجبا قالت: وقد عز والوصا ... ل ولم أجد لي مذهبا والله لا نلت المود ... ة أو تنال الكوكبا وقالت: لأكنين عنه كناية خفية فقالت: القلب مشتاق إلى ريب ... يا رب ما هذا من العيب قد تيمت قلبي فلم أستطع ... إلا البكا يا عالم الغيب خبأت في شعري ذكر الذي ... أحببته كالخبء في الجيب [لأن في قولها في آخر القسم الأول وأول الثاني: "ريب يا" تصحيف رشأ] ولها في الأمين وغنته: أطلت عاذلتي لومي وتفنيدي ... فأنت جاهلة شوقي وتسهيدي لا تشرب الراح بين المسمعات وزر ... ظبياً غريراً نقي الخد والجيد قد رنحته شمول فهو منجدل ... يحكي بوجنته ماء العناقيد قام الأمين فأغنى الناس كلهم ... فما فقير على حال بموجود دخل يوماً إسماعيل بن الهادي على المأمون طائش العقل، فقال له المأمون: ما لك؟ قال: يا أمير المؤمنين كنت أكذب بأرغن الروم بأنه يقتل طرباً، وقد صدقت الآن بذلك، قال: وما تدري ما هو؟ قال: لا والله، [قال] : هذه عمتك علية تلقي على عمك إبراهيم صوتاً من شعرها، وهو: ودعت من أهوى ورحت بحسرة ... عجباً لقلبي كيف لم يتصدعا لا وجد إلا دون وجد نالني ... يوم الفراق وقد خرجت مشيعا فإذا الأحبة قد تولت عيسهم ... وبقيت فرداً والهاً متفجعا من شعرها: طالت علي ليالي الصوم واتصلت ... حتى لقد خلتها أربت على العدد شوقاً إلى مجلس يزهى بساحته ... أعيذه بجلال الواحد الصمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 كتب أبو الفضل محمد بن أحمد بن الحسين بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري: سألتني عمن شفني وجدي به، وشغفني حبي له، وزعمت أني لو شئت لذهلت عنه، واعتضت منه، زعماً، لعمرو أبيك، ليس بمزعم، كيف أسلو عنه، وأنا أراه، وأنساه وهو لي تجاه، هيهات هو أغلب علي، وأقرب إلي، من أن يرخي لي عناني، أو أن يخليني واختياري، بعد اختلاطي بملكه، وانخراطي في سلكه، وبعد أن ناط حبه بقلبي نائط وشاطه بدمي شائط، فهو جار مجرى الروح في الأعضاء، متنسم تنسم روح الهواء، إن ذهبت عنه رجعت إليه، وإن هربت منه وقعت عليه، وما أحب السلو عنه مع هناته، ولا الخلو منه مع ملاته، وهذا على أني إن قابلني لم يهنني إقباله، وإن أعرض عني لم يطرقني خياله، يبعد علي مناله، ويقرب من غيري نواله، ويرد عيني خاسئة، ويدي خالية، وصله ينذر بصده، وقربه يؤذن ببعده، يدنو عندما ينزح، ويأسو مثلما يجرح، مخالته أحوال، وخلته خلال، وحكمه سجال والحسن في عوارفه والجمال في معاطفه والبهاء في فضوله وصفاته، والسناء من نعوته وسماته، اسمه مطابق لمعناه، وفحواه موافق لنجواه، يتشابه قطراه، وتتضارع حالات، من حيث تلقاه يستنير، ومن حيث تنساه يستدير. وكتب إليه وصل كتابك فصادفني قريب عهد بانطلاق، من حيث عنت الوثاق، ووافقني مستريح الجوانح والأعضاء من حر الاشتياق، فإن الدهر جرى على حكمه المألوف في تحويل الأحوال، ورسمه المعروف في تبديل الأبدال، وأعتقني من مخالبك عتقاً لا تستحق معه ولاء، وابرأني من عهدة مودتك براءة لا تستوجب معها دركاً ولا استثناء، ونزع من عنقي ربقة الذل من إخائك، بيدي جفائك، ورش [على] ما كان يحتدم في ضميري من نيران الشوق ماء السلو، وشن على ما كان يتلهب في صدري من الوجد روح اليأس ومسح أعشار قلبي فلأم فطورها بجميل الصبر، وشعب أفلاذ كبدي فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل في مسالك أنفاسي، فعوضني من النزاع إليك نزوعاً عنك، ومن الذهاب فيك رجوعاً دونك، وكشف عن عيني ضبابات ما ألقاه الهوى على بصري، ورفع عنها غيابات ما سدله الشك دون نظري، حتى حدر النقاب عن صفحات طريقتك وسفر عن وجوه خليقتك، فلم أجد إلا منكراً، ولم ألق إلا مستكبراً، فوليت منهما فراراً، وملئت منهما رعباً، فاذهب فقد ألقيت على غاربك حبلك، ورددت إليك ذميماً عهدك. وفي فصل من هذه الرسالة: وأما عذرك الذي رمت بسطه فانقبض، وحاولت تمهيده وتقريره فاستوفز [وأعرض] ، ورفعت بضبعه فانخفض، فقد ورد فلقيته بوجه من يؤثر قبوله على رده، وتزكيته على جرحه، فلم يف بما يذله لك عن نفسه، ولم يقم عند ظنك به، أنى؟ وقد غطى التذمم وجهه فلم يقدر على إيقافه، ومضى [يعثر] في فضول ما تغشاه من كذب حتى سقط، فقلنا: لليدين وللفم. وقوله هذا محلول من عقود نظمه إذ يقول: وسألتك العتبى فلم ترني لها ... أهلاً فجدت بعذرة شوهاء وردت مموهة فلم يرفع لها ... طرف ولم ترزق من الإصغاء وأعار منطقها التذمم سكتة ... فتراجعت تمشي على استحياء لم تشف من كمد ولم تبرد على ... كبد ولم تمسح جوانب داء سئل إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن المجيدين من المغنين فقال: من لطف معناه في اختلاسه، وتمكن في أنفاسه، وتفرع في أجناسه، فكاد يعلم ضمائر معاشرين، وشهوات مجالسيه، فقرع كل واحد منهم بالنوع الذي يطابق هواه، ويوافق معناه، فأطرب جميعهم، وأخذ بقلب كافتهم، حتى اتفقت عليه أهواؤهم، واجتمعت على تفضيله كلمتهم، والتأمت على مدحه ألسنتهم. قال جعفر بن مهلهل: فحدثت بهذا الحديث إبراهيم بن المهدي وعجبته منه، فقال: أيجوز هذا عليك!.. ابن الموصلي في قدره وصناعته ومحله من الخلفاء قد علم أنه مسؤول عن هذا، فتقدم في إعداد الجواب. وقال كشاجم: وجارية مثل شمس النهار ... أو البدر إذ لاح بين الدراري أتتك تميس بقد القضيب ... وترنو بعين مهاة القفار وترفل في مصمت أبيض ... تلون من خدها جلناري وتحمل عوداً فصيح اللسان ... يشارك أرواحنا في المجاري له عنق كذراع الفتاة ... ودستانة بمكان السوار فجارت عليه وجادت له ... بعسف اليمين ولطف اليسار ولا أمهلته ولا نهنهته ... من الظهر حتى تقضى نهاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فلما تغنت غناء الوداع ... بكيت وقلت لبعض الجواري: لئن عاشت عند هزار اللقاء ... لقد مت عند هزار الإزار قال ثمامة بن أشري: كنت عند المأمون في مجلس أنس إذ جاءه الحاجب يستأذن لعمير المأموني، فكرهت ذلك، فقال: يا ثمامة ما بك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إذا غنى عمير كرت مواطن الإبل وكثبان الرمل، وإذا غنتنا عريب انبسط أملي، وقوي جذلي، وذكرت الجنان والولدان، كم بين يا أمير المؤمنين أن تغني غادة كأنها غصن بان ترنو بمقلة وسنان، كأنما خرطت من ياقوتة، أو صورت من فضة، بشعر عكاشة العمي حيث تقول: من كف جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرفت عنابا كأن يمناها إذا ضربن بها ... تلقى على يدها لشمال حسابا وبين أن يغنيك رجل ملتف اللحية، غليظ الصابع، ششن الكف بشعر ورقاء ابن زهير العبسي: رأيت زهيراً تحت كلكل خالدٍ ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر فضحك وقال: إن الرق لبين، يا غلام لا تأذن له!.. وأحضر قيانه، فظللنا في أطيب يوم. وكان ابن الرومي يقول: "لو أدركت ملحن ها الشعر قتلته، وهو: كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم .. ما الذي يشبه من معاطاة الندمان، ومؤانسة الخلان من ذكر الدم والقتل؟! ... " وذكر أحمد بن الطيب السرخسي أن النعمان بن المنذر أهدى إلى كسرة جارية تغني غناء العرب، اشتراها [له] بمائة ألف درهم، فغنته شعر عنترة العبسي: فشككت بالرمح الطويل إهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم ففسر له ما يقول فقال: الحرب بلية، والندام مسرة، وما معنى ذكر البلية مع حصول المسرة؟ ولم يسمعها بعد. قلت أنا: وليت شعري إذا كان الغناء داعية الأنس، وعشيق النفس، الذي يفكها إذا أسرها الهم، ويبسطها إذا قبضها الغم، وهو المستأذن على القلب، والمنقذ من الكرب، الداخل عليه بغير بعث، والوالج إليه بغير نصب، ما باله لا تستخرج له الأشعار الرقيقة، ذات المعاني الأنيقة، والألفاظ الناعمة الشكلة، في اللطائف الظريفة الغزلة، التي تطرب بالتكلم قبل الترنم، ويتجنب ما كان من صفات الجيوش والمقانب، وذكر الغارات والكتائب، ووصف الأحزان والمصائب، فلأن يسمع من كان ثملاً جذلاً: سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله وما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني بل شمائله ألوى بصبري أصداغ لوين له ... وغل صدري ما تحوي غلائله أحب إليه من أن يسمع: أسمعاني الصياح بالإمليس ... وصياح العيرانة العيطموس ودعاني من قرع مزهر ريا ... واختلاف الكؤوس بالخندريس عزفت [عن] تلكم اللبانات نفسي=وسمعت نحو غير ذاك حدوسي أو يسمع: ما تغطي عساكر الليل مني ... ما تجلي مضاحك الصبح عني جسم سيف في جوف غمد ثياب ... صدر أنس من تحته قلب جني ما ينال الكرى سويداه إلا ... حسوة الطائر الذي لا يثني كم ظلامٍ جعلته طيلساني ... صاحبي همتي وقلبي مجني إلا أن يكون كالمهلهل، وربيعة بن مكدم، وعتيبة بن الحارث بن شهاب. ولأبي عثمان الناجم في وصف الغناء قطع مستملحة، بكل طريقة موشحة، كقوله: لقد جاد من عاتب ضربها ... وزاد كما جاد تغريدها إذا نوت الصوت قبل الغناء ... أنشدنا شعرها عودها وله: تأتي أغاني عاتب ... أبداً بأفراح النفوس تشدو فنزمر بالكؤو ... س لها ويرقص بالرؤوس وهذا كقوله: سلامة بن سعيد ... يجيد حث الراح إذا تغنى زمرنا ... عليه بالأقداح وقال: ما صدحت عاتب ومزهرها ... إلا وثقنا باللهو الفرح لها غناء كالبرء في جسد ... أضناه طول السقام والترح تعبده الراح فهي ما صدحت ... إبريقنا ساجد إلى القدح وقال: ما حضرتنا قتول إلا ... أذكت بنظراتها جوانا تصدع بالصوت قبل تأتي ... كأن في نايها لسانا وقال: إذا أنت ميزت بين الغنا ... ء ميزتها الأحذق الأطيبا تهز القريض بألحانها ... كما هزت الغصن ريح الصبا وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ما تغنت إلا تقشع هم ... عن الفؤاد وأقلعت أحزان تفضل المسمعين طيباً وحذقاً ... مثلما يفضل السماع العيان وقال: ما نطقت عاتب ومزهرها ... إلا ظللنا للراح نعملها تطلب أوتارها الهموم بأو ... تار تستفيق تقتلها وقال: شدو ألذ من ابتدا ... ء العين في لإغفائها أشهى وأحلى من منى ... نفس وصدق رجائها وقال أيضاً: لها غناء مطرب معجب ... يفعل ما لا تفعل الخمرة تشوق الأذن إلى شدوها ... تشوق العين إلى الحضرة كأنما بهجة من زارها ... بهجة من طارت له القمرة لو أن إسحاق شدا بعدها ... لخلت من يسمع في سخرة مندرة في كل ألحانها ... لا كالتي تحسن في الندرة وقال: لقد برعت في الغناء ... وزادت وأربت على البارع يسبح سامعها معجباً ... فأصواتها سبحة السامع [وقال أيضاً: يا صاحبي قم فقد أطلنا ... أنحن طول المدى هجود؟ فقال لي: لن نقوم منها ... ما دام من فوقنا الصعيد تذكر كم ليلة نعمنا ... في ظلها والزمان عيد ظل كأن لم يكن تقضى ... وشره حاضر عتيد] وقال يرثي عجائب جارية ابن مروان: أضحى الثرى بجوارها ... عطر المسالك والمسارب حلت حفيرتها حلو ... ل المسك في سرر الكواعب يا درة كانت تضي ... ء لناظر من كل جانب تبع فيه أستاذه ابن الرومي، يرثي جارية أم علي بنت الرسي: واهاً لذاك الفناء من طبق ... على جميع الأنام مقتدر أضحت من الساكني حفائرهم ... سكنى الغوالي مداهن السرر يا مشرباً كان لي بلا كدر ... يا سمراً كان لي بلا سهر أصبحت بالترب غير راجحة ... عنه وقد ترجحين بالبدر ومن ألفاظ أهل العصر في الغناء والمغنين: غناؤه كالغنى بعد الفقر، وهو عذر للسكر، غناء يبسط أسرة الوجه، ويرفع حجاب الأذن، ويأخذ بمجامع القلب، ويمتزج بأجزاء النفس، غناء يحرك النفوس ويرقص الرؤوس، ويحرض [على الكؤوس] ، فلان طبيب القلوب والأسماع، ومحيي الخواطر والطباع، يطعم الآذان سروراً، ويقدح في القلب نوراً، القلوب من غنائه على خطر، فكيف الجيوب! السكر على صوته شهادة، نعمة نغمته تطرب وضروب ضربه لا تضطرب. ولهم في ضد هذا: يغني فيتعب ولا يطرب، إذا غنى عنى، وإذا أدى أذى، يميت الطرب، ويحيي الكرب، ضربه يوجب ضربه، من عجائب غنائه أنه يورد الشتاء في الصيف، [ولا يقدر على سماعه الضيف] . وقال كشاجم: ومغن بارد النغم ... ة مختل اليدين ما رآه أحد في ... دار قوم مرتين قربه أقطع للذا ... ت من صبحة بين وقال أيضاً يذم عوادة: جاءت بعود مثلها نافر ... كأنه نقنق الضفدع مضطرب الأوتار منقوصها ... مستقبح المبدإ والمقطع يود من يسمع أصواته ... لو فقد السمع ولم يسمع فأقبلت تضرب غير الذي ... تحسب والنغمة لم تتبع كأنما قسمة تأليها ... مثلث مختلف الأضلع وهذا ضد قوله لبعض إخوانه: عندي معتقة كودك صافية ... ونديمك الدمث الرقيق الحاشية إذا كربت إلى السماع ترنمت ... بيضاء زاهية تسمى زاهية تصل الغناء يمينها بشمالها ... كمثلث أضلاعه متساوية وله في هذا المعنى: صحت مقادر ضربها وحسابها ... وغنائها وتوازنت في الأنفس فكأن أشكال المثلث إنما ... يؤخذن عنها ليس عن إقليدس وقال أبو فراس الحمداني: كان سيف الدولة لا يشرب النبيذ ولا يسمع القيان، ويحظرهما علي، فوافت من بغداد ظلوم الشهرامية، وكانت من المحسنات، وكان بحضرته ابن المنجم، فاضل [أهل] زمانه. فتاقت نفسي إلى سماعها، فسألنه أن يحضرهما، فوعدني بذلك في يومنا، فانصرفت عنه، وأنا غير واثق [به] ، لعلمي بضعف نيته في ذلك، ووجهت إلى ظلوم وابن المنجم فحصلتهما، وأقمت أنتظر رسوله إلى غروب الشمس فكتبت له: محلك الجوزاء بل ارفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع وقلبك القلب الذي لم يزل ... للجد والهزل به موضع رفه بقرع العود سمعاً غداً ... قرع العوالي جل ما يسمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فبلغت الأبيات الوزير أبا محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبي، فأمر بها فلحنت، وغني بها، فلم يزل يشرب عليها بقية يومه. وكان أبو فراس حسن الشعر جيد النمط، لقوله من الحلاوة، وعليه من الطلاوة ما يشهد به ما أنشد له: وكان أبو القاسم الصاحب يقول: بدئ الشعر بملك، وختم بملك، بدئ بامرئ القيس وختم بأبي فراس. كتب إلى سيف الدولة وقد قفل من غزاة: كتابي أطال الله بقاء مولاي الأمير من منزلي وقد وردته ورود السالم الغانم موقر الظهر والظهر وقراً وشكراً. فاستحسن سيف الدولة بلاغته، فقال أبو فراس: هل للسماحة والفصا ... حة والعلا عني محيد إذ كنت والدي الذي ... خرجتني وأبي سعيد في كل يوم أستفي? ... د من العلاء وأستعيد ويزيد فيّ إذا رأي? ... تك في الندى خلق جديد وقال: ?لنا بيت على طنب الثريا=بعيد مذاهب الأكناف سام تظلله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطعام وقال: ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني ... ليست مؤاخذة الخلان من شاني يجني الصديق فأستحلي جنايته ... حتى أدل على عفوي وإحساني ويتبع الذنب ذنباً حين يعرفني ... عمداً فأتبع غفراناً بغفران يجني علي فأحنو صافحاً أبداً ... لا شيء أحسن من حانٍ على جانِ وقال: فوالله ما أضمرت في الحب سلوة ... ووالله ما حدثت نفسي بالصبر وإنك في عيني لأبهى من الغنى ... وإنك في قلبي لأحلى من النصر فيا حكمي المأمول ملت مع الهوى ... ويا ثقتي المأمون خنت مع الدهر وقال: لبسنا رداء الليل والليل راضع ... إلى أن تردى رأسه بمشيب وبتنا كغصني بانة عطفتهما ... مع الصبح ريحا شمأل وجنوب إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... مبادي نصول في عذار خضيب فيا ليل قد فارقت غير مذمم ... ويا صبح قد أقبلت غير حبيب وقال: لا غرو إن فتنتك باللح ... ظات فاترة الجفون فمصارع العشاق ما ... بين الفتور إلى الفتون فاصبر فمن شيم الهوى ... صبر الضنين على الظنين كتب شمس المعالي إلى وكيل له بالري يعرف بأبي الفرج عبد السلام بن محمد كتاباً دعاه الإعجاب به إلى أن أوقف عليه كافي الكفاة وتاج الولاة أبا القاسم بن إسماعيل بن عباد الصاحب، فأطنب الصاحب في وصفه وتقريظه، فكتب عبد السلام إلى شمس المعالي بذلك فأجاب: أما إعجاب الفاضل بالفصول التي عرضتها عليه، ورفعتها إليه، فلم يكن ذلك مما يحسبه إلا لخلة واحدة، وهي أنه وجد فناً في غير أهله فاستبدعه، وفرعاً في غير أصله فاستشنعه، فقد يستعذب الشريب من منبع الزعاق ويستطاب النحيب من مخرج النهاق، ولكنك فيما أقدمت عليه، من بسط اللسان بحضرته وإرخاء العنان بمشهده، كمن حاسن بقباحته القمر، وخاشن بوقاحته الحجر، ولا كلام فيما مضى، ولا عتب فيما اتفق وجرى. فأجاب الصاحب: قرأت الفصل الذي تجشمه جامع هزة العرب إلى عزة العجم، وناظم صليل السيف إلى صرير القلم، فحرت في محاسن خط، لا البرد الوشيع معتلق ذيلها، ولا الروض المريع نائل نيلها، وعقائل لفظ إن نعتها فقد غبنتها، وإن وصفتها فما أنصفتها، والله يمتعه بالفضل الذي استعلى على عاتقه وغاربه، واستولى على مشارقه ومغاربه، ولم يكن استحساني مما رأيت، وإعجابي بما رويت، استغراباً لمنبعه، ولا استبداعاً لمطلعه، بل لأنه شريف في جنسه، نفيس في نفسه، وقد حفظت ذلك الفضل، حيث سواد الناظر وأعز، وبسويداء القلب وأحرز، وعسى أن ينجز الدهر وعداً، فيعود التعارف وداً، فقد سمعت بالبعيد القريب، وفرحة الأديب بالأديب، وما إلى ذلك على الله بعزيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فأجاب شمس المعالي وكيله عن هذا الجواب: قد أهديت إلي أعزك الله محاسن الدنيا مجموعة في ورقة، ومباهج الحلل والحلي محصورة في طبقة، وهو ما خطه ذلك الفاضل بيده، وباشره بقلمه [و] ما كنت أحسب أن جماع البديع يأخذ منه، ولا نور الربيع يفتر عنه، حتى عاينته فسميته لرقته برد الشراب، ولإعجابي به من دقته برد الشباب، ولفتوني بطلعته محير الألباب، ولوقوفي عند جزالته معيار الكتاب، فرصانة الطبع والعذوبة من جنى روضته، ومتانة المعنى والبراعة في ضمان قبضته، وأظنه لو جعل دعاء يدعى به النيران لأقبلا إلى الأرض منخفضين، أو حول حداء يحدى به الجبلان لمشيا مسرعين، أو صير جلاء يجلى به الناظران لأبصرا ما بين الخافقين، فمن لاطم أمواج بحره مساجلاً أصبح صريع صدماتها، ومن زاحم أفواج فكره مكاثراً أمسى أسير حملاتها، فلله جامع أفراد هذه الفضائل، وناظم آحاد هذه العقائل، فقد حاز من العلم الذرى والغوارب، وخلف لغيره الشوى والمخالب، وكذا النجيب إذا جرى لم يشق غباره، والشهاب إذا سرى لم تلحق آثاره، وأنا أرى قضاء حقه بالاعتراف بفضله، دون الإغراق في وصف فعله، فلذلك وقفت حيث بلغت، وأمسكت حيث انتهيت. وكتب الصاحب إلى أبي القاسم علي بن القاسم من قاشان: إذا أقبلت عقد البعد تتحلل، وبدت وجوه القرب تتهلل، وطويت من مسافة البين أرض، وقطع من جادة الفراق بعض، ترجح كوكب الوحشة للأفول وتزحزح موكب الأنس للقفول. وهذه حالي، فإني لما وردت موضع كذا [وكذا] خلفت ورائيب أرضاً كانت تبعد عن مولاي رحلي، ووطئت أخرى طالما قربت منه ربعي، طارت دواعي المسرة من نفسي، وانتشرت بواعث الغبطة في صدري، وولى الهم مفلولاً عني وأقبل الارتياح مستأمناً نحوي، ونادى الالتقاء بأن هذا صدر أمل إليَّ ينتهي وينتظم، وبي يستكمل ويختتم، فقلت: لبيك إلفاً، وكأن قد ... وله يمازح بعض إخوانه: خبر سيدي عندي وإن كتمه عني، واستأثر به دوني، فقد عرفت أمره في أمسه من شربه وأنسه، وغناء الضيف الطارق وعرسه، وكان ما كان مما لست أذكره وجرى [ما جرى مما] لست أنشره، وأقول أن مولاي امتطى الأشهب، فكيف عاين ظهره؟ وركب الطائر، فكيف شاهد جريه؟ هل سلم من حزونة الطريق؟ وكيف تصرف: أفي سعة أم [في] ضيق؟ وهل أفرد الحج أم تمتع بالعمرة؟ وهل قال في الحملة بالكرة؟ ليتفضل مولاي بتعريفي الخبر، فما ينفعه الإنكار، ولا يغني عنه إلا الإقرار، وأرجو أن يساعدنا الشيخ أبو مرة، كما ساعده مرة، فنصلي إلى القبلة التي صلى إليها، ونتمكن من الدرجة التي خطب عليها، وله فضل السبق إلى ذلك الميدان، الكثير الفرسان. وله أيضاً: تصفحت أوطار النفوس، فلم أعتز بأكرم من قربه، وتأملت أشخاص الخطوب، فلم أرع بأقطع من بعده، محاسنه أنوار لم تحتجب بسجوف ومناقبه شموس لم تتصل بكسوف، وألفاظه تذكرني بلباس الشباب وريعانه، بل بأفنان الصبا وفينانه، أيام من عود النوى خور، وليالي من باع الدجى قصر، ولولا أن عادتي أن أطأطئ [ناظري] للصديق تسليماً، وأصبر له على الملام [وإن كان] مليماً لقلت في ظلمه، وقد تظلم، قولاً على غرة الدهر، ويشدخ في جبهة الشمس والبدر إذ لم يرضى بحقي أن يلويه، حتى عطف على عهدي يستبطئه، ولكن أقول: يا نفس صبراً، فما كل طالب حق يعطاه، ولا كل شائم برق يسقاه، وأعود فأسأل الله أن يعيد: عيشاً لنا بالأبرقين تأبدت ... أيامه وتجددت ذكراه والعيش ما فارقته فذكرته ... لهفاً وليس العيش ما تنساه وهذا كقول الحسن بن سهل: حد الطرب ما بقي سروره يتخيل في النفس، ويتردد في الفكر. ومن شعر الصاحب: لقد صدقوا والراقصات إلى منى ... بأن مودات العدا ليس تنفع ولو أنني داريت دهري حية ... إذا استمكنت يوماً من اللسع تلسع وقال [أيضاً] : وقائلة: لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم فقلت: ذريني لما أشتكي ... فإن الهموم بقدر الهمم وقال [أيضاً] : دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاء يكرر في كل ساعة فلولا وحقك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعاً وطاعة هذا من قول إبراهيم بن المهدي، وتمثل به إسماعيل بن إسحاق القاضي، [وقد كان] رأى غلاماً جميلاً: لولا الحياء وأنني مشهور ... والعيب يعلق بالكبير كبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 لحللك منزلك الذي تحتله ... ولكان منزلنا هو المهجور وقال الصاحب: قال لي: إن رقيبي ... سيء الخلق فداره قلت: دعني، وجهك الج ... نة حفت بالمكاره وقال ابن الرومي في حسن الحبيب، وقبح الرقيب، [فأحسن] : ما بالها قد حسنت ورقيبها ... مستقبح، لا كانت الرقباء ما ذاك إلا لأنها شمس الضحى ... أبداً يكون رقيبها الحرباء وقال الصاحب أيضاً، وكان من الغلاة في الاعتزال: ولما تناءت بالحبيب دياره ... وصيرت منه في عياني على وهم تمكن مني الشوق غير مخالس ... كمعتزلي قد تمكن من خصم وقال: كنت دهراً أقول بالاستطاعة ... وأرى الجبر ضلة وشناعة ففقدت استطاعتي من هوى ظبي ... فسمعاً للمجبرين وطاعة أخذه من قول سعيد بن حميد: قالت: أكتم هواي وأكن عن اسمي ... بالعزيز المهيمن الجبار قلت: لا أستطيع ذلك قالت: ... صرت بعدي تقول بالإجبار وتخليت عن مقالة بشر ب? ... ن غياث لمذهب النجار وقال الصاحب لغلام تركي قبل يده: أبا شجاع يا شجاع الورى ... ومن لنا في وجهه قبله قبل فمي إن كنت آثرتني ... فاليد لا تعرف ما القبلة وهذا كقول الشريف أبي قاسم الرسي: يا بدر بادر إلي بالكاس ... فرب خير أتى على ياسي ولا تقبل يدي فإن فمي ... أولى بها من يدي ومن راسي وكان أبو القاسم الرسي حلو الغناء، فكه الخلق، جميل الخلق. ومن قوله، وله فيه لحن: إذا التحف الجو بالأدكن ... وغنى الحمائم كالأرغن وهبت رياح الصبا سحرة ... بريح البنفسج والسوسن وحن إلى القصف ألافه ... فبادر إلى شيخك المنحني فنفس عن الزق أوداجه ... وسق الندامى ولا تنسني وشرب عنده كوفان المغني، فلما أصبح افتقد رداءه، فقال: قد سرق ردائي أيها الشريف، قال: ويحك، من تتهم منا، أما علمت أن النبيذ بساط يطوى بما عليه، فقال: انشروا هذا البساط حتى آخذ ردائي، واطووه إلى يوم القيامة. كان جعفر بن حذار كاتب العباس بن أحمد بن طولون ينقل أخبار أبي حفص عمر بن أيوب، كاتب أحمد بن طولون على الشراب إلى العباس، فصار إليه أبو حفص، وقال: يا أبا القاسم، إنما مجلس المدام مجلس حرمة، وداعية أنس، ومسرح لبانة، ومذاد همٍّ، ومرتع لهو، ومعهد سرور، وإنما توسطته عند من لا يتهم غيبه، ولا يخشى عيبه، وقد اتصل بي ما تنهيه إلى أميرنا أبي الفضل أعزه الله من أخبار مجالستي فلا تفعل، وأنشده [قول أبي العباس الناشيء: ولقد قلت للأخلاء يوماً ... قول ساع بالنصح لو سمعوه إنما مجلس الشراب بساط ... للمودات بينهم وضعوه فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من نعيم ولذة رفعوه وهم أحرياء إن كان منهم ... حافظ ما أتوه أن يمنعوه فاعتذر ابن حذار، وحلف أنه ما فعل، ثم قام عن مجلسه، فأنشد أبو حفص: كم من أخ أوجست منه سجية ... فأنست بعد وداده بفراقه لم أحمد الأيام منه خليقة ... فتركته مستمتعاً بخلاقه عول أبو حفص في أكثر كلامه على كلام ابن العباس عبد الله بن محمد الناشئ في الشراب، والأبيات التي أنشد أولاً له. قال بعض الظرفاء: شرط المنادمة قلة الخلاف، والمعاملة بالإنصاف والمسامحة بالشرابي، والتغافل عن الجواب، وإدمان الرضى، وإطراح ما مضى وإسقاط التحيات، واجتناب اقتراح الأصوات، وأكل ما حضر، وإحضار ما تيسر، وحفظ الغيب، وستر العيب. وقال الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وهو خليفة لشراعة بن الزند بوذ: من أمتع الجلساء؟ قال: الذي إذا عجب عجب، وإذا غنى طرب، وإذا سقي شرب، وإذا أمسكت حدثك، وإذا حدثت أنصت لك. قال: فأي أوقات الشراب أطيب؟ قال: وقت نشاط على غب السماء. قال: فأي المجالس أحسن؟ قال: إذا لم يكن مطر مغرق، ولا حر محرق، فالشرب على وجه السماء. قال الوليد: أفيلومونني يا شراعة على حبك، وأنا إذا سألتك شيء لقيتني بمثل هذا الجواب، خذ من بيت المال ألفي دينار: وأنشدوا في نحو قول شراعة: لا خير في الشرب إلا مع أخي ثقة ... إن سر غنى وإن غنيته طربا يعطيك صمتاً إذا غنيته وإذا ... شربت حيا وإن حييته شربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 عف اللسان عفيف الفرج تحمده ... في كل حال إذات أثرى وإن تربا يزيده الراح حلماً والغنا طرباً ... والسكر تقوى واستماع الأذى أدبا فاشدد يديك بهذا إن ظفرت به ... واكنز مودته، ولا تكنز الذهبا وقال الحسن بن وهب شربت البارحة على وجه الجوزاء فلما انتبه الفجر نمت، فما عقلت حتى لحفني قميص الشمس. وقال أبو القاسم الصاحب: قد حملت أوزار السكر على ظهر الخمر، وطوي بساط الشراب، على ما فيه من خطأ وصواب. وكتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب وقد اصطبح في يوم دجن: أما ترى تكافؤ هذا الطمع واليأس من يومنا بقرب المطر وبعده، فكأنه قول كثير عزة: وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت عما بيننا وتخلت لكالمرتجى ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلت وما أصبحت أمنيتي إلا في لقائك، فليت النأي هتك بيني وبينك، ورقعتي هذه وقد دارت زجاجات أوقعت بعقلي ولم تتحيفه، وبعثت نشاطاً حركني للكتاب إليك، فرأيك في إمطاري سروراً بسار خبرك إذ حرمت السرور بمطر هذا اليون، موفقاً إن شاء الله. فكتب إليه الحسن بن وهب: وصل كتابي الأمير أيده الله وفمي طاعم ويدي عاملة، فلذلك تأخر الجواب قليلاً، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته، وما استحق ذماً لأنه إذا أشمس حكى حسنك وضياءك، وإذا أمطر حكى جودك وسخاؤك، وإذا غام أشبه ظلك وفناءك، وسؤال الأمير عني نعمة من نعم الله عز وجل علي. يعفي بها آثار الزمان الشيء عندي، وأنا كما يحب الأمير صرف الله الحوادث عنه، وعن حظي منه. وقال علي بن الجهم: أما ترى اليوم ما أحلى شمائله ... صحو وغيم وإبراق وإرعاد كأنه أنت يا من لا شبيه له ... وصل وهجر وتقريب وإبعاد وكتب بعض أهل العصر، وهو السري الموصلي إلى بعض إخوانه بقوله: يوم رذاذ ممسك الحجب ... يضحك فيه السرور من كثب ومجلس أسبلت ستائره ... على شموس البهاء والحسب وقد جرت خيل راحنا خببا ... في حلبها أو هممت بالخبب والتهبت نارنا فمنظرها ... يغنيك عن كل منظر عجب إذا ارتمت بالشرار واطردت ... على ذارها مطارد اللهب رأيت ياقوتة ممسكة ... تطير عليها قراضة الذهب فانهض إلى المجلس الذي ابتسمت ... عنه رياض الجمال والأدب ومن ملح ما قيل في النار قول أبي الفرج الببغاء: فحم قدم الغلام فأدلى ... من كونينه حياة النفوس كان كالأبنوس غير محلى ... فغدا وهو مذهب الأبنوس لقي النار في ثياب حداد ... فكسته مصبغات عروس وقال ابن وكيع: وقر قد طردت بنار راح ... عضدت جنودها بوقود نار لها شرر كأن الريح منه ... مبددة نثاراً من بهار وقال الأمير الميكالي: كأن الشرار على نارنا ... وقد راق منظرها كل عين سحالة تبر إذا ما علا ... فإما هوى ففتات اللجين ومن ألفاظ أهل العصر في الاستدعاء إلى الأنس: نحن في مجلس أبت راحته أن تصفو أو تتناولها يمناك، وأقسم غناؤه لا طاب أو تعيه أذناك، فأما خدود نارنجه فقد احمرت خجلاً لإبطائك، وأما عيون نرجسه، فقد حدقت تأميلاً للقائك، [و] نحن لغيبتك كعقد قد ذهبت واسطته، وشباب قد أخذت جدته، وإذا غابت شمس السماء عنا، فلا بد أن تدنو شمس الأرض منا، فإن رأيت أن تحضر لتتصل الواسطة بالعقد، ونحصل بقربك في جنة الخلد، وتسهم لنا في لقائك الذي هو قوت النفس، ومادة الأنس فعلت، فأنت ممن ينظم به شمل الطرب، ويبلغ بلقائه كل أرب، فكن إلينا أسرع من السهم إلى ممره، والماء إلى مقره، وجشمن إلينا قدمك، واخلع علينا كرمك. وقال أبو الفتح البستي: رب يوم للعيش فيه رفاغ ... ولكأس السرور فيه مساغ قد فرغنا للهو فيه وللشر ... ب وما للكؤوس فيه فراغ وعند حر له قلائد في الأعناق ... من جوهر الأيادي تصاغ عندنا للبخور غيم وللما ... ورد طش وللغوالي رداغ وقال أيضاً: قد نظمنا السرور في عقد أنس=وجعلنا الزمان للهو سلكا وفضضنا الدنان في يوم ثلج ... عزل الغي فيه رشداً ونكسا فكأن السماء تنخل كافو ... راً ونحن نفتق مسكا وأبو الفتح [البستي] القائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أفد بطبعم المكدود بالهم راحة=براح وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما تعطي الطعام من الملح وشعر أبي الفتح ينم عن تصرفه في العلم، كقوله: ?لئن عجزت عن شكر برك قوتي=وأوى الورى عن شكر برك عاجز فإن ثنائي واعتقادي وطاعتي ... لأفلاك ما أوليتنيه مراكز وقاله أيضاً: إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً ... فاحكم على ملكة بالويل والحرب أما ترى الشمس في الميزان هابطة ... لما غدا وهو برج اللهو الطرب وقال أيضاً: شرف الوغد بوغد مثله ... مثل ما فيه زيغ وخلل ودليل الصدق فيما قلته ... شرف المريخ في بيت زحل وقال أيضاً: لئن كسفونا بلا علة ... وفازت قداحهم بالظفر فقد يكسف المرء من دونه ... كما يكسف الشمس جرم القمر وقال أيضاً: لا يغرنك أنني لين اللم? ... س فعزمي إذا انتضيت حسام أنا كالورد فيه راحة قومٍ ... ثم للأخرين فيه زكام وقال أيضاً: وقد يلبس المرء خز الثياب ... ومن تحتها حالة مضنية كمن يكتسي خده حمرة ... وعلتها ورم في الرية وشعره في هذه الأسباب وغيرها من الأبواب، يخرج عن حد الكتاب. وله في الفن الذي كثر في أهل العصر من تجنيس الشعر كقوله: إن أسيافنا الغضاب الدوامي ... صيرت ملكنا قرين الدوام باقتسام الأموال من وقت سام ... واقتحام الأهوال من وقت حام وله فيه أيضاً: إن هز أقلامه يوماً ليعملها ... أنساك كل كمي هو عامله وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له ولأبي الفضل الميكالي في هذا النوع قوله: أفدي غزالاً حماه قصر ... كجنة قد حوت نعيما طرقته لا أهاب سوءاً ... أباحني حبه الحريما فجاد من فيه لي براح ... شفى حريقاً به مقيما أفدي حريقاً أباح ريقاً ... لا بل حريماً أباح ريما قال مسلم بن عبد الله بن جندب الهذلي: خرجت أريد العقيق، ومعي زيان السواق، فلقينا نسوة لم أر أجمل منهن، فيهن امرأة فرعتهن طولاً [وكمالاً، وبرعتهن ظرفاً وجمالاً] فأنشد ريان بيني أبي، وهما: ألا ياعباد الله هذا أخوكم ... قتيل فهل منكم له اليوم ثائر خذوا بدمي إن مت كل خريدة ... مريضة جفن العين، والطرف ساحر ثم قال لي: شأنك بها يا بن الكرام، فالطلاق لي لازم إن لم يكن دم أبيك في نقابها، فأقبلت علي، وقالت: أأبوك ابن جندب؟ قلت: نعم، فقالت: إن قتيلنا لا يودى، وأسيرنا لا يفدى، فاغتنم نفسك، واحتسب أباك. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال رجل من [بني] فزارة لرجل من [بني] عذرة: تعدون موتكم في الحب مزية، وإنما ذلك من ضعف البنية، ووهن العقل، وعجز الروية. فقال العذري: أما إنكم لو رأيتم المحاجر البلج، ترشق بالأعين الدعج، من فوقها الحواجب الزج، والشفاه السمر، تفتر عن الثنايا الغر، كأنها سرد الدر، لجعلتموها اللات والعزى ورفضتم الإسلام وراء ظهوركم. وقال أعرابي: دخلت بغداد فرأيت بها عيوناً دعجاً، وحوجب زجاً، يسحبن الثياب، ويسلبن الألباب. وقال أعرابي في امرأة ودعها:" والله ما رأيت دمعة ترقرق من عين بإثمد على ديباجة خد، أحسن من عبرة أمطرتها عينها، فأعشب لها قلبي. وذكر أعرابي امرأة فقال: تلك شمس باهت الأرض بها شمس سمائها، وليس لي شفيع إلى اقتضائها، ولي نفس كتوم لدائها، ولكنها تفيض على امتلائها أخذه [أبو تمام] الطائي فقال: شكوت وما الشكوى لمثلي بعادة ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها ووصف أعرابي نساء فقال: ظعائن في سوالفهن طول، غير قبيحات العطول، إذا مشين انتعلن الذيول، وإذا ركبن أثقلن الحمول. وقال أبو العباس بن الحسن العلوي: صادتك من عين القصور ... بيض أوانس في الخدور حور تحور إلى صبا ... ك لأعين منهن حور وكأنما برضابه ... ن جنى الرحيق من الخمور يصبغن تفاح الخدو ... د بماء رمان النحور وقال بعض البغداديين: لو ذقت صيد ظباء القصور ... لأنسيت صيد ظباء الفلاة ظباء مراتعها في القلوب ... ومشربها من لذيذ الحياة وقال ابن الرومي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 تعنت بالمسواك أبيض صافياً ... تكاد عذارى الدر منه تحدر وما سر عيدان الراك بريقها ... تأودها في أيكها تتهصر لئن عدمت سقيا الثرى إن ريقها ... لأعذب من هاتيك سقياً وأخصر وما ذقته إلا بشيم ابتسامها ... وكم مخبر يبديه للعين منظر بدا لي وميض شاهد أن صوبه ... غريض وما عندي سوى ذاك مخبر ولا عيب فيها غير أن ضجيعها ... إن لم تصبه الساهرية يسهر تذود الكرى عنه بنشر كأنما ... تضوعه مسك ذكي وعنبر وما تعتريها آفة بشرية ... من النوم إلا أنها تتحير وغير عجيب طيب أنفاس روضة ... منورة باتت تراح وتمطر كذلك أنفاس الرياض بسحرة ... تطيب وأنفاس الورى تتغير وقال: ألا ربما سؤت الغيور وساءني ... وبات كلانا من أخيه على وحر وقبلت أفواهاً عذاباً كأنها ... ينابيع خمر حصبت لؤلؤ النحر وقال أيضاً تعلك ريقاً يطرد النوم برده ... ويشفي القلوب الحائمات الصواديا وهل ثغب حصباؤه مثل ثغرها ... يصادف إلا طيب الطعم صافيا وقال ابن المعتز بالله: بأبي خليلاً كنت أعهده ... [لي] واصلاً فأزور جانبه عبق الكلام بمسكةٍ نفحت ... من فيه ترضي من يعاتبه وقال ابن الرومي: يا رب ريق بات بدر الدجى ... يمجه بين ثناياكا يروي ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا وقال ابن وكيع: ريق إذا ما ازددت من شربه ... رياً ثناني الري ظمآنا كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا وقال ابن الرومي يصف نساء: إذا لبسن خلاخلاً ... أكذبن أسماء الخلاخل تأبى تخلخلهن سو ... ق مرجحنات خوادل وقال غيره: استكتمت خلخالها ومشت ... تحت الظلام به فما نطقا حتى إذا ريح الصبا نسمت ... ملأ العبير بسرها الطرقا وأنشد أبو الحسين أحمد بن فارس في مثل هذا [المعنى] : رب قول من سعاد لنا ... قد حفظناه وقد نفعا أملي لا تأت في قمر ... لحديث وراقب الدرعا وتوق الطيب ليلتنا ... إنه واش إذا سطعا وقال ابن الرومي: صدورهن فوقهن حقاق عاج ... ودر زانه حسن اتساق يقول القائلون إذا رأوها ... أهذا الدر من هذي الحقاق [وما تلك الحقاق سوى ثدي ... قدرن من الحقاق على وفاق] [نواهد لا يعد لهن عيب ... سوى بعد المحب من العناق] أخذه من قول عبد الله بن أبي السمط: كأن الثدي إذا ما بدت ... وزان العقود بهن النحورا حقاق من العاج مكنونة ... حملن من الدر شيئاً يسيرا ولأهل العصر في أوصاف النساء: هي روضة الحسن، وضرة الشمس، وبدر الأرض، بدر التم يضيء تحت نقابها، وغصن البان يهتز تحت ثيابها، لها ثغر كالدر يجمع الضريب والضرب. أعلاها كالغصن ميال، وأسفلها كالدعص منهال، لها عنق كإبريق اللجين، وسرة كمدهن العاج. نطاقها مجدب، وإزارها مخصب، مطلع الشمس من وجهها، [ومنبت الدر من فيها، وملتقط الورد من خدها] ، ومنبع السحر من طرفها، ومبادئ الليل من شعرها، ومغرس الغصن في قدها، ومهيل الرمل في ردفها. وكتب الأمير عبيد الله بن أحمد الميكالي إلى أبي القاسم الداودي جواباً عن كتاب ورد عليه، منه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقفت على ما أتحفني به الشيخ: من نظمه الرائق البديع، وخطه المزري بزهر الربيع، موشحاً بغرر ألفاظه التي لو أعيرت حليها لعطلت قلائد النحور، وأبكار معانيه التي لو قسمت حلاوتها لأعذبت موارد البحور، فسرحت طرفي منها في رياض جلتها سحائب العلوم والحكم، وهب عليها نسيم الفضل والكرم، وابتسمت عنها ثغور المعالي والهمم، ولم أدر وقد حيرتني أصنافها، وبهرتني نعومتها وأوصافها، حتى كستني اهتزازاً وإعجاباً، فأنشأت بيني وبني التماسك ستراً وحجاباً، أدهتني بها نشوة راح؟ أم ازدهتني لها نخوة ارتياح؟ وانتظم عندي منها عقد ثناء وقريض؟ أم قرع سمعي بها غناء "معبد" و"غريض" وكيفما كان فقد حوى رتبة الإعجاز والإبداع، وأصبح نزهة القلوب والأسماع، فما من جارحة [إلا] وهي تود لو كانت أذناً تلتقط درره وجواهره، أو عيناً تجتلي مطالعه ومناظره أو لساناً يدرس محاسنه ومفاخره. وله إلى أبي منصور بن عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي كتابي وأنا أشكو إليك شوقاً لو عالجه الأعرابي لما صبا إلى رمل عالج، أو كابده الخلي لانثنى على كبد ذات حرق ولواعج، وأذم زماناً يفرق فلا يحسن جمعاً، ويخرق ولا ينوي رقعاً، ويوجع القلوب بتفريق شمل ذوي الوداد، ثم يبخل عليها بما يشفي غليل الصدر والأكباد، قاسي القلب فلا يلين لاستعطاف، جائر الحكم فلا يميل إلى إنصاف، وكم استعدي على صرفه وأستنجد، وأتلظى غيظاً عليه وانشد: متى وعسى يثني الزمان عنانه ... بعثرة حال والزمان عثور فتدرك آمال وتقضي مآرب ... وتحدث من بعد الأمور أمور وكلا، فما على الدهر عتب، ولا له إلى أهله ذنب، وإنما هي أقدار تجري كما شاء مجريها، وتنفذ كالسهام إلى مراميها، فهي تدور بالمكروه والمحبوب، على الحكم المقدور [و] المكتوب، لا على شهوات النفوس، وإرادات القلوب، وإذا أراد الله تعالى أذن في تقريب النازح وتسهيل الصعب الجامح، فيعود الأنس بلقاء الإخوان كأتم ما لم يزل معهوداً، ويجدد للمذاكرة والمؤانسة رسوماً وعهوداً، إنه لقادر عليه، والملي به. وزار أبا منصور الثعالبي، فكتب إليه أبو منصور بقوله: لا زال مجدك للسماك رسيلاً ... وعلو جدك بالخلود كفيلا يا غرة الزمن البهيم إذا غدا ... هذا الورى لزمانهم تحجيلا يا زائراً مدت بدائع فضله ... ظلاً علي من الجمال ظليلا وأتت بصوب جواهر من لفظه ... حتى انتظمن لمفرقي إكليلا بأبي وغير أبي هلال نوره ... يستعجل التسبيح والتهليلا نقشت حوافر طرفه في عرصتي ... نقشاً محوت رسومه تقبيلا ولو استطعت فرشت مسقط خطوه ... بعيون عين لا ترى التكحيلا ونثرت روحي بعد ما ملكت يدي ... وخررت بين يدي هواه قتيلا وأبو منصور قريع دهره، وفريد عصره، وله مصنفات كتب في العلم والأدب، تشهد له بأعلى الرتب، وكل ما أحكيه من ألفاظ أهل العصر غير منسوب إلى قائله، فمستخرج من تأليفه، مأخوذ من تصنيفه، وفيه يقول [أبوالفتح] البستي: قلبي رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين تستقرى البلاد أخ له صحائف أخلاق مهذبة ... منها الحجى والعلا والظرف ينتسخ ومن مليح شعر [أبي الفضل] الميكالي قوله: أقول لشادن في الحسن فرد ... يصيد بلحظه قلب الكمي ملكت الحسن أجمع في نظام ... فأد زكاة منظرك البهي وذلك أن تجود لمستهام ... برشف من مقبلك الشهي فقال أبو حنيفة لي إمام ... وعندي لا زكاة على الصبي [فإن تك مالكي الرأي أو من ... يرى رأي الإمام الشافعي] [فلا تك طالباً مني زكاة ... فإخراج الزكاة على الولي] ومن أشعاره الفقهية قوله: بنفسي غزال صار للحسن قبلة ... تحج من الفج العميق وتقصد دعاني الهوى فيه فلبيت طائعاً ... وأهللت بالإخلاص والسعي يشهد فطرفي بالتسهيد والدمع قارن ... وقلبي فيه بالصبابة مفرد وقال أبو الفتح كشاجم: فديت زائرة في العيد واصلة ... والهجر في غفلة عن ذلك الخبر فلم يزل خدها ركناً أطوف به ... والخال في خدها في موضع الحجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقال عمر بن علي المطوعي: أراد الأمير السيد أبو الفضل عبيد الله بن أحمد، أدام الله فضله، أيام مقامه "بجوين" أن يطلع إلى قرية من قرى ضياعه تدعى "تجاب"، على سبيل التنزه والتفرج، وكنت من جملة من استصحبه إليها، واتفق أنا وصلنا والسماء مصحية، والجو صاف، ولم يطرز ثوبه بعلم الغمام، والأفق فيروزج لم يعبق به كافور السحاب، فوقع الاختيار على ظل شجرة باسقة الفروع، متسقة الأوراق والغصون، قد سترت ما حولها من الأرض طولاً وعرضاً، فنزلنا تحتها مستظلين بسماوة أفنانها، مستترين من وهج الشمس بستارة أغصانها، وأقبلنا نتجاذب أذيال المذاكرة، ونتسالب أهداب المناشدة والمحاورة، فما شعرنا إلا بالسماء قد أرعدت وأبرقت، وأظلمت بعدما أشرقت، وجادت بمطر كأفواه القرب، فأجادت، وحكت أنامل الأجواد وأعين العشاق، بل أربت عليها وزادت، حتى كاد غيثها أن يعود عيثا، وهم وبلها [أن] يستحيل وبالاً، فصبرنا على أذاها، وقلنا: "سحابة صيف عن قريب تقشع"، فإذا نحن بها قد أمطرتنا برداً كالثغور، لكنها ثغور العذاب، لا من ثغور العذاب، فأيقنا البلاء وسلمنا لأسباب القضاء، فما مرت غلا ساعة من النهار حتى سمعنا خرير الأنهار، ورأينا السيل قد بلغ الزبى، والماء قد بلغ القيعان والربا. فملنا إلى حصن القرية لائذين من السيل بأفنيتها، عائذين من القطر بأبنيتها، وأثوابنا قد صندل كافوريها ماء الوبل، وغلف طرازيها طين الوحل، ونحن نحمد الله على سلامة الأبدان، وإن فقدنا بياض الأكمام والأردان، ونشكره على نجاة الأنفس والرواح، شكر التاجر على بقاء رأس المال إذا فجع بالأرباح، فبتنا تلك الليلة في سماء تكف ولا تكف، وتبكي إلى الصباح بأدمع هوام، وأربعة سجام، فلما سل سيف الصبح من غمد الظلام، وصرف بوالي الصحو عامل الغمام، رأينا صواب الرأي أن نوسع الإقامة [بها] رفضاً ونتخذ الارتحال فرضاً، فما زلنا نطوي الصحاري أرضاً فأرضاً، إلى أن وافينا المستقر ركضاً، فلما نفضنا غبار ذلك المسير، الذي جمعنا في ربقة الأسير، وأفضينا معه إلى ساعة التيسير، بعدما صلينا منه [بالأمس] بالأمر [الصعب] العسير، وتذاكرنا ما لقينا من التعب والمشقة، وفي قطع ذلك الطريق، وطي تلك الشقة، أخذ [مولانا] الأمير القلم فعلق [هذه الأبيات] ارتجالاً: دهتنا السحاب غداة التجاب ... بغيم على أفقه مسبل فجاء برعد له رنة ... كرنة ثكلى ولم يثكل وثنى بوبل عدا طوره ... فعاد وبالاً على الممحل وأشرف أصحابنا من أذاه ... على خطر هائل معضل فمن لائذ بفناء الجدار ... وآو إلى نفق مهمل ومن مستجير ينادي: الغريق ... هناك، ومن صارخ معول وجادت علينا سماء السقوف ... بدمع من الوجد لم يهمل كأن حراماً لها أن ترى ... يبيساً من الأرض لم يبلل وأقبل سيل له روعة ... فأدبر كل من المقبل يقلع ما شاء من دوحة ... وما يلق من صخرة يحمل كأن بأحشائه إذ بدا ... أجنة حمل ولم يحبل فمن عامر رده غامراً ... ومن معلم عاد كالمجهل كفانا بليته ربنا ... وقد وجب الشكر للمفضل فقل للسماء ارعدي وابرقي ... فإنا رجعنا إلى المنزل أخذ المطوعي قوله: "فلما سل سيف الصبح من غمد الظلام" من قول أبي الفتح البستي: رب ليل أغمد الأنوار إلا ... نور ثغر أو مدام أو ندام قد نعمنا بدياجيه إلى أن ... سل سيف الصبح من غمد الظلام وقوله "كاد غيثها يعود عيثا" من قوله [أيضاً] : لا ترج شيئاً خالصاً نفعه ... فالغيث لا يخلو من العيث وقال الميكالي في بركة وقع عليها شعاع الشمس فألقته على بهو مطل عليها: أما ترى البركة الغراء قد لبست ... نوراً من الشمس في حافاتها سطعا والبهو من فوقها يلهيك منظره ... كأنه ملك في دسته ارتفعا والماء من تحتها ألقى الشعاع على ... أعلى سماوته فارتج ملتمعا كأنه السيف مصقولاً تقلبه ... كف الكمي إلى ضرب الكمي سعى ومن ظريف ما [في] وصف الماء قول ابن المعتز بالله، وذكر إبلاً: فتبدى لهن بالنجف المقفر ماء صافي الجمام عري يتمشى على حصى يسلب الما ... ء قذاه فمتنه مجلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وإذا ضاحكته ذرة شمس ... خلته كسرت عليه الحلي وقال يصف منزلاً: لا مثل منزلة الدويرة منزل ... يا دار جادك وابل وسقاك بؤساً لدهر غيرتك صروفه ... لم يمح في قلبي الهوى ومحاك لم يحل للعينين بعدك منظر ... ذم المنازل كلهن سواك أي المعاهد منك أندبل طيبه ... ممساك ذا الآصال أم مغداك أم برد ظلك ذي الغصون ذوي الندى ... أم أرضك الميثاء أم رياك وكأنما سطعت مجامر عنبر ... أوفت فأر المسك فوق ثراك وكأنما أيدي الربيع ضحية ... نشرت ثياب الوشي فوق رباك كأن درعاً مفرغاً من فضة ... ماء الغدير جرت عليه صباك وقال ابن الرومي: وماء جلت عن حر صفحته القذى ... من الريح معطار الأصائل والبكر به عبق مما تسحب فوقه ... نسيم الصبا يجري على النور والزهر وقال أبو بكر أحمد بن محمد الضبي الصنوبري: سقى حلباً سافك دمعه ... بطيء الرقوء إذا ما سفك ميادينها بسطهن الرياض ... وساحاتها وسطهن البرك ترى الريح تنسج من مائها ... دروعاً مضاعفة أو شبك كأن الزجاج عليها أذيب ... وماء اللجين بها قد سبك هي الجو في رقة غير أن ... مكان الطيور تطير السمك وقد نظم الزهر نظم النجوم ... فمفترق النظم أو مشتبك كما درج الماء مر الصبا ... ودبج وجه السماء الحبك يباهين أعلام قمص القيان ... ونقش عصائبها والتكك وقال أيضاً: ولقد طربت إلى الفرا ... ت بكل ذي كرم ومجد والشمس عند غروبها ... صفراء مذهبة الفرند والماء حاشيتاه خض? ... راوان من آس ورند تحبوه أيدي الريح إن ... هبت على قرب وبعد بطرائق من فضة ... وطرائق من لازورد والسفن كالطير انبرت ... في الجو من مثنى وفرد حتى إذا جزر الفرا ... ت مضى وأعقبه بمد ألفيته وكأنه ... ملقى عليه رداء ورد متململاً كالصب أو ... ذن من أحبته بصد وكأن ما يخشاه ما ... بحشاي من قلق ووجد وقال يصف دجلة، وقد طرحت النجوم والبدر أجرامها عليها: ولما تعالى البدر وامتد ضوؤه ... بدجلة في تشرين بالطول والعرض وقد قابل الماء المفضض نوره ... وبعض نجوم الليل يقفو سنى بعض توهم ذو العين البصيرة أنه ... يرى باطن الأفلاك من ظاهر الأرض ولأهل العصر في هذه المعاني: قال ابن وكيع التنيسي: خذها بكفي فاتر الجفون ... مدامة كدمعة المحزون على غدير أملس المتون ... مثل فرند الصارم المسنون أمواجه كعكن البطون ... ذي زردٍ كالؤلؤ الموضون كسلخ إيم أو كمسك نون وقال [أيضاً] غدير يدرج أمواهه ... هبوب الشمال ومر الصبا إذا الشمس من فوقه أشرقت ... توهمته جوشناً مذهبا وقال أيضاً: سقاني كأس الراح شاطئ جدول ... تداريجه يحكين بطنا معكنا إذا صافحته راحة الريح خلته ... بتكسيرها إياه ثوباً معينا وقال علي بن محمد الإيادي التونسي يصف دار البحر: ولما استطال المجد واستولت البنى ... على النجم وامتد الرواق المروق بنى قبة للملك في وسط جنة ... لها منظر يزهي به الطرف موتق بمعشوقة الساحات أما غراسها ... فحضر وأما طيرها فهي نطق تحف بقصر ذي قصور كأنما ... ترى البحر في أحشائه وهو متأق لها بركة للماء ملء فضائه ... تخب بقطريها العيون وتعنق لها جدول فيها كأنه ... حسام جلاه القين بالأرض ملتصق لها مجلس قد قام وسط مائها ... كما قام في فيض الفرات الخورنق كأن صفاء الماء فيها وحسنه ... زجاج صفت أحشاؤه فهو أزرق إذا بث الليل أشخاص نجمه ... رأيت وجوه الماء بالنار تحرق وإن صافحتها الشمس لاحت كأنها ... فرند على تاج المعز رونق كأن شرافات المقاصير حولها ... عذارى عليهن الملاء المنطق يذوب الجفاء الجعد عن وجه مائها ... كما ذاب آل الصحصحان المرقرق وقال عبد الكريم ابن إبراهيم النهشلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 يا رب فتيان صدق رحت بينهم ... والشمس كالدنف المشغوف في الأفق ومرضة أصائلها حسرى شمائلها ... تروح الغصن الممطور في الورق معاطياً شمس إبريق إذا مزجت ... تقلدت عقد مرجان من النزق عن ماحل طافح بالماء معتلج ... كأن نقيته صيغت من الحدق تضمه الريح أحياناً وتفرقه ... فالماء ما بين محبوس ومنطلق من أخضر ناضر والطل يلحقه ... وأبيض تحت قبطي الضحى يقق تهزه الريح أحياناً فيمنحها ... للزجر خفق الفؤاد العاشق القلق كأن حافاته نطقن من زبد ... مناطقاً رصعت من لؤلؤ نسق كأن قبته في سندس نمط ... حسناء مجلوة اللبات والعنق إذا تبلج فجر زرقتها ... حسبته فرساً دهماء في بلق أو لازورداً غدا في متنه ذهب ... فلاح في شارق مت مائه شرق عشية كملت حسناً وأسعدها ... ليل يمدد أطناباً على الأفق تجلى بغرة وضاح الجبين له ... ما شئت من حسب زاك ومن خلق قال محمد بن مخلد الكاتب: لزمت أبا الحسن علي بن محمد بن الفران، أغدوا وأروح إلى بابه لأحظى بطائل، ولا أصل إلى تصريف ولا نائل، حتى برمت نفسي، فرأيت هاتفاً في المنام يقول لي: يا أيها المكثر في المطالب ... اهجر تصاريف المنى الكواذب إذا أتى وقت القضاء الغالب ... بادرت الحاجات كف الطالب فتركت المصير إليه، فلم يمض إلا أسبوع حتى تقلد أبو محمد حامد بن العباس الوزارة فقلدني خلافته، فتابت نفسي، وثابت حالي. قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: أنشدني إسماعيل بن إسحاق القاضي هذه الأبيات: لا تعتبن على النوائب ... فالدهر يرغم كل عاتب واصبر على حدثانه ... إن الأمور لها عواقب ولكل صافية قذى ... ولكل خالصة شوائب والدهر أولى ما صبر ... ت له على رنق المشارب كم فرحة مطوية ... لك بين أثناء النوائب ومسرة قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب قال القاضي: ما عرض لي هم فادح، فذكرت هذه البيات إلا رجوت من روح الله عز وجل [من الفرج] ما يفك عقالي، وينعم بالي، ثم تزول عاقبة ما أحذره إلى فاتحة ما أوثره. كتب بديع الزمان إلى شمس المعالي، وقد شاقه حضرته: لم تزل الآمال أطال الله بقاء مولاي الأمير السيد شمس المعالي وأدام سلطانه تعدني هذا اليوم، والأيام تمطلني بألسنة صروفها على اختلاف صنوفها، بين حلو استخفني، ومر أشرقني، وشر صار إلي، وخير صرت إليه، وأنا في خلال هذه الأحوال أرتع الآفاق، فأكون مشرقاً للمشرق الأقصى، وطوراً مغرباً للمغرب، ولا مطمع إلا في حضرته الرفيعة، وسدته المنيعة، ولا وسيلة إلا المنزع الشاسع، والأمل الواسع، وقد صرت أطال الله بقاء مولانا، بين أنياب النوائب، وتجشمت هول الموارد والمطالب، وركبت أكناف المكاره، ورضعت أخلاف العوائق، ومسحت أطراف المراحل، حتى حضرت الحضرة البهية أو كدت، وبلغت الأمنية أو زدت، وللأمير السيد في الإصغاء إلى المجد، والبسط من عنان الفضل بتمكين خادمه من المجلس يلقاه بيده، والبساط يلثمه بفمه الرأي العالي إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وله إلى سهل بن محمد بن سليمان يسأله عن حاجة بعد انقطاعه عنه: أنا إذا طويت اليوم عن خدمة مولاي أطال الله بقاءه لم أرفع بصري، ولم أعده من عمري، وكأني به إذا أغفلت عن مفروض خدمته، من قصد حضرته، والمثول في جملة حاشيته، وحملة غاشيته، يقول: إن هذا الجائع لما شبع وتمشيع، وتجلل وتبرقع، تربع وترفع، فما يطور بهذا الجناب، ولا يظهر بهذا الباب، وأنا الرجل الذي آواه من قفر، وأغناه من فقر، وآمنه من خوف، إذ لا حر بوادي عوف، حتى إذا وردت رقعتي عليه هذه، وأعارها طرف كرمه، وظرف شيمه، ونظر في عنوانها في اسمي، قال: بعداً وسحقاً، وسباً وتباً، وحتاً ونحتاً، وطعناً ولعناً، فما أكدر شراب أخلاقه، وأكثر سراب نفاقه، والآن انحل من عقدته، وانتبه إلى رقدته، وكاتبني يستعيدني، كلا لا أزوجه الرضى ولا كرامة، ولا أمنحه المنى ولا قلامة، سأدعه [يركب رأسه، فستأتيني به] الليالي والكيس الخالي، ثم أزنه بميزان قدره، وأذيقه وبال أمره، حتى إذا بلغ موضع الحاجة قال: مأربة به لا حفاوة، ووطر ساقه لا نزاع شاقه، وهذا هذاء، أنا لا أبعد عن تلك الهمم العالية، والأخلاق السامية، أن يقول: مرحباً بالرقعة وكاتبها، وأهلاً بالمخاطبة وصاحبها، وحاجتي الرقعة التي سالت إلى ما التمست، بما طلبت كما اقترحت، فرأيه فيها موفقاً إن شاء الله تعالى. وكتب إلى مستمنح عاوده مراراً: مثل الإنسان في الإنسان مثل الأشجار في الإثمار، سبيل من أتى بالحسنة، أن يرفه إلى السنة وأنا كما ذكرت لا أملك غير عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي، أما اليد فتولع بالجود، وأما الفؤاد فيعلق بالوفود، ولكن هذا الخلق النفيس لا يساعده الكيس، ولا قرابة بين الأدب والذهب، فلم جمعت بينهما [في النسب] ؟ والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، ولي مع الأدب نادرة، قد جهدت بالطباخ، أن يطبخ [لي] جيمية الشماخ، لوناً فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع أدب الكتاب فلم يقبل، واحتيج في البيت إلى شيء من الزيت، فأنشدت ألفي ومئتي بيت من شعر الكميت، فلم تغن، ولو وقعت أرجوزة العجاج، في توابل السكباج، لم تنفع، وأنت لا تقنع، فما أصنع، فإن كنت تحسب اختلافك إلي، إفضالاً منك علي، فراحتي ألا تطرق ساحتي، وفرجي ألا تجي، والسلام. ومن شعره قوله: وأروع أهداه لي الليل والفلا ... وحمش تمس الأرض لكن كلا ولا عرضت على نار المكارم عوده ... فكان معماً في السوابق مخولا وخادعته عن ماله فخدعته ... وساهلته في بره فتسهلا ولما تخالينا وأحمد منطقي ... بلاني في نظم القريض بما بلا فما هز إلا صارماً حين هزني ... ولم يلقني إلا إلى السبق أولا فلم أره إلا أغر محجباً ... وما تحته إلا أغر محجلا وله أيضاً: لعمر الذي ألقى إلي ثيابه ... لقد ملئت تلك الثياب به مجدا وقد قمرته راحة الجود بزة ... وما ضربت قدحاً ولا نصبت نردا أعد نظراً يا من بناني بنانه ... ولا تدع الأيام تهدمني هدا وقل للألى إن أسفروا أسفروا ضحى ... وإن طلعوا في غمة طلعوا وردا صلوا رحم العليا وبلوا لهاتها ... وخير الندى ما سح وابله نقدا وله يصف خاتماً: وممنطق من نفسه ... بقلادة الجوزاء حسنا متألف من غير أسر ... ته على الأيام خدنا كمتيم لقي الحبي ... سب فضمه شغفاً وحزنا علق سني قدره ... لكن من أهداه أسنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 قال وهب بن ناجية الرصافي: كنت أحد من وقعت عليه التهمة في مال مر أيام الواثق، فطلبني السلطان طلباً شديداً، حتى ضاقت علي الرصافة وغيرها فخرجت أريد البادية مرتاداً رجلاً عزيز الجار، منيع الدار، أعوذ به، وأنزل عليه، حتى انتهيت إلى بني شيبان، فدفعت إلى بيت مضروب، وبفنائه فرس مربوط، ورمح مركوز، فدنوت وسلمت، فرد علي نساء من وراء السجف، ثم قالت إحداهن: اطمئن يا حضري، نعم مناخ الضيفان بوأك القدر، ومهدك الصبر، قلت: وأنى يطمئن المطلوب، أو يأمن المرعوب [من] دون أن يأوي إلى جبل يعصمه أو مفزع يمنعه، وقليلاً ما يهجع من السلطان طالبه، والخوف غالبه، قالت: لقد ترجم لسانك عن ذنب كبير، وقلب صغير، وأيم الله لقد حللت بفناء بيت لا يضام فيه أحد، ولا تجوع فيه كبد، هذا الأسود بن قنان، أخواله كعب، وأعمامه شيبان، صعلوك الحي في ماله، وسيدهم في فعاله، له صدق الجوار، وطلب الثأر، ووقود النار، لا ينازع ولا يقارع، وبهذا وصفته أمامة بنت سعد حيث تقول: إذا شئت أن تلقى فتى لو وزنته ... بكل معدي وكل يمان وفى بهما جوداً وبأساً وسؤدداً ... ورأياً فهذا الأسود بن قنان أعز ابن أنثى من معد ويعرب ... وأكرمهم فعلاً بكل مكان فتى لا ترى في ساحة الأرض مثله ... ليوم نزال أو ليوم طعان قلت: لقد أذهبت اللوعة، وسكنت الروعة، فمن لي به، قالت: يا جارية مولاك، فلم تلبث أن عادت وهو معها في جماعة من قومه، فقال: أي المنعمين علينا أنت؟ فسبقت المرأة وقالت: يا أبا المرهف هذا الرجل نبت [به] أوطانه، وأزعجه زمانه، وأوحشه سلطانه، وقد ضمنا له عنك، ما يضمن لمثله عن مثلك، فقال: بل الله فاك، أشهدكم يا بني أبي أن هذا الرجل في جواري وذمتي، فمن أراده فقد أرادني، ومن كاده فقد كادني، ثم أمر ببيت، فضرب إلى جانبه، وقال: هذا بيتك، وهذا مالك، وأنا جارك، وهؤلاء رجالك، فلم أزل بينهم في أعز دار، وأحسن جوار، إلى أن سرت عنهم. ومدح ألأعرابي قوماً فقال: أدبتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي قطع الناس به مسافة آجالهم، فدلت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالإنجاز، فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال وابتاعوا المحامد بالمال. وقصد أعرابي من بني كلاب رجلاً منهم، يكنى أبا معاذ، فسئل عنه بعد انصرافه فقال: لقد رأيت أبا معاذ خير ملاذ، ولذت منه بأكرم معاذ، وأحمدت بلقائه عاقبة الإغذاذ. ومن ألفاظ أهل العصر في المدح: فلان مسترضع ثدي المجد، مفترش حجر الفضل، له فضل يشير إليه النجم الثاقب، وتحفظ طرفيه المناقب، له صدر تضيق عنه الدهناء، وتفزع إليه الدهماء، له في كل مكرمة غرة الإيضاح والأوضاح، وفي كل فضيلة قادمة الجناح، له صورة تستنطق الأفواه بالتسبيح، وغرة يترقرق منها ماء الكرم الصريح، وتقرأ منها صحيفة حسن الشيم، يحيي القلوب بلقائه، قبل أن يميت الفقر بعطائه، له خلق لو مزج به [ماء] البحر لنقى ملوحته، وكفى كدورته، وهو غذاء الحياة، ونسيم العيس، ومادة الفضل، وآراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب، له همة تعزل السماك الأعزل، وتجر ذيلها على المجرة، وهو راجح في موازين العدل، سابق في ميادين الفضل، يفترع أبكار المكارم، ويرفع منار المحاسن، ينابيع الجود تنفجر من أنامله، وربيع السماح يضحك عن فواضله، هو بيت القصيدة، وأول الجريدة، وعين الكتيبة، وواسطة القلادة، وإنسان الحدقة، ودرة التاج، ونقش الفص، وهو ملح الأرض، ودرع الملة، ولسان الشريعة، وحصن الأمة، هو غرة الزمان، وناظر الإنسان، أخلاق خلقن من الفضل، وشيم تشام بها، بوارق المجد، أرخ الرجال بفضله وعقم النساء عن مثله. البذل منه معتاد، والفضل منه مبدأ ومعاد، ماله للعفاة مباح، وفعاله في ظلمة الدهر مصباح، كأن قلبه عين، وكأن حسه سمع، جوهره من جواهر الشرف، لا من جواهر الصدف، وياقوته من يواقيت الأحرار، لا من يواقيت الأحجار. ولهم في نقيض ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فلان عصارة لؤم في قرارة خبث، ألأم مهجة من أسقط جثة، قد ارتضع بلبان اللؤم، وربي في حجر الشر، وفطم عن ثدي الخير، ونشأ في عرصة الخبث، فوته غنيمة، والظفر به هزيمة، صغير القدر، ضيق الصدر، لا أمس ليومه ولا قديم لقومه، وجهه كهول المطلع، وزوال النعمة، وقضاء السوء، وموت الفجاءة، وجه كقفا الصك، وظلم الشك، ما هو إلا قذى العين، وأذى القلب، وشجى الصدر، وحمى الروح، ريح صيف، وطارق ضيف، يغمض عن الذكر، ويضعف عن الفكر، أقل من تبنة في لبنة، ومن قلامة في قمامة، هو من الطاووس رجله، ومن الورد شوكه، ومن الماء زبده، ومن النار دخانها، ومن الخمر خمارها، ومن الدينار صفرته، ومن السحاب ظلمته، ومن الأسد نكهته، هو تمثال الجهل، وصورة اللؤم، ومقر البخل، حسبانه أغاليط وفعاله تخاليط، سكيت الحلبة وساقة الكتيبة، وآخر الجريدة، لسانه مقراض الأعراض، هو عيبة العيوب، وذنوب الذنوب. وقال كشاجم: صاحب لي ليس فيه ... في الذي أشكر خله وحش وجهاً ومخبوراً ... وتفصيلاً وجمله كل من جاراه في مض ... مار لؤم جاء قبله لابس كبراًَ على ما ... فيه من غدر ومله ومريد من أباه ... ومهين من أجله فهو كالدينار لا يكر ... م إلا من أذله قال أحمد بن علي النوفلي: أنشدني أحمد بن أبي طاهر لمحمد بن وهيب الحميري يمدح المعتصم بن رشيد: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر فالشمس تحكيه في الإشراق طالعة ... إذا تقطع عن إدراكها النظر والبدر يحكيه في الظلماء منبلجاً ... إذا استنارت لياليه به الغرر تحكي أفاعيله في كل نائبة ... الغيث والليث والصمصامة الذكر فالغيث يحكي ندى كفيه منهمراً ... إذا استهل بصوب الديمة المطر وربما صال أحياناً على حنق ... شبيه صولته الضرغامة الهصر والهندواني يحكي عن عزائمه ... صريمة الرأي منه النقض والمرر وكلها مشبة شيئاً على حدة ... وقد تخالف فيها العقل والصور وأنت جامع ما فيهن من حسن ... فقد تكامل فيك النفع والضرر فالخلق جسم له رأس يدبره ... وأنت جارحتاه السمع والبصر ثم قال: ألا أنشدك ما هو أخصر وأيسر في المعنى والوزن والقافية، قلت: بلى، فأنشدني لنفسه، يمدح أبا القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب: إذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر وإن أضاءت لنا أنوار غرته ... تضاءل الأنوران: الشمس والقمر وإن أمضى رأيه أو حد عزمته ... تأخر الماضيان: السيف والقدر من لم يبت حذراً من خوف سطوته ... لم يدر ما المزعجان: الخوف والخطر كأنه الدهر في نعمى وفي نقم ... إذا تعاقب منه النفع والضرر كأنه وزمام الدهر في يده ... يرى العواقب ما يأتي وما يذر ومن قول ابن وهيب: "ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم.. " أخذ أبو القاسم [محمد] بن هانئ قوله يمدح جعفر بن علي: المدنفان في البرية كلها ... جسمي وطرف بابلي أحور والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير وجعفر وبيت ابن هانئ الأول من قول ابن الرومي: يا عليلاً جعل العل ... لة مفتاحاً لسقمي شهدت وجنتك الحم ... راء أن الرغم رغمي ليس في الأرض عليل ... غير جفنيك وجسمي لك سقم في جفون ... سقمها أكذب سقم [و] قال بعض الرواة: أنشدت أعرابياً قول جرير بن عطية الخطفي: أبدل الليل لا تسري كواكبه ... أم طال حتى حسبت النجم حيرانا فقال: هذا حسن في معناه، وأعوذ بالله من مثله، ولكني أنشدك في ضده من قولي، فأنشدني قوله: وليل لم يقصره رقاد ... وقصر طوله وصل الحبيب نعيم الحب أورق فيه حتى ... تناولنا جناه من قريب بمجلس لذة لم نقو فيه ... على شكوى ولا عد الذنوب بخلنا أن نقطعه بلفظ ... فترجمت العيون عن القلوب قلت: زدني فما رأيت أظرف منك شعراً، فقال: أما من هذا فحسبك، ولكني أنشدك من غيره، فأنشدني: وكنت إذا علقت حبال قوم ... صحبتهم وشيمتي الوفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فأحسن حين يحسن محسنوهم ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا أشاء سوى مشيئتهم فآتي ... مشيئتهم وأترك ما أشاء ومن أقصر ما قيل في الليل قول إبراهيم بن العباس: وليلة من الليالي الغر ... قابلت فيها بدرها ببدري لم تك غير شفقِ وفجر ... حتى تقضت وهي بكر الدهر وقال بعض أهل العصر، وهو أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي: يا رب ليل سرور خلته قصراً ... كعارض البرق في أفق الدجى برقا قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشفقا كأنما طرفاه طرف اتفق ال? ... جفنان منه على الإطراق وافترقا ومن أطول ما قيل في الليل قول ابن الرومي: رب ليل كأنه دهر طولاً ... قد تناهى فليس فيه مزيد ذي نجوم كأنهن نجوم الش? ... يب ليست تزول لكن تزيد ومن أجود ما وصف به الليل في الطول والقصر قول سيدوك الواسطي: عهدي بنا ورداء الوصل يجمعنا ... والليل أطوله كاللمح بالبصر فالآن ليلي مذ غابوا فديتهم ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر ومن ألفاظ أهل العصر في وصف ليالي الأنس: ليلة من حسنات الدهر، هواؤها صحيح، ونسيمها عليل، ليلة كبرد الشباب، فضية الأديم، مسكية النسيم، ليلة هي لمعة الدهر، وغرة العمر، كالمسك منظراً ومخبراً، ليلة هي باكورة العمر وبكر الدهر، ظلماتها أنوار، وطوال أوقاتها قصار وقال الصنوبري: وليلة كالرفرف المعلم ... محفوفة الظلماء بالأنجم تعلق الفجر بأرجائها ... تعلق الشقر بالأدهم جمعت فيها بين خمرين من ... خمر العناقيد وخمر الفم تناول الجام يدي من يد ... موشية الراحة والمعصم شبهت ذوب الراح في جامها ... كذوب دينار على درهم وقال [أيضاً] : قم فاسقني والظلام منهزم ... والصبح باد كأنه علم والطير قد طربت فأفصحت الأ ... لحان طراً وكلها عجم وميلت رأسها الثريا لإسرا ... ر إلى الغرب وهي تحتشم في الشرق كأس وفي مغاربها ... قرط وفي أواسط السما قدم ومن أجمع ما قيل في وصف الثريا وأحسنه قول الحاتمي، وطرف: وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا ... إلى أن بدا للصبح في الليل عسكر ونجم الثريا في السماء كأنه ... على حلة زرقاء جيب مدنر ومن أبدع ما جاء في وصف النجوم وذكر الليل مع حسن تصرف وقلة تكلف، قول علي بن محمد العلوي: متى أرتجي يوماً شفاءً من الضنى ... إذا كان جانيه علي طبيبي ولي عائدات ضفتهن فجئن في ... لباس سواد في الظلام قشيب نجوم أراعي طول ليلي بروجها ... وهن لبعد السير ذات لغوب خوافق في جنح الظلام كأنها ... قلوب معناة بطول وجيب ترى حوتها في الشرق ذات سباحة ... وعقربها في الغرب ذات دبيب إذا ما هوى الإكليل منها حسبته ... تهدل غصن في الرياض رطيب كأن الذي حول المجرة أوردت ... لتكرع في ماء هناك صبيب كأن رسول الصبح يخلط في الدجى ... شجاعة مقدام بجبن هيوب كأن اخضرار الفجر صرح ممرد ... وفيه لآل لم تشن بثقوب كأن سواد الليل في ضوء صبحه ... سواد شباب في بياض مشيب كأن نذير الشمس يحكي ببشره ... علي بن داود أخي ونسيبي ولولا اتقائي عتبة قلت: سيدي ... ولكن يراها من أجل ذنوبي جواد بما تحوي يداه مهذب ... أريب غدا خلا لكل أريب نسيب إخاء وهو غير مناسب ... قريب صفاء وهو غير قريب ونسبة أجسام الأقارب وحشة ... إذا لم يؤنسها انتساب قلوب وقد أنشدها الصولي لمحمد بن أحمد الأصبهاني في علي بن داؤد بن الجعد، ولما سمع أبو بكر بن دريد خروجه، قال: "والله ما سمعت مثل هذا الخروج قط"، وإنما أخذه من قول مسلم بن الوليد في يحيى بن خالد وجعفر ابنه: أجدّك ما تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر نصبت لها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر والشيء يذكر بما يدانيه في جهة معانيه. قال كشاجم يذكر سواد الشعر وبياض الفرق: رنت فأصابت سر قلبي بلحظة ... لها في الحشا لذع وليس لها جرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقد حسرت عن واضح الفرق فاحم ... كخطي ظلام خط بينهما صبح وقد ملح بعض أهل العصر، وهو أبو محمد بن مطران، في وصف تمام الشعر، مع ما أضاف إليه من حسن المشي، وملاحة النظر بقوله: ظباء أعارتها المها حسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر فمن حسن ذاك المشي جاءت فقبلت ... مواطئ من أقدامهن الضفائر ومن ألفاظ أهل العصر في وصف الليل والنجوم وما يقارب ذلك ويتعلق به: ليلة قص جناحها، وضل صباحها، ليال ليست لها أسحار، وظلمات لا تتخللها أنوار، ليل اكتحل بمراود الرق، وتقلب على مراقد القلق، النجوم شهود سهوده. طرف برعي النجوم مطروف، وفراش بشعار الهم محفوف، كأنه على النجوم رقيب، وللظلام نقيب، توقد الشفق في ثوب الغسق، تفتحت أزاهير النجوم، ونورت حدائق الجو، فأذكى الفلك مصابيحه، وطفت النجوم في بحر الدجى، ليلة كغراب الشباب، وحدق الحسان، وذوائب العذارى. ليلة كأنها في لباس بني العباس، ليلة قد حلك إهابها، كأن الفجر يهابها، هرم الليل، وشمطت ذوائبه، تقوس ظهره وتصرم عمره. باح الصباح بسره، وخلع الليل ثيابه. وحدر الصبح نقابه. ولت مواكب الكواكب، وتناثرت عقود النجوم. ووهى نطاق الجوزاء. وانطفأ قنديل الثريا. قال بعض الرواة: خرجت في بعض أسفاري، فوردت على ماء من مياه طيئ، وقد انتجعه قوم حلول بجنباته، فبينا أنا أدور به، إذا بامرأة ورجل، قد تخليا، فعلمت أنهما في عتاب، فوقفت عليهما، وسلمت، فردا علي السلام، وأمسكا عن حديثهما، فقلت: خذا في شأنكما فإني رجل ذو علاقة، ولعل بعض ما يمر يصادف بعض ما أجد، فيسلي قليلاً، فقال لها: بالله أنشديه بعض ما تفاوضنا في يومنا، فأنشدتني: إذا قربت داري كلفت وإن نأت ... أسفت فلا للقرب أسلى ولا البعد وإن وعدت زاد الهوى بانتظارها ... وإن بخلت بالوعد مت من الوجد ففي كل حب لا محالة فرجة ... وحبك ما فيه سوى محكم الجهد فقلت: أحسن والله ما شاء، فهل أجبت عن قوله، قالت: نعم [والله] وأنشدت: إذا كان لا يسليك عمن تحبه ... فراق ولا يشفيك طول تلاق فهل أنت إلا مستعير حشاشة ... لمهجة صب آذنت بفراق فقلت: أسعدكما لله بالألفة، وأمتعكما بالمحبة، وحباكما بجميل الصحبة وانصرفت. قال الأصمعي: دخلت على الرشيد وعنده جماعة يتذاكرون رقيق الشعر، فأحسن مجلسي، ثم قال: يا أصمعي ما ترى في شعر فتى من أهل بغداد، يزعم الناس أنه من أرق شعرائنا شعراً، وهو الذي يقول: تاهت علينا لأن تمت محاسنها ... خود تكلم في أعطافها الفتن همت بإيناسنا حتى إذا نظرت ... إلى المراة نهاها وجهها الحسن ما كان هذا جزائي من محاسنها ... أغرت بي السوق حتى شفني الشجن فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه شاعر فطن، أراد معنى فأصابه، ولقد أنشدني ابن الخياط أبياتاً استحسنتها في الغزل، وهي: يا خود أسهرني ذكرى خيالكم ... بعد الهدوء فأشجاني وما طرقا وحارب الشوق ماء العين فانهزمت ... عساكر الدمع حتى حلت الحدقا فالدمع مستوفز مني على وجل ... إذا تهب له ريح الهوى استبقا كسوت قلبي من الأحزان أجنحة ... فإن دعاه هواكم دعوة خفقا قال [الرشيد] : أحسن، فما فعل؟ قلت: هو حي، فأمر له بعشرة آلاف درهم، والأول للعباس بن الأحنف. وقال علي بن يحيى المنجم: ومن طاعتي إياه يمطر ناظري ... إذا هو أبدى من ثناياه لي برقا كأن جفوني تبصر الوصل هارباً ... فمن أجل ذا تجري لتدركه سبقا قال محمد بن أنس للقاسم بن صبيح، وما زلنا في سمر نصول فصوله بتشوقك، فيذهب ذكرك ملل السامر، ونعسة الساهر، فقال القاسم: مثلك من ذكر وليه فأطراه، واعتذر إليه فأرضاه، ولو آذنتموني لكنت كأحدكم مسروراً بما به سررتم، مفيضاً فيما أنتم أفضتم. وذم رجل رجلاً فقال: دعواته ولائم، وأقداحه محاجم، وكؤوسه محابر، ونوادره بوادر. فقر للنبيذيين ما جشمت الدنيا بأظرف من النبيذ. الراح ترياق سم الهم. بيد الكاس تعرك أذن الوسواس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 [قال] المأمون: النبيذ ستر فانظر مع من تهتكه، اشربه ما استبشعته، فإذا استطبته فدعه، التبذل فيه ظرف، والوقاؤ عليه سخف، ما للعقار والوقار، حد السكر أن تغرب الهموم، ويظهر السر المكتوم. وقال الحسن بن وهب لرجل، ورآه يعبس عند الشرب: ما أنصفتها هي تضحك في وجهك، وأنت تعبس في وجهها. ولأهل العصر: الدنيا معشوقة ريقتها الراح. الخمر عروس مهرها العقل. لكل شيء سؤ وسر الراح السرور، لا يطيب المدام الصافي إلا مع النديم المصافي. مجلس راحه ياقوت، ونوره در، ونارنجه ذهب، ونرجسه دينار ودرهم، يحملهما زبرجد. عندنا أترج كأنه من خلقك خلق، ومن شمائلك سرق، ونارنج ككرات من سفن ذهبت، أو ثدي أبكار خلقت. مجلس أخذت فيه الأوتار تتجاوب، والأقداح تتناوب. أعلام الأنس خافقة، وألسن الملاهي ناطقة. نحن بين بدور، وكاسات تدور. وبرق راح، وشموس أقداح. مجلس تفتحت فيه عيون النرجس، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فارات النارنج، ونطقت ألسن العيدان، قامت خطباء الأوتار، وهبت رياح الأفراح، دارت رحى الأقداح، وطلعت كواكب الندمان، وامتدت سماء الند، قد فض اللهو ختامه، ونشر الأنس أعلامه، قد هبت للأنس ريح، برقها الراح، وسحابها الأقداح، ورعودها الأوتار، ورياضها الأقمار قد فرغنا للهو، والدهر عنا في شغل. حل هذا من منظوم أنشده بديع الزمان، ولم يسم قائله هو: كم جوى مثله رسم مثل ... ودم قد طل أثناء طلل ولآل كلل الخدد بها ... لعب البين بربات الكلل حبذا عيش الليالي باللوى ... لو تجافى الدهر عنا وغفل إذا فرغنا فيه للهو وقد ... باتت الأقدار عنا في شغل وأدرنا لهباً في ذهب ... كلما أخمد بالنار اشتعل قد اقتعدنا غارب الأنس، وجرينا في ميدان اللهو، مدامة تورد ريح الورد، وتحكي نار إبراهيم في اللون والبرد. لست أدري أشقيق؟ أم عقيق؟ أم رحيق؟ أم حريق. راح كالنار والنور، أصفى من البلور، [أرق] من دمع المهجور، روح من النور، جسمها الكأس، كأنها شمس، في غلالة من شراب، مزج نار الراح بنور الماء، راح كأنها معصورة من وجنة الشمس، في كأس مخروطة من فلقة البدر. كأسيها ملء اليد، وريحها ملء البلد. والشعر في هذا الباب أكثر م أن يكثر به الكتاب، ولكني سأنشدك يسيراً وأترك كثيراً. قال [أبو الفتح] البستي: عجبت للخمر تروي حر غلتنا ... وطبعها وكذاك الفعل ناري فقم وأرو بنار الخمر غلتنا ... فما لدينا إذا لم ترونا ري [وقال] الأمير تميم [بن المعز] ، وأجاد: أدر فلك المدام وخل عتبي ... وونك فاسقنيها واسق صحبي فقد نضج النسيم بماء ورد ... ومد على الهواء رداء سكب وساق يملأ العينين حسناً ... رخيم دله يصبو ويصبي شقائق خده باللثم نسبي ... ولحظ جفونه بالغنج يسبي له نبت على الخدين غض ... يصففه فيتلف كل لب تبارك من براه بلا شبيه ... وسلطه على قتل المحب وقال ويدخل في باب الروض: خليلي قد ولى الظلام وهملجا ... وقد كاد وجه الصبح أن يتبلجا فقوما إلى ساقيكما فاهتفا به ... ولا تفتحا باباً من الهم مرتجا على نرجس غض يلاحظ سوسناً ... وآس ربيعي يناغي بنفسجا وقاذفة بالماء في وسط جنة ... قد التحفت وحفاً من الظل سجسجا إذا انبعثت بالماء سلته منصلاً ... وعاد عليها ذلك النصل هودجا تحاول إدراك النجوم بقذفه ... كأن لها قلباً على الجو محرجا لدى روضة جاد السحاب ربوعها ... فزخرفها بين الرياض ودبجا كأن غصون الأقحوان زمرد ... تعمم بالكافور ثم تتوجا ونوار نسرين كأن نسيمه ... من المسك في جو السما تأرجا ودعاني وندماني وكأسي ومزهري ... فحسبي والمعشوق ربعاً ومبهجا كأن ثراه كلما صافح الندى ... وهز نسيم الريح ألوية الدجى بقايا الغوالي في صدور نواهد ... ينازلن باللحظ الكمي المدججا ولا تحملا هم الزمان فإنه ... إذا اشتد ضيق الحادثات تفرجا [وقال] ابن وكيع: حملت كفه إلى شفتيه ... كأسه والظلام مرخى الإزار فالتقى لؤلؤاً حباب وثغر ... وعقيقان من فم وعقار وقال أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 غرد الطير فأنبه من نعس ... وأدر كأسك فالعيش خلس سل سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرى الصبح من غمد الغلس وانجلى عن حلل فضية ... ما بها من ظلمة الليل دنس فاسقني من قهوة مسكية ... في رياض عنبريات النفس وصل كتابك مشحوناً بلطيف برك، موشحاً بغامر فضلك، ناطقاً بصحة عهدك، صادقاً عن خلوص ودك، وفهمته، وشكرت الله جل اسمه على سلامتك، شكر المخصوص بها، العارف بقدرها، واستدمته عافيتك استدامة اللابس لها، المشارك فيها، فأما ما بالغت فيه من الاعتداد بي، وتناهيت فيه من التقريظ لي، فما زدت على أن أعرتني خلالك، ونحلتني خصالك، لأنك بالفضائل أولى، وهي بك أحرى، ولو كنت في نفسي ممن يشتمل على وصفه حدي إذا حددت، أو يحيط بكماله وصفي إذا وصفت، لشرعت في بلوغها والقرب منها، لكن المادح يستنفد وسعه وقد بخسك، ويستغرق طوقه، وقد نقصك، ف~أبلع ما يأتي به المثنى عليك، ويتوصل إليه المطري لك، الوقوف عند منتهاه، والإقرار بالعجز عن غايته ومداه. وهذا كقول البديع في جواب كتاب إلى عدنان بن محمد رئيس هراة: ورد كتاب الرئيس مولاي، فأتت النعم تترى إلي، ومثلت [لدي و] بين يدي، [و] وجدت سيدي قد أخذ مكارم نفسه، فجعلها قلادة غرسه، وتتبع المحاسن من عنده فكساها لعبده، وما اشبه رائع حليه في نحر وليه، بالغرة اللائحة على الدهمة الكالحة، ولا آخذ الله سيدي بوصف نزعه من غرضه فزرعه في غير أرضه، ونعت أخذه من خلقه وخلقه، فأهداه إلى غير مستحقه، وفضل استفاده من فرعه وأصله، فأوصله إلى غير أهله. ذكر حديث الشوق إلي، ولو كان الأمر بالزيارة حتماً، والإذن أطلق جزماً، لكان آخر نظري في الكتاب، وأول نظري إلى الركاب، ولاستعنت على كلف السير أجنحة الطير، لكنه أدام الله عزه صرفني بين يد سريعة الأخذ، ورجل وشيكة النبذ، واراني زاهداً في ابتغاء، كحسو في ارتغاء، ونزاعاً في نزوع، كذهاب في رجوع، ورغبة في، كرغبة عني، وكلاماً في الغلاف، كالضرب تحت اللحاف، فلم أصرح بالإجابة وقد عرض بالدعاء، ولم أعلن بالزيارة وقد أسر بالنداء، ولو جاهرني بفم المناجاة، ولم يدعني بلسان المحاجاة، لكنت أسرع من الكرم إلى طرفيه، وفكرت في مراده، فوجدت الكرم يشب ناره، والفضل يدرك ثأره، وإذا كان الأمر كذلك فما أولاه، بترفيه مولاه، عن زفرة صاعدة، بسفرة قاعدة. أخذ هذا القول من قول ابن الرومي لابن ثوابة، وقد ندبه إلى السفر إليه ليصله: أما حق حامي عرض مثلك أن يرى ... له الرفد والترفيه أوجب واجب أقمت لكي تزداد نعماك نعمة ... وتغنى بوجه ناضر غير شاحب وليس عجيباً أن ينوب تكرم ... غذيت به عن آمل لك غائب ذمامي يرعى لا ذمام سفينة ... وحقي لا حق القلاص النجائب فصل لأبي بكر الخوارزمي أنا مشتاق مولاي شوقاً، لو قسم على قلوب العالمين لملأها صبوة، ولم يدع فيها سلوة، وما أشكر نفسي على أن تشتاق إلى من لا ترى له عديلا، ولا تجد إلى السلو عنه بديلا، وإن طرفي بطرفه معقود، وإن باب نسيانه وتناسيه علي مسدود، وإني إذا صدرت كتابي إليه بالسلامة، مع أن قلبي غير سليم من اللم، ولا صحيح من السقم، فإنما أريد بذلك التفاؤل بالكتاب، واتباع رسوم الكتاب. فلئن بلغني إطنابه في ذكري، وتفضيله غياي على أهل عصري، وهذا سلف أسلفنيه، وأنا بمعونة الله أؤديه، وما أزن نفسي بالميزان الذي [به يزنني ولا أزينها بالفضل] الذي يزينني، فإن كان كما قال، فالفضل منه درج إلي، وخرج من الكمين علي، فإني عاشرته فأعداني فضلاً، وهذبني قولاً وفعلاً، وأنا في ذلك جنيبته إن رضيني جنيبة، وخليفته إن قبلني خليفة، ولقد أعرب [في] ذلك الحر، وخالف طريقة غيره من أهل الدهر، ولقد شهد له فعله أنه كريم، ومن اللوم واللؤم سليم، على قضية أبي تمام الطائي إذا يقول: وإن أولى البرايا أن تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كانوا يألفهم في المنزل الخشن وشهادة أبي تمام في الكرم، تقوم [مقام] شهادة أمة من الأمم، ولئن كان خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين عند الأنبياء والحكام، إن أبا تمام لذو الشهادتين عند الأحرار والكرام. وله إلى أبي سعيد أحمد بن شبيب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ورد كتاب صاحب الجيش، بيد خلقت للسيف والقلم، بل خلقت للنعم والنقم، بل خلقت لجميع أدوات العرب والعجم، فرويته لما رأيته، وحفظته لما لحظته، ولو أنصفته لأتعبت فكري في معانيه، وارتعت نظري في مقاطعه ومباديه، وتفكرت في رتبة الكتاب في الكتب، ورتبة صاحب الجيش في الرتب، فأنشدت: ولما رأيت الناس دون محله ... تيقنت أن الدهر للناس ناقد بل لو أنصف هذا الكتاب لما فزعت منه إلى الجواب عنه، لكن بعض الأجوبة خدمة، كما أن بعض الابتداءات نعمة. ومن ألفاظ أهل العصر في ذكر الكتب: كتاب كتب لي أماناً من الدهر، وهنأني أيام العمر. كتاب أوجب من الاعتداد أوفر الأعداد، وأودع بياض الوداد سواد الفؤاد. كتاب عددته من حجول العمر وغرره، واعتدته من فرص العيش وغرره. كتاب هو أنفس طالع، وأكرم متطلع، وأحسن واقع، وأجل متوقع. كتاب كدت أبليه نشراً وطيا، وقبلته ألفاً، ويد حامله عشراً. كتاب نسيت بحسنه الروض والزهر، وغفرت للزمان ما تقدم من ذنبه ما تأخر. كتاب هو علة المسافر، وأنسة المستوحش، وزبدة الوصال، وعقلة المستوفز. كتاب هو رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم. كتاب هو سمر بلا سهر، وصفو بلا كدر. كتاب تمتعت منه بالنعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واستلمته استلام الحجر الأسود. نشأت سحابة من لفظك، غيمها نعمة سابغة، وغيثها حكمة بالغة، سقت روضة القلب، وقد جهدتها يد الجدب، فاهتزت وربت، واكتست ما اكتست. كتاب ألصقته بالكبد، وشممته شم الولد. كتاب ورد منه المسك ذكياً، والزهر جنياً والماء مرياً، والعيش هنياً، والسحر بابلياً. كتاب مطلعه مطلع أهلة الأعياد، وموقعه موقع نيل المراد. خرج أبو نواس مع بعض إخوانه إلى المدائن، فدخلوا إيوان كسرى، فوجدوا فيه آثار شرب، فقالوا [له] : يا أبا علي لقد طاب عيش قوم نزلوا هذا الموضع، فلو فعلنا كفعلهم لمرت لنا حال حسنة، فقال: ذاك لكم، فأحضروا ما يحتاجون إليه، وجلسوا يشربون، ولذ لهم المقام، فأقاموا خمسة أيام، فلما انصرفوا قالوا له: قد أسعفتنا بمؤانستك، وأمتعتنا بمجالستك، فلو وصفت ما جرى لنا في أبيات [من الشعر] تخلد على الدهر، لكمل أمرنا، وفضل دهرنا، فقال: ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم: جديد ودارس مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان: جني ويابس ولم أدر من هم غير ما شهدت به ... بشرقي ساباط الديار البسابس حسبت بها صحبي فجمعت شملهم ... وإني على أمثال تلك لحابس أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ... ويوم له يوم الترحل خامس تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى، وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسي الفوارس فللراح ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس وهذا ما اخترعه أبو نواس. قال الجاحظ: وجدنا لمعاني تقلب، ويؤخذ بعضها من بعض، إلا هذا المعنى، فإن الحسن ابتدعه. [ومثله قول] عنترة يصف روضة: وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غرداً كفعل الشارب المترنم هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم وقال أبو نواس: بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجوم فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذاً لاصطفاني دون كل كريم [و] أخذه أبو العباس الناشئ فقال: ومدامة لا يبتغي من ربه ... أحد حباه بها لديه مزيدا في كأسها صور تظن لحسنها ... عرباً برزن من الحجال وغيدا إذا المزاج أثارها فتقسمت ... ذهباً ودراً توأماً وفريدا فكأنهن لبسن ذاك مجاسداً ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا وقال ابن المعتز: [وليل فاختي اللون مرخ ... عزاليه بطل وانهمال] وساق يجعل المنديل منه ... مكان حمائل السيف الطوال غلالة خده صبغت بورد ... ونون الصدغ معجمة بخال أتى والصبح تحت الليل باد ... كطرف أبلق مرخي الجلال بكأس من زجاج فيه أسد ... فرائسهن ألباب الرجال ومن ظريف ما وصف الكاسات قول القاضي أبي القاسم التنوخي: وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 هواء لكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار إذا ما تأملتها وهي فيه ... تأملت نوراً محيطاً بنار وما كان الحق أن يقرنا ... لفرط التنافي وطول النفار ولكن تجاور شكلاهما البسيطان فاتفقا في الجوار كأن المدير لها باليمين ... إذا قام للسقي أو باليسار تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار وقال كشاجم يرثي قدحاً انكسر: عراني الزمان بأحداثه ... فبعضاً أطقت وبعضاً فدح وعندي عجائب للحادثات ... وليس كفجعتنا في القدح وعاء المدام وتاج البنان ... ومدني السرور ومقصي الترح ومعرض راح متى تكسه ... ويستودع السر فيه يبح وجسم هواءٍ وإن لم يكن يرى للهواء بكف شبح يرد على الشخص تمثاله ... وإن تتخذه مراة صلح ويعبق من نكهات المدام ... فتحسب فيه عبيراً نفح يكاد مع المرء إن مسه ... لما فيه من شكله ينسفح ودق، فلو حل في كفة ... ولا شيء في أختها ما رجح هوى من أنامل مجدولة ... فيا عجباً من لطيف رزح وأفقدنيه على ضنة ... به للزمان غريم ملح كأن له ناظراً ينتقي ... فما يتعمد غير الملح أقلب ما أبقت الحادثا ... ت منه وفي الخد دمع يسح وقد قدح الوجد مني به ... على القلب من ناره ما قدح فأعجب من زمن مانح ... وآخر يسلب تلك المنح فلا تبعدن فكم من حشاً ... عليك كليمٍ وقلبٍ قرح سيقفز بعدك رسم الغبوق ... وتوحش منك مغاني الصبح وعلى ذكر بيتي عنترة، قال ابن الرومي، وذكر روضة: إذا رنقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورساً مذعذعا وودعت الدناي لتقضي نحبها ... وشول باقي عمرها فشعشعا ولاحظت النوار وهي مريضة ... وقد وضعت خداً إلى الأرض أضرعا كما لاحظت عواده عين مدنف ... توجع من أوصابه ما توجعا وطلت عيون النور تخضل بالندى ... كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا وبين إغضاء الفراق عليهما ... كأنهما خلا صفاء تودعا وقد ضربت في خضرة الأرض صفرة ... من الشمس فاخضر اخضراراً مشعشعا وأذكى نسيم الروض ريعان ظله ... وغنى مغني الطير فيه فرجعا وغرد ربعي الذباب خلاله ... كما حثحث النشوان صنجاً مشرعا وكانت أهازيح الذباب هناكم ... على شدوات الطير ضرباً موقعا هذا يقوله في قصيدة وصف فيها قوس البندق، فأجاد ما أراد إذ يقول: كأن لباب التبر عند انتضائها ... جرى ماؤه في ليطها فتربعا تراك إذا ألقيت عنها صيانها ... سفرت به عن وجه عذراء برقعا كأن قراها والفزور التي به ... وإن لم تجدها العين إلا تتبعا مذر سحيق الورس فوق صلاءة ... أدب عليها دارج الذر أكرعا لها أول طوع اليدين وآخر ... إذا سمته الإغراق فيه تمنعا تدين لمقرون أمرت مريره ... عجوز صناع لم تدع فيه مصنعا تأيت صميم المتن عقود كأنها ... رؤوس المداري ما أشد وأوكعا لها عولة أولى بها ما تصيبه ... وأجدر بالإعوال من كان موجعا وقال كشاجم: وروضة صنف النوار جوهره ... فيها فما شئت من حسن ومن طيب كأن ما تجتنيه من زخارفها ... أخلاق مستحسن الأخلاق محبوب ما انفك للعين فيها أعين ذرف ... تبكي بدمع من الأنواء مسكوب حتى كأن أفانين النبات بها ... على الميادين ألوان اليعاسيب كأن غدرانها بالروض محدقة ... تعيين ثوب من الموشي معصوب أو أكؤس من رحيق مترعة ... موضوعة بين فتيان مناجيب كأنما الطير في حافاتها حزقاً ... بيض زهين بتطريف وتخضيب +مرجعات صفيراً من مخضرة=وصلن فيهن تغريداً وبتطريب كأنهن قيان والصفير غناً ... وكالمناقير أصناف المضاريب باكرتها وكأن البدر شادخة ... في وجه لاحقة الأقراب سرحوب مستصحباً شكة ليست ليون وغى ... ولا لثأر لدى الأعداء مطلوب وفي يساري من الخطى محكمة ... متى طلبت بها أدركت مطلوبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 للوعل باطن شطريها ومعظمها ... من عود سمراء صماء الأنابيب تأنق القين في تزيينها فغدت ... تزهى بأحسن تفضيض وتذهيب في وسطها مقلة منها تبين ما ... ترمي فما مقتل منها بمحجوب فقمت والطير قد حم الحمام لها ... على سبيلي في عودي وتجريبي حتى إذا كحلت بالطين مقلتها ... قدت عليهن حتفاً [جد] مصبوب فرحت جذلان لم تكدر مشاربي لذاتي ولم تلق آمالي بتخييب وراح صحبي من صيدي وشكرهم ... وقف على ما اجتنوا من حسن مصحوب قطعة من رسالة لأبي إسحاق الصابئ في قوس البندق: أقبلت رفقة [من] الرماة، قد برزت قبل الذرور والشروق، وشمرت عن الأذرع والسوق، متقلدين خرائط، شاكلت السيوف بحمائلها ونياطها، وناسبتها في آثارها ونكايتها، تحمل من البندق الموزون المفتول الملمون، ما هو في الصحة والاستدارة كاللؤلؤ المنظوم، كأنما خرط في الجهر، فجاء كفتات الفهر، وقد اختير طينه، وأحكم عجينه، فهو كالكافور المصاعد في اللمس والمنظر، وكالعنبر الأذفر، في المشم والمخبر، مأخوذ من خير مواطنه، مجلوب من أطيب معادنه، كافل بأكف حامليه، محقق لآمال آمليه، ضامن لحمام الحمام، متناول لها من ابعد المرام، يعرج إليها وهو سم ناقع، ويهبط إليهم وهو رزق نافع، وبأيديهم قسي مكسوة بأغشية السندس، مشتملة منها بأفخر ملبس، مثل الكماة في جواشنها ودروعها، والجياد في جلالها وقطوعها، حتى إذا جردت من تلك المطارف، وانتضيت من تلك الملاحف، ورأيت منها مناظر معجبة أنيقة، وقدوداً مخطفة رشيقة، صليبة المكاسر والمعاجم، نجيبة المنابت والمناجم، خطية الانتماء والمناسب سمهرية الاعتزاء والمناصب، تركبت من شظايا الرماح الداعسة، وقرون الأوعال الناخسة، فحازت الشرف من طرفيها، واحتوت عليه بكلتا يديها، وقد تحنت تحني المشيخة النساك، وصالت صيال الفتية الفتاك، طواهرها صفر وارسة، ودواخلها سود دامسة، كأن شمس أصيل طلعت على متونها، أو جنح ليل اعتكر في بطونها، أو زعفراناً جرى في مناكبها، أو غالية جمدت على ترائبها، أو هي قضبان فضة ذهب شطرها وأحرق الشطر، أو حيات رمل اعتنق السود منها الصفر، فملا توسطوا تلك الروضة، وانتشرت على أكناف تلك الغيضة، وثبتت للرمي أقدامهم، وشخصت للطير أبصارهم، أوتروها بكل وتر [فوق سهمه منه وهو مفارق للسهم وخارج عنه] مضاعف عليها من وترين، كأنه رمح ذو جسدين، أو عناق ضم مجتمعين، في وسطه [عين] كشرجة كيس مختوم، أو سرة بطن خميص مهضوم، محولة عن المحاذاة، مزورة عن الموازاة، كأنها متحاذر ينظر شزراً، أو مصغ يستمع سراً، تروع قلوب الطير بالإنباض، وتصيب منها مواقع الأغراض، فلم يزل القوم يرمون ويضيبون، وينجحون ولا يخيبون، حتى خلت من البندق خرائطهم، وامتلأت من الصيد حقائبهم، فكم من أفرخ زغب أيتموها فضاعت، ومن آباء لها وأمهات استجابوها فأطاعت، وقد انقادت نوافرها صغراً، واقتسرت أدانيها قسراً، وكسرت أجنحتها وجأجيها، واستطارت في الجو قوادمها وخوافيها، فأصبحت بين عاثر لا ينهض من عثاره، ومهيض وحضر فرأيت كبشاً متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور، فظننته أحد الزوجين اللذين حملهما نوح في سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريته، صغر عن الكبر، ولطف عن القدم، فبانت دمامته، وتقاصرت قامته، وعاد ناحلاً ضئيلاً، بالياً هزيلاً، بادي السقام، عاري العظام، جامعاً للمعايب، مشتملاً على المثالب، يعجب العاقل من حلول الحياة به، وتأتي الحركة له، لأنه عظم مجلد، وصوف ملبد، ولا تجد فوق عظامه سلباً، ولا تلقى يدك منه غلا خشبا، لو ألقي إلى السبع لأباه، ولو طرح للذئب لعافه وقلاه، قد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده، لم ير القت إلا نائماً، ولا عرف الشعير إلا حالماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وقد خيرتني بين أن أقتنيه فيكون فيه غناء الدهر، أو أذبحه فيكون فيه خصب الأهل. فملت إلى استبقائه لما تعرفه عني من رغبتي في التوفير، ومحبتي للتثمير، وجمعي للولد، وادخاري لغد، فلم أجد فيه مستمتعاً لبقاء، ولا مدفعاً لفناء، لأنه ليس بأنثى تحمل، ولا بفتى ينسل، ولا بصحيح يرعى، ولا بسليم يبقى، فملت إلى الثاني من رأيك، وعملت على الآخر من قولك، وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، وأقيمه رطباً مقام قديد الغزال، فأنشدني وقد أضرمت النار، وشمر الجزار، وحدت الشفار [قول أبي الطيب] : أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وقال: ما الفائدة لك من ذبحي وأنا لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت لست بذي لحم لأصلح للأكل، لأن الدهر قد أكل لحمي. ولا جلدي يصلح للدباغ لأن اليام قد مزقت أديمي، ولا صوفي يصلح للغزل لأن الحوادث قد حصت وبري. فإن أردتني للوقود، فكف حطب أبقى من ناري، ولن تفي حرارة جمري بريح قتاري، فلم يبق إلا أن تطالبني بذحل، أو بيني وبينك دم؟.. فوجدته صادقاً في مقالته، ناصحاً في مشورتهن ولم أعلم من أي أمريه أعجب، أمن مماطلته الدهر بالبقاء، أم صبره على الضر والبلاء! أم قدرتك عليه مع إعواز مثله! أم تأهيلك الصديق مثله مع خساسة قدره! ويا ليت شعري إذا كنت والي سوق الغنم، وأمرك ينفذ في الضأن والمعز، وكل كبش سمين وحمل بطين مجلوب إليك، مقصور عليك، تقول فلا ترد، وتريد فلا تصد، وكانت هديتك هذا [النذر] الذي كأنه ناشر القبور، أو قائم عند النفخ في الصور، فما كنت مهدياً لو كنت رجلاً من عرض الكتاب؟!.. كأبي علي وأبي الخطاب، ما كنت تهدي إلا كلباً أجرب، أو قرداً أحدب، والسلام. وقال أبو حية النميري: ألا أيها الربع القواء ألا انطق ... سقتك الغوادي من أهاضيب فرق مرابع وسمي تسوق نشاطه ... مرور الصبا في العارض المتألق وما أنت إلا ما أرى بعدما أرى ... يد الحي في زي لعيني مونق غراب ينادي يوم لا القلب عقله ... صحيح ولا الشعب الذي شت ملتق جزيت غراب البين شراً فطالما ... شحيت بتشحاح الغراب المنعق ورقراقة تفتر عن متنشق ... كنور الأقاحي طيب المتذوق إذا امتضغت بعد امتتاع من الضحى ... أنابيب من عود الأراك المخلق سقت شعث المسواك ماء غمامةٍ ... فضيضاً بخرطوم الرحيق المصفق وإن ذقت فاها بعدما سقط الندى ... بعطفي بخنداة رداح المنطق شممت العرار الغض غب هميمة ... ونور الأقاحي في الندى المترقرق شرقت بريا عارضيها كأنما ... شرقت بداري العراق المعتق وهذا شعر طريف الصنعة، حسن الوشي، جيد النمط، صافي السبك، وكذلك جميع شعر أبي حية وقد ملح ما شاء في وصف الثغر وطيب النكهة، وهو معنى كثير حسن جميل قد مرت منه قطعة. وقال العباس بن الفرج الرياشي: سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما سمعت في وصف الثغر قول ذي الرمة: وتجلو بفرع من أرك كأنه ... من العنبر الهندي والمسك يصبح ذرا أقحوان واجه الليل وارتقى ... إليه الندى من رامة المتروح هجان الثنايا مغرباً لو تبسمت ... لأخرس عنها كاد بالقول يفصح وكتب كشاجم إلى بعض القيان وأهدى إليها مسواكاً: قد بعثناه لكي يجلى به ... واضح كالؤلؤ الرطب أغر طاب منه العرف حتى خلته ... كان من ريقك يسقى في الشجر وأما والله لو يعلم ما ... حظه منك لأثنى وشكر ليتني المهدى فيروي عطشي ... برد أنيابك في كل سحر وقد أحسن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إذ يقول: وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي ... أخشى عقوبة مالك الأملاك ماذا عليك، دفعت قبلك للثرى ... من أن أكون خليفة المسواك أيجوز عندك أن يكون متيم ... صب بحبك دون عود أراك كتب شمس المعالي إلى الوزير أبي جعفر العتبي يهنئه بمولود: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 طرقنا البشير أطال الله بقاء مولاي الشيخ بقدوم فارس ندب شد أزره، وطلوع صبح من أفقه أضاء فجره، وانتضاء نصل من قرابة قاطع، وإشراق بدر من أحشاء ليلته طالع، فتهللت الوجوه فرحاً، واستهلك الجماعة مرحاً، وقلت من بينهم: لله هو? فلقد بان جوهره وأغرب، وواهاً له فنعم ما نجل عنصره فأنجب، وأخذنا نزجر للمولود طالع السعود، ونرتاد له اسماً نشتقه من كنى الجدود، ونعد للنثار نفائس الشعار والدثار، ونبذل للبشير الوارد طرائف الطريف والتالد، ونستعجل الأنس بتدبير عقيقته، وتهذيبه، ونصرف الفكر في تسليمه إلى المكتب وتأديبه، فبينا نحن نستقبل هذه الأمور، ونستلف المنى والسرور إذ فاجأنا من أخبر أن الفارس راجل، والناصر خاذل، والنصل قراب، والعصا جراب، والغلام كعاب، والمنارة محراب، وصور أن المتحرك ساكن والتامر لابن. فانتقلنا في الحال عن تدبير الختان إلى ارتياد الأختان، وعن شراء الألواح إلى شراء الوشاح، وعن بري النبال إلى صوغ الخلخال، وعن إصلاح الدواة إلى إصلاح المرآة، وعن استدعاء الدرج إلى استدعاء الدرج، وعن إصلاح القلم إلى إصلاح ميل الكتم، وحين استفاض الخبر وورد، وتحدث ذو الشنآن والحسد بأن القوس انقلبت ركوة، والصريح عاد رغوة، والنعمة تحولت نقمة، وأن النيل عاد ويلاً، والصبح عاد ليلاً، وأفصح الشامت بأن المعونة صارت مؤونة، والقاسم أصبح ميمونة، وابتدأ كل يفلع نادرة ويورد حكاية، ويجعلها قدحاً فيك ونكاية، علت بها صبراً، وضقت منها صدراً، وجعلت أقول عندما جعلت الأخبار تطول: مهلاً فإن مولاي قد بدل من البدر شمساً، وهي أبهى في العيون، وعوض من الرمح ترساً وهي أدفع في الحرب للمنون، وربَّ أنثى أنجب من الذكر، واشرف من طريف الخبر: فما التأنيث لاسم الشمس عار ... ولا التذكير للبدر افتخار هذه النفس وهي مؤنثة أشرف من الجسم وإن كثف حجماً، وهذه السماء غير مذكرة وهي ألطف الأشياء وأعظم جرماً، وهذا النبي الأمي عليه أيمن الصلوات هو أبو البنات، ووجدنا الله العلي العظيم قدم الإناث في كتابه العزيز الحكيم حيث يقول: {يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لم يشاء الذكور} ، ووجدنا شعيباً عليه السلام بهن تمكن من خدمة الأنبياء الكرام حين صدر الرعاء عن الماء، واحتيج إلى معاونة الأجراء، وكم كاتب استخدم بابنته زمامه، ووزير ملك بها إمامه، وصرف كيف شاء أحكامه، هذا الحسن بن سهل ملك بابنته بوران المأمون، وهذه قطر الندى استخلصت المعتضد لأبيها خمارويه بن أحمد بن طولون، ولعل مولاي ما رزق هذه القادمة إلا ليملك بها سلطاناً عظيماً، وينال شرفاً جسيماً، فالدول أسباب وآثار والجدود أسرار وأقدار. فلما سمع الحسدة ذلك خمد لهبهم وسكن كلبهم، وأنبسو بألسن قد خرست، وبصائر قد اختلست، وأقدام قد تعثرت، وحجج قد دحضت وأبطلت، وأرجو أن يشكر مولاي منابي، ويحمد خطابي، ويرضى مقامي، ويهوى خصامي، والله يمتعه بعثيلة الربرب، ونجيلة الحسب، وجرثومة النسب وجالبة النشب، فأقسم لو أدرك ميلادها شاعر عصرنا لأنشد: فلو كان النساء كمن رزقنا ... لفضلت النساء على الرجال قال المأمون لطاهر بن الحسين: صف لي أخلاق المخلوع، فقال: كان واسع الصدر، ضيق الأدب، يبيح لنفسه ما تأنفه همم الأحرار، ولا يصغي إلى نصيحة، ولا يقبل مشورة، يستبد برأيه فيرى سوء عاقبته، ولا يردعه ذلك عما يهم به. قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: كان يجمع الكتائب بالتبذير، ويفرقها بسوء التدبير، فقال المأمون: لذلك ما حل محله، أما والله لو ذاق لذات النصائح واختار مشورات الرجال، وملك نفسه عند شهواتها لما ظفر به. ولما عقد الرشيد البيعة للأمين وهو أصغر من أخيه المأمون، رأي فضل المأمون عليه وإنما أرضى بذلك زبيدة، وأخاها عيسى بن جعفر كان يقول: لقد بان وجه الرأي لي غير أنه ... غلبت على الرأي الذي كان احزما فكيف برد الدر في الضرع بعدما ... توزع حتى صار نهباً مقسما أخاف التواء الأمر بعد استوائه ... وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ولما خلع المأمون أخاه بخراسان، ووجه بطاهر بن الحسين لمحاربته، كان يعمل بعيوبه كتباً تقرأ على منابر خراسان، ويقف رجل فيذم أهل العراق ويقول: [هم] أهل فسق وخمور، وفجور وماخور، ويعيب الأمين فيقول: استصحب رجلاً شاعراً ماجناً كافراً استخلصه معه لشرب الخمر وارتكاب المآثم ونيل المحارم، وهو الذي يقول: ألا فاسقني خمراً وقل لي: هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر فاتصل ذلك بالأمين، فحبس أبو نواس برأي الفضل بن الربيع، ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه عهداً ألا يشرب الخمر ولا يقول فيها شعراً، فقال أبو نواس: أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما نالني بالملام فيها إمام ... ما أرى لي خلافه مستقيما فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما كبر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما فكأني وما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما كل عن حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألا يقيما القعدة: فرقة من الخوارج يرون الخروج ولا يخرجون. وزعم المبرد أنه لم يسبق إلى هذا المعنى. وقال في ذلك أيضاً: غننا بالطلول كيف بلينا ... واسقنا نعطك الثناء الثمينا من سلاف كأنها كل شيء ... يتمنى مخير أن يكونا أكل الدهر ما تجسم منها ... وتبقى لبابها المكنونا فإذا ما لمستها فهباء ... يمنع الكف ما تبيح العيونا ثم شجت فاستضحكت عن لآل ... لو تجمعن في يد لاقتنينا في كؤوس كأنهن نجوم ... دائرات، بروجها أيدينا طالعات من السقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا لو ترى الشرب حولها من بعيد ... قلت: قوم من قرة يصطلونا وغزال يديرها ببنان ... ناعمات يزيدها الغمز لينا كلما شئت علني برضاب ... يترك القلب للسرور قرينا ذاك عيش لو دام لي غير أني ... عفتها مكرهاً وخفت الأمينا وله في ذلك شعر كثير وإنما تبع أبا معاذ بشار بن برد في ذلك لأنه لما قال: لا يؤيسنك من مخبأة ... قول تغلظه وإن جرحا عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعدما جمحا بلغ ذلك المهدي فغاظه وقال: يحضر الناس على الفجور، ويسهل لهم السبيل إليه، فقال له خاله يزيد بن منصور الحميري وكان مراغماً لبشار: يا أمير المؤمنين: إن النساء قد فتن بشعره، وأي امرأة لا تصبو إذا سمعت قوله: عجبت فطمة من نعتي لها ... هل يجيد النعت مكفوف البصر بنت عشر وثلاث قسمت ... بين غصن وكثيب وقمر درة بحرية مكنونة ... مازها التاجر من بين الدرر أذرت الدمع وقالت: ويلتي ... من ولوع الكف ركاب الخطر أمتي بدد هذا لعبي ... ووشاحي حله حتى انتثر فدعيني معه يا أمتي ... علنا في خلوة نقضي الوطر أقبلت في خلوة تضربها ... واعتراها كجنون مستعر بأبي والله ما أحسنه ... دمع عين غسل الكحل قطر أيها النوام هبوا ويحكم ... وسلوني اليوم ما طعم السهر فنهاه المهدي عن الغزل، فقال في ترك ذلك: يا منظراًحسناً رأيته ... من وجه جارية فديته لمعت إلى تسومني ... ثوب الشباب وقد طويته والله رب محمد ... ما إن غدرت ولا نويته أعرضت عنك وربما ... عرض البلاء وما أبتغيته ويشوقني بين الحبي? ... ب إذا ادكرت وأين بيته ومخضب رخص البنا ... ن بكى علي وما بكيته إن الخليفة قد أبى ... وإذا أبى شيئاً أبيته قام الخليفة دونه ... فصبرت عنه وما قليته ونهاني الملك الإما ... م عن النساء فما عصيته بل قد وفيت ولم أضع ... عهداً ولا وأياً وأيته وقال في ذلك أيضاً: والله لولا رضا الخليفة ما ... أعطيت ضيماً علي في شجني قد عشت بين الندمان والرا ... ح والمزهر في ظل مجلس حسن ثم نهاني المهدي فانصرفت ... نفسي فعال الموفق اللقن ومن شعره المعجب في الغزل قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أيها الساقيان صبا شرابي ... واسقياني من ريق بيضاء رود إن دائي الصدى وإن شفائي ... شربة من رضاب ثغر برود عندها الصبر عن لقائي وعندي ... زفرات يأكلن قلب الحديد ولها مبسم كغر الأقاحي ... وحديث كالوشي وشي البرود نزلت في السواد في حبة القل? ... ب ونالت زيادة المستزيد ثم قالت: نلقاك بعد ليال ... والليالي يبلين كل جديد ما أبالي إن ضن عني بوصل ... إن قضى الله منك لي يوم جود وله أيضاً: فلو عاينوها لم يلوموا على البكا ... كريماً سقاه الخمر بدر مخلق وكيف تناسي من كان حديثه ... بإذني وإن عنيت قرط معلق وقوله: كأنها حين راحت في مجاسدها ... فارتج أسفلها واهتز أعلاها حوراء جاءت من الفردوس مفتنة ... كالشمس طلعتها والمسك رياها من اللواتي غدت فرداً وشق لها ... من جيبه الحسن سربالاً فراداها راحت ولم تعطه برءاً لعلته ... بها ولو سألته النفس أعطاه تغمه نفسه من طول صبوته ... حتى لو اجتمعت في الكف ألقاها ما شاهد القوم إلا ظل يذكرها ... ولا خلا ساعة إلا تمناها وقوله: وصفراء مثل الزعفران شربتها ... على صوت صفراء الترائب رود حسدت عليها كل شيء يمسها ... وما كنت لولا حبها بحسود كأن مليكاً جالساً في ثيابها ... تؤمل رؤياه عيون وفود من البيض لم تسرح على أهل ثلة ... سواماً ولم ترفع حداج قعود تميت بها ألبابنا وقلوبنا ... مراراً وتحييهن بعد همود إذا نطقت صحنا وصاح لها الصدى ... صياح جنود وجهت لجنود ظللنا بذاك الديدن اليوم كله ... كأنا في الفردوس تحت خلود ولا بأس إلا أننا عند أهلها ... شهود وما ألبابنا بشهود وقوله: لعمر أبي زوارها الصيد إنهم ... لفي منظر منها وحسن سماع تصلي لها آذاننا وعيوننا ... إذا ما التقينا والقلوب دواع وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش ... ببؤس ولم تركب مطية راع جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانها ... لزوارها من مزهر ويراع إذا قلدت أطرافها العود زلزلت ... قلوب دعاها للوساوس داع كأنهم في جنة قد تلاحقت ... محاسنها في روضة وبقاع يروحون من تغريدها وحديثها ... نشاوى وما تسقيهم بصواع لعوب بألباب الرجال إذا دنت ... أضيع النهى والغي غير مضاع وقال: درة حيثما أديرت أضاءت ... ومشم من حيث ما شم فاحا وجنان قال الإله لها كو ... ني فكانت روحاً وروحاً وراحا وقال: تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت ... وتستفز حشا الرائي بإرعاد كأنما صورت من ماء لؤلؤة ... فكل جارحة وجه بمرصاد ومثل تلقى بتسبيحة.. قول أبي بكر محمد بن دواد الصبهاني فيما وجد له منقوشاً على جوهرة: لما لحظت بناظري ... وجهاً بديع الحسن مفرد قالت محاسن وجهه: ... بالله صل على محمد صلى الله على أكرم مولود دعا لأعظم معبود، وعلى آله الطيبين، وأصحابه المنتخبين وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قد أتممت هذا الكتاب عن طريق اختصار، وسبيل اختيار، ولو أردت لمددت إلى ما يربي على الغاية، ويوفي على النهاية، إذا ذاك متيسر غير متعذر، ومتسع غير ممتنع، وإنما أغريت أن أجري إلى رضاك، حسب مبتغاك، فكان كتابي باكورة حلت، غير أنها قلت، وفي هذا الكتاب أكثر المعونة بأيسر المؤونة على تنبيه نائم الخواطر، وتحريك ساكن السرائر لمن يجول في ميدان المخاطبة والمكاتبة، ويأخذ بعنان المذاكرة والمحاورة، إذا طرز به ديباج كلامه وحلى عاطل نثره ونظامه، فمن سهلت بحفظ البلاغات حواشي لسانه، تصورت صورها في جنانه، فمتى حاول كتاباً أو زاول خطاباً قامت إلى لفظه من شعاب حفظه خدام الإصابة على أقدام الإجابة، تسايره بالنصر فيما يممه من أمر، فللبلاغات أدوات يقتفى أمثالها، ويحتذى مثالها، فأولاها بعد إقامة اللسان وحفظ كلام أمراء البيان وبخاصة أهل هذا الزمان، إذ النفس أقرب إلى ما قرب منها مما بعد عنها، وهي أحق وأحجى أن تكون لإدراكه أرجى، ولا سيما إذا رأى العربي الصريح نطق العجم باللسان الفصيح، في ألفاظ لو اجتلين جواهرها، واجتنيت زواهرها، لكسدت صناعة الحلى والحلي، وبارت بضائع الوسمي والولي. [شعر] : ولم تتشوق للربيع نفوسنا ... ويضح على الدنيا بها منشد يشدو سقى الله ورداً صار خد ربيعنا ... فقد كان قبل اليوم ليس له خد فعلم أنهم شغلوا أسرارهم واستعملوا أفكارهم، من نقس تلك الرقوم ووشي تلك الرسوم، بما استقرأه وتتبعه لصار معهم كما صاروا معه، في حقه الذي عليه غصب، وفيه غلب، فكثير ممن أوردت عليك روائع حكمهم، وبدائع كلمهم، أعاجم درت لهم الفصاحة بغير عصاب، وسبقت إليهم الرجاحة بغير اغتصاب إذ علموا ما آية معانيها، وكيفية مبانيها، وقد قالت الفلاسفة: "حد الإنسان الحي الناطق، فكلما كان رتبة المنطق أعلى، كان بالإنسانية أولى". وأمر المأمون بإسقاط رجل من الجند، فقال: يا أمير المؤمنين لم أسقطتني؟ قال: لأن روح الحياة إذا ظهر كان جمالاً، وإذا بطن كان بياناً، وأنت لا ظاهر لك ولا باطن. فحق كل ذي فضل وعقل أن يكون كما قال بعض الحكماء: "يجب على العاقل أن ينظر في المرآة، فإن كان وجهه حسناً لم يشته بقبيح، وإن كان قبيحاً لم يجمع بين قبيحين". فالحمد لله الذي جعل جمال منظرك موازياً لجمال مخبرك، وشامخ فرعك مقارناً لراسخ عنصرك: فلو كنت ماءً كنتَ غمامةٍ ... ولو كنتَ دُرَّاً كنتَ من درَّةٍ بكرِ ولو كنتَ لهواً كنتَ تعليل ساعةٍ ... ولو كنتَ نوماً كنتَ إغفاءة الفجرِ ولو كنت ليلاً كنتَ قمراً جُنِّبت ... نحوس ليالي الشهرِ أو ليلةَ القدرِ وأقول: والله حسبي فيكَ من كلِّ ما ... يُعوِّذُ العبد به المولى فاسم وعشْ ولا زلت في نعمةٍ ... أنت بها من غيركَ الأولى كمل الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه، ووافق الفراغ من نساخته في ضحى يوم الأربعاء المبارك السادس من شهر رجب الفرد من شهور سنة اثنتين وثلاثين وألف، على يد أفقر العباد إلى عفو الكريم الجليل، الخليل بن خليفة العزيز المكي الرومي الحنفي، عامله الله بلطفه الخفي، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55