الكتاب: مع صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله المؤلف: عطية بن محمد سالم (المتوفى: 1420هـ) الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السادسة - العدد الثالث - رجب 1394هـ - فبراير 1974م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مع صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عطية سالم الكتاب: مع صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله المؤلف: عطية بن محمد سالم (المتوفى: 1420هـ) الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السادسة - العدد الثالث - رجب 1394هـ - فبراير 1974م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مدْخل ... مَعَ صَاحب الْفَضِيلَة والدنا الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين الشنقيطي رَحمَه الله بقلم: الشَّيْخ عطيه مُحَمَّد سَالم القَاضِي بالمحكمة الشَّرْعِيَّة بِالْمَدِينَةِ الْحَمد لله الْمُسْتَحق لصفات الْجلَال وَكَمَال الْأَسْمَاء، المتفرد بالدوام وبالبقاء. خلق الْخلق من عدم وَقضى عَلَيْهِم بِالْمَوْتِ والفناء. وَجعل الدُّنْيَا مزرعة الْآخِرَة، حصادها الثَّوَاب وَالْجَزَاء. وَاخْتَارَ من عباده رسلًا يبلغون عَنهُ فهم بَينه وَبَين خلقه وسطاء. وَاصْطفى خاتمهم مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ صفوة الأصفياء، بَعثه رَحْمَة للْعَالمين فجَاء بالحنيفية السمحاء. أطل فجرها بِمَكَّة من قمة حراء. وأشرقت شمس نَهَارهَا بِطيبَة الفيحاء. ظلت مهَاجر صَحبه فِي ألفة ووفاء فَتحمل الصحب الْكِرَام تراثه. مَا ورثوه مِنْهُ هِدَايَة وضياء. وورثوه من بعدهمْ تَوْرِيث الْآبَاء للأبناء. وغدت الْمَدِينَة مشرقة أنوارها يشع مِنْهَا للْعَالم نور وسناء. وتوالت الأجيال تلو أجيال إنتاجها للْعَالم صفوة الْعلمَاء، مِمَّن قَامُوا لله حَقًا وَأَخْلصُوا لله صدقا ونشروا الْعلم فِي عفة وإباء. نَهِلُوا من المنهل الصافي من منبعه قبل أَن يخالطه الترب أَو تكدره الدلاء. فِي مهبط الْوَحْي محط رحالهم. وَفِي الرَّوْضَة غدوهم ورواحهم فِي غِبْطَة وهناء. درسوا كتاب الله حكما وَحِكْمَة حَتَّى غَدَتْ آيَاته لمرضى الصُّدُور شِفَاء، وتكشفت حجب الْمعَانِي فانجلت من تحتهَا أشمس وضياء. وترسموا سنَن النَّبِي مُحَمَّد، وكذاك سنة الْخُلَفَاء، وَكَذَا الصَّحَابَة والتابعون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فَإِنَّهُم لَهُم بهم أُسْوَة واقتداء. فهم النُّجُوم فِي ليل السرى، وهم الهداة لطَالب الْهدى وأدلاء، وهم الْأَئِمَّة قدوة الْأمة وعَلى الدّين أُمَنَاء. وَنحن بِالْمَدِينَةِ وَفِي هَذَا الْجوَار الْكَرِيم أَشد إحساساً بمكانة الْعلم ومنزلة الْعلمَاء، وأسرع فَرحا بهم وَأَشد حزنا على مَوْتهمْ وألماً لفراقهم، إِن فِي موت الْعلمَاء لغربة للغرباء. وَلَا شكّ أَن هَذِه الآلام تزداد وَهَذَا الْحزن يشْتَد أَكثر وَأكْثر حينما نَكُون قد عرفنَا هَذَا الْعَالم أَو عاصرناه ولمسنا فَضله واستفدنا علمه. وَهَذَا الْقدر كلنا فِيهِ سَوَاء نَحْو عُلَمَاء الْمُسلمين عَامَّة وَشَيخنَا الْأمين خَاصَّة. وَإِنِّي كَأحد أبنائه وَمن جملَة تلاميذه أَقف الْيَوْم معزيا متعزياً. ومترجماً مترحماً وَقد عظم الْمُصَاب وَعز فِيهِ العزاء. وَلَو اسْتحق أحد التَّعْزِيَة لشخصه لاستحقها ثَلَاثَة أشخاص: الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن باز لزمالته 21 سنة وَمَاله عِنْده من منزلَة، وَالشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن صَالح أول من عرفه وتسبب فِي جُلُوسه، وَصَاحب السمو الملكي الْأَمِير عبد الله بن عبد الرَّحْمَن لمحبته وَتَقْدِيره. نعم أَقف معزيا متعزياً مترجماً مترحماً كَمَا قَالَ القَاضِي عِيَاض عَن بعض مشايخه "مَا لكم تأخذون الْعلم عَنَّا وتستفيدون منا، ثمَّ تذكروننا فَلَا تترحمون علينا", إِنَّه ربط أصيل بَين الْعلم والعالم وتنبيه أكيد على أَن الِاعْتِرَاف بِفضل الْعَالم شكر وَتَقْدِير لنَفس الْعلم. رحم الله شَيخنَا رَحْمَة وَاسِعَة ورحم الله عُلَمَاء الْمُسلمين فِي كل زمَان وَمَكَان. وَقد قَامَ الْخلف بِحَق السّلف فِي حفظ تاريخهم بالترجمة لَهُم خدمَة لتراثهم وإحياء لذكرهم وَمَا أثر عَن السخاوي أَنه قَالَ: "من ورخ مُؤمنا فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهُ". أَي من ترْجم لَهُ وأرخه وَهَا هم عُلَمَاء الْأمة يعايشون كل جيل بسيرتهم وتاريخهم فِي أُمَّهَات الْكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وَإِنِّي لاعتقد حَقًا أَن تراجم الرِّجَال مدارس الأجيال أَي فِي علومهم ومعالم حياتهم. وَإِن مثل شَيخنَا الْأمين رَحْمَة الله لحقيق بتخليده بترجمته والاستفادة من مَنْهَج حَيَاته فِي تعلمه وتعليمه. وَإِنِّي لأستعين الله فِيمَا أقدم وأستلهمه فِيمَا أَقُول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 إِلَى رَحْمَة الله وَحسن جواره فقيد الْعلم يَا علم الرِّجَال، نعاك الْعلم فِي حلق السُّؤَال. نعم فقيد الدَّرْس يَا علم الرِّجَال، نعاك الدَّرْس فِي فصل الْمقَال. انْتقل إِلَى رَحْمَة الله وَحسن جواره صَاحب الْفَضِيلَة وَعلم الْأَعْلَام الشَّيْخ الْجَلِيل وَالْإِمَام الْهمام زكي النَّفس رفيع الْمقَام كريم السجايا ذُو الْخلق الرزين، عف الْمقَال حميد الْخِصَال، التقي الْأمين والدنا الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين الشنقيطي. توفّي ضحى يَوْم الْخَمِيس 17 - 12 - 93هـ‍ وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المكرمة مرجعه من الْحَج وَدفن بمقبرة المعلاة وَصلى الله عَلَيْهِ سماحة رَئِيس الجامعة الإسلامية فَضِيلَة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن باز فِي الْحرم الْمَكِّيّ مَعَ من حضر من الْمُسلمين بعد صَلَاة الظّهْر من ذَلِك الْيَوْم. وَفِي لَيْلَة الْأَحَد 20 - 12 أُقِيمَت عَلَيْهِ صَلَاة الْغَائِب بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ وَصلى عَلَيْهِ صَاحب الْفَضِيلَة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن صَالح آل صَالح إِمَام وخطيب الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وَرَئِيس الدَّوَائِر الشَّرْعِيَّة بِالْمَدِينَةِ ومحاكم منْطقَة الْمَدِينَة بعد صَلَاة الْعشَاء مُبَاشرَة وَصلى عَلَيْهِ من حضر من الْحجَّاج مَا لَا يُحصى عددا. وَمن غَرِيب الصدف وَحسن التفاؤل أَن يقْرَأ الإِمَام فِي صَلَاة الْعشَاء قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} إِلَى آخر السُّورَة، وَفِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَقد سَأَلت فضيلته عَن هَذِه الْقِرَاءَة أهوَ قَاصد لهَذِهِ الْآيَات ومختار لَهَا أم جَاءَت عفوا، فَقَالَ حفظه الله بل عفوا فَمَا الملاحظة عَلَيْهَا؟ قلت إِنَّهَا من أغرب الصدف لِأَنَّك صليت على الشَّيْخ الْأمين رَحمَه الله بعْدهَا فَظَنَنْت أَنَّك قصدت إِلَيْهَا، وَلكنه من المناسبات الْحَسَنَة تغمد الله الفقيد برحمته وَأَسْكَنَهُ فسيح جنته إِنَّه جواد كريم رؤوف رَحِيم، كَمَا صلي عَلَيْهِ بالجامعة الإسلامية وَفِي مَسَاجِد الدوادمي. مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى بعد أَن أَحْيَا علوماً درست، وَخلف تراثاً بَاقِيا, وربى أَفْوَاجًا متلاحقة تعد بالآلاف من خريجي كليات ومعاهد الإدارة الْعَامَّة بالرياض والجامعة الإسلامية بِالْمَدِينَةِ المنورة. مَا مَاتَ إِلَّا بعد أَن أصبح لَهُ فِي كل دَائِرَة من دوائر الْحُكُومَة فِي أنحاء الْبِلَاد ابْنا من أبنائه، وَفِي كل قطر إسلامي بعثة من البعثات الإسلامية لمنح الجامعة الإسلامية التعليمية بِالْمَدِينَةِ المنورة. مَا مَاتَ إِلَّا بعد أَن ترك فِي كل مكتبة وَفِي كل منزل (أضواء الْبَيَان) تبدد الظلام وتهدي السَّبِيل. فَلَا يبعد وَلَا يغالي من يَقُول مَا مَاتَ من خلف هَذَا التراث وَأدّى تِلْكَ الرسَالَة فِي حَيَاته يبْقى أثرا خَالِدا لَهُ على مر الأجيال والقرون. لقد أدّى رِسَالَة عظمى وانتقل إِلَى الرفيق الْأَعْلَى، ليحصد مَا زرع ويجني ثمار مَا غرس وينعم بِمَا قدم رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة. لقد عَاشَ رَحمَه الله فِي هَذِه الْبِلَاد مُنْذُ سِنِين حِين قدم لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج ثمَّ اعتزم الْمقَام وَعمل فِي كبريات معاهد الْعلم وجامعاته وَألف وحاضر وَلم تُكتب عَنهُ كلمة وَلم يكن يرضى بِالْكِتَابَةِ عَنهُ. لقد كَانَت أَعماله تترجم عَنهُ ومؤلفاته تعرف بِهِ حَتَّى عرفه الصَّغِير وَالْكَبِير والقاصي والداني والعالم والعامي، فَلم تكن وَفَاته رزءاً على فَرد أَو أسرة أَو جمَاعَة أَو قطر وَلَكِن على الْعَالم الإسلامي كُله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَمَا كتبت عَنهُ سوى كلمة موجزة استقيتها مِنْهُ رَحمَه الله عِنْد طبع أول محاضرة لَهُ بالجامعة الإسلامية فِي آيَات الصِّفَات وطبعت فِي مقدمتها. وَمَات رَحمَه الله وَلم تكْتب عَنهُ أَيْضا إِلَّا تَعْرِيف موجز بالنشأة والمولد وَمَا إِلَى ذَلِك. والآن وَقد تحتمت الْكِتَابَة عَنهُ لَا تعريفاً بِهِ فَهُوَ أعرف من أَن يُعرف فَهُوَ الْعلم الخفاق والطود الأشم وَالشَّمْس المشرقة فَلَيْسَتْ الْكِتَابَة للتعريف وَلَكِن لرسم خطاه وَبَيَان منهجه مِمَّا سَمِعت مِنْهُ رَحمَه الله ولمسته من حَياتِي مَعَه الْمدَّة الطَّوِيلَة، وَإِنِّي لأسجل هَذَا عَنهُ رَحمَه الله للقريب والبعيد لكل من عرفه عَالما وَلم يعرفهُ طَالبا، أَو عرفه هُنَا وَلم يعرفهُ هُنَاكَ فِي بِلَاده فَأَقُول أَولا: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع إِيفَاء الْمقَام حَقه لعظم مقَامه رَحمَه الله وكبير مَنْزِلَته وَإِن كل كِتَابَة عَن أَي شخص تعْتَبر ذَات جانبين: جَانب تَرْجَمَة لَهُ وَبَيَان لحقيقته وتعريف بشخصه ومنزلته، وجانب سيرته ومنهجه بِمَا يُمكن أَن يكون نهجاً يُسار عَلَيْهِ ومنهجاً يُقتدى بِهِ ومؤثر يُؤثر على غَيره مِمَّن أَرَادَ السّير فِي سَبيله والنسج على منواله والاستفادة من أَقْوَاله وأفعاله. وَالْكِتَابَة عَن أَي شخص من هذَيْن الْجَانِبَيْنِ تعْتَبر بِمَثَابَة شخصيته فِي إبراز صورته وَبَيَان مكانته وفيهَا تقييمه فِي عَظمته أَو توسطه أَو غير ذَلِك، وَأي عَالم أَو طَالب علم فَإِن لَهُ شخصية مزدوجة فِي حَيَاته الْعَامَّة وسلوكه الْعَام، وحياته الْخَاصَّة فِي طلب الْعلم ومنهجه فِي تَحْصِيله ونشره وَالْكِتَابَة بِهَذَا الِاعْتِبَار تكون عَن التَّرْجَمَة الشخصية، والسيرة العلمية. وَقد ملئت المكتبات الإسلامية بتراجم وسير الْأَعْلَام من الرِّجَال من عصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَى عصور التدوين وامتدت إِلَى الْيَوْم حفظا للتراث الإسلامي وتسجيل للرعيل الأول، وَلم تكن الْكِتَابَة عَن أَي شخص وافية كَامِلَة إِلَّا بِتَعَدُّد الْكتاب عَنهُ، وتستخلص الْحَقِيقَة من مَجْمُوع مَا كُتب عَنهُ لِأَن كل كَاتب عَن أَي شخص لن يَخْلُو من أحد أُمُور ثَلَاثَة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 1 - إِمَّا موَالٍ متأثر: فقد يَقع تَحت تَأْثِير العاطفة فَينْظر من زَاوِيَة وَاحِدَة، فَيُقَال فِيهِ "وَعين الرِّضَا عَن كل عيب كليلة". 2 - وَإِمَّا معاد منفعل: فَيَقَع تَحت طائلة الانفعال فَيصدق عَلَيْهِ تَتِمَّة الْبَيْت السَّابِق "كَمَا أَن عين السخط تبدي المساويا". 3 - وَإِمَّا بعيد معتدل: يرغب التقييم بميزان الِاعْتِدَال، وَمثل هَذَا قد يفوتهُ مَا لم يكن حَرِيصًا عَلَيْهِ بِدُونِ تَقْصِير. وَمن هُنَا لم تكن كِتَابَة كَاتب عَن إِنْسَان مَا مُطَابقَة كل التطابق ومكتملة غَايَة الاكتمال. وَقد يتحرج الأصدقاء مَخَافَة التُّهْمَة والتأثر بالألفة أَو يتَوَقَّف الْأَعْدَاء مكتفين بالإغضاء، أَو يتَرَدَّد الْآخرُونَ خشيَة التَّقْصِير، وَلِهَذَا فقد تذْهب الشخصية الفذة دون كِتَابَة عَنْهَا فيفتقده الْحَاضِرُونَ ويفقد سيرته القادمون، علما بِأَن سيرة الرِّجَال مدرسة الأجيال. وفضيلة الْوَالِد الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين رَحمَه الله لَهُ شخصية متميزة وسيرة وَاضِحَة يعرفهَا كل من لقِيه أَو حضر مَجْلِسه أَو اسْتمع درسه أَو قَرَأَ كتبه أَو حَتَّى سمع عَنهُ، وَقد طبقت شهرته الْآفَاق. وَإِن الْكِتَابَة عَن مثله رَحمَه الله لمن أشق مَا يكون لتَعَدد جَوَانِب الشخصية وانفساح مجالاته العلمية، وَالْحَال أَنه لَا مرجع لمن يكْتب عَنهُ إِلَّا الْخلطَة وَطول الْعشْرَة وتصيد الْأَخْبَار من ذويه الأخيار. وَحَيْثُ أَن أَحَق النَّاس بِالْكِتَابَةِ عَنهُ هم تلاميذه وأبناؤه، وَإِنِّي وَإِن كنت قد أكرمني الله بِصُحْبَتِهِ وَطول ملازمته ليل نَهَار وَكَثْرَة مرافقته فِي الظعن والأسفار، دَاخل وخارج المملكة، وَسمعت مِنْهُ رَحمَه الله الشَّيْء الْكثير وَالْكثير جدا فَإِنِّي لأجدني تتجاذبني عوامل الْإِقْدَام والإحجام، فَإِذا استحضرت كل مَا سمعته مِنْهُ وتصورت كل مَا لمسته فِيهِ أجدني أَحَق النَّاس بِالْكِتَابَةِ عَنهُ. وَإِذا تذكرت مكانته وتراءت لي مَنْزِلَته وأحسست تَأْثِيره على نَفسِي الحديث: 1 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 تلاشت من ذهني كل مَعَاني الْكِتَابَة أَمَام تِلْكَ الشخصية المثالية تراجعت بَعيدا عَن ميادين الْكِتَابَة عَنهُ. وَلَكِن إِذا كَانَ كل كَاتب لَا يَسْتَطِيع تقييم كل شخصية تقييماً حَقِيقِيًّا يدل على الشَّخْص دلَالَة مطابقية وَفِي أسلوب الْمُسَاوَاة، لَا موجزاً وَلَا مطنباً، إِذا كَانَ هَذَا حَال كل كَاتب مَعَ كل شخص. وَإِذا كَانَ تلميذ الشَّيْخ أَحَق بِالْكِتَابَةِ عَنهُ فَمَالِي لَا أدلي بدلوي بالدلاء وأعمل قلمي مَعَ الأقلام، وأبدي مَا عِنْدِي سَوَاء مَا سمعته مِنْهُ مُبَاشرَة أَو عَنهُ بِوَاسِطَة، أَو لمسته من جَوَانِب حَيَاته وَسيرَته. دون انطلاق مَعَ العاطفة إِلَى حد الإطناب، وَدون إحجام مَعَ الوجل والتهيب والوجل إِلَى حد الإيجاز. إِنَّه لشيخي وأعز عَليّ من وَالِدي. إِنَّه حَقًا وَالِدي حسا وَمعنى لقد عِشْت فِي كنفه سنوات مَعَه فِي بَيته وَقد يظلنا سقف وَاحِد فِي غرفَة وَاحِدَة أمداً طَويلا. وَقد وجدت مِنْهُ رَحْمَة الله الْعِنَايَة وَالرِّعَايَة كَأحد أبنائه كأشد مَا يرْعَى الْوَالِد وَلَده، وَقد أجد مِنْهُ الإيثار على نَفسه فِي كثير من أحيانه مِمَّا يطول ذكره وَلَا يُنسى فَضله. وأعز من الإيثار مَا منحني من الْعُلُوم والْآثَار، والتوجيه الأدبي وَالْفضل الخلقي والسمو النَّفْسِيّ فِي مجالسه وَأَحَادِيثه ودروسه من غير مَا حد وَبِدُون تقيد بِوَقْت إِذْ كَانَ رَحمَه الله كل مجالسه مجَالِس علم وكل أَحَادِيثه أَحَادِيث أدب وتوجيه، وَلم يكن يحْتَاج إِلَى تحضير لدرس وَلَا مُرَاجعَة لجواب على سُؤال. وَلم يكن لي مَعَه رَحمَه الله من وَقت معِين مَعَ كَثْرَة الإخوان الدارسين عَلَيْهِ المقيمين مَعَه فِي بَيته إِلَّا وَقت وَاحِد هُوَ مَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء لمُدَّة سنتَيْن دراسيتين وَنحن بالرياض، قَرَأت فِي خلالها تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة. كَانَت تِلْكَ الدراسة عَلَيْهِ رَحمَه الله هِيَ رَأس مَالِي فِي جلّ تحصيلي وَعَلَيْهَا أساس دراستي الْحَقِيقِيَّة سَوَاء فِي المقررات أَو غَيرهَا، لِأَن فِيهَا جَمِيع أَبْوَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الْفِقْه، وعَلى مباحثها تنطبق جلّ قَوَاعِد الْأُصُول، وَلَا يبعد من يَقُول إِن مَا بعْدهَا من السُّور يُعتبر تَفْسِيرا لَهَا أَو أَن من أتقن تَفْسِيرهَا سهل عَلَيْهِ تَفْسِير مَا بعْدهَا، وَقد كَانَت دراستها سَببا فِي تأليف كتابي دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب، وأضواء الْبَيَان، وكل مِنْهُمَا إِثْر سُؤال وَجَوَاب. مَعَ مَا درست من الْأُصُول ومبادئ فِي الْمنطق ودقائق فِي البلاغة وَغير ذَلِك. لقد وجدت مِنْهُ رَحمَه الله مَا لم أَجِدهُ من غَيره على الْإِطْلَاق كَمَا وأظن أَن أحدا لم يجد مِنْهُ مَا وجدته أَنا مِنْهُ، فلئن شرفت بخدمته فَلَقَد حظيت بِصُحْبَتِهِ فجزاه الله عني أحسن الْجَزَاء. وَإِن صَاحب مثل هَذِه العلاقة مَعَ مثل هَذِه الشخصية ليحس بثقل دُيُونه على كَاهِله ويلمس عظم الْمِنَّة تطوق عُنُقه، فَهَل أَسْتَطِيع تَوْفِيَة هَذَا الْجَانِب فَحسب فضلا عَن الجوانب الْعَامَّة الَّتِي هِيَ مَوْضُوع التَّرْجَمَة والسيرة، وَهل يَتَأَتَّى مني الإحجام عَن الْكِتَابَة وَأَنا مَدين بِمثل تِلْكَ الدُّيُون مكبل بِتِلْكَ المنن مِمَّا يَجْعَلنِي أَحَق بقول الْقَائِل: كليني لَهُم يَا أُمَيْمَة ناصب ... وليل أقاسيه بطيئ الْكَوَاكِب تطاول حَتَّى قلت لَيْسَ بمنقص ... وَلَيْسَ الَّذِي يرْعَى النُّجُوم بآيب وَصدر أراح اللَّيْل عَازِب همه ... تضَاعف فِيهِ الْحزن من كل جَانب عَليّ لعمر نعْمَة بعد نعْمَة ... لوالده لَيست بِذَات عقارب وَلَئِن قيل: وتجلدي للشامتين أريهمو ... أَنِّي لريب الدَّهْر لَا أتضعضع فَإِنِّي لأقول: وتجلدي للسامعين أريهمو ... شمس الْحَقِيقَة من سناه تطلع وَإِنِّي مُلْزم بِالْكِتَابَةِ وَلَو تأثرت بالعاطفة فَإِنِّي مَعْذُور: وَإِن قصرت عَن حَقه فَلَا عذر لي فِي التَّقْصِير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وَإِنِّي لأعتبر مَا أقدمه بداية لَا نِهَايَة وَتَذْكِرَة للآخرين من حاضرين وغائبين لَعَلَّهُم يتمون مَا بَقِي، ويكملون مَا نقص. وَإِذا كَانَت التراجم وَالسير تَنْقَسِم إِلَى ذاتية وَغير ذاتية، والذاتية هِيَ مَا يَكْتُبهَا الشَّخْص عَن نَفسه من طفولته إِلَى رجولته، ويسجل مَا جرى لَهُ وَعَلِيهِ، وَهِي أصدق مَا تكون إِن كَانَ صَاحبهَا معتدلاً أَمينا. وَقد ترْجم بعض الْعلمَاء والفلاسفة لأَنْفُسِهِمْ مِنْهُم: ‍‍1 - ابْن سينا الْمُتَوفَّى سنة 428 كَانَت تَرْجَمته لنَفسِهِ مرجعاً لكل من كتب عَنهُ من تلاميذه. 2 - والعماد الْأَصْفَهَانِي الْمُتَوفَّى سنة 597 فِي مُقَدّمَة كِتَابه (الْبَرْق الشَّامي) . 3 - وَابْن الْخَطِيب الْمُتَوفَّى سنة 776. 4 - وَابْن خلدون، الْمُتَوفَّى 805، والسيوطي وَغَيرهم. والترجمة غير الذاتية مَا يكْتب غَيره عَنهُ. وَإِن مَا أقدمه فِي هَذَا المجال ليجمع بَين الْقسمَيْنِ الذاتي وَغير الذاتي لِأَنَّهُ يشْتَمل على مَا قَالَه هُوَ عَن نَفسه وسمعته مِنْهُ مُبَاشرَة، كَمَا تشْتَمل على مَا عَرفته ولمسته من حَيَاته مُدَّة صحبتي لَهُ. وَالله أسأَل أَن يَجْعَل من سيرته خير قدوة لتلامذته، وَأَن يَجْعَل فِي ولديه خير خلف لخير سلف، وَأَن يأجرنا فِي مُصِيبَتنَا ويخلفنا خيرا مِنْهَا، ونسأله تَعَالَى أَن يتغمده بوافر رَحمته ويسكنه فسيح جنته وَأَن يجزل لَهُ الْعَطاء ويجزيه أحسن الْجَزَاء عَمَّا بذله من جهد، وَخَلفه من علم. إِنَّه جواد كريم (إِن أول مَا يبْدَأ بِهِ فِي مثل هَذَا الْمقَام لَهو الِاسْم واللقب وَالنّسب والنشأة والموطن) … الخ. الحديث: 2 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وَهَذِه تَرْجَمته رَحمَه الله كَمَا سَمعتهَا مِنْهُ مُبَاشرَة: الِاسْم: هُوَ مُحَمَّد الْأمين، وَهُوَ علم مركب من اسْمَيْنِ وَذكر مُحَمَّد تبرك. واللقب: آبا. بِمد الْهمزَة وَتَشْديد الْبَاء من الإباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وَاسم أَبِيه: مُحَمَّد الْمُخْتَار بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن أَحْمد نوح بن مُحَمَّد بن سَيِّدي أَحْمد ابْن الْمُخْتَار من أَوْلَاد أَوْلَاد الطَّالِب أوبك وَهَذَا من أَوْلَاد أَوْلَاد كرير بن الموافي بن يَعْقُوب بن جاكن الابر جد الْقَبِيلَة الْكَبِيرَة الْمَشْهُورَة الْمَعْرُوفَة بالجكنيين. ويُعرفون بتجكانت. نسب الْقَبِيلَة: وَيرجع نسب هَذِه الْقَبِيلَة إِلَى حمير، كَمَا قَالَ الشَّاعِر الموريتاني مُحَمَّد فال ولد الْعَينَيْنِ مستدلا بفصاحتهم على عروبتهم: إِنَّا بَنو حسن دلّت فصاحتنا ... أَنا إِلَى الْعَرَب الأقحاح ننتسب إِن لم تقم بَيِّنَات أننا عرب ... فَفِي (اللِّسَان) بَيَان أننا عرب أنظر إِلَى مَا لنا من كل قافية ... لَهَا تذم شذور الزبرج القشب وبيّن شَاعِر آخر مرجع تِلْكَ الْقَبِيلَة إِلَى حمير بقوله: يَا قَائِلا طاعناً فِي أننا عرب ... قد كذبتك لنا لسن وألوان وسم الْعرُوبَة بادٍ فِي شَمَائِلنَا ... وَفِي أوائلنا عز وإيمان أساد حمير والأبطال من مُضر ... حمر السيوف فَمَا ذلوا وَلَا هانوا لقد كَانَت خَصَائِص الْعرُوبَة ومميزاتها موفورة لَدَى الشَّيْخ رَحمَه الله ولدى أَهله وَذَوِيهِ فِي النّظم وَفِي النثر، كَمَا توفرت الْعُلُوم والفنون فِي بَيته وقبيلته: وَقد بيّن أحد شعرائهم أَصَالَة الْعرُوبَة فيهم وارتضاعهم إِيَّاهَا من أمهاتهم فِي قَوْله يُخَاطب من ينكرها عَلَيْهِم: لنا الْعرُوبَة الفصحى وَإِنَّا ... أَحَق الْعَالمين بهَا اضطلاعا عَن الْكتب اقتبستموها انتفاعا. ... بِمَا فِيهَا ونرضعها ارتضاعا المولد: ولد رَحمَه الله فِي عَام 1325هـ‍. الموطن: كَانَ مسْقط رَأسه رَحمَه الله عِنْد مَاء يُسمى (تَنْبه) من أَعمال مديرية (كيفا) من الْقطر الْمُسَمّى بشنقيط وَهُوَ دولة موريتانيا الإسلامية الْآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 علما بِأَن كلمة شنقيط كَانَت وَلَا تزَال اسْما لقرية من أَعمال مديرية أطار فِي أقْصَى موريتانيا فِي الشمَال الغربي. نشأته رَحمَه الله: وَقبل الحَدِيث عَن نشأته يحسن إيجاز نبذة عَن البيئة فِي تِلْكَ الْبِلَاد: تعْتَبر الْحَيَاة الاجتماعية فِي تِلْكَ الْبِلَاد بِحَسب المواطنين قسمَيْنِ عرب وعجم والعربية لُغَة الْجَمِيع، أما الْعَمَل فالعجم أَكثر أَعْمَالهم الزِّرَاعَة والصناعة وسلالتهم من الزنوج. وَأما الْعَرَب فقسمان: طلبة وَغير الطّلبَة، والطلبة من يغلب عَلَيْهِم طلب الْعلم وَالتِّجَارَة وَغَيرهم من يغلب عَلَيْهِم التِّجَارَة والإغارة. وهم قبائل عدَّة وَمن الْقَبَائِل من يغلب عَلَيْهَا الطّلب وَمِنْهَا من يغلب عَلَيْهَا الإغارة والقتال. وقبيلة الجكنيين خَاصَّة قد جمعت بَين طلب الْعلم وفروسية الْقِتَال مَعَ عفة عَن أَمْوَال النَّاس، وَفِي هَذَا الجو كَانَ طلب الْعلم على قدم وسَاق سَوَاء فِي حلهم أَو ترحالهم كَمَا قَالَ بعض مشايخهم الْعَلامَة الْمُخْتَار بن بونا: وَنحن ركب من الْأَشْرَاف مُنْتَظم. ... أجل ذَا الْعَصْر قدرا دون أدنانا قد اتخذنا ظُهُور العيس مدرسة ... بهَا نبين دين الله تبيانا أما كرم الطَّبْع فَهَذَا سجية فِي جَمِيعهم وَأمر يشب فِيهِ الصَّغِير ويشيب عَلَيْهِ الْكَبِير، وَقد ألفوا الضَّيْف لنجعة مَنَازِلهمْ وَمن عاداتهم إِذا نزل وَفد على بَيت فَإِن أهل هَذَا الْمنزل يرسلون لأهل بَيت المضيف مِمَّا عِنْدهم قل أَو كثر مُشَاركَة فِي قرى الضَّيْف وتعاوناً مَعَ المضيف حَتَّى لَو كَانَ معدماً غَدا واجداً ويرحل الْوَفْد وَهُوَ فِي غَايَة الرِّضَا. وَهَكَذَا دواليك. وَفِي هَذَا الجو وَتلك البيئة نَشأ رَحمَه الله كَمَا سمعته يَقُول: "توفّي وَالِدي وَأَنا صَغِير أَقرَأ فِي جُزْء عمّ وَترك لي ثروة من الْحَيَوَان وَالْمَال، وَكَانَت سكناي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فِي بَيت أخوالي وَأمي ابْنة عَم أبي وحفظت الْقُرْآن على خَالِي عبد الله بن مُحَمَّد الْمُخْتَار بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد نوح جد الْأَب الْمُتَقَدّم". طلبه للْعلم: حفظ الْقُرْآن فِي بَيت أَخْوَاله على خَاله عبد الله كَمَا تقدم وعمره عشر سنوات. قَالَ رَحمَه الله: "ثمَّ تعلمت رسم الْمُصحف العثماني (الْمُصحف الْأُم) على ابْن خَالِي سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمُخْتَار، وقرأت عَلَيْهِ التجويد فِي مقرأ نَافِع بِرِوَايَة ورش من طَرِيق أبي يَعْقُوب الْأَزْرَق وقالون من رِوَايَة أبي نشيط وَأخذت عَنهُ سنداً بذلك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ وعمري سِتَّة عشر سنة". أَنْوَاع الدراسة فِي الْقُرْآن: تعْتَبر الدراسة فِي عُلُوم الْقُرْآن منهجاً متكاملاً لَا تقتصر على الْحِفْظ وَالْأَدَاء بل تتَنَاوَل معرفَة رسم الْمُصحف أَي نوع كِتَابَته مَا كَانَ مَوْصُولا أَو مَفْصُولًا وَمَا رسم فِيهِ الْمَدّ أَو كَانَ يمد بِدُونِ وجود حرف الْمَدّ وَقد يكون حرفا صَغِيرا أَو نَحْو ذَلِك. ثمَّ ضبط مَا فِيهِ من منشأيه فِي الرَّسْم أَو التِّلَاوَة وَمن الْمَشْهُور عِنْدهم فِي هَذَا الرجز (مُحَمَّد ابْن بِوَجْه) الْمَشْهُور الْمَعْرُوف بالبحر تعرض فِيهِ لكل كلمة جَاءَت فِي الْقُرْآن مرّة وَاحِدَة أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاث مَرَّات إِلَى سبع وَعشْرين مرّة أَي من الْكَلِمَات المشتبهة وأفرد كل عدد بفصل فمثلاً: كلمة (أَعينهم) بِالرَّفْع جَاءَت ثَلَاث مَرَّات قَالَ فِيهَا: أَعينهم بِالرَّفْع من غير حُضُور ... من بعد كَانَت وتولت وتدور وَمن الثنائي: كلمة (الأشياع) بِالْعينِ قَالَ فِيهِ: أشياع بِالْعينِ فَهَل من مدكر ... فِي سبأ من قبل بِأَنَّهُم ذكر وَقد درس هَذَا كُله فِي طفولته وَكَانَت لَهُ زِيَادَة نظم على ذَلِك تذييلا لزِيَادَة الْفَائِدَة كَمَا قَالَ: على الْبَيْت الْأَخير مُبينًا حركاته وَإِعْرَابه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فِي سُورَة الْقَمَر خَاطب وانصبا ... وجره وغيبنه فِي سبا أَي فِي سُورَة الْقَمَر تكون تلاوتها الْخطاب وَالنّصب {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . وَفِي سُورَة سبأ تكون تلاوتها بالغيبة والجر {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} وَهَذِه دراسة لَا تكَاد تُوجد إِلَّا مَا شَاءَ الله وَهِي من المهام العلمية لحفظها رسم الْقُرْآن من التَّغْيِير والتبديل وَهِي من أثار تعهد الله بِحِفْظ هَذَا الْقُرْآن الْمنزل من عِنْده سُبْحَانَهُ. ثمَّ قَالَ رَحمَه الله: وَفِي أثْنَاء هَذِه الْقِرَاءَة درست بعض المختصرات فِي فقه مَالك كرجز الشَّيْخ ابْن عَاشر وَفِي أَثْنَائِهَا أَيْضا درست دراسة وَاسِعَة فِي الْأَدَب على زَوْجَة خَالِي أم ولد الْخَال أَي أَن ولد خَاله يُعلمهُ الْعُلُوم الْخَاصَّة بِالْقُرْآنِ وَأمه تعلمه الْأَدَب قَالَ أخذت عَنْهَا مبادئ النَّحْو كالأجرومية وتمرينات ودروس وَاسِعَة فِي أَنْسَاب الْعَرَب وأيامهم والسيرة النَّبَوِيَّة ونظم الْغَزَوَات لِأَحْمَد البدوي الشنقيطي وَهُوَ يزِيد على 500 بَيْتا وشروحه لِابْنِ أُخْت الْمُؤلف الْمَعْرُوف بحماد ونظم عَمُود النّسَب للمؤلف وَهُوَ يعد بالآلاف وَشَرحه لِابْنِ أُخْته الْمَذْكُور على خُصُوص العدنانيين لِأَنَّهُ مَاتَ قبل شرح مَا يتَعَلَّق بالقحطانيين. هَذِه دراسته فِي عُلُوم الْقُرْآن وَالْأَدب وَالسير والتاريخ كَانَت فِي بَيت أَخْوَاله على أَخْوَاله وَأَبْنَاء أَخْوَاله وزوجات أَخْوَاله أَي كَانَ بَيت أَخْوَاله الْمدرسَة الأولى إِلَيْهِ، أما بَقِيَّة الْفُنُون فَقَالَ: 1 - أَولا الْفِقْه الْمَالِكِي وَهُوَ الْمَذْهَب السائد فِي الْبِلَاد درست مُخْتَصر خَلِيل بَدَأَ دراسته فِيهِ على الشَّيْخ مُحَمَّد بن صَالح إِلَى قسم الْعِبَادَات ثمَّ درس عَلَيْهِ النّصْف من ألفية ابْن مَالك، ثمَّ أخذت بَقِيَّة الْفُنُون على مَشَايِخ مُتعَدِّدَة، فِي فنون مُخْتَلفَة وَكلهمْ من الجكنيين وَمِنْهُم مشاهير الْعلمَاء فِي الْبِلَاد مِنْهُم: 1 - الشَّيْخ مُحَمَّد بن صَالح الْمَشْهُور بِابْن أَحْمد الأفرم. 2 - وَالشَّيْخ أَحْمد الأفرم بن مُحَمَّد الْمُخْتَار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 3 - وَالشَّيْخ الْعَلامَة أَحْمد بن عمر 4 - والفقيه الْكَبِير مُحَمَّد النِّعْمَة بن زَيْدَانَ 5 - والفقيه الْكَبِير أَحْمد بن مُودْ 6 - والعلامة المتبحر فِي الْفُنُون أَحْمد فال بن آدُه وَغَيرهم من الْمَشَايِخ الجكنيين. قَالَ رَحمَه الله: "وَقد أَخذنَا عَن هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ كل الْفُنُون: النَّحْو وَالصرْف وَالْأُصُول والبلاغة، وَبَعض التَّفْسِير والْحَدِيث. أما الْمنطق وآداب الْبَحْث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة". هَذَا مَا أملاه عَليّ رَحمَه الله وسجلته عَنهُ. علما بِأَن الْفَنّ الَّذِي درسه على الْمَشَايِخ أَو مطالعة من الْكتب لم يقْتَصر فِي تَحْصِيله على دراسته بل كَانَ دَائِما يديم النّظر ويواصل التَّحْصِيل حَتَّى غَدا فِي كل مِنْهُ كَأَنَّهُ متخصص فِيهِ بل وَله فِي كل مِنْهُ اجتهادات ومباحث مبتكرة سنلم بهَا إِن شَاءَ الله عِنْد إِيرَاد الْمنْهَج العلمي لدراسته وآثاره العلمية. الحديث: 3 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 منهجه العلمي فِي الدراسة: وَقبل إِيرَاد الْمنْهَج العلمي لَهُ رَحمَه الله فِي دراسته نلم بالمنهج الْعَام السائد فِي بِلَاده لكافة طلبة الْعلم وَطَرِيقَة تَحْصِيله. تعْتَبر طَريقَة الدراسة فِي تِلْكَ الْبِلَاد جُزْءا من حَيَاة الْبَوَادِي حلا وارتحالاً. وَإِذا أَقَامَ أحد الْمَشَايِخ فِي مَكَان توافد عَلَيْهِ الطلاب للدراسة عَلَيْهِ وَمكث حَتَّى يَأْخُذُوا عَنهُ وَقد يُقيم بِصفة دائمة لدوام الدراسة عَلَيْهِ ويُقال لَهُ (المرابط) نظرا لإقامته الدائمة لنشر الْعلم. وَلَا يَأْخُذ المرابط من طلابه شَيْئا وَإِن كَانَ ذَا يسَار ساعد المحتاجين من طلابه وَقد يساعد أهل ذَاك الْمَكَان الغرباء من الطلاب. فينزلون حول بَيته ويبنون لَهُم خياماً أَو مسَاكِن مُؤَقَّتَة، وَيكون لَهُم مجْلِس علم للدرس والمناقشة والاستذكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وَقد يكون المرابط مُخْتَصًّا بفن وَاحِد وَقد يدرس عدَّة فنون، فَإِذا كَانَ مُخْتَصًّا بفن وَاحِد فَإِن دروسه تكون فِي هَذَا الْفَنّ موزعة فِي عدَّة أَمَاكِن مِنْهُ بِحَسب مجموعات الطلاب فقد تكون مَجْمُوعَة فِي الْبِدَايَة مِنْهُ ومجموعة فِي النِّهَايَة وَأُخْرَى فِي أَثْنَائِهِ وَهَكَذَا.. فتتقدم كل مَجْمُوعَة على حِدة فتدرس على الشَّيْخ ثمَّ تَأتي الْمَجْمُوعَة الْأُخْرَى وَهَكَذَا. وَإِذا كَانَ يدرس عدَّة فنون فَإِنَّهُ يقسم طلاب كل فن على النَّحْو الْمُتَقَدّم. إِفْرَاد الْفُنُون: وَلَا يحِق لطَالب أَن يجمع بَين فنين فِي وَقت وَاحِد بل يدرس فَنًّا حَتَّى يكمله كالنحو مثلا ثمَّ يبْدَأ فِي البلاغة حَتَّى يكملها وَهَكَذَا يبْدَأ مثلا فِي الْفِقْه حَتَّى يفرغ مِنْهُ ثمَّ يبْدَأ فِي الْأُصُول حَتَّى يكمله، سَوَاء درسها على عدَّة مَشَايِخ أَو على شيخ وَاحِد. طَريقَة الدراسة اليومية: يبْدَأ الطَّالِب بِكِتَابَة الْمَتْن فِي اللَّوْح الخشبي فَيكْتب قدر مَا يَسْتَطِيع حفظه ثمَّ يمحوه ثمَّ يكْتب قدرا أخر حَتَّى يحفظ مقرأ من الْفَنّ حسب التَّقْسِيم الْمَعْهُود فمثلاً النَّحْو تعْتَبر الألفية أَرْبَعَة مقارئ وَيعْتَبر متن خَلِيل فِي الْفِقْه نَحوا من ذَلِك. فَإِذا حفظ الطَّالِب مقرأ من الْفَنّ تقدم للدراسة فيشرحه لَهُ الشَّيْخ شرحاً وافياً بِقدر مَا عِنْده من تَحْصِيل دون أَن يفتح كتابا أَو يحضر فِي مرجع ثمَّ يقوم هَؤُلَاءِ للاستذكار فِيمَا بَينهم ومناقشة مَا قَالَه الشَّيْخ وَقد يَأْخُذُونَ بعض الشرّاح لمقابلته على مَا سَمِعُوهُ أَو يرجعُونَ إِلَى بعض الْحَوَاشِي وَلَا يجتازون ذَاك الْمَكَان من الدَّرْس حَتَّى يرَوا أَنهم قد حصلوا كل مَا فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِم من سرعَة أَو إنهاء كتاب بِقدر مَا عَلَيْهِم من فهم وَتَحْصِيل مَا فِي الْبَاب وَقد ذكرُوا عَن بعض الطلاب مِمَّن عرفُوا بالذكاء وَالْقُدْرَة على التَّحْصِيل أَنه كَانَ لَا يزِيد فِي متن خَلِيل على سطرين فَقَط فَقيل لَهُ: "لمَ لَا تزيد وَأَنت قَادر على التَّحْصِيل" فَقَالَ: "لأنني عجلَان لأعود إِلَى أَهلِي". فَقَالُوا لَهُ إِن العجلان يزِيد فِي حِصَّته. فَقَالَ: "أُرِيد أَن أتقن مَا أَقرَأ حَتَّى لَا أحتاج إِلَى إِعَادَة دراسته فأتأخر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الْحَيَاة الدراسية: دراسة الشَّيْخ رَحمَه الله: على هَذَا الْمنْهَج كَانَت دراسة الشَّيْخ رَحمَه الله إِلَّا أَنه تميز بِبَعْض الْأُمُور قل أَن كَانَت لغيره. نوجز مِنْهَا الْآتِي: 1 - فِي مبدأ دراسته: تقدم أَنه أتيح لَهُ فِي بادئ دراسته مَا لم يتح لغيره حَيْثُ كَانَ بَيت أَخْوَاله مدرسته الأولى، فَلم يرحل فِي بادئ أمره للطلب، وَكَانَ وحيد وَالِديهِ فَكَانَ فِي مَكَان التدلل والعناية. 2 - قَالَ رَحمَه الله كنت أميل إِلَى اللّعب أَكثر من الدراسة حَتَّى حفظت الْحُرُوف الهجائية وبدأوا يقرئونني إِيَّاهَا بالحركات: با فَتْحة با بِي كسرة بِي بُ ضمة بو وَهَكَذَا ث د ث. فَقلت لَهُم أَو كل الْحُرُوف هَكَذَا قَالُوا نعم فَقلت كفى إِنِّي أَسْتَطِيع قرَاءَتهَا كلهَا على هَذِه الطَّرِيقَة كي يتركونني. فَقَالُوا اقرأها فَقَرَأت بِثَلَاثَة حُرُوف أَو أَرْبَعَة وتنقلت إِلَى آخرهَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَة فعرفوا أَنِّي فهمت قاعدتها واكتفوا مني بذلك وتركوني، وَمن ثمَّ حُببت إِلَيّ الْقِرَاءَة. 3 - وَقَالَ رَحمَه الله: وَلما حفظت الْقُرْآن وَأخذت الرَّسْم العثماني وتفوقت فِيهِ على الأقران عُنيت بِي والدتي وأخوالي أَشد عناية وعزموا على تَوَجُّهِي للدراسة فِي بَقِيَّة الْفُنُون، فجهزتني والدتي بجملين أَحدهمَا عَلَيْهِ مركبي وكتبي، وَالْآخر عَلَيْهِ نفقتي وزادي، وصحبني خَادِم وَمَعَهُ عدَّة بقرات وَقد هيئت لي مركبي كأحسن مَا يكون من مركب وملابس كأحسن مَا تكون فَرحا بِي وترغيباً لي فِي طلب الْعلم، وَهَكَذَا سلكت سَبِيل الطّلب والتحصيل. تقوم الْحَيَاة الدراسية على أساس منع الكلفة وَتَمام الألفة سَوَاء بَين الطلاب أنفسهم أَو بَينهم وَبَين شيخهم مَعَ كَمَال الْأَدَب ووقار الحشمة، وَقد تتخللها الطّرف الأدبية والمحاورات الشعرية وَمن ذَلِك مَا حَدَّثَنِيهِ رَحمَه الله قَالَ: قدمت على بعض الْمَشَايِخ لأدرس عَلَيْهِ وَلم يكن يعرفنِي من قبل فَسَأَلَ عني من أكون وَكَانَ فِي ملإ من تلامذته فَقلت مرتجلا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 هَذَا فَتى من بني جاكان قد نزلا ... بِهِ الصِّبَا عَن لِسَان الْعَرَب قد عدلا رمت بِهِ همة علياء نحوكم ... إِذْ شام برق عُلُوم نوره اشتعلا فجَاء يَرْجُو ركاماً من سحائبه ... تكسو لِسَان الْفَتى أزهاره حللا إِذْ ضَاقَ ذرعاً بِجَهْل النَّحْو ثمَّ أَبَا ... أَلا يُمَيّز شكل الْعين من فعلا قد أَتَى الْيَوْم صبا مُولَعا كلفا ... بِالْحَمْد لله لَا أبغي لَهُ بَدَلا يُرِيد دراسة لامية الْأَفْعَال: وَقد مضى رَحمَه الله فِي طلب الْعلم قُدماً وَقد ألزمهُ بعض مشايخه بِالْقُرْآنِ، أَي أَن يقرن بَين كل فنين حرصاً على سرعَة تَحْصِيله وتفرساً لَهُ فِي الْقُدْرَة على ذَلِك، فَانْصَرف بهمة عالية فِي درس وَتَحْصِيل. وَقد خاطبه بعض أقرانه فِي أَمر الزواج فَقَالَ فِي ذَلِك وَفِي الْحَث على طلب الْعلم: دَعَاني الناصحون إِلَى النِّكَاح ... غَدَاة تزوجَتْ بيض الملاح فَقَالُوا لي تزوج ذَات دلّ ... خلوب اللحظ جائلة الوشاح تَبَسم عَن نوشرة رقاق ... يمج الراح بِالْمَاءِ القراح كَأَن لحاظها رشقات نبل ... تذيق الْقلب آلام الْجراح وَلَا عجب إِذا كَانَت لحاظ ... لبيضاء المحاجر كالرماح فكم قتلا كميّا ذَا ولاحى ... ضعيفات الجفون بِلَا سلا فَقلت لَهُم دَعونِي إِن قلبِي ... من العي الصراح الْيَوْم صاحي ولي شغل بأبكار عذارى ... كَأَن وجوهها ضوء الصَّباح أَرَاهَا فِي المهارق لابسات ... براقع من مَعَانِيهَا الصِّحَاح. أَبيت مفكراً فِيهَا فتضحى ... لفهم الفدم خافضة الْجنَاح أبحت حريمها جبرا عَلَيْهَا ... وَمَا كَانَ الْحَرِيم بمستباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 نعم إِنَّه كَانَ يبيت فِي طلب الْعلم مفكراً وباحثاً حَتَّى يذلل الصعاب وَقد طابق القَوْل الْعَمَل. حَدثنِي رَحمَه الله قَالَ: جِئْت للشَّيْخ فِي قراءتي عَلَيْهِ فشرح لي كَمَا كَانَ يشْرَح وَلكنه لم يشف مَا فِي نَفسِي على مَا تعودت وَلم يرو لي ظمئي، وَقمت من عِنْده وَأَنا أجدني فِي حَاجَة إِلَى إِزَالَة بعض اللّبْس وإيضاح بعض الْمُشكل وَكَانَ الْوَقْت ظهرا فَأخذت الْكتب والمراجع فطالعت حَتَّى الْعَصْر فَلم أفرغ من حَاجَتي فعاودت حَتَّى الْمغرب فَلم أنته أَيْضا فَأوقد لي خادمي أعواداً من الْحَطب أَقرَأ على ضوئها كعادة الطلاب وواصلت المطالعة وأتناول الشاهي الْأَخْضَر كلما مللت أَو كسلت وَالْخَادِم بِجوَارِي يُوقد الضَّوْء حَتَّى انبثق الْفجْر وَأَنا فِي مجلسي لم أقِم إِلَّا لصَلَاة فرض أَو تنَاول طَعَام وَإِلَى أَن ارْتَفع النَّهَار وَقد فرغت من درسي وَزَالَ عني لبسي وَوجدت هَذَا الْمحل من الدَّرْس كَغَيْرِهِ فِي الوضوح والفهم فَتركت المطالعة ونمت وأوصيت خادمي أَن لَا يوقظني لدرسي فِي ذَلِك الْيَوْم اكْتِفَاء بِمَا حصلت عَلَيْهِ واستراحة من عناء سهر البارحة. فقد بَات مفكراً فِيهَا فأضحت ... لفهم الفدم خافضة الْجنَاح وَإِن هَذَا لدرس لأبنائه ومنهج لطلاب الْعلم فِي الصَّبْر والدأب والمثابرة وَقد نَفَعَنِي الله بِهَذِهِ الْحَادِثَة فِي دراستي وتدريسي وخاصة فِي صُورَة مشابهة فِي الْفَرَائِض لم أكن درستها على أحد وَكَانَ الِاخْتِيَار فِي المقروء لَا فِي الْمُقَرّر. وَتلك هِيَ آفَة الدراسة النظامية الْيَوْم وَكنت كلما ضجرت فِي تحقيقها تذكرت قصَّته رَحمَه الله فَصَبَرت حَتَّى حصلتها وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَكَانَ من بعد الظّهْر إِلَى هزيع من اللَّيْل، وَلَكِن كم كَانَت لذتي وارتياحي. وَمَعَ هَذِه الشاعرية الرقراقة والمعاني الْعَذَاب الفياضة والأسلوب السهل الجزل فقد كَانَ يتباعد رَحمَه الله عَن قَول الشّعْر مَعَ وفرة حفظه إِيَّاه وَله فِي ذَلِك أَبْيَات يَقُول فِيهَا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أنقذت من دَاء الْهوى بعلاج ... شيب يزين مفارقي كالتاج قد صدني حلم الأكابر عَن لمي ... شفة الفتاة الطفلة المغناج ماءُ الشبيبة زارع فِي صدرها ... رمانتي روض كحق العاج وَكَأَنَّهَا قد أدرجت فِي برقع ... يَا ويلتاه بهَا شُعَاع سراج وكأنما شمس الْأَصِيل مذابة ... تنساب فَوق جبينها الْوَهَّاج. يعلى لموقع جنبها فِي خدرها ... فَوق الحشية ناعم الديباج. لم يبك عَيْني بينُ حَيّ جيرة ... شدوا الْمطِي بأنسع الأحداج نادت بأنغام اللحون حداتهم ... فتزيلوا وَاللَّيْل أليل داجي لَا تصطبيني1 عاتق فِي دلّها ... رقت فراقت فِي رقاق زجاج مخضوبة مِنْهَا بنان مديرها ... إِذْ لم تكن مقتولة بمزاج طابت نفوس الشّرْب حَيْثُ أدارها ... رشأ رمى بلحاظ طرف ساجي أَو ذَات عود أنطقت أوتارها ... بِلُحُونِ قَول للقلوب شواجي فتخال رنات المثاني أحرفاً ... قد رددت فِي الْحلق من مهتاج وَقد سَأَلت رَحمَه الله عَن تَركه الشّعْر مَعَ قدرته عَلَيْهِ وإجادته فِيهِ فَقَالَ: "لم أره من صِفَات الأفاضل. وخشيت أَن أشتهر بِهِ وتذكرت قَول الشَّافِعِي فِيمَا ينْسب إِلَيْهِ: وَلَوْلَا الشّعْر بالعلماء يزري ... لَكُنْت الْيَوْم أشعر من لبيد وَلِأَن الشَّاعِر يَقُول فِي كل مجَال، وَالشعر أكذبه أعذبه، فَلم أَكثر مِنْهُ لذَلِك". وَمَعَ هَذَا فقد كَانَت لَهُ رَحمَه الله عدَّة مؤلفات نظماً فِي عدَّة فنون سَيَأْتِي بَيَانهَا إِن شَاءَ الله.   1 - أَي لَا تستميلني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أَعماله فِي الْبِلَاد: كَانَت أَعماله رَحمَه الله كعمل أَمْثَاله من الْعلمَاء: الدَّرْس والفتيا وَلكنه كَانَ قد اشْتهر بِالْقضَاءِ وبالفراسة فِيهِ وَرَغمَ وجود الْحَاكِم الفرنسي إِلَّا أَن المواطنين كَانُوا عظيمي الثِّقَة فِيهِ فيأتونه للْقَضَاء بَينهم ويفدون إِلَيْهِ من أَمَاكِن بعيدَة أَو حَيْثُ يكون نازلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 طَرِيقَته فِي الْقَضَاء: كَانَ إِذا أَتَى إِلَيْهِ الطرفان استكتبهما رغبتهما فِي التقاضي إِلَيْهِ وقبولهما مَا يقْضِي بِهِ ثمَّ يسْتَكْتب الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ جَوَاب الْمُدَّعِي عَلَيْهِ أَسْفَل كِتَابَة الدَّعْوَى وَيكْتب الحكم مَعَ الدَّعْوَى والإجابة وَيَقُول لَهما اذْهَبَا بهَا إِلَى من شئتما من الْمَشَايِخ أَو الْحُكَّام، أما الْمَشَايِخ فَلَا يَأْتِي أحدهم قَضِيَّة قَضَاهَا إِلَّا صدقُوا عَلَيْهَا، وَأما الْحُكَّام فَلَا تصلهم قَضِيَّة حكم فِيهَا إِلَّا نفذوا حكمه حَالا، وَكَانَ يقْضِي فِي كل شَيْء إِلَّا فِي الدِّمَاء وَالْحُدُود، وَكَانَ للدماء قَضَاء خَاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قَضَاء الدِّمَاء: كَانَ الْحَاكِم الفرنسي فِي الْبِلَاد يقْضِي بِالْقصاصِ فِي الْقَتْل بعد محاكمة ومرافعة وَاسِعَة النطاق وَبعد تمحيص الْقَضِيَّة وإنهاء المرافعة وصدور الحكم يعرض على عَالمين جليلين من عُلَمَاء الْبِلَاد ليصادقوا عَلَيْهِ ويسمي العلمين لجنة الدِّمَاء وَلَا ينفذ حكم الإعدام فِي الْقصاص إِلَّا بعد مصادقتهما عَلَيْهِ. وَقد كَانَ رَحمَه الله أحد أَعْضَاء هَذِه اللجنة وَلم يخرج من بِلَاده حَتَّى علا قدره وَعظم تَقْدِيره وَكَانَ علما من أعلامها وَمَوْضِع ثِقَة أَهلهَا وحكامها ومحكومها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 خُرُوجه من بِلَاده رَحمَه الله: كَانَ خُرُوجه من بِلَاده لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج وعَلى نِيَّة العودة وَكَانَ سَفَره برا كتب فِيهِ رحْلَة ضمنهَا مبَاحث جليلة كَانَ آخرهَا مَبْحَث القضايا الموجهة فِي الْمنطق مَعَ عُلَمَاء أم درمان بالمعهد العلمي بالسودان. وَبعد وُصُوله إِلَى هَذِه الْبِلَاد تَجَدَّدَتْ نِيَّة بَقَائِهِ، وَلَعَلَّ من الْخَيْر وَبَيَان الْوَاقِع ذكر سَبَب بَقَائِهِ: لقد كَانَ فِي بِلَاده كَغَيْرِهِ يسمع الدعاية ضد هَذِه الْبِلَاد باسم الوهابية إِلَّا أَن بعض الصدف قد تغير من وجهات النّظر (وَإِذا أَرَادَ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أَولا فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ: يعْتَبر التدريس فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ من أهم التدريس فِي كبريات جامعات الْعَالم فِي نشر الْعلم، وَهُوَ الجامعة الأولى للتشريع الإسلامي مُنْذُ عهد النُّبُوَّة وَحين كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يَأْتِي لتعليم الْإِسْلَام فِي مجَالِس الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومنذ كَانَت مجَالِس الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وعلماء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، إِذْ كَانَت الْمَدِينَة العاصمة العلمية، وظلت مُحَافظَة على مركزها العلمي وَلم تخل فِي زمن من الْأَزْمَان من عَالم يقوم بِحَق الله فِيهَا. وَقبل مَجِيء الشَّيْخ رَحمَه الله كَانَ قبله الشَّيْخ الطّيب رَحمَه الله نفع الله بِهِ كثيرا وَتُوفِّي سنة 1363هـ‍ فَكَانَ جُلُوس الشَّيْخ رَحمَه الله للتدريس فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ امتداداً لما كَانَ قبله مَعَ من كَانَ من الْعلمَاء بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ آنذاك من تلاميذ الشَّيْخ الطّيب وَغَيرهم، وَكَانَ درس الشَّيْخ فِي التَّفْسِير ختم الْقُرْآن مرَّتَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 منهجه فِي درسه: من الْمَعْلُوم أَن التَّفْسِير لَا ينْحَصر فِي مَوْضُوع فَهُوَ شَامِل عَام بشمول الْقُرْآن وعمومه، فَكَانَ الْمنْهَج أَولا بَيَان الْمُفْردَات ثمَّ الْإِعْرَاب والتصريف ثمَّ البلاغة مَعَ إِيرَاد الشواهد على مَا يُورد. ثمَّ يَأْتِي إِلَى الْأَحْكَام إِن كَانَ مَوْضُوع الْآيَة فقهاً فيستقصي باستنتاج الحكم وَبَيَان الْأَقْوَال وَالتَّرْجِيح لما يظْهر لَهُ، ويدعم ذَلِك بالأصول وَبَيَان الْقُرْآن وعلوم الْقُرْآن من عَام وخاص وَمُطلق ومقيد وناسخ ومنسوخ وَأَسْبَاب نزُول وَغير ذَلِك. وَإِذا كَانَت الْآيَة فِي قصَص أظهر العبر من الْقِصَّة وَبَين تاريخها وَقد يرْبط الْحَاضِر بالماضي كربط تكشف النِّسَاء الْيَوْم بفتنة إِبْلِيس لحواء فِي الْجنَّة ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوآتهما، وفتنته للجاهلية حِين طافوا بِالْبَيْتِ عرايا رجَالًا وَنسَاء وهاهو يستدرجهن فِي التكشف شَيْئا فَشَيْئًا، بَدَأَ بكشف الْوَجْه ثمَّ الرَّأْس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 آثاره فِي الرياض: كَانَت مُدَّة اخْتِيَاره للتدريس بالرياض عشر سنوات دراسية يعود لقَضَاء العطلة بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ عمله فِي التدريس بالمعهد والكلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 كَغَيْرِهِ من المدرسين. وَلَكِن لبَيَان أَثَره حَقِيقَة نورد نبذه عَن الْحَالة العلمية آنذاك بالرياض. كَانَت الرياض عَاصِمَة نجد علمياً وسياسياً وَكَانَ يفد إِلَيْهَا طلاب الْعلم من أنحاء نجد لأخذ الْعلم عَن آل الشَّيْخ. وَكَانَ مَرْكَز الدراسة والتدريس فِي الْمَسَاجِد إِلَّا خَواص الطلاب لَدَى سماحة الْمُفْتِي فيدرسون عَلَيْهِ بعض الدُّرُوس فِي بَيته ضحى، وَكَانَت الدراسة عمادها التَّوْحِيد وَالْفِقْه وَالتَّفْسِير وَكَذَلِكَ الحَدِيث والسيرة والنحو وَكَانَت دراسة مباركة تخرج عَلَيْهَا جَمِيع عُلَمَاء نجد حَتَّى جَاءَت تِلْكَ الْحَرَكَة العلمية الجديدة أَو تنظيم الدراسة الْجَدِيد فِي عَام 1371هـ‍. نشأة هَذِه الْحَرَكَة: كَانَت نشأتها كَمَا سَمِعت مِنْهُ رَحمَه الله استجابة لرغبة المرحوم جلالة الْملك عبد الْعَزِيز رَحمَه الله. قَالَ لجَماعَة الْعلمَاء وهم فِي مَجْلِسه الْخَاص: لقد كَانَت الرياض ملية بالعلماء عامرة بالدروس. وانتقل الْكثير مِنْهُم إِلَى رَحْمَة الله وَلم يخلفهم من يماثلهم وَأَرَدْت تعاونكم مَعَ سماحة الْمُفْتِي فِي تربية جيل من طلبة الْعلم على الْعُلُوم الصَّحِيحَة والعقيدة السليمة فَنحْن وَأَنْتُم مشتركون فِي المسئولية فَكَانَت هَذِه النهضة ترعاها عناية ملكية وَتقوم عَلَيْهَا كفاءة علمية تولي إدارة المعهد الشَّيْخ عبد اللَّطِيف بن إِبْرَاهِيم ورئاسته لسماحة الْمُفْتِي وافتتحت الدراسة على طلاب حلق الْمَسَاجِد الْأَكفاء وَفِيهِمْ خَواص طلاب فَضِيلَة الشَّيْخ مُحَمَّد رَحمَه الله وأبناؤه. صنفت الدراسة على ثَلَاث سنوات ثانوية وَمِنْهَا إِلَى الْكُلية يغذي هَذَا الْقسم تمهيدي يَأْخُذ من رَابِعَة ابتدائي ويدرس خَامِسَة وسادسة وَمن ثمَّ للمعهد الثانوي فالكليتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الْمنْهَج العلمي: وضع الْمنْهَج العلمي لتِلْك الدراسة على أساس فِي الْعُلُوم الدِّينِيَّة والعربية وتكميل من الْموَاد الاجتماعية وعلوم الْآلَة من مصطلح وأصول حَتَّى الْحساب والتقويم والخط والإملاء والتجويد. فَكَانَ قَوِيا فِي مَوْضُوعه شَامِلًا فِي منهجه. وَكَانَ الطلاب من الصفوة الَّذين درسوا فِي الْمَسَاجِد المتعطشين للعلوم متطلعين للتوسع وَكَانَ القائمون على التدريس نخبة ممتازة من الأجلة الْفُضَلَاء من وطنيين وأزهريين. فَكَانَ الجو حَقًا جدا علمياً الْتَقت فِيهِ همة عالية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 طلاب جَيِّدين مَعَ عَزِيمَة مَاضِيَة من مَشَايِخ مجتهدين. كَانَ يسودهم الشُّعُور بِأَن هَذِه طَلِيعَة نهضة علمية وَاسِعَة، كَانَ رَحمَه الله كوالد للْجَمِيع وَكَانَ درسه التَّفْسِير وَالْأُصُول. فَكَانَ فِي التَّفْسِير المجال الْوَاسِع لجَمِيع الْموَاد والعلوم. وَكَانَ مَعَ الْتِزَامه بالمنهج والحصص إِذا تنَاول بحثا فِي أَي مَادَّة يخاله السَّامع مُخْتَصًّا فِيهَا فَعرف لَهُ الْجَمِيع قدره وتطلع الْجَمِيع إِلَى مَا عِنْده حَتَّى المدرسون: وَقد رغب المدرسون آنذاك فِي قِرَاءَة بعض كتب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية واستيعاب دقائقه فَلم يكن أولى بذلك من فضيلته رَحمَه الله. خصص لذَلِك مجْلِس خَاص فِي صحن المعهد بدخنه بَين الْمغرب وَالْعشَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فِي مَسْجِد الشَّيْخ: وَفِي مَسْجِد الشَّيْخ مُحَمَّد رَحمَه الله بَدَأَ درس الْأُصُول لكبار الطّلبَة فِي قَوَاعِد الْأُصُول حَضَره الْعَامَّة والخاصة وَكَانَ يتوافد إِلَيْهِ من أَطْرَاف الرياض، وَكَانَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الإفْرِيقِي رَحمَه الله يدرس الحَدِيث وَكَانَ درس الْأُصُول بِمَثَابَة فتح جَدِيد فِي هَذَا الْفَنّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فِي بَيته رَحمَه الله: وَلما كَانَ الدَّرْس فِي الْأُصُول فِي الْمَسْجِد عَاما وَفِي الطّلبَة من خواصهم رَغِبُوا فِي درس خَاص فِي بَيته رَحمَه الله فَكَانَ لَهُم درس خَاص بعد الْعَصْر. وَكَانَ بَيته رَحمَه الله كمدرسة سَوَاء لأبنائه الَّذين رافقوه للدراسة عَلَيْهِ وَقد أمْلى شرحاً على مراقي السُّعُود فِي بَيته على أخينا أَحْمد الأحمد الشنقيطي. لقد كَانَ لتدريسه هَذَا سَوَاء رسمياً فِي المعهد والكليتين أَو فِي الْمَسْجِد أَو فِي الْمنزل كَانَ لَهُ أثر طيب ونتائج حَسَنَة لَا يسع متحدث التحدث عَنْهَا بِقدر مَا تحدثت هِيَ عَن نَفسهَا فِي أَعمال كَافَّة المتخرجين من تِلْكَ الْمعَاهد والكليتين المنتشرين فِي أنحاء المملكة المبرزين فِي أَعْمَالهم وَفِي أَعلَى مناصب فِي كَافَّة الوزارات. وَلَا يُغالي من يَقُول إِن كل من تخرج أَو يتَخَرَّج فَهُوَ إِمَّا تلميذ لَهُ أَو لتلاميذه فهم بِمَثَابَة أبنائه وأحفاده كفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 تَقْدِير المسؤولين لَهُ: لقد كَانَ بِعِلْمِهِ ونصحه وجهده وعفته مَوضِع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 دوره رَحمَه الله فِي الجامعة الإسلامية: إِن من يعرف نشأة الجامعة الإسلامية وَقد عرف الْحَرَكَة العلمية الحديثة بالرياض ليقول أَن افْتِتَاح الجامعة الإسلامية امتداداً للحركة العلمية الحديثة بالرياض. والمتتبع للحركات العلمية فِي الْعَالم الإسلامي ليقول إِن افْتِتَاح الجامعة الإسلامية فِي ذَلِك التَّارِيخ عناية من الله وتداركاً للتعليم الإسلامي حينما أُصِيبَت بعض دور الْعلم الْكُبْرَى بهزات فِي برامجها. فَكَانَ إيجادها امتداداً للحركة العلمية الحديثة بالرياض ومجيئها آنذاك تداركاً لبَعض مَا فَاتَ ولعلها جُزْء من تَحْقِيق الحَدِيث: "إِن الْإِيمَان ليأرز إِلَى الْمَدِينَة كَمَا تأرز الْحَيَّة إِلَى جحرها". وَمَعْلُوم أَن الْإِيمَان عقيدة وَعمل وَالْعلم قبله. وَمن هُنَا نجدد أَو نتذكر أهمية الجامعة الإسلامية ومدى وجودهَا بِالْمَدِينَةِ المنورة وبالتالي مَجِيء أَبنَاء الْعَالم الإسلامية إِلَيْهَا للدراسة وللتربية فِي هَذَا الجو الروحي لتبرز لنا قيمَة الْعَمَل فِي الجامعة وَأَن رسالتها تربوية بِجَانِب أَنَّهَا علمية وَأَنَّهَا منعت الانتساب دون الْحُضُور لهَذَا الْغَرَض نَفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وَقد كَانَ لوالدنا رَحمَه الله فِي هَذِه المجالات الْيَد الطُّولى والمجهود الْأَكْبَر فَلم يدّخر وسعاً فِي تَعْلِيم وَلم يتوانى فِي تَوْجِيه سَوَاء فِي دروسه أَو أَحَادِيثه أَو محاضراته وَسَوَاء مَعَ الطلاب أَو المدرسين فَكَانَ كَالْأَبِ الرَّحِيم والداعية الناصح الْأمين. تحمل عَنهُ تلاميذه إِلَى أنحاء الْعَالم الإسلامي حينما وصلت منح الدراسة بالجامعة الإسلامية لبلدان الْعَالم الإسلامي فَهَل يُمكن أَن نقُول وَلَو ادِّعَاء أَو تجوزاً إِنَّه كَانَ بِحَق فِي منزلَة شيخ الْإِسْلَام فِي هَذَا الْوَقْت. ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم. وَقد كَانَ بِجَانِب التَّعْلِيم عُضْو مجْلِس الجامعة ساهم فِي سَيرهَا ومناهجها كَمَا ساهم فِي إنتاجها وَتَعْلِيمهَا. وَفِي سنة 86هـ‍ افْتتح معهد الْقَضَاء العالي بالرياض برآسة فَضِيلَة الشَّيْخ عبد الرَّزَّاق عفيفي وَكَانَت الدراسة فِيهِ ابْتِدَاء على نظام استقدام الأساتذة الزائرين فَكَانَ رَحمَه الله مِمَّن يذهب لإلقاء المحاضرات الْمَطْلُوبَة فِي التَّفْسِير وَالْأُصُول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 امتداد نشاطه خَارج المملكة: إِذا كَانَت الجامعة الإسلامية قد فتحت للبلاد نوافذ تطل مِنْهَا على الْعَالم الإسلامي كُله وَجعلت لَهَا أَبنَاء فِي شَتَّى أقطارها فَإِن من حق أُولَئِكَ الْأَبْنَاء مَا يجب من رعايتهم وَحقّ تِلْكَ الأقطار مَا يلْزم من تَقْوِيَة أواصر الروابط. فَكَانَت فكرة إرْسَال بعثات إِلَى الأقطار الإسلامية وخاصة إفريقيا فَكَانَ رَحمَه الله على رَأس بعثة الجامعة إِلَى عشر دوَل إفريقية بدأت بالسودان وانتهت بموريتانيا موطن الشَّيْخ رَحمَه الله. كَانَ لهَذِهِ الْبعْثَة فِي تِلْكَ الْبِلَاد أعظم الْأَثر وأذكر فِي مجْلِس من أفاضل الْبِلَاد بموريتانيا وَفِي حفل تكريم للبعثة وكل إِلَى فضيلته رَحمَه الله كلمة الْجَواب فَكَانَ مِنْهَا إِن الذكريات لتتحدث وَإِنَّهَا لساعة عَجِيبَة أدارت عجلة الزَّمَان حَيْثُ نَشأ الشَّيْخ فِي بِلَادكُمْ ثمَّ هَاجر إِلَى الْحجاز ثمَّ هَا هُوَ يعود إِلَيْكُم على رَأس وَفد ورئاسة بعثة فقد نَبتَت غرسة علمه هُنَا عنْدكُمْ فَذهب إِلَى الْحجاز فَنمت وترعرعت فامتدت أَغْصَانهَا حَتَّى شملت بوارف ظلها بِلَاد الْإِسْلَام شرقاً وغرباً وَهَا نَحن فِي موطنه نجني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثمار غرسها ونستظل بوارف ظلها. فَكَانَت تِلْكَ الرحلة حَقًا حَلقَة اتِّصَال وتجديد عهد وإحياء معالم لِلْإِسْلَامِ. وَكَانَ لَهُ رَحمَه الله العديد من المحاضرات والمحادثات سجلت كلهَا فِي أشرطة لَا تزَال مَحْفُوظَة آمل أَن أوفق لنقلها وطبعها إتماماً للفائدة إِن شَاءَ الله. ونضم إِلَيْهَا منهجه وسلوكه مَعَ الْحُكَّام وصغار الطلاب والعوام مِمَّا يرسم الطَّرِيق الصَّحِيح للدعوة إِلَى الله على بَصِيرَة وبالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فِي هَيْئَة كبار الْعلمَاء: وكما شكلت هيئت كبار الْعلمَاء بعد سماحة الْمُفْتِي رَحمَه الله وَهِي أكبر هَيْئَة علمية فِي الْبِلَاد كَانَ رَحمَه الله أحد أعضائها. وَقد ترأس إِحْدَى دوراتها فَكَانَت لَهُ السياسة الرشيدة والنتائج الحميدة. سَمِعت فَضِيلَة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن صَالح حفظه الله وَهُوَ عُضْو فِيهَا يَقُول: مَا رَأَيْت قبله أحسن إدارة مِنْهُ مَعَ بُعد نظر فِي الْأُمُور وَحسن تدبر للعواقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فِي الرابطة: وَفِي رابطة الْعَالم الإسلامي كَانَ عُضْو الْمجْلس التأسيسي لم تقل خدماته فِيهِ عَن خدماته فِي غَيرهَا. أذكر لَهُ موقفا حَدثنِي بِهِ جنب الرابطة مأزقاً كَاد أَن يدْخل عَلَيْهَا شقاقاً أَو انثلاما. حينما قدم مَنْدُوب إيران وَقدم طلبا باعتراف الرابطة بِالْمذهبِ الْجَعْفَرِي وَمَعَهُ وَثِيقَة من بعض الْجِهَات العلمية الإسلامية ذَات الْوَزْن الْكَبِير تؤيده على دَعْوَاهُ وتجيبه إِلَى طلبه. فَإِن قبلوا طلبه دخلُوا مأزقاً وَإِن رفضوه واجهوا حرجاً. فاقترحوا أَن يُولى الْأَمر فضيلته رَحمَه الله فِي جلْسَة خَاصَّة. فَأجَاب فِي الْمجْلس قَائِلا: لقد اجْتَمَعنَا للْعَمَل على جمع شَمل الْمُسلمين والتأليف بَينهم وترابطهم أَمَام خطر عدوهم وَنحن الْآن مجتمعون مَعَ الشِّيعَة فِي أصُول هِيَ: الْإِسْلَام دين الْجَمِيع وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَسُول الْجَمِيع. وَالْقُرْآن كتاب الله والكعبة قبْلَة الْجَمِيع والصلوات الْخمس وَصَوْم رَمَضَان وَحج بَيت الله الْحَرَام ومجتمعون على تَحْرِيم الْمُحرمَات من قتل وَشرب وزنا وسرقة وَنَحْو ذَلِك. وَهَذَا الْقدر كَاف للاجتماع والترابط. وَهُنَاكَ أُمُور نعلم جَمِيعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 مؤلفاته رَحمَه الله: لَا شكّ أَن كل مؤلف يَحْكِي شخصية مُؤَلفه فِي علمه وَفِي عقله بل وَفِي اتجاهه كَمَا قَالُوا: من ألف فقد استهدف أَي لِأَنَّهُ يعرض مَا عِنْده على أنظار النَّاس. وللشيخ تآليف عديدة مِنْهَا فِي بِلَاده وَمِنْهَا هُنَا. فَمَا كَانَ فِي بِلَاده هُوَ: 1 - فِي أَنْسَاب الْعَرَب نظما أَلفه قبل الْبلُوغ يَقُول فِي أَوله: سميته بخالص الجمان ... فِي ذكر أَنْسَاب بني عدنان وَبعد الْبلُوغ دَفنه قَالَ لِأَنَّهُ كَانَ على نِيَّة التفوق على الأقران وَقد لامه مشايخه على دَفنه وَقَالُوا كَانَ من الْمُمكن تَحْويل النِّيَّة وتحسينها. 2 - رجز فِي فروع مَذْهَب مَالك يخْتَص بِالْعُقُودِ من الْبيُوع والرهون وَهُوَ آلَاف مُتعَدِّدَة قَالَ فِي أَوله: الْحَمد الله الَّذِي قد ندبا ... لِأَن نميز البيع عَن لبس الرِّبَا وَمن بالمؤلفين كتبا ... تتْرك أطواد الْجَهَالَة هبا تكشف عَن عين الْفُؤَاد الحجبا ... إِذا حجاب دون علم ضربا 3 - ألفية فِي الْمنطق - أَولهَا: حمداً لمن أظهر للعقول ... حقائق الْمَنْقُول والمعقول وكشف الرين عَن الأذهان ... بواضح الدَّلِيل والبرهان وَفتح الْأَبْوَاب للألباب ... حَتَّى استبانت مَا وَرَاء الْبَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 4 - نظم فِي الْفَرَائِض أَولهَا: تَرِكَة الْمَيِّت بعد الْخَامِس ... من خَمْسَة محصورة عَن سادس وحصرها فِي الْخَمْسَة استقراء ... وانبذ لحصر الْعقل بالعراء أَولهَا الْحُقُوق بالأعيان ... تعلّقت كَالرَّهْنِ أَو كالجاني وكزكاة التَّمْر والحبوب. ... إِن مَاتَ بعد زمن الْوُجُوب وكل هَذِه المؤلفات مخطوطة. الحديث: 4 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أما مؤلفاته هُنَا فَهِيَ: 1 - منع جَوَاز الْمجَاز فِي الْمنزل للتعبد والإعجاز. وموضوعها إبِْطَال إِجْرَاء الْمجَاز فِي آيَات الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وإيفائها على الْحَقِيقَة. وَقد زَاد هَذَا الْمَعْنى فِيمَا بعد فِي آدَاب الْبَحْث والمناظرة. 2 - دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب عَن آي الْكتاب أبان فِيهِ مَوَاضِع مَا يشبه التَّعَارُض فِي الْقُرْآن كُله كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} مَعَ قَوْله تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} وَأَن السُّؤَال متنوع والمواقف مُتعَدِّدَة. وَقد طبع وَمَا قبله ونفدا. 3 - مذكرة الْأُصُول: على رَوْضَة النَّاظر جمع فِي شرحها أصُول الْحَنَابِلَة والمالكية وبالتالي الشَّافِعِيَّة. مقررة على كليتي الشَّرِيعَة والدعوة. 4 - آدَاب الْبَحْث والمناظرة: أوضح فِيهِ آدَاب الْبَحْث من إِيرَاد الْمسَائِل وَبَيَان الدَّلِيل وَنَحْو ذَلِك. وَهُوَ أَيْضا مُقَرر فِي الجامعة وَمن جزأين. 5 - أضواء الْبَيَان: لتفسير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مدرسة كَامِلَة يتحدث عَن نَفسه. طبع مِنْهُ سِتَّة أَجزَاء كبار وَالسَّابِع تَحت الطَّبْع وصل فِيهِ رَحمَه الله إِلَى نِهَايَة قد سمع. وَلَعَلَّ الله ييسر ويوفق من يعْمل على إكماله وَلَو بِقدر المستطاع. وَمن عَجِيب الصدف أَن يكون موقفه رَحمَه الله فِي التَّفْسِير على قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . الحديث: 5 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وَهنا العديد من المحاضرات ذَات المواضيع المستقلة طبعت كلهَا ونفذت وَهِي: 1 - آيَات الصِّفَات: أوضح فِيهَا تَحْقِيق إِثْبَات صِفَات الله. 2 - حِكْمَة التشريع: عالج فِيهَا العديد من حِكْمَة التشريع فِي كثير من أَحْكَامه. 3 - الْمثل الْعليا: بَين فِيهَا المثالية فِي العقيدة والتشريع والأخلاق. 4 - الْمصَالح الْمُرْسلَة: بَين فِيهَا ضَابِط اسْتِعْمَالهَا بَين الإفراط والتفريط. 5 - حول شُبْهَة الرَّقِيق: رفع اللّبْس عَن ادِّعَاء استرقاق الْإِسْلَام للأحرار. 6 - على {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} أَلْقَاهَا بِحَضْرَة الْملك مُحَمَّد الْخَامِس عِنْد زيارته للمدينة. وَكلهَا عَامَّة نافعة جَدِيدَة. وبالتالي فقد كَانَ لمنهجه العلمي فِي أبحاثه وتدريسه وَفِي مؤلفاته. إحْيَاء لعلوم درست وتصحيحاً لمفاهيم اخْتلفت. فمما أَحْيَا من الْعُلُوم علم الْأُصُول الَّذِي هُوَ أصل الِاسْتِدْلَال والاستنباط وَالِاجْتِهَاد وَالتَّرْجِيح وعمدة الْمُجْتَهد وعماده وبجهله لَا يحِق الِاجْتِهَاد وَيجب التَّقْلِيد الْمَحْض كَمَا يَقُولُونَ جهلة الْأُصُول عوام الْعلمَاء. فَفتح أبوابه وسهّل صعابه وأوضح قَوَاعِده، وَقرب تنَاوله تسهيلاً لأخذ الْأَحْكَام من مصادرها ورد الْفُرُوع إِلَى أُصُولهَا. كَمَا أَحْيَا آدَاب الْبَحْث والمناظرة فَوضع منهجه وَألف مقرره فَكَانَ خدمَة للعقيدة فِي أسلوب بَيَانهَا وَكَيْفِيَّة إِثْبَاتهَا والدفاع عَنْهَا وطرق الْإِقْنَاع بِمَا فِيهِ الْخلاف. كَمَا فتّح أبواباً جَدِيدَة وأحدث فنوناً طريفة فِي عُلُوم الْقُرْآن من منع الْمجَاز عَن الْمنزل للتعبد والإعجاز إِثْبَاتًا لمعاني آيَات الصِّفَات على حَقِيقَتهَا وسد بَاب تعطليها عَن دلالتها إِجْرَاء للنَّص على حَقِيقَته وإبقاء عَلَيْهِ فِي دلَالَته. وَمن دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب عَن آي الْكتاب وَبَيَان تَصْدِيق آي الْكتاب بعضه بَعْضًا بِدُونِ تعَارض وَلَا إِشْكَال. الحديث: 6 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَمن تسليط أضواء الْبَيَان على تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ رسم فِيهِ الْمنْهَج السَّلِيم لتفسير الْقُرْآن الْكَرِيم. تَفْسِير كَلَام الله بعضه بِبَعْض وَأَبَان أَحْكَامه وَحكمه وَفتح كنوزه وأطلع نفائسه وَنشر درره على طلبة الْعلم. وكل ذَلِك فتح جَدِيد فِي عُلُوم الْقُرْآن لم تكن مَوْجُودَة على هَذَا النسق من قبل وَلم تكن تدرس بِهَذَا الْمثل. كَمَا أَنه فِي غضونها صحّح مفاهيم مُخْتَلفَة مِنْهَا أَن الْمنطق لم يكن يُعرف عَنهُ إِلَّا أَنه تَقْدِيم الْعقل على النَّقْل ومصادمة النَّص بِالرَّأْيِ وَكَانَ فعلا وَسِيلَة التشكيك فِي العقيدة باستخدام قضايا عقيمة. فهذب الشَّيْخ رَحمَه الله من أبحاثه وَأحسن باستخدامه فنظم قضاياه المنتجة ورتب أشكاله السليمة واستخدم قِيَاسه فِي الْإِلْزَام. سَوَاء فِي العقيدة أَو أصُول الْأَحْكَام وَبعد أَن كَانَ يستخدم ضدها أصبح يعْمل فِي خدمتها. كَمَا وضح ذَلِك فِي آدَاب الْبَحْث والمناظرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 مواقفه مَعَ الْحق: كَانَ رَحمَه الله قَوِيا صلباً لينًا سهلاً. كَانَ قَوِيا صلباً فِي بَيَانه، لينًا سهلاً فِي الرُّجُوع إِلَى مَا ظهر إِلَيْهِ مِنْهُ. فِي بعض الأعوام الَّتِي حججتها مَعَه رَحمَه الله قدمنَا مَكَّة يَوْم سبع من الشَّهْر وَكَانَ مُفردا الْحَج وَفِي يَوْم الْعِيد صحبته للسلام على سماحة الْمُفْتِي رَحمَه الله بمنى فَسَأَلَهُ رَحمَه الله عَن نُسكه فَقَالَ جِئْت مُفردا الْحَج وقصداً فعلت فَأدْرك الْمُفْتِي رَحمَه الله أَن وَرَاء ذَلِك شَيْئا وَلَكِن تلطف مَعَ الشَّيْخ وَقَالَ أهوَ أفضل عنْدك حفظك الله فَأجَاب أَيْضا حفظكم الله لَا للأفضلية فعلت وَلَكِن سَمِعت وتأكد عِنْدِي أَن أشخاصاً ينتمون لطلب الْعلم يَقُولُونَ لَا يَصح الْإِفْرَاد بِالْحَجِّ ويلزمون المفردين بالتحلل بِعُمْرَة. وَهَذَا الْعَمَل لَا يتناسب مَعَ العديد من وُفُود بَيت الله الْحَرَام كل بِمَا اخْتَار من نسك وكل يعْمل بِمذهب صَحِيح وَجَرت محادثة من أنفس مَا سَمِعت فِي تَقْرِير هَذَا الْبَحْث من مناقشة الْأَدِلَّة وَبَيَان الرَّاجِح وأخيراً قَالَ رَحمَه الله أَنه لَا يعنيني بَيَان الْأَفْضَل فَهَذَا أَمر مُخْتَلف فِيهِ وكل يخْتَار مَا يتَرَجَّح عِنْده وَلَكِن يعنيني إبِْطَال القَوْل بِالْمَنْعِ من صِحَة إِفْرَاد الْحَج لِأَنَّهُ قَول لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 يسْبق إِلَيْهِ وَالْأمة مجمعة على صِحَّته. فَمَا كَانَ من سماحة الْمُفْتِي رَحمَه الله إِلَّا أَن اسْتحْسنَ قَوْله ودعا لَهُ. ولكأني بِهَذَا الْعَمَل من الشَّيْخ رَحمَه الله الَّذِي أَرَادَ بِهِ الْبَيَان عملياً صُورَة مِمَّا وَقع من عَليّ رَضِي الله عَنهُ حينما بلغه عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَنه ينْهَى عَن التَّمَتُّع فَدخل عَلَيْهِ وَقَالَ كَيفَ تنْهى عَن شَيْء فَعَلْنَاهُ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخرج من عِنْده وَهُوَ يَقُول: لبيْك اللَّهُمَّ حجا وَعمرَة. أما لينه مَعَ الْحق ورجوعه إِلَى مَا ظهر لَهُ مِنْهُ فَفِي آخر دروسه فِي الْحرم النَّبَوِيّ فِي رَمَضَان الْمَاضِي فِي سُورَة بَرَاءَة أعلن عَن رُجُوعه عَن القَوْل فِي الْأَشْهر الحُرم بِأَنَّهَا مَنْسُوخَة وَقَالَ الَّذِي يظْهر أَنَّهَا محكمَة وَلَيْسَت مَنْسُوخَة وَكُنَّا نقُول بنسخها فِي دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب وَلَكِن ظهر لنا بِالتَّأَمُّلِ أَنَّهَا محكمَة. وَهُوَ الْحق الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَاده والتعويل عَلَيْهِ. وَمِمَّا وَقع لي مَعَه رَحمَه وأكبرته فِيهِ تواضعه وإنصافه سَمِعت مِنْهُ فِي مَبْحَث زَكَاة الْحلِيّ فِي أضواء الْبَيَان عِنْد سرد الْأَدِلَّة ومناقشتها أَن من أَدِلَّة الموجبين حَدِيث الْمَرْأَة اليمنية وَمَعَهَا ابْنَتهَا وَفِي يَد ابْنَتهَا مسكتان غليظتان من ذهب فَسَأَلَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "أتؤدين زَكَاة هَذَا" فَقَالَت: لَا. فَقَالَ: "هما حَسبك من النَّار". فخلعتهما وَأَلْقَتْ بهما. وَأجَاب المانعون بِأَن ذَلِك كَانَ قبل إِبَاحَة الذَّهَب للنِّسَاء فتساءلت مستوضحاً مِنْهُ رَحمَه الله: وماذا يُسمى هَذَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُكُوته عَن لبسه وَهُوَ محرم وسؤاله عَن زَكَاته فَقَالَ عجبا إِن هَذَا يتَضَمَّن وجود اللّبْس عِنْد السُّؤَال وَيدل على إِبَاحَته آنذاك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقر أحدا على محرم وَلَا يَتَأَتَّى أَن يسكت على لبسهَا إِيَّاه وَهُوَ مَمْنُوع ويهتم لزكاته وَلَو أُعِيد طبع الْكتاب لنبهت عَلَيْهِ رغم أَن جَمِيع المراجع لم تلْتَفت إِلَيْهِ فَهُوَ بِهَذَا يلقن طلبة الْعلم درساً فِي موقفه من الْحق ولكأني بِكَلَام عمر رَضِي الله عَنهُ فِي كِتَابه لأبي مُوسَى رَحمَه الله وَلَا يمنعنك قَضَاء قَضيته بالْأَمْس ثمَّ راجعت فِيهِ نَفسك وَظهر لَك الْحق أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 تَأْخُذ بِهِ فَالْحق أَحَق أَن يتبع. وَقد رَأينَا من قبل للشَّافِعِيّ الْقَدِيم والجديد. وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ إنصاف الْعلمَاء وَأَمَانَة الْعلم. هَذَا مَا وسعني ذكره عَن حَيَاته العلمية فِي نشأته وتعلمه وتعليمه وَعَن تراثه العلمي فِي مؤلفاته وآثاره التربوية فِي أبنائه وَأَبْنَاء الْعَالم الإسلامي كُله رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة. وَلَعَلَّ من أبنائه الْحُضُور أَو غَيرهم من لَدَيْهِ الْمَزِيد على ذَلِك. أما النَّاحِيَة الشخصية: فِي تقويمه الشخصي لسلوكه، وأخلاقه، وآدابه، وَكَرمه، وعفته، وزهده وترفع نَفسه وَمَا إِلَى ذَلِك. فَهَذَا مَا يسْتَحق أَن يفرد بِحَدِيث، وَإِنِّي لَا أَسْتَطِيع الْآن تَصْوِيره وَلَا يسعني فِي هَذَا الْوَقْت تَفْصِيله. وَمَا كَانَ رَحمَه الله يحب أَن يذكر عَنهُ شَيْء فِي ذَلِك. وَلَكِن على سَبِيل الْإِجْمَال لَو أَن للفضائل والمكرمات والشيم وصفات الْكَمَال فِي الرِّجَال عنوان يجمعها لَكَانَ هُوَ أَحَق بِهِ. وَإِذا كَانَ عُلَمَاء الْأَخْلَاق يعنونون لأصول الْأَخْلَاق والفضائل بالمروءة فَإِن الْمُرُوءَة كَانَت شعاره ودثاره. وَكَانَت هِيَ الَّتِي تحكمه فِي جَمِيع تَصَرُّفَاته سَوَاء فِي نَفسه أَو مَعَ إخوانه وطلابه أَو مَعَ غَيرهم من عرفهم أَو لم يعرفهُمْ. وَقد قَالَ فِيهِ بعض النَّاس فِي حَيَاته إِنَّه لَا عيب فِيهِ سوى عيب وَاحِد هُوَ أننا نفقده بعد مَوته. وَإِن تَفْصِيل ذَلِك لمتروك لمن خالطه عَن قرب. وَلَقَد استعصى عَليّ الْمقَال فِي ذَلِك ولكأني بقول الْقَائِل: أهابك إجلالاً وَمَا بك سلطة ... عَليّ وَلَكِن ملْء عين حبيبها وَلَكِن قد تَكْفِي الْإِشَارَة إِذا لم تسعف الْعبارَة. وَأقرب شَيْء زهده فِي الدُّنْيَا وعفته عَمَّا فِي أَيدي النَّاس وَكَرمه بِمَا فِي يَده: لِأَن هَذَا لَا يعلم إِلَّا لمن خالطه وَلَيْسَ كل من خالطه يعرف ذَلِك مِنْهُ بل من دَاخله ولازمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَالْوَاقِع أَن الدُّنْيَا لم تكن تَسَاوِي عِنْده شَيْئا فَلم يكن يهتم لَهَا. ومنذ وجوده فِي المملكة وصلته بالحكومة حَتَّى فَارق الدُّنْيَا لم يطْلب عَطاء وَلَا مُرَتبا وَلَا ترفيعاً لمرتبه وَلَا حصولاً على مُكَافَأَة أَو علاوة. وَلَكِن مَا جَاءَهُ من غير سُؤال أَخذه وَمَا حصل عَلَيْهِ لم يكن ليستبقيه بل يوزعه فِي حِينه على المعوزين من أرامل ومنقطعين وَكنت أتولى توزيعه وإرساله من الرياض إِلَى كل من مَكَّة وَالْمَدينَة. وَمَات وَلم يخلف درهما وَلَا دِينَارا وَكَانَ مستغنياً بعفته وقناعته. بل إِن حَقه الْخَاص ليتركه تعففاً عَنهُ كَمَا فعل فِي مؤلفاته وَهِي فريدة فينوعها. لم يقبل التكسب بهَا وَتركهَا لطلبة الْعلم. وسمعته يَقُول: لقد جِئْت معي من الْبِلَاد بكنز عَظِيم يَكْفِينِي مدى الْحَيَاة وأخشى عَلَيْهِ الضّيَاع. فَقلت لَهُ وَمَا هُوَ قَالَ القناعة. وَكَانَ شعاره فِي ذَلِك قَول الشَّاعِر: الْجُوع يطرد بالرغيف الْيَابِس ... فعلام تكْثر حسرتي ووساوسي وَكَانَ اهتمامه بِالْعلمِ وبالعلم وَحده وكل الْعُلُوم عِنْده آلَة ووسيلة وَعلم الْكتاب وَحده غَايَة وَكَانَ كثيرا مَا يتَمَثَّل بِأَبْيَات الأديب مُحَمَّد بن حَنْبَل الْحسن الشنقيطي رَحمَه الله فِي قَوْله: لَا تسوء بِالْعلمِ ظنا يَا فَتى ... إِن سوء الظَّن بِالْعلمِ عطب لَا يزهدك أحد فِي الْعلم أَن ... غمر الْجُهَّال أَرْبَاب الْأَدَب إِن تَرَ الْعَالم نضوا مرملا ... صفر كف لم يساعده سَبَب وَترى الْجَاهِل فد حَاز الْغنى ... مُحرز المأمول من كل أرب قد تجوع الْأسد فِي أجامها ... والذئاب الغبش تعتام القتب جرع النَّفس على تَحْصِيله ... مضض المرين ذل وسغب لَا يهاب الشوك قطاف الجنى ... وإبار النَّحْل مشتار الضَّرْب حَقًا إِنَّه لم يسئ بِالْعلمِ ظنا وَلم يهب فِي تَحْصِيله شوك النّخل وَلَا إبار النَّحْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فنال مِنْهُ مَا أَرَادَ واقتحم الْحمى على عذارى الْمعَانِي وأباح حريمها جبرا عَلَيْهَا وَمَا كَانَ الْحَرِيم بمستباح. أما مَكَارِم أخلاقه ومراعاة شُعُور جُلَسَائِهِ فَهَذَا فَوق حد الِاسْتِطَاعَة فمذ صحبته لم أسمع مِنْهُ مقَالا لأي إِنْسَان وَلَو مُخطئ عَلَيْهِ يكون فِيهِ جرح لشعوره وَمَا كَانَ يُعَاتب إنْسَانا فِي شَيْء يُمكن تَدَارُكه وَكَانَ كثير التغاضي عَن كثير من الْأُمُور فِي حق نَفسه وحينما كنت أسائله فِي ذَلِك يَقُول: لَيْسَ الغبي بِسَيِّد فِي قومه ... وَلَكِن سيد الْقَوْم المتغابي وَلم يكن يغتاب أحدا أَو يسمح بغيبة أحد فِي مَجْلِسه وَكَثِيرًا مَا يَقُول لإخوانه (اتكايسوا) أَي من الكياسة والتحفظ من خطر الْغَيْبَة. وَيَقُول إِذا كَانَ الْإِنْسَان يعلم أَن كل مَا يتَكَلَّم بِهِ يَأْتِي فِي صَحِيفَته فَلَا يَأْتِي فِيهَا إِلَّا الشَّيْء الطّيب. وَمِمَّا لوحظ عَلَيْهِ فِي سنواته الْأَخِيرَة تباعده عَن الْفتيا وَإِذا اضْطر يَقُول: لَا أتحمل فِي ذِمَّتِي شَيْئا الْعلمَاء يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا. وَسَأَلته مرّة عَن ذَلِك: فَقَالَ إِن الْإِنْسَان فِي عَافِيَة مَا لم يُبتلى وَالسُّؤَال ابتلاء لِأَنَّك تَقول عَن الله وَلَا تَدْرِي أتصيب حكم الله أم لَا. فَمَا لم يكن عَلَيْهِ نَص قَاطع من كتاب الله أَو سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجب التحفظ فِيهِ. ويتمثل بقول الشَّاعِر: إِذا مَا قتلت الشَّيْء علما فَقل بِهِ ... وَلَا تقل الشَّيْء الَّذِي أَنْت جاهله فَمن كَانَ يهوي أَن يرى متصدراً ... وَيكرهُ لَا أَدْرِي أُصِيبَت مقاتله وَفِي الْجُمْلَة فقد كَانَ رَحمَه الله خير قدوة وأحسنها فِي جَمِيع مجالات الْحَيَاة فَكَانَ الْعَالم الْعَامِل وَلَا أزكي على الله أحدا وَقد خلف وَلدين فاضلين أديبين يدرسان بكلية الشَّرِيعَة بالجامعة الإسلامية جَعلهمَا الله خير خلف لخير سلف وَالله أسأَل أَن يسكنهُ فسيح جنته ويوسع لَهُ فِي رضوَان رَحمته وَأَن يعلي مَنْزِلَته وَيرْفَع دَرَجَته مَعَ الْعلمَاء وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ونفعنا الله بِعِلْمِهِ وسلك بِنَا طَريقَة عمله بِمَا يرضيه تبَارك وَتَعَالَى عَنَّا وَصلى الله وَسلم وَبَارك على عَبده وَرَسُوله مُحَمَّد صلى الله عَليّ وَسلم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته … الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56