الكتاب: علم الجرح والتعديل المؤلف: عبد المنعم السيد نجم الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة الثانية عشرة - العدد الأول - محرم صفر ربيع أول 1400هـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- علم الجرح والتعديل عبد المنعم السيد نجم الكتاب: علم الجرح والتعديل المؤلف: عبد المنعم السيد نجم الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة الثانية عشرة - العدد الأول - محرم صفر ربيع أول 1400هـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] علم الْجرْح وَالتَّعْدِيل: لفضيلة الدكتور/ عبد الْمُنعم السَّيِّد نجم. الْأُسْتَاذ المشارك وَرَئِيس قسم عُلُوم الحَدِيث بالجامعة الإسلامية. علم الْجرْح وَالتَّعْدِيل: من الْمَعْلُوم لَدَى الْمُسلمين جَمِيعًا أَن السّنة المشرفة هِيَ مصدر دينهم بعد كتاب رَبهم وَهِي منَاط عزهم ولولاها مَا رَاح مُسلم وَلَا جَاءَ. وَقد تكفلت بِبَيَان الْقُرْآن وإبراز محتواه إِلَى النَّاس لِأَن الَّذِي تحدث بهَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِالْقُرْآنِ من عِنْد الله وَهُوَ أدرى بِهِ، وَعَلِيهِ فَالسنة هِيَ الأَصْل الثَّانِي للشريعة وَالْقُرْآن هُوَ الأَصْل الأول كَمَا تقدم، ومنكر الأَصْل الثَّانِي مُنكر للْأَصْل الأول لِأَنَّهُ أَمر بِالْأَخْذِ بِالثَّانِي وبإنكاره يكون قد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه. وَلما كَانَت السّنة بِهَذِهِ الأهمية أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحفظها وتبليغها على وَجههَا كَمَا سَمِعت وَنهى عَن الْكَذِب فِي الْأَخْبَار عَنهُ وتوعد فَاعله مقْعدا فِي النَّار وَلِأَن نِسْبَة الْخَبَر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شرع يعْمل بِهِ وَكذب عَلَيْهِ لَيْسَ ككذب على غَيره، وَمن هُنَا قَامَ جمَاعَة من الْأَئِمَّة بحفظها فِي الصُّدُور وتدوينها فِي السطور وَقَطعُوا فِي سَبِيل ذَلِك الفيافي والقفار وواصلوا اللَّيْل بِالنَّهَارِ واعتبروا ذَلِك من أوجب الْوَاجِبَات عَلَيْهِم، وعَلى قَاعِدَة الْحِفْظ والتبليغ مَعَ الْأَمَانَة والصدق والبعد عَن الْكَذِب الْمشَار إِلَيْهَا حرص الْعلمَاء على الْوُقُوف على أَحْوَال الروَاة بالبحث عَن مواليدهم وأسمائهم وَكُنَاهُمْ وألقابهم وبلدانهم ورحلاتهم وأمانتهم وثقتهم وعدالتهم وضبطهم وَغير ذَلِك من كذب أَو غَفلَة أَو عِلّة أَو نِسْيَان وَمَا إِلَى ذَلِك وَوَضَعُوا كل وَاحِد مِنْهُم مادام قد تصدى للرواية فِي سجل يجمع كل هَذَا حَتَّى يعرف من كَانَ من أهل الشَّأْن من غَيره. وَمن هُنَا نَشأ علم الْجرْح وَالتَّعْدِيل أَو علم فحص الرِّجَال أَو علم ميزَان أَو معيار الروَاة.. وَقَامَ جمَاعَة من الْأَئِمَّة بِهَذِهِ المهمة الجليلة الَّتِي سنّهَا لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَشى عَلَيْهَا الصَّحَابَة عَلَيْهِم الرضْوَان، وَعلم الْجرْح وَالتَّعْدِيل علم جليل الْقدر من أجل الْعُلُوم الَّتِي نشأت بنشأة حفظ السّنة وتدوينها بعيدَة عَن الْخلَل والزيف. وَهُوَ علم لَا نَعْرِف لَهُ نَظِير فِي تَارِيخ الْأُمَم الْأُخْرَى. واستطاع الْعلمَاء بِهَذَا الْعلم الْوُقُوف على أَحْوَال الروَاة وميزوا بَين الصَّحِيح وَغَيره من الْأَخْبَار، فجندوا أنفسهم لاختبار من يعاصرونهم من الروَاة وَلم يكتفوا بذلك بل ويسألونهم عَن السَّابِقين مِمَّن لم يعاصروهم ويعلنوا رَأْيهمْ فيهم دون تحرج ومأثم إِذْ كَانَ ذَلِك ذبا عَن دين الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَقد قيل لأبي عبد الله البُخَارِيّ إِن بعض النَّاس ينقمون عَلَيْك التَّارِيخ يَقُولُونَ فِيهِ اغتياب النَّاس فَقَالَ: "لَا إِنَّمَا روينَا ذَلِك رِوَايَة وَلم نَقله من عِنْد أَنْفُسنَا وَقد قَالَ صلى اللَه عَلَيْهِ وَسلم: "بئس أَخُو الْعَشِيرَة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 تَعْرِيف علم الْجرْح وَالتَّعْدِيل: الْجرْح: بِفَتْح الْجِيم مصدر جرح كمنع وَهُوَ فِي اللُّغَة التَّأْثِير فِي الْجِسْم بِالسَّيْفِ وَنَحْوه، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل بِالْفَتْح فِي الْمعَانِي والأعراض بِاللِّسَانِ. وَأما الْجرْح بِالضَّمِّ فَهُوَ الِاسْم وَأكْثر اسْتِعْمَاله بِالضَّمِّ فِي الْأَبدَان بالحديد وَنَحْوه وهما فِي اللُّغَة بِمَعْنى وَاحِد يُقَال فلَان جرح فلَانا أَي سبه وَشَتمه وجرح الْحَاكِم الشَّاهِد أسقط عَدَالَته وَذَلِكَ مجَاز وَيُقَال: جرح الرجل، أَصَابَته جراحه يَقُول مجد الدّين بن الْأَثِير: وَمِنْه حَدِيث بعض التَّابِعين "كثرت هَذِه الْأَحَادِيث واستجرحت" أَي فَسدتْ وَقل صَلَاحهَا وَهُوَ استفعل، من جرح الشَّاهِد إِذا طعن فِيهِ ورد قَوْله، أَرَادَ أَن الْأَحَادِيث كثرت حَتَّى أحوجت أهل الْعلم بهَا إِلَى جرح بعض رواتها ورد رِوَايَته.. وجرح بتَشْديد الرَّاء تجريحا أَكثر ذَلِك فِيهِ. وَالْجرْح فِي الِاصْطِلَاح: رد الْحَافِظ المتقن رِوَايَة الرَّاوِي لعِلَّة قادحة فِيهِ أَو فِي رِوَايَته من فسق أَو تَدْلِيس أَو كذب أَو شذوذ أَو نَحْوهَا. ويلاحظ فِي التَّعْرِيف أَنه اشْترط فِيمَن يرد رِوَايَة الرَّاوِي أَن يكون حَافِظًا متقنا وَهنا يرد بِهِ على الْبَعْض الَّذين يقحمون أنفسهم فِي غير مجالهم وتخصصهم ويطعنون فِي بعض الروَاة وَالرِّوَايَات وَإِلَيْك تَحْدِيد الْحَافِظ الَّذِي يملك حق الرَّد وَالْجرْح، قَالَ جمال الدّين الْمزي:- حينما سُئِلَ عَن حد الْحِفْظ الَّذِي إِذا انْتهى إِلَيْهِ الرجل جَازَ أَن يُطلق عَلَيْهِ الْحَافِظ قَالَ: "أقل مَا يكون أَن يكون الرِّجَال الَّذين يعرفهُمْ وَيعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أَكثر من الَّذين لَا يعرفهُمْ ليَكُون الحكم للْغَالِب.." وَقَالَ الشَّيْخ فتح الدّين بن سيد النَّاس: "وَأما الْمُحدث فِي عصرنا فَهُوَ من اشْتغل بِالْحَدِيثِ رِوَايَة ودراية وَجمع رُوَاة واطلع على كثير من الروَاة وَالرِّوَايَات فِي عصره وتميز فِي ذَلِك حَتَّى عرف فِيهِ خطه واشتهر فِيهِ ضَبطه، فَإِن توسع فِي ذَلِك حَتَّى عرف شُيُوخه وشيوخ شُيُوخه طبقَة بعد طبقَة بِحَيْثُ يكون مَا يعرفهُمْ من كل طبقَة أَكثر مِمَّا يجهله مِنْهَا فَهَذَا هُوَ الْحَافِظ". وَمَا يحْكى عَن بعض الْمُتَقَدِّمين من قَوْلهم: "كُنَّا لَا نعد صَاحب حَدِيث من لم يكْتب عشْرين ألف حَدِيث فِي الْإِمْلَاء". معنى الْحِفْظ: للْعُلَمَاء اصْطِلَاحَات وألفاظ فِي معنى الْحِفْظ.. قَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: "الْحِفْظ الإتقان.." وَقَالَ أَبُو زرعه: "الإتقان أَكثر من حفظ السرد"، وَقَالَ غَيره: "الْحِفْظ الْمعرفَة". قدر الْحَافِظ: عين أَئِمَّة الشَّأْن قدرا من الْأَحَادِيث إِذا حفظهَا الرَّاوِي صَار حَافِظًا وَمِمَّا رُوِيَ فِي قدر حفظ الْحَافِظ قَول أَحْمد بن حَنْبَل: "انتقيت الْمسند من سَبْعمِائة ألف حَدِيث وَخمسين ألف حَدِيث" وَقَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: "كَانَ أَحْمد ابْن حَنْبَل يحفظ ألف حَدِيث قيل لَهُ وَمَا يدْريك قَالَ ذاكرته فَأخذت عَلَيْهِ الْأَبْوَاب.." وَيَقُول يحي بن معِين: "كتبت بيَدي ألف ألف حَدِيث". وَيَقُول البُخَارِيّ: "أحفظ مائَة ألف حَدِيث صَحِيح ومائتي ألف حَدِيث غير صَحِيح.." وَيَقُول مُسلم بن الْحجَّاج: "صنفت هَذَا الْمسند الصَّحِيح من ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث مسموعة" وَيَقُول أَبُو دَاوُد السجسْتانِي: "كتبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسمِائَة ألف حَدِيث انتخبت مِنْهَا مَا ضمنته كتاب السّنَن أَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حَدِيث" وَقَالَ أَبُو زرْعَة: "أحفظ مائَة ألف حَدِيث كَمَا يحفظ الْإِنْسَان سُورَة قل هُوَ الله أحد. وَفِي المذاكرة ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث.." وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: "مَا كتبت سَوْدَاء فِي بَيْضَاء إِلَى يومي هَذَا وَلَا حَدثنِي رجل بِحَدِيث قطّ إِلَّا حفظته.." وَيَقُول إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: "أعرف مَكَان مائَة ألف حَدِيث كَأَنِّي أنظر إِلَيْهَا، وأحفظ سبعين ألف حَدِيث عَن ظهر قلب" وَقَالَ يزِيد ابْن هَارُون: "أحفظ خمسه وَعشْرين ألف حَدِيث بِإِسْنَادِهِ وَلَا فَخر وأحفظ للشاميين عشْرين ألف حَدِيث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَهُنَاكَ الْكثير من الْحفاظ غير مَا ذكرت مِمَّن يحفظون الْكثير وبمثل هَذَا الْحِفْظ يَسْتَطِيع الرَّاوِي أَن يعرف الْأَسَانِيد سَوَاء كَانَت للشاميين أَو للمصريين أَو للبصريين أَو الْمَدَنِيين أَو الخراسانيين وَمَا إِلَى ذَلِك مهما اخْتلفت، ويميز طَرِيق كل حَدِيث عَن غَيره وتصبح الرِّوَايَات والرواة مهما تَبَاعَدت الْبلدَانِ فِي حفظه وَبَين يَدَيْهِ وَيفرق بَين الصَّحِيح والسقيم مِنْهَا وَلَا يَسْتَطِيع دخيل أَن يندس بَين راوة الحَدِيث لِأَنَّهُ يعرف الروَاة بأعيانهم وأحوالهم وَلَا تخفى عِلّة عَلَيْهِ، وَعمل البُخَارِيّ مَعَ الَّذين آتوا بِمِائَة حَدِيث مَعَ عشرَة أشخاص مَقْلُوبَة السَّنَد والمتن ليختبروه فَلَمَّا سَمعهَا على الْحَالة الْمَذْكُورَة رد كل حَدِيث إِلَى سَنَده، وكل سَنَد إِلَى حَدِيثه، وَمَا ذَلِك إِلَّا لحفظه وتمكنه ومعرفته بتركيب الْأَسَانِيد والمتون، أما مَا يَفْعَله الْبَعْض من الجهلة والزنادقة من التطاول على سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتعدي على المصنفات الحديثية الْمُعْتَمدَة ونقدها من غير حفظ وَلَا اطلَاع على فن الحَدِيث وعلومه ففعلهم مرض فِي قُلُوبهم وحقد على مصدر الْإِسْلَام وَبعد عَن الدّين وَاتِّبَاع للشَّيْطَان حَيْثُ قَامَ على غير أساس، وَلَو سَأَلت الْوَاحِد مِنْهُم كم يحفظ من الْأَحَادِيث بأسانيدها لأجابك بِالنَّفْيِ وفاقد الشَّيْء لَا يُعْطِيهِ. وَالسَّبَب فِي رد الْحَافِظ المتقن رِوَايَة الرَّاوِي وَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ من عِلّة قادحة فِيهِ أَو فِي رِوَايَته كَمَا جَاءَ فِي التَّعْرِيف، وَالْعلَّة عبارَة عَن سَبَب غامض خَفِي قَادِح فِي الحَدِيث مَعَ أَن ظَاهره السَّلامَة مِنْهُ أَي السَّبَب الغامض، وبتعريف آخر نقُول الحَدِيث الْمُعَلل مَا اطلع فِيهِ الْحَافِظ الْخَبِير بالفن على عِلّة تقدح فِي صِحَّته مَعَ ظُهُور السَّلامَة عَلَيْهِ وَتَكون الْعلَّة فِي الْإِسْنَاد الْجَامِع شُرُوط الصِّحَّة ظَاهرا مَعَ خفائها فِيهِ، أما علامتها وَكَيْفِيَّة مَعْرفَتهَا: فتعرف الْعلَّة بتفرد الرَّاوِي، وبمخالفة غَيره لَهُ مَعَ قَرَائِن تُضَاف إِلَى ذَلِك تنبه الْعَارِف بِهَذَا الشَّأْن الَّذِي أدمن الِاطِّلَاع فِيهِ وسبر أَهله على وهم وَقع بإرسال الْمَوْصُول أَو وقف فِي الْمَرْفُوع أَو دُخُول حَدِيث فِي حَدِيث أَو غير ذَلِك بِحَيْثُ يغلب على ظَنّه فَيحكم بِعَدَمِ صِحَة الحَدِيث أَو يتَرَدَّد فَيتَوَقَّف فِي قبُوله.. قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: "الْبَاب إِذا لم تجمع طرقه لم يتَبَيَّن خَطؤُهُ.." وَبَقِيَّة قيود التَّعْرِيف سنذكرها إِن شَاءَ الله بعد تَعْرِيف التَّعْدِيل. التَّعْدِيل: جَاءَ من عدل الحكم أَقَامَهُ، وَعدل الرجل زَكَّاهُ، وَالْمِيزَان سواهُ، وَعَلِيهِ فالتعديل التَّقْوِيم والتسوية والتزكية، والعادل من النَّاس من يقْضِي بِالْحَقِّ وَالْعدْل من الْأَشْيَاء مَا قَامَ فِي النُّفُوس أَنه مُسْتَقِيم والمقبول والمرضى قَوْله وَحكمه، وَجَائِز الشَّهَادَة، وَتقول امْرَأَة عدل ونسوة عدل وَقد يجْرِي مجْرى الْوَصْف الَّذِي لَيْسَ بمصدر فَتَقول امْرَأَة عَدَالَة. وَالتَّعْدِيل فِي الِاصْطِلَاح: وصف الرَّاوِي بِمَا يَقْتَضِي قبُول رِوَايَته.. زِيَادَة إِيضَاح: وأستطيع أَن أعرفهُ بتعريف آخر مُجمل فَأَقُول: هُوَ علم يبْحَث فِيهِ عَن جرح الروَاة وتعديلهم بِأَلْفَاظ مَخْصُوصَة.. ومراتب تِلْكَ الْأَلْفَاظ.. وَهَذَا الْعلم من فروع علم رجال الحَدِيث وَلم تكْثر الْكِتَابَة فِيهِ مَعَ أَنه علم عَظِيم لِأَنَّهُ ميزَان رجال الحَدِيث ومعيار الحكم عَلَيْهِم وَهُوَ الحارس للسّنة من كل زيف ودخيل.. وَالْكَلَام فِي الرِّجَال جرحا وتعديلا ثَابت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ عَن كثير من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ، وَجوز ذَلِك تورعا وصونا للشريعة لَا طعن فِي النَّاس، وكما جَازَ الْجرْح فِي الشُّهُود جَازَ فِي الروَاة والتثبت فِي أَمر الدّين أولى من التثبت فِي الْحُقُوق وَالْأَمْوَال.. فَلهَذَا افترضوا على أنفسهم الْكَلَام فِي ذَلِك سَيَأْتِي بَيَان أول من عني بذلك من الْأَئِمَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الْجرْح وَأَحْكَامه.. الْجرْح أُجِيز فِي الروَاة بِاتِّفَاق أَئِمَّة الشَّأْن صِيَانة للشريعة الإسلامية من أَن يدْخل فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ونصيحة لله وَرَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام وَالْمُسْلِمين وَلَا يقف على معرفَة ذَلِك إِلَّا الْمُحدث الصَّادِق الْمَشْهُور بِطَلَب الحَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 التقى الْوَرع.. روى الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي كِفَايَته بِسَنَدِهِ عَن أَحْمد بن مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ قَالَ:- سَمِعت يحي بن معِين يَقُول: "آلَة الحَدِيث الصدْق والشهرة بِطَلَبِهِ وَترك الْبدع وَاجْتنَاب الْكَبَائِر". الْبَيَان: لما كَانَت السّنة هِيَ الصادرة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال والتقريرات وَكَانَت الْبَيَان لكتاب الله والتشريع للنَّاس فِي كل زمَان وَمَكَان كَانَ لابد فِيهَا من أَن تكون وَارِدَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطرِيق ثَابت ومنسوبة إِلَيْهِ نِسْبَة حَقِيقِيَّة، وَقد أَمر عَلَيْهِ السَّلَام بتبليغها عَنهُ وَنهى عَن الْكَذِب فِيهَا وَنقل الصَّحَابَة عَنهُ ذَلِك وَمَشوا عَلَيْهِ.. روى الْخَطِيب أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن الْأَعْمَش عَن خَيْثَمَة عَن سُوَيْد قَالَ: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب: "إِذا حدثتكم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوَاللَّه لِأَن أخر من السَّمَاء أحب إِلَيّ من أَن أكذب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..وَإِذا حدثتكم فِيمَا بَيْننَا فَإِن الْحَرْب خدعة.." وَمن هُنَا احتاط الصَّحَابَة فِي الرِّوَايَة وَالْبَعْض مِنْهُم لم يكثر مِنْهَا خوف أَن يدْخل فِي الحَدِيث شَيْء لم يرد.. روى الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن جَامع بن شَدَّاد قَالَ سَمِعت عَامر بن عبد الله بن الزبير يحدث عَن أَبِيه قَالَ: "قلت لأبي الزبير مَالِي لَا أَرَاك تحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا حدث فلَان وَفُلَان وَابْن مَسْعُود.." قَالَ: وَالله يَا بني مَا فارقته مُنْذُ أسلمت وَلَكِنِّي سمعته يَقُول: "من كذب عَليّ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده فِي النَّار.." وَمعنى هَذَا وَالله مَا قَالَ مُتَعَمدا وَأَنْتُم تَقولُونَ مُتَعَمدا.. وَمعنى هَذَا أَنه لَا بُد من الصدْق فِي الرِّوَايَة وَيحرم الْكَذِب فِيهَا عمدا وَغير عمد وَلَا يعْذر غير اليقظ فِيهَا.. قَالَ الْخَطِيب: "وَمن سلم من الْكَذِب وأتى شَيْئا من الْكَبَائِر فَهُوَ فَاسق يجب رد خَبره وَمن أَتَى صَغِيرَة فَلَيْسَ بفاسق، وَمن تَتَابَعَت مِنْهُ الصَّغَائِر وَكَثُرت رد خَبره.." وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيَان الْكَبَائِر عدَّة أَحَادِيث: "اجتنبوا السَّبع الموبقاتٍ" وَالْكذب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعظم من الْكَذِب على غَيره..وَالْفِسْق بِهِ أظهر والوزر بِهِ أكبر.. وروى بن أبي حَاتِم فِي كتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل فِي تثبيت السّنَن بِنَقْل الروَاة لَهَا من قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمره بِنَقْل الْأَخْبَار عَنهُ، روى بِسَنَدِهِ قَالَ أَخْبرنِي أبي نَا الْأَوْزَاعِيّ حَدثنِي حسان بن عَطِيَّة قَالَ حَدثنِي أَبُو كَبْشَة السَّلُولي قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "بلغُوا عني وَلَو آيَة وَحَدثُوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج وَمن كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار". وروى بِسَنَدِهِ عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: خرج إِلَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..وَنحن سكُوت لَا نتحدث فَقَالَ: "مَا يمنعكم من الحَدِيث" قُلْنَا سمعناك تَقول: من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار: "حدثوا عني وَلَا حرج.." وروى بِسَنَدِهِ عَن عَبَايَة بن رَافع بن خديج عَن رَافع قَالَ: مر بِنَا يَوْمًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن نتحدث فَقَالَ "مَا تتحدثون" قُلْنَا نتحدث عَنْك يَا رَسُول الله فَقَالَ: "حدثوا وليتبوأ من كذب عَليّ مَقْعَده من جَهَنَّم" وروى بِسَنَدِهِ عَن الْحَارِث بن عَمْرو قَالَ: أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى أَو بِعَرَفَات ثمَّ قَالَ: " أَيهَا النَّاس أَي يَوْم هَذَا وَأي شهر هَذَا قَالَ فَإِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام كَحُرْمَةِ يومكم وشهركم وبلدكم اللَّهُمَّ هَل بلغت فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب.." بَيَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن سنته ستنقل وَتقبل: وَردت أَخْبَار مفادها أَن السّنة ستنقل عَن طَريقَة التَّحَمُّل والأداة بِرِوَايَة الْعُدُول فقد روى ابْن أبي حَاتِم بِسَنَدِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن ثَابت بن قيس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "تَسْمَعُونَ وَيسمع مِنْكُم وَيسمع مِمَّن يسمع مِنْكُم.." وروى بِسَنَدِهِ أَيْضا عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه: "تَسْمَعُونَ وَيسمع مِنْكُم وَيسمع مِمَّن يسمع مِنْكُم" وَرَوَاهُ عَنهُ بِثَلَاث طرق مثله وَهَذَا إِخْبَار من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن سنته ستشيع بَين النَّاس وتنقل من إِنْسَان لإِنْسَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الْعَدَالَة وأحكامها: أنشأ الْعلمَاء من سلف الْأمة وَمن تَبِعَهُمْ أمورا أَو شُرُوطًا تعرف بهَا، مِنْهَا مَا رواد الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي كِفَايَته بِسَنَدِهِ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن عبد الله بن عتبَة ابْن مَسْعُود قَالَ سَمِعت عمر بن الْخطاب يَقُول: "إِن أُنَاسًا كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْوَحْي فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن الْوَحْي قد انْقَطع وَإِنَّمَا آخذكم الْآن بِمَا ظهر من أَعمالكُم فَمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وَلَيْسَ لنا من سَرِيرَته شَيْء الله يحاسبه فِي سَرِيرَته، وَمن أظهر لنا سوءا لم نَأْمَنهُ وَلم نصدقه وَإِن قَالَ إِن سَرِيرَته حَسَنَة.." وَرُوِيَ أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده عَن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "من عَامل النَّاس فَلم يظلمهم وَحَدَّثَهُمْ فَلم يكذبهم وَوَعدهمْ فَلم يخلفهم فَهُوَ مِمَّن كملت مروءته وَظَهَرت عَدَالَته وَوَجَبَت أخوته وَحرمت غيبته". حد الْعدْل: حد الْعدْل فِي الْمُسلمين من لم يظْهر بِهِ رِيبَة، أَو للعدل بَين الْمُسلمين أَو الْعدْل فِي الشَّهَادَة الَّذِي لم تظهر مِنْهُ رِيبَة وَسُئِلَ عبد الله بن الْمُبَارك عَن الْعدْل فَقَالَ: "من كَانَ فِيهِ خمس خِصَال: يشْهد الْجَمَاعَة، وَلَا يشرب هَذَا الشَّرَاب، وَلَا تكون فِي دينه خربه، وَلَا يكذب، وَلَا يكون فِي عقله شَيْء". الْمِقْدَار فِي تحقق الْعَدَالَة: روى الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن مَالك بن أنس يَقُول سَمِعت الزُّهْرِيّ يَقُول سَمِعت سعيد ابْن الْمسيب يَقُول: "لَيْسَ من شرِيف وَلَا عَالم وَلَا ذِي سُلْطَان إِلَّا وَفِيه عيب لابد وَلَكِن من النَّاس من لَا تذكر عيوبه من كَانَ فَضله أَكثر من نَقصه وهب نَقصه لفضله"، وروى بِسَنَدِهِ عَن البويطى يَقُول قَالَ الشَّافِعِي: "لَا أعلم أحدا أعْطى طَاعَة لله حَتَّى لَا يخلطها بِمَعْصِيَة إِلَّا يحي بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَا عصى الله فَلم يخلط بِطَاعَتِهِ، فَإِذا الْأَغْلَب الطَّاعَة فَهُوَ الْمعدل، وَإِذا كَانَ الْأَغْلَب الْمعْصِيَة فَهُوَ المجرح". وَمعنى آخر يحدد الْعَدَالَة وَيبين الْعدْل: قَالَ الْخَطِيب حَدثنِي أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن عبيد الله الْمَالِكِي أَنه قَرَأَ على القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن الطّيب قَالَ: "وَالْعَدَالَة الْمَطْلُوبَة فِي صفة الشَّاهِد والمخبر هِيَ الْعَدَالَة الراجعة إِلَى استقامة دينه وسلامة مذْهبه وسلامته من الْفسق وَمَا يجْرِي مجْرَاه مِمَّا اتّفق على أَنه مُبْطل للعدالة من أَفعَال الْجَوَارِح والقلوب الْمنْهِي عَنْهَا وَالْوَاجِب أَن يُقَال فِي جَمِيع صِفَات الْعَدَالَة أَنَّهَا اتِّبَاع أوَامِر الله تَعَالَى والانتهاء عَن ارْتِكَاب مَا نهى عَنهُ مِمَّا يسْقط الْعَدَالَة.. وَقد علم من ذَلِك أَنه لَا يكَاد يسلم الْمُكَلف من الْبشر من كل ذَنْب وَمن ترك بعض مَا أَمر بِهِ حَتَّى يخرج لله من كل مَا وَجب عَلَيْهِ وَأَن ذَلِك يتَعَذَّر فَيجب لذَلِك أَن يُقَال إِن الْعدْل هُوَ من عرف بأَدَاء فَرَائِضه وَلُزُوم مَا أَمر بِهِ وتوقى مَا نهى عَنهُ وتجنب الْفَوَاحِش المسقطة وتحري الْحق وَالْوَاجِب فِي أَفعاله ومعاملته والتوقي فِي لَفظه مِمَّا يثلم الدّين والمروءة فَمن كَانَت هَذِه حَاله فَهُوَ الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ عدل فِي دينه ومعروف بِالصّدقِ فِي حَدِيثه، وَلَيْسَ يَكْفِيهِ فِي ذَلِك اجْتِنَاب كَبَائِر الذُّنُوب الَّتِي يُسمى فاعلها فَاسِقًا وَزَادُوا على هَذَا بعض الذُّنُوب الَّتِي لَيست من الْكَبَائِر، إِمَّا لِأَنَّهَا متهمة لصَاحِبهَا ومسقطة لَهُ ومانعة من ثقته، وأمانته أَو لغير ذَلِك فَإِن الْعَادة مَوْضُوعَة على أَن من احتملت أَمَانَته سَرقَة بصله وتطفيف حَبَّة احتملت الْكَذِب، وَأخذ الرشاوى على الشَّهَادَة وَوضع الْكَذِب فِي الحَدِيث والاكتساب بِهِ فَيجب أَن تكون هَذِه الذُّنُوب فِي إِسْقَاطهَا للْخَبَر وَالشَّهَادَة بِمَثَابَة مَا اتّفق على أَنه فسق يسْتَحق بِهِ الْعقَاب.." إِلَى أَن قَالَ: "فَهَذِهِ سَبيله فِي أَنه يجب كَون الشَّاهِد والمخبر سليما مِنْهُ.." قَالَ الْخَطِيب: "وَالْوَاجِب عندنَا أَن لَا يرد الْخَبَر وَالشَّهَادَة إِلَّا بعصيان قد اتّفق على رد الْخَبَر وَالشَّهَادَة بِهِ وَمَا يغلب بِهِ ظن الْحَاكِم وَالْعلم أَن مقترفه غير عدل وَلَا مَأْمُون عَلَيْهِ الْكَذِب فِي الشَّهَادَة وَالْخَبَر وَلَو عمل الْعلمَاء والحكام على أَن لَا يقبلُوا خَبرا وَلَا شَهَادَة إِلَّا من مُسلم بَرِيء من كل كذب قل أَو كثر لم يُمكن قبُول شَهَادَة أحد وَلَا خَبره لِأَن الله قد أخبر بِوُقُوع الذُّنُوب من كثير وَلَو لم يرد خبر صَاحب ذَلِك شَهَادَته بِحَال لوَجَبَ أَن يقبل خبر الْكَافِر وَالْفَاسِق وشهادتهما وَذَلِكَ خلاف الْإِجْمَاع فَوَجَبَ القَوْل فِي جَمِيع صفة الْعدْل بِمَا ذكر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 زِيَادَة إِيضَاح: وَفسّر الْعدْل أَيْضا بِأَن يكون مُسلما بَالغا عَاقِلا فَلَا يقبل كَافِر وَمَجْنُون مطبق بِالْإِجْمَاع وَمن تقطع جُنُونه وَأثر فِي زمن إِفَاقَته وَإِن لم يُؤثر قبل وَلَا صَغِير على الْأَصَح، وَقيل يقبل الْمُمَيز إِن لم يجرب عَلَيْهِ الْكَذِب وَأَن يكون سليما من أَسبَاب الْفسق وخوارم الْمُرُوءَة، والمروءة بِضَم الْمِيم وَالرَّاء على وزن سهولة وَهِي آدَاب نفسانية تحمل مراعاتها على الْوُقُوف عِنْد محَاسِن الْأَخْلَاق وَجَمِيل الْعَادَات ومعرفتها ترجع إِلَى الْعرف. مَا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُحدث وَالشَّاهِد من الصِّفَات وَمَا يفترقان فِيهِ جَاءَ عَن أَبى بكر مُحَمَّد ابْن الطّيب قَالَ: لَا خلاف فِي وجوب قبُول خبر من اجْتمع فِيهِ جَمِيع الصِّفَات الشَّاهِد فِي الْحُقُوق من الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل والضبط والصدق وَالْأَمَانَة وَالْعَدَالَة إِلَى مَا شاكل ذَلِك، وَلَا خلاف أَيْضا فِي وجوب اتِّفَاق الْمخبر وَالشَّاهِد فِي الْعقل والتيقظ فَأَما مَا يفترقان فِيهِ فوجوب كَون الشَّاهِد حرا وَغير وَالِد وَلَا مَوْلُود وَلَا قريب قرَابَة تُؤدِّي إِلَى ظَنّه وَغير صديق ملاطف وَكَونه رجلا إِذا كَانَ فِي بعض الشَّهَادَات وَأَن يكون اثْنَيْنِ فِي بعض الشَّهَادَات وَأَرْبَعَة فِي بَعْضهَا وكل ذَلِك غير مُعْتَبر فِي الْمخبر لأننا نقبل خبر العَبْد وَالْمَرْأَة وَالصديق وَغَيره، وإجمالا: الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة كِلَاهُمَا خبر غير أَن الرِّوَايَة خبر عَام قصد بِهِ تَعْرِيف دَلِيل شَرْعِي وَأما الشَّهَادَة فَهِيَ خبر خَاص قصد بِهِ تَرْتِيب فصل الْقَضَاء عَلَيْهِ وَيشْتَرط عدم الْعَدَاوَة بَين الشَّاهِد والمشهود عَلَيْهِ. تَنْبِيه: قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: "فَأَما الحَدِيث الَّذِي أخبرناه القَاضِي أَبُو عمر الْقَاسِم بن جَعْفَر الْهَاشِمِي بِسَنَدِهِ عَن صَالح بن حسان عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "لَا تكْتبُوا الْعلم إِلَّا عَمَّن تجوز شَهَادَته.." فَإِن صَالح بن حسان تفرد بروايته وَهُوَ مِمَّن اجْتمع نقاد الحَدِيث على ترك الِاحْتِجَاج بِهِ لسوء حفظه وَقلة ضَبطه، وَكَانَ يروي الحَدِيث عَن مُحَمَّد بن كَعْب تَارَة مُتَّصِلا، وأخري مُرْسل، وَيَرْفَعهُ تَارَة ويوقفه أُخْرَى.. وسَاق كل طرقه"، ثمَّ قَالَ: "على أَن هَذَا الحَدِيث لَو ثَبت إِسْنَاده وَصَحَّ رَفعه، لَكَانَ مَحْمُولا على أَن المُرَاد بِهِ جَوَاز الْأَمَانَة فِي الْخَبَر بِدَلِيل الْإِجْمَاع على أَن خبر العَبْد الْعدْل مَقْبُول". روى ابْن حبَان بِسَنَدِهِ عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه قَالَ: قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالخيف من منى فَقَالَ: "نضر الله عبدا سمع مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا إِلَى من لم يسْمعهَا فَرب حَامِل فقه لَا فقه لَهُ وَفِي رِوَايَة "غير فَقِيه " وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ ثَلَاث لَا يضل عَلَيْهِنَّ قلب الْمُؤمن: إخلاص الْعَمَل والنصيحة لأولى الْأَمر وَلُزُوم الْجَمَاعَة فَإِن دعوتهم تكون من ورائهم" 1 قَالَ أَبُو حَاتِم: "الْوَاجِب على كل من ركب فِيهَا آلَة الْعلم، أَن يرْعَى أوقاته على حفظ السّنَن رَجَاء اللحوق بِمن دَعَا لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ الله جلّ وَعلا أَمر عباده بِاتِّبَاع سنته وَعند التَّنَازُع الرُّجُوع إِلَى مِلَّته حَيْثُ قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} 2 ثمَّ نفى الْإِيمَان عَمَّن لم يحكمه فِيمَا شجر بَينهم فَقَالَ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 وَلم يقل حَتَّى يحكموا فلَانا وَفُلَانًا فِيمَا شجر بَينهم وَلَا قَالَ حرجا مِمَّا قضى فلَان وَفُلَان، فَالْحكم بَين الله عز وَجل وَبَين خلقه رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط، فَلَا نحب لمن أشعر الْإِيمَان قلبه أَن يقصر فِي حفظ السّنَن بِمَا قدر عَلَيْهِ حَتَّى يكون رُجُوعه عِنْد التَّنَازُع إِلَى قَول من لَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد تقدم حَدِيث "بلغُوا عني وَلَو آيَة.." وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي تَغْلِيظ الْكَذِب عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَثِيرَة كَمَا مر أَيْضا.   1 الْجرْح وَالتَّعْدِيل لِابْنِ أَبى حَاتِم قسم 1ص 10 وَأخرجه أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ وَهُوَ حسن. 2 سُورَة النِّسَاء آيَة (59) . 3 سُورَة النِّسَاء آيَة (65) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ثُبُوت السّنة وترغيب النَّبِي فِي طلبَهَا من حاملها ووصيته بالمرتحلين فِيهَا: لقد كَانَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ السَّبق فِي دفع النَّاس إِلَى طلب الْعلم والتعلم وَالتَّرْغِيب فِيهِ روى عبد الرَّحْمَن بن أَبى حَاتِم بِسَنَدِهِ عَن أبي صلح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "من سلك طَرِيقا يلْتَمس فِيهِ علما سهل الله لَهُ طَرِيقا إِلَى الْجنَّة.." وروى بِسَنَدِهِ عَن كثير بن قيس قَالَ: كنت جَالِسا مَعَ أبي الدَّرْدَاء فِي مَسْجِد دمشق فَأَتَاهُ رجل فَقَالَ: "يَا أَبَا الدَّرْدَاء جئْتُك من الْمَدِينَة مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحَدِيث بَلغنِي أَنَّك تحدثه عَن رَسُول الله" قَالَ: وَلَا جِئْت لحَاجَة؟ " قَالَ: "لَا"، قَالَ: "وَلَا جِئْت لتِجَارَة؟ " قَالَ: "لَا"، قَالَ: "وَلَا جِئْت إِلَّا لهَذَا الحَدِيث؟ " قَالَ نعم، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "من سلك طَرِيقا يطْلب فِيهِ علما سلك الله عز وَجل بِهِ طَرِيقا من طرق الْجنَّة وَإِن الْمَلَائِكَة لتَضَع أَجْنِحَتهَا رضَا لطالبي الْعلم.." وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "إِن النَّاس لكم تبع" قَالَ فَكَانَ إِذا أَتَوْهُ قَالَ مرْحَبًا بِوَصِيَّة رَسُول الله، قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "إِنَّه سَيَأْتِيكُمْ أنَاس من أقطار الأَرْض يتفقهون فِي الدّين فَإِذا أَتَوْكُم فَاسْتَوْصُوا بهم خيرا.." قَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم:.. وَقد رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَعبد الله ابْن عَبَّاس وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعبد الله بن عَمْرو، وَجَابِر بن عبد الله، وَعقبَة بن عَامر، وَقيس بن عبَادَة، وَخلق من التَّابِعين وأتباعهم يطول ذكرهم فِي رحْلَة بَعضهم فِي طلب الْعلم الْآثَار وترغيب بَعضهم فِيهَا، أمسكنا عَن ذلكَ اكْتِفَاء بِمَا جَاءَ فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.. وَلما أوصى النَّبِي بطالبي الْآثَار والمرتحلين فِيهَا وَنبهَ عَن فضيلتهم علم أَن فِي ذَلِك ثُبُوت الْآثَار بِنَقْل الطالبين الناقلين لَهَا وَلَو لم تثبت الْأَخْبَار بِنَقْل الروَاة لَهَا لما كَانَ فِي ترغيب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معنى.. قَالَ بن أبي حَاتِم مستدلا على مَا تقدم بِمَا جَاءَ فِي أول كِتَابه: "بدأنا فِي ذكر ثُبُوت السّنَن بِنَقْل الروَاة لَهَا بِمَا حَضَرنَا من الدَّلَائِل الْوَاضِحَة من كتاب الله عز وَجل وأخبار رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَ قوم من أهل الزيغ والبدع زَعَمُوا أَن الْأَخْبَار لَا تصح بِنَقْل الروَاة لَهَا وَأَن طَرِيق صِحَّتهَا إِجْمَاع الْعَامَّة عَلَيْهَا فأتينا فِي ذَلِك وَفِي إبِْطَال دَعوَاهُم ودحض حجتهم بِمَا رَأَيْنَاهُ كَافِيا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَبَيَان أَحْوَال الروَاة وَنفى تُهْمَة الْكَذِب عَن الصَّحَابَة فِي الرِّوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل حَدِيث اتَّصل إِسْنَاده بَين من رَوَاهُ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يلْزم الْعَمَل بِهِ إِلَّا بعد ثُبُوت عَدَالَة رِجَاله، وَيجب النّظر فِي أَحْوَالهم سوى الصَّحَابِيّ الَّذِي رَفعه إِلَى النَّبِي لِأَن عَدَالَة الصَّحَابَة ثَابِتَة مَعْلُومَة بتعديل الله لَهُم وإخباره عَن طهارتهم واختياره لَهُم فِي نَص الْقُرْآن فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} 1 وَقَوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 2 وَهَذَا اللَّفْظ وَإِن كَانَ عَاما فَالْمُرَاد بِهِ الْخَاص، وَقيل هُوَ وَارِد فِي الصَّحَابَة دون غَيرهم، وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3 وَقَوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4 وَقَوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 5.. وَقَوله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 6 فِي آيَات كَثِيرَة يكثر إيرادها وَيطول   1 سُورَة آل عمرَان آيَة (110) 2 سُورَة الْبَقَرَة آيَة (134) 3 سُورَة الْفَتْح آيَة (18) 4 سُورَة التَّوْبَة آيَة (100) 5 سُورَة آيَة الْأَنْفَال آيَة (64) 6 سُورَة الْحَشْر آيَة (8،9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 تعدادها، وَوصف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّحَابَة مثل ذَلِك أطنب فِي تعظيمهم وَأحسن الثَّنَاء عَلَيْهِم، فَمن الْأَخْبَار المستفيضة عَنهُ فِي هَذَا الْمَعْنى مَا رَوَاهُ مُسلم بِسَنَدِهِ عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي عَن عبد الله ابْن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "خير أمتِي الْقرن الَّذِي يلوني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ يَجِيء قوم تسبق شَهَادَة أحدهم يَمِينه وَيَمِينه شَهَادَته" وروى بِسَنَدِهِ عَن عُبَيْدَة عَن عبد الله قَالَ: قَالَ سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي النَّاس خير قَالَ: "قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ يَجِيء قوم تبدر شَهَادَة أحدهم يَمِينه وتبدر يَمِينه شَهَادَته فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَة أَو فِي الرَّابِعَة، قَالَ ثمَّ يتَخَلَّف من بعدهمْ خلف تسبق شَهَادَة أحدهم يَمِينه وَيَمِينه شَهَادَته" وروى أَيْضا عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَة أَو فِي الربعة قَالَ ثمَّ يتَخَلَّف من بعدهمْ خلف تسبق شَهَادَة أحدهم يَمِينه وَيَمِينه شَهَادَته" كَذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وَعمْرَان بن حُصَيْن بعدة رِوَايَات وفيهَا وَالله أعلم أذكر الثَّالِث أم لَا.. وَلَكِن رِوَايَة عَائِشَة رضى الله عَنْهَا خلت من الشَّك فِي الْعدَد قَالَت سَأَلَ رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي النَّاس خير قَالَ: "الْقرن الَّذِي أَنا فِيهِ ثمَّ الثَّانِي وَالثَّالِث" 1 وَقد حفظه كَذَلِك عبد الله بن مَسْعُود وَعمْرَان بن حُصَيْن وَبِه رَوَاهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ 2 قَالَ النَّوَوِيّ بعد ذكر اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي تَحْدِيد مُدَّة الْقرن: "وَالصَّحِيح أَن قرنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّحَابَة وَالثَّانِي التابعون وَالثَّالِث تابعوهم..". قَالَ ابْن الْقيم: "فقد اتّفقت الْأَحَادِيث على قرنين بعد قرنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَإِنَّهُ شكّ فِيهِ، وَأما ذكر الْقرن الرَّابِع فَلم يذكر إِلَّا فِي رِوَايَة فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن لَكِن فِي الصَّحِيحَيْنِ لَهُ شَاهد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "يَأْتِي على النَّاس زمَان فيغزوا فِئَام من النَّاس فَيُقَال لَهُم هَل فِيكُم من رأى رَسُول الله فَيَقُولُونَ نعم فَيفتح لَهُم ثمَّ يغزوا فِئَام من النَّاس فَيُقَال لَهُم هَل فِيكُم من رأى من صحب رَسُول الله فَيَقُولُونَ نعم فَيفتح لَهُم ثمَّ يغزوا فِئَام من النَّاس فَيُقَال لَهُم هَل فِيكُم من رأى من صحب صحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُولُونَ نعم فَيفتح لَهُم" فَهَذَا فِيهِ ذكر قرنين بعده كَمَا فِي الْأَحَادِيث الْمُتَقَدّمَة وَرَوَاهُ مُسلم.. فَذكر فِيهِ ثَلَاثَة بعده وَلَفْظَة " يَأْتِي على النَّاس زمَان يبْعَث مِنْهُم الْبَعْث فَيَقُولُونَ أنظر هَل تَجِدُونَ فِيكُم أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيوجد الرجل فَيفتح لَهُم بِهِ ثمَّ يبْعَث الْبَعْث الثَّانِي فَيَقُولُونَ هَل فِيكُم من رأى أَصْحَاب رَسُول الله فَيفتح لَهُم ثمَّ يبْعَث الْبَعْث الثَّالِث فَيُقَال انْظُرُوا هَل ترَوْنَ فيهم من رأى أَصْحَاب أَصْحَاب رَسُول الله فَيفتح لَهُم ثمَّ يكون الْبَعْث الرَّابِع فَيُقَال أَن انْظُرُوا هَل ترَوْنَ فيمَ أحدا رأى من رأى أحدا رأى أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيوجد الرجل فَيفتح لَهُ" 3.   1 صَحِيح مُسلم بشرح النَّوَوِيّ جـ ص 83،89 2 الْكِفَايَة للخطيب (ص 94) 3 صَحِيح مُسلم بشرح النَّوَوِيّ جـ 16 ص 84 وتهذيب السّنَن لِابْنِ الْقيم جـ 7 حَدِيث 4491 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 تَحْرِيم سبّ الصَّحَابَة سبّ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم من فواحش الْمُحرمَات سَوَاء من لابس الْفِتَن مِنْهُم وَغَيره لأَنهم مجتهدون فِي تِلْكَ الحروب متأولون، فَكَانَت لكل طَائِفَة شُبْهَة اعتقدت تصويب أَنْفسهَا عَلَيْهَا وَكلهمْ عدُول وَلم يخرج شَيْء من ذَلِك أحدا مِنْهُم عَن الْعَدَالَة لأَنهم مجتهدون كَمَا قُلْنَا اخْتلفُوا فِي مسَائِل من مَحل الِاجْتِهَاد كَمَا اخْتلف المجتهدون بعدهمْ فِي مسَائِل من الدِّمَاء وَغَيرهَا وَلَا يلْزم من ذَلِك نقص أحد مِنْهُم، يَقُول النَّوَوِيّ: "وَاعْلَم أَن سَبَب تِلْكَ الحروب أَن القضايا كَانَت مشتبهة فلشدة اشتباهها اخْتلف اجتهادهم وصاروا ثَلَاثَة أَقسَام قسم ظهر لَهُم بِالِاجْتِهَادِ أَن الْحق فِي هَذَا الطّرف وَأَن مخالفه بَاغ فَوَجَبَ عَلَيْهِم نصرته وقتال الْبَاغِي عَلَيْهِ فِيمَا اعتقدوه فَفَعَلُوا ذَلِك وَلم يكن يحل لمن هَذِه صفته التَّأَخُّر عَن مساعدة إِمَام الْعدْل فِي قتال الْبُغَاة فِي اعْتِقَاده، وَقسم عكس هَؤُلَاءِ ظهر لَهُم بِالِاجْتِهَادِ أَن الْحق فِي الطّرف الآخر فَوَجَبَ عَلَيْهِم مساعدته وقتال الْبَاغِي عَلَيْهِ، وَقسم ثَالِث اشتبهت عَلَيْهِم الْقَضِيَّة وتحيروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فِيهَا وَلم يظْهر لَهُم تَرْجِيح أحد الطَّرفَيْنِ فاعتزوا الْفَرِيقَيْنِ وَكَانَ هَذَا الاعتزال هُوَ الْوَاجِب فِي حَقهم لِأَنَّهُ لَا يحل الْإِقْدَام على قتال مُسلم حَتَّى يظْهر أَنه مُسْتَحقّ لذَلِك وَلَو ظهر لهَؤُلَاء رُجْحَان أحد الطَّرفَيْنِ وَأَن الْحق مَعَه لما جَازَ لَهُم التَّأَخُّر عَن نصرته فِي قتال الْبُغَاة عَلَيْهِ فكلهم معذورون رَضِي الله عَنْهُم..". وَلِهَذَا اتّفق أهل الْحق وَمن يعْتد بِهِ فِي الْإِجْمَاع على قبُول شهاداتهم ورواياتهم وَكَمَال عدالتهم رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَعَن تَحْرِيم سبهم روى مُسلم بِسَنَدِهِ عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ، قَالَ: رَسُول الله صلى عَلَيْهِ سلم: " لَا تسبوا أَصْحَابِي، لَا تسبوا أَصْحَابِي، فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَن أحدكُم أنْفق مثل أحد ذَهَابًا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه.." وروى بِسَنَدِهِ عَن أبي صَالح عَن أبي سعيد قَالَ: كَانَ بَين خَالِد بن الْوَلِيد وَبَين عبد الرَّحْمَن بن عَوْف شَيْء فَسَبهُ خَالِد فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "لَا تسبوا أحدا من أَصْحَابِي فَإِن أحدكُم لَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه.." قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَسَب الصَّحَابَة من الْمعاصِي الْكَبَائِر ومذهبنا وَمذهب جُمْهُور أَنه يُعَزّر وَلَا يقتل وَقَالَ الْمَالِكِيَّة يقتل"1 قَالَ الْخطابِيّ: النصيف بِمَعْنى النّصْف كَمَا قَالُوا الثمين بِمَعْنى الثّمن وَالْمعْنَى أَن جهد الْمقل مِنْهُم واليسير من النَّفَقَة الَّذِي أنفقوه فِي سَبِيل الله مَعَ شدَّة الْعَيْش والضيق الَّذِي كَانُوا فِيهِ أوفى عِنْد الله وأزكى من الْكثير الَّذِي يُنْفِقهُ من بعدهمْ" 2. قَالَ القَاضِي عِيَاض: "وَيُؤَيّد هَذَا مَا جَاءَ عَن الْجُمْهُور من تَفْضِيل الصَّحَابَة كلهم على جَمِيع من بعدهمْ، وَسبب تَفْضِيلهمْ نَفَقَتهم أَنَّهَا كَانَت فِي وَقت الضَّرُورَة وضيق الْحَال بِخِلَاف غَيرهم، وَلِأَن إنفاقهم كَانَ فِي نصرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحمايته، وَذَلِكَ مَعْدُوم بعده وَكَذَلِكَ جهادهم وَسَائِر طاعاتهم وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا..} الْآيَة 3 هَذَا كُله مَعَ مَا كَانَ فِي أنفسهم من الشَّفَقَة والتودد والخشوع والتواضع وإيثار الْجِهَاد فِي الله حق جهاده وفضيلة الصَّحَابَة وَلَو لَحْظَة لَا يوازيها عمل وَلَا تنَال درجتها بِشَيْء والفضائل لَا تُؤْخَذ بِقِيَاس، ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء". وروى الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن أبي زرْعَة يَقُول: "إِذا رَأَيْت الرجل ينتقص أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاعْلَم أَنه زنديق.. وَذَلِكَ أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عندنَا حق وَالْقُرْآن حق وَإِنَّمَا أُدي إِلَيْنَا هَذَا الْقُرْآن وَالسّنَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ سلم, وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الْكتاب وَالسّنة وَالْجرْح بهم أولى وهم زنادقة" 4.   1 صَحِيح مُسلم بشرح النَّوَوِيّ جـ 16 ص 92 2 مُخْتَصر الْمُزنِيّ مَعَ معالم السّنَن جـ 7 حَدِيث 4493 ص 34 3 الْحَدِيد آيَة 10 4 الْكِفَايَة للخطيب الْبَغْدَادِيّ ص 97 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 لماذا لَا نجرح الصَّحَابَة! لأَنهم الَّذين شهدُوا الْوَحْي والتنزيل، وَعرفُوا التَّفْسِير والتأويل، وهم الَّذين اخْتَارَهُمْ الله لصحبة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونصرته، وَإِقَامَة دينه وَإِظْهَار حَقه فرضيهم لَهُ صحابة. وجعلهم لنا أعلاما وقدوة. فحفظوا عَنهُ مَا بَلغهُمْ عَن الله عز وَجل، وَمَا سنّ وَمَا شرع وَحكم وَقضى، وَندب وَأمر وَنهى وحظر وأدب. فالصحابة رَضِي الله عَنْهُم هم النَّاس بِكِتَاب الله وَسنة رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسلم وانظروا قَضَاءَهُ وَحكمه فِيمَا اخْتلف النَّاس فِيهِ، وشهدوا أخلاقه وآدابه، وأحواله وتصرفه فِي السّلم وَالْحَرب والمعاهدات، وَأُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، واستقى كل مِنْهُم بِقدر استعداده من ينبوع الْفَيْض الرباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَقد أَشَارَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذَلِك فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ بِسَنَدِهِ عَن ابْن الشهَاب قَالَ: قَالَ حميد بن عبد الرَّحْمَن، سَمِعت مُعَاوِيَة خَطِيبًا يَقُول: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين، وَإِنَّمَا أَنا قَاسم والله يعْطى، وَلنْ تزَال هَذِه الْأمة قَائِمَة على أَمر الله لَا يضرهم من خالفهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله.." وتسابق الصَّحَابَة فِي أَخذ مَا يرد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووعوه وأتقنوه ففقهوا فِي الدّين وَعَلمُوا أَمر الله وَنَهْيه وَمرَاده- بمعاينة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومشاهدتهم مِنْهُ تَفْسِير الْكتاب وتلقفهم مِنْهُ واستنباطهم عَنهُ. فشرفهم الله بِمَا منّ عَلَيْهِم وَأكْرمهمْ بِهِ من وَضعه إيَّاهُم مَوضِع الْقدْوَة فنفى عَنْهُم الشَّك وَالْكذب والغلط والريبة والغمز، وَسَمَّاهُمْ عدُول الْأمة، فَقَالَ عز وَجل فِي كِتَابه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ففسر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الله عز ذكره قَوْله: {وَسَطاً} قَالَ: "عدلا.." فَكَانُوا عدُول الْأمة، وأئمة الْهدى وحجج الدّين ونقلة الْكتاب وَالسّنة، وسندهم عَال فَلَيْسَ بَينهم وَبَين الله إِلَّا واسطتان النَّبِي وَجِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام. وَقد قَالَ قَائِل: فَكيف جرحتم من بعد الصَّحَابَة؟ كَمَا ظهر ذَلِك من عناية أَئِمَّة الحَدِيث بِحِفْظ السّنَن على الْمُسلمين وذب الْكَذِب عَن رَسُول رب الْعَالمين، ولولاهم لتغبرت الْأَحْكَام عَن سنتها حَتَّى لَا يعرف أحد صحيحها من سقيمها والملزق بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والموضوع عَلَيْهِ مِمَّا روى عَنهُ الثقاة وَالْأَئِمَّة فِي الدّين، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ جرحتم من دون الصَّحَابَة وَأَبَيْتُمْ ذَلِك فِي الصَّحَابَة والسهو قد يَقع مِنْهُم كَمَا وجد فِيمَن بعدهمْ من الْمُحدثين؟ يُقَال لَهُ: إِن الله نزه أقدار أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثلب قَادِح، وصان أقدارهم عَن وقيعة متنقص، وجعلهم كَالنُّجُومِ يقْتَدى بهم. وَقد قَالَ الله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ثمَّ قَالَ: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} فَمن أخبر الله أَنه لَا يخزيه يَوْم الْقِيَامَة فقد شهد لَهُ باتباعه مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا لَا يجوز أَن يجرح بِالْكَذِبِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يَقُول الله: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ثمَّ يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "من كذب على مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " فيطلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيجَاب النَّار لمن أخبر الله أَنه لَا يخزيه يَوْم الْقِيَامَة، بل الْخطاب وَقع على من بعد الصَّحَابَة. وَأما من شهد التَّنْزِيل، وَصَحب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالثلب لَهُم غير حَلَال، والقدح فيهم ضد الْإِيمَان والتنقيص لأَحَدهم نفس النِّفَاق، لأَنهم خير النَّاس قرنا بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحكم من لَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأَن من تولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيداعهم مَا ولاه الله بَيَانه للنَّاس لَا يجرح، لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يودع أَصْحَابه الرسَالَة وَأمرهمْ أَن يبلغ الشَّاهِد الْغَائِب إِلَّا وهم عِنْده صَادِقُونَ جائزوا الشَّهَادَة، وَلَو لم يَكُونُوا كَذَلِك لم يَأْمُرهُم بتبليغ من بعدهمْ مَا شهدُوا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ فِيهِ قدحا فِي الرسَالَة، وَكفى بِمن عدله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شرفا، وَأَن من بعد الصَّحَابَة لَيْسُوا فِي مرتبهم. وَالصَّحَابَة ندب الله عز وَجل إِلَى التَّمَسُّك بهديهم والجري على منهاجهم، والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فَقَالَ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} 1. وَثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد حض على التَّبْلِيغ عَنهُ فِي أَخْبَار كَثِيرَة ووجدناه يُخَاطب أَصْحَابه فِيهَا، مِنْهَا أَن دَعَا لَهُم فَقَالَ: "نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فحفظها ووعاها حَتَّى يبلغهَا غَيره". وَفِي رِوَايَة زيد بن ثَابت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "نضر الله امْرأ سمع منا حَدِيثا فحفظه وبلغه غَيره، فَرب حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه"، وَفِي رِوَايَة، "وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ ثَلَاث لَا يضل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم: إخلاص الْعَمَل لله، ومناصحة وُلَاة الْأَمر، وَلُزُوم الْجَمَاعَة فان دعوتهم تحيط من ورائهم" وَغير ذَلِك.   1 سُورَة النِّسَاء آيَة (115) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خطبَته: "فليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب فَإِنَّهُ لَعَلَّه أَن يبلغهُ من هُوَ أوعى لَهُ" وَقَالَ: "بلغُوا عني وَلَو آيَة وَحَدثُوا عني وَلَا حرج". وَهَذَا وَغَيره مِمَّا أَمر بِهِ الصَّحَابَة أَولا، ثمَّ أمروا إِلَى نَقله إِلَى من بعدهمْ مَعَ الْمُحَافظَة على الْمَنْقُول من الزِّيَادَة وَطلب الوعي والضبط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 منع الرِّوَايَة عَن الضُّعَفَاء ... والتثبت فِي تحملهَا يقْصد بِهَذَا العنوان تَأْكِيد مَا سبق وَوضع قَاعِدَة لمن تُؤْخَذ عَنْهُم الرِّوَايَة وَمن تطرح روايتهم أَو يتَوَقَّف فِيهَا حَتَّى يبين أَمرهم.. روى عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم بِسَنَدِهِ عَن أبي عُثْمَان مُسلم بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: "سَيكون فِي آخر الزَّمَان نَاس من أمتِي يحدثونكم بِمَا لم تسمعوا بِهِ أَنْتُم وَلَا آباؤكم فإياكم وإياهم.." وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن شرَاحِيل بن يزِيد يَقُول: حَدثنِي مُسلم بن يسَار أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "يكون آخر الزَّمَان دجالون 1 كذابون يأتونكم من الْأَحَادِيث مَا لم تسمعوا أَنْتُم وَلَا آباؤكم فإياكم وإياهم لَا يضلوكم وَلَا يفتنوكم..". قَالَ عبد الرَّحْمَن: "لما أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكذابين يكونُونَ فِي آخر الزَّمَان يكذبُون عَلَيْهِ علم أَن الأول وهم الصَّحَابَة خارجون من هَذِه الْجُمْلَة وزائل عَنْهُم التُّهْمَة" 2 وَرَوَاهُ مُسلم بِسَنَدِهِ عَن أبي عُثْمَان مُسلم بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: "سَيكون فِي آخر الزَّمَان أنَاس يحدثونكم مَا لم تسمعوا أَنْتُم وَلَا آباؤكم فإياكم وإياهم" وروى بِسَنَدِهِ أَيْضا عَن مُسلم بن يسَار أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "يكون فِي الزَّمَان دجالون كذابون بِهِ" وَرُوِيَ مُسلم أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن مُجَاهِد قَالَ بشير الْعَدوي إِلَى ابْن عَبَّاس فَجعل يحدث وَيَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَجعل ابْن عَبَّاس لَا يَأْذَن لحديثه وَلَا ينظر إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْن عَبَّاس مَالِي لَا أَرَاك تسمع لحديثي أحَدثك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا تسمع.. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: "إِنَّا كُنَّا مرّة إِذا سمعنَا رجلا يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إِلَيْهِ بآذاننا فَلَمَّا ركب النَّاس الصعب3والذلول لَا نَأْخُذ من النَّاس إِلَّا مَا نَعْرِف". إِلَى غير هَذِه الرِّوَايَات وَهِي كَثِيرَة، وحاصلها أَنه لَا يقبل رِوَايَة الْمَجْهُول وَأَنه يجب الِاحْتِيَاط فِي أَخذ الحَدِيث، فَلَا يقبل إِلَّا من أَهله، وَأَنه لَا يَنْبَغِي أَن يرْوى عَن الضُّعَفَاء، وَسَيَأْتِي المُرَاد بالضعف الَّذِي تطرح الرِّوَايَة بِسَبَبِهِ.   1 الدجالون جمع دجال قَالَ ثَعْلَب: كل كَذَّاب فَهُوَ دجال وَيُقَال: الدَّجَّال المموه ودجل فلَان إِذا موه. ودجل بباطله إِذا غطاه. 2 مُقَدمَات كتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل ص 14 3 أصل الصعب. والذلول فِي الْإِبِل، فالصعب الْعسر، المرغوب عَنهُ. والذلول السهل الطّيب المحبوب المرغوب فِيهِ. فَالْمَعْنى سلك النَّاس كل مَسْلَك مِمَّا يحمد ويذم. لَا يَأْذَن أَي لَا يستمع وَلَا يصغي وَمِنْه سميت الْأذن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بَيَان أَن الْأَخْبَار من الدّين والتحرز من التوقي فِيهَا.. هُنَا بَيَان أَن الْإِسْنَاد من الدّين وَأَن الرِّوَايَة لَا تكون إِلَّا عَن الثقاة، وَأَن جرح الروَاة بِمَا هُوَ فيهم جَائِز بل وَاجِب، وَأَنه لَيْسَ من الْغَيْبَة الْمُحرمَة بل من الذب عَن الشَّرِيعَة المكرمة، وَسَيَأْتِي زِيَادَة فِي هَذَا.. روى عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم عَن ابْن سِيرِين قَالَ: "إِنَّمَا هَذِه الْأَحَادِيث دين فانظروا عَمَّن تأخذونه". وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين قَالَ: "إِن هَذَا الحَدِيث دين فانظروا عَمَّن تأخذونه وَمرَّة يرْوى بِلَفْظ أَن هَذَا الْعلم دين بِهِ.." ويروى أَيْضا عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: "انْظُرُوا عَمَّن تأخذون هَذَا الحَدِيث فَإِنَّمَا هُوَ دينكُمْ.." وروى بِسَنَدِهِ.. قَالَ ابْن شهَاب: "إِذا حدث لي بِالْإِسْنَادِ وَيَقُول: لَا يصلح أَن يرقى السَّطْح إِلَّا بِدَرَجَة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بَيَان المبتدع الَّذِي ترد رِوَايَته من غَيره قَالَ مُسلم رَحمَه الله فِي مُقَدّمَة كِتَابه: "اعْلَم أَن الْوَاجِب على أحد عرف التَّمْيِيز بَين صَحِيح الرِّوَايَات وسقيمها وثقاة الناقلين لَهَا من المتهمين أَن لَا يرْوى مِنْهَا إِلَّا مَا عرف صِحَة مخارجه والستارة فِي ناقليه، وَأَن يَتَّقِي مِنْهَا مَا كَانَ من أهل التهم والمعاندين من أهل الْبدع". قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الْأُصُول: المبتدع الَّذِي يكفر ببدعته لَا تقبل رِوَايَته بالِاتِّفَاقِ، وَأما الَّذِي لَا يكفر بهَا فَاخْتَلَفُوا فِي رِوَايَته: فَمنهمْ من ردهَا مُطلقًا لفسقه وَلَا يَنْفَعهُ التَّأْوِيل، وَمِنْهُم من قبلهَا مُطلقًا، إِذا لم يكن مِمَّن يسْتَحل الْكَذِب فِي نصْرَة مذْهبه أَو لأهل مذْهبه سَوَاء كَانَ دَاعِيَة إِلَى بدعته أَو غير دَاعِيَة وَهَذَا محكي عَن الإِمَام الشَّافِعِي لقَوْله أهل شَهَادَة أهل الْأَهْوَاء إِلَّا الخطابية من الرافضة لكَوْنهم يرَوْنَ الشَّهَادَة بالزور لموافقيهم وَمِنْهُم من قَالَ: تقبل إِذا لم يكن دَاعِيَة لبدعته وَلَا تقبل إِذا كَانَ دَاعِيَة وَهَذَا مَذْهَب كثيرين أَو الْأَكْثَر من الْعلمَاء وَهُوَ الأعدل الصَّحِيح وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: اخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي غير الداعية وَاتَّفَقُوا على عدم قبُول الداعية.. وَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان - بِكَسْر الْحَاء -: "لَا يجوز الِاحْتِجَاج بالداعية عِنْد أَئِمَّتنَا قاطبة لَا خلاف بَينهم فِي ذَلِك". وَأما الْمَذْهَب الأول فضعيف جدا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من أَصْحَاب السّنَن وأئمة الحَدِيث الِاحْتِجَاج بِكَثِير من المبتدعة غير الدعاة، وَلم يزل السّلف وَالْخلف على قبُول الرِّوَايَة مِنْهُم والاحتجاج بهَا وَالسَّمَاع مِنْهُم وإسماعهم من غير إِنْكَار مِنْهُم، وروى مُسلم بِسَنَدِهِ فِي كَون الْإِسْنَاد من الدّين عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى قَالَ: "قلت لطاووس إِن فلَانا حَدثنِي بِكَذَا وَكَذَا"، قَالَ: "إِن كَانَ صَاحبك مَلِيًّا فَخذ عَنهُ". (مَلِيًّا) : يعْنى ثِقَة ضابطا متقنا يوثق بِدِينِهِ ومعرفته ويعتمد عَلَيْهِ كَمَا يعْتَمد على مُعَاملَة الملي بِالْمَالِ ثِقَة بِذِمَّتِهِ.. وروى مُسلم بِسَنَدِهِ أَيْضا عَن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه قَالَ: "أدْركْت بِالْمَدِينَةِ مائَة كلهم مَأْمُون مَا يُؤْخَذ عَنْهُم الحَدِيث يُقَال لَيْسَ من أَهله". وروى بِسَنَدِهِ عَن مسعر قَالَ: "سَمِعت سعد بن إِبْرَاهِيم يَقُول لَا يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الثقاة.." وروى بِسَنَدِهِ عَن عبد الله بن الْمُبَارك يَقُول: "الْإِسْنَاد من الدّين وَلَولَا الْإِسْنَاد لقَالَ من شَاءَ مَا شَاءَ". وَيَقُول أَيْضا: "بَيْننَا وَبَين الْقَوْم القوائم.." وَمعنى هَذَا الْكَلَام إِن جَاءَ بِإِسْنَاد صَحِيح قبلنَا حَدِيثه وَإِلَّا تَرَكْنَاهُ فَجعل الحَدِيث كالحيوان لَا يقوم بِغَيْر إِسْنَاد كَمَا لَا يقوم الْحَيَوَان بِغَيْر قَوَائِم.. زِيَادَة إِيضَاح: سبق لنا أَن أَشَرنَا إِلَى رَأْي بعض الْأَئِمَّة حكم رِوَايَة المبتدع وَبَقِي هُنَا أَن نزيد هَذِه الْمَسْأَلَة إيضاحا، جمع الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ رَحمَه الله مَذَاهِب الْعلمَاء عَمَّا جَاءَ فِي الْأَخْذ عَن أهل الْبدع والأهواء والاحتجاج بروايتهم. فَقَالَ: اخْتلف أهل الْعلم فِي السماع من أهل الْبدع والأهواء، كالقدرية والخوارج وَالرَّوَافِض، وَفِي الِاحْتِجَاج بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 يَرْوُونَهُ، فمنعت طَائِفَة من السّلف صِحَة ذَلِك؛ لعِلَّة أَنهم كفار- عِنْد من ذهب إِلَى أكفار المتأولين، وفساق عِنْد من لم يحكم بِكفْر متأول. وَقَالَ من ذهب إِلَى هَذَا الْمَذْهَب: أَن الْكَافِر وَالْفَاسِق بالتأويل بِمَثَابَة الْكَافِر المعاند، وَالْفَاسِق الْعَامِد فَيجب أَلا يقبل خبرهما وَلَا تثبت روايتهما. وَذَهَبت طَائِفَة من أهل الْعلم إِلَى قبُول أَخْبَار أهل الْأَهْوَاء الَّذين لَا يعرف مِنْهُم استحلال الْكَذِب وَالشَّهَادَة لمن وافقهم بِمَا لَيْسَ عِنْدهم فِيهِ شَهَادَة. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْل من الْفُقَهَاء: أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ قَالَ: "وَتقبل شَهَادَة أهل الْأَهْوَاء إِلَّا الخطابية من الرافضة، لأَنهم يرَوْنَ شَهَادَة بالزور لموافقهيم". ويحكى أَن هَذَا مَذْهَب ابْن أبي ليلى وسُفْيَان الثَّوْريّ. يَقُول الشَّيْخ السُّبْكِيّ فِي طبقاته عِنْد كَلَامه على شَهَادَة المبتدع: "وَقد تزايد الْحَال بالخطابية وهم المجسمة فِي زَمَاننَا هَذَا فصاروا يرَوْنَ الْكَذِب على مخالفيهم فِي العقيدة لَا سِيمَا الْقَائِم عَلَيْهِم بِكُل مَا يسوءه فِي نَفسه وَمَاله.. وَبَلغنِي أَن كَبِيرهمْ استفتي فِي شَافِعِيّ أيشهد عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ فَقَالَ: أَلَسْت تعتقد أَن دَمه حَلَال؟ قَالَ: نعم..قَالَ: فَمَا دون ذَلِك دون دَمه، فَاشْهَدُوا دفع فَسَاده عَن الْمُسلمين فَهَذِهِ عقيدتهم ويرون أَنهم الْمُسلمُونَ أَنهم أهل السّنة.." الخ قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: "وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: تقبل أَخْبَار غير الدعاة من أهل الْأَهْوَاء، فَأَما الدعاة فَلَا يحْتَج بأخبارهم، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى ذَلِك أَبُو عبد الله أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن حَنْبَل". وَقَالَ جمَاعَة من أهل النَّقْل والمتكلمين: أَخْبَار أهل الْأَهْوَاء كلهَا مَقْبُولَة وَإِن كَانُوا كفَّارًا وفساقا بالتأويل، فَمن ذهب إِلَى منع قبُول أخبارهم احْتج بِمَا قدمنَا ذكره. وسَاق الْخَطِيب السَّنَد عَن أبي سكينَة بن مشاجع بن قُطْبَة: قَالَ سَمِعت عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ فِي مَسْجِد الْكُوفَة يَقُول: "انْظُرُوا عَمَّن تأخذون هَذَا الْعلم فَإِنَّمَا هُوَ الدّين" وَأورد الرِّوَايَات السَّابِقَة عَن ابْن سِيرِين وَغَيره فِي كَون السَّنَد من الدّين ... وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْخَطِيب أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن عَاصِم.. قَالَ سَمِعت ابْن سِيرِين يَقُول: "كَانُوا لَا يسْأَلُون عَن الْإِسْنَاد، حَتَّى كَانَ بِآخِرهِ، فَكَانُوا يسْأَلُون عَن الْإِسْنَاد، لينظروا من كَانَ صَاحب سنة كتبُوا عَنهُ، وَمن لم يكن صَاحب سنة لم يكتبوا عَنهُ". وَجَاء عَنهُ مَا رَوَاهُ بِسَنَدِهِ عَن عَليّ بن حَرْب قَالَ: "من قدر أَلا يكْتب الحَدِيث إِلَّا عَن صَاحب سنة، فَإِنَّهُم يكذبُون كل صَاحب هوى يكذب وَلَا يُبَالِي.." وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن ابْن لَهِيعَة يذكر أَنه سمع رجلا من أهل الْبدع رَجَعَ عَن بدعته، فَجعل يَقُول: "انْظُرُوا هَذَا الحَدِيث عَمَّن تأخذونه فَإنَّا كُنَّا إِذا رَأينَا رَأيا جَعَلْنَاهُ حَدِيثا.." وَسَيَأْتِي مزِيد بَيَان فِي هَذَا. وَأما عَن أَدِلَّة مَا تقدم فقد ذكر الْخَطِيب بعض الْمَنْقُول عَن أَئِمَّة أَصْحَاب الحَدِيث فِي جَوَاز الرِّوَايَة عَن أهل الْأَهْوَاء والبدع.. وَأَشَارَ إِلَى مَا قَالَه الشَّافِعِي فِي جَوَاز قبُول شَهَادَة أهل الْأَهْوَاء غير صنف من الرافضة خَاصَّة.. وروى بِسَنَدِهِ عَن عَليّ بن الْجَعْد يَقُول سَمِعت أَبَا يُوسُف يَقُول: "أُجِيز شَهَادَة أهل الْأَهْوَاء - أهل الصدْق مِنْهُم - إِلَّا الخطابية والقدرية الَّذين يَقُولُونَ إِن الله لَا يعلم الشَّيْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وروى بِسَنَدِهِ أَيْضا عَن ابْن الْمُبَارك يَقُول: "سَأَلَ أَبُو عصمَة أَبَا حنيفَة مِمَّن تَأْمُرنِي أَن أسمع الْآثَار؟ " قَالَ: "من كل عدل فِي هَوَاء، إِلَّا الشِّيعَة فَإِن أصل عقدهم تضليل أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن أَتَى السُّلْطَان طَائِعا، أما إِنِّي لَا أَقُول أَنهم يكذبونهم، أَو يأمرونهم بِمَا لَا يَنْبَغِي، وَلَكِن وطؤا لَهُم حَتَّى انقادت الْعَامَّة بهم فهذان لَا يَنْبَغِي أَن يَكُونَا من أَئِمَّة الْمُسلمين". وَأما من ترك الدعاة من أهل الْبدع أَن يرْوى عَنْهُم، وروى عَمَّن لم يكن دَاعِيَة أَو أفتى بذلك. يَقُول الْخَطِيب: "فَأخْبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب الْخَوَارِزْمِيّ بِسَنَدِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي يَقُول: "من رأى رَأيا وَلم يدع إِلَيْهِ احْتمل، وَمن رأى رَأيا ودعى إِلَيْهِ فقد اسْتحق التّرْك". وروى ابْن معِين وَمَالك بن أنس وَأحمد بن حَنْبَل وَجَمَاعَة أَنهم كَانُوا يروون عَن غير الداعية ويتركون الرِّوَايَة عَن الداعية فعل ابْن الْمُبَارك فقد تحدث عَن هِشَام الدستوَائي، وَترك عَمْرو بن عبيد وَلما سُئِلَ قَالَ:"إِن عَمْرو يَدْعُو"1وَذكر من مثل هَذِه الْعبارَات الْكَثِيرَة كلهَا يُوضح مَذْهَب كل من الْعلمَاء فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من الرَّد وَالْقَبُول. الْخَبَر الدَّال على طلب معرفَة الضُّعَفَاء وَالْوُقُوف على أَحْوَالهم. وَردت عدَّة أَخْبَار تُشِير إِلَى الْحَث على معرفَة الضُّعَفَاء حَتَّى يقف الباحث على أَمرهم. روى ابْن حبَان وَالْمُنْذِرِي: عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو السّلمِيّ وَحجر بن حجر الكلَاعِي قَالَا: "أَتَيْنَا الْعِرْبَاض بن سَارِيَة - وَهُوَ مِمَّن نزل فِيهِ {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فسلمنا وَقُلْنَا: أَتَيْنَاك زائرين، وعائدين ومقتبسين، فَقَالَ الْعِرْبَاض: "صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم، ثمَّ أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت مِنْهَا الْعُيُون ووجلت مِنْهَا الْقُلُوب، فَقَالَ قَائِل: يَا رَسُول الله، كَأَن هَذِه موعظة مُودع، فَمَاذَا تعهد إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: "أوصيكم بتقوى الله والسمع وَالطَّاعَة وَإِن عبد حبشِي، فَإِنَّهُ من يَعش مِنْكُم بعدِي فسيرى اخْتِلَافا كثيرا، فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء المهديين الرَّاشِدين، تمسكوا بهَا وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ، وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور، فَإِن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة.." قَالَ الْمُنْذِرِيّ: "وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَلَيْسَ فِي حَدِيثهمَا ذكر حجر ابْن حجر، غير أَن التِّرْمِذِيّ أَشَارَ إِلَيْهِ تَعْلِيقا" وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: "حسن: صَحِيح" والخلفاءَ: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي.. وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم "اقتدوا باللذين من بعدِي: أبي بكر وَعمر". . فَخص اثْنَيْنِ- فَإِذا قَالَ أَحدهمَا قولا وَخَالفهُ فِيهِ أحد من الصَّحَابَة كَانَ الْمصير إِلَى قَوْله أولى.. وَيَقُول الْخطابِيّ فِي معالم السّنَن أَيْضا: (والنواجذ) آخر الأضراس.. وَاحِدهَا ناجذ.. وَإِنَّمَا أَرَادَ الْجد فِي لُزُوم السّنة، فعل من أمسك الشَّيْء بَين أَضْرَاسه، وعضو عَلَيْهِ، منعا لَهُ أَن ينتزع، وَذَلِكَ أَشد مَا يكون من التَّمَسُّك بالشَّيْء، إِذا كَانَ مَا يمسِكهُ بمقاديم فِيهِ أقرب تناولا وأسهل انتزاعا. وَقد يكون مَعْنَاهُ أَيْضا: الْأَمر بِالصبرِ على مَا يُصِيبهُ من المضض فِي ذَات الله، كَمَا يَفْعَله المتألم بالوجع يُصِيبهُ.. وَقَوله: "كل محدثة بِدعَة" فَإِن هَذَا خَاص فِي بعض الْأُمُور دون بعض، وكل شَيْء على غير أصل من أصُول الدّين، وعَلى غير عياره وَقِيَاسه.. وَأما مَا كَانَ مَبْنِيا على قَوَاعِد الْأُصُول ومردود إِلَيْهَا فَليصل ببدعة وَلَا ضَلَالَة.2.. وَقَالَ ابْن حبَان قَالَ أَبُو حَاتِم: فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "فَإِنَّهُ من يَعش مِنْكُم فسيرى اخْتِلَافا فَعَلَيْكُم بِسنتي.." "دَلِيل صَحِيح على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أمته بِمَعْرِِفَة الضُّعَفَاء من الثقاة لِأَنَّهُ لَا يتهيأ لُزُوم السّنة مَعَ مَا خالطها من الْكَذِب والأباطيل إِلَّا بِمَعْرِِفَة الضُّعَفَاء من الثقاة وَقد علم النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِمَا يكون من ذَلِك فِي أمته إِذْ قَالَ: "من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار ... "   1 انْظُر: مُخْتَصر سنَن أبي دَاوُد لمنذري جـ 7 ص 11/12. ك السّنة /بَاب فِي لُزُوم السّنة حد 2 نفس الْمرجع السَّابِق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الْأَمر بِجرح الضفعاء ونشوء هَذَا الْعلم.. تَحت هَذَا الْمَوْضُوع سنبين الْأَدِلَّة المجوزة فِي جرح الضُّعَفَاء وَأَنه من الدّين، وَبَيَان الْفرق بَين الْجرْح والغيبة الْمنْهِي عَنْهَا.. روى مُحَمَّد بن حبَان بِسَنَدِهِ عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: مر عمر بن الْخطاب بِحسان ابْن ثَابت وَهُوَ ينشد الشّعْر فِي الْمَسْجِد فلحظ إِلَيْهِ فَقَالَ حسان: "قد كنت أنْشد فِيهِ مَعَ من هُوَ خير مِنْك، ثمَّ الْتفت إِلَى أبي هُرَيْرَة فَقَالَ: "أنشدكَ الله هَل سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " يَا حسان أجب عني.. اللَّهُمَّ أيده بِروح الْقُدس؟ " قَالَ: "نعم"1 وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه2 قَالَ أَبُو حَاتِم: "فِي هَذَا ... كالدليل على الْأَمر بِجرح الضُّعَفَاء، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لحسان بن ثَابت أجب عني، وَإِنَّمَا أَمر أَن يذب عَنهُ مَا كَانَ يَقُول عَلَيْهِ الْمُشْركُونَ فَإِذا كَانَ فِي تَقول الْمُشْركين على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر أَن يذب عَنهُ، وَإِن لم يضر كذبهمْ الْمُسلمين، وَلَا أحلُّوا بِهِ الْحَرَام، وَلَا حرمُوا بِهِ الْحَلَال، كَانَ من كذب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُسلمين الَّذِي يحل الْحَرَام وَيحرم الْحَلَال بروايتهم أَحْرَى أَن يُؤمر بذب ذَلِك الْكَذِب عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم". وعقب أَبُو حَاتِم على حَدِيث أبي هُرَيْرَة: "يتقارب الزَّمَان وَينْقص وَتظهر الْفِتَن وَيكثر الْهَرج". قَالَ: إِن الْعلم ينقص عِنْد تقَارب الزَّمَان، وَفِيه دَلِيل على أَن ضد الْعلم يزِيد، وكل شَيْء زَاد مِمَّا لم يكن مرجعه إِلَى الْكتاب وَالسّنة فَهُوَ ضد الْعلم، وَلست أعلم الْعُلُوم كلهَا إِلَّا فِي زِيَادَة إِلَّا هَذَا الْجِنْس الْوَاحِد من الْعلم، وَهُوَ الَّذِي لَا يكون لِلْإِسْلَامِ قوام إِلَّا بِهِ، إِذْ الله جلّ وَعلا أَمر بِاتِّبَاع رَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعند التَّنَازُع الرُّجُوع إِلَى مِلَّته وَعند الْحَوَادِث حَيْثُ قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..} 3 ثمَّ نفى الْإِيمَان عَمَّن لم يحكم رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا شجر بَينهم فَقَالَ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4 فَمن لم يحفظ سنَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يحسن تَمْيِيز صحيحها من سقيمها وَلَا عرف الثقاة من الْمُحدثين وَلَا الضُّعَفَاء والمتروكين وَمن يجب قبُول انْفِرَاد خَبره مِمَّن لَا يجب قبُول زِيَادَة الْأَلْفَاظ فِي رِوَايَته، وَلم يحسن مَعَاني الْأَخْبَار وَالْجمع بَين تضادها فِي الظَّوَاهِر وَلَا النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ، وَلَا اللَّفْظ الْخَاص الَّذِي يُرَاد بِهِ الْعَام، وَلَا اللَّفْظ الْعَام الَّذِي يُرَاد بِهِ الْخَاص.. وَلَا الْأَمر الَّذِي هُوَ فَرِيضَة وَإِيجَاب، وَلَا الْأَمر الَّذِي هُوَ فَضِيلَة وإرشاد، وَلَا النَّهْي الَّذِي هُوَ حتم لَا يجوز ارتكابه من النَّهْي الَّذِي هُوَ ندب يُبَاح اسْتِعْمَاله، مَعَ سَائِر فُصُول السّنَن، وأنواع أَسبَاب الْأَخْبَار كَيفَ يسْتَحل أَن يُفْتِي، أَو كَيفَ يسوغ لنَفسِهِ تَحْرِيم الْحَلَال، أَو تَحْلِيل الْحَرَام تَقْلِيد أَمنه لمن يُخطئ ويصيب رافضا قَول من لَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كَيْفيَّة نقص الْعلم الَّذِي ذكره فِي خبر أبي هُرَيْرَة، وَأَن ذَلِك لَيْسَ بِرَفْع   1 أنظر الْمَجْرُوحين لِابْنِ حبَان جـ 1/ص 10/ط 1 2 الْمَجْرُوحين لِابْنِ حبَان ص 11/جـ 1 3 الْحَشْر /7 4 النِّسَاء /65 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وهم وَقع فِيهِ الْبَعْض.. بعض النَّاس وَقَعُوا فِي وهم سَببه أَنهم لم يستطيعوا أَن يفرقُوا بَين وصف الشَّخْص بِمَا يجرحه نصيحة ومصلحة للشريعة الغراء وَبَين الْغَيْبَة الَّتِي يقْصد بهَا الْقدح والانتقاص بِدُونِ مصلحَة تتَعَلَّق بِالدّينِ. وَقد عقد الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بَابا فِي وجوب تَعْرِيف الْمُزَكي مَا عِنْده من حَال الْمَسْئُول عَنهُ.. ومهد لَهُ بِمَا رَوَاهُ بِسَنَدِهِ عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "من سُئِلَ علم يُعلمهُ فكتمه ألْجم يَوْم الْقِيَامَة بلجام من نَار.." وَقد أنكر قوم لم يتبحروا فِي الْعُلُوم قَول الْحَافِظ من أَئِمَّتنَا، وَأولى الْمعرفَة من أسلافنا الرَّاوِي ضَعِيف، وَفُلَانًا غير ثِقَة، وَمَا أشبه هَذَا من الْكَلَام وَرَأَوا فِي ذَلِك غيبَة لمن قيل فِيهِ، إِن كَانَ الْأَمر على مَا ذكره الْقَائِل، وَإِن كَانَ الْأَمر على خِلَافه فَهُوَ بهتان.. وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة " أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ مَا الْغَيْبَة فَقَالَ: "ذكرك أَخَاك بِمَا يكره" قَالَ: أَفَرَأَيْت إِن كَانَ فِي أخي مَا أَقُول؟ قَالَ: "إِن كَانَ فِي أَخِيك مَا تَقول فقد اغْتَبْته وَإِن لم يكن فِيهِ مَا تَقول ففد بَهته.." وروى مُحَمَّد بن حبَان بِسَنَدِهِ عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "مَا الْغَيْبَة؟ " الحَدِيث.. قَالَ أَبُو حَاتِم: "احْتج بِهَذَا مِمَّن لَيْسَ الحَدِيث صناعتهم، وَزَعَمُوا أَن قَول أَئِمَّتنَا فلَان لَيْسَ بِشَيْء، وَفُلَان ضَعِيف، وَمَا يشبه هَذَا من الْمقَال غيبَة إِن كَانَ فيهم مَا قيل، وَإِلَّا فَهُوَ بهتان عَظِيم"1ثمَّ قَالَ: "إِن هَذَا لَيْسَ بالغيبة الْمنْهِي عَنْهَا وَذَلِكَ أَن الْمُسلمين قاطبة لَيْسَ بَينهم خلاف أَن الْخَبَر لَا يجب أَن يسمع عِنْد الِاحْتِجَاج إِلَّا من الصدوق الْعَاقِل، فَكَانَ فِي إِجْمَاعهم هَذَا دَلِيل على إِبَاحَة جرح من لم يكن يصدق فِي الرِّوَايَة عَن أَن السّنة تصرح عَن الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بضد مَا انتحل مخالفونا فِيهِ.." وَعَن ابْن حبَان الْخَبَر الدَّال على صِحَة مَا ذهب إِلَيْهِ.. قَالَ حَدثنَا الْحسن ابْن سُفْيَان الشَّيْبَانِيّ قَالَ أنبانا روح بن الْقَاسِم عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: أقبل رجل فَلَمَّا رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " بئس أَخُو الْعَشِيرَة، أَو قَالَ ابْن الْعَشِيرَة.." فَلَمَّا جَاءَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلمه وانبسط إِلَيْهِ فَلَمَّا ولى قَالَت عَائِشَة يَا رَسُول الله: "لما رَأَيْته قلت.. وَلما جَاءَ كَلمته وانبسطت إِلَيْهِ"، فَقَالَ يَا عَائِشَة: "إِن شَرّ أمتِي عِنْد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة من تَركه النَّاس اتقاء فحشه" قَالَ أَبُو حَاتِم: وَفِي هَذَا الْخَبَر دَلِيل على إِخْبَار الرجل بِمَا فِي الرجل على جنس الْإِبَانَة أَو الدّيانَة لَيْسَ بغيبة إِذْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "بئس أَخُو الْعَشِيرَة، أَو ابْن الْعَشِيرَة"، وَلَو كَانَ هَذَا غيبَة لم يطلقهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا أَرَادَ بقوله هَذَا أَن يفتدي ترك الْفُحْش، إِلَّا أَنه أَرَادَ ثلبه وَإِنَّمَا الْغَيْبَة مَا يُرِيد الْقَائِل الْقدح فِي الْمَقُول فِيهِ، وأئمتنا رَحْمَة الله عَلَيْهِم إِنَّمَا بينوا هَذِه الْأَشْيَاء وأطلقوا الْجرْح فِي غير الْعُدُول لِئَلَّا يحْتَج بأخبارهم لَا أَنهم أَرَادوا ثلبهم والوقيعة فيهم. والإخبار عَن الشَّيْء لَا يكون غيبَة إِذا أَرَادَ الْقَائِل بِهِ الثلب 2 وَجَاء فِي مُخْتَصر سنَن أبي دَاوُود لِلْمُنْذِرِيِّ 3 عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قيل: يَا رَسُول الله مَا الْغَيْبَة؟ قَالَ: "ذكرك أَخَاك بِمَا يكره" قيل أَفَرَأَيْت إِن كَانَ فِي أخي مَا أَقُول؟ قَالَ: "إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقول فقد اغْتَبْته وَإِن لم يكن فِيهِ مَا تَقول فقد بَهته ". وَمعنى هَذَا: أَي قلت فِيهِ الْبُهْتَان وَهُوَ الْبَاطِل وَقيل واجهته بِمَا لم يفعل. وَقيل قلت فِيهِ من الْبَاطِل مَا حيرته بِهِ.. يُقَال بهت الرجل بِفَتْح الْبَاء وَكسر الْهَاء إِذا تحير وبهت بِضَم الْهَاء - مثله.. وأفصح مِنْهَا بهت - بِضَم الْبَاء وَكسر الْهَاء -   1 كتاب الْمَجْرُوحين لِابْنِ حبَان البستي جـ 1/ ص 17 2 ابْن حبَان جـ 1/ ص 19 3 مُخْتَصر الْمُنْذِرِيّ للسنن جـ 7/ ص 112 بَاب فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قَالَ الله تَعَالَى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ..} 1. وَقَالَ بَعضهم: الاغتياب حرَام والغيبة ذكر الْإِنْسَان بِمَا يكره فِي غيبته- والبهت وَجهه، وَكِلَاهُمَا مَذْمُوم كَانَ بِحَق أَو بباطل، إِلَّا أَن يكون بِوَجْه شَرْعِي.. فَيَقُول ذَلِك فِي وَجهه على طَرِيق الْوَعْظ والنصيحة وَله التَّعْرِيض دون التَّصْرِيح والْحَدِيث رَوَاهُ مُسلم بِسَنَدِهِ عَن الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: "بَاب تَحْرِيم الْغَيْبَة وَفِيه يُقَال بَهته بِفَتْح الْهَاء مُخَفّفَة قلت فِيهِ الْبُهْتَان وَهُوَ الْبَاطِل؛ والغيبة: ذكر الْإِنْسَان فِي غيبته بِمَا يكره وأصل البهت أَن يُقَال لَهُ الْبَاطِل فِي وَجهه وهما حرامان لَكِن تُبَاح لغَرَض شَرْعِي، وَذَلِكَ لسِتَّة أَسبَاب: (1) التظلم فَيجوز للمظلوم أَن يتظلم لَدَى السُّلْطَان وَالْقَاضِي وَغَيرهمَا مِمَّن لَهُ ولَايَة، أَو قدرَة على إنصافه من ظالمه، فَيَقُول ظَلَمَنِي فلَان أَو فعل بِي كَذَا.. (2) الاستغاثة على تَغْيِير الْمُنكر ورد العَاصِي إِلَى الصَّوَاب، فَيَقُول لمن يَرْجُو قدرته فلَان يعْمل كَذَا فأزجره عني وَنَحْو ذَلِك.. (3) الاستفتاء: بِأَن يَقُول للمفتي ظَلَمَنِي فلَان أَو أبي أَو أخي أَو زَوجي بِكَذَا فَهَل لَهُ ذَلِك وَمَا طريقي فِي الْخَلَاص مِنْهُ وَرفع ظلمه عني وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا جَائِز، والأجود أَن يَقُول فِي رجل أَو زوج أَو وَالِد وَولد كَانَ من أمره كَذَا وَمَعَ ذلكَ فالتعيين جَائِز لحَدِيث هِنْد وَقَوْلها: "إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح". (4) تحذير الْمُسلمين من الشَّرّ وَذَلِكَ من وُجُوه جرح الْمَجْرُوحين من الروَاة وَالشُّهُود والمصنفين، وَذَلِكَ جَائِز بِالْإِجْمَاع، بل وَاجِب صونا للشريعة. وَمِنْهَا الْإِخْبَار بِعَيْبِهِ عِنْد الْمُشَاورَة فِي مصاهرته، وَمِنْهَا إِذا رَأَيْت من يَشْتَرِي شَيْئا معيبا أَو عبدا سَارِقا أَو زَانيا أَو شاربا أَو نَحْو ذَلِك تذكره للْمُشْتَرِي إِذا لم يلعمه نصيحة لَا بِقصد الْإِيذَاء والإفساد، وَمِنْهَا إِذا رَأَيْت متفقها يتَرَدَّد إِلَى فَاسق أَو مُبْتَدع يَأْخُذ عَنهُ علما وَخفت عَلَيْهِ ضَرَره فَعَلَيْك نصيحته بِبَيَان حَاله قَاصِدا النَّصِيحَة. وَمِنْهَا أَن يكون لَهُ ولَايَة لَا يقوم بهَا على وَجههَا لعدم أَهْلِيَّته أَو لفسقه فيذكره لمن لَهُ عَلَيْهِ ولَايَة ليستدل بهَا على حَاله فَلَا يغتر بِهِ وَيلْزم الاسْتقَامَة. (5) أَن يكون مجاهرا بِفِسْقِهِ أَو بدعته كَالْخمرِ ومصادرة النَّاس وجباية المكوس وتولي الْأُمُور الْبَاطِلَة فَيجوز بِغَيْرِهِ إِلَّا بِسَبَب آخر. (6) التَّعْرِيف: فَإِذا كَانَ مَعْرُوفا بلقب كالأعمش والأعرج والأزرق والقصير وَالْأَعْمَى والأقطع والأحول والضال وَنَحْوهَا جَازَ تَعْرِيفه بِهِ وَيحرم ذكره بِهِ تنقصا.. وَلَو أمكن التَّعْرِيف بِغَيْرِهِ كَانَ أولى. أما عَن حَدِيث عَائِشَة السَّابِق فِي الرجل الَّذِي تكلم فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فقد ذكره الْمُنْذِرِيّ فِي مُخْتَصر السّنَن عَن عُرْوَة، وَهُوَ ابْن الزبير رضى الله عَنْهُمَا عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا قَالَت: اسْتَأْذن على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل فَقَالَ: "بئس ابْن الْعَشِيرَة - أَو بئس رجل الْعَشِيرَة -" ثمَّ قَالَ: "أئذنوا لَهُ". فَلَمَّا دخل ألان لَهُ القَوْل، فَقَالَت عَائِشَة: "يَا رَسُول الله ألنت لَهُ القَوْل وَقد قلت مَا قلت؟ " قَالَ: "إِن شَرّ النَّاس عِنْد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة من ودعه النَّاس- أَو تَركه - النَّاس اتقاء فحشه". وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: "وَهَذَا الرجل هُوَ عُيَيْنَة بن حصن بن حُذَيْفَة بن بدر الْفَزارِيّ". وَقيل: "هُوَ مخرمَة بن نَوْفَل الزُّهْرِيّ وَالِد الْمسور بن مخرمَة". وَعَن أبي سَلمَة، وَهُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: أَن رجلا اسْتَأْذن على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "بئس أَخُو الْعَشِيرَة.. فَلَمَّا دخل انبسط إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلمه، فَلَمَّا خرج قلت: "يَا رَسُول الله لما اسْتَأْذن قلت بئس أَخُو الْعَشِيرَة فَلَمَّا دخل انبسطت لَهُ؟ "   1 سُورَة الْبَقَرَة آيَة (258) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فَقَالَ: "يَا عَائِشَة إِن الله لَا يحب الْفَاحِش الْمُتَفَحِّش.." 1 قَالَ الشَّيْخ الْخطابِيّ: "أصل الْفُحْش زِيَادَة الشَّيْء على مِقْدَاره وَمن هَذَا قَول الْفُقَهَاء "يصلى فِي الثَّوْب الَّذِي أَصَابَهُ الدَّم إِذا لم يكن فَاحِشا" أَي كثيرا مجاوزا للقدر الَّذِي يتعافاه النَّاس فِيمَا بَينهم. يَقُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن اسْتِقْبَال الْمَرْء صَاحبه بعيوبه إفحاش وَالله لَا يحب الْفُحْش، وَلَكِن الْوَاجِب أَن يتأنى لَهُ، ويرفق بِهِ ويكني فِي القَوْل، ويوري بِهِ وَلَا يُصَرح. وَفِيه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد ذكره بِالْعَيْبِ الَّذِي عرف بِهِ قبل أَن يدْخل.. وَهَذَا من النَّبِي صلى اللَه علية وَسلم لَا يجْرِي مجْرى الْغَيْبَة، وَإِنَّمَا فِيهِ تَعْرِيف النَّاس أمره، وزجرهم عَن مثل مذْهبه، وَلَعَلَّه تجاهر بِسوء فعاله ومذهبه، وَلَا غيبَة لمجاهر" 2.   1 مُخْتَصر الْمُنْذِرِيّ على سنَن أبي دَاوُد جـ 7/ ص 169ـ170 كتاب الْأَدَب حَدِيث رقم /4624 2 نفس الْمرجع ص 171 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 من لَيست لَهُ غيبَة: عَن أبي عبد الله الْجُشَمِي عَن جُنْدُب - وَهُوَ ابْن عبد الله البَجلِيّ رضى الله عَنهُ - قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِي فَأَنَاخَ رَاحِلَته ثمَّ عقلهَا ثمَّ دخل الْمَسْجِد فصلى خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ واله وَسلم، فَلَمَّا سلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى رَاحِلَته فأطلقها.. ثمَّ ركب ثمَّ نَادَى "اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمدا وَلَا تشرك فِي رَحْمَتنَا أحدا"، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "أتقولون هُوَ أضلّ أم بعيره؟ ألم تسمعوا إِلَى مَا قَالَ؟ قَالُوا بلَى". أَبُو عبد اللَه - هَذَا هُوَ عَبَّاس الْجُشَمِي، ذكره النَّسَائِيّ فِي كتاب الكنى وَقد أخرج التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه نَحوا من حَدِيث أَبى وَلَيْسَ فِيهِ الْفَصْل الْأَخير.. وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث أنس بن مَالك. قَالَ الشَّيْخ ابْن الْقيم رَحمَه الله تَعَالَى: (وَإِدْخَال أبي دَاوُد هَذَا الحَدِيث هُنَا يُرِيد بِهِ أَن ذكر الرجل بِمَا فِيهِ فِي مَوضِع الْحَاجة لَيْسَ بغيبة مثل هَذَا، وَنَظِيره مَا تقدم من حَدِيث عَائِشَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ "ائذنوا لَهُ فبئس أَخُو الْعَشِيرَة" بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ: "بَاب أهل الْفساد والريب" وَذكر فِي الْبَاب عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "مَا أَظن فلَانا وَفُلَانًا يعرفان من ديننَا شَيْئا". وَفِي الْبَاب حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس لما خطبهَا مُعَاوِيَة وَأَبُو جهم. فَقَالَ النَّبِي صلى اللَه عَلَيْهِ وَسلم: "أما مُعَاوِيَة: فصعلوك، وَأما أَبُو جهم: فَلَا يضع الْعَصَا عَن عَاتِقه". وَقَالَت هِنْد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح". وَقَالَ الْأَشْعَث بن قيس للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خَصمه: "إِنَّه امْرُؤ فَاجر". وَقَالَ الْحَضْرَمِيّ بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خَصمه: "إِنَّه رجل فَاجر لَا يُبَالِي مَا حلف عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يتورع من شَيْء ... " رَوَاهُ مُسلم3. رَأْي الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي الْأَمر بِجرح غير الثقاة من الروَاة.. روى بِسَنَدِهِ عَن مُحَمَّد ابْن الْفضل بن الْعَبَّاس يَقُول: "كُنَّا عِنْد عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم وَهُوَ إِذن يقْرَأ علينا كتاب (الْجرْح وَالتَّعْدِيل) فَدخل عَلَيْهِ يُوسُف بن الْحُسَيْن الرَّازِيّ فَقَالَ لَهُ: "يَا أَبَا مُحَمَّد مَا هَذَا الَّذِي تقرؤه على النَّاس؟   3 مُخْتَصر الْمُنْذِرِيّ جـ 7/ ص 217 حَدِيث 4717 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 " قَالَ: "كتاب صنفته فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل"، قَالَ: "وَمَا الْجرْح وَالتَّعْدِيل؟ " قَالَ: "أظهر أَحْوَال أهل الْعلم من كَانَ مِنْهُم ثِقَة أَو غير ثِقَة.." فَقَالَ لَهُ يُوسُف بن الْحُسَيْن: "استحييت لَك يَا أَبَا مُحَمَّد، كم من هَؤُلَاءِ الْقَوْم قد حطوا رواحلهم فِي الْجنَّة مُنْذُ مائَة ومائتي سنة وَأَنت تذكرهم وتغتابهم على أَدِيم الأَرْض"، فَبكى عبد الرَّحْمَن وَقَالَ: "يَا أَبَا يَعْقُوب لَو سَمِعت هَذِه الْكَلِمَة قبل تصنيفي هَذَا الْكتاب لما صَنعته". قَالَ الْخَطِيب: وَلَيْسَ الْأَمر على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، لِأَن أهل الْعلم أَجمعُوا على أَن الْخَبَر لَا يجب قبُوله إِلَّا من الْعَاقِل الصدوق الْمَأْمُون على مَا يخبر بِهِ. وَفِي ذَلِك دَلِيل على جَوَاز الْجرْح إِن لم يكن صَدُوقًا فِي رِوَايَته مَعَ أَن سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد وَردت مصرحة بِتَصْدِيق مَا ذكرنَا.. وبضد قَول من خَالَفنَا. وروى حَدِيث عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة: "ائذنوا لَهُ فبئس أَخُو الْعَشِيرَة". قَالَ: فَفِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للرجل: " بئس رجل الْعَشِيرَة"، دَلِيل أَن أَخْبَار الْمخبر بِمَا يكون فِي الرجل من الْعَيْب على مَا يُوجب الْعلم من النَّصِيحَة للسَّائِل لَيْسَ بغيبة. لما أطلقهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِمَا ذكر فِيهِ- والله اعْلَم- أَن بئس للنَّاس الْحَالة المذمومة مِنْهُ، وَهِي الْفُحْش، فيجتنبوها، لَا أَنه أَرَادَ الطعْن عَلَيْهِ والثلب لَهُ. قَالَ الْخَطِيب: "وَكَذَلِكَ أَئِمَّتنَا فِي الْعلم بِهَذِهِ الصِّنَاعَة، إِنَّمَا أطْلقُوا الْجرْح فِيمَن لَيْسَ بِعدْل، لِئَلَّا يتغطى أمره على من لَا يُخبرهُ فيظنه من أهل الْعَدَالَة فيحتج بِخَبَرِهِ، والإخبار عَن حَقِيقَة الْأَمر إِذا كَانَ على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا، لَا يكون غيبَة". يَقُول أَيْضا: وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس الَّذِي أخبرناه عبد الرَّحْمَن ابْن عبيد الله الْحرفِي بِسَنَدِهِ عَن مَالك بن أنس عَن عبد الله بن يزِيد مولى الْأسود بن سُفْيَان عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن فَاطِمَة بنت قيس أَن أَبَا عَمْرو بن حَفْص طَلقهَا الْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِب بِالشَّام فَأرْسل إِلَيْهَا وَكيله بشعير فتسخطته فَقَالَ والله مَالك علينا من شَيْء فَجَاءَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ: "لَيْسَ لَك عَلَيْهِ نَفَقَة"، وأمرها أَن تَعْتَد فِي بَيت أم شريك ثمَّ قَالَ: "إِنَّهَا امْرَأَة يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتدي عِنْد ابْن أم مَكْتُوم فانه رجل أعمى تَضَعِينَ ثِيَابك، فَإِذا حللت فأذيني"، قَالَت: "فَلَمَّا حللت ذكرت لَهُ أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأَبا جهم خطباني فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "أما أَبُو جهم فَلَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه وَأما مُعَاوِيَة فصعلوك لَا مَال لَهُ انكحي أُسَامَة بن زيد"، قَالَت: "فَكَرِهته" ثمَّ قَالَ: "انكحي أُسَامَة ابْن زيد" فنكحته فَجعل الله فِيهِ خيرا كثيرا واغتبطت بِهِ. فِي هَذَا الْخَبَر دلَالَة على أَن إجَازَة الْجرْح للضعفاء من جِهَة النَّصِيحَة لتجنب الرِّوَايَة عَنْهُم وليعدل عَن الِاحْتِجَاج بأخبارهم لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما ذكر فِي أبي جهم أَنه لَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه، وَأخْبر عَن مُعَاوِيَة أَنه صعلوك لَا مَال لَهُ، عِنْد مشورة استشير فِيهَا لَا تتعدى المستشير كَانَ ذكر الْعُيُوب الكامنة فِي بعض نقلة السّنَن الَّتِي يُؤَدِّي السُّكُوت عَن إظهارها عَنْهُم، وكشفهم عَلَيْهِم إِلَى تَحْرِيم الْحَلَال وَتَحْلِيل الْحَرَام.. وَإِلَى الْفساد فِي شَرِيعَة الْإِسْلَام أولى بِالْجَوَازِ وأحق بالإظهار. وَأما الْغَيْبَة الَّتِي نهى الله عَنْهَا بقوله عز وَجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} 1،وزجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهَا بقوله: "يَا معشر من آمن بِلِسَانِهِ وَلم يدْخل الْإِيمَان قلبه لَا تَغْتَابُوا الْمُسلمين وَلَا تتبعوا عَوْرَاتهمْ". فَنهى عَن ذكر الرجل عُيُوب أَخِيه يقْصد بهَا الْوَضع مِنْهُ والتنقيص لَهُ والازدراء بِهِ، فِيمَا لَا يعود إِلَى حكم النَّصِيحَة، وَإِيجَاب الدّيانَة من التحذير عَن ائتمان الخائن وَقبُول خبر الْفَاسِق، واستماع شَهَادَة الْكَاذِب، وَقد تكون الْكَلِمَة الْوَاحِدَة لَهَا مَعْنيانِ مُخْتَلِفَانِ على حسب اخْتِلَاف حَال قَائِلهَا، فِي بعض الْأَحْوَال يَأْثَم قَائِلهَا وَفِي حَالَة أُخْرَى لَا يَأْثَم..   1 سُورَة الحجرات آيَة (12) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71