الكتاب: من أحكام الفقه الإسلامي وما جاء في المعاملات الربوية وأحكام المداينة المؤلف: عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله الناشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة الطبعة: الثالثة، 1409هـ/1989م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- من أحكام الفقه الإسلامي وما جاء في المعاملات الربوية وأحكام المداينة عبد الله آل جار الله الكتاب: من أحكام الفقه الإسلامي وما جاء في المعاملات الربوية وأحكام المداينة المؤلف: عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله الناشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة الطبعة: الثالثة، 1409هـ/1989م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] من أحكام الفقه الإسلامي وما جاء في المعاملات الربوية وأحكام المداينة جمع الفقير إلى الله تعالى الشيخ: عبد الله بن جار الله بن إبراهيم الجار الله مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحلّ ما ينفعنا، وحرّم علينا ما يضرّنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا، رحمةً بنا وإحسانا إلينا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي ما ترك خيرًا إلا دلّنا عليه، ولا شرًّا إلاّ نهانا عنه وحذّرنا منه. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. وبعد: فقد طلب مني بعض الإخوان أن أُفرد من كتابي "بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين" ما يتعلّق بالمعاملات الربوبية التي وقع فيها كثيرٌ من الناس، وطرق الكسب الحرام، تحذيرًا منها ومن سوء عاقبتها، وما يتعلّق بالاقتصاد في النفقات وأحكام المدايَنة. فأجبتهم إلى ذلك. سائلاً الله تعالى أن ينفع بها من قرأها أو سمعها، وأن يعظِّم الأجر والمثوبة لمن كتبها، أو طبعها، أو نشرها، أو عمل بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وهو حسبنا ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 من أحكام الفه الإسلامي ... من أحكام الفقه الإسلامي الفقه: في اللغة: الفهم. ومعناه شرعا: معرفة الأحكام الشرعيّة بأدلّتها من القرآن الكريم، والسنة المطهّرة، والإجماع، والقياس الصحيح. والأحكام الشرعيّة خمسة: 1 الواجب، يُثاب فاعله ويعاقب تاركه مثل: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وبِرّ الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والصدق في الحديث، وأداء الأمانة، ونحو ذلك. 2 الحرام ضدّه، يثاب تاركه ويعاقب فاعله مثل: الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، والمعاملة بالربا، وحلق اللحى، وشرب الدخان، وتصوير ذوات الأرواح من الأدميِّين والبهائم، ونحو ذلك كالأغاني. 3 المسنون، ومثله المستحب والمندوب، يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه مثل: نوافل الصلاة، والصدقة، والصوم، والحج، والذكر، والدعاء، والاستغفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 4 المكروه ضده، يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله مثل: تقديم اليسار عند دخول المسجد، واليمين عند دخول الحمّام، وفرقعة الأصابع في الصلاة وتشبيكها 5 المباح، فعله وتركه سواء مثل: فضول الأكل والشرب والنوم والمشي. وينقسم الواجب إلى: فرض عين: يطلب حصوله من كل مسلم بالغ عاقل. مثل: أصول الإيمان الستّة، وأركان الإسلام الخمسة. وإلى فرض كفاية: يطلب حصوله من عموم المسلمين، إذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، كتعلُّم العلوم والصناعات النافعة، والجهاد، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلّ ما فيه مصلحة خالصة أو راجحة أمر به الإسلام، وكلّ ما فيه مفسدة خالصة أو راجحة نهى عنه. وقد أباح الله لنا كلّ طيِّب نافع، وحرّم علينا كلّ خبيث أو ضار لأجسامنا وعقولنا وأموالنا؛ رحمةً بنا وإحسانا إلينا، قال الله تعالى في وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 1، وقال تعالى: {هُوَ   1 سورة الأعراف، الآية: 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} 1، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2. ويجب على كلِّ مسلم مكلّف: أن يتعلّم من الفقه كل ما يحتاج إليه في عباداته ومعاملاته، ليعبد الله على علم، وليكون على بصيرة من أمره، وليفهم كيف يصلِّي؟ وكيف يزكِّي؟، وكيف يصوم؟، وكيف يحج؟، وكيف يبيع؟، وكيف يشتري؟. فلا يُعذر أحدٌ بالجهل، لأن الله ركّب فينا العقول، وأرسل الرسول، وأنزل القرآن، وقامت حجة الله على عباده، ومن لا يستطيع أن يتعلّم فليسأل أهل العلم، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} 3. ويجب على المسلم أن يتعلّم العلم والفقه في دين الله، ثم يعمل به ويدعو إليه، ويصبر على ذلك. قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . وقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ   1 سورة البقرة، الآية: 29. 2 سورة البقرة، الآية: 172. 3 سورة النحل، الآية: 43. وسورة الأنبياء، الآية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 1. فالعلم بما يجب لله على عباده فرض عين، أما بقيّة أنواع العلوم كعلوم الصناعة والزراعة والطب والهندسة، وعلم القضاء والإفتاء؛ فهذه فرض كفاية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهه في الدين" يعني: يوفِّقه للعلم والعمل به. والحديث متّفق عليه. ومفهوم الحديث: أن من لم يُرِد الله به خيرًا أعرض عن طلب العلم النافع والعمل به، فأصبح من الخاسرين. قال العلماء: "وطريقة التفقّه في الدّين: أن يحفظ الطالب في كل فنّ أصلاً يبني عليه، فأول ذلك: يفهم القرآن الكريم وما فيه من الأوامر فيمتثلها، والنواهي فيجتنبها، ثم السنة المطهّرة، يحفظ فيها مختصرًا ككتاب "عمدة الأحكام في أحاديث خير الأنام"، ثم يحفظ مختصرًا في الفقه، مثل: "عمدة الفقه" عند الحنابلة، و"قرة عيون الأبصار" عند الأحناف، و"مختصر خليل" عند المالكيّة، و "مختصر المزني" أو "منهاج الطالبين" للنووي عند الشافعية. ومورد هذه المذاهب وهذه   1 سورة التوبة، الآية: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الكتب واحد وهو القرآن والسنة، وغالبها متّفق عليه والحمد لله، وإنما اختلفوا في فهم بعض النصوص أو في صحّتها وضعفها، وكلهم مجتهدون، رحمهم الله تعالى وغفر لنا ولهم. اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لِمَا اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الاقتصاد في النفقات التوسط والاعتدال في إنفاق النفقات خلق فاضل، بين خُلُقين مذمومين متطرِّفين، وهما: الإسراف والتبذير، والبخل، والشُّح، والتَّقْتير. فإن الله تعالى امتنّ على العباد بالأموال ليشكروها باستعمالها في مرضاته، وليقوم بها أَوَدُهم1، ويُنفقوا منها في الواجبات والمستحبّات، وحرّم عليهم تبذيرها والإسراف في إنفاقها في غير الوجوه المشروعة، قال تعالى:   1 اعوجاجهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 1 وإذا كان لا يحبّهم فهو يبغضهم ويَمْقتهم. والسرف: إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي، والسرف بالمأكولات التي تضرّ بالجسم. وإما أن يكون بزيادة الشَّرَه والتنوّع في المآكِل والمشارِب والملابس فوق الحاجة. وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام. فالسرف يبغضه الله، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى ربما أدّت به الحال إلى أن يعجز عن ما يجب عليه من النفقات. وفي الحديث: " كلوا واشربوا والبسوا وتصدّقوا في غير إسراف ولا مخيلة " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح. وقد نعى الله على قوم تعجّلوا شهواتهم، وأذهبوا طيّباتهم في هذه الحياة، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} 3 أي: أشباههم في السَّفَه، والتبذير، وترك   1 سورة الأعراف، الآية: 31. 2 سورة الأحقاف، الآية: 20. 3 سورة الإسراء، الآية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 طاعة الله، وارتكاب معصيته. فإن الشيطان يدعو إلى كل خصلة ذميمة؛ فيدعو الإنسان إلى الشح، والبخل، والإمساك، فإنْ عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير، وإنفاق الأموال بالباطل والمحرّمات؛ كاشتراء الاسطوانات والبكمات والأشرطة التي سُجِّلت فيها الأغاني المحرّمة، واشتراء الصور ذوات الأرواح، وكإنفاق المال في الدخّان الخبيث الضار بالصحّة والاقتصاد. فكلّ ذلك وما في معناه فالنفقة فيه نفقة بغير حق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النار يوم القيامة" أخرجه البخاري. وقد مدح الله المؤمنين بالعدل في إنفاقهم بقدر الحاجة، فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 1 أي: لم تصل نفقتهم إلى حدِّ السَّرَف، ولم تنقص إلى حد البُخل، وكان إنفاقهم بين البخل والتبذير بقدر ما تقوم به حاجتهم، وتندفع به ضروراتهم. وقد حدَث التوسُّع الزائد في هذه الأوقات في النفقات والولائم والحفلات، حتى وصلت إلى حدِّ الإسراف والتبذير.   1 سورة الفرقان، الآية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وهذا ضررٌ عظيم مخالِفٌ للشرع، ومضارُّه شاملة للغني والفقير. وقد جعل الله الأموال قياما للناس، تقوم بها المصالح والمنافع، فمن صرفها في غير وجهها الشرعي فقد ضيّع الأمانة المُلْقاة على عاتقه، وهذا النوع من النفقة لم يضمن الله للمنفق خلفها. إنّ هذا التوسُّع يُرغم العاجزين ومن ليس لهم مقدرة بالتزام ذلك مجاراة للأغنياء والقادرين، فلو أن الرؤساء والأغنياء الذين هم قدوة لغيرهم التزموا الاقتصاد في النفقات، واتّفقوا عليه، لشكروا على ذلك، وكان فيه خير للمجتمع، قال تعالى في الحَثِّ على هذا السبيل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} 1 فإنك إن قصّرت بالنفقات، وبخلت بالواجبات؛ لامك الناس على الإمساك، ولاموك على البخل، وإن أسرفت في الإنفاق فوق طاقتك، نفد ما عندك، فأصبحت حاسر اليد فارغها. فالاقتصاد من أسباب بقاء المعيشة ودوامها فإنه "ما عالَ من اقتصد". والسخاء المحمود شرعا: هو بذل ما يُحتاج إليه، وأن يوصل ذلك إلى مستحقّه بقدر الإمكان. وليس كما قيل: "حدّ   1 سورة الإسراء، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الجود بذل الموجود"، ولو كان كذلك لانتفى اسم السرف والتبذير، اللذين ورد الكتاب بذمّهما، وجاءت السنة بالنهي عنهما، فمن كان سخيا سمّي كريما مستوجبا للحمد، ومن قصَّر عنه سمّي بخيلاً مستوجبا للذم. والسخيّ قريب من الله، قريب من خلقه، قريب من الجنة، بعيد من النار. والبخيل بعيد من الله، بعيد من خلقه، بعيد من الجنة، قريب من النار1. فجود الرجل يقرِّبه إلى أعدائه، وبخله يُبغضه إلى أولاده. فالكريم المتصدِّق يعطيه الله ما لا يُعطي البخيل الممسك، ويوسِّع عليه في ذاته وخُلُقِه ورزقِه ونفسِه وأسباب معيشته جزاءً له من جنس عمله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم نصيحة أيها المسلم: أنت أخ كريم، أنت مسلم عاقل، تؤمن   1 انظر: "الوابل الصيِّب" لابن القيِّم ص 76 82. 2 سورة الحشر، الآية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بالله واليوم الآخِر، وتحب ما ينفع، وتكره ما يضر، وتحب الحلال، وتكره الحرام. أسأل الله تعالى أن يكون كسبك حلالاً، ليكون عملك مقبولاً، ودعاؤك مستجابا. أخي المسلم: أذكِّرك أن المعاملة بالربا حرام، سواء عن طريق بيع الجنس بجنسه مع الزيادة في أحدهما، أو بغير جنسه مؤجَّلاً، أو غير مقبوض، أو بأن يقرضه قرضا مقابل منفعة، فكل قرض جرَّ نفعا فهو ربا، أو عن طريق البنوك بإيداعٍ فيها وأخذ فوائد ربويّة، أو بالاستقراض منها بفوائد ربوبيّة، أو عن طريق المدايَنة مثلاً: العشر اثنا عشر، أو أقل أو أكثر، أو بقلب الدين على المعسر الواجب إنظارُه، أو يقول: استدن مني وأوفِني، أو يبيع سلعة إلى أَجل ثم يشتريها بأقلّ منه نقدًا. فكلُّ هذه المعاملات من الربا المحرّم، الملعون فاعله، المتوعَّد عليه بأشد وعيد، لأن الربا من كبائر الذنوب، وقد أحلّ الله البيع وحرّم الربا. عن جابر رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكِل الربا وموكِله وكاتبه وشاهديْه، وقال، "هم سواء" " رواه مسلم وغيره. فاللعن معناه: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فكلُّ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يتعامل بالربا، وكل موظّف في بنك يتعامل بالربا، أو في متجر يتعامل بالربا؛ فإنه ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وآكِل الربا والمتعامِل به محارب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حارب الله فهو مهزوم، وهو مجرّب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك. لذا يجب على المسلم أن يتّقيَ الله في نفسه، وأن يبتعد عن المعاملات الربويّة، وعن جميع أنواع الحرام ومكاسبه وطرقه، وأن يتوب إلى الله تعالى قبل أن يموت، فيندم حين لا ينفعه الندم. اللهم تُب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمّن سواك. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. فائدة أما المعاملات المشروعة التي هي حلال ومباحه فهي البيع والشراء بصدق وأمانة، والقرض بدون فائدة، وبيع السلم بأن تدفع نقودًا بسلعة معلومة إلى أجل معلوم. ومن الجائز عند الجمهور أن تبيع سلعة بأكثر من ثمنها الحالي إلى أجل معلوم، وفي الحلال بركة وكفاية عن الحرام وبالله التوفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 طرق الكسب الحرام قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1 أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحترم ماله كما يحترم ماله، ولأنّ أكله لمال غيره يجرؤ غيره على أكل ماله عند القدرة. ولَمّا كان أكلها نوعين: نوع بحق، ونوع بباطل، وكان المحرّم إنما هو أكلها بالباطل، قيّده تعالى بذلك، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب، والسرقة، والخيانة في وديعة، أو عارية، أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضا أخذها على وجه المعاوَضة بمعاوضة محرّمة كعقود الربا والقمار. كلها فإنها من أكل المال بالباطل، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح. ويدخل في ذلك أخذها بسبب غِش في البيع والشراء ونحوها. ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أُجرة على عمل لم يقوموا بواجبه. ويدخل في ذلك أخذ   1 سورة البقرة، الآية: 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الأُجرة على العبادات والقُرُبات التي لا تصحّ حتى يقصد بها وجه الله تعالى. ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا لمن ليس له حقا منها أو فوق حقّه. فكلّ هذا ونحوه من أكل المال بالباطل، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه، حتى ولو حصل فيه النزاع والارتفاع إلى حاكم الشرع، وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة غلبت حجة المُحِقّ، وحكم له الحاكم بذلك، فإنّ حكم الحاكم لا يبيح محرَّما ولا يُحِلُّ حراما، وإنما يحكم على نحوٍ ممّا يسمع، وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ولا شبهة ولا استراحة، فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة وحُكِمَ له بذلك فإنه لا يحل له، ويكون آكِلاً لمال غيره بالباطل والإثم وهو عالم بذلك، فيكون أبلغ في عقوبته وأشدّ في نكاله. وعلى هذا فالوكيل إذا علِم أن موكِله مبطل في دعواه لم يحل له أن يخاصم عن الخائن، كما قال تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} 1 انتهى من تفسير ابن سِعدي2. لذا حرّم الله تناوُل الحرام من أي وجه كان، سواء كان رشوة، أو سرقة، أو ربا، أو غلولاً، أو من قمار،   1 سورة النساء، الآية: 105. 2 ج 1 ص 110 111 ط. 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أو غصب، أو اختلاس من وراء وظيفة، أو غش، أو قيمة شيء محرّم، أو أُجرته "كمهر البغيّ، وحُلوان الكاهن، وكثمن آلات اللهو، والصور المحرّمة، والكتب والمجلاّت والصحف المشتملة على الإلحاد أو الخلاعة، وكثمن الخمر والدخان، وكالأجرة على الرقص أو الغناء أو العزف، وعلى شهادة الزور، وما اقتطع بيمين كاذبة، أو أخذ بغير حق وإن كان حكم به القاضي، إلى غير ذلك من طرق الكسب الحرام. روى البخاري من حديث خَوْلة الأنصاريّة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة". وروى الطبراني وأبو نُعيم، عن زيد بن أرقم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ جسد نبت من سُحْت فالنار أولى به". وفي الحديث: "لا يدخل الجنّة جسد غُذِّي بالحرام". رواه الترمذي. وروى البيهقي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قَسَمَ بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه، ولا يكسب عبد مالاً حراما فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق منه فيُقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن" 1. وفي "صحيح مسلم" حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم "الرجل يطيل السفر، أشعث أَغْبَر، يَمُدُّ يديه إلى السماء: يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنّى يُستجاب لذلك". ومن المحرّمات: أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير والذهب للرجال، ومثل الاكتساب المحرم: كالربا، والميسر، وثمن ما لا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب، ونحو ذلك. قال العلماء رحمهم الله: "ويدخل في هذا الباب: المكّاس، والخائن، والسارق، وآكل الربا وموكِله، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، ومن استعار شيئا فجحده، وآكل الرشوة، ومنقص الكيل والوزن، ومن باع شيئا فيه عيب فغطّاه، والمقامِر، والساحر، والمنجِّم، والمصوِّر، والزانية، والنائحة، والدلاّل إذا أخذ أُجرته بغير إذن البائع" 2. وما سوى ذلك فهو حلال، مثل: أكل الطيِّبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام، وشرب الأشربة الطيِّبة، ولباس ما يُحتاج إليه من القطن والصوف وغيرهما ممّا أحلّ الله   1 انظر: "الإرشاد إلى طريق النجاة" ص 43 للشيخ عبد الرحمن الحمّاد العمر. 2 انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب ص 59. وكتاب "الكبائر" للذهبي ص 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذا إن اكتسابه بعقد صحيح، كالبيع، أو ميراث، أو هِبة، أو غنيمة. فالحلال بيِّن، والحرام بيِّن، والحلال ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرّمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أحل الله لنا الطيِّبات النافعة، وحرّم الخبائث الضارّة؛ رحمةً بنا، وإحسانا إلينا، وقد أنزل الله على نبيِّه الكتاب، وبيّن فيه للأمّة ما تحتاج إليه من حلال وحرام. كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} 1، وما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله له ولأمته الدين، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 2، فما ترك الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حلالاً إلا مبيّنا، ولا حراما إلا مبيّنا. فلله الحمد على ذلك. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. فائدة الحقوق المالية الواجبة لله تعالى أربعة أقسام: أحدها: حقوق المال، كالزكاة. فهذا يثبت في الذمة بعد   1 سورة النحل، الآية: 89. 2 سورة المائدة، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 التمكّن من أدائه، فلو عجز عنه بعد ذلك لم يسقط، ولم يثبت في الذمة إذا عجز عنه وقت الوجوب، وألحق بهذا زكاة الفطر. القسم الثاني: ما يجب بسبب الكفّارة، ككفارة الأيمان، والظِّهار، والوطء في نهار رمضان، وكفّارة القتل. فإذا عجز عنها وقت انعقاد أسبابها ففي ثبوتها في ذمّته إلى المَيْسَرة أو سقوطها قولان مشهوران في مذهب الشافعي وأحمد 1. القسم الثالث: ما فيه معنى ضمان المتلف، كجزاء الصيد. وألحق به: فدية الحلق والطيب واللِّباس في الإحرام، فإذا عجز عنه وقت وجوبه ثبت في ذمّته تغليبا لمعنى الغرامة، وجزاء المتلف، وهذا في الصيد ظاهر. وأما في الطيب وبابه فليس كذلك، لأنه ترفّه لا إتلاف، إذ الشعر والظفر ليسا بمتلفين، ولم تجب الفدية في إزالتها في مقابل الإتلاف، لأنها لو وجبت لكونها إتلافا لتقيّدت بالقيمة، ولا قيمة لها، وإنما هي من باب الترفّه المَحْض، كتغطية الرأس واللبس،   1 أحدهما وهو قول الجمهور: أن الكفّارة لا تسقط بالإعسار كدين الآدمي. والثاني: أنها تسقط لأن الله تعالى لا يكلِّف نفسا إلا وُسعها ولأن الواجبات تسقط بالعجز عنها ولعلّ هذا القول أولى. انظر: "نيل الأوطار" ج 4 ص 243. ولأنّ حقوق الله مبنيّة على المسامحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فأي إتلاف ههنا؟. وعلى هذا: فالراجح من الأقوال: أن الفدية في ذلك لا تجب مع النسيان والجهل. القسم الرابع: دم النسك، كالمتعة والقِرَان. فهذه إذا عجز عنها وجب عنها بدلها من الصيام. فإن عجز عنه ترتّب في ذمّته أحدهما، فمتى قدر عليه لزمه. وهل الاعتبار بحال الوُجوب أو بأغلظ الأحوال؟، فيه خلاف. وأما حقوق الآدميِّين فإنها لا تسقط بالعجز عنها، لكن إنْ كان عجزه بتفريط منه في أدائها طولِب بها في الآخرة، وأُخذ لأصحابها من حسناته، وإن كان عجزه من غير تفريط، كمن احترق ماله، أو غرق، أو كان الإتلاف خطأ، مع عجزه عن ضمانه. ففي إشغال ذمّته به وأخذ أصحابها من حسابه نظر. ولم أقف على كلام شافٍ للناس في ذلك. والله تعالى أعلم 1. فائدة كفّارة اليمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام. كما في سورة المائدة، آية رقم: 89.   1 نقلاً من "بدائع الفوائد" لابن القيم، (ج 4، ص33 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكفّارة الظِّهار: عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فلم يستطع فإطعام ستِّين مسكينا. كما في سورة المجادلة، آية: 3 4، وهي كفّارة الجماع في نهار رمضان. وكفّارة قتل الخطأ: عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. كما في سورة النساء، آية: 92. وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 التحذير من المعاملات الربوية من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفّقني الله وإياهم لكل خير. آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد كثُرت الدعايات للمساهمة في البنوك الربوية في الصحف المحليّة والأجنبيّة، وإغراء الناس بإيداع أموالهم فيها، مقابل فوائد ربويّة صريحة معلَنة، كل بحسب الفترة الزمنيّة التي يبقى فيها ماله مودَعا في ذلك البنك. ومن المعلوم من الدين بالضرورة: أن الفوائد التي يأخذها أرباب الأموال مقابل مساهمتهم، أو إيداعهم في تلك البنوك؛ حرامٌ سُحْت، وهي عين الربا الذي حرّمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كبائر الذنوب، ومما يمحق البركة، ويُفسد المال على صاحبه إذا خالطه، ويسبِّب عدم قَبول عمله. وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى طيِّب لا يقبل إلا طيِّبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} 1 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} 2 "ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطمعه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنّى يُستجاب له". رواه مسلم. وليعلم كل مسلم أنه مسئول أمام ربّه عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟. ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن شبابه فيم أبلاه؟، وعن عمره فيم أفناه؟، وعن ماله من أين جمعه وفيم أنفقه؟، وعن علمه ماذا عمل به؟ " 3. واعلم: أيها المسلم وفّقك الله: أن الربا كبيرة من كبائر الذنوب التي جاء تحريمها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بجميع أشكاله وأنواعه ومسمّياته. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4 وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي   1 سورة المؤمنون، الآية: 51. 2 سورة البقرة، الآية: 172. 3 رواه البزّار والطبراني بإسناد صحيح. 4 سورة آل عمران، الآية: 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} 1 وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} 2 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} 3 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبِقات" قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحْف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" 4. ومعنى "الموبقات": المُهْلكات. وقد عدّ الربا منهنّ. وقال صلى الله عليه وسلم: " الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها مثل أن   1 سورة الروم، الآية: 29. 2 سورة البقرة، الآية: 275 276. 3 سورة البقرة، الآية: 278 279. 4 رواه البخاري ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ينكح الرجل أمه" 1 وصحّ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكِل الرّبا وموكِله وكاتبه وشاهديْه، وقال: "هم سواء" 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مِثْلاً بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخِذ والمعطي فيه سواء" رواه مسلم. فهذه بعض الأدلة من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، تبيِّن تحريم الربا، وخطره على الفرد والأمة، وأن من تعامَل به وتعاطاه فقد أصبح محاربا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فنصيحتي لكل مسلم: أن يكتفي بما أباح الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكفّ عمّا حرّمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ففيما أباح الله كفاية وغنى عمّا حرّم، وألاّ يغترّ بكثرة بنوك الربا، وانتشار معاملاتها في كلِّ مكان، فإنّ كثيرًا من الناس لا يهتم بأحكام الإسلام، وإنما يهتمّ بما يدرّ عليه المال من أيّ طريق كان، وما ذلك إلا لضعف الإيمان، وقلّة الخوف من الله عزّ وجل، وغلبة حب الدنيا على القلوب. نسأل الله السلامة. وهذا الواقع المؤلِم من الكثير من المسلمين يوجِب على المؤسّسات الخاصّة والجهات الرسمية وخواصّ التجّار بأن يتعاونوا جميعا على تعزيز   1 رواه الحاكم وقال: (صحيح على شرط البخاري ومسلم. 2 رواه مسلم وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 المصارف الإسلاميّة، التي بدأت تظهر في بلاد المسلمين، وثبت نجاحها ولله الحمد، وأن يعمل الجميع على تحويل البنوك القائمة اليوم إلى بنوك إسلاميّة، تكون معاملاتها متمشِّية مع الشريعة الإسلاميّة، وخالية من الربا بجميع أنواع أشكاله وصوره. كما إني أوجِّه نصيحتي إلى المسئولين في الصحف المحليّة خاصّة وفي صحف البلاد الإسلاميّة عامّة: أن يطهِّروا صحافتهم من نشر كلِّ ما يخالف شرع الله في أيِّ مجال من مجالات الحياة، كما آمُل من الجهات المسئولة التأكيد على رؤساء الصحف بأن لا ينشروا شيئا فيه مخالفة لدين الله وشرعه. والله المسئول أن يوفِّق المسلمين عامّة ووُلاة أمورهم خاصّة للتمسّك بشرعه وتحكيم شريعته، وأن يأخذ بنواصيهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يجنِّبنا جميعا طريق المغضوب عليهم والضالين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 حكم البيع إلى أجل وبيع التورق والعينة والقرض بالفائدة 1 للشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه. أما بعد: فقد سُئِلت عن حكم بين كيس السكّر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالاً إلى أجل، وهو يساوي مبلغ مائة ريال نقدًا. والجواب عن ذلك: أن هذه المعاملة لا بأس بها، لأنّ بيع النقد غير بيع التأجيل، ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذّ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل، وظنّ ذلك من الربا، وهو قولٌ لا وجه له، وليس من الربا في شيء، لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجلٍ إنّما وافق على التأجيل من   1 انظر كتاب: "كلمات مختارة" للمؤلف ص 137 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أجل انتفاعه بالزيادة، والمشتري إنما رضيَ بالزيادة من أجل المُهْلَة وعجزه عن تسليم الثمن نقدًا، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على جواز ذلك، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهِّز جيشا، فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل. ثم إنّ هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 1، وهذه المعاملة من المدايَنات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة، وهي من جنس معاملة بيع السَّلَم، فإن البائع في السلم يبيع من ذمّته حبوبا أو غيرها ممّا يصحّ السلم فيه بثمن حاضر، أقلّ من الثمن الذي يُباع به المسلم فيه وقت السلم، لكون المسلّم فيه مؤجّلاً والثمن معجّلاً، فهو عكس المسألة المسؤول عنها. وهو جائز بالإجماع. وهو مثل البيع إلى أجلٍ في المعنى، والحاجة إليه ماسّة كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل، سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم، وتأخير تسليم الثمن في مسألة البيع   1 سورة البقرة، الآية: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 إلى أجل. لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكّر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه، وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها فهذه المعاملة تسمى مسألة "التورق"، ويسمِّيها بعض العامّة "الوعدة". وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين: أحدها: أنها ممنوعة أو مكروهة، لأنّ المقصود منها شراء دارهم بدارهم، وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة. والقول الثاني للعلماء: جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها، لأنه ليس كل أحد اشتدّت حاجته إلى النقد يجد من يُقْرِضه بدون ربا، ولدخولها في عموم قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع} 1، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} ، ولأنّ الأصل في الشرع حِلُّ جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة. وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد، فليس موجِبا لتحريمها ولا لكراهتها، لأن مقصود التُّجّار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل، والسلع   1 سورة البقرة، الآية: 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يُمنع مثل العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة، فإن ذلك يُتّخذ حيلةً على الربا. وصورة ذلك: أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة، ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه. فهذا ممنوع شرعا، لِمَا فيه من الحيلة على الربا، وتسمّى هذه المسألة: مسألة العينة، وقد ورد فيها من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما ما يدلّ على منعها 1. أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة: فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة، لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجلٍ، وباعها إلى آخر نقدًا من أجل حاجته للنقد، وليس في ذلك حيلة على الربا، لأن المشتري غير البائع. ولكنّ كثيرًا من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة؛ فبعضهم يبيع ما لا يملك، ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلّمها للمشتري، وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي. وكِلاَ الأمرين غير جائز، لِمَا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حِزام: "لا تبع ما ليس عندك" رواه الخمسة.   1 حديث عائشة رواه الدارقطني، وحديث ابن عمر رواه أحمد وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك"1، وقال عليه الصلاة والسلام: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيَه" 2، قال ابن عمر رضي الله عنهما: "كنا نشتري الطعام جزافا، فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا"3، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أيضا: أنه نهى أن تُباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رِحالهم. رواه أبو داود والدارقطني. ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتّضح لطالب الحق: أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها، بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها إلى ملكه. ويتضّح أيضا: أنّ ما يفعله كثيرٌ من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري، أو إلى السوق أمر لا يجوز، لِمَا فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولِمَا فيه من التلاعُب بالمعاملات وعدم التقيّد فيها بالشرع المطهّر. وفي ذلك من الفساد والشرور   1 رواه الخمسة وصحّحه الترمذي وابن خزيمة والحاكم. 2 رواه مسلم. 3 متّفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله. نسأل الله عز وجل لنا ولجميع المسلمين التوفيق للتمسّك بشرعه، والحذر ممّا يخالفه. أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربويّة فيه، فهي التي تُبذل لدائن بعد حلول الأجل ليمهل المدين ويُنظره، فهذه الزيادة هي التي كان يفعلها أهل الجاهلية، ويقولون للمدين قولهم المشهور: "إما أن تقضي، وإما أن تربي". وقد مَنَع الإسلام ذلك، وأنزل الله فيه قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 1، وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة، وعلى تحريم كل معاملة يُتوصّل بها إلى تحليل هذه الزيادة، مثل: أن يقول الدائن للمدين: اشتر مني سلعة من سُكّر أو غيره إلى أجل، ثم بِعْها بالنقد وأَوْفِني حقِّي الأول. فإن هذه المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي يتعاطاها أهل الجاهلية، لكن بطريق آخر غير طريقهم. فالواجب: تركها، والحذر منها، وإنظار المدين المعسر حتى يسهِّل الله له القضاء. كما أنّ الواجب على المدين المعسر: أن   1 سورة البقرة، الآية: 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يتّقي الله ويعمل الأسباب الممكنة المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين، ويبرئ به ذمّته من حقّ الدائنين. وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق فهو ظالم لأهل الحق، غير مؤدّ للأمانة، فهو في حكم الغني المماطل، وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَطْل الغني ظلم" 1، وقال عليه الصلاة والسلام: "لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" 2. والله المستعان. ومن المعاملات الربويّة أيضا: ما يفعله بعض البنوك وبعض التُجّار من الزيادة في القرض إما مطلقا، وإما في كلّ سنة شيئا معلوما. فالأول: مثل أن يقرضه ألفا على أن يردّ إليه ألفا ومائة، أو يُسكنه داره، أو دُكّانه، أو يعيره سيّارته، أو دابّته مدّة معلومة، أو ما أشبه ذلك من الزيادات. وأما الثاني: فهو أن يجعل له كل سنة أو كل شهر ربحا معلوما في مقابل استعماله المال الذي دفعه إليه المقرِض، سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة. فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرّف فيه كان قرضا   1 رواه البخاري ومسلم وغيرهما. 2 رواه البخاري تعليقا، والنسائي، وصحّحه ابن حبّان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 مضمونا، ولا يجوز أن يدفع إلى صاحبه شيئا من الربح إلا أن يتّفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك المال على وجه المضاربة بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما، والباقي للآخر. وهذا العقد يسمى أيضا القِراض، وهو جائز بالإجماع، لأنهما قد اشتركا في الربح والخسران، والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل، إذا تلِف من غير تعدّ ولا تفريط لم يضمنه، وليس له عن عمله إلا الجزء المشاع المعلوم من الربح المتّفق عليه في العقد. وبهذا تتّضح المعاملة الشرعية والمعاملة الربويّة. والله وليّ التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه1.   1 انظر: فتوى مفتي الديار السعودية السابق، الشيخ: محمد بن إبراهيم، بجواز مسألة التورق في مجلة "البحوث الإسلامية"، العدد السابع، ص 51. وانظر: "الإرشاد إلى معرفة الأحكام" لابن سِعدي، ص 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 نصيحة في النهي غن الربا للشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ... نصيحة في النهي عن الربا للشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله من محمد بن إبراهيم، إلى من يبلغه كتابي هذا من إخواننا المسلمين، وفّقنا الله وإيّاهم لقَبول النصائح، وجنّبنا وإيّاهم أسباب الندم والفضائح. آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالباعث لهذا الكتاب هو نصيحتكم والشفقة عليكم، وتحذيركم مما وقع فيه الكثير من الناس، وهو تعاطي المعاملات الربويّة والتعامل بها، وقد حرّم الله تبارك وتعالى على عباده ذلك، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السبع الموبِقات، قال الله تعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} 1، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في معنى الآية: "آكل الربا يبعث يوم القيامة يخنق"، رواه ابن أبي حاتم، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 2 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3 إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على التحريم والوعيد الشديد على مَنْ فعله. وقد جاءت السنة الصحيحة بالزَّجْر عنه والتحذير، وإيضاح ما أجمل منه بالبيان والتفسير: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول   1 سورة البقرة، الآيتان: 275 276. 2 سورة البقرة، الآيتان: 278 281. 3 سورة آل عمران، الآيتان: 130 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الله: وما هُنّ؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله آكِل الربا وموكِله وكاتبه وشاهديْه، وقال: "هم سواء" رواه مسلم. وعن سمُرة بن جُندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدّسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فردّه حيث كان، فجعل كما أراد أن يخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا" رواه البخاري في "صحيحه". وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشتري التمر حتى يطعم " وقال: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله" رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد. وفي حديث الإسراء أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 مرّ ليلة أُسريَ به، وإذا بقوم لهم أجواف مثل البيوت فسأل عنهم فقيل: هؤلاء أكلة الربا. رواه البيهقي. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإنّ أربى الربا عرض الرجل المسلم" رواه الحاكم وقال على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه. وروى أيضا عن أبي هريرة قال: "ليأتينّ على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ من المال بحلال أو حرام" رواه البخاري ولفظه: "لا يبالي المرء بما أخذ منه أمن الحلال أمن من الحرام". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز" رواه مالك والبخاري. وله: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أرْبى، الآخِذ والمعطي فيه سواء". وقال محمد بن نصر المروزي: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا روْح بن عبادة قال: حدثنا حبّان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 عبد الله العدوي وكان ثقة قال: سألت أبي مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عبّاس لا يرى به بأسا زمانا ما كان منه يدًا، فلقيه أبو سعيد الخدري فقال له: إلى متى!، ألا تتّقي الله حتى تؤكِّل الناس الربا، أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو عند زوجته أم سلمة: "إني لأشتهي تمرة عجوة" فبعث بصاعين فأُتي بصاع عجوة فقال: "من أين لكم هذا؟ " فأخبروه، فقال: "ردُّوه؛ التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدًا بيد، عينا بعين، مِثْلاً بمثل، من زاد فهو رباً" ثم قال: "وكذلك ما يُكال أو يوزن أيضا" فقال ابن عبّاس: جزاك الله خيرًا يا أبا سعيد، ذكّرتني أمرًا كنت نسيته، فأستغفرُ الله وأتوب إليه، قال: فكان ينهى عنه بعد. فتضمّنت هذه النصوص تحريم الربا بجميع أنواعه، وأنه من الكبائر، وأن متعاطيه محارب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فمن أنواعه: بيع الجنس من هذه الأجناس الستّة المتقدِّمة في الأحاديث ونحوها بجنسه نسيئة، أو غير معلوم المساوات للآخر، فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضُل، ويدخل في ذلك بيع الدارهم الفضيّة بجنسها متفاضلاً أو غائبا مطلقا، وبيع الأوراق السعودية بعضها ببعض، أو الريالات الفضّية متفاضلاً أو غائبا مطلقا. وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أنّ النبي صلى الله عليه وسلم فرّق بين الحلال والحرام بقوله: "مِثْلاً بمثل، يدًا بيد، سواءً بسواءٍ عينا بعين" وأكّد ذلك بقوله: "فمن زاد واستزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء". ومن أنواعه المحرّمة بإجماع المسلمين: ما يفعله بعض الناس والعياذ بالله، وذلك أنه إذا كان له على آخر دَيْنٍ وحلّ الأجل قال للذي عليه الحق: إما أن تقضي وإلا يبقى عندك بزيادة كذا وكذا. فهذا هو ربا الجاهلية. وذلك أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجّل فإذا حلّ الأجل قال له: "إما أن تقضي وإما تربي"، فإن وفّاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال. ومن ذلك: أن يعطي الرجل آخر ألفا على أن يأخذ منه بعد سنة ألفا ومائة. أو على أن يأخذ منه كل سنة مائة والألف في ذمّته بحاله كما يفعله كثير من الناس والعياذ بالله، وذلك لِمَا تقدّم من النصوص، ولِمَا روي عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، ولا الدينار بالدينارين، إني أخاف عليكم الرما" رواه الإمام أحمد، والرما هو: الربا. ومنها: بيع العينة الوارد في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 رواه أحمد وأبو داود. وهي: أن يبيع سلعة بنسيئة أو بقيمة لم تُقْبض، ثم يشتريها بثمن أقلّ ممّا باعها، فإن فعل بطل البيع الثاني ولو كان بعد حلول أجله، قال الشيخ تقي الدين: "إن قصد بالعقد الأول الثاني بطل الأول والثاني جميعا". ومن ذلك: ما يقع في البنوك. مثل: أن يقترض الرجل من البنك مائة على أن يدفع له مع المائة زيادة ستّة ريالات أو أقل أو أكثر. ومثل: أن يأخذ صاحب البنك من الرجل الدراهم ويعطيه ربحا عن بقائها في ذمّته خمسة ريالات أو أقل أو أكثر. وهذا من أظهر أنواع الربا، وعين المحادّة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فالواجب على وُلاة الأمور والعلماء وأهل الحسبة وفّقهم الله: بيان غلظ تحريم ذلك وإنكاره، وحسم موادّه واجتثاثها من أصولها، وعقوبة كل من ثبت عنه شيء من ذلك، وتغليظ العقوبة في حق من يتكرّر منه ذلك. كما أنّ على المرابي أن يتوب إلى الله تعالى وله رأس ماله فقط ولا يظلم، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالِّين ولا مضلِّين، سِلما لأوليائك حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك ونعادي بعدواتك من خالف أمرك. وصلى الله على نبيّنا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 من أحكام الفقه الإسلامي المداينة لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين الأستاذ بكلية الشرعية وأصول الدين بالقصيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبِعهم بإحسان، وسلّم تسلميا. أما بعد: فلمّا كان الدين الإسلامي دينا كاملاً شاملاً لِمَا يقوم به العباد تجاه ربهم من العبادات، وما يفعلونه في أنفسهم من العادات، وما يتعاملون به بينهم من المعاملات. وقد جاء مبيّنا لأحكام ذلك تفصيلاً وإجمالاً، وكان ممّا شاع بين الناس التعامل بالمداينة، وهي بيع الغائب بالناجز أو بالعكس، أو بيع الغائب بالغائب. أحببت أن أبيِّن أحكام بعض ذلك فيما يتأتّى فأقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المداينة أقسام القسم الأول: أن يحتاج إلى شراء سلعة وليس عنده ثمن حاضر ينقده، فيشتريها إلى أجل معلوم بثمن زائد على ثمنها الحاضر. فهذا جائز. مثل: أن يشتري بيتا ليسكنه أو يؤجِّره بعشرة آلاف إلى سنة، ويكون قيمته لو بيع نقدًا تسعة آلاف. أو يشتري سيّارة يركبها أو يؤجِّرها بعشرة آلاف إلى سنة، وقيمتها لو بيعت نقدًا تسعة آلاف، وهو داخل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 1. القسم الثاني: أن يشتري السلعة إلى أجل لقصد الاتّجار بها. مثل: أن يشتري قمحا بثمن مؤجّل زائد على ثمنه الحاضر ليتّجر به إلى بلد آخر، أو لينتظر به زيادة السوق، أو نحو ذلك، فهذا جائز أيضا، لدخوله في الآية السابقة. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله عن هذين القسمين: "أنهما جائزان بالكتاب والسنة والإجماع".   1 سورة البقرة؛ الآية: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ذكره ابن قاسم في "مجموع الفتاوى" "ص 449 ج 29" 1. القسم الثالث: أن يحتاج إلى دراهم فيأخذها من شخص بشيء في ذمّته. مثل: أن يقول لشخص أعطني خمسين ريالاً بخمسة وعشرين صاعا من البُرّ أسلِّمها لك بعد سنة. فهذا جائز أيضا. وهو السَّلم الذي ورد به الحديث الثابت في "الصحيحين" عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قدِم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلِّفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم". القسم الرابع: أن يكون محتاجا لدراهم فلا يجد من يقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجّل ثم يبيعها على صاحبها الذي اشتراها منه بثمن أقلّ منه نقدًا. فهذه هي مسألة العِينة، وهي حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، واتّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً لا يرفعه حتى   1 ولا فرق في أن يكون التأجيل إلى وقت واحد، أو أوقات متعددة، مثل أن يقول: بعته عليك بكذا على أن يحلّ من الثمن كل شهر كذا وكذا. الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 يرجعوا لدينهم" رواه أحمد وأبو داود. ولأنّ هذه حيلة ظاهرة على الربا، فإنه في الحقيقة بيع دراهم حاضرة بدراهم مؤجّلة أكثر منها دخلت بينهما سلعة، وقد نصّ الإمام أحمد وغيره على تحريمها. القسم الخامس: أن يحتاج إلى دراهم ولا يجد من يقرضه، فيشتري سلعة بثمن مؤجّل، ثم يبيع السلعة على شخص آخر غير الذي اشتراها منه. فهذه هي "مسألة التورُّق". وقد اختلف العلماء رحمهم الله في جوازها: فمنهم من قال: إنها جائزة. لأن الرجل يشتري السلعة ويكون غرضه إما عين السلعة وإما عوضها، وكلاهما غرض صحيح. ومن العلماء من قال: إنها لا تجوز. لأن الغرض منها هو أخذ دراهم بدراهم، ودخلت السلعة بينهما تحليلاً، وتحليل المحرّم بالوسائل التي لا يرتفع بها حصول المفسدة لا يغني شيئا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى" 1. والقول بتحريم مسألة التورق هذه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد. بل جعلها الإمام أحمد في رواية أبي داود من العينة كما نقله ابن القيِّم في "تهذيب السنن" "ص 108 ج 5".   1 رواه البخاري ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ولكن نظرًا لحاجة الناس اليوم وقلّة المقرضين ينبغي القول بالجواز بشروط: 1 أن يكون محتاجا إلى الدراهم، فإن لم يكن محتاجا فلا يجوز، كمن يلجأ إلى هذه الطريقة ليدين غيره. 2 أن لا يتمكّن من الحصول على المال بطرق أخرى مباحة كالقرض والسلم، فإن تمكّن من الحصول على المال بطريقة أخرى لم تجز هذه الطريقة، لأنه لا حاجة به إليها. 3 أن لا يشتمل العقد على ما يشبه صورة الربا، مثل أن يقول: بعتك إيّاها العشرة أحد عشر أو نحو ذلك، فإن اشتمل على ذلك فهو إما مكروه أو محرّم، نقل عن الإمام أحمد أنه قال في مثل هذا: "كأنه دراهم بدراهم، لا يصح" هذا كلام الإمام أحمد. وعليه: فالطريق الصحيح أن يعرف الدائن قيمة السلعة ومقدار ربحه، ثم يقول للمستدين: بعتك إيّاها بكذا وكذا إلى سنة. 4 أن لا يبيعها المستدين إلا بعد قبضها وحيازتها، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلع قبل أن يحوزها التجّار إلى رحالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فإذا تمّت هذه الشروط الأربعة فإنّ القول بجواز مسألة التورق متوجّه؛ كيلا يحصل تضييق على الناس. وليكن معلوما أنه لا يجوز أن يبيعها المستدين على الدائن بأقل ممّا اشتراها به بأيّ حال من الأحوال، لأنّ هذه مسألة العينة السابقة في القسم الرابع. القسم السادس: طريقة المداينة التي يستعملها كثير من الناس اليوم. وهي: أن يتّفق المستدين والدائن على أخذ دراهم العشرة أحد عشر أو أقل أو أكثر، ثم يذهبا إلى الدُكّان فيشتري الدائن منه مالاً بقدر الدراهم التي اتّفق والمستدين عليها، ثم يبيعه على المستدين، ثم يبيعه المستدين على صاحب الدُكّان بعد أن يخصم عليه شيئا من المال يسمّونه السعي. وهذا حرام بلا ريب. وقد نصّ شيخ الإسلام ابن تيمية في عدّة مواضع على تحريمه، ولم يحكِ فيه خلافا، مع أنه حكى الخلاف في مسألة التورق. والمواضع التي ذكر فيها شيخ الإسلام تحريم هذه المسألة هي:   1 يقول في "ص 74 من المجلّد 28": "والثلاثيّة مثل أن يدخلا بينهما محلّلاً للربا، يشتري السلعة منه آكل الربا ثم يبيعها المعطي للربا إلى أجل، ثم يعيدها إلى صاحبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بنقص دراهم يستفيد المحلّل. وهذه المعاملات منها ما هو حرام بإجماع المسلمين مثل التي يجري فيها شرط لذلك، أو التي يباع فيها المبيع قبل القبض الشرعي، أو بغير الشروط الشرعية، أو يقلب فيها الدين على المعسر. ومن هذه المعاملات ما تنازع فيها بعض العلماء لكن الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أنها حرام". 2 وفي "ص 437 مجلّد 29" قال: "وقول القائل لغيره: أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام" إلى أن قال: "وبكلّ حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل؛ هي معاملة فاسدة ربوبيّة". 3 وفي "ص 439 من المجلّد 29" المذكور قال: "أما إذا كان قصد الطالب أخذ دراهم بأكثر منها إلى أجل، والمعطي يقصد إعطاء ذلك، فهذا ربا لا ريب في تحريمه، وإن تحايلا على ذلك بأيّ طريق كان، فإنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى". وذكر نحو هذا في "ص 430" و"ص 433" و "ص 441" من المجلّد المذكور، وذكر نحوه في كتاب "إبطال التحليل" في "ص 109". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وبعد: فإنّ تحريم هذه المداينة التي ذكرنا صورتها في أوّل هذا القسم لا يمتري فيه شخص تجرّد عن الهوى وعن الشحّ، وذلك من وجوه: الوجه الأول: أن مقصود كلٍّ من الدائن والمدين دراهم بدراهم، ولذلك يقدّران المبلغ بالدراهم والكسب بالدراهم قبل أن يعرفا السلعة التي يكون التحليل بها، لأنهما يتّفقان أولاً على دراهم: العشرة كذا وكذا، ثم يأتيان إلى صاحب الدُكّان، فيشتري الدائن أيّ جنس وجده من المال، فربما يكون عنده سكّر، أو خام، أو رز، أو هيل، أو غير ذلك، فيشتري الدائن ما وجد ويأخذه المستدين، وبهذا عُلم أن القصد الدراهم بالدراهم، وأن السلعة غير مقصودة للطرفين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى" متّفق عليه. ويدلّ على ذلك: أن الدائن والمستدين كلاهما لا يقلبان السلعة ولا ينظران فيها نظر المشتري الراغب، وربما كانت معيبة أو تالفاً منها ما كان غائبا عن نظرهما مما يلي الأرض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أو الجدار المركونة إليه، وهما لا يعلمان ذلك ولا يباليان به. إذن فالبيع بيعٌ صوري لا حقيقي، والصور لا تغيِّر الحقائق ولا ترتفع بها الأحكام. ولقد حدث أنه إذا لم يكف المال الموجود عند صاحب الدُكّان للدراهم التي يريدها المستدين فإنهم يعيدون هذا البيع الصوري على نفس المال، وفي نفس الوقت، فإذا أخذه صاحب الدُكّان من المستدين باعه مرّة أخرى على الدائن، ثم باعه الدائن على المستدين بالربح الذي اتّفقا عليه من قبل، ثم باعه المستدين على صاحب الدُكّان، فيرجع الدائن مرّة أخرى فيشتريه من صاحب الدُكّان، ثم يبيعه على المستدين بالربح الذي اتّفقا عليه. وهكذا أبدًا حتى تنتهي الدراهم، فربما يكون المال الذي عند صاحب الدُكّان لا يساوي عشر مبلغ الدراهم المطلوبة، ولكن بهذه الألعوبة يبلغون مرادهم، والله المستعان. الوجه الثاني: مما يدلّ على تحريم هذه المداينة: أنه إذا كان مقصود الدائن والمدين هي الدراهم، فإن ذلك حيلة على الربا بطريقة لا يرتفع بها مقصود الربا، والتحايُل على محارم الله تعالى جامع بين مفسدتين؛ مفسدة المحرم التي لم ترتفع بتلك الحيلة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ومفسدة الخِداع والمكر في أحكام وآيات الله تعالى، الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور} . ولقد أخبر الله عن المخادعين له بأنهم يخادعون الله وهو خادعهم، وذلك بما زيّنه في قلوبهم من الاستمرار في خداعهم ومكرهم، فهم يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين. قال أيوب السِّخْتِياني: "يخادعون الله كما يخدعون الصبيان، ولو أتوا بالأمر على وجهه لكان أهون". ولقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمّته من التحايُل على محارم الله فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحِيَل"1. وقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله اليهود، حرِّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" 2. الوجه الثالث: أن هذه المعاملة يربح فيها الدائن على المستدين قبل أن يشتري السلعة، بل يربح عليه في سلعة لم يعرفا نوعها وجنسها فيربح في شيء لم يدخل في ضمانه، وقد نهى   1 قال ابن تيمية: رواه أبو عبد الله بن بطّة وقال: هذا إسناد جيّد. 2 رواه أحمد وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن1 وقال: "الخراج بالضمان" 2، وقال: "لا تَبِعْ ما ليس عندك" 3. وهذا كله بعد التسليم بأن البيع الذي يحصل في المداينة بيع صحيح، فإنّ الحقيقة أنه ليس بيعا حقيقيا، وإنما هو صوري، بدليل أن المشتري لا يقلبه ولا ينظر فيه ولا يماكِس في القيمة، بل لو بيع عليه بأكثر من قيمته لم يبال بذلك. الوجه الرابع: أنّ هذه المعاملة تتضمّن بيع السلعة المشتراة قبل حيازتها إلى محل المشتري ونقلها عن محل البائع. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلع حيث تشترى حتى يحوزها التجّار إلى رحالهم. فعن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التُجّار إلى رحالهم. رواه أبو داود. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانوا يتبايعون   1 رواه أحمد وأهل السنن وصحّحه الترمذي وغيره. 2 رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره. 3 رواه أحمد وأهل السنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الطعام جزافا بأعلى السوق، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه. رواه الجماعة إلاّ الترمذي وابن ماجه. القسم السابع: من طريقة المداينة: أن يكون في ذمّة شخص لآخر دراهم مؤجّلة، فيحلّ أجلها وليس عنده ما يوفِّيه، فيقول له صاحب الدين: أدينك فتوفِّيني، فيدينه فيوفِّيه، وهذا من الربا، بل هو ممّا قال الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1. وهذا القسم من المداينة من أعمال الجاهليّة، حيث كان أحدُهم يقول للمدين إذا حلّ الدين: "إما أن توفي وإما أن تُربي"، إلا أنهم في الجاهليّة يضيفون الربا إلى الدين صراحة من غير عمل حيلة، وهؤلاء يضيفون الربا إلى الدين بالحيلة. والواجب على صاحب الدين إذا حلّ دينه: إنظار المدين إذا كان معسرًا، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 2 أما إذا أبراه من الدين فذلك خيرٌ وأفضل. أما إنْ كان   1 سورة آل عمران، الآيتان: 130 132. 2 سورة البقرة، الآية: 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 المدين موسِرًا فإن للدائن إجباره على الأداء، لأنه يحرُم على المدين حينئذ أن يماطِل ويدافع صاحب الدين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الغني ظلم" 1. ومن المعلوم أن الظلم حرام يجب منع فاعله وإلزامه بما يزيل الظلم. القسم الثامن: من المداينة أن يكون لشخص على آخر دين، فإذا حلّ قال له: إما أن توفي دينك أو تذهب لفلان يدينك وتوفيني، ويكون الدائن الأوّل والثاني اتّفاق مسبقا في أنّ كل واحد منهما يدين غريم صاحبه ليوفيه، ثم يعيد الدين عليه مرّة أخرى ليوفي الدائن الجديد. أو يقول: اذهب إلى فلان لتستقرض منه وتوفيني، ويكون بين الدائن الأول والمقرض اتّفاق أو شبه اتّفاق على أن يقرض المدين، فإذا أوفى الدائن الأول قلب عليه الدين، ثم أوفى المقرض ما اقترض منه. وهذه حيلة لقلب الدين بطريق ثلاثيّة، وهي حرام لِمَا تقدّم من تحريم الحِيَل، وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمّته من ذلك 2.   1 متّفق عليه. 2 كما في الحديث المتقدّم ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 خلاصة ما تقدّم وبعد: فهذه ثمانية أقسام من أقسام المداينة؛ بعضها حلال جائز، فيه الخير والبركة، وبعضها حرام ممنوع، ليس فيه إلى الشر والخسارة ونزع البركة، ولو لم يكن فيه إلا أنه يزين لصاحبه سوء عمله فيستمرّ فيه ولا يرى أنه على باطل، فيكون داخلاً في قول الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاء} 1 وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 2. فالحلال من هذه الأقسام: 1 أن يحتاج الشخص إلى سلعة أو عقار فيشتريه بثمن مؤجّل لقضاء حاجته. 2 أن يشتري السلعة أو العقار بثمن مؤجّل للاتّجار به وانتظار زيادة السعر.   1 سورة فاطر، الآية: 8. 2 سورة الكهف، الآيتان: 103 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 3 أن يحتاج إلى دارهم فيأخذها من شخص بسلعة يكتبها الآخِذ في ذمّته. وهذه الأقسام الثلاثة جائزة بلا ريب وسبق تفصيلها. والحرام من الأقسام الأخرى: 1 أن يحتاج إلى دارهم فلا يجد من يقرضه فيشتري سلعة من شخص بثمن مؤجّل زائد على قيمتها الحاضرة ثم يبيعها على غيره، وهذه مسألة التورّق في جوازها "خلاف بين العلماء" كما تقدّم. 2 أن يحتاج إلى دارهم ولا يجد من يقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجّل، ثم يبيعها عليه بأقل مما اشتراها به، وهذه مسألة العِيْنَة. 3 أن يتّفق الدائن والمدين على أخذ الدراهم العشرة أحد عشرة أو نحو ذلك، ثم يذهب إلى ثالث فيشتري الدائن منه سلعة هو في الحقيقة شراء صوري، ثم يبيعها على المدين، ثم يبيعها المدين بدوره على الذي أخذها الدائن منه. وهذه طريقة المداينة التي يستعملها الآن كثيرٌ من الناس وهي حرام كما سبق عن شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يذكر خلافا في تحريمها كما ذكر في مسألة التورق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 4 أن يكون لشخص على آخر دين مؤجّل فيحل أجله وليس عنه ما يوفِّيه، فيقول صاحب الدين: أدينك وتوفِّيني فيدينه فيوفِّيه. وهذه طريقة أهل الجاهلية التي تتضمّن أكل الربا أضعافا مضافة إلا أنها صريحة في الجاهلية خديعة في هذا الزمان ففيها مفسدتان. 5 أن يكون لشخص على آخر دين مؤجّل فيحلّ أجله ويكون لصاحب الدين صاحب يتّفق معه على أن يقرض المدين أو يدينه ليوفّي الدائن ثم يقلِّب عليه الدين مرّة أخرى. وهذه طريقة الجاهلية مع إدخال الطرف الثالث المشارِك في الإثم والعدوان والمكر والخداع. فهذه الأقسام الخمسة محرّمة، وقد علمت ما في القسم الأول منها من الخلاف. واعلم: أنّ الدَّيْن في اصطلاح أهل الشرع: اسمٌ لِمَا ثبت في الذمّة، سواء كان ثمن مبيع أو قرضا أو أجرة أو صَداقا أو عِوَضا لخلع أو قيمة لمتلف أو غير ذلك، وليس كما يظنّه كثيرٌ من العوامّ من أنّ المداينة هي التي يستعملونها، ويستدلّون عليها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 1 فإنّ المراد به هو   1 سورة البقرة، الآية: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الدين الحلال الذي بيّن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حِلّه دون الدين الحرام، هذا كثيرٌ في نصوص الكتاب والسنة تأتي مطلَقة أو عامّة في بعض المواضع، ولكن يجب أن تخصّص أو تقيّد بما دلّ على التخصيص والتقييد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 خاتمة ولنختم هذا البحث بما ورد في الكتاب والسنة من تحريم الربا والتشديد فيه: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه} 1. ففي هذه الآية تهديد شديد، ووعيد أكيد لمن لم يترك الربا، وذلك بمحاربته لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأي ذنب في المعاملة أعظم من ذنب يكون فيه فاعله محاربا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بعض السلف: "من كان مقيما على الربا لا يتوب منه كان على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه". وفي قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أنّ آكِل الربا لو كان مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حقّ الإيمان، راجيا ثواب الله في الآخرة، خائفا من عقابه؛ لَمَا استمرّ على أكل الربا، والعياذ بالله تعالى. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا   1 سورة البقرة، الآيتان: 287 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. ففي هذه الآية وصف آكِلي الربا بأنهم يقومون من قبورهم يوم القيامة أمام العالم كلهم كما يقول الذي يتخبّطه الشيطان من المس؛ يعني: كالمصروعين الذين تصرعهم الشياطين وتخنقهم. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "آكِل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يُخْنَق"، ثم بيّن الله ما وقع لهم من الشبهة التي أعمت بصائرهم عن التمييز بين الحق والباطل فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} ، وهذا يحتمل أنهم قالوه لشبهة وقعت لهم، وتأويل فاسد لجئوا إليه كما يحتجّ أهل الحيل على الربا، ويحتمل أنهم قالوا ذلك عنادًا وجحودًا. وعلى كِلاَ الاحتمالين فإنّ هذا يدلّ على أنهم مستمرّون في باطلهم، منهمكون في أكلهم الربا، مجادِلون بالباطل ليدحضوا به الحق. نعوذ بالله من ذلك.   1 سورة البقرة، الآية: 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1. ففي هذه الآيات: نهى الله عباده المؤمنين بوصفهم مؤمنين عن أكل الربا، ثم حذّرهم من نفسه في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ، ثم حذّرهم النار التي أُعدّت للكافرين، وبيّن أن تقواه وطاعته سببٌ للفلاح والرحمة: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وهذا كله دليل على تعظيم شأن الربا، وأنه سبب لعذاب الله تعالى ودخول النار، والعياذ بالله تعالى من ذلك. وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه} 3. {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} 4.   1 سورة آل عمران، الآيات: 130 132. 2 سورة النور، الآية: 63. 3 سورة الروم، الآية: 39. 4 سورة البقرة، الآية: 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فالربا لا يربو عند الله ولا يزداد صاحبه به قُربة عند ربه، فإنه مال مكتسب بطريق حرام، فلا خير فيه ولا بركة، ولو أن صاحبه تصدّق به لم يُقبل منه، إلا إذا كان تائبا إلى الله تعالى من ذلك الذنب الكبير، فيتصدّق به للخروج من تبِعته عند عدم معرفته لأصحابه، وبذلك يكون بارئا منه. أما إن تصدّق به لنفسه فإنه لا يُقبل منه، لأنه لا يربو عند الله، بينما الصدقات المقبولة تربو عند الله، وإن أنفقه لم يبارك الله له فيه لأن الله يمحقه أو يمحق بركته، فلا خير ولا بركة في الربا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبِقات". وذكر منها الربا. متّفق عليه. وعن سمُرة بن جُندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدّسة، حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى شطّ النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فمه فردّه حيث كان، فجعل كلما أراد أن يخرج رمى في فمه بحجر فيرجع كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 كان. فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟، قال: آكِل الربا" "رواه البخاري". وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكِل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء". رواه مسلم وغيره. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه". رواه الطبراني، وله شواهد. وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من الربا وبيان تحريمه، وأنه من كبائر الذنوب وعظائمها، فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من هذا الأمر العظيم، وليتب إلى الله تعالى قبل فوات الأوان وانتقاله عن المال، وانتقال المال إلى غيره، فيكون عليه إثمه وغُرمه، ولغيره كسبه وغُنمه. وليحذر من التحيّل عليه بأنواع الحيل، لأنه إذا تحيّل فإنما يتحيّل على من يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، ولن تفيده هذه الحيل لأن الصور لا تغيِّر الحقائق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "إبطال التحليل" "ص 108": ". فيا سبحان الله العظيم!، أيعود الربا الذي قد عظّم الله شأنه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 القرآن، وأوْجب محاربة مستحلّه، ولعن أهل الكتاب بأخذه، ولعن آكله وموكِله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلاً، إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها. أم يستحسن مؤمن أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرِّم هذه المحارم العظيمة، ثم يبيحها بنوع من العبث والهزل الذي لم يقصد، ولم يكن له حقيقة، وليس فيه مقصود للمتعاقدين قط". وقال في "ص 137": ". وكلما كان المرء أفقه في الدين وأبصر بمحاسنه كان فراره من الحِيَل أشد". قال: "وأظن كثيرًا من الحيل إنما استحلها من لم يفقه حكمة الشارع، ولم يكن له بُد من التزام ظاهر الحكم، فأقام رسم الدين دون حقيقته، ولو هدي إلى رشده لسلّم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأطاع الله ظاهرًا وباطنا في كلِّ أمره". أسأل الله تعالى أن يوقظ بمنّه وكرمه عباده المؤمنين من هذه الغفلة العظيمة، وأن يقيهم شُحّ أنفسهم، ويهديهم صراطه المستقيم، إنه جواد كريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 1.   1 انظر: "بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين" للمؤلف من صفحة: 277 إلى صفحة: 309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67