الكتاب: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف: محمد بن علي بن عطية الحارثي، أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ) المحقق: د. عاصم إبراهيم الكيالي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان الطبعة: الثانية، 1426 هـ -2005 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد أبو طالب المكي الكتاب: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف: محمد بن علي بن عطية الحارثي، أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ) المحقق: د. عاصم إبراهيم الكيالي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان الطبعة: الثانية، 1426 هـ -2005 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله الأوّل الأزلي قبل الكون والمكان، من غير أوّل ولا بداية، الآخر الأبدي بعد فناء المكنونات والأزمان بغير آخر ولا غاية، الظاهر في علوّه بقهره عن غير بعد، والباطن في دنوّه بقربه من دون مسّ، الذي أحسن بلطفه كل شيء بدأه وأتقن صنع كل شيء أنشأه، ودبرت الأحكام حكمته وصرفت المحكومات مشيئته، فأظهر في الغيب والشهادة لطيف قدرته وعمّ في العاجل والآجل خلقه بنعمته، ونشر على مَن أحبّ منهم فضله، وبسط لجميعهم عدله، وأنعم عليهم بتعريفهم إياه، سبحانه وتعالى، به عزّ وجلّ، وأحسن إليهم باجتبائه إياهم إليه، وأفضل عليهم بتيسير كلامه لهم، ومنَّ عليهم ببعثه رسولاً من أنفسهم إليهم، فنسأله الصلاة على النبي وآله، وأن يوزعنا بفضله وشكر نعمه، ويعرفنا خفيّ قدره، وصلّى الله تبارك وتعالى على سيّد الأوّلين والآخرين، رسوله المفضل بالشفاعة والحوض المورود، المخصوص بالوسيلة والمقام المحمود، وعلى إخوانه السالفين في الأزمان، وأنصاره التابعين بإحسان. وبعد فهذا كتاب قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، تصنيف الشيخ أبي طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي رضي الله عنه يشتمل على ثمانية وأربعين فصلاً هذا ذكرها: الفصل الأول: في ذكر الآي التي فيها المعاملات. الفصل الثاني: في الآي التي فيها ذكر أوراد الليل والنهار. الفصل الثالث: في ذكر عمل المريد في اليوم والليلة. الفصل الرابع: في ذكر ما يستحب من الذكر وقراءة الآي المندوب إليها بعد التسليم من صلاة الصبح. الفصل الخامس: في ذكر الأدعية المختارة بعد صلاة الصبح. الفصل السادس: في ذكر عمل المريد بعد صلاة الصبح. الفصل السابع: في ذكر أوراد النهار وهي سبعة أوراد. الفصل الثامن: في ذكر أوراد الليل وهي خمسة أوراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الفصل التاسع: في ذكر وقت الفجر. الفصل العاشر: فيه كتاب معرفة الزوال وزيادة الظل ونقصانه بالأقدام. الفصل الحادي عشر: فيه كتاب فضل الصلاة في الأيام والليالي. الفصل الثاني عشر: في ذكر الوتر وفضل الصلاة في الليل. الفصل الثالث عشر: فيه كتاب جامع ما يستحب أن يقول العبد إذا استيقظ من نومه وفي يقظته عند الصباح. الفصل الرابع عشر: في تقسيم قيام الليل ووصف القائمين. الفصل الخامس عشر: في ذكر ورد العبد من التسبيح والذكر والصلاة في اليوم والليلة وفضل صلاة الجماعة وذكر فضل الأوقات المرجو فيها الإجابة وذكر صلاة التسبيح. الفصل السادس عشر: في ذكر معاملة العبد في التلاوة ووصف التالين حقّ تلاوته بقيام الشهادة. الفصل السابع عشر: فيه كتاب ذكر نوع من المفصل والموصل من الكلم ومدح العاملين به وذم الغافلين عنه وهو من تفسير غريب القرآن. الفصل الثامن عشر: فيه كتاب ذكر الوصف المكروه من نعت الغافلين. الفصل التاسع عشر: فيه كتاب ذكر الجهر بالقرآن وما في ذلك من النيات وتفصيل حكم الجهر والإخفات. الفصل العشرون: في ذكر الليالي المرجوّ فيها الفضل المستحب إحياؤها وذكر مواصلة الأوراد في الأيام الفاضلة. الفصل الحادي والعشرون: في كتاب الجمعة وهيئة آدابها وذكر المزيد في يوم الجمعة وليلتها. الفصل الثاني والعشرون: فيه كتاب الصوم وترتيبه ووصف الصائمين. الفصل الثالث والعشرون: في ذكر محاسبة النفس ومراعاة الوقت. الفصل الرابع والعشرون: في ذكر ماهية الورد للمريد ووصف حال العارف بالمزيد. الفصل الخامس والعشرون: في كتاب تعريف النفس وتصريف مواجيد العارفين. الفصل السادس والعشرون: فيه كتاب ذكر مشاهدة أهل المراقبة. الفصل السابع والعشرون: فيه كتاب أساس المريدين. الفصل الثامن والعشرون: فيه كتاب مراقبة المقربين. الفصل التاسع والعشرون: فيه ذكر أهل المقامات من المقربين وتمييزهم ونعت حال المتعبدين الموقنين وتمييز حال أهل الغفلة المبعدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الفصل الثلاثون: فيه كتاب ذكر خواطر القلب لأهل معاملات القلوب. الفصل الحادي والثلاثون: فيه كتاب العلم وتفضيله وأوصاف العلماء، وذكر فضل علم المعرفة على سائر العلوم، وكشف طريق العلماء من السلف الصالح، وذكر بيان فضل علم الباطن على علم الظاهر، والفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة، وذكر علماء السوء الآكلين بعلومهم الدنيا، وذكر وصف العلم وطريق السلف، وما أحدث المتأخرون من القصص والكلام، وباب ذكر ما أحدث الناس من القول والفعل فيما بينهم مما لم يكن عليه السلف، وباب من تفضيل علم الإيمان واليقين على سائر العلوم والتحذير من الزلل فيه وبيان ما ذكرناه، وباب تفصيل الأخبار وبيان طريق الآثار. الفصل الثاني والثلاثون: في شرح مقامات اليقين وأحكام الموقنين وأصل مقامات اليقين التي ترد إليها فروع أحوال اليقين وهي تسعة: أوّلها التوبة ثم الصبر ثم الشكر ثم الرجاء ثم الخوف ثم الزهد ثم التوكل ثم الرضا ثم المحبة. الفصل الثالث والثلاثون: فيه شرح مباني الإسلام وهي خمسة: فالأول فرض شهادة التوحيد للمؤمنين ووصف فضائلها وهي شهادة المقربين وذكر شهادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضلها للموقنين، والثاني شرح الصلاة فأوّلها فرض الاستنجاء وسننه وفرائض الوضوء وسننه وفضائله وفرائض الصلاة وسننها وأحكام المصلّي في فوت الصلاة ودركها وما يتعلق بها وهيئة الصلاة وآداب المصلّي فيها، والثالث شرح الزكاة ووقت أدائها وذكر فضائل الصدقة وآداب العطاء ووصف أحوال الفقراء، والرابع شرح صوم شهر رمضان، والخامس شرح كتاب الحج الذي به كمال الشريعة وتمام الملة. الفصل الرابع والثلاثون: فيه كتاب تفصيل الإسلام والإيمان وعقود السنّة واعتقاد القلوب، وشرح معاملة الناس من العلم الظاهر، وذكر دعائم الإسلام وأركان الإيمان، واتصال الإيمان بالإسلام واقتران القلوب بالعمل وذكر بيان التفرقة بين الإيمان والإسلام، والاستثناء في الإيمان والإشفاق من النفاق وطريقة السلف في ذلك. الفصل الخامس والثلاثون: فيه كتاب السنّة وشرح فضائلها وجمل من آداب الشريعة وذكر عقود القلوب من علم الظاهر وهي ستَّ عشْرَةَ خصلة: أولها أن تعتقد أن الإيمان قول وعمل، وأن القرآن كلام الله تبارك وتعالى غير مخلوق، وأن تسلم أخبار الصفات، وأن تعتقد وتعلم تفضيل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن تقدم من قدمه الله عزَّ وجلّ ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن تعتقد أن الإمامة في قريش عامة إلى أن تقوم الساعة، وأن لاتكفر أحداً من أهل القبلة، وأن تصدق بجميع أقدار الله عزّ وجلّ خيرها وشرها، وأن مساءلة منكر ونكير حق، وأن عذاب القبر حق، وأن تؤمن بالميزان، وأن تعتقد أن الصراط حق، وأن تؤمن بالحوض المورود حوض محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن تؤمن بالنظر إلى الله سبحانه وتعالى، وأن تعتقد إخراج الموحدين من النار، وأن تؤمن بوقوع الحساب وفيه فصل مستنبط من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 معنى الإجماع بذكر أهل البدع وإخراجهم من الجماعة، وذكر فضائل السنة ووصف طرائق السلف التابعين بإحسان. الفصل السادس والثلاثون: فيه ذكر جمل الشريعة وعز الإيمان، وذكر شرط المسلم الذي يكون به مسلماً، وذكر حسن إسلام المرء وعلامة محبة الله عزّ وجلّ له وذكر حق المسلم على المسلم وهو وجوب حرمة الإسلام على المسلمين، وذكر سنن الجسد وذكر ما في اللحية من المعاصي والبدع، وذكر ما جاء في فضل بعض ذلك واستحسانه، وكتاب ما ذكر من نوافل الركوع وما يكره من النقصان منه. الفصل السابع والثلاثون: فيه كتاب شرح الكبائر وتفصيلها ومسألة في محاسبة الكفّار. الفصل الثامن والثلاثون: فيه كتاب الإخلاص وشرح البيان والأمر بتحسينها في تصرف الأحوال والتحذير من دخول الآفات عليها في الأفعال. الفصل التاسع والثلاثون: فيه كتاب ترتيب الأقوات بالنقصان منها أو بزيادة الأقوات. الفصل الأربعون: فيه كتاب الأطعمة وما يجمع الأكل من السنن والآداب وما يشتمل على الطعام من الكراهية والاستحباب. الفصل الحادي والأربعون: فيه كتاب فرائض الفقر وفضائله ونعت عموم الفقراء وخصوصهم وتفصيل قبول العطاء ورده وطريق السلف فيه. الفصل الثاني والأربعون: فيه كتاب حكم المسافر والمقاصد في الأسفار. الفصل الثالث والأربعون: فيه كتاب حكم الإمام ووصف الإمامة والمأموم. الفصل الرابع والأربعون: فيه كتاب الأخوّة في الله عزّ وجلّ والصحبة ومحبة الإخوان فيه تبارك وتعالى وأحكام المؤاخاة وأوصاف المحبين. الفصل الخامس والأربعون: فيه كتاب ذكر التزويج في فعله وتركه أيهما أفضل ومختصر أحكام النساء في ذلك. الفصل السادس والأربعون: فيه كتاب ذكر دخول الحمام. الفصل السابع والأربعون: فيه كتاب الصنائع والمعايش والبيع والشراء وما يجب على التاجر والصانع من شروط العلم في أحكام التصرف. الفصل الثامن والأربعون: فيه كتاب تفصيل الحلال والحرام وما بينهما من الشبهات وفضل الحلال وذم الشبهة وتمثيل ذلك بصور الألوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الفصل الأول في ذكر الآي التي فيها ذكر المعاملة قال الله تعالى: (ومن أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الإسراء: 19، وقال عزّ وجلّ: (مَنْ كَانَ يُريدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُريدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ نَصيبٍ (الشورى: 20، وقال سبحانه وتعالى: (وَأَنْ لَيْسَ للإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى (النجم: 39و04و41، وقال جلّت قدرته: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) الحاقة: 24، وقال عزّ من قائل: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) الأنعام: 132، وقال تبارك وتعالى: (وَمَا أمْوَالُكُمْ وَلاَ أوْلاَدُكُمْ بِالَّتي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) سبأ: 37، وقال سبحانه وتعالى: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون) الأعراف: 43، وقال سبحانه وتعالى: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة: 17، وقال سبحانه وتعالى: (نِعْمَ أَجْرُ العَامِلينَ الَّذِيْنَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) العنكبوت: 58 - 59، وقال سبحانه: (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كانُوا يَعْمَلونَ) الأنعام: 127 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الفصل الثاني في ذكر الآي التي فيها أوراد الليل والنهار قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذي جَعَلَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) الفرقان: 62، وقال جلّ ثناؤه: (إِنَّ لَكَ في النَّهَارِ سَبْحاً طَويلاً واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتيلاً) المزمل: 7 - 8، وقال سبحانه: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأَصيلاً وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَويلاً) الدهر: 25 - 26، وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) ق: 39 - 40، وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ ربِّكَ حينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإدْبَارَ النُّجُومِ) الطور: 48 - 49، وقال تعالى: (إنَّ نَاشِئِة اللَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأ وَأَقْوَمُ قِيلاً) المزمل: 6، وقال تعالى: (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) طه: 130، وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللََّيْلِ سَاجِداً وَقَائماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) الزمر: 9، وقال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعًا) السجدة: 61، وقال عزّ اسمه: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) الفرقان: 64، وقال سبحانه وتعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الذاريات: 17 - 18، وقال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) الإسراء: 78 - 79، وقال: (وَأَقِمِ الصَّْلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) هود: 114، وقال سبحانه وتعالى: (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحَمْدُ في السَّمَوَاتِ وَالأًرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الروم: 17 - 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الفصل الثالث في ذكر عمل المريد في اليوم والليلة من فرائض الأوامر وفضائل النوادب فمن ذلك يستحب عند طلوع الفجر، وهو البياض المشتق من سواد الليل المعترض في قطر السماء الشرقي عند إدبار النجوم وإدبارها افتراقها وذهاب ضوئها لغلبة ضوء الفجر عليها، وهو الوقت الذي أمر الله تعالى فيه بذكره إذ يقول تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإدْبَارَ النُّجُومِ) الطور: 49، فليصلِّ العبد ركعتَي الفجر، يقرأ فيهما: (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ) الكافرون: 1 و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الإخلاص: 1، فهو أكثر ما روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ فيهما، فإن شاء خافت وإن شاء جهر. فقد روي حديثان أحدهما يدل على المخافتة؛ وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخفف ركعتي الفجر حتى أقول قرأ فيهما بفاتحة الكتاب أم لا، والآخر يدل على الجهر، وهو حديث ابن عمر: رمقت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرين يوماً فسمعته يقرأ في ركعتي الفجر (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ) الكافرون: 1 و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الإخلاص: 1، وفي حديث أبي هريرة وابن عباس أنه قرأ في الركعة الأولى الآية التي في سورة البقرة (قُوْلُوا آمَنّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلى إبْرَاهيمَ وَإسْمََاعيلَ) البقرة: 631، إلى آخرها، وفي الركعة الثانية (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِِينَ) آل عمران: 53، فليقرأ بذلك أحياناً، ثم يستغفر الله تعالى سبعين مرة يقول في كلّ مرة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة ثم يسبح الله ويهلّله مائة مرة بالكلمات الأربع الجامعات المختصرات التي في القرآن وليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بقرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وأستغفر الله وتبارك الله مرة واحدة، وليدع بهذا الدعاء فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو به بعد ركعتي الفجر. روينا عن ابن أبي ليلى عن داود عن علي عن أبيه عن ابن عباس قال: بعثني العباس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله فأتيته ممسياً وهو في بيت خالتي ميمونة فقام يصلّي من الليل فلما صلّى الركعتين قبل صلاة الفجر قال: اللهم إني أسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها شملي، وتلم بها شعثي، وتردّ بها أُلفَتي، وتصلح بها علانيتي، وتقضي بها ديني، وتحفظ بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتبيض بها وجهي، وتلقني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم أعطني إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء ومنازل الشهداء وعيش السعداء ومرافقة الأنبياء والنصر على الأعداء، اللهم إني أنزلُ بك حاجتي وإن قصر رأيي، وضعف عملي، وافتقرت إلى رحمتك فأسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير، ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور، اللهم ما قصر عنه رأيي، وضعف عنه عملي، ولم تبلغه نيتي، ومنيتي من خير وعدته أحداً من خلقك أو خير أنت معطيه أحداً من عبادك، فإني أرغب إليك فيه وأسألك يا ربّ العالمين اللهم اجعلنا هادين مهديين غير ضالين، ولا مضلين، حرباً لأعدائك، وسلماً لأوليائك، نحب بحبك الناس ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك، اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله ذي الحبل الشديد، والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود، مع المقرّبين الشهود، والركّع السجود، والموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، أنت تفعل ما تريد، سبحان الذي تعطف بالعز وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلاّ له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي القدرة والكرم، سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه، اللهم اجعل لي نوراً في قلبي، ونوراً في قبري، ونوراً في سمعي، ونوراً في بصري، ونوراً في شعري، ونوراً في بشري، ونوراً في لحمي، ونوراً في دمي، ونوراً في عظامي، ونوراً من بين يدي، ونوراً من خلفي، ونوراً عن يميني، ونوراً عن شمالي، ونوراً من فوقي، ونوراً من تحتي، اللهم زدني نوراً، وأعطني نوراً، واجعل لي نوراً هذه الأنوار التي سألها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله في كل جزء من أجزائه، إنما هو دوام النظر من نور النور يشاهد القيومية في كل سكون وحركة، منه يكلؤه بنظره، ويتولاه بحيطته، فينظر إليه بدوام نظره ليستقيم له بتولي حفظه فلا يزيغ بصره ولا يطغى ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 تستهويه النفس بهوى، فليدع العبد بهذا الدعاء بعد ركعتي الفجر، لكن يقدم على دعائه المسألة لله تبارك وتعالى في الصلاة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله فيستجيب سبحانه وتعالى دعوته ولا يرده، لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سألتم الله تعالى حاجة فابدؤوا بالصلاة عليّ فإن الله تعالى أكرم من أن يُسأل في حاجتين فيعطي إحداهما ويرد الأخرى، ثم ليصلّ العبد صلاة الغداة في جماعة ليكون في ذمة الله وجواره، وفي الحديث صلاة الغداة في جماعة أفضل من قيام ليلة وصلاة العشاء الآخرة في جماعة أفضل من قيام نصف ليلة وليكن قائماً في صلاته بإلقاء سمع، وشهود قلب، وحضور عقل، وجمع هم، وصحة تيقّظ، وحسن إقبال، وتدبر للكلام، وترتيل وتفهم بالتماس غرائب التنزيل. فإذا سلم من صلاته قال ما يستحب من الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الفصل الرابع في ذكر ما يُستحبّ من الذكر وقراءة الآي المندوب إليها بعد التسليم من صلاة الصبح استخرجناها من الآثار، اللهم صلّ على محمد وآله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام، فحيّنا ربّنا بالسلام، وأدخلنا دار السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم ليقل سبحان الله العظيم ويحمده ثلاثاً، ثم يستغفر الله ثلاثاً، ثم يقول: اللهم لا مانع لما أَعطيت ولا معطي لما منَعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ، ثم ليقل وهو ثانٍ رجِلَه من قبل أن يتكلم هذه الكلمات عشر مرات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو حي لا يموت، بيده الخير كلّه وهو على كل شيء قدير، ثم ليقرأ وهو كذلك: قل هو الله أحد عشراً، ويقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ربّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون عشر مرات، وليقل: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يصِفُون الصافات: 180 إلى آخر السورة ثلاث مرات، وليقل: (فَسُبْحَانَ اللهِ حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُون) الروم: 71 إلى آخر الثلاث آيات ثلاث مرات، ثم يسبح ثلاثاً وثلاثين ويحمد كذلك، ويكبّر أربعاً وثلاثين، فتلك مائة مرة وإن أحب جعلها خمساً وعشرين زاد فيها التهليل، وإن قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمساً وعشرين مرة استوعب ذلك مائة تسبيحة وكان أيسر عليه لأجل المداومة، ثم يقرأ سورة الحمد وآية الكرسي وخاتمة البقرة من قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ) البقرة: 285، و (شَهِدَ اللهُ) آل عمران: 18 الآية، و (قل اللهم مالك الملك) آل عمران: 62، الآيتين ثم يقرأ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم) التوبة: 128 إلى آخرها، ثم يقرأ: (وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الإسراء: 111 الآية، ثم يقرأ: (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) الفتح: 27 إلى آخر السورة، ثم يقرأ خمساً من أول سورة الحديد وثلاثاً من آخر سورة الحشر، ثم ليقل: اللهم إني أسألك بكرم وجهك الصلاة على محمد وآله؛ وأسألك الجنة وأعوذ بك من النار سبع مرات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وقال قبيصة بن مخارق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علّمني كلمات ينفعني الله بها وأوجز فقد كبر سنّي وعجزت عن أشياء كنت أعملها، فقال: أما لدنياك فإذا صليت الغداة فقل ثلاث مرات سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده لا حول ولا قوة لا بالله فإنك إذا قلتهن أمِنْتَ من عمى وجذام وبرص وفالج، أما لآخرتك فقل: اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد واهدني من عندك وأفِضْ عليّ من فضلك وانشر عليّ من رحمتك وأنزل عليّ من بركاتك، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما أنه إذا وافى بهن يوم القيامة لم يدعهن فتح له أربعة أبواب من الجنة يدخل من أيّها شاء وإن قال المسبعات العشر التي أهداها الخضر عليه السلام إلى إبراهيم التيمي ووصاه أن يقولها غدوة وعشية وقال له الخضر: أعطانيها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر من فضلها وعظَّم شأنها ما يجل عن الوصف وإنه لا يداوم على ذلك إلا عبد سعيد قد سبقت له من الله عزّ وجلّ الحسنى وحذفنا ذكر فضائلها اختصاراً، فإن قال ذلك فقد استكمل الفضل والمداومة عليهن تجمع له جميع ما فرّقناه من الأدعية، روى ذلك سعيد بن سعيد عن أبي طيبة عن كرز بن وبرة قال: وكان من الأبدال، قال: أتاني أخ لي من الشام فأهدى لي هدية، وقال: يا كرز اقبل مني هذه الهدية فإنها نعم الهدية، فقلت: يا أخي من أهدى لك هذه الهدية؟ قال: أعطانيها إبراهيم التيمي، قلت: أفلم تسأل إبراهيم من أعطاه؟ قال: بلى، قال: كنت جالساً في فناء الكعبة، وأنا في التهليل والتسبيح والتحميد فجاءني رجل فسلّم عليّ وجلس عن يميني فلم أرَ في زماني أحسن منه وجهاً ولا أحسن منه ثياباً ولا أشدّ بياضاً ولا أطيب ريحاً، فقلت: يا عبد الله من أنت ومن أين جئت؟ فقال: أنا الخضر، فقلت: في أي شيء جئتني؟ قال: جئتك للسلام عليك، وحباً لك في الله عزّ وجلّ، وعندي هدية أريد أن أهديها إليك، فقلت: ما هي؟ قال: هي أن تقرأ قبل طلوع الشمس وتبسط على الأرض، وقبل أن تغرب سورة الحمد سبع مرات، وقل أعوذ برب الناس سبع مرات، وقل أعوذ برب الفلق سبع مرات، وقل هو الله أحد سبع مرات، وقل أيها الكافرون سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وتقول سبحان الله والحمد لله ولا إليه إلا الله والله أكبر سبع مرات وتصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع مرات، وتستغفر لنفسك ولوالديك وما توالدا ولأهلك وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات سبع مرات، وتقول اللهم يا ربّ افعل بي وبهم عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل ولا تفعل بنا يا مولاي ما نحن له أهل، إنك غفور حليم، جوّاد كريم رؤوف، رحيم سبع مرات، وانظر أن لا تدع ذلك غدوةً وعشية، فقلت: أحب أن تخبرني من أعطاك هذه العطية، فقال: أعطانيها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: أخبرني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بثواب ذلك، فقال لي: إذا لقيت محمّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسله عن ثوابه فإنه سيخبرك، فذكر إبراهيم التيمي رحمه الله أنه رأى ذات ليلة في منامه أن الملائكة جاءته فاحتملته حتى أدخلوه الجنة فرأى ما فيها، ووصف وصفاً عظيماً مما رأى في صفة الجنة، قال: فسألت الملائكة فقلت: لمن هذا كله؟ فقالوا: للذي عمل مثل عملك وذكر أنّه أكل من ثمرها وسقوه من شرابها فأتاني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه سبعون نبياً وسبعون صفاً من الملائكة، كل صف مثل ما بين المشرق والمغرب فسلّم عليّ وأخذ بيدي، فقلت: يا رسول الله إن الخضر أخبرني أنه سمع منك هذا الحديث، فقال: صدّق الخضر وكل ما يحكيه فهو حق وهو عالم أهل الأرض وهو رئيس الأبدال وهو من جنود الله عزّ وجلّ في الأرض، فقلت: يا رسول الله فمن فعل هذا ولم يرَ مثل الذي رأيت في منامي، هل يعطى ممّا أعطيته؟ قال: والذي بعثني بالحق إنه ليعطي العامل بهذا وإن لم يرني ولم يرَ الجنة إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها ويرفع الله عزّ وجلّ عنه غضبه ومقته ويؤمر صاحب الشمال أن لا يكتب عليه شيئاً من السيّئات إلى سنة والذي بعثني بالحق نبياً ما يعمل بهذا إلا من خلقه الله تعالى سعيداً ولا يتركه إلا من خلقه شقياً، وقد كان إبراهيم التيمي رحمه الله مكث أربعة أشهر لم يطعم طعاماً ولم يشرب شراباً فلعله بعد الرؤيا والله تعالى أعلم ذكره الأعمش عنه فهذا من جمل ما أتى ممّا يُستحبّ أن يقرأ ويقال بعد صلاة الغداة، ولذلك فضائل جمة وردت بها الأخبار حذفنا ذكرها للاختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الفصل الخامس في ذكر الأدعية المختارة بعد صلاة الصبح الجامعة المختصرة المأثورة في الأخبار المتفرقة رُويَ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا افتتح دعاء افتتحه بقوله سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب، وأنه كان يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أهل النعمة والفضل والثناء الحسن لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وروينا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضي الله عنها: عليك بالجوامع الكوامل، قولي: اللهم إني أسألك الصلاة على محمد وآله، وأسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة، وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول وعمل، وأسألك من الخير ما سألك به عبدك ورسولك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأستعيذك مما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشداً برحمتك يا أرحم الراحمين. وعن أنس بن مالك قال، قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا فاطمة ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأغثني ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله، وعلّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه هذا الدعاء فقال: قل اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيّك وكليمك وعيسى روحك وكلمتك وبكلام موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل وحي أوحيته أو قضاء قضيته أو سائل أعطيته أو غني أقنيته أو فقير أغنيته أو ضال هديته وأسألك باسمك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الذي أنزلته على موسى وأسألك باسمك الذي ثبت به أرزاق العباد وأسألك باسمك الذي وضعته على الأرض فاستقرّت وأسألك باسمك الذي وضعته على السموات فاستقلّت وأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فأرست وأسألك باسمك الذي استقلّ به عرشك وأسألك باسمك الطهر الطاهر الأحد الصمد الوتر المنزل في كتابك من لدنك من النور المبين وأسألك باسمك الذي وضعته على النهار فاستنار وعلى الليل فأظلم وبعظمتك وكبريائك وبنور وجهك أن تصلي على محمد نبيك وعلى آله وأن ترزقني القرآن والعم وتخلطه بلحمي ودمي وسمعي وبصري وتستعمل به جسدي بحولك وقوّتك فإنه لا حول لي ولا قوّة إلا بك يا أرحم الراحمين. وروينا عن ابن عمر أن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلمه هذا الدعاء: يا نور السموات والأرض يا جمال السموات والأرض يا عماد السموات والأرض يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا صريخ المستصرخين يا غوث المستغيثين يا منتهى رغبة الراغبين والمفرج عن المكروبين والمروّح عن المغمومين ومجيب دعوة المضطرين وكاشف السوء وأرحم الراحمين وإله العالمين منزول بك كل حاجة يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدع أن يدعو بهؤلاء الكلمات حين يصبح، وحين يمسي: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، وأسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وفي أهلي ومالي، اللهم استر عورتي وآمن روعاتي، وأقلني عثراتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بك أن أغتال من تحتي. وقال بريد الأسلمي: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بريد ألا أعلمك كلمات من أراد الله عزّ وجلّ به خيراً علمهن إياه ثم لم ينسهن إياه أبداً، قال: قلت بلى يا رسول الله صلّى الله عليك، قال: قل اللهم إني ضعيف فقوّ في رضاك ضعفي، وخذ إلى الخير بناصيتي، واجعل الإسلام منتهى رضاي، اللهم إني ضعيف فقوّني وإني ذليل فأعزني وإني فقير فأغنني برحمتك يا أرحم الراحمين. وروينا عن أبي مالك الأشجعي قال: حدثني أبي قال كنا نغدو إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيجيء الرجل أو تجيء المرأة فيقول كيف أقول يا سول الله إذا أصبحت؟ قال: تقول اللهم صلّ على محمد وآله واغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني وأجبرني فقد جمعن لك خير دنياك وآخرتك. وروينا عن أبي زرعة قال: كتب إليّ أبو هريرة فيما أكاتبه وشافهني به فيما ألقاه أن الشيطان لا يطيف بإنسان يقول حين يصبح وحين يمسي اللهم إني أعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر السامة والهامة وأعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر عذابك وشر عبادك وأعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر الشيطان الرجيم، اللهم إني أسألك بأسمائك وكلمتك التامة أن تصلي على نبيك محمد وآله وأسألك من خير ما تعطي وما تسأل ومن خير ما تخفي وخير ما تبدي، اللهم إني أعوذ باسمك وكلمتك التامة من شر ما يجري به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 النهار إن ربّي الله الذي لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وإن كان مساء قال ومن شر ما جاء به الليل يقول ذلك ثلاثاً. وروينا عن عمر بن عبد العزيز عن محمد بن عبيد الله قال: أتى أبو الدرداء فقيل له احترقت دارك، فقال: ما كان الله عزّ وجلّ ليفعل، ثم أتاه آتٍ فقال: يا أبا الدرداء إن النار حيث دنت من دارك طفئت، فقال: قد علمت، فقيل له: ما ندري أي قوليك أعجب، قال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من قال هؤلاء الكلمات في ليل أو نهار لم يضره شيء وقد قلتهن، وهي اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت ربّ العرش العظيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله عزّ وجلّ ربي كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، اللهم إني أعوذ بك من شرّ نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربّي على صراط مستقيم. وقد روينا عن أبي الدرداء أنه قال: من قال في كل يوم سبع مرات فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم كفاه الله عزّ وجلّ ما يهمه من أمر آخرته صادقاً كان أو كاذباً، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ما أصاب أحداً همّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تصلي على نبيك وحبيبك محمد وآله وأن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله عزّ وجلّ همه، وحزنه وأبدله مكانه فرحاً، قال: قيل يا رسول الله ألا تتعلمها؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها، وروينا في الأخبار أن إبراهيم الخليل كان يقول إذا أصبح: اللهم هذا خلق جديد فافتحه عليّ بطاعتك واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها لي وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي إنك غفور رحيم ودود كريم، قال: ومن دعا بهذا الدعاء إذا أصبح فقد أدى شكر يومه وكذلك إذا أمسى، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال إذا أصبح وإذا أمسى ثلاث مرات رضيت بالله عزّ وجلّ ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيّاً كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة، وروينا عن معمر عن جعفر بن برقان أن عيسى بن مريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو وأصبح الأمر بيدك لا بيد غيرك وأصبحت مرتهناً بعملي فلا فقير أفقر مني، اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تُسِيء بي صديقي ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي ولا غاية أملي ولا تسلط عليّ من لا يرحمني. وروينا عن عطاء عن ابن عباس قال: يلتقي الخضر وإلياس في كل موسم فيفترقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عن هذه الكلمات: بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوّة إلا بالله ما شاء الله كل نعمة من الله ما شاء الله الخير كله بيد الله عزّ وجلّ ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، فمن قالها إذا أصبح ثلاث مرات أمن الحرق والغرق والسرق، ويقال: إن هذا من استغفار الخضر عليه السلام: اللهم إني أستغفرك من كلّ ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه اللهم إني أستغفرك من كل عقبد عقدته لك ثم لم أفِ لك به اللهم إني أستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فقويت بها على معصيتك اللهم إني أستغفرك من كل عمل عملته لوجهك خالطه ما ليس لك. وحكى سعيد بن أبي الروحاء الجمال وكان من أهل الخير أنه توحد ذات ليلة في أرض قفرة فاستوحش وفزع فظهر له شخص قال: فاشتد جزعي منه حتى سمعته يقرأ القرآن ثم قال: ألا أدلك على شيء إذا أنت قلته أنست إذا استوحشت واهتديت إذا ضللت ونمت إذا أرقت، قلت: علمني رحمك الله قال، قل: " بسم الله ذي الشأن عظيم البرهان شديد السلطان كل يوم هو في شأن لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ". وحدثونا عن يعقوب بن عبد الرحمن الدعاء قال: سمعت محمد بن حسان يقول: قال لي معروف الكرخي رحمه الله ألا أعلمك عشر كلمات خمسة للدنيا وخمسة للآخرة من دعا الله عزّ وجلّ بهن وجد الله سبحانه وتعالى عندهن قلت: اكتبها، قال: لا ولكن أرددها عليك كما رددها عليّ بكر بن حبيش: حسبي الله تبارك وتعالى لديني، حسبي الله عزّ وجلّ لدنياي، حسبي الله الكريم لما أهمني، حسبي الله الحكيم القوي لمن بغى علّي، حسبي الله الشديد لمن كادني بسوء، حسبي الله الرحيم عند الموت، حسبي الله الرؤوف عند المسألة في القبر، حسبي الله الكريم عند الحساب، حسبي الله اللطيف عند الميزان، حسبي الله القدير عند الصراط، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وادع بهؤلاء الكلمات: اللهم يا هادي المضلين وراحم المذنبين ومقيل عثرات العاثرين ارحم عبدك ذا الخطر العظيم المسلمين كلهم أجمعين واجعلنا من الأحياء المرزوقين الذي أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا ربّ العالمين، يقال إن عتبة الغلام رئي في المنام فقال: دخلت الجنة بهذه الدعوات، وليقل بعد ذلك هذا الدعاء: اللهم عالم الخفيات رفيع الدرجات ذا العرش تلقي الروح من أمرك على من تشاء من عبادك غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذا الطول لا إله إلا أنت إليك المصير، رُئي إبراهيم الصائغ في النوم فقيل له: بأي شيء نجوت؟ فقال: بهذه الدعوات وليقل هذا الدعاء: يا من لا يشغله سمع عن سمع ولا تشتبه عليه الأصوات يا من لا تغلطه المسائل ولا تختلف عليه اللغات يا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك، يقال إن الخضر عليه السلام علم علي بن أبي طالب عليه السلام هذا الدعاء وليسبح تسبيحات أبي المعتمر وهو سليمان التيمي فقد روى من فضلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أن يونس بن عبيد رأى رجلاً كان قد قتل شهيداً ببلاد الروم فقال له: ما أفضل ما رأيت ثم من الأعمال قال: رأيت تسبيحات أبي المعتمر من الله سبحانه وتعالى بمكان. وقال المعتمر بن سليمان: رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته فقلت: ما صنعت؟ قال: خيراً، قلت: نرجو للخاطئ شيئاً، قال: يلتمس تسبيحات أبي المعتمر فإنها نعم الشيء، وهذه هي التسبيحات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلا بالله عدد ما خلق الله وعدد ما هو خالق وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق وملء ما خلق وملء ما هو خالق وملء سمواته وملء أرضه ومثل ذلك وأضعاف ذلك وعدد خلقه وزنة عرشه ومنتهى رحمته ومداد كلماته ومبلغ علمه ورضاه وحتى يرضى وإذا رضي وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضى وعدد ما هم ذاكروه فيما بقي في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات ونسمة وشم ونفس ولمحة وطرفة من الأبد إلى الأبد أبد الدنيا وأبد الآخرة وأكثر من ذلك لا ينقطع أولاه ولا ينفد أخراه وليدعُ بهذا الدعاء فإنه دعاء التوبة مرجوّ فيه الإجابة. روينا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أراد الله عزّ وجلّ أن يتوب على آدم طاف سبعاً بالبيت وهو يومئذ ليس بمبنى ربوة حمراء ثم قام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنّه لا يصيبني إلا ما كتبت لي والرضا بما قسمت لي يا ذا الجلال والإكرام فأوحى الله عزّ وجلّ إليه إني قد غفرت لك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت له وكشفت غمومه وهمومه ونزعت الفقر من بين عينيه وأتجرت له من وراء كل تاجر وجاءته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها وليقل هذه الكلمات المنثورة فإنها ممّا روى في اسم الله سبحانه وتعالى الأعظم بأخبار في ذلك مأثورة: اللهم إني أسألك بأن الحمد لك لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد يا حي يا قيوم ياحي حين لا حي في ديمومية ملكه وبقائه يا حي محيي الموتى يا حي مميت الأحياء وارث أهل الأرض والسماء اللهم إني أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم وباسمك الذي لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الأجل الأعز الأكرم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت يا نور النور يا مدبر الأمور يا عالم ما في الصدور يا سميع يا قريب يا مجيب الدعاء يا لطيفاً لما يشاء يا رؤوف يا رحيم يا كبير يا عظيم يا الله يارحمن يا ذا الجلال والإكرام الله لا إله إلا هو الحي القيوم وعنت الوجوه للحي القيوم يا إلهي وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 اللهم إني أسألك باسمك الله الله الله الله الذي لا إله إلا هو ربّ العرش العظيم فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم أنت الأول الآخر الظاهر الباطن وسعت كل شيء رحمة وعلماً كهيعص حمعسق الر حم ن يا واحد، يا قهار، يا عزيز، يا جبار، يا أحد، يا صمد، يا ودود، يا غفور، هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين اللهم إني أدعوك باسمك المكنون المخزون المنزل السلام، الطهر الطاهر، القدس المقدس، يا دهر، يا ديهور، يا ديهار، يا أبد يا أزل، يا من لم يزل، ولا يزول، هو يا هو، لا إله إلا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو، يا كان يا كينان يا روح يا كائن قبل كل كون يا كائن بعد كل كون يا مكنون لكل كون اهيا شر اهيا أدناي أصباؤت يا مجلي عظائم الأمور فإن تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وليقل هذه الأدعية المأثورة اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك اللهم يا ربّ قلباً سليماً ولساناً صادقاً وعملاً متقبلاً وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شرّ ما تعلم وأستغفرك لما تعلم فإنك تعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد واغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أعلنت وما أسررت فإنك أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وعلى كل غيب شهيد اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد وقرة عين الأبد ومرافقة نبيّك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى جنة الخلد اللهم إني أسألك الطيبات وفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين أسألك اللهم يا ربّ الصلاة على محمد وعلى آله أجمعين وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك وأن تتوب عليّ وتغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون يا أرحم الراحمين اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي أسألك اللهم يا ربّ خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة العدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة اللهم يا ربّ زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد واقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تدخلنا به جنتك ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وارزقنا حزن خوف الوعيد وسرور رجاء الموعود حتى نجد لذة ما نطلب وغم ما منه نهرب اللهم صلّ على محمد وعلى آل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 محمد سيد الأولين والآخرين وصلّ على محمد وعلى آله أجمعين وألبس وجوهنا منك الحياء واملأ قلوبنا بك فرحاً، وأسكن في نفوسنا من عظمتك، وذلل جوارحنا لخدمتك واجعلك أحب إلينا ممّا سواك واجعلنا أخشى لك ممّا سواك اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأسألك تمام النعمة بتمام التوبة ودوام العافية بدوام العصمة وأداء الشكر بحسن العبادة اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأعوذ بك من فتنة الغنى وفتنة الفقر وأعوذ بك من ضيق الصدر وشتات الأمر وعذاب القبر وأعوذ بك من غنى مطغي ومن فقر منسي ومن هوى مردي وقرين مغوي اللهم إني أسألك الصلاة على محمد وعلى آله وأسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم صلّ على محمد نبيّك وصفيك ولا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسيء الفتن أعوذ بك يا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأعوذ بك من المحن ما خفي منها وما علن. وفتنة مضلة اللهم يا ربّ زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد واقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تدخلنا به جنتك ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وارزقنا حزن خوف الوعيد وسرور رجاء الموعود حتى نجد لذة ما نطلب وغم ما منه نهرب اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد سيد الأولين والآخرين وصلّ على محمد وعلى آله أجمعين وألبس وجوهنا منك الحياء واملأ قلوبنا بك فرحاً، وأسكن في نفوسنا من عظمتك، وذلل جوارحنا لخدمتك واجعلك أحب إلينا ممّا سواك واجعلنا أخشى لك ممّا سواك اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأسألك تمام النعمة بتمام التوبة ودوام العافية بدوام العصمة وأداء الشكر بحسن العبادة اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وأعوذ بك من فتنة الغنى وفتنة الفقر وأعوذ بك من ضيق الصدر وشتات الأمر وعذاب القبر وأعوذ بك من غنى مطغي ومن فقر منسي ومن هوى مردي وقرين مغوي اللهم إني أسألك الصلاة على محمد وعلى آله وأسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم صلّ على محمد نبيّك وصفيك ولا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسيء الفتن أعوذ بك يا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأعوذ بك من المحن ما خفي منها وما علن. اللهم إني أسألك الصلاة على نبيّك محمد وعلى آله وأسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما فيه أعوذ بك اللهم يا ربّ من شرّ طوارق الليل والنهار ومن بغتات الأمور وفجأة الأقدار ومن شرّ كل طارق يطرق إلا طارقاً يطرق منك بخير يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما اللهم صلّ على محمد وعلى آله واجعل يومنا هذا أوّله صلاحاً وأوسطه فلاحاً وآخره نجاحاً اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد واجعل أوّله رحمة وأوسطه نعمة وآخرة تكرمة اللهم صلّ على محمد نبيّك وعلى آله وأعوذ بك أن أزلّ أو أُزل أو أضل أو أُضل أو أظلم أو أُظلم أو أجهل أو يجهل عليّ عزّ جارك وجلّ ثناؤك وتبارك أسماؤك ولا إله غيرك اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح والدجال وإذا أردت بقوم سوءًا أو فتنة فاقبضني إليك غير مبدل ولا مفتون اللهم صلّ على محمد وعلى آله اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي وأسألك خير الحياة وبركة الحياة وأعوذ بك من شرّ الوفاة، وأسألك خير ما بينهما وخير ما بعد ذلك أحيني حياة السعداء حياة من تحب بقاءه وتوفني وفاة الشهداء وفاة من تحب لقاءه يا خير الرازقين، ويا أحسن التوّابين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين ويا ربّ العالمين، أعوذ بك من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها ومن شرّ ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته وذلّ كل شيء لعزته وخضع كل شيء لملكه واستسلم كل شيء لقدرته، والحمد لله الذي سكن كل شيء لهيبته والحمد لله الذي أظهر كل شيء بحكمته وتصاغر كل شيء لكبريائه اللهم صلّ على نبيّك محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 في العالمين إنك حميد مجيد كريم، اللهم صلّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي الرسول الأمين وأعطه المقام المحمود يوم الدين، اللهم إني أعوذ بك من حدة الحرص وشدة الطمع وسورة الغضب وسنة الغفلة وتعاطي الذلة، أعوذ بك من مباهاة المكثرين والإزراء على المقلين وأن أنصر ظالماً أو أخذل مظلوماً وأن أقول في العلم بغير العلم وأعمل في الدين بغير يقين، اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم، اللهم إني أعوذ بك من اتباع خطوات الشيطان وشركه في المال والأهل وقبول أمره في السوء والفحشاء، اللهم إني أسألك الصلاة على نبيّك محمد، وعلى آله وأسألك حسن الاختيار وصحة الاعتبار وصدق الافتقار، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وافتح بخير واختم بخير وأنت الفتاح العليم، اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آل محمد، وارحم ما خلقت واغفر ما قدرت وطيّب مارزقت وتمّم ما أنعمت وتقبّل ما استعملت واحفظ ما استحفظت ولا تهتك ما سترت فإنّه لا إله لنا إلا أنت، أستغفرك من كل لذة بغير ذكرك ومن كل راحة بغير خدمتك ومن كل سرور بغير قربك ومن كل فرح بغير مجالستك ومن كل شغل بغير معاملتك، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، واجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين وعبادك الصالحين، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، واستعملنا بمرضاتك عنّا ووفقنا لمحابك منّا وصرفنا بحسن اختيارك لنا، اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آله، ونسألك جوامع الخير وفواتحه وخواتمه ونعوذ بك من جوامع الشرّ وفواتحه وخواتمه، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، واحفظنا فيما أمرتنا واحفظنا عمّا نهيتنا واحفظ لنا ما أعطيتنا يا حافظ الحافظين ويا ذاكر الذاكرين ويا شاكر الشاكرين، بحفظك حفظوا وبذكرك ذكروا وبفضلك شكروا، يا غوث يا مغيث يا مستغاث يا غياث المستغيثين لا تكلني إلى نفسي يا ربّ طرفةَ عين فأهلك ولا تكلني إلى الخلق فأضيع اكلأني كلاءة الوليد ولا تخلّ عني وتولني بما تتولّى به عبادك الصالحين، اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آله وبقدرتك عليّ تب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم، وبحلمك عني اعفُ عني إنك أنت الغفار وبعلمك بي ارفق بي إنك أنت الرحمن الرحيم وبملكك لي ملكني نفسي ولا تسلطها علي إنك أنت الملك الجبار سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت، عملت سوءًا وظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي إنك أنت ربّي لا إله إلا أنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وألهمني رشدي وقني شرّ نفسي، اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد وارزقني حلالاً لا تعاقبني عليه وقنعني بما رزقتني واستعملني به صالحاً تقبله مني، اللهم إني أسألك أن تصلّي على نبيك محمد وعلى آل محمد، وأسألك العفو والعافية وحسن اليقين والمعافاة في الدنيا والآخرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آل محمد وأعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك أبوء بنعمتك إليك وأبوء بذنوبي إليك، هذه يداي بما كسبت أنا عبدك ابن عبدك ناصيتي بيدك، جارٍ فيّ حكمك نافذ فيّ قضاؤك، عدل في مشيئتك إن تعذب فأهل ذلك أنا، وإن ترحم فأهل ذلك أنت فافعل. حمد، وعلى آل محمد وارزقني حلالاً لا تعاقبني عليه وقنعني بما رزقتني واستعملني به صالحاً تقبله مني، اللهم إني أسألك أن تصلّي على نبيك محمد وعلى آل محمد، وأسألك العفو والعافية وحسن اليقين والمعافاة في الدنيا والآخرة، اللهم صلّ على نبيك محمد وعلى آل محمد وأعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك أبوء بنعمتك إليك وأبوء بذنوبي إليك، هذه يداي بما كسبت أنا عبدك ابن عبدك ناصيتي بيدك، جارٍ فيّ حكمك نافذ فيّ قضاؤك، عدل في مشيئتك إن تعذب فأهل ذلك أنا، وإن ترحم فأهل ذلك أنت فافعل. اللهم يا مولاي يا الله ياربّ، افعل بي ما أنت له أهل، ولا تفعل اللهم يا ربّ يا الله بي ما أنا له أهل، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة، يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة هب لي اللهم يا ربّ ما لا يضرك وأعطني ما لا ينقصك، أفرغ اللهم علينا يا ربّ صبراً وتوفَّنا مسلمين وألحقنا بالصالحين أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة إنّا هدنا إليك، ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربّنا إنك أنت العزيز الحكيم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيّئ لنا من أمرنا رشداً، ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إني أسألك أن تصلي على نبيك محمد وعلى آل محمد، وأسألك الصيانة والعون على الطاعة والعصمة من المعصية وإفراغ الصبر في الخدمة وإيزاع الشكر على النعمة، وأسألك يا مولاي يا الله يا ربّ الصلاة على نبيك محمد وعلى آل محمد وحسن الخاتمة اللهم إني أسألك أن تصليّ على نبيك محمد وعلى آل محمد، وأسألك اليقين وحسن المعرفة بك وأسألك المحبة وحسن التوكّل عليك وأسألك الرضا وحسن المنقلب إليك، ربّنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أنْ آمنوا بربّكم فآمنا ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيّئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تُخزِنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا إلى آخرها. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وطهّر قلوبنا في قلوب الأبرار، وزكِّ أعمالنا في عمل الأخيار وصلّ على أرواحنا في أرواح الشهداء يا أكرم الأكرمين ويا أجود الأجودين ويا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وعلماً وزهداً وعبادة وأمناً ورزقاً من حلال وفي الآخرة حسنة رضوانك والجنة، وقنا برحمتك عذاب النار وعذاب القبر، وقنا سخطك وغضبك وعذابك وأهواله عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين، وإن تمجد الله تعالى غدوة وعشية بما مجد به نفسه عزّ وجلّ، فقد روي من ثواب ذلك ما هو غاية الطالبين، روينا عن علي عليه السلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله تبارك وتعالى يمجد نفسه في كل يوم، يقول سبحانه وتعالى: إني أنا الله رب العالمين، إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 القيوم، إني أنا الله لا إله إلا أنا العلي العظيم، إني أنا الله لا إله إلا أنا العفو الغفور، إني أنا الله لا إله إلا أنا مبدئ كل شيء وإليّ يعود، إني أنا الله لا إله إلا أنا لم ألد ولم أولد، إني أنا الله لا إله إلا أنا العزيز الحكيم، إني أنا الله لا إله إلا أنا مالك يوم الدين، إني أنا الله لا إله إلا أنا الرحمن الرحيم، إني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخير والشر، إني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الجنة والنار، إني أنا الله الذي لا إله إلا أنا الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً، إني أنا الله لا إله إلا أنا الفرد الوتر، إني أنا الله لا إله إلا أنا عالم الغيب والشهادة، إني أنا الله لا إله إلا أنا الملك القدوس، إني أنا الله لا إله إلا أنا السلام المؤمن المهيمن، إني أنا الله لا إله إلاّ أنا العزيز الجبار المتكبر، إني أنا الله لا إله إلا أنا الخالق البارئ، إني أنا الله لا إله إلا أنا الأحد المصور، إني أنا الله لا إله إلا أنا الكبير المتعال، إني أنا الله لا إله إلا أنا المقتدر القهار، إني أنا الله لا إله إلا أنا الحكيم الكبير، إني أنا الله لا إله إلا أنا القادر الرزاق، إني أنا الله لا إله إلا أنا أهل الثناء والمجد، إني أنا الله لا إله إلا أنا أعلم السر وأخفى، إني أنا الله لا إله إلا أنا فوق الخلق والخليقة، إني أنا الله لا إله إلا أنا الجبار المتكبر، فيختم ويقول فسبحان الله ربّ العرش العظيم، فمن دعا بهذه الكلمات فليقل أنت الله كذا وأنت الله كذا، ومن دعا بهذه الأسماء كتب من الشاكرين الساجدين المخبتين الذين يجاورون محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين صلوات الله عليهم أجمعين في دار الجلال وله ثواب العابدين في السموات والأرضين، وليقل اللهم صلّ على محمد وآل محمد صلاة تكون لك رضاء ولحقّه أداء، وأعطه الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وأجزه عنا ما هو أهله وأجزه أفضل ما جازيت نبياً عن أمته وأعطه الشرف والشفاعة يوم الدين، اللهم صلّ على محمد نبي الرحمة وسيد الأمة وعلى جميع إخوانه النبيين وصلّ على أبينا آدم وأمنا حواء ومن ولدا بينهما من الصالحين والمسلمين، وصلّ على ملائكتك أجمعين من أهل السموات والأرضين، وصلّ علينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، واغفر لي ولوالدي وما توالدا، وارحمهما كما ربياني صغيراً واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ربّ اغفر وارحم وتجاوز عمّا تعلم وأنت الأعز الأكرم وأنت خير الراحمين وخير الغافرين، وإنا لله وإنّا إليه راجعون ولا حوْل ولا قوّة إلا بالله العليّ العَظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وحسبنا الله وحده لا شريك له، فهذا جامع ما جاء من فضائل ما يقال من الدعاء عن المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة وعن أئمة الهدى، وحذفنا ذكر فضائل ذلك وما جاء فيه من الروايات إيجازاً، يقول هذا الدعاء بعد صلاة الغداة وقبل غروب الشمس في كل يوم، فإن قاله بعد صلاة مكتوبة فقد استكمل الفضل بفضل الله عزّ وجلّ ورحمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الفصل السادس في ذكر عمل المريد بعد صلاة الغداة وهو أنه يأخذ في تلاوة القرآن وفي أنواع الذكر من التسبيح والحمد والثناء وفي التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى وآلائه وفي تواتر إحسانه ونعمائه، من حيث يحتسب العبد ومن حيث لا يحتسب وفيما يعلم العبد وفيما لا يعلم، ويتفكّر في تقصيره عن الشكر في ظواهر النعم وبواطنها وعجزه عن القيام بما أمره به من حسن الطاعة ودوام الشكر على النعمة، أو يتفكّر فيما عليه من الأوامر والنوادب فيما يستقبل، أو يتفكّر في كثيف ستر الله تبارك وتعالى عليه ولطيف صنعه به وخفيّ لطفه له وفيما اقترف وفرط فيه من الزلل وفي فوت الأوقات الخالية من صالح العمل، أو يتفكّر في حكم الله تعالى في الملك وقدرته في الملكوت وآياته وآلائه فيهما، أو يتفكر في عقوبات الله عزّ وجلّ وبلائه الظاهرة والباطنة فيهما ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: (وَذَكِّرْهُمْ بأَيَّامِ اللهِ) إبراهيم: 5، قيل بنعمه وقيل بعقوباته ومنه قوله عزّ وجلّ: (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأعراف: 69، ومثله (فَبأيّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) الرحمن: 25 أي بأي نعمة تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم وهما الثقلان، ففي أي نوع من هذه المعاني أخذ فيه فهو ذكر، والذكر عبادة، وهو يخرج إلى الفكر والفكر يدخل في الخوف، والذكر إذا قوي صار مشاهدة، كما قال عز وجلّ: (يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً) آل عمران: 191، ثم قالَ: (وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَواتِ والأَرْضِ) آل عمران: 191 ثم قال: (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران: 191 ولا يكون مشاهدة إلا عن يقين واليقين روح الإيمان ومزيده وفن المؤمن، وقال بعض العلماء في تفسير الخبر تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة، وهو التفكر الذي ينقل أي من المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى القناعة والزهد، وقيل هو التفكر الذي يظهر مشاهدة وتقوى ويحدث ذكراً وهدى، كقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 63، ولقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الزمر: 28، أو يحدث لهم ذكراً ومثله: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) البقرة: 219 في الدنيا والآخرة أي يفعلون لما يبقى ويرغبون فيما يدوم ويزهدون فيما يفنى وقد جعل الله عزّ وجلّ البيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 يعلمنا اقتضاء الشكر عليه فقال: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) المائدة: 89 وكما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 63 وقد وصف أعداءه بعد ذلك فقال: (الَّذينَ كَانَتْ أعْيُنُهُمْ في غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِى) الكهف: 101، وقالت أم الدرداء كانت أكثر عبادة أبي الدرداء التفكر، وقد كان يقول: ما يسرني أن أريح في كل يوم ثلاثمائة دينار أنفقها في سبيل اللّّه عزّ وجلّ، قيل: ولم ذلك؟ قال: يشغلني ذلك عن التفكّر، أو يعتقد حسن النيات وينوي جميل الطويات فيما بينه وبين الخالق تعالى وفيما بينه وبين الخلق أو يستغفر الله تعالى، ويجدد التوبة لما مضى من عمره ولما يأتنف من مستقبله، أو يخلص الدعاء بتمسكن وتضرع وتملّق وتخشع ووجل وإخبات إلى أن يعصمه من جميع المنهى، وأن يوفقه لصالح الأعمال ويتفضل عليه برغائب الأفضال وهو في ذلك فارغ القلب مجرد الهم موقن بالإجابة راض بالقسم، أو يتكلم بمعروف وخير ويدعو به إلى الله تعالى وينفع به أخاه، ويعلم من هو دونه في العلم، فهذه كانت أذكار المتقدمين وأفكار السالفين، وقد كان الذكر والفكر من أفضل عبادة العابدين وهو طريق مختصر إلى ربِّ العالمين ففي أي هذه المعاني أخذ فهو ذاكر لله عزّ وجلّ، فلا يزال كذلك وهو في جميع ذلك مستقبل القبلة في مصلاه، ولا يُستحب له أن يتكلم أو يعمل غير ما ذكرناه من الأذكار، وقد كانوا يكرهون الكلام بغير معروف وتقوى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومنهم من شدّد في ذم الكلام من الفجر إلى صلاة الغداة بغير ذكر وبر، وهذه سنة قد خملت فمن عمل بها فقد ذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الفصل السابع في ذكر أوراد النهار وهي سبعة أوراد، وهذا هو الورد الأول من النهار، وفي النهار سبعة أوراد أولها من طلوع الفجر، الثاني إلى طلوع الشمس وهو كما ذكرناه من الأذكار وهو الذي أقسم الله عزّ وجلّ به فقال: (وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّس) التكوير: 18، فتنفسه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وهو الظل الذي أمده الله تعالى لعباده ثم قبضه إليه ببسطه الشمس عليه وأظهر من آياته وجعل الشمس كشفاً له ودليلاً عليه فقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) الفرقان: 45، يعني بسطه ولو شاء لجعله ساكناً يعني مقيماً على حاله لا يتجوّل، (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَليلاً) الفرقان: 45 يقول كشفناه بها ففيه أن الدليل هو الذي يكشف المشكل ويرفع المشتبه (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إلَيْنَا قَبْضاً يَسيراً) الفرقان: 46 يعني أن الظل من تحت الشمس قبض قبضاً يسيراً أي خفيفاً لا يفطن له ولا يرى فاندرج الظل في الشمس بقدرته اندراج الظلمة في النور إذا دخل عليها بحكمته وهو الإصباح والفلق الذي يُمدح الله عزّ وجلّ بخلقه وأمرنا بالتنزيه له عنده والاستعاذة من شرّ ما خلق فيه فقال عزّ وجلّ: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ) الأنعام: 96 وقال: (فَسُبْحَانَ اللهِ حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ) الروم: 17، أي فسبحوه بالصلاة عندهما وقال: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) الفلق: 1 - 2 يعني فلق الصبح فإذا أمن العبد الفتنة والكلام فيما لا يعنيه والاستماع إلى شبهة من القول وأمن النظر إلى ما يكره أو يشغله عن الذكر أو يذكره الدنيا أمن من دخول الآفة عليه من التزين والتصنع للناس ورُزق الشغل بمولاه والإخلاص له بالإعراض عمّن سواه فقال ما ذكرناه من الذكر في مصلاه في مسجد الجماعة فهو أفضل، فلذلك أمر الله برفع المساجد في قوله عزّ وجلّ: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ) النور: 36، وإن لم يأمن الفتنة وخشي دخول الآفة عليه من لقاء من يكره، ومن يلجئه إلى تقية ومداراة أو خاف الكلام فيما لا يعنيه أو الاستماع إلى ما لا يندب إليه انصرف إذا صلّى الغداة إلى منزله أو إلى موضع خلوة بعد أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، عشر مرات في مصلاه، وهو ثانٍ رجله قبل أن يقوم، ويقرأ بعدها (قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ) الإخلاص: 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 عشراً قبل أن يتكلم، فقد اشترط ترك الكلام في هذين الحديثين اللذين وردا فيهما، ثم أتى ببقية ورده في بيته أو في خلوته، وهو في ذلك مستقبل القبلة وهذا حينئذ أفضل له وأجمع لقلبه، ولا يقدم على التسبيح لله عزّ وجلّ والذكر له بعد صلاة الغداة، وقبل طلوع الشمس إلا أحد معنيين معاونة على برّ وتقوى فرض عليه أو ندب إليه ما يختص به لنفسه أو يعود نفعه على غيره، ويكون ذلك أيضاً ممّا يخاف فوته بفوت وقته، والمعنى الآخر يكون إلى تعلم علم أو استماعه ممّا يقرّبه إلى الله تعالى في دينه وآخرته ويزهده في الدنيا، والهويّ من العلماء بالله عزّ وجلّ الموثوق بعلمهم وهم علماء الآخرة أولو اليقين والهدى، الزاهدون في فضول الدنيا، ويكون في طريقه ذاكراً لله عزّ وجلّ أو متفكراً في أفكار العقلاء عن الله عزّ وجلّ فإن اتفق له هذان فالغدوّ إليهما أفضل من جلوسه في مصلاه لأنهما ذكر الله عزّ وجلّ وعمل له، وطريق إليه على وصف مخصوص مندوب إليه، قال الله عزّ وجلّ: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَداةَ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الأنعام: 52، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من غدا من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع. وقال ابن مسعود: اغدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابع فتهلك والغدوّ والغداة تكون قبل طلوع الشمس، وفي الخبر من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله عزّ وجلّ حتى يرجع، ومن خرج من منزله يلتمس علماً وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما صنع، واستغفر له دواب الأرض وملائكة السماء وطير الهواء وحيتان الماء، وفي حديث أبي ذر الغفاري رحمه الله حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة وأفضل من شهود ألف جنازة ومن عيادة ألف مريض، قيل: ومن قراءة القرآن؟ فقال: وهل تنفع قراءة القرآن إلا بعلم، فإن لم يتفق له أحد هذه المعنيين فقعوده في مصلاه أو في مسجد جماعته أو في بيته أو في خلوته ذاكراً الله عزّ وجلّ بأنواع الأذكار أو متفكراً فيما فتح له بمشاهدة هذه الأفكار في مثل هذه الساعة أفضل له ممّا سواها، روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأن أقعد في مسجد أذكر الله عزّ وجلّ فيه من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربع رقاب، وروينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلّى الغداة قعد في مصلاه حتى تطلع الشمس، وفي بعضها، ويصلي ركعتين، وقد ندب إلى ذلك في غير حديث، وجاء من فضل الجلوس بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس وفي صلاة ركعتين بعد ذلك ما يجل وصفه، اختصرناه. روينا عن الحسن أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يذكر من رحمة ربه أنه قال يا ابن آدم اذكرني من بعد صلاة الفجر ساعة وبعد صلاة العصر ساعة أكفك ما بينهما، فإذا ارتفعت الشمس وابيضت صلّى الضحى ثماني ركعات وهذا الوقت هو الذي ذكره الله عزّ وجلّ في قوله (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِّي وَالإِشْرَاقِ) ص: 18 ثم ينظر، فإن علم مريضاً عاده، وإن حضرت جنازة شيعها، وإن كانت معونة على برّ وتقوى سعى فيها، وإن كانت حاجة لأخ من إخوانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قضاها، وإن كانت فرضاً يلزمه القيام به سارع إليه، وإن لاح له فضل ندب إليه انتهزه قبل فوته، فهذا أفضل شيء يعمله بعد الأذكار والأفكار من بعد طلوع الشمس. فإذا فرغ من ذلك ولم يتفق له ما ذكرناه من القربات أخذ في الصلاة أو تلاوة القرآن أو صنوف الأذكار ممّا أمر به أو ندب إليه أو المحاسبة لنفسه فيما سلف أو المطالبة لها والاستخراج منها فيما يأتنف أو المراقبة لربه في كل حال إلى أن تنبسط الشمس وترمض الفصال ويرتفع النهار، هذا هو الورد الثاني من النهار وهو الضحى الأعلى الذي أقسم الله تعالى به فقال: (وَالضُّحَى) الضحى: 1، أي إذا أضحت الأقدام بحرّ الشمس، وإذا كان العبد على ذلك فقد اتبع ما أنزل إليه ربّه عزّ وجلّ، وقد سمع قوله عزّ وجلّ: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الأعراف: 3، لأنه قال: (إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الّذي حَرَّمَها) النمل: 91، ثم قال: (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) النمل: 92، كما قال تعالى: (أُتْلُ مَا أوْحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إن الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ) العنكبوت: 45 وصلاة الضحى في هذا الوقت أفضل وهو حقيقة وقتها وجود اسمها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الضحى إذا رمضت الفصال، وخرج على أصحابه عليه الصلاة والسلام يوماً وهم يصلون عند الإشراق فنادى بأعلى صوته ألا إنَّ صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال، وقوله الأوّابين يعني التوابين إلى الله عزّ وجلّ في كل وقت، ثم ليأخذ العبد بعد ذلك فيما ندب إليه وأبيح له من التصرف في معاش إن كان من تجارة بصدق أو صناعة بنصح إن أحوج إلى ذلك وليكتف إن كفى، وأدنى أحواله الصمت والنوم ففيهما سلامة من الآثام ومخالطة الأنام فقد جاء في العلم يأتي على الناس زمان يكون أفضل علمهم الصمت وأفضل أعمالهم النوم، ومن الناس من يكون أحسن أحواله النوم وليت العبد يكون في اليقظة كالنوم إذ في نومه سلامة والسلامة متعذرة في يقظته وإنما الفضائل للأفاضل الذين زادوا على السلامة والعدل بالإحسان والفضل، هذا لدخول المشكلات في الكلام ووجود الآفات في الأحوال وخروج الإخلاص من الأعمال. وكان سفيان الثوري يقول: كان يعجبهم إذا تفرغوا أن يناموا طلباً للسلامة، فمن الناس من يكون أحسن أحواله النوم وليت العبد يكون يقظته كالنوم إذ في نومه السلامة وأفضل أعماله في هذا الوقت السلامة، وإنما الفضائل لأهل الأفضال الذين زادوا على السلامة والعدل بالإحسان، والفضل، فإن نام في هذا الوقت فهو حينئذ نوم القائلة وما تسبب فيه من المعايش يصنعه في هذا الوقت من الضحى الأعلى إلى زوال الشمس، وهذا هو الورد الثالث من النهار، ثم يتوضأ للصلاة قبل دخول وقتها وكذلك ويستحب وهو من المحافظة عليها والإقامة لها فإن حصلت كفايته في يومه وقوته في وقت من النهار ترك السوق ودخل بيته أو قعد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بيت مولاه تعالى واشتغل بخدمته متزوداً لعاقبته، وقد كان الصالحون كذلك يفعلون، كان يقال لا يوجد المؤمن إلا في ثلاث مواطن: مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة لا بدّ له منها، فإذا زالت الشمس فإن أبواب السماء تفتح للمصلين والذاكرين ويستجاب الدعاء للمؤمنين، فهذا هو الورد الرابع من النهار، فليصل بعد الزوال أربع ركعات يقرأ فيهن بمقدار سورة البقرة أو سورتين من المائتين أو أربع من المثاني يطيلهنّ ويحسنهن ولا يفصل بينهن بتسليم هذه الصلاة وحدها من بين صلاة النهار أربع ركعات بتسليمة واحدة، وهذا الورد هو الإظهار الذي ذكر الله عزّ وجلّ الحمد فيه فقال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحينَ تُظْهِرُونَ) الروم: 18، وليتق العبد الصلاة عند استواء الشمس في كبد السماء وهو قبل زوالها عند تقلص الظل وقيام ظل كل شيء تحته، فإذا زال الظل فقد زالت وقد خفي استواؤها في الشتاء لقصر النهار ولعدول الشمس في سيرها عن وسط الفلك فتقطع عرضاً فيكون أقرب لغروبها فليقدر ذلك تقريباً ومقدار استوائها قبل الزوال نحو أربع ركعات بجزء من القرآن أو قدر جزء وهو آخر الورد الثالث، وإنما فيه ورد القراءة والتسبيح والتفكر وهو أحد الأوقات الخمسة التي نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة فيهن والأربعة الأخر عند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمحين في عين الناظر وعند تدليها للغروب حتى تحتجب وبعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر وأحب له الإحياء ما بين الأذان والإقامة بالركوع، لأنها ساعة مستجاب فيها الدعاء وتفتح فيها أبواب السماء وتزكو فيها الأعمال، وأفضل أوقات النهار أوقات الفرائض فإن لم يقرأ بين الأذانين من درسه فاستحب له أن يقرأ في تنفله الآي التي فيها الدعاء مثل آخر سورة آل عمران ومن تضاعيف السور الاثنين والثلاث مثل قوله تعالى: (أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْلَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرينَ) الأعراف: 155، ومثل قوله: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) آل عمران: 8، وقوله: (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ) الممتحنة: 4، وإن قرأ الآي التي فيها التعظيم والتسبيح والأسماء الحسنى فحسن، مثل أول سورة الحديد وآخر سورة الحشر ومثل آية الكرسي وقل هو الله أحد ليكون بذلك جامعاً بين التلاوة والدعاء وبين الصلاة والتعظيم والمدح بالأسماء، ثم ليصل الظهر في جماعة ولا يدع أن يصلِي قبلها أربعاً وبعدها أربعاً بعد ركعتين، وهذا آخر الورد الرابع من النهار وهو أقصر الأوراد وأفضلها، فإن كان قد رقد قبل الزوال فلا يرقد في هذا الورد فإنه يكره له نومتان في يوم كما يكره له نوم النهار من غير سهر بالليل. وروينا عن بعض العلماء، ثلاث يمقت الله عليها: الضحك من غير عجب، والأكل من غير جوع، ونوم النهار من غير سهر بالليل، وإن لم يكن قد رقد فأحب أن ينام بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الظهر والعصر ليتقوى بذلك على قيام الليل فلينم، فإن نومه بعد الظهر لليلة المستقبلة ونومه قبل الظهر لليلة الماضية، فإن دام سهره بالليل واتصلت أوراده بالنهار حسن أن ينام قبل الظهر لما سلف من ليله، وينام بعد الظهر لما غبر من الأخرى، إلا أنه لا يستحب له أن يزيد في اليوم والليلة أكثر من نوم ثمان ساعات، ومن الناس من يقول إنه إن نقص من نوم هذا المقدار في اليوم والليلة اضطرب بدنه لأن النوم قوت الجسم وراحته، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً) النبأ: 9، أي راحة كما قال: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً) النبأ: 11، إلا أن يكون السهر عادة فإن العادة قد تعمل عمل الطبع وتنقل عن العرف فلا يقال عليها، وإحياء ما بين الظهر والعصر وهو صلاة الغفلة وهو يشبَّه بقيام الليل، ويستحب العكوف في المسجد بين الأولى والعصر للصلاة والذكر ليجمع بين الاعتكاف والانتظار للصلاة فقد كان ذلك من سنة السلف، قال: كان الداخل يدخل المسجد بين الظهر والعصر فيسمع للمصلين دوياً كدويّ النحل من التلاوة إلا أن يكون بيته أسلم لدينه وأجمع لقلبه فالأسلم هو الأفضل،، كذلك إحياء الورد الثالث الذي هو بين الضحى الأعلى إلى زوال الشمس فوق هذا الفضل يدرك به العبد فوت قيام الليل لأن الناس في هذين الوقتين مشغولون بطلب الدنيا وخدمة الهوى والقلب المتيقظ لربه عزّ وجلّ يفرغ في هذين الوقتين ويسكن، ويجد العامل للعمل حلاوة وللإقبال والتفرغ لذة ويكون لفراغه من الخلق وشغله بالخالق تعالى مزيد وبركة، وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى: (وَهُوَ الذي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرَادَ شُكُوراً) الفرقان: 62 أي جعلهما خلفتين يتعاقبان في الفضل فيخلف أحدهما الآخر، فمن فاته شيء من الليل قضاه في هذين الوردين من النهار، أحدهما من الضحى الأعلى إلى الزوال، والثاني ما بين الأولى والعصر، والوجه الثاني أن النهار كله خلفة من الليل فمن فاته شيء من عمل الليل قضاه بالنهار فكان منه بدَلاً، ومن فاته شيء من أوراد النهار كان الليل خلفاً إذ لكل واحد منهما خلف من صاحبه، ففيه درك ما فات، وخلف ما سلف من الذكر والشكر، والذكر اسم جامع لأعمال القلوب كلها من مقامات اليقين، ومشاهدة العلوم من الغيب، والشكر أيضاً يستعمل على جمل أعمال الجوارح من شرائع الإسلام، وهذان جملة عمل العبد وكنه خدمته، وهذان المعنيان اللذان هما ذكرهما الكليم للجليل في قوله تعالى: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثيراً) (وَنَذْكُرَكَ كَثيراً) طه: 33 - 34، انتظم التسبيح والذكر في جمل تصرف الجسم وتصرف القلب، وهذا الورد الخامس الذي هو ما بين العصرين من أطول الأوراد وأمتعها للعبادة وهو يضاهي الورد الثالث في الطول وهو أصيل النهار وأحد الآصال التي ذكر الله عزّ وجلّ فيه سجود كلّ شيء، وقرنه بالغدوّ فقال: (وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّمَواتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالغُدُوِّ والأَصَالِ) الرعد: 15، فما أقبح أن تكون الأشياء الموات لربها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ساجدات ذاكرات والمؤمن الحي عن ربه معرض ذو غفلات، ثم ليصلّ قبل صلاة العصر أربعاً ويغتنم الصلاة بين الأذان والإقامة كما ذكرنا آنفاً فإنها ساعة مرجوة فيها الإجابة فإذا دخل وقت العصر دخل العبد في الورد السادس من النهار وقد أقسم الله عزّ وجلّ به في قوله: (وَالْعَصْرِ) العصر: 1، وهذا أحد المعنيين في الآية وهو أحد الوجهين من الوقت في الآصال الذي ذكره الله عزّ وجلّ، وهو العشي الذي ذكر الله عزّ وجلّ التسبيح فيه والتنزيه والحمد له فقال: (وَعَشِيّّاً وَحينَ تُظْهِرُونَ) الروم: 18، وقال بالعشي والإشراق وليس في هذا الورد صلاة إلا ما كان بين الأذانين ثم ينتقل بعد العصر فيما شاء من ذكر أو فكر من أعمال القلوب والجوارح فيما فرض عليه أو ندب إليه، وأفضل ذلك تلاوة القرآن بتدبر وترتيل وتفهّم وحسن تأويل، فإذا اصفرّت الشمس ومات حرها وارتفعت إلى أطراف الجدر ورؤوس الشجر فكانت مثلها حين تطلع دخل في الورد السابع من النهار، فهذا للتسبيح والذكر والتلاوة والاستغفار إلى غروب الشمس، ومن أفضل ما قيل في هذا الوقت وفي مثله من أول النهار أن يقال: أستغفر الله لذنبي وسبحان الله بحمد ربي، لجمعه بين الاستغفار والتسبيح في الكلام بلفظ الأمر بهما في القرآن لقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ) غافر: 55، وإن قال أستغفر الله الحي القيوم وأسأله التوبة سبحان الله العظيم وبحمده، فقد جاء فضل ذلك في الأثر والأفضل الاستغفار على الأسماء كما في القرآن مثل أن يقول أستغفر الله إنّه كان غفّاراً أستغفر الله إنّه كان تواباً أستغفر الله إنّ الله غفور، أستغفر اللّّه التّواب الرحيم رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين، وهذا الورد في الفضل مثل الورد الأول من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وهو المساء الذي ذكر الله تعالى التنزيه فيه فقال: (فَسُبْحَانَ الله حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ) الروم: 71، أي سبحوا الله عزّ وجلّ، فأقام الاسم مقام الفعل وهو الطرف الثاني من النهار الذي أمر الله عزّ وجلّ فيه بالتسبيح بقوله عزّ وجلّ: (فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) طه: 130، ويستحب أن يقرأ قبل غروب الشمس (وَالشمْسِ وَضُحَاهَا) الشمس: 1 (وَالليلِ إذَا يَغْشَى) الليل: 1 والمعوّذتين وأن تغرب الشمس عليه وهو في الاستغفار فذلك مما أمر به في هذا الوقت من الأذكار، وكل ما يستحب من التسبيح والحمد والدعاء والذكر في أوّل النهار قبل طلوع الشمس فإنه يستحب في هذا الورد قبل غروب الشمس لأن الله تعالى قرنهما في الذكر فقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الّشمْسِ وَقَبْلَ غُرُوِبهَا) طه: 031، وقال تعالى: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) طه: 031، وقال تعالى: (بالْعشِيِّ وَالإبْكَارِ) غافر: 55، وقال تعالى: (قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ) الفلق: 1 - 2 - 3، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أي من شر الليل إذا دخل، فليعد العبد ما ذكرناه في الورد الأول من الأدعية والتسبيح وليقل عند أذان المغرب: اللْهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلاتك وشهود ملائكتك، صلّ على محمد وعلى آله وأعطه الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، ثم ليقل: رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً؛ ثلاثاً، ففي هذا أثر وفضل، وكذلك فليقل مثله إذا سمع أذان الفجر إلا أنه يقول: عند إدبار ليلك وإقبال نهارك والنص بهذا في صلاة المغرب، وكان الحسن البصري يقول: كانوا أشد تعظيماً للعشي منهم لأول النهار، وقال بعض السلف: كانوا يجعلون أول النهار للدنيا وآخره للآخرة، فإذا توارت بالحجاب انقضت أوراد النهار السبعة، فانظر أيها المسكين ماذا انقضى لك معها وماذا انقضى منك عندها وماذا قضى عليك فيها، فقد قطعت من عمرك مرحلة ونقصت من أيامك يوماً، فماذا قطعت في سفرك بقطع مرحلتك وماذا ازددت في غدك بما نقصت من يومك، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الناس غاديان: فغاد لنفسه فمعتقها أو راهن نفسه فموبقها، وقد قال الله عزّ وجلّ في تصديق قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّى) الليل: 4، وقال في معناه: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَاكَسَبَتْ رَهينَةٌ) (إلاّ أصْحَابَ اليَمين) المدثر: 83 - 93، وجاء في الخبر: لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه خيراً، وجاء في الأثر: من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه شراً من أمسه فهو محروم، ثم دخلت أوراد الليل الخمس فتدارك الآن رحمك الله تعالى فيما يستقبل من الليل ما فات فيما مضى من النهار، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الله عزّ وجلّ يبغض كل جعظريّ جوّاظ أي سمين كثير الأكل سخاب بالأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الفصل الثامن في ذكر أوراد الليل الخمسة وفي الليل خمسة أوراد أوّلها أن يصلي بعد المغرب ست ركعات، ويستحب ذلك قبل أن يكلم أحداً، يقرأ في الأوليين: (قُلْ يَا أيُّهَا الكَافِرُونَ) الكافرون: 1 (قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ) الإخلاص: 1 وليسرع بهما بعد صلاة المغرب من قبل أن يتكلم ويشتغل بشيء، وفي الخبر: أسرعوا بركعتين بعد المغرب فإنهما يرفعان معها: فإن كان منزله قريباً من مسجده فلا بأس أن يركعهما في بيته وليطل الأربعة الأخر، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يستحب أن يصليهما الرجل في بيته، وكذلك كان يفعل ويقول: هو سنة، لأنه روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصليهما في بيته، ولكن بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في مؤخر المسجد، وقد صلاهما في المسجد، ثم ليصل بين العشاءين ما تيسر إلى أن يغيب الشفق الثاني وهو البياض الذي يكون بعد ذهاب الحمرة وبعد غسق الليل وظلمته لأنه آخر مابقي من شعاع الشمس في القطر الغربي إذا قطعت الأرض العليا ودارت من وراء جبل قاف مصعدة تطلب المشرق فهذا هو الوقت المستحب لصلاة العشاء الآخرة، وهذا آخر الورد الأول من أوراد الليل، والصلاة فيه ناشئة الليل أي ساعاته لأنه أول نشوء ساعاته، وهو آن من الآناء التي ذكرها الله عزّ وجلّ في قوله: (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) طه: 031، فالآناء جمع آن أي وقت منه فصل وقيل ناشئة الليل قيام الليل، هذا وافق لسان الحبشة تقول نشا إذا قام، وقد أقسم الله تعالى به فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) الانشقاق: 61 والشفق ما بين العشاءين، وهي صلاة الأوّابين ويقال أيضاً صلاة الغفلة، قال يونس بن عبيد عن الحسن في قوله عزّ وجلّ: (تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجعِ) السجدة: 61، قال الصلاة بين العشاءين، حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه وقد سئل عمن نام بين المغرب والعشاء، فقال لاتفعل فإنها هي الساعة التي وصف الله عزّ وجلّ المؤمنين بالقيام فيها فقال عزّ وجلّ: (تَتَجَاْفَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجعِ) السجدة: 61، يعني الصلاة بين المغرب والعشاء وقد أسند ابن أبي الدنيا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن هذه الآية (تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجع) السجدة: 61، قال الصلاة فيما بين العشاءين، ثم قال عليكم بالصلاة فيما بين العشاءين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فإنها تذهب بملاغاة أول النهار وتهذب آخره، قوله الملاغاة: جمع ملغاة من اللغو أي تسقط اللغو أي تطرح المطرح عن العبد من الباطل واللهو وتهذب له آخره أي تصفيه وتجوده، ويستحب العكوف في المسجد بين العشاءين للصلاة وتلاوة القرآن، فقد روي فضل ذلك لا أن يكون بيته أسلم له لدخول آفة عليه فما سلم فيه فضل به، ثم ليصل قبل العشاء الآخرة أربعاً وبعدها ركعتين ثم أربعاً ويقال إن الأربع بعد صلاة العشاء في بيته يعدلن مثلهن من ليلة القدر، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصليهن في بيته أول ما يدخل قبل أن يجلس، وكان ابن مسعود يكره أن يصلي بعد كل صلاة مثلها وكانوا يستحبون أن يصلّي بعد المكتوبة ركعتين ثم أربعاً، وإن قرأ في الأربع في الأولى آية الكرسي والآيتين اللتين بعدها وفي الثانية (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّه) البقرة: 582، والآية قبلها وفي الثالثة أول الحديد إلى قوله عزّ وجلّ: (وَهُوَ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) الحديد: 6، وفي الرابعة آخر الحشر من قوله تعالى: (هُوَ الله لاَ إلهَ إلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ) الحشر: 22، فقد أحسن وأصاب، فإن صلّى بعد الأربع ثلاث عشرة ركعة آخرهن الوتر إن أحب، فإن هذا العدد أكثر ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى به من الليل إلا في خبر مقطوع وهو سبعة عشر ركعة، والمشهور أنه كان يصلي إحدى عشْرة ركعة وثلاث عشرة ركعة وربما حسبوا فيها ركعتي الفجر واستحب له أنه يقرأ في ركوعه هذا ثلاثمائة آية فصاعداً فإذا فعل ذلك لم يكتب من الغافلين ودخل في أحوال العابدين، فقد قيل إنّ الأكياس يأخذون أوقاتهم من أول الليل والأقوياء يأخذون أورادهم من آخر الليل، فإن قرأ في ركوعه هذا سورة الفرقان وسورة الشعراء ففيهما ثلاثمائة آية فإن لم يحسنهما قرأ خمساً من المفصل فيهن ثلاثمائة آية سورة الواقعة، وسورة نون، وسورة الحاقة، وسورة المدثر، وسورة سأل سائل، فإن لم يحسنهن قرأ من سورة الطارق إلى آخر القرآن ثلاثمائة آية، ولا يستحب للعبد أن ينام حتى يقرأ هذا المقدار من الآي في هذا العدد من الركوع بعد صلاة العشاء الآخرة، فإن قرأ في هذا الورد الثاني أعني بعد صلاة العشاء الآخرة وقبل أن ينام ألف آية فقد استكمل الفضل وكتب له قنطار من الأجر وكتب من القانتين، وأفضل الآي أطولها لكثرة الحروف وإن اقتصر على قصار الآي عند فتوره أدرك الفضل لحصول العدد، ومن سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية فإن لم يحسن قرأ: (قُلْ هُوَ اللهُ أحَدْ) الإخلاص: 1 مائتي وخمسين مرة في ثلاث عشرة ركعة فإن فيها ألف آية فهذا فضل عظيم وفي الخبر من قرأها عشر مرات بنى الله عزّ وجلّ له قصراً في الجنة. ئة آية، ولا يستحب للعبد أن ينام حتى يقرأ هذا المقدار من الآي في هذا العدد من الركوع بعد صلاة العشاء الآخرة، فإن قرأ في هذا الورد الثاني أعني بعد صلاة العشاء الآخرة وقبل أن ينام ألف آية فقد استكمل الفضل وكتب له قنطار من الأجر وكتب من القانتين، وأفضل الآي أطولها لكثرة الحروف وإن اقتصر على قصار الآي عند فتوره أدرك الفضل لحصول العدد، ومن سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية فإن لم يحسن قرأ: (قُلْ هُوَ اللهُ أحَدْ) الإخلاص: 1 مائتي وخمسين مرة في ثلاث عشرة ركعة فإن فيها ألف آية فهذا فضل عظيم وفي الخبر من قرأها عشر مرات بنى الله عزّ وجلّ له قصراً في الجنة. وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السور التي لم يكن يدعها في كل ليلة ثلاثة أحاديث أشهرها أنه لم يكن ينام حتى يقرأ سورة السجدة، وتبارك الملك والذي بعده أنه كان يقرأ في كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ليلة بني إسرائيل والزمر، والقريب منها أنه كان يقرأ المسبحات في كل ليلة ويقول فيها إنه أفضل من ألف آية، قال: وكان العلماء يجعلونها ستاً ويزيدون فيها (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) الأعلى: 1 وفي الخبر: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) الأعلى: 1 فهذا يدل على أنه كان يكثر قراءتها ولا يدع أن يقرأ هذه الأربع سور في كل ليلة سورة يس، وسورة لقمان، وسورة الدخان، وتبارك الملك فإن ضم إليها سورة الواقعة، وسورة الصف، والحاقة، والزمر، فقد أكثر وأحسن فإن لم يكن من عبادته القيام من الليل قدم الوتر بنية الخبر المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا أنام إلا على وتر، وإن كان معتاداً لصلاة الليل فالأفضل تأخير الوتر إلى آخر صلاته من تهجده أو إلى السحر على حديث ابن عمر رضي الله عنه: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أوتر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أول الليل ومن أوسطه ومن آخره وانتهى وتره إلى السحر، فإن نام على وتر ورزق القيام لم يوتر بعده وكفاه وتره الأول على الخبر الذي جاء: لا وتران في ليلة، وقد قال بعض العلماء: يصلي ركعة واحدة يشفع بها وتره من أول الليل ثم يصلي صلاته من الليل ويوتر آخر صلاته، وقد روي في هذا أثر عن عثمان وعلي رضي الله عنهما، وإن كان قد صلّى ركعتين من جلوس بعد وتره الأول ثم استيقظ للصلاة شفعتا وتره الركعة الواحدة لأنهما بمنزلة ركعة واحدة يشفع بها ركعة الوتر التي صلاها قبلها، ثم ليصل من الليل مستأنفاً ما بدا له ثم يوتره بركعة واحدة في آخر صلاته فيكون له في ذلك ثلاثة أعمال: قصر الأمل، وتحصيل الوتر، والوتر من آخر الليل، وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ركعتين جالساً بعد وتره والله تعالى أعلم، فليقرأ فيهما جالساً بسورة الزلزلة وسورة ألهاكم التكاثر فقد جاء ذلك في حديثين: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ فيهما بذلك لما في الزلزلة والتكاثر من التخويف والوعظ، وفي رواية قل يا أيها الكافرون لما في سورة الكافرون من التنزيه من عبادة سوى المعبود وإفراد العبادة لله سبحانه فيها بالتوحيد، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها عند النوم وأوصى رجلاً بقراءتها عند منامه وتقديم الوتر مستحب لمن لم يكن عادته قيام الليل ولمن كان الأغلب عليه النوم وتأخير الوتر يكون لمن أخر صلاته قبل طلوع الفجر أفضل وليقل بعد التسليم من الوتر: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح جللت السموات والأرض بالعظمة والجبروت وتعززت بالقدرة وقهرت العباد بالموت، يقول هذا ثلاث مرات وهذا هو الورد الثاني من الليل أعني الصلاة بعد العشاء الآخرة إلى حد نومة الناس فقد أقسم الله عزّ وجلّ في قوله: (وَالليْلِ وَمَا وَسَقَ) الانشقاق: 71، أي وما جمع من ظلمته وذكره الله عزّ وجلّ في قوله: (إلى غَسَقِ اللَّيْلِ) الإسراء: 87، فهناك يغسق الليل وتستوسق ظلمته ثم ينام إن أحب وهو على طهارة وعن ذكر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وقد كان الصالحون لاينامون إلا عن غلبة ويكرهون التعمد للنوم وهو التهيؤ للعادة وقد كان منهم من يمهد لنفسه بالنوم ليتقوّى بذلك على صلاة أوسط الليل وآخره للفضل في ذلك ومن غلبه النوم حتى شغله عن الصلاة والذكر فإن السنة أن ينام حتى يعقل ما يقول وينشط في خدمته، وقد كان ابن عباس يكره النوم قاعداً، وفي الخبر لا تكابدوا الليل، وقيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن فلانة تصلي من الليل فإذا غلبها النوم تعلقت بحبل فنهى عن ذلك وقال ليصلّ أحدكم من الليل ما تيسر فإذا غلبه النوم فليرقد، وقال: اكفلوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا، وقيل له: إن فلاناً يصلّي الليل لاينام ويصوم الدهر لا يفطر، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير هذا الدين أيسره، ثم قال: لكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر فهذه سنتي، فمن رغب عن سنتي، فليس مني، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تشادوا هذا الدين فإنه متين فمن يشاده يغلبه ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله عزّ وجلّ، والورد الثالث يكون بعد نومة الناس وهو التهجد الذي ذكره الله في قوله: (وَمِنَ الليلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) الإسراء: 97 ولا يكون التهجد إلا بعد النوم وتلك النومة هي الهجوع الذي قال الله عزّ وجلّ من القائمين آنَاء اللّيْل فقال تعالى: (كَانوا قَليلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) الذاريات: 71، فالهجوع النوم والتهجد القيام وقد يقال الهجود أيضاً وهذا يكون نصف الليل، فهذا أوسط الأوراد وهو يشبه الورد الأوسط من النهار في أفضل أوراده وهو أفضل الأوراد وأمتعها للعبادة، وقد أقسم الله عزّ وجلّ به في قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إذَا سَجى) الضحى: 2، قيل إذا سكن وسكونه هدوه وسنة كل عين فيه وغفلتها إلا عين الله تبارك وتعالى فإنه الحي الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وقيل إذا سجى إذا امتد وطال ويقال إذا أظلم وسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الليل أسمع فقال: جوف الليل الغابر. ض إلى نفسك عبادة الله عزّ وجلّ، والورد الثالث يكون بعد نومة الناس وهو التهجد الذي ذكره الله في قوله: (وَمِنَ الليلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) الإسراء: 97 ولا يكون التهجد إلا بعد النوم وتلك النومة هي الهجوع الذي قال الله عزّ وجلّ من القائمين آنَاء اللّيْل فقال تعالى: (كَانوا قَليلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) الذاريات: 71، فالهجوع النوم والتهجد القيام وقد يقال الهجود أيضاً وهذا يكون نصف الليل، فهذا أوسط الأوراد وهو يشبه الورد الأوسط من النهار في أفضل أوراده وهو أفضل الأوراد وأمتعها للعبادة، وقد أقسم الله عزّ وجلّ به في قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إذَا سَجى) الضحى: 2، قيل إذا سكن وسكونه هدوه وسنة كل عين فيه وغفلتها إلا عين الله تبارك وتعالى فإنه الحي الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وقيل إذا سجى إذا امتد وطال ويقال إذا أظلم وسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الليل أسمع فقال: جوف الليل الغابر. وروينا في أخبار داود عليه السلام: إلهي إني أحب أن أتعبد لك فأي وقت تقبل؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: ياداود لا تقم أول الليل ولا آخره، فإنه من نام أوله نام آخره ومن قام آخره لم يقم أوله ولكن قم وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك وارفع إليّ حوائجك، والورد الرابع يكون بين الفجرين أحدهما الفجر الأول وهو بدو سلطان شعاع الشمس إذا ظهرت من وراء الأرض الخامسة وسطع ضوءُها في وسط السماء حتى يقطعها بمقدار طلوع الفجر الأول ثم تغرب في الفلك الأسفل المتجانف وتحجبها الأرض السادسة فيذهب الضوء ويعود سواد الليل كما كان لغيبة الشمس وهو الثلث الأخير وفيه وردت الأخبار باهتزاز العرش وانتشار الرياح من جنات عدن ومن نزول الجبار إلى سماء الدنيا وفيه الخبر الذي جاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل أي الليل أفضل؟ فقال: نصف الليل الغابر يعني الباقي وهذا هو الورد الرابع من نصف الليل إلى وقت السحر الأول، ثم يدخل الورد الخامس وهو السحر الأخير وفيه يستحب السحور، فمن لم يتسحر في أوله بغته الفجر وهو قبل طلوع الفجر الثاني بمقدار قراءة جزء من القرآن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 في هذا الورد الخامس الاستغفار وقراءة القرآن وقد ذكره الله عزّ وجلّ في قوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) الإسراء: 87، قيل تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار لتوسط هذا الورد بينهما، ومن ذلك ذهب أهل الحجاز إلى أن الصلاة الوسطى التي نص الله تعالى على المحافظة عليها هي صلاة الفجر تعظيماً لهذا الوقت وتشريفاً له لتوسطه بين آخر الليل وأول النهار، فهذا الورد هو أقصر الأوراد ومن أفضلها وهو من السحر الأول إلى طلوع الفجر الثاني إلا ما كان من صلاة نصف الليل فذلك هو أفضل شيء من الليل، وهو أوسط الأوراد لأنه هو الورد الثالث، ويصلح في هذا الورد الخامس من السحر الأخير الصلاة لمن استيقظ من ساعته أو لمن تمم به صلاته، فالصلاة فيه لها فضل وشرف وهو بمنزلة الصلاة في أول الليل بين العشاءين، ولأن معنى قوله عزّ وجلّ عند بعض المفسرين: (وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الذاريات: 81، أي يصلون وكذلك قوله عزّ وجلّ: (وَقُرْآنَ الْفَجْر) الإسراءِ: 87 يعني به الصلاة فكنى بذلك القرآن والاستغفار عن الصلاة لأنهما وصفان منها، كما قيل للصلاة تسبيح وسبحة لأن فيها التسبيح، وكذلك يقال للصلاة استغفار لأنه يطلب بها المغفرة وتكون هذه الصلاة في السحر بدلاً من السحور إلى طلوع الفجر الثاني وقد أمر بها سلمان أخاه أبا الدرداء ليلة زاره في حديث طويل قال في آخره: فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان: نم، فنام ثم ذهب ليقوم فقال له: نم، فنام فلما كان عند الصبح قال له سلمان: قم الآن فقاما، فصليا، فقال: إن لنفسك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً وإن لربك عليك حقّاً وإن لضيفك عليك حقّاً فأعط كل ذي حق حقه، وذلك أن امرأة أبي الدرداء أخبرت سلمان أنه لاينام الليل، قال: فأتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرا ذلك له فقال: صدق سلمان، وهذا الورد الخامس يشبه الورد السابع من النهار قبل الغروب في فضل وقتيهما وهذا قبل الفجر الثاني، والفجر الثاني هو انشقاق شفق الشمس وهو بدو بياضها الذي تحته الحمرة وهو الشفق الثاني على ضد غروبها، لأن شفقها الأول من العشاء وهو الحمرة بعد الغروب وبعد الحمرة البياض وهو الشفق الثاني من أول الليل وهو آخر سلطان الشمس، وبعد البياض سواد الليل وغسقه، ثم ينقلب ذلك إلى الضد فيكون بدو طلوعها الشفق الأول وهو البياض وبعده الحمرة وهو شفقها الثاني وهو أول سلطانها من آخر الليل وبعده طلوع قرص الشمس، والفجر هو انفجار شعاع الشمس من الفلك الأسفل إذا ظهرت على وجه الأرض الدنيا يستر عينها الجبال والبحار والأقاليم المسروقة العالية ويظهر شعاعها منتشراً إلى وسط السماء عرضاً مستطيراً فهذا آخر الورد الخامس وعنده يكون الوتر فإذا طلع الفجر فقد انقضت أوراد الليل الخمسة ودخلت أوراد النهار، فانظر هل دخلت في دخوله عليك في جملة العابدين أم خرج عنك وأنت فيه من الغافلين وتفكر أي لبسة ألبسك فإن الليل جعل لباساً هل ألبست فيه حلة النور بتيقظك فتربح تجارة لن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 تبور أم ألبسك الليل ثوب ظلمته فتكون ممن مات قلبه بموت جسده بغفلتك، ثم يقوم العبد حينئذ فيصلي ركعتي الفجر وهما معنى قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإدبَارَ النُّجُومِ) الطور: 94، قيل ركعتي الفجر ثم يقرأ: نعوذ بالله من سخطه وبعده شهد الله أنه لا إله إلا هو إلى آخرها ويقول: أنا أشهد بما شهد الله به لنفسه وشهدت به ملائكته وأولو العلم من خلقه، وأستودع الله العظيم هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة حتى يؤديها وأسأله حفظها حتى يتوفاني الله عليها، اللّم احطط بها عني وزراً، واجعل لي بها عندك ذخراً، واحفظني بها واحفظها علي، وتوفني عليها حتى ألقاك بها غير مبدل تبديلاً، وأفضل ما عمل العبد في ورد من أوراد الليل والنهار بعد القيام بفرض يلزمه أو قضاء حاجة لأخيه المؤمن يعينه الصلاة بتدبر الخطاب، ومشاهدة المخاطب، فإن ذلك يجمع العبادة كلها ثم بعد ذلك التلاوة بتيقظ عقل وفراغ هم ثم أي عمل فتح له فيه من فكر أو ذكر برقة قلب وخشوع جوارح ومشاهدة غيب فإن ذلك أفضل أعماله في وقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الفصل التاسع فيه ذكر وقت الفجر وحكم ركعتيه الأداء والقضاء وحكم الوتر ووقت القضاء له والأداء، وفي الشهر ليلتان يعتبر بهما وقت الفجر: إحداهما يطلع القمر فيها عند طلوع الفجر الأول وهي ليلة ست وعشرين، والأخرى يغيب القمر فيها عند طلوع الفجر وهي ليلة اثنتي عشرة من الشهر، ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مقدار ثلثي سبع تلك الليلة، وهذ يكون في الصيف، ويكون في الشتاء أقل من ذلك، لأنه يكون نصف سدس تلك الليلة، وهذا الورد الأول من النهار ووقت الأداء للوتر من بعد صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر الثاني، فإذا طلع الفجر الثاني فقد ذهب وقت الأداء وهو وقت القضاء للوتر فليصلِّ الوتر حينئذ من لم يكن أداه إلى قبل صلاة الصبح، فإذا صلّى الصبح ذهب وقت قضاء الوتر أيضاً ووقت الأداء لركعتي الفجر إذا طلع الفجر الثاني، فالمستحب له أن يصليهما في منزله وقبل صلاة الغداة والسنة أن يخففهما فإذا صلّى الصبح ولم يكن صلاهما فقد ذهب وقت الأداء وبقي له وقت القضاء، فليمهل حتى تطلع الشمس وتحل الصلاة فليقدمها على سبحة الضحى، وهذا وقت القضاء لركعتي الفجر إلى صلاة الظهر، فإذا صلّى الظهر ولم يكن صلاهما فقد ذهب وقت قضائهما أيضاً، ومن فاته ورد من الأوراد فاستحب له فعل مثله في وقته أو قبله إذا ذكره لا على وجه القضاء، فإنه لا يقضي إلا الفرائض ولكن على وجه التدارك ورياضةَ النفس بذلك ليأخذ بالعزائم كيلا يعتاد التراخي والترخص، ولأجل الخبر المأثور أحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ أدومها وإن قل كيف، وفي حديث عائشة رضي الله عنها الوعيد على ترك العادة في العبادة روت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عبد الله تعالى عبادة ثم تركها ملالة مقته الله تعالى وقالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا غلبه النوم أو عاقه مرض فلم يقم في تلك الليلة صلّى من النهار اثنتي عشرة ركعة، ومن دخل المسجد لصلاة الصبح ولم يكن صلّى ركعتي الفجر في منزله صلاهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وأجزأتا عنه تحية المسجد، ومن كان قد صلاهما في بيته نظر، فإن كان دخوله المسجد بغلس عند طلوع الفجر واشتباك النجوم صلّى ركعتين تحية المسجد، وإن كان دخوله عند انمحاق النجوم ومسفراً عند الإقامة قعد ولم يصلِّ ركعتين لئلا يكون جامعاً بين صلاة الصبح وبين صلاة قبلها، ولا يصلّي بعد طلوع الفجر الثاني شيئاً إلا ركعتي الفجر فقط، ومن دخل المسجد ولم يكن صلّى ركعتي الفجر، فإن كان قبل الإقامة صلاهما وإن دخل وقت الإقامة وقد افتتح الإمام الصلاة فلا يصليهما وليدخل في الصلاة المكتوبة فإنه أفضل والنهي فيه. روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وليقل من قعد في المسجد من غير صلاة ركعتين تحية المسجد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذه الأربع كلمات يقولها أربع مرات فإنها عدل ركعتين في الفضل وكذلك من دخله وكان على غير وضوء أو مر في المسجد عابر طريق ومن دخل مسجداً فلا يقعد حتى يصلّي ركعتين وأكره له دخول المسجد والقعود فيه على غير وضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الفصل العاشر كتاب معرفة الزوال وزيادة الظل ونقصانه بالأقدام واختلاف ذلك في الصيف والشتاء، قال الله جلت قدرته: (أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَليلاً) الفرقان: 45 وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيلَ وَالنَّهارَ آيَتَينِ) الإسراء: 12، الآية إلى قوله عدد السنين والحساب، وقال سبحانه: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) الرحمن: 5، وفي حديث أبي الدرداء وكعب الأحبار في صفة هذه الأمة يراعون الظلال لإقامة الصلاة وأحب عباد الله إلى الله عزّ وجلّ الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله عزّ وجلّ، وقال بعض العلماء بالحساب والأثر من أهل الحديث: إن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة وإن الساعة ثلاثون شعيرة يأخذ كل واحد منهما من صاحبه في كل يوم شعيرة حتى تستكمل الساعة في الشهر، وبين أول الشهر وآخره ثلاثون درجة، الشمس كل يوم في درجة، قال: وتفسير ذلك أنه إذا مضى من أيلول سبعة عشر يوماً استوى الليل والنهار، ثم يأخذ الليل من النهار من ذلك اليوم في كل يوم شعيرة حتى يستكمل ثلاثين يوماً فيزيد ساعة حتى يصير سبعة عشر يوماً من كانون الأول فينتهي طول الليل وقصر النهار وكانت تلك الليلة أطول ليلة في السنة وهي خمس عشرة ساعة وكان ذلك اليوم أقصر يوم في السنة وهو تسع ساعات، ثم يأخذ النهار من الليل كل يوم شعيرة حتى إذا مضى سبع عشرة ليلة من آذار استوى الليل والنهار وكان كل واحد منهما اثنتي عشْرةَ ساعة ثم يأخذ النهار من الليل كل يوم شعيرة حتى إذا مضى سبعة عشر يوماً من حزيران كان نهاية طول النهار وقصر الليل فيكون النهار يومئذ خمسَ عشْرَةَ ساعة والليل تسع ساعات ثم ينقص من النهار كل يوم شعيرة حتى إذا مضى سبع عشرة ليلة من أيلول استوى الليل والنهار ثم يعود الحساب على ذلك، قال: فمواقيت الصلاة من ذلك أن الشمس إذا وقفت فهو قبل الزوال فإذا زالت بأقل القليل فذلك أول وقت الظهر، فإذا زادت على سبعة أقدام بعد الزوال فذلك أول وقت العصر؛ وهو آخر وقت الظهر، قال: والذي جاء في الحديث أن الشمس إذا زالت بمقدار شراك فذلك وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله فذلك آخر وقت الظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وأول وقت العصر، وهكذا صلّى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول يوم ثم صلِّى من الغد الظهر حين صار ظل كل شيء مثله فذلك آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، ثم صلّى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وقال ما بين هذين وقت فإذا أردت أن تقيس الظل حتى تعرف ذلك فانصب عوداً أو قم قائماً في موضع من الأرض مستوٍ ثم اعرف موضع الظل ومنتهاه فخط على موضع الظل خطاً ثم انظر أينقص الظل أم يزيد فإن كان الظل ينقص فإن الشمس لم تزل بعد ما دام الظل ينقص فإذا قام الظل فذلك نصف النهار ولا يجوز في هذا الوقت الصلاة فإذا زاد الظل فذلك زوال الشمس إلى طول ذلك الشيء الذي قست به طول الظل وذلك آخر وقت الظهر فإذا زاد الظل بعد ذلك قدماً فقد دخل وقت العصر حتى يزيد الظل طول ذلك الشيء مرة أخرى فذلك وقت العصر الثاني فإذا قمت قائماً تريد أن تقيس الظل بطولك فإن طولك سبعة أقدام بقدمك سوى قدمك التي تقوم عليها فإذا قام الظل فاستقبل الشمس بوجهك ثم مر إنساناً يعلم طرف ذلك بعلامة ثم قس من عقبك إلى تلك العلامة فإن كان بينهما أقل من سبعة أقدام سوى ما زالت عليه الشمس من الظل فإنك في وقت الظهر ولم يدخل وقت العصر حتى يزيد الظل على سبعة أقدام سوى ما تزول الشمس عليه من الظل فذلك وقت العصر ثم إن الأقدام تختلف في الشتاء والصيف فيزيد الظل وينقص في الأيام، فمعرفة ذلك أن استواء الليل والنهار في سبعة عشر يوماً من آذار فإن الشمس تزول يومئذ وظل الإنسان ثلاثة أقدام وكذلك ظلّ كل شيء تنصبه، فإن الشمس تزول يومئذ وظل كل شيء ثلاثة أسباعه ثم ينقص الظل وكلما أمضى ستة وثلاثون يوماً نقص الظل قدماً حتى ينتهي طول النهار وقصر الليل في سبعة عشر يوماً من حزيران فتزول الشمس يومئذ وظلّ الإنسان نصف قدم وذلك أقل ما تزول عليه الشمس ثم يزيد الظل فكلما مضت ستة وثلاثون يوماً زاد الظل قدماً حتى يستوي الليل والنهار في سبعة عشر يوماً من أيلول فتزول الشمس يومئذ، والظل على ثلاثة أقدام ثم يزيد الظل وكلما مضى أربعة عشر يوماً زاد الظل قدماً حتى ينتهي طول الليل وقصر النهار في سبعة عشر يوماً من كانون الأول فتزول الشمس يومئذ على تسعة أقدام ونصف قدم وذلك أكثر ما تزول الشمس يومئذ عليه ثم كلما مضى أربعة عشر يوماً زاد الظل قدماً حتى ينتهي إلى سبعة عشر يوماً من آذار فذلك استواء الليل والنهار، وتزول الشمس على ثلاثة أقدام وذلك دخول الصيف وزيادة الظل ونقصانه الذي ذكرناه في كل ستة وثلاثين يوماً قدم في الصيف والقيظ وزيادته في كل أربعة عشر يوماً قدم في الربيع والشتاء، وهذا ذكره بعض علماء المتأخرين من أهل العلم بالنجوم وقد ذكر غيره من القدماء قريباً من هذا وذكر زوال الشمس بالأقدام في شهر تشرين وخالف هذا في حدين من نهاية الطول والقصر قدمين فذكر أن أقل ما تزول عليه الشمس في حزيران على قدمين وأن أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ما تزول عليه الشمس في كانون ثمانية أقدام فكان الأول هو أدق تحديداً وأقوم تحريراً وذكر أن الشمس تزول في أيلول على خمسة أقدام وفي تشرين الأول على ستة وفي تشرين الأخير على سبعة وفي كانون على ثمانية قال: وذلك منتهى قصر النهار وطول الليل وهو أكثر ما تزول عليه الشمس، قال: ثم ينقص الظل ويزيد النهار فتزول الشمس في كانون الأخير على سبعة أقدام وتزول في شباط على ستة أقدام وفي آذار على خمسة وذلك استواء الليل والنهار وتزول في نيسان على أربعة أقدام وتزول في أيار على ثلاثة أقدام وتزول في حزيران على قدمين فذلك منتهى طول النهار وقصر الليل وهو أقل ما تزول الشمس عليه فيكون النهار حينئذ خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات وتزول الشمس في تموز على ثلاثة أقدام وفي آب على أربعة أقدام وفي أيلول على خمسة أقدام وفيه يستوي الليل والنهار. ر في سبعة عشر يوماً من كانون الأول فتزول الشمس يومئذ على تسعة أقدام ونصف قدم وذلك أكثر ما تزول الشمس يومئذ عليه ثم كلما مضى أربعة عشر يوماً زاد الظل قدماً حتى ينتهي إلى سبعة عشر يوماً من آذار فذلك استواء الليل والنهار، وتزول الشمس على ثلاثة أقدام وذلك دخول الصيف وزيادة الظل ونقصانه الذي ذكرناه في كل ستة وثلاثين يوماً قدم في الصيف والقيظ وزيادته في كل أربعة عشر يوماً قدم في الربيع والشتاء، وهذا ذكره بعض علماء المتأخرين من أهل العلم بالنجوم وقد ذكر غيره من القدماء قريباً من هذا وذكر زوال الشمس بالأقدام في شهر تشرين وخالف هذا في حدين من نهاية الطول والقصر قدمين فذكر أن أقل ما تزول عليه الشمس في حزيران على قدمين وأن أكثر ما تزول عليه الشمس في كانون ثمانية أقدام فكان الأول هو أدق تحديداً وأقوم تحريراً وذكر أن الشمس تزول في أيلول على خمسة أقدام وفي تشرين الأول على ستة وفي تشرين الأخير على سبعة وفي كانون على ثمانية قال: وذلك منتهى قصر النهار وطول الليل وهو أكثر ما تزول عليه الشمس، قال: ثم ينقص الظل ويزيد النهار فتزول الشمس في كانون الأخير على سبعة أقدام وتزول في شباط على ستة أقدام وفي آذار على خمسة وذلك استواء الليل والنهار وتزول في نيسان على أربعة أقدام وتزول في أيار على ثلاثة أقدام وتزول في حزيران على قدمين فذلك منتهى طول النهار وقصر الليل وهو أقل ما تزول الشمس عليه فيكون النهار حينئذ خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات وتزول الشمس في تموز على ثلاثة أقدام وفي آب على أربعة أقدام وفي أيلول على خمسة أقدام وفيه يستوي الليل والنهار. وقد روينا عن سفيان الثوري رحمه الله أكثر ما تزول عليه الشمس تسعة أقدام وأقل ما تزول عليه قدم وهذا أقرب إلى القول الأول في التحديد، وقد جاء في ذكر الأقدام لوقت الصلاة أثر من سنة فلذلك ذكرنا منها ما شرحه من عرفه، روينا عن أبي مالك سعد بن طارق الأشعري عن الأسود بن زيد عن ابن مسعود قال: كان قدر صلاة الظهر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى ستة أقدام وفصل الخطاب أن معرفة الزوال بهذا التحديد ليس بفرض ولكن صلاة الظهر بعد تيقن زوال الشمس فرض متى زالت الشمس مبلغ علمك ويقين قلبك ومنظر عينك فكانت الشمس على حاجبك الأيمن في الصيف إذا استقبلت القبلة فقد زالت لا شكّ فيه فصلِّ إلى أن يكون ظل كل شيء مثله فهذا آخر وقت الظهر وأول وقت العصر ثم صلِّ العصر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، فهذا آخر وقت العصر المستحب ثم إلى أن تصفر الشمس وتدلى للغروب، فهذا وقت الضرورات وهو مكروه إلا لمريض أو معذور، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح فإذا كانت الشمس على حاجبك الأيسر وأنت مستقبل القبلة في الصيف فإن الشمس لم تزل مبلغ علمك ومنظر عينك، فإذا كانت بين عينيك فهو استواؤها في كبد السماء نظر عينك ويصلح أن تكون قد زالت لقصر النهار وفي أول الشتاء وقد لا تكون زالت إذا طال النهار وتوسط الصيف فإذا صارت إلى حاجبك الأيمن فقد زالت في أي وقت كان، ثم إن هذا يختلف في الشتاء فإذا كانت على حاجبك الأيسر في الشتاء وأنت مستقبل القبلة فيصلح أن تكون زالت لقصر النهار في أول الشتاء وقد لا تكون زالت إذا امتد النهار وفي أول الصيف فإذا كانت الشمس بين عينيك في الشتاء فقد زالت لا شك فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فصل الظهر فإذا صارت إلى حاجبك الأيمن فهذا آخر وقت الظهر في الشتاء وهو أوّل وقت الظهر في الصيف وهذا التقدير إنما هو لأهل إقليم العراق وخراسان لأنهم يصلون إلى الحجر الأسود وتلقاء الباب من وجهة الكعبة فأما إقليم أهل الحجاز واليمن فإن تقديرهم على ضد ذلك وقبلتهم إلى الركن اليماني وإلى مؤخر الكعبة فلذلك اختلف التقدير وتضادد الاختلاف للتوجه إلى شطر البيت وتفاوت الأمصار في الأقاليم المستديرة حوله فهذا كان تقدير المتقدمين وما سوى ذلك من التدقيق والتحرير فمحدث إلا أنه علم لأهله، ومن أشكل عليه الوقت لجهل بالأدلة أو لغيم اعترض فليتحرَّ بقلبه ويجتهد بعلمه ولا يصلِّ صلاة إلا بعد تيقن دخول وقتها وإن تأخر ذلك فهذا أفضل حينئذ ولكن قد جاء في الخبر ثلاث من مناقب الإيمان: الصيام في الصيف، وإسباغ الوضوء في الشتاء، وتعجيل الصلاة في يوم دجن، ومن أمثال العرب يوم الدجن يضرب فيه عبد السوء هذا لأن الوقت في الغيم كأنه يقصر لغيبة الشمس فيغفل الإنسان عن مراعاة الوقت أو يتشاغل عنه لأن الفرائض لا تقبل إلا عن يقين فأداؤها بعد دخول الوقت على اليقين أفضل من أدائها في الوقت على الشك، ألم تسمع إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن غم عليكم فأكملوا عدد شعبان ثلاثين، فترك الاحتياط لليقين، ومن صلّى وهو يرى أنه الوقت أو توجه إلى القبلة فيما يعلم ثم تبين له بعد أنه صلِّى قبل الوقت أو صلى لغير القبلة نظر فإن كان في الوقت أو بعده قليلاً أعاد الصلاة احتياطاً وإن كان للوقت قد خرج فلا شيء عليه وهو معفو الخطأ وأحب أن يعيد تلك الصلاة متى ذكرها. وقال بعض العلماء: للشمس سبعة أزولة، ثلاثة منها لا يعلم بها البشر: الزوال الأول نزوله عن قطب الفلك الأعلى لا يشهده ولا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ، والزوال الثاني عن وسط الفلك لا يعلمه من خلق اللّّه تعالى إلا خزان الشمس الموكلون بها الذين يرمونها بجبال الثلج ليسكن حرها ويحتبسوا شعاعها عن العالمين ويسوقونها على العجلة المركبة في الفلك، والزوال الثالث يعلمه ملائكة الأرض، ثم إن الزوال الرابع يكون على ثلاث دقائق وهو ربع شعيرة، والشعيرة جزء من اثني عشر جزءاً من ساعة، فهذا الزوال تعرفه الفلاسفة من المنجمين أهل العلم بمساحة الفلك وتركيب الأفلاك فيه وتقدير سير الشمس في الشتاء والصيف في فلكها منه فيقوّمون ذلك بالنظر في المرتجلات الطالعة على التقويم، فإذا زالت الشمس الزوال الخامس نصف شعيرة وهي ست دقائق عرف زوالها أهل الحساب والتقاويم بالإسطرلاب الطالع فإذا زالت شعيرة وهو الزوال السادس المشترك وهو جزء من اثني عشر جزءاً من ساعة عرف زوالها علماء المؤذنين وأصحاب مراعاة الأوقات فإذا زالت ثلاث شعيرات فهو الزوال السابع، وهو ربع ساعة عرف الناس كلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 زوالها، وعند هذا الوقت صلاة الكافة وهو أوسط الوقت وأوسعه، وذلك واسع برخصة الله سبحانه وتعالى ورحمته، وهذا كله لبعد منصب السماء ولاستواء تقويم صنعتها في الأفق الأعلى ولإتقان صنعتها في الجو المتخرق علواً وفي الأقطار المتسعة المستديرة استواءً ومتناسباً، وقد يروى في الخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل جبريل عليه السلام فقال: هل زالت الشمس؟ فقال: لا نعم، فقال: كيف هذا فقال بين قولي لك لا نعم قطعت في الفلك خمسين ألف فرسخ فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأله عن زوالها على علم اللّّه سبحانه وتعالى به، وقد قال بعض الفلاسفة إن السماء تدور كما تدور الرحى فتدير الأفلاك بدورانها على القطب ولكن لا يرى ذلك منها لبعدها وعلوها وتقويم استدارتها، وقد ذكره بعض العلماء من السلف فتبارك اللّّه أحسن الخالقين وذكر بعض العارفين أعجب من هذا وألطف من قدرة اللّّه عزّ وجلّ وخفي صنعه ذكر أن الليل والنهار أربعة وعشرون ساعة وإن الساعة اثنتا عشْرَةَ دقيقة كل دقيقة اثنتا عشْرَةَ شعيرة وكل شعيرة أربعة وعشرون نفساً فتظهر الأنفاس من خزانة الجسم فتنشئ الشعائر وتنشأ الشعائر فتظهر الدقائق فتنتج الساعات وتتحرك الساعات فتدير الأفلاك وتدور الأفلاك فتنشر الليل والنهار في الجو والأقطار وينشر الليل والنهار فتدير السماء في الآفاق وينعقد الحسبان بالتفصيل فإذا خفي الإحساس انقطعت الأنفاس فانفكت الأفلاك فعندها تنتشر النجوم وتنشق السماء وتخرب الديار وتظهر دار القرار فسبحان الله ألطف الصانعين وأقهر القادرين وقد قال سبحانه وتعالى: (إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) التكوير: 1 - 2، وقال سبحانه وتعالى: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً) الطور: 9، يعني تدور دوراً فسبحان اللطيف الحكيم أدار تلك الأفلاك الكثاف بهذه الأنفاس اللطاف كما حجب الفلك الكثيف بستر الفضاء اللطيف، فالفلك العظيم لا يحجب السماء والفضاء الرقيق يحجب الفلك، لأنه أراد سبحانه وتعالى أن يرينا السماء وأحب أن يخفي عنا الفلك فلم نَر إلا ما أرانا، فالعبد هو سبب لذلك ومحرك لذلك ولا يشعر بذلك فمداره أنفاسه وأنفاسه ساعاته وساعاته عمره وعمره أجله وأجله آخرته وهو في غفلة بدنياه وفي لعب بما يهواه، فإن نظرت إلى السماء رأيتها تنشئ الأنفاس وإن نظرت إلى الأنفاس، رأيتها تدير الأفلاك، وإن نظرت إلى فوق الفوق عميت عما سواه، فلا إله إلا هو رب العرش العظيم (صُنْعَ اللهِ الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) النمل: 88 إن ربي لطيف لما يشاء، (سَنُرِيهِم آَياتِنا في الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِم) فصلت: 35، (وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) الذاريات: 02، (وَفِي أَنْفُسِكُم أَفَلا تُبْصِرُونَ) الذاريات: 12، (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ) الحاقة: 83، (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقى) الأعلى: 01 فأما صلاة المغرب فأفضل ما صلّيت فيه إذا تدلى حاجب الشمس الأعلى وهو غيبتها عن الأبصار، روي عن عمر رضي اللّّه عنه أنه أخر صلاة المغرب ليلة حتى طلع نجم فأعتق رقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخر المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين، وأفضل ما صليت فيه عشاء الآخرة إذا غاب البياض الغربي وأظلم مكانه وهو الشفق الثاني إلى ما بعد ذلك فتأخيرها أفضل إلى ربع الليل ما لم تنم والنوم قبلها مكروه شديد ووقت حسن في سنة أن تصلّي بمقدار غيبة القمر ليلة ثلاث من الشهر وهذا يكون بعد سبع ونصف من الليل لأنا روينا أنّ رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي العشاء الآخرة لسقوط القمر ليلة ثلاث، وأفضل ما صلّيت فيه صلاة الصبح إذا طلع الفجر الثاني وهي الصلاة الوسطى التي أفرد اللّّه تبارك وتعالى محافظتها لأنها تختص بمعان ثلاث من التوسط لا توجد في سائر الصلوات، منها أنها بين الليل والنهار، والثاني أنها بين صلاتين من صلاة الليل وصلاتين من صلاة النهار، والثالث أنها متوسطة بين صلاتي جهر وصلاتي مخافتة، وأيضاً فإنها أقصر الصلاة عدداً لا ثلاثاً ولا أربعاً، فلما اختصت بتوسط هذه المعاني دون غيرها كانت هي الوسطى، وأيضاً فإن اللّّه تعالى نص على ذكر الفجر في قوله عزّ وجلّ: (وَقُرْآنَ الْفَجْر إنَّ قُرآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) الإسراء: 78، وقيل في تفسير ذلك تشهده ملائكة الليل والنهار فكان هذا ذكراً لها بوصف آخر توكيداً للمحافظة عليها فإن صح الخبر عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر بطل ما قلناه وثبت قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه هو الحق وبه نقول ولا أحسب الخبر إلا ثابتاً فقد جاء بأشد اليقين أخبرنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عنها فقال: هي التي شغل عنها أخي سليمان حتى توارت بالحجاب، والسنة أن تقرأ في صلاة الصبح بسورة من المثاني أو بطوال المفصل لأنها قصرت وعوّض عنها طول القيام فإن كان أجمع للمصلين وأكثر لعددهم إذا توسط الوقت فحسن قبل أن تمحق النجوم فأما أن يسفر حتى ينتشر البياض تحت الحمرة وذلك هو شيء من شعاع الشمس فلا، وإن كثروا فصلاتها بغلس في القليل أفضل، والمحافظة على أوائل الأوقات من كل صلاة من أفضل الأعمال إلا ما ذكرناه من تأخير صلاة العشاء الآخرة للأثر فيه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضل الصلاة في أول الوقت على الصلاة في آخر الوقت كفضل الآخرة على الدنيا وفي الخبر أن العبد ليصلّي الصلاة في آخر وقتها ولما فاته من الوقت الأول خير له من الدنيا وما فيها، والخبر المشهور أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة لوقتها، وقد جاء في الأثر الوقت الأول رضوان الله عزّ وجلّ والوقت الأخير عفو الله تبارك وتعالى، قيل: فرضوان الله عزّ وجلّ يكون للمحسنين وعفو اللّّه سبحانه وتعالى يكون عن المقصرين، والوقت الأول من كل صلاة من عزيمة الدين وطريقة المقيمين للصلاة المحافظين، والوقت الثاني رخصة في الدين وسعة من الله عزّ وجلّ ورحمة للغافلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الفصل الحادي عشر كتاب فضل الصلاة في الأيام والليالي ذكر ما جاء في صلاة النهار من الفضائل روينا عن أبي سلمة وعن أبي هريرة قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرجت من منزلك فصلِّ ركعتين يمنعانك مخرج السوء وإذا دخلت إلى منزلك فصلِّ ركعتين يمنعانك مدخل السوء، عن سعيد بن أبي سعيد الطويل سمع أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في صلاة الصبح: من توضأ ثم توجه إلى مسجد يصلي فيه الصلاة كان له بكل خطوة حسنة ومحا عنه سيئة، والحسنة بعشر أمثالها، فإذا صلّى ثم انصرف عند طلوع الشمس كتب له بكل شعرة في جسده حسنة وانقلب بحجة مبرورة فإن جلس حتى يركع كتب الله له بكل جلسة ألف ألف حسنة، ومن صلّى العتمة فله مثل ذلك وانقلب بحجة وعمرة مبرورة، عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى أربع ركعات بعد زوال الشمس يحسن قراءتهن وركوعهن وسجودهن صلّى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى الليل ولم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدع أربعاً بعد الزوال يطيلهن ويقول إن أبواب السماء تفتح في هذه الساعة وأحب أن يرفع لي فيها عمل، قيل: يا رسول الله فيهن سلام فاصل، قال: لا، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحم اللّّه عبداً صلّى أربعاً قبل العصر. ذكر صلاة يوم الأحد وروي عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى يوم الأحد أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآمن الرسول مرة كتب الله عزّ وجلّ له بعدد كل نصراني ونصرانية حسنات وأعطاه ثواب نبي وكتب له حجة وعمرة وكتب له بكل ركعة ألف صلاة وأعطاه الله عزّ وجلّ في الجنة بكل حرف مدينة من مسك أذفر، وروينا عن علي عليه السلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وحدوا الله تبارك وتعالى بكثرة الصلاة في يوم الأحد فإنه سبحانه وتعالى واحد أحد لا شريك له، فمن صلّى يوم الأحد بعد صلاة الظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أربع ركعات بعد الفريضة والسنة قرأ في الركعة الأولى فاتحة اللكتاب وتنزيل السجدة وفي الثانية فاتحة الكتاب وتبارك الملك، ثم تشهد وسلم، ثم قام فصلّى ركعتين أخريين قرأ فيهما فاتحة الكتاب وسورة الجمعة وسأل الله تبارك وتعالى حاجته كان حقاً على الله سبحانه وتعالى أن يقضي حاجته ويبرئه مما كانت النصارى عليه. ذكر صلاة يوم الاثنين روينا عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلّى يوم الاثنين عند ارتفاع النهار ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة وقل هو اللّّه أحد مرة، والمعوذتين مرة فإذا سلم استغفر الله عزّ وجلّ عشر مرات وصلّى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر مرات غفر الله عزّ وجلّ له ذنوبه كلها. ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلّى يوم الاثنين اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة فإذا فرغ من صلاته قرأ اثنتي عشرة مرة قل هو الله أحد واستغفر الله اثنتي عشرة مرة ينادي به يوم القيامة أين فلان بن فلان ليقم فيأخذ ثوابه من الله عزّ وجلّ فأول ما يعطي من الثواب ألف حلة، ويتوج ويقال له ادخل الجنة، فيستقبله مائة ألف ملك مع كل ملك هدية يسعون به حتى يدور على ألف قصر من نور يتلألأ. ذكر صلاة يوم الثلاثاء يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلِّى يوم الثلاثاء عشر ركعات عند انتصاف النهار يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة وقل هو الله أحد ثلاث مرات لم يكتب عليه خطيئة إلى سبعين يوماً فإن مات إلى سبعين يوماً مات شهيداً وغفر له ذنوبه سبعين سنة. ذكر صلاة يوم الأربعاء أبو إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلى يوم الأربعاء اثنتي عشرة ركعة عند ارتفاع النهار يقرأ فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثلاث مرات والمعوذتين ثلاث مرات نادى به ملك عند العرض يا عبد الله استأنف العمل فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك ودفع الله عزّ وجلّ عنه عذاب القبر وضيقه وظلمته ودفع عنه شدائد القيامة ورفع له من يومه عمل نبي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ذكر صلاة يوم الخميس روينا عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلّى يوم الخميس ما بين الظهر والعصر ركعتين يقرأ في الركعة الأولى فاتحة الكتاب مرة ومائة مرة آية الكرسي وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب مرة ومائة مرة قل هو الله أحد ويصلّي على النبي مائة مرة أعطاه الله عزّ وجلّ ثواب من صام رجب وشعبان ورمضان وكان له من الثواب مثل حاج البيت وكتب له بعدد كل من آمن بالله عزّ وجلّ وتوكل عليه. ذكر صلاة يوم الجمعة روينا عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم الجمعة صلاة كلّه ما من عبد مؤمن قام إذا استقلت الشمس وارتفعت قيد رمح أو أكثر من ذلك فتوضأ ثم أسبغ الوضوء فصلى تسبيحة الضحى ركعتين إيماناً واحتساباً كتب الله له مائتي حسنة ومحا عنه مائتي سيئة ومن صلّى أربع ركعات رفع الله تبارك وتعالى له في الجنة أربعمائة درجة ومن صلّى ثماني ركعات رفع الله له في الجنة ثمانمائة درجة وغفر الله له ذنوبه كلها ومن صلّى اثنتي عشرة ركعة كتب الله عزّ وجلّ له ألفاً ومائتي حسنة ومحا عنه ألفاً ومائتي سيئة ورفع له في الجنة ألفاً ومائتي درجة. أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى الصبح يوم الجمعة في جماعة ثم جلس في المسجد يذكر الله سبحانه وتعالى حتى تطلع الشمس كان له في الفردوس الأعلى سبعون درجة بعد ما بين الدرجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة، ومن صلّى صلاة الجمعة في جماعة كان له في الفردوس خمسون درجة حضر الجواد خمسين سنة، ومن صلّى العصر في جماعة فكأنما أعتق ثمانية من ولد إسماعيل كلهم رب بيت، ومن صلّى المغرب في جماعة فكأنما حج حجة مبرورة وعمرة متقبلة. نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من دخل الجامع يوم الجمعة فصلّى أربع ركعات قبل صلاة الجمعة قرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد خمسين مرة فإنه لم يمت حتى يرى مقعده في الجنة أو يرى له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ذكر صلاة يوم السبت سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى يوم السبت أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل يا أيها الكافرون ثلاث مرات، فإذا فرغ وسلم قرأ آية الكرسي، كتب الله له بكل حرف حجة وعمرة ورفع له بكل حرف أجر سنة صيام نهارها وقيام ليلها وأعطاه الله عزّ وجلّ بكل حرف ثواب شهيد وكان تحت ظل عرشه مع النبيين والشهداء. فضل صلاة الجماعة أبو كامل عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى أربعين يوماً في جماعة لا تفوته التكبيرة الأولى مع الإمام كتب الله عزّ وجلّ له براءتين: براءة من النار وبراءة من النفاق. ذكر ما جاء في صلوات الليل وما دخل فيه من الصلاة بين العشائين صلاة ليلة الأحد عن مختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من صلّى ليلة الأحد عشرين ركعة قرأ في كل ركعة الحمد لله مرة وقل هو الله أحد خمسين مرة والمعوذتين مرة ثم استغفر الله عزّ وجلّ مائة مرة واستغفر لنفسه ولوالديه مائة مرة وصلى على النبي وتبرأ من حوله وقوته والتجأ إلى حول الله عزّ وجلّ وقوته وقال أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن آدم صفوة اللّّه تبارك وتعالى وفطرته وإبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وعيسى روح الله ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبيب الله تبارك وتعالى، كان له من الثواب بعدد من دعا لله عزّ وجلّ ولداً ومن لم يدع لله عزّ وجلّ ولداً وبعثه الله تبارك وتعالى يوم القيامة مع الآمنين وكان حقاً على الله سبحانه وتعالى يوم القيامة أن يدخله الجنة مع النبيين، فصل صلاة ليلة الاثنين روينا عن الأعمش عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ليلة الاثنين أربع ركعات قرأ في الركعة الأولى الحمد لله وقل هو الله أحد عشر مرات، وفي الركعة الثانية الحمد لله وقل هو الله أحد عشرين مرة، وفي الركعة الثالثة الحمد مرة وقل هو الله أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ثلاثين مرة، وفي الركعة الرابعة الحمد مرة وقل هو الله أحد أربعين مرة، ثم تشهد وسلم، وقرأ قل هو الله أحد خمساً وسبعين مرة واستغفر الله لنفسه ولوالديه خمساً وسبعين مرة وصلّى على محمد خمساً وسبعين مرة ثم سأل الله سبحانه وتعالى حاجته كان حقاً على الله عزّ وجلّ أن يؤتيه سؤله ما سأل وهي تسمى صلاة الحاجة. القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ليلة الاثنين ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل هو اللّّه أحد خمس عشرة مرة وقل أعوذ برب الفلق خمس عشرة مرة وقل أعوذ برب الناس خمس عشرة مرة ويقرأ بعد التسليم خمس عشرة مرة آية الكرسي ويستغفر الله سبحانه وتعالى خمس عشرة مرة، جعل الله عزّ وجلّ اسمه في أصحاب الجنة وإن كان من أصحاب النار، وغفر له ذنوب السر وذنوب العلانية، وكتب له بكل آية قرأها حجة وعمرة، وإن مات ما بين الاثنين إلى الاثنين مات شهيداً. ذكر صلاة ليلة الثلاثاء في الخبر من صلّى ليلة الثلاثاء اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وإذا جاء نصر الله خمس عشرة مرة بنى الله له بيتاً في الجنة عرضه وطوله وسع الدنيا سبع مرات. صلاة ليلة الأربعاء في الخبر: من صلّى ليلة الأربعاء ركعتين يقرأ في أول ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل أعوذ برب الفلق عشرة مرات، وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب مرة وقل أعوذ برب الناس عشر مرات، نزل من كل سماء سبعون ألف ملك يكتبون ثوابه إلى يوم القيامة، فضل صلاة ليلة الخميس أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ليلة الخميس ما بين المغرب والعشاء ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وأية الكرسي خمس مرات وقل هو الله أحد خمس مرات والمعوذتين خمس مرات فإذا فرغ من صلاته استغفر الله تبارك وتعالى خمس عشرة مرة وجعل ثوابه لوالديه فقد أدى حقهما وإن كان عاقّاً لهما وأعطاه الله تعالى ما يعطي الصديقين والشهداء. فضل صلاة ليلة الجمعة أبو جعفر محمد بن علي عن جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى ليلة الجمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بين المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو اللّّه إحدى عشرة مرة فكأنما عبد اللّّه سبحانه وتعالى اثنتي عشرة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، وروينا عن كثير بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ليلة الجمعة العشاء الآخرة في جماعة وصلّى ركعتي السنة ثم صلّى بعدهما عشر ركعات قرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو اللّّه أحد مرة والمعوذتين مرة ثم أوتر بثلاث ركعات ونام على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة فكأنما أحيا ليلة القدر، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكثروا عليّ من الصلاة في الليلة الغراء والىوم الأزهر يعني ليلة الجمعة ويوم الجمعة. فضل صلاة ليلة السبت عن كثير بن شنظير عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى ليلة السبت بين المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة وكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة وتبرأ من الىهودية وكان حقاً على الله عز وجل أن يغفر له. ذكر فضل الصلاة بين العشاءين وما يختص به ذلك الوقت في كل ليلة روينا عن سليمان التيمي أن رجلاً حدثه قال: قيل لعبيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالصلاة غير المكتوبة؟ قال: ما بين المغرب والعشاء. أبو صخر سمع محمد بن المنكدر يحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلّى ما بين المغرب والعشاء فإنها من صلاة الأوّابين. عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: ما أتيت عبد الله بن مسعود في تلك الساعة إلا وجدته يصلّي فقلت له في ذلك فقال نعم ساعة الغفلة يعني بين المغرب والعشاء، وسئل مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي شيء كان يصنع النبي لله بين المغرب والعشاء إذا دخل منزله؟ قال: يصلّي. ثابت البناني قال: كان أنس بن مالك يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول هي ناشئة الليل حدثنا عن فضيل بن عياض عن أبان بن أبي عياش قال: سألت امرأة أنس بن مالك فقالت إني أرقد قبل العشاء فنهاها وقال: نزلت هذه الآية فيما بينهما (تَتَجَافَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 جُنُوبُهُم عن المَضَاجعِ) السجدة: 16. حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان الداراني: أصوم النهار وأقعد تعشى بين المغرب والعشاء أحب إليك أو أفطر النهار وأحيي ما بينهما؟ فقال: إن جمعتهما فهو أفضل، قلت: فإن لم يتيسر لي، قال: فافطر بالنهار وصلِّ بين المغرب والعشاء. هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أفضل الصوات عند الله عز وجل صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا مقيم فتح بها صلاة الليل وختم بها صلاة النهار، فمن صلّى المغرب وصلّى بعدها ركعتين بنى الله له قصرين في الجنة - لا أدري من ذهب أو فضة - ومن صلّى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنوب عشرين سنة أو قال أربعين سنة. أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ست ركعات بعد المغرب عدلت له عبادة سنة أو كأنه أحيا ليلة القدر. سعيد بن جبير عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من عكف نفسه ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلّم إلاّ بصلاة أو قرآن كان حقًّا على اللَّه سبحانه وتعالى أن يبني له قصرين في الجنة مسيرة كل قصر منهما مائة عام ويغرس له بينهما غراساً لو طافه أهل الدنيا لوسعهم. محمد بن الحجاج سمع عبد الكريم بن الحرث يحدث أن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من ركع عشر ركعات ما بين المغرب والعشاء بني له قصر في الجنة، فقال عمر: إذاً تكثر قصورنا يا رسول اللَّه، قال: اللَّه أكبر وأفضل أو قال وأطيب. أبو عائشة السعدي وأبو حفص العوفي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى المغرب في جماعة ثم صلّى بعدها ركعتين ولم يتكلم بشيء فيما بين ذلك من أمر الدنيا يقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وعشر آيات من أول البقرة وآيتين من وسطها وهي: (وَإلُهكُمْ إلهٌ وَاحِدُ لاَ إلهَ إلاَّ هوَ الرحَّمْنُ الرَّحيمُ) البقرة: 163، إلى آخر الآيتين (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌُ) الإخلاص: 1، خمس عشرة مرة ثم يركع ويسجد فإذا قام إلى الركعة الثانية قرأ بفاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيتين بعدها إلى قوله تعالى: (أُولئِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلِدونََ) البقرة: 257، وثلاث آيات من آخر البقرة من قوله عزّ وجلّ: (مَا في السَّموَاتِ) البقرة: 284، إلى آخرها (وَقُلْ هُو اللَّه أَحَدٌ) الإخلاص: 1، خمس عشرة مرة بني له في جنات عدن ألف مدينة من الدر والىاقوت في كل مدينة ألف قصر في كل قصر ألف دار في كل دار ألف حجرة في كل حجرة ألف صفة في كل صفة منها ألف خيمة في كل خيمة ألف سرير من أصناف الجواهر على كل سرير ألف فراش بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور منضد وألف مرفقة من هذا الطرف من السرير وألف مرفقة من الطرف الآخر فوق تلك الفرش زوجة من الحور العين لا توصف بشيء إلا زادت عليه جمالاً وكمالاً لا يراها ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا افتتن بحسنها قد ملأ مأكمتاها مابين طرفي السرير على كل زوجة منهن ألف حلة لا تواري حلة حلة ولا تواري الحلل كلها الجلد يرى بعضها من تحت بعض كما يرى السلك من الىاقوتة وكما يرى الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء لكل زوجة منهن مائة ألف وصيف ومائة ألف جارية ومائة ألف قهرمان على قصورها وضياعها هذا لها خاصة سوى خدم زوجها في كل خيمة منهن نهر من التسنيم ونهر من الكوثر وعين من الكافور وعين من الزنجبيل وعين من السلسبيل وغصن من شجرة طوبى وغصن من سدرة المنتهى في كل خيمة ألف مائدة من الدر والىاقوت أدنى مائدة منها مثل استدارة الدنيا مرتين على كل مائدة منها ألف صحفة صحاف من ذهب مكللة بالدر والجوهر في كل صحفة منها مائة ألف لون من طعام مختلف طعمه ولونه وريحه يعطي اللَّه سبحانه وتعالى وليه المؤمن من القوّة ما يأتي على تلك الأطعمة ومثلها من الأشربة ويأتي على أولئك الأزواج كلهن في مقدار يوم من أيام الدنيا فسبحان الملك الوهاب القادر على مايشاء ربّ العالمين. عبد الرحمن بن منصور عن سعد بن سعيد عن كرز بن وبرة قال: وكان وبرة من الأبدال قال: قلت للخضر عليه السلام: علمني شيئاً أعمله في ليلي، فقال: إذا صليت المغرب فقم إلى صلاة العشاء الآخرة مصلياً من غير أن تكلم أحداً وأقبل على صلاتك التي أنت فيها وسلم في كل ركعتين واقرأ في ركعة بفاتحة الكتاب مرة وقل هو اللَّه أحد سبع مرات، فإذا فرغت في صلاتك انصرف إلى منزلك ولا تكلم أحداً وصلِّ ركعتين واقرأ بفاتحة الكتاب مرة وقل هو اللَّه أحد سبع مرات في كل ركعة ثم اسجد بعد تسليمك واستغفر اللَّه سبحانه وتعالى سبع مرات وصلّ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع مرات وقل سبحان اللَّه والحمد ولا إله إلا اللَّه والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه العلي العظيم سبع مرات ثم ارفع رأسك من السجود واستو جالساً وارفع يديك وقل: يا حيّ، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا إله الأوّلين والآخرين، يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيمهما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 يا ربّ، يا ربّ، يا ربّ، يا اللَّه، يا اللَّه، يااللَّه، ثم قم وأنت رافع يديك وادع بهذا الدعاء ثم نم حيث شئت مستقبل القبلة على يمينك وصلّ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدم الصلاة عليه حتى يذهب بك النوم، فقلت له: أحب أن تعلمني ممّن سمعت هذا الدعاء، فقال: إني حضرت محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث علم هذا الدعاء وأوحي إليه وكنت عنده وكان ذلك بمحضر مني فتعلمته ممّن علمه إياه ويقال إن هذه الصلاة وهذا الدعاء من داوم عليه بحسن يقين وصدق نية رأى رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه قبل أن يخرج من الدنيا وقد فعل ذلك بعض الناس فرأى أنه دخل الجنة ورأى فيها الأنبياء ورأى فيها رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلمه وعلمه ولهذا فضائل كثيرة اختصرناها للإيجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الفصل الثاني عشر في ذكر الوتر وفضل الصلاة بالليل عن مبارك بن عوف الأحمسي عن عمر بن الخطاب قال: إن الأكياس الذين يوترون أول الليل وإن الأقوياء يوترون آخر الليل، وهو أفضل، وقد يروى في خبر أن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل أبا بكر رضي اللَّه عنه متى توتر؟ فقال: من أول الليل قبل أن أنام، وقال لعمر رضي اللَّه عنه متى توتر؟ فقال: من آخر الليل، فقال لأبي بكر حذر هذا وقال لعمر قوي هذا، وفي بعض الأخبار أنه قال لأبي بكر مثلك كالذي قال أحرزت نهبي وابتغي النوافلا وقال لعمر إنك لقوي مكين. وروينا عن عثمان رضي اللَّه عنه أنه قال: أما أنا فأوتر أول الليل فإذا استيقظت صليت ركعة شفعت بها وتري فما شبهتهما إلا كالغربية من الإبل ضممتها إلى أخواتها ثم أوترت من آخر صلاتي والمشهورة عنه من فعله أنه كان يحيي الليل كله بركعة واحدة يختم فيها القرآن وهي وتره. وروينا عن علي عليه السلام أنه قال: الوتر على ثلاثة أنحاء إن شئت أوترت أول الليل ثم صلّيت ركعتين، ركعتين، وإن شئت أو ترت بركعة، فإذا استيقظت شفعت إليها أخرى، ثم أو ترت من آخر الليل، وأن شئت أخرت الوتر حتى يكون آخر صلاتك، وفي حديث ابن عمر صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة، وهذا أحب الوجوه إلي، وقال مجاهد قال عبد اللَّه بن عمر: من صلّى أربعاً بعد العشاء كن كعدلهن من ليلة القدر، وقال حصين: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: كان عبد اللَّه بن مسعود يكره أن تتبع كل صلاة بمثلها، وكانوا يصلون العشاء ثم يصلون ركعتين ثم أربعاً، فمن بدا له أن يوتر أوتر ومن أراد أن ينام نام، وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أوتروا يا أهل القرآن من كل الليل، وقالت عائشة رضي الله عنها: قد أوتر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر، وفي الخبر كان رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر عند الأذان ويصلي ركعتين عند الإقامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وسأل رجل علياً عليه السلام عن وقت الوتر فسكت عنه ثم خرج إلىهم عند الأذان لصلاة الفجر فقال أين السائل عن الوتر هذا وقت وتر حسن. أبو أمامة عن عمرو بن عنبسة قال: سمعت رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن أقرب ما يكون الرب عزّ وجلّ من العبد جوف الليل الأخير فإن استطعت أن تكون ممّن يذكر اللَّه سبحانه وتعالى في تلك الساعة فكن. أبو ذر الغفاري قال: قلت يا رسول اللَّه أي الليل الصلاة فيه أفضل؟ قال: نصف الليل الغابر يعني الباقي، وسأل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه السلام أي الليل أسمع؟ فقال: إن العرش يهتز من السحر، وقد روي في الخبر أن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل اللَّه خيراً إلا أعطاه، وروي في خبر آخر يصلّي أو يدعو إلا استجاب له وهي في كل ليلة، ويقال إن في الليل وقتاً لا بدّ أن ينام فيه أو تغفل كل ذي عين إلا الحي الذي لا يموت فلعلها هذه الساعة، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مضى نصف الليل، وفي لفظ آخر إذا بقي ثلث الليل الأخير نزل الجبار سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا فقال لا يسأل عن عبادي غيري هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه، كذلك حتى يطلع الفجر، وفي حديث عمرو بن عنبسة عليك بصلاة آخر الليل فإنها مشهودة محضورة يعني يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الفصل الثالث عشر كتاب جامع ما يستحب أن يقول العبد إذا استيقظ من نومه للتهجد وفي يقظته عند الصباح ليقل إذا استيقظ من منامه بكرة أصبحنا وأصبح: الملك للَّه، والعظمة للَّه، والسلطان للَّه، والبهاء للَّه، والقدرة للَّه، والعزة للَّه، والتسبيح للَّه، أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور، اللهم إنا نسألك أن تبعثنا في يومنا هذا إلى كل خير، ونعوذ بك أن نجترح فيه سوءاً أو نجره إلى مسلم، فإنك قلت: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى، اللهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكناً، والشمس والقمر حسباناً، أسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه، وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما فيه، بسم اللَّه، ما شاء اللَّه، لا قوّة إلا باللَّه، ما شاء اللَّه، كل نعمة من اللَّه، ما شاء اللَّه، الخير كله بيد اللَّه، بسم اللَّه، لا يصرف السوء إلا اللَّه، رضيت باللَّه عزّ وجلّ، رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا، وإليك المصير، وليقرأ المعوذتين فإذا أمسى قال مثل ذلك كله إلا أنه يقول: أمسينا، وأمسى الملك للَّه، عزّ وجلّ، أسألك خير هذه الليلة، ولا يدع أن يقول في كل ليلة: بسم اللَّه الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، أعوذ بكلمات اللَّه التامات، وأسمائه كلها من شر ما ذرأ وبرأ، ومن شر كل ذي شر، ومن شر كل دابة، أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم وإن يقلّ دخوله من الخلاء عند وقت السحر كان أفضل، كيلا يشغله عن الذكر، يجعل ذلك في آخر النهار أو من أول الليل فقد فعل ذلك كثير من الصالحين، وهو حسن، إلا أن دخول الخلاء عند الصباح أصلح للجسد من جهة الطب وأنظف للطهارة، سيما لمن يأكل بالنهار. ذكر ما يستحب من القول إذا أخذ العبد مضجعه للنوم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، اللهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاعصمها واحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. وعلم رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البراء بن عازب أن يقول إذا أخذ مضجعه ليلاً: اللهم إني وجهت وجهي إليك وفوّضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رهبةً ورغبةً إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول عند النوم: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك وأنه أمر أن يقال الحمد لله الذي علا فقهر، الحمد لله الذي بطن فجبر، الحمد لله الذي ملك فقدر، الحمد لله الذي هو يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير، وليقل بعد ذلك: اللهم إني أسألك الراحة بعد الموت، والعفوعند الحساب، اللهم إني أعوذ بك من غضبك وسوء عقابك وشر عبادك وشر الشياطين وشركهم، وليقرأ خمساً من أول سورة البقرة وثلاثاً من آخرها وآية الكرسي والآيتين اللتين بعدها، وليقرأ قوله عزّ وجلّ: (وَإلهُكُمْ إلهُ وَاحِدٌ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيمُ) البقرة: 163، والآية التي بعدها إلى قوله تعالى: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة: 164، ويقال من قرأ هذه الآية عند منامه حفظ عليه القرآن فلم ينسه ولا يدع أن يقرأ آخر بني إسرائيل الآيتين: (قل ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن) الإسراء: 110، وهذه الآية من سورة الأعراف: (إنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ) الأعراف: 54، فإنه يدخل في شعاره ملك يوكل بحفظه ويستغفر له وليقرأ الخمس الآيات من أوّل سورة الحديد والثلاث من آخر سورة الحشر، وقل: يا أيها الكافرون وقل: هو الله أحد والمعوذتين، وينفث بهن في يديه ويمسح بهما وجهه وسائر جسده. كذلك روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله وفعله وليقرأ عشراً من أوّل الكهف وعشراً من آخرها وهذه الآي لقيام الليل وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقراءة: قل يا أيها الكافرون عند النوم، وكان عليه السلام يقول: ما أرى أن رجلاً مستكمل عقله ينام قبل أن يقرأ الآيتين من سورة البقرة آمن الرسول، وليقل: اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك واستعملني بأحب الأعمال لديك التي تقربني إليك زلفى وتبعدني من سخطك بعداً أسألك فتعطيني وأستغفرك فتغفر لي وأدعوك فتستجيب لي، اللهم لا تؤمنني مكرك ولا تولني غيرك ولا ترفع عني سترك ولا تنسني ذكرك ولا تجعلني من الغافلين، يقال: من قال هذه الكلمات عند نومه أهبط الله سبحانه وتعالى ثلاثة أملاك يوقظونه للصلاة فإن صلّى ودعا أمنوا على دعائه وإن لم يقم تعبدت الأملاك في الهواء وكتب له ثواب عبادتهم، ثم ليسبّح ثلاثاً وثلاثين مرة، وليحمد ثلاثاً وثلاثين مرة، وليكبر ثلاثاً وثلاثين مرة، وإن أحب ربعها خمساً وعشرين مرة، فقال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمساً وعشرين مرة، فهن يجمعن له مائة كلمة وهو أخف عليه للمداومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وروينا عن مطرف عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخر ما يقول حين ينام وهو واضع خده على يده الىمنى وهو يرى أنه مقبوض في تلك الليلة: اللهم ربّ السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، اللهم أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر، وليسبّح ثلاثاً وثلاثين مرة وليحمد ثلاثاً وثلاثين مرة وليكبر أربعاً وثلاثين مرة وإن شاعر بها خمساً وعشرين مرة وزاد فيها التهليل فهن يجمعن له مائة كلمة وهو أخف عليه للمداومة، وقد أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وندب إليه في إدبار الصلوات الخمس وعند النوم فهذا جامع ما يستحب من قراءة الآي والدعاء عند النوم. ذكر هيئة العبد عند النوم وأهبته للمضجع ومعنى الإعتبار بذلك لذوي الأبصار يستحب للعبد أن ينام على طهارة سابعة، وإلا مسح أعضاءه بالماء مسحاً، وقد كانوا يستحبون السواك عند النوم، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله، وكان بعض السلف يجعل عند رأسه سواكه وطهوره، فإذا انتبه من الليل استاك ومسح أعضاءه بالماء مسحاً، وكانوا يذكرون الله عزّ وجلّ بالتلاوة والتسبيح في تقلبهم ويعدون هذا يعدل قيام الليل، وقد روي هذا الخبر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن غيره، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه وأنه كان يستاك في ليلة مراراً عند كل قومة من نومه فليعد العبد طهوره وسواكه عند رأسه وينوي قيام الليل فأي وقت استيقظ توضأ وصلّى أو قعد فقرأ أو دعا وذكر الله عزّ وجلّ واستغفره أو تفكر في آلائه وعظمته ومعاني قدرته ففي أي وجه أخذ من هذه المعاني فهو ذكر، وقد استعمل بذلك وفيه قربة إلى الله عزّ وجلّ، وهو فضل من الله تعالى ورحمته عليه، ولا ينبغي للعبد أن يبيت وله شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده فإنه لا يأمن القبض بالوفاة، وقد ندب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذلك في قوله: لا ينبغي لعبد أن ينام ليلتين وله شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده، ويقال: من مات عن غير وصية لم يؤذن في الكلام في البرزخ إلى يوم القيامة، تتزاور الأموات ويتحدثون وهو لا يتكلم فيما بينهم إلى يوم القيامة فيقول بعضهم لبعض: هذا المسكين مات عن غير وصية فيكون ذلك حسرة عليه بينهم، وموت الفجأة تخفيف ومستحب للمؤمن الفقير للثواب الذي حلب لا مال له ولا دين عليه فأما المثقل بالدين والمخلط في الدين ومن له مال أو هو مصر على مطل فإن موت الفجأة لهؤلاء عقوبة ومكروه، ولا ينبغي للعبد أن يبيت إلا تائباً من كل ذنب، سليم القلب لجميع المسلمين، لا يحدث نفسه بظلم أحد، ولا يعقد على الخطيئة إن استيقظ، وقد جاء في الخبر: من أوى إلى فراشه لا ينوي ظلم أحد ولا يحقد على أحد غفر له ما اجترم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وليستقبل في نومه القبلة واستقبال القبلة، على ضربين إن كان مستلقياً فاستقباله القبلة أن يكون وجهه إليها مع أخمص قدميه كحال الميت المسجى وإن كان نائماً على جنب فاستقبال القبلة أن يكون وجهه إليها مع شقه الأيمن كهيئة الملحد في قبره فسيصير إليه عن قريب وليذكر بنومه على هذين الحالين عند موته وحين اضطجاعه في قبره، وقد قال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كفَاتاً) (أَحيَاءً وَأَمََوَاتاً) المرسلات: 25 - 26، في أحد الوجهين وهو مذهب أهل التفسير أي يكفتهم ويجمعهم أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها، وقد جعل الله سبحانه وتعالى النوم من آياته الدالة عليه لأهل السمع منه وهو سمع اليقين وقرنه بالابتغاء من فضله فقال عزّ وجلّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِالَّليْلِ وَالَّنهَارِ وَاْبِتغَاؤُكُمْ مِنْ فَضِلْهِ إنَّ في ذِلكَ لآياتٍ لَقوْمٍ يَسْمَعُون) الروم: 23، وكان فقراء أهل الصفة وبعض زهاد التابعين إذا رقدوا لا يجعلون بينهم وبين الأرض شيئاً، كان أحدهم يباشر التراب بجلده ويطرح ثوبه فوقه ويقول: منها خلقناكم وفيها نعيدكم، كأنهم كرهوا الترفع عليها والوقاية منها يجدون ذلك أرق لقلوبهم وأبلغ في تواضعهم، ومثل النوم عند أهل الاعتبار مثل البرزخ هو بين الدنيا والآخرة كذلك النوم بين الحياة والموت فإذا كشف حجاب النوم ظهرت الدنيا بالحكمة وكذلك إذا كشف الغطاء ظهرت الآخرة بالقدرة فصارت الدنيا كلاأحلام في النوم وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَهُوَ الّذي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيعْلَمُ مَاجَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فيهِ) الانعام: 60 وكان بعضهم يقول عجباً لمن يعصي الله عزّ وجلّ ثم ينام بعد ذلك. وذكر بعض العلماء عن الله عزّ وجلّ: إن كنتم تعصوني فاخرجوا من بساطي ولا تناموا في قبضتي، وقال لقمان لابنه: يا بني إن كنت تشك في الموت فلا تنم، فكما أنك تنام فكذلك تموت، وإن كنت تشك في البعث فإذا نمت فلا تنتبه، فكما أنك تنتبه بعد نومك فكذلك تبعث بعد موتك، فيلتذكر العبد عند نومه حين موته وليعلم أن الله تعالى يكون له يعد موته كما كان العبد له قبل نومه فلينظر على أي حال نام وعلى أي هم توفاه الله عليه وليتذكر بانتباهه البعث فإن العبد يبعث على ما مات عليه في الدنيا فيبعث بهمه ويحشر مع محبوبه كما ينتبه النائم عن همه إلى محبوبه الذي نام عنه، وفي الخبر أن المرء مع من أحب وله ما احتسب، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها يوم القيامة، وروينا عن كعب الأحبار قال: إذا نمت فاضطجع على شقك الأيمن واستقبل القبلة بوجهك فإنها وفاة. بيان آخر من الاعتبار لأهل التبصرة والتذكار وليعلم العبد أن الله عزّ وجلّ يكون له بعد بعثه من قبره كما كان العبد له بعد بعثه من نومه، فلينظر إلى أي حال يبعث، وإن كان العبد لنظر مولاه مكرماً ولشأنه معظماً ولحرماته معظماً وإلى محبوبه ومرضاته ومسرته من النعيم المقيم مسرعاً كان الله تعالى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 آخرته لوجهه مكرماً، وان كان العبد في حق مولاه متهاوناً وبأمره مستخفاً ولشعائره مستصغراً كان الله تعالى له مهيناً وبشأنه متهاوناً، قال الله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصُير) فاطر: 19، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء، ثم قال: (قَليلاً مَا تَذَكَّرُونَ) الأعراف: 3، موبخاً لهم بذلك، وقال في مثله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمينَ كالْمُجْرِمينَ) القلم: 35، ثم قال: (مَا لَكمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم: 36، ذاماً عائباً لحكمهم؟ ثم أخبر بحكمه فيهم فقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) الجاثية: 12، هكذا تقدير الكلام وهو من المقدم والمؤخر، فرفع حسناتهم وأخبر بسوء حكمهم ثم ذكر حكمهم عنده في المحيا والممات فقال: (سَواءً مَحْيَاهُمْ وَمَماتُهُم) الجاثية: 21، أي كما كانوا في الحياة كذلك يكونون بعد الوفاة، ثم عقب ذلك بذكر عدله في خلقه فقال: (وَخَلَقَ اللهُ السَّموات والأرْضَ بِالحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الجاثية: 22 فكان هذا فصل الخطاب وتذكار أولي الألباب، وقال في معناه وأمر بتدبر كلامه وأمر بتذكر العقلاء عن خطابه فقال: (كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِه وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الألْبَابَ) ص: 29، هل يتدبرون فيجدون أنا نجعل المفسدين كالمصلحين أو نجعل المتقين كالفاسقين وهو قوله تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلْوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدينَ في الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتقَّينَ كَالْفُجّارِ) ص: 28، فالتدبر التفهم، والتذكر التقوى والعمل، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحب أن يعلم منزلته عند الله عزّ وجلّ فلينظر كيف منزلة الله تعالى من قلبه فإن الله عزّ وجلّ ينزل العبد عنده بحيث نزله العبد من نفسه، فإذا نام العبد على طهارة وذكر وعن مثل هذه المشاهدة والفكر فإن مضطجعه يكون مسجداً وإنه يكتب مصلياً حتى يستيقظ ويدخل في شعاره ملك فإن تحرك في نومه فذكر الله عزّ وجلّ دعا له الملك واستغفر له، وفي الخبر: إذا نام العبد على طهارة عرج بروحه إلى العرش فكانت رؤياه صادقة، وإن لم ينم على طهارة قصرت روحه عن البلوغ فتلك المنامات أضغاث أحلام لا تصدق، فإن غلبه النوم حتى يصبح حسب له قيام ليلة وكان نومه عليه صدقة ومن كان هذا وصفه في منامه يسبق كثيراً من العباد في قيامهم عن شهود غفلة وسهو. وقد روينا في خبر نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح. ذكر ما يستحب من القول عند القيام إلى التهجد فإذا قام من الليل متهجداً فليقل: الحمد لله الذي أحياني بعد إذ توفاني وإليه النشور، وليقرأ العشر الأواخر من سورة آل عمران، وليستك وليتوضأ ويقول: سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأسألك التوبة فاغفر لي وتب علي إنك أنت التوّاب الرحيم، اللهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهرين واجعلني صبوراً شكوراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 واجعلني أذكرك كثيراً وأسبحك بكرة وأصيلاً، ثم يرفع رأسه إلى السماء فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، أنا عبدك ابن عبدك، ناصيتي بيدك، جارِ فِي حكمك، عدل فيّ قضاؤك، هذه يدي بما كسبت، هذه نفسي بما اجترحت، لا إله إلاّ إنت سبحانك إني كنت من الظالمين عملت سوءًا وظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي إنك أنت ربّي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فإذا قام إلى الصلاة متوجهاً فليقل الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراًً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ثم ليسبح عشراً وليحمد عشراً وليهلل عشراً وليكبر عشراً وليقل الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والجلال والعظمة والقدرة، وليقل هذه الكلمات فإنها مأثورة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيامه للتهجد: اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد، أنت بهاء السموات والأرض، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت زين السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ومن فيهن ومن عليهن، أنت الحق، ومنك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر اللهم يا ربّ لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم آت نفسي تقواها، اللهم زكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها، ومولاها، اللهم اهدني لأحسن الأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، أسألك مسألة البائس المسكين وأدعوك دعاء المفتقر الذليل فلا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا أكرم المعطين، ويستحب أن يفتح صلاته بركعتين خفيفتين، ويستحب له أن لا يأكل شيئاً ولا يشرب ماء حتى يقضي همته من صلاته فإن العبد إذا استيقظ من نومه يكون جام القلب فارغ الهم، فإذا أكل وشرب تغير قلبه عن هيئته فليغيب أكله إلاّ أن يخاف أن يفجأه الفجر إن لم يتسحر أو يشرب فليبدأ حينئذ بذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الفصل الرابع عشر في ذكر تقسيم قيام الليل ونومه ووصف القائمين والمتهجدين قد قرن الله سبحانه وتعالى قوّام الليل برسوله المصطفى وجمعهم معه في شكر المعاملة وحسن الجزاء فقال تعالى: (إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفُهُ وَثُلُثَهُ وَطَاِئفَةٌ مِنَ الَّذينَ مَعَكَ) المزمل: 20، وقد أخبر الله سبحانه أن قراءة الليل أشدّ وطئًا للقلب وأقوم قيلاً للحفظ والذكر أي يواطئ القلب اللسان بالفهم والحفظ، وقدسمى الله تعالى أهل الليل علماء وجعلهم أهل الخوف والرجاء وأخفى لهم قرة العين من الجزاء فقال: (أَمَّنْ هوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِهِ) الزمر: 9، ثم قال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالذَّينَ لاَ يْعْلَمونَ) الزمر: 9، وهذا من المحذوف ضده لدلالة الكلام عليه والمعنى أمّن هو هكذا عالم قانت مطيع لا يستوي مع من هو غافل نائم ليله أجمع فهو غير عالم بما يحذر وبما يرجو من ربه عزّ وجلّ، وقال عزّ وجلّ في وصفهم في الدنيا، ووصف ما أعد لهم في الآخرة والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً: (تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) السجدة: 16، أي تنبو عن الفراش فِلا تطمئن لما فيها من خوف الوعيد ورجاء الموعود، ثم قال: (فَلا تَعْلَمْ نَفْسٌُ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةٍ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلونَ) السجدة: 17، قيل: كان عملهم قيام الليل وقيل بل كانوا أهل خوف ورجاء، وهذان من أعمال القلوب عن مشاهدة الغيوب فلما أخفوا له الإخلاص بأعمال السرائر أخفي لهم من الجزاء نفيس الذخائر ولا تقر أعين هؤلاء المحبين إلا بوجهه كما لم يعملوا إلا لوجه الله تعالى، وقال بعض العلماء في قوله تعالى: (وَاسْتَعينُوا بِالصبَْرِ وَالصَّلاةِ) البقرة: 45 قال: هي صلاة الليل استعينوا بها على مجاهدة النفس ومصابرة العدوّ، ثم قال: (وَإنَّهَا لَكَبيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعينَ) البقرة: 45، يعني الخائفين المتواضعين لا تثقل عليهم ولا تجفو بل تخف وتحلو، وفي الخبر: قيل يارسول الله إن فلاناً يصلي من الليل فإذا أصبح سرق فقال سينهاه ما تقول، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يصلِي من الليل قال فما فاتته بعد ذلك ليلة حتى يقوم فيها، وفي الخبر: عليكم بقيام الليل فإنه مرضاة لربكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ومكفر سيّئاتكم وهو دأب الصالحين قبلكم ومنهاة عن الإثم وملقاة للوزر ومذهبة لكيد الشيطان ومطردة للداء عن الجسد، وقد جعل الله سبحانه قيام الليل من أوصاف الصالحين بقَوله: (يَتْلُونَ آياتِ الله آناءَ الَّلَيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) آل عمران: 113، إلى قوله: (وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّاِلحينَ) آل عمران: 114 فيستحب من قيام الليل ثلثاه وأقل الاستحباب من القيام سدسه، لأنا روينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقم ليلة قط حتى أصبح، بل كان ينام منها، ولم ينم ليلة حتى يصبح بل كان يقوم منها، ويقال إن الصلاة أوّل الليل للمتهجدين، وقيام أوسطه للقانتين، وقيام آخره للمصلين، والقيام من الفجر للغافلين، وحدثنا عن عبد اللّّه بن عمر قال: حدثنا يوسف بن مهران قال: بلغني أن تحت العرش ملكاً في صورة ديك براثنه من لؤلؤ وصئصئتاه من زبرجد أخضر فإذا مضى نصف الليل الأوّل ضرب بجناحه وزقى، وقال: ليقم القائمون، فإذا مضى نصف الليل ضرب بجناحه وزقى وقال: ليقم المتهجدون، فإذا مضى ثلث الليل ضرب بجناحه وزقى وقال: ليقم المصلون، فإذا طلع الفجر ضرب بجناحه وزقى، وقال: ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم وقال بعض العلماء أهل الليل على ثلاثة أصناف قوم قطعهم الليل فكان هؤلاء المريدون ذوو الأوراد والأجزاء كابدوا الليل فغلبهم قال وقوم قطعوا الليل فكان هؤلاء العالمون الذين صبروا وصابروا فغلبوه وقال قوم قطع بهم الليل فكان هؤلاء المحبون والعلماء أهل الفكر والمحادثة وأهل الأنس والمجالسة وأهل الذكر والمناجاة وأهل التملّق والملاقاة نغص عليهم الليل حالهم وقصر النعيم عليهم ليلهم ورفع الحبيب عنهم نومهم وخفف الفهم عليهم قيامهم وأذهب مزيد الوصل عنهم مللهم وأوصل العتاب لهم سهرهم. وقيل لبعض أهل الليل كيف أنت والليل؟ فقال: ما رعيته قط يريني وجهه ثم ينصرف وما تأملته، وقال آخر: أنا والليل فرسا رهان مرة يسبقني إلى الفجر ومرة يقطعني عن الفكر، وقيل لبعضهم: كيف الليل عليك؟ فقال: هو ساعة أنا فيها بين حالين، أفرح بظلمته إذا جاء وأغتم بفجره إذا طلع ما تم فرحي به قط، ولا اشتفيت منه قط وقيل لبعض المحبين: كيف الليل عليك؟ فقال: والله ما أدري كيف أنا فيه إلا أنا بين نظرة ووقفة يقبل بظلامه فأتدرعه ثم يسفر قبل أن أتلبسه ثم أنشد: لم أستتم عناقه لقدومه ... حتى بدا تسليمه لوداع وقال بعضهم: وزارني طيفك حتى إذا ... أراد أن يمضي تعلّقت به فليت ليلي لم يزل سرمداً ... والصبح لم أنظر إلى كوكبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وشكا بعض المريدين إلى أستاذه طول سهره بالليل وأن السهر قد أضر به ثم قال: أخبرني بشيء أجتلب به النوم، فقال له أستاذه: يا بني أن لله نفحات في الليل والنهار تصيب القلوب المتيقظة وتخطئ بالقلوب النائمة فتعرض لتلك النفحات ففيها الخيرة، فقال: يا أستاذ تركتني لا أنام بالليل ولا بالنهار، وتذاكر قوم قصر الليل عليهم فقال بعضهم: أما أنا فإن الليل يزورني قائماً ثم ينصرف قبل أن جلس، وقال علي بن بكار منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء إلا طلوع الفجر وقال الفضيل بن عياض: إذا غربت الشمس فرحت بدخول الظلام لخلوتي فيه بربي، فإذا طلع الفجر حزنت لدخول الناس علي، وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وقال أيضاً: لو عوض الله عزّ وجلّ أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه في قلوبهم من اللذة لكان ذلك أكبر من أعمالهم وقال بعض العلماء: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملّق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة، وقال بعضهم: قيام الليل والتملّق للحبيب والمناجاة للقريب في الدنيا ليس من الدنيا هو من الجنة أظهر لأهل الله تعالى في الدنيا، لا يعرفه إلا هم، ولا يجده سواهم روحاً لقلوبهم، وقال عتبة الغلام: كابدت الليل عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة وقال يوسف بن أسباط: قيام ليلة أسهل علي من عمل قفة وكان يعمل كل يوم عشر قفاف، وقال غيره: ما رأيت أعجب من الليل إذا اضطربت تحته غلبك، وإن ثبت له لم يقف، وبكى عامر بن عبد الله حين حضرته الوفاة فقيل له ذلك فقال: والله ما أبكي حباً للبقاء ولكن ذكرت ظمأ الهواجر في الصيف وقيام الليل في الشتاء، وقال ابن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة، وقال بعض العارفين: إن الله عزّ وجلّ ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقظين فيملؤها أنواراً فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير ثم تنشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين. وقال بعض العلماء: إن الله عزّ وجلّ ينظر إلى الجنان عند السحر نظرة فتشرق وتضيء وتهتز وتربو وتزداد جمالاً وحسناً وطيباً ألف ألف ضعف في جميع معانيها، ثم تقول: قد أفلح المؤمنون فيقول الله عزّ وجلّ: هنيئاً لك منازل الملوك وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أسكنك جباراً ولابخيلاً ولا متكبراً ولا فخوراً، وينظر إلى العرض نظرة فيتسع ألف ألف سعة ويزداد بكل سعة ألف ألف عالم منها كل عالم لا يعلم وسعه إلا الله عزّ وجلّ، ثم يهتز فيثقل على الحملة حتى يموج بعضهم في بعض ويحطم بعضهم بعضاً وهم بعدد جميع ما خلق الله عزّ وجلّ وأضعاف ما خلق الله عزّ وجلّ فيقول العرش سبحانك أينما كنت وأينما تكون، فينادي حملة العرش: سبحان من لا يعلم أين هو إلا هو، سبحان من لا يعلم ما هو إلا هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وروينا عن بعض العلماء من القدماء أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى بعض الصديقين: أن لي عباداً من عبادي يحبونني وأحبهم ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم ويذكرونني وأذكرهم وينظرون إليّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك، قال: يا ربّ وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلام بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ويحنّون إلى غروب الشمس كما تحن الطيور إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرّة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا لي أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا لي بأنعامي، فبين صارخ وباكٍ ومتأوّه وشاكٍ وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد بعيني ما يتحملون لأجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي، أوّل ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم، والثانية لو كانت السموات السبع والأرض وما فيهما من موازينهم لاستقللتها لهم، والثالثة أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت بوجهي عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه، وقال مالك بن دينار: إذا قام العبد يتهجّد من الليل ورتل القرآن كما أمر قرب الجبار تعالى منه قال: وكانوا يرون أن ما يجدون في قلوبهم من الرقة والحلاوة والفتوح والأنوار من قرب الرب تعالى من القلب، وفي الأخبار من الجبّار عزّ وجلّ: أي عبدي أنا الله الذي اقتربت لقلبك وبالغيب رأيت نوري، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أذن الله لشيء إذنه لحسن الصوت بالقرآن يعني ما استمع إلى شيء كاستماعه إليه، وفي الحديث الآخر لله أشد أذناً إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته وأهل اللهو في غفلة عمّا أهل الآخرة فيه وفي عمى عمّا ينظر هؤلاء الحاضرون إليه وكأين من آية في السموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون بل قلوبهم في غمرة من هذا، وطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون، يقال إن وهب بن منبه اليماني ما وضع جنبه إلى الأرض ثلاثين سنة كانت له مسورة من أدم إذا غلبه النوم وضع صدره عليها، وخفق خفقات ثم يفزع إلى القيام وكان يقول لأن أرى في بيتي شيطاناً أحب إليّ من أن أرى فيه وسادة يعني لأنها تدعو إلى النوم، وقال رقبة بن مسقلة: رأيت رب العزة تعالى في النوم فسمعته يقول: وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي فإنه صلّى الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة، ويقال إنه كان مذهبه أن النوم إذا خامر القلب وجب الوضوء. ذكر من روي عنه أنه أحيا الليل كله ومن اشتهر بإحياء الليل كله وصلّى الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة أو ثلاثين سنة حتى نقل عنه ذلك أربعون من التابعين منهم: سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم المدنيان وفضيل بن عياض ووهيب بن الورد المكيان وطاوس ووهب بن منبه اليمانيان والربيع بن خيثم والحكم بن عيينة الكوفيان وأبو سليمان الداراني وعلي بن بكار الشاميان وأبو عبد الله الخواص وأبو عاصم العباديان وحبيب أبو محمد وأبو جابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 السلماني الفارسيان ومالك بن دينار وسليمان التيمي ويزيد الرقاشي وحبيب بن أبي ثابت ويحيى البكاء البصريون وكهمس بن المنهال، وكان يختم في الشهر تسعين ختمة وما لم يفهم رجع فقرأه مرة أخرى وأيضاً من أهل المدينة أبو حازم ومحمد بن المنكدر في جماعة يكثر عددهم، هؤلاء المشهورون منهم، فإن أحب المريد نام ثلث الليل الأول وقام نصفه ونام سدسه الأخير، وإن أراد نام نصف الليل وقام ثلثه ونام سدسه، فقد روي أن هذا من أفضل القيام وإنه كان قيام نبي اللّّه عزّ وجلّ داود عليه السلام، جاء ذلك في روايتين وإن أحب العبد قدم القيام فيهما وأخر وتره إلى السحر فإن قام نصف الليل قسم نومه في أوّل الليل وآخره فإن قام ثلث الليل نام سدسه الأخير وإن اختار أن يقوم من أول الليل حتى يغلبه النوم ثم ينام ثم يقوم متى استيقظ ثم ينام متى غلبه النوم ثم يقوم آخر الليل فيكون له في الليل نومتان وقومتان فهذا من مكابدة الليل وهو من أشد الأعمال وهذه طريقة أهل الحضور واليقظة وأهل التذكار والتذكرة فقد كان هذا من أخلاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال أنس ابن مالك ما كنت تريد أن ترى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائماً إلا رأيته ولا كنت تريد أن تراه قائماً إلا رأيته وكان هذا مذهب ابن عمر وأولي العزم من الصحابة في قيام الليل وفعله جماعة من التابعين، وقد رأينا من كان له في الليل قومات ونومات في تضاعيف ذلك، فإما أن يكون المنام والقيام موزوناً عدلاً فليس ذلك إلا لنبي بقلب دائم اليقظة وبوحي من الله عزّ وجلّ ولا يسلك هذا الطريق إلا بأسباب هي زاده لأن كل طريق يقطع بزاد مثله فمن أراده احتقب وأخذ من زاده فالأسباب أحدها هم يلزم القلب وحزن يسكن فيه أو يقظة دائمة يحيا بها القلب وفكر في الملكوت متصل وخلو المعدة من الطعام وقلة الشرب وأن يقيل بالنهار ولا يكثر تعب جوارحه في أمر الدنيا فهذه رياضة المريد إلى أن يألف القيام وليستوطن حينئذ فيتجافى جنبه لما في قلبه من الخوف والرجاء الذي قد استكن فيه. وروي عن الله سبحانه وتعالى: إن عبدي الذي هو عبدي حقاً الذي لا ينتظر بقيامه صياح الديك ففي هذا حث على القيام قبل السحر ونوم آخر الليل نستحبه لمعنيين: أحدهما أنه يذهب بالنعاس بالغداة وقد كانوا يكرهون النعاس بالغداة ويأمرون الناعس بعد صلاة الصبح بالنوم، والمعنى الثاني أنه يقل صفرة الوجه فلو قام العبد أكثر الليل ونام سحراً ذهب نعاسه بالغداة وقلت صفرة وجهه ولو نام أكثر الليل وسهر من السحر جلب عليه النعاس بالغداة وصفرة الوجه فليتقِ العبد ذلك فإنه باب غامض من الشهرة والشهوة الخفيفة وليقل شرب الماء بالليل فقد يكون منه الصفرة سيما في آخر الليل وبعد الانتباه من النوم. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوتر من آخر الليل فإن كانت له حاجة إلى أهله دنا منهن وإلا اضطجع في مصلاه حتى يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقالت أيضاً ما ألفيته السحر الأعلى إلا نائماً تعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الخبر الآخر كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوتر من آخر الليل اضطجع على شقه الأيمن ضجعة حتى يأتيه بلال فيخرج معه إلى الصلاة فقد كان السلف يستحبون هذه الضجعة بعد الوتر وقبل صلاة الصبح حتى قال بعضهم فهي سنة - منهم أبو هريرة ومروان - والنوم من آخر الليل وفي الثلث الأخير مزيد لأهل المشاهدة والحضور لأنه كشف لهم من الملكوت واستماع العلوم من الجبروت وهو راحة وسكن للعمال وأهل المجاهدة ولذلك حظرت الصلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر ليستريح عمال الله عزّ وجلّ وأهل أوراد الليل والنهار فيهما، والنوم من آخر الليل هو نقصان لأهل السهو والغفلة من حيث كان مزيداً لأهل الشهود واليقظة لأنه آخر خدمة أولئك ففيه راحتهم وهو تطاول النوم والغفلة بهؤلاء فهو نقصهم وليفصل العبد في تضاعيف صلاة الليل بجلوس يسبح فيه مائة تسبيحة فذلك ترويح له وعون على الصلاة وهو داخل في قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) سورة ق: 40، أي أعقاب الصلاة في أحد الوجهين على قراءة من نصب وإن أراد المزيد أحيا الوردين اللذين من أوّل الليل أحدهما بين العشاءين والثاني قبل نومة الناس فإن إحياء هذين الوردين عند بعض العلماء أفضل من صيام يوم ثم ليقم الورد الرابع وهو ما بين الفجرين وهو أوّل ثلث الليل الأخير أو الورد الخامس وهو السحر الخير قبل طلوع الفجر الثاني وهو يصلح للقراءة والاستغفار إن كان لم يعتد للقيام في جوف الليل، وفي خبر أبي موسى ومعاذ لما التقيا قال معاذ لأبي موسى: كيف تصنع في قيام الليل؟ قال: أقومه أجمع لا أنام منه شيئاً وأتفوّق القرآن فيه تفوقاً، قال معاذ: لكني أنام ثم أقوم وأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي، فذكرا ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لأبي موسى: معاذ أفقه منك، وقد كان بعضهم لا ينام حتى يغلبه النوم، وكان بعض السلف يقول: هي أوّل نومة فإن انتبهت ثم عدت إلى نومة أخرى فلا أنام الله عينيّ، وسئل فزارة الشامي عن وصف الأبدال وكانوا يظهرون له فقال أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة وصمتهم حكمة وعلمهم قدرة، وقيل لآخر صف لنا الخائفين، فقال: أكلهم أكل المرضى ونومهم نوم الغرقى ولا يدع العبد أن يقوم مقدار خمس الليل أو سدسه وهو ورد من أوراد الليل أو وردان على اختلافهما في الطول والقصر متفرقاً كان قيامه أو متصلاً وأي ورد أحياه من الليل بأي نوع من الأذكار فقد دخل في أهل الليل وله معهم نصيب ومن أحيا أكثر ليلته أو نصفها كتب له إحياء جميعها وتصدق عليه بما بقي منها، ومن صلّى في ليلة عشرين ركعة وأوتر بعدها بثلاث حسب له كأنه أحياها بفضل الله ورحمته، وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم ليلة نصف الليل وليلة ثلثه وليلة ثلثيه وذلك مذكور في أوّل الآيتين من قيام الليل في سورة المزمّل وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم ليلة نصف الليل ونصف سدسه معه ويقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ليلة ربعه ويقوم ليلة سدس الليل حسب وذلك مذكور في آخر الآيتين من قيام الليل وهذا على قراءة من كسر ونصفه وثلثه فأما من نصب فقال ونصفه وثلثه فإنه يعني يقوم النصف مع نصف السدس والنصف وحده والثلث وحده وهو الذي ذكرناه من الآية الأولى. وقد جاء في التفسير نحو هذا وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفترض عليه صلاة الليل، فالآية الأولى أمره تعالى بقيام الليل فيها والأخرى أخبر عنه بقيامه كيف هو فالأجود أن يكون ما أخبر عنه مواظباً لما أمره به فالذي أمره به أنه قال تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ) المزمل: 2، ثم استثنى القليل منه فقال: (إلاّ قَليلاً) المزمل: 2، ثم فسر أمره فقال نصفه أو أنقص منه قليلاً يعني والله أعلم أنقص نصف السدس أو نصف الثلث هذان أقل أسماء النقصان عند العرب، ثم قال: (أَوْ زِدْ عَلَيهِ) المزّمّل: 4 أو زد عليه يعني زد على النصف كأنه رد عليه نصف سدس الليل لأنه أخبر عنه في الآية الأخرى بأقل من الثلثين فقال: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل يكون هذا نصفاً ونصف سدس وهو أقل التسمية عندهم، ثم قال: ونصفه أي ويعلم أنك تقوم نصفه أيضاً وثلثه أي وتقوم ثلثه، فهذه الأخبار أشبه بوطء الأمر من قراءة من كسر فقال ونصفه وثلثه يريد وتقوم أدنى من نصفه وهو الربع أو الثلث وأدنى من ثلثه وهو السدس أو نصف السدس. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم من الليل إذا سمع الصارخ يعني الديك فهذا يكون من السحر فقط فكان هذا يكون سدس الليل أو نصف سدسه ففيه رخصة وسعة لقوّام الليل، قلنا هذا تقريب لا تحديد والله أعلم والنصب اختيارنا في القراءة على معنى كثرة القيام ولمواطأة الخبر عنه للأمر، وقد جاء في الأثر صلِّ من الليل ولو قدر حلب شاة فهذا قد يكون أربع ركعات وقد يكون ركعتين، وقال أبو سليمان: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره وكان يقول: أهل الليل على ثلاث طبقات منهم إذا قرأ متفكراً بكى ومنهم إذا تفكر صاح وراحته في صياحه ومنهم من إذا قرأ وتفكر بهت فلم يبك ولم يصح، قلت له: من أي شيء صاح هذا ومن أي شيء بهت هذا؟ فقال: لا أقوى على التفسير، وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأتخذ طهوري فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك قيدتك يا ابن أخي، وكان الحسن إذا دخل السوق فسمع لغطهم ولغوهم قال أظن ليل هؤلاء ليل سوء ما يقيلون. وقال بعض السلف: كيف ينجو التاجر من سوء الحساب وهو يلغو بالنهار وينام بالليل، وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل له: ما هو؟ قال رأيت رجلاً بكى فقلت في نفسي هذا مراء، وقال بعضهم: دخلت على كرز بن وبرة وهو يبكي، فقلت: ما بالك أتاك نعي بعض أهلك؟ فقال: أشد، فقلت وجع يؤلمك؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أشد، قلت فما ذاك؟ قال: بابي مغلق وستري مسبل ولم أقرأ جزئي البارحة وما ذاك إلا بذنب أحدثه، وقال محمد بن شبانة: سمعت بعض الشيوخ الثقات المستورين ببغداد يقول: سمعت ابن الصافي البقال بدينور يقول: كان بدينور سجان قال إني بقيت على باب السجن نيفاً وثلاثين سنة فما من أحد حمل إلى السجن من الذين أخذهم الطوف بالليل إلا سألته فقلت له هل صليت صلاة العشاء الآخرة في جماعة إلا قال لا، وقال أبو سليمان: لا يفوت أحداً صلاة في جماعة إلا بذنب وكان يقول: الاحتلام بالليل عقوبة والجنابة البعد فكأنه بعد من الصلاة والتلاوة إذ في ذلك قرب ومن هذا قوله تعالى: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) القصص: 11، وكان الحسن يقول إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وصيام النهار. وقال بعض العلماء: إذا صمت يا مسكين فانظر عند من تفطر وعلى أي شيء تفطر فإن العبد ليأكل الأكلة فينقلب قلبه عما كان عليه فلا يعود إلى حاله الأول، وقال آخر: كم من أكلة منعت قيام الليل، وكم من نظرة حرمت قراءة سورة وإن العبد ليأكل الأكلة أو يفعل فعلة فيحرم بها قيام سنة فبحسن التفقد تعرف المزيد من النقصان وبقلة الذنوب يوقف على التفقد وكان الفضيل يقول: لو رزقت من فهم القرآن وقيام الليل في أول أمري ما رزقت الآن، ما كتبت حديثاً قط ولا اشتغلت بغير القرآن، ويقال إن طول القيام راحات القيامة وإن صلاة الليل كفارات الكبائر وقيل إنه جبران لما نقص من الفرائض من صلاة الليل، وقد كانوا يستحبون في صلاة النهار كثرة الركوع والسجود وفي صلاة الليل طول القيام، واعلم أنّ صلاة الليل نافلة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه كان متمماً لفرائضه وصلاة الليل تكملة لفرائضنا، وفي الخبر: إذا نام العبد عقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد فإن قعد وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، وإن صلّى ركعتين انحلت العقد كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح كسلاناً خبيث النفس، وفي الخبر أن الرجل إذا نام حتى يصبح بال الشيطان في أذنه، وقد روينا في الخبر الآخر أن للشيطان سعوطاً ولعوقاً وذروراً فإذا أسعط العبد ساء خلقه وإذا ألعقه ذرب لسانه بالشر وإذا ذره نام بالليل حتى يصبح ويستعان على قيام الليل بثلاث: أكل الحلال، والاستقامة على التوبة، وغم خوف الوعيد أو شوق رجاء الموعود، والذي يحرم العبد به قيام الليل أو يعاقب معه بطول الغفلة ثلاث: أكل الشبهات أو إصرار على الذنب وغلبة هم الدنيا على القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الفصل الخامس عشر في ذكر ورد العبد من التسبيح والذكر والصلاة في اليوم والليلة وفضل صلاة الجماعة وذكر أفضل الأوقات المرجو فيها الإجابة و ذكر صلاة التسبيح وما يستحب أن يكون شعاره ليكن للعبد في كل يوم وليلة ورد من التسبيح وأقل ذلك تسعمائة مرة من أنواع الأذكار التي وردت بها الأخبار، فليقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي، لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير مائة مرة، فإذا قال ذلك مائتي مرة لم يعمل أحد في يومه أفضل من عمله بأثر فيه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليقل سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وتبارك الله مائة مرة، وليقل: اللهم صلّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي مائة مرة، وليقل: أستغفر الله الحي القيوم، وأسأله التوبة مائة مرة، ليقل: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة، وليقل: لا إله إلاّ الله الملك الحق المبين مائة مرة، وليقل: ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله مائة مرة، يقول هذا في كل يوم وفي كل ليلة فإن رزق مزيداً عليه فهو فضل وإلا كان هذا معلومه وقد كان في الصحابة من ورده كل يومِ اثنا عشر ألف تسبيحة، وكان من التابعين من ورده في كل يوم ثلاثون ألفاً، وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم عن بعض الأبدال أنه قام ذات ليلة يصلي على شاطئ البحر فسمع صوتاً عالياً بالتسبيح ولم يرَ أحداً فقال: من أنت أسمع صوتك ولا أرى شخصك، فقال أنا ملك من الملائكة موكل بهذا البحر أسبح الله عزّ وجلّ هذا التسبيح منذخلقت قلت فما اسمك؟ قال مهيهيائيل، قلت: فما ثواب من قاله؟ قال: من قاله مائة مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له، وهو هذا التسبيح: سبحان الله العلي الديان، سبحان الله شديد الأركان، سبحان من يذهب بالليل ويأتي بالنهار سبحان من لا يشغله شأن عن شأن، سبحان اللّّه الحنان، المنان، سبحان الله المسبح في كل مكان، وإن كان للعبد من الصلاة أوراد معلومة فحسناً قد فعل كان من التابعين من ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وأربعمائة ركعة وكان منهم من ورده ستمائة ركعة إلى ألف ركعة وأقل ما نقل عنه من الأوراد مائة ركعة في اليوم، وكان كرز بن وبرة مقيماً بمكة وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 يطوف في كل يوم سبعين أسبوعاً وفي كل ليلة سبعين أسبوعاً، قال: فحسبنا ذلك فكان عشرة فراسخ، فلهذه الأسابيع مائتان وثمانون ركعة، قال: وكان يختم مع ذلك القرآن في اليوم والليلة مرتين، وقال هشام بن عروة: كان أبي يواظب على ورده من التسبيح كما يواظب على جزئه من القرآن، وروي عنه أيضاً: كان يواظب على جزئه من الدعاء كما يواظب على جزئه من القرآن ولا يدع العبد أن يسبح أدبار الصلوات الخمس مائة تسبيحة عند كل صلاة مكتوبة وكذلك عند النوم مائة وليواظب على أن يقول إذا أصبح وإذا أمسى ما جاء في تفسير قوله عزّ وجلّ: (لَهُ مَقَاليدُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) الزمر: 63 فإن لذلك ثواباً عظيماً. وروينا عن عثمان رضي اللّّه عنه أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تفسير هذه الآية: له مقاليد السموات والأرض، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك هو لا إله إلاّ الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده ولا حول ولا قوة إلاّ بالله وأستغفر الله الأول والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير، من قالها عشراً حين يصبح وحين يمسي أعطي بها ست خصال فأول خصلة يحرس من إبليس وجنوده والثانية يعطى قنطاراً من الأجر والثالثة يرفع له درجة في الجنة والرابعة يزوجه الله عزّ وجلّ من الحور العين والخامسة يحضرها اثنا عشر ملكاً والسادسة يكون له من الأجر كمن حج واعتمر وقد روينا في تفسيرها قولاً آخر من رواية أخرى واتصل به ذكر كنز أهل الجنة ما هو فإن ضم هذا إليه فقد جمع الروايتين واستوعب الفضيلتين، رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنّه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسائل فأجابه عنها فقال: ما مقاليد السموات والأرض؟ فقال: إن يقول العبد لا إله إلاّ الله محمد رسول الله وأما كنز أهل الجنة فيقول: سبحان من في السماء عرشه سبحان من في السماء موضع أثره سبحان من سبقت رحمته غضبه سبحان من لا ملجأ ولا مهرب إلاّ إليه يا عثمان من قالها كل يوم عشر مرات كتب له بها ست خصال ينجيه الله من إبليس وجنوده وإن مات مات شهيداً وبني له قصراً في الجنة وكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وكأنما اشترى ثمانية من ولد إسماعيل وأعتقهم ولا يدع قراءة هذه الآيات الست عند كل صلاة يصليها فريضة أو تطوع، ففي ذلك ثواب عظيم: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون) الصافات: 180 إلى آخر السورة وقوله: (فَسُبْحَانَ اللهِ حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ) الروم: 17 إلى قوله: (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) الروم: 19 واستغفر للمؤمنين والمؤمنات في كل يوم خمسين مرة خمساً وعشرين إذا أصبح وخمساً وعشرين إذا أمسى فإنه يكتب من الأبدال بأثر في ذلك، رويناه من ذلك ولفظ الاستغفار الذي جاء في الخبر أن يقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات حيهم وميتهم شاهدهم وغائبهم قريبهم وبعيدهم إنك تعلم متقلبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ومثواهم وليقل هذا الاستغفار في تشهده أيضاً فقد جاء ذلك وليقل في كل عشر مرات اللهم أصلح أمة محمد اللهم ارحم أمة محمد اللهم فرج عن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال من قاله في كل يوم كتب له ثواب بدل من الأبدال وليقل إذا أصبح ثلاثاً وإذا أمسى ثلاثاً اللهم أنت خلقتني وأنت هديتني وأنت تطعمني وأنت تسقيني وأنت تميتني وأنت تحييني وأنت ربي لا ربّ لي سواك ولا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك فإن في ذكر شكر نعمة يومه ولا يدع أن يقول كلّما استيقظ من نومه وكلما أراد المنام هذه الكلمات بسم الله ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ما شاء الله كل نعمة من الله ما شاء الله الخير كله بيد الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ففي هذا عصمة من الله عزّ وجلّ وحرز له من الشيطان وقد جاء في الخبر من قالهن مائة مرة يوم عرفة قبل غروب الشمس ناداه الله عزّ وجلّ من فوق عرشه قد أرضيتني وعلي رضاك سلني ما شئت أعطك ولا يدع أن يقول كل غداة وكل عشية فإن تولوا فقل: حسبي الله، لا إله إلاّ هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، وكذلك يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار سبعاً وكلما سمع الأذان قال كما يقول المؤذن، فإذا فرغ فليقل رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً، اللهم بهذه الدعوة التامة والكلمة الصادقة والصلاة القائمة صلِّ على محمد وآله وأعطه الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، فإن كان الأذان لصلاة الصبح أو صلاة المغرب زاد في ذلك، اللهم هذا إدبار ليلك وإقبال نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلاتك وشهود ملائكتك صلِّ على محمد وآله ثم ليدع بما أحب وليغتنم الصلاة والدعاء بين الأذان والإقامة فإنه يستحب، ولتكن هذه الكلمة هجيره وشعاره في الأوقات فإنها من دعاء الأبدال فيما بينهم وشعارهم في أوقاتهم: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، العفو الغفور، يا سلام، سلم، يارب، يا رب، يا ذا الجلال والإكرام، افتح بخير واختم بخير، فلا إله إلا الله الحي القيوم، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، يا رب، يا رب، يالله، يا الله، يا عزيز، يا عزيز، يا قريب، يا قريب، يا حليم، يا ستار، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، يا الله، يا الله، يا عزيز، يا عزيز، يا قريب، يا قريب، يا كريم، يا غفار، يا واسع المغفرة، اغفر لي عافناً، واعف عنا نسألك العفو والعافية، يا غياث المستغيثين، وفي جميع ما ذكرنا فضائل وردت بها الآثار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان طوينا نشر ذلك إذ لم يكن قصدنا ذكر فضائل الأعمال وإنما أردنا شرح أوراد العمال ولا يدع السواك كلما استيقظ من نوم النهار وبالليل فإنه يقال من خير خصال الصائم إلاّ بعد العصر فقد كره للصائم. إلا الله الحي القيوم، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، يا رب، يا رب، يالله، يا الله، يا عزيز، يا عزيز، يا قريب، يا قريب، يا حليم، يا ستار، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، يا الله، يا الله، يا عزيز، يا عزيز، يا قريب، يا قريب، يا كريم، يا غفار، يا واسع المغفرة، اغفر لي عافناً، واعف عنا نسألك العفو والعافية، يا غياث المستغيثين، وفي جميع ما ذكرنا فضائل وردت بها الآثار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان طوينا نشر ذلك إذ لم يكن قصدنا ذكر فضائل الأعمال وإنما أردنا شرح أوراد العمال ولا يدع السواك كلما استيقظ من نوم النهار وبالليل فإنه يقال من خير خصال الصائم إلاّ بعد العصر فقد كره للصائم. وفي الخبر طيبوا طرق القرآن من أفواهكم بالسواك، وفي الحديث السواك مطهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 للفم مرضاة للرب عزّ وجلّ، ويقال إن الصلاة بعد السواك تفضل على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفاً وأوكد ما استعمل فيه السواك أربعة أوقات قبل الزوال للصائم ويوم الجمعة مع الغسل لها وفي قيام الليل وبالغداة عند الاستيقاظ من النوم وقد كانوا يستحبون أن لا يأتي على العبد يوم وليلة إلا تصدق فيه بصدقة وإن قل مثل لقمة أو ثمرة حتى كان بعضهم يتصدق ببصلة وبخيط لأنه جاء في الأثر كل امرئ يوم القيامة في ظل صدقته والله سبحانه يشكر القليل الدائم وهو أحب إليه من الكثير المنقطع ألم تر كيف ذم من أعطى وقطع في قوله تعالى: (وَأَعْطى قَليلاً وَأَكْدى) النجم: 34 أي قطع ومدح فواكه الجنة يعيب بذلك فواكه الدنيا في تدبر الخطاب فقال: (وَفَاكِهَةٍ كَثيرَةٍ) (لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ) الواقعة: 32 - 33 أي فازهدوا من فوكه الدنيا فإنها مقطوعة ممنوعة رغبة في هذه الدائمة وكان من أخلاق السلف أن لا يردوا سائلاً إلا بشيء وإن قل لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتقوا النار ولو بشق تمرة ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للسائل حق ولو جاء على فرس مطوّق بفضة ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ترد السائل ولو بظلف محترق ودفعت عائشة رضي الله عنها إلى السائل عنبة واحدة قال فنظر بعضنا إلى بعض فقالت: ما لك إن فيها لمثاقيل ذرة كثيرة وقد كان من أخلاقهم أن لا يسأل أحد شيئاً أو يراد بأمر مباح فيقول لا لكراهتهم الخلاف ومحبتهم الائتلاف وكان من أخلاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سئل شيئاً قط فقال: لا، فإن لم يقدر عليه سكت وقد كانوا يجتمعون على الأمر الواحد بقلب واحد ولا يستبد بعضهم بأمر دون بعض ولا يستأثر أحدهم بشيء دون أخيه وبذلك وصفهم الله عزّ وجلّ في قوله تعالى: (وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) الشورى: 38 أي أمورهم مشاعة فيما بينهم غير مقسومة هم فيها سواء، ويستحب للعبد أن يجمع بين هذه الأعمال الأربعة صوم وصدقة وعيادة مريض وشهود جنازة وقد كان هذا طريق المريدين يسارعون إليه ويحرصون عليه، وفي الخبر من جمع بين هذه الأربع في يوم غفر له، وفي بعضها دخل الجنة فإن اتفق له منها ثلاث أو اثنان فأعجزه ما بقي حسب له تمامها لحسن نيّته، ولا يدعنّ الجماعة سيما إذا سمع التأذين أو كان في جوار المسجد، وحد الجوار أن يكون بينه وبين المسجد ثلاث دور، وأولى المساجد أن يصلّي فيه أقربها منه إلا أن يكون له نية في الأبعد لكثرة الخطأ أو لفضل الإمام فيه والصلاة خلف العالم الفاضل أفضل أو يريد أن يعمر بيتاً من بيوت الله عزّ وجلّ بالصلاة فيه وإن بعد، وقال سعيد بن المسيب: من صلّى الخمس في جماعة فقد ملأ البرين والبحرين عبادة وليتوضأ لكل صلاة قبل دخول وقتها فإنه من المحافظة عليها ومن حسن معاملتها، وقال أبو الدرداء: وحلف بالله وما سمعته حالفاً بالله قط قال: من أحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ ثلاث: أمر بصدقة، وخطوة إلى صلاة جماعة، أو إصلاح بين الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ويستحب له كلّما دخل المسجد أو منزله أن يصلي ركعتين فإن ذلك من عمل الأبرار وكلما خرج منه صلّى ركعتين وقد كان السلف لا يخرجون من منازلهم حتى يتوضؤوا ويستحب له كلما أحدث أن يتوضأ وكلما توضأ أن يصلّي ركعتين فإن ذلك من عمل الأبرار وهو لمن مات على هذا العمل شهادة وإذا خرج من منزله قال: بسم الله ما شاء الله حسبي الله توكلت على الله لا قوة إلاّ بالله اللهم إليك خرجت وأنت أخرجتني اللهم سلمني وسلم مني في ديني كما أخرجتني اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل عليّ عزّ جارك وجلّ ثناؤك ولا إله غيرك وليقرأ سورة الحمد والمعوذتين ولا يدع صلاة الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله إلى ثمان ركعات إلى اثنتي عشرة ركعة ولا يزيد على ذلك إن نشط أطالهن وإن فتر قصرهن وليجعل من قراءته فيهن والشمس وضحاها وسورة والضحى وآخر سورة البقرة وآخر سورة الحشر، ثم ليتنفل بعد ذلك بما شاء من غير أن تكون ورد الضحى فيلزمه المواظبة عليه، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله، وفي خبر عن الله عزّ وجلّ: يا ابن آدم صلِّ لي أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره. ات في أول النهار أكفك آخره. وفي حديث أم هانئ بنت أبي طالب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى الضحى ثمان ركعات، وفي الخبر يصبح ابن آدم: وعلى كل سلامى من جسده صدقة يعني في كل مفصل وفي جسده ثلاثمائة وستون مفصلاً، فأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وحملك عن الضعيف صدقة، وهدايتك إلى الطريق صدقة، وإماطتك الأذى صدقة، حتى ذكر التسبيح والتهليل ثم قال: وركعتا الضحى تأتي على ذلك كله، أو قال: تجمعن لك ذلك، وقد كان من سيرة المتقدمين دخول المسجد سحراً قبل طلوع الفجر والقعود فيه إلى صلاة الصبح ويفضلون هذا الفعل، حدثونا عن رجل من التابعين قال: دخلت المسجد قبل طلوع الفجر فألفيت أبا هريرة قد سبقني فقال: يا ابن أخي لأي شيء خرجت من منزلك هذه الساعة؟ فقلت لصلاة الغداة، فقال: أبشر فإنا كنا نعد خروجنا وقعودنا في هذا المسجد هذه الساعة ننتظر الصلاة بمنزلة غزوة في سبيل الله عزّ وجلّ، أو قال مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأفضل الأوقات المرجو فيها الإجابة أربعة: عند السحر، وعند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبين الأذان والإقامة، وأفضل أوقات الليل والنهار أوقات الصلوات المكتوبات، وإذا دعا الله وتعالى فليدعه بمعانى أسمائه فإنها صفاته وهو يحب ذلك وإنما أظهرها ليعرف بها الداعي وليدعُ بها مثل أن يقول: يا جبار اجبر قلبي، يا غفار اغفر ذنبي، يارحمن أصلحني، يارحيم ارحمني، يا تواب تب عليّ، يا سلام سلمني، واستحب أن يدعو الله عزّ وجلّ بأسمائه التسعة والتسعين في كل يوم وليلة مرة، فإنه روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أحصاها دخل الجنة وهي متفرقة في جميع القرآن، فمن دعا الله عزّ وجلّ بها موقناً كان كمن ختمه فإن تعذر عليه حفظها فإنها منشورة على غير ترتيب فليتطرق إليها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 حروف المعجم فليذكر من كل حرف ما فيه كأن يبتدئ بالألف فينسق ما عليه من الأسماء ثم بالباء ثم بالتاء فيقول: يا الله، يا أول، يا آخر، يا بارئ، يا باطن، يا تواب، وقد يتعذّر عليه وجود بعضها في بعض الحروف كغيرها إلاّ أنها تخرج في سائر الحروف المتيسرة بالأسماء الظاهرة فإذا عد من الأحرف تسعة وتسعين إسماً أجزأه لأنه يجد في الحرف الواحد العشرة فأكثر ودون ذلك فلا يضره إن لم يعرف في بعض الحروف اسماً إذا أحصى العدد فقد حصل له الفضل للأثر في ذلك. ذكر صلاة التسبيح استحب له أن يصلّي صلاة التسبيح في الجمعة مرتين: مرة نهاراً ومرة ليلاً؛ وهي ثلاثمائة تسبيحة في أربع ركعات، إن صلاها نهاراً لم يفصل بينهن بتسليم، وإن صلاها ليلاً سلم فيها سلامين فقد كان الصالحون يصلونها ويتعرفون بركتها ويتذاكرون فضلها، وقد روينا فيها روايتين: إحداهما، حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للعباس بن عبد المطلب: ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك بشيء، إذا أنت فعلته غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، وخطأه وعمده، سره وعلانيته، تصلّي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد الثانية فتقولها عشراً، ثم ترفع من السجود ثم تجلس فتقولها عشراً، ثم تقوم فذلك خمسة وسبعون في كل ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات إن استطعت أن تصلّيها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، وإن لم تفعل ففي عمرك مرة، حدثناه عن أبي داود السجستاني فقال: ليس في صلاة التسبيح حديث أصح من هذا فذكر في هذه الرواية أنه يسبح في القيام خمس عشرة مرة بعد القراءة وأنه يسبح عشراً بعد السجدة الثانية في الركعة الأولى قبل القيام كأنه يجلس جلسة قبل أن ينهض، وفي الركعة الثانية أيضاً، كذلك قبل التشهد، وروينا في الخبر الآخر أنه يفتتح الصلاة فيتوجه ويقول سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يسبح خمس عشرة تسبيحة قبل القراءة ثم يقرأ الحمد وسورة ثم يسبح عشراً ثم يركع فيكون له في قيامه خمس وعشرون تسبيحة، ولا يسبح بعد السجود في الجلسة الأولى بين الركعتين ولا في جلسة التشهد شيئاً، وكذلك روينا في حديث عبد الله بن زياد بن سمعان عن معاوية بن عبد الله بن جعفر عن أبيه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه صلاة التسبيح قال فيها: يفتتح الصلاة مكبراً، ثم يقول فذكر الكلمات وزاد فيها ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فيه: يقول ذلك خمس عشرة مرة، ولم يذكر بعد السجدة الثانية عند القيام أن يقولها، وهذه الرواية أحب الوجهين إليّ وهو اختيار عبد الله بن المبارك، حدثونا عن سهل بن عاصم عن ابن وهب قال: سألت ابن المبارك عن الصلاة التي يسبح فيها فقال: يقول سبحان الله، والحمد لله، الكلمات خمس عشرة مرة، ثم يتعوّذ ويقرأ فاتحة الكتاب وسورة، ثم يقولها عشراً ثم يركع وذكرها قال: فذلك خمس وسبعون يصلّي أربع ركعات على هذا إن صلّيت ليلاً فأحب أن يسلّم في الركعتين وإن صلّيت نهاراً صلّيت أربعاً وإن شئت سلمت وإذا عدّ في الركوع فعد بإصبعه على ركبتيه وفي السجود بإصبعه على الأرض، وحدثونا عن محمد بن جابر قال: قلت لابن المبارك في صلاة التسبيح إذا رفعت رأسي للقيام من آخر السجدتين أسبح قبل أن أقوم، قال: لا تلك القعدة ليست من سنة الصلاة، وقال ابن أبي رزمة عن ابن المبارك: قلت له يقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، قال: نعم، قلت: فإن سها يسبح في السهو عشراً، قال: لا إنما هي ثلاثمائة تسبيحة، وأحب أن تكون السورة التي يقرأها في صلاة التسبيح مع الحمد فوق العشرين آية، فقد روينا في حديث عبد الله بن جعفر الذي رواه إسماعيل بن رافع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في السورة التي بعد أم القرآن عشرين آية فصاعداً وكذلك أحب زيادة لا حول ولا قوة إلا بالله لما ذكرناه في الخبر الآخر فإن قرأ مع فاتحة الكتاب في كل ركعة عشر مرات قل هو الله أحد فقد ضاعف العدد واستكمل الأجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الفصل السادس عشر في ذكر معاملة العبد في التلاوة ووصف التالين للقرآن حق تلاوته بقيام الشهادة استحب للمريد أن يختم القرآن في كل أسبوع ختمتين؛ ختمة بالنهار وختمة بالليل، ويجعل ختمة النهار يوم الاثنين في ركعتي الفجر أو بعدهما، ويختم ختمة الليل ليلة الجمعة في ركعة المغرب أو بعدهما ليستقبل بختمته أوّل النهار وأوّل الليل فإن الملائكة تصلّي عليه إن كانت ختمته ليلاً حتى يصبح وتصلّي عليه إن كان ختمه نهاراً حتى يمسي فهذان الوقتان يستوعبان كلية الليل والنهار، وفي الخبر لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن عمر أن يقرأ القرآن في كل سبع وكذلك جماعة من الصحابة يختمون القرآن في كل جمعة، وروينا عن يحيى بن الحارث الديناري عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة وليلة السبت بالأنعام إلى هود وليلة الأحد بيوسف إلى مريم وليلة الاثنين بطه إلى طسم موسى وفرعون وليلة الثلاثاء بالعنكبوت إلى صاد وليلة الأربعاء بتنزيل إلى الرحمن ويختم ليلة الخميس وكذلك كان زيد بن ثابت وأبي يختمان القرآن في كل سبع، روينا عن ابن مسعود أنه سبع القرآن في سبع ليال فكان يقرأ في كل ليلة بسبعه إلا أن تأليفة على غير ترتيب مصحفنا هذا فلم يذكره لأن الاعتبار لا يتبيّن به وجماعة يذكر عنهم ختم القرآن في كل يوم وليلة وقد كره ختمه في أقل من ثلاث طائفة والتوسط من ذلك ما ذكرناه وهو أن يختم في كل ثلاثة أيام. ذكر أحزاب القرآن وكيف حزبه الصحابة رضي الله عنهم وإن قرأ القرآن أحزاباً في كل يوم وليلة حزباً فحسن، وهو سنة فذلك أشد لمواطأة القلب وأقوم للترتيب وأدنى إلى الفهم وإن أحب قرأ في كل ركعة ثلث عشر القرآن أو نصف ذلك يكون الجزء من الأجزاء الثلاثين في كل ركعة أو ركعتين فإن قرأ في كل ورد حزباً أو حزبين أو دون ذلك فحسن وأحزاب القرآن سبعة: فالحزب الأول ثلاث سور، والحزب الثاني خمس سور، والحزب الثالث سبع سور، والرابع تسع سور، والخامس إحدى عشرة سورة، والسادس ثلاث عشرة سورة، والمفصل من ق، فهذه كانت أحزاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 القرآن ولذلك حزبه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وكانوا يقرؤونه كذلك، وفي ذلك خبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكأنه حزبه على عدد هذه الآي إذ عددها ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، وقد اعتبرت ذلك في كل حزب فرأيته يتقارب، وهذا قبل أن تعمل الأخماس والعواشر والأجزاء فما سوى هذا محدث يقال: إن الحجاج جمع قرّاء البصرة والكوفة منهم: عاصم الجحدري، ومطر الوراق، وشهاب بن شريفة فأمرهم بذلك، وقد كان الحسن وابن سيرين ينكران هذه الأخماس والعواشر والأجزاء، وروي عن الشعبي وإبراهيم كراهية النقط بالحمرة وأخذ الأجر على ذلك وكانوا يقولون جردوا القرآن، وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: كان القرآن مجرداً في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء وقالوا: لا بأس به فإنه نور له ثم أحدثوا بعده نقطاً كباراً عند منتهى الآي فقالوا: لا بأس به يعرف به رأس الآي ثم أحدثوا بعد ذلك الخواتيم والفواتح وقالوا: لا بأس به لأنها علامة تعرف بها واعلم أنه لا يجد فهم القرآن الفهم الذي يكشف بمشاهدته ويظهر من الملكوت قدره عبد فيه إحدى هذه الخصال أدنى بدعة أو مصر على ذنب أو عبد في قلبه كبراً ومقارب لهوى قد استكن في قلبه أو محب الدنيا أو عبد غير متحقق بالإيمان أو ضعيف اليقين ولا من هو واقف مع مقراه ولا عبد مهتم يتبع حروفه واختياره ولا ناظر إلى قول مفسر ساكن إلى عمله الظاهر ولا راجع إلى معقوله ولا قاض بمذاهب أهل العربية واللغة في باطن الخطاب وسر المرء وهؤلاء كلهم محجوبون بعقولهم مردودون إلى ما يقدر في علومهم موقوفون مع ما تقرر في عقولهم مزيدهم على مقدار علومهم وغرائز عقولهم وهؤلاء مشركون بعقولهم ومعلومهم عند الموحدين فهذا داخل في الشرك الخفي الذي أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، قال محمد بن علي بن سنانة إذ معقوله وعلمه عن عقل غير كامل لأن العقل الكامل ماعقل عن الله عزّ وجلّ وفهم حكمه وكلامه، ويعقل به كلامه وقد قال الرسول صلوات الله عليه في صفة كمال العقل العاقل: من عقل عن الله سبحانه وتعالى أمره ونهيه، وفي الخبر أكثر منافقي أمتي قراؤها فهذا نفاق الوقوف مع سوى الله تعالى والنظر إلى غيره لإنفاق الشرك والإنكار لقدرة الله عزّ وجلّ فهو لا ينتقل عن التوحيد ولكنه لا ينتقل إلى مقام المزيد فإذا كان العبد ملقياً السمع بين يدي سميعه مصغياً إلى سرّ كلامه شهيد القلب لمعاني صفات شهيده ناظراً إلى قدرته تاركاً لمعقوله ومعهود علمه متبرئاً من حوله وقوته معظماً للمتكلم واقفاً على حضوره مفتقراً إلى الفهم بحال مستقيم وقلب سليم وصفاء يقين وقوة علم وتمكين سمع فصل الخطاب وشهد علم غيب الجواب وأفضل القراءة الترتيل لأنه يجمع الأمر والندب وفيه التدبر والتذكر. روي عن علي رضي الله عنه لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها، وعن ابن عباس لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله هذرمة، وروي عنه أيضاً لأن اقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذراً، وسئل مجاهد عن رجلين دخلا في صلاة فكان قيامهما واحد إلاّ أن أحدهما قرأ البقرة والآخر قرأ القرآن كله فقال هما في الأجر سواء لأن قيامهما كان واحداً وأفضل الترتيل والتدبر في القرآن ما كان في صلاة ويقال إن التفكر في الصلاة أفضل منه في غير الصلاة لأنهما عملان وهذا هو التفكر في معاني التدبر والفهم بخطاب الوعد والوعيد والزجر والأمر تعظيماً للمتوعد وإجلالاً للآمر، وسئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت، وروي في خبر آخر من سجد لله عزّ وجلّ سجدة رفعه الله عزّ وجلّ بها درجة وأنه قال لأبي فاطمة خادمه وقد سأله مرافقته في الجنة فقال أعني بكثرة السجود، وروينا عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال إنه كثرة السجود بالنهار وإنه طول القيام بالليل ويقال إن العبد يحشر عند الموت من قبره على هيئته في صلاته من السكون والطمأنينة وتكون راحته في الموقف على قدر راحته وتنعمه بالصلاة، وروينا معنى هذا عن أبي هريرة وعلى هذا المعنى تأويل قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبلال: أرحنا بالصلاة أي روحنا إليها نعمنا بها من الروح والراحة إليها ويقال أرحنا بالشيء أي روحنا وأرحنا منه أي أسقطه عنا وخفف عنا منه ولم يقل أرحنا منها كيف وقرة عينه فيها، وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر وما قضيت منها وطري، وقال سليمان بن أبي سليمان الداراني إنه وعد ابن ثوبان أخاً له أن يفطر عنده فأبطأ عليه حتى طلع الفجر فلقيه أخوه من الغد، قال: وعدتني أن تفطر عندي فأخلفت، فقال: لولا ميعادك ما أخبرتك بالذي حبسني عنك إني لما صليت العتمة قلت أوتر قبل أن أجيئك لأني لا آمن ما يحدث من الموت، فلما كنت في الدعاء من الوتر رفعت لي روضة خضراء فيها أنواع الزهر من الجنة، فما زلت أنظر إليها حتى أصبحت، وقال عزّ وجلّ: (كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة: 22، قيل: القرآن قوى إيمانهم بعلم القرآن، فالقرآن روح الإيمان، وتقويتهم استعمالهم به، وفي التفسير يا يحيى خذ الكتاب بقوة، قيل: بجد واجتهاد ومثله خذوا ما آتيناكم بقوّة، قيل: بعمل به، وقيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء فقال أو شيء أحب إليّ من القرآن أحدث نفسي به؟ وهذه صفة قوي مكين، ويقال إن في القرآن ميادين وبساتين ومقاصير وعرائس وديابيج ورياضاً وخانات، فالميمات ميادين القرآن والراآت بساتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 القرآن والحاآت مقاصيره والمسبحات عرائس القرآن والحواميم ديباج القرآن والمفصل رياضه والخانات ما سوى ذلك، فإذا جال المريد في الميادين وقطف من البساتين ودخل المقاصير وشهد العرائس ولبس الديباج وتنزه في الرياض وسكن غرف الخانات اقتطعه وأوقفه ما يراه وشغله الشاهد به عما سواه. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فرددها عشرين مرة وكان له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ورده فهم، ومن كل كلمة علم، فينبغي أن يكون قلب التالي بوصف كل كلمة يتلوها مشاهداً لمعناها إلى ما يفتح الله عزّ وجلّ له من المزيد عليها من مجاورتها ومع ما يفهم بها من غيرها ويشهد غيرها منها فقد كان بعضهم يقول: كل آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لم أعد لها ثواباً، وكان بعض السلف إذا قرأ السورة ولم يكن قلبه فيها أعادها ثانية، فإذا مرّ بتسبيح وتكبير سبّح وكبّر، وإن مرّ بدعاء واستغفار دعا واستغفر، وإن مرّ بمخوف ومرجو استعاذ وسأل، فذلك معنى قوله عزّ وجلّ: (يَتْلُونَهُ حقَّ تِلاَوَتِه) البقرة: 121، وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلاوته وعلى هذا المعنى ما روي في الخبر من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد أي على معنى تلاوته لأنه كان يقرأ بقلب شهيد وسمع عتيد وبصر حديد فكان يتلو القرآن على معاني الكلام وعلى شهادة وصف المتكلم الوعيد منه بالتحزين والوعد بالتشويق والوعظ بالتخويف والإنذار بالتشديد والتفسير بالترقيق والتبشير بالتوفيق لأنه كان عالماً بصفات المتكلم واجد الذوق الكلم، فمثل هذا العبد أحسن الناس صوتاً بالقرآن كما جاء في الخبر: أحسن الناس صوتاً بالقرآن من إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله، ومن هذا قيل إذا قرأتم القرآن فابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا، ومثل هذا أن القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا أي أن القرآن لما فيه من التهديد والوعيد والوثائق والعهود يوجب البكاء والحزن، فإن لم تحزنوا وجداً ولم تبكوا نفساً يقيناً فتباكوا وتحازنوا لفظاً لأجل التصديق والإقرار به، فندبهم إلى التحازن في التلاوة والتباكي ليجتمع همّ العبد في المتلو فيتدبر الكلام عسى أن يكون قلبه بمعناه فيكون التباكي والتحزين سبباً لجمع همّه وفراغ قلبه، لأن المتباكي الصادق مجتمع الهمّ فيما يبكيه والحزين حاضر القلب مجموع الفكر ومشغول عن سوى مبكيه، من ذلك ما روينا عن ابن عباس إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبكِ عين أحدكم فليبكِ قلبه فبكاء القلب حزنه وخشيته، أي فإن لم تبكوا بكاء العلماء عن الفهم فتحزن قلوبكم على فقد البكاء وليخشَ كيف لم يوجد فيكم وصف أهل العلم، وقد روينا في غرائب التفسير من معنى قوله تعالى: (وَإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ) البقرة: 74 قال: هي العين الكثيرة البكاء (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الْمَاءُ) البقرة: 74 قال: هي العين القليلة البكاء (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله) البقرة: 74 قال: هو بكاء القلب من غير دموع عين قال ثابت البناني: رأيت في النوم كأني أقرأ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن، فلما فرغت قال هذه القراءة فأين البكاء؟ وكان الحسن يقول: والله ما أصبح اليوم عبد يتلو هذا القرآن يؤمن به إلا كثر حرنه وقل فرحه وكثر بكاؤه وقل ضحكه وكبر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته. والناس في التلاوة على ثلاث مقامات، أعلاهم من شهد أوصاف المتكلم في كلامه ويعرف أخلاقه بمعاني خطابه، وهذا مقام العارفين من المقربين، ومنهم من يشهد ربه تعالى يناجيه بألطافه ويخاطبه بإنعامه وإحسانه، فمقام هذا الحياء والتعظيم وحاله الإصغاء والفهم، وهذا للأبرار من أصحاب اليمين، ومنهم من يرى أنه يناجي ربّه عزّ وجلّ فمقامه السؤال والتملّق وحاله الطلب والتعلّق، وهذا للمعترفين والمريدين وهم من خصوص أصحاب اليمين، وينبغي للعبد أن يشهد في التلاوة أن مولاه يخاطبه بالكلام لأنه سبحانه متكلّم بكلام نفسه وليس للعبد في كلامه كلام إنما جعل له حركة اللسان بوصفه وتيسير الذكر بلسانه بحكم ربه عزّ وجلّ حداً للعبد ومكاناً له، كما كانت الشجرة وجهة لموسى عليه السلام وكلمة الله عزّ وجلّ منها، ويقال: إن كل حرف من كلام الله عزّ وجلّ في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف وإن الملائكة لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يتلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل وهو ملك اللوح المحفوظ فيرفعه فيقله بإذن الله عزّ وجلّ ورحمته إذ كان الله تعالى أطاقه ذلك لما استعمله به، وقال جعفر بن محمد الصادق: والله لقد تجلّى الله عزّ وجلّ لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون، وقال أيضاً: وقد سألوه عن شيء لحقه في الصلاة حتى خرّ مغشياً عليه فلما سُرِيَ عنه قيل له في ذلك فقال: ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته تعالى، وكذلك الخصوص يرددون الآية بقلوبهم على قلوبهم ويتحقّقون بها في مشاهدتهم بمدد من شهيدهم وسيدهم حتى يستغرقهم الفهم فيغرقون في بحر العلم، فإن قصرت مشاهدة التالي عن هذا المقام فيشهد أنه يناجيه بكلامه ويتملقه بمناجاته، فإن الله عزّ وجلّ إنما خاطبه بلسانه وكلّمه بحركته وصوته ليفهم عنه بعلمه الذي جعل له ويعقل عنه بفهمه الذي قسم له حكمة منه ورحمة، إذ لو تكلم الجبار عزّ وجلّ بوصفه الذي يدركه سمعه لما ثبت للكلام عرش ولا ثري لتلاشي ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات أنواره فحجب ذلك في غيب علمه عن العقول وستر بصنع قدرته عن القلوب وأظهر للقلوب علوم عقولها وأشهد للعقول عرف معقولها بلطفه وحنانه ورحمته وإحسانه. وبلغنا في الأخبار السالفة أن ولياً من أولياء الله عزّ وجلّ من الصديقين ابتعثه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الفترة إلى ملك من الجبابرة يدعو إلى التوحيد وإلى شريعة الأنبياء، فسأله الملك عن أشياء من معاني التوحيد فجعل الصديق يجيبه عنها بما يقرب من فهمه ويدركه عقله من ضروب الأمثال بما يستعمله الناس بينهم ويتعارفونه عندهم إلى أن قال له الملك: أفرأيت ما يأتي به الأنبياء إذا ادعيت أنه ليس بكلام الناس ولا رأيهم، أمن كلام الله هو؟ قال الحكيم: نعم قال الملك: فكيف يطيق الناس حمله؟ قال الصديق: إنّا رأينا الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها لم يجدوا الدواب والطير تحمل كلامهم فوضعوا لها من النقر والصفير والزجر ما عرفوا أنها تطيق حمله، فكذلك الناس يعجزون أن يحملوا كلام الله ككنهه بكماله وصفته، فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة كصوت الزجر والنقر الذي سمعت به الدواب من الناس ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوءَة في تلك الأصوات من أن شرف الكلام بشرفها وعظم بتعظيمها فكان الصوت للحكمة جسداً ومسكناً والحكمة للصوت نفساً وروحاً، فكما أن أجساد البشر تكرّم وتعزّ لمكان الروح التي فيها وكذلك أصوات الكلام تشرّف وتكرّم للحكمة التي فيها، والكلام على المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان نافذ الحكم في الحق والباطل وهو القاضي العادل والشاهد المرتضى يأمر وينهى ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل أن يقوم قدام شعاع الشمس ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفدوا بأبصارهم ضوء عين الشمس، ولكنهم ينالون من شعاع الشمس ما تحيا به أبصارهم ويستدلون به على حوائجهم، فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه الشاهد أمره كالشمس الغزيرة الظاهرة مكنون عنصرها، وكالنجوم الزاهرة التي قد يهتدي بها من لا يقع على سرّها، فالكلام أعظم وأشرف من ذلك هو مفتاح الخزائن النفسية وباب المنازل العالية ومراقي الدرجات الشريفة وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت، ودواء الأسقام التي من سقي منه لم يسقم إذا لبسه من لم يتسلّح به أبدى عورته وإذا تسلح به غير أهله لم يخرج إلاّ منهم نقلت هذا نقلاً من كلام الصديق الحكيم الذي خاطب به الملك فاستجاب له بإذن الله عزّ وجلّ فهذا وصف كلام الله عزّ وجلّ الذي جعله الله لنا آية وعبرة ونعمة علينا ورحمة، فانظر إلى الحكيم كيف جعل عقول البشر في فهم كلام الله العظيم بمنزلة فهم البهائم والطير بالنقر والصفير إلى عقول البشر وجعل النقر والصفير والإفهام من الناس للأنعام والهوام مثلاً لما أفهم الله تعالى به الأنام من معاني كلامه الجليل بما ألهم به من الكلام، إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم، فهذه قدرة لطيفة من قدرته التي لا تتناهى وحكمة محكمة من حكمه التي لا تضاهى، إنه حكيم عليم، ثم ليشهد العبد أنه مقصود بجميع القرآن من فاتحته إلى خاتمه مراد معنى به له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ضربت الأمثال به وفيه جميع ذكره وأوصافه لأن الله سبحانه وتعالى لما تكلم بهذا الكلام وخاطب به المؤمنين كان هو واجدهم وكان حاضراً معهم وقد سوى الله عزّ وجلّ بين المؤمنين في تنزيل القرآن عليهم وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعنى من المعاني فقال: (واذكروا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزل عَلَيْكُم مِنَ الكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ) البقرة: 231 كما قال: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إليْكُمْ كِتَاباً فيهِ ذِكْرُكُمْ) الأنبياء: 10 وكذلك قال: (وَأَنْزَلْنَا إليْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلْنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل: 44، وقال: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلْنَّاسِ أمْثَالَهُمْ) محمد: 3 يعني صفاتهم وقال: ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات كما قال: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إليْكَ آياتٍ بَيِّنَاتٍ) البقرة: 99، وقال عزّ وجلّ: (وَاتَّبعْ مَا يُوحَى إليْكَ واصْبِرْ) يونس: 109 ثم قال: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إليْكُمْ مِنْ رَبِّكُم) الأعراف: 3 وقال: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) هود: 112 غير أنه سبحانه عمّ الجملة بالبصائر والبيان وخصّ بالهدى والرحمة أولي التقي والإيمان، فمن ذلك قوله عزّ وجلّ: (هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الجاثية: 20: (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ) آل عمران: 138، فالموقنون هم المتّقون، والمهديّون هم المرحومون وقد أمرنا بطلب فهم القرآن كما أمرنا بتلاوته. َائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الجاثية: 20: (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ) آل عمران: 138، فالموقنون هم المتّقون، والمهديّون هم المرحومون وقد أمرنا بطلب فهم القرآن كما أمرنا بتلاوته. وروينا عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: اقرؤوا القرآن والتمسوا غرائبه، وقال ابن مسعود: من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن، ومن حديث علي رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي بعثني بالحق نبياً لتفترقنّ أمتي على أصل دينها وجماعتها على اثنين وسبعين فرقة كلها ضالّة مضلّة يدعون إلى النار، فإذا كان ذلك فعليكم بكتاب الله عزّ وجلّ فإن فيه نبأ ما كان قبلكم ونبأ ما يأتي بعدكم وحكم ما بينكم وبين من خالفه من الجبابرة قصمه الله ومن ابتغى العلم من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين ونوره المبين وشفاؤه النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يعوجّ فيقام ولا يزيغ فيستقيم ولا تنقضي عجائبه ولا يخلقه كثرة الرد، هو الذي سمعته الجن فلمّا قضى ولّوا إلى قومهم منذرين فقالوا: يا قومنا (إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد) الجن: 1 من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، وروينا معناه في حديث حذيفة لما أخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاختلاف والفرقة بعده قال: فقلت يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذاك؟ فقال: تعلّم كتاب الله عزّ وجلّ واعمل بما فيه فهو المخرج من ذلك، قال: فأعدت عليه فقال: تعلّم كتاب الله عزّ وجلّ واعمل بما فيه فهو المخرج من ذلك، قال: فأعدت عليه فقال: تعلّم كتاب الله واعمل بما فيه ففيه النجاة ثلاثاً، وعن علي رضي الله عنه قال: ما أسرّ إليّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً كتمه الناس إلاّ أن يؤتي الله عبداً فهماً في كتابه، وعنه رضي الله عنه أنه قال: ومن فهم فسّر جمل العلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَة فَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أُوتِيَ خَيْراً كَثيراً) البقرة: 269، قال: الفهم في كتاب الله عزّ وجلّ وقال أحسن القائلين: (فَفَهَّمْناهَا سُليْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) الأنبياء: 79 فرفع الفهم مقاماً فوق الحكم والعلم وأضافه إليه للتخصيص وجعله مقاماً عاماً فيهما فإذا فهم العبد الكلام وعامل به المولى تحقق بما يقول وكان من أصحابه ولم يكن حاكياً لقائله مثل أن يتلو منه: (إني أَخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ) يونس: 15 ومثل أن يقول: (عليك توكلنا وإليك أَنَبْنَا) الممتحنة: 4، ومثل قوله: (ولنصبرنّ على ما آذيتمونا) إبراهيم: 12 فيكون هو الخائف لليوم العظيم ويكون هو المتوكّل المنيب وهو الصابر على الأذى متوكل على المولى ولا يكون مخبراً عن قائل قاله فلا يجد حلاوة ذلك ولا ميراثه فإذا كان هو كذلك وجد حلاوة التلاوة وتحقق جزء الولاية، وكذلك إذا تلا الآي المذموم أهلها الممقوت فاعلها مثل قوله تعالى: (وَهُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الأنبياء: 1 وقوله: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) النجم: 29، ومثل قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحجرات: 11 فما أقبح من يعيب ذلك وهو من أهله وما أعظم أن يذم أهل ذلك وهو بوصفه فهذا من حجج القرآن عليه فلا يجد مع ذلك حلاوة المناجاة ولا يسمع خطاب المناجي لأن وصفه المذموم قد حجبه وهواه المردي عن حقيقة الفهم قد حرمه، ولأن قسوة قلبه عن الفهم صرفه وكذبه في حاله عن البيان وأخرسه، فإذا كان هو المتيقظ المقبل فهو التائب الصادق سمع فصل الخطاب ونظر إلى الداعي وله استجاب، وقد اشترط الله عزّ وجلّ للإنابة التبصرة وحضور القلب للتذكرة فقال عزّ وجلّ: (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنيبٍ) ق: 8 وقال وما يذكر إلا من ينيب وقال عزّ وجلّ: (إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأََلْبَابِ) الزمر: 9 الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، فالاستقامة على التوبة من الوفاء بالعهد وتعدّي الحدود من نقض الميثاق وقلة الصدق والإنابة هي التوبة والإقبال على الله عزّ وجلّ، والألباب هي العقول الزاكية والقلوب الطاهرة وينبغي للتالي الخائف الناصح لنفسه وللخلق السليم القلب إذا تلا آي الوعد والمدح ومحاسن الوصف ومقامات المقربين أن لا يشهد نفسه هناك ولا يراها مكاناً لذلك بل يشهد للمؤمنين فيها وينظر إلى الصديقين منها سلامةً ونصحاً، فإذا تلا الآي الممقوت أهلها المتهدّد عليها المذموم وصفها من مقامات الغافلين وأحوال الخاطئين شهد نفسه هناك وأنه هو المخاطب المقصود بذلك خوفاً منه وشفقاً، فبهذه المشاهدة يرجو للخلق ويخاف على نفسه ومن هذه الملاحظة يسلم قلبه للعباد ويمقت نفسه. موم وصفها من مقامات الغافلين وأحوال الخاطئين شهد نفسه هناك وأنه هو المخاطب المقصود بذلك خوفاً منه وشفقاً، فبهذه المشاهدة يرجو للخلق ويخاف على نفسه ومن هذه الملاحظة يسلم قلبه للعباد ويمقت نفسه. وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول اللهم إني أستغفرك لظلمي وكفري قال: فقلت يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما بال الكفر؟ فتلا قوله: (إنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) إبراهيم: 34 فإن قلب هذان المعنيان على عبد حتى يشهد نفسه في المدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 والوصف ويشهد غيره في الذم والمقت انقلب قلبه عن وجهة الصادقين وتنكب بقصده عن صراط الخائفين فهلك وأهلك لأن من شهد البعد في القرب لطف به بالخوف، ومن شهد القرب في البعد مكر به في الأمن، وقال بعض العلماء: كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتلوه على أصحابه ثم رفعت إلى مقام فوقه فكنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جاء الله بمنزلة أخرى فأنا الآن أسمعه من المتكلم عزّ من قائل فعندها وجدت له نعيماً ولذة لا أصبر عنها، وقال عثمان رضي الله عنه: أو حذيفة لو طهرت القلوب لم تشبع من تلاوة القرآن، وقال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة، وقال بعض علمائنا: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر، وعن علي رضي الله عنه: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب، وعن أبي سليمان الداراني: إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال وذكر خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها لما جاوزتها إلى غيرها. وروينا عن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها ولا يفرغ منها، وحدثنا عن بعض العارفين قال: لي في كل جمعة ختمة؛ وفي كل شهرختمة؛ وفي كل سنة ختمة؛ ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد، يعني ختمة التفهم والمشاهدة، وكان هذا يقول أقمت نفسي في العبودية مقام الأجراء فأنا أعمل مياومة ومجامعة ومشاهرة ومسانهة وإنما حجب الخلق عن فهم كنه الكلام ومعرفة سرّ المراد لأنه حجبهم عن حقيقة كنه معرفته وإنما أعطاهم من معرفة الكلام بقدر ما أعطاهم من معرفة المتكلم إذ بمعاني كلامه تعرف معاني صفاته وأفعاله وأحكامه ولأن معاني كلامه من معاني أوصافه وأخلاقه، فلذلك جاء فيه السهل اللطيف والشديد العسوف والمرجو والمخوف، لأن من أوصافه الرحمة واللطف والانتقام والبطش، فلما لم يصلح أن يعرفوه كعلمه بنفسه لم يصلح أن يعلم كنه كلامه إلا هو، ويعرف كنه صفاته إلا هو، فأعلم الخلق لمعاني كلامه أعرفهم لمعاني الصفات وأعرف العباد بمعاني الأوصاف والأخلاق وغوامض الأحكام أعرفهم بسرائر الخطاب ووجه الحروف ومعاني باطن الكلام، وأحقهم بذلك أخشاهم له أقربهم منه، وأقربهم منه من خصّه بأثرته وشمله بعنايته، فقد جاء في الخبر: أحسن الناس صوتاً بالقرآن من إذا قرأ رأيت أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 يخشى الله، ولا يخشاه حتى يعرفه، ولا يعرفه حتى يعامله ولا يعامله حتى يقربه، ولا يقربه حتى يعني به، وينظر إليه، فعندها يعرف سرّ الخطاب ويطلع على باطن الكتاب، فإذا سجد العبد سجود القرآن فليدع في سجدته بمعاني الآية من الخير وليستعذ من معاني شرّها فإن ذلك فعل العلماء بالقرآن والله يحب ذلك، ولتلك المعاني أسجدهم له مثل أن يقرأ قوله عزّ وجلّ: (خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) السجدة: 15، فيقول اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك أو على أوليائك، ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزيدُهُمْ خُشُوعاً) الإسراء: 109، فليقل: اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وعلى هذه المعاني ونحوها وليكن القرآن هو علمه وعمله وذكره ودعاؤه وهمّه وشغله فعنه يسأل وعليه يثاب ومقامه منه وذكره فيه وأحواله فيه مجموع له ذلك كله فيه، فبكلامه عرفه العارفون وبمخاطبته شهد أوصافه الموقنون فعلومهم من كلامه ومواجيدهم عن علومهم ومشاهدتهم عن معاني أوصافه وكلامهم عن مشاهدتهم لأن ضروب الكلام عن الله هي معاني الصفات: فمنه كلام راضٍ ومنه كلام غضبان ومنه كلام منعم وكلام منتقم وكلام جبّار متكبّر وحنّان متعطّف، فإذا كان العبد من أهل العلم بالله والفهم عنه والسمع من الله عزّ وجلّ والمشاهدة له شهد ما غاب عن غيره وأبصر ما عمي عنه سواه، وقد قال سبحانه وتعالى: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ) (وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ) الحاقة: 38 - 39 وقال عزّ وجلّ: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولي الأَبْصَارِ) الحشر: 2 معناه في الفهم أعبروا إليّ فقد أبصرتم فالتاء قد تكون بمعنى تاء التفعل تدخل للتحقيق والوصول بالوصف والمبالغة في الفعل فلما أعطاهم الأيدي والأبصار عبروا بقواهم إلى ما أبصروا ففروا إلى الله عزّ وجلّ من الخلق حين ذكروه بما خلق فخرجوا على معيار حسن الابتلاء ولم ينقصهم البلاء شيئاً فكانوا كما أخبروا كالذي أمر في قوله عزّ وجلّ: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات: 49، ففروا إلى الله ثم قال: (وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ الله إِلهاً آخَرَ) الذاريات: 51 فكانوا هم الموحدون المخلصون له وكان هو المنفرد المستخلص لهم ثم جاوزوا التذكرة بالأشياء إليه فذكروه عنده به، فحينئذ هربوا إليه منه حين هللوه به فلم يتألهوا إلى ما سواه كما لم يعبدوا إلا إياه وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله ففروا إلى الله منه إني لكم منه نذير مبين، وفي الخبر عن ابن مسعود وبعض الرواة يرفعه وقد روينا مسنداً من طريق وهو خصوص العارفين من المحبين والخالصين اطلعوا على السرّ وأوقفوا على الخبر فكانوا مقربين شاهدين أن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً فنقول فظهره لأهل العربية وباطنه لأهل اليقين وحده لأهل الظاهر ومطلعة لأهل الأشراف وهم العارفون المحبون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 والخائفون اطلعوا على لطف المطلع بعد أن خافوا هول المطلع فأودعوا السرّ عند مقام أمين وأوقفوا على الخبر في حال مكين فكانوا لديه مقربين إذ كانوا به شاهدين، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرى الشاهد ما لا يرى الغائب فمن حضر شهد ومن شهد وجد ومن وجد وحد ومن وحد عزز ومن غاب عمي ومن عمي فقد ومن فقد نسي ومن نسي فقد نسي وقد قال الله عزّ وجلّ: (كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسيتَهَا وَكَذلِك الْيَوْمَ تُنْسى) طه: 126 أي تركتها فلم تعبأ بها ولم تنظر إليها وهكذا اليوم تترك فلا ينظر إليك برحمة ولا تكلم بلطف ولا تزلف بقرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الفصل السابع عشر كتاب ذكر نوع من المفصل والموصل من الكلام وفيه مدح العالمين وذم الغافلين عنه وتفسيرالغريب والمشكل من القرآن باختصار الأصول الدالة على المعنى فأما ظاهر الكلام فعلى معنيين عجيبين وهو مجمل مختصر وموصل مكرر فإجماله واختصاره للبلاغة والإيجاز قال تعالى: (إنَّ في هذاَ لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدين) الأنبياء: 106 ومكرره وتفصيله للإفهام والتذكار، قال الله تعالى: (ولَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون) القصص: 51، وقال عزّ وجلّ في المبهم المجمل والتوحيد المفصل: (آلركِتابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيمٍ خَبيرٍ) هود: 1 فهذه ثلاثة أسماء الله لطيف رحيم وقيل بل هي حروف من اسم وهو الرحمن ثم أظهر السبب فقال كتاب أحكمت آياته يعني بالتوحيد ثم فصلت أي بالوعد والوعيد ثم قال من لدن حكيم أي للأحكام خبير أي بالأحكام خبير بالتفصيل للحلال والحرام ألا تعبدوا إلا الله هذا هو التوحيد الذي أحكمه أنني لكم منه نذير وبشير هذا الوعد والوعيد الذي أعمله فمن المختصر للإيجاز قوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا) الإسراء: 59، ففي هذا مختصر ومحذوفان فالمضمر قوله مبصرة المعنى آية مبصرة فأضمر ومحذوفاه قوله فظلموا بها المعنى ظلموا أنفسهم بالتكذيب بها فاختصرت كلمتان من كلمتين للإيجاز ومثله قوله: (وَهِيَ خَاويَةٌ عَلى عُرُوشِها) البقرة: 259 الخواء الخلاء والعروش السقوف وهو جمع عرش فكيف تكون خاوية من العروش والعروش موجودة فيها، فهذا من المختصر المحذوف ومعناه وهي خاوية من ثمرها أو من أهلها واقعة على عروشها ومثله قوله تعالى: (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) البقرة: 177، حذف الفعل وأقيم الاسم مقامه فالمعنى فيه ولكن البرّ برّ من آمن بالله وقد يكون من المبدل فيكون المحذوف هو اسم أبدل الفعل مكانه ولكن البر من آمن بالله فلمّا كان البر وصفه أقيم مكانه وممثل معنى الأوّل قوله عزّ وجلّ: (وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمِ العِجْلَ) البقرة: 93 أي حب العجل، ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) الكهف: 74، ولم يذكر قتله والمعنى بغير نفس قتلها فحذف الفعل ومثله أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الأرض أضمر قوله بغير نفس قتلها أو بغير فساد في الأرض فاكتفى عنه بذكر غير الأولى وكذلك قوله: (مَنْ فِي السَّمَواتِ وَالأرْض) آل عمران: 83 معناه ومن في الأرض وكذلك قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِينِ) التين: 7 هو متصل بقوله سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أحْسَنِ تَقْويمٍ) التين: 4 وفصل بينهما النعت والاستثناء والمعنى فما يكذبك بعد هذا البيان أيها الإنسان بالديانة فأي شيء يحملك على التكذيب بأن تدين اللّّه تعالى وهو أحكم الحاكمين ومن المبدل المضمر أيضاً: (إذاً لأذَقنَاكَ ضِعْفَ الحَياةِ وَضِعْفَ المَماتِ) الإسراء: 75 المعنى ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى فأضمر ذكر العذاب وأبدل الأحياء والموتى بذكر الحياة فأقام الوصف مقام الاسم، ويصلح أيضاً أن يترك الوصف على لفظه ويضمر أهل فيكون ضعف عذاب أهل الحياة وضعف عذاب أهل الممات كما أضمر أهل في ذكر القرية وذكر العير فقال: (وَسئَلِ القرْيَةَ التي كُنَّا فِيها والعَيْرَ التي أقبَلْنَا فيهَا) يوسف: 82 والمعنى: واسأل أهل القرية وأسأل أهل العير، ومن هذا المعنى قوله تعالى: (ثَقُلَتْ في السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) الأعراف: 187 هو من المبدل المضمر، فمبدله ثقلت ومعناه خفيت، أبدل بدلالة المعنى عليه لأن الشيء إذا خفي علمه ثقل وكذلك قوله في السموات معناه على ومضمر أهل والمعنى خفيت على أهل السموات وأهل الأرض لا تأتيكم إلا بغتة يعني فجأة، ومنه قوله عزّ وجلّ: (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُف) يوسف: 85 فيه مضمر ومحذوف، فمحذوفه تزال؛ ومضمره لا التي هي جواب القسم، والمعنى: قالوا تاللّّه لا تزال تفتؤا تذكر يوسف فأضمرت لا وأبدلت تزال بقوله تفتؤا وهي من مختصر الكلام وفصيحه وبليغه وهي لغة لبعض العرب وفي القرآن من كل لغة. ومن هذا قوله عزّ وجلّ: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون) الواقعة: 82 وقوله سبحانه: (بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً) إبراهيم: 28 معناه تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون وكذلك بدلوا شكر نعمة الله كفراً بها ومثله (فَكَأيّن مِنْ قَرْيَةٍ أهْلَكْنَاهَا) الحج: 45: (وَكَأيّن مِنْ قَرْيَةٍ أمْلَيْتُ لَهَا) الحج: 48 معناه أهل قرية مثل قوله: (وَسئَلِ العَيْرَ) يوسف: 82 المعنى أهل العير والعير هي الإبل المجهولة وهذا الذي تسميه النحويون المجاز، وهكذا قوله: (إنَّ هَذَ القُرْآنَ يَهْدِي لِلًَّتي هِيَ أَقْوَمْ) الإسراء: 9 معناه للطريقة التي هي أقوم، ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (وَقُلْ لِعَبادي يَقُولُوا الَّتي هِي أَحَسَنُ) الإسراء: 53 أي يقولوا الكلمة التي هي أحسن ومثل هذا قوله: (ادْفَعْ بِالَّتي هِي َ أَحْسَنُ السَيِّئَةَ) المؤمنون: 96 أي بالكلمة أو بالفعلة التي هي أحسن ومثل قوله: (إِنَّ الذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) الأنبياء: 101 أي الكلمة الحسنى والوجه الآخر أن الحسنى اسم لا نعت فمعناه الجنة وهكذا قوله: (عَلى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) البقرة: 102 أي على عهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ملك سليمان فأضمر قوله عهد، ومثل قوله: (وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلى رُسُلِكَ) آل عمران: 194 أي على ألسنة رسلك فأضمر ألسنة ومن المكنّى المضمر قوله تعالى: (وَمَا أَنْسانِيهُ إلاّ الشَّيْطَانُ) سورة الكهف: 63 أضمر الحوت وذكره واسم موسى للاختصار والمعنى، وما أنساني ذكر الحوت لك إلا الشيطان ومثله قوله: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدرِ) القدر: 1 أي أنزلنا القرآن فكنّي عنه ولم يتقدّم له ذكر وكذلك قوله: (حَتّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) ص: 32 يعني توارت الشمس بحجاب الليل فكنِّي عنها ولم يجرِ لها ذكر ومثله وقوله عزّ وجلّ: (وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا) فصلت: 35 أي الكلمة الطيبة أو الفعلة التي هي أحسن وبمعناه قوله تعالى: (وَلاَ يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابرُون) القصص: 80 يعني كلمة الزهد في الدنيا ومقالة الترغيب والرغبة في الآخرة عائد على قوله تعالى: (وَيْلَكُمْ ثَوَابٌ الله خَيْرٌ) القصص: 80 أي هذه المقالة ومن المبدل المختصر قوله عزّ وجلّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بالإِثْم) البقرة: 206 معناه حملته العزة على الإثم أي حمله التعزز والأنفة على الإثم ولم يبال فأخذته بمعنى حملته بالإثم بمعنى على الإثم. ومن هذا قوله: (لاَ تأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) البقرة: 255 أي لا تحمله سنة ولا نوم لأن السنة تحمل العبد أي تذهب به عن التيقظ ومن المنقول المنقلب قوله عزّ وجلّ: (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِِهِ) الحج: 13 اللام في لمن منقولة والمعنى يدعو من لضره أقرب من نفعه ومثله: (لَتَنُوأُ بِالعُصْبَة) القصص: 76 معناه لتنوء العصبة بها أي لتثقل بحملها لثقلها عليهم ومثله قوله: (وَطُورٍ سِنِين) التين: 2 سلام على آل ياسين وهو مما قلب اسمه لازدواج الكلم المعنى طورسينا وسلام على الياسين قيل إدريس لأن في حرف ابن مسعود سلام على إدريس ونحوه جعلوا القرآن عضين أي أعضاء كأنهم عضوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وبمعناه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت المعني وجعل منهم عبد الطاغوت ويصلح أن يكون معطوفاً على قوله: (مَنْ لَعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ) المائدة 60، ومن (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) المائدة: 60 ومن قرأ الطاغوت بالكسر فإنه يجعل عبد أسماً وأضافه إلى الطاغوت بمعنى وعبدة وعباد وفيه خمس لغات أخرى عباد الطاغوت وعبد الطاغوت وعبدة الطاغوت وعباد الطاغوت وعبد الطاغوت، وأما عبد الطاغوت نصباً فهو بمعنى الفعل من العبادة ومن المضمر المختصر أيضاً قوله عزّ وجلّ: (أَلاَ إنَّ عَاداً كَفَروا رَبَّهُمْ) سورة هود: 60 ضميره إحدى كلمتين كفروا نعمة ربهم كفروا توحيد ربهم فأضمر للاختصار وانتصاب الاسم لسقوط الخافض وفيها وجه غريب إلاّ أنه محمول على المعنى لأنه أي غطوا ربهم التغطية أي غطوا آياته وما دعا إليه من الحق والمعنى كفرهم أي غطى عليهم بما غطوا ربهم هكذا حقيقة في التوحيد إذ الأولية في كل فعل منه وهم ثوان فيما بعد فهو بمعنى قوله: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) الأنعام: 9 اللبس التغطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ومنه قوله: (الَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاءً) العنكبوت: 41، ما نعبدهم مضمره يقولون ما نعبدهم ومثله فظلتم تفكرون إنّا لمغرمون أي يقولون إنّا لمغرمون وعلى هذا المعنى وجه قوله: (فَمَالِ هؤُلاَء الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُون حَدِيثاً) النساء: 78 ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، المعنى فيه يقولون: ما أصابك على معنى الإخبار عنهم والذم لهم فهلكت بذلك القدرية لجهلهم بعلم العربية فظنوا أنه ابتداء شرع وبيان من الله عزّ وجلّ وقد أحكم الله عزّ وجلّ ابتداء شرعه وبيانه بأوّل الآية في قوله: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله) النساء: 78، وقد كان ابن عباس يقول إذا اشتبه عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في كلام العرب فإن الرجل يتلو الآية فيعيا بوجهها فيكفره وقرأتها في مصحف عبد الله بن مسعود فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً قالوا ما أصابك من حسنة فهذا كما أنبأتك وقد رأيت في مصحف عبد الله والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم فهذا من ذلك، ومن المضمر قوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً في الأَرْضِ يَخْلُفُونَ) الزخرف: 60 ليس أنه يجعل من البشر ملائكة ولكن معناه لجعلنا بدلاً منكم ملائكة ويصلح لجعلنا بدلكم بمعنى منكم، ومن المبدل له قوله عزّ وجلّ: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون: 61 اللام بدل من الباء المعنى وهم بها سابقون لأنهم لو سبقوها لفاتتهم، وعلى هذا المعنى قال بعضهم إن قوله عزّ وجلّ: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) الأعراف: 143، أي بالجبل كان الجبل حجاباً لموسى فكشفه عنه فتجلّى به كما قال من الشجرة أن يا موسى إنني أنا الله فكانت الشجرة وجهة لموسى كلمه الله عزّ وجلّ منها ومثله: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ) طه: 71 معناه على جذوع، وكذلك: (فَلا تَجْعَلْني فِي القَوْمِ الظَّالِمين) المؤمنون: 94 معناه أي مع القوم وبمعناه: (أمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فيه) الطور: 38 أي عليه ويصلح به وكذلك قوله: (مُسْتَكْبرينَ بِهِ) المؤمنون: 67 أي عنه يعني عن القرآن، فعلى هذا مجاز قوله تعالى: (فَاسْألْ بِهِ خَبيراً) الفرقان: 59 أي سل عنه، فحروف العوامل يقوم بعضها مقام بعض، ومثله قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بهِ) المزمل: 18 أي فيه يعني في اليوم مثله: (لَئِلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌْ إلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا) البقرة: 150 معناه ولا الذين ظلموا فأبدلت إلا بقوله ولا يجوز أن تكون إلا مستأنفة بمعنى لكن الذين ظلموا متصلة بخبرها من قوله: (فَلا تَخْشَوْهُمْ) البقرة: 150 فهو بمعنى قوله: (لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ) النمل: 10 - 11، أي لكن من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فيكون مبتدأ لذكر خبرها بعد وبمعناه قوله تعالى: (وَلاَ تأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُم) النساء: 2، أي مع أموالكم وكذلك قوله: (وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ) المائدة: 6 أي مع المرافق لأنها داخلة في الغسل والحروف العوامل تنوب بعضها عن بعض ولو أظهر مثل هذا المضمر ووصل مثل هذا المحذوف لكانت القراءة ضعيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ومن الموصول المكرر للبيان والتوكيد قوله عزّ وجلّ: (وَمَا يَتَّبعُ الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ) يونس: 66 قوله له: (إنْ يَتَّبِعُونَ) يونس: 66 مردود ردّه للتوكيد والإفهام كأنه لما طال الكلام أعيد ليقرب من الفهم والمعنى ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء (إِلاَّ الظَّنَّ) يونس: 66 أي أتباعهم الشركاء ظن منهم غير يقين ونحوه من المكرر المؤكد قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم اختصاره الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا فلما قدم الذين استضعفوا وكان المراد بعضهم كرر المراد بإعادة ذكر من آمن منهم للبيان ومثله: (إلاَّ آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أجْمَعينَ) الحجر: 59 (إلاَّ امْرَأَتَهُ) الحجر: 60، فأدخل الاستثناء على الاستثناء وهو يطول في كلامهم لأنه أراد بالنجاة بعض الآل فلما أجملهم أخرج مستثنى من مستثنى وفي هذا دليل أن الأزواج من الآل لأنه استثنى امرأته من آله ومن المكرر للتوكيد قوله تعالى: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ) القصص: 19، مختصره فلما أراد يبطش وقد قيل أن هذا من المختصر المضمر مما أضمر فيه الاسم وحذف منه الفعل وهو غريب، فيكون تقديره فلما أن أراد الإسرائيلي أن يبطش موسى: (بِالَّذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) القصص: 19 فلم يفعلْ، (قَالَ يَا مُوسى أتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي) القصص: 19 فهذا حينئذ من أخصر الكلام وأوجزه ومن المكرر المؤكد قوله عزّ وجلّ: (فَيَنْظُرُ كَيْفَ كان عَاقِبَةُ الَّذينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا همْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) غافر: 21 مفهومه وجائزه فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة فوصل بمن ووكد فكان هم أشد، وقراءتها في مصحف ابن مسعود عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ قوّة ليس فيها كانوا ولا قوله هم وبمعناه وإن قصر قوله تعالى: (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) الزخرف: 33، هذا مما طول للبيان والمعنى لجعلنا البيوت من يكفر بالرحمن فلما قدم من وهي أسماء من يكفر أعيد ذكر البيوت مؤخراً ومن المكني المبهم المشتبه قوله عزّ وجلّ: (ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍٍ) النحل: 75 الشيء في هذا الموضع الإنفاق مما رزق الله وقوله تعالى: (وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) النحل: 76، فالشيء في هذا الموضع الأمر بالعدل والاستقامة على الهدى وكذلك قوله: (فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْني عَنْ شَيْءٍ) الكهف: 70 الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه لا يصلح أن يسأل عنه حتى يبتدئ به فلذلك كني عنه وكذلك العلم على ضربين: ضرب لا يصلح أن يبتدأ به حتى يُسأل عنه وهو مما لا يضيق علمه فلذلك وسع جهله وحسن كتمه، وعلم لا ينبغي أن يُسأل عنه من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية لا يوكل إلى العقول بل يخص بها المراد المحمول فعلم الخضر الذي شرط على موسى عليهما السلام أن لا يسأل عنه حتى يبادئه به من هذا النوع والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 غالب على أمره وقوله عزّ وجلّ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) الطور: 35 يعني الله تعالى أي كيف يكون خلق من غير خالق، ففي وجودهم ثبوت خالق فهم دلالة عليه أنه خلقهم، وروينا ذلك عن ابن عباس وعن زيد بن علي رضي الله عنهما قالا في قوله عزّ وجلّ: (مِنْ غَيْرِ شيْءٍ) النحل: 76، أي من غير رب كيف يكون خلق من غير خالق وقوله عزّ وجلّ: (وَالله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ) النحل: 71 فالبعض الأوّل المفضل في الرزق هم الأحرار والبعض الآخر المفضول هم المماليك ومثله قوله تعالى: (وَقَالَ قَرينُهُ هذَا مَا لَدَيَّ عَتيدٌ) ق: 23 قرنه هذا هو الملك الموكل بعلمه أحضر ما عنده مما علمه من فعله، وقوله عزّ وجلّ: (قَالَ قَرينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيتُهُ) ق: 27 قرينه هذا هو شيطانه المقرون به ومثله قوله تعالى: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيّ ثُمَّ لاَ يُقْصِِرونَ) الأعراف: 202 الهاء والميم المتصلة بإخوان أسماء الشياطين والهاء والميم المتصلة بِيَمُدُّونَ أسماء المشركين أي الشياطين إخوان المشركين يمدّون المشركين في الغيّ ولا يقصرون عنهم في الإمداد وبمعنى هذا قوله تعالى: (إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّْذينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل: 100 الهاء الأولى المتصلة بِيَتَوَلَّوْنَ كناية عن إبليس والهاء المتصلة بالباء من قوله هم به هي اسم الله عزّ وجلّ وقد قيل أيضاً إنها عائدة على إبليس أيضاً فيكون المعنى هم به قد أشركوا في التوحيد أي أشركوه بعبادة الله عزّ وجلّ ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) العاديات: 4 - 5، الهاء الأولى كناية عن الحوافر وهنّ الموريات قدحاً يعني الخيل تقدح بحوافرها فتوري النار فأثرن به أي بالحوافر النقع يعني التراب والهاء الثانية كناية عن الإغارة فوسطن أي توسطن به بالإغارة وهنّ المغيرات صبحاً وسطن جمع المشركين أغاروا عليهم بجمعهم والمشركون غارون وبهذا المعنى قوله عزّ وجلّ: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَات) الأعراف: 57 الهاء الأولى عائدة على السحاب أي أنزلنا بالسحابة الماء وفي قوله به مبدل ومكنى، فالمكنى هو ما ذكرناه من أسماء السحاب والمبدل أن به بمعنى منه ومثل هذا قوله: (يَشْرَبُ بِها عِبَادُ اللهِ) الإنسان: 6 أي منها وهو صريح قوله في المفسر: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً) النبأ: 14 يعني السحاب وهو قوله: (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) الأعراف: 57 وقوله في الهاء الثانية أخرجنا به من كل الثمرات يعني بالماء فجمع بين اسم السحاب والماء بالهاء فأشكل ومن البيان الثاني والثالث للخطاب المجمل قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرآن) البقرة: 185 فلم يفهم إلا أن القرآن أنزل في شهر رمضان ولم يدر أنهاراً أنزل فيه أو ليلاً، فقال في البيان الثاني: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مبَارَكَةٍ) الدخان: 3، فلم يفهم منه إلا أنه أنزل منه ليلاً في ليلة مباركة ولم يدر أي ليلة هي فقال في البيان الثالث: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر: 1 فهذا غاية البيان وبمعناه قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه واستوى آتَيْنَاهُ) يوسف: 22. شياطين إخوان المشركين يمدّون المشركين في الغيّ ولا يقصرون عنهم في الإمداد وبمعنى هذا قوله تعالى: (إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّْذينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل: 100 الهاء الأولى المتصلة بِيَتَوَلَّوْنَ كناية عن إبليس والهاء المتصلة بالباء من قوله هم به هي اسم الله عزّ وجلّ وقد قيل أيضاً إنها عائدة على إبليس أيضاً فيكون المعنى هم به قد أشركوا في التوحيد أي أشركوه بعبادة الله عزّ وجلّ ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) العاديات: 4 - 5، الهاء الأولى كناية عن الحوافر وهنّ الموريات قدحاً يعني الخيل تقدح بحوافرها فتوري النار فأثرن به أي بالحوافر النقع يعني التراب والهاء الثانية كناية عن الإغارة فوسطن أي توسطن به بالإغارة وهنّ المغيرات صبحاً وسطن جمع المشركين أغاروا عليهم بجمعهم والمشركون غارون وبهذا المعنى قوله عزّ وجلّ: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَات) الأعراف: 57 الهاء الأولى عائدة على السحاب أي أنزلنا بالسحابة الماء وفي قوله به مبدل ومكنى، فالمكنى هو ما ذكرناه من أسماء السحاب والمبدل أن به بمعنى منه ومثل هذا قوله: (يَشْرَبُ بِها عِبَادُ اللهِ) الإنسان: 6 أي منها وهو صريح قوله في المفسر: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً) النبأ: 14 يعني السحاب وهو قوله: (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) الأعراف: 57 وقوله في الهاء الثانية أخرجنا به من كل الثمرات يعني بالماء فجمع بين اسم السحاب والماء بالهاء فأشكل ومن البيان الثاني والثالث للخطاب المجمل قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرآن) البقرة: 185 فلم يفهم إلا أن القرآن أنزل في شهر رمضان ولم يدر أنهاراً أنزل فيه أو ليلاً، فقال في البيان الثاني: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مبَارَكَةٍ) الدخان: 3، فلم يفهم منه إلا أنه أنزل منه ليلاً في ليلة مباركة ولم يدر أي ليلة هي فقال في البيان الثالث: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر: 1 فهذا غاية البيان وبمعناه قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه واستوى آتَيْنَاهُ) يوسف: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فهذا البيان الأوّل زيادة على الأشد وهو الوصف إلاّ أنه غير مفسر ثم قال في البيان الثاني: (حَتّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعينَ سَنَةً) الأحقاف: 15، ففسّر الأشد بالأربعين إذا كانت الواو للمدح والوصف في أحد الوجهين ومعناه الجمع قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ) (إنَّ الإنْسَانَ لَفي خُسْرٍ) العصر: 1 - 2 معناه أن الناس لفي خسر أي لفي خسران لقوله: (إنَّ الَّذينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) مريم: 96 ولا يستثنى جماعة من واحد وإنما يستثنى جماعة من جماعة أكثر منهم وإنما وحد الاسم للجنس وكذلك قوله تعالى: (يَا أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً) الانشقاق: 6 معناه يا أيها الناس إنكم كادحون دل عليه قوله عزّ وجلّ: (فَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) الانشقاق: 7 (وَأمَّا مَنْ أُوتِي كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِه) الانشقاق: 10 وإنما وحد النعت لتوحيد الاسم وكذلك قوله عزّ وجلّ: (وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) الأحزاب: 72 معناه حملها الناس كلهم وهذا أحب الوجهين إليّ لقوله عزّ وجلّ: (لِيُعَذِّبَ الله الْمُنَافِقينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكينَ وَالْمُشْرِكَاتِ) الأحزاب: 73 ومثله قوله عزّ وجلّ: (وَإنَّا إذَا أَذَقْنَا الإنْسانَ منَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) الشورى: 48 معناه وإنا إذا أذقنا الناس منا رحمة فرحوا بها فلما وحد الاسم وحد نعته دل عليه قوله تعالى: (وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِم) الشورى: 48 فأظهر الجمع ومن الجمع المراد به الواحد قوله عزّ وجل: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلين) الشعراء: 105 يعني نوحاً وحده لأنه لم يرسل إلى قوم نوح غيره ودلّ عليه قوله تعالى: (إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) الشعراء: 106، فوحّد الجمع ومثله فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء يعني بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده يوم خيبر ومن الجمع المكني قوله عزّ وجلّ: (لَخَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) غافر: 57 يعني في هذا الموضع الدجال ونزل ذلك في الذكر الدجال واستعظامهم لوصفه وكذلك قوله تعالى: (الَّذينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) آل عمران: 173 يعني رجلاً واحداً قاله لهم وهو عروة بن مسعود الثقفي، فجمع لفظه لأجل جنسه والعرب تجمع الواحد للجنس، وكذلك قيل في أحد الوجوه إن قوله عزّ وجلّ: (ثُمَّ أَفيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) البقرة: 199 يعني آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده وهو أوّل من طاف بالبيت وأتاه جبريل وأشعر له المناسك وقد قرأت في بعض حروف السلف من حيث أفاض آدم فهذا شاهد له ومن المقدم والمؤخر لحسن تأليف الكلم ومزيد البيان والإظهار قوله عزّ وجلّ: (مَنْ كَفَرَ بالله مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِيمَان وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْراً) النحل: 106 اختصاره ومؤخره من كفر بالله بعد إيمانه وشرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن وكد بقوله ولكن من شرح بالكفر صدراً لما استثنى المكره وقلبه مطمئن بإيمان ولم يجعل المكره آخر الكلام لئلا يليه قوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) النحل: 106 فيتوهم انه خبره وجعل آخر الكلام فعليهم غضب من الله وهو في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 المعنى مقدم خبر الأوّل من قوله من كفر بالله من بعد إيمانه فأخر ليليه قوله تعالى: (ذلِكَ بأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) النحل: 107 لأنه من وصفهم فيكون هذا أحسن في تأليف الكلام وسياق المعنى وكذلك قوله تعالى: (وَقيلِهِ يَا رَبِّ إنَّ هؤُلاَءِ قَوْمٌ) الزخرف: 88، هذا من المعطوف المضمر ومن المقدم والمؤخر فعاطفه قوله وعنده علم الساعة وضميره قوله وعلم قيله والمعنى وعنده علم الساعة وعلم قيله يا ربّ هذا على حرف من كسر اللام فأما من نصبها فإنه مقدم أيضاً ومحمول على أن المعنى أي وعنده علم الساعة ويعلم قيله يا ربّ، فأما من رفع اللام فقرأ وقيله فتكون مستأنفة على الخبر وجوابها الفاء من قوله: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) الزخرف: 89 أي قوله إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم، وقد تكون الواو في قوله وقيله للجمع مضمومة إلى علم الساعة والمعنى وعنده علم الساعة وعنده قيله يا رب جمع بينهما بعند فهذا مجاز هذه المقارى الثلاث في العربية ومما حمل على المعنى قوله عزّ وجلّ: (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) الأنعام: 96ثم قال: (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً) الأنعام: 96 فلو لم يحمل على المعنى لكانت الشمس والقمر خفضاً إتباعاً للفظ قوله فالق وجاعل ولكن معناه وجعل الشمس والقمر حسباناً وهي على قراءة من قرأ وجعل الليل سكناً متبعة لجعل ظاهر أو بمعناه قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرجُلَكُمْ) المائدة: 6 في قراءة من نصب اللام محمولاً على معنى الغسل من قوله عزّ وجلّ: (فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ) المائدة: 6 أيضاً، ومن قرأ وأرجلكم خفضاً حمله على اتباع الإعراب من قوله عزّ وجلّ: (بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) المائدة: 6 فأتبع الإعراب بالإعراب قبله لأن مذهبه الغسل لا المسح واختيارنا نصب اللام في المقروء على نصب الغسل واتباع الوجه واليدين إلا أنه روي عن ابن عباس وأنس بن مالك نزل القرآن بغسلين ومسحين وسنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غسل الأقدام فنحن نفعل كما فعل. وقيله للجمع مضمومة إلى علم الساعة والمعنى وعنده علم الساعة وعنده قيله يا رب جمع بينهما بعند فهذا مجاز هذه المقارى الثلاث في العربية ومما حمل على المعنى قوله عزّ وجلّ: (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) الأنعام: 96ثم قال: (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً) الأنعام: 96 فلو لم يحمل على المعنى لكانت الشمس والقمر خفضاً إتباعاً للفظ قوله فالق وجاعل ولكن معناه وجعل الشمس والقمر حسباناً وهي على قراءة من قرأ وجعل الليل سكناً متبعة لجعل ظاهر أو بمعناه قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرجُلَكُمْ) المائدة: 6 في قراءة من نصب اللام محمولاً على معنى الغسل من قوله عزّ وجلّ: (فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ) المائدة: 6 أيضاً، ومن قرأ وأرجلكم خفضاً حمله على اتباع الإعراب من قوله عزّ وجلّ: (بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) المائدة: 6 فأتبع الإعراب بالإعراب قبله لأن مذهبه الغسل لا المسح واختيارنا نصب اللام في المقروء على نصب الغسل واتباع الوجه واليدين إلا أنه روي عن ابن عباس وأنس بن مالك نزل القرآن بغسلين ومسحين وسنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غسل الأقدام فنحن نفعل كما فعل. وقوله عزّ وجلّ: (وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزِاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً) طه: 129 من المقدم والمؤخر، فالمعنى فيه ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً وبه ارتفاع الأجل ولولا ذلك لكان نصباً كاللزام فأخر لتحسين اللفظ وبمعناه قوله عزّ وجلّ: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) الأعراف: 187 المعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ بها أي ضنين بعلمها ومثله قوله تعالى: (أَوْ نُنْسِهَا نَأَتِ بخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) البقرة: 106 أي نأت منها بخير فقدم بخير وأخر منها فأشكل ومن المؤخر بعد توسط الكلام قوله عزّ وجلّ: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) الانشقاق: 19 في قراءة من وحد الفعل هو متصل بقوله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً) الانشقاق: 6 لتركبن طبقاً عن طبق أي حالاً بعد حال في البرزخ فأخر الأحوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 للقرار في الدار وكذلك هو في قراءة من جمع فقال لتركبن أيها الناس فيكون الإنسان في معنى الناس كما ذكرناه آنفا، ويكون الجمع عطفاً على المعنى وإنما وحد للجنس فكأنه قال يا أيها الناس لتركبن طبقاً عن طبق فأخر هذا الخبر لما توسطه من الكلام المتصل بالقصة ومعناه التقديم، ومثل هذا قوله عزّ وجلّ: (وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيْطَانَ) النساء: 83 وقوله: (إلاَّ قَليلاً) النساء: 83 هو متصل بقوله: (لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إلاَِ قَليلاً) النساء: 83 وآخر الكلام: (لاََتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ) النساء: 83، وقد قيل إن قوله إلا قليلاً مستثنى من الأول في قوله: (وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوفِ أَذاعُوا بِهِ) النساء: 83 إلاّ قليلاً منهم وفي هذا بعد والأول أحب إليّ، وعلى هذا المعنى قرأ ابن عباس في رواية عنه لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم جعله متصلاً بقوله تعالى: (مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) النساء: 147 إلا من ظلم وصار آخر الكلام لا يحب الله الجهر بالسوء من القول فاصلاً ومثل هذا قوله تعالى: (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأَرْضِ) الأنفال: 73 إنما هو من صلة قوله: (وَإن اسْتَنْصَرُوكمْ في الدّينِ فَعَلَيْكمُ النَّصْرُ) الأنفال: 72 إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض. وكذلك قوله في أوّل السورة: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَريمٌ) الأنفال: 74 كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ليس هذا من صلة الكلام إنما هو مقدم ومتصل في المعنى بقوله: (قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُول) الأنفال: 1 و (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ) الأنفال: 5، أي فصارت أنفال الغنائم لك إذ أنت راضٍ بإخراجك وهم كارهون فاعترض بينهما الأمر بالتقوى والإصلاح والوصف بحقيقة الإيمان والصلاح فأشكل فهمه، وعلى هذا قوله عزّ وجلّ: (حَتّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ إلاّ قَوْلَ إبْراهيمَ لأبيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) الممتحنة: 4 إنما هو موصول بقوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبْراهيمَ وَالََّذينَ مَعَهُ إلاّ قَوْلَ إبْراهيمً لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَك) الممتحنة: 4 لأنها نزلت في قولهم فقد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك عند قوله: لأستغفر لك ربّي فقالوا: فهلاّ نستغفر لآبائنا المشركين، فنزلت هذه الآية ليستثني القدوة في إبراهيم في هذا ثم نزلت الآية الأخرى معذرة له أوعده إياه إلى أن علم موته على الكفر فقال وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه الآية، وكذلك قوله عزّ وجلّ: (وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ ديناً فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ) المائدة: 3، وهذا متصل بقوله: (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ) النحل: 115 إلى آخر المحرمات، ثم قال: (فَمَنْ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ) المائدة: 3 يعني مجاعة ومثل ما ذكرناه من علم القرآن كثير وإنما نبهنا بيسير على كثير ودللنا بنكت على جم غفير ليستدل بما ذكرناه على نحوه ويتطرق به إلى مثله وهذا كله على ضروب كلام العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ومعاني استعمالهم ووجوه استحسانهم أنه في كلامهم المطوّل للبيان والمختصر للحفظ والمقدم والمؤخر للتحسين وكله فصيح بليغ، لأن وصف البلاغة عندهم رد الكثير المنثور إلى القليل المجمل وبسط القليل المجمل إلى المبثوث المفسر فالمقصر من الكلام عندهم مع الحاجة إلى المعاني المتفرقة عجز والمطول منه مع الاكتفاء بالمعنى الجامع منه عيّ، فلما خاطبهم بكلامهم أفهمهم بعقولهم ومستعملاتهم ليحسن ذلك عندهم فيكون حجة عليهم من حيث يعقلون لأنه أمرهم بما يعلمون وما يستحسنون حكمة منه ولطفاً، فذلك أيضاً على هذه المعاني يفهم الخصوص من مكانهم ومشهدهم على علوّ مقامهم في مكان ما أظهر لهم من العلم به ونصيب ما قسم لهم من العقل عنه، فهم متفاوتون في الأشهاد والفهوم حسب تفاوتهم في الأنصبة من العقول والعلوم إذ القرآن عموم وخصوص ومحكم ومتشابه وظاهر وباطن؛ فعمومه لعموم الخلق، وخصوصه لخصوصهم وظاهره لأهل الظاهر وباطنه لأهل الباطن والله واسع عليم. فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فإذا صفا القلب بنور اليقين وأيد العقل بالتوفيق والتمكين وتجرد الهم من التعلق بالخلق وتأله السر بالعكوف على الخالق وخلت النفس من الهوى سرت الروح فجالت في الملكوت الأعلى كشف القلب بنور اليقين الثاقب ملكوت العرش عن معاني صفات موصوف وأحكام خلاق مألوف وباطن أسماء معروف وغرائب علم رحيم رؤوف فشهد عن الكشف أوصاف ماعرف فقام حينئذ بشهادة ما عرف فكان ممن قال سبحانه: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) البقرة: 121، فحق التلاوة للمؤمنين لأنه إذا أعطاه حقيقة من الإيمان أعطاه مثلها من معناه ومعدنها حقيقة من مشاهدة، فكانت تلاوته عن مشاهدة وكان مزيده عن معنى تلاوته وكان ذلك على معيار حقيقة من إيمانه كما قال: (وإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إيماناً) الأنفال: 2، أولئك هم المؤمنون حقّاً فيكون العبد بوصف من نعت بالحضور والإنذار وخص بالمزيد والاستبشار في قوله عزّ وجلّ: (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرينَ) الأحقاف: 29 وفي قوله عزّ وجلّ: (فَزَادَتْهُمْ إيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) التوبة: 124 ويكون من نعت من مدحه بالعلم وأثنى عليه بالرجاء وصفه بالخوف في قوله تعالى: (يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لاَ يَعْلَمُونَ) الزمر: 9، وقال عزّ وجلّ: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) السجدة: 16 فكان هذا من أهل الله وخاصته ومن محبيه وخالصته. كما روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل القرآن أهل الله وخاصته من خلقه وقال ابن مسعود لا على أحدكم أن يسأل عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله وهذا كما قال لأنك إذا أحببت متكلماً أحببت كلامه وإذا كرهته كرهت مقاله، وقال أبو محمد سهل: من علامة الإيمان حب الله عزّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وجلّ، ومن علامة حب الله حب القرآن ومن علامة حب القرآن حب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلامة حب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتباعه، وعلامة اتباعه الزهد في الدنيا، وحدثونا عن بعض المريدين قال: كنت في جدة إرادتي قد لهجت بتلاوة القرآن ثم رهقتني فترة فبقيت أياماً لا أقرأ فهتف بي هاتف من قبل الله عزّ وجلّ: إن كنت تحبني فلم جفوت كتابي أما ترى ما فيه من لطيف عتابي وقال بعض العارفين لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد ويعرف منه النقصان والمزيد ويستغني بالمولى عن العبيد وأقل ما قيل في العلوم التي يحويها القرآن من ظواهر المعاني المجموعة فيه أربعة وعشرون ألف علم وثمانمائة علم إذ لكل آية علوم أربعة: ظاهر، وباطن، وحد، ومطلع، وقد يقال إنه يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتين من علوم إذ لكل كلمة علم وكل علم وصف فكل كلمة تقتضي صفة وكل صفة موجبة أفعالاً حسنة وغيرها على معانيها فسبحان الفتّاح العليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الفصل الثامن عشر كتاب ذكر الوصف المكروه من نعت الغافلين فإذا خالف التالي هذا الوصف الذي شرحناه أو كان على ضد ذلك من السهو والغفلة والعمى والحيرة محدثاً لنفسه مصغياً إلى هواه ووسوسة عدوّه متوهماً للظنون عاكفاً على الأماني حقت عليه أن يكون بمعاني ما قال الله عزّ وجلّ: (وَمِنْهُمْ أُمِيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلاّ أَمَانِيَّ) البقرة: 78 يعني إلا تلاوة القرآن لا غير وإن هم إلا يظنون فوصفهم بالظن وهو ضد اليقين، كما أخبر عن الظانين في قولهم: إن نظن إلا ظنّاً وما نحن بمستيقنين وبمعنى ما قال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ في السَّمَواتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) يوسف: 105، فالقرآن من أجل آيات الأرضين والسموات الدالة على فاطرهما ومنزله، وكان يوصف من يهدده بعلمه فيه عند استماعه لكلامه العزيز متهاوناً به مناجياً لغيره أن يقول تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) الإسراء: 47، وبمثل من يسمع وقلبه مشغول عن المسموع بما يضره عما ينفعه حتى إذا خرج عن الكلام سأل من حضر بقلبه ماذا فهم من الخطاب الذي كان هو عنه بغفلته قد غاب وقد كان حاضراً بجسمه حجة عليه فمن ذلك قوله عزّ وجلّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إِذاَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً) محمد: 16، قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذينَ طَبَعَ الله عَلى قُلُوبِهِمْ) محمد: 16 أي عن فقه الخطاب فلم تسمعه القلوب ولم تعه واتبعوا أهواءهم يعني أباطيلهم وظنونهم الكاذبة، ويقال: إن العبد إذا تلا القرآن واستقام نظر الله إليه برحمته فإذا قرأ القرآن وخلط ناداه الله عزّ وجلّ ما لك ولكلامي وأنت معرض عني دع عنك كلامي إن لم تتب إليّ. وروينا في الإسرائيليات أوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيه موسى وداود عليهما السلام مر عصاة بني إسرائيل أن لا يذكروني فإني آليت على نفسي أن أذكر من ذكرني وإني أذكرهم بلعنة وكان بوصف من أخبر عنه إذ يقول تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الأَذْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) الأعراف: 169 الآيَة، وهذا وصفهم الظن الكاذب والرجاء المختلف اللذان لم يفترقا إلى خوف وإشفاق عصوا خالقهم عاجلاً وتمنوا عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 المغفرة آجلاً جهلاً منهم بحكمته وإعراضاً عن أحكامه، قال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ ميثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى الله إلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فيهِ) الأعراف: 169، ثم أخبر عن علمهم بذلك علم قول وخبر لا علم يقين ومعاينة، قال سبحانه: (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) الأعراف: 169 أي قرؤوا هذا وعلموه ولم يعملوا به فلم ينتفعوا بشيء منه، فكان هذا توبيخاً لهم وتقريعاً كقوله تعالى: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) البقرة: 93 وفيها وجه غريب ودرسوا ما فيه أي محوه بترك العمل به والفهم له من قولك: درست الريح الآثار إذا محتها وخط دارس وربع دارس إذا محي وعفي أثره وهذا المعنى مواطئ لقوله تعالى: (نَبَذَ فَريقٌ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ الله وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) البقرة: 101 واتبعوا ما تتلو الشياطين أي ما تتبع وتهوى ومواطئ لقوله تعالى: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرُوْا بِهِ ثَمَناً قَليلاً فَبِئسَ مَا يَشْتَروُنَ) آل عمران: 187 فسمي ترك العمل منهم به في كل حالة طرحاً له وإلقاء ونفياً له وبيعاً له وبالدنيا اشتراء وكل آية في التهدد والوعيد فللخائفين منها وعظ وتخويف وللغافلين عنها وصف وتعريف علمه من علمه كقوله تعالى في ذكر النار: (ذلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّْقُونِ) الزمر: 16، وقال في خبرها أعدت للكافرين، وقال بعض السلف: إن العبد ليفتتح سورة فتصلّي عليه الملائكة حتى يفرغ منها وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها، فقيل: وكيف ذلك؟ قال إذا أحل حلالها وحرم حرامها صلت عليه وإلا لعنته، وقال بعض العلماء: إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم ألا لعنة الله على الكاذبين وهو منهم، وقال سفيان في قوله تعالى: (سَأَصرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الأعراف: 146، قال: أصرف عنهم فهم القرآن، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عظمت أمتي الدنيا والدرهم نزع منها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرموا بركة الوحي، قال الفضيل: حرموا فهم القرآن وفي الأخبار من ذم قراءة البطالين أكثر من أن تذكر، فمنها ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال أكثر منافقي أمتي قراؤها، وكان الحسن يقول: إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملاً فأنتم تركبونه فتقطعون به مراحله وإن من كان قبلكم رأوه رسائل أتتهم من ربّهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار، وكان ابن مسعود من قبله يقول أنزل عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 عملاً إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفاً وقد أسقط العمل به. وفي حديث ابن عمر وحديث جندب لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها وما ينبغي أن يقف عليه منها كما تعلمون أنتم القرآن، ثم بعد لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرآ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما أمره ولا زجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل وهذا كما قال لأن المراد والمقصود بالقرآن الائتمار لأوامره والانتهاء عن زواجره إذ حفظ حدوده مفترض ومسؤول عنه العبد ومعاقب عليه وليس حفظ حروفه فريضة ولا عقاب على العبد إذا لم يحفظ ما وسعه منه قال الله عزّ وجلّ: (إنَّا سَنُلْقي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقيلاً) المزمل: 5 أي العمل به ثقيل وإلا فقد يسره للذكرى، ومن ذلك الخبر المأثور عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ولانت له جلودكم فإذا اختلفتم فلستم تقرؤونه وفي بعضها فإذا اختلفتم فقوموا عنه. وحدثني شيخ فاضل قرأت عليه القرآن قال: قرأت القرآن على شيخ لي فلما ختمت رجعت إليه لأقرأ فانتهرني وقال: جعلت القرآن عليّ عملاً اذهب فأقرأ على الله عزّ وجلّ فانظر ماذا يسمعك منه ويفهمك عنه وقد كان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من لا يحفظ إلا الجزئ والجزءَين والسور المعدودة وسورتين وكان من يحفظ الحزب منه وهو السبع أو البقرة والأنعام علماً فيهم، وقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عشرين ألف صحابي لم يقرؤوا القرآن غير نظر فلم يحفظ القرآن كله منهم إلا ستة اختلف منهم في اثنين، وقال بعضهم: ولم يكن جمعه من الخلفاء الأربعة أحد، وختم ابن عباس على أبي بن كعب وقرأ عبد الرحمن ابن عوف على ابن عباس وقرأ عثمان بن عفان على زيد بن ثابت وقرأ أهل الصفة على أبي هريرة، وكلهم كان متبعاً لأوامره مجتنباً لزواجره عالماً به فقيهاً فيه، وقال يوسف بن أسباط: وقد قيل له إذا ختمت القرآن بأي شيء تدعو؟ فقال بأي شيء أدعو أستغفر الله عزّ وجلّ مائة مرة من تلاوتي، وكان يقول: إني لأهم بقراءة القرآن فإذا ذكرت ما فيه خشيت المقت فأعدل إلى التسبيح والإستغفار وأعلم أن للعبد في قراءة القرآن بحسب ما له من تعظيمه والفهم له والمشاهدة منه والمعاملة به لأنه من أكبر شعائر الله في خلقه وأعظم آياته في أرضه الدالات عليه وأسبغ نعمه الكاملة علينا وللعبد من التعظيم له بقدر تقواه، وله من فهم الخطاب وتعظيم الكلام على نحو ما أعطي من معرفة المتكلم وهيبته وإجلاله فإذا عظم المتكلم في قلبه وكبر في فهمه أنعم تدبر كلامه وأطال الفكر في خطابه وأكثر ترداده وتكريره على قلبه وأسرع بذكره عند النازلة به والحاجة إليه فاتقى وحذى ولذلك قال سبحانه: (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ لَعَلَكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 63 وقال كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ولعلهم يتذكرون لأن كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 كلام موقوف على قائله يعظم بتعظيمه ويقع في القلب بعلو مكانه أو يهون بسهولة شأنه، قال الله عزّ وجلّ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءْ) الشورى: 11 في العظمة والسلطان وليس ككلامه كلام في الأحكام والبيان، وقرأت في سورة الحنين من التوراة: يا عبدي أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتابي أنزلته إليك أنظر كم وصلت لك فيه من القول وكم كررت عليك فيه فتأملت طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه، أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك أي عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كف وها أنا ذا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني فجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك أو كما قال وإنما خف القيام على أهل الليل لفهم الخطاب وثقل على أهل النوم لانفصام القلوب عن الفقه وشدة الحجاب كما قال تعالى: (ثَقُلَتْ في السَّمَواتِ وَالأََرْضِ) الأعراف: 187 أى خفي علمها يعني الساعة فثقلت عليهم فسمي ما خفي علمه ثقيلاً والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الفصل التاسع عشر كتاب الجهر بالقرآن ما في ذلك من النيات وتفصيل حكم الجهر والإخفات روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: فضل قراءة السرّ على قراءة العلانية كفضل صدقة السرّ على صدقة العلانية، وفي لفظ آخر الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر به كالمسر بالصدقة، وفي الخير العام يفضل عمل السرّ على عمل العلانية بسبعين ضعفاً، وفي مثله من العموم خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي، وفي الخبر لا يجهر بعضكم على بعض في القراءة بين المغرب والعشاء، وسمع سعيد بن المسيب ذات ليلة في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن عبد العزيز يجهر بالقرآن في صلاته وكان حسن الصوت فقال لغلامه برد اذهب إلى هذا المصلي فمره أن يخفض من صوته، فقال الغلام: إن المسجد ليس لنا وإن للرجل فيه نصيباً فرفع سعيد صوته فقال: يا أيها المصلي إن كنت تريد الله عزَّ وجلَّ بصلاتك فاخفض صوتك وإن كنت تريد الناس فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، قال: فسكت عمر وخفف ركعته فلما سلم أخذ نعليه وانصرف، وهو يومئذٍ أمير المدينة، وعلى ذلك فقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع جماعة من أصحابه يجهرون بالقراءة في صلاة الليل فيصّوب ذلك لهم ويسمع إليهم وقد أمر بالجهر. فيما روي عنه إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليجهر بقراءته فإن الملائكة وعمار الدار يستمعون إلى قراءته ويصلون بصلاته ومرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ثلاثة من أصحابه في الليل مختلفي الأحوال؛ منهم من كان يخافت وهو أبو بكر رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقال: إن الذي أناجيه هو يسمعني ومنهم من كان يجهر وهو عمر رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقال: أوقظ الوسنان وأزجر الشيطان، ومنهم من كان يقرأ آياً من هذه السورة ومن هذه السورة وهو بلال فسأله عن ذلك فقال: أخلط الطيب بالطيب فقال: كلكم قد أحسن وأصاب فنقول: والله أعلم إن المخافتة بالقراءة أفضل إذا لم تكن للعبد نية في الجهر أو كان ذاهباً عن المهمة والمعاملة بذلك لأنه أقرب إلى السلامة وأبعد من دخول الآفة وإن الجهر أفضل لمن كان له نية في الجهر ومعاملته مولاه به لأنه قد قام بسنة قراءة الليل لأن المخافت نفعه لنفسه والجهر نفعه له ولغيره وخير الناس من ينفع الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 والنفع بكلام الله عزّ وجلّ أفضل المنافع ولأنه قد أدخل عملاً ثانياً يرجو به قربة ثانية على عمله الأول فكان في ذلك أفضل وليجعل العبد مفتاح درسه أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون، وليقرأ (قُلْ أعُوذُ برَبِّ النَّاس) الناس: 1، وسورة: الحمد قبلها، وليقل عند فراغه من كل سورة: صدق الله، وبلغ رسول الله، اللهم انفعنا به، وبارك لنا فيه، الحمد لله رب العالمين، أستغفر الله الحي القيوم، ومن حفظ جوارحه وقلبه عن المنهي فقد عمل بالقرآن إلى خاتمه لأنه مقسط على جملة العبد وجوارحه جملة، وفي الجهر بالقراءة سبع نيات منها الترتيل الذي أمر به، ومنها تحسين الصوت بالقرآن الذي ندب إليه في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينوا القرآن بأصواتكم، وفي قوله: ليس منا من لم يتغن بالقرآن أي يحسن به صوته وهو أحد الوجهين وأحبهما إلى أهل العربية، والوجه الآخر أي من لم يستغن به من الغنية والاكتفاء، وقد يقال: من هذا الوجه يتغانى به ومنها أن يسمع أذنيه ويوقظ قلبه ليتدبّر الكلام ويتفهم المعاني ولا يكون ذلك كله إلا في الجهر؛ ومنها أن يطرد الشيطان والنوم عنه برفع صوته، ومنها أن يرجو بجهره يقظة نائم فيذكر الله عزّ وجلّ، فيكون هو سبب إحيائه؛ ومنها أن يراه بطال غافل فينشط للقيام ويشتاق إلى الخدمة فيكون معاوناً له على البرّ والتقوى؛ ومنها أن يكثر بجهره تلاوته ويدوم قيامه على حسب عادته للجهر، ففي ذلك كثرة عمله، فإذا كان العبد معتقداً لهذه النيات طالباً لها ومتقرباً إلى الله سبحانه وتعالى عالماً بنفسه مصححاً لقصده ناظراً إلى مولاه الذي استعمله فيما يرضاه فجهره أفضل لأن له فيه أعمالاً وإنما يفضل العمل بكثرة النيات فيه وارتفع العلماء وفضلت أعمالهم بحسن معرفتهم بنيات العمل واعتقادهم لها فقد يكون في العمل الواحد عشر نيّات يعلم ذلك العلماء فيعملون بها فيعطون عشرة أجور وأفضل الناس في العمل أكثرهم نية فيه وأحسنهم قصداً وأدباً وفي بعض التفاسير في قوله عزّ وجلّ (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) الضحى: 11، قال: قراءة القرآن. وفي الخبر من استمع إلى آية من كتاب الله عزّ وجلّ كانت له نوراً يوم القيامة، وفي خبر آخر كتب له عشر حسنات والتالي شريك المستمع في الأجر لأنه أكسبه ذلك، وقال بعضهم: للقارئ أجر وللمستمع أجران، وقال آخر: للمستمع تسعة أجور وكلاهما صحيح، لأن كل واحد منهما على قدر إنصاته ونيته، فإذا كان التالي مكسباً لغيره هذه الأجور فإن له بكل أجر أكسبه إياه أجراً يكتسبه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدال على الخير كفاعله سيما إذا كان عالماً بالقرآن فقيهاً فيه فيكون مقراه ووقوفه حجة وعلماً لسامعه، وفي الخبر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينتظر عائشة رضي الله عنها فأبطأت عليه، فقال: ماحبسك؟ فقالت: يارسول الله كنت أستمع قراءة رجل ماسمعت صوتاً أحسن منه، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استمع إليه طويلاً ثم رجع فقال: هذا سلام مولى أبي حذيفة الحمد لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الذي جعل في أمتي مثله واستمع أيضاً ذات ليلة إلى قراءة عبد الله بن مسعود ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهم فوقفوا طويلاً ثم قال: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن مسعود: اقرأ فقال يارسول الله أقرأ وعليك أنزل، فقال إني أحب أن أسمعه من غيري فكان يقرأ وعينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفيضان وذلك عند قوله: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، واستمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قراءة أبي موسى فقال: لقدأوتي هذا مزماراً من مزامير داود فبلغ ذلك أبا موسى فقال: يا رسول الله لو علمت أنك تسمع إليّ لحبرت لك تحبيراً، وكان ابن مسعود يأمر علقمة بن قيس أن يقرأ بين يديه فيقول له: رتل فداك أبي وأمي، وكان حسن الصوت بالقرآن، وفي الخبر كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اجتمعوا أمروا أحدهم أن يقرأ سورة من القرآن. وقد كان عمر يقول لأبي مسعود رضي الله عنهما: ذكرنا ربنا فيقرأ عنده حتى كاد وقت الصلاة أن يتوسط فيقال: ياأمير المؤمنين الصلاة الصلاة، فيقول: أولسنا في صلاة؟ فكأنه يتأول قوله عزّ وجلّ، ولذكر الله أكبر، وقال بعض عباد البصريين لما وضع بعض البغدادين كتاباً في معاني الرياء ودقائق آفات النفوس، قال: لقد كنت أمشي بالليل أسمع أصوات المتهجدين كأنها أصوات الميازيب، فكان في ذلك أنس وحث على الصلاة والتلاوة حتى جاء البغداديون بدقائق الرياء وخفايا الآفات فسكت المتهجدون فلم يزل ذلك ينقص حتى ذهب وانقطع وترك إلى اليوم، فإن لم يكن للتالي نية في شيء مما ذكرناه وكان ساهياً غافلاً عن ذلك وكان واقفاً مع شيء من الآفات أو لمح في قلبه شخص أو ساكن ذكرى هوى فقد اعتل فعليه أن يحتمي الجهر فإن جهر على ثقل قلبه فسد عمله لاستكنان الداء فيه وكان إلى النقصان أقرب ومن الإخلاص أبعد فعليه حينئذ بالإخلاص فهو دواؤه يعالج به حاله فإنه أصلح لقلبه وأسلم لعمله وأحمد في عاقبته، وقد يكون العبد واجداً لحلاوة الهوى في الصلاة والتلاوة وهو يظن أن ذلك حلاوة الإخلاص وهذا من دقيق شأن الشهوة الخفية ولطيف الانتقاص، وقد يلتبس ذلك على الضعفاء ولا يفطن له إلا العلماء، وإنما يجد حلاوة الإخلاص الزاهدون في الدنيا وفي مدح الناس لهم به ويتلذذون بنصح المعاملة وصدق الخدمة المحبون لله عزّ وجلّ الخائفون منه واعتبار فقد ذلك بأحد شيئين: سقوط النفس باستواء المدح والذم وهذا حال في مقام الزهد، أو الخلو من القلب بشهادة اليقين وهذا في مقام المعرفة، وفي هذين المقامين يستوي السر والعلانية وقد تكون العلانية أفضل لأئمة التقوى والعدل. وحدثت عن رجل من أهل الخير قال: كنت أقرأ في السحر في غرفة لي شارعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 سورة طه فلما ختمتها غفوت بعدها فرأيت شخصاً نزل من السماء بيده صحيفة بيضاء فنشرها بين يدي فإذا فيها سورة طه وإذا تحت كل كلمة عشر حسنات مثبتة إلا كلمة واحدة فإني رأيت مكانها محواً ولم أرَ تحتها شيئاً فغمني ذلك فقلت: قد والله قرأت هذه الكلمة ولم أرَ لها ثواباً ولا أراها أثبتت فقال الشخص صدقت قد قرأتها وكتبناها لك الا أنا سمعنا منادياً ينادي امحوها وأسقطوا ثوابها فمحوناها فبكيت في منامي وقلت: لم فعلتم ذلك قالوا: مرّ رجل فرفعت صوتك بها لأجله فمحوناها. وقد روينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يجهر بقراءته فناداه: يافلان أسمع الله ولا تسمعني واعلم أن السمعة مقرونة بالرياء ومحكوم لها بحكمه من فساد العمل ونقصان العامل وهي مأخوذة من السمع، كان العبد يسمع بعمله غير الله عزّ وجلّ ويحب أن يسمع به مخلوقاً ليمدحه به لغلبة هواه وضعف نفسه فيكون قد أشرك في عمله غير الله عزّ وجلّ فيبطل عمله لجهله بالتوحيد إذ لو علم يقيناً أن لا نافع إلا الله عزّ وجلّ ولاضار ولا معطي ولا مانع إلا إياه خلص له توحيد من الشرك فخلص له عمله من الرياء، وكذلك الرياء مأخوذ من رأي العين فالسمعة هي بمعناه، وفي الخبر: لايقبل الله عزّ وجلّ من مسمع ولا مراء، وفي خبر آخر: من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به وصغره وحقره، فأما من كانت له نية صالحة في أن يسمع أخاه كلام الله ليتعظ به ويتدبره أو ينتفع باستماعه ويتذكر به فليس داخلاً في السمعة لوجود حسن النية وصحة القصد ولفقد اقتران الآفة لإرادة طمع عاجل من مدح أو غرض دنيا، كماقال أبو موسى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً، فلم ينكر عليه لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به، وقال الآخر الذي رفع صوته بالآية أسمع الله عزّ وجلّ ولاتسمعني فأنكر عليه لما شهد السمعة فيه. وقد روينا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرّ برجل يظهر التأوّه والوجل فقال: من كان معه يارسول الله؟ أتراه مرائياً؟ فقال: لابل أوّاه منيب واعلم أن الأكل والنوم على السلامة والصدق أفضل في الحال وأرفع في المقام وأحمد في المآل من القيام والصيام على يسير من التصنع والتزين للخلق، ومعرفة هذا والقيام به هو موضع علم العلماء بالله عزّ وجلّ، وحدثنا عن الحسن البصري قال: تفقد الحلاوة في ثلاث: فإن وجدتها فابشر وامض لقصدك وإن لم تجدها فاعلم أن بابك مغلق عند تلاوة القرآن وعند الذكر وفي السجود وزاد غيره وعند الصدقة وبالأسحار وقراءة القرآن في المصحف أفضل من قراءته عن ظهر قلب، يقال: الختمة بسبع ختم لأن النظر في المصحف عبادة وكان كثير من الصحابة والتابعين يقرؤون في المصحف ويستحبون أن لا يخرجوا يوماً إلا نظروا فيه وخرق عثمان مصحفين من كثرة درسه فيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الفصل العشرون في ذكر أحياء الليالي المرجوّ فيها الفضل المستحب إحياؤها وذكر مواصلة الأوراد في الأيام الفاضلة ويستحب إحياء خمس عشرة ليلة في السنة خمس منها في شهر رمضان وهي وتر ليالي العشر الأخير منه وليلة سبع عشرة من رمضان هي صبيحة يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فيه كانت وقعة بدر وكان ابن الزبير يذهب إلى أنها ليلة القدر وأما التسعة الأخر فأوّل ليلة من شهر المحرم وليلة عاشوراء وأوّل ليلة من شهر رجب وليلة النصف منه وليلة سبع وعشرين منه وفيه أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج وليلة عرفة وليلة العيدين وليلة النصف من شعبان وقد كانوا يصلون في هذه الليلة مائة ركعة بألف مرة: قل هو الله أحد عشراً في كل ركعة ويسمون هذه الصلاة صلاة الخير ويتعرفون بركتها ويجتمعون فيها وربما صلوها جماعة. وروينا عن الحسن قال: حدثني ثلاثون من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من صلّى هذه الصلاة في هذه الليلة نظر الله عزّ وجلّ إليه سبعين نظرة وقضى له بكل نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة، وقد قيل: إن هذه الليلة هي التي قال الله عزّ وجلّ فيها (فيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ) الدخان: 4، وأنه ينسخ فيها أمر السنة وتدبير الأحكام إلى مثلها من قابل والله أعلم، والصحيح من ذلك عندي أنه في ليلة القدر وبذلك سميت لأن التنزيل يشهد له إذ في أوّل الآية إنا أنزّلناه في ليلة مباركة ثم وصفها فقال: فيها يفرق كل أمر حكيم، فالقرآن انما أنزل في ليلة القدر فكانت هذه الآية بهذا الوصف في هذه الليلة مواطئة لقوله عزّ وجلّ: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر: 1. ذكر مواصلة الأوراد في الأيام الفاضلة وهي تسعة عشر يوماً تستحب فيها مواصلة الأوراد والدأب في العبادة يوم عاشوراء ويوم عرفة ويوم سبعة وعشرين من رجب ويوم سبعة عشر من شهر رمضان ويوم النصف من شعبان ويوم الجمعة ويوم العيد والأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة والأيام المعدودات وهي أيام التشريق، وفي الخبر صوم يوم عرفة يكفر سنتين سنة ماضية وسنة مستقبلة، وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقد روينا عن أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا سلم يوم الجمعة سلمت الأيام وإذا سلم شهر رمضان سلمت السنة وقال بعض علمائنا: من أخذ مهناه في هذه الأيام الخمسة في الدنيا لم ينل مهناه في الآخرة وقال هذه الأيام يرجى فيها الفضل من الله عزّ وجلّ والمزيد، فإذا اشتغلت فيها بهواك وعاجل الدنيا فمتى ترجو الفضل والمزيد يعني بالأيام الخمسة العيدين ويوم الجمعة ويوم عرفة ويوم عاشوراء، ومن فواضل الأيام بعد هذه يوم الاثنين ويوم الخميس يومان ترفع فيهما الأعمال إلى الله عزّ وجلّ، ومن الفاضل الشهور الأربعة الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب خصهن الله عزّ وجلّ بالنهي عن الظلم فيهن لعظم حرمتهن، فكذلك الأعمال لها فيهن فضل على غيرها وأفضلها ذو الحجة لوقوع الحج فيه ولما خصّ به من الأيام المعلومات والأيام المعدودات ثم ذو القعدة لجمعه الوصفين معاً وهو من الأشهر الحرم ومن أشهر الحج فأما المحرم ورجب فليسا من أشهر الحج، وأما شوّال فليس من أشهر الحرم ولكنه من أشهر الحج وأفضل الأيام في الشهر العشران العشر الآخر والعشر الأوّل من ذي الحجة وبعدهما عشر المحرم من أوله فالأعمال في هذه الأيام لها فضل ومزيد على سائر الشهور. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صام ثلاثة أيام من شهر حرام بعده الله من النار سبعمائة عام يوم الخميس ويوم الجمعة ويوم السبت، وفي خبر آخر صوم يوم من شهر حرام يعدل صوم ثلاثين يوماً من غيره، وصوم يوم من شهر رمضان يعدل صوم ثلاثين يوماً من شهر حرام، ثم إن أفضل الأوقات في جملة الأيام أوقات الصلوات الخمس. وروينا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخلت العشر الأواخر من شهر رمضان طوى الفراش وشد المئزر، وفي حديث آخر: إذا دخلت العشر الأواخر دأب وأدأب أهله يعني أدام وأداموا التعب والنصب في العبادة، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما من أيام العمل فيهن أفضل وأحب إلى الله عزّ وجلّ من أيام عشر ذي الحجة، إن صوم يوم منه يعدل صيام سنة وقيام ليلة منه يعدل قيام ليلة القدر، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع منهما بشيء، وفي لفظٍ آخر إلا من عقر جواده وأُهْرِقَ دمه، واذا أحب الله عزّ وجلّ عبداً استعمله في الأوقات الفاضلة بأفضل الأعمال ليثيبه أفضل الثواب وإذا مقت عبداً استعمله بأسوأ الأعمال في أفاضل الأوقات ليضاعف له السيّئات بانتقاص حرمات الشعائر وانتهاك المحرمات في الحرمات، ويقال من علامات التوفيق ثلاث: دخول أعمال البرّ عليك من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنك مع الطلب لها، وفتح باب اللجا والافتقار إلى الله عزّ وجلّ في الشدة والرخاء، ومن علامات الخذلان ثلاث: تعسر الخيرات عليك مع الطلب لها، وتيسر المعاصي لك مع الرهب منها وغلق باب اللجا والافتقار إلى الله عزّ وجلّ، في كل حال فنسأل الله تعالى بفضله حسن التوفيق والاختيار ونعوذ به من سوء القضاء والأقدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الفصل الحادي والعشرون كتاب الجمعة وذكر هيئاتها وآدابها وذكر مايستحب للمريد في يوم الجمعة وليلتها صلاة الجمعة واجبة بأوصاف وساقطة بأوصاف فوجوبها يكون بالإقامة والاستطاعة وحضور وقت الظهر وتكملة عدة أربعين رجلاً أحراراً وسقوطها بالسفر ودخول وقت العصر ونقصان العدد ووقوع العذر وهي من أعمال الأمراء تصلي خلف كل من أقام بها منهم إلا اني أحب إعادتها ظهراً إذا صلّيت خلف مبتدع فإن اجتمع في بلد كبير جامعان صليت خلف الأفضل من إماميهما، فإن استويا في الفضل صلّيت في القديم من الجامعين، فإن تساويا صلّيت في الأقرب منهما إلا أن تكون له نيّة في الأبعد لاستماع علم أو نشره أو تعلّمه، فصلاتها في الجامع الأعظم وحيث يكون المسلمون أكثر وأفضل، ومن صلّى في أيهما أحب حسبت صلاته، قال ابن جريج: قلت لعطاء إذا كان في المصر جامعان أو ثلاثة في أيها أصلّي؟، قال: صلِّ حيث جمع المسلمون فإنها جمعة وهو يوم عظم الله تعالى به الإسلام وزينه وشرف به المسلمين وفضلهم قال عزّ وجلّ: (يَاأَيُّهَا الَّذين آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْع) الجمعة: 9 الآية، فالبيع والشراء محرم بعد الأذان للجمعة عند طائفة من العلماء لعموم النهي عنه، ومنهم من قال: يرد البيع لأنه فاسد إلا أني أحسب أن ذلك يحرم عند الأذان الثاني وهو مع خروج الإمام إذا قعد على المنبر لأن هذا كان هو الأذان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والأذان الأوّل أحدثه عثمان رضي الله عنه لما كثر الناس، وقال الله عزّ وجلّ: (فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله) الجمعة: 01 الآية، فأمر عباده المؤمنين في يوم الجمعة بالذكر له ونهاهم عن البيع وأمرهم فيه بطلب الفضل منه ووعدهم الخير والفلاح وهما اسمان جامعان لغنيمة الدنيا والآخرة. وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الله عزّ وجلّ فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في مقامي هذا وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر طبع الله على قلبه، وفي لفظ حديث آخر فقد نبذ الإسلام وراء ظهره واختلف رجل إلى ابن عباس فسأله عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 رجل مات لم يكن يشهد جمعة ولا جماعة فقال: في النار، فلم يزل يتردّد إليه شهراً يسأل عنه، كل ذلك يقول في النار، وتقصد الجمعة من فرسخين أو ثلاثة، واستحب لمن بكر إليها من أهل القرى فأدركها وأدركه الليل فأواه إلى أهله إذا رجع أن يشهدها إلا أنها ساقطة عن خمسة: الصبي، والمملوك، والمرأة، والمسافر، والمريض، فمن شهدها من هؤلاء فصلاها أجزأت عنه وكان مؤدياً لفرضه، وفي الخبر أن أهل الكتابين أعطوا يوم الجمعة فقد اختلفوا فيه فصرفوا عنه وهدانا الله عزّ وجلّ برحمته له ادخره لهذه الأمة جعله عيداً لهم فهم أول الناس به سبقاً وأهل الكتابين لهم تبع، وفي حديث أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال: أتاني جبريل عليه السلام وفي كفه مرآة بيضاء فقال: هذه الجمعة يفرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك، قلت: فما لنا فيها؟ قال: لكم فيها خير ساعة، من دعا فيها بخير هو له قسم أعطاه الله عزّ وجلّ أو ليس من قسم أدخره ماهو أعظم أو يتعوّذ من شرّ هو عليه مكتوب إلا أعاده الله تعالى من أعظم منه وهو سيد الأيام عندنا ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد، قلت: ولم قال إن ربك عزّ وجلّ اتخذ في الجنة وادياً أفيح من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة نزل من عليين على كرسيه وذكر الحديث قال فيه: ويتجلّى لهم حتى ينظروا إلى وجهه ذكرناه بتمّامه في مسند الألف. وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط إلى الأرض وفيه تقوم الساعة وهو عند الله يوم المزيد كذلك تسمية الملائكة في السماء وهو يوم النظر إلى الله عزّ وجلّ في الجنة في أخبار يطول ذكرها، وفي الحديث: ما من دابة إلا وهي قائمة على ساق يوم الجمعة مصيخة أي مصغية تتوقع مشفقة من قيام الساعة إلا الشياطين شقي بني آدم ويقال: إن الطير والهوام يلقى بعضها بعضاً في يوم الجمعة فتقول سلام سلام يوم صالح، وفي الخبر أن الله عزّ وجلّ في كل يوم جمعة يعتق ستمائة ألف عتيق من النار، وفي حديث أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا سلم يوم الجمعة سلم الأيام، وقال كعب في الخبر: إنّ الله عزّ وجلّ فضل من كل شيء من خلقه شيئاً ففضل من البلدان مكة ومن الشهور رمضان ومن الأيام الجمعة، وفي الخبر أنّ جهنم تسعر في كل يوم قبل الزوال عند استواء الشمس في كبد السماء فلا تصلوا في هذه الساعة إلا يوم الجمعة فإنه صلاة كله وإن جهنم لا تسعر فيه فأفضل مايعمله العبد في يوم الجمعة البكور إلى الجامع في الساعة الأولى فإن لم يفعل ففي الساعة الثانية فإن لم يفعل ففي الساعة الثالثة لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راج في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما أهدى دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أهدى بيضة، فإذا خرج الإمام طويت الصحف ورفعت الأقلام واجتمعت الملائكة عند المنبر يسمعون الذكر، فمن جاء بعد ذلك فكأنما جاء لحق الصلاة وليس من الفضل في شيء فالساعة الأولى تكون بعد صلاة الصبح والساعة الثانية تكون عند ارتفاع الشمس والثالثة تكون عند انبساطها وهي الضحى الأعلى إذا رمضت الأقدام بحر الشمس والساعة الرابعة تكون قبل الزوال والساعة الخامسة إذا زالت الشمس أو مع استوائها وليس الساعة الرابعة والخامسة مستحبتين للبكور ولا فضل لمصلي الجمعة بعد الساعة الخامسة لأن الإمام يخرج في آخرها فلا يبقى إلا فريضة الجمعة، ويقال: إن الناس يكونون في قربهم من الله عزّ وجلّ عند الزيارة للنظر إليه تعالى على قدر بكورهم إلى الجمعة، ودخل ابن مسعود يوم الجمعة بكرة فرأى ثلاثة نفر وقد سبقوه بالبكور فوجم لذلك وجعل يقول: رابع أربعة يعني نفسه وما رابع أربعة من الله ببعيد وهذا من اليقين في هذه المشاهدة للخبر، وقد جاء في الأثران: الملائكة يفتقدون العبد إذا تأخر عن وقته يوم الجمعة فيسأل بعضهم بعضاً عنه مافعل فلان وما الذي أخره عن وقته فيقولون: اللهم إن كان أخره فقره فاغنه وإن كان أخره مرض فاشفه وإن كان أخره شغل عنه ففرغه لعبادتك وإن كان أخره لهو فأقبل بقلبه على طاعتك ولا تقعد إلى القصاص يوم الجمعة فقد كره ذلك ولا في حلقة قبل الصلاة. وروينا في خبر مقطوع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث لو يعلم الناس ما فيهن لركضوا الإبل في طلبهن: الأذان، والصف الأوّل، والغدّو إلى الجمعة، قال أحمد بن حنبل وقد ذكر هذا الحديث أفضلهن الغدّو إلى الجمعة، وقد يروى في خبر آخر إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم. وروينا في خبر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن التحلّق يوم الجمعة قبل الصلاة الا أن يكون عالماً بالله تعالى، يذكر بأيام الله عزّ وجلّ ويفقه في دين الله عزّ وجلّ، يتكلم في الجامع بالغداة فيجلس إليه فيكون جامعاً بين البكور إلى الجمعة والإستماع إلى العلم ولا يدع الغسل لها يوم الجمعة إلاّ من ضرورة فإنه عند بعض العلماء فرض والاغتسال في البيت أفضل. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غسل الجمعة واجب على كل محتلم، والمشهور من حديث نافع عن ابن عمر: من أتى الجمعة فليغتسل وكان أهل المدينة يتسابون بينهم فيقولون لأنت شر ممن لا يغتسل يوم الجمعة، وقد قال عمر لعثمان رضي الله عنهما لما دخل وهو يخطب: أهذه الساعة فقال: مازدت بعد أن سمعت الأذان أن توضأت وخرجت، فقال عمر: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر الغسل ولكن في ترك بالغسل رخصة لوضوء عثمان مع علمه ويسند ذلك إلى الخبر المسند من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل. وروينا عن الصحابة: أمرنا بالغسل يوم الجمعة فلما جاء الشتاء كان من شاء اغتسل ومن لم يشأ ترك الغسل، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من شهد الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل فلذلك قال مالك بن أنس إن النساء إذا حضرن الجمعة اغتسلن له ومن اغتسل من جنابة أجزأه لغسل الجمعة إذا نوى ولا بدّ من النية لغسل الجنابة لأجل الجمعة فهو أفضل، ويكون الغسل للجمعة داخلاً فيه، فإذا أفاض عليه الماء ثانية بعد غسله للجنابة لأجل الجمعة فهو أفضل دخل بعض الصحابة على ابنه يوم الجمعة وهو يغتسل فقال: للجمعة غسلك هذا؟ قال: لا بل من الجنابة، قال: فأعد غسلاً ثانياً فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: واجب على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة، ومن اغتسل بعد طلوع الفجر أجزأه ولكن أفضل الغسل لها عند الرواح إلى الجامع وأحب أن لايحدث وضوءاً بعد الغسل حتى يفرغ من صلاة الجمعة فمن العلماء من كره ذلك ولكن إن بكر إلى الجامع فتوضأ هناك من حدث لحقه لامتداد الوقت فإنه على غسل الجمعة ويستحب أن يستاك وأن يلبس من صالح ثيابه ويجتنب الشهرة من الثياب ومن أفضل ما لبس البياض أو بردين يمانيين ولبس السواد يوم الجمعة ليس من السنة ولا من الفضل أن ينظر إلى لابسه وليقلّم أظفاره ويأخذ من شاربه فقد روي فضل ذلك من فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أمره. وقد روينا عن ابن مسعود وغيره من قلّم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله عزّ وجلّ منها داء وأدخل شفاء وليتطيب بالطيب طيبه مما ظهر ريحه وخفي لونه فذلك طيب الرجال وطيب النساء مما ظهر لونه وخفي ريحه، روينا ذلك في الأثر وتستحب العمامة يوم الجمعة، وقد روينا فيها حديثاً شاذاً عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عزّ وجلّ وملائكته يصلّون على أصحاب العمائم يوم الجمعة فإن أكربه الحر فلا بأس أن ينزعها قبل الصلاة وبعدها ولكن يخرج من منزله إلى الجامع وهو لابسها ولا يصلّي إلا معتّماً بها لتحصل له فضيلة العمة، فإن نزعها فليلبسها حينئذ عند صعود الإمام المنبر ثم ليصلِّ وهي عليه فإن شاء نزعها بعد ذلك وليخرج إلى الله عزّ وجلّ خاشعاً متواضعاً ذا سكينة ووقار وإخبات وافتقار وليكثر من الدعاء والاستغفار وينوي في خروجه زيارة مولاه في بيته والتقرّب إليه بأداء فريضته والعكوف في المسجد إلى حيث انقلابه ثم لينوِ كف جوارحه عن اللهو واللغو ويتقِ الشغل حين يخدم مولاه وليترك راحته في ذلك اليوم في مهناه من عاجل حظ دنياه وليواصل الأوراد فيه فيجعل أوله إلى انقضاء صلاة الجمعة للخدمة بالصلاة وأوسطه إلى صلاة العصر لاستماع العلم ومجالس الذكر وآخره إلى غروب الشمس للتسبيح والاستغفار، فكذلك كان المتقدمون يقسمون يوم الجمعة هذه الأقسام الثلاثة وإن صامه فحسن يضم إليه يوم الخميس أو يضيف إليه يوم السبت وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 كره إفراده بصوم ومن لم يصمه وكان أهل فالمستحب أن يجامع فيه فقد روي فضل ذلك وكان بعض السلف يفعله. وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من غسل واغتسل وغدا وبكر ودنا من الإمام ولم يلغ كان له بكل خطوة صيام سنة وقيامها، وفي خبر آخر: ودنا من الإمام واستمع كان له ذلك كفارة لما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام، وفي لفظ آخر: غفر له إلى الجمعة الأخرى وقد اشترط في بعضها ولم يتخطّ رقاب الناس، فمعنى قوله: من غسل بالتشديد أي غسل أهله كناية عن الجماع، وبعض الرواة يخففه فيقول: غسل واغتسل فيكون معناه غسل رأسه واغتسل لجسده وليتق أن يتخطّى رقاب الناس فإن ذلك مكروه جداً وقد جاء فيه وعيد شديد إن من فعل ذلك جعل جسراً يوم القيامة على جهنّم تتخطاه الناس وقال ابن جريج حديثاً مرسلاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ رأى رجلاً يتخطّى رقاب الناس حتى تقدم وجلس فلما قضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاته عارض الرجل حتى لقيه فقال يافلان مامنعك أن تجمع اليوم معنا؟ فقال: يانبي الله قد جمعت فقال: أو لم أرك تتخطّى رقاب الناس؟ وفي حديث مسند أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: مامنعك أن تصلّي معنا الجمعة؟ فقال: أو لم ترني؟ قال: قد رأيتك تأنيت وآذيت، أي تأخرت عن البكور وآذيت بالحضور، ولا يقعد إلى القصاص في يوم الجمعة فقد كره ذلك ولا في حلقة قبل الصلاة. فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمران أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن التحلّق يوم الجمعة قبل الصلاة إلاّ أن يكون عالماً بالله عزّ وجلّ يذكر بأيام الله ويفقه في الدين يتكلم في الجامع بالغداة فيجلس إليه فيكون جامعاً بين البكور إلى الجمعة وبين الاستماع إلى العلم، وقد روينا عن بعض علماء السلف قال: إن الله تعالى فضلاً من الرزق سوى أرزاق العباد لا يعطي من ذلك الفضل إلا من سأله عشية الخميس ويوم الجمعة، وفي الخبر المشهور: أن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عزّ وجلّ فيها شيئاً إلا أعطاه، وفي لفظ آخر لا يصادفها عبد يصلّي، واختلف في وقت هذه الساعة فقيل: إنها عند طلوع الشمس، وقيل: إذا قام الناس إلى الصلاة، وقيل عند الزوال، ويقال: مع الأذان، وقيل: هي إذا صعد الإمام المنبر وأخذ في الذكر، وقيل: بعد العصر من آخر أوقاتها، وقيل: عند غروب الشمس إذا تدلّى حاجبها الأسفل، كانت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تراعي ذلك الوقت وتأمر خادمها أن ينظر إلى الشمس فيؤذنها بسقوطها فتأخذ في الدعاء والاستغفار في ذلك الوقت إلى أن تغرب الشمس وتخبر أن تلك الساعة هي المنتظرة وتؤثره عن أبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا جمل ماقيل في هذه الساعة بروايات جاءت في ذلك متفرقة حذفنا ذكرها للاختصار فليتوخ هذه الأوقات وليتعهد الدعاء فيها والصلاة فيما صلح منها. وقد قال بعض العلماء إن هذه الساعة مبهمة في جميع اليوم لا يعلمها إلاّ الله عزّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وجلّ كأنها بمنزلة ليلة القدر مبهمة في جميع شهر رمضان وكأنها مثل الصلاة الوسطى في جملة الصلوات الخمس، وقد قيل: إنها تنتقل في ساعات يوم الجمعة كتنقل ليلة القدر عند بعضهم في ليالي الشهر، ذلك ليكون العبد طالباً إلى الله عز وجلّ وراغباً متضرعاً مفتقراً في جميع ذلك اليوم، فمن واصل الأوراد فيه وعمر بالذكر كل ساعة صادفها بإذن الله عزّ وجلّ فإن لم يواصل الساعة في يوم واحد فليواصلها في جمع شتى وقتاً على وقت على ترتيب أوقات يوم فإنها تقع في جميع الأوقات لا محالة وليكثر الدعاء والتضرّع وفي وقتين خاصة عند صعود الإمام المنبر إلى أن تقام الصلاة ويدخل فيها وعند آخر ساعة وقت تدلّي الشمس للغروب، فهذان الوقتان من أفضل أوقات الجمعة ويقوي في نفسي أن في أحدهما الساعة المرجوّة، وقد اجتمع كعب الأحبار مع أبي هريرة واجتمع رأي كعب أنها في آخر ساعة من يوم الجمعة، فقال أبو هريرة: كيف تكون آخر ساعة وقد سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لايوافقها عبد يصلي ولات حين صلاة، فقال كعب: ألم يقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قعد ينتظر الصلاة فهو في صلاة، قال: بلى، قال: فذاك صلاة، فسكت أبو هريرة فكأنه وافقه وليكثر من الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم الجمعة وليلتها وأقل ذلك أن يصلّي عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثمائة مرة. وقد جاء في الخبر من صلّى عليّ في يوم الجمعة ثمانين مرة غفر الله له ذنوب ثمانين سنة، قيل: يارسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: تقول اللهم صلِّ على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وتعقدها واحدة فكيف ما صلّى عليه بعد أن يأتي بلفظ ذكر الصلاة عليه فهي صلاة، والصلاة المشهورة هي التي رويت في التشهد وإن جعل من صلاته عليه أن يقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون لك رضاء ولحقه أداء وأعطه الوسيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وأجزه عنا ماهو أهله وأجزه أفضل ماجزيت نبياً عن أمته وصلِّ على جميع إخوانه من النبيّين والصالحين ياأرحم الراحمين. تقول هذا سبع مرات، ففي هذا فضل عظيم ويقال: من قاله سبع جمع في كل جمعة سبعة مرات وجبت له شفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن زاد هذه الصلاة فهي مأثورة: اللهّم اجعل فضائل صلواتك وشرائف زكواتك ونوامي بركاتك ورأفتك ورحمتك وتحيتك على محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين قائد الخير وفاتح البر ونبي الرحمة وسيد الأمة، اللهم ابعثه مقاماً محموداً تزلف به قربه وتقربه عينه يغبطه به الأولون والآخرون، الّلهم أعطه الفضل والفضيلة والشرف والوسيلة والدرجة الرفيعة والمنزلة الشامخة المنيفة، اللهم أعط محمداً سؤله وبلغه مأموله واجعله أول شافع وأول مشفع، الّلهم عظم برهانه وثقل ميزانه وأبلج حجته وارفع في أعلى المقربين درجته، اللهم احشرنا في زمرته واجعلنا من أهل شفاعته وأحينا على سنته وتوفّنا على ملته وأوردنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 حوضه واسقنا بكأسه غير خزايا ولانادمين ولاشاكين ولا مبدلين ولافتانين ولا مفتونين آمين، رب العالمين، وليكثر من الاستغفار يوم الجمعة وليلتها وأي لفظ ذكر فيه سؤال المغفرة فهو مستغفر، وإن قال: اللهم اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم فهو أفضل، وإن قال: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت خير الراحمين فحسن، واستحب له أن يقرأ ختمة يوم الجمعة، فإن ضاق عليه ذلك فليشفع إليه ليلتها ليكون ابتداؤه من ليلة الجمعة، وإن جعل ختمه للقرآن في ركعتي الفجر من يوم الجمعة أو في ركعتي المغرب ليلة الجمعة فحسن، ليستوعب بذلك كله اليوم والليلة، وإن جعل ختمه بين الأذان للجمعة والإقامة للصلاة ففيه عظيم، ويستحب أن يصلّي قبل الجمعة اثنتي عشْرة ركعة وبعدها ست ركعات، وإذا دخل الجامع فليصلِّ أربع ركعات يقرأ فيهن: قل هو الله أحد مائتي مرة في كل ركعة خمسين مرة ففيه أثر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فعله لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له، وإذا دخل الجامع فلا يقعدن حتى يصلّي ركعتين قبل أن يجلس وكذلك إن دخل والإمام يخطب صلاّهما خفيفتين وإن سمعه لأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك لأنه قد جاء في حديث غريب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكت له حتى صلاّهما فقال الكوفيون إن سكت له الإمام صلاّهما، ولعل سكوت رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخصوص له لوجوب قوله، وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أعطي نوراً من حيث يقرأها إلى مكة وغفر له إلى الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام وصلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وعوفي من الداء والدبيلة وذات الجنب والبرص والجذام وفتنة الدجال، واستحب أن يصلّي يوم الجمعة أربع ركعات بأربع سور سورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة يس، فإن لم يحسن ذلك قرأ سورة يس وسجدة لقمان وسورة الدخان وسورة الملك ولا يدع قراءة الأربع سور في كل ليلة جمعة ففي ذلك أثر وفضل كبير فإن لم يحسن جميع القرآن قرأ ما يحسن منه فذلك له ختمة فقيل ختمة من حيث علمه، وقد كان العابدون يستحبون أن يقرؤوا يوم الجمعة ألف مرة: قل هو الله أحد، فإن قرأها في عشر ركعات أو عشرين فهو أفضل من ختمة، وقد كانوا يصلون على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف مرة، ومن التسبيح والتهليل بالكلمات الأربع ألف مرة وهذه ثلاثة أوراد حسنة في يوم الجمعة أعني قراءة: قل هو اللَّه أحد والصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتسبيح والتهليل ألفاً ألفاً فلا يدعن ذلك من رزقها أو أحدها فإنه من أفضل الأعمال في هذا اليوم وإن صلّى يوم الجمعة قبل الزوال صلاة التسبيح وهي ثلاثمائة تسبيحة في أربع ركعات فقد أكثر وأطاب. وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهُ قال: صلّها في كل جمعة مرة، وذكر أبو الجوزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 عن ابن عباس أنه لم يكن يدع هذه الصلاة كل يوم بعد الزوال وأخبر عن فضلها ما يجلُّ وصفه، وإن قرأ المسبحات الست في يوم الجمعة أو ليلتها، فحسن، وليس يروى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ السور بأعيانها إلا يوم الجمعة وليلتها، فإنا روينا أنه كان يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة وسورة المنافقين، وقد روي أنه كان يقرأ بهاتين السورتين في صلاة الجمعة وكان يقرأ في صلاة الغداة يوم الجمعة بسورة سجدة لقمان وسورة هل أتى على الإنسان واستماعه إلى علم اليقين والمعرفة وحضور مجالس الذكر أفضل من صلاته وصلاته أفضل من حضوره مجالس القصاص وروينا في حديث أبي ذر حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة وفي خبر آخر لأن يتعلم أحدكم باباً من العلم أو يعلمه خير له من صلاة ألف ركعة وفي خبر قيل: يا رسول الله ومن قراءة القرآن فقال: وهل ينفع القرآن إلا بعلم والصلاة إذا عدم مجلس العلم بالله والتفقه في دين اللهه عزّ وجلّ أزكى من حضور مجلس القصص ومن الاستماع إلى القصاص فإن القصص كان عندهم بدعة وكانوا يخرجون القصاص من الجامع، روي أن ابن عمر جاء ذات يوم إلى مجلسه في المسجد فإذا قصاص يقص فقال له: قم من مجلسي فقال لاأقوم وقد جلست فيه أو قال: قد سبقتك إليه قال: فأرسل ابن عمر إلى صاحب الشرطة فأقامه فلو كان ذلك من السنة لما حل لابن عمر أن يقيمه من مجلسه سيما وقد سبقه إلى الموضع كيف وهو الذي روى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يقيم أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسّعوا قال: فكان ابن عمر إذا قام له الرجل من مجلسه لم يجلس فيه حتى يعود إليه. وروينا ثم يجلس فيه وقد روينا أن قاصاً كان يجلس بفناء حجرة عائشة يقص فأرسلت إلى ابن عمر أن هذا قد آذاني بقصصه وشغلني عن سبحتي قال: فضربه ابن عمر حتى كسر عصا على ظهره ثم طرده وليحذر أن يمر بين يدي المصلي وإن كان مروره لا يقطع الصلاة ففي الخبر لأن يقف أربعين سنة خير له من أن يمر بين يدي المصلي وقد جاء فيه وعيد شديد لأن يكون الرجل رماداً تذروه الرياح خير له من أن يمر بين يدي المصلي وقد سوّى في ذلك بين المار والمصلي في الوعيد ففي حديث زيد بن خالد الجهني قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما في ذلك لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وليدن المصلي من اسطوانة أو جدار فإذا فعل ذلك فلا يدعن أحداً أن يمرّ بين يديه وليدفعه ما استطاع، وفي حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان، وكان أبو سعيد يدفع من يمر بين يديه حتى يصرعه فربما تعلق به الرجل فاستعدى عليه مروان فيخبره أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بذلك فإن لم يتفق له اسطوانة فليجعل شيئاً بين يديه يكون طوله عظم الذراع، وقد قيل: إن كان حبلاً ممدوداً فحاجز بينه وبين المارة، وقد قيل أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أو يصلي في الصف الثاني ويترك الأول فارغاً، أو يمسح جبهته في صلاته، أو يصلي بسبيل من يمر بين يديه، وقد كان الحسن يقول: تخطوا رقاب الذين يقعدون على أبواب الجامع يوم الجمعة فإنه لا حرمة لهم وليقرب من الإمام وينصت ويسمع ويستقبله بوجهه كذلك السنة إلا أن يخاف أن يسمع أو يرى منكراً من لبس نقش سواد أو حرير أوديباج أو جميل سلاح ثقيل ولا يستطيع تغييره ليبعد حينئذ فهو أسلم ولا يلغو ولا يتكم في خطبة الإمام وإن بعد ولايجلس في حلقة من يتكلم والإمام يخطب ولا يقول لآخر اسكت ولكن يومئ إليه إيماء أو يحصبه بحصاة فإن لغا والإمام يخطب بطلت جمعته ولا يتكلم في العلم في خطبة الإمام ومن لم يقرب من الإمام ولم يستمع فلينصت وإن بعد كذلك المستحب. وقد روينا عن عثمان وعلي رضوان اللَّه عليهما: من استمع وأنصت فله أجران ومن لم يستمع وأنصت فله أجر ومن سمع ولغا فعليه وزران ومن لم يستمع ولغا فعليه وزر واحد، وفي حديث أبي ذر لما سأل أُبياً والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فقال: متى أنزلت هذه السورة فأومَأ إليه أن اسكت، فلما نزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له أُبي: اذهب فلا جمعة لك، فشكاه أبو ذر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: صدق أبي، وكذلك جاء في الخبر: من قال لصاحبه والإمام يخطب أنصت أومه فقد لغا ومن لغا والإمام يخطب فلا جمعة له وليقطع الصلاة إذا قام المؤذنون للأذان بين يدي الإمام. فقد روى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضوان الله عليهم: تكره الصلاة في أربع ساعات، بعد الفجر، وبعد العصر، ونصف النهار، والصلاة والإمام يخطب، وقد جاء في الأثر خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام وسجود العامة عند قيام المؤذنين للأذان قبل الخطبة ليس بسنة فإن وافق ذلك سجوده في صلاته أو سجود قرآن فلا بأس أن يمتد في الدعاء إلى فراغهم لأنه وقت مفضل ولا أعرف في ذلك أثراً غير أنه مباح، ومن العلماء من كره الصلاة في المقصورة لأجل أنها قصرت على السلطان وأوليائه وذلك بدعة عند أهل الورع ابتدعت في المساجد لأنها غير مطلقة لجملة الناس، فلذلك نقل في الخبر: كان الحسن وبكر المزني لا يصليان في المقصورة. وروي: رأيت أنس بن مالك يصلي في المقصورة وعمران بن حصين أيضاً ومنهم من لم يكره ذلك ورأيت فيه فضلاً لأجل السنة في الدنو من الإمام واستماع الذكر فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أطلقت للعامة زالت الكراهة عنها وإن خصّ بها أولياء السلطان تركت عليهم فإن صلّى سبعاً يصلّي فيها فإن بعض العلماء كره الصلاة في فناء المنبر من قبل أن المنبر يقطع الصفوف وكان عندهم أن تقدمة الصفوف إلى فناء المنبر بدعة وكان الثوري يقول: الصف الأول: هو الخارج من بين يدي المنبر ومن خشي الفتنة والآفة في قربه من الإمام بأن يسمع ما يجب عليه إنكاره أو يرى ما يلزم الأمر فيه أو النهي عنه من لبس حرير أو لبس ديباج أو الصلاة في السلاح الثقيل للشغل كان بعده من الصفوف المقدمة أصلح لقلبه وأجمع لهمه لقلة ملاقاة الناس ولترك النظر إليهم، فالأصلح للقلب والأجمع للهم هو الأفضل حينئذ وقد كان جماعة من العلماء والعباد يصلون في أواخر الصفوف إيثاراً للسلامة وقيل لبشر بن الحرث: نراك تبكر يوم الجمعة وتصلي في أواخر الصفوف فقال: يا هذا إنما نريد قرب القلوب لا قرب الأجساد، ونظر سفيان الثوري إلى شعيب بن حرب عند المنبر يستمع إلى خطبة أبي جعفر فلما جاءه بعد الصلاة قال: شغل قلبي قربك من هذا هل أمنت أن تسمع كلاماً يجب عليك إنكاره فلا تقوم به ثم ذكر ما أحدثوا من لبس السواد قلت: يا أبا عبد الله أليس في الخبر إذن واستمع فقال ويحك ذاك للخلفاء الراشدين المهديين فأما هؤلاء فكلما بعدت عنهم ولم تنظر إليهم كان أقرب لك إلى اللَّّْه عزّ وجلّ. وقد روينا عن أبي الدرداء فضيلة في الصف المؤخر قال سعيد بن عامر صليت إلى جنبه فجعل يتأخر في الصفوف حتى كنا في آخر صف فلما صلْينا قلت له أليس يقال خيراً الصفوف أوّلها قال: نعم إلا أن هذه أمة مرحومة منظور إليها من بين الأمم وإن اللَّه عزْ وجلْ إذا نظر إلى عبد منهم في الصلاة غفر لمن وراءه من الناس فإنما تأخرت رجاء أن تغفر لي بواحد منهم ينظر اللَّه إليه وقد رفعه بعض الرواة أن أبا الدرداء سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول ذلك: والصدقة مستحبة مفضلة يوم الجمعة خاصة فإنها تضاعف إلا على من سأل والإمام يخطب وكان يتكلم في كلام الإمام فهذا مكروه قال صالح بن أحمد: سأل مسكين يوم الجمعة والإمام يخطب وكان بجنب أبي فأعطاه رجل قطعة ولم يعرفه ليناوله إياها فلم يأخذها منه أبي وقال ابن مسعود: إذا سأل الرجل في المسجد فقد استحق أن لا يعطى وإذا سأل على القرآن فلا تعطوه، ومن العلماء من كره الصدقة على سؤال الجامع الذين يتخطون رقاب الناس إلا أن يسأل قائماً من غير أن يتخطّى المسلمين أو قاعداً في مكان. وروينا عن كعب الأحبار: من شهد الجمعة ثم انصرف يتصدق بشيئين مختلفين من الصدقة ثم رجع فركع ركعتين يتم ركوعهما وخشوعهما وسجودهما ثم يقول: اللهم إني أسألك باسمك بسم اللَّه الرحمن الرحيم وباسمك الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولانوم لم يسأل اللَّه عزّ وجلّ شيئاً إلا أعطاه، وقد روينا عن بعض السلف على غير هذا الوصف قال: من أطعم مسكيناً في يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الجمعة ثم غدا وابتكر ولم يؤذ أحداً ثم قال حين يسلم الإمام اللَّهم إني أسألك ببسم اللَّه الرحمن الرحيم الحي القيوم أن تغفر لي وترحمني وأن تعافيني من النار ثم دعا بما بدا له استجيب له وإن سمع قراءة الإمام لم يقرأ في صلاته إلا سورة الحمد لا غير وإن لم يسمع قراءته قرأ سورة مع الحمد إن أحب فأما من سمع قراءة الإمام وقرأ معه سورة الجمعة أو غيرها من السور فقد خالف الأمة وعصى رسولا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أعلمه مذهب أحد من المسلمين فإذا سلم من صلاة الجمعة قرأ وهو ثان رجله قبل أن يتكلم الحمد سبع مرات وقل هو اللَّه أحد سبعاً والمعوذتين سبعاً سبعاً، ففي ذلك أثر عن بعض السلف أن من فعله عصم من الجمعة إلى الجمعة وكان ذلك حرزاً له من الشيطان واستحب له أن يقول بعد صلاة الجمعة: اللَّهم يا غني، ياحميد، يا مبدئ، يا معيد، يا رحيم، ياودود، أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، يقال: من داوم علي هذا الدعاء أغناه اللَّه عزّ وجلّ عن خلقه ورزقه من حيث لا يحتسب، وقد روي ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي بعد الجمعة ركعتين، وروى أبو هريرة أنه كان يصلّي بعدها أربعاً، وروى علي وعبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلَّي بعدها ستاً فإذا صلّى العبد ست ركعات فقد استوعب جميع الروايات وأكره شراء الماء في المسجد للشرب أو لتسبيله لئلا يكون مبتاعاً في المسجد فقد كره الشراء والبيع في المسجد فإن بايعه أو دفع إليه القطعة خارجاً من المسجد وشرب أو سبل في المسجد فلا بأس وقد جاء عن بعض السلف أنه كره الصلاة في رحاب الجامع عن بعض الصحابة أنه كان يضرب الناس ويقيمهم من الرحاب ويقول: لا تجوز الصلاة في الرحاب فهذا عندي على ضربين وهو أن الصلاة في رحاب الجامع الزوائد فيه المتصلة بالصفوف المحيط بها حائط الجامع الأعظم كالصلاة في وسطه غير مكروهة، والصلاة في رحابه المتفرقة في أفنيته التي هي من وراء جدر الجامع كله مكروهة، وكذلك الصلاة في الطرقات المنفردة عن الجامع غير المتصلة بالصفوف لحجز طريق أو بعد مكان فلا يجوز، وهذا الذي كرهه من كان ينهي عن الصلاة فيه، فإذا صلّى الجمعة انتشر في أرض اللَّه عزّ وجلّ يطلب من فضل اللَّه عزّ وجلْ ومن الفضل طلب العلم واستماعه، ويقال: هو مزيد يوم الجمعة للعالم والمتعلم، قال اللَّه عزّ َوجلّ: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَاَنَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظيماً) النساء: 311 قال الله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاَ) سبأ: 01، يعني بدليل نظيرها من الآية الأخرى في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقَالاَ الْجَمْدُ لله الَّذي فَضَّلَنَا) النمل: 15. وروينا عن أنس بن مالك في قوله عزّ وجلْ: (فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلوةُ فَاْنتشَِرُوا في الأَرضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه) الجمعة: 01، قال أما أنه ليس بطلب دنيا ولكنه عيادة مريض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وشهود جنازة وتعلّم علم وزيارة أخ في الله عزّ وجلّ فإن الذكر بالعلم وتعليم الناس إياه والتذكير باللَّه عزّ وجلّ والدعوة إليه في يوم الجمعة له فضل على سائر الأيام لأنه يوم المزيد، فللقلوب فيه إقبال وتحديد، وكذلك السعي إليه والاستماع له وحضور مجالس الذكر يوم الجمعة لا مجالس القصاص أفضل من سائر الأيام، والمستمع شريك القائل في الأجر وقد قيل إنه أقرب للرحمة وقد كره العلماء الجلوس إلى القصاص سيمايوم الجمعة خاصة لأنهم يثبطون عن الغدوّ إلى الجامع في الساعة الأولى والثانية لأن الكتاب ورد بالفضل فيهما، فمن اتفق له عالم باللَّه عزّ وجلّ يذكره به ويدله عليه من علماء الآخرة الزاهدين في الدنيا يوم الجمعة غدوة في الجامع أو بعد صلاة الجمعة جلس إليه واستمع منه وإن حضر مفتِ يتكلّم بعلم الدين وكان العبد محتاجاً إلى ذلك وجالسه فهو الأفضل فإن مجالس العلماء في الجامع من زين يوم الجمعة ومن تمام فضله. قال الحسن: الدنيا ظلمة إلا مجالس العماء، فإن لم يتفق له ذلك أحيا ما بين الصلاتين وهو الورد الخامس من النهار، ويستحب صلاة العصر في الجامع إلاّ لسبب لا بدّ منه مانع، وإن قعد إلى غروب الشمس فهو أثوب للساعة المنتظرة من آخر النهار إذا أمن الفتنة والتصنع والكلام فيما لا يعنيه، ويقال: من صلّى العصر في الجامع كان له ثواب حجة ومن صلّى المغرب كان له ثواب عمرة فإن خشي دخول الآفة عليه أو لم يأمن التصنّع والخوض فيما لا يعنيه انصرف إلى منزله ذاكراً للَّه عزّ وجلّ مفكراً في آلائه وحسن نعمائه فراعى غروب الشمس بالأذكار والتسبيح والاستغفار في منزله أو مسجد حيه فذلك حينئذ أفضل له، وقال بعض السلف: أوفر الناس نصيباً يوم الجمعة من راعاها وانتظرها من الأمس وأخس الناس منها نصيباً من يصبح يوم الجمعة فيقول: أيش اليوم وقد كان بعضهم يبيت ليلة الجمعة في الجامع لأجل صلاة الجمعة ومنهم من كان يبيت ليلة السبت في الجامع لمزيد الجمعة وكثير من السلف من كان يصلِّي الغداة يوم الجمعة في الجامع ويقعد ينتظر صلاة الجمعة لأجل البكور ليستوعب فضل الساعة الأولى ولأجل ختم القرآن وعامة المؤمنين كانوا ينحرفون من صلاة الغداة في مساجدهم فيتوجهون إلى جوامعهم ويقال: أوّل بدعة حدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجوامع. قال: وكنت ترى يوم الجمعة سحراً وبعد صلاة الفجر الطرقات مملوءَة من الناس يمشون في السرج يزدحمون فيها إلى الجامع كما ترون اليوم في الأعياد حتى درس ذلك وقل وجهل وترك أولا يستحي المؤمن أن أهل الذمة يبكرون إلى كنائسهم وبيعهم قبل خروجه إلى جامعه أولا يعتبر بأهل الأطعمة المباعة في رحاب الجامع أنهم يغدون إلى الدنيا والناس قبل غدوّه هو إلى اللَّه تعالى وإلى الآخرة فينبغي أن يسابقهم إلى مولاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ويسارعهم إلى ماعنده من زلفاه، ويجب أن يكون للمؤمن يوم الجمعة مزيد في الأوراد والأعمال وليتفرغ فيه لربه عزّ وجلّ ويجعله يوم آخر إن لم يكن له يوم السبت فيوم الجمعة في الأوراد المتصلة والمزيد من الأذكار على المعلوم منها فلا يكون الجمعة كالسبت في تجارة الدنيا والشغل بأسبابها وأكره له التأهب ليوم الجمعة في باب الدنيا من يوم الخميس من إعداد المأكول والترفّه من النعمة والأكل والشرب، فقد روينا حديثاً من طريق أهل البيت فيه نظر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يأتي على أمتي زمان يتأهبون لجمعتهم في أمر دنياهم عشية الخميس كما يتأهب اليهود لسبتها عشية الجمعة وإنما كان المؤمنون يتأهبون فيه للآخرة بالأوراد الحسنة يزدادون من الأوراد المتصلة، وقد كان أبو محمد سهل رحمه اللَّه يقول: من أخذ مهنأه من الدنيا في هذه الأيام لم ينل مهنأه في الآخرة منها يوم الجمعة وقال أيضاً: يوم الجمعة من الآخرة ليس هو من الدنيا، وقال بعضهم: لولا يوم الجمعة ما أحببت البقاء في الدنيا فهو عند الخصوص يوم العلوم والأنوار ويوم الخدمة والأذكار لأنه عند اللَّه عزّ وجلّ يوم المزيد بالنظر إليه في المزار. وروينا حديثاً غريباً عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوا أشغالكم يوم الجمعة فإنه يوم صلاة وتهجّد. وروينا عن جعفر الصادق قال: يوم الجمعة للَّه عزّ وجلّ ليس فيه سفر، قال اللَّه تعالى: (وَابتَْغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه) الجمعة: 10 وما ذكرناه من الصلاة والسور المقروءَة والصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميع الذكر في يوم الجمعة فإنه يستحب في ليلتها وهي من أفضل الليالي فلا يدعن ذلك من وجد إليه سبيلاً، فإن للصادق المريد في كل وقت مفضل من اللَّه عزّ وجلّ مزيداً فإذا أحب اللَّه تعالى عبداً استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال وإذا مقت عبداً استعمله في الأوقات المفضلة بسئ الأعمال ليكون أوجع في عقابه وأشد لمقته لحرمانه بركة الوقت وانتهاكه حرمة الوقت ومما يختص به يوم الجمعة من الذكر والتمجيد بالأسماء فصول أربعة: أولها: الأربعون اسماً التي دعا بها إدريس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصه الله تعالى بها وذكر الحسن البصري أن موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان دعا بهن وأنها كانت من دعاء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والفصل الثاني: كان إبراهيم بن أدهم الزاهد يدعو بها كل يوم جمعة عشر مرات إذا أصبح وإذا أمسى فكان ذلك من عمله في يومه. والفصل الثالث: روينا عن علي رضي اللَّه عنه رواه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اللَّه عزَّ وجلّ يمجد نفسه في كل يوم وليلة. والفصل الرابع: تسبيحات أبي المعمر وهو سليمان التيمي الذي كان رأى الشهيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بعد قتله في المنام فقيل له: ما أفضل ما رأيت هناك من الأعمال؟ فقال: رأيت تسبيحات أبي المعتمر من اللَّه عزّ وجلّ بمكان، فأما هذان الفصلان من تمجيد الرب سبحانه وتعالى نفسه، وتسبيحات أبي المعتمر فقد ذكرناهما في أوّل الكتاب فيما اخترنا من الأدعية المختارة بعد صلاة الغداة وقبل غروب الشمس في كل يوم فاستثقلنا إعادتها ههنا، وأما الفصلان الآخران فنحن ذاكروهما. ذكر دعاء إدريس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثنا الحسن بن يحيى الشاهد: حدثنا القاسم بن داود القراطيسي حدثنا عبد اللَّه بن محمد القرشي حدثنا محمد بن سعيد المؤذن حدثنا سلام الطويل عن الحسن البصري قال: لما بعث الله عزّ وجلّ إدريس إلى قومه علّمه هذه الأسماء فأوحى اللَّه إليه: قلهنّ سراً في نفسك ولا تبدهنّ للقوم فيدعوني بهنّ، قال: وبهن دعا، فرفعه اللَّه عزّ وجلّ مكاناً علياً ثم علّمهن اللَّه عزّ وجلّ موسى عليه السلام ثم علّمهن اللَّه عزّ وجلّ محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبهن دعا في غزوة الأحزاب قال الحسن: وكنت مستخفياً من الحجاج فدعوت اللَّه بهنّ فحبسه عني ولقد دخل عليَّ ست مرات فأدعو اللَّه بهن فأخذ اللَّه عزّ وجلّ بأبصارهم عني فادع اللَّه عزّ وجلّ بهنّ لالتماس المغفرة لجميع الذنوب ثم سل حاجتك من أمر آخرتك ودنياك فإنك تعطاه إن شاء اللَّه تعالى فإنهن أربعون اسماً عدد أيام التوبة سبحانك لا إله إلاأنت، يا رب كل شيء، ووارثه، ورازقه، وراحمه، يا إله الآلهة، الرفيع جلاله، يا اللَّه المحمود في كل فعاله، يا رحمن كل شيء وراحمه، ياحي حين لا حيّ في ديمومة ملكه وبقائه، يا قيوم فلا يفوت شيء من علمه ولايؤده، ياواحد، الباقي في أول كل شيء وآخره، يا دائم فلا فناء ولا زوال لملكه، ياصمد من غير شبيه ولا شيء كمثله، يا بارىء فلا شئ كفؤه ولا مكان لوصفه، يا كبير أنت الذي لا تهتدي القلوب لوصف عظمته، يابارئ النفوس بلامثال خلا من غيره، يا زاكي الطاهر من كل آفة تقدسه، يا كافي الموسع لما خلق من عطايا فضله، يانقياً من كل جور لم يرضه ولم يخالطه فعاله، ياحنان أنت الذي وسعت كل شيء رحمة وعلماً، يا ذا الإحسان قد عمّ كل الخلائق منه، يا ديان العباد كل يقوم خاضعاً لرهبته، يا خالق من في السموات والأرض وكل إليه معاده، يا رحيم كل صريخ ومكروب وغياثه ومعاده، يا تام فلاتصف الألسن كل جلال ملكه وعزه، يا مبدع البدائع لم يبلغ في إنشائها عوناً من خلقه، يا علاّم الغيوب فلا يفوته شيء من خلقه ولا يؤده، يا حليم ذا الأناة فلا يعادله شيء من خلقه، يا معيد ما أفناه إذا برز الخلائق لدعوته من مخافته، ياحميد الفعال ذا المنّ على جميع خلقه بلطفه، يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شيء يعادله، يا قاهر ذا البطش الشديد أنت الذي لا يطاق انتقامه، يا قريب المتعالي فوق كل شيء علو ارتفاعه، يا مذلّ كل جبار عنيد بقهر عزيز سلطانه، يانور كل شيء وهداه، أنت الذي فلق الظلمات بنوره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يا عالي الشامخ فوق كل شيء علو ارتفاعه، يا قدّوس الطاهر من كل سوء فلا شيء يعادله من خلقه، يا مبدئ البرايا ومعيدها بعد فنائها بقدرته، يا جليل المتكبر عن كل شيء فالعدل أمره والصدق وعده، يا محمود فلا تبلغ الأوهام كنه ثنائه ومجده، ياكريم العفو ذا العدل أنت الذي ملأ كل شيء عدله، يا عظيم ذا الثناء الفاخر وذا العزّ والمجد والكبرياء فلا يذل عزه، يا عجيب فلا تنطق الألسن بكنه آلائه وثنائه، يا غياثي عند كل كربة ويا مجيبي عند كل دعوة، أسألك اللَّهم يا رب الصلاة على نبيك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأماناً من عقوبات الدنيا والآخرة وأن تحبس عني أبصار الظالمين المريدين بي السوء وأن تصرف قلوبهم عن شرّ ما يضمرون بي إلى خير ما لا يملكه غيرك، اللَّهم هذا الدعاء ومنك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان ولاحول ولا قوّة إلا باللَّه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. ذكر دعاء إبراهيم بن أدهم حدثنا أحمد بن الموصلي الوكيل بن الموكل حدثنا: جعفر بن نصير الخواص الخراساني حدثني إبراهيم بن بشار خادم إبراهيم بن أدهم قال: كان إبراهيم بن أدهم يقول هذا الدعاء في يوم الجمعة إذا أصبح ويقوله إذا أمسى مثل ذلك مرحباً بيوم المزيد والصبح الجديد والكاتب الشهيد يومنا هذا يوم عيد اكتب لنا ما نقول بسم اللَّه الحميد المجيد الرفيع الودود الفعّال في خلقه ما يريد أصبحت باللَّه مؤمناً وبلقائه مصدقاً وبحجته معترفاً ومن ذنبي مستغفراً ولربوبية اللَّه خاضعاً ولسوى اللَّه عزّ وجلّ في الإلهية جاحداً وإلى اللَّه فقيراً وعلى اللَّه متوكلاً وإلى اللَّه منيباً، أشهد اللَّه وأشهد ملائكته وأنبياءه ورسله وحملة عرشه ومن خلق ومن هو خالقه بأنه هو اللَّه لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن الجنة حق والنار حق والحوض حق والشفاعة حق ومنكراً ونكيراً حق ولقاءك حق ووعدك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأن اللَّه يبعث من في القبور على ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله، اللَّهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك اللَّهم من شرّ كل ذي شرّ، اللَّهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف اللَّهم يا رب عني سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله بيديك أنا لك وإليك أستغفرك وأتوب اليك، آمنت اللَّهم بما أرسلت من رسول، وآمنت اللَّهم بما أنزلت من كتاب وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيراً خاتم كلامي ومفتاحه وعلى أنبيائه ورسله أجمعين آمين يا رب العالمين، اللَّهم أوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشروباً روياً سائغاً هنيئاً، لا نظمأ بعده أبداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 واحشرنا في زمرته غير خزايا ولا نادمين ولاناكثين ولا مرتابين ولامفتونين ولا مغضوباً علينا ولا ضالين، اللَّهم اعصمني من فتن الدنيا ووفقني لماتحب وترضى من العمل وأصلح لي شأني كله وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تضلني وإن كنت ظالماً سبحانك سبحانك يا علي، ياعظيم، يا بار، يا رحيم، ياعزيز، يا جبار، سبحان من سبحت له السموات بأكنافها، وسبحان من سبحت له الجبال بأصواتها، وسبحان من سبحت له البحار بأمواجها، وسبحان من سبحت له الحيتان بلغاتها، وسبحان من سبحت له النجوم في السماء بأبراقها، وسبحان من سبحت له الشجر بأصولها ونضارتها، وسبحان من سبحت له السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن، سبحانك سبحانك يا حي، يا حليم، سبحانك لا إله إلا أنت وحدك، لا شريك لك تحيي وتميت وأنت حي لا تموت، بيدك الخير وأنت على كل شيء قدير، فإذا دعا بهده الأدعية الأربع يوم الجمعة فقد كمل اللَّه عزّ وجلّ عمله وتمّ عليه فضله فإذا عمل بخير ما ذكرناه من الأعمال والأذكار واجتنب سيّء ما ذكرناه من الأقوال والأفعال فهو من أهل الجمعة وممن له المزيد بها نصيباً موفوراً وكان عمله الخالص وذكره الصادق عند اللَّه عزّ وجلّ مشكوراً، وهذا آخر كتاب الجمعة وهيْئاتها وآدابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الفصل الثاني والعشرون كتاب الصيام وترتيبه ووصف الصائمين وذكر مايستحب للعبد من الصيام وطرقات الصائمين في الصوم ووصف صوم الخصوص قال اللَّه عزّ وجلّ: (وَاسْتَعينُوا بِالصبَّْرِ وَالصَّلاةِ) البقرة: 351، جاء في التفسير: الصبر يعني الصوم وكان رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمي رمضان شهرالصبر لأن الصبر حبس النفس عن الهوى وإيقافها وحبسها على أمر المولى، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: الصبر نصف الإيمان والصوم نصف الصبر، وقال اللَّه تعالى: (وَاسْتَعينُوا بِالصّبْرِ) البقرة: 351، قيل: معناه على مجاهدة النفس وقيل: على مصابرة العدوّ، وقال بعض العلماء: استعينوا بالصبر على الزهادة في الدنيا بالصوم، لأن الصائم كالزاهد العابد، فالصوم مفتاح الزهد في الدنيا وباب العبادة للمولى لأنه منع النفس عن ملاذها وشهواتها من الطعام والشراب كما منعها الزاهد العابد بدخوله في الزهد وشغله بالعبادة، ولذلك جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما في المعنى فقال: إن اللَّه عزّ وجلّ يباهي ملائكته بالشاب العابد فيقول: أيها الشاب التارك شهوته من أجلي المبتذل شبابه لي أنت عندي كبعض ملائكتي، وقال في الصائم: مثل ذلك يقول عزّ وجلّ: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي، ففي الصوم عون على مجاهدة النفس وقطع حظوظها ومنع عادتها وفيه إضعاف لها ونقصان لهواها، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول اللَّه عزّ وجلّ: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، فأضافه عزّ وجلّ إليه تفضيلاً له تخصيصاً كما قال تعالى: (وَأنْ المسَاجِدَ للَِّه فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَداً) الجن: 18 وكما قال: (إنَّمَا أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ رَبَّ هِذِهِ البَلْدَةِ الذي حَرَّمَهَا) النمل: 91 فلما كانت المساجد أحب بيوت الدنيا إليه وكانت مكة أشرف البلاد عنده أضافها إلى ذكره وله كل شيء كذلك لما كان الصيام أفضل الأعمال عنده وأحبها إليه لأن فيه خلقاً من أخلاق الصمدية ولأنه من أعمال السر بحيث لا يطلع عليه إلا هو أضافه لنفسه، وقيل: ما في عمل ابن آدم شيء إلا ويقع فيه قصاص ويذهب برد المظالم إلا الصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فإنه لا يدخله قصاص، ويقول اللَّه عزَّ جلّ يوم القيامة: هذا لي فلا يقتص منه أحد شيئاً، يقال: ما من عمل إلا وله جزاء معلوم إلا الصوم فإنه لا تعلم نفس ماجزاؤه ويكون أجره بغير حساب يفرغ له إفراغاً ويجازف مجازفة وهو أحد الوجوه في قوله عزّ وجلّ: (فَلا تَعْلَمْ نَفْسُ مَا أُخِفْيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزاءً بِمَا كَانوا يَعْمَلْونَ) السجدة: 71، قيل: كان عملهم الصيام، وكذلك في تأويل قوله عزّ وجلّ: السائحون قيل هم الصائمون كأنهم ساحوا إلى ربهم عزّ وجلّ بجوعهم وعطشهم وتركوا قرّة أعين أبناء الدنيا من أكلهم وشربهم فآواهم مولاهم فيما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء لعملهم، وقال تعالى: (إنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الزمر: 01، قيل: الصائمون والصبر اسم من أسماء الصوم فلما أخفي ذكره بالصوم في نفسه أخفى اللَّه عزّ وجلْ جزاءه إياه عن غير نفسه. وفي الحديث: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، فالصوم ذكر الله عزّ وجلّ وهو سرّ وليس أستحب للعبد أن يزيد على إفطار أربعة أيام نسقاً فإن ذلك يقسي القلب ويغيّر الحال ويولّد العادات ويفتق الشهوات ولأنه لم يؤمر ولم يندب إلى أن يوالي بين إفطار أكثر من أربعة أيام متوالية وهي النحر وأيام التشريق، ويستحب له أن يصوم يوماً ويفطر يوماً أو يصوم يومين ويفطر يومين وذلك صوم نصف الدهر وإن أحب فليصم يومين ويفطر يوماً وذلك صوم ثلثي الدهر فإن أحب فليصم يوماً ويفطر يومين وهذا صيام ثلث الدهر، هذه طريق الصائمين وفيها روايات حذفنا ذكر فضائلها للاختصار، فإن صام ثلاثاً من أول الشهر وثلاثاً من وسطه وثلاثاً من آخره فحسن، فإن صام الأثانين والأخمسة والجمع فذلك خير كبير وأقل من ذلك أن يصوم الأيام البيض وأول يوم من الشهر وآخر يوم منه، وأفضل الصيام ما كان في الأشهر الحرم وأفضل ذلك ماوقع في العشرين منها وهو المحرم وذو الحجة وبعد ذلك ما كان في شعبان فإن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكثر الصيام فيه حتى يصله بشهر رمضان ولايدع أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وليواظب على صوم الاثنين والخميس، وفي الخبر: أفضل الصيام بعد شهر رمضان وشهر اللَّه المحرم وصوم النصف الأول من شهر شعبان مستحب، وقد كانوا يفطرون النصف الأخير منه، وقد روينا خبر: إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى يدخل رمضان وليفطر قبل رمضان أياماً فإن وصل شعبان برمضان فجائز، ولا يجوز أن يستقبل رمضان بيومين أو ثلاثة إلا أن يوافق ذلك يوم اثنين أو خميس قد كان يصومه، وقد كان بعض الصحابة يكره أن يصام رجب كله لئلا يضاهي به شهر رمضان وكانوا يستحبون أن يفطروا منه أياماً وقد كره قوم صيام الدهر كله وردت أخبار في كراهته وقد تأوّل ذلك بأنهم كانوا يصومون السنة كلها مع يوم العيد وأيام التشريق فوردت الكراهة لذلك، وإن كان يريد صلاح قلبه وانكسار نفسه واستقامة حاله في صوم الدهر فليصمه، فهو حينئذ كالواجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 عليه إذا كان تقواه وصلاحه فيه، فقد روينا عن سعيد عن قتادة عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صام الدهر ضيقت عليه جهنم وعقد تسعين معناه لم يكن له فيها موضع وقد دلت الأصول على فضل صوم الدهر وقد صامه طبقات من السلف الصالح من الصحابة والتابعين بإحسان إلا أن يكون الرجل يرغب عن السنة ولا يرى الرخصة في الإفطار فيكره له صوم الدهر للمعاندة لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالسعة في الدين وأخبر اللَّه عزّ وجلّ بأنه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، وفي لفظ آخر: يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتي معصيته، وقد دلّت الأخبار على فضل صوم نصف الدهر بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً وذلك ليكون العبد بين حالين حال صبر وحال شكر، ومن ذلك ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرضت عليَّ مفاتيح خزائن الدنيا وكنوز الأرض فرددتها فقلت: أجوع يوماً وأشبع يوماً أحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت، ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل الصيام صيام أخي داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ومن ذلك منازلته عليه السلام لعبد الله بن عمرو في الصوم وهو يقول: إني أريد أفضل من ذلك حتى قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُم يوماً وافطر يوماً قال: أريد أفضل من ذلك قال: لا أفضل من ذلك، وروي في الخبر: صوم يوم من شهر حرام أفضل من صوم ثلاثين يوماً من غيره وصوم يوم من رمضان أفضل من صوم ثلاثين يوماً من شهر حرام، وفي حديث: من صام ثلاثة أيام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب الله تعالى له عبادة سبعمائة عام، وقد روينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صام شهراً كاملاً قط إلا رمضان بل كان يفطر منه وقد وصل مرة شعبان برمضان وفصل صوم رمضان مراراً من شعبان، وما ذكرنا من أنواع الصوم فهو صيام جماعة من السلف الصالح وفي كل منه ورد فيه فضائل يكثر ذكرها وكذلك في جميع ما نذكره من أعمال القلوب والجوارح في الأيام والليالي وكذلك فيما نذكره من أخلاق الإيمان وأوصاف الموقنين، وقدجاءت في أكثر ذلك فضائل ومثوبات إلا أنا لم نقصد تعديد ذلك وليس مذهبنا الاشتغال بذكر فضائل الأعمال إنما طريقنا تهذيب قلوب العمال، فبطهارة القلوب وحقيقة الإيمان تزكو الأعمال وتقرب العاملون من ذي الجلال ولا حول ولاقوة إلا بالله العليَّ العظيم. ال وتقرب العاملون من ذي الجلال ولا حول ولاقوة إلا بالله العليَّ العظيم. ذكر صوم الخصوص من الموقنين اعلم وفقك اللَّه تعالى أن الصوم عند الصائمين هو صوم القالب فأما صوم الخصوص من الموقنين فإن الصوم عندهم هو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية ثم صوم السمع والبصر واللسان عن تعدي الحدود وصوم اليد والرجل عن البطش والسعي في أسباب النهي، فمن صام بهذا الوصف فقد أدرك وقته في جملة يومه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وصار له في كل ساعة من نهاره وقت وقد عمر يومه كله بالذكر، ولمثل هذا قيل: نوم الصائم عبادة ونفسه تسبيح وقد قرن اللَّه عزَّ وجلّ الاستماع إلى الباطل والقول بالإثم إلى أكل الحرام ولولا أن في المسموعات والمقولات حراماً على المستمع والإصغاء إليه وحراماً على القائل النطق به ما قرنهما إملي أكل الحرام وهو من الكبائر، فقال تعالى: سماعون للكذب أكّالون للسحت، وقال سبحانه وتعالى: (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانُّيون وَالأَحْبَارُ عَنْ قَولِهِمُ الإثَمْ وَأَكلِهِمُ السُّحْتَ) المائدة: 36، فالعبد الحافظ لحدود اللَّه عزّ وجلّ إن أفطر بالأكل والجماع فهو صائم عند اللَّه في الفضل للأتباع ومن صام عن الأكل والجماع وتعدى الحدود وأضاع فهو مفطر عند اللَّه عزّ وجلّ صائم عند نفسه، لأن ما أضاع أحب إلى اللَّه عزّ وجلّ وأكثر ممَّا حفظ، ومثل من صام من الأكل وأفطر بمخالفة الأمر بسائر الجوارح مثل من مسح كل عضو من أعضائه في وضوئه ثلاثاً ثلاثاً ثم صلَّى فقد وافق الفضل في العدد إلا أنه تارك للفرض من الغسل فصلاته مردودة عليه لجهله وهو مغتر بفعله ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن النهي مثل من غسل كل عضو من أعضائه في وضوئه مرة مرة فهو تارك للفضل في العدد إلا أنه مكمل للفرض محسن في العمل فصلاته متقبلة لأحكامه للأصل ولعمله بالعلم، ومثل من صام من الأكل والجماع وحفظ جوارحه عن الآثام كمثل من غسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً فقد تمم الفرض وأحسن بتكملة الفضل فهذا كما قال تعالى تماماً على الذي أحسن، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوضوء، كذلك هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم عليه السلام وقد قال اللَّه تعالى: (مِلَّةَ أَبيكُمْ إبْراهيمَ) الحج: 87 أي عليكم بها فائتموا واقتدوا به فيها، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر، وجاء في الخبر أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجهدهما الجوع والعطش في آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذناه في الإفطار فأرسل إليهما قدحاً وقال: قل لهما قيئا فيه ما أكلتما قال: فقاءت إحداهما نصفه دماً عبيطاً ولحماً عريضاً وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه، فعجب الناس من ذلك فَقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هاتان صامتا عما أحل اللَّه عزَّ وجلَّ لهما وأفطرتا على ما حرم اللَّه عزّ وجلَّ عليهما قعدت إحداهما الى الأخرى فجعلا يغتابان الناس فهذا ما أكلا من لحومهم، وكان أبو الدرداء يقول: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم يعيبون صوم الحمقى وسهرهم ولذرة من ذي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين وكل محظور عليك أن تتفوّه به فمحظور عليك أن تستمع إليه وكل حرام عليك أن تفعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فمكروه أن تنظر إليه أو يخطر ببالك، وقد سوّى اللَّه عزّ وجلّ بين المستمع والقائل في قوله تعالى: (إنَّكُمْ إذاًِ مِثْلُهُمْ) النساء: 041 ومثل الصائم مثل التوبة لأن الصبر من أوصافها وإنما كانت التوبة مكفرة لما سلف من السيئات لأجل أنه صبر عما سلف من سئ العادات ثم اعتقد ترك العود إلى مثل ما سلف بصيانة جوراحه التي كانت طرائق المكروهات، كذلك كان الصيام جنة من النار وفضيلة من درجات الأبرار، إذا صبر عليه الصائم فحفظ جوارحه فيه من المآثم فإذا أمرحها في الآثام كان كالتائب المتردد الناقض للميثاق لم تكن توبته نصوحاً ولا كان صوم هذا صالحاً وصحيحاً ألا ترى إلى قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصوم جنة من النار ما لم يخرقها بكذب أو غيبة وأمره في قوله عليه السلام: إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولايجهل وان امرؤ شاتمه فليقل: إني صائم، وفي لفظ آخر لايجعل يوم صومه ويوم فطره سواء أي يتحفّظ في صومه لحرمته، وفي خبر: آخر الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته، فحفظ الأمانة من صيانة الجوارح لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لماتلا هذه الآية: (إنَّ اللَّهَ يَأمُرُُكُمْ أنْ تؤَدُّوا الأمانَاتِ إلى أهْلِهَا) النساء: 58 وضع يده على سمعه وبصره قال السمع أمانة والبصر أمانة فذلك مجاز قوله فليقل: إني صائم، أي يذكر الأمانة التي حمل فيؤديها إلى أهلها ومن حفظ الأمانة أن يكتمها فإن أفشاها من غير حاجة فهي خيانة لأن مودعها قد لا يجب أن يظهرها وحقيقة حفظ السرّ نسيانه وضياع السرّ أن يكثر خزانه فحقيقة الصائم أن يكون ناسياًً لصومه لا ينتظر الوقت شغلاً عنه بالمؤقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الفصل الثالث والعشرون كتاب محاسبة النفس ومراعاة الوقت قال اللَّه عزّ وجلَّ: (وَنَضَعُ الْمَوازينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِىامَةِ) الأنبياء: 47 إلى قوله: (أَتَيْناَ بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبين) الأنبياء 47 وقرئت: آتينا بها ممدودة أي جازينا بها فالتخويف بهذا الحرف أشد وأبلغ، وقال تعالى يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم الآية، وأوصى أبو بكر عمر رضي اللَّه عنهما عند موته، فقال: إن الحق ثقيل وهو مع ثقله مريء وإن الباطل خفيف وهومع خفته وبيء وإن للَّه عزّ وجلّ حقاً بالنهار لا يقبله بالليل وحقاً بالليل لايقبله بالنهار وإنك لو عدلت على الناس كلهم وجرت على واحد منهم لمال جورك بعدلك فإن حفظت وصيتي لم يكن شئ أحبّ إليك من الموت وهو مدركك وإن ضيعت وصيتي لم يكن شيء أبغض إليك من الموت ولن تعجزه، وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر على اللَّه تعالى يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية وإنما خف الحساب في الآخرة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وثقلت موازين قوم في الآخرة وزنوا أنفسهم في الدنيا وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، فمحاسبة النفس تكون بالورع والموازنة تكون بمشاهدة اليقين والتزين للعرض الأكبر يكون بمخافة الملك الأكبر وهو حقيقة الزهد، وأوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا ذر فقال له: اتق اللَّه أينما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن، ووجدت هذه الوصية في كتاب اللَّّّّّّه عزّ وجلّ لعباده بقوله عزّ وجلَّ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم وَإيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه) النساء: 131. والكلمة الثانية في قوله تعالى: (وَيَدْرَءونَ بِالحَسَنِةَ السَّيِّئَةَ) الرعد: 22 أي يدفعون بعمل الحسنة ويتبعونها السيئة المتقدمة تكفرها، والكلمة الثالثة في قوله تعالى: وَقُولُوا للِنَّاسِِ حُسْناً) البقرة: 83 وقد أخبر اللَّه عزّ وجلّ عن وصية عباده الصالحين بثلاث فقال: (إنَّ الإنْساَنَ لَفِي خُسْرٍ) العصر: 2 أي لفي خسران ونقص بفوت أوقاته وفقد أرباحه، ثم استثنى فقال: إلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَتَواصَوْا بالحَقِّ وَتَوَاصَّوْا بِالصَّبْرِ) العصر: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وقال في الوصف الثالث: (وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمِةَ) البلد: 17 واتباع الحق بمخالفة الهوى فيه الصلاح، إذ في موافقة الهوى الفساد، والصبر قوام الأمر، وبمقداره يكون الريح والرحمة للخلق باب الرحمة من الخالق ومفتاح حسن الخلق ومعها حسن الظن وسلامةالقلب وعندها ينتفي الحسد والغل ويوجد التواضع والذل، وهذا وصف أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين اختارهم لصحبة نبيه عليه السلام وأنزل عليهم السكينة وأيدهم بروح منه فقال: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) الفتح: 29 وقال تعالى في حقيقة الرحمة: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة) الاسراء: 24 وقال في مثله عن وصف أحبابه لإخوانهم: أذلة على المؤمنين، فهذه الثلاثة مفاتيح رقة القلب ومغالق القسوة وفي الرقة الإقبال على اللَّه عزّ وجلّ وعلى الدار الآخرة والتيقظ لأمره والتفكّر في وعده ووعيده وفي القسوة الإعراض وطول الغفلة فمحاسبة النفس تكون بالورع وموزنتها تكون بمشاهدة عين اليقين والتزين للعرض الأكبر يكون بمخافة الملك الأكبر وهو حقيقة الزهد. وروينا عن علي رضي اللَّه عنه: أما بعد فإن المرء يسره درك مالم يكن ليفوته ويسوءه فوت مالم يكن ليدركه، فمانا لك من دنياك فلا تكترث به فرحاً وما فاتك منها فلا تتبعه نفسك أسفاً وليكن سرورك بما قدمت وأسفك على ماخلفت وشغلك لآخرتك وهمك فيما بعد الموت، وقال أيضاً: الهوى شريك العمى، ومن التوفيق الوقوف عند الحيرة ونعم طارد الهم اليقين وعاقبة الكذب الذم وفي الصدق السلامة، رب بعيد أقرب من قريب وغريب من لم يكن له حبيب والصديق من صدق غيبه ولايعدمك من حبيب سوء الظن، نعم الخلق التكرم والحياء سبب إلى كل جميل وأوثق العرى التقوى وأوثق سبب أخذت به نفسك سبب بينك وبين اللَّه عزّ وجلّ إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك والرزق رزقان، رزق تطلبه ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك وإن كنت جازعاً على ما أتلفت من يديك فلا تجْزَعَنَّ على مالم يصل إليك واستدلل على مالم يكن بما كان فإن الأمور أشباه، وقال عبد اللَّه بن عباس: لكل شيء آفة وآفة العلم النسيان وآفة العبادة الكسل وآفة اللب العجب وآفة الظرف الصلف وآفة التجارة الكذب وآفة السخاء التبذير، وآفة الجمال الخيلاء وآفة الدين الرياء وآفة الإسلام الهوى، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آفة أمتي الدينار والدرهم، وروينا عن وبرة السلمي عن مجاهد قال: أوصاني ابن عباس بخمس لهن أحسن من الدرهم الموقوف ومن الذهب الموصوف قال: لا تتكلمن فيما لا يعنيك فإنه أقرب لك من السلامة ولا آمن عليك الخطأ ولا تتكلمن فيما يعنيك حتى ترى له موضعاً، فربّ متكلم فيما يعنيه قد وضعه في غير موضعه فلقي عنتاً، ولا تمارين حليماً ولاسفيهاً أما الحليم فيقليك وأما السفيه فيؤذيك، واخلف أخاك إذا غاب عنك بمثل ماتحب أن يخلفك به إذا غبت عنه واعفه مما تحب أن يعفيك منه واعمل بعمل رجل يعلم أنه مكافأ بالإحسان مأخوذ بالإساءة، وفي وصية العباس لابنه عبد اللَّه قال: يا بني إني أرى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الرجل يقدمك على الأشياخ ويكرمك فاحفظ عني هذه الخصال لا تفشين له سرّاً ولا تعصين له أمراً ولاتغتابنّ عنده أحداً ولا يطلعن منك على خيانة ولا يجربن عليك كذبة، هذا في روايتين دخلت إحداهما في الأخرى قال في إحداهما: قلت للشعبي: كل واحدة منهن خير من ألف، فقال كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف، وقال يوسف بن أسباط: كان يقال ثلاث من كنّ فيه فقد استكمل إيمانه من إذا رضي لم يخرج رضاه إلى باطل وإذا غضب لم يخرج غضبه عن حق وإذا قدر لم يأخذ ماليس له، وقد روينا مسنداً من طريق، وقال سري بن المغلس: ثلاث يستبين بهن اليقين، القيام بالحق في مواطن الهلكة، والتسليم لأمر اللَّه عزّ وجلّ عند نزول البلاء، والرضا بالقضاء عند زوال النعمة نعوذ باللَّه منه، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث من كنّ فيه استكمل إيمانه لا يخاف في اللَّه لومة لائم ولا يرائي بشيء من عمله، وإذا عرض عليه أمران: أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر الآخرة على الدنيا، وفي الخبر المشهورثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فأما المنجيات فخشية اللَّه في السر والعلانية وكلمة العدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، وروينا في الخبر التكرم التقوى والشرف التواضع والغنى اليقين، وفي الحديث الآخر: الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم، وفي حديث عمار أسنده إلى رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفى بالموت واعظاً وكفى بالخشية علماً وكفى باليقين غنى وكفى بالعبادة شغلاً. روينا عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الخطباء وخطيب الخطباء وحكيم الحكماء في خطبة الوداع كلمات جامعات موجزات في الوعظ والتذكرة والتزهد والتبصرة وينتظم جميع معاني ما قيل في معناها رواه أبان بن عياش عن أنس بن مالك أن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب على ناقته فقال: يا أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب وكأن الحق فيها على غيرنا وجب وكأن من نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوّئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنّا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيب نفسه عن عيوب الناس وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن أذل نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شرّه، طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم يعدها إلى بدعة، وقد روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث جامع لهذه المعاني المبثوثة مختصر في اللفظ والمعنى يقال إنه نصف العلم وهو قوله من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه، وما لم يؤمر به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 العبد فرضاً ولم يندب إليه فضلاً ولا يحتاج إليه مباحاً فهو مما لايعنيه وفي حديث آخر هو نصف الورع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الإثم جوار القلوب أي دع ما تشكنّ فيه من قول أو فعل فإن فيه غنيمة أو سلامة إلى شيء أنت على يقين من الفضيلة فيه أو السلامة معه وما حز في قلبك ولم ينشرح له فدعه فإن ذلك إثم وإن قل ودق، وقد روينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوصف المبسوط من أوصاف المؤمنين كوصف اللَّه تعالى أولياءه في الكلام المشروح أنه بينما هو جالس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أصحابه إذ سجد فأطال ثم رفع رأسه مادّاً يديه فقال: اللَّهم أكرمنا ولاتهنّا وزدنا ولا تنقصنا وأعزنا ولا تذلنا، قلنا: وما ذاك يا رسول اللَّه؟ قال: أنزلت عليّ آيات من أقامها دخل الجنة ثم تلا علينا قدأفلح المؤمنون إلى آخر العشر. وروينا عنه في حديث مجمل أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله متى أعلم أني من أهل الجنة، وفي لفظ آخر أني مؤمن حقاً، فقال: إذا كنت بهذه الأوصاف، ثم تلا عليه: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم إلى آخر النعوت، وروينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوصف الجامع المختصر كوصف الحكيم الأكبر من صلح له من عباده بالإخلاص في التوحيد والعمل فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو لم تنزل عليّ إلا هذه الآية كانت تكفي، ثم قرأ آخر سورة الكهف (فََمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً) الكهف 110 إلى آخرها، فكان هذا أفصل الخطاب وبلاغاً لأولي الألباب فالعمل الصالح الإخلاص في العبادة ونفي الشرك بالخلق هو اليقين بتوحيد الخالق، وقد قال الله وهو أحسن القائلين في وصف أوليائه الخائفين: (إِنَّ الَّذينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبَّهمْ مُشْفِقُونَ) (والَّذينَ هُمْ بآيات رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون) المؤمنون: 57 - 58 إلى قوله: (وَهُمْ لَهَا سَابقُونَ) المؤمنون: 16، فوصفهم بسبع مقامات جامعات بالغات تنتظم بمقامات أهل المحاسبة وتستحوذ على معاني أحوال أهل المراقبة افتتحها بالخشية والإشفاق وختمها بالوجل والإنفاق وجعل موجبها اليقين وهو الذي رجحت به موازين المتقين صيره آخر وصفهم ونهاية نعتهم وهو قوله تعالى: (أنَّهُمْ إلَى رَبَّهم راجعُونَ) المؤمنون: 60 أي لأجل يقينهم بمرجعهم إليه خافوه وأشفقوا وآمنوا به وأخلصوا وأتوه نفوسهم وأموالهم فهذا كقوله في الكلام المختصر: (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّر المُؤمِنين) البقرة: 223 فللخائفين الأمن من الخوف عند اللقاء وحسن المنقلب والبشرى بالقرب لديه والزلفى، فصورة المحاسبة أن يقف العبد وقفة عند ظهور الهمة وابتداء الحركة ثم يميز الخاطر وهو حركة القلب والاضطراب وهو تصرف الجسم فإن كان ما خطر به الخاطر من الهمة التي تقتضي نية أو عقداً أو عزماً أو فعلاً أو سعياً إن كان عزّ وجلّ وبه وفيه معنى عزّ وجلّ أي خالصاً لأجله ومعنى به أي بمشاهدة قربه لا بمقاربة نفسه وهواه ومعنى فيه أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 في سبيله وطلب رضاه عنه وما ندب عنده أمضاه وسارع في تنفيذه وإن كان لعاجل دنيا أو عارض هوى أو لهو وغفلة سرى بطبع البشرية ووصف الجبلية نفاه وسارع في نفيه ولم يمكن الخاطر من قلبه بالإصغاء إليه والمحادثة له فيولد فيه هماً ردياً يصعب عليه بعد حين طرحه وينتج منه فكراً دنيّاِ يعسر بعد وقت نفيه ويؤثر ذلك في قلبه أثراً يستبين له بعد حين فعله، معنى قولنا: إن كان الله تعالى أي خالصاً لأجله ومعنى قولنا به أي بمشاهدة قربه لا بمقارنة نفسه ووصفه وهواه ومعنى قولنا فيه أي في سبيله وطلب ماعنده لا لأجل عاجل حظه فإن اشتبه عليه الخاطر فلم ينكشف له ماورد به أمحمود هو الله عزّ وجلّ فيه رضاه وعلى العبد فيه سبق وتنفيذ أم مكروه وليس لله فيه محبة وللعبد في نفيه مزيد وقربة فيكون أشكال ذلك لأحد معان ثلاث؛ ضعف يقين عن نقص معرفة بالمبتلي، أو قلة علم عن جهل بغامض الحكم الباطل، أو لغلبة هوى كامن في النفس متولد من طبائع الحس، وقد قال بعض العلماء: ليس العالم الذي يعرف الخير من الشر هذا العاقل يعرفه ولكن العالم من يعرف خير الشرين يعني يفعله إذا اضطر إليه وعرف شر الخيرين يعني فاجتنبه لما يؤول إليه واعلم أن حكم الله فيما اشتبه من الأمور الإمساك والوقوف وأن لا يقدم العبد على ذلك بعقد ولا عزم إن كان من أعمال القلوب ولا يمضي ذلك بفعل ولا سعي إن كان من عمل الجوارح بل يقف ويوقف الأمر حتى يتبين له وهو صورة الورع لأن الورع هو الجبن والتأخر عن الإقدام على المشكلات وعن الهجوم في الشبهات لا بقول ولا بفعل ولا بعقد حتى تنكشف وانكشافها بغامض العلم لغموضها وتدقيق معرفة المعاني لدقتها وخفائها كما جاء في الخبر: أعلم الناس أعرفهم بالحق إذا اختلف الناس، وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عزّ وجلّ يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند هجوم الشهوات. وجاء عن ابن مسعود في وصف كثرة الشبهات: أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع وسيأتي عليكم زمان يكون خيركم فيه المئبت كما وقف طائفة من الصحابة عن القتال مع أهل العراق وأهل الشام لما أشكل عليه الحال منهم سعد وابن عمر وأسامة ومحمد بن مسلمة وغيرهم، فمن لم يتوقف عند الشبهات وأقدم عليها كان متعباً لهواه معجباً برأيه وهذا من معنى الخبر الذي جاء في ذم من كان هذا وصفه، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوي متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك فلم يذم بوجود الشح لأنه صفة النفس وإنما ذم من أطاع النفس في شحّها بإمساك محبوبها على إيثار محبة الله عزّ وجلّ من الإنفاق ومثله وهوى متبع فلم يغب بوجود الهوى لأنه روح النفس مستكن فيها وإنما عيب باتباعه وكذلك قوله: وإعجاب كل ذي رأي برأيه لم ينقصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 بوجود رأيه ممّا رآه من الأمر لأنه نتيجة عقله وثمرة فهمه وإنما نقصه بنظره إليه وإدلاله به دون سبق نظره إلى من أراه وبنور هداه وبإيثار رأيه على رأي من هو أعلم منه أو بأن يزري على رأي غيره افتخاراً برأيه، وقد قال الله عزّ وجلّ: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) النجم32: وقد وصف أهل الرأي من أوليائه في قوله عزّ وجلّ: (إنّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمينَ) الحجر75:، وقال تعالى: (عَلَى بَصِيرةٍ أنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف: 108، وجاء في الأثر: ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح، وجاء: أنتم شهداء الله في أرضه، وعن بعض السلف: أفضل العبادة الرأي الحسن؛ فأما ما أشكل لتجاذب الأمثال ولم يتبين لك إلى أي مثل ترده فالورع أن تقف ولا تمضي حتى ينكشف، وأما ما اشتبه لقصور العلم بالاستدلال فالعلم فيه أن تعرف الأصلين من الحرام والحلال ثم ترده إلى أشبههما به وهذا ظاهر مثل ماأحلت طائفة النظر إلى الغلام الجميل لأنه ذكر فتحتاج إلى أن ترده إلى أحد الأصلين لأنه مشتبه قال الله عزّ وجلّ: (انْظُرُوا إلى ثَمَرهِ إذا أثْمَرَ) الأنعام: 99، وقال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارهِمْ) النور: 30 فكان هذا الأصل أشبه لوجود الجنس ومثله الاستماع إلى القصائد أي إنشاد الشعر المباح فكان الاستماع إلى القرآن حلالاً والاستماع إلى الغناء حراماً وكانت القصائد بالغناء أشبه فكرهناه لغير أهله، وكذلك القول في تلحين القرآن: إذا جاوز الحد في مد المقصور وقصر الممدود مكروه لشبهه بالأغاني ومثل لبس القطن ولبس الحرير فكرهنا لبس الملحم والعمل به لأنه بالحرير أشبه لما فيه منه فأما الإقدام على الأمور الغامضة مما لم ينكشف للأسماع فلم يظهر للأبصار فإن القلوب تسأل عن عقود سوء الظن بها والقطع بظاهر الأمر عليها وهو معنى قول الله عزّ وجلّ عن قفو ما لم يبين علمه إذا لم يجعل من علم العبد وتهدده عليه بمساءلة الجوارح عنه في قوله تعالى: (وَلاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الإسراء: 36، أي لا تتبع ولا تجسس أثر ما لم تعلم فتشهد عليه بسمع أو رؤية أو عقد قلب إذ حقيقة العلم السمع والمشاهدة فلذلك قال: (إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِك كَانَ عَنْهُ مَسْؤوُلاً) الإسراء: 36 وكذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث فمن اشتبه عليه الأمر فقطع به فهو متبع للهوى ومن تفرس في فعل أوامر غاب عنه حقيقة فأخبر به وأظهره على صاحبه فقد أساء كيف وقد جاء في الخبر: من حدّث بما رأته عيناه أو سمعت أذناه كتبه الله عزّ وجلّ من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، هذا لكشف ستر الله على عباده ومحبته للساترين منهم، ولذلك كان من دعاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه: اللهم أرنا الحق حقاً فنتبعه والباطل باطلاً فنجتنبه ولا تجعل ذلك علينا متشابهاً فنتبع الهوى، وكذلك روينا عن عيسى عليه السلام: إنما الأمور ثلاثة: أمر استبان لك رشده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فاتبعه، وأمر استبان غيّه فاجتنبه، وأمر أشكل عليك فكله إلى عالمه، وقد كان من دعاء عليّ رضى الله عنه: اللهم إني أعوذ بك أن أقول في العلم بغير علم فنعمة الله سبحانه تعالى في كشف الباطل باطلاً وبيان الضلال ضلالاً مثل نعمه في إظهار الحق وبيان الصدق لأنه باب من اليقين،، ولذلك تجمل الله به على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعله من تفصيل آياته في قوله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمين) الأنعام: 55 فنصب سبيل على إضمار اسمه ورفعه على كشف دلالاته وتبيان طرقه وقد وعد الله ذلك للمتقين وقدمه على تكفير السيئات والمغفرة وأخبر أن ذلك من الفضل العظيم في قوله عزّ وجلّ: (يَاأيُّها الَّذين آمَنُوا إنْ تَتَّقوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانَاً وَيُكَفِّرّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم) الأنفال: 29 أي نوراً في قلوبكم تفرقون به بين الشبهات ومثله، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً أي من كل أمر أشكل على الناس ورزقه من حيث لا يحتسب علم بغير تعليم بل إلهام وتوفيق من لدن الخبير العليم، وقد وعد ذلك المؤمنين عند اختلاف العلماء للبغي بينهم وهو الكبر والحسد، وحرم ذلك المنافقين الذين لايصدقون بالآيات والقدر والغائبات فقال عزّ وجلّ في ذلك: (وَمَا اخْتَلَفَ فيهِ إلاَّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الَبِّينَات بَغْياً بَيْنَهُمْ) البقرة: 213 فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فصنع الهداية للحق أن يكشف الحق إذا هدي التقى له ما يبدئ الباطل للابتلاء وما يعيد على العبد من الأحكام، وقد يكون الباطل اسماً للعدوّ ويكون وصفاً للنفس ألم تسمع قوله عزّ وجلّ: (قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدئُ البَاطِلُ وَمَا يُعيدُ) سبأ: 49 أي: لما جاء الحق أبدى الباطل وأعاده فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً وقد قيل إن الباطل يعني به إبليس ههنا فتدبروا وقال: (إنَّ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بآيات اللّّه لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) النحل: 104 وكما أن الله عزّ وجلّ في البيان نعمة لأنه لاتقع إلا بقدرة كما قال: فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير فكذلك على العبد فيه شكر وقد يكون سبباً للإنعام بالبيان وعلى الله المزيد على الشكر، كما قال: (كَذَلِكَ يُبِيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) المائدة: 98، وقال في تحقيق الشكر بالمزيد للشاكرين على التصريف: (كَذَلِكَ نُصَرِّف الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُون) الأعراف: 58 فإذا وقف العبد في الشبهات عن الإمضاء وأوقف الخاطر على الابتداء حتى يكشفه الله عزّ وجلّ له بمزيد علم أو قوة يقين أو كشف حجاب الهوى فقد وفق للصواب وهو من معنى قوله عزّ وجلّ: (آتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ) ص: 20 وداخل في قوله: (وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كثيراً) البقرة: 269 هذا إذا لم يرد بالطلب ولم يجعل لعالم آخر فيه مكان كشفه للعبد بوصفه فإذا أراده بالطلب لأوليائه وجعل للعلماء مكاناً للدلالة عليه اضطره أن يسأل عالماً بالله وبباطن أحكامه عارفاً بلطيف حجابه وخفي كشفه فيكشف له على لسانه إذا لم يكن العبد ممن يكاشف بقلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 لتحقيق قوله: (فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ) النحل: 43 ولتصديق قوله الرحمن فاسأل به خبيراً والله تعالى هو المسير الأوّل والمبين الآخر إلا أن السير والسؤال على العبد والهدى والبيان على الهادي المبين، كما قال: (قُلْ سيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا) النمل: 69 وقال تعالى: (فَإنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أنْزَلْنَا إلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ) يونس: 94 الآية، ثم قال: (إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة: 19 إن علينا للهدى وعلى الله قصد السبيل كذلك سننه التي قد خلت من قبل ولا تبديل لها ولا تحويل، ألم تسمع قول الله تعالى: (وَعَلَّم آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا) البقرة: 31 فهذا هو المجتبي للتعليم الآخذ نصيبه من الله عزّ وجلّ بتفهيم المصطفى لمكان التخصيص، ثم قال: (يَا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِم) البقرة: 33، فلما أنبأهم بأسمائهم ترك آدم ورد إليه وذكر نفسه بالعلم منه بعد أن دلّ بالواسطة عليه، فقال: ألم أقل لكم إني أعلم ولم يقل إن آدم يعلم فأخذ آدم نصيبه من رازقه بقلبه لمكان رتبته وأخذت الملائكة أنصبتها من الله عزّ وجلّ من نصيب آدم بواسطته والله هو الرزاق ذو القوة المتين كما هو الخلاّق، هل من خالق غير الله يرزقكم؟ والعبيد يأخذون أنصبتهم بأقسامهم من حيث هي طرق وسبب لهم، وهذا حينئذ أول المحاسبة عن مشاهدة حسيب، والتحقيق بالمحاسبة هو أول المراقبة عن رؤية رقيب، والمقام من المراقبة هو حال من أحوال الموقنين، وعلم اليقين هو آخر علم الإيمان وآخر نصيب العبد من علم اليقين أعني نهايته أول عين اليقين وهو شهادة المعرفة والمعرفة على هذا الوصف أول المشاهدة؛ وهذا هو مقام المقربين أعني بمشاهدة وصف قريب يحيط ببعد النفس فيستولي عليها فيغيب بعدها في قربه وينتبه عقله تحت ظنه وتنطوي حكمته في قدرته كمحو نور القمر في ضياء الشمس والله غالب على أمره وعلم معاني الأسماء والصفات وتعريف الأخلاق وباطن أحكام الذات يكون في مقامات القرب بمرآة نور الوجه فيرفع نور حكم المكان ويشهد كأن رفع كون المرآة ويشهد الوجه بنورها وتغيب المرآة عن كونها فيكون العبد قائماً بقصر قيوميته فيصير العبد شبه ميتة مشاهداً بحيطة قربه لا بكونه كما يشهد الوجه بنور المرآة لا بجسمها ولا يكون هذا إلا بعد معاينة وصف وبعد حسن المراقبة في جميع المعاملة وحسن الأدب في محاضرة الرب بتنفييذ خواطر الخبر وسرعة نفي خواطر السر حتى لا يبقى شئ منها وهذا حال المشاهدة والقرب، وذلك يخرج العبد إلى صفاء القلب بعلم اليقين، وصفاء القلب يرفعه مقامات في مشاهدة العين حتى لا يخطر بقلبه إلا خاطر حق فإن عصاه عصى الحق وفي ترك هذا والغض عنه كدر القلب وفي كدره ظلمته وذلك مقامات في القسوة وهي أول البعد وبلغني أن ما من فعلة وإن صغرت إلا وينشر لها ثلاثة دواوين: الديوان الأول لِمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 والثاني كيف، والثالث لمن، فمعنى لِمَ أي لِمَ فعلت؟ وهذا موضع الابتلاء عن وصف الربوبية بحكم العبودية أي أكان عليك أن تعمل لمولاك أم كان ذلك منك بهواك فإن سلم من هذا الديوان بأن كان عليه أن يعمل كما أمر به سئل عن الديوان الثاني، فقيل له: كيف فعلت هذا؟ وهو مكان المطالبة بالعلم وهو البلاء الثاني أي قد عملته بأن كان عليك عمله فكيف عملته أبعلم أم بجهل؟ فإن الله تعالى لا يقبل عملاً إلا من طريقته وطريقة العلم، فإن سلم من هذا نشر عليه الديوان الثالث فقيل لمن؟ وهذا طريق التعبد بالإخلاص لوجه الربوبية وهو البلاء الثالث وهم بغية الله عزّ وجلّ من خلقه الذين قال في حقهم: (إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصينَ) الحجر: 40 وهذا مقتضى كلمة الإخلاص من نفي ماسواه وهي لا إله إلا الله وليس بعده إلا الإشفاق إلى وقت التلاق أي قد عملته بعلم فلمن عملته لوجه الله عزّ وجلّ خالصاً فأجرك عليه أم لشخص مثلك فخذ أجرك منه أم عملته لتناول عاجل دنياك فقد وفينا إليك عملك فيها أم عملته لنفسك بسهولة وغفلتك فقد سقط أجرك وحبط عملك لذهابك عن القصد وعدم النية في الفعل فجميع ماأردت به سواه فقد تعرضت للمقت واستوجبت العقاب بترك ما عليك وجهل ما لمولاك إذ كنت عبداً لي تتولى غيري وإذا أنت تأكل رزقي وتعمل لسواي وإذا كان الدين قد جعلته لنفسي فقصدت به من دوني ويلك أما سمعتني أقول ألا لله الدين الخالص ويلك ما قبلت أمري إذ قلت وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقول له: ويلك أما سمعتني أقول إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه فهده أمثال القرآن يشهد منها العلماء أمثالهم وهي إذا كان الخطاب عند تدبره يفهم بها العارفون أذكارهم فيكون توبيخ الله عزّ وحلّ للغافلين بعزائم كلامه وغليظ خطابه أشد عليهم وأوجع لهم من أليم عقابه، وذلك أن الله تعالى استخلص الدين لنفسه ولم يشرك فيه أحداً من خلقه فقال: (ألاَ الله الدّين الخَالِصُ) الزمر: 3 يعني الطريق الموحد غير المشترك الصافي غير الكدر لأن الإخلاص التصفية من أكدار الهوى والشهوة وضده الشرك وهو الخلط بغيره من النفس والناس كما أنعم علينا بالرزق الخالص من بين الفرث والدم فتمت به النعمة فقال: (نُسْقيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً) النحل: 66 فلو وجد فيه خلط من أحدهما لم تتم به النعمة علينا، فكذلك ينبغي أن يكون عملنا له خالصاً من الهوى والشهوة لنستحق به الأجر والحظوة منه مع القيام بواجب الحق علينا فكما أنّا لو رأينا في اللبن الذي أنعم به علينا فرثاً أو دماً عافته أنفسنا فلم نأكله فكذلك الحكيم الخبير إذا رأى في عملنا خلطاً من رياء أو شهوة رده علينا فلم يقبله وكما عمل لنا مما عملت يده بقدرته أنعاماً ذللها لنا منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ركوبنا ومأكلنا فينبغي أن نشكره فنعمل له بعد الأكل عملاً صالحاً كما أمرنا بعد إذ أنعم الله علينا، فقال: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) المؤمنون: 51 فمن جهل ما جعل الله لنفسه وترك ماأمر به من الإخلاص بالدين لوجهه استوجب المقت لجهله واستحق العقاب لمخالفته وفي تدبر ماقلناه الهرب من الخلق والبكاء على النفس إلى لقاء الحق لمن أشهد ووقف وأريد بالحضور فلم يصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الفصل الرابع والعشرون ذكر ماهية الورد للمريد ووصف حال العارف بالمزيد اعلم أن الورد اسم لوقت من ليل أو نهار يرد على العبد مكرراً فيقطعه في قربة إلى الله ويورد فيه محبوباً يرد عليه في الآخرة؛ والقربة اسم لأحد معنيين: أمر فرض عليه أو فضل ندب إليه، فإذا فعل ذلك في وقت من ليل أو نهار ودوام عليه فهو ورد قدمه يرد عليه غداً إذا قدم، وأيسر الأوراد صلاة أربع ركعات أو قراءة سورة من المثاني أو سعي في معاونة على برٍّ وتقوى، قال أنس بن سيرين: كان لمحمد بن سيرين في كل ليلة سبعة أوراد، فكان إذا فاته منها شيء قضاه بالنهار فسمي العمل الموظف المؤقت ورداً، وقال المعتمر بن سليمان: ذهبت ألقن أبي عند الموت فأومأ إليّ بيده دعني فإني في وردي الرابع فسمي الحزب من أحزاب القرآن لوقت ما ورداً، فمن العمال من كان يجعل الأوراد من أجزاء القرآن ومنهم من كان يجعله من أعداد الركوع وفوق هؤلاء من العلماء كانوا يجعلون الأوراد من أوقات الليل والنهار، فإن قطع الوقت بآية أو ركعة أو فكرة أو شهادة فذاك ورده، وأما العارفون فإنهم لم يوقتوا الأوراد ولم يقسموا الأوقات بل جعلوا الورد واحداً لمولاهم وجعلوا حاجاتهم من الدنيا ضرورتهم، وصيروا الوقت متساوياً لسيدهم وتصريفهم لمصالحهم يدخل عليهم فوضعوا رقابهم في رقّ العبودية وصفوا أقدامهم في مصاف الخدمة فكانوا في كل وقت بحكم مايستعملون وبوصف ما به يطالبون ذلك وردهم وتلك علامتهم عن حسن اختيار الله عزّ وجلّ لهم وجميل توليه إياهم لا يكلهم إلى نفوسهم ولا يوليهم بعضهم وهو يتولّى الصالحين مشاهدتهم ذكرهم وقرب الحبيب حبهم ليس يشهدون فضيلة في غير محبوبهم ولا يرجون قربة بغير معروفهم؛ به يتقربون إليه، وإليه، به يسبّحون له، وعليه يتوكلون له، ومنه يخافون عنه، وإياه يحبون منه لو أسقطوا الأعمال كلها غير ماتعلق بالتوحيد ثبوته ما نقص من توحيدهم ذرة ولو تركوا أوراد المريدين كلهم ما أثر في قلوبهم بقسوة ولا فترة لأنهم لا يزيدون بالأعمال فينقصون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 بها ولا يتفقدون قلوبهم وأحوالهم بالأوراد فيعرفون النقصان والمزيد منها ولا تجتمع قلوبهم بسبب ولا تقوى نفوسهم بطلب فتتشتت لفقد سبب ويضعف يقينهم لطلب هذه المعاني هي أحوال المريدين وجملة تغييرهم في شيئين: ضيقهم بالخالق فهربوا منه، واتساعهم بالخلق فاستراحوا إليه، ولو دام قربهم منه لدامت راحتهم به ولو وقفت شهادتهم عليه لما نظروا إلى سواه، وأما العارفون فقد فرغ لهم من قلوبهم واجتمعت المتفرقات بمجامعها لهم وأقامهم القائم لهم بشهادتهم له فلهم بكل شيء مزيد ومن كل شيء توحيد، كل خاطر بهم يردهم إليه وكل منظور إليه يدلهم عليه وكل نظرة وحركة طريق لهم إليه، فتوحيدهم في مزيد ويقينهم في تجديد بغير تغيير ولا تصريد ولا إيقاف ولا تحديد، ولربما طلب أحدهم التسبب بالأسباب فيجمعه بها رب الأرباب لأنه مراد بالاجتماع وإنما استروح بالشتات لاستجمام ماهو في قلبه آت ثقة منه بحبيبه وتمكناً عند محبوبه إذ قد علم أنه طالب فطرح نفسه ليحمله فحمله بما تولاه ولم يكله إلى نفسه وهواه، فهذه مقامات لأهلها لا يعرفها سواهم ولا تصلح إلاّ لهم ولا تليق إلاّ بهم ولا يقاس عليها ولا يدعى مكانها ولا تنتظر فتترك لها الأوراد ولا تتوقع فيقصر لأجلها في الاجتهاد والمرادون بها محمولون بها مواجهون بعلمها مسلوك بهم طريقها مزوّدون زادها وهي محبوسة عليهم مقصورة لهم فهم لها سابقون، فأولياء الله عابدوه وقد عكفوا بقلوبهم لمن عبدوه ونظروا إلى معبودهم الذي عكفوا عليه ففهموا عنه فصل الخطاب بما آتاهم من شهادة حكمه حكم الكتاب إذ يقول: (وَانْظُرْ إلى إلهِكَ الَّذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً) طه: 97 بعد قوله للغافلين فصيرهم معرضاً نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين مع قوله: (أنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ) ص: 6، إن هذا الشيء يراد إلى قوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّك بِأعْيُنِنا) الطور: 84، فعلموا أن الإخلاص الذي أمروا به هو العبادة ولا عبادة إلا بمجانبة الهوى وبعدها الإنابة إلى المولى، أما سمعت قوله عزّ وجلّ: (وَالَّذينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أنْ يَعْبدُوهَا وَأنَابُوا إلَى اللهِ لَهُمُ البُشْرَى) الزمر: 17وأيقنوا أن الصلاة عماد الدين ولا صلاة إلا للمتقين ولا تقوى إلا بإنابة، كما قال تعالى: (مُنيبينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) الروم: 31ثم قال: (وَأقِيمُوا الصِّلاةَ وَلاَ تَكَونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ) الروم31 فهذه عبادة العارفين على سنة النبيين فإنابتهم مشاهدتهم لمذكورهم كقوله في وصف ضدهم: (كَانَتْ أعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءِ عَنْ ذِكْرَى) الكهف: 101 فهم عن كشف من ذكره إذ كانوا بضد وصفهم وحقيقة ذكرهم نسيانهم لسوى مذكورهم بمعنى قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسيتَ) الكهف: 24 فأخرجهم الذكر له إلى الفرار إليه كما فهموا عنه إذ يقول: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الأنعام: 152 ففروا إلى الله فلما هربوا أواهم بقربه ووهب لهم هداية إلى حبه ونشر لهم من رحمته وطواهم في قبضبته فلم يرهم إلا هم ولم يعرفهم سواهم، وقد قال تعالى: ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَإذِ اعْتَزَلْتُموهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلاَّ اللهَ فَأْوُوا إلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِه) الكهف: 16 وقال تعالى: (إنّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهدِينِ) الصافات: 99. ذكر الأوراد وما يرجى بها من الازدياد ولكن بمواصلة الأوراد المرسومة والأعمال الموقتة المعلومة يستبين للمريد النقصان من المزيد ويعرف قوّة العزم والشره من وهن العادة والفترة في الأوراد أيضاً فضيلة وهو أن العامل إذا شغل عنها بمرض أو سفر كتب له الملك مثل ثواب ما كان يعمل في الصيحة، وقد يكون نوم العارف أفضل من صلاة الجاهل لأن هذا النائم سالم وهو ذلك الزاهد العالم إذا استيقظ وجد وهذا الصائم القائم لا يؤمن عليه الآفات وتطرقه الأعداء في العبادات وهو ذلك الجاهل المغتر إذا وجد فقد، وقد روينا في خبر نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح وفي الحديث عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، وروينا في خبر مقطوع لو وقعت هذه على هذه يعني السماء على الأرض ما ترك العالم علمه لشيء ولو فتحت الدنيا على عابد ترك عبادة ربه ولأن العالم قد يكاشف في نومه بالآيات والعبر ويكشف له الملكوت الأعلى والأسفل ويخاطب بالعلوم ويشاهد القدرة من معنى ما تشهده الأنبياء في يقظتهم فيكون نوم العارف يقظة لأن قلبه حياة ويكون يقظة الغافل نوماً لأن قلبه موات فيعدل نوم العالم يقظة الجاهل وتقرب يقظة الجاهل الغافل من نوم العالم، كيف وقد جاء في خبر أبي موسى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى أحد فقال: هذا جبل أحد ولا يعلم خلق وزنه وإن من أمتي من تكون التسبيحة منه والتهليلة أوزن عند الله عزّ وجلّ منه، وفي حديث ابن مسعود إذ قال لعمر: ما أنكرت أن يكون عمل عبد في يوم واحد أثقل من في السموات والأرض ثم وصف ذلك بأنه هو العاقل عن الله عزّ وجلّ الموقن العالم به، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان فقالت: ما كان يخص رمضان بشيء دون غيره ولا كان يزيد في رمضان على سائر السنة شيئاً وقال أنس بن مالك: ما كنت تريد أن ترى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائماً من الليل إلا رأيته ولا تريد أن تراه قائماً إلا رأيته، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينام ثم يقوم قدر مانام ثم ينام قدر ما قام ثم يقوم قدر مانام ثم ينام ثم يخرج إلى الصلاة، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما صام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً كاملاً قط إلا رمضان ولاقام ليلة إلى الصبح حتى ينام منها، قالت: وكان يصوم من الشهر ويفطر ويقوم من الليل وينام، وفي الخبر الآخر: كان يصوم، حتى تقول لايفطر ويفطر حتى تقول لا يصوم وكان يصبح صائماً ثم يفطر ويصبح مفطراً ثم يصوم وفي الخبر الآخر: كان يدخل من الضحى فيقول: هل عندكم من شيء؟ فإن قدم إليه شيء أكل وإلا قال إني صائم وخرج يوماً فقال إني صائم ثم دخل، فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال: أمَّا إني كنت أردت الصوم ولكن قريبه وكان ورده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 حكم ما ورد عليه فعن هذا المعدن يكون تصريف العارفين ومن هذا المعنى تكون مشاهدة الموقنين ليسوا مع الله بإيراد توقيت ولا يقطع على تحديد كما قيل لبعضهم بأي شيء عرفت الله عزّ وجلّ؟ فقال: بفسخ العزائم وحلّ العقد ولكن الأوراد طريق العمال والوظف أحوال العباد منها دخلوا وفيها يرفعون إلى أن يشهدوا الواحد فتكون الأوراد كلها ورداً واحداً ويكونون بشهادتهم قائمين، قال بعض العلماء من السلف الإيمان ثلاثمائة خلق وثلاثة عشر على أعداد الأنبياء المرسلين كل مؤمن على خلق منها هو طريقه إلى الله عزّ وجلّ ووجهته من الله عزّ وجلّ ونصيبه وفي كل طريقه من المؤمنين طبقة وبعضهم أعلى مقاماً من بعض، وقال عالم آخر الطرق إلى الله عزّ وجلّ بعدد المؤمنين، وقال بعض العارفين: الطرق إلى الله بعدد الخليقة يعني أن للشهيد بكل خلق طريقاً فقد صارت المكوّنات للمكوّن طرقات. وروينا في الخبر: الإيمان ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون طريقة من لقي الله عزّ وجلّ بالشهادة على طريقة منها دخل الجنة، ومن هذا قوله عزّ وجلّ: (قُلْ كُلُّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبيلاً) الإسراء: 84 فدل أنهم كلهم مهتدون وبعضهم أهدى من بعض بمعنى أنه أقرب إلى الله عزّ وجلّ وأفضل، وقد ندب إلى القرب في الأمر بطلبه وأخبر عن المقربين بالمنافسة في طلب القرب فقال: (يَاأُيُّهَا الَّْذين آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابَتَغُوا إلَيْهِ الوَسيلةَ) المائدة: 35 يعني القرب، وقال تعالى فيما أخبر: (أُولَئِكَ الَّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهم الوَسيلةَ أيُّهُمْ أقْرَب) الاسراء: 57 فأقرب الخلق من الله عزّ وجلّ أعلاهم عند الله عزّ وجلّ وأعلاهم عنده أعرفهم به وأفضلهم لديه. وروينا في التفسير: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِه) الإسراء: 84، قال: على وحدانيته؛ يعني بذلك على توحيده الذي يوحد الله عزّ وجلّ به ويعرفه منه، والشاكلة الطريقة والخلق قد شاكله وقد شكل فيه ومن ذلك قول علي رضي الله عنه: لكل مؤمن سيد من عمله فهذا السيد من العمل هو الذي يرجو به المؤمن النجاة ويفضل به عند مولاه، وقال بعض العلماء: كان عباد الكوفة أربعة؛ أحدهم صاحب ليل ولم يكن صاحب نهار، والآخر صاحب نهار ولم يكن صاحب ليل، وبعضهم صاحب سر ولم يكن صاحب علانية، والآخر صاحب علانية ولم يكن صاحب سر، وقد كان بعضهم يفضل عبادة النهار على عبادة الليل لما فيها من مجاهدة النفس وكف الجوارح لأن النهار مكان حركة الغافلين وموضع ظهور الجاهلين فإذا سكن العبد عند حركة الغافلين وموضع ظهور الجاهلين كان هو التقي المجاهد والفاضل العابد، وقد قيل إن العبادة ليست الصوم والصلاة حسب بل أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم وتقوى الله عزّ وجلّ عند اكتساب الدرهم وهذا من أعمال النهار، وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَهُوَ الََّذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 يَتَوَفَّاكُمْ باللَّيْل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) الأنعام60 رأى ماكسبت جوارحكم فعلق الاجتراح بالنهار ثم يبعثكم فيه فإذا لم يعلم من عبد اجتراحاً بالنهار ولم يبعثه فيه في مخالفة فمن أفضل منه؟ وكان الحسن يقول: أشد الأعمال قيام الليل بالمداومة على ذلك ومداومة الأوراد من أخلاق المؤمنين وطرائق العابدين وهي مزيد الإيمان وعلامة الإيقان وسئلت عائشة رضي اللَّه عنها عن عمل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: كان عمله ديمة وكان إذا عمل عملاً أتقنه وهذا كان سبب ما نقل عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته بعد العصر ركعتين أنه كان ترك مرة ركعتي النافلة بعد الظهر شغله الوفد عن ذلك فصلاهما بعد العصر ثم لم يزل يصليهما بعد العصر كلما دخل منزله روت ذلك عنه عائشة وأم سلمة ولم يكن يصليهما في المسجد لئلا يستن الناس به، وفي الخبر المشهور: أكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن اللَّه عزّ وجلّ لا يملّ حتى تملوا، وفي الحديث الآخر: أحب الأعمال إلى اللَّه عزّ وجلّ ما ديم عليه وإن قل، وقد روينا في خبر: من عوَّده اللَّه عزّ وجلّ عبادة فتركها ملالة مقته اللَّه تعالى، وفي خبر عن عائشة رضي اللَّه عنها وقد أسنده بعض الرواة من طريق كل يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك لي في صباح ذلك اليوم، وقد جاء في الخبر كلام تارة يروى عن الحسن بن علي وتارة يروى عن الحسن البصري ومرة عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع يقول من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه شرًّا من أمسه فهو محروم ومن لم يكن في مزيد فهو في النقصان وفي لفظ آخر من لم يتفقد النقصان من نفسه فهو في نقصان ومن كان في نقصان فالموت خير له ولعمري إن المؤمن شكور والشاكر على مزيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الفصل الخامس والعشرون ذكر تعريف النفس وتصريف مواجيد العارفين اعلم أن النقصان يبدو من الغفلة والغفلة تنشأ من آفات النفس والنفس مجبولة على الحركة وقد أمرت بالسكون وهو ابتلاؤها لتفتقر إلى مولاها وتبرأ من حولها وقواها ومثل ذلك قوله تعالى: (وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران: 102 لتفزعوا إليه فتقولوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين، وكما قال: (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولاً) الإسراء: 11 (خُلِقَ الإنْسَانُ عَجَلٍ) الأنبياء: 37 ثم قال: (سَأُريكُمْ آيَاتي فَلاتَسْتَعْجِلونِ) الأنبياء: 37 قال: (أتَى أمّْرُ اللَِّه فَلا تَسْتَعْجِلوهُ) النحل: 1 فأخبر عن وصفه بالعجلة ثم أمره بتركها للبلوى، فإن نزلت السكينة وهي مزيد الإيمان سكنت النفس عن الهوى بإذن منفسها وإن حجب القلب بالغفلة وهي علامة على الإفتقار والتضرع تحركت النفس بطبعها، فإن سكنت عن حركتها فبالمنة والفضل وإن تحركت بوصفها فبالابتلاء والعدل، فأوّل البلاء اختلافها وأول اختلافها خلافها ومقدمته الهمة وبابه السمع وهو طريق إلى الكلام والنظر والقول طريق إلى الشهوة والشهوة مفتاح الخطيئة والخطيئة مقام من النار حتى يزحزح عنها الجبار بالتوبة في الدنيا والعفو في العقبى، وقد تكون المخالفة على المحب العارف أشد من النار كما حدثت عن بعضهم قال: لأن أبتلي بدخول النار أحبّ إلي من أن أبتلي بمعصية، قيل: ولم؟ قال: لأن في المعصية خلاف ربي تعالى وسخطه وفي النار إظهار قدرته وانتقامه لنفسه قال: فسخطه أعز علي وأعظم من تعذيب نفسي، وكذلك حدثونا في معناه عن بعض الموقنين من العمال أنه قال: ركعتان تتقبل مني أحبّ إلي من دخول الجنة، قيل: وكيف؟ قال: لأن في الركعتين رضا ربي عزّ وجلّ ومحبته وفي الجنة رضاي وشهوتي فرضا ربي عز َّوجلّ أحبّ إليَّ من محبتي، وقد قال وهيب بن الورد المكي في لبن سئل أن يشر به فلم يفعل لأنه سأل عن أصله فلم يستطبه فقالت له أمه: اشرب فإني أرجو إن شربته أن يغفر اللَّه لك، فقال: ما أحب أني شربته وأن اللَّه غفر لي، قالت: ولم؟ قال: لا أحب أن أنال مغفرته بمعصيته، فجملة وصف النفس معنيان، الطيش والشره، فالطيش عن الجهل والشره عن الحرص، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وهما فطرة النفس فمثلها في الطيش كمثل كرة أو جوزة في مكان أملس مصوّب سكونها بالمنة فإن أشرت إليها أو حركتها أدنى حركة تحركت بوصفها وهو خفتها واستدارتها وصورتها في الشره المتولدة من الحرص، إنها على صورة الفراشة إنها تقع في النار جاهلة شرهة تطلب بجهلها الضوء وفيه هلاكها فإذا وصلت إلى شيء منه لم تقتنع بيسيره لشرهها فتحرص على الغاية منه وتطلب عين الضوء وجملته وهونفس المصباح فتحرق، ولو قنعت بقليل الضوء عن بعد سلمت فكذلك النفس في طيشها الذي يتولد من العجلة وفي شرهها الذي ينتج من الحرص والطمع، والحرص والطمع هما اللذان كانا سبب إخراج آدم عليه السلام من الجنة لأنه طمع في الخلود فحرص على الأكل وكان ذلك عن الجهل، فكانت معصيته سبب عمارة الدنيا فصارت الطاعة سبب عمارة الآخرة، فلذلك قيل: حب الدنيا رأس كل خطيئة فصار الزهد أصل كل طاعة، فانظر كيف أخرج من الجنة بعد أن جعل فيها بذنب واحد وأنت تريد أن تدخلها ولم تملك النظر إليها بذنوب كثيرة، وفي الحديث الآخر: الإيمان عريان فلياسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم، من ثم قيل: إن الجنة طيبة لا يسكنها إلا الطيب فمتى طابوا لها دخلوها، ألم تسمع إلى وفاته بين ذلك في قوله تعالى: (الَّذيَن تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبينَ يَقٍولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ) ، النحل: 23، وقال تعالى: (وَقَاَلَ لَهْمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيكُمْ طِبْتُتمْ فَادْخُلُوهَ خَاِلدينَ) ، الزمر: 73 لأنه قال: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنِّاتِ عَدْنٍ) التوبة: 72 والذنوب خبائث كما قال: (وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَاِئث) الأعراف: 157 فلما طابوا لها طابت لهم وقد أجمل ذلك بقوله تعالى: (الخَبيثاَتُ لِلْخَبيثين) النور: 26 وبقوله: (وَالطَيِّباتُ لِلْطَيِّبينَ) النور: 26، وقد مثل بعضهم النفس في شرهها بمثل ذباب مرّ على رغيف عليه عسل فوقع فيه يطلب الكلية فعلق بجناحه فقبله وآخر مر به فدنا من بعضه فنال حاجته فرجع إلى ورائه سالماً وقد مثل بعض الحكماء ابن آدم مثل دود القز لا يزال ينسج على نفسه لجهله حتى لا يكون له مخلص فيقتل نفسه ويصير القز لغيره وربما قتلوه إذا فرغ من نسيجه لأن القز يلتف عليه فيروم الخروج منه فيشمس وربما غمزوه بالأيدي حتى يموت لئلا يقطع القز وليخرج القز صحيحاً، فهذه صورة المكتسب الجاهل الذي أهلكه أهله وماله فتنعم ورثته بما شقي به فإن أطاعوا به كان أجره لهم وحسابه عليه وإن عصوا به كان شريكهم في المعصية لأنه أكسبهم إياها به فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم أذهابه عمره لغيره أو نظره إلى ماله في ميزان غيره، ومما سمعت في علم شره النفس ما حدثني بعض إخواني عن بعض هذه الطائفة قال: قدم علينا بعض الفقراء فاشترينا من جار لنا جملاً مشوياً ودعوناه عليه في جماعة من أصحابنا فلما مد يده ليأكل وأخذ لقمة وجعلها في فيه لفظها ثم اعتزل وقال: كلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أنتم فإنه قد عرض لي عارض منعني من الأكل، فقلنا: لا نأكل إن لم تأكل معنا، فقال: أنتم أعلم أما أنا فغير آكل ثم انصرف، قال: فكرهنا أن نأكل دونه، فقلنا: لو دعونا الشوّاء فسألناه عن أصل هذا الجمل فلعل له سبباً مكروهاً فدعوناه فلم نزل به نسأل عنه حتى أقر أنه كان ميتة وأن نفسه شرهت إلى بيعه حرصاً على ثمنه فشواه فوافق اأنكم اشتريتموه، قال: فمزقناه للكلاب، قال: ثم إني لقيت الرجل بعد وقت فسألته لأي معنى تركت أكله وبأي عارض؟ فقال: أخبرك ما شرهت نفسي إلى طعام منذ عشرين سنة بالرياضة التي رضتها به فلما قدمتم إلي هذا شرهت نفسي إليه شرهاً ماعهدته قبل ذلك فعلمت أن في ذلك الطعام علة فتركت أكله لأجل شره النفس إليه فانظر رحمك اللَّه كيف اتفقا في شره النفس عن قصد واحد ثم اختلفا في التوفيق والخذلان فعصم العالم بالورع والمحاسبة وترك الجاهل مع شره النفس بالحرص وتركه المراقبة أعني البائع للجمل ثم عصم الآخرون للتوفيق بحسن الأدب وهو قمع شره النفس عن الأكل بعد صاحبهم ثم تدارك البائع بعد وقوعه لصدق المشتري وحسن نيته. قز لغيره وربما قتلوه إذا فرغ من نسيجه لأن القز يلتف عليه فيروم الخروج منه فيشمس وربما غمزوه بالأيدي حتى يموت لئلا يقطع القز وليخرج القز صحيحاً، فهذه صورة المكتسب الجاهل الذي أهلكه أهله وماله فتنعم ورثته بما شقي به فإن أطاعوا به كان أجره لهم وحسابه عليه وإن عصوا به كان شريكهم في المعصية لأنه أكسبهم إياها به فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم أذهابه عمره لغيره أو نظره إلى ماله في ميزان غيره، ومما سمعت في علم شره النفس ما حدثني بعض إخواني عن بعض هذه الطائفة قال: قدم علينا بعض الفقراء فاشترينا من جار لنا جملاً مشوياً ودعوناه عليه في جماعة من أصحابنا فلما مد يده ليأكل وأخذ لقمة وجعلها في فيه لفظها ثم اعتزل وقال: كلوا أنتم فإنه قد عرض لي عارض منعني من الأكل، فقلنا: لا نأكل إن لم تأكل معنا، فقال: أنتم أعلم أما أنا فغير آكل ثم انصرف، قال: فكرهنا أن نأكل دونه، فقلنا: لو دعونا الشوّاء فسألناه عن أصل هذا الجمل فلعل له سبباً مكروهاً فدعوناه فلم نزل به نسأل عنه حتى أقر أنه كان ميتة وأن نفسه شرهت إلى بيعه حرصاً على ثمنه فشواه فوافق اأنكم اشتريتموه، قال: فمزقناه للكلاب، قال: ثم إني لقيت الرجل بعد وقت فسألته لأي معنى تركت أكله وبأي عارض؟ فقال: أخبرك ما شرهت نفسي إلى طعام منذ عشرين سنة بالرياضة التي رضتها به فلما قدمتم إلي هذا شرهت نفسي إليه شرهاً ماعهدته قبل ذلك فعلمت أن في ذلك الطعام علة فتركت أكله لأجل شره النفس إليه فانظر رحمك اللَّه كيف اتفقا في شره النفس عن قصد واحد ثم اختلفا في التوفيق والخذلان فعصم العالم بالورع والمحاسبة وترك الجاهل مع شره النفس بالحرص وتركه المراقبة أعني البائع للجمل ثم عصم الآخرون للتوفيق بحسن الأدب وهو قمع شره النفس عن الأكل بعد صاحبهم ثم تدارك البائع بعد وقوعه لصدق المشتري وحسن نيته. وجبلات النفس الأربعة هي أصول ماتفرّع من هواها وهي مقتضى ما فطرها عليه مولاها: أولها الضعف وهو مقتضى فطرة التراب، ثم البخل وهو مقتضي جبلة الطين، ثم الشهوة وموجبها الحمائم، الجهل وهو ما اقتضاه موجب الصلصال وهذه الصفات على معاني تلك الجبلات للابتلاء بالأمشاج ففيه بدء الأمت والإعوجاج، ذلك تقدير العزيز العليم، ثم إن النفس مبتلاة بأوصاف أربعة متفاوتة: أولها معاني صفات الربوبية نحو الكبر والجبرية وحب المدح والعز والغنى ومبتلاة بأخلاق الشياطين مثل الخداع والحيلة والحسد والظنة ومبتلاة بطبائع إليها ثم وهو حب الأكل والشرب والنكاح وهي مع ذلك كله مطالبة بأوصاف العبودية مثل الخوف والتواضع والذل بمعنى ما قلناه، قيل: إنها خلقت متحركة وأمرت بالسكوت وإني لها بذلك إن لم يتداركها المالك وكيف تسكن بالأمر إن لم يسكنها محركها بالخير فلا يكون العبد عبداً مخلصاً حتى يكون للمعاني الثلاث مخلصاً فإذا تحقق بأوصاف العبودية كان خالصاً من المعاني التي هي بلاؤه من صفات الربوبية، فإخلاص العبودية للوحدانية عند العلماء الموحدين أشد من الإخلاص في المعاملة عند العاملين، وبذلك رفعوا إلى مقامات القرب وذلك أنه لا يكون عندهم عبداً حتى يكون مما سوى اللَّه عزّ وجلّ حراً فيكف يكون عبد رب وهو عبد عبد لأن ما قاده إليه فهو إلهه وماترتب عليه فهو ربه وهذا شرك في الإلهية عند المتألهين ومرج بالربوبية عند الربانيين فهو متعوس منكوس بدعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ يقول: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الزوجة، تعس عبد الحلة، فهؤلاء عبيد العدد الذين قال مولاهم: إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً لقد أحصاهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وعدّهم عداً أصحاب النفوس الأمّارة بالسوء المسوَّلة الموافقة للهوى المخالفة للمولى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً إلى آخر وصفهم أولو النفس المرحومة المطمئنة المرضية هم عباد الرحمن أهل العلم والحكمة علمهم من لدنه واختارهم لنفسه ولا يكون المريد بدلاً حتى يبدل بمعاني صفات الربوبية صفات العبودية وبأخلاق الشياطين أوصاف المؤمنين وبطبائع البهائم أوصاف الروحانيين من الأذكار والعلوم، فعندهاكان بدلاً مقرباً والطريق إلى هذا بأن يملك نفسه فيملكها وتسخر له فيسلط عليها فإن أردت أن تملك نفسك فلا تملكها وضيّق عليها ولا توسع لها فإن ملكتها ملكتك وإن لم تضيّق عليها اتسعت عليك فإن أردت الظفر بها فلا تعرضها لهواها واحتبسها عن معتاد بلاها فإن لم تمسكها انطلقت بك وإن أردت أن تقوى عليها فأضعفها بقطع أسباب هواها وحبس مواد شهواتها وإلا قويت عليك فصرعتك فأول الملكة لها أن تحاسبها في كل ساعة وتراقب حسبتها في كل وقت وتقف عند كل همة من خواطرها فإن كانت الهمة للَّه عزّ وجلّ سابقت الموت وبادرت الفوت في إمضائها وإن كانت الهمة لغير اللَّه تعالى سابقت وبادرت في محوها لئلا تثبت وعملت في الإستبدال بها كيلا تستبدل بك، وفي تأويل الخبر المروي البر يزيد في العمر وهو معنى الدعاء المشهور من قول الناس: جعل اللَّه في عمرك البركة، وقد بورك له في عمره، فإن البركة في العمر أن تدرك في عمرك القصير بيقظتك ما فات غيرك من عمره الطويل بغفلته فيرتفع لك في سنة ما لا يرتفع له في عشرين سنة وللخصوص من المقربين في مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب الحاق برفيع الدرجات وتدارك ما فات عند أذكارهم وأعمال قلوبهم اليسيرة في هذه الأوقات، فكل ذرة من ذكر بتسبيح أو تهليل أو حمد أو تدبر وتبصرة وتفكر وتذكرة بمشاهدة قرب ووجد برب ونظرة إلى حبيب ودنو إلي قريب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين الذين هم بنفوسهم واجدون وللخلق مشاهدون مثل العارفين فيما ذكرته من قيامهم بمشاهدتهم ورعايتهم لأمانتهم وعهدهم في وقت قربهم وحضورهم مثل العامل في ليلة القدر العمل فيها لمن وافقها خير من ألف شهر، وقد قال بعض العلماء كل ليلة للعارف بمنزلة ليلة القدر. وروينا عن علي رضي اللَّه عنه: أنه قال كل يوم لا يُعصى اللَّه عزّ وجلّ فيه فهو لنا عيد وكان الحسن إذا تلا قوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنيئاً بِمَا أسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الخَاِليَةِ) ، الحاقة: 24 قال: يا إخواني هي واللَّه أيامكم هذه فاقطعوها بالجد والاجتهاد ولا تضيعوها فخلوها فراغاً من حسن المعاملة وبطالتك فيها عن الشغل بمعادك المحصول عليك منها، كما قال المبطلون: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها يعني في الأيام الخالية التي هي محصولهم ومرجعهم ومثواهم، وكما قالت النفس الأمارة بالسوء: يا حسرتا على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فرطت في جنب اللَّه يعني أيام الدنيا التي ضيعت العمر فيها فخلت من الثواب والجزاء غداً، وهذا أحد الوجهين في قوله الأيام الخالية، والوجه الآخر الخالية أي الماضية خلت أوقاتها وخلدت أحكامها وذهبت شهواتها وبقيت عقوباتها فإن قصرت عن هذه المحاسبة للحسيب ولم يكن لك مقام المراقبة للرقيب ولا مكان المحاسبة للحبيب فلا يفوتنّك مقام الورعين ولا تبن عن حال التائبين وهو أن تجعل لك وردين في اليوم والليلة لمحاسبة النفس وموافقتها مرة بعد صلاة الضحى لما مضى من ليلتك وماسلف من غفلتك، فإن رأيت نعمة شكرت الله وإن رأيت بلية استعفرت فإن وجدت في حالك أوصاف المومنين التي وصفهم اللَّه عزّوجلّ ومدحهم عليها رجوت وطمعت واستبشرت، وإن وجدت من قلبك وحالك وصفاً من أوصافِ المنافقين أو خلقاً من أخلاق الجاهلين التي ذمهم اللَّه عزّ وجلّ بها ومقتهم عليها حزنت وأشفقت وتبت من ذلك واستغفرت، والمرة الثانية أن تحاسب نفسك بعد الوتر وقبل النوم لمامضى من يومك من طول غفلتك وسوء معاملتك ومافعلته من أعمالك كيف فعلتها وماتركته من سكوتك وصمتك لم تركته ولمن تركته فتنعقد الزيادة والنقصان وتعرف بذلك التكلف والإخلاص من حركتك وسكونك فما تحركت فيه وسكنت لأجل اللَّه عزّ وجلّ به فهو الإخلاص ثوابك فيه على الله عزّ وجلّ عند مرجعك إليه فأعمل في الشكر على نعمة التوفيق وحسن العصمة من التهلكة وما سكنت فيه أو تحركت لهواك وعاجل دنياك فهو التكلف، الذي أخبر رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه هو والأتقياء من أمته برآء من التكلف وقد استوجبت فيه العقاب عند نشر الحساب إلا أن يغفر المولى الكريم الوهاب فاعمل حينئذ في الاستغفار بعد حسن التوبة وجميل الاعتذار وخف أن يكون قد وكلك إلى نفسك فتهلك، فلعل مشاهدة هذين المعنيين من خوف ما سلف منك والطمع في قبول ما أسلفت يمنعك من المنام ويطرد عنك الغفلة فتحيي ليلتك بالقيام فتكون ممن وصف اللَّه عزّ وجلّ في قوله: (تَتَجَافي جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) السجدة: 16قد قال بعض السلف: كان أحدهم يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، وقد قال بعض العلماء: من علامة المقت أن يكون العبد ذاكراً لعيوب غيره ناسياً لعيوب نفسه ماقتاً للناس على الظن محباً لنفسه على اليقين وترك محاسبة النفس ومراقبة الرقيب من طول الغفلة عن اللَّه عزّ وجلّ والغافلون في الدنيا هم الخاسرون في العقبي لأن العاقبة للمتقين قال اللَّه عزّ وجلّ: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون) النحل: 108لاجرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون وطول الغفلة من العبد عن طبائع االقلب من المعبود والغفلة في الظاهر غلاف القلب في الباطن، تقول العرب غفله وغلفه بمعنى كماتقول جذب وجبذ وخشاف وخفاش وطبائع القلب عن ترادف الذنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 بعضه فوق بعض وهوالران الذي يتعقب الكسب فيكون عقوبة له. قال اللَّه تعالى: (كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوايَكْسِبُونَ) المطففين: 14، قيل: الكاسب الخبيثة وأكل الحرام، وفي التفسير: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب، وأصل الرين الميل والغلبة وهو التغطية أيضاً، يقال: ران عليه النعاس إذا غلبه ورانت الخمر على عقله أي غطته، ومن هذا قول عمر رضي اللَّه عنه في سابق الحاج فادّان معرضاً فأصبح وقد رين به أي مال به الدين فغلبه، وأصل ترادف الذنوب من إغفال المراقبة وإهمال المحاسبة وتأخير التوبة والتسويف بالاستقامة وترك الاستغفار والندم، وأصل ذلك كله هوحب الدنيا وإيثارها على أمر اللَّه عزّ وجلّ وغلبة الهوى على القلب، ألم نسمع إلى قوله عزّ وجلّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحيَاةَ الدٌّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) النحل: 107 إلى قوله عزْ وجلْ: (أُولِئكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) النحل: 108 وقال في دليل الخطاب: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى) النازعات: 40 يعني عن إيثار الدنيا لأن صريح الكلام وقع في وصفهم بالطغيان وإيثار الحياة الدنيا، ثم قال: (طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ) محمد: 16، فاتباع الهوى عن طبائع القلب وطبائع القلب عن عقوبة الذنب وميراث العقاب الصمم عن فهم الخطاب، أما سمعته يقول: لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون وقد جعل علي رضي اللَّه عنه الغفلة مقاماً من مقامات الكفر فقال في حديثه الطويل: فقام إليه سلمان فقال: أخبرنا عن الكفر على ما بني فقال: على أربع مقامات: على الشك، والجفاء، والغفلة، والعمى، فإذا كثرت غفلة القلب قل إلهام الملك للعبد وهو سمع القلب لأن طول الغفلة يصمه عن السمع وعدم سمع الكلام من الملك عقوبة الخطايا وتثبيت الملك للعبد على الخير والطاعة وحي من اللَّه عزّ وجلَّ إليهم وتفضيل للعبد، أما سمعت قول اللَّه عزّ وجلّ: (إذْ يُوحي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذينَ آمَنُوا) الأنفال: 12، وفي الخبر: إن آدم عليه السلام حجب عن سمع كلام الملائكة فاستوحش بذلك فقال: يا رب مالي لا أسمع كلام الملائكة؟ فقال: خطيئتك يا آدم، فإذا لم يسمع العبد كلام الملائكة لم يفهم كلام الملك، وإذا لم يسمع الكلام لم يستجب للمتكلم إنما يستجيب الذين يسمعون، وقال الحسن: إن بين العبد وبين اللَّه عزّوجلّ حداً محدوداً من الذنوب فإذا بلغه العبد طبع على قلبه فلم يوفقه للخير أبداً فبادر أيها المجاوز للحدود بالتوبة والرجوع قبل أن تبلغ الحد فتلقى عياً وجهداً، وفي حديث ابن عمر الطابع معلّق بقائم عرش الرحمن فإذا انتهكت المحارم بعث اللَّه عزّوجلّ بالطابع على القلوب فأعماها وهذا هوالقفل الذي قال اللَّه عزّ وجلّ: (أَفَلا يَتَدبَّرُونَ الْقُرْآنَ) النساء: 82 أم على قلوب أقفالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 واعلم أن القسوة التي يهدد اللَّه عزّ وجلّ عليها بالويل المتولدة من طول الغفلة في قوله عزّوجلّ (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الزمر: 22 وقد قرنها اللَّه عزّ وجلْ بالنفاق وأخبر أنه يجعل إلقاء الشيطان فتنة لأهل النفاق والقسوة، فإلقاءالشيطان يكثر عند قلة إلهام الملك كماذكرنا آنفاً ينتظم ذلك قوله عزّ وجلّ: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَة للَّذينَ في قُلُوبِهِم) الحج: 53 أي وللقاسية قلوبهم أيضاً، والقسوة ثمرة البعد والبعد عقوبة الخيانة واللَّه لا يحب الخائنين، فذلك من تدبر الخطاب من قوله: (فَبِمَا نَقْضهِمْ ميثَاقَهُمْ) المائدة: 13 أي فبنقضهم الميثاق وماصلة في الكلام فهذا هوالخيانة، لعناهم أي أبعدناهم وجعلنا قلوبهم قاسية بترادف الذنوب بعد القسوة من الكذب والنسيان وكثرة الإطلاع على الخيانة منهم والبهتان فأصيبوا بالذنوب فوقع الطابع على القلوب فصمت عن سمع كلام المحبوب، كما قال: (أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوِبِهِمْ) الأعراف: 100، فجلاء هذا الطابع التقوى فهو مفتاح السمع كما قال: اتقوا اللَّه واسمعوا واللَّه تعالى الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الفصل السادس والعشرون كتاب ذكر مشاهدة أهل المراقبة أعلم أن مشاهدة المراقبين هي أول مراقبة المشاهدين، وذلك إن من كان مقامه المراقبة كان حاله المحاسبة ومن كان مقامه المشاهدة كان وصفه المراقبة فأول شهادة المراقب هو أن يعلم يقيناً أن لا يخلو في كل وقت وإن قصر من أحد ثلاثة معان: أن يكون للَّه عزّ وجلَّ عليه فرض، والفرض على ضربين شيء أمر بفعله أو شيء أمر بتركه وهو اجتناب المنهي، والمعنى الثاني ندب حث عليه وهو المسابقة بخير يقربه إلى اللَّه عزّ وجلّ والمسارعة بعمل بر يبتدره قبل فوته، والمعنى الثالث شيء مباح فيه صلاح جسمه وقلبه وليس للمؤمن وقت رابع فإن أحدث وقتاً رابعاً فقد تعدّى حدود اللَّه ومن يتعدَّ حدود اللَّه فقد ظلم نفسه وقد أحدث في دين اللَّه سبحانه وتعالى ومن أحدث في دين اللَّه فقد سلك غير طريق المتقين، ألم تسمع إلى قوله عزّ وجلّ: (وَهُوَ الَّذي جَعَلَ الليلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرَادَ أنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرَادَ شُكُوراً) الفرقان: 62 فهل ترى بين هذين وقتاً يجهل أو هوى كما لا ترى بين الليل والنهار وقتاً ثالثاًِ، فالذكر الإيمان والعلم، فهذان ينتظمان جهل أعمال القلوب والشكر والعمل بأخلاق الإيمان وأحكام العلوم، وهذان يشتملان على جميع أعمال الجوارح، قال اللَّه عزّ وجلّ: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَشُكْراً) سبأ: 12 وقال: (فَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) آل عمران: 123 وقال: (كَما أَرْسَلّْنْا فيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) البقرة: 151 إلى قوله: (فَاذْكُرُوني أذّْكُرّْكُمْ وَاشْكُرُوا لي وَلا تَكْفُرُون) البقرة: 152 وقال اللَّه تعالى: (مَا يَفعَلُ اللَّه بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) النساء: 416 وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقد عوتب في طول قيامه حتى تورمت قدماه فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ففسر الشكر بالعمل كما فسر اللَّه عزّوجلّ العمل بالشكر، والوقت الثالث هو المباح داخل فيهما لأنه معين عليهما وبه استقامة العبد فيهما، وقد كان بعض العلماء يقول: لنا في معاصي الطاعات همّ وشغل عن معاصي المخالفات فيبتدئ العبد المراقب فينظر بيقظته في أدنى وقت هل عزّ وجلّ فيه فرض من أمر أو نهي؟ فيبدأ بذلك حتى يفرغ منه فإن لم يجد فإنه لا يخلو من نوادب وفضائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فيبتدئ بالأفضل فإن لم يكن عمل في أدنى الفضيلتين فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن يومه لأمسه ومن ساعته ليومه ومن دنياه لآخرته، كما أمره مولاه في قوله سبحانه وتعالى: (وَلاَتَنْسَ نَصِىبَكَ مِنَ الدُّنْيا) القصص: 77 أي لا تترك أن تأخذ نصيبك للآخرة من دنياك وهو أن تحسن كما أحسن الله إليك ولا تطلب الفساد في الدنيا فتكون قد نسيت نصيبك من الد نيا ولا تترك أن تأخذ نصيبك من الآخرة فيتركك اللَّه من جزيل ثوابه الدي أعد لأحبابه كما قال: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) التوبة: 67 أي تركوه فتركهم، وتركهم له ترك نصيبهم منه وتركه عزّ وجلّ لهم ترك محابهم من الآخرة فيبتدئ العبد الفطن فيأخذ من عمره ووقته فيجعله لآخرته التي أيقن بها ثم يأخذ من وقته أعلى ما فيه مما يختص به الوقت ولا يوجد إلا فيه ويفوت دركه بفوت وقته وهو نأفضل ما يقدر عليه مما أدّاه علمه إليه فيجعله لمولاه، ثم إن العبد لا يخلو في كل وقت وإن قل من أحد مقامين، مقام نعمة، أو مقام بلية فحاله عن مقام النعمة الشكر وحاله عن مقام البلية الصبر، ثم ليس يفقد أحد مشاهدتين شهود نعمة أو شهود منعم من حيث لا يخلو من وجود مالك وحضور مملوك فعليه الخدمة للموجود وعليه الحضور في خدم المعبود والمراقبةعلامة الحضور والمحاسبة دليل المراقبة ويكون له أيضاً في أدنى أوقاته وهو الوقت الثالث الذي هو لمباحه وهو أدنى أحوال المؤمن يكون له فيه مشاهدة منعم أو شهود نعمة لئلا يذهب وقته هذا أيضاً فارغاً من دنياه ولا يعود عليه شيء من ذكرمولاه أو يذكر نعمة تدله على منعم أو تخرجه إليه فينفعه ذلك في عقباه إذ العاقبة للمتقين فإن شهد منعماً اقتطعه الحياء بالسكينة والوقار للهيبة وهذا مخصوص بخصوص، وإن شهد نعمة استغرقه بالشكر والاعتبارفكان لديه تبصرة وتذكار، وهذا العموم الخصوص قال الله عزّوجلّ في وصف الأولين: (وَمنْ كُّلِّ شَيْء خَلَقّْنَا زَوْجَينِ لَعَلَّكُمْ تَذَكْرُون) الذاريات: 49 ففروا إلى اللَّه، وقال في المقام الثاني: (وَلاَتَجْعَلُوُا مَعَ اللَّهِ إلهاً آخرَ) الذاريات: 51 وقال في مقام الأوّلين: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَيُجيرُوَلا يُجارُعَلَيْهِ) المؤمنون: 84 إلى قوله: (أفَلاَ تَتَّقُونَ) الأعراف: 56 وقال في وصف الآخرين؟: (قُل لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فيهَا) المؤمنون: 84 إلى قوله: (قُلْ أفَلاَ تَذَكَّّّرُوُن) المؤمنون: 85. ُوُا مَعَ اللَّهِ إلهاً آخرَ) الذاريات: 51 وقال في مقام الأوّلين: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَيُجيرُوَلا يُجارُعَلَيْهِ) المؤمنون: 84 إلى قوله: (أفَلاَ تَتَّقُونَ) الأعراف: 56 وقال في وصف الآخرين؟: (قُل لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فيهَا) المؤمنون: 84 إلى قوله: (قُلْ أفَلاَ تَذَكَّّّرُوُن) المؤمنون: 85. وقد روينا في الأثر من صفات العاقل وحال المراقب وحشو الأوقات بما ينبغي أن تملأ به جمل ما ذكرناه من حديث أبي ذر الطويل ولا يكون المؤمن ظاعناً إلا في ثلاث: تزوّد لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم وبمعناه وعلى العاقل أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه عزّ وجلّ، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر في صنع اللَّه عزّْ وجلّ، وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب، فإن في هذه الساعة عوناً له على الساعات وفيه أيضاً ثلاث مجملات من صفة العاقل ومن علامة العاقل أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 مقبلاً على شانه حافظاً للسانه عارفاً بزمانه وفي بعضها مكرماً لإخوانه فأوّل وقت المباح من الأوقات فالنوائب والحاجات تطرقه به والفاقات تدخله عليه فلا يتكلفه قبل وقته فيشغله عن وقته ثم إن العباد في مشاهدة الملك على أربع مقامات: كل عبد يشهد الملك من مقامه بعين حاله فمنهم من ينظر إلى الملك بعين التبصرة والعبرة فهؤلاء أولو الألباب الذين كشف عن قلوبهم الحجاب وهم أولو الأيدي والأبصار الذين أقامهم مقام الإعتبار وهذا مقام العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ومنهم من ينظر إلى الملك وأهله بعين الرحمة والحكمة وهذا مقام الخائفين، ومنهم من ينظر إلى الملك وأهله بعين المقت والبغضة وهذا مقام الزاهدين ومنهم من ينظر إلى الملك بعين الشهوة والغبطة وهذا مقام الهالكين وهم أبناء الدنيا الذين لها يسعون وعلى فوتها يتحسرون، فإن أعطى العبد النظر إلى الملك بعين العبرة والحكمة أدخله الملك على الملك فاستغنى به عما سواه وإن أعطى الخائف النظر إلى الملك بعين الرحمة اغتبط بمقامه وعظمت لربه تعالى عليه النعمة وإن أعطى الزاهد النظر إلى الملك بعين البغضة أخرجه الملك عن الملك بالزهد فيه فعوَّضه من فوت الملك الصغير درك الملك الكبير، ومن ابتلى بالنظر إلى الملك بعين الغبطة والحسرة أوقعه الملك في الهلكة فسلك طريق المهالك، ومن شاهد معنى خلق من أخلاق الذوات أو معنى وصف من الصفات كان مقتضاه ما يوجب الخلق أو الوصف من شهود نعيم أو عذاب وهو مقام له في التعريف يرفعه إلى مقام التعرف وهذه شهادة العارفين من كل ماشهدوه من الأفعال التي تدل على معاني الأخلاق والأوصاف لأنه أظهرها عنه ليستدل عليه بها وينظر إليه منها فأما من شهد شهوة من شهوات النفس بعين الهوى أخرجته إلى الأهواء فتخطفه الشياطين وهوت به الريح في مكان سحيق وتنكب طريق المسالك إلى المولى التي تخرجه إلى القريب وتقعده عند الحبيب في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فمن فاته القرب وقع في التيه والبعد فهو اليائس المغبون الخائن المفتون الذي يكون أبداً يومه شرّاً من أمسه وغده شرًّا من يومه، فالموت خير له من حياته لأن حياته عن الحبيب تبعده وبقاءه عن السبيل يصده ووجده لهواه يفقده وظهور نفسه عليه من السوابق يقعده لأنه إذا كان في إدبار وكان إدباره في إقبال فقد فاته عمره عن آخره كفوت وقت واحد وفوت شيء واحد لأن العمر ليس مما يتأتى فوته دفعة واحدة كشيء واحد لأنه ينشأ وقتاً بعد وقت وإنما يفوت جزءاً جزءاً على حكمة من الله عزّ وجلّ وتمهّل واستدراج منه وقتاً بعد وقت ويوماً بعد يوم يستدرجه في ذلك كما يصعد الدراج في الدرج مرقاة مرقاة، كذلك يشغله في وقت عنه ويفرغه وقتاً آخر لغيره ويذكره في وقت سواه وينسيه وقتاً آخر إياه فشغله حينئذ كفراغه وذكره يومئذ كنسيانه وعلى هذا سائر أوقاته تارة يقطعه عنه وتارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 يصله بغيره حتى تفنى الأيام بالفوت وتنقضي الأوقات إلى الموت وفي ذلك يسبل عليه الستر ليغتر ويسبغ عليه النعم كيلا يعلم ويديم له العوافي لئلا يفطن ويبسط له الأمل ليزداد من سوء العمل ويقبض عنه الأجل ليقبض منه الوجل وينشر له الرجاء ويطوي عنه الخوف حتى يبغتهم فجأة من حيث أمنهم ويأخذهم بغتة في حال غمرتهم كما قال: (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُون) النمل: 50 ومن معنى ماذكرناه قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلِّ شَيءْ) الأنعام: 44 أي لماتركوا ما وعظوا به وخوفوا أسبغنا عليهم النعم وأنسيناهم الشكر فترادفت منهم الذنوب وأنسيناهم الإستغفار، ثم قال: (حَتَّى إذا فَرِحُوا بِما أوتُوا) الأنعام: 44 أي سكنوا إلى ذلك واطمأنوا ولم يريدوا التحويل عنه ولا الاستعتاب منه: (أخَذْنَاهُم بَغْتَة) الكهف: 28 أي فجأة في حين أمنهم وقيل بغتة بعد أربعين سنة فإذا هم مبلسون متحيرون باهتون آيسون من كل خير، واعلم أن العبد إذا كان بعد ساعة شرّاً منه قبلها وبعد يوم شرّاً منه قبله ثم لم يستعتب ولم يتدارك كانت أوقاته كلها وأيامه كيوم واحد في الشر ووقت سرمد في السوء فكان كمن فات عمره كله كفوت وقت واحد منه لأنه على هذا الوصف يكون فوت العمر لتراخيه وقتاً بعد وقت وينساه شيئاً بعد شيء ولتربية العبد بأوقاته وقتاً بعد وقت إلا أنها في آخر الحساب ومجمله كيوم واحدأضاعة فكان مثله كما قال تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً) الكهف: 28 وكمن كان حاله الغفلة عن الوعد والوعيد فلما كشف عنه الغطاء حار بصره وبهت واحتد وبرق لمعاينة ما كان عنه غفل وحسرة على ما فيه فرط لقوله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنَكَ غِطَاءَكَ فَبَصرُكَ اليَومَ حَديدٌ) ق: 22، قيل محدد إلى أعمالك السيئة أو ثقتك وقيل حديد إلى لسان الميزان يتوقع النقص والرجحان وكان كمن قال تعالى في قوله: (وَأنِذرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَة) مريم: 39 قيل جاءهم الموت وهم مشغولون بأمور الدنيا وقيل: كانوا متشاغلين في شأن النساء وبوصف من قيل له وغرتكم الأماني يعني أماني الهوى حتى جاء أمر اللَّه أي قدم الموت ولم تقدموا له شيئاً يقدموا به عليه فمثلهم كمن وصفهُ بالإفلاس وأخبر عنه بالإياس في قوله عزّ وجلّ: (حَتَّى إذا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوفَّاهُ حًسَابَهُ) النور: 39. (أخَذْنَاهُم بَغْتَة) الكهف: 28 أي فجأة في حين أمنهم وقيل بغتة بعد أربعين سنة فإذا هم مبلسون متحيرون باهتون آيسون من كل خير، واعلم أن العبد إذا كان بعد ساعة شرّاً منه قبلها وبعد يوم شرّاً منه قبله ثم لم يستعتب ولم يتدارك كانت أوقاته كلها وأيامه كيوم واحد في الشر ووقت سرمد في السوء فكان كمن فات عمره كله كفوت وقت واحد منه لأنه على هذا الوصف يكون فوت العمر لتراخيه وقتاً بعد وقت وينساه شيئاً بعد شيء ولتربية العبد بأوقاته وقتاً بعد وقت إلا أنها في آخر الحساب ومجمله كيوم واحدأضاعة فكان مثله كما قال تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً) الكهف: 28 وكمن كان حاله الغفلة عن الوعد والوعيد فلما كشف عنه الغطاء حار بصره وبهت واحتد وبرق لمعاينة ما كان عنه غفل وحسرة على ما فيه فرط لقوله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنَكَ غِطَاءَكَ فَبَصرُكَ اليَومَ حَديدٌ) ق: 22، قيل محدد إلى أعمالك السيئة أو ثقتك وقيل حديد إلى لسان الميزان يتوقع النقص والرجحان وكان كمن قال تعالى في قوله: (وَأنِذرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَة) مريم: 39 قيل جاءهم الموت وهم مشغولون بأمور الدنيا وقيل: كانوا متشاغلين في شأن النساء وبوصف من قيل له وغرتكم الأماني يعني أماني الهوى حتى جاء أمر اللَّه أي قدم الموت ولم تقدموا له شيئاً يقدموا به عليه فمثلهم كمن وصفهُ بالإفلاس وأخبر عنه بالإياس في قوله عزّ وجلّ: (حَتَّى إذا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوفَّاهُ حًسَابَهُ) النور: 39. وقد كان أبو محمد يقول لايبلغ العبد منازل الصديقين حقيقة من هذا الأمر حتى يكون فيه هذه الأربع: أداء الفرائض بالسنة، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي في الظاهر والباطن، والصبر على ذلك إلى الممات، وكان الحسن يقول: واللَّه ما لعمل المؤمن انتهاء دون الموت واللَّه ما المؤمن الذي يعمل الشهر والشهرين والسنة والسنتين إنما المؤمن المداوم على أمر اللَّه، الخائف من مكر اللَّه، إنما الإيمان شدة في لين وعزم في يقين واجتهاد في صبر وعلم في زهد وكان عمر رضي اللََّه عنه إذا تلا قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 تعالى: (إنَّ الَّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللُّه ثُمّ اسْتقَامُوا) الأحقاف: 13 يقول قد قالها الناس ثم رجعوا، فمن استقام على أمر اللَّه في السر والعلانية والعسر واليسر ولم يخف في اللَّه لومة لائم وقال مرة استقاموا واللَّه لربهم ولم يروغوا روغان الثعالب، وقال بعض العلماء: من كان طلب الفضائل أهم إليه من أداء الفرائض فهو مخدوع ومن شغل بغيره عن نفسه فقد مكر به، وقال سفيان الثوري وغيره: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول فأفضل شيء للعبد معرفته بنفسه ووقوفه على حده وأحكامه لحاله التي أقيم فيها، فابتداؤه بالعمل بما افترض عليه بعد اجتنابه مانهى عنه بعلم لم يدبره في جميع ذلك وورع يحجزه عن الهوى في ذلك ولا يشتغل بطلب فضل حتى يفرغ من فرض لأن الفضل لا يصح إلا بعد حوز السلامة كما لا يخلص الربح للتاجر إلا بعد حصول رأس المال فمن تعذرت عليه السلامة كان من الفضل أبعد والى الإغترار أقرب وقد تلتبس الفضائل بالفرائض لدقة معانيها وخفي علومها فيقدم العبد النفل وهو يحسب أنه الواجب، فمن ذلك أن أبا سعيد رافع بن المعلى كان قائماً يصلي فدعاه رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يجبه فظن أن وقوفه بين يدي اللَّه عزّ وجلّ بالغيب أفضل له فلما سلم جاءه فقال له رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مامنعك أن تجيبني حين دعوتك فقال: كنت أصلي فقال: ألم تسمع اللَّه عزّ وجلّ يقول: (اسْتَجيبْوا للَّهِ وَللِرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ) الأنفال: 24 فكان رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاه وهو في الصلاة ليفيده باطن العلم أو لينظر مبلغ علمه كيف يعمل وكان إجابته لرسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من صلاته لأن صلاته نافلة له فهو مطيع الله عزّ وجلّ في الغيب باختياره وإجابته لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من صلاته لأنها فريضة عليه فهو مطيع للَّه تعالى في الشهادة بإيجابه ففضل استجابته لرسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صلاته لنفسه كفضل الفرض على النفل، وقد قال سبحانه: (مَنّْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللَّه) النساء: 80 وقال تعالى: (إنَّ الذينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ الله) الفتح: 10 واللَّه تعالى معه في المكانين معاً وهو عند الرسول عليه السلام على يقين، فعبادة اللَّه عزّ وجلّ ههنا أبلغ في مرضاته وأثوب له في آخرته، وفي هذا الحديث دليل أن الخبر إذا ورد في أمر كان على جملة عمومه وكلية ما تعلق به حتى تخص السنة أو الإجماع بعض شأنه ومن ذلك أن قول اللَّه عزّ وجل: (اسْتَجيبُوا للَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ) الأنفال: 24، إن ظاهره مقصور على الاستجابة للرسول للَّه بالإيمان بالطاعة في أوامر القرآن لا الإجابة له في التصويت خاصة في الصلاة وهذا هو الذي حمله أبو سعيد ابن المعلى عليه وتأوله من الآية فأشكل عليه، ومثل هذا فعل عمار في التيمم لما نزلت آية الإباحة للتيمم في صلاة الفجر وهم في سفر، فقال عزّ وجلّ: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيبَّا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأيْدِيكُمْ) النساء: 43 ولم يكن يسمع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تخصيص بعض اليد شيئاً قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 فتيممنا إلى المناكب واستوعب جملة اليد لعموم الخطاب حتى أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فأمرهم بالتيمم إلى المرفقين، وفي خبر: إلى الزندين باختلاف الروايتين فخص بعض اليد فلذلك اختلف العلماء في تبعيض اليد في المسح وكذلك العمل فيما ورد مجملاً أن يستعمل في الجملة حتى تخصه السنة، فمن ذلك ما روي أن رجلين على عهد رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تآخيا في العبادة فاعتزلا الناس فقال أحدهما لصاحبه: هلم اليوم فلننفرد عن الناس ونلزم الصمت فلا نكلم من يكلمنا فإنه أبلغ في عبادتنا، قال: فاعتزلا في خلوة وصمتا فمر بهما رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليهما فلم يردا عليه السلام، قال: فسمعناه يقول حين جاوزنا: هلك المعتمقون المتنطعون فاعتذرا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتابا من ذلك إلى الله عزّ وجلّ، ومثل ذلك ماروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس ذات ليلة فنظر إلى مصباح أبيض في خلل باب فاطلع فإذا قوم على شراب لهم فلم يدر كيف يصنع فدخل المسجد فأخرج عبد الرحمن بن عوف فجاء به إلى الباب فنظر وقال له: كيف ترى أن نعمل؟ فقال: أرى والله أنا قد أتينا مانهانا الله عنه لأنّا تجسسنا على عورة فاطلعنا عليها وقد سترها الله دوننا وما كان لنا أن نكشف ستر الله عزّ وجلّ، فقال: ماأراك إلا قد صدقت سبعاً ما أنفذ عنك فانصرفنا، وفي لفظٍ آخر أنه قال له: أرى أنّا قد عصينا الله ورسوله ونهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التجسس فقال: صدقت فأخذ بيده وانصرف. ونلزم الصمت فلا نكلم من يكلمنا فإنه أبلغ في عبادتنا، قال: فاعتزلا في خلوة وصمتا فمر بهما رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليهما فلم يردا عليه السلام، قال: فسمعناه يقول حين جاوزنا: هلك المعتمقون المتنطعون فاعتذرا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتابا من ذلك إلى الله عزّ وجلّ، ومثل ذلك ماروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس ذات ليلة فنظر إلى مصباح أبيض في خلل باب فاطلع فإذا قوم على شراب لهم فلم يدر كيف يصنع فدخل المسجد فأخرج عبد الرحمن بن عوف فجاء به إلى الباب فنظر وقال له: كيف ترى أن نعمل؟ فقال: أرى والله أنا قد أتينا مانهانا الله عنه لأنّا تجسسنا على عورة فاطلعنا عليها وقد سترها الله دوننا وما كان لنا أن نكشف ستر الله عزّ وجلّ، فقال: ماأراك إلا قد صدقت سبعاً ما أنفذ عنك فانصرفنا، وفي لفظٍ آخر أنه قال له: أرى أنّا قد عصينا الله ورسوله ونهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التجسس فقال: صدقت فأخذ بيده وانصرف. ورينا نحو هذا أن عمر رضي الله عنه كان يعس ليلة مع ابن مسعود فاطلع من خلل الباب فإذا شيخ بين زق خمر وقينة تغنيه فتسور عليه وقال: ماأقبح بشيخ مثلك أن يكون على مثل هذه الحال، فقام إليه الرجل فقال: ياأمير المؤمنين أنشدك الله ألا أنصفتني حتى أتكلم فقال له: قل فقال: إن كنت قد عصيت الله عزّ وجلّ في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاث، قال: وماهي؟ قال: قد تجسست وقد نهاك الله عزّ وجلّ عن ذلك وتسوّرت وقد قال الله عزّ وجل (وَلَيْسَ الْبِرُّ بأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) البقرة: 189 ودخلت بغير إذن وقد قال الله عزّ وجلّ (لا تَدْخُلُوا بُيُوتِاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتى تَسْتَأنِسُوا وَتُسَلِّموا عَلى أَهْلِهَا) النور: 27 فقال عمر: صدقت فهل أنت غافر لي ذلك فقال: غفر الله لك فخرج عمر وهو يبكي حتى علا نشيجه وهو يقول: ويل لعمر إن لم يغفر اللّّه له، تجد الرجل كان يتخفى بهذا عن ولده وجاره فالآن يقول: رآني أمير المؤمنين ونحو ذلك، وجاء في الخبر: إذا دعي أحدكم إلى طعام فإن كان مفطراً فليجب وإن كان صائماً فليقل إني صائم، فأمره بإظهار عمله وهو يعلم أن الإخفاء أفضل ولكن إظهار عمله من حيث لايؤثر في قلب أخيه وجداً أفضل من إخفائه لنفسه مع تأثير ذلك في قلب أخيه لتفضيل المؤمن وحرمته على الأعمال إذ الأعمال موقوفة على العامل وإنما يعطي الثواب على قدر العامل لا على قدر العمل لتضعيف الجزاء لمن يشاء على غيره في العمل الواحد فدل ذلك أن المؤمن أفضل من العمل فقيل له: ارفع التأثير والكراهة عن قلب أخيك بإظهار عملك فهو خير لك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 إخفاء العمل مع وجد أخيك عليك لأن أخاك إذا دعاك إلى طعام صنعه لك فلم تجبه ولم تعتذر إليه عذراً بيّناً يقبله منك ويعرفه شق عليه إن كان صادقاً في دعائك. وبمعنى هذا من خفي الأعمال ما يحكى عن بعض السلف أنه كان يكون في الجماعة فيقرأ في نفسه سرّاً لئلا يطلع على أعماله أحد فإذا مرّ بآية فيها سجدة سجد بين الملأ فكنا نعرف بسجوده أنه يقرأ فلعل فارغاً قليل الفقه يقول: إن هذا قدأظهر عمله إذ فعل ما يدل عليه فلو ترك السجود ليخفي عمله كان أفضل لأنه قد أظهر ما أخفاه فهذا يدل على جهله بالمعاملة، وقد سمعت بعض العلماء يطعن على هذا بفعله بمعنى ما ذكرناه من القول وهكذا يكون علم المريدين القصيرين العلم وليس الأمر كما قدره هذا المنكر بسجوده بل القائل المنكر لفعله قليل الفقه بدقائق الإخلاص جاهل بطريقة العاملين من العارفين والعامل الذي نقل عنه هذا الفعل فقيه مخلص وذلك لأنه قد حاز الفضلين معاً لأنه كان فاضلاً فيما أخفى إذ ابتدأ عمله بالخفية فلما جاء السجود الذي لايكون إلا ظاهراً لم يصلح أن يترك قربة إلى الله عزّ وجلّ من أجل الناس فكان يسجد كما أمر به ويقرأ كما ندب إليه فصار فاضلاً في الحال الثاني لأنه أظهر لأجل الله عزّ وجلّ كما أخفى لأجله ولأنه ترك مراقبة الناس ولم يترك عمله لأجلهم ولو كان الفضل في ترك السجود لإخفاء العمل كان الأفضل لمن دخل عليه في منزله وهو يصلي أن يقعد لأجلهم. وقد وردت السنة في ذلك أن له أجرين: أجر السر وأجر العلانية، كيف وقد كانوا يعدون أن الرياء ترك العمل لأجل الناس فأما العمل لأجلهم فشرك، وقد قيل: لا تعمل للرياء ولا تترك العمل للحياء، فالحياء من الخلق شرك كما إن الحياء من الخالق إيمان. وأيضاً لو أنه أطاع العدوّ في ترك العمل لأجل الناس أطاعه مرة أخرى في العمل لأجلهم، ومثل هذا كمثل من كان يصوم ويصلي يومه أجمع في منزله لا يعلم به مخلوق فلو نوى الاعتكاف ليضمه إلى صومه خرج إلى المسجد فكان يصلّي مقيماً فيه فظهر الناس على عمله فلم يكن ليدع مانواه من العكوف في المسجد لأجل نظرهم إليه ولم يضره ظهور عمله لثباته على نيته ولمزيد من الاعتكاف إذا كان عالماً متمكناً، وأيضاً فان الإمام المتمكن المقتدى به لايضره ظهور الناس على أعماله إذا لم يقصد ذلك ولم يحب مدحهم وربما كان له أجر، إن في ذلك لتنبيه الغافلين عن الذكر وتشويق العاملين إلى البر كيف وعند بعض العلماء أن سجود القرآن فرض وأن على من سمع آية سجدة أو تلاها وكان على غير وضوء أن يسجد لها إذا توضأ، ونحو هذه المعاني ما هو حال للعبد وأولى به من حال غيره ما رواه أبو نصر التمار أن رجلاً جاء يودع بشر بن الحرث قال: قد عزمت على الحج أفتأمرني بشيء؟ فقال له بشر: كم أعددت للنفقة؟ قال: ألفي درهم قال: فأي شيء تبتغي بحجك نزهة أو اشتياقاً إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله عزّ وجلّ، قال: ابتغاء مرضاة الله عزّ وجلّ قال: فإن أصبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 رضا الله وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله عزّ وجلّ أتفعل ذلك؟ قال نعم: قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس؛ مدين يقضي بها دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يحيي عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوى قلبك أن تعطيها لواحد فافعل، فإن ادخالك السرور على قلب امرئ مسلم وتغيث لهفان وتكشف ضر محتاج وتعين رجلاً ضعيف اليقين أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك فقال: ياأبا نصر سفري أقوى في قلبي فتبسم بشر وأقبل عليه، وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس إلى أن تقضي به وطراً ويشرع إليه فظاهرت أعمال الصالحات وقد آلى على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين، وفي نحوه قيل لبشر أيضاً إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره إنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه مع جمعه للدّنيا ومنعه للفقراء، وقد يكون اختفاء الأوجب من الفرائض والتباسه بالفضائل محنة من الله عزّ وجلّ لعباده وحكمة له فيهم فيرتكبون التأويل للسعة ويتركون الضيق لخفائه عليهم لينفذ فيهم العلم ويجري عليهم الحكم ويكون ذلك تأديباً لهم وتعريفاً ومزيداً في التسليم وتوفيقاً، وقد قال الله تعالى فيما عتب على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووعظه وزجره في قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) (أنْ جَاءَهُ الأعْمَى) (وَمَايُدْريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى) عبس: 1 - 2 - 3، يقال إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يغتم في عمره كغمه حين أنزل عليه سورة عبس لأن فيها عتباً شديداً على مثله لأنه الحبيب الرشيد ومع ذلك لم يقصده في الخطاب فيكون أيسر للعتاب بل كشف ذلك للمؤمنين ونبّه على فعله عباده المتقين لأن معنى قوله عبس وتولى: أي انظروا أيها المؤمنون، أو اعجبوا إلى الذي عبس وتولى أن جاءه الأعمى، ولذلك روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن بعض المنافقين يؤم قومه فكان لا يقرأ بهم إلا بسورة عبس فأرسل فضرب عنقه يستدل بذلك على كفره ليضع من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك عنده وعند قومه ومثله قوله عزّ وجلّ عاتباً على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ) التوبة43 ونحوه: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغي مَرْضَات أزْواجِكَ) التحريم: 1 وبمعناه قوله عزّ وجلّ: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْديهِ وَتَخْشَى النَّاس واللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَاهُ) الأحزاب: 37حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لو كتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً من القرآن كتم هذه الآية، ومن أعجب ما سمعت في هذا المعنى ماحدثونا في الإسرائيليات عن وهب بن منبه اليماني أن سليمان بن داود عليهما السلام لما قبضه الله عزّ وجلّ خلف رجالاً من ولده يعمرون بيت المقدس ويعظمونه برهة من الدهر حتى خلفه بعدهم رجل من ولد سليمان فخالف طريقة آبائه وترك شريعتهم وتكبر في الأرض وطغى وقال بني جدي داود وأبي سليمان مسجداً فما لي لا أبني مسجداً مثل ما بنو وأدعو الناس إلى شريعتي كما دعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فبنى مسجداً يضاهي به بيت المقدس وادعى على الله عزّ وجلّ أنه أمره بذلك وصرف الناس إليه وبذل لهم الأموال وأخرب مسجد بيت المقدس وهجره فدخل الناس في دينه رغبة ورهبة، قال: فابتعث الله نبيّاً من بعض أهل القرى فقال: اركب أتانك هذه وأت هؤلاء القوم أحفل ما يكونون فناد في مسجدهم ومجمعهم بأعلى صوتك: يامسجد الضرار إن الله عزّ وجلّ حلف باسمه ليوحشنك من عمارك وليقتلنّ أهلك فيك وليشدخنّهم بخشبك وجندلك ولتلغن الكلاب دماءهم وتأكل لحومهم فيك وناد في المدينة بأعلى صوتك بمثل ذلك ولا تأكل ولا تشرب ولا تستظل ولا تنزل عن أتانك هذه حتى ترجع إلى قريتك التي خرجت منها قال ففعل ذلك فثار الناس إليه يضربونه بالخشب ويشجونه بالحجارة وهو على أتانه لاينزل عنها فناله على ذلك أذى كثير وضرب عظيم ثم كرّ راجعاً في آخر النهار يؤمّ قريته التي خرج منها وقد أدّى الرسالة وصبر على الضرب والبلاء لله عزّ وجلّ فلما كان ببعض الطريق سمع به نبي آخر كان في بعض القرى استقبله وسلم عليه فقال: إنك قد أدّيت رسالة ربك وإنك أمضيت أمره وإنك قد نصبت ولقيت عناء من هؤلاء القوم وأنت جائع عطشان تسيل دماؤك على جسدك وثيابك فاغد إلى منزلك فكل واشرب واسترح واغسل جسدك وثيابك فقال إن الله عزّ وجلّ لما أرسلني قد كان عهد إليّ أن لا آكل ولا أشرب ولا أستظل حتى أرجع إلى أهلي فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإني من أهلك لأنني نبي مثلك وأخوك في الدين فلا أرى الله عزّ وجلّ عني بذلك إلا القوم الذين بعثك إليهم لأنهم أعداؤه فنهاك أن تأكل من طعامهم وتستظل عندهم ولا أحسب حرم عليك دخول منزلي ولا الأكل من طعامي لأني شريكك في الأخوّة والنبوّة قال: فصدقه وانصرف معه إلى منزله، فلما وضع الطعام بين يديه وأهوى ليأكل عن جوع شديد قد أضرّ به أوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي الذي دعاه إلى منزله قل له: آثرت شهوتك وبطنك على أمري ألم أعهد إليك أن لا تنزل ولا تستظل ولا تأكل حتى ترجع إلى قريتك التي خرجت منها ولولا أنك اجتهدت برأيك وقلت بمبلغ علمك لعمكما العقاب وهو أقل عندي عذراً منك لأني عهدت إليه فآثر هواه شهوته وترك عهدي، فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أمر فوثب مذعوراً يجر إزاره وجعل يرحل أتانه ويعجل ولا يعقل ما هو فيه فركبها طارداً لها على وجهه لجوعه وعطشه ودماؤه على ثيابه وجسده لاينثني، فلما هبط عن عقبة تحتها غيضة عارضه سبع فافترسه وانتصب السبع مقعياً على قارعة الطريق يزأر يحرس أتانه ورحله كلما أقبل إنسان زأر الأسد عليه حتى يطرده فسمع بخبره ذاك النبي فأقبل نحوه فلما نظر إليه الأسد انصرف عنه وخلى بينه وبينه قال: فكفنه وواراه وانصرف برحله وأتانه إلى أهله، فقال: يارب عبدك هذا الذي بلغ رسالتك وأمضى أمرك وقد كان أجهده البلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فخالف ماأردت فلم يعلم فعاقبته بهذه العقوبة فأوحى الله عزّ وجلّ إليه ليست هذه عقوبة ولم أفعل ذلك لهوانه عليّ ولكن هذه مغفرة ورحمة، إنه خالف أمري وكان قد اقترب أجله فكرهت له أن يلقاني على المخالفة فألقاه بما يكره فقيضت له كلباً من كلابي فطهره للقائي فكان ذلك له عندي شهادة ودرجة فوق نبوته فقال سبحانك وبحمدك أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فالعالم عند العلماء من علم خير الخيرين، فسبق إليه قبل فوته وعلم شر الخيرين فأعرض عنه لئلا يشغله عن الأخير منهما وعلم أيضاً خير الشرين ففعله إذا اضطر إليه وابتلى به وعلم شر الشرين فأمعن في الهرب منه واحتجب بحجابين عنه وفي هذه المعاني دقائق العلوم وغرائب الفهوم وأدلة للسائلين وعبرة وآيات للعالمين فأما شر الشرين ومعرفة الخير من الشر فهو معروف بأدلة العقول وظاهر العلوم. مسجداً مثل ما بنو وأدعو الناس إلى شريعتي كما دعوا فبنى مسجداً يضاهي به بيت المقدس وادعى على الله عزّ وجلّ أنه أمره بذلك وصرف الناس إليه وبذل لهم الأموال وأخرب مسجد بيت المقدس وهجره فدخل الناس في دينه رغبة ورهبة، قال: فابتعث الله نبيّاً من بعض أهل القرى فقال: اركب أتانك هذه وأت هؤلاء القوم أحفل ما يكونون فناد في مسجدهم ومجمعهم بأعلى صوتك: يامسجد الضرار إن الله عزّ وجلّ حلف باسمه ليوحشنك من عمارك وليقتلنّ أهلك فيك وليشدخنّهم بخشبك وجندلك ولتلغن الكلاب دماءهم وتأكل لحومهم فيك وناد في المدينة بأعلى صوتك بمثل ذلك ولا تأكل ولا تشرب ولا تستظل ولا تنزل عن أتانك هذه حتى ترجع إلى قريتك التي خرجت منها قال ففعل ذلك فثار الناس إليه يضربونه بالخشب ويشجونه بالحجارة وهو على أتانه لاينزل عنها فناله على ذلك أذى كثير وضرب عظيم ثم كرّ راجعاً في آخر النهار يؤمّ قريته التي خرج منها وقد أدّى الرسالة وصبر على الضرب والبلاء لله عزّ وجلّ فلما كان ببعض الطريق سمع به نبي آخر كان في بعض القرى استقبله وسلم عليه فقال: إنك قد أدّيت رسالة ربك وإنك أمضيت أمره وإنك قد نصبت ولقيت عناء من هؤلاء القوم وأنت جائع عطشان تسيل دماؤك على جسدك وثيابك فاغد إلى منزلك فكل واشرب واسترح واغسل جسدك وثيابك فقال إن الله عزّ وجلّ لما أرسلني قد كان عهد إليّ أن لا آكل ولا أشرب ولا أستظل حتى أرجع إلى أهلي فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإني من أهلك لأنني نبي مثلك وأخوك في الدين فلا أرى الله عزّ وجلّ عني بذلك إلا القوم الذين بعثك إليهم لأنهم أعداؤه فنهاك أن تأكل من طعامهم وتستظل عندهم ولا أحسب حرم عليك دخول منزلي ولا الأكل من طعامي لأني شريكك في الأخوّة والنبوّة قال: فصدقه وانصرف معه إلى منزله، فلما وضع الطعام بين يديه وأهوى ليأكل عن جوع شديد قد أضرّ به أوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي الذي دعاه إلى منزله قل له: آثرت شهوتك وبطنك على أمري ألم أعهد إليك أن لا تنزل ولا تستظل ولا تأكل حتى ترجع إلى قريتك التي خرجت منها ولولا أنك اجتهدت برأيك وقلت بمبلغ علمك لعمكما العقاب وهو أقل عندي عذراً منك لأني عهدت إليه فآثر هواه شهوته وترك عهدي، فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أمر فوثب مذعوراً يجر إزاره وجعل يرحل أتانه ويعجل ولا يعقل ما هو فيه فركبها طارداً لها على وجهه لجوعه وعطشه ودماؤه على ثيابه وجسده لاينثني، فلما هبط عن عقبة تحتها غيضة عارضه سبع فافترسه وانتصب السبع مقعياً على قارعة الطريق يزأر يحرس أتانه ورحله كلما أقبل إنسان زأر الأسد عليه حتى يطرده فسمع بخبره ذاك النبي فأقبل نحوه فلما نظر إليه الأسد انصرف عنه وخلى بينه وبينه قال: فكفنه وواراه وانصرف برحله وأتانه إلى أهله، فقال: يارب عبدك هذا الذي بلغ رسالتك وأمضى أمرك وقد كان أجهده البلاء فخالف ماأردت فلم يعلم فعاقبته بهذه العقوبة فأوحى الله عزّ وجلّ إليه ليست هذه عقوبة ولم أفعل ذلك لهوانه عليّ ولكن هذه مغفرة ورحمة، إنه خالف أمري وكان قد اقترب أجله فكرهت له أن يلقاني على المخالفة فألقاه بما يكره فقيضت له كلباً من كلابي فطهره للقائي فكان ذلك له عندي شهادة ودرجة فوق نبوته فقال سبحانك وبحمدك أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فالعالم عند العلماء من علم خير الخيرين، فسبق إليه قبل فوته وعلم شر الخيرين فأعرض عنه لئلا يشغله عن الأخير منهما وعلم أيضاً خير الشرين ففعله إذا اضطر إليه وابتلى به وعلم شر الشرين فأمعن في الهرب منه واحتجب بحجابين عنه وفي هذه المعاني دقائق العلوم وغرائب الفهوم وأدلة للسائلين وعبرة وآيات للعالمين فأما شر الشرين ومعرفة الخير من الشر فهو معروف بأدلة العقول وظاهر العلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الفصل السابع والعشرون كتاب أساس المريدين قال بعض العلماء: الخلق محجوبون بثلاث؛ حب الدرهم، وطلب الرياسة وطاعة النساء، وقال بعض العارفين: الذي قطع العباد عن الله عزّ وجلّ ثلاثة أشياء؛ قلة الصدق في الإرادة،، والجهل بالطريق، ونطق علماء السوء بالهوى، وقال بعض علمائنا: إذا كان المطلوب محجوباً والدليل مفقوداً والاختلاف موجوداً لم ينكشف الحق، وإذا لم ينكشف الحق تحير المريد، واعلم أن المريد لابدّ له من خصال سبع: الصدق في الإرادة وعلامته إعداد العدة ولا بدّ له من التسبب إلى الطاعة وعلامة ذلك هجر قرناء السوء ولا بدّ له من المعرفة بحال نفسه وعلامة ذلك استكشاف آفات النفس ولا بدّ له من مجالسة عالم بالله وعلامة ذلك إيثاره على ماسواه ولا بد له من توبة نصوح فبذلك يجد حلاوة الطاعة ويثبت على المداومة وعلامة التوبة قطع أسباب الهوى والزهد فيما كانت النفس راغبة فيه ولا بدّ له من طعمة حلال لا يذمّها العلم وعلامة ذلك الحلال المطالبة عنه وحلول العلم فيه يكون بسبب مباح وافق فيه حكم الشرع ولا بدّ له من قرين صالح يؤازره على ذلك وعلامة القرين الصالح معاونته على البر والتقوى ونهيه إياه عن الإثم والعدوان، فهذه الخصال السبع قوّت الإرادة لا قوام لها إلا بها ويستعين على هذه السبع بأربع هن أساس بنيانه وبها قوة أركانه؛ أوّلها الجوع، ثم السهر، ثم الصمت، ثم الخلوة، فهذه الأربع سجن النفس وضيقها وضرب النفس وتقييدها بهن يضعف صفاتها وعليهن تحسن معاملاتها ولكل واحدة من الأربع صنعة حسنة في القلب، فأما الجوع فإنه ينقص من دم القلب فيبيضّ وفي بياضه نوره ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبه رقته ورقته مفتاح كل خير لأن في القسوة مفتاح كل شر وإذا نقص دم القلب ضاق مسلك العدوّ منه لأن دم القلب مكانه فإذا رق القلب ضعف سلطان العدوّ منه لأن في غلظ القلب سلطانه والفلاسفة يقولون إن النفس كلية الدم وحجتهم في ذلك أن الإنسان إذا مات لم يفقد من جسمه إلا دمه مع روحه، والعلماء منهم قالوا: الدم هو مكان النفس وهذا هو الصحيح لأنه مواطئ لما في التوراة سمعت أن في التوراة مكتوباً: ياموسى لا تأكل العروق فإنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 مأوى كل نفس وهذا مصدق للحديث الذي روي أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش، وقدعبر علماء الكوفة عن الدم بالنفس فقالوا: إذا مات في الماء من الهوام ماليس له نفس سائلة لم ينجس يعنون الخنافس والصراصر والعناكب، ففي الجوع نقصان الدم ونقصانه ضيق مسلك العدوّ وضعف مسكن النفس لسقوط مكانها، وفي خبر عن عيسى عليه السلام: يامعشر الحواريين جوّعوا بطونكم وعطشوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عزّ وجلّ يعني بحقيقة الزهد وصفاء القلب، فالجوع مفتاح الزهد وباب الآخرة وفيه ذلّ النفس واستكانتها وضعفها وانكسارها وفي ذلك حياة القلب وصلاحه وأقل ما في الجوع إيثار الصمت وفي الصمت السلامة وهي غاية للعقلاء، وقال سهل رحمه الله: اجتمع الخير كله في هذه الأربع خصال، وبها صار الإبدال إبدالاً إخماص البطون والصمت والسهر والاعتزال عن الناس، وقال: من لم يصبر على الجوع والضر لم يتحقق بهذا الأمر وكان عبد الواحد بن زيد يحلف بالله ما تحول الصديقون صديقين إلا بالجوع والسهر فإنه ينير القلب ويجلوه وفي استنارته معاينة الغيب وفي جلائه صفاء اليقين فتدخل الاستنارة والجلاء على البياض والرقة فيصير القلب كأنه كوكب دريّ في مرآة مجلوة ويشهد الغيب بالغيب فيزهد في الفاني لما عاين من الباقي وتقل رغبته في عاجل حظوظ هواه لما أبصر من وبال العقاب ويرغب في الطاعات لمشاهدة الآخرة ورفيع الدرجات فيصير الآجل عاجلاً ويكون العاجل غائباً ويصير الغائب حاضراً والحاضر آفلاً يطلبه ويرغب فيه فلا يحب الآفل ولا يبتغيه ويطلب الآجل ويرغب فيه وينكشف له عوار الدار ويظهر له بواطن الأسرار ويزول عنه كامن الإغترار فهناك صار العبد مؤمناً حقاً بوصف حارثة الأنصاري إذ يقول: عزفت نفسي عن الدنيا وكأني أنظر إلى عرش ربي تعالى بارزاً وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وإلى أهل النار يتعادون، وكذلك وصف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلب المؤن في قوله: القلوب أربعة؛ قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وانجراد القلب بالزهد في الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وتجرده من الهوى وسراجه الذي يزهر فيه هو نور اليقين به يبصر الغيب وقال بعض علمائنا: من سهر أربعين ليلة خالصاً كوشف بملكوت السماء وكان يقول اجتمع الخير كله في أربع ذكر منها سهر الليل واعلم أن نوم العلماء عن غلبة المنام بعد طول السهر بالقيام مكاشفة لهم وشهود وتقريب لهم منه وورود ومن صفة الإبدال أن يكون أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة ومن سهر بالليل لأجل الحبيب لم يخالفه بالنهار فإنه أسهره بالليل في خدمته ودخل الحسن ذات يوم إلى السوق فسمع لغطهم وكثرة كلامهم فقال أظن ليل هؤلاء ليل سوء ما يقيلون وفي الخبر قيلوا فإن الشياطين لا تقيل واستعينوا على قيام الليل بقائلة النهار وقد قيل في قوله عزّ وجلّ: (وَاسْتعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَّلاَةِ) البقرة: 54 قيل بالصوم على قيام الليل وقيل: استعينوا بالجوع وصلاة الليل على مجاهدة النفس وقيل: استعينوا بالصبر والصلاة على اجتناب النهي. قال بعض علمائنا: من سهر أربعين ليلة خالصاً كوشف بملكوت السماء وكان يقول اجتمع الخير كله في أربع ذكر منها سهر الليل واعلم أن نوم العلماء عن غلبة المنام بعد طول السهر بالقيام مكاشفة لهم وشهود وتقريب لهم منه وورود ومن صفة الإبدال أن يكون أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة ومن سهر بالليل لأجل الحبيب لم يخالفه بالنهار فإنه أسهره بالليل في خدمته ودخل الحسن ذات يوم إلى السوق فسمع لغطهم وكثرة كلامهم فقال أظن ليل هؤلاء ليل سوء ما يقيلون وفي الخبر قيلوا فإن الشياطين لا تقيل واستعينوا على قيام الليل بقائلة النهار وقد قيل في قوله عزّ وجلّ: (وَاسْتعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَّلاَةِ) البقرة: 54 قيل بالصوم على قيام الليل وقيل: استعينوا بالجوع وصلاة الليل على مجاهدة النفس وقيل: استعينوا بالصبر والصلاة على اجتناب النهي. وأما الصمت فإنه يلقح العقل ويعلم الورع ويجلب التقوى ويجعل الله عزّ وجلّ به للعبد بالتأويل الصحيح والعلم الرجيح مخرجاً ويوفقه بإيثار الصمت للقول السديد والعمل الرشيد، وقد قال بعض السلف: تعلمت الصمت بحصاة جعلتها في فمي ثلاثين سنة كنت إذا هممت بالكلمة تلجلج بها لساني فيسكت، وقال بعضهم: جعلت على نفسي بكل كلمة أتكلم بها فيما لا يعنيني صلاة ركعتين فسهل ذلكّ عليّ فجعلت على نفسي بكل كلمة صوم يوم فسهلّ عليّ فلم أنتهِ حتى جعلت على نفسي بكل كلمة أن أتصدق بدرهم فصعب ذلك فانتهيت، وقال عقبة بن عامر: يارسول الله فيم النجاة؟ قال: أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الجامع المختصر: من سره أن يسلم فليلزم الصمت وأوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً بالصلاة والصيام وغير ذلك ثم قال في آخر وصيته: ألا أدلك على ماهو أملك لك من ذلك كله، هذا وأومأ بيده إلى لسانه فقلت: يارسول الله وإنا لمؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا فقال: ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم إنك ماسكت فإنك سالم فإذا تكلمت فإنما هو لك أو عليك وقال عبد الله بن سفيان عن أبيه، قال: قلت يارسول الله أوصني بشيء في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك فقال: قل ربي الله ثم استقم قال: قلت فما أتقى بعد ذلك، وفي لفظ آخر ذلك وفي لفط آخر فأخبرني بأضر شيء عليّ فقال هذا وأومأ إلى لسانه، وفي الخبر لا يتقي العبد ربه تعالى حق تقاته حتى يخزن من لسانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وفي الحديث لايصلح العبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه وقال ابن مسعود: ليس شيء أحق بطول سجن من لسان، وقال بعض السلف: فتشت الورع فما وجدت في شيء أقل منه في اللسان، وقال بعض العلماء: مااستقام لسان عبد إلا عرفت الصلاح في سائر عمله وما اختلف لسانه إلا عرفت الفساد في سائر عمله وقال بعض الحكماء: إذا كثر العقل قل الكلام، وإذا قل العقل كثر الكلام، وقال أحمد بن حنبل: علماء أهل الكلام زنادقة، وقال بعض هذه الطائفة: من تكلم فأحسن كثير ولكن الشأن فيمن يحسن أن يسكت، وقال ذو النون المصري: الخوف يقلق والحياء يسكت، وقال بعض العارفين: قد جزئ العلم على قسمين: نصفه سكوت ونصفه أن تدري أين تضعه، وقال الضحاك بن مزاحم: أدركتهم وما يتعلمون إلا الصمت والورع وهم اليوم يتعلمون الكلام، وقال الحسن عن أنس بن مالك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أربع لا يصبن إلا بعجب الصمت وهو: أول العبادة، والتواضع، وذكر الله عزّ وجلّ، وقلة الشيء، وقال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما مضى؟ فقال: يابني الكلام اليوم أكثر والعلم فيما مضى كان أكثر وقيل: كانوا ينتفعون بصمت العلم مثل ما ينتفعون بكلامه، وقد قيل: من لم ينتفع بسكوت المتكلم لم ينتفع بكلامه، وقيل لبعض العلماء: فلان أعلم أم فلان؟ فقال فلان أعلم وفلان أكثر كلاماً ففرق بين العلم والكلام، وقيل لبعض علماء خراسان عند وفاته: دلنا على رجل نجلس إليه بعدك فقال لهم: فلان فذكر لهم رجلاً صموتاً متعبداً لا يعرف بكثير علم فقيل له: إن فلاناً ليس عنده من العلم ما يجيب عن كل ما نسأله عنه من العلم فقال: قد علمت، ولكن عنده من الورع مالا يتكلم بما لايعلم وكان الأعمش يقول: من الكلام كلام جوابه السكوت، وقال بعض السلف: الصمت زين العالم وستر الجاهل، وقال غيره: الصمت جوابه وفي الخبر: الصمت زين للعالم وشين للجاهل، وقال بعضهم: ليس شيء أشد على الشيطان من عالم حليم إن تكلم تكلم بعلم وإن سكت سكت بحلم، يقول الشيطان: انظروا إليه سكوته أشدُّ عليّ من كلامه، وقال بعض السلف: تعلّم الصمت كما تتعلّم الكلام، فإن يكن الكلام يهديك فإن الصمت يقيك ولك في الصمت خصلتان تدفع به جهل من هو أجهل منك وتعلم به علم من هو أعلم منك، وقال بعض العلماء: تعلم لاأدري ولا تتعلم أدري فإن قلت لاأدري علموك حتى تدري وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري، وقد قال العلماء: إذا أخطأ العالم قول أدري أصيبت مقاتله، وقال عيسى عليه السلام: الخير كله في ثلاثة: في الصمت، والكلام، والنظر، فمن لم يكن صمته تفكراً فهو في سهو، ومن لم يكن كلامه ذكراً فهو في لغو، ومن لم يكن نظره عبراً فهو في لهو، وقال بعضهم: يأتي على الناس زمان يكون أفضل أعمالهم النوم وأفضل علومهم الصمت يعني لفساد الأعمال ولاشتباه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 العلم، ويقول أيضاً مع ذلك: وأفضل أحوالهم الجوع لانتشار الحرام وغموض الحلال، وقال بعض العلماء: الصمت نوم العقل والنطق يقظته وكل يقظة تحتاج إلى نوم وما صمت عاقل قط إلا اجتمع عقله وحضر لبه، وفي وصية ابن عباس مجاهداً لا تتكلمن فيما لا يعنيك فإنه أسلم ولا آمن عليك الخطأ ولا تتكلّم فيما لايعنيك حتى ترى له موضعاً فرب متكلّم فيما يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، وقال بعض العلماء: يستبين ورع الرجل في منطقه وفي الخبر: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه مات قلبه، ويقال: إذا قلّ الكلام كثر الصواب، وعن جماعة السلف: إن تسعة أعشار السلامة في الصمت، ويقال: كل كلمة من هزل أو مزح أو لغو يوقف العبد عليها خمس مواقف بتوبيخ وتقرير، أوّلها أن يقال له لم قلت كلمة كذا أكانت فيما يعنيك؟ والثانية هل نفعتك إذ قلتها؟ والثالثة هل ضرتك لو لم تقلها؟ والرابعة ألا سكت فربحت السلامة من عاقبتها؟ والخامسة هلا جعلت مكانها قول سبحان الله والحمد لله فغنمت ثوابها، ويقال ما من كلمة إلا وينشر لها ثلاثة دواوين: الديوان الأوّل لم، والثاني كيف، والثالث لمن، فإن نجا من الثلاث وإلا طال وقوفه للحساب، وقال الحسن: لسان المؤمن وراء قلبه إذا أراد أن يتكلم تفكر فإن كان له تكلم وإن كان عليه أمسك، وقلب المنافق على طرف لسانه أي كل شيء خطر بقلبه تكلم به ولا يتوقف ولا ينثني، وفي الخبر: من آفة العالم أن يكون الكلام أعجب إليه من الصمت وفي الكلام تنميق وزيادة، وفي الصمت سلامة وغنم، وفي موعظة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، والأخبار في الصمت وفي جميع ماذكرناه من المعاني تكثر ولم نقصد جمعها وأما الخلوة فإنها تفرغ القلب من الخلق وتجمع الهم بأمر الخالق وتقوّي العزم على الثبات إذ في مخالطة الناس وهن العزم وشتات الهم وضعف النية والخلوة تقل الأفكار في عاجل حظوظ النفس لفقد مشاهدتها بالأبصار لأن العين باب القلب ومنها يدخل آفاته وعندها توجد شهواته ولذاته، وقد قال بعض العلماء: من كثرت لحظاته دامت حسراته والخلوة تجلب أفكار الآخرة وتجدد الإهتمام بها لما شهد به الإيقان وتنسي ادّكار العباد وتواصل ذكر المعبود، والخلوة من أكبر العوافي، وذلك أنه قد جاء في الحديث: سلوا الله العافية فما أعطي عبد بعد اليقين أفضل من العافية، ثم قد روي في الخبر: العزلة عن الناس عافية، فدخل ذلك في معنى ماندب إليه من السؤال وفيما فضل بعد اليقين على جميع الأحوال ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من اللذة والحلاوة والمزيد ما لا يجده في الجماعة ويجد في السر من النشاط والقوة ما لا يجده في العلانية ويكون أنسه في الوحدة وروحه في الخلوة وأحسن أعماله في السر، ومثل الخلوة في الأحوال من المخالطة للناس مثل الخوف في المقامات من المحبة، الخوف يصلح لجميع العابدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 والمحبة مزيد لأهلها المخصوصين كذلك الخلوة والانفراد يصلح لجميع المريدين والأنس بالناس مزيد لأهله خاصة من الأئمة العالمين إلا أن الخلوة تحتاج إلى عقل آخر والوحدة والانفراد يحتاج إلى إيمان ثان. ي الكلام تنميق وزيادة، وفي الصمت سلامة وغنم، وفي موعظة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، والأخبار في الصمت وفي جميع ماذكرناه من المعاني تكثر ولم نقصد جمعها وأما الخلوة فإنها تفرغ القلب من الخلق وتجمع الهم بأمر الخالق وتقوّي العزم على الثبات إذ في مخالطة الناس وهن العزم وشتات الهم وضعف النية والخلوة تقل الأفكار في عاجل حظوظ النفس لفقد مشاهدتها بالأبصار لأن العين باب القلب ومنها يدخل آفاته وعندها توجد شهواته ولذاته، وقد قال بعض العلماء: من كثرت لحظاته دامت حسراته والخلوة تجلب أفكار الآخرة وتجدد الإهتمام بها لما شهد به الإيقان وتنسي ادّكار العباد وتواصل ذكر المعبود، والخلوة من أكبر العوافي، وذلك أنه قد جاء في الحديث: سلوا الله العافية فما أعطي عبد بعد اليقين أفضل من العافية، ثم قد روي في الخبر: العزلة عن الناس عافية، فدخل ذلك في معنى ماندب إليه من السؤال وفيما فضل بعد اليقين على جميع الأحوال ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من اللذة والحلاوة والمزيد ما لا يجده في الجماعة ويجد في السر من النشاط والقوة ما لا يجده في العلانية ويكون أنسه في الوحدة وروحه في الخلوة وأحسن أعماله في السر، ومثل الخلوة في الأحوال من المخالطة للناس مثل الخوف في المقامات من المحبة، الخوف يصلح لجميع العابدين والمحبة مزيد لأهلها المخصوصين كذلك الخلوة والانفراد يصلح لجميع المريدين والأنس بالناس مزيد لأهله خاصة من الأئمة العالمين إلا أن الخلوة تحتاج إلى عقل آخر والوحدة والانفراد يحتاج إلى إيمان ثان. وقد روينا عن سفيان الثوري وعن بشر بن الحرث: إذا استوحشت من الوحدة واستأنست بالخلق لم آمن عليك الرياء، وكان أبو محمد يقول: اجتمع الخير كله في هذه الخصال الأربع وبها صار الإبدال إبدالاً: إخماص البطون، والصمت، واعتزال الخلق، وسهر الليل، وحدثت عن عبد العزيز عن سهل رحمه الله قال: مخالطة الولي للناس ذلّ وتفرّده عزّ وقلّ مارأيت وليّاً لله عزّ وجلّ إلا منفرداً، وقال بعض العارفين: الأنس بالوحدة علامة وجود الطريق فمن علامة صدق الإرادة بعد صحة التوبة وقوة العزم على الاستقامة إيثار هذه الأربع التي ذكرناه على أضدادها ووجود القلب عندها وانشراح الصدر بها وحسن الخلق معها لأن ضدها هو أبواب الدنيا ومفاتيح الغفلة وطرقات الهوى، من ذلك فإن في الشبع قسوة القلب وظلمته وفي ذلك قوّة صفات النفس وانتشار حظوظها وفي قوّتها وبسطها ضعف الإيمان وخمود أنواره وفي ضعف النفس وخمود طبعها قوة الإيمان واتساع شعاع أنوار اليقين وفي ذلك قرب العبد من القريب ومجالسته للحبيب والشبع مفتاح الرغبة في الدنيا، وقال بعض الصحابة: أول بدعة حدثت بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشبع إذ القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم شهواتهم. وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يجوعون من غير إعواز أي مختارين لذلك، وقال ابن عمر: ماشبعت منذ قتل عثمان رضي الله عنه، وقال هذا في زمن الحجاج، وفي حديث أبي حجيفة لما تجشأ عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: اكفف عنا جشاءك فإن أطولكم شبعاً في الدنيا، أكثركم جوعاً في الآخرة، فقال: والله ما تمليت طعاماً من يومئذ إلى يومي هذا، وأرجو أن يعصمني الله عزّ وجلّ فيما بقي، ويستحب على هذا أن يكون جوع العبد في الدنيا أكثر من شبعه وهي علامة الأولياء، فمن كان له أكلة بين جوعتين إلى منتهاهما فجوعه حينئذ أكثر من شبعه، ومن كان له بعد جوعة بالغة شبعة متوسطة فقد اعتدل شبعه وأكله وجوعه، ومن أكل في يوم مرتين أو أكل من غير جوع ثم شبع فشبعه أكثر من جوعه، وهذا مكروه، وكل من أكل بعد الجوع، ورفع يده قبل الشبع فجوعه أكثر من شبعه وهذا أوسط الأحوال، وقال هشام عن الحسن: والله لقد أدركت أقواماً كانوا لا يشبعون يأكل أحدهم حتى إذا رد نفسه أمسك ذائباً ناحلاً مقبلاً على نية يعيش عمره كله ما طوى له ثوب قط ولا أمر أهله بصنعة طعام قط ولا جعل بينه وبين الأرض شيئاً قط، وقال جعفر بن حيان عن الحسن: المؤمن لا يأكل في كل بطنه، ولا تزال وصيته تحت جنبه. وروينا عن الثوري: خصلتان تقسيان القلب؛ طول الشبع، وكثرة الكلام، وروينا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 مكحول خصال ثلاث يحبها الله عزّ وجلّ وثلاث يبغضها الله عزّ وجلّ، فأما اللاتي يحبها: فقلة الأكل، وقلة النوم، وقلة الكلام، وأما اللاتي يبغض: فكثرة الأكل، وكثرة الكلام، وكثرة النوم، فأما النوم فإن في مداومته طول الغفلة وقلة العقل ونقصان الفطنة وسهوة القلب، وفي هذه الأشياء الفوت وفي الفوت الحسرة بعد الموت، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قالت أم سليمان بن داود لابنها: يابني لاتكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم تترك العبد فقيراً يوم القيامة وقيل كان شبان يتعبدون في بني إسرائيل فكانوا إذا حضر عشاؤهم قام فيهم عالمهم فقال: يا معشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا كثيراً، وكان بعض السلف يقول: أدنى أحوال المؤمن: الأكل والنوم، وأفضل أحوال المنافق: الأكل والنوم، وقال بعض الناس لفيلسوف من الحكماء: صف لي شيئاً أستعمله حتى أكون أنام النهار، فقال: ياهذا ماأضعف عقلك إن نصف عمرك نوم والنوم من الموت، تريد أن تجعل ثلاثة أرباعه نوماً وربعه حياة؟ قال: وكيف؟ قال: أنت إذا عشت أربعين سنة فإنما هي عشرون سنة أفتريد أن تجعلها عشر سنين؟ وأما كثرة الكلام فإن فيه قلة الورع وعدم التقوى وطول الحساب وكثرة المطالبين وتعلق المظلومين وكثرة الأشهاد من الأملاك المكاتبين ودوام الإعراض من الملك الكريم، لأن الكلام مفتاح كبائر اللسان، فيه الكذب والغيبة والنميمة والبهتان، وفيه شهادة الزور، وفيه قذف المحصن والافتراء على الله تعالى والإيمان، وفيه القول فيما لايعني والخوض فيما لاينفع، وقد جاء في الخبر: أكثر خطايا ابن آدم في لسانه وأكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم خوضاً فيما لايعنيه، وفي اللسان التزين والتصنع للخلق والتحريف والإحالة لمعاني الصدق، وفيه المداهنة والمواراة والتملق لأهل الأهواء وفي اجتماع هذا على العبد شتات قلبه وفي شتاته تفريق همه، وفي تفريق همه سقوطه من مقام المقربين، وفي وصية ابن عباس لمجاهد لا تمارينّ حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقلاك وإن السفيه يؤذيك، وفي الخبر: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وفي لفظ آخر ليتكلم بها فيهوي في جهنم سبعين خريفاً، وقال لقمان لابنه: لأن تعيش أخرس يسيل لعابك على صدرك خير لك من أن تنطق في نادي القوم بما لايعنيك، وفي خبر: من افتتح بكلمة سوء ثم خاض الناس في مثلها كان عليه مثل أوزارهم، وفي الخبر: لايأتي بخير السوء إلا رجل السوء، وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم أنه كان إذا صحبه رجل فجاء بخبر سوء فارقه، وروينا في الحديث: من حدث بما سمعت أذناه ورأت عيناه كتبه الله تعالى من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. وروينا عن علي رضي الله عنه: مذيع الفاحشة في الناس كفاعلها، وفي الخبر: إن بعض فقراء أهل الصفة استشهد في سبيل الله عزّ وجلّ فقالت أمه: هنيئاً لك في الجنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 جاهدت في سبيل الله وهاجرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتلت شهيداً، طوبى لك الجنة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يدريك أنه في الجنة؟ فلعله كان يتكلم فيما لا ينفعه أو يبخل بما لا يضره وفي لفظ آخر: لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويبخل بما لايغنيه، وفي الخبر: إن بعض الصحابة قال لرجل إنه لنؤوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغتبتم أخاكم سلوه أن يستغفر لكم، وفي خبر آخر: إنهم قالوا ماأعجز فلاناً فقال: أكلتموه، وفي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت لامرأة: ماأطول ذيلها وفي لفظ آخر قالت: إنها لقصيرة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغتبتها وفي خبر آخر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: لقد تكلمت بكلمة لو مزج بها ماء البحر لامتزج، فهذا من وصف المبالغة في الشدة، وفي الخبر الجامع لهذه المعاني في وصف الغيبة ما روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال في أخيه مافيه فقد اغتابه. وفي حديث أبان عن أنس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشد من ذلك أنه قال الغيبة ما إن قلت في أخيك لم تزكه به فهذا نهاية القول من الشدة وغاية التشديد في الغيبة والغيبة اسم لغوي معناه شرعي مشتق من غيب الإنسان وفسرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها أن يقول العبد في أخيه ما فيه وعظمها بقوله هي أشد من الزنا، فمتى قال العبد لأخيه في غيبته ما يعلمه يقيناً فيه مما لا يقوله بمحضره أو مما ينقصه به أو لا يزكيه فيه فقد اغتابه، فلو لم يكن في الصمت إلا السلامة من الغيبة لكان ذلك غنيمة موفورة، كيف وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثة أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله عزّ وجلّ، وأما مخالطة الناس فإنها تضعف العزم الذي كان قوياً في أعمال البر وتحل العقد المبرم الذي استوطنه العبد في الخلوة لقلة المتعاونين على البر والتقوى وكثرة المتعاونين على الإثم والعدوان، وفي مخالطة الناس قوّة الطلب والحرص على عاجل الدنيا لما يعاين من إقبال أهلها عليه وفيه الفتور عن الخدمة بالنظر إلى أهل الغفلة والملل للطاعة بمجالسة أهل البطالة ونقصان حلاوة المعاملة وذهاب نور العلم وسرعة خروج الوجد بالفهم لاستماع كلام أهل الجهالة والنظر إلى الموتى من أبناء الدنيا كما روي عن عيسى عيه السلام: لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم، قيل: ومن الموتى؟ قال: المحبون للدنيا الراغبون فيها، وقد كان الحسن يقول في قوله عزّ وجلّ: (وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلاَ الأمْوَاْتُ) فاطر: 22، قال: الفقراء والأغنياء كان الفقراء حيوا بذكر الله عزّ وجلّ والأغنياء ماتوا على الدنيا، وأعظم ما في مخالطة الناس ومجالسة أهل البطالة وذوي غفلتهم ضعف اليقين برؤيتهم، وأضر ما ابتلي به العبد وأعمله في هلاكه وأشده لحجبه وإبعاده ضعف يقينه بما وعد به بالغيب وتوعد عليه في الشهادة وهذا أخوف ما خافه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته فيما روينا عنه أنه قال: أخوف ماأخاف على أمتي ضعف اليقين، وذلك أن ضعف اليقين هو أصل الرغبة في الدنيا والحرص على التكاثر منها والتضرع إلى أبنائها والطمع فيهم، كما قال ابن مسعود: إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع إلى بيته وما معه من دينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 شيء يلقى هذا فيقول: إنك لذيت وذيت ويلقى هذا فيقول أنت كيت وكيت ولعله لا يخلى منهم بشيء ويرجع إلى بيته وقد أسخط الله عزّ وجلّ، وقد قال بعض التابعين: إن العبد ليقعد في الخلوة على خصال من الخير فيخرج إلى الناس فيحللون ما عقده عقدة عقدة حتى يرجع وقد انحلت العقد كلها، وقوّة اليقين أصل كل عمل صالح لأن في قوّة يقينه سرعة منقلبه وطول مثواه في دار إقامته إيثار التقلل من الفاني وتقديمه للباقي وضعف حرصه وقلة طلبه وفقد طمعه وفراغه من الاشتغال بعاجله وإقباله وشغله بما ندب إليه من مستقره، وفي جميع ذلك إخلاصه في أعماله وحقيقة زهده في تصرف أحواله وفي قصر أمله وتحسين عمله، ألم تسمع إلى وصف من أخبر الله عزّ وجلّ عنه بالتكاثر الذي ألهاه حتى زار برزخه ومثواه كيف تهدده حتى يعلم يقيناً وتوعده إذا رأى آخرته عياناً فقال سبحانه: (ألْهَاكُمُ التَّكاثُرُ) التكاثر: 1 أي شغلكم الجمع للمكاثرة حتى حللتم القبور، ثم قال: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ) التكاثر: 5 أي لشغلكم العمل الصالح للآخرة عن اللعب واللهو الذي هو مقتضى الشك إذ هو ضد اليقين فاشتغلتم بالآخرة عن التكاثر من الدنيا كما شغلكم التكاثر باللهو واللعب لعدم علم اليقين، كما قال: (أبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إنّا مُوقِنونَ) السجدة: 12بعد أن قال: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ يَلْعَبُون) الدخان: 9 ثم ثوعدهم على ذلك مرتين وتهددهم بالسؤال عن النعيم الذي شغلهم وهو التكاثر في فضول العاجل وقيل: هو الجمع والمنع، فاعلم أن الذي قطع العباد عن التوبة وعرج بالتائبين عن الاستقامة ثلاثة أشياء: الكسب، والإنفاق، والجمع، وهذه الأسباب متعلقة بالخلق وموجودة بوجودهم ومفقودة بالانفراد عنهم فمن زهد في هذه الثلاثة فقد زهد في الخلق ومن رغب في الخلق فقد رغب في هذه الثلاث، وقال الثوري: من خالط الناس داراهم ومن داراهم راياهم ومن راياهم وقع فيما وقعوا فهلك كما هلكوا، وقد قال بعض هذه الطائفة من الصالحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق: كيف الطريق إلى التحقيق؟ وقال مرة قلت له دلني على عمل أعمله أجد فيه قلبي مع الله تعالى في كل وقت مع الدوام فقال: لاتنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة قلت: لا بدّ لي من ذلك، قال فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة قلت لا بدّ لي من ذلك، قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بدّ من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذه العلة فقال: ياهذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع الله عزّ وجلّ على الدوام هذا ما لايكون، وقد جاء في فضل العزلة والانفراد وفي فضل الصمت، وفي جميع ماذكرناه من الجوع والسهر ومن مكابدة الليل ما يكثر جمعه فيما نبهنا عليه وأشرنا إليه بلاغ وغنية لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ولمن أريد بالمعاملة والمتاجرة ولا حول ولا قوّة إلا بالله. من الصالحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق: كيف الطريق إلى التحقيق؟ وقال مرة قلت له دلني على عمل أعمله أجد فيه قلبي مع الله تعالى في كل وقت مع الدوام فقال: لاتنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة قلت: لا بدّ لي من ذلك، قال فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة قلت لا بدّ لي من ذلك، قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بدّ من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذه العلة فقال: ياهذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع الله عزّ وجلّ على الدوام هذا ما لايكون، وقد جاء في فضل العزلة والانفراد وفي فضل الصمت، وفي جميع ماذكرناه من الجوع والسهر ومن مكابدة الليل ما يكثر جمعه فيما نبهنا عليه وأشرنا إليه بلاغ وغنية لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ولمن أريد بالمعاملة والمتاجرة ولا حول ولا قوّة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الفصل الثامن والعشرون كتاب مراقبة المقربين ومقامات الموقنين ذكر المقام الأول من المراقبة العبد إذا قوي يقينه علم علم يقين أن أوقاته هذه التي وكل تربيته إليها وجعل سبب نمائه وحياته منها وهي مكررة عليه في البرزخ ومردودة إليه يوم القيامة ومعادة عليه في الجنة إن دخلها ليس يجازى هناك إلا بمقدار ما أعطي من المعاملة ههنا، ولا يعطي ثم إلا بقدر ما وفق ههنا، لا يُسأل إلا عن أوقاته، ولا يحاسب إلا بساعاته، ولا يجازى إلا عليها ولا ترد عليه أوقات غيره، كما لا يعاد هو في صورة غيره ولا يعطى جزاء سواه كما لم يعامل ههنا معاملة سواه ولكن الله يُبْدئ ويعيد، فيمن ذلك قوله تعالى: (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الأعراف: 92 وقال تعالى: (أفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجرِمِينَ) القلم35 (كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَاْرَكٌ لِيَدَّبروا آيَاتِهِ) ص: 29 من تدبره: (أمْ نَجْعَلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أمْ نَجْعَلُ المُتَّقِيْنَ كَالفُجَّارِ) ص: 28 أي تدبروا آياته هل ترون جزاء هؤلاء لوصف هؤلاء أم هل تجدون وصف هؤلاء له جزاء أو لا ومثله قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَاِنيِّ أهْلِ الْكِتَابِ) النساء: 123 فنفى أمانيهم بليس وأنبت حكمه بلكن وهي مضمرة في الكلام المعني لكن من يعمل سوءاً يجزيه، وفسره رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال المؤمن يجزى بسيئته في الدنيا من المصائب والجوع والعري، والمنافق تبقى ذنوبه عليه حتى يوفي يوم القيامة كأنه حمار يجازى بها في الآخرة، وكان الحسن يقول: عباد اللَّه، اتقوا هذه الأماني، فإنها أودية النوكى يحلون فيها، واللَّه ما أتى عبد اللَّه بأمنيته خيراً من دنياه ولا آخرته، وقال بعض العلماء: كلما قل العقل كثرت الأماني، وكتب بعض السلف إلى بعض إخوانه من أبناء الد نيا يعظه: أخبرني عن هذا الذي تكدح فيه وتحرص عليه من أمر الدنيا هل بلغت فيه ما تريد وأدركت ما تتمنى؟ فقال: لا واللَّه، فقال: أرأيتك هذا الذي أنت حريص عليه لم تنل منه ما تريد فكيف تنال من الآخرة وقد أعرضت عنها وصرفت عنها فما أراك تضرب إلا في حديد بارد، وقال بعض العلماء: من ظن أنه يدخل الجنة بغير عمل فهو متمن ومن قال أدخلها بعمل فهو متعن، وقال بعضهم: الأماني تنقص العقل، وفي الخبر: ليس الإيمان بالتحلَّي ولا بالتمني ولكن ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وقر في القلب وصدقه العمل ومن هذا قول اللَّه عزّ وجلّ: (هَلْ جَزآءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ) الرحمن: 60 وقال في ضده: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَة فَلاَ يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا) غافر: 40 وقال في معناه: (أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) التوبة: 16 وكذلك قوله تعالى: (أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلكُمْ) البقرة: 214 وقال في مثله: (أمْ حَسِتَ الَْذينَ اجتْرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّاِلحَاتِ) الجاثية: 21 ثم قال: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) العنكبوت: 4 فأبطل حسبانهم وأدحض حكمهم ثم أحكم ماعنده بقوله: (سَوَاء مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) الجاثية: 21 أي هم كما كانوا في المحيا محسنين يعملون الصالحات كانت لهم الحسنى في الممات وكما كانوا في المحيا مفسدين يعملون السيئات كانت لهم السوأى والمكروهات، وقيل: كانت هذه الآية مبكاة للعابدين لأنها محكمة غير متشابهة، وكذلك جميع ما ذكرناه من نظائرها هو من المحكم الذي هو أم الكتاب غير منسوخ ولا متشابه، وهذه الآي من عزائم القرآن وهو من أحسن ما أنزل علينا من ربنا الذي أمر اللَّه سبحانه وتعالى باتباعه ووصف أهل الهدى وأولي الألباب باستماعه في قوله تعالى: (الَّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَةُ) الزمر: 18 قيل عزائمه ووعيده، وقد قيل في قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسبُونَ) الزمر: 47 قبل الرجاء الخائب بالإغترار والظن الكاذب، وقيل: عملوا أعمالاً ظنوا أنها حسنات فوجدوها عند المحاسبة سيئات، والصحيح ما صح بعد الحساب والحق ماثقل عند الميزان كما قال تعالى: (وَالوَزْنُ يَوْمَئِذِ الحَقَّ) الأعراف: 8 قيل: العلم والعمل، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ) الأعراف: 52 ثم قال: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمَ بِعِلْمٍ) الأعراف: 7 ثم قال تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهمْ مَا كَانُوا بهِ يَسْتَهْزِءُونَ) الزمر: 48 قيل: كانوا يقدمون الذنب ويؤخرون التوبة ويسوفون بالمغفرة، وكانت هذه الآية محزنة للخائفين ومخافة للعارفين وقد أخبر اللَّه سبحانه وتعالى أنه أعد النار للكافرين ثم أمر المؤمنين باتقائها ثم وصف الكافرين فيها وخوف عباده بها فقال تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي أُعِدَّتْ لِلْكَاِفرين) آل عمران: 131 وقال سبحانه: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النِّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذِلكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) الزمر: 16 ويقال: إن العبد يستحق النار بأول معصية عصى مولاه بها بعد المعرفة ثم هو بعد ذلك في المشيئة وإن في كل عبد خصلة كريهة يخاف عليه منها وكان عبد الواحد ابن زيد يقول: ما صح خوف خائف قط ظن أنه لا يدخل النار وما صدق خوف من ظن أنه يدخل النار فظن أنه يخرج منها أي أن حقيقة الخوف خشية دخول النار ثم الخلود فيها، وقد روينا مثل ذلك عن الحسن وقد ذكر له الرجل الذي يخرج من النار بعد ألف عام فبكى ثم قال: ياليتني مثل ذلك الرجل، وروي عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال إني في الجنة فهو في النار ومن قال: إني عالم فهو جاهل، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 من أراد أن يعلم كيف منزلته من اللَّه تعالى فلينظر كيف منزلة اللَّه في قلبه، فإن اللَّه ينزل العبد منه بحسب ما أنزله من نفسه. ذكر المقام الثاني من المراقبة ثم يعلم العبد يقيناً أن لكل عمل صالح نعيماً في الجنة وروحاً في البرزخ ولك عمل حسن ومعرفة خالصة مقاماً في الجنة، وقد قسم جزء هناك لعطاء معاملة ههنا وأن لكل عمل سيء وجهل قبيح عذاباً في الآخرة وكرباً في البرزخ ومقاماً من النار قد قسم جزء هناك لعمل ههنا ثم قد أخفى اللَّه ذلك الجزء من الخير والشر وأظهر أعمالهما للحمكين وأبان لهما طريقين يجريان إلى دارين بن حكمة منه ثم قدم المعاملات من المعنيين وأخر المثوبات من النوعين إحكاماً منه للأفعال واستسعاء للعبد بالأعمال ابتلاء منه لتجزي كل نفس بما تسعى منة منه ورحمة وقدرة منه ومحبة لا يسئل عما يفعل لأنه ملك قهار عزيز جبار وهم يسئلون لأنهم عبيد مقهرون وذلل مجبورون ولا تضرب لهم الأمثال لأنه قد جاوز الإحتجاج والاعتدال ولا يسوى بالعبيد لأنه قد فات التقدير والتحديد فله الحجة والقدرة النافذة في كل شيء ليس كمثله شيء في جميع ذلك كله، وقد أحكم اللَّه تعالى ما ذكرناه في توحيد نفسه بالمشيئة والأفعال ونهيه عن الشرك به وضرب الأمثال وعجب ممن يسوي بينه وبين خلقه في الأحكام وجعل ذلك جحود النعمة وشركاً في ملكه وأخبر به عن المشركين وإضلالهم أتباعهم بعد ضلالهم المبين وإضلالهم بتسويتهم بينه وبين عباده في الأحكام في قوله تعالى: (قَالُوا وَهُمْ فيهَا يَخْتَصمُون) (تَاللَّه إنْ كُنَّا لَفي ضَلالٍ مُبين) (إذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمين) (وَمَا أَضَلَّنَا إلاَّ الْمُجْرِمُونَ) الشعراء: 96، 97، 98، 99، قيل: أنزلت في القدرية لأنهم أضافوا الحول والقوَّة في الشر إلى الخلق فسوّوا بينهم وبين الخالق، وقد قال اللَّه تعالى: (وَاللَّه خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلْونَ) الصافات: 96 فأضاف الأعمال إلى أنه خلقها كخلقه إياهم فهم المجرمون الذين أنزلت فيهم هذه الآية التي ذكر فيها القدرية فوصفوا بإنكارهم في قوله تعالى: (إنَّ الْمُجْرِمينَ في ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (يَوّْمَ يُسْحَبُونَ في النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (إنّا كُلَّ شَيء خَلَقْنَاهُ بِقدَرٍ) القمر: 47، 48، 49 هم المجرمون الذين أضلوا أتباعهم وهم الغاوون الذين كبكبوا في النار مع أشياعهم وقد أحكم الله تعالى تفضيل ما ذكرناه آنفاً في خمس آيات محكمات تنظم جمل معاني ما ذكرناه تركنا شرح ذلك وبسطه خشية الإطالة لأنا لم نقصد الإحتجاج في الاستدلال من ذلك قوله تعالى: (وَاللَّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضِ في الرّزْقِ) النحل: 71 يعني: فضل الموالي على العبيد فماالذين فضلوا يعني الموالي برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة اللَّه يجحدون، والآية الثانية قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلكَتْ أَيْمَانُكُم مِنْ شُرَكَاء في مَا رَزَقْنَاكُم فَأَنْتُمْ فيهِ سَوَآءٌ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الروم: 28 أي: فكذلك أنا لا شريك لي من عبيدي فلا تجعلوا لي ما لم أجعل أحد لا خلقي ولا عبيدي عليكم إذ لم أسوِّ بينكم وبين عبيدكم فلا تشركوا عبيدي في حكمي، والثالثة قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّه مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيء) النحل: 75 يعني: الإنفاق، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه فجعلهما على وصفين أحدهما بخيل لم يقدره على الإنفاق ثم ذم بالبخل والعجز وهو الذي أعجزه ومنعه وجعل الآخر جواداً إذا قدره وأعطاه الإنفاق ثم مدحه بالجود، وقال في الآية الرابعة: (وَضَرَبَ اللَّه مَثَلاً رَجُلَينْ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلى شيءٍ) النحل: 76 هو الحكمة والعلم ثم قال: (هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْل) النحل: 76 فجعل له عبدين: أحدهما سفيه جاهل أبكم عن الحكمة ولم يقدره على علم ولم يعطه استقامة ثم ذمه بوصفه ومقته لمنعه وجعل الآخر آمراً بالعدل عن أمره مستقيماً على صراطه المستقيم الذي هو عليه وهو أقامه كما قال: (هذا صراط علي مستقيم) فهل يسلك أحد طريقه إلا به وهل يجوز عبد على سبيله إلا بحوله ثم مدحه بإعطائه إياه ووصفه بوصفه ثم علم سبحانه أن للعقل في هذا تشبيهاً وتمثيلاً بخلقه وتجويزاً وتظليماً من خالقه على قياس العقول، إن من فعل بعبدين له مثل هذا ثم مدح أحدهما وهو أعطاه وأقدره وذم الآخر وهو الذي منعه وأعجزه أنه قد ظلمه فحسم ذلك عزّوجلّ بنهيه وأحكم النهي عن التمثيل به في الآية الخامسة الفاصلة القاضية التي نهانا فيها أن نضرب له بنا الأمثال مثل ما أجرى علينا من الأفعال، فقال سبحانه وتعالى: (فَلاَ تَضْرِبُوا للَّه الأَمْثَالَ إنَّ اللَّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا َ تَعْلَمُونَ) النحل: 74 فوكد ذلك بتحقيق علمه وغاية جهلنا ثم أيد هذا بقوله سبحانه: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) فسلم الراسخون في العلم الأحكام كلها للحاكم فسلموا من عذابه وآمن المؤمنون بجميع الأقدار أنها عدل وحكمة من حاكم عادل حكيم فأمنوا من عقابه لأنهم آمنوا بالمتشابه وأعطاهم بفضله من فضله جزيل ثوابه فهلك الزائغون بالأقاويل تتبعاً للشبهات وابتغاء للتأويل فوقعوا في الضلال وهلكوا غداً في المآل. كم النهي عن التمثيل به في الآية الخامسة الفاصلة القاضية التي نهانا فيها أن نضرب له بنا الأمثال مثل ما أجرى علينا من الأفعال، فقال سبحانه وتعالى: (فَلاَ تَضْرِبُوا للَّه الأَمْثَالَ إنَّ اللَّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا َ تَعْلَمُونَ) النحل: 74 فوكد ذلك بتحقيق علمه وغاية جهلنا ثم أيد هذا بقوله سبحانه: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) فسلم الراسخون في العلم الأحكام كلها للحاكم فسلموا من عذابه وآمن المؤمنون بجميع الأقدار أنها عدل وحكمة من حاكم عادل حكيم فأمنوا من عقابه لأنهم آمنوا بالمتشابه وأعطاهم بفضله من فضله جزيل ثوابه فهلك الزائغون بالأقاويل تتبعاً للشبهات وابتغاء للتأويل فوقعوا في الضلال وهلكوا غداً في المآل. وقد روى الضحاك عن ابن عباس تصديق ما ذكرناه قبيل قوله عزّوجلّ: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنُهمْ جُزْءٌ مَقْسُوْمٌ) الحجر: 44 قال ابن عباس: طبق أسفل من طبق سبع دركات على قدر أعمالهم كذلك يقتسمون الدركات بقدرما اجترموا كما اقتسم أهل الجنة الدرجات بالفضائل لكل باب منهم جزء مقسوم يعني نصيباً معلوماً مفروضاً لكل طبقة سكان، وقال بعض العلماء: تاللَّه ما في الجنة قصر ولا نهر ولا نعيم إلا عليه اسم صاحبه مكتوب واسم ذلك العمل الذي هو جزاؤه مكتوب وكذلك جهنم ما فيها غل ولا قيد ولاشعب ولاعذاب إلا وعليه وصف ذلك العمل الذي هو جزاؤه واسم صاحبه مكتوب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقال: قد أدخلهم الجنة قبل أن يطيعوه وأدخلهم النار قبل أن يعصوه، وقال بعض العارفين أيضاً: الخالق أهون من أن يعصوه عزّوجلّ بما لم يردوا للَّه أعز من أن يرضيه إلا من أحب لكنه غضب على قوم في العدم فلما أظهرهم استملهم بأعمال أهل الغضب ليحلهم دار الغضب ورضي عن قوم في القدم فلما أظهرهم استعملهم بأعمال أهل الرضا ليحلّهم دار الرضا، وقال بعض أهل المعرفة: أظهر الخلق في العدم وأوجدهم سبعاً إياهم اقتداراً ثم أظهر لهم أعمالهم وخيرهم الأعمال منه اختياراً فاختار كل عبد منهم عملاً بعينه ثم طوى الأعمال فيهم وطواهم في الغيب فلما أظهرهم الآن في الوجود حجبهم بالعقول وأجرى كل عبد منهم اختياره لنفسه فبذلك وقعت الحجة عليهم إذا كشف لهم غداً ما حجبه عنهم اليوم وحدثت عن بعض هذه الطائفة قال: كان قد بقي في نفسي شيء من القدر وكنت أستكشفه من العلماء فلا ينكشف حتى قيض اللَّه تعالى لي بعض الأبدال فاستكشفته إياه فقال: ويحك ما تصنع بالاحتجاج نحن يكشف لنا عن سر الملكوت فننظر إلى الطاعات تنزل صوراً من السماء حتى تقع على جوارح قوم فتتحرك الجوارح بها وننظر إلى المعاصي صوراً مصورة تنزل من السماء فتقع على جوارح قوم فتتحرك بها، قال: فكشف عن قلبي القدر وأوقع لي العلم بمشاهدة القدرة وكنت أنا مرة خاطبت بعض إخواننا في شيء من الاستطاعة مع الفعل لا أنه قبله ولا بعده فتكلمت في ذلك بمذهب المثبتة من أهل الكلام قبل أن يكشف لي بمشاهدة علم اليقين فرأيت في النوم كأنّ قائلاً يقول: القدر من القدرة، والقدرة صفة القادر، فيقع القدر على الحركة ولا يتبين فتظهر الأفعال من الجوارح، أوَ قال فتتحرك الجوارح بالأفعال ولا تتبين فكيف يتكلم في شيء لا يتبين فجعلت على نفسي أني لا أناظر أحداً منهم بعد ذلك في شيء من هذا الباب، وقد حدثونا عن بعض العابدين قال: صليت من السحر ركعتين ثم غفوت بعدهما فرأيت قصراً عالياً ذا شرف بيض كأنها الكواكب فاستحسنته فقلت لمن هذا القصر؟ قيل لي: هذا ثواب هاتين الركعتين ففرحت فجعلت أطوف حوله فرأيت شرافة من ركنه قد وقعت فشانه ذلك فاغتممت وقلت: لو كانت هذه الشرافة في أعلاه في هذا الموضع لتم حسن هذا القصر فإن ثلمها قد شانه فقال لي غلام هناك: قد كانت هذه الشرافة في مكانها من القصر إلا أنك التفتّ في صلاتك فسقطت، وحدثونا عن بعض الزهاد أنه كوشف مقامه من الجنة فرأى الحور العين وقلن نحن أزواجك، فلما خرجت تعلقت بي الحور وقلن: ننشدك اللَّه إلا ماحسنت أعمالك فإنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 كلما حسنتها ازددنا لك حسناً وازددت بنا نعيماً، وحدثونا عن رابعة العدوية رحمها الله تعالى قالت: سبحت ذات ليلة تسبيحات من السحر ثم نمت فرأيت شجرة خضرة نضرة لا توصف عظماً وحسناً وإذا عليها ثلاثة أنواع من الثمر لا أعرفه من ثمار الدنيا كثدي الأبكار ثمرة بيضاء وثمرة حمراء وثمرة صفراء، فهن يلمعن كالأقمار والشموس في خلال خضرة الشجرقالت: فاستحسنتها فقلت: لمن هذه؟ فقال لي قائل: هذه لك بتسبيحاتك آنفاً، قالت: فجعلت أطوف حولها فإذا تحتها ثمرة منتشرة على الأرض في لون الذهب فقلت: لو كانت هذه الثمرة مع هذه الثمار على هذه الشجرة لكان أحسن فقال لي الشخص: كانت هناك إلا أنك حين سبحت تفكرت هل اختمر العجين أم لا فانتثرت هذه الثمرة فهذه عبرة لأولي الأبصار ومواعظ لأهل التقوى والأذكار. ذكر المقام الثالث من المراقبة روي أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: لو لقيت اللَّه تعالى بعمل سبعين نبياً لخشيت أنك لا تنجو من هول ذلك اليوم، وقال بعض السلف: لو أن العبد كان يجر على وجهه من أول الدنيا إلى قيام الساعة في طاعة اللَّه وعبادته لاحتقره يوم القيامة لما يرى من الزلازل والأهوال، وفي الحديث: معالجة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف وإن ألم شعرة من الموت لو وضع على جميع الخلائق لماتوا وإن بين الخلائق وبين الموت وبين دخول الجنة مائة ألف هول كل هول منها يزيد على ألم الموت مائة ألف ضعف لا ينجو العبد من كل هول منها إلا برحمة فيحتاج العبد إلى مائة ألف رحمة تنجيه من تلك الأهوال يكون ذلك العدد من الرحمة مقسوماً على مائة ألف حسنة أعطيها من حسناته في الدنيا التي أحسن بها إليه يكون مكاناً لظهور الرحمة وطريقاً لعطائها غداً حكمة من الحكيم وقسماً مدبراً من الرحيم لأن الصالحات طرق الجزاء والحسنات كلها عن الرحمة الواحدة التي سبقت له بها النجاة ثم سقطت في طرقات الأعمال أماكن الثواب فيعطى ذلك ههنا اليوم وهوالعطاء الأول يحسن توفيقه ولطف عنايته ويعطى الجزاء هناك غداً بفضل رحمته وتمام نعمته ذلك تقدير العزيز العليم كما قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُالإحْسِانِ إلاَّ الإحْسَانُ) الرحمن: 60 قيل في الخبر: ما جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة، وقال بعض العلماء: وليس لقول لا إله إلا اللَّه جزاء إلا النظر لوجه اللَّه تعالى والجنة جزاء الأعمال ألم ترَ أنه لو حرم التوحيد اليوم لحرم الجنة ولو منع الإسلام اليوم لم يغفر اللَّّّه له أبداً كما قال عزّ وجل: (إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ باللَّه فَقَدّْ حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الجَنَّة) المائدة: 72 وقال: (إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبيِل اللَّه ثَمْ مَاْتُوا وهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يغفرَ اللُّه لَهُم) محمد: 34 فهذا مما لاحيلة فيه ولا سبيل إليه، وقد قال: (هُوَ أهْلُ التَقْوَى وَأهْلُ المَغْفِرَةِ) المدثر: 56 قيل: هو أهل أن يعطى التقوى ومن أعطاه التقوى فهو أهل أن يعطيه المغفرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 كقوله تعالى: (وَأَلزَمَهُمْ كِلَمَةَ التَّقْوى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) الفتح: 26 وقال: (وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمّْ تُرْحَمُونَ) الحجرات: 10 وقال: (إنَّ رَحّْمَةَ اللَّه قَريبٌ مِنَ المُحْسِنينَ) الأعراف: 56 وقال سبحانه تماماً على الذي أحسن وقال تعالى: (وَسَنَزيدُ الْمُحْسنينَ) البقرة: 58، إلى قوله ماعلى المحسنين من سبيل، وقال تعالى: (وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فيهَا حُسْناً) الشورى: 23، فمن كانت أعماله الحسنات فهو من المحسنين ومن كانت أعماله سيئة فهو من المسيئين فاشتقاق الحسنة من الحسن وجزاؤها الحسنى وهي الجنة واشتقاق السيئة من السوء وجزاؤها السوأى وهي النار وقدسبق خلقهما قبل خلق الخلائق وفرغ من نصيب العباد من الجنة والنار وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإحسان فقال: أن تعبد اللَّّه كأنك تراه، فهذا أول المراقبة لأنها عن غير المشاهدة ترى الرقيب ثم تراقب، وقد خص اللَّه تعالى بالطيبّات من الأعمال الطيَّبين من العمال وابتلى بالخبيثات من الأعمال الخبيثين من العمال وفرغ من ذلك بعلمه وقدره بحكمه وأخفاه بلطفه فقال تعالى: (الْخَبيثَاتُ للْخَبيثينَ) النور: 26 قيل الخبيثات من الأفعال والأقوال للخبثين من الرجال، وقال: (الطَىِّبَاتُ للِطَّيِبينَ) النور: 26 وقيل: الطيِّبات من الأعمال والمقال للطيِّبين من الرجال، ثم أخبر بحسن خاتمة أوليائه وسوء خاتمة أعدائه فقال تعالى: (الَّذينَ تَتَوَفّاهُمُ الْملائِكَةُ طَيبّينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل: 32، قيل: طابت حياتهم فطابت وفاتهم وطابت أعمالهم فطاب الموت لهم، وقال في وصف الظالمين: (الَّذينَ تَتوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالمِي أنْفُسِهِمْ) النحل: 28 قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض قالوا: ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً أظلمت حياتهم وأعمالهم فأظلمت قبوررهم ومثواهم فمن شهد ما ذكرناه يقيناً دامت مراقبته وحسنت معاملته فاتصلت أوراده وكثر من الخير ازدياده ونفدت مشاهدته لصفاء يقينه ودوام مزيده فكان ممن ندب اللَّه عزّ وجلّ في قوله تعالى: (لِمثِْلِ هذَا فَلْيَعمَلِ الْعَامِلُونَ) الصافات: 61 وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وكان ممن وصف إذ يقول: (يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاِت وَهُمْ لَهَا سَابِقُون) المؤمنون: 61 أي يسارعون الموت ويسابقون الفوت ويسارعون الغافلين ويسابقون البطالين ولعل بطالاً من الشاطحين جاهلاً بحكمة الحكيم يتوهم علينا بظنه أنَّا نقول إنه لا يعطي إلا شيئاً بشيء ولسنا نقول ذلك إنما نقول إنه يعطي شيئين بلا شيء، فهو المعطي الأول للشيء الذي هوالظرف والمكان من العبادة والإيمان وهو الذي يعطي الشيء الذي هو النعيم والجنان إلا أنه أجرى ذلك بتقديره في مجاري حكمته كما سبق ذلك في علمه ثم أنشأه في معلومه لأنه حكيم عليم. ندب اللَّه عزّ وجلّ في قوله تعالى: (لِمثِْلِ هذَا فَلْيَعمَلِ الْعَامِلُونَ) الصافات: 61 وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وكان ممن وصف إذ يقول: (يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاِت وَهُمْ لَهَا سَابِقُون) المؤمنون: 61 أي يسارعون الموت ويسابقون الفوت ويسارعون الغافلين ويسابقون البطالين ولعل بطالاً من الشاطحين جاهلاً بحكمة الحكيم يتوهم علينا بظنه أنَّا نقول إنه لا يعطي إلا شيئاً بشيء ولسنا نقول ذلك إنما نقول إنه يعطي شيئين بلا شيء، فهو المعطي الأول للشيء الذي هوالظرف والمكان من العبادة والإيمان وهو الذي يعطي الشيء الذي هو النعيم والجنان إلا أنه أجرى ذلك بتقديره في مجاري حكمته كما سبق ذلك في علمه ثم أنشأه في معلومه لأنه حكيم عليم. ذكر المقام الرابع من مراقبة الموقنين ثم يعلم العبد يقيناً أنه تنشر له سنوه في الآخرة شهوراً وتبسط شهوره أياماً وتفترش أيامه ساعات وتكشف ساعاته أنفاساً ثم يسأل عن كل نفس وينشر له بكل فعلة فعلها وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 صغرت ثلاثة دواوين: الأول لم فعلت وهذا مكان الابتلاء بالأحكام فإن سلم له نشر له، الديوان الثاني وهو كيف فعلت وهو موضع المطالبة بصحة العلم فإن صح له هذا نشر عليه، الديوان الثالث وهولمن فعلت وهذا مكان المطالبة في الإخلاص فإن اعتل بكيف أو بلم أو بلمن خيف عليه الهلكة إلا أن يتعطف عليه الكريم المنَّان بحيث لا يحتسب فيستنقذه ويسمج له وقد قال تعالى: (وَإنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ أَتَيْنَا بِهَا) الأنبياء: 47 أي جئنا بها أي أحضرناها وقرئت بالمد آتينا بها بمعنى جازينا بها، وقال عزّوجلَّ: (فَمْنَ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهٌُ) الزلزال: 7 - 8 وقيل: هذه أحكم آية في كتاب اللَّه عزّ وجلّ وهي مجملة مبهمة عامة، وكان رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئل عن شيء لم يوح إليه فيه بشيء يقول: ما عندي فيه إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، فمن يعمل مثقال ذرة الآية، ولما تعلم صعصعة جد الفرزدق من أسفل القرآن إلى هذه السوة قال: حسبي حسبي قد عرفت الخير والشر فقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انصرف الرجل فقيهاً وقيل الذرة قشرة الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤس الإبر. وروي عن ابن عباس أنه قال إذا وضعت كفك على التراب ثم رفعتها فكل شيء تعلق بها من التراب فهو ذرة، وقد قيل أربع ذرات خردلة، وذكر بعض العلماء أن الذرة جزء من ألف جزء من شعيرة، ففي الأعمال مايزن هذا الشبح ومايثقل به هذا الخفاء، فلذلك أخبر به الخبير وحذر منه الرؤوف وفي معنى ما ذكرنا آنفاً من حسب أنه يدخل الجنة بعمل فهو متعن ومن حسب أنه يدخلها بغير عمل فهو متمن يعني أنه ينبغي أن يعمل ما عليه ولا ينظر إليه ثم يتوكل في ذلك على اللَّه عزّوجلّ ويرجو قبوله بكرمه ويخاف رده بعدله ولذلك مدح اللَّه سبحانه وتعالى عباده الصابرين له المتوكلين في أعمالهم عليه فأنعم أجرهم فقال: (نِِعمَ أجْر العَامِلِينَ) (الَّذينَ صبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون) العنكبوت: 58 - 59 فالمزيد في الجنة بفضل اللَّه ورحمته هو تأبيد جزاء المعاملة الموهوبة اليوم ودوام خلود العامل في تأبيد جزائه ألم تسمع قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتَرِفَ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً) الشورى: 23 مع قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) إلى قوله: (فَأوُلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعفِ بِمَا عَمِلُوُا) سبأ: 37 ومثله (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) الأنعام: 132 ونحوه: (أوُلَئِكَ يُؤْتُونَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنِةَ السَّيِّئةَ) القصص: 54 أي وبما يدرؤون بالحسنة الحديثة السيئة القديمة فلما استعملهم في الدنيا بعملين بالصبر وبدرء السيئة الماضية بالحسنة المستأنفة أعطاهم في الآخرة أجرين، وهذا من الكلام المحذوف الموجز فمحذوفه وبما يدرأون أي وبما يدفعون أيضاً فلما حذفت بما أشكل الكلام فأشبهت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الواو واو النسق ومؤخره السيئة والمعنى يدفعون السيئة التي تقدمت منهم بالحسنة التي يعملونها بعدها فتكون الحسنة المستقبلة رافعة لعقاب السيئة الفارطة منهم ومن أحسن الصبر: الصبرعلى المصيبة ومن أحسن الحسنات: التوبة النصوح بعد ماسلف من الذنوب والفضوح فكأنهم قد عملوا عملين صبروا عن الشهوة ودفعوا بالتوبة ما سلف من السيئة فأعطاهم أجرين لما استعملهم بعملين إذ لا صبر إلا به ولا توبة لهم إلا منه كما قال تعالى: (وَمَا صبَرُكَ إلاَّ بِاللَّهِ) النحل: 127 وقال: (تَوْبَةً مًنَ اللَّهِ) النساء: 92 وليس من العبد أو إليه فيما من اللَّه وإلا كان مشركاً في اسم أوّل، ومن أحسن الحسنات مراقبة الرقيب عند خطرات القلوب ومن أفضل القربات محاسبة النفس للحسيب واستجابتها بطاعة الحبيب وكذلك حكمته في مزيد أهل النار ودركات بعضهم على بعض في العتوّ والفساد فقال تعالى: (إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدَّوا عَنْ سَبيلِ اللَّه) النساء: 167 زدناهم عذاباً فوق العذاب أي زدناهم عذاباً فوق عذاب الذين كفروا ولم يصدوا عن سبيل اللَّه وبمعناه قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لم يَكُنِ اللَّه لِيغْفَرَ لَُهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَريقاً) النساء: 168 فلم يغفر لهم بكفرهم ولم ينوِّر لهم طريق الهداية بظلمهم، وكذلك قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الظلم ظلمات يوم القيامة ومثل ذلك قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ فَتَنُوا المؤمنين والْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَريقِ) البروج: 10 فصار عليهم عذابان: عذاب جهنم بما لم يتوبوا وعذاب الحريق بما فتنوا المؤمنين، ومثله قوله تعالى: (فَلاَ تُعجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلاَ أوْلادُهُمْ إنَّمَا يُريدُ اللَّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحَياة الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَاِفرُون) التوبة: 55 أي يريد أن يعذبهم بها في الدنيا ويريد أيضاً أن تزهق أنفسهم على الكفر ليعذبهم بها في الآخرة وهذا نص صريح: إن اللَّه تعالى يريد الكفر من الكافر لأن تزهق انتصب بالعطف على يريد الأول والواو فيه للجمع وقد قيل إن في هذه الآية تقديماً وتأخيراً فيكون المعنى: ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الدنيا إنما يريد اللَّه ليعذبهم في الآخرة فأراد أن يجمع العذابين عليهم في جهنم: أحدهما الأموال والأولاد، والثاني لإرادته تعالى أن تخرج نفوسهم على الكفر فمن لا مال له ولا ولد له منهم كان عليه عذاب واحد في جهنم لأجل قوله تعالى: بها أي بسببها، وهذا مواصل للخبر الذي جاء أن فقراء الكفار يدخلون النار بعد أغنيائهم بخمسمائة عام لأجل الفقر الذي كانوا فيه في الدنيا كما أن الفقراء من المؤمنين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأجل غنى أولئك. اء الكفار يدخلون النار بعد أغنيائهم بخمسمائة عام لأجل الفقر الذي كانوا فيه في الدنيا كما أن الفقراء من المؤمنين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأجل غنى أولئك. وفي الخبر أيضاً وتدخل المرضى إلى الجنة قبل الأصحّاء بأربعين خريفاً ويدخل المقتول في سبيل الله مقبلاً قبل المقتول في اللَّه مدبراً بأربعين خريفاً وتدخل المماليك قبل الموالي بأربعين خريفاً ويدخل سليمان بن داود الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 لمكان ملكه فالحسرة العظمى والفوات الأكبر الذي لا درك له وهو تأبيد حرمان ما أعطي غيرك من المزيد هناك لفوت أوقاتك في الدنيا ههنا ثم درك ذلك بأوقاته العامرة ههنا تأبيد مزيد جزائه ثم وهذا هو التغابن؛ غبن العاملون البطالين وغبن السابقون المخلفين وغبن المسارعون المثبطين ثم خلود العبد البطال المغبون في الدنيا في تأبيد حرمان مزيد الغابن العامل ومن هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من ساعة تأتي على ابن آدم لا يذكر اللََّه تعالى فيها إلا كانت عليه حسرة وان دخل الجنة، وفي لفظ آخر، وهو أشد إلا كانت عليه ترة يوم القيامة أي مطالبة ومؤاخذة، فالحسرة في الجنة بعد دخولها والظفر بنعيمها هو ما ذكرناه من حرمان مزيد العاملين فيها ثم دوام الحرمان مؤبد بها وهو كون العبد في نقصان درجة غيره ثم هو مخلد في النقصان سرمداً ومع ذلك فلا يؤبه له ولا يفطن به كيلا ينقص عليه نعيمه والطرفة والنفس إذا خلتا من اليقظة والذكر فيهما بمنزلة الساعة الخالية إلا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على الساعة ولم يذكر ما دونها لأن اسم الساعة أقل الزمان المستعمل عند العرب ليواطىء بقوله قول اللَّه سبحانه وتعالى: (فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقّْدِمُونَ) الأعراف: 34 ومعلوم أنه إذا جاء الأجل لا يستأخرون نفساً ولا طرفة عين وكذلك لا يستقدمون طرفة ولانفساً، فذكرت الساعة دون ما نقص منها لئلا يخرج الكلام عن حد استعمالهم وعرفهم وليستدل بها على ما دونها في القلة من النفس والطرفة، وكذلك دل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصه على الساعة على ما دونها لأن حكمته من حكمة مولاه وكلامه على معاني كلامه وقد دخلت الساعة فما دونهافي الأيام التي قال اللَّه تعالى: (كُلُوا وَاشرَبُوا هَنيئاً بِمَا أسْلَفْتُمْ في الأَيَّامِ الْخَاِليَةِ) الحاقة: 24 قيل: هي واللَّه أيامكم هذه وستخلو فأشغلوها بالأعمال الصالحة قبل خلوّها منكم وانقضائها عنكم، وكان الحسن يقول: يا ابن آدم إنما أنت مراحل كلما مضى منك يوم أو ليلة قطعت مرحلة فإذا فنيت المراحل بلغت المنزل إلى الجنة أو النار، فالساعات تنقلنا والأيام تطوينا، وكما قال بعض الحكماء: مثل العبد في عمره مثل رجل في سفينة تسير وهو قاعد كذلك العبد يدنو من الآخرة وهو غافل ويقال: إن العبد تعرض عليه ساعاته في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أربعة وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة نعيماً ولذة وعطاء وجزاء لما كان أودع خزانته من ساعاته في الدنيا من الحسنات فيسره ذلك ويغتبط به، فإذا مرت به في الدنيا ساعة لم يذكر الله تعالى فيها رآها في الآخرة خزائن فرغاً لا عطاء فيها ولا جزاء عليها فيسوءه ذلك ويتحسر كيف فاته أن لم يدخر فيها شيئاً فيرى جزاءه مدخراً ثم يلقى في نفسه الرضا والسكون فلو لم يتحسر العبد إلا على فوت الفضائل والمندوب إليه من الخيرات لكان في فوت المسابقة والمسارعة حسرات فكيف بمن فاته أوقاته في السيئات وفرطت منه في الخسارات ولو لم يشتغل العبد في عمره إلا بالحلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والمباحات لكان ذلك نقصاناً من الدرجات له فكيف بمن شغل بالمحظورات؟ فسبحان اللَّه ما أعظم الخطر وأصعب الأمر وأقل المشاهدين لذلك وأغفل البطالين، وقد قال بعض العلماء: هب أن المسيء قد غفر له، أليس قد فاته ثواب المحسنين، وقد جاء في الأثر أن بعض أهل الجنة بيناهم في نعيم إذ سطع لهم نور من فوقهم أضاءت منه منازلهم كما تضيء الشمس لأهل الدنيا فنظروا إلى رجال من فوقهم أهل عليين يرونهم كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء قد فضلوا عليهم في الأنوار والنعيم والجمال كما فضل القمر على سائر الكواكب فينظرون إليهم يطيرون على نجب تسرح بهم في الهواء حيث شاؤوا ويتزاورون بعضهم بعضاً يزورون ذا الجلال والإكرام فينادون هؤلاء: يا إخواننا ما أنصفتمونا، كنا نصلَّي كماتصلون ونصوم كما تصومون فما هذا الذي فضلتم به علينا؟ قال: فإذا النداء من اللَّه عزّ وجلّ إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون ويعطشون حين تروون ويعرون حين تكتسون ويبكون حين تضحكون ويقومون حين تنامون ويخافون حين تأمنون فلذلك فضلواعليكم اليوم، فذلك قوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفّْسٌ مَا أُخِفْي َ لَهُمْ مِنْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانوا بَعْمَلُون) السجدة: 17، وقد جاء في الخبر: أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب. ن تروون ويعرون حين تكتسون ويبكون حين تضحكون ويقومون حين تنامون ويخافون حين تأمنون فلذلك فضلواعليكم اليوم، فذلك قوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفّْسٌ مَا أُخِفْي َ لَهُمْ مِنْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانوا بَعْمَلُون) السجدة: 17، وقد جاء في الخبر: أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب. ذكر المقام الخامس من مراقبة الموقنين من المقربين قال اللَّه تعالى مخوفاً للكافة: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) ثم أجابه فقال: كلا وحقق قوله تعالى فقال: (إنَّهَا كَلِمَةٌ هوَ قَاِئلُهَا) المؤمنون: 100 ثم نهى المؤمنين نهياً صريحاً عن مثل هذه الحال وأخبر بنقصان من فعل ذلك فقال: (يَا أيُّهَا الَّذينَ آمنَوا لاَ تُلْهِكُمْ أمْوَالُكُمْ ولاَ أوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) المنافقون: 9 أي لا تشغلكم عن الطاعة اللَّه تعالى ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فأُولَئِكَ هُمُ الخاَسِرُونَ) المنافقون: 17 أي المغبونون المنقوصون في الآخرة لأنهم آثروا المال والولد على الخالق الرازق ثم أمر بالإنفاق مما رزق وقرنه بالإيمان وأخبر أنه استخلفنا في ملكه اختباراً لنا فقال: (آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسّْتَخلَفِينَ فِيهِ) الحديد: 7 فيه فسمع الغافلون نصف الكلام فآمنوا ولم ينفقواوعقل العاملون كل الكلام فآمنوا وأنفقوا ومايعقلها إلا العالمون، وقال سبحانه: (وَأنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِي أحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتِنَي إلَى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأصّدَّقَ وَأكُنْ مِنَ الصَّالحيَنَ) المنافقون: 10 أي بالأعمال وكان ابن عباس يقول: هذه الآية من أشد شيء على أهل التوحيد لأنه لا يتمنّى التأخير والرجوع إلى الدنيا أحد له عند اللَّه خير في الآخرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ومثل هذا قوله سبحانه: (أنْ تَقُولَ نَفسُ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْب اللَّه) الزمر: 56 الحسرة هي أعظم الندامة وهي اسم لفوت شيء لا تدارك فيه فرطت أي ضيعت وونيت وفرط مني أي ذهب وفات وجنب اللَّه قيل: على ما فاتني من الجزاء منه في الآخرة وقيل: ما فات من النصيب في أيام الدنيا إلى قوله أو تقول حين ترى العذاب: (لَوْ أنَّ لِي كَرَّةً) الزمر: 58 يعني إلى الدنيا عودة أخرى (فَأكُونَ مِنَ المُحْسِنينَ) الزمر: 58، وقوله أن تقول نفس من الكلام المضمر المعطوف ومضمره من قبل أن تقول أو خشية أن تقول ومعطوفه هو قوله: (وَأنيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأسْلِمُوا لَهُ) الزمر: 54، أي اقبلوا إليه وتوبوا واستسلموا وسلموا قلوبكم ونفوسكم وأموالكم في طاعته وعبادته (وَاتَّبِعُوا أحسَنَ مَا أُنْزِلَ إليّكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الزمر: 55، أي اتبعوا العزائم من الأمور والفواضل من الأعمال فهو أحسن من الرخص والمباحات مثل الزهد والورع والخوف والإيقان فهذا من أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ثم قال تعالى: (أنْ تَقُولَ نَفّْسٌ يَا حَسْرَتى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) الزمر: 56، فلما طال الكلام وأضمر معطوفه وبعد عاطفه للاختصار أشكل فهمه، وفي القرآن ما هو أشد اختصاراً وأبعد من هذا إضماراً كقوله تعالى: (فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدّينِ) التين: 7، المعنى: فما الذي يحملك على التكذيب أيها الإنسان الذي خلقناه في أحسن تقويم بعد هذا البيان والبرهان بالدين بالغائبات والكائنات من أمور الدين والحسنات والجزاء ثم أحكم ذلك بردّه إليه فقال: (ألَيْسَ اللُّّّّه بِأحّكَمِ الحَاكِمينْ) التين: 8 وكذلك قوله: (وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا) القصص: 77، المعنى: لا تترك أن تعمل في الدنيا بأيامك هذه فتدرك نصيبك غداً من الآخرة في الدنيا فإنك لا تدكه إلا فيها ثم أحكمه بقوله: (وَأَحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللَّهُ إليْك) القصص: 77، أي أحسن إلى نفسك وإلى إخوانك الفقراء كالذي أحسن إليك به من المال والغنى، فبذلك تدرك نصيبك من الدنيا في الآخرة، ثم أخبر اللَّه سبحانه الكل وحذرهم فقال: (حَتَّى إذَا جَاءَتْهُمُ السًّاعةُ بَغّتَةً قالوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا َفَرَّطْنَا فِيهَا) الأنعام: 31، أي: يا ندامتنا على ما ضيعنا في الدنيا وفاتنا في الآخرة، وفي الخبر: لا يموت أحد إلا بحسرة وندامة إن كان مسيئاً كيف لم يحسن وإن كان محسناً كيف لم يزدد وذلك أن اللًّه تعالى جعل أهل السلامة والنجاة طبقتين بعضهم أعلى من بعض وجعل أهل الهلكة طبقة واحدة بعضهم أسفل من بعض فكان صاحب الشمال يتحسر كيف لم يكن من أصحاب اليمين لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهينَةٌُ) (إلاّ أصْحَابَ اليَمينِ) المدثر: 38 - 39 وصاحب اليمين يتحسر كيف لم يكن من المقربين والصالح من المقربين يتمنّى أن يكون من الشهداء والشهيد يوّد أنه من الصديقين فهو يوم الحسرة الذي أنذر به أهل الغفلة فكيف بهم في ذلك اليوم إذا كانوا اليوم أمواتاً ولم يكن له حسنة فإني لهم النذارة والتذكرة كما قال: (وَأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفلَةٍ) مريم: 93، وقد قال: (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيَّاً) يس: 07، كما قال: ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) النازعات: 54 (إنَّمَاْ تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِاْلغَيْبِ) ، وقال تعالى: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديدٌ) ق: 22، يعني إلى ماقدمت وقيل حديد إلى لسان الميزان تخاف النقصان وقال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بالْحَقِّ) ق: 91 قيل بالسابقة لهم وعليهم فهو الحق سبقت لهم منا الحسنى حقت عليهم كلمة ربك لايؤمنون وسقط ما دونها وقد قيل إنما يوزن من الأعمال خواتيمها والخواتم من السوابق وما بينهما زاهق والوزن يومئذ الحق ما سبق من العدل والصدق وتمت كلمة ربك صدقاً لأوليائه وعدلاً على أعدائه ألا له الخلق والأمر. ذكر المقام السادس من مشاهدة المقربين الخيرات هي من ثمرات الإيمان، والصالحات هي مقتضى اليقين، واللعب مقتضى الشك، والسمع والبصر وصفان للمتقين، والعمى والصمم وصفان للشك، تنتظم هذه المعاني في قول الله تعالى: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمُ بِهِ إيمَانُكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ) البقرة: 93فدل أن الإيمان يأمر المؤمنين بالبر والتقوى وقوله تعالى مخبراً عمن أيقن فسمع وأبصر فينال العمل الصالح: (رَبَّنَا أبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إنَّا مُوقِنُون) السجدة: 12قوله تعالى في وصف اللاعبين: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ يَلْعَبُونَ) الدخان: 9، ثم ذكر حالهم لعدم اليقين فقال تعالى: (مَا كَانُوا يَسْتَطيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) هود: 20 لأنهم لم يكونوا موقنين، فلما جاءهم اليقين وهو المعاينة أبصروا وسمعوا فقالوا: وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فوصفهم بشدة السمع والبصر حينئذ لما أيقنوا فقال عزّ وجلّ: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) مريم: 38أي ما أسمعهم وأبصرهم اليوم لما جاؤونا فرأوا ما عندنا وهذا للمبالغة في الوصف كما تقول: أكرم وأعظم به أي: ما أكرمه وأعظمه، فكذلك إذا أتيته اليوم وأنت موقن سمعت مالم تسمع وأبصرت ما لم ترَ قبل ذلك ولكن شغلتك الأزواج التي خلق والأشكال والأشباه التي أظهر فتألهت إليها ووقفت معها ولو فررت منها إلى الله تعالى لفررت إلى خير مفر ولأواك عنده في أحسن مقر وقد أمرك بالفرار منها إليه لو قبلت ونهاك عن التأله إليها لو سمعت وبين لك النذارة لو فهمت وجعل ما خلق من الأزواج تذكرة به ولو عرفت ورادة إليه لو أنك للذكر اتبعت ومشوقة إليه لوكنت لقربه أحببت أما سمعته يقول: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات: 49 أي مثلين وشكلين لكي تذكروا الله بها وتشتاقوا إليه منها ثم قال: (فَفِرُّوا إلى اللهِ) الذاريات: 50 أي عنها بالزهد ثم قال: (وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ) الذاريات: 51 أي لا تؤلهوا معه إلهاً ولا تشركوا بتألهكم إليه إياها فهذا فهم المقربين عن سمعهم بشهادة أبصار قلوبهم فعندها كان استجابتهم له كما قال: إنما يستجيب الذين يسمعون وقال: (وَيَسْتَجِيبُ الذَّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الشورى: 26 ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 كيف يسمع من ينادي من مكان بعيد وكيف يبصر من القفل على قلبه عتيد وكيف يستجيب من لا يسمع وكيف يشهد من لا يبصر وقد قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حبك للشيء يعمي ويصمّ، فالهوى يعمي عن الحق والشهوة تصم عن النصح والصدق، وكذلك لو أحببته لنظرت إليه ولو نظرت إليه لعميت عمن سواه ولو أقبلت عليه لاستمعت إليه ولو سمعت لصممت عن غيره ولو أحبك لكان سمعك وبصرك وقلبك ويدك وناصرك ومؤيدك تدعوه فيجيبك وتسأله فيعطيك وتنصح له فينصح لك، كذلك جاء الخبر بذلك فشغلك به عنك وفرغك له منك فكيف تسمع عنه وتنظر إليه وتتقلب عنده وتتحرك به لا بنفسك وهواك ولا بشهوتك ودنياك فهذا وصف حبيب عن تقلب حبيب وخبر محبوب عن تثبيت محبوب فإذا تيقن العبد يقين عين لا يقين ظن وسمع بما ذكرناه من سرعة فوت الوقت وفوت دركه شغله الغم والحزن على مافات عن مثل ما سلف مما ندم عليه في مستقبل الأوقات فلم يضم إلى الفوت الأوّل فوتاً ثانياً لحزنه وندمه عليه فكيف يردفه في الحال بما يشبه ما ندم عليه من سوء الأعمال وما لا يحمد عاقبته ولا يغتبط به في المال، فمثل العبد المتيقظ في آخر غفلته مثل عبد كان عليه عمل لا بد أن يعمله في يومه ذلك إلا أنه لهي عنه لغفلة ملهية أو نومة منسية فلم يفق لعمله ذلك الذي لا بد منه إلا بعد العصر فلا يسأل عن حرصه وانكماشه وتشهيره وبداره في بقية نهاره ليدرك به ما فاته من أوّل النهار فهو يود أن وقته ذلك إلى الليل مدّ له أضعافه أو ردّ إلى أوّل النهار ليدرك ما فاته فهذا حال التائب المتيقظ من رقدته وهذا لا يستبين له إلا بعد الموت لمعاينة تقضي الأوقات ولليقين بعدم درك مافات، فهناك وقعت الندامة الكبرى وحينئذ حلت الحسرة العظمى، فالحزم عند العقلاء الموقنين هو الانكماش والتشمير فيما بقي من العمر القصير لأن الاشتغال بما فات في وقت درك مثله في المستقبل هو إضاعة ثانية لما هو آت، فحرص هذا المتيقظ واجتهاده أن يكون له في كل وقت وقت ومن كل ساعة نصيب فأودع في كل خزانة من ساعاته التي هي خزائن أعماله شيئاً فشيئاً لئلا يرى خزائنه فارغة غداً فيتحسر على فراغه منها وهذا طريق أهل الرجاء الذين تمنوا زيادة الأعمال ورغبوا في طول البقاء بحسن خدمة المولى وهو مقام التائب المستقيم ليتدارك بحديث الأوقات ما فرط منه من الغفلة في القديم، فهذا هو الحزم والاحتياط عند العلماء فإن يكن الأمر صعباً شديداً كما يحدث عنه كان قد سلم بحسن توفيق الله تعالى من صعوبته وإن كان الأمر سهلاً قريباً كما يرجوه كانت الأعمال درجات والفضائل مقامات. يكون له في كل وقت وقت ومن كل ساعة نصيب فأودع في كل خزانة من ساعاته التي هي خزائن أعماله شيئاً فشيئاً لئلا يرى خزائنه فارغة غداً فيتحسر على فراغه منها وهذا طريق أهل الرجاء الذين تمنوا زيادة الأعمال ورغبوا في طول البقاء بحسن خدمة المولى وهو مقام التائب المستقيم ليتدارك بحديث الأوقات ما فرط منه من الغفلة في القديم، فهذا هو الحزم والاحتياط عند العلماء فإن يكن الأمر صعباً شديداً كما يحدث عنه كان قد سلم بحسن توفيق الله تعالى من صعوبته وإن كان الأمر سهلاً قريباً كما يرجوه كانت الأعمال درجات والفضائل مقامات. ذكر المقام السابع من مشاهدة الموقنين اعلم أن ما ذكرناه من تدارك الأوقات خوف فوتها ليس هو بتمني مكان دون مكان ولا هو بانتظار وقت ثان الذي هو في الأصل فكر الوقت الذي هو فيه ولا توقع حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 سوى الحال الذي هو يليه إنما هو صوم يوم أو قيام ليلة أو ذكر في ساعة أو جمع هم عن شتات قلب أو قطع لأثر في خطر ويكون ذلك أيضاً غض طرفه وصون سمعه وكف يده وحبس قدمه وصمتاً عن كلمة دنية وترك لقمة شهية ونقصاناً من قوت وزيادة جوع للمقيت وأمراً بكلمة رشيدة ونهياً عن فعلة دنية وعقد نية حميدة وحل نية ذميمة وتجديد توبة وإعمال قلب في فكرة وإخراج سوء ظن واعتقاد حسن ظن واستقامة وصحة عزم في قصد وتسبباً إلى ما يقوي العزم ومعونة على برّ وتقوى؛ وهذا كله يكون في الوقت ويحدثه في الحال لا يسوف به ولا ينتظر منه ولا يتوقعه في وقت ثانٍ ولا يؤخر إلى زمان دون وقته ولا يتربص به في مكان دون مكان فهذا هو التدارك للأوقات في وقتك الذي أنت فيه خشية فوت الوقت فيحصل على التسويف والتمني أو في الانتظار والتراخي؛ فهذه من جنود إبليس يقطع بها المريدين وهو مقام المغترين وأحوال البطالين الذين وكلوا إلى أنفسهم وتركوا مع هواهم ولم يتداركوا في أحوالهم ولم يقدموا لغدهم نسوا الله فنسيهم والوقت إذا انقضى فقد، ولم يوجد إلى يوم القضاء والساعة إذا مرت طويت فلم تنشر إلى يوم النشور وإنما ينشر مثلها ويخلق شبهها فإذا أيقن العقد علم أن عمره كله يوم وأن يومه كله ساعة وأن ساعته كلها وقته الآن وأن وقته حاله وأن حاله قلبه فأخذ من حاله لقلبه ما يقرّبه إلى مقلبه بنهاية عمله، فعمل أفضل ما دل علمه عليه وما ندبه مولاه إليه ومما يجب أن يفجأه عليه فيكون ذلك خاتمة عمله الذي يلقى مولاه به ثم أخذ من وقته لحاله ما يصلح حاله لقلبه ويقوي قلبه ويخلصه لربه وأخذ من ساعته لوقته ما يزين به حاله عند ربه وأخذ من يومه لساعته صلاحه فيها وحاجته إليها وأخذ من شهره ليومه فكان شهره يومه وكان يومه ساعته فشغله وقته عن ساعته وشغله حاله عن وقته فكان على هذا مراعياً لوقته محافظاً على حاله قائماً على نفسه جامعاً لهمه محصياً لأنفاسه مراقباً لرقيبه مجالساً لحبيبه لا يخرج عنه نفس في أدنى وقت إلافي ذكر لمذكور أو شكر على نعمة لمنعم أو صبر في محبة عتيدة أو رضا عند شدة شديدة ويكون في ذلك كله ناظراً إلى الرقيب مصغياً إلى القريب سائحاً إلى الحبيب لا ينظر إلا إليه ولا يعكف إلا عليه وقد جعل العمر يوماً واليوم ساعة والساعة وقتاً والوقت حالاً والحال نفساً والنفس مراقبة والمراقبة مواجهة فتوجه في وجهته فلم ينثنِ وساح في قربه فلم ينِ فكان من الإيمان على مزيد ومن اليقين في تجديد وأعطي من الحياة الطيبة بغير حساب وكشف له عن قلبه الحجاب فكانت المعرفة مقامه وقصرت عليه أيامه فكان وقته وقتاً واحداً لواحد وكان قلبه واحداً لواحد وهمه منفرداً لمنفرد، وهذا حال الأبدال الذين هم من الرسل أمثال، وعددهم في الموقنين قليل ونصيبهم من اليقين وافر جليل، وهم المقربون والصديقون ومن علم ما ذكرناه على يقين فهو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الصالحين ومن آمن به ولم يشك فيه لأهله إيمان تصديق فهو من الموقنين ومن شهد منه شهادة يكون له منها مطالعات وزيادة فهو من الشاهدين وجميع ماذكرناه من مراقبة المؤمنين وشهادة المقربين يدرك بأحد مقامين: من أقيم في أحدهما جمع له ذلك استقامة في توبة وعمل بعلم فمن كان مقامه التوبة وحاله الاستقامة رفع إلى شهادة المحبين ومن كان مقامه العلم وحاله العمل بعلمه تحقق بنعت الخائفين وهما حالا العارف الدائم الوجد بقرب القائم بالشهادة بحضور الشهيد فأنفاسه وطرفاته صالحات وتصرفاته وآثاره حسنات وأفكاره وأذكاره مشاهدات فهو حاضر في تصريفه متيقظ في تقلبه وبهذا وصف العارف والدائم الوجد وحدثت عن بعض هذه الطائفة أنه دخل على بعض المنقطعين إلى الله تعالى من أهل المراقبة فقال له: أحصيت من نعم الله تعالى عليّ في نوع واحد أربعة وعشرين ألف نعمة، قلت: وكيف ذلك؟ قال: حسبت أنفاسي في اليوم والليلة فوجدتها أربعة وعشرين ألف نفس، ويقال: أن الطرفات ضعف ذلك لأن كل نفس طرفتان وسمعت أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى بعض الأنبياء كيف تؤدي شكر نعمتي عليك ولي في كل شعرة نعمتان إن لينت أصلها وإن طمنت رأسها، وقال بعض العلماء: روي ذلك أيضاً عن علي عليه السلام: ليس شيء أعز من الكبريت الأحمر إلا ما بقي من عمر العبد، قال: ولا يعرف مقدار مابقي من عمره إلا نبي أو صديق. يء أعز من الكبريت الأحمر إلا ما بقي من عمر العبد، قال: ولا يعرف مقدار مابقي من عمره إلا نبي أو صديق. وقال بعضهم: لا يعرف قدر ما بقي من عمره في العزة إلا من عرف ينبوع الكبريت الأحمر فإنه يقال: إنه عيون تنبع في الظلمات لا يعرفها إلا الأبدال والكبريت الأحمر هو كيمياء الذهب الذي يعمل منه الذهب الخالص واذا ألقى منه اليسير على كيمياء الذهب المستعمل ثبت على حاله وإلا استحال وتغير بعد سنين ولا أعلم ذكر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكبريت الأحمر إلا في حديث علي عليه السلام الذي وصف فيه الأبدال فذكر عدتهم ونعمتهم وقال في آخر وصفهم: هم في أمتي أعز من الكبريت الأحمر ولا ذكر الذهب الإبريز إلا في حديث الابتلاء، إن الله تعالى يجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز ومنهم من يخرج أسود محترقاً ومنهم من يخرج بين ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الفصل التاسع والعشرون ذكر أهل المقامات من المقربين وتمييز أهل الغفلة المبعدين فإذا كان العبد يوصف ما ذكرنا كان كما قال الله تعالى: (والَّذِيْنَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (وَالَّذين هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ) المعارج32 - 33 وقال بعض العارفين: عمر العبد أمانة الله تعالى عنده يسأله عند موته، فإن كان فرط فيه ضيع أمانة الله تعالى وترك عهده، وإن راعى أوقاته فلم تخرج ساعة إلا في طاعة الله حفظ أمانته ووفى بعهده فله الوفاء من الله على الوفاء، كما قال سبحانه وتعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة: 40 أي في تضييع العهد وفي ترك الوفاء وكما قال تعالى: (أفَمَنْ كَانَ عَلى بَيِّنةٍ مِنْ رَبِّه وَيَتْلُوه شَاهِدٌ مِنْهُ) هود: 17أي شهد مقام الله تعالى منه بالبيان فقام بشهادة الإيقان فليس هذا كمن زين له سوء عمله واتبع هواه فآثره على طاعة مولاه بل هذا قائم بشهادته متبع لشهيده مستقيم على محبة معبوده وكان كمن وصف في قوله تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) وكمن مدحه بحقيقة الإيمان في قوله تعالى: (وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً) الأنفال: 2 أي علامته ودلائله (وعلى ربهم يتوكلون) أي به يثقون وإليه ينظرون وعليه في كل حال يعتمدون ولديه من كل شيء يطمئنون وعنده دون كل شيء يوجدون ثم قال سبحانه: (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الأنفال: 4 الآية، وليس أهل الحقائق من المتوكلين الذين مدحهم الحق بالحق وأعد لهم الدرجات العلى، والكريم من الرزق كمن ذكره بعدهم فقال: وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين لهم مع قوله ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا، فجعل حال هؤلاء وصفاً مشبهاً لمقام أعدائه لما بقي عليهم من أهوائهم وجعل مقام الصالحين بمعنى من وصفهم في الآية بحقيقة زهدهم فقال تعالى: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَات الْعُلى) طه75 فهو العلي وأحباؤه الأعلون وإنما كانو أعلين لأن الأعلى معهم وكنا نحن الأدنين لأن الدنيا عندنا، قال الله سبحانه في وصف من أعرض عن ذكره ولم يرد إلا الحياة الدنيا إذا أمر الحبيب بالإعراض عنه لأنه طلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الأدنى عاجلاً أو سوّف بالمغفرة آجلاً لقوّة جهله وضعف يقينه فقال تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الأدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) الاعراف: 169 وقال: (فَأعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاة الدُّنْيَا) النجم: 29، وقال في وصف الصادقين المؤمنين: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه) الأحزاب: 23 وقال في نعت غيرهم: (يَا أيُّهَا الذَّين آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) الصف: 2، كبر مقتاً عند الله فشتان بين من وصف بصدق العهد وبين من ذكر بالخلف وعرض للمقت، وقال في وصف طائفة: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَليْهِمْ إبلِيس ظَنَّهُ فَاتَّبِعُوهُ إلاَّ فَريقاً مِنَ المُؤمِنِين) سبأ: 20فخص أولياءه بترك أتباعه وأدخل بعض المؤمنين في تصديق ظنه واتباعه إلا فريقاً فهم الصديقون والشهداء ولاصالحون وحسن أولئك رفيقاً وهم المتوكلون المؤمنون حقاً الذين قال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون وليس من باع ماله ونفسه محبة لمولاه كمن لم يسأله مولاه دون نفسه لئلا يحفيه فيخرج ضغنه عليه كما قال لطائفة من المؤمنين: (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألْكُمْ أمْوَالَكُم) محمد: 36، إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم الأحفاء الاستقصاء أي سألكم سأل الجملة كلها وأحب منكم الزهد في نفوسكم بعدها؛ والأضغان جمع ضغن وهو الحقد تقول: فلستم في مكان سؤال إذ لا يكون البخيل زاهداً لأن أوّل الزهد الجود، فمن لم يجد لم يزهد ومن لم يزهد في الدنيا لم يحبه المولى لأنه محب لما يبغض ومريد لما لا يحب فلم يعامل مولاه بأخلاقه ولم يوافقه في مرضاته فباعده وحجبه عن مشاهدة أوصافه كما قال تعالى: (تُريدُونَ عَرَض الدُّنْيَا وَالله يُريدُ الآخِرَةَ) الأنفال: 67، وكما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المبلغ عن المآل إذا أردت أن يحبك الله فازهد في الدنيا ولا تقدر أن تصف حشو قلوب هذه الطائفة من المؤمنين الذين وصفهم المؤمن أن لو سألهم أموالهم ظهرت عليهم أضغانهم لأنهم من الله في اغترار بما ألبسهم من الإظهار فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً إلا أن الله تعالى لا يسأل من يحبه إكراماً له ممن يعلم أنه يسارع إليه بجملة ما سأله لأنه كريم جواد لا يكبر عنده شيء إن سأل سأل الكلية وهو المال والنفس إلا أنه لا يسأل إلا من خلقه بخلق من أخلاقه فمتى لم يكن على العبد سواه شيء سأله محبوبه كل شيء ومتى عظم في قلبه العرض الفاني وهو ضغين لم يسأله شيء فإذا لم يبق للعبد في نفسه نفساً ولا من ماله ملكاً كان الجواد عوضاً له من ماله وكان الجبار عوضاً له من نفسه إلا أن الله سبحانه لم يذكر إياه في العوض من النفس وذكر الجنة في البدل عن المال لئلا يدخل تحت حكم وهو الحاكم وكيلا ينضم إلى عوض فيكون شفعاً وهو الفرد فأخفى نفسه وهو الدليل وذكر خلقه وهو إليه السبيل فهذا فهم أوليائه عنه. طائفة من المؤمنين الذين وصفهم المؤمن أن لو سألهم أموالهم ظهرت عليهم أضغانهم لأنهم من الله في اغترار بما ألبسهم من الإظهار فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً إلا أن الله تعالى لا يسأل من يحبه إكراماً له ممن يعلم أنه يسارع إليه بجملة ما سأله لأنه كريم جواد لا يكبر عنده شيء إن سأل سأل الكلية وهو المال والنفس إلا أنه لا يسأل إلا من خلقه بخلق من أخلاقه فمتى لم يكن على العبد سواه شيء سأله محبوبه كل شيء ومتى عظم في قلبه العرض الفاني وهو ضغين لم يسأله شيء فإذا لم يبق للعبد في نفسه نفساً ولا من ماله ملكاً كان الجواد عوضاً له من ماله وكان الجبار عوضاً له من نفسه إلا أن الله سبحانه لم يذكر إياه في العوض من النفس وذكر الجنة في البدل عن المال لئلا يدخل تحت حكم وهو الحاكم وكيلا ينضم إلى عوض فيكون شفعاً وهو الفرد فأخفى نفسه وهو الدليل وذكر خلقه وهو إليه السبيل فهذا فهم أوليائه عنه. وهذه علامة المحبة الخالصة التي لاشرك فيها لسواه ولا دخل عليها من غيره إياه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ولا يصلح أيضاً أن يكشف عن وصف هؤلاء المحبين لأن حالهم يجلّ عن الوصف ومقامهم يجاوز علوم العقل والوقت، إلا أن الله تعالى أحكم ذلك بقوله عزّ وجلّ: (وَفيهَا مَا تَشْتَهيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ) الزخرف: 17وبقوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقُونَهُ سَلامٌ) الأحزاب: 44 مع قوله: (وَلَكُمْ فيهَا مَا تَدَّعُونَ) (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحيمٍ) فصلت31 - 32 وقوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبينَ فَرَوْحٌ وَرَيحَانٌ) الواقعة: 88 - 89، وأحكم ذلك بقوله تعالى: (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام: 127وبقوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَالله بَصير ٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) آل عمران: 163 ففيه وصف لأهل الولايات والحب ومدح لأهل الدرجات والقرب بقوله: بصير بما يعملون أي لذلك جعلهم درجات عنده، ولقوله: وليهم بما كانوا يعملون بما تولاهم به قربهم منه وفيه أيضاً ذم المنافقين على القراءة الأخرى والله بصير بما تعلمون فقد أبصر أعمالكم أنتم فلم يجعلكم مثلهم إذ لم تكن أعمالكم كأعمالهم فهذا كما قال: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ وأثَابَهُمْ فَتْحاً قَريْباً) الفتح: 18 ثم قال في وصف قلوبنا: (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَليماً حَليماً) الأحزاب: 15 ثم قال في فصل من القول: ليس بهزل سوّى بين هؤلاء وهؤلاء: (إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً) ثم قال في ضد أولئك كلاماً فاصلاً لمفصل مفسر للمجمل: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أسْمَعَهُمْ لَتَولَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الأنفال23 أي ليس لهم فيه شيء ولا لهم منه نصيب لأنه لم يجعل عندهم مكاناً لخير فيوجد فيه خيراً فكان هذا فصل الخطاب وبلاغاً لأولي الألباب شهد لهم بذلك إذ قال: (أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذين آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ الله لَهَدَى النَّاس جَمِيعاً) الرعد: 13. فأيس المؤمنون من هداية هؤلاء فلم يرجو منهم مجاهدة فيه أبداً لأن الله تعالى لا يهدي من يضلّ وقيل ييأس لغة بمعنى يعلم أي فقد علموا مما أعلمهم الله تعالى، ويشهد لهذا المعنى الحرف الآخر لأنه بمعناه أفلم يتبين الذين آمنوا فبين لهم بما بين المبين فسلموا له وأقبلوا عليه وأعرضوا عنهم فسلموا منهم فكذلك قال الولي الحميد، وكذلك تولى بعض الظالمين بعضاً وقال: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) البقرة: 118، فيتبعون ما تشابه منه فكم بين من ثبت قلبه فرسخ العلم فيه وبين من أزاغه فمال إلى فتنة التأويل يبتغيه وشتان بين من تولاه بنفسه إذ صلح له وبين من ولاّه إذا أعرض عنه فهذه مقامات المبعدين كما تلك مقامات المقربين فقد دخلوا تحت حكمين لم يخرجوا منهما أعلاهم دخل تحت فضله وأدناهم لم يخرج من عدله وقد أجمل سبحانه وصفهم بقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذين آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ من فضله) الروم: 45 وقال في ذكر العموم: (لِيَجْزِيَ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بالقِسْط) يونس: 4، بالقسط فخص أولياءه بالفضل وعمّ خلقه بالعدل، فكم من قلب لا يشهد إلا الله ولا يسمع إلا منه ولا إليه والله هو الأغلب على همه والأقرب إلى قلبه وبين قلب حشوه الخلق وهمه الرزق لا ينظر إلا إليهم ولا يطمع إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فيهم ولا ينظر إلا هم الخلق أغلب شيء عليه والخلق أقرب شيء إليه، فهذا من المبعدين بهم لأن البعد صفتهم وظهور النفس عليه وتحكم سلطانها فيه مكان البعد الذي يوجد البعد معه والأوّل من المقربين به لأن القرب صفته وخنوس نفسه عنه وتسخيرها له مكان القرب الذي يوجد القرب عنده فذلك من السابقين إلى ربه والمبعد مثبط بنفسه عن ربه وقد قال تعالى: (فَلا تَدْعُ مَعَ الله إلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبينَ) الشعراء: 213، فالبعد حجاب والمبعد في عذاب والقرب نعيم والمقرب على مزيد، ألم تسمع قوله تعالى في تعذيب المحجوب: (كَلاَّ إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئذٍ لمَحْجُوبُونَ) المطففين: 15، ثم إنهم لصالوا لجحيم وقال في ترويح المقربين: (فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبينَ) (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) الواقعة: 88 - 89 روح بقريب وريحان من حبيب وجنة نعيم بقرب منعم وقال المروح بالقرب المحيا بالحضور: فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً ... وإن غبت فالدنيا علىّ محابس إذا لم أنافس في هواك ولم أغر ... عليك ففيمن ليت شعري أنافس وقال المكروب بالبعد المغصص بالفقد: فكيف يصنع من أقصاه مالكه ... فليس ينفعه طب الأطباء من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء وشتان بين عبد منقطع إلى ربه يخدمه وآخر منقطع لخدمة الخلق يعبدهم وكم بين عبد منقطع عن الناس وبين عبد موصول به الوسواس وشتان بين عبد منقطع بالشوق إلى المولى وبين عبد منقطع بالهوى معانق للدنيا فهذه مقامات المقربين بالحسنى وأضدادها مقامات المبعدين بالسوء فإذا كان العبد على وصف من الحقيقة وفي مقام من التقوى استحق الثناء من مولاه لتحققه بالوصف ونال القرب من القريب لتبعده عن حظوظ النفس، وفي حسن الثناء من العظيم الأعظم غاية الطالبين ونهاية رغبة الراغبين ولا يكون ذلك إلا لأوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين وهم أهل القلوب السليمة الطاهرة وذوو الجوارح الخاشعة الذاكرة وأولو الألباب الراجحة الفاخرة وهم ثلاث طبقات من مقربي أصحاب اليمين؛ أهل العلم بالله تعالى، وأهل الحب لله تعالى، وأهل الخوف من الله تعالى فهؤلاء خصوص أوليائه المقربين استحضرهم فحضروا واستحفظهم العلم فحفظوا واستشهدهم عليه فشهدوا فهم الأدلة منه عليه وهو دليلهم إليه وهم جامعو العباد به وهو جامعهم عنده لديه أبدال الأنبياء والربانيون من العلماء أئمة المتقين وأركان الدين أو القوّة والتمكين الذين كشف لهم الكتاب المستبين وهداهم إليه الطريق المستقيم عليه وهم المنظور إلى قلوبهم كفاحاً والمقصودون بالمزيد والتحف مساءً وصباحاً ومن سواهم من عموم المؤمنين من القراء والعباد وأهل المجاهدة والزهد والأوراد قد أعطاهم الولايات وفرقهم في الأعمال والسياحات وأظهر لهم الآيات تسكيناً لقلوبهم بها وطمأنينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 منهم إليها لئلا تدخل عليهم الشبهات فيهلكوا ولا تجذبهم الشهوات فيرجعوا فشغلوا بالإظهار عن الظاهر وحجبوا بالظواهر عن الباطن واغتبطوا بالحجاب وسكنوا إلى الأسباب وعكفوا على المقامات واستتروا بالملكوت والآيات فهم مغبوطو الأموات من أهل الدنيا وهم مرحومو الأحياء من أهل الأعلى لأن قربهم بعد عند المقربين وكشفهم حجب عند المشاهدين وعطاءهم رد عند المواجهين إلا أن الله تعالى نظر إليهم لما نظروا لنفوسهم حكمة ورحمة منه لهم فسكنهم في حالهم ورضاهم بمقامهم كيلا تشتت قلوبهم ولا تتحير عقولهم والسابقون الأوّلون هم الوجهة العليا والمتمسكون بالعروة الوثقى نظروا إليه سبحانه وتعالى به فنظر إليهم منه فهم كما وصفهم: (ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله) لايرجعون إلى مال ولا ينظرون إلى حال يحبهم ويحبون رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه فهم كما وصفوا في الكتب السالفة، قال الحواريون: ياروح الله صف لنا أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون فقال: هم الذين نطق بهم الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا وبهم قام الكتاب وبه قاموا نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها وعاينوا أجل الدنيا حين عاين الناس عاجلها فأماتوا منها ماخشوا أن يميتهم وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم فصار دركهم منها فواتاً وفرحهم بها حرماناً ما عارضهم منها رفضوه وما أشرف لهم بغير الحق وضعوه خلقت الدنيا عندهم فلم يجددوها وخربت فيما بينهم فلم يعمروها وماتت في صدورهم فلم يحيوها قدموها فبنوا بها آخرهم أحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره ويضيئون به لهم خبر عجيب وعندهم أعجب الخبر العجيب، وقال عزّ وجلّ في وصفهم: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله) المائدة: 50حديثاً والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء وقال تعالى: (شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إلهَ إلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بالْقِسطِ) آل عمران: 18 وفيها مقرأ غريب بمعنى الجمع للشهداء وكأنه جعل وصفاً لما تقدم من ذكرهم في قوله تعالى: (الصَّابِرينَ والصَّادِقينَ) آل عمران: 17، إلى قوله: (وَالْمُسْتَغْفِرينَ بِالأسْحَار) آل عمران: 17 شهد الله أنه لا إله إلا هو وقال: (كَفَى بِاللهِ شَهيداً بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ) الرعد43، فهذا وصف يزيد على كل وصف ويستغرق نعت الواصفين ويجمع هذه المقامات السبعة من المراقبة والمشاهدة حالان عن مقامين مدار المقامات كلها عليهما ومستخرج المزيد من الكرامات منهما؛ فأحدهما الخوف عن مقام العلم والحال الثاني الرجاء عن مقام العمل، فمن كان مقامه العلم بالله كان حاله الخوف منه ومن كان مقامه الرجاء لله تعالى كانت حاله المعاملة له، ألم تسمع إلى قوله تعالى: (إنَّما يَخْشَى الله مِِِنْ عِبَاْدِهِ العُلَمَاءُ) فاطر: 28 وقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَة رَبَّهِ أَحداً) الكهف110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الفصل الثلاثون فيه كتاب ذكر تفصيل الخواطر لأهل القلوب وصفة القلب وتمثيله بالأنوار والجواهر قال الله سبحانه وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا) (فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْواهَا) الشمس: 7 - 8 أي ألقي فيها وقذف فيها، وقال عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ به نَفْسُهُ) ق: 16وقال: (فَطَوَّعتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ فَقَتَلَهُ) المائدة: 30 وقال تعالى: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) الناس: 4 الآية، وقال: (إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوَّاًِ إنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) فاطر: 6 وقال تعالى: (اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله) المجادلة: 19 وقال عزّ وجلّ: (الْشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بالْفَحْشَاءِ) البقرة: 268 وقال سبحانه مخبراً عن العدوّ: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الأعراف: 16 (ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنَ أيْديهِمْ) الأعراف: 17 إلى آخر الآية، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر فتذر أرضك وسماءك فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو جهد النفس والمال فتقاتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك فعصاه فجاهد، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من فعل ذلك فمات كان حقاً على الله تعالى أن يدخله الجنة وقد أخبر الله تعالى عنه أنه قال: (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ولأمرنّهم) النساء: 119 إلى آخر الآية. وروينا أن عثمان بن أبي العاص قال: يارسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال ذلك الشيطان يقال له خنزب إذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني، وفي الخبر: أن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاستعيذوا باللَّه منه، وقد روينا أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم والحديث المشهور: ما منكم من أحد إلا وله شيطان قالوا: وأنت يا رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 اللَّه: قال: وأنا، إلا أن اللَّه تعالى أعانني عليه فأسلم، وقال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: وقد روينا من طريق مسند في القلب لمتان؛ لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ولمة من العدوّ إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير، وروينا عن الحسن رحمه اللَّه أنه قال: هما همان يجولان في القلب همّ من اللَّه تعالى وهمّ من عدوّه فرحم اللَّه عبداً وقف عند همه فما كان اللَّه أمضاه وما كان عدوّه يجاهد، وقال مجاهد في قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِِ الخَنَّاس) الناس: 4 قال: هو منبسط على قلب الإنسان، فإذا ذكر اللَّه تعالى خنس وانقبض وإذا غفل انبسط على قلبه وقال عكرمة الوسواس محله في الرجل في فؤاده وعينيه ومحله في المرأة في عينيها إذا أقبلت وفي عجيزتها إذا أدبرت، وقال جرير بن عبدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زياد ما أجد في صدري من الوسوسة فقال: إنما مثل ذلك مثل النقب الذي تمر به اللصوص فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه، وقد روى أبو صالح عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي ذكره اللَّه تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ) المطففين: 14. وروينا عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه بذلك نكتة سوداء فإن تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجلواً مثل المرآة ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصره، وأما الذي يتتابع في الذنوب كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فلا يزال ينكت في قلبه حتى يسود قلبه فلا يبصر الشيطان من حيث يأتيه وقد أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر في تقسيمه القلوب. روينا عن أبي سعيد الخدري وأبي كبشة الأنماري وبعضه أيضاً عن حذيفة عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: القلوب أربعة، قلب فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر، وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه مثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد، فأي المدتين غلبت عليه حكم له بها، وفي لفظ بعضهم: غلبت عليه ذهبت به، وقال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّه) المائدة: 50 وقال تعالى: (إنَّ الَّذينَ اتَّقُوا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإذَا هُمْ مُبْصِرْونَ) الأعراف: 201 فأخبر أن جلاء القلوب الذكر به يبصر القلب وأن باب الذكر التقوى به يذكر العبد، فالتقوى باب الآخرة كما أن الهوى باب الدنيا، وأمر اللَّه تعالى بالذكر وأخبر أنه مفتاح التقوى لأنه سبب الاتقاء وهو الاجتناب والورع فقال تعالى: (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأعراف: 171 وأخبر أنه أظهر البيان للتقوى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاِتِهِ للِنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقونَ) البقرة: 187 وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَريمِ) (الَّذي خَلَقَكَ فَسوَّاكَ فَعَدَلَك) الانفطار: 6 - 7 وقال تعالى: (لَقَد خَلَقنَا الإْنسَانَ في أَحْسَنِ تَقويمٍ) التين: 4 وقال: (وَمِن كُلِّ شَيء خَلَقْنَا زَوٌجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تََذَكَّرُونَ) الذاريات: 49 فمن السواء والتعديل والازدواج والتقويم أدوات الظاهر وأعراض الباطن وهي حواس الجسم والقلب. فأدوات الجسم هي الصفات الظاهرة وأعراض القلب هي المعاني الباطنة قد عدلها اللَّه تعالى بحكمته وسواها على مشيئته وقومها إتقاناً بصنعته وأحكاماً بصنعه، أولها النفس والروح وهما مكانان للقاء العدّو والملك وهما شخصان ملقيان للفجور والتقوى، ومنها غرضان متمكنان في مكانين وهما العقل والهوى عن حكمين في مشيئة حاكم وهما التوفيق والإغواء، ومنها نوران ساطعان في القلب عن تخصيص من رحمة راحم وهما العلم والإيمان، فهذه أدوات القلب وحواسه ومعانيه الغائبة وآلاته، والقلب في وسط هذه الأدوات كالملك، وهذه جنوده تؤدي إليه أو كالمرآة المجلوّة وهذه الآلة حوله تظهر فيراها ويقدح فيه فيجدها، فتفصيل ذلك على الإيجاز أن جمل الخواطر ستة: هي حدود القلب وقوادحه من ورائها خزائن الغيب وملكوت القدرة وهي جنود اللَّه تعالى عتيدة وسلطان منه مبين والقلب خزانة من خزائن الملكوت قد أودعه مقلبه من لطائف الرغبوت والرهبوت وشعشع فيه من أنوار العظمة والجبروت ما شاء لأهل الرفيق الأعلى وذوي الملكوت الأدنى فأوّل التفصيل خاطر النفس وخاطر العدوّ وهذان لا يعدمهما عموم المؤمنين وهما مذمومان محكوم لهما بالسوء لا يردان إلا بالهوى وضد العلم وخاطر الروح وخاطر الملك وهذان لا يعدمهما خصوص المؤمنين وهما محمودان لا يردان إلا بحق وبما دل عليه العلم وخاطر العقل وهومتوسط بين هذه الأربعة يصلح للمذمومين فيكون حجة على العبد لمكان تمييز العقل وتقسيم المعقول لأن العبد يدخل في هواه بشهوة جعلت له واختيار لا يعسر عليه من حيث لا يعقل ولا إجبار ويصلح أيضاً للمحمودين فيكون شاهداً للملك ومؤيداً لخاطر الروح ويثاب العبد في حسن النية وصدق المقصد وإنما كان خاطر العقل تارة مع النفس والعدوّ وتارة مع الروح والملك حكمة من اللَّه تعالى لصنعته وإتقاناً لصنعه ليدخل العبد في الخير والشر بوجود معقول وصحة شهود وتمييز فيكون عاقبة ذلك من الجزاء والعقاب عائداً له وعليه إذ قد جعل سبحانه هذا الجسم مكاناً لجريان أحكامه ومحلاً لنفاذ مشيئته في مباني حكمته كذلك جعل العقل مطية للخير والشر يجري معهما في خزانة الجسم إذ كان مكاناً للتكليف وموضعاً للتصريف وسبباً للتعريف العائد من معاني ذلك على صورة العبد من لذة النعيم أو عذاب أليم فلم يكن العقل غائباً فيكون العبد عن العقل ذاهباً ولم تكن الشهوة عازبة فتكون النفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 مفقودة إذ في ذلك تضعيف لحجة اللَّه تعالى عليه ووهن لبرهانه لأن العقل شاهد الحجة والشهوة في النفس مكان البلوى والنية في القلب طريق الججة وذلك أصل سبب عود جزاء الأمر والنهي فالعقل مطبوع على التمييز مجبول على التحسين والتقبيح والنفس مجبولة على الشهوة مطبوعة على الأمر بالهوى وهذا نصيبهما من عطائه وهداه لهما إلى رشاده وإغوائه وخطهما من الكتاب وقسمهما من ولي الأسباب، كما قال تعالى في أحكام ما ذكرناه تكملة لما أخبرنا عما سبق في علمه: (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) وقال تعالى: (أٌُولِئَكَ يَنَالُهُمْ نَصيبَُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) الأعراف: 37 وقال تعالى: (كِتُبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْديهِ إلى عَذَابِ السَّعيِر) الحج: 4 والخاطر السادس هو خاطر اليقين وهو روح الإيمان ومزيد العلم يردان إليه ويصدران عنه وهذا الخاطر مخصوص بخصوص لا يجده إلا الموقنون وهم الشهداء والصديقون لا يرد إلا بحق وإن خفي وروده ودق ولايقدح إلا بعلم اختيار لمراد مختار وإن لطفت أدلته وبطن وجه الاستدلال به ولكن ليس يخفى هذا إلا الخاطر على مقصود به ومراد له وهم الذين وصفهم اللَّه تعالى بالذكرى. ورد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم الفتيا فقال سبحانه: (إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَاَنَ لَهُ قَلْب) ق: 37، أي من تولى اللَّه حفظ قلبه، وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حاك في صدرك فدعه والإثم حواز القلوب يعني ما يؤثر فيها فيحزها لرقتها وصفائها ولينها ولطفها وقال للرجل الذي سأله عن البر والإثم وهما أصلا أعمال الخير والشر استفت قلبك وان أفتاك المفتون أي أن المتقين يعلمون معاني التأويل والرخصة عن علمهم العلانية وأنت على علم فوقهم مطالب بالتحقيق والعزيمة عن علمك السر وأهل الظاهر أيضاً يعلمون حكم اللَّه تعالى الظاهر عن علم اللسان الظاهر الذي هو حجة على أهل العلم الظاهر وقلبك فقيه منوّر بالإيمان تنظر به أو ينطق به حكم اللَّه تعالى الباطن عن علم القلب الباطن الذي هوحقيقة الإيمان ومنفعته لأهل العلم الباطن ولا يصلح أن يرد رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سائلاً إلا إلى فقيه فلولا أن علم القلب هو حقيقة الفقه ما ردّ صاحبه من فتا أهل الظاهر إليه ولا حكم على المفتين به فقد صار علم القلب هو علم العلم إذ جعله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً على المفتين بالحكم وصار عالم الباطن هوعالم العلماء إذ لم يسعه تقليد العلماء، وفي الحديث الآخر: البر ما اطمأن إليه القلب وسكنت إليه النفس وإن أفتوك وأفتوك فهذا وصف قلب مكاشف بالذكر ونعت نفس ساكنة بمزيد السكينة والبر كما وصف من قلوب المؤمنين في صريح الكلام وفي دليل الخطاب، فأما صريحه فقوله تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّه أَلاَ بِذِكْرِ اللَّه تَطْمَئِنُْ القُلُوب) الرعد: 28 وقوله تعالى: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ السَّكينَةَ في قُلُوبِ الْمؤْمِنينَ لِِيزْدَادُوا إيمَاناً مَعَ إيماِنهِم) الفتح: 4 وأما دليل الكلام الذي يشهد بالتدبر فقوله تعالى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وصف قلوب أعدائه المحجوبين: (كَاَنَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَيَستَطيعُونَ سَمْعاً) الكهف: 101 ومثله: (أعِنْدَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يَرَى) النجم: 35 ففي تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره ناظرون إلى غيبه، وقال تعالي في مثله (مَثَلُ الفَريقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ) هود: 24 هذا فريق المتبعين للسبل المتفرقة عن سواء السبيل بهم الضالين عن سواء الصراط، (وَالبَصِيرِ وَالسَّميعِ) هود: 24 هو فريق المهتدين المتبعين للصراط المستقيم، وقال تعالى: (مَا كَانُوا يَسْتَطِعُون السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِروُن) هود: 20 أو ألقي السمع وهو شهيد إن كان اللَّه يريد أن يغويكم هو ربكم وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مجمل صفة القلب التقوى ههنا وأشار إلى القلب وقال اللَّه سبحانه وتعالى في ذكر القلوب المقفلة بالذنوب: (لَوْ نَشَاءُ أَصبَنْاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) الأعراف: 100 وقال تعالى في فض طابعها بالتقوى: (وَاتَّقُوا الله وَاسْمَعُوا) المائدة: 108 و (اتَّقُوَا اللَّه وَيَعَلِّمُكُمُ اللَّه) البقرة: 282 وفي الخبر: إذا أراد اللَّه بعبد خيراً جعل اللَّه زاجراً من نفسه وواعظاً من قلبه، وفي الخبر الآخر: من كان له من قلبه واعظ كان عليه من اللَّه حافظ. وروينا في تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي للإيمَانِ) آل عمران: 193 قال سمعناه من قلوبنا وقال في ضده لأعدائه: (أُولئِكَ يُنَادُونَ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ) فصلت: 44 عن قَلوبهم، وقال اللَّه تعالى في التوبة من ميل القلوب وهمها: (إنْ تَتُوبَا إلى اللَّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) التحريم: 4، وبمعناه وهموا بما لم ينالوا فإن يتوبوا يك خيراً لهم، وقال في تحقيق العمى للقلب: (فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلوبُ الْتي في الصُّدُور) الحج: 46 فأهل القلوب يتعظون بلا واعظ من خلق ويزدجرون بلا زاجر في ظاهر وسائر ما ذكرناه من الخواطر لا تعدمه المؤمنون والقلب خزانة اللَّه تعالى من خزائن الغيب وهذه المعاني جنود الله تعالى مقيمة حول القلب يخفي منها ما يشاء ويظهر ويبدي منها ما يريد ويعيد ويبسط القلب بما يشاء منها ويقبضه فيما شاء عنها وكل قلب اجتمع فيه ثلاثة معان لم تفارقه خواطر اليقين، ولكن يضعف الخاطر ويخفي لضعف المعاني ودقتها ويقوي اليقين ويظهر بقوتها لأن هذه الثلاثة مكان اليقين أحدها الإيمان وموضعه من اليقين مكان حجر النار والثاني العلم ومكانه موضع الزناد والثالث العقل وهو مكان الحراق فإذا اجتمعت هذه الأسباب قدح خاطر اليقين في القلب، ومثل القلب في قوته بقوة مدده وفي صفائه بجودة عدده مثل المصباح في القنديل إلى مكان العقل منه والزيت موضع العلم به وهو روح المصباح وبمدده يكون ظهور اليقين والفتيلة مكان الإيمان منه وهي أصله وقوامه الذي يظهر بها، فعلى قدر قوة الفتيلة وجودة جوهرها يقوى اليقين وهو مثل الإيمان في قوته بالورع وكماله بالخوف وعلى مقدار صفاء الزيت ورقته واتساعه تضيء النار التي هو اليقين وهو مثل العلم في مدد الزهد وفقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الهوي فصار العلم مكاناً للتوحيد فتمكن الموحد في التوحيد على قدر المكان، وقد قال اللَّه تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إلهَ إلا اللَّه) محمد: 19 وقال تعالى: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه وأنْ لاَ إلَه إلاَ هوَ) هود: 14 فقدم العلم علي التوحيد فصار أوّله فكلما اتسع القلب بالعلم باللَّه وزهد في الدنيا ازداد إيماناً وعلا لأنه يرى في علوّه ما لا يراه غيره ويعلم في اتساعه ما لا يعلمه سواه فيكبر المؤمن فيكون ذلك مزيد إيمانه وقوته ثم يشهد كل ما آمن به فيكون بذلك قوة نفسه وسعة مشاهدته وكلما قصر علم القلب باللَّه تعالى وبمعاني صفاته وأحكام ملكوته قلّ إيمان هذا العبد ثم أشهد ما آمن به من وراء حجاب لما غلب عليه من حب الأسباب وسمع الكلام من خلف ستر لعجزه عن المسارعة إلى البر فيضعف بذلك إيمانه ويتخيل مشاهدته ولا يتحقق فليس من علم من صفات اللَّه سبحانه وتعالى وقدرة آياته مائة ألف معنى ثم شهدها كلها من قرب عن كشف مثل من علم منها عشرة معانٍ ثم شهدها من بعد عن حجاب وهما مؤمنات معاً لكن بين إيمانهما في القرب والعلّو والزيادة والنقصان كما بين العشرة إلى مائة ألف فيكون إيمان قلب المسلم معشار معشار عشر إيمان قلب الموقن والمعشار هو عشر العشر جزء من مائة جزء ويكون إيمان قلب المؤمن فيما بين ذلك من الزيادة على العشر والنقصان من مائة ألف على قدر قسمه. ومثل ذلك فيما نعقله مثل رجل قال لك: إن عندي فلاناً فقد حصل لك علم زنه عنده غير زن هذا العلم غير يقين لأنه يجوز أن يكون قد اشتبه عليه أو يكون قد كان عنده ثم خرج وليس هو الآن عنده وهذا مثل إيمان المسلم هو على علم خبر لا خبر، ثم إنك تأتي إليّ فتسمع كلامه من وراء حجاب فقد علمت الآن أنه عندي لأنك سمعت كلامه واستدللت به على كونه، إلا أن هذا العلم أيضاً غير تحقيق لأن الأصوات تشتبه والأجرام تتقارب، ولو قلت لك بعد ذلك: لم يكن عندي وإنما كان ذلك غيره أشبه صوته تشككت فيه لاحتمال ذلك ولم يكن عندك يقين عين تدفع به قولي ولا شهادة نظر تنكر بها عليّ وهذا مثل لإيمان عموم المؤمنين فهو إيمان خبر لعمري وفيه يقين استدلال ممتزج بظنه إلا أنه غير مشاهدة العارفين لأنه قد يدخل عليهم التخييل والتشبيه فلا يدفعونه بشهادة يقين ثم إنك تدخل إلى الآن بعد أن قيل لك هو عندي أو بعد أن سمعت كلامه فتشهده جالساً لا حجاب بينك وبينه، فهذا هو يقين المعرفة وهذه شهادة الموقن وعندها انتفى كل شك وتحقق خبر العلم وهذا مثل لعلم إيمان الموقنين الذي قد اندرج فيه إيمان عموم المؤمنين من علم الخبر المحتمل ومن سماع الكلام المشتبه من وراء حجاب واسم الإيمان واقع على جميعهم ولكن الأوّل علم أنه عندي بما قيل له فصدق والثاني علم بما سمع فاستدل ولم يشهد فيقطع والثالث هو الذي عاين فقطع وقد شهد له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمزيد فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الخبر كالمعاينة وقال: وليس المخبر كالمعاين، ومثل هذا أيضاً أن ترى الشيء بالنهار فتعرفه معرفة عين وتعرف مكانه بنظر لا تخطئه ثم إنّك تحتاج إليه ليلاً فلست تعرف مكانه رأي عين وإنما تقصده بمعرفة استدلال عليه وبحسن ظن أنه موجود على حاله أو يعرف بشيء معهود أنه لا يتحول، وكذلك الأدلة هي الغائبات وسقوطها مع المشاهدات وبمعناها رؤية الشيء بنور القمر فإنه يشبح ويلوح المشكلات ورؤيته في ضياء الشمس فإنها تكشف الأمر على ما هو به، فهذا مثل نور اليقين إلى نور الإيمان ومثل رابع في تفاوت المؤمنين في حقيقة الكمال ودخولهم في الاسم والمعنى مثل صلاة رباعية أقيمت فجاء رجل فأدرك تكبيرة الإحرام ثم جاء آخر فأدرك الركوع ثم جاء آخر فأدرك الركعة الثانية ثم جاء ثالث فأدرك الركعة الثالثة ثم جاء رجل رابع فأدرك الركعة الآخرة فكلهم قد صلوا وأدركوا الصلاة في جماعة ونال فضلها لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة، ولكن ليس من أدرك الركعة الأولى في كمال الصلاة وإدراك حقيقتها كمن أدرك الثالثة والرابعة ولا يكون أيضاً من أدرك التكبيرة للإحرام في الفضل كمن لم يدرك شيئاً من القيام وهما مدركان معاً فكذلك المؤمنون في كمال الإيمان وحقائقه لا يستوون وإن استووا في الاسم والمعنى وكذلك في تفاوتهم في الآخرة. فقد جاء في الخبر أنه يقال: أخرجوا من قلبه مثقال ذرة من إيمان ونصف مثقال وربع مثقال وشعيرة وذرة من إيمان فقد حصلوا متفاوتين في الإيمان ما بين الذرة إلى المثقال وكلهم قد دخل النار إلا أنهم على مقامات فيها وفيه دليل أن من كان في قلبه وزن دينار من إيمان لم يمنعه ذلك من دخول النار لعظم ما اقترف من الأوزار وأن من كان في قلبه وزن ذرة من إيمان لم يحق عليه الخلود في دار الهوان لتعلقه بيسير الإيقان وأن من زاد إيمانه على وزن دينار لم يكن للنار عليه سلطان فكان من الأبرار وأن من نقص إيمانه عن ذرة لم يخرج من النار وإن كانت سيماه واسمه في الظاهر في المؤمنين لأنه في علم الله من المنافقين الفجار، وقد قال اللَّه تعالى في وصفهم: (وَإنَّ الٌفُجَّارَ لَفِيَ جَحيم) الانفطار: 14 ثم قال: (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبينَ) الانفطار: 16 ثم صار صاحب المثقال والذرة في الجنة على تفاوت درجات وكان الزائد إيمانه على مثقال في أعلى عليين علا هؤلاء وترفع أهل الدرجات العلى على أهل عليين ارتفاع الكوكب الذي في أفق السماء وكلهم قد اجتمع في الجنة على تفاوت مقامات وتعالي درجات، وروينا عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان فلعمري إن قلب المؤقن خير من ألف قلب مسلم لأن إيمانه فوق مائة إيمان مؤمن وعلمه باللَّه تعالى أضعاف علم مائة مسلم، ويقال إن واحداً من الأبدال الثلاثمائة قيمته قيمة ثلاثمائة مؤمن، وكان أبو محمد يقول: يعطي اللَّه تعالى بعض المؤمنين من الإيمان بوزن جبل أحد ويعطي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 بعضهم مثل ذرة، وقد قال الَّله تعالى: (وَأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنٌ كُنْتُمْ مَؤْمِنينَ) آل عمران: 139، بالعلو ولا نهاية لعلو الإيمان فصار علوّ كل قلب على قدر إيمانه ولذلك رفع العلماء على المؤمنين درجات في قوله تعالى: (يرفع اللَّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) ، ففسرها ابن عباس رضي اللَّه عنه فقال: (الَّذينَ أُوتوا العِلْمَ) الروم: 56 فوق المؤمنين بسبعمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وفي الخبر: أكثر أهل الجنة البله وعليون لأولي الألباب، وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. وروينا في لفظ أبلغ من هذا كفضلي على أمتي، فالموقنون من المؤمنين أعلى إيماناً والعالمون من الموقنين أرفع مقاماً ثم على قدر بياض الماء يستبين من القنديل حسنه وصفاؤه ومثل هذا العقل في صحته من الإعتلال وصفائه من كدر الأحوال والأموال ويجمع ذلك كله القنديل وهو القلب، فعلى قدر رقة القلب ولطف جوهره وصفائه من كدره وحسن طهارته عن الآثار تكون هذه العلوم فيه والأنوار وجوهر الزجاجة في الصفاء محتاج إلى صفاء الماء كما أن صفاء الماء محتاج إلى صفاء الجوهر وبمعيارهما يكون القلب والعقل ووقود النور محتاج إلى قوّة الفتيلة ومدد الزيت فبموضعها في القوّة والمدد يكون العلم باللَّه تعالى واليقين ذلك تقدير العزيز العليم وكل قلب اجتمع فيه ثلاثة معان لم يفارقه خواطر الهوى الجهل والطمع وحب الدنيا ثم يضعف خاطر الهوى ويقوى على قدر تمكن هذه الثلاثة من النفس وحقائقها على مثل ماذكرناه من تمكن خواطر اليقين وضعفها لوجود مكانها وهو العلم والإيمان والعقل، وفي القلب يظهر سلطان ذلك أجمع فأي جند كانت المشيئة معه غلب، وروينا عن علي عليه السلام أن اللَّه فى أرضه آنية وهي القلوب فأحبها إليه أرقها وأصفاها وأصلبها، ثم فسره فقال: أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان فمثل القلوب مثل الأواني في تقارب جوهرها، فأرقها وأصفاها وأعلاها يصلح للملك والوجه والطيب، وأكثفها وأرداها يصلح للأدناس، وما بين ذلك يصلح لما بينهما، ومثلهما أيضاً مثل الموازين الطيار اللطيف والمعيار يصلح لوزن الذهب بالتحرير والمعيار والكثيف الجافي يصلح للقت والأنعام وما بينهما يصلح لما بين ذلك فيوزن بكل ميزان ما يصلح له من كل شيء موزون كما يجعل في كل إناء ما يليق به من كل شيء مرذول أو مصون، كذلك الحكم والحكمة في الملكوت الباطن كالحكمة والحكم في الملكوت الظاهر بتعديل الظاهر الباطن، وفي تفسير قوله عزّ وجلّ: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَة) النور: 35، فسره أبيّ بن كعب قال: مثل نور المؤمن وكذلك كان يقرأه قال: فقلب المؤمن هو المشكاة فيها مصباح، فكلامه نور وعمله نور ويتقلب في نور، ثم قال في قوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ في بَحْرٍ لُجِّيّ) النور: 40 قال قلب المنافق فكلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ظلمة وعمله ظلمة ويتقلب في ظلمة وكان زيد بن أسلم يقول في قوله تعالى: (في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) البروج: 22، قال قلب المؤمن وقال أبو محمد سهل مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي. وروينا في حديث ابن عمر قال قيل يا رسول اللَّه أين اللَّه في الأرض؟ قال: في قلوب عباده المؤمنين، وفي الخبر المأثور عن اللَّه تعالى لم يسعني سمائي ولاأرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن، وفي بعضها اللين الوادع فاللين يعني السهل الرقيق القريب والوادع يعني الساكن المطمئن، وفي الخبر: ما ألبس العبد لبسة أحسن من خشوع في سكينة فهذه لبسة المتقين وصبغة اللَّه تعالى للعارفين، وفي الحديث قيل: يا رسول اللَّه من خير الناس؟ قال: كل مؤمن محموم القلب، ثم فسره رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هو التقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد، وقال بعض العارفين في معنى قوله تعالى: (إلاّ مَنْ أَتَى اللَّه بِقَلْبٍ سَليم) الشعراء: 89 أي مما سوى اللَّه ليس فيه غير اللَّه وفي قول أهل التفسير: سليم من الشرك والنفاق، وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل وهذا لا يعدمه المؤمنون إلا الصديقين وقال: أكثرمنافقي أمتي قراؤها، وهذا لا يعدمه العابدون إلا العارفين، ومن خواطر اليقين ما يرد بشيء لا تظهر دلائله في الظاهر لخفائه وغموض شواهده فليس يعلم إلا بباطن العلم وغامض الفهم والغوص على لطائف معاني التبيين وباطن الاستنباط منفهم التنزيل وتعليم التأويل كما قال الحبيب الخليل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، كما قال علي بن أبي طالب: ماعندنا شيء أسره إلينا رسول اللََّه سوى كتاب اللَّه تعالى إلا أن يؤتي اللَّه تعالى عبداً فهماً في كتابه، وكما جاء في تفسير قوله تعالى: (يُؤْتي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) البقرة: 269 قال: الفهم في كتاب اللَّه، وقال أصدق القائلين: (فَفَهَّمْنَاْهَا سُلَيْمَانَ) الأنبياء: 79 فخصه بفهم منه زاده به فوق الحكم والعلم الذي شرك فيه أباه فزاده على فتيا أبيه. وروينا عن علي عليه السلام في الحديث الطويل الذي يقول فيه: واليقين على أربع شعب، على تبصرة الفطنة، وتأويل الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأوّلين، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة ومن تأول الحكمة عرف العبرة ومن عرف العبرة كان في الأوّلين إلا أن أهل اليقين المرادين به العارفين بأحكام اللَّه تعالى الباطنة يعلمون تفصيل خواطر اليقين ومقتضاها من حيث أشهدوا مطلعها من الغيب وبحيث عرفوا موجبها من الوصف بنور اللَّه الثاقب وقربه الحاضر وسلطانه النافذ، كما جاء في الخبر: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه تعالى أي باليقين، وفي لفظ آخر: اتقوا فراسة العالم فكأنه مفسر له ومنه قوله تعالى: (إنَّ فِي ذِلكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّميِنَ) الحجر: 75 وقوله: (قَدْ بَيَّنّا الآيات لِقَومٍ يُوقِنُون) البقرة: 118 أي بنور اليقين، وكان أبو الدرداء يقول: المؤمن ينظر إلى الغيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 من وراء ستر رقيق واللَّه إنه للحق يقذفه اللَّه تعالى في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم، وقال بعض العلماء: ظن المؤمن كهانة أي كأنه سحر من نفاذه وصحة وقوعه، وقال بعض العلماء: يد اللَّه تعالى على أفواه الحكماء لا ينطقون إلا بما هيأ اللَّه عزّ وجلّ لهم من الحق، وقال آخر: لو شئت لقلت إن اللَّه يطلع الخاشعين على بعض سره، وكتب عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المتعظين فإنهم ينجلي لهم أمور صادقة، وقال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّه قيلاً) النساء: 87: (يَا أىُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللَّه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) الأنفال: 29 قيل نور تفرقون به بين الشبهات ويقين تفرقون به المشكلات، ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَتَّق اللَّّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الطلاق: 2 قيل مخرجاً من كل أمر ضاق على الناس ويرزقه من حيث لا يحتسب يعلمه علماً بغير تعليم ويفطنه بغير تجربة أي بالشاهد الصحيح والحق الصريح، ومثله قوله تعالى: (وَالَّذينَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهدِيَنَّْهُم سُبُلَنَا) العنكبوت: 69 قيل: الذين يعملون بما يعلمون، قال يوفقهم ويهديهم إلى ما لا يعلمون حتى يكونوا علماء حكماء، وقال بعض السلف: نزلت هذه الآية في المتعبدين المنقطعين إلى اللَّه سبحانه وتعالى المستوحشين من الناس فيسوق اللَّه تعالى إليهم من يعلمهم أو يلهمهم التوفيق والعصمة. وفي الخبر: من علم بما يعلم أورثه اللَّه تعالى علم ما لم يعلم ووفقه فيمايعمل حتى يستوجب الجنة، ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار، فمعنى أورثه علم ما لم يعلم أي من علوم المعارف التي هي مواريث أعمال القلوب مثل الفرق بين الاختبار والاختيار والابتلاء والاجتباء والمثوبة والعقوبة ومعرفة النقص من المزيد والقبض والبسط والحل والعقد والجمع والتفرقة إلى غير ذلك من علوم العارفين بعد حس التفقه والأدب عن مشاهدة الرقيب والقرب لصحة المواجيد والقلوب، وقال بعض التابعين: من عمل بعشر ما يعلم علمه اللَّه تعالى ما يجهل، وقد قال حذيفة: أنتم اليوم في زمان من ترك عشر ما يعلم هلك وسيأتي بعدكم زمان من عمل بعشر ما يعلم نجا، وقال بعضهم: كلما ازداد العبدعبادةً واجتهاداً ازداد القلب قوّة ونشاطاً، وكلما ملّ العبد وفتر ازداد القلب ضعفاً ووهناً، وليس يكاد علم اليقين يقدح في معدن العقل لأن علوم العقل مخلوقات ولا يكاد ينتجه الفكر ولا يخرجه التدبر فما أنتجته الأفكار واستخرجته الفطرة من الخواطر والعلوم فتلك علوم العقل وهي كشوف المؤمنين ومحمودات لأهل الدين فأما خاطر اليقين فإنه يظهر من عين اليقين ينادي به العبد مناداة ويبغته مفاجأة لأنه مخصوص به مراد مقصود به محبوب متولى به مطلوب لا يجده إلا عارف أو خائف أو محبّ ومن سوى هؤلاء فبحاله محجوب وبعاداته مطلوب وإلى مقامه ناظر وفي طريقه بمعقوله سائر فأما العارفون المواجهون بعين اليقين المكاشفون بعلم الصديقين فإنهم مسيرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 محمولون سابقون مستهترون قد وضعت الأذكار عنهم الأوزار، كما جاء في الخبر: سيروا سبق المفردون بالفتح والمفردون أيضاً بالكسر فهم مفردون للَّه تعالى بما أفردهم اللَّه تعالى كما قال جلّ ذكره: (حَاْفِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بمَا حَفِطَ اللَّهُ) النساء: 34، قيل: ومن المفردون؟ قال: المستهترون بذكر اللَّه وضع الذكر أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً، فلما أفردهم اللَّه تعالى ممن سواهم له أفردوه عما سواه به فذكرهم فاستولى عليهم ذكره فاصطلم قلوبهم نوره تعالى فاندرج ذكرهم في ذكره فكان هو الذاكر لهم وكانوا هم المكان لمجاري قدرته عزّ وجلّ فلا يوزن مقدارهذا الذكر ولا يكتب كيفية هذا البر فلو وضعت السموات والأرض في كفة لرجح ذكره تعالى لهم بهما وهم الذين قال لهم فترى من واجهته بوجهي لعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه لوكانت السموات والأرض في موازينهم لاستقللتها لهم أوّل ما أعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم وهذا هو ظاهر أوصافهم وأوّل عطاياهم فطلب هؤلاء لا يعرف ونصيبهم لا يكيف ومطلوبهم كنه قدره لا يوصف عطاؤهم غير مخلوق ومشاهدتهم وصف التحقيق بعين اليقين إلى حق اليقين فأول نصيبهم من مطلوبهم علم اليقين وهو صفاء المعرفة باللَّه تعالى وآخر علم الإيمان أول عين اليقين وهو مشاهدة وصف معروف وهذه وجهة التوحيد ولا آخر لأول علم اليقين ولا انقطاع لآخر نصيبهم من مشاهدتهم، فظاهر التوحيد توحيد اللَّه تعالى في كل شيء وتوحيده بكل شيء ومشاهدة إيجاده قبل كل شيء ولا نهاية لعلم التوحيد ولا غاية لمزيد عطاء الموحدين ولكن لهم نهايات يوقفون تحتها وغايات يصدرون عنها تجعل أماكن لمزيدهم ويزدادون في وسعها ويمدون بعلوم يطلبون بها ما يكاشفون به لما وراءها أبداً لا بديلاً آخر ولا أمد ولا يصل العبد إلى مشاهدة علم التوحيد إلا بعلم المعرفة وهونور اليقين ولا يعطي نور اليقين حتى تمخض الجوارح بالأعمال الصالحات، كمايمخضُ الزق باللبن حتى تظهر الزبدة، وهي اليقين، وليست هذه الزبدة غاية الطالبين ولا بغية الصديقين لأن وراءها صفوها وخالصها ثم تذاب هذه الزبدة حتى يخلص سمنها وهو صفوها ونهايتها وهذا مثل لعين اليقين بعد علمه وبعد مشاهدة الوجه بمرآة القرب وهي نوره فحينئذ لا يفارقه وجده وحضوره فيرفع العبد من خواطر اليقين إلى مشاهدة الصفات بعد ذوب علم الخواطر يتجوهر نور شعاع وجه الذات وهذا مقام الإحسان وإن اللَّه لمع المحسنين بعد مجاهدتهم النفوس فيه وبيعها مع الأموال منه فأحسن إليهم باشترائها منهم وكان معهم كما قال سيجزيهم وصفهم فإنما كانوا محسنين لأن المحسن معهم كما كانوا أعلين إذ الأعلى معهم فقد قال: (وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) محمد: 35 وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإحسان فقال: أن تعبد اللَّه كأنك تراه، وينتقل العبد من أعمال الجوارح وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 المجاهدة التي طرح عليه ثقلها فحملها فتحمل فيما حمل وتحفظ له ما استحفظ إلى علم اليقين وهو الروح والرضا وهذا هو هداية السبيل، وأوّل هذا كله أن يدخل العبد بعد التوبة النصوحة في أحوال المريدين وأعمال المجاهدين للنفس والعدوّ ثم ينتقل إلى خواطر اليقين فهذا ميراث المجاهدين، كما قال: (وَالَّذينَ جَاهَدُوا فِينَا) العنكبوت: 69 يعني نفوسهم وأموالهم وجاهدوا عدوّهم إذ يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء فصابرهم فغلبوه فباعوا النفوس والأموال فأعتقوا من رق الهوى ونجوا من أهوال الحساب: (لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا) العنكبوت: 69 أي لنطرقنّهم إلى مكاشفات العلوم ولنسمعنّهم غرائب الفهوم ولنوصلنّهم إلى أقرب الطرق إلينا بحسن مجاهدتهم فينا، ثم ختم الأمر بقوله تعالى: (وَإنَّ اللَّه لَمَعَ الْمحْسِنينَ) العنكبوت: 69 هذا مقام مشاهدة الصفات فكان المجاهد فيه معهم أولاً بالتوفيق فيه صبروا له بالتأييد وكان المحسن معهم آخر اليوم فيه أحسنوا إلى نفوسهم غداً.) محمد: 35 وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإحسان فقال: أن تعبد اللَّه كأنك تراه، وينتقل العبد من أعمال الجوارح وهي المجاهدة التي طرح عليه ثقلها فحملها فتحمل فيما حمل وتحفظ له ما استحفظ إلى علم اليقين وهو الروح والرضا وهذا هو هداية السبيل، وأوّل هذا كله أن يدخل العبد بعد التوبة النصوحة في أحوال المريدين وأعمال المجاهدين للنفس والعدوّ ثم ينتقل إلى خواطر اليقين فهذا ميراث المجاهدين، كما قال: (وَالَّذينَ جَاهَدُوا فِينَا) العنكبوت: 69 يعني نفوسهم وأموالهم وجاهدوا عدوّهم إذ يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء فصابرهم فغلبوه فباعوا النفوس والأموال فأعتقوا من رق الهوى ونجوا من أهوال الحساب: (لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا) العنكبوت: 69 أي لنطرقنّهم إلى مكاشفات العلوم ولنسمعنّهم غرائب الفهوم ولنوصلنّهم إلى أقرب الطرق إلينا بحسن مجاهدتهم فينا، ثم ختم الأمر بقوله تعالى: (وَإنَّ اللَّه لَمَعَ الْمحْسِنينَ) العنكبوت: 69 هذا مقام مشاهدة الصفات فكان المجاهد فيه معهم أولاً بالتوفيق فيه صبروا له بالتأييد وكان المحسن معهم آخر اليوم فيه أحسنوا إلى نفوسهم غداً. وروينا عن الحسن البصري عن رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العلم علمان، فعلم باطن في القلب فذاك هو النافع، وسئل رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن معنى قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّه أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرحْ صَدْرَهُ للإسْلام) الأنعام: 125 ما هذا الشرح؟ قال: هو التوسعة يعني: أن النور إذا قذف في القلب اتسع له الصدر وانشرح، وقال بعض العارفين: لي قلب إذا عصيته عصيت اللَّه تعالى يعني أنه لا يقذف فيه إلا طاعة ولا يقر فيه إلا حق فقد صار رسوله إليه فإذا عصاه فقد عصا المرسل بمعنى الخبر الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل وبقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن ينظر بنور اللَّه، فمن نظر بنور اللَّه كان على بصيرة من اللَّه تعالى وكان عمله بنوره طاعة تعالى، وقال بعض العارفين: منذ عشرين سنة ما سكن قلبي إلى نفسي ساعة وما ساكنته طرفة عين، وسئل بعض العلماء عن علم الباطن أي شيء هو؟ فقال: سر من سر اللَّه تعالى يقذفه في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكاً ولا بشراً. وقد روينا فيه خبراً مسنداً أحببنا أن نسنده وقد جاء رجل إلى النبي فقال: علمني من غرائب العلم فقال: هل عرفت الرب فأخبر أن غرائب العلوم في المعرفة وقد أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصل العلوم الذي فيه غرائب الفهوم فقال: اقرأوا القرآن والتمسوا غرائبه يعني تدبر معانيه واستنباط بواطنه إذ بكلامه عرفه أولياؤه وقد قيل: تكلموا تعرفوا، فمن عرف معاني الكلام ووجوه الخطاب عرف به معاني الصفات وغرائب علوم أسماء الذات، وقال ابن مسعود: من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن، وقال بعض أهل المعرفة في فهم هذه الآية: إن اللَّه يأمر بالعدل والإحسان قال: العدل تدبر القرآن وفهمه والإحسان مشاهدة الفهم، وفي تأويل قوله عليه الصلاة والسلام في صفة العدل شاهد لقوله هذا في حديثه الذي وصف فيه شعب الإيمان فقال: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، ثم قال والعدل على أربع شعب: غائص الفهم، وزهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 العلم، وروضة الحلم، وشرائع الحكم، فمن فهم فسر جمل العلم ومن علم عرف شرائع الحكم ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميداً، وقال بعض المكاشفين ظهر لي الملك: فسألني أن أملي عليه شيئاً من ذكري الخفي من مشاهدتي من التوحيد وقال: ما نكتب لك عملاً ونحن نحب أن نصعد لك بعمل نتقرب به إلى الله تعالى فقلت: أليس يكتبان الفرائض؟ قال: بلى، قلت: فيكفيهما ذلك. وقال بعض العارفين قال: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة اليقين فالتفت إلى شماله وقال: ما تقول رحمك اللَّه ثم التفت إلى يمينه فقال ماتقول رحمك اللَّه ثم أطرق إلى صدره وقال: ما تقول رحمك اللَّه ثم أجابني بأغرب جواب ماسمعته قط وأعلاه فقلت رأيتك التفتّ عن شمالك ويمينك ثم أقبلت على صدرك فماذا؟ فقال: سألتني عن مسألة لم يكن عندي فيها علم عتيد فالتفت إلى صاحب الشمال فسألته عنها وظننت أن عنده منها علماً فقال: لا أدري فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال: لا أدري فنظرت إلى قلبي فسألته فحدثني بما أجبتك وإذا هو أعلم منها، وقد كان أبو يزيد وغيره يقولون: ليس العلم الذي يحفظ من كتاب اللَّه فإذا نسي ما حفظ صار جاهلاً إنما العلم الذي يأخذ علمه من ربه عزّ وجلّ أي وقت شاء بلا تحفظ ولا درس فهذا لعمري لا ينسى علمه وهو ذاكر أبداً لا يحتاج إلى كتاب وهو العالم الرباني وهذا هو وصف قلوب الأبدال من الموقنين ليسوا واقفين مع حفظ إنما هم قائمون بحافظ. وقد روينا في الخبر: إن من أمتي محدثين ومكلمين وإن عمر منهم وقرأ ابن عباس: وما أرسلنامن قبلك من رسول ولا نبي ولامحدث يعني الصديقين وهذا كان طريق السلف من الصحابة وخيار التابيعن إذا سئلوا وفقوا وألهموا الصواب لقربهم من حسن التوقيق وسلوكهم حقيقة محجة الطريق فخاطر اليقين إذا ورد على قلب مؤمن اضطرته مشاهدته إلى القيام به وإن خفي على غيره وحكم عليه بيانه وبرهانه بصحة دليله وإن التبس على من سواه. وقد قال اللَّه تعالى في تخصيص الموقنين: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) البقرة: 118 هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون، وقال في نعت المتقين: (وَمَاَ خَلَقَ الله فِي السَّمَوَاتُ والأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقْونَ) يونس: 6 وقال تعالى: (هذَا بَيَانٌ للِنَّاسِ وَهُدًى وَموْعِظَةٌ لِلْمُتَّقينَ) آل عمران: 138 وقال في فضل العلماء: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ) العنكبوت: 49 وقال: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأنعام: 97 فحقيقة العلم إنما هو من التقوى واليقين وهذا هوعلم المعرفة المخصوص به المقربون وهب لهم الآيات وخصهم بالبيان والدلالات بما استحفظوا من كتاب اللَّه وكانوا عليه شهداء، فهذه الخواطر تبدو في القلوب عن هذه الأواسط التي هي خزائن اللَّه تعالى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 خزائن الأرض وخزائن السموات والأرض ولكنّ المنافقين لا يفقهون والفقه صفة القلب لا لسان العرب، تقول: فقهت بمعنى فهمت، وابن عباس يفسر قول اللَّه عزّ وجلّ: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا) الأعراف: 179 يقول لا يفهمون بها ويجعل الفقه الفهم فخاطر اليقين والروح والملك من خزائن اللَّه وخاطر العقل والنفس والعدوّ من خزائن الأرض كما قيل النفس ترابية خلقت من الأرض فهي تميل إلى التراب والروح روحاني خلق من الملكوت فهي ترتاح إلى العلوّ والقلب خزانة من خزائن الملكوت مثله كالمرآة تقدح هذه الخواطر عن أوساطها من خزائن الغيب فتوقد في القلب فيتلألأ فيه للتأثير، فمنها مايقع في سمع القلب، فيكون فهماً، ومنها ما يقع في بصر القلب فيكون نظراً وهو المشاهدة، ومنهاما يقع في لسان القلب فيكون كلاماً وهو الذوق، ومنها ما يقع في شم القلب فيكون علماً وهو الفكر وهو العقل المكتسب بتلقيح العقل الغريزي وهذا أقلها لبثاً وأيسرها عناء وما وقع في ناظر القلب وحسه فخرق شفافه ووصل إلى سويدائه وهو المباشرة كان وجداً وهذا هو الحال عن مقام مشاهدة، ومن هذا قوله: أسألك إيماناً يباشر قلبي. وقال بعض العارفين: إذا كان الإيمان في ظاهر القلب كان العبد محباً للآخرة وللدنيا وكان مرة مع اللَّه تعالى ومرة مع نفسه فإذا دخل الإيمان إلى باطن القلب أبغض العبد الدنيا وهجر هواه وقد قال عالمنا أبو محمد سهل رحمه اللَّه: للقلب تجويفان، أحدهما باطن وفيه السمع والبصر وكان يسمى هذا قلب القلب، والتجويف الآخر ظاهر القلب وفيه العقل، ومثل العقل في القلب مثل النظر في العين هو صقال لموضع مخصوص فيه بمنزلة الصقال الذي في سواد العين فإذا كانت هذه الخواطر عن أواسط الهداة به وهي الملك والروح كانت تقوى وهدى ورشداً وكانت من خزائن الخير ومفتاح الرحمة قدحت في قلب العبد نوراً وطيباً أدركه الحفظة وهم أملاك اليمين فأثبتوهاحسنات وإن كانت الخواطر عن أواسط الغواة وهم العدوّ والنفس كانت فجوراً وضلالاً وهي من خزائن الشر ومعالق الأعراض قدحت في القلوب ظلمة ونتناً أدرك ذلك الحفظة من أملاك الشمال فكتبوها سيئات وكل هذا إلهام وإلقاء من خالق النفس ومسويها وجبار القلوب ومقلبها حكمة منه وعدلاً لمن شاء، ومنة ً وفضلاً لمن أحب، كما قال: (وَتَمَّتْ كِلَمَةُ رَبٍّكَ صِدْقاً وَعدْلاً) الانعام: 115 أي بالهداية صدقاً لأوليائه ما وعدهم من ثوابه وبالاضلال عدلاً على أعدائه ما أعد لهم من عقابه. ثم قال تعالى: (لاَ يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلونَ) الأنبياء: 23 فهذه جنود منقادة لأمره وهو ملك جبار عزيز قهار تعالى عن مباشرة الأشياء إذا كانت تنقاد لمشيئته وتطوع لقدرته فتنفذ قدرته إرادته تظهر حكمته أفعاله إذا أراد شيئاً قال له: كن بخفي قدرته فكان بظاهر حكمته، والرب سبحانه قادر على كل شيء، بيده ملكوت كل شيء حكيم في كل شيء، والعبد ضعيف عاجز جاهل لا يقدر على شيء قد ابتلي بالأسباب ووقع عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الحجاب وجعل مكاناً للأحكام بالعقاب والثواب فالأسباب أواسط البلاء والعبد موضع الابتلاء. والأوّل سبحانه وتعالى هوالمبلي المريد المبدئ المعيد وينشئكم فيما لا تعلمون وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً وليس يشهد العبد إلا ما أشهد فكذلك تفاوت العباد في المشاهدة ولا يستبين له إلا ما أبين له وأريد به فعند ذلك اختلفوا في الأدلة فإذا أراد اللَّه عزّ وجلّ إظهار شيء من خزائن الغيب حرك النفس بلطيف القدرة فتحركت بإذنه فقدح من جوهرها بحركتها ظلمة تكتب في القلب همة سوء فينظر العدوّ إلى القلب وهو مراصد ينتظر والقلوب له مبسوطة والنفوس لديه منشورة يرى ما فيها ما كان من عمله المبتلي به المصرف فيه فإذا رأى همة قد قدحت في النفس فأثرت ظلمة في القلب ظهر مكانه فقوي بذلك سلطانه والهمة ترد على أحد ثلاث معانٍ لا تحصى فروعها لأن همة كل عبد على قدر بغيته أحدهما هوى وهو عاجل حظ النفس أو أمنيته وهذا عن الجهل الغريزي أو دعوى حركة أو سكون وهو آفة العقل ومحبة القلب، فأي هذه الثلاث قدح في القلب فهو وسوسة نفس وحضور عدوّ منسوب إليه محكوم عليه بالذم ليست تصدر إلا بأحد ثلاثة أصول بجهل، أو غفلة، أو طلب فضول دنيا، وهن مما لا يعني ومضافات إلى الدنيا وأعمالها. والأفضل مجاهدة النفس والعدوّ عن إمضائها وحبس الجوارح عن السعي فيها إن كنّ من فضول الدنيا المباحات فإن كنّ هذه الثلاث وردن بمحرّمات ففرض عليه كفّ الجوارح عن السعي فيها فإن أمرح قلبه في ذكرها أو نشر خطواته في طلبها كن حجاباً بين قلبه وبين اليقين وإن كنّ وردن بمباحات ففضل له بنفيها عن قلبه كيلا يكون قلبه موطناً للغفلات وأصلهن الابتلاء من اللَّه تعالى بالتقليب والامتحان منه في التصريف ولذلك خلق النفس والروح والموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليظهر أحسن العمل بالزهد فيها وينظر كيف تعملون فإذا أراد اللَّه تعالى سلامة هذا العبد بعد أن أشرف على الهلاك والبعد بتسليط العدوّ عليه وتسويل النفس له نظر القلب عند الابتلاء فهدى النفس بنور إيمانه إلى اللَّه تعلى فأسر الالتجاء إليه وأخفى التوكل عليه عائذاً لائذاً به واضطر مخلصاً له فهناك توكل عليه فكان حسبه وعندها فوّض إليه أمره فوقاه مكر عدوّه وحينئذ اضطر إليه واتقاه فجعل له مخرجاً ونجاه فينظر اللَّه تعالى إلى القلب نظرة تخمد النفس وتمحق الهمة وتخنس العدوّ لسقوط مكانه وتذهب لخنوسه شدة سلطانه فيصفو القلب من التأثير بنور السراج المنير ويملس من التحرير بقوّة القهار العزيز فيخاف العبد مقام الرب لصفاء القلب عن نظر الرب تعالى فيفزع من الخطيئة ويهرب أو يستغفر منها ويتوب ويظهر عليه شعار تقواه. وإن أراد الله تعالى بعبد هلكة وكان قد حكم بوقوع الشر نظر القلب بعد الهمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بهوى النفس إلى العقل فرجع العقل إلى النفس فسوّلت وطوعت فسكن العقل واطمأن إلى تسويل النفس وطوعها فانشرح الصدر بالهوى لسكون العقل وانتشر الهوى في القلب لشرح الصدر وتوسعته فقوي سلطان العدوّ لاتساع مكانه فأقبل بتزيينه وغروره وأمانيه ووعده يوحي بذلك زخرفاً من التحول وغروراً فيضعف سلطان الإيمان لقوّة سلطان العدوّ وخفاء نور اليقين فغلب الهوى لقوّة الشهوة فأحرقت الشهوة العلم والبيان فارتفع الحياء واستتر الإيمان بالشهوة فظهرت المعصية لغلبة الهوى وارتفاع الحياء، وهذان المعنيان من ظهور الخيروالشر والطاعة والمعصية فلهذه الأسباب يوجدان في طرفة عين فتصير أجزاء العبد جزأ واحداً ومفصلاته تعود بالمراد منه فصلاً واحداً كالبرق في السرعة بتغليب القدرة على المشيئة إذا قال جلّ وعلا له: (كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران: 59. وإن أراد الله تعالى إظهار خير وإلهام تقوى من خزائن الملكوت حرّك الروح بخفي اللطف فتحركت بأمره جلّت قدرته فقدح من جوهرها نور سطع في القلب همة عالية وهمة الخير ترى بأحد ثلاثة معان لا تحصى فروعها لأن كل عبد همته في الخير مبلغ علمه ومنتهي مقامه، فأحد الأصول مسارعة إلى أمر يفرض أو ندب لفضل يكون عن عمل حال العبد أو علم يكون فطنة له أظهر عليه من مكاشفة غيب من ملك أو ملكوت، والمعنى الثالث بتحمل مباح من تصرف فيما يعني مما يعود صلاحه عليه واستراحة النفس بما أبيح له يكون نفعه لغيره أو ترويحات من الأفكار لقلبه الغائص في البحار يكون حملاً لكربه وتخفيفاً لثقله، فهذه مرافق للعبد باختيار من المعبود وحكمة من الحكيم وفي كلها رضاه سبحانه وتعالى فإمضاؤها أفضل للعبد وبعضها أفضل من بعض، وهذه الأصول الستة من الخير والشر هي الفرق بين لمة الملك وبين لمة العدوّ وبين إلهام التقوى وإلهام الفجور التي هي النية والوسوسة، وهما الاختيار أو الاختبار، وقد تكون هذه المعاني مكاشفات مزيد للعبد ينظر إلى الله منها ويجد الله تعالى بما أوجده منه عندها ويكون تعريفاً من الله يتعرف إليه بها ويفتح له باب الأنس والشوق منها ثم تتفاوت العباد في مشاهدتها على حسب علوّهم في اليقين وعلى قدر قوّتهم ومكانهم من التمكين إلا أن أصول معاني الخير وأواسطها إلهام الملك والإلقاء في الروح وقوادح الأنوار في كتب الإيمان وفروعها الآخرة والعلم مما أمر به أو ندب إليه والمباح وأصول معاني الشر أضدادها أواسطها النفس والعدوّ وأسبابها الشهوة والهوى يظهرن عن الجهل ويوقعن الحجاب ويصدرن إلى عقاب. فإذا أراد الله تعالى إظهار خير من خزانة الروح حركها فسطعت نوراً في القلب فأثرت فينظر الملك إلى القلب فيرى ما أحدث الله تعالى فيه فيظهر مكانه فيتمكن على مثال فعل العدوّ في خزانة الشر، وهي النفس، والملك مجبول على الهداية مطبوع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 حب الطاعة كما أن العدو مجبول على الغواية مطبوع على حب المعصية فيلقي الملك الإلهام وهو خطوره على القلب بقدح خواطره يأمر بتقييد ذلك ويحسنه له ويحثه عليه وهذا هو إلهام التقوى والرشد وينظر الملك إلى اليقين كما ينظر العدو إلى النفس فيشهد اليقين للملك بذلك فيطمئن العقل ويسسكن إلى شهادة اليقين ويصير العقل الآن بإذن الله تعالى مع الملك بتأييد الله تعالى كما كان مع النفس أول مرة مطمئناً إليها فينشرح الصدر لطمأنينة العقل فتظهر أدلة العلم لانشراح الصدر فيقوى سلطان اليقين لصفاء الإيمان وتندرج ظلمة الهوى في نور اليقين وتنطفئ شعلة الشهوة لظهور نور الإيمان ويزين الإيمان بزينة الحياء فتضعف صفات النفس لسقوط الشهوة ويقوى القلب لضعف النفس ويزيد الإيمان بقوّة اليقين وظهور أدلة العلم فتغلب الهدايةلمزيد الإيمان ولبسة الحياء فتظهر الطاعة لغلبة الحق والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ذكر نوع آخر من البيان وقد تختلف اللمتان من الملك والعدوّ ويتفاوت الإلهام والوسوسة في المعاني من الخير والشر، فربما تقدمت لمة العدوّ بالأمر بالشر وتقدح بعدها لمة الملك نصرة للعبد وتثبيتاً على الخير وعناية من الرب تعالى فينهي عن ذلك، فعلى العبد أن يعصي الخاطر الأوّل ويطبع الخاطر الثاني، وقديتقدم إلهام الملك بالأمر بالخير ثم يقدح بعده خاطر العدوّ بالنهي عنه والتثبيط والإملاء فيه بالتأخير محنة من الله تعالى للعبد لينظر كيف يعمل وحسداً من العدوّ فعليه أن يطيع الخاطر الأوّل ويعصي الخاطر الثاني، ثم تدق الخواطر من إلهام الملك بالخير ومن وسوسة العدوّ بالشر، وقد يتفاوت ذلك من ضعف خاطر الخبر لقوّة الرغبة في الدنيا ومن قوّة خاطر الشر لقوّة الشهوة والهوى وفي المزيد والنقص منهما والتقديم والتأخير بهما لتفاوت الأحكام والإرادة من الحاكم ومن قبل تقليب القدرة وغرائب الأحكام بالمشيئة لأن له في خزانة الخير خزانة الشر إذا شاء وله في خزانة الشر خزائن الخير إذا أحب لمن يحبه لئلا يسكن إلى سواه ولا يدل العبد بما منه أبداه، فإذا شهد العارف ذلك لم يقطع بخير ولم يدل به أبداً لأنه لا يأمن مكر الله تعالى بتقليب خزائن الشر من خزائن الخير إذا عليه أبداه ولم ييأس من شر عليه أبداه لأنه يرجو تقليب خزائن الخير من خزئان الشر فيكون بين الخوف والرجاء ولا يدرك ذلك إلا بدقائق العلوم ولطائف الفهوم وغوامض الفطن وصفاء الأنوار من تعليم الرحيم الجبار، فما كان للعبد يجد بعد خطرة الشر خطرة خير منها تنهاه عنها فهو منظور إليه متدارك وهذا هو الواعظ القائم في القلب والزاجر المؤيد للعقل، وقد تترادف خواطر الشر من النفس والهوى فلا يتعاقبها خاطر خير من الملك وهذا علامة البعد ونهاية قسوة القلب، وقد تتابع خواطر الخير والبر من الروح والملك ويعافى العبد من خاطريالهوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 والنفس وهذا علامة القرب وهو حال المقربين وقد ترد خواطر العدوّ ووساوسه بالخير والبر ابتلاء من الله تعالى لعبده وحيلةً من العدوّ ومكراً من النفس يريد العدوّ بذلك الشر أو يخرجه آخر إلى إثم أو خير ليقطعه بذلك عن واجب أو يشغله به عن الأفضل في الحال فيكون ظاهره براً وباطنه إثماً ويكون أوّله خيراً وآخره إثماً، وبغية العدوّ من ذلك باطنه وآخره، وشهوة النفس في ذلك هواها ومناها قد لبسا ظاهره بالخير تزييناً وموّها أوّله بالبر تحسيناً وهذا من أدق ما يبتلى به العاملون ولا يعرف بواطنه وسرائره إلا العالمون. فأما خاطر الملك فلا يرد إلا بخبر صريح وبر محض على كل حال إذا ورد لأن الخداع والحيلة ليس من وصف الملائكة ولكن قد تنقطع خواطر الملك من القلب إذا اشتدت قسوته ودامت معصيته من المتعبدين فيخلى بين القلب وبين نوازع العدوّ اللعين ويتخلى العدوّ بهوى النفس فيستحوذ ويقترن بالعبد نعوذ بالله من إبعاده وعدم خيره وإرشاده ولايزال العبد مع إلهام الملك في مقام الإيمان، فإذا رفع إلى مقام اليقين تولاه الله تعالى بواسطة أنوار الروح، فكان الروح مكان إلقاء الحق حتى يرد عليه من الله تعالى بواسطة أنوار الروح، من السرائر ما لا يطلع عليه الملك ولا يكون ذلك حتى تفنى خواطر النفس بالهوى ولا تبقى منها باقية، وتطوى النفس فتندرج في الروح فلا يظهر منها داعية ثم يتولاه الله تعالى بنور اليقين فيسطع له نور اليقين من خزانة الغيب المحجوب بمكاشفات الجبروت فيشهد العبد شهادة الحق بالحق معاينة الغيب بفقد كونه ووجد كينونته وما لا يصلح بعد ذلك كشفه إلا لأهله أو لمن سأل عنه، وهذا يكون في مقام التوحيد وهذا أنصبة المقربين. ذكر بيان آخر من تفصيل المعاني وكل عمل وإن قل لا بدَّ فيه من ثلاثة معانٍ قد استأثر الله تعالى بتوليها أوّلها التوفيق وهو الإتفاق أن يجمع بينك وبين الشيء ثم القوّة وهو اسم لثبات الحركة التي هي أوّل العقل ثم الصبر وهو تمام الفعل الذي به يتم، فقد رد الله عزَّ وجلَّ هذه الأصول التي يظهر عنها كل عمل إليه، فقال سبحانه: (وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بالله) هود: 88، وقال: (مَا شاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ) الكهف: 39، وقال عزّ وجلّ: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاّ بِالله) النحل: 127، وقد أجمل الله عزّ وجلّ ذكر تقليب الكون بمشيئته في قوله تعالى: (يُقَلِّبُ الله اللَّيْلَ والنَّهَارَ) النور: 44، والمعنى بما فيهما لأنهما ظرفان للأشياء فعبر عنهما بهما كقوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهَارَ) سبأ: 33، والمعنى مكركم في الليل والنهار فعبر بهما عن مكرهم لأنهما مكان لمكرهم، وكذلك قوله تعالى: (وَلَهُ ما سَكَنَ في اللَّيْل والنَّهَارِ) الأنعام: 13 فيها وجهان أحدهما أي ما أقام من السكن والثاني ما سكن من السكون وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ذكر السكون دون الحركة لأنه هو الأصل حتى تحرك وهو الأقرب إلى العجز والعدم والتحريك حادث جارٍ بأحداث الله تعالى وإجرائه، ويجوز أيضاً ذكر السكون ليستدل به على الحركة لأنه ضدها، كما قال الله تعالى: (سَرَابيلَ تَقيكُمُ الْحَرَّ) النحل: 81 وهي أيضاً تقي البرد فذكر أحد الوصفين ليستدل به على الآخر. وقال سبحانه: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهمْ) الأنعام: 110، وكان قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ومقلب القلوب لما شهد من عظيم القدرة ولطيف الصنع في التقليب، ولما رأى من سرعة نفاذ القدرة بالمراد في المقلبات مما لم يشهد سواه فجعله قسماً له تعظيماً لقدرة المحلوف به وخوفاً من سابق العلم بالتقليب فكان يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قالوا له: وتخاف يا رسول الله؟ قال وما يؤمنني والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وفي لفظ حديث آخر: إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وقد روي عنه: مثل القلب مثل العصفور في تقلبه يتقلب في كل ساعة، وفي خبر آخر: مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استجمعت غلياً والخبر المشتهر مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهر البطن، فالقلب مكان للتقليب بما فيه من خزائن الغيب كالليل والنهار مكان للأحكام بالتصريف من اختلاف الأزمان في الأوقات والإيمان بتقليب القلوب وبأن المقلب يحول بين القلب وبين صاحبه واجب. وقد قرن الله عزّ وجلّ الإيمان بالبعث الأمر بهما في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الأنفال: 24، وفسره ابن عباس فقال: يحول بين المؤمن وبين الكفر ويحول بين الكافر وبين الإيمان وقيل يحول بين العبد وبين الاستجابة لله تعالى والرسول وقيل: يحول بين المؤمن وبين سوء الخاتمة وبين الكافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وبين حسن الخاتمة وقيل يحول بين المؤمن وبين أن يلقيه في كبيرة يهلك فيها وبين المنافق وبين أن يوفقه لطاعة فينجو بها ويحول بين الموحد وبين الخاتمة بالتوحيد، وهذه مخاوف للمؤمنين بتحقيق الوعيد وكذلك الكون بأسره عند الموحدين في القدرة بالتقليب كمثل ريشة في ريح عاصف تقلبه القدرة على مشيئة القادر وليس في القدرة ترتيب ولا مسافة ولا بعد ولا يحتاج إلى زمان ولا مكان، فما ظهر من الملك وثبت للعيون بمكان وزمان فلأجل الحكمة والصنعة والإتقان وما خفي من الملكوت وتقلب ببصائر القلوب فبلطف القدرة وقهر السلطان ونصيب كل عبد من مشاهدة القدرة بقدر نصيبه من التوحيد ونصيبه من التوحيد حسب قسمه من اليقين وقسمه، من اليقين على قربه من القريب وقربه علي حسب قرب الله تعالى من قلبه وقرب الله تعالى منه بقدر علمه بالله تعالى واتساعه في العلم بالله عزّ وجلّ على نحو مكانه من مزيد الإيمان ومزيد إيمانه على قدر إحسان الله تعالى إليه وإحسانه إليه على قدر عنايته به وإيثاره له وعلم الله من وراء ذلك وذاك سر القدرة المحجوب المخزن ونصيب كل عبد من الجهل على قدر نصيبه من الغفلة ونصيبه من الغفلة على حسب حب الدنيا وحبه للدنيا على قدر قوّة الهوى وقوّة الهوى على قدر غلبة سلطان النفس ونشر صفاتها عليه وقوّة صفات النفس على قدر ضعف اليقين وضعف يقينه على كثافة الحجاب والبعد بينه وبين الله عزّ وجلّ والحجاب والبعد ميراثه الكبر وقسوة القلب والقسوة تورث الانهماك في المعاصي وإدمان المعاصي عن الإعراض والمقت، والإعراض والمقت، من قلة عناية المولى بعبده وسوء نظره له، ومن وراء ذلك سر القدر الذي به عن الخلق قد استأثره، فهذه الأوصاف المذمومة العبد مبتل بها على تضاد تلك الصفات المحمودة التي هي من المنعم بها ولكل وجهة هو موليها ومكان الهوى من القلب على قدر تزيين العدوّ له وتسليطه عليه، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، (إنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فلا غَالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِه) آل عمران: 160، وان يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله، فإذا كان الهادي هو المضلّ فمن يهدي؟. وقد قال تعالى: (فإِنَّ الله لا يَهْدي مَنْ يُضِلُّ) النحل: 37 أي فإن الله من شأنه أن أحداً لا يهدي من أضله ومن كان أضله الله في سابق علمه فكيف يهديه الآن، كذلك قال على الحرف الآخر فإن الله لا يهدي من يضلّ فإذا كان المعطي هو المانع فمن يعط ولو كان الخير كله في قلب عبد ما قدر أن يوصل إلى قلبه من قلبه ذرة ولا استطاع أن ينفع نفسه بنفسه خردلة لأن قلبه وان كان جارحته فهو خزانته وله فيه ما لا يعلم هو فهو لا يطلع على ما فيه كما قال معجباً لمن جهله وأضله أطّلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً فكيف به أن يملك ما فيه فيصرفه بما يحب، وقد قال: سبحان مصرف القلوب وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 خاطب الله تعالى سيد البشر وأمره أن يخبر فقال: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً ولا ضَرَّا إلاَّ مَا شاءَ اللهُ) الأعراف: 188، ثم قال بعد ذلك: (قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ ضُرًّا ولا رشَداً) الجن: 21، ثم قال بعد ذلك: (قُلْ إنّي لَنْ يُجيرني مِن اللهِ أحَدٌ ولنْ أجِدَ مِنْ دُونِه مُلْتَحَداً) الجن: 22، وإذا كان المالك عزيزاً جباراً وكان كل شيء بيده لم يوصل إلى ما عنده بقوة ولا حيلة فليس الطريق إليه إلا الصدق والإخلاص والذل والافتقار وقد حجب العقل المكيد عن النظر إلى المبدئ المعيد بما أظهر له من صورته وحركته فستره عن الأول المصوّر وعن القادر المحرّك فادّعى عن نظره إلى حركته وسكونه التي هي حجة له عن المحرّك لغيب ادعاء الحركة والسكون بنفسه لوقوف نظره على نفسه إذ كان مشهوداً وعمي عن النظر إلى الشاهد المحرّك المسكن لبعد مقامه لأنه غيب من وراء الحركة والغيب لا يشهد إلا بغيب وهو اليقين كما لا تدرك الشهادة إلا بشهادة وهي العين فمن عمي بصره لم يرَ من الملك شيئاً كذلك من حجب قلبه لم يرَ من الملك شيئاً، فلعدم اليقين عمي عند المشاهدة ولإيقاع الحجة والحجاب أدرك بالمعقول الشهادة، ولو كان من أولي البصائر لاعتبر الحركة الغيبية بالمتحرك المشاهد فكما أن الحركة غيب في الجسم ظهر عنها المتحرك فأظهر سبحانه المتحرك وأخفى الحركة فيه وأظهر الصنعة وأخفى الصنع فيها لتفصيل حكمته كذلك الصانع ذو الصنعة الأول والحاكم الأعلى ذو الحكمة الأغلب غيب عن الحركة التي أخفاها هو من ورائها بلطائف القدرة فشهد المعقول ما أشهدهما أظهر له ووجه به لأنه معقول عليه محدود له وعمي عما غيب عنه لفقد اليقين منه فعندهما ادّعى الحركة والسكون للشاهد فحجبه ذلك عن الشهيد وشهد الموحد بشهادة التوحيد فوجد لما كشف له الملكوت بنور اليقين فأفرد، وقد قال بعض العارفين: من نظر في توحيده إلى عقله لم ينجه توحيده من النار ومن كان توحيده في الدنيا معلقاً بمعقوله لم يحمل توحيده معه لي اليقين أحسب أن هذا إيمان الذي يقال أخرجوا من النار من كان في قلبه وزن مثقال من إيمان فما زاد على هذا المقدار فهو متصل باليقين وهو مؤيد بالروح يمده روح التأييد فلا ينطفئ فهو المزحزح عن النار وقد قال بعض علمائنا: من ظن أنه يصل إلى الله بغير الله تعالى قطع به، ومن استعان على عبادة الله تعالى بنفسه وكل إلى نفسه، ثم إن الخلق محجوبون بعد هذا الحجاب بثلاثة حجب بعضها أكثف من بعض أحدها أواسط وأسباب معترضة وشهوات جاذبة وعادات راجعة صادرة، فالأسباب توقفهم عليها والشهوات تجذبهم إليها والعادات تردهم فيها، فأي هذه الحجب ظهر في القلب وبعضها أشد عليه من بعض فهو مكان للعدوّ أوسع من مكان فتمكن سلطانه على قدر سعة مكانه فقويت النفس بتزيين العدوّ وسوّلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 بتأميلها فملكت العبد ملكاً أشد من ملك، فإذا ملكت النفس العبد كان مملوكها وأسيرها وكانت بالهوى أميرة فاستهواه الشيطان حينئذ بالغواية والإضلال واستحوذ عليه بمعاني المشاركة في الأولاد والأموال، فشغله بذلك عن الله سبحانه وتعالى وأنساه ذكر الله عزّ وجلّ، وهذا هو الاقتران الذي ذمه الله تعالى في قوله: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَريناً فَسَاءَ قَريناً) النساء: 38 وهو فوق النزغ الهمز والخاطر بعد الهمة وهو خطور العدوّ على القلب بالوسوسة يزين الهمة ويملي للعبد ويرجيه ويفسح له في أمله ويمنيه بالتوبة حتى تهون عليه المصية ويعده بعدها بالمغفرة حتى يجرئه على الخطيئة وهذا هو الوعد بالغرور وبعده الهلاك والثبور، كما قال يعدهم أي التوبة ويمنيهم المغفرة وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، وهذا كله تصديق ظن العدوّ بالعبد واتباع العبد له بالهوى عن مقام البعد وكشف لعلم الله تعالى بإظهار الحكم وإنفاذ المشيئة وهو الابتلاء بالأسباب فصار العدوّ سبباً لقوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْليسُ ظَنَّهُ فاتَّبعُوهُ إلاَّ فَريقاً مَنَ الْمُؤْمنينَ) سبأ: 20، ثم أحكم ذلك بسابق علمه فقال (وما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطان) سبأ: 21، يعني بحوله وقوّته وبقهره ومشيئته إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك أي لنرى وقيل لنعلم العلم الذي يجازي عليه بالثواب والعقاب وقيل: لنختبر ونكشف وقيل: لنعلم المؤمنين ذلك فيستبين لهم ويعلم من عمل تلك الأعمال التي ظهرت منه فتوقع عليه بذلك الحجة ويتبين له كذبه كما قال: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ) العنكبوت: 3، فعلى هذه المعاني مجاز كل ما في كتاب الله عزّ وجلّ من قوله لنعلم وحتى نعلم إذ كان علمه تعالى قد سبق المعلومات وإذا كانت الأشياء عن علمه بعلمه جاريات فجعل تسليط العدوّ بسلطانه كشفاً وإظهاراً لما أخفاه من سابق علمه كما جعل أفعال العباد الظاهر كشفاً وإظهاراً لإرادته الباطنة، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبق العلم وجفّ القلم وقضى القضاء وتم القدر بالسعادة من الله تعالى لأهل طاعته وبالشقاء من الله تعالى لأهل معصيته. ذكر تقسيم الخواطر وتفصيل أسمائها فأما تسمية جملة الخواطر فما وقع في القلب من علم الخبر فهو إلهام وما وقع من علم الشر فهو وسواس وما وقع في القلب من المخاوف فهو الحساس وما كان من تقدير الخير وتأميله فهو نية وما كان من تدبيرالأمور المباحات وترجيها والطمع فيها فهو أمنية وأمل وما كان من تذكرة الآخرة والوعد والوعيد فهو تذكر وتفكير وما كان من معاينة الغيب بعين اليقين فهو مشاهدة وما كان من تحدث بمعاشها وتصريف أحوالها فهو هم وما كان من خواطر العادات ونوازع الشهوات فهو لمم، ويسمّى جميع ذلك خواطر لأنه خطور همة نفس أو خطور عدوّ بحسد أو خطرة ملك بهمس، ثم إن ترتيب الخواطر المنشأة من خزائن الغيب القادحة في القلب على ستة معانٍ، وهذه حدود الشيء المظهر ثلاثة منها معفوة وثلاثة منها مطالب بها، فأول ذلك الهمة وهو ما يبدو من وسوسة النفس بالشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 يجده العبد بالحس كالبرقة فإن صرفها بالذكر امتحت وإن تركها بالغفلة كانت خطرة وهو خطور العدوّ بالتزيين وإن نفى الخاطر ذهب وإن ولي عنه قوي فصار وسوسة وهذا محادثة النفس للعدوّ وإصغاؤها إليه وإن نفى العبد هذه الوسوسة بذكر الله خنس العدوّ وصغت النفس، وهذه الثلاث معفوة برحمة الله تعالى غير مؤاخذ بها العبد وإن أمرج العبد النفس في محادثة العدوّ وطاولت النفس العود بالإصغاء والمحادثة قويت الوسوسة فصارت نية فإن أبدل العبد هذه النية بنية خير فاستغفر منها وتاب وإلا قويت فصارت عقداً فإن حلّ هذا العقد بالتوبة وهو الإصرار والأقوى فصار عزماً وهو القصد. وهذه الثلاثة من أعمال القلب مأخوذ بها العبد ومسؤول عنها فإن تداركه الله تعالى بعد العزم وإلا تمكن العزم فصار طلباً وسعياً وأظهر العمل على الجوارح من خزائن الغيب والملكوت فصار من أعمال الجسم في خزانة الملك والشهادة، فهذه الأعمال توجد من أعمال البر والإثم، فما كان منها من البر همة ونية وعزماً كان محسوباً للعبد في باب النيات مكتوباً له في ديوان الإرادة له به حسنات وما كان منها من الشر نية وعقداً وعزماً فعلى العبد فيه مؤاخذه من باب أعمال القلوب ونيات السوء وعقود المعاصي وليس شيء مجانس للعدوّ مؤاخٍ له إلا النفس جمع الله تعالى بينهما في الوسوسة بقوله: (الوَسْواسِ الخَنَّاس) الناس: 4، وقوله: (ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بهِ نَفْسُهُ) ق: 16، وكل شيء خلقه الله تعالى فله مثل وضد، فمثل النفس الشيطان وضدهما الروح، ثم إن أعمال الجوارح من النوعين الطاعة والمعصية أعظم في الأجر والوزر معاً إلا ما لا يتأتى أن يعمله بظاهر الجسم من شهادة التوحيد أو وجود شك أو كفر أو اعتقاد بدعة. باب آخر من البيان والتفصيل فأما ما كان من لائح يلوح في القلب من معصية ثم يتقلب فلا يلبث فهذا نزغ من قبيل العدوّ وما كان في القلب من هوى ثابت أو حال مزعج دائم لابث فهو من قبل النفس الأمارة بطبعها أو مطالبة منها بسوء عادتها وما ورد على العبد من همه بخطيئة ووجد العبد فيها كراهتها، فالورود من قبل العدوّ والكراهة من قبل الإيمان وما وجده العبد وجداً بهوى أو معصية ثم ورد عليه المنع من ذلك فالوجد من النفس والوارد بالمنع من الملك وما وجده العبد من فكر في عاقبة الدنيا أو تدبير الحال ونظر إلى معهود فهذا من قبل العقل وما وجد من خوف أو حياء أو ورع أو زهد أو من شأن الآخرة فهذا عن الإيمان وما شهد القلب من تعظيم أو هيبة أو إجلال أو قرب فهذا من اليقين وهو من مزيد الإيمان وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه كما قال صاحب الأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعوذ بك وإنما هذا تفصيل الحدود وإظهار المكان وإحكام العلم كما قال تعالى: (وَكُلَّ شَيء فصَّلْنَاه تَفْصيلاً) الإسراء: 12، وقال: (قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ) الأنعام: 97، وليس في التوحيد ولا في المشاهدة تفكر ولا في الإشارة عيان ولا في القدرة ترتيب ولكن لا بدّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 من علم التفصيل لا عن التوحيد وهو التفرقة بلسان الشرع عن عين الجمع لإظهار الطرق واستنارة السبل وتطريق السالكين وترتيب العاملين ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حي عن بيّنة والله غالب على أمره، وقد فصل بعض العلماء أعمال العباد وفرق بين الأمر والإرادة فقال: إن أعمال العباد لا تخلو من ثلاثة أنواع: فرض وفضل ومعصية، قال: فنقول إن الفرض بأمر الله تعالى ومحبة الله ومشيئة الله، تجتمع هذه المعاني الثلاثة في الفرائض قال: ونقول إن النفل لا بأمر الله لأنه لم يوجبه ولم يعاقب على تركه ولكن بمحبة الله ومشيئته جلّ وعلا أي لأنه شرعه وندب إليه فقال: ونقول إن المعصية لا بأمر الله لأنه لم يشرعها على ألسنة المرسلين ولا بمحبة الله لأنه قد كرهها إذ لم يأمر بها ولم يندب إليها ولكن بمشيئة الله جلّت عظمته أن لا يخرج شيء من إرادته كما لم يخرج شيء من علمه، والإرادة والمشيئة اسمان بمعنى واحد فقد دخل كل شيء فيها كما دخل كل شيء في العلم فالله سبحانه عالم بما أراده وقد سبق به علمه كذلك هو مريد لما علمه أظهرت إرادته سابق علمه وكشف علم الغيب بظهور إرادته الشهادة فهو عالم الغيب والشهادة فالغيب علمه والشهادة معلومة فكيف يخالف المعلوم العلم وهو إجراؤه والإرادة نفذت العلم في معلومات الخلق وهذا فرض التوحيد فخرجت النوافل عن الأمر خرجت المعاصي عن المحبة في تفصيل الأحكام، وتبين الحلال والحرام ولم تخرج معصية عن مشيئة، وقد قال الله جلّ ثناؤه: (وَكُلُّ صَغيرٍ وَكَبيرٍ مُسْتَطَرٌ) القمر: 53، وقد قال رسول الله: كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس فذكر عرضين لطيفين هما سببا المنع والعطاء وقد فرق عالمنا بين الأمر والإرادة فرقاً لطيفاً فحدثني بعض أصحابنا أنه سئل عن قول الله عزّ وجلّ لما أمر إبليس بالسجود لآدم أراد منه ذلك أم لا فقال أراده ولم يرده منه يعني أراده شرعاً وإظهاراً وعليه إيجاباً ولم يرده منه وقوعاً ولا كوناً إذ لا يكون إلا ما إراد الله تعالى إذ لو أراد كونه لكان ولو أراده فعلاً لوقع لقوله تعالى: (إنَّمَا أَمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) يس: 82، فلما لم يكن علمت أنه لم يرده، فقد كان الأمران معاً إرادته بالتكليف والتعبد وإرادته بأن لا يسجد كما لم يقدر من أن يمتنع من أن يؤمن، فكذلك القول في نهيه لآدم عن أكل الشجرة إنه أراد الأكل منه ولم يرده له أي أراده وقوعاً وكوناً لأنه قد وجد وكان كقوله إذا أردناه أن نقوله له كن فيكون فلما كان علمت أنه أراده ولم يرده شرعاً ولاأمراً لأنه لم يأمره به ولاشرعه له فقد كان الأمران جميعاً إرادته أن يكون العبد مكلفاً مأموراً وإرادته الأكل منه لأنه قد كان وكذلك القول في كل ما أمر به وأراده إنه أراد الأمر والنهي لهم ليكونوا مكلفين متعبدين ولم يرده ممن لم يكن منه الائتمار والانتهاء لأنه قال تعالى: (إنَّما قَوْلُنا لِشَيْء إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لًَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل: 40، فأخبر أنه إذا أراد شيئاً كونه كما أنه إذا كوّن شيئاً فقد أراده بدلالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 كونه، فلما لم يمكن الأمر من العاصين علمنا أنه لم يرده إذ لو أراده كان، ولما كان النهي من المأمورين علمنا أنه أراد كونه إذ لو لم يردْهُ لم يكن، فصار كون الشيء دليلاً على إرادته، وقد وقعت الإرادة بالأمر والنهي فكان الكل مأمورين منتهين ولم يقع الفعل من الكل لأنه لم يرد وقوعه إذ لو أراده كان وهذا أصل الابتلاء وإرادة ظهور البلاء، يأمر الله تعالى بالشيء ويريد كون ضده وقد أراد الأمر به حسب وينهى عن الشيء ويريد كونه وقد أراد النهي عنه فقط، وقد كان عالمنا أبو الحسن رحمة الله عليه يتكلم في علم الأمر والخير وفي الابتلاء والقهر بمعانٍ لا يهتدى إليها اليوم ولا يسأل عنها أحد أي يظهر الأمر بالترك ويظهر النهي بالفعل ويظهر الأحكام لوقوع البلاء ويقهر الجوارح بالجبر على إرادته للابتلاء وقد فرق الحسن البصري رحمه الله قبله وهو إمامنا في هذا العلم بين التعذيب على جريان العلم ومخالفة الأمر لما بلغه أن عمرو بن عبيد وهو إمام المعتزلة اليوم وإليه نسبوا لما اعتزل عن الحسن البصري بعد أن صحبه ولم يختم له بصحبته بلغه أنه يقول إنّ الله لا يقضي بالشيء ثم يعذب عليه فقال له: ويلك إن اللّّه عزّ وجلّ لا يعذب على جريان حكمه وإنما يعذب على مخالفة أمره، تفسير ذلك أن ما حكمه الله تعالى منفرداً به لم يجعل فيه أمراً ولا نهياً لا يعذب عليه لأنه لم يجعل للعبد مدخلاً فيه بشهوة ولا فعل وإن ما قضاه على العبد مما أدخله فيه بقصده وشهوته عذبه عليه وهذا من شؤم النفس وتكدير الخلق أنها إذا أدخلت في شيء انقلب عليها شره والأمة مجتمعة على قول ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن واجتمعت على قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، فهذا عام في كل شيء ليس في بعض الأشياء دون بعض والحول في اللغة هو الحركة والعرب تقول للشخص يبدو من بعيد يظن أنه إنسان أو شجرة أو صخرة انظروا إليه فإن كان يحول فهو إنسان أي يتحرك والقوّة هو الثبات بعد الحركة وهو أول الصبر حتى يظهر الفعل بقوّة الله تعالى، وقد روينا في تفسير ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا حول عن معصية الله إلا بعصمة اللهّ ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون الله. ة كونه، فلما لم يمكن الأمر من العاصين علمنا أنه لم يرده إذ لو أراده كان، ولما كان النهي من المأمورين علمنا أنه أراد كونه إذ لو لم يردْهُ لم يكن، فصار كون الشيء دليلاً على إرادته، وقد وقعت الإرادة بالأمر والنهي فكان الكل مأمورين منتهين ولم يقع الفعل من الكل لأنه لم يرد وقوعه إذ لو أراده كان وهذا أصل الابتلاء وإرادة ظهور البلاء، يأمر الله تعالى بالشيء ويريد كون ضده وقد أراد الأمر به حسب وينهى عن الشيء ويريد كونه وقد أراد النهي عنه فقط، وقد كان عالمنا أبو الحسن رحمة الله عليه يتكلم في علم الأمر والخير وفي الابتلاء والقهر بمعانٍ لا يهتدى إليها اليوم ولا يسأل عنها أحد أي يظهر الأمر بالترك ويظهر النهي بالفعل ويظهر الأحكام لوقوع البلاء ويقهر الجوارح بالجبر على إرادته للابتلاء وقد فرق الحسن البصري رحمه الله قبله وهو إمامنا في هذا العلم بين التعذيب على جريان العلم ومخالفة الأمر لما بلغه أن عمرو بن عبيد وهو إمام المعتزلة اليوم وإليه نسبوا لما اعتزل عن الحسن البصري بعد أن صحبه ولم يختم له بصحبته بلغه أنه يقول إنّ الله لا يقضي بالشيء ثم يعذب عليه فقال له: ويلك إن اللّّه عزّ وجلّ لا يعذب على جريان حكمه وإنما يعذب على مخالفة أمره، تفسير ذلك أن ما حكمه الله تعالى منفرداً به لم يجعل فيه أمراً ولا نهياً لا يعذب عليه لأنه لم يجعل للعبد مدخلاً فيه بشهوة ولا فعل وإن ما قضاه على العبد مما أدخله فيه بقصده وشهوته عذبه عليه وهذا من شؤم النفس وتكدير الخلق أنها إذا أدخلت في شيء انقلب عليها شره والأمة مجتمعة على قول ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن واجتمعت على قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، فهذا عام في كل شيء ليس في بعض الأشياء دون بعض والحول في اللغة هو الحركة والعرب تقول للشخص يبدو من بعيد يظن أنه إنسان أو شجرة أو صخرة انظروا إليه فإن كان يحول فهو إنسان أي يتحرك والقوّة هو الثبات بعد الحركة وهو أول الصبر حتى يظهر الفعل بقوّة الله تعالى، وقد روينا في تفسير ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا حول عن معصية الله إلا بعصمة اللهّ ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون الله. وهذا التفصيل في هذه المعاني من الأحكام هو ظاهر العلم وفرض القدر وفحوى التنزيل والشرع والجبر للملك الجبار يجبر خلقه على ما شاء كما خلقهم لما شاء ويردهم إلى ما شاء كما ينشئهم فيما يشاء فالحكم لله العلي الكبير الواحد القهار يقهر عباده كيف شاء ويجري عليهم ما يشاء وله الحجة البالغة والعزة القاهرة والقدرة النافذة والمشيئة السابقة بوصف الربوبية وبحكم الجبرية وعليهم الاستسلام والانقياد والطاعة والاجتهاد طوعاً وكرهاً بوصف العبودية وبحق الملكة إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم إن تعذبهم فإنهم عبادك وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين، (للهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) الروم: 4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الفصل الحادي والثلاثون كتاب العلم وتفضيله وأوصاف العلماء وذكر فضل علم المعرفة على سائر العلوم وكشف طرق العلماء من السلف الصالح وذكر بيان تفضيل علوم الصمت وطريق الورعين في العلم والفرق بين العلم الظاهر والباطن وبين علماء الدنيا والآخرة وفضل أهل المعرفة على علماء الظاهر وذكر علماء السوء الآكلين بعلومهم الدنيا ووصف العلم وطريق التعليم وذم ما أحدثه المتأخرون من القصص والكلام وباب ذكر ما أحدث الناس من القول والفعل فيما بينهم مما لم يكن عليه السلف وبيان فضل الإيمان واليقين على سائر العلوم والتحذير من الرأي. وذكر معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب العلم فريضة على كل مسلم وفي الحديث الآخر اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم، قال عالمنا أبو محمد سهل رحمه الله: أراد بذلك علم حال يعني علم حال العبد من مقامه الذي أقيم فيه بأن يعلم أحدكم حاله الذي بينه وبين الله عزّ وجلّ في دنياه وآخرته خاصة فيقوم بأحكام الله تعالى عليه في ذلك، وقال بعض العارفين معناه طلب علم المعرفة وقيام العبد بحكم ساعته وما يقتضي منه في كل ساعة من نهاره، وقال بعض علماء الشام إنما عنى به طلب علم الإخلاص ومعرفة آفات النفس ووساوسها ومعرفة مكايد العدو وخدعه وغروره وما يصلح الأعمال ويفسدها فريضة كله من حيث كان الإخلاص في الأعمال فريضة ومن حيث أعلم بعداوة إبليس ثم أمر بمعاداته وذهب إلى هذا القول عبد الرحيم ابن يحيى الأرموي ومن تابعه، وقال بعض البصريين في معناه: طلب علم القلوب ومعرفة الخواطر وتفصيلها فريضة لأنها رسل الله تعالى إلى العبد ووسواس العدوّ والنفس فيستجيب لله تعالى بتنفيذ ما منه إليه ومنها ابتلاء الله تعالى للعبد واختبار تقتضيه مجاهدة نفسه في نفيها ولأنها أول النية التي هي أول كل عمل وعنها تظهر الأفعال وعلى قدرها تضاعف الأعمال فيحتاج أن يفرق بين لمة الملك ولمة العدوّ وبين خاطر الروح ووسوسة النفس وبين علم اليقين وقوادح العقل ليميز بذلك الأحكام، وهذا عند هؤلاء فريضة وهو مذهب مالك بن دينار وفرقد السنجي وعبد الواحد بن زيد وأتباعهم من النساك وقد كان أستاذهم الحسن البصري يتكلم في ذلك وعنه حملوا علوم القلوب، وقال عباد أهل الشام معناه طلب علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الحلال فريضة إذ قد أمر الله تعالى به وأجمع المسلمون على تفسيق آكل الحرام، وقد جاء في خبر مفسر طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ومال إلى هذا القول إبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط ووهيب بن الورد وحبيب بن حرب. وقال بعض هذه الطائفة من أهل المعرفة: معناه طلب علم الباطن فريضة على أهله قالوا وهذا مخصوص لأهل القلوب ممن استعمل به واقتضى منه دون غيره من عوام المسليمن ولأنه جاء في لفظ الحديث: تعلموا اليقين فمعناه اطلبوا علم اليقين وعلم اليقين لا يوجد إلا عند الموقنين وهو من أعمال الموقنين المخصوص في قلوب العارفين وهو العلم النافع الذي هو حال العبد عند الله تعالى ومقامه من الله تعالى كما شهد له الخبر الآخر في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعلم باطن في القلب وهو العلم النافع فهذا تفسير ما أجمل في غيره، وقال جندب: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعلمنا الإيمان ثم يعلمنا القرآن فازددنا إيماناً وسيأتي زمان قوم يتعلمون القرآن قبل الإيمان يعين تعلمنا علم الإيمان وهذا مذهب نساك أهل البصرة، وقال بعض السلف: إنما معناه طلب علم ما لم يسع جهله من علم التوحيد وأصول الأمر والنهي، والفرق بين الحلال والحرام إذ لا غاية لسائر العلوم بعد ذلك وكلها يقع عليه اسم علم من حيث هي معلومات ثم قد أجمعوا أن ليس تعليم ما زاد على ما ذكرناه فرضاً وإنما فيه فضل أو ندب، وقال بعض فقهاء الكوفة: معناه طلب علم البيع والشراء والنكاح والطلاق وإذا أراد الدخول فيه افترض عليه مع دخوله في ذلك طلب علمه لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يتجر في سوقنا هذا إلا من تفقه وإلا أكل الربا شاء أم أبى وكما قيل تفقه ثم اتجر ومال إلى هذا سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابهما، وقال بعض المتقدمين من علماء خراسان: هو أن يكون الرجل في منزله فيريد أن يعمل شيئاً من أمر الدين أو يخطر على قلبه مسألة الله سبحانه وتعالى فيها حكم وتعبد وعلى العبد في ذلك اعتقاد أو عمل فلا يسعه أن يسكت على ذلك ولا يجوز له أن يعمل فيه برأيه ولا يحكم بهواه فعليه أن يلبس نعليه ويخرج فيسأل عن أعلم أهل بلده فيسأله عن ذلك عند النازلة فهذا فريضة وحكي هذا القول عن ابن المبارك وبعض أصحاب الحديث. وقال آخرون: يعني طلب علم التوحيد فرض وإنما اختلفوا في كيفية الطلب وماهية الإصابة، فمنهم من قال من طريق الاستدلال والاعتبار، ومنهم من قال من طريق البحث والنظر، ومنهم من قال من طريق التوفيق والأثر، وقالت طائفة من هؤلاء: إنما أراد طلب علم الشبهات والمشكلات إذا سمعها العبد وابتلى بها وقد كان يسعه ترك الطلب إذا كان غافلاً عنها على أصل التسليم ومعتقد جملة المسلمين لا يقع في وهمه ولا يحيك في صدره شيء من الشبهات فيسعه ترك البحث فإذا وقع في سمعه شيء من ذلك ووقر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قلبه ولم يكن عنده تفصيل ذلك وقطعه ومعرفة تمييز حقه من باطله لم يحل له أن يسكت عليه لئلا يعتقد باطلاً أو ينفي حقاً فافترض عليه طلب ذلك من العلماء به فيستكشفه حتى يكون على اليقين من أمره فيعتقد من ذلك الحق وينفي الباطل ولا يقعد عن الطلب فيكون مقيماً على شبهة فيتبع الهوى أو يكون شاكاً في الدين فيعدل عن طريق المؤمنين أو يعتقد بدعة فيخرج بذلك عن السنة ومذهب الجماعة وهو لا يعلم، ولهذا المعنى كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم أرنا الحق حقاً فنتبعه وأرنا الباطل باطلاً فنجتنبه ولا تجعل ذلك متشابهاً علينا فنتبع الهوى، وهذا مذهب أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وداود بن علي والحسين الكرابيسي والحرث بن أسد المحاسبي ومن تابعهم من المتكلمين، فهذه أقوال العلماء في معنى هذا الخبر: حكينا ذلك عن علمنا بمذاهبهم على معنى مذهب كل طائفة واحتججنا لكل قول، فالألفاظ لنا والمعنى لهم وهذا كله حسن ومحتمل وهؤلاء كلهم وإن اختلفوا في تفسير الحديث بألفاظ فإنهم متقاربون في المعنى إلا أهل الظاهر منهم فإنهم حملوه على ما يعلمونه وأهل الباطن تأولوه على علمهم ولعمري أن الظاهر والباطن علمان لا يستغني أحدهما عن صاحبه بمنزلة الإسلام والإيمان مرتبط كل واحد بالآخر كالجسم والقلب لا ينفك أحدهما عن صاحبه، وهؤلاء المختلفون في الأقوال مجمعون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد بذلك طلب علم الأقضية والفتاوى ولا علم الاختلاف والمذاهب ولا كتب الأحاديث مما لا يتعين فرضه وإن كان الله تعالى لا يخلى من ذلك من يقيمه بحفظه والذي عندنا في حقيقة معنى هذا الخبر والله أعلم أن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب العلم فريضة يعني علم هذه الفرائض الخمس التي بني الإسلام عليها من حيث لم يفترض على المسلمين غيرها، ثم إن العمل لا يصح إلا بعلمه فأول العمل العلم به فصار علم العمل فرضاً من حيث افترض العمل. فلما لم يكن على المسلمين فرض من الأعمال إلا هذه الخمس فصار طلب علم هذه الخمس فرضاً لأنه فرض الفرض وعلم التوحيد داخل فيها لأنه في أوّله شهادة أن لا إله إلا الله بإثبات صفاته المتصلة بذاته ونفي صفات سواه المنفصلة عن إياه كله داخل في علم شهادة: أن لا إله إلا الله وعلم الإخلاص داخل في صحة الإسلام إذا لا يكون مسلماً إلا بإخلاص العمل لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله فبدأ به واشترط للإسلام والأصل في هذا أنه لم يرد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم كل ما جاز أن يكون معلوماً بإجماع الأمة، إنه لم يعن بذلك علم الطب أو علم النجوم ولا علم النحو أو الشعر أوالمغازي وهذه تسمى علوماً لأنها تكون معلومة وأربابها علماء بها إلا أن الشرع لم يرد بالأمر بمقتضاها والأمة مجمعة أيضاً أنه لم يرد بذلك علم الفتيا والقضاء ولا علم افتراق المذاهب واختلاف الآراء وهذه تسمى علوماً عند أهلها وبعضها فرض على الكفاية وكلها ساقطة عن الأعيان، والخبر جاء بلفظ العموم بذكر الكلية وبمعنى الاسم فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 طلب العلم فريضة ثم قال: على كل مسلم بعد قوله: اطلبوا العلم فكان هذا على الأعيان فكأنه على ما وقع عليه إسم العلم ومعناه المعهود المعروف بإدخال التعريف عليه فأشير بالألف واللام إليه فإذا بطلت هذه الوجوه صحّ أن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب العلم فريضة على كل مسلم أي طلب علم ما بني الإسلام عليه فافترض على المسلمين علمه فريضة بدليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي حين سأله: أخبرني ماذا افترض الله تعالى عليّ، وفي لفظ آخر: أخبرنا بالذي أرسلك الله تعالى إلينا به، فأخبره بالشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا إلا أن تطوع فقال: والله لا أزيد عليه شيئاً ولا أنقص منه شيئاً فقال: أفلح ودخل الجنة إن صدق فكان علم هذه الخمس فريضة من حيث كان معلومه فريضة إذ لا عمل إلا بعلم. وقد قال عزّ وجلّ: (إلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الزخرف: 86، وقال في مثله: (حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) النساء: 43، وقال: (هلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ) الأنعام: 148، وقال: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذينَ ظلمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدي مَنْ أضَل الله) الروم: 29، وقال تعالى: (ولا تَتَّبعْ أَهْواءَ الَّذين لا يَعْلَمُونَ) (إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً) الجاثية: 18 - 19، وقال سبحانه وتعالى: (فَاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ الله وأنْ لا إله إلاَّ هُوَ) هود: 14، وقال: (فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكر إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الأنبياء: 7، فهذه الآية افترض الله فيها طلب العلم وذلك الخبر الذي جاء في أبنية الإسلام الخمسة افترض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه هذه الأعمال ثم قال مجملاً: طلب العلم فريضة ثم وكده بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كل مسلم فكان تفسير ذلك وتفصيله أن علم هذه الخمس التي هي بنية الإسلام فرض لأجل فرضها. وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق مرسل أنه مر برجل والناس مجتمعون عليه فقال: ما هذا؟ فقالوا رجل علامة فقال: بماذا؟ قالوا بالشعر والأنساب وأيام العرب، فقال: هذا علم لا يضرّ جهله، وفي لفظ آخر: علم لا ينفع وجهل لا يضر، وروينا في الخبر: إن من العلم جهلاً وإن من القول عياً، وفي الخبر الآخر: قليل من التوفيق خير من كثير من العلم، وفي خبر غريب: كل شيء يحتاج إلى العلم يجتاج إلى التوفيق والخبر المشهور قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعوذ بك من علم لا ينفع فسماه علماً إذ له معلوم وأن أصحابه علماء عند أصحابهم ثم رفع المنفعة عنهم واستعاذ بالله منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وقد روينا في خبر أن الشيطان ربما سبقكم بالعلم، قلنا: يا رسول الله كيف يسبقنا بالعلم؟ قال: يقول اطلب العلم ولا تعمل حتى تعلم فلا يزال في العلم قائلاً وللعمل مسوفاً حتى يموت وما عمل، ففي هذا الخبر دليلان، أحدهما أنه أريد به طلب فضول العلم الذي لا نفع له في الآخرة ولا قربة في طلبه من الله والثاني أن العلم المفضل المندوب إليه إنما هو الذي يقتضي العمل لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يأمر بعمل بغير علم ولايكره طلب علم للعمل به ألا تسمع إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الآخر: فضل من علم أحب إليّ من فضل من عمل وخير دينكم الورع. ذكر فضل علم المعرفة واليقين على سائر العلوم وكشف طريق علماء السلف الصالح من علماء الدينا والآخرة قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ألوف من صحابته كلهم علماء بالله فقهاء عن الله تعالى أهل رضوان من الله تعالى ولم ينصب نفسه إلى الفتيا ولا حملت عنه الأحكام والقضايا إلا بضعة عشر رجلاً، وكان ابن عمر إذا سئل عن الفتيا قال: اذهب إلى الأمير الذي تقلّد أمور الناس فضعها في عنقه، وروى ذلك عن أنس ثم جماعة من الصحابة والتابعين بإحسان، وكان ابن مسعود يقول: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن مسألة ويسكت عن تسعة، وكان ابن عباس على ضد ذلك كان يسئل عن عشرة فيجيب في تسعة ويسكت عن واحدة، وكان من الفقهاء من يقول لا أدري أكثر من أن تقول أدري، منهم: سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وفضيل بن عياض وبشر بن الحرث رضي الله عنهم، وكانوا في مجالسهم يجيبون عن بعض ويسكتون عن بعض ولم يكونوا يجيبون في كل ما يُسألون عنه. وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما منهم من أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ودّ أن أخاه كفاه ذلك، وفي لفظ آخر كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر ويردها الآخر للآخر حتى يرجع إلى الذي سئل عنها أول مرة، وروي عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما من التابعين، وقد روينا مسند ألا يفتي الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو متكلّف، تفصيل ذلك أن الأمير هو الذي يتكلم في علم الفتيا والأحكام كذلك كان الأمراء يسئلون ويفتون والمأمور الذي يأمره الأمير بذلك فيقيمه مقامه ويستعين به لشغله بالرعية والمتكلف هو القاصّ الذي يتكلم في القصص السالفة ويقص أخبار من مضى لأن ذلك لا يحتاج إليه في الحال ولم يندب إليه من العلوم وقد تدخله الزيادة والنقصان والاختلاف، فلذلك كره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 القصص فصار القاصّ من المتكلفين. وقد جاء في لفظ الحديث الآخر بتأويل معناه: لا يتكلم على الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو مراء فكان قولهم: أمير هو المفتي في الأقضية والأحكام كما ذكرنا آنفاً ومعنى مأمور هو العالم بالله عزّ وجلّ الزاهد في الدنيا يتكلم في علم الإيمان واليقين وفي علم القرآن والحث على مصالح أعمال الدين بأمر من الله تعالى أذن الله تعالى له في ذلك بقوله تعالى: (وإذْ أَخَذَ الله ميثاقَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ) آل عمران: 187، وقد كان أبو هريرة وغيره يقولون: لولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثتكم بحديث أبداً ثم يتلو هذه والآية التي قبلها ويقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أتى الله تعالى عالماً علماً إلا أخذ عليه من الميثاق ما أخذ على النبيين أن يبينه ولا يكتمه، وأما المرائي فهو المتكلم في علوم الدنيا الناطق عن الهوى يستميل بذلك قلوب الناس ويجتلب بكلامه المزيد من الدنيا والرفعة فيها، وقال بعض العلماء: كان الصحابة والتابعون بإحسان يتدافعون أربعة أشياء: الأمانة والوديعة والوصية والفتيا، وقال بعضهم: كان أسرعهم إلى الفتيا أقلهم علماً وأشدهم دفعاً لها وتوقفاً عنها أروعهم، وقال بعض السلف: كان شغل الصحابة والتابعين بإحسان في خمسة أشياء: قراءة القرآن، وعمارة المساجد، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثاً: أمر بمعروف، أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى، وقال الله أصدق القائلين: (لا خَيْرَ في كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أمَرَ بِصَدقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) النساء: 114، ورأى بعض أصحاب الحديث بعض فقهاء الكوفة من أهل الرأي بعد موته في المنام قال: فقلت له ما فعلت فيما كنت عليه من الفتيا والرأي قال: فكره وجهه وأعرض عني وقال ما وجدناه شيئاً وما حمدنا عاقبته. وحدثونا عن علي بن نصر بن علي الجهضمي عن أبيه قال: رأيت الخليل بن أحمد في النوم بعد موته فقلت: ما أجد أعقل من الخليل لأسألنه فقال لي: أرأيت ما كنا فيه؟ فإني لم أر شيئاً ما رأيت أنفع من قول: سبحان الله، والحمد للّّه، ولا إله إلا الله والله، أكبر، وحدثونا عن بعض الأشياخ قال: رأيت بعض العلماء في المنام فقلت له: ما فعلت تلك العلوم التي كنا نجادل فيها ونناظر عليها قال: فبسط يده ونفخ فيها وقال طاحت كلها هباءً منثوراً ماانتفعت إلا بركعتين حصلتا لي في جوف الليل وحدثت عن أبي داود السجستاني قال: كان بعض أصحابنا كثير الطلب للحديث حسن المعرفة به فمات فرأيته في المنام فقلت ما فعل الله بك فسكت فأعدت عليّه فسكت فقلت غفر الله لك قال: لا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 قلت لم؟ قال: الذنوب كثيرة والمناقشة دقيقة ولكن قد وعدت بخير وأنا أرجو خيراً، قلت: أي الأعمال وجدتها فيما هناك أفضل، قال: قراءة القرآن والصلاة في جوف الليل، قلت: فأيما أفضل ما كنت تقرأ أو تقرئ؟ فقال: ما كنت أقرأ قلت: فكيف وجدت قولنا فلان ثقة وفلان ضعيف فقال: إن خلصت فيه النية لم يكن لك ولا عليك، وحدثت عن بعض الشيوخ قال: حدثني أحمد بن عمر الخاقاني قال: أريت في منامي كأني في طريق أمضي إذ صادفني رجل فأقبل عليّ وهو يقول: وإن تطع أكثر من في الأرض يضّلوك عن سبيل الله فقلت له: لي تعني؟ فقال: لك ولذاك الذي خلفك، فالتفت فإذا سري رحمه الله فأعرضت عن الرجل وأقبلت على السري وقلت: هذا أستاذنا ومؤدبنا الذي كان يؤدبنا في الدنيا، ثم قلت له: يا أبا الحسن إنك قد صرت إلى الله تعالى فأخبرنا بأي عمل تقبله الله تعالى فأخذ بيدي ثم قال تعال فجئت أنا وهو إلى بنية مثل الكعبة فوقفنا إلى جانبها إذا أشرف علينا من البنية شخص فأضاء ذلك الموضع منه فأومأ سري إليه وأشالني نحوه وكان سري قصيراً وأنا أيضاً قصير فمد ذلك الشخص الذي كان فوق البنية يده فأخذني فشالني إليه فلم أقدر أفتح عيني من أنواركانت في ذلك المكان، ثم قال لي: قد سمعت كلامك مع الشيخ كل خلق في القرآن محمود تفعله وكل خلق في القرآن مذموم تنتهي عنه وحسبك هذا. وقد حدثونا عن سري السقطي قال: كان شاب يطلب علم الظاهر ويواظب عليه ثم ترك ذلك وانفرد واشتغل بالعبادة فسألت عنه فإذا هو قد اعتزل الناس وقعد في بيته يتعبد فقلت له: قد كنت حريصاً على الطلب لعلم الظاهر فما بالك انقطعت؟ قال: رأيت في النوم قائلاً يقول لي: كم تضيع العلم ضيعك الله فقلت إني لأحفظه فقال: إن حفظ العلم العمل به فتركت الطلب وأقبلت على النظر فيه للعمل، وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم الخشية، وقال غيره من الفقهاء: إنما العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب، وكان الحسن البصري رضي الله عنه يقول: اعلموا ما شئتم أن تعملوا فو الله لا يؤجركم الله تعالى عليه حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية وإن العلماء همتهم الرعاية. وروينا عنه أيضاً أنه قال: إن الله لا يعبأ بذي قول ورواية إنما يعبأ بذي فهم ودراية، وقال أبو حصين: إن أحدهم ليفتي في مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، وقال غيره: يسأل أحدهم عن الشيء فيسرع للفتيا ولو سئل أهل بدر عنهالأعضلتهم، وقال عبد الرحمن بن يحيى الأسود وغيره من العلماء: إن علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الأحكام والفتاوى كان الولاة والأمراء يقومون به وترجع العامة إليهم فيه ثم ضعف الأمر وعجزت الولاة عن ذلك لميلهم إلى الدنيا وشغلهم بالحروب عنها فصاروا يستعينون على ذلك بعلماء الظاهر وبالمفتين في الجوامع، فكان الأمير إذا جلس للمظالم قعد عن يمينه وشماله مفتيان يرجع إليهما في القضاءوالأحكام ويأمر الشرط بمثل ذلك فكان من الناس من يتعلم علم الفتيا والقضاء ليستعين بهم الولاة على الأحكام والقضاء حتى كثر المفتون رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة ثم اختلف الأمر بعد ذلك حتى تركت الولاة الاستعانة بالعلماء ومما يدلك على ذلك حديث عمر رضي الله عنه حيث كتب إلى ابن مسعود عقبة بن عامر ألم أخبر أنك تفتي الناس ولست بأمير ولا مأمور، وفي حديث أبي عامر الهروي قال: حججت مع معاوية فلما قدمنا مكة حدث عن رجل يقضي ويفتي الناس مولى لبني مخزوم فأرسل إليه فقال: أمرت بهذا قال: لا، قال: فما حملك عليه؟ قال: نفتي وننشر علماً عندنا، فقال معاوية: لو تقدمت إليك قبل يومي هذا لقطعت منك طابقاً ثم نهاه ولم يكونوا يقولون ذلك في علم القلوب ولا علم الإيمان واليقين بل قد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم تجلّى لهم أمور صادقة وقد كان عمر رضي الله عنه يجلس إلى المريدين فيستمع إليهم. وفي الخبر: إذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتاً وزهداً فاقتربوا منه فإنه تلقى الحكمة، وقال بعض أصحاب الحديث: رأيت سفيان الثوري حزيناً فسألته فقال وهو برم: ما صرنا إلا متجر الأبناء الدنيا قلت: وكيف؟ قال: يلزمنا أحدهم حتى إذا عرف بنا وحمل عنا جعل عاملاً أو جابياً أو قهرماناً، وكان الحسن يقول: يتعلم هذا العلم قوم لا نصيب لهم منه في الآخرة يحفظ الله تعالى بهم العلم على الأمة لئلا يضيع، وقال المأمون رحمه الله: لولا ثلاث لخربت الدنيا: لولا الشهوة لانقطع النسل ولولا حب الجمع لبطلت المعايش ولولا حب الرياسة لذهب العلم، فهذا كله وصف علماء الدنيا وأهل علم الألسنة، وأما علماء الآخرة وأهل المعرفة واليقين فإنهم كانوا يهربون من الأمراء ومن أتباعهم وأشياعهم من أهل الدنيا وكانوا ينتقصون علماء الدنيا ويطعنون عليهم ويتركون مجالستهم، وقال ابن أبي ليلى أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من الصحابة ما سئل أحدهم عن حديث ولا استفتي في فتيا إلاودّ أن صاحبه قد كفاه ذلك، وقال مرة: أدركت ثلاثمائة يسأل أحدهم عن الفتيا أو الحديث فيرد ذلك إلى الآخر ويحيل الآخر على صاحبه وكانوا يتدافعون الفتيا ما بينهم ولم يكونوا إذا سئل أحدهم عن مسألة من علم القرآن أو علم اليقين والإيمان يحيل على صاحبه ولا يسكت عن الجواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقد قال الله سبحانه: (فَسْئلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل: 43 فهم أهل الذكر لله تعالى وأهل التوحيد والعقل عن الله تعالى ولم يكونوا يتلقنون هذا العلم دراسة من الكتب ولا يتلقاه بعضهم من بعض بالألسنة إنما كانوا أهل عمل وحسن معاملات فكان أحدهم إذا انقطع إلى الله تعالى واشتغل به واستعمله المولى بخدمته بأعمال القلوب وكانوا عنده في الخلوة بين يديه لايذكرون سواه ولا يشتغلون بغيره فإذا ظهروا للناس فسألوهم ألهمهم الله تعالى رشدهم ووفقهم لسديدقولهم وآتاهم الحكمة ميراثاً لأعمالهم الباطنة عن قلوبهم الصافية وعقولهم الزاكية وهممهم العالية فآثرهم بحسن توفيقه أن ألهمهم حقيقة العلم وأطلعهم على مكنون السر حين آثروه بالخدمة وانقطعوا إليه بحسن المعاملة فكانوا يجيبون عما عنه يسألون بحسن أثرة الله تعالى لهم وبجميل أثره عندهم فتكلموا بعلم القدرة وأظهروا وصف الحكمة ونطقوا بعلوم الإيمان وكشفوا بواطن القرآن وهذا هو العلم النافع بين العبد وبين الله تعالى وهو الذي يلقاه به ويسأله عنه ويثيبه عليه وهو ميزان جميع الأعمال. وعلى قدر علم العبد بربه تعالى ترجح أعماله وتضاعف حسناته وبه يكون عند الله تعالى من المقربين لأنه لديه من الموقنين فهم أهل الحقائق الذين وصفهم علي عليه السلام وفضلهم على الخلائق، فقال في وصفهم القلوب أوعية وخيرها أوعاها والناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكيه العمل والمال تنقصه النفقة، محبة العلم دين يدان به يكسبه الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد موته، العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومنفعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر ثم تنفس الصعداء فقال: ها إن ههنا علماً جماً لو أجد له حملة بلى أجد لقناً غير مأمون يستعمل الدين في طلب الدنيا ويستطيل بنعم الله تعالى على أوليائه ويستظهر بحججه على خلقه أو منقاداً لأهل الحق ينزرع الشك في قلبه بأوّل عارض من شبهة لا بصيرة له وليسا من رعاة الدين في شيء لا ذا ولا ذاك فمفهوم باللذة سلس القيادة في طلب الشهوات أو مغرىً بجمع الأموال والإدخار منقاد لهواه أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة، اللهم هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه بل لا تخلو الأرض من قائم لله تعالى بحجة، إمّا ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور لئلا تبطل حجج الله تعالى وبيّناته وأين أولئك الأقلون عدداً الأعظمون قدراً أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعها نظراءهم ويزرعوها في القلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وأنسوا بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 استوحش منه الغافلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك أولياء الله من خلقه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه، ثم بكى وقال: واشوقاه إلى رؤيتهم فهذه كلها أوصاف علماء الآخرة وهذه نعوت علم الباطن وعلم القلوب لا علم الألسنة وكذلك وصفهم معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصف العلم بالله تعالى. فيما رويناه من حديث رجاء بن حيوة بن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ قال: تعلّموا العلم فإن تعلّمه لله خشية وطلبه عبادة ومدراسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه وبذله لأهله قربة وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة والدليل على السرّاء والضرّاء والزين عند الإخلاء والقريب عند الغرباء ومنار سبيل الجنة يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم الله في الخيرقادة وهداة يقتدي بهم أدلة في الخير تقتص آثارهم وترمق أعمالهم ويقتدى بفعالهم وينتهي إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم حتى كل رطب ويابس لهم مستغفر حتى حيتان البحر وهوامه وسابع البر ونعامه والسماء ونجومها لأن العلم حياة القلوب من العمى ونور الأبصار من الظلم وقوّة الأبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى والتفكر فيه يعول بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع الله تعالى وبه يعبد وبه يوحد وبه يتورع وبه توصل الأرحام العلم إمام والعمل تابعه تلهمه السعداء وتحرمه الأشقياء، فهذه أوصاف علماء الآخرة ونعت العلم الباطن. وقد كان من أفضل الأمراء بعد الخلفاءالأربعة: عمر بن عبد العزيز فحدثونا عن زكريا بن يحيى الطائي قال: حدثني عمي زجر بن حصين أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن رحمهما الله: أما بعد فأشر علي بقوم أستعين بهم على أمر الله تعالى فكتب إليه: أما أهل الدين فلن يريدوك وأما أهل الدنيا فلن تريدهم ولكن عليك بالأشراف فإنهم يصونون شرفهم أن يدنسوه بالخيانة، وكان الحسن يتكلم في بعض علماءالبصرة ويذمهم وكان أبو حازم وربيعة المدنيان يذمان علماء بني مروان، وقد كان الثوري وابن المبارك وأيوب وابن عون يتكلمون في بعض علماء الدنيا من أهل الكوفة، وكان الفضيل وإبراهيم ابن أدهم ويوسف بن أسباط يتكلمون في بعض علماءالدنيا من أهل مكة والشام كرهنا تسمية المتكلم فيهم لأن السكوت أقرب إلى السلامة، وكان بشر يقول: حدثنا باب من أبواب الدنيا فإذا سمعت الرجل يقول: حدثنا فإنما يقول: أوسعوا لي، وقدكان سفيان الثوري إمامه من قبله يقول لأهل علم الظاهر: طلب هذا ليس من زاد الآخرة، وقال ابن وهب ذكر طلب العلم عند مالك، فقال: إن طلب العلم لحسن، وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية ولكن انظر ماذا يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي ومن حين تمسي إلى حين تصبح فلاتؤثرن عليه شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقال أبو سليمان الداراني: إذا طلب الرجل الحديث أو تزوّج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا، وأما علم الإيمان والتوحيد وعلم المعرفة واليقين فهو مع كل مؤمن موقن حسن الإسلام وهو مقامه من الله وحاله بين يدي الله ونصيبه منه في درجات الجنة، به يكون من المقربين عنده والعلم بالله تعالى والإيمان به قرينان لا يفترقان، فالعلم بالله تعالى هو ميزان الإيمان به يستبين المزيد من النقصان لأن العلم ظاهر الإيمان يكشفه ويظهره والإيمان باطن العلم يهيجه ويشعله، فالإيمان مدد العلم وبصره والعلم قوّة الإيمان ولسانه وضعف الإيمان وقوّته ومزيده ونقصه بمزيدالعلم بالله عزّ وجلّ ونقصه وقوّته وضعفه، وفي وصية لقمان الحكيم لابنه: يابني كمالايصلح الزرع إلا بالماء والتراب كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل ومثل المشاهدة من المعرفة من اليقين من الإيمان كمثل النشاء من الدقيق من السويق من الحنطة، والحنطة تجمع ذلك كله كذلك الإيمان أصل ذلك والمشاهدة أعلى فروعه كالحنطة أصل هذه المعاني والنشاء أعلى فروعها فهذه المقامات موجودة في أنوار الإيمان يمدها علم اليقين، ثم إن المعرفة على مقامين: معرفة سمع ومعرفة عيان، فمعرفة السمع في الإسلام وهو أنهم سمعوا به فعرفوه، وهذا هو التصديق من الإيمان ومعرفة العيان في المشاهدة وهو عين اليقين والمشاهدة أيضاً على مقامين: مشاهدة الاستدلال ومشاهدة الدليل عنها، فمشاهدة الاستدلال قبل المعرفة وهذه معرفة الخبر وهو في السمع لسانها القول والواجد بها واجد يعلم علم اليقين من قوله تعالى: (سَبَإٍ بَنَبَإٍ يَقينٍ) (إِنّي وَجَدْتُ) النمل: 22 - 23، فهذا العلم قبل الوجدوهو علم السمع وقد يكون سببه التعليم ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا اليقين أي جالسوا الموقنين واسمعوا منهم علم اليقين لأنهم علماؤه وأما مشاهدة الدليل فهي بعد المعرفة التي هي العيان وهو اليقين لسانه الوجد والواجد بها واجد قرب وبعد هذا الوجد علم من عين اليقين وهذا يتولاه الله تعالى بنوره على يده بقدرته، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فوجدت بردها فعلمت فهذا التعليم بعد الوجد من عين اليقين باليقين وهذا من أعمال القلوب، وهؤلاء علماء الآخرة وأهل الملكوت وأرباب القلوب وهم المقربون من أصحاب اليمين وعلم الظاهر من علم الملك وهو من أعمال اللسان والعلماء به موصوفون بالدنيا وصالحوهم أصحاب اليمين وجاء رجل إلى معاذ بن جبل فقال: أخبرني عن رجلين، أحدهما مجتهد في العبادة كثير العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتريه الشك في أموره فقال معاذ: ليحبطن شكّه أعماله، قال: فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب فسكت معاذ فقال الرجل: والله لئن أحبط شكّ الأوّل أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها قال: فأخذ معاذ بيده وقام قائماً ثم قال: ما رأيت الذي هو أفقه من هذا وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 روينا معناه مسنداً قيل: يا رسول الله رجل حسن اليقين كثيرالذنوب ورجل مجتهد في العبادة قيل اليقين: فقال ما من آدمي إلا وله ذنوب ولكن من كانت غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب لأنه كلما أذنب تاب واستغفر وندم فتكفر ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنة. وروينا في حديث أبي أمامة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصام النهار، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني لا يستطاع العلم إلا باليقين ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه ولا يقصر عامل حتى يقصر يقينه وقد يعمل الضعيف إذا كان متيقناً أفضل من العمل القوي الضعيف في يقينه ومن يضعف يقينه تغلبه المحقرات من الإثم، وقد كان يحيى بن معاذ يقول: إن للتوحيد نوراً وللشرك ناراً وإن نور التوحيد أحرق لسيّئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين واليقين على ثلاث مقامات: يقين معاينة وهذا لا يختلف خبره فالعالم به خبير وهو للصديقين والشهداء، ويقين تصديق واستسلام وهذا في الخبر والعالم به مخبر مسلم وهذا يقين المؤمنين وهم الأبرار منهم الصالحون ومنهم دون ذلك كقوله تعالى جده: (وَمَا زَادَهُمْ إلاّ إيمَاناً وَتسْليمًا) الأحزاب: 22، وقد يضعف هؤلاء بعدم الأسباب ونقصان المعتاد ويقوون بوجودها وجريان العادة ويحجبون بنظرهم إلى الأواسط ويكاشفون بها ويجعلون مزيدهم وأنسهم بالخلق ويكون نقصهم ووحشتهم بفقدهم ويكون من هؤلاء الاختلاف ويتلوّنون بالخلاف لتلوين الأشياء وتغيرها نقصها. المقام الثالث من اليقين وهو يقين ظن يقوى بدلائل العلم والخبر وأقوال العلماء ويجد هؤلاء المزيد من الله تعالى والنصيب منه لهم ويضعف بفقدالأدلة وصمت القائلين وهذا يقين الاستدلال وعلوم هذا في المعقول وهو يقين المتكلمين من عموم المسلمين من أهل الرأي وعلوم العقل والقياس والنظر وكل موقن بالله تعالى فهو على علم من التوحيد والمعرفة ولكن علمه ومعرفته على قدر يقينه ويقينه من نحو صفاء إيمانه وقوّته وإيمانه على مقتضى معاملته ورعايته، فأعلى العلوم علم المشاهدة عن عين اليقين وهذا مخصوص للمقربين في مقامات قربهم ومحادثات مجالستهم ومأوى أنسهم ولطيف تملقهم، وأدنى العلوم علم التسليم والقبول بعدم الإنكار وفقد الشكوك وهذا لعموم المؤمنين وهو من علم الإيمان ومزيد التصديق وهذا لأصحاب اليمين، وبين هذين مقامات لطيفات من أعلى طبقات المقربين إلى أوسط المقامات ومن أدنى طبقات أصحاب اليمين إلى أعلى أواسط الأعلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ذكر بيان تفضيل علوم الصمت وطريق الورعين في العلوم وروينا في الخبر: العلم ثلاثة، كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري، وعن الشعبي أنه قال: لا أدري، نصف العلم يعني أنه من الورع وكان الثوري رضي الله عنه يقول: إنما العلم الرخصة من ثقة فأما التشديد فكل أحد يحسنه يعني أن التورع والتوقف في الأمور هو سيرة المؤمنين وإن لم يكونوا علماء لأن الورع هو الجبن عن الإقدام والهجوم على الشبهات والوقوف عند المشكلات بسكون أو سكوت، واليقين هو الإقدام على الأشياء ببصيرة وتمكين والقطع بالأمر على علم وخبر فهذا صفة العلماء الموثوق بعلمهم لا يحسنه سواهم كما قال علي عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية وقدمه أمامه يوم الجمل وجعل يقول له: أقدم أقدم ومحمد يتأخر وهو يركزه بقائم رمحه، فالتفت إليه محمد ابنه فقال: هذا والله الفتنة المظلمة العمياء فوكزه عليّ برمحه، ثم قال: تقدم لا أم لك أتكون فتنة أبوك قائدها وسائقها والمرء إذا قال: لا أدري فقد عمل بعلمه وقام بحاله فله من الثواب بمنزلة من درى فقام بحاله وعمل بعلمه فأظهره، فلذلك كان قول لا أدري نصف العلم ولأن حسن من سكت لأجل الله تعالى تورعاً كحسن من نطق لأجله بالعلم تبرعاً، وقال علي بن الحسين ومحمد بن عجلان: إذا أخطأ العالم قول لا أدري أصيبت مقالته، وقاله مالك والشافعي بعدهما واعلم أن مثل العلم والجهل في تفاوت الناس فيهما مثل الجنون والعقل والمجانين طبقات، كالعقلاء طبقات، وكذلك الجهال طبقات كالعلماء فخصوص الجهال يشبهون عموم العلماء فهم يشتبهون على العامة حتى يحسبوهم علماء وهم مكشوفون عند العلماء بالله تعالى وكذلك العارفون يشتبهون على عموم العلماء وهم ظاهرون للموقنين، وقال بعض العلماء: العلم علمان، علم الأمراء وعلم المتقين، فأما علم الأمراء فهو علم القضايا وأما علم المتقين فهو علم اليقين والمعرفة. وقد قال الله سبحانه في وصف علم المؤمنين وذكر علم الإيمان: (يَرْفَعِ الله الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذينَ أُوتُوا العْلْمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة: 11، فجعل المؤمنين علماء فدل على أن العلم والإيمان لا يفترقان والواو هنا عند أهل اللغة للمدح لاللجمع، العرب إذا مدحت بالأوصاف أدخلت الواو للمبالغة فقالوا: فلان العاقل والعالم والأديب، ومثل هذا قوله تعالى: (لكنِ الراسخون في الْعِلْمِ مِنْهُمْ والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِليْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قبْلِكَ والْمُقيمينَ الصَّلاةَ والْمؤْتُونَ الزَّكوة) النساء: 162 كله نعت، فالمؤمنون هم الراسخون في العلم وهم المقيمون والمؤتون أيضاً وكلهم وصف الراسخون في العلم ولذلك انتصب قوله والمقيمين الصلاة لأنه مدح والعرب تنصب وترفع بالمدح وبمعناه قوله تعالى: (والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بهِ) آل عمران: 7، فوصف العلماء بالإيمان كما وصف المؤمنين بالعلم وكذلك قوله تعالى: (وقالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإيمانَ) الروم: 56، ومن هذا حديث أنس عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمتي خمس طبقات كل طبقة أربعون عاماً فطبقتي وطبقة أصحابي أهل العلم والإيمان والذين يلونهم إلى الثمانين البر والتقوى والذين يلونهم إلى مائة وعشرين أهل التواصل والتراحم، فقرن العلم بالإيمان وقدمهما على سائرالطبقات. وقد قرن الله سبحانه الإيمان بالقرآن وهو علم: كما قرن القرآن بالإيمان كما قال تعالى: (كتبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وَأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة: 22، قيل القرآن وتكون الهاء عائدة إلى الله تعالى في أكثر الوجوه، كما قال: (ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتَابُ ولا الإيمانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً) الشورى: 52، فأهل الإيمان هم أهل القران وأهل القرآن أهل الله وخاصته، وقال المهدي لسفيان بن الحسين لما دخل عليه وكان أحد العلماء أمن العلماء أنت فسكت فأعادعليه فسكت فقيل: ألا تجيب أمير المؤمنين؟ فقال: يسألني عن مسألة لا جواب لها، إن قلت لست بعالم وقد قرأت كتاب الله تعالى كنت كاذباً وإن قلت إني عالم كنت جاهلاً، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أنس في قوله: (إِنَّما يَخْشى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلماءُ) فاطر: 28، قال: من لم يخشَ الله تعالى فليس بعالم ألا ترى أن داود صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك بأنك جعلت العلم خشيتك والحكمة والإيمان بك فما علم من لم يخشك وما حكم من لم يؤمن بك، وقد سمّى عبد الله بن رواحة العلم إيماناً فكان يقول لأصحابه: اقعدوا بنا نؤمن ساعة فيتذاكرون علم الإيمان وقدجعل الله للمؤمنين سمعاً وبصراً وقلباً، وهذه طرائق العلم التي يؤخذ العلم منها ويوجد بها وهي أصول العلم والنعم التي أنعم الله على الخلق بها وطالبهم بالشكر عليها، فقال سبحانة: (والله أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجعلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفئدِةَ لعلَّكُمْ تَشْكُرون) النحل: 78، فأثبت العلم بها بعد النفي بها له، وقال تعالى في وصف من لم يكن مؤمناً ونفي الغنية بالعلم بها: (وجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وأبْصاراً وأفْئِدةً فما أغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أبْصارُهُمْ ولا أفْئِدتُهُمْ مِنْ شيء إذ كانوا يجْحَدوان بآياتِ الله) الأحقاف: 26، فمن آمن بآيات الله تعالى أغنى عنه سمعه وبصره وقلبه فكانت طرق العلم إليه. وقال عزّ وجلّ في معنى ذلك أيضاً: (ولا تقْفُ ما ليْسَ لكَ بهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئكَ كان عَنْهُ مَسْؤُولاً) الإسراء: 36، فلولا أن العلم يقع بالسمع والبصر والقلب ما نهى عما لا يعلم هذه الأشياء ففي النهي عن قفو ما لا يعلم هذه الأواساط ويتبعه إثبات العلم بها فكل مؤمن هو ذو سمع وبصر وقلب فهو عالم بفضل الله ورحمته. ومما فضل الله تعالى به هذه الأمة على سائر الأمم وخصها به ثلاثة أشياء: تبقية الإسناد فيهم يأثره خلف عن سلف متصلاً إلى نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى من خلا من علمائنا وإنما كانوا فيهم يستنسخون الصحف كلما اختلقت صحيفة جددت فكان ذلك أثرة العلم فيهم، والثاني حفظ كتاب الله تعالى المنزل عن ظهر غيب، وإنما كانوا يقرؤون كتبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 نظراً ولم يحفظ جميع كتاب أنزله الله تعالى قط غير كتابنا هذا إلا ما ألهمه الله تعالى غزيراً من التوراة بعد أن كان بختنصر أحرق جميعها عند إحراق بيت المقدس، فلذلك قال سبط من اليهود إنه ابن الله تعالى عزّ عن ذلك علواً كبيراً لما خصه به وأفرده من حفظ جميع التوراة، والثالث أن كل مؤمن من هذه الأمة يسئل عن علم الإيمان ويسمع قوله ويؤخذ من رأيه وعلمه مع حداثة سنه ولم يكونوا فيما مضى يسمعون العلم إلا من الأحبار والقسيسين والرهبان لا غير من الناس، وزادها رابعة على أمة موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبات الإيمان في قلوبهم لا يعتريه الشك ولا يختلجه الشرك مع تقليب القلوب في المعاصي، وكانت أمة موسى عليه السلام تتقلب قلوبهم في الشك والشرك كما تتقلب جوارحهم في المعاصي، فلذلك قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة بعد أن رأوا الآيات العظيمة من انفلاق البحر وسلوكهم فيه طرائق وأنجاهم من الغرق وأهلك فرعون. وروينا بعض الأخبار أن في بعض الكتب المنزلة: يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به ولا في تخوم الأرضين من يصعد به ولا من وراء البحار من يعبره يأتي به العلم مجعول في قلوبكم، تأدّبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلّقوا لي بأخلاق الصديقين أظهر العلم في قلوبكم حتى يعطيكم ويغمركم، وفي الإنجيل مكتوب: لا تطلبوا علم ما لم تعملوا حتى تعملوا بما قد علمتم، وفي أخبارنا نحن: من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم حتى قيل: من علم بعشر ما يعلم ورثه الله علم ما يجهل، وقد روينا عن حذيفة بن اليمان: إنكم اليوم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك ويأتي بعدكم زمان من عمل منهم بعشر ما يعلم نجا، هذا لقلة العاملين وكثرة البطالين، وفي كتابنا المجمل المختصر: واتقوا الله ويعلمكم الله واتقوا الله واعلموا واتقوا الله واسمعوا، واعلم أن من عمل بعلم أو نطق به فأصاب الحقيقة عند الله تعالى فله أجران، أجر التوفيق وأجر العمل - وهذا مقام العارفين، ومن نطق بجهل أو عمل به وأخطأ الحقيقة فعليه وزران - وهذا مقام الجهال، ومن قال أو عمل بعلمه وأخطأ الحقيقة فله أجر لأجل العلم وهذا مقام علماء الظاهر، ومن قال بجهل أو عمل عملاً وأصاب الحقيقة فعلية وزر لتركه طلب العلم وهذا مقام جهلة العابدين، ومثل العالم مثل الحاكم وقد قسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكام ثلاثة أقسام فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: القضاة ثلاثة: قاضٍ قضى بالحق وهو يعلم فذاك في الجنة وقاضٍ قضى بالجور وهو يعلم أو قضى بالجور وهو لا يعلم فهما في النار، ومن أحسن ما سمعت في قوله تعالى: (يا بني آدَمَ قَدْ أَنْزَلنا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُواري سوْءاتِكُمْ) الأعراف: 26 قيل العلم وريشاً قيل اليقين ولباس التقوى أي الحياء. وروينا عن وهب بن منبه اليماني في معناه: الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم وقد أسنده حمزة الخراساني عن الثوري فرفعه إلى عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وقد رويناه أيضاً مسنداً، قال مسعر عن سعد بن إبراهيم وسأله سائل: أي أهل المدينة أفقه؟ فقال: أتقاهم لله عزّ وجلّ، وقال بعض العلماء: لو قال لي قائل أي الناس أعلم لقلت أورعهم ولو قال لي قائل أي أهل هذه المدينة خير؟ لقلت: تعرفون أنصحهم لهم، فإذا قالوا نعم قلت هو خيرهم وقال آخر: لو قيل لي من أحمق الناس لأخذت بيد القاضي فقلت هذا وقال الله تعالى: (وَاتَّقُوا الله وَاسْمَعُوا) المائدة: 108 و (اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَديداً) الأحزاب: 70، فجعل تعالى مفتاح القول السديدوالعلم الرشيد والسمع المكين التقوى، وهي وصية الله تعالى من قبلنا وإيانا إذ يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ وَصّيْنا الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإِيَّاكُمْ أنِ أتَّقُوا الله) النساء: 131، وهذه الآية قطب القرآن ومداره عليها كمدار الرحى على الخشبان. وروينا عن عيسى عليه السلام كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته، وهو مقبل على دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به وهو لا يطلبه ليعمل به، وقال الضحاك بن مزاحم: أدركتهم وما يتعلم بعضهم من بعض إلا الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام، وفي الحديث: ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أعطوا الجدل ثم قرأ: ماضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون، وفي قوله عزّ وجل: (فأمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) آل عمران: 7، الآية هم أهل الجدل الذين عنى الله تعالى فاحذروهم، وعن بعض السلف: يكون في آخر الزمان علماء يغلق عنهم باب العمل ويفتح عليهم باب الجدل، وفي بعض الأخبار: إنكم في زمان ألهمتم فيه العلم وسيأتي قوم يلهمون الجدل، وعن ابن مسعود: أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع ويأتي بعدكم زمان خيركم فيه المتبين يعني الآن لبيان الحق واليقين في القرن الأول وبعد ذلك في زماننا هذا لكثرة الشبهات والالبتاس ودخول المحدثات مداخل الليل في السير، فأشكل الأمر إلا على الفرد الذي يعرف طرائق السلف فيجتنب الحدث كله. وروينا عن بعض العلماء: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل وإذا أراد الله بعبدسوءًا أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل، وفي الخبر المشهور عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبعض الخلق إلى الله عزّ وجلّ الألد الخصم، وقد روينا في خبر الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق وفي بعضها مفسراً والعي عي اللسان لا عي القلب، والخبر الآخر ما روى الحكم بن عيينة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أوتي قوم المنطق إلا منعوا العمل، وفي الحديث أن الله تعالى ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل الكلام بلسانه كما تتخلل الباقرة الخلاء بلسانها، والخلاء هو الحشيش الرطب، وكان أحمد بن حنبل يقول: العلم إنما هو ما جاء من فوق يعني إلهاماً من غير تعليم وقال أيضاً: علماء أهل الكلام زنادقة، وقال قبله أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 بيان آخر في فضل علم الباطن على الظاهر مما يدلك على أن العلم الذي فضله العلماء وأعظموا ذكره وخطره ووصفوا به العالم ومدحوه به وجاءت بفضله الآثار وندب إليه وفضل في الأخبار أهله إنما هو العلم بالله تعالى الدال على الله تعالى الراد إليه الشاهد بالتوحيد في علم الإيمان واليقين وعلم المعرفة والمعاملة دون سائر علوم الفتيا والأحكام، إنهم يقولون من عمل بعلمه ويذكرون العمل بالعلم ويصفون جملته بالخشية والخشوع فهذا إنما هو علم القلوب لا علم اللسان الذي يكون به العلم ولا تتأتى عنه المعاملات من أعمال الإيمان مثل أعمال القلوب التي هي مقامات اليقين وصفات المتقين ومثل أعمال الجوارح من الصالحات التي هي مزيد الإيمان والذين أربابها أهل الفقر والزهد وذو التوكل والخوف وأصحاب الشوق والمحبة وليس يعنون أن يكون الإنسان إذا علم علم الأحكام والقضايا عمل بها والتزم الدخول في أحكامها ليعامل منها مثل أن يطلب القضاء فيقضي بين الناس إذا كان عالماً به أويقتني المال ويدخل في البيع والشراء إذا كان عالماً بالزكوات والبياعات أو يتزوج النساء ويطلق لأنه عالم بالنكاح والطلاق ليكون بهذه الأشياء عاملاً بعلمه، هذا ما قاله أحد بل قد روي في كراهة ذلك وذمه ما يكثر ذكره، وأهل هذه العلوم موصوفون بالرغبة في الدنيا والحرص على جمعها ويلابسون الأمراء فيعاملون لهم فبطل أنهم هم المعنيون بالعلم الموصوفون بالخشوع والزهد، ومثل ذلك أيضاً تفضيل الجمهور من السلف العلم على العمل وقولهم ذرة من علم أفضل من كذا من العمل وركعتان من عالم أفضل من ألف ركعة من عابد، وحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي، والخبر المشهور: كفضل القمر على سائر الكواكب، وقول ابن عباس وسعد، وقدروينا مسنداً: عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد وكذلك قيل في موته أحب إليه من موت ألف عابد إنما يعنون بذلك العلم بالله تعالى أفضل من العمل لأن العلم بالله تعالى وصف من الإيمان ومعنى من اليقين الذي لم ينزل من السماء أعزّ منه فهو لا يعادله شيء لا يصح عمل ولا يقبل إلا به ولأنه معيار الأعمال كلها على وزنه تتقبل الأعمال قبولاً حسناً بعضه أحسن من بعض ويثقل في الميزان ثقلاً فوق ثقل ويرفع به العاملون في درجات عليين بعضها من بعض، وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ) الأعراف: 52، ثم قال: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) الأعراف: 7، وقال تعالى: (والْوَزْنَ يَوْمَئِذٍ الحْقَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازينُهُ) الأعراف: 8 فما كان العائد منه إلى الربوبية أقرب كان أفضل والعمل وصف العامل وحكم العبودية لا أنهم يعنون العلم بالفتيا والأحكام والقضاء التي هي أماكن الخلق عائدة عليهم أفضل من معاملات الله سبحانه وتعالى بالقلوب من مقامات التوكل والرضا والمحبة التي هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 معاينة اليقين الذي هو مقام المقربين هذا لا يقوله عالم. وقد روينا عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم وأهل الجهاد أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل، ألا تراه كيف جعل العلم دالاً على الله تعالى كالجهاد، وكذلك جاء في الخبر: أول من يشفع الأنبياء ثم الشهداء، وفي الخبر: للأنبياء على العلماء فضل درجة وللعلماء على الشهداء فضل درجتين، وقال ابن عباس في معنى قوله عزّ وجلّ: (يَرْفَعِ الله الَّذين آمَنُوا مِنْكُم والَذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ درَجاتٍ) المجادلة: 11، قال: للعلماء درجات فوق الذين آمنوا بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين خمسمائة عام، وقال ابن مسعود: لما مات عمر رضي الله عنهما: إني لأحسب أنه ذهب بتسعة أعشار العلم فقيل: تقول هذا وفينا جله الصحابة فقال: ليس أعني العلم الذي تريدون إنما أعني العلم بالله تعالى، فجعل العلم بالمعلومات غير حقيقة العلم وفضل العلم بالله تعالى بتسعة أعشارها وليس يزيد علم الظاهر على الأعمال كثير زيادة إذ هو من الأعمال الظاهرة لأنه صفة اللسان ولأنه للعموم من المسلمين، فأعلى مقاماته الإخلاص فإن فاتهم فهو دنيا كسائر الشهوات والإخلاص هو أول حال العالم بالله تعالى بالعلم الباطن ولا نهاية لمقاماتهم إلى أعلى مقامات العارفين ودرجات الصديقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 باب ذكر الفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة وذم علماء السوء الآكلين بعلومهم الدنيا وقد فرقت العلماء بين العلم بالله تعالى وبين العلم بأمر الله تعالى وفرقوا بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة، فقال سفيان: العلماء ثلاثة، عالم بالله وبأمر الله فذلك العالم الكامل، وعالم بالله تعالى فذاك التقيّ الخائف، وعالم بأمر الله تعالى غير عالم بالله تعالى فذاك العالم الفاجر، وقيل أيضاً: عالم لله تعالى وهو العامل بعلمه، وعالم بأيام الله تعالى وهو الخائف الراجي، وسئل سفيان عن العلم ما هو؟ فقال هو الورع، قيل: وأي شيء هو الورع؟ فقال: طلب العلم الذي يعرف به الورع وهو عند قوم طول الصمت وقلة الكلام وما هو كذلك إنما هو المتكلم العالم عندنا افضل من الصامت. وروينا عن لقمان في وصيته: للعلم ثلاث علامات، العلم بالله وبما يحبه الله تعالى وبما يكره فجعل حقيقة العلم ودليل وجوده هذه الثلاث، ومما يدلك على الفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة أن كل عالم بعلم إذا رآه من لا يعرفه لم يتبين عليه أثر علمه ولا عرف أنه عالم إلا العلماء بالله عزّ وجلّ فإنما يعرفون بسيماهم للخشوع والسكينة والتواضع والذلة، فهذه صبغة الله تعالى لأوليائه ولبسته للعلماء به، ومن أحسن من الله صبغة فمثلهم في ذلك كمثل الصناع إذ كل صانع لو ظهر لمن لا يعرفه لم يعرف صنعه دون سائر الصنائع ولم يفرق بينه وبين الصناع إلا الصناع، فإنه يعرف بصنعته لأنها ظاهرة عليه إذ صارت له لبسة وصفةلالتباسها بمعاملته، فكانت سيماه كما قيل: ما ألبس الله تعالى عبداً لبسة أحسن من خشوع في سكنية هي لبسة الأنبياء وسيما الصديقين والعلماء فاعلم الناس بلطف ما يحب الله تعالى وخفي ما يكره أهل القلوب الفاقهة عن الله تعالى وهم العارفون به، وقد كان سهل رحمه الله يقول: العلماء ثلاثة، عالم بالله تعالى، وعالم لله تعالى وعالم بحكم الله تعالى يعني العالم بالله تعالى العارف الموقن، العالم لله عزّ وجلّ هو العالم بعلم الإخلاص والأحوال والمعاملات، والعالم بحكم الله تعالى هو العالم بتفصيل الحلال والحرام فسرنا ذلك على معاني قوله ومعرفة مذهبه، وقد قال مرة في كلام أبسط من هذا: عالم بالله لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم المؤمنون، وعالم بأمر الله لابأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام، وعالم باللّّه تعالى عالم بأيام الله وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الصديقون، يعني قوله بأيام الله أي بنعمته الباطنة وبعقوباته الغامضة، ثم قال: الناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء نيام إلا الخائفين والخائفون منقطعون إلا المحبين، والمحبون أحياء شهداء وهم المؤثرون لله تعالى على كل حال، وقد كان يقول: طلاب العلم ثلاثة، واحد يطلبه للعمل به، وآخر يطلبه ليعرف الاختلاف فيتورع ويأخذ بالاحتياط، وآخر يطلبه ليعرف التأويل فيتناول الحرام فيجعل حلالاً فهذا يكون هلاك الحق على يديه، وقد حدثت عن أبي يوسف أنه كان إذا صار رأس الحول وهب ماله لامرأته واستوهبها مالها فتسقط عنهما الزكاة فذكر ذلك لأبي حنيفة فقال: ذلك من فقهه فإنما يطلب لعلم المعرفة الورع والاحتياط للدين فهذا هو العلم النافع فإذاطلب لمثل هذا ولتأويل الهوى كان الجهل خيراً منه وصار هذا العلم هو الضار الذي استعاذ الرسول منه. وروينا عن عمر وغيره: كم من عالم فاجر وعابد وجاهل، فاتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين، وعن عمر أيضاً: وقد رويناه مسنداً: اتقوا كل منافق عليم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون، وروينا عنه أيضاً تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من يتعلم منكم ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم، وروينا عن علي وابن عباس رضي اللّّه عنهما وعن كعب الأحبار: يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ويخوّفون ولا يخافون وينهون عن غشيان الولاة ولا ينتهون ويؤثرون الدنيا على الآخرة ويأكلون الدنيا بألسنتهم أكلاً يقربون الأغنياء ويباعدون الفقراء يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال يغضب أحدهم على جليسه إذاجالس غيره ذلك حظهم من العلم، وفي حديث علي رضي الله عنه: علماؤهم شر الخليفة، منهم بدت الفتنة وفيهم تعود، وفي حديث ابن عباس: أولئك الجبارون أعداء الرحمن، وروينا عن علي عليه السلام: ما قطع ظهري في الإسلام إلا رجلان، عالم فاجر، ومبتدع ناسك، فالعالم الفاجر يزهد الناس في علمه لما يرون من فجوره والمبتدع الناسك يرغب الناس في بدعته لما يرون من نسكه، وقال صالح بن حسان البصري: أدركت المشيخة وهم يتعوذون بالله تعالى من الفاجر العالم بالسنة، وقال الفضيل بن عياض: إنما هما عالمان، عالم دنيا وعالم آخرة، فعالم الدنيا علمه منشور وعالم الآخرة علمه مستور، فاطلب عالم الآخرة واحذر عالم الدنيا لا يصدنك بشكره، ثم قرأ إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، قال: فالأحبار العلماء والرهبان الزهاد، وقال سهل بن عبد الله: طلاب العلم ثلاثة، فواحديطلب علم الورع مخافة دخول الشبهة عليه، فيدع الحلال خوف الحرام فهذا زاهد تقي، وآخر يطلب علم الاختلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 والأقاويل فيدع ما عليه ويدخل فيما أباح الله تعالى بالسعة ويأخذ للرخصة، وآخر يسأل عن شيء فيقال: هذا لا يجوز فيقول: كيف أصنع حتى يجوز لي، فيسأل العلماء فيخبرونه بالاختلاف والشبهة، فهذا يكون هلاك الخلق على يديه وقد أهلك نفسه وهم علماء السوء، واعلم أن كل محب للدنيا ناطق بعلم فإنه آكل للمال بالباطل وكل من أكل أموال الناس بالباطل فإنه يصد عن سبيل الله لا محالة وإن لم يظهر ذلك في مقاله ولكنك تعرفه في لحن معناه بدقائق الصد عن مجالسة غيره وبلطائف المنع من طرقات الآخرة لأن حب الدينا وغلبة الهوى يحكما عليه بذلك شاء أم أبى. وقال بعض العلماء: إن الله عزّوجلّ يحب العالم المتواضع ويبغض الجبار من العلماءومن تواضع لله تعالى ورثه الله تعالى الحكمة، وفي الخبر عن ابن مسعود: إن الله تعالى ليمقت الحبر السمين، وقال رسول الله لمالك بن الصيف: حبر من أحبار اليهود، فقال: نشدتك الله تعالى ألم تجدفيما أنزل تعالى على موسى عليه السلام أن الله تعالى يبغض الحبر السمين، وكان ابن الصيف سميناً فغضب عندها فقال: (ما أنْزل اللهُ على بَشَرٍ منْ شَيءٍ) الأنعام: 91، ففيه نزلت هذه الآية تعريفاً لبهته: (قُلْ مَنْ أنْزلَ الكِتابَ الَّذي جاءَ بهِ مُوسى نُوراً) الأنعام: 91، فقال له أصحابه: ويحك ماذا قلت جحدت كتاب موسى فقال: إنه محكني فقلت ذلك ويقال ما آتى الله تعالى عبداً علماً إلا أتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً فذلك علامة العلم النافع، وقد روينا معناه في الأثر: من آتاه عزّ وجلّ زهداً وتواضعاً وحسن خلق فهو إمام المتقين، وكان الحسن يقول: الحلم وزير العلم والرفق أبوه والتواضع سرباله، وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه يا داودلاتسألنّ عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، يا داود إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً، يا داود من ردّ إليّ هارباً كتبته عندي جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً. وروينا عن عيسى عليه السلام: مثل علماء السوء مثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا تترك الماء يخلص إلى الزرع، وكذلك علماء الدنيا قعدوا على طريق الآخرة فلا هم نفذوا ولا تركوا العباد يسلكون الله عزّ وجلّ، قال: ومثل علماء السوء كمثل قناة الحش ظاهرها حسن وباطنها نتن ومثل القبور المشيدة ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وقال بشر بن الحارث: من طلب الرياسة من العلماء فتقرب إلى الله تعالى ببغضه فإنه مقيت الله في السماء والأرض، وكان الأوزاعي يروي عن بلال بن سعد أنه كان يقول: ينظر أحدكم إلى الشرطي والعون فيستعيذ بالله تعالى من حاله ويمقته وينظر إلى عالم الدنيا قد تصنع للخلق وتشوف للطمع والرياسة فلا يمقته، هذا العالم أحقّ بالمقت من ذلك الشرطي، وقد كان أبو محمد يقول: لا تقطعوا أمراً من الدين والدنيا إلابمشورة العلماء تحمدوا العاقبة عند الله قيل: يا أبا محمد من العلماء؟ قال الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا ويؤثرون الله تعالى على نفوسهم، وقد قال عمر رضي الله عنه في وصيته: وشاور في أمورك الذين يخشون الله تعالى. وروينا في الإسرائيليات أن حكيماً من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين مصحفاً في الحكمة حتى وصف بالحكم فأوحىالله تعالى إلى نبيهم: قل لفلان قد ملأت الأرض نفاقاً ولم تردني بشيء من ذلك وإني لا أقبل شيئاً من نفاقك قال: فأسقط في يديه وحزن وترك ذلك وخالط العامة ومشى في الأسواق وواكل بني إسرائيل وتواضع في نفسه فأوحى الله تعالى إلى النبي عليه السلام: قل له الآن وافقت رضاي، وقال بعض العلماء: كان أهل العلم على ضربين، عالم عامة وعالم خاصة، فأما عالم العامة فهو المفتي في الحلال والحرام وهؤلاء أصحاب الأساطين، وأما عالم الخاصة فهو العالم بعلم التوحيد والمعرفة هؤلاء أهل الزوايا وهم المنفردون وقد كانوا يقولون مثل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه مثل دجلة كل أحد يعرفها، ومثل بشر بن الحارث مثل بئر عذبة مغطاة لا يقصدها إلا واحد بعد واحد، وقال حماد بن زيد: قيل لأيوب العلم اليوم أكثر أو فيما مضى؟ فقال: العلم فيما مضى كان أكثر والكلام اليوم أكثر، ففرق بين العلم والكلام وقد كانوا يقولون فلان عالم وفلان متكلم وفلان أكثر كلاماً وفلان أكثر علماً، وكان أبو سليمان يقول: المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى الكلام، وقال بعض العارفين هذا العلم على قسمين: نصفه صمت ونصفه تدري أين تضعه، وزاد آخر: ونصفه وجد ونصفه نظريعني تفكراً واعتباراً، وسئل سفيان عن العالم من هو؟ فقال: من يضع العلم في مواضعه ويؤتي كل شيء حقه، وقال بعض الحكماء: إذا كثر العلم قل الكلام، وقد كان إبراهيم الخواص رحمه الله يقول: الصوفي كلما ازداد علماً نقصت طينته، وقال بعض شيوخنا: قلت للجنيد يا أبا القاسم يكون لسان بلاقلب، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 كثير: قلت فيكون قلب بلا لسان فقال: نعم قد يكون، ولكن لسان بلا قلب بلاء وقلب بلا لسان نعمة قلت فإذا كان لسان وقلب قال: فذاك الزيد بالنرسبان يعني العسل. وقد روينا حديثاً مقطوعاً عن سفيان عن مالك بن مغول قال: قيل يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: اجتناب المحارم ولايزال فوك رطباً من ذكر الله تعالى، قيل: يا رسول الله فأي الأصحاب خير؟ قال: صاحب إن ذكرت أعانك وإن نسيت ذكرك، قيل: فأي الأصحاب شر؟ قال: صاحب إن سكت لم يذكرك وإن ذكرت لم يعنك، قال: فأي الناس أعلم؟ قال: أشدهم لله تعالى خشية، قال فاخبرنا بخيارنا نجالسهم قال: الذين إذا رأوا ذكر الله تعالى قالوا: فأي الناس شر يا رسول الله؟ قال: اللهم اغفرا قالوا أخبرنا يا رسول الله قال: العلماء إذا فسدوا وقد وصف علي عليه السلام علماء الدنيا الناطقين عن الرأي والهوى بوصف غريب. رويناه عن خالد بن طليق عن أبيه عن جده وجده عمران بن حصين قال: خطبنا علي بن أبي طالب عليه السلام ورضي عنه فقال: ذمتي رهينة وأنا زعيم لا يهيج على التقوي زرع قوم ولا يظمأ على الهدى شح أصل، وإن أجهل الناس من لا يعرف قدره وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره، وإن أبغض الخلق إلى الله تعالى رجل قمش علماًً أغار في أغباش الفتنة عمي عماً في غيب الهدنة سماه أشباه الناس وأرذالهم عالماً ولم يغن في العلم يوماً سالماًً بكر فاستكثر مما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن وأكثر من غير طائل جلس للناس مفتياً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ؟ لها عشوالرأي من رأيهم فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أخطأ أم أصاب ركاب الجهالات خباط عشوات ظلمة لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ولا يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم، تبكي منه الدماء وتصرخ منه المواريث وتستحل بقضائه الفروج الحرام، لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل لما قرطبه أولئك الذين حلت عليهم النياحة والبكاء أيام حياة الدنيا، ووصف علي عليه السلام علماء الآخرة في حديث كهيل بن زياد الذي يقول فيه الناس: ثلاثة عالم رباني يعني عالماً بالربوبية فننسبه إلى رب كما سماهم الله في قوله: (كُونُوا رَبَّانِيِّين بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ) آل عمران: 79 الآية، فسمّى العالم بكتابه ربانياً والدارس له ربانياً فهذا قد جمع العلم والعمل وكذلك يقال: العالم الرباني هو الذي يعلم ويعمل ويعلم الناس الخير، قال: فذاك الذي يدعى عظيماً في ملكوت السماء، وقال تعالى في تقدمتهم: (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأحْبَارُ) المائدة: 63 فقدم الربانيين على الأحبار وهم علماء الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وكذلك رويناه عن مجاهد قال: الربانيون فوق الأحبار درجة، وقال غيره: والأحبار فوق الرهبان يعني علماء القلوب أرفع من علماء الألسنة والعلماء بالكتب أفضل من العباد بدرجة، وقد ضمهم الله تعالى إلى أنبيائه في النصرة له والصبر معه في قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثيرٌ) آل عمران: 641، ثم وصفهم بالثبات لأمره والقوة في دينه والصبر لحكمه في تمام الآية وربيون جمع ربي يقال ربي ورباني فجمع ربي ربيون وجمع رباني ربانيون. وكذلك جاء عن رسول الله: يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء فقدم العلماء على الشهداء لأن العالم إمام أمة فله مثل أجور أمته والشهيدعمله لنفسه، وفي خبر آخر: حبر العلماء يوزن بدم الشهداء فأعلى حال الشهيد دمه وأدنى وصف العالم حبره، فسوى بينهما وزاد العالم على الشهيد بأعلى مقامه وكان علي عليه السلام يقول العالم أفضل من الصائم القائم والمجاهد في سبيل الله وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمةلا يسدها إلاخلف منه. وقد روينا معناه مسنداً إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيءما طرد الليل والنهار إلا موت العالم بحم طمس وموت قبيلة أيسر من موت عالم ثم قال علي عليه السلام في حديث كهيل ومتعلم على سبيل النجاة يعني مريداً طالباً للعلم متعلماً من العلماء بالله تعالى على طريق معاملة وإخلاص لطلب السلامة وأن ينجو من الجهل في الدنيا ومن العذاب في الآخرة، ثم قال: وهمج رعاع الهمج الفراش الذي يتهافت في النار لجهله واحدته همجة رعاع خفيف طياش لاعقل له يستفزه الطمع ويستخفه الغضب ويزدهيه العجب ويستطيله الكبر ثم بكى علي عليه السلام وقال: هكذا يموت العلم بموت حامليه ثم تنفس عند وصف الربانيين فقال: واشوقاه إلى رؤيتهم يعني الربانيين من العلماء وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في الباب الذي قبل هذا، فهؤلاء الذين بكى عليهم شوقاً هم الذين اشتاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم قبله فقال: واشواقاه إلى لقاء إخواني ووددت أني قد رأيت إخواني، ثم قال: هم قوم يجيئون بعدكم، ثم وصفهم فإنما كانوا إخوانه لأن قلوبهم على قلوب الأنبياء عليهم السلام وأخلاقهم بمعاني صفات الإيمان وهم أبدال هذه الأمة جاء في وصفهم ما يجل عن الوصف هم على ثلاث طبقات: صديقون، وشهداء، وصالحون، وإن منهم من قلبه على قلب إبراهيم الخليل ومنهم من قلبه على قلب موسى الكليم وعيسى الروح ومحمد الحبيب صوات الله عليهم وسلم أجمعين، ومنهم على قلب جبريل وميكائيل وإسرافيل والأخوة تقع بين الاثنين في المجالسة وقرب الشبه في الأفعال والأخلاق كما قال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذين نافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوانِهِمْ الَّذينَ كَفَرُوا) الحشر: 11 لما كانوا على أوصافهم في القلوب من أسرار الكفر واعتقاد الشك جعلهم إخواناً، وكذلك قال: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وهؤلاء ليسوا أمثالهم في الخلقة ولا بينهم أبوة ولا أمومة لأن الشياطين من ولد إبليس والمبذرين أولاد آدم عليه السلام، ولكن تشابهت قلوبهم في المواجيد والأخلاق والأفعال، فآخى بينهم للتشابه، فمن كان من علماء الآخرة فعقله يستضيء من أنوار قلبه وفهمه ينبئ عن استنباط علمه ومشاهدته وأخلاقه على معاني يقينه وقوته وطريقه وسلوكه في منهاج سنته وسبيله فهو من إخوانه وإخوان النبيين الذين اشتاق إلى رؤيتهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم الغرباء بين الملأ الذين قال بدا الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي لفظ آخر الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي والذين يحيون ما أمات الناس من سنتي يعني أنهم يظهرون طريقته التي تركها الناس وجهلوها، وفي خبر آخر: هم المتمسكون بسنتي وما أنتم عليه اليوم، وفي حديث آخر: الغرباء ناس قليلون صالحون بين ناس سوء كثيرين من يبغضهم أكثر ممن يحبهم، فهؤلاء الغرباء الذين قد أنعم الله عليهم بمرافقة النبيين في أعلى عليين فقال مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقاً، وقد كان الثوري يقول: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فأعلم أنه مخلط، وقال أيضاً إذا رأيت الرجل محبباً إلى إخوانه محموداً في جيرانه فأعلم أنه مراء، وقد وصف الله تعالى علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد فقال تعالى في علماء الدنيا: (وإذْ أخذاللهُ مِيثاق الذين أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلْنَّاس ولا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمِ واشتَرَوْا بهِ ثًمناً قليلاً) آل عمران: 187، وقال في نعت علماءالآخرة: (وإنَّ مِنْ أهْلِ الكِتابَ لَمَن يُؤمْنُ بِالله وما أُنْزل إليْكُم) آل عمران: 199 إلى قوله: (لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم) آل عمران: 199 وقد روينا عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علماء هذه الأمة رجلان، فرجل آتاه الله علماً فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعاً ولم يشتر به ثمناً فذاك يصلي عليه طير السماء وحيتان الماء ودواب الأرض والكرام الكاتبون يقدم على الله تعالى يوم القيامة سيداً شريفاً حتى يرافق المرسلين، ورجل أتاه الله تعالى علماً في الدنيا فضنّ به عن عباد الله عزّ وجلّ وأخذ عليه طمعاً واشترى به ثمناً يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار ينادي مناد على رؤوس الخلائق: هذا فلان بن فلان آتاه الله تعالى علماً في الدنيا فضنّ به على عبادالله تعالى وأخذعليه طمعاً واشترى به ثمناً يعذب حتى يفرغ من حساب الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ومن أغلظ ما سمعت فيمن أكل الدنيا بالعلم ما حدثونا عن عتبة بن واقد عن عثمان بن أبي سليمان قال: كان رجل يخدم موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل يقول: حدثني موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحدثني موسى نجي الله، حدثني موسى كليم الله، حتى أثرى وكثر ماله ففقده موسى صفي الله فجعل يسأل عنه فلا يحس له أثراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود فقال له موسى عليه السلام: أتعرف فلاناً قال الرجل: نعم هوذا الخنزير: فقال موسى: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله فيما أصابه هذا فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى لو دعوتني بما دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه ولكني أخبرك لم صنعت به هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين. وروينا عن الحسن بأنه انصرف يوماً من مجلسه فأستأذن عليه رجل من أهل خراسان فوضع بين يديه كيساً فيه خمسة آلاف درهم وأخرج من حقيبته رزمة فيها عشرة أثواب من دقيق بر خراسان، فقال الحسن: ما هذا؟ فقال: يا أبا سعيد هذه نفقة وهذه كسوة، فقال له: عافاك الله ضم إليك نفقتك وكسوتك فلا حاجة لنا بذلك، إنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله تعالى يوم القيامة لاخلاق له، وفي خبر: إن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة وعلماء الدنيا الطالبون لها بالعلم الآكلون لها بالدين المتخذون الأصدقاء والأخلاء من أبنائها المكرمون المحبون لهم المقبلون بالبشر والبشاشة عليهم هم معرفون في كل زمان بأوصافهم ولحن قولهم وسيماهم، وقد روينا في مقامات علماء السوء حديثاً شديداً نعوذ بالله من أهله ونسأله أن لا يبلونا بمقام منه فرويناه مرة مسنداً من طريق ورويناه موقوفاً على معاذ بن جبل رضي الله عنه وأنا أذكره موقوفاً أحب إليّ، حدثونا عن منذر بن علي عن أبي نعيم الشامي عن محمد بن زياد عن معاذ بن جبل يقول فيه: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووافقته أنا على معاذ قال: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحبّ إليه من الاستماع، وفي الكلام تنميق وزيادة ولا يؤمن على صاحبه الخطأ وفي الصمت سلامة وعلم، ومن العلماء من يخزن علمه فلا يحب أن يوجد عند غيره فذلك في الدرك الأوّل من النار، ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان فإن رد عليه شيء من علمه أو تهاون بشيء من حقه فغضب فذلك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يجعل حديثه وغرائب علمه لأهل الشرف واليسار ولا يرى أهل الحاجة له أهلاً فذلك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي بالخطا والله عزّ وجلّ يبغض المتكلفين فذلك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغزر به علمه فذلك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة ونبلاً وذكراً في الناس فذلك في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يستفزه الزهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 والعجب فإن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذلك في الدرك السابع من النار عليك بالصمت فيه تغلب الشيطان وإياك أن تضحك من غير عجب أو تمشي في غير أرب. وقد روينا حديثاً يدل على أوصاف علماء الآخرة وفيه أصول ما يدعون الخلق إليه من مقامات الإيمان وأسباب الدين والإيقان، رويناه عن شقيق بن إبراهيم البلخي عن عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر ذكره عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وواقفته أنا على جابر بن عبد الله قال: لا تجلسوا عند كل عالم إلا عالم يدعوكم من خمس إلى خمس من الشك إلى اليقين ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة ومما يدلك أن علم اليقين والتقوى وعلم المعرفة والهدى هو العلم المذكور، المقصود عند السلف أن الصحابة والتابعين كانوا يشفقون من فقد ذلك ويخافون عدمه ويخبرون عن رفعه وقلته في آخر الزمان وإنما يعنون بذلك علم القلوب والمشاهدات الذي هو نتيجة التقوى وعلم المعرفة واليقين الذي هو من مزيد الإيمان وثمرة الهدى، فإذا فقد المتقون وقل الخائفون وعدم الزاهدون ذهبت هذه العلوم لأنها قائمة بهم موجودة عندهم هم أربابها والناطقون بها وهي أحوالهم وطرائقهم هم السالكون لها والقائمون بها فلأجل معرفة الصحابة والتابعين عزة ذلك كانوا يبكون على فقده، وقدوصف الله العلماء بالزهد في الدنيا والاستصغار لها وبعمل الصالحات والإيمان بها كما وصف أبناء الدنيا بالرغبة فيها والإستعظام لها قال تعالى في معنى ذلك: (فَخَرَجَ على قَوْمِهِ في زينتهِ قال الَّذين يُريدونَ الْحياة الدُّنْيا يا ليْتَ لنا مِثْل ما أُوتي قارُونُ إنَّهُ لذُو حظٍّ عَظيمٍ) القصص: 79، (وقال الَّذين أوتُوا العِلْمَ وَيْلكُمْ ثوابُ الله خِيْرٌ لِمَنْ آمنَ وعمِلَ صالحِاً) ، ثم قال عزّ وجل: (ولا يُلَقَّاها إلا الصَّابِرون) القصص: 80، أي لا يلقى هذه الحكمة إلا الصابرون عن زينة الدنيا التي خرج فيها قارون. وروينا عن جندب بن عبد الله البجلي قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلماناً حزاورة فيعلمنا الإيمان قبل القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً، وعن ابن مسعود قال: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملاً وسيأتي قوم يثقفونه تثقيف الغناء ليسوا بخياركم، وفي لفظ آخر: يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه، وروينا عن ابن عمر وغيره لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يتوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن ولقد رأيت رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده وينثره نثر الدقل، وفي الخبر الآخر بمعناه: كنا أصحاب رسول الله أوتينا الإيمان قبل القرآن وسيأتي بعدكم قوم يؤتون القرآن قبل الإيمان يقيمون حروفه ويضيعون حدوده ويقولون قرأنا، فمن أقرأ منا وعلمنا فمن أعلم منا فذلك حظهم منه، وفي لفظ آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أولئك شرار هذه الأمة، فأما العلم المأثور الذي نقله خلف عن سلف والخبر المرسوم في الكتب المستودع في الصحف الذي يسمعه من غبر عمن قدم فهذا علم الأحكام والفتيا وعلم الإسلام والقضايا طريقه السمع ومفتاحه الاستدلال وخزانته العقل وهو مدون في الكتب ومحبر في الورق يتلقاه الصغير عن الكبير بالألسنة وهو باق بقاء الإسلام وموجود بوجود المسلمين لأنه حجة الله تعالى على عباده ومحجة العموم من خلقه فضمن إظهاره فلم يكن ليظهر إلا بحملة تظهره ونقلة تحمله فقال تعالى: (لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الصف: 9، وكما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعناه وعلم ظاهر على اللسان فذلك حجة الله تعالى على خلقه وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعلم العتيد المستودع ظهور الكتب الذي هو ظاهر الدين وفي جهله وعدمه وجود الشرك كما ضمن الله تعالى تبقية الإسلام على كره المشركين وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم اللّّه من سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه فربّ حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وقد أخبر أن حامل الفقه قد يكون غير فقيه القلب إذا لم يعمل بعلمه وأنه قد يحمله إلى من هو أفقه منه إذا عمل به إذا وعاه كما قال في الخبر الآخر: ربّ مبلغ أوعى من سامع فمدحه بالعمل به إذا وعاه، فتذكر به وتفكر فيه وإن لم يكن سمعه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الله سبحانه وتعالى: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) الحاقة: 12 يعني أذن القلب الحافظة ما سمعت الذاكرة لما وعت كما قال تعالى: (إنَّ في ذلك لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهيدٌ) ق: 37 يعني أصغي بسمعه إلى سامعه وشهد بقلبه ما سمعه من شاهده، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: (وَتَعِيها أُذُن ٌواعيِةٌ) الحاقة: 12، قال: أذن عقلت عن الله تعالى أمره ونهيه فوعته وعملت به كما وصف سبحانه وتعالى المؤمنين الذين نعتهم بقوله في تمام وصفهم: (والحْافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) التوبة: 112، وقدروينا عن عليّ رضي الله عنه: اطلبوا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، وقال أيضاً رضي الله عنه: إذا سمعتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب وقال بعض السلف: من ضحك ضحكة مج مجة من العلم، وقال الخليل بن أحمد رحمه اللهّ: ليس العلم ما حواه القمطر إنما العلم ما وعاه الصدر، وإذا جمع العالم ثلاثاً تمت النعمة به على المتعلم الصبر والتواضع وحسن الخلق، وإذا جمع المتعلم ثلاثاً تمت النعمة به على العالم العقل والأدب وحسن الفهم والله أعلم. ذكر وصف العلم وطريقة السلف وذم ما أحدث المتأخرون من القصص والكلام لا بدّ للعالم بالله تعالى من خمس هي علامة علماء الآخرة: الخشية، والخشوع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 والتواضع، وحسن الخلق، والزهد، قال الله تعالى: (إنَّما يَخْشى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلماءُ) فاطر: 28 وقال تعالى: (خاشِعينَ لله) آل عمران: 199 الآية فلا بدّ له من التواضع وحسن الخلق، قال اللّّه عزّ وجلّ: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنينَ) (وَقُلْ إني أنا النَّذيرُ المْبُينُ) الحجر: 88 - 89، وقال تعالى: (فبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ) آل عمران: 159 الآية والزهد في الدنيا، قال الله تعالى: (الَّذينَ أُوتُوا الْكتَابَ) التوبة: 29 ويلكم ثواب الله خير فمن وجد فيه هذه الخلال فهو من العلماء بالله عزّ وجل واعلم أنه إنما يستبين العالم عند المشكلات في الدين ويحتاج إلى العارف عند شبهات حاكت الصدور كما قال عبد الله بن مسعود رضي اللّّه عنه: لا تزالون بخير ما إذا حاك في صدر أحدكم شيء وجد من يخبره به ويشفيه منه وأيم الله أوشك أن لا تجدوا ذلك، وكما قال له رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الناس أعلم فقال: الله ورسوله أعلم، فقال أعلمهم بالحق إذا اشتبهت الأمور ووقعت المشكلات، وإن كان يزحف على أسته، فكذلك إذا اختلف الناس وإن كان في عمله تقصير وكما قال في حديث عمران بن حصين: إن الله تعالى يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند هجوم الشهوات ويحب السخاء ولو على تمرات ويحب الشجاعة ولوعلى قتل الحيات، وقد حصلنا في زماننا هذا في مثل ما خافه ابن مسعود لأن مشكلة لو وردت في معاني التوحيد وشبهة لو اختلجت في صدر مؤمن من معاني صفات الموحد وأردت كشف ذلك على حقيقة الأمر بما يشهده القلب الموفق ويثلج له الصدر المشروح بالهدى كان ذلك عزيزاً في وقتك هذا ولكنت في استكشاف ذلك بين خمسة نفر، مبتدع ضال يخبرك برأيه عن هواه فيزيدك حيرة، أو متكلم يفتيك بقصور علمه عن شهادة الموقنين وبقياس معقوله على ظاهر الدين وهذا شبهة فكيف تنكشف به شبهة، أو صوفيّ شاطح تائه غالط يجاوز بك الكتاب والسنة لا يباليهما ويخالف بقوله الأئمة لا يتحاشاها فيجيبك بالظن والوسواس والحدس والتمويه ويمحو الكون والمكان ويسقط العلم والأحكام ويذهب الأسماء والرسوم، وهؤلاء تائهون في مفازة التيه لم يقفوا على الحجة قد غرقوا في بحر التوحيدلم يجعلوا أئمة المتقين ولا حجة للمتقين وهذا ساقط القول إذ ليس معه حجة ولا هو على سنن المحجة، أو مفتٍ عالم عند نفسه موسوم بالفقه عند أصحابه يقول هذا من أحكام الآخرة ومن علم الغيب لا نتكلم فيه لأنّا لم نكلفه وهو في أكثر مناظرته يتكلم فيما لم نكلف ويجالد فيما لم ينطق به السلف ويتعلم ويعلم ما علمه بتكلف ولا يعلم المسكين أنه كلف علم يقين الإيمان وحقيقة التوحيدومعرفة إخلاص المعاملة وعلم ما يقدح في الإخلاص ويخرج من جملته قبل ما هو فيه لأنه متكلف لبعض ما هو يبتغيه لأن علم الإيمان وصحة التوحيد وإخلاص العبودية للربوبية وإخلاص الأعمال من الهوى الدنيوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وما يتعلق بها من أعمال القلوب هو من الفقه في الدين ونعت أوصاف المؤمنين إذ مقتضاه الإنذار والتحذير لقوله تعالى: (لِيَتفَقَّهُوا في الدينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) التوبة: 122 الآية، ولقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلموا اليقين فإني متعلم معكم ولقول الصحابة رضي الله عنهم تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً فهذا مزيداً الهداية بالإيقان وهو زيادة المؤمنين في الإيمان كما قال تعالى: (فَزَادَهُمْ إيماناً) آل عمران: 173 وقال عزّ وجلّ: (ويَزَيدُ الله الَّذينَ اهْتَدَوْا هُدىً) مريم: 76 ولا يشعر أن حسن الأدب في المعاملة بمعرفة ويقين هو من صفات الموقنين وذلك هو حال العبد في مقامه بينه وبين ربه عزّ وجل ونصيبه من ربه تعالى، وحظه من مزيد آخرته. وذلك معقود بشهادة التوحيدالخالصة المقترنة بالإيمان من خفايا الشرك وشعب النفاق وهو مقترن بالفرائض وفرض فرضها الإخلاص بالمعاملة وإن علم ما سوى هذا مما قد أشرب قلبه وحبب إليه من فضول العلوم وغرائب الفهوم إنما هو حوائج الناس ونوازلهم فهو حجاب عن هذا واشتغال عنه، فآثر هذا الغافل لقلة معرفته بحقيقة العلم النافع ما زين له طلبه وحبّب إليه قصده، آثر حوائج الناس وأحوالهم على حاجته وحاله وعمل في أنصبتهم منه في عاجل دنياهم من نوازل طوارقهم وفتياهم ولم يعمل في نصيبه الأوفر من ربه الأعلى لأجل آخرته التي هي خبر وأبقى إذ مرجعه إليها ومثواه المؤبد فيها، فآثر التقرب منهم على القربة من ربه عزه وجلّ وترك للشغل بهم حظه من الله تعالى إلا جزل وقدم التفرغ لهم على فراغ قلبه لما قدم لغده من تقواه بالشغل بخدمة مولاه وطلب رضاه واشتغل بصلاح ألسنتهم عن صلاح قلبه وظواهر أحوالهم عن باطن حاله وكان سبب ما بلي به حب الرياسة وطلب الجاه عند الناس والمنزلة بموجب السياسة والرغبة في عاجل الدنيا وعزها بقلة الهمة وضعف النية في عاجل الآخرة وذخره فأفنى أيامه لأيامهم وأذهب عمره في شهواتهم ليسميه الجاهلون بالعلم عالماً وليكون في قلوب البطالين عندهم فاضلاً فورد القيامة مفلساً وعندما يراه من أنصبة المقربين مبلساً إذ فاز بالقرب العاملون وريح الرضا العالمون ولكن أنّى له وكيف بنصيب غيره؟ وقد جعل الله تعالى لكل عمل عاملاً ولكل علم عالماً أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب كل ميسر لما خلق له هذا فصل الخطاب بينهما فإن الأمة لم تختلف، إن علم التوحيد فريضة سيما إذا وقعت الشبهات وأدخلت فيه المشكلات وإنما اختلفوا في مسألتين أي شيء هو التوحيد وفي كيفية طلبه والتوصل إليه، فمنهم من قال بالبحث والطلب ومنهم من يقول بالاستدلال والنظر، ومنهم من قال بالسمع والأثر، وقال بعضهم: بالتوقيف والتسليم وقال بعض الناس: يدرك دركه بالعجز والتقصير عن بلوغ دركه، والرجل الخامس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 من العلماء هو صاحب حديث وآثار وناقل رواية الأخبار يقول لك إذا سألته اعتقد التسليم وأمر الحديث كما جاء ولا تفتيش وهذا يتلو المفتي في السلامة وهو أحسنهم طريقة وأشبههم بسلف العامة خليقة ليس عنده شهادة يقين ولا معرفة بحقيقة ما رآه ولا هو مشاهد واصف لمعنى ما نقله إنما هو للعلم رواية وللأثر والخبر ناقلة عن غير خبر يخبره ولا فقه في نقله فهو على بينة من ربه وليس يتلوه شاهد منه، وقدكان الزهري يقول: حدثني فلان، وكان من أوعية العلم ولا يقول وكان عالماً وكان مالك بن أنس رحمه الله يقول: أدركت سبعين شيخاً من التابعين منهم عباد ومنهم مستجاب الدعاء ومنهم من يستسقى به ما حملت عنهم علماً قط قيل: ولم ذاك قال لم يكونوا من أهل هذا الشأن وفي رواية لم يكونوا يدرون ما يحدثون به ولم يكن لهم فقه فيما يسألون عنه قال مالك وتقدم علينا ابن شهاب الزهري وهو حديث السن فنزدحم عليه حتى نصل إليه لأنه كان عالماً بما يحدث به فهذا بمعنى ما روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. وقال بعض السلف ما كانوا يعدون علم من لا يعرف اختلاف العلماء علماً وقال آخرين: من لم يعرف اختلاف العلماء لم يحل له أن يفتي ولم يسمَّ عالماً وقال قتادة وسعيد بن جبير أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس وقيل للإمام أحمد رضي الله عنه إذا كتب الرجل مائة ألف حديث له أن يفتي، قال: لا، قيل: فمائتي ألف حديث قال: لا قيل فثلاثمائة ألف حديث قال أرجو وفي التوراة مكتوب الطبيب الحاذق للعلة الباطنة يصلح. وكتب سلمان الفارسي من المدائن إلى أبي الدرداء وكان قد آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما فيمن آخى: يا أخي بلغني أنك أقعدت طبيباً تداوي المرضى فانظر فإن كنت طبيباً فتكلم فإن كلامك شفاء وإن كنت متطبباً فالله الله لا تقتل مسلماً، قال: فكان أبو الدرداء يتوقف بعد ذلك إذا سئل عن شيء وسأله إنسان عن شيء فأجابه ثم قال ردوه فقال له: أعد عليّ فأعاد فقال: متطبب والله فرجع في جوابه ولعمري أنه قدجاء عن رسول اللهّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من تطبب ولم يعلم منه طب فقتل فهو ضامن، وقد كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: سلوا جابر بن زيد فلو نزل أهل البصرة على فتياهل وسعهم وكان من صالحي التابعين، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء يقول: سلوا سعيد بن المسيب، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سلوا مولانا الحسن فإنه قد حفظ ونسينا، وقال بعض البصريين: قدم علينا رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتينا الحسن فقلنا ألا نذهب إلى هذا الصحابي فنسأله عن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتجيء معنا؟ قال: نعم فاذهبوا، قال: فجعلنا نسأله عن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل يحدثنا حتى حدثنا عشرين حديثاً قال: والحسن ينصت يستمع إليه، ثم جثا الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 على ركبتيه فقال: يا صاحب رسول الله أخبرنا بتفسير ما رويت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نفقه فيه، فسكت الصحابي وقال ما عندي إلاما سمعت، قال: فابتدأ الحسن رحمه الله يفسر ما رواه، فقال: أما الحديث الأوّل الذي حدثتنا به فإن تفسيره كيت وكيت والحديث الثاني تفسيره كذا وكذا حتى سرد عليه الأحاديث كلها التي حدثنا بها وأخبرنا بتفسيرها، قال: فلا ندري نعجب من حسن حفظه إياه وأدائه الحديث أو من علمه وتفسيره، قال: فأخذ الصحابي كفاً من حصى وحصينا به ثم قال: تسألوني عن العلم وهذا الحبر بين أظهركم فهؤلاء أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردون الأمور في الفتيا وعلم اللسان إلى من هو دونهم في القدر والمنزلة وهو في علم التوحيد والمعرفة والإيمان فوقهم درجات ولا يرجعون إليهم في الشبهات ولا يردون إليهم في علم المعرفة واليقين فهذا كما قيل: إنما العلم نور يقذفه الله تبارك وتعالى في قلوب أوليائه فقد يكون ذلك تفضيلاً للنظراء بعضهم على بعض، وقديكون تخصيصاً للشباب على الشيوخ ولمن جاء بعد السلف من التابعين وربما كان تكرمة للخاملين المتواضعين لينبه عليهم ويعرفون شأنهم ليعظمواويرفعوا كما قال الله تعالى: (وَنُريدُ أنْ نَمُنَّ على الَذينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرضِ وَنَجْعَلهُمْ أَئِمَّةً) القصص: 5 والنور إذا جعل في الصدر انشرح القلب بالعلم ونظر باليقين فنطق اللسان بحقيقة البيان وهو الحكمة التي يودعها الله تعالى في قلوب أوليائه كما جاء في تفسير قوله عز وجلّ: (وَآتيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وفَصْلَ الْخِطابِ) ص: 20 قيل: الإصابة في القول فكأنه يوفقه للحقيقة وقوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ومنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فقدْ أُوتيَ خيْراً كَثيراً) البقرة: 269 قيل: الفهم والفطنة. وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف الهداية حين تلا قوله عزّ وجلّ (فَمَنْ يُرِدِ الله أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ) الأنعام: 125 فقيل: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ فقال: إن النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح، قيل: فهل لذلك من علامة؟ قال: نعم التجافي عن دارالغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله فذكر سببه الزهدفي الدنياوالإقبال على خدمة المولى وحسن التوفيق والإصابة في العلم مواهب من اللهّ عزّ وجلّ وأثرة يختص بها من يشاء كما سئل أبو موسى الأشعري وهو أمير الكوفة عن رجل قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر أين هو؟ فقال أبو موسى: في الجنة، فقال ابن مسعود للسائل: أعد على الأمير فتياك فلعله لم يفهم، قال السائل: قلت أيها الأمير ما قولك في رجل قاتل في سبيل الله فقتل مقبلاً غير مدبر أين هو؟ فقال أبو موسى: في الجنة، فقال ابن مسعود رضي الله عنه أعد على الأمير فلعله لم يفهم فأعاد عليه ثلاثاً كل ذلك يقول أبو موسى في الجنة، ثم قال ما عندي غير هذا فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود لكني لا أقول هكذا، قال: فما قولك؟ فقال: أقول إن قتل في سبيل الله فأصاب الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فهو في الجنة فقال أبو موسى صدق لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم والقول في تسليم أخبار الصفات والسكوت عن تفسيرها كما قال أصحاب الحديث إلا أن بمعرفة معاني الأسماء والصفات وشهودها ينفي الظن والوسواس فيها وترك التشبيه والتمثيل بها والطمأنينة إلى اليقين بالمعرفة بمشاهدتها هو مقام الموقنين واعتقاد أنها صفات لله تعالى يتجلى بها وبما شاء من غيرها بلا حد ولا عدد يظهر بصفة صفة كيف شاء غير موقوف على صفة ولا محكوم عليه بصورة بلا إظهار غيرته بل هو كيف ظهر وبأي وصف تجلّى مع نفي الكيفية والمثلية لفقد الجنس والجوهرية هو مقام المقربين من الشهداء، وهؤلاء هم الصديقون وخصوص الموقنين فمن عدل به عن وجهة هؤلاء ولم يواجه بشهادتهم عدل إلى التسليم والتصديق فوقف عنده فكان معقله واستراحته وليس بعد هؤلاء مقام يمدح ولا وصف يذكرفمن فتش ذلك بعقله وفسره برأيه دخل عليه التشبيه أو خرج إلى النفي والإبطال. ومن الدليل على فضل هذا العلم على سائر العلوم ما جاء في الأخبار المأثورة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين في فضل مجالس الذكر وفضل الذاكرين: إنما يريدون به علم الإيمان والمعرفة وعلوم المعاملات والتفقه في بصائر القلوب والنظر بعين اليقين إلى سرائر الغيوب وليس يريدون به مجالس القصص ولا يعنون بذلك القصاص لأنهم كانوا يرون القصص بدعة ويقولون لم يقص في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبي بكر ولا عمر حتى ظهرت الفتنة فلما وقعت الفتنة ظهر القصاص ولما دخل علي رضي اللهّ عنه البصرة جعل يخرج القصاص من المسجد ويقول: لا يقصّ في مسجدنا حتى انتهى إلى الحسن وهو يتكلم في هذا العلم فاستمع إليه ثم انصرف ولم يخرجه وجاء ابن عمر إلى مجلسه من المسجد فوجد قاصّاً يقصّ فوجّه إليه صاحب الشرطة أن أخرجه من المسجد فأخرجه، فلو كان القصص من مجالس الذكر والقصّاص علماء لما أخرجهم ابن عمر من المسجد، هذا مع ورعه وزهده، وقد روينا عن ابن شوذب عن أبي التياح قال: قلت للحسن إمامنا يقصّ فيجتمع الرجال والنساء فيرفعون أصواتهم بالدعاء ويمدون أيديهم فقال الحسن: رفع الصوت بالدعاء بدعة ومدّ الأيدي بالدعاء بدعة، وروى أبو الأشهب عن الحسن: القصص بدعة، وقيل لابن سيرين: لو قصصت على إخوانك فقال: قد قيل لا يتكلم على الناس إلا أحد ثلاثة: أمير أو مأمور أو أحمق فلست بأمير ولا مأمور وأكره أن أكون الثالث. وروينا عن عون بن موسى عن معاوية بن قرة قال: سألت الحسن البصري قلت: أعود مريضاً أحبّ إليك أوأجلس إلى قاصّ، فقال: عد مريضك فقلت أشيع جنازة أحبّ إليك أو أجلس إلى قاصّ قال: شيع جنازتك قلت: وإن استعان بي رجل في حاجة أعينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أو أجلس إلى قاصّ قال: اذهب في حاجتك حتى جعله خيراً من مجالس الفراغ، فلوكانت مجالس الذكر عندهم هي مجالس القصّاص ولو كان القصص هو الذكر لما وسع الحسن أن يثبط عنه ولا يؤثر عليه كثيراً من الأعمال لأنه قد كان يدعو إلى الله تعالى بالتوحيد ويتكلم في علم المعرفة واليقين والذاكرين لله تعالى وحضور مجلس الذكر من مزيد الإيمان وقد رفع الله تعالى مقام الذاكرين فوق مقام المؤمنين في قوله تعالى: (إنَّ المُسْلِمينَ والْمسْلِمَاتِ والْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ) الأحزاب: 35 فجعل الذاكرين والذاكرات أعلى المقامات. وقد روينا في خبر أبي ذر حضور مجلس ذكر أفضل من صلاة ألف ركعة وحضور مجلس علم أفضل من عيادة ألف مريض وحضور مجلس علم أفضل من شهود ألف جنازة، قيل يا رسول الله ومن قراءة القرآن فقال: وهل تنفع قراءة القرآن إلا بعلم؟ وقال بعض السلف: حضور مجلس ذكر يكفر عشرة من مجالس الباطل وأما عطاء فإنه قال مجلس ذكريكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو وحدثونا عن معاذ الأعلم قال: رآني يونس بن عبيدوأنا في حلقة المعتزلة فقال تعال فجئت فقال: إن كنت لا بد فاعلاً فعليك بحلقة القصاص، وقد كان الحسن البصري أحد المذكرين وكانت مجالسه مجالس الذكر يخلو فيها مع إخوانه وأتباعه من النساك والعباد في بيته مثل مالك بن دينار وثابت البناني وأيوب السجستاني ومحمد بن واسه وفرقد السنجي وعبد الواحد بن زيد فيقول: هاتوا انشروا والنور فيتكلم عليهم في هذا العلم من علم اليقين والقدرة في خواطرالقلوب وفساد الأعمال ووسواس النفوس وربما قنع بعد أصحاب الحديث رأسه فاختفى من ورائهم ليسمع ذلك فإذا رآه الحسن قال له: يا لكع وأنت ما تصنع ههنا؟ إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر والحسن رحمه الله هو إمامنا في هذا العلم الذي نتكلم به أثره نقفو وسبيله نتبع ومن مشكاته نستضيء أخذنا ذلك بإذن الله تعالى إماماً عن إمام إلى أن ينتهي ذلك إليه، وكان من خيار التابعين بإحسان قيل: ما زال يعي الحكمة أربعين سنة حتى نطق بها وقدلقي سبعين بدرياً ورأى ثلاثمائة صحابي وولد لليلتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة عشرين من التاريخ ولد بالمدينة وكانت أمه مولاة لأم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقال إنها ألقمته ثديها تعلله حين بكى فدّر ثديها عليه وكان كلامه يشبه بكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأى عثمان بن عفان ولعي بن أبي طالب ومن بقي في وقته من العشرة ثم رأى من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عهد عثمان ومن سنة نيف وعشرين من الهجرة إلى سنة نيف وتسعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ومن آخر من مات من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبصرة أنس بن مالك وبالمدينة سهل بن سعد الساعدي ومكة أبو الطفيل وباليمن أبيض بن جمال المازني وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى وبالشام أبو قرصافة وبخراسان بريدة الأسلمي ودخلت سنة مائة من التاريخ ولم يبق على وجه الأرض عين تطرف رأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع أطراف الأرض ثم توفي الحسن في سنة عشر ومائة وكان أبو قتادة العدوي يقول: عليكم بهذا الشيخ فو الله ما رأينا أحداً لم يصحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشبه بأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه وكانوا يقولون كنا نشبهه بهدى إبراهيم الخليل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلمه وخشوعه ووقاره وسكينته فكان على شمائله ونذرت امرأة بالبصرة نذراً إن فعل الله تعالى ذلك بها أن تنسج ثوباً من غزلها وصفته وتكسوه خير أهل البصرة فرأت تمام نذرها فوفت بما نذرت ثم سألت: من خير أهل البصرة؟ فقالوا: الحسن، وكان الحسن رضي الله عنه أول من أنهج سبيل هذا العلم وفتق الألسنة به ونطق بمعانيه وأظهر أنواره وكشف به قناعه وكان يتكلم فيه بكلام لم يسمعوه من أحد من إخوانه فقيل له: يا أبا سعيد إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك، فممّن أخذت هذا؟ فقال: من حذيفة بن اليمان قيل: وقالوا الحذيفة بن اليمان نراك تتكلم في هذا العلم بكلام لا نسمعه من أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن أين أخذته فقال خصّني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه وعلمت أن الخير لا يسبقني وقال مرة فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير. وفي لفظ آخر كان الناس يقولون يا رسول الله مالمن عمل كذا وكذا يسألونه عن فضائل الأعمال وكنت أقول: يا رسول الله ما يفسد كذا وكذا؟ فلما رآني أسأل عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم وكان حذيفة قد خص بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق وبسرائر العلم ودقائق الفهم وخفايا اليقين من بين الصحابة فكان عمر وعثمان وأكابر أصحاب رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه عن الفتن العامة والفتن الخاصة ويرجعون إليه في العلم الذي خصه به ويسألونه عن المنافقين وهل بقي منهم ممن ذكر الله تعالى وأخبر عنهم أحد فكان يخبر بأعدادهم ولا يذكر أسماءهم وكان عمر يستكشفه عن نفسه هل يعلم فيه شيئاً من النفاق فبرأه منه ثم يسأله عن علامات النفاق وآية المنافق فيخبر من ذلك بما يصلح مما أذن له فيه ويستعفي مما لا يجوز له أن يخبر به فيعذر في ذلك وكان عمر رضي الله عنه إذا دعي إلى جنازة ليصلي عليها نظر فإن حضر حذيفة صلّى عليها وإن لم ير حذيفة لم يصل عليها وكان حذيفة يسمى صاحب السر وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئلوا عن علم يقول أحدهم تسألوني عن هذا وصاحب السر فيكم يعني حذيفة. وروينا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه لما حدث عن النبي في فضل مجلس الذكر لأن أقعد مع قوم يذكرون اللّّه تعالى من غدوة إلى طلوع الشمس أحبّ إليّ من أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أعتق أربع رقاب، قال: فالتفت إلى يزيد الرقاشي وزياد النميري فقال لم تكن مجالس الذكر مثل مجالسكم هذه يقص أحدكم ويخطب على أصحابه ويسرد الحديث سرداً إنما كما نقعد فنذكر الإيمان ونتدبر القرآن ونتفقه في الدين ونعد نعم الله تعالى علينا وقد كان عبد الله بن رواحة يقول لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعالوا حتى نؤمن ساعة فيجلسون إليه فيذكرهم العلم بالله تعالى والتوحيد والآخرة وكان يخلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قيامه فيجتمع إليه الناس يذكرهم الله تعالى وأيامه ويفقههم فيما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فربما خرج عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم مجتمعون عنده فيسكتون فيجلس إليهم ويأمرهم أن يأخذوا فيما كانوا فيه ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا أمرت وإلى هذا دعوت، وروي نحو هذا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقد كان يتكلم بهذا العلم، وقد روينا هذا مفسراً في حديث جندب: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فسمي علم الإيمان إيماناً كما سماه ابن رواحة لأن علم الإيمان وصف الإيمان والعرب تسمي الشيء بوصفه وتسميه بأصله كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مثله: تعلموا اليقين، وكما قال تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) يوسف: 84 أي من البكاء فسماه بأصله لأن الحزن أصل البكاء. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خرج ذات يوم فرأى مجلسين، أحدهما يدعون الله تعالى ويرغبون إليه والآخر يتفقهون في الدين ويعلّمون الناس فوقف بينهما ثم قال: أما هؤلاء فيسألون اللّّه تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم وأما هؤلاء فيعلّمون الناس ويفقهون في الدين وإنما بعثت معلماً ثم عدل إلى الذين يفقهون الناس في الدين ويذكرون الله تعالى فجلس معهم، ويحكي عن بعض السلف قال: دخلت المسجد ذات يوم فإذا بحلقتين، أحدهما يقصون ويدعون والأخرى يتكلمون في العلم وفقه الأعمال قال: فملت إلى حلقة الدعاء فجلست إليهم فحملتني عيناي فنمت فهتف بي هاتف أو قال لي شخص: جلست إلى هؤلاء وتركت مجلس العلم أما لو جلست إليهم لوجدت جبريل لله عندهم، فحقيقة الذكر هو العلم بالله تعالى، ألا تسمع إلى ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل الذكر قول لا إله إلا الله، وقال سبحانه وتعالى: في تصديق: (فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلّهَ إلاَّ اللهُ) محمد: 19 وقال في مثله: (فَاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وأنْ لا إلهِ إلاَّ هُوَ) هود: 14، ثم إن العلم من الذكر علم المشاهدة والمشاهدة، صفة عين اليقين فإذا كشف غطا العين شهدت معاني الصفات بأنوارها وهو مزيد نور اليقين الذي هو كمال الإيمان وحقيقته، فهنالك ذكرت الموصوف بمشاهدة المذكور بنور وصفه: ألم تر إلى قولّه تعالى: (كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطاءٍ عَنْ ذِكْري) الكهف: 101، فمن كانت عينه في كشف من ذكره شهد المذكور فعندها ذكر ثم توجد حقيقة العلم بعد نسيان الخلق كقوله تعالى: (واذْكُرْ رَبَّكَ إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 نَسيتَ) الكهف: 24، فحق الذكر نسيان ما سواه كما أن حقيقة الإيمان الكفر بكل إله كقوله تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بالطَّاغُوتِ وَيؤْمِنْ بالله) البقرة: 256، وقال بعض أهل الحديث: جاءني رجل من إخواني من أهل المعرفة، فقال: قد وجدت من قلبي غفلة فأريد أن تحملني إلى مجلس من مجالس الذكر فقلت نعم فسمّى له مذكراً يتكلم في علوم العامة قال: فحضرنا عنده واجتمع الخلق فأخذ في شيء من القصص وذكر الجنة والنار فنظر إليّ صاحبي فقال أليس زعمت أن هذا يذكر الله ويذكر ربه عزّوجلّ ويذكر أيامه فقلت: نعم هكذا هو عندنا فقال: ما أسمع إلا ذكر الخلق فأين ذكرالله تعالى؟ ثم توقف ساعة ينتظر منه ما يريد من علم المعرفة ومما سمعه من شيوخه الصوفية قال: فليس إلا القصص والحكايات فالتفت إليّ وقال: قم بنا فإنه لا يسعني الجلوس لأنه لا نية لي في ذلك فقلت أما أنا فأستحي أن أتخطى الناس فاصنع أنت ما ترى فقام يتخطى الناس حتى خرج. وقد روى الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه خرج من المسجد وقال: ما أخرجني إلا القصاص ولولاه ما خرجت وقال ضمرة: قلت للثوري رحمه الله نستقبل القاص بوجهنا فقال: ولّوا البدع ظهوركم وقال ابن عون: دخلت على ابن سيرين فقال: ما كان اليوم من خبر؟ فقلت: نهى الأمير القصاص أن يقصوا، وحدثنا عن أبي معمر عن خلف بن خليفة قال: رأيت سياراً أبا الحكم يستاك على باب المسجد وقاصّ يقص في المسجد فجاءه رجل فقال: يا أبا الحكم إن الناس ينظرونك فقال: إني في خير مما هم فيه أنا في سنة وهم في بدعة وقد فعل الأعمش أبلغ من ذلك دخل البصرة وكان فيها غريباً فنظر إلى قاصّ في الجامع وهو يقول: حدثناالأعمش عن أبي إسحاق وحدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: فتوسط الأعمش الحلقة ورفع يده وجعل ينتف شعر إبطه فبصر به القاصّ فقال: يا شيخ ألا تستحي نحن في علم وأنت تفعل هذا؟ فقال له الأعمش: الذي أنا فيه أفضل من الذي أنت فيه، قال: كيف؟ قال: لأني في سنة وأنت في كذب، أنا الأعمش وما حدثتك مما تقول شيئاً فلما سمع الناس ذكر الأعمش انفضوا عن القاص واجتمعوا حوله وقالوا حدثنا يا أبا محمد، وأخبرونا عن محمد بن أبي هارون أن إسحاق حدثه قال: صليت مع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه صلاة العيد فإذا قاصّ يقص يلعن المبتدعة ويذكر السنة فلما قضينا الصلاة وصرنا ببعض الطريق ذكر أبو عبد الله القاص فقال ما أنفعهم للعامة وإن كان عامة ما يحدثون به كذباً وأخبرت عن محمد بن جعفر أن أبا الحرث حدثه أنه سمع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول أكذب الناس القصاص والسؤال وحدثونا عنه أيضاً أنه قال: ما أحوج الناس إلى قاصّ صدوق لأنهم يذكرون الميزان وعذاب القبر قلت له: أنت تحضر مجالسهم؟ قال: لا. وروينا عن حبيب بن أبي ثابت عن زياد النميري قال: أتيت أنس بن مالك وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 بالزاوية فقال لي: قصّ فقلت كيف؟ والناس يزعمون أنه بدعة فقال: ليس شيء من ذكر الله تعالى بدعة، قال: فقصصت وجعلت أكثر قصصي ودعائي رجاء أن يؤمن، قال: فجعلت أقص وهو يؤمن وقد كانوا يجعلون الدعاء قصصاً وحدث يوسف بن عطية عن محمد بن عبد الرحمن الخراز قال: فقد الحسن عامر بن عبد الله العنبري فقال: اذهبوا بنا إلى أبي عبد الله فأتاه الحسن فإذا عامر في بيت قد لف رأسه وليس إلا رمل فقال له الحسن: يا أبا عبد الله لم نرك منذ أيام، فقال: إني كنت أجلس هذه المجالس فأسمع تخليطاً وتغليظاً وانّي كنت أسمع مشيختنا فيما يروون عن نبيينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول إن أصفى الناس إيماناً يوم القيامة أكثرهم فكرة في الدنيا وأكثر الناس ضحكاً في الجنة أكثرهم بكاءً في الدنيا وأشد الناس فرحاً في الآخرة أطولهم حزناً في الدنيا فوجدت البيت أخلى لقلبي وأقدر لي من نفسي على ما أريد منها، قال الحسن: أما إنه لم يعن مجالسنا هذه إنما عنى مجالس القصاص في الطرق الذين يخلطون ويغلطون ويقدمون ويؤخرون وقد قسم بعض العلماء المتكلمين ثلاثة أقسام فوصفهم بأماكنهم فقال المتكلمون ثلاثة أصحاب الكراسي وهم القصاص وأصحاب الأساطين وهم المفتنون وأصحاب الزوايا وهم أهل المعرفة فمجالس أهل العلم بالله تعالى وأهل التوحيد والمعرفة هي مجالس الذكر وهي التي جاءت فيها الآثار، وفي الخبر: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها قيل: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، وفي الحديث أن لله تعالى ملائكة سياحين في الهواء فضلاً عن كتاب الخلق إذا رأوا مجالس الذكر ينادي بعضهم بعضاً: ألا هلموا إلى بغيتكم فيأتوهم حتى يجلسوا إليهم فيحفون بهم ويستمعون منهم ألا فاذكروا الله واذكروا أيامه، وقال وهب بن منبه اليماني: مجلس يتنازع فيه العلم أحب إليّ من قدره صلاة لعل أحدهم يسمع الكلمة فينتفع بها السنة أو ما بقي من عمره، وسئل أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن مجالس الذكر وفضلها فرغب فيها وقال رحمه الله: وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس فيذكرون الله عزّ وجلّ ويعددون نعمه عليهم كما قالت الأنصار. وروينا عن عليّ كرم الله وجهه: ما يسرني أن الله تعالى أماتني طفلاً وأدخلني الدرجات العلى من الجنة قيل: ولم؟ قال: لأنه أحياني حتى عرفته، وقال مالك بن دينار: خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا طيب شيء فيها قيل: وما هو؟ قال: المعرفة ثم أنشأ يقول: إن عرفان ذي الجلال لعز ... وضياء وبهجة وسرور وعلى العارفين أيضاً بهاء ... وعليهم من المحبة نور فهنياً لمن عرفك إلهي ... هو والله دهره مسرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وقال يحيى بن معاذ الرازي: في الدنيا جنة من دخلها لم يشتق إلى شيء ولم يستوحش، قيل: وما هي؟ قال: معرفة الله تعالى، وقال آخر: لم يخطئك من العارف إحدى ثلاث خلال تدل عليه هيبة أو حلاوة أو أنس، وقال عالمنا أبو محمد سهل رحمه الله: خرج العلماء والزهاد والعباد وقلوبهم مقفلة ولم يفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء ثم تلا وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو يعني مقفلة عن مفاتح المعرفة وشهادة عين التوحيد فمجالس الذكر هذه قديماً كانت لأهل المعرفةوأصحاب معاملات القلوب وعلم الباطن وهم علماء الآخرة وأهل الفقة في الدين، وقد قال اللّّه تعالى وهو أصدق القائلين: (فلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدّينِ) التوبة: 122 الآية، فذكر الفقة الذي هو من صفة القلب والخوف الذي هو سبب الفقه وعلم العقل داخل في علم الظاهر والعلم بالله داخل فياليقين كما روي في الخبر اليقين الإيمان كله، وقال الله تعالى: (وما يَعْقِلُهَا إلا الْعَالِمُون) العنكبوت: 43 فجعل العقل وصفاً من العلم وقد أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتعليم اليقين كما أمر بطلب العلم فكان هذا الحديث مخصوصاً من ذاك فيكون قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعلّموا اليقين للخصوص لأن اليقين مقام فوق العلم ويكون قوله طلب العلم فريضة للعموم وفي قوله تعلموا اليقين أمر بمجالسة الموقنين لأن اليقين لا يظهر بذاته وإنما يوجد عندا لموقنين فقد أمرهم ولم يقل تعلموا علم المعقول ولا علم الفتاوى وكان علماء الظاهر قديماً يسمون المفتين ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استفت قلبك وإن أفتاك المفتون فرده إلى فقه القلب وصرفه عن فتيا المفتين فلولا أن القلب فقيه لم يجز أن يدله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير فقيه ولولا أن علم الباطن حاكم على الظاهر ما دفعه من علوم أهل الظاهر وهم علماء الألسنة إلى علم الباطن وهو علم أهل القلوب مارده إليه ولا يجوز أن يرده من فقيه إلى فقيه دونه كيف وقد جاء هذا الحديث بلفظه مؤكدة بالتكرير والمبالغة فقال استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك، وهذا مخصوص لمن كان له قلب وألقى سمعه وشهد قيام شاهده وعرى عن شهواته ومعهوده لأن الفقه ليس من وصف اللسان ألم تسمع قوله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) الأعراف: 179، فمن كان له قلب سميع بسميع شهيد بشهيد فقه به الخطاب فاستجاب لما سمع وأناب وذكر في قوله تعالى: (لِيتَفَقَّهُوا في الدّينِ) التوبة: 122 وصفين ظهرا عن الفقه أحدهما النذارة وهو مقام في الدعوة إلى الله عز وجل ولا يحكون النذير إلا مخوّفاً ولا يكون المخوف إلا خائفاً والخائف عالم والثاني الحذر وهو حال من المعرفة بالله عزّ وجلّ وهو الخشية له، والفقه والفهم اسمان لمعنى واحد والعرب تقول: فقهت بمعنى فهمت وقد فضل الله تعالى الفهم عنه على العلم والحكمة ورفع الإفهام على القضاء والأحكام فقال تعالى: (فَفَهَّمْنَاها سُلَيْمانَ) الأنبياء: 79، فأفرده بالفهم عنه وهو الذي فضله به على حكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أبيه في القضية بعد أن أشركهما في الحكم والعلم، وقد فضل الحسن بن علي رضي الله عنهما علماء الهداية إلى الله سبحانه وتعالى الدالين عليه عزّوجلّ وسماهم العلماء وحققهم بالعلم في كلام روي لنا عنه منظوماً وقد رويناه أيضاً عن عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه: ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاّء ووزن كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء فمن كان عالماً يعلم معلومه الله سبحانه وتعالى فمن أفضل منه وأي قيمة تعرف له إذ كل علم قيمته معلومة ووزن كل عالم علمه، وقد قال عبد الواحد بن زيد إمام الزاهدين كلاماً في هذا المعنى ويفرد به العلماء بالله تعالى ويرفع طريقهم فوق كل طريق أنشدونا عنه رحمه الله تعالى: الطرق شتى وطرق الحق مفردة ... والسالكون طريق الحق أفراد لايعرفون ولا تسلك مقاصدهم ... فهم على مهل يمشون قصاد والناس في غفلة عما يراد بهم ... فجلهم عن سبيل الحق رقاد وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لما مات عمر رضي الله عنه: إني لأحب هذا الرجل قد ذهب بتسعة أعشار العلم فقيل له: تقول هذا وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوافرون فقال: إني لست أعني العلم الذي تذهبون إليه إنما أعني العلم بالله عز وجلّ، وكان ابن مسعود يقول: المتقون متوارون، وكذلك كان يقول: المتقون سادة والعلماء قادة ومجالستهم زيادة يعني أن المتقين سادة الناس كماقال الله عزّ وجل: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتقاكُمْ) الحجرات: 13 والعلماء قادة المتقين أي أئمتهم يقتفون آثارهم لأنه قال تعالى: (واجْعَلْنا لِلْمُتَّقينَ إِمَاماً) الفرقان: 74، ففضل العلماء على المتقين وجعلهم أئمة لهم صار المتقون أصحابه وأخبر بالمزيد في مجالستهم أي مجالستهم زيادة على مجالسة المتقين غير العلماء لأن كل عالم تقيّ وليس كل تقيّ عالماً كما روى بمعناه العلماء كثير والحكماء من العلماء قليل والصالحون كثير والصادقون من الصالحين قليل، وسئل ابن المبارك من الناس؟ قال: العلماء، قيل فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قيل: فمن السفلة؟ قال: من يأكل بدينه، وقال مرة في رواية الذين يتلبسون ويطلبون ويتعرضون للشهادات وقال فرقد السنجي للحسن رحمهما الله تعالى في شيء سأله عنه، فأجابه: يا أبا سعيد إن الفقهاء يخالفونك فقال: ثكلتك أمك فرقد وهل رأيت بعينيك فقهاء؟ إنما الفقيه الزاهدفي الدنيا الراغب في الآخرة البصيربدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكافّ عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم جمعنا قوله هذا في ثلاث روايات عنه مختلفة فهذه صفات العالم بالله تعالى وهم العارفون. وحدثنا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: بلغنا أنك كنت تختلف إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 معروف أكان عنده حديث؟ فقال: يا بني كان عنده رأس الأمر تقوى الله عزّ وجلّ وقيل للإمام أحمد رضي الله عنه: بأي شيء ذكر هؤلاء الأئمة ووصفوا؟ فقال: ما هو إلا الصدق الذي كان فيهم قيل له: وما الصدق؟ قال: هو الإخلاص قيل له: فالإخلاص ما هو؟ قال: الزهد، قيل: وما الزهد؟ فأطرق ثم قال: سلوا الزهاد سلوا بشر بن الحرث وقد حدثت عن بشر في منصور بن عمار رحمهما الله حكايات ظريفة كان منصور بن عمار من الواعظين المذكرين ولم يكن العلماء في وقته مثل بشر وأحمد وأبي ثور يعدونه عالماً كان عندهم من القصاص وكانت العامة تسمية عالماً فحدثت عن نصر بن علي الجهضمي أنه مزح ذات يوم مزاحاً أفرط فيه فقيل له: تقول هذا وأنت من العلماء؟ فقال: ما رأيت أحداً من العلماء إلا وهو يمزح فقيل له: قد رأيت بشر بن الحرث فهل سمعته يمزح قال: نعم كنت جالساً معه ذات يوم في بعض الدروب فجاء منصور بن عمار يعدو، فقال: يا أبا نصر الأمير قد أمر بجمع العلماء والصالحين فترى لي أن أختفي؟ فدفعه بشر وقال: تنح عنا لا يمر حمل شوك فيلقيك علينا فنحترق فهذا كان محل القصاص عندالعلماء فيما سلف حتى ذهب أهل هذا العلم وجهلت مجالس الذكر وعلوم اليقين والمعاملات إلا من عرف سيرة المتقدمين وطريقة السالفين الذين كانوا يفرقون بين مجالس الذكر وبين القصاص ويميزون بين العلماء وبين المتكلمين وبين علم اللسان وفقه القلب وبين علم اليقين وعلم العقل لأن الفرق بين العالم والقاص أن العالم يسكت حتى يُسأل فإذا سئل أجاب فيما يعلم بما هيأ الله تعالى له وكشف وينطق فيما أجراه الله عزّوجلّ عليه وعرف فإن كان الصمت أفضل آثر السكوت لعلمه بالأفضل فإن لم ير أهله تربص حتى يضعه في أهله وأهله من عرفه وكان له نصيب من مشاهدته ووجده. وقال الله سبحانه وتعالى: (فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل: 43، ففي ذلك معنيان، أحدهما أن أهل الذكر هم العلماء بالله تعالى لقوله: إن كنتم لا تعلمون فلا يجوز أن يقول سلوا من لا يعلم وهم جاهلون فيزدادوا جهلاً، والمعنى الثاني يدل على أن العلماء سكوت حتى يسألوا فإذا سئلوا وجب عليه أن يجيبوا لقوله تعالى لمن لا يعلم فاسئلوا فدل أن مجالس الذكر هي مجالس العلماء التي وردت الأخبار بفضائلها وفي تدبره أن أهل الذكر هؤلاء المسؤولون هم الذين وصل لهم القول لعلهم يتذكرون فلما وصل لهم المفصل تذكروا عما وعد تعالى فلما تذكروا علموا فعندها أمر أن يسألوا، ولذلك روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا ينبغي للجاهل أن يستقر على جهله ولا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه. وقد قال الله تعالى: (فَسْئلُوا أهْل الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاتَعْلَمُونَ) النحل: 43 وهكذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الذي رويناه من طريق أهل البيت: العلم خزائن مفتاحها السؤال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فاسألوا فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل، والعالم، والمستمع، والمحب لهم، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن من يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون، وقال الأغمش: من الكلام كلام جوابه السكوت، وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: حسن سؤال الصادقين مفتاح قلوب العارفين، فأما القاص فهو الذي يبتدئ فيقصّ الأخبار ويذكر القصص والآثار ولذلك سمي قاصهًا أي يتبع قصة من سلف، ومنه قوله تعالى: (وقالت لأُخْتِهِ قُصِّيهِ) القصص: 11، أي تتبعي أثر موسى تعرفي قصته وأخبريني خبره، وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: من اذالة العلم أن ينطق به قبل أن يسأل عنه، وقال مرة من إذالة العلم أن يجيب عن كل ما يسأل عنه أي من إهانته ووضعه، يقال أشل هذا وأذل هذا أي ارفع وضع، يقال: إذا تكلم بالعلم قبل أن يسأل عنه ذهب ثلثا نوره، وقد قال إبراهيم بن أدهم وغيره: سكوت العالم أشد على الشيطان من كلامه لأنه يسكت بحلم وينطق بعلم فيقول الشيطان: انظروا إلى هذا سكوته أشد عليّ من كلامه، ولذلك يقال: الصمت زين العالم وستر الجاهل وعن القاسم بن محمد أنه قال: من أكرم المرء نفسه أن يسكت على ما عنده حتى يسأل عنه، وكذلك هو لعمري لأنه إذا تكلم بعد السؤال فهو صاحبها وربما كان فرضاً وليس الحاجة إلاالقيام بالفرض من الشهوات، ولقوله تعالى: (فَسْئلوا أهْلَ الذِّكْر) النحل: 43 فأوجب أن يجيبوا من حيث أمر أن يسألوا وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار فتوعد عليه بالعقاب، وقد يكون الابتداء بالشيء من خفايا الشهوات والشهوات من الدنيا ووصف رجل لمالك بن أنس فقال: لابأس به لولا أنه يتكلم بالشيء قبل أن يسأل عنه، وقال مرة: لابأس به إلا أنه يتكلم بكلام شهر في يوم، وقد قيل في معنى ما ذكر: إن الكلام من الشهوات، قال: هو الذي يبتدئ به قبل أن يسأل عنه ووصف بعضهم الأبدال فقال في وصفهم: أكلهم فاقة وكلامهم ضرورة وكانوا لا يتكلمون حتى يسألواعن شيء فيجيبوا، ومن لم يتكلم حتى يسأل فليس يعد لاغياًولا متكلماً فيما لايعنيه لأن الجواب بعد السؤال كالفرض بمنزلة رد السلام وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما إني لأرى رد الجواب واجباً كرد السلام، وقد قال أبو موسى وابن مسعود رضي الله عنهما: من سئل عن علم فليقل به ومن لا فليسكت وإلا كتب من المتكلفين ومرق من الدين، ورويناه عن ابن عباس أيضاً وقد كانوا يخافون من دخول التكلف عليهم في كل شيء ويعد بعضهم بالابتداء بالكلام من غير حاجة تدعو إليه أو قبل سؤال عنه من غير أن يرى له موضعاً أو يجد له أهلاً يعدونه من التكلف، وفي وصية ابن عباس لمجاهد: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه أفضل ولاآمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 عليك الخطأ ولا تكلم فيما يعنيك حتى ترى له موضعاً فرب متكلّم فيما يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت. وروي في حديث الأنصاري الذي قالت له أمه عند موته: هنيئاً لك الجنة جاهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتلت في سبيل الله تعالى فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يدريك أنه في الجنة ولعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه، ومن أظهر علماً من غير أن يسأل عنه ونشره في غير أهله فأنكر عليه سئل عنه وكان عليه فيه مطالبة لأنه قد تكلف إظهاره فإن كان سئل عنه ثم تكلم فيه لم يكن عليه فيه مطالبة فيمن أنكر لأنه خرج جواباً على سؤال، ومن هذا كان السلف المتكلمون في هذا العلم يسكتون حتى يسألوا عنه، وكان أبو محمد يقول: العالم يقعد فيسكت ويرفع قلبه إلى مولاه فيفتقر إليه في حسن توفيقه ويسأله أن يلهمه الصواب فأي شيء سئل عنه تكلم بما فتح له مولاه فجعل العالم في حالة سكوته ونظره إلى سيده محتاجاً إلى التوكل ومنتظراً للوكيل في أي شيء يجريه، وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا سئل عن المسألة كأنما تقلع ضرسه وقال رقبة بن مصقلة وغيره ليس العالم الذي يجمع الناس فيقصّ عليهم إنما العالم الذي إذا سئل عن العلم كأنما يسعط الخردل، وقد روينا أنه قاله الأعمش وقد كان محمد بن سوقة يسأله عن الحديث فيعرض عنه ولا يجيبه فالتفت الأعمش إلى رقبة فقال له هو إذاً أحمق مثلك إن كان يدع فائدته لسوء خلقي فقال محمد بن سوقة: ويحك إنما أجعله بمنزلة الدواء أصبر على مرارته لما أرجو من منفعته، وقد روينا عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنه مر برجل يتكلم على الناس فقال هذا يقول اعرفوني، وحدثني بعض علماء خراسان عن شيخ له عن أبي حفص النيسابوري الكبير، وكان هذا هناك نظير الجنيد ههنا أنه قال إنما العالم الذي يسأل عن مسألة في الدين فيغتم حتى لو جرح لم يخرج منه دم من الفزع يخاف أن يسأل في الآخرة عما سئل عنه في الدنيا ويفزع أن لا يتخلص من السؤال إلا أن يرى أنه قد افترض عليه الجواب لفقد العلماء، ومن ههنا كان ابن عمر رضي الله عنهما يسكت عن تسع مسائل ويجيب عن واحدة ويقول: تريدون أن تجعلونا جسراً تعبرون عليه في جهنهم، تقولون أفتانا ابن عمر بهذا، وكان إبراهيم التميمي إذا سئل عن مسألة يبكي ويقول: لم تجد من تسأله غيري أو احتجتم إليّ؟ قال: وجهدنا بإبراهيم النخعي أن نسنده إلى سارية فأبى وكان إذا سئل عن شيء بكى وقال: قد احتاج الناس إليّ وقد كان سفيان بن عيينة تفرد في زمانه بعلوم انفرد بها في وقته وكان مع ذلك يضرب المثل لنفسه ويقول: خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد وأما أبو العالية الرياحي فكان يتكلم على الاثنين والثلاثة فإذا صاروا أربعة قام، وكذلك كان إبراهيم والثوري وابن أدهم رحمهم الله تعالى يتكلمون على النفر فإذا كثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الناس انصرفوا وكان أبو محمد سهل رحمه الله يجلس إليه خمسة أو ستة إلى العشرة وقال لي بعض الشيوخ: كان الجنيد رحمه الله يتكلم على بضع عشرة، قال وما تم أهل الجلسة عشرون، وقد حدثت عن أبي الحسن بن سالم شيخنا رحمه الله: أن قوماً اجتمعوا في مسجده فأرسلوا إليه بعضهم، إن إخوانك قد حضروا ويحبون لقاءك والسماع منك فإن رأيت أن تخرج إليه فذاك وكان المسجد على باب بيته، ولم يكن يدخل عليه في منزله فقال للرسول بعد أن خرج إليهم: من هم؟ فقال: فلان وفلان وسماهم فقال: ليس هؤلاء من أصحابي هؤلاء أصحاب المجلس ولم يخرج كأنه رآهم عموماً لا يصلحون لتخصيص علمه فلم يذهب وقته لوقتهم وكذلك العالم خلوته تعز عليه فإن وافق خصوص أصحاب آثرهم على خلوته فكان ذلك مزيداً لهم وإن هو لم يوافق لم يؤثر على خلوته غيره فيكون مناخاً للبطالين، وقد كان ابن سالم أبو الحسن يخرج إلى إخوانه ممن يراه موضعاً لعلمه فيجلس إليهم ويذاكرهم وربما أدخلهم إليه نهاراً أو ليلاً ولعمري أن المذاكرة تكون بين النظراء والمحادثة تكون مع الإخوان والجلوس للعلم يكون للأصحاب، والجواب عن السوال نصيب العموم، وكان عند أهل العلم أن علمهم مخصوص لا يصلح إلا للخصوص والخصوص قليل، ولم يكونوا ينطقون به إلا عند أهله ويرون أن ذلك من حقه وأنه واجب عليهم كما وصفهم علي كرم الله وجهه في قوله حتى يودعوه أمثالهم ويزرعوه في قلوب أشكالهم وكذلك جاءت الآثار بذلك عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن عيسى عليه السلام: لا تضيعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق الذي يضع الدواء في موضع الداء، وفي لفظ آخر: من وضع الحكمة في غيرأهلها جهل ومن منعها أهلها ظلم، إن للحكمة حقاًً وإن له أهلاً وإن لأهلها حقا فأعط كل ذي حق حقه وفي حديث عيسى صلاة الله وسلامه عليه لا تعلقوا الجوهر في أعناق الخنازير فإن الحكمة خير من الجوهر ومن كرهها فهو شر من الخنزير، وكان بعض هذه الطائفة يقول: نصف هذا العلم سكوت ونصفه تدري أين تضعه. وقد قال بعض العارفين: من كلّم الناس بمبلغ علمه وبمقدار عقله ولم يخاطبهم بقدر حدودهم فقد بخسهم حقهم ولم يقم بحق الله عزّ وجلّ فيهم وكان يحيى بن معاذ يقول: اغرف لكل واحد من نهره واسقه بكأسه ونحن نقول بمعناه كل لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان علمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلاوقع الإنكار لتفاوت المعيار، وحدثني بعض أشياخنا من هذه الطائفة عن أبي عمران وهو المزين الكبير المكي قال سمعته يقول لأبي بكر الكتابي وكان سمحاً بهذا العلم بذولاً له لجميع الفقراء فجعل أبو عمران يعاتبه وينهاه عن بذله له وكثرة كلامه فيه إلى أن قال: أنا منذ عشرين سنة أسأل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الله تعالى أن ينسيني هذا العلم قال: ولم؟ قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فسمعته يقول إن لكل شيء عن الله تعالى حرمة ومن أعظم الأشياء حرمة الحكمة، فمن وضعها في غير أهلها طالبه الله تعالى بحقها ومن طالبه خصمه وقد كان بعض السلف يقول: إذا استند الرجل إلى سارية أو أحب أن يسأل فلا تجلس إليه ولا ينبغي أن يسأل ولم ير في مجالس أهل هذا العلم فيما سلف ثلاثون رجلاً ولاعشرون إلا نادراً غير لزام ولا دوام إنما كانوا من الأربعة إلى العشرة وبضعة عشر، وقد كان يجتمع في مجالس القصاص والمذكرين والواعظين مئون من عهد الحسن إلى وقتنا هذا فهذا أيضاً من الفرق بينهما أن العلم مخصوص لقليل وأن القصص عام لكثير. وقال بعض علمائنا: كان في البصرة مائة وعشرون متكلماً في الذكر والوعظ ولم يكن من يتكلم في علم المعرفة واليقين والمقامات والأحوال إلاستة منهم: أبو محمد سهل والصبيحي وعبد الرحيم، وقد قيل من لم ينتفع بسكوت العالم لم ينتفع بكلامه أي ينتغي أن يتأدب بصمته وخشوعه وورعه ويقتدي بيقينه في ذلك كما يتأدب بنطقه ويقتدى بكلامه على أنهم كانوا يقولون علم الظاهر من علم الملك وعلم الباطن من علم الملكوت يعنون أن ذلك من علم الدنيا لأنه يحتاج إليه في أمور الدنيا وهذا من علم الآخرة لأنه من زادها وهذا كما قالوه لأن اللسان ظاهر فهو من الملك وهو خزانة العلم الظاهر والقلب خزانة الملكوت وهو باب العلم الباطن فقد صار فضل العلم الباطن على الظاهر كفضل الملكوت على الملك وهو الملك الباطن الخفي وكفضل القلب على اللسان وهو الظاهر الجلي. وقد كان بشر بن الحرث رحمه الله يقول: حدثنا وأخبرنا باب من أبواب الدنيا، وقال مرة: الحديث ليس من زاد الآخرة، وحدثنا بعض أشياخنا عن بعض أصحابه قال: دفنا له بضعة عشر ما بين قمطر وقوصرة كتباً لم يحدث منها بشيء إلا ما سمع منه نادراً في الفرد وكان رحمه الله تعالى يقول: إني أشتهي أن أحدث ولو ذهب عني شهوة الحديث لحدثت ثم قال: أنا أجاهد نفسي منذ أربعين سنة، وقال إذا سمعت الرجل يقول حدثنا وأخبرنا فإنما يقول أوسعوا إليّ وكان زاهداً عالماً وقال هو وغيره: إذا اشتهيت أن تحدث فلا تحدث وإذا لم تشته أن تحدث فحدث، وقد كانت رابعة العدوية رحمها الله تعالى قبله تقول للثوري رضي الله عنه: نعم الرجل سفيان لولا أنه يحب الحديث، وكانت تقول: فتنة الحديث أشد من فتنةالمال والولد وقالت مرة: لولا أنه يحب الدنيا يعني اجتماع الناس حوله للحديث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: من تزوّج أو كتب الحديث أو طلب معاشاً فقد ركن إلى الدنيا، وقال بعض هذه الطائفة: كل من أدرك العلوم غير العلم بالله عزّ وجلّ فقد استدرك والذي أدرك العلم بالله فقدتدورك ثم تلاقوله تعالى: (لَوْلا أنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌمِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعراءِ) القلم: 49، أي تدورك بعلم المعرفة لطرح في بعد الهوى والعرا البعد وعلم المعقول بعد إلى جنب علم اليقين، وقال أيضاً في فهم قوله تعالى: (وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لقَدْكِدْتَ تَرْكنُ إليْهِمْ) الإسراء: 74 أي ثبتناك بالمعرفة لقد كدت تسكن إلى علوم العقل. وقال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى في قوله عزّ وجلّ: (واجْعِلْ لي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصيراً) الإسراء: 80 قال لساناً ينطق عنك لاعن سواك وفضل العلم بالله عزّ وجلّ والعلم بالإيمان وعلم اليقين على العلم بالأحكام والقضايا كفضل المشاهدة على الخبر، وقد قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الخبر كالمعاينة، وفي لفظ آخر: ليس الخبر كالمعاين، وقد روى عياض بن غنم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في تفسير قوله عزّ وجلّ: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُر) (عِلْمَ الْيَقينِ) التكاثر: 1 - 5، كرأي العين، وفي هذا الخبر أن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة ربهم ويبكون سراً من خوف عذابه أقدامهم في الأرض وقلوبهم في السماء أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة يمشون بالسكينة ويتقربون بالوسيلة، فالفتيا هي الأخبار والاستفتاء هو الاستخبار، ومنه قوله تعالى: (فاسْتفتِهِمْ) الصافات: 11 وقوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ) النساء: 127 أي يستخبرونك، فعلم الخبر قد يدخله الظن والشك والمشاهدة ترفع الظن وتزيل الشك كما قال تعالى: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رأى) النجم: 11 فأثبت الرؤية للقلب بالعين فرؤية القلب هو اليقين وذو القلب هو الموقن، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفى باليقين غنى ففي علم اليقين غنية عن جميع العلوم لأنه حقيقة العلم وخالصه وليس في جميع العلوم غنى عن علم اليقين ولأن الفقر بالشك والحاجة إلى اليقين في علم التوحيد وعلم الإيمان أشد من الفقر بالحاجة إلى علوم الفتيا وغيرها فلذلك صار الغني باليقين أعظم من الاستغناء بسائر العلوم ففي هذا العلم مثل من فاتحة الكتاب إلى سائر القرآن. كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتحة الكتاب تجزي من كل القرآن وليس القرآن كله يجزي من فاتحة الكتاب، فكذلك مثل العلم بالله عزّ وجلّ إلى العلم بما سواه، ففي العلم بالله تعالى عوض من كل العلوم، وليس في سائر العلوم عوض من العلم بالله عزّ وجلّ من حيث كان في الله تعالى عوض به عن كل ما سواه، وكل علم موقوف على معلومه فعلم اليقين معلومه الله تعالى ففضله كفضل الله تعالى على ما سواه، وقد قال بعض الحكماء في معنى ما ذكرناه: من عرف الله تعالى فماذا جهل ومن جهل الله تعالى فماذا عرف؟ فالعلماء بالله تعالى هم ورثة الأنبياء لأنهم ورثوا عنهم الدلالة على الله تعالى فماذا عرف؟ فالعلماء بالله تعالى هم ورثة الأنبياءلأنهم ورثوا عنهم الدلالة على الله تعالى والدعوة إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 والاقتداء بهم في أعمال القلوب، وقد قال الله تعالى: (ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعا إلى الله وَعَمِل صالحِاً) فصلت: 33، وكما قال تعالى: (أُدْعُ إلى سبيلِ رَبِّكَ بالْحِكْمَةِ) النحل: 125، وكما أمره بالدعاء وأشرك معه أتباعه في الدعاء إلى الله تعالى لا في البصيرة فقال تعالى: (قُلْ هذِهِ سبيلي أدْعُوا إلى الله على بصيرةٍ أنا وَمَنِ اتَّبعني) يوسف: 108، ويحشرون يوم القيامة مع الأنبياء كما قال تعالى: (فأُولئكَ مع الَّذينَ أنْعَمَ الله عليْهِمْ مِن النَّبِيّين) النساء: 69، وما قال تعالى: (وَجيء بالَّنبِيّينَ والشُّهداءِ) الزمر: 69، ثم فسره فقال بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء. وقد روينا معناه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم وأهل الجهاد، أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الأنبياء وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل وعلماء الدنيا يحشرون مع الولاة والسلاطين، وقد قال بعض السلف: العلماء يحشرون في زمرة الأنبياء والقضاة يحشرون في زمرة السلاطين، وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي من علماء أهل الدنيا ومن سادة القضاة وعقلائهم وكان مؤاخياً لأبي الحسن بن أبي الورد، وكان هذا من أهل المعرفة فلما ولّى إسماعيل القضاء هجره ابن أبي الورد ثم إنه اضطر إلى أن دخل عليه في شهادة فضرب بن أبي الورد يده على كتف إسماعيل القاضي وقال: يا إسماعيل علم أجلسك هذا المجلس لقد كان الجهل خيرًا منه، فوضع إسماعيل رداءه على وجهه وجعل يبكي حتى بلّه، وعلماء الظاهر هم زينة الأرض والملك وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت وعلماء الظاهر أهل الخبر واللسان وعلماء الباطن أرباب القلوب والعيان. وقال بعض العلماء: لما خلق الله تعالى اللسان قال هذا معقل خبري إن صدقني نجيته ولما خلق الله تعالى القلب قال هذا موضع نظري إن صفا لي صافيته، وقال بعض الخلف: الجاهل ينجو بالعلم والعالم ينجو بالحجة والعارف ينجو بالجاه، وقال بعض: العارفين: علم الظاهر حكم وعلم الباطن حاكم، والحكم موقوف حتى يجيء الحاكم يحكم فيه، وقد كان علماء الظاهر إذا أشكل عليهم العلم في مسألة لاختلاف الأدلة سألوا أهل العلم بالله لأنهم أقرب إلى التوفيق عندهم وأبعد من الهوى والمعصيةمنهم: الشافعي رحمه الله تعالى كان إذا اشتبهت عليه المسألة لاختلاف أقوال العلماء فيها وتكافؤ الاستدلال عليها رجع إ لى علماء أهل المعرفة فسألهم قال: وكان يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يجلس الصبي بين يدي المكتب ويسأله كيف يفعل في كذا وكيف يصنع في كذا فيقال له مثلك يا أبا عبد الله في علمك وفقهك تسأل هذا البدوي فيقول: إن هذا وفق لما علمناه، وكان الشافعي رحمه الله قد اعتلّ علة شديدة وكان يقول: اللهم إن كان في هذا رضاك فزدني منه فكتب إليه المعافري من سواد مصر: يا أبا عبد الله لست وإياك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 رجال البلاء فنسأل الرضا الأولى بنا أن نسأل الرفق والعافية، فرجع الشافعي رحمه الله عن قوله هذا، وقال: أشتغفر الله تعالى وأتوب إليه، فكان بعد ذلك رحمه الله يقول: اللهم اجعل خيرتي فيما أحب وقد كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رضي الله عنهما يختلفان إلى معروف بن فيروز الكرخي رحمهم الله ولم يكن يحسن من العلم والسنن ما يحسناته فكانا يسألانه، وقد روي في الخبر قيل: يا رسول الله كيف نصنع إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله فقال سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم ولا تقضوا فيه أمراً دونهم. وفي حديث معاذ رضي الله عنه: فإن جاءك ما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة رسول الله قال: أقضي فيه بما قضى الصالحون فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله، وفي بعضها اجتهد رأيي وحدثونا عن الجنيد قال: كنت إذا قمت من عند سري السقطي قال لي: إذا فارقتني من تجالس؟ فقلت: الحارث المحاسبي فقال: نعم خذ من علمه وأدبه ودع عنك تشقيقه للكلام ورده على المتكلمين، قال: فلما وليت سمعته يقول جعلك الله صاحب حديث صوفياً ولا جعلك صوفياً صاحب حديث يعني أنك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن ثم تزهدت وتعبدت تقدمت في علم الصوفية وكنت صوفياً عارفاً وإذا ابتدأت بالتعبد والتقوى والحال شغلت به عن العلم والسنن فخرجت إما شاطحاً أو غالطاً لجهلك بالأصول والسنن فأحسن أحوالك أن ترجع إلى العلم الظاهر، وكتب الحديث لأنه هو الأصل الذي تفرع عليه العبادة والعلم وأنت قد بودئت بالفرع قبل الأصل، وقد قيل: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول هو كتب الحديث ومعرفة الآثار والسنن فإذا أنمت رددت إلى الأصل فقد انحططت عن مرتبة الناقدين ونزلت من درجة العارفين وفاتك مزيد اليقين والإيمان. وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: كان الناس إذا طلبوا العلم عملوا فإذا عملوا أخلصوا فإذا أخلصوا هربوا وقال آخر: العالم إذا هرب من الناس فاطلبه وإذا طلب الناس فاهرب منه، وقال أبو محمد: سهل العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، وقال ذو النون: يقول اجلس إلى من تكلمك صفته ولا تجلس إلى من يكلمك لسانه، وقد كان الحسن قبله يقول: جالس من تكلمك أعماله ولا تجالس من يخاطبك مقاله، وقد كان طائفة يصحبون كثيراً من أهل المعرفة للتأدب بهم والنظر إلى هديهم وأخلاقهم إن لم يكونوا علماء لأن التأديب يكون بالأفعال والتعلّم يكون بالمقال، ومن أبلغ ما سمعت منهم في هذا المعنى ما قال بعض الحكماء: وعظ واحد لألف بفعل أنجح فيهم وأوقع من وعظ ألف لواحد بقول، وكان سهل يقول: العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل هباء إلا الإخلاص، وقال مرة: الناس موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 والعاملون مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجل حتى يختم له به ولم يكن العالم عند العلماء من كان عالماً بعلم غيره ولا حافظاً لفقه سواه، هذا كان اسمه راوية وواعياً وحاملاً وناقلاً. وقد كان أبو حازم الزاهد يقول: ذهب العلماء وبقيت علوم في أوعية سود، وقد كان الزهري يقول: كان فلان وعاء للعلم وحدثني فلان وكان من أوعية العلم ولا يقول كان عالماً، وكذلك جاء الخبر: رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وكانوا يقولون حماد الراوية يعنون أنه كان راوياً ودخول الهاء في الاسم للمبالغة في الوصف كما يقال علاّمة ونسّابة، وإنما كان العالم عندهم الغني بعلمه لا بعلم غيره وكان الفقيه فيهم هو الفقيه بفقه علمه وقلبه لا بحديث سواه، كما جاء في الأثر: أي الناس أغنى؟ قال: العالم الغني بعلمه إن احتيج إليه نفع وإلا اكتفى عن الناس بعلمه لأن كل عالم بعلم غيره فإنما صار عالماً بمجموعه، فمجموعه هم العلماء وكل فاضل بوصف سواه فموصوفه هم الفضلاء، فإذا تركهم وانفرد سكت، فلم يرجع إلى علم لنفسه يختص به فصار في الحقيقة موصوفاً بالجهل واصفاً لطرائق أهل الفضل موسوماً بعلم السمع والنقل فمثل العالم بعلم غيره مثل الواصف لأحوال الصالحين العارف بمقامات الصديقين ولا حال له ولا مقام فليس يعود عليه من وصفه إلا الحجة بالعلم والكلام، وسبق العارفون بالله في الحجة بالأعمال والمقام، فمثله كما قال الله تعالى: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) الأنبياء: 18، وكقوله عزّ وجلّ: (كُلَّما أضَاءَ لهُمْ مَشَوْا فيهِ وإذا أَظْلمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) البقرة: 20 لا يرجع إلى بصيرة فيه بما اشتبه من ظلمات الشبه عليه مما اختلف العلماء فيه ولا يتحقق بوجد منه فيه يجده عن حال ألبسها بوجده وإنما هو متواجد بوجد غيره فغيره هو الواجد وشاهد على شهادة سواه، فالسوي هو الشاهد، وقد كان الحسن يقول: إن الله تبارك وتعالى لا يعبأ بصاحب رواية إنما يعبأ بذي فهم ودراية، وقال أيضاً: من لم يكن له عقل يسومه لم تنفعه كثرة مروياته للحديث وقد أنشدنا لبعض الحكماء في معنى ذلك: العلم علمان فمصنوع ومطبوع ... ولا ينفع مجموع إذا لم يك مصنوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع وكان الجنيد رحمه الله كثيراً ينشد: علم التصوّف علم ليس يعرفه ... إلا أخو فطنة بالحق معروف وليس يعرفه من ليس يشهده ... وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف لأن الكتب والمجموعات محدثة والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس وانتحاء قوله والحكاية له في كل شيء والتفقه على مذهبه محدث لم يكن الناس قديماً على ذلك في القرن الأول والثاني، وهذه المصنفات من الكتب حادثة بعد سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 عشرين ومائة من التاريخ وبعد وفاة كل الصحابة وعلية التابعين، يقال إن أوّل كتاب صنّف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف من التفاسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس بمكة ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن جمع فيه سنناً منثورة مبوّبة، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس رضي الله عنه في الفقه ثم جمع ابن عيينة كتاب الجوامع في السنن والأبواب وكتاب التفسير في أحرف من علم القرآن وجامع سفيان الثوري الكبير رضي الله عنه في الفقه والأحاديث، فهذه من أوّل ما صنف ووضع من الكتب بعد وفاة سعيد بن المسيب وخيار التابعين وبعد سنة عشرين أو أكثر ومائة من التاريخ فكان العلماء الذين هم أئمة هؤلاء العلماء من طبقات الصحابة الأربعة ومن بعد موت الطبقة الأولى من خيار التابعين هم الذين انقرضوا قبل تصنيف الكتب وكانوا يكرهون كتب الحديث ووضع الناس الكتب لئلا يشتغل بها عن القرآن وعن الذكر والفكر، وقالوا: احفظوا كما حفظنا ولئلا يشتغل الناس عن الله تعالى برسم ولا وسم كما كره أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعلية الصحابة تصحيف القرآن في مصحف وقالوا: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وخشوا اشتغال الناس بالصحف واتكالهم على المصاحف فقالوا: نترك القرآن يتلقاه الناس بعضهم من بعض تلقناً بالتلقين والإقراء ليكون هو شغلهم وهمتهم وذكرهم حتى أشار عليه عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة أن يجمع القرآن في المصاحف لأنه أحفظ له وليرجع الناس إلى المصحف لما لا يؤمن من الاشتغال بأسباب الدنيا عنه فشرح الله تعالى صدر أبي بكر رضي الله عنه لذلك فجمع القرآن في الصحف المتفرقة في المصحف الواحد، وكذلك كانوا يتلقون العلم بعضهم عن بعض ويحفظونه حفظاً هذا لطهارة القلوب من الريب وفراغها من أسباب الدنيا وصفائها من الهوى وعلوّ الهمة وقوّة العزيمة وحسن النية ثم ظهرت بعد سنة مائتين وبعد تقضي ثلاثة قرون في القرن الرابع المرفوض مصنفات الكلام وكتب المتكلمين بالرأي والمعقول والقياس وذهب علم المتقين وغابت معرفة الموقنين من علم التقوى وإلهام الرشد واليقين فخلف من بعدهم خلف فلم نزل في الخلف إلى هذا الوقت ثم اختلط الأمر بعد هذا التفصيل في زماننا هذا، فصار المتكلمون يدعون علماء والقصاص يسمون عارفين والرواة والنقلة يقال علماء من غير فقه في دين ولا بصيرة في يقين. وروينا عن ابن أبي عبلة قال: كنا نجلس إلى عطاء الخراساني بعد الصبح فيتكلم علينا فاحتبس ذات غداة فتكلم رجل من المؤذنين لا بأس به بمثل ما كان يتكلم به عطاء فأنكر صوته رجاء بن أبي حيوة فقال: من هذا المتكلم؟ فقال: أنا فلان فقال: اسكت فإنه يكره أن يسمع العلم إلا من أهله، وكذلك كانوا يقولون أبى أهل العلم بالله تعالى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 يسمعوا هذا العلم إلا من أهله الزاهدين في الدنيا وكرهوا أن يسمعوه من أبناء الدنيا وزعموا أنه لا يليق بهم، واعلم أن العبد إذا كان يذكر الله تعالى بالمعرفة وعلم اليقين لم يسعه تقليد أحد من العلماء، وكذلك كان المتقدمون إذا افتتحوا هذا المقام خالفوا من حملوا عنه العلم لمزيد اليقين والإفهام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه وقرأ على أبي بن كعب ثم خالف زيداً في الفقه وأبياً في القرءة. وقال بعض الفقهاء من السلف: ما جاءنا عن رسول الله قبلناه على الرأس والعين وما جاءنا عن الصحابة فنأخذ به ونترك وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال قالوا: ونقول ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليد ويقولون: لا ينبغي للرجل أن يفتي حتى يعرف اختلاف الفقهاء أي فيختار منها على علمه الأحوط للدين والأقوى باليقين، فلو كانوا يستحبون أن يفتى العالم بمذهب غيره لم يحتج أن يعرف الاختلاف ولكان إذا عرف مذهب صاحبه كفاه، ومن ثم قيل: إن العبد يسأل غداً فيقال ماذا عملت فيما علمت؟ ولا يقال له فيما علم غيرك. وقد قال الله تعالى: (وقَالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْم والإيمانَ) الروم: 56 ففرق بينهما يدل به أن من أوتي إيماناً أوتي علماً كما أن من أوتى علماً نافعاً أوتي إيماناً وهذا أحد الوجوه في معنى قوله سبحانه: (كتبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وَأَيَّدهَهُمْ بِروُحٍ مِنْه) المجادلة: 22 أي قواهم بعلم الإيمان، فعلم الإيمان هو روحه وتكون الهاء عائدة إلى الإيمان وكذا العالم الذي هو من أهل الاستنباط والاستدلال من الكتاب والسنّة فإنه أداة الصنعة وآلة الصنع لأنه ذو تمييز وبصيرة ومن أهل التدبر والعبرة، فأما الجاهل والعامي الغافل فله أن يقلد العلماء ولعالم عموم أيضاً أن يقلد عالم خصوص وللعالم بالعلم الظاهر أن يقلد من فوقه ممن جعل على علم باطن من أهل القلوب لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردّ من علم الألسنة والفتيا إلى علم القلوب ولم يرد أهل القلوب في علمهم الذين يختصون به إلى المفتين لأنهم يأخذون من المفتين فتياهم ثم يجدون في قلوبهم حيكاً وحزازة فيلزمهم فتيا القلب لقوله: استفتِ قلبك بعد قوله وإن أفتاك المفتون مع قوله الإثم حزاز القلوب إلى قوله ما حاك في صدرك فدعه وإن أفتوك وأفتوك ثم درس معرفة هذا فجهل فصار كل من نطق بكلام وصنعه غرب على السامعين لا يعرف حقه من باطله سمي عالماً وكل كلام مستحسن زخرف رونقه لا أصل له يسمّى عالماً لجهل العامة بالعلم أي شيء هو ولقلة معرفة السامع بوصف من سلف من العلماء كيف كانوا فصار كثير من متكلمي الزمان فتنة المفتون وصار كثير من الكلام والرأي والمعقول الذي حقيقته جهل كأنه علم عند الجاهلين فلا يفرقون بين المتكلمين والعلماء ولا يميزون بين العلم والكلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وقد قلنا: إن خصوص الجهال يشبهون بالعلماء فيشتبهون على مجالسيهم في الحال، فأعلم الناس في زمانك هذا أعرفهم بسيرة المتقدمين وأعلمهم بطرائق السالفين ثم أعلمهم بالعلم أي شيء هو وبالعالم من هو من المتعلم والمتعالم وهذا كالفرض على طالبي العلم أن يعرفوه لأنه لما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب العلم فريضة وجب عليهم أن يعرفوا أي شيء هو العلم حتى يطلبوه إذ لا يصح طلب ما لا يعرف ثم وجب عليهم من هذا أن يعرفوا العالم من هو ليطلبوا عنده العلم إذ العلم عرض ولا يقوم إلا بجسم فلا يوجد إلا عند أهله كما قيل لعلي كرم الله وجهه وقيل له إنك خالفت فلاناً في كذا فقال خيرنا أتبعنا لهذا الدين، وكما قيل لسعد أن ابن المسيب يقرأ ما ننسخ من آية أو ننسأها فقال: إن القرآن لم ينزل على ابن المسيب ولا على أبيه ثم قرأ أو ننسها فأعلم الناس في هذا الوقت وأقربهم من التوفيق والرشد أتبعهم لمن سلف وأشبههم بشمائل صالحيّ الخلف، كيف وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل من أعلم الناس؟ فقال: أعرفهم بالحق إذا اشتبهت الأمور. وقال بعض السلف: أعلم الناس أعرفهم باختلاف الناس، وكان الحسن البصري رضي الله عنه يقول: محدثان أحدثا في الإسلام، رجل ذو رأي سوء زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه، ومترف يعبد الدنيا لها يغضب ولها يرضى وإياها يطلب فارفضوهما إلى النار اعرفوا إنكارهم لربهم بأعمالهم أن رجلاً أصبح في هذه الدنيا بين مترف يدعو إلى دنياه وصاحب هوى يدعو إلى هواه قد عصمه الله تعالى منهما يجيء إلى السف الصالح يسأل عن فعالهم ويقتص آثارهم لتعرض لأجر عظيم فكذلك فكونوا وكما روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه وقد جاء مسنداً إنما هما اثنان الكلام والهدى فأحسن الكلام كلام الله تعالى وأحسن الهدى هدى محمد لله ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها إن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، ألا كل ما هو آت قريب، ألا إن البعيد ما ليس بآت، وفي خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي رويناها عن أبان عن أنس: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية وخالط أهل الفقه والحكمة وجانب أهل الذل والمعصية، طوبى لمن ذلّ في نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم يعدها إلى بدعة، وقال بعض الأدباء كلاماً منظوماً في وصف زماننا هذا كأنه شاهده: ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر وبقيت في خلف يزكي بعضهم ... بعضاً ليدفع معور عن معور أبنيّ إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فطناً بكل مصيبة في ماله ... فإذا أصيب بدينه لم يشعر فسل الفقيه تكن فقيهاً مثله ... من يسعَ في أمر بفقه يظفر وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: حسن الهدى في آخر الزمان خير من كثير من العمل، وقال في وصف زمانه باليقين وفي وصف زماننا بالشك فقال: إنكم في زمان خيركم في المسارع في الأمور وسيأتي بعدكم زمان يكون خيرهم فيه المتثبت المتوقف يعني لكثرة الشبهات، وقال حذيفة رضي الله عنه: أعجب من هذا قال إن معروفكم هذا منكر زمان قد مضى، وإن منكركم معروف زمان قد يأتي وإنكم لن تزالوا بخير ما عرفتم الحق، وكان العالم فيكم غير مستخف وكان يقول أيضاً: يأتي في آخر الزمان قوم يكون العالم فيهم بمنزلة الحمار الميت لا يلتفتون إليه يستخفي المؤمن فيهم كما يستخفي المنافق فينا اليوم المؤمن فيهم أذل من الأمة، وفي حديث علي كرّم الله وجهه يأتي على الناس زمان ينكر الحق تسعة أعشارهم لا ينجو منهم يومئذ إلا كل مؤمن نومة يعني صموتاً متغافلاً أولئك مصابيح العلم وأئمة الهدى وليسوا بالمذاييع البذر يعني المتكلمين كثيراً المتظاهرين بالكلام افتخاراً، وفي خبر: يأتي على الناس زمان من عرف فيه الحق نجا قيل فأين العمل؟ قال: لا عمل يومئذ لا ينجو فيه إلا من هرب بدينه من شاهق إلى شاهق وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا وفي بعضها بعشر ما يعلم، وعن بعض الصحابة أنتم اليوم في زمان من ترك منكم عشر ما يعلم هلك ويأتي عيلكم زمان من علم فيه بعشر ما يعلم نجا، وقال بعض الخلفاء: يأتي عليكم زمان يكون أفضل العلم الصمت وأفضل العمل النوم يعني لكثرة المنافقين بالشبهات فصار الصمت للجاهل علماً ولكثرة العاملين بالشهوات فصار النوم عبادة البطال ولعمري إن الصمت والنوم أدنى أحوال العالم وهما أعلى أحوال الجاهل وكان يونس بن عبيد يقول أصبح اليوم من يعرف السنة غريباً وأغرب منه من يعرفه يعني طريقة السلف، يقول: فمن يعرفه عرف طريق من مضى وهو غريب أيضاً لأنه قد عرف غريباً، وقال حذيفة المرعشي: كتب إلى يوسف بن أسباط ذهب الطاعة ومن يعرفها وكان أيضاً يقول ما بقي من يؤنس به. وقال: ما ظنك بزمان مذاكرة العلم فيه معصية قيل ولم ذلك؟ قال: لأنه لا يجد أهله وقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إنكم لن تزالوا بخير ما أحببتم خياركم وقيل فيكم الحق فعرف ويل لكم إذا كان العالم فيكم كالشاة النطيح، وقد كان للمتقدمين علوم يجتمعون عليها ويتفاوضونها بينهم قد درست في زماننا وكان للصالحين معان وطرائق يسلكونها ويسألون عنها قد ذهبت في وقتنا وكان لليقين والمعرفة مقامات وأحوال يتذاكرها أهلها ويطلبون أربابها قد عفت آثارها عندنا لقلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الطالبين لها ولعدم الراغبين فيها وفقد العلماء بها وذهاب السالكين في طرقها منها طلب الحلال وعلم الورع في المكاسب والمعاملات وعلم الإخلاص وعلم آفات النفوس وفساد الأعمال وعلم نفاق العلم والعمل والفرق بين نفاق العلم والعمل والفرق بين نفاق القلب ونفاق النفس وبين إظهار النفس شهوتها واخفائها ذلك والفرق بين سكون القلب بالله وسكون النفس بالأسباب والفرق بين خواطر الروح والنفس وبين خاطر الإيمان واليقين والعقل وعلم خلائق الأحوال وأحوال طرائق العمال وتفاوت مشاهدات العارفين وتلوينات الشواهد على المريدين وعلم القبض والبسط والتحقيق بصفات العبودية والتخلق بأخلاق الربوبية وتباين مقامات العلماء إلى غير ذلك ممّا لا نذكره من علم التوحيد ومعرفة معاني الصفات وعلوم المكاشفة بتجلي الذات وإظهار الأفعال الدالة على معاني الصفات الباطنة وظهور المعاني الدالة على النظر والإعراض والتقريب والإبعاد والنقص والمزيد والمثوبة والعقوبة والاختباء والاختيار، وقد ذكرنا من جميع هذه المعاني فصولاً ورسمنا جملاً وأصولاً تنبه على فروعها وندل على أشكالها لمن وفق لتدبرها وأريد بتذكرها وجعل له نصيب منها. وقال بعض علمائنا: أعرف للمتقدمين سبعين علماً كانوا يتحاورونها ويتعارفونها في هذا العلم لم يبق منها اليوم علم واحد يعرف، قال: وأعرف في زماننا هذا علوماً كثيرة من الأباطيل والدعاوى والغرور، وقد ظهرت وسميت علوماً لم تكن فيما مضى تعرف فهذا كالشراب الذي وصفه الله تعالى فقال: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حتَّى إذا جاءَهُ لمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) النور: 39، وكان الجنيد رحمه الله تعالى من قبله يقول: علمنا هذا الذي نتكلم فيه قد طوي بساطه منذ عشرين سنة وإنما نتكلم في حواشيه وكان يقول أيضاً قد كنت أجالس قوماً سنين يتحاورون في علوم لا أفهمها ولا أدري ما هي وما بليت بالإنكار قط كنت أتقبلها وأحبها من غير أن أعرفها وكان أيضاً يقول كنا نتجارى مع إخواننا قديماً في علوم كثيرة ما تعرف في وقتنا هذا ولا سألني عنها أحد، وهذا باب قد أغلق وردم، ولما صنف شيخنا أبو سعيد بن الأعرابي كتاب طبقات النساك ووصف أوّل من تكلم في هذا العلم وأظهره ثم من بعده من البصريين والشاميين وأهل خراسان إلى أن كان آخرهم البغداديين، وقال آخر: من تكلم في هذا صاحبنا جنيد القواريري وكانت له بصيرة فيه وحقيقة وحسن عبارة وما بقي بعده إلا من مجالسته غيظ، وقال مرة أخرى: ما بقي بعد جنيد إلا من يستحي من ذكره وقد كان إمامنا أبو محمد سهل رحمه الله يقول بعد سنة ثلاثمائة لا يحل أن يتكلم بعلمنا هذا لأنه يحدث قوم يتصنعون للخلق ويتزينون بالكلام لتكون مواجيدهم لباسهم وحليتهم كلامهم ومعبودهم بطونهم، وقد كان حذيفة رضي الله عنه إذا سئل أي الفتن أشد فقال: إن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تأخذ لكثرة الشبهات كما كان سهل يقول بعد سنة ثلاثمائة لا يصح لأحد توبة لأنه يفسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 خبزهم وهم لا يصبرون عن الخبز يعني أن أول التوبة أكل الحلال وقد روينا في خبر يأتي على الناس زمان يضلون فيه دينهم فلا يعرفونه يصبح الرجل على دين ويمسي على دين يضل أمره على غير يقين وتسلب عقول أكثر أهل ذلك الزمان وأوّل ما يرفع عنهم الخشوع ثم الإجابة ثم الورع ويقال: أوّل ما يرفع من الناس الأُلْفة. ذكر ما أحدث الناس من القول والفعل فيما بينهم مما لم يكن عليه السلف كان الناس قديماً إذا التقوا يقول أحدهم: لصاحبه ما خبرك وما حالك؟ يعنون بذلك ما خبر نفسك في مجاهدتها وصبرها وما حال قلبك من مزيد الإيمان وعلم اليقين ويريدون أيضاً ما خبرك في المعاملة لمولاك وما حالك في أمور الدنيا والآخرة هل ازددت أم انتقصت فيتذاكرون أحوال قلوبهم ويصفون أعمال علومهم ويذكرون ما وهب الله تعالى لهم من حسن المعاملة وما فتح لهم من غرائب الفهوم فكان هذا من تعديد نعم الله تعالى عليهم ومن جميل شكرهم ويكون مزيداً لهم في المعرفة والمعاملة، وقد كان بعضهم يقول: أكثر علومنا ومواجيدنا ما يعرفه بعضنا من بعض وما يخبر به أحدنا أخاه إذا التقينا فقد جهل هذا اليوم فترك، فهم إذا تساءلوا عن الخبر والحال إنما يريدون به أمور الدنيا وأسباب الهوى ثم يشكو كل واحد مولاه الجليل سبحانه وتعالى إلى عبده الذليل ويتسخط أحكامه ويتبرأ بقضائه وينسى نفسه وما قدمت يداه فمثله كما قال تعالى: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآيَاتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْها وَنسِيَ ما قَدَّمَتْ يداهُ) الكهف: 57، وكما قال تعالى: (إنّ الإنسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود) العاديات: 6 قيل كفور بنعمته يعدد المصائب وينسى النعم كل ذلك جهالة بالله تعالى وغفلة عنه، ومنه قولهم: الآن كيف أصبحت وكيف أمسيت؟ هذا محدث، إنما كانوا إذا التقوا قالوا: السلام عليكم ورحمة الله. وفي الخبر: من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه وإنما حدث هذا في زمان الطاعون الذي كان يدعى طاعون عمواس بالشام من الموت الذريع، كان الرجل يلقى أخاه غدوة فيقول كيف أصبحت من الطاعون ويلقاه عشية فيقول كيف أمسيت منه لأن أحدهم كان إذا أصبح لم يمسِ وإذا أمسى لم يصبح، فبقي هذا إلى اليوم ونسي سببه وكان من عرف حدوثه من المتقدمين يكرهه، حدثونا عن أحمد بن أبي الحواري قال: قال رجل لأبي بكر بن عياش: كيف أصبحت أو كيف أمسيت فلم يكلمه، وقال: دعونا من هذه البدعة قال: وقلت لبعض السلف: كيف أصبحت فأعرض عني وقال ما كيف أصبحت قل بالسلام. وروى أبو معشر عن الحسن رضي الله عنه إنما كانوا يقولون السلام عليكم سلمت والله القلوب، فأما اليوم كيف أصبحت أصلحك الله كيف أمسيت عافاك الله، فإن أخذنا بقولهم كانت بدعة ألا ولا كرامة فإن شاؤوا غضبوا علينا ومن ذلك ابتداء الرجل في عنوان الكتاب باسم المكتوب إليه وإنما السنة أن يبتدئ بنفسه فيكتب من فلان إلى فلان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 قال ابن سيرين رحمه الله تعالى: غبت غيبة فكتبت إلى أبي فابتدأت باسمه فكتبت إليّ يا بني إذا كتبت إليّ فابدأ بأسمك في الكتاب فإن ابتدأت بإسمي قبل اسمك لا قرأت لك كتاباً ولا رددت إليك جواباً، وكتب العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبدأ بنفسه وكتب من العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويقال أوّل من أحدثه زياد فعابه العلماء عليه وعدّوه من إحداث بن أمية، وقد بقي سنة هذا في كتب الخلفاء والأمراء إلى اليوم على نحو ما مضى فهم يقدمون أسماءهم في كتبهم ومن الأحداث قول الرجل إذا جاء منزل أخيه يا غلام يا جارية فيه مخالفة لأمر الله عزّ وجلّ وأمر رسوله عليه السلام، قال الله عزّ وجلّ: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيرَ بُيُوتِكُمْ حتّى تَسْتَأنِسُوا وتُسَلِّمُوا على أهْلِها) النور: 27قال أهل التفسير: الاستئناس الدق أو التنحنح أو الحركة حتى يؤذن بذلك أن وراءها إنساناً وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا جاء أحدكم منزل أخيه فليسلم ثلاثاً فإن أذن له فليدخل وإلا فليرجع وكان السلف يقرع أحدهم باب أخيه ثم يسلم ثلاثاً يقف بعد كل تسليمة هنيهة فإن أذن له دخل وقد لا يحب صاحب المنزل أن تدخل عليه في ذلك الوقت لسبب عذر له فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله ارجع عافاك الله فإني على شغل فيرجع عنه غير كاره لرجوعه ولا يؤثر ذلك عليه في نفسه، وقد يكون قوله ارجع أحب إليه لأنه أفضل له رجاء الإجابة والتزكية لقوله تعالى: (وإِنْ قيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) النور: 28، فربما رجع في اليوم مرتين أو ثلاثاً بعد رد صاحبه له وهو يعود لأن ذلك لم يؤثر في قلبه شيئاً وهذا لو فعل ببعض الناس من أهل عصرنا هذا لكرهه، ولعل أن لا يعود يومه ذلك فأمّا العلماء فقد كان بعض الناس لا يستأذن عليهم إلا لمهم لا بدّ منه بل كانوا يقعدون على أبوابهم وفي مساجدهم ينتظرون خروجهم لأوقات الصلاة إجلالاً للعلم وهيبة للعلماء. وحدثونا عن أبي عبيد قال: ما قرعت على عالم قط بابه كنت أجيء إلى منزله فأقعد على بابه انتظر خروجه من قبل نفسه أتأوّل قول الله عزّ وجلّ: (وَلَوْ أنَّهُمْ صبَرُوا حتّى تََخْرُجَ إليْهِمْ لكانَ خيْراً لَهمْ) الحجرات: 5، وقد روينا مثل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما في موضعه من العلم والشرف أن المار كان يمرّ به وهو قائم على باب منزل الرجل من الأنصار تسفي عليها الرياح فيقول: ما يجلسك ههنا يا ابن عم رسول الله؟ فيقول: انتظر خروج صاحب المنزل، فيخرج الرجل فيقول ابن عم رسول الله: لو أرسلت إليّ لجئتك فيقول: لا أنا كنت أحق أن آتيك، فيسأله عما يريد من حديث بلغه أنه يرويه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن هو سمعه منه، ومن ذلك استقصاء الرجل في المسألة عن حال أخيه وخبره، وقد كره ذلك، تزوّج سلمان الفارسي رضي الله عنه فلما دخل على أهله خرج إلى الناس من الغد فقال له رجل: كيف أنت يا أبا عبد الله قال بخير أحمد الله تعالى قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 كيف حالك وكيف بت البارحة. وفي لفظ آخر كيف وجدت أهلك فغضب سلمان وقال: لم يسأل أحدكم فيخفي المسألة وليسأل عما وراء البيوت يكفي أحدكم أن يسأل عن ظاهر الأمر وأما سليمان بن مهران الأعمش فإن رجلاً قال له في منزله: كيف أنت يا أبا محمد؟ قال: بخير قال: كيف حالك؟ قال في عافية، قال: كيف بت البارحة؟ فصاح: يا جارية انزلي بالفراش والمخاد فأنزلت بذلك فقال: افشي واضطجعي حتى أضطجع إلى جنبك لنرى أخانا كيف بت البارحة وكان يقول يلقى أحدهم أخاه فيسأله عن كل شيء حتى عن الدجاج في البيت ولو سأله درهماً ما أعطاه وكان من مضى من السلف إذا لقي أخاه لا يزيد على قولّ: كيف أنتم أو حياكم الله بالسلام، ولو سأله شطر ماله قاسمه، ومن ذلك قول الرجل لأخيه إذا لقيه ذاهباً في الطريق إلى أين تريد أو من أين جئت فقد كره هذا وليس من السنة ولا الأدب وهو داخل في التجسس والتحسس لأن التحسس في الآثار والتجسس في الأخبار وهذا السؤال عن ذلك يجمعهما وقد لا يحب الرجل أن يعلم صاحبه أين يذهب ولا من أين جاء. وقد كره ذلك مجاهد وعطاء قالا: إذا لقيت أخاك في طريق فلا تسأله من أين جئت ولا أين يذهب فلعله أن يصدقك فتكره ذلك ولعله أن يكذبك فتكون قدحملته عليه وقد كانوا يكرهون بيع المصاحف وشراءها وكان بعضهم لبيعها أكره منه لشرائها، وقد ابتدع الناس علوماً لم تكن تعرف فيما سلف منها: علم الكلام والجدل وعلوم المقايس والنظر والإستدلال على سنن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأدلة الرأي والمعقول ومنها إيثار علم العقل والرأي والقياس على ظواهر القرآن وعلى الأخبار ومنها: إظهار الإشارات بالمواجيد من غير علومها ولا بيان تفصيلها، وفي ذلك تحيير للسامعين وإضلال للعاملين وإنما كان العلماء بهذا العلم يظهرون علوم المواجيد ويخفون الإشارة بالوجد فيظهرون للناس ما ينفع ويخفون ما يضر ولأن المواجيد أحوال قلوبهم فكتمها أفضل وعلومها أنصبة المريدين والعاملين فإظهارها هو البغية لهم فأظهروه وأخفوا وجدهم لأنه سرّ لهم فسلموا من التصنع والدعوى وأعطوا السامعين نصيبهم ومنعوهم ما ليس لهم فعدلوا في الوصفين معاً ففضلوا في الحالين جميعاً فجهل هذا الآن فأظهر ضده وكان إلى الضرر أقرب ومن السلامة أبعد، فمن لم يحسن التفصيل ولم يرزق العبارة فإنه يحسن الصمت فهو واسع إن من لم يتكلم بعلم على سنة فسكوته أقرب له إلى الله تعالى فمثله في ذلك كما قال الله عزّ وجلّ: (ومَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ الله لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلاّ ما آتاها) الطلاق: 7، ومما ظهر إظهار علوم المعرفة بمعاني الرغبة ليتميزوا عن الفقراء تكبراً منهم فلا يجعلون مجعلهم فليصرف إليهم من الأسباب على قدر أنسهم وأحوالهم، وهذا من أكبر أبواب الدنيا وأضره على مريدي الآخرة وألطفه تمويهاً في الدين ومنها الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 في التوحيد بمخالفة علم الشرع وأن الحقيقة تخالف العلم والحقيقة هي علم وهي أحد طرقات الشريعة وعلم الشرع عنها فكيف تنافيها وهي التي أوجبته وإنما هي عزيمة وضيقة وعلم الظاهر هو الرخصة والسعة فمن تكلم في علم الباطن على غير قواعد العلم الظاهر وأصوله فذلك من الإلحاد في الشريعة والوليجة بين الكتاب والسنة. وقد قال بعض العارفين: نظرت إلى هؤلاء الشاطحين فما وجدت إلا جاهلاً مغروراً أو خاسئاً حبوراً أو مستظهراً بلا شيء، ومنها الكلام في الدين بالوساوس والخطرات عن غير ردّ مواجيدها إلى الكتاب والسنّة والواجب معرفة تفصيلها، ونفى ما لم يشهد له الكتاب والسنّة منها، إذ في المواجيد ضلال وغرور وفي المشاهدات باطل وزور، مع دعواهم المحبة وإنكارهم الصفة التي جاءت بها السنّة وعن غير شهادة موصوف وادعائهم المعرفة من غير تعرف معروف وممّا أحدثوا السجع في الدعاء والتغريب فيه ولم يرد الكتاب به ولا نقل عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الصحابة بل كانوا ينهون عن الاعتداء في الدعاء ويجتنبون محاوزة ما أخبر الله تعالى عن أوليائه من الأدعية الجامعة المختصرة المعروفة. وروينا عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إياكم والسجع في الدعاء، حسب أحدكم أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، وفي الخبر سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطهور، وسمع عبد الله بن مغفل ابنه يدعو بدعاء يغمق فيه فقال: يا بني إياك والحدث والاعتداء في الدعاء، وفي قوله عز وجلّ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضرُّعاً وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتدينَ) الأعراف: 55، قيل في الدعاء: فالاعتداء في الدعاء هو ترك ما أخبر الله عزّ وجلّ عن أوليائه الصالحين من الدعاء بالمغفرة والرحمة والتوبة ومعنى ذلك من الدعاء المعروف والقول المشهور إلى التنطع والتعميق والتغريب والتدقيق، ويقال إن العلماء والأبدال لا يزيد أحدهم على سبع كلمات في الدعاء ووجدت تصديق ذلك في الكتاب إن الله تعالى ما أخبر عن عباده في الدعاء في مكان واحد أكثر من سبع دعوات، وهي التي في أخر سورة البقرة، وإلا إنما يخبر عنهم بالدعوتين والثلاث والأربع إلى الخمس في مواضع من الكتاب متفرقة. ومرّ بعض السلف بقاصّ يدعو يسجع في دعائه ويتعمق فقال له: ويلك على الله تبالغ، أشهد لقد رأيت حبيباً العجمي يدعو وما يزيد على قوله: اللهم اجعلنا جيدين، اللهم لا تفضحنا يوم القيامة، اللهم وفّقنا للخير، قال: والناس يبكون من كل ناحية وكنا نتعرف إجابة دعائه وبركته، وكان أبو يزيد البسطامي يقول: سله بلسان الحاجة لا بلسان الحكمة، وقال الحسن: ادع بلسان الاستكانة والافتقار لا بالفصاحة والانطلاق، ومما أحدثوه أخذ القرآن بالإدارة وتنازع الاثنين الآية أو تلقي الرجلين للآيتين في مكان واحد بمنزلة الاختلاس والنهبة من غير خشوع للقرآن ولا هيبة، وقراءة القرآن تحتاج إلى حزن وسكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وخشوع، ومن ذلك أخذ المقرئ على الاثنين وليته قام بقراءة الواحد لسهو القلب كما قيل لإبراهيم الحربي إن فلاناً يأخذ على الاثنين فقال هاه يحتاج اثنان أن يأخذا على واحد، ومن البدع التلحين في القراءة حتى لا تفهم التلاوة وحتى يجاوز إعراب الكلمة بمدّ المقصور وقصد الممدود وإدغام المظهر وإظهار المدغم ليستوي بذلك التلاحن ولا يبالي باعوجاج الكم وإحالته عن حقيقته فهو بدعة ومكروه استماعه، قال بشر بن الحرث: سألت ابن داود الحربي أمر بالرجل يقرأ فأجلس إليه قال: يقول يطرب قلت: نعم، قال: لا هذا قد أظهر بدعته، ومن ذلك التلحين في الأذان وهو من البغي والاعتداء فيه، قال رجل من المؤذنين لابن عمر رضي الله عنهما: إني لأحبك في الله تعالى فقال له: لكني أبغضك في الله تعالى قال: يا أبا عبد الرحمن لم: قال لأنك تبغي في أذانك وتأخذ عليه أجراً، وكان أبو بكر الآجري رحمه الله يقول: خرجت من بغداد وما يحل لي المقام بها قد ابتدعوا في كل شيء حتى في قراء ةالقرآن وفي الأذان وكان يعني بذلك قراءة الإدارة والتلحين وقدم علينا مكة في سنة ثلاثين ومن جمل ما أحدث الخلف فخالفوا به سنن السلف أنهم شدّدوا في أشياء كان السلف يسهلون فيها وسهّلوا أشياء كان السلف يشدّدون فيها، فمثلهم في ذلك كالخوارج شدّدوا في الصغائر من الذنوب وسهّلوا في الآثار والسنّة وفي ترك مذهب الجماعة حتى فارقوهم فممّا شدّد فيه الخلف مما كان السلف يسهّلونه كتب الأحاديث من أنواع طرقها وتتبع الغرائب من طرقاتها وتحري الألفاظ فيها. وقد قال ابن عون: أدركت ثلاثة يرخصون في المعاني: إبراهيم، والشعبي، والحسن رحمهم الله تعالى، وعن جماعة من علماء السلف والصحابة التوسعة في معاني الأحاديث وإن لم يؤد ألفاظها ومن ذلك تجريد الحروف وتحرّي المقرئ الواحد في جميع اختياره حتى كأنه فرض عليه، ومن ذلك التدقيق في القياس والنظر والتبحّر في علوم النحو والعربية، كما قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: أعربنا في الكلام فلم نلحن ولحنّا في الأعمال فيا ليتنا لحنّا في الكلام وأعربنا في الأعمال. وذكرت العربية عند القاسم بن المخيمرة فقال: أوّلها كبر وآخرها بغي، وقد قال بعض السلف: النحو يذهب الخشوع من القلب، وقال آخر: من أحب أن يزدري الناس كلهم فليتعلّم العربية وشدّدوا في الطهارة بالماء وتنظيف الثياب وكثرة غسلها من عرق الجنب ولبس الحائض ومن أرواث ما يؤكل لحمه وأبواله وغسل اليسير من الدم ونحو ذلك وكان السلف يرخصون في هذا كله ومما سهّلوه مما كان السلف يشددون فيه أمر المكاسب وترك التحرّي فيها والكلام فيما لا يعني والخوض في الباطل والغيبة وا لنميمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 والاستماع إليهما والعقد على البلاغات وسوء الظن لأجلها، وهو اشتراك في الغيبة والنميمة، وكل بلاغة تزيد وتنقص إن كان شراً ازددت فيه وإن كان خيراً نقصت منه وسهلوا في النظر إلى الزور واللهو ومجالسة البطالين والمشي في أسباب الهوى والتعصب وشدة الحرص في الدنيا، وهذا كله كان السلف يشدّدون فيه ومما أحدثوا دخول النساء الحمام من غير ضرورة ودخول الرجل بغير مئزر وهو فسق، وسئل إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى عمن يشرب النبيذ ولا يسكر أيصلّى خلفه؟ قال: نعم، قيل: فمن دخل الحمام بغير مئزر فقال لا يُصلي خلفه، هذا لأن شرب النبيذ يختلف فيه إذا لم يسكر ودخول الحمام بغير مئزر محرم بإجماع، وكان بعض العلماء يقول: يحتاج داخل الحمام إلى مئزرين مئزر لوجهه ومئزر لعورته وإلا لم يسلم في دخوله، وكان ابن عمر يقول: الحمام من النعيم الذي أحدثوه، ومن المنكر في الحمام تولي القيم لعورة الرجل المسلم في الأطلاء بالنورة، وقد كان من هدي العلماء في قعودهم أن يجتمع أحدهم في جلسته فينصب ركبتيه ومنهم من يقعد على قدميه ويضع مرفقيه على ركبتيه كذلك كان شمائل كل من تكلم في هذا العلم خاصة من عهد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن زمن الحسن البصري وهو أوّل من أظهر هذا العلم وفتق الألسن به إلى وقت أبي القاسم الجنيد قبل أن تظهر الكراسي، وكذلك روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقعد القرفصاء ويحتبي بيديه، وفي رواية أخرى: أنه كان يقعد على قدميه ويجعل مرفقيه على ركبتيه وأوّل من قعد على كرسي من أهل هذا العلم: يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى بمصر، وتبعه أبو حمزة ببغداد، فعاب الأشياخ عليهما ذلك، ولم يكن ذلك من سيرة العارفين الذين يتكلمون في علم المعرفة واليقين إنما كان يجلس متربعاً، النحويون واللغويون وأبناء الدنيا من العلماء المفتين وهي جلسة المتكبرين، ومن التواضع الاجتماع في الجلسة. ذكر تفصيل العلوم ومعروفها وقديمها ومحدثها ومنكرها اعلم أن العلوم تسعة: أربعة منها سنّة معروفة من الصحابة والتابعين وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف، فأما الأربعة المعروفة فعلم الإيمان وعلم القرآن وعلم السنن والآثار، وعلم الفتاوى والأحكام، وأما الخمسة المحدثة، فالنحو والعروض، وعلم المقاييس، الجدل وفي الفقه، وعلم المعقول بالنظر، وعلم علل الحديث وتطريق الطرقات فيه وتعليل الضعفاء وتضعيف النقلة للآثار فهذا العلم من المحدث إلا أنه علم لأهله فيسمعه أصحابه منهم، وقد كانوا يرون القصص بدعة وينهون عنه ويكرهون مجالسة القصّاص، وقال بعض العلماء نعم الرجل فلان لولا أنه يقصّ، وقال بعض هذه الطائفة: مثل أصحاب الحكايات في أهل المعرفة مثل القصّاص في الفقهاء، وقال آخر: مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 القصّاص في العلماء مثل أهل السواد في أهل المدن، فأما أكل الدنيا بالدين وأخذها على الصلاح وبيع العلم بالدنيا والتصنع والتزين للعموم فمن قبيح ما أحدث، وهو أظهر من أن يدل على فساده عند من عرف ظاهر العلم، وقد سمّى هؤلاء في زماننا هذا الجاهلون بالعلم علماء وجعلهم الناقصون عن الفضل فضلاء لقلة معرفتهم بطريق المتقدمين وعدم بصيرتهم بحقيقة علم الدين، وأعلم أن الكلام ينقسم عندنا سبعة أقسام: العلم منه قسم واحد، وسائر الستة لغو مطرح يلتقطه من لا يعرفه ولا يفرق بين العلم والجهل، والعرب تقول: لكل ساقطة لاقطة ولكل قائلة ناقلة، فالستة إفك وسفه وخطأ وظنّ وزخرف ووسوسة، فهذه أسماؤها عند العلماء يفصلون ذلك بما فصل الله تعالى لهم من بيانه واستحفظهم من كتابه وجعلهم شهداء على دينه وعباده، فالقسم السابع من الكلام هو ما عدا هذه الستة، ولم يقع عليه اسم منها مذموم، فهو علم وهو نصّ القرآن والسنة أو ما دلاّ عليه، واستنبط منهما أو وجد فيهما اسمه ومعناه من قول وفعل، والتأويل إذا لم يخرج عن الإجماع داخل في العلم والاستنباط إذا كان مستودعاً في الكتاب يشهد له المجمل ولا ينافيه النصّ فهو علم، وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: أنتم اليوم في زمان الهوى فيه تابع للعلم وسيأتي عليكم زمان يكون العلم فيه تابعاً للهوى. وقد جمع الله تعالى بين رونق العقل ومتعة الدنيا بتسمية الزخرف فقال تعالى: (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَىْها يتّكئون) الزخرف: 34 وزخرفاً وكما قال زخرفاً من القول غروراً فذهاب الجاهل بالاستحسان لزخرف القول من المموّه من غلّ الدنيا كمتعة الجاهل من أبناء الدنيا بزخرف الذهب ذاهباً عن حقيقة الأمر والزخرف ما يموّه على الذهب، فيشبه به يحسبه الجاهل والصبي عين الذهب، كذلك الزخرف من القول: ما يموّه ويشبه على العلم يحسبه المستمع من الجهّال علماً، فكذلك جمع بينهما في التسمية الزخرف، وقد قيل إن الزخرف هو الذهب فعلى هذا شبّه قول الغرور بالذهب الذي يذهب بقاؤه وتقلّ حقيقته عند الربانيين وأهل الحقيقة الزاهدين إذ شبهه الأنبياء والصديقون كالحجر والمدر، وكان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: تركوا العلم وأقبلوا على الغراس، ما أقل العلم فيهم والله المستعان، وقال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: لم يكن الناس فيما مضى يسألون عن هذه الأمور كما يسأل الناس اليوم ولم يكن العلماء يقولون حرام ولا حلال في أكثر الأمور أدركتهم يقولون مستحب ومكروه، وكان مالك كثير التوقف في الأجوبة إذا سئل ويكثر أن يقول لا أدري سل غيري وقال رجل لعبد الرحمن بن مهدي ألا ترى إلى قول فلان في العلم حلال وحرام وقطعه في الأمور بعلمه يعني رجلاً من أهل الرأي وإلى قول مالك: إذا سئل أحسب، فقال عبد الرحمن: ويلك قول مالك أحسب أحسب أحبّ إليّ من قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فلان: أشهد أشهد، وكان هشام بن عروة يقول: لا تسألوهم اليوم عمّا أحدثوا فإنهم قد أعدوا له جواباً، ولكن اسألوهم عن السنن فإنهم لا يعرفونها، وكان الشعبي رحمه الله تعالى إذا نظر إلى ما أحدث الناس من الرأي والهوى يقول: لقد كان القعود في هذا المسجد أحبّ إليّ مما يعدل به فمذ صار فيه هؤلاء المراؤون فقد بغضوا إلي الجلوس فيه ولأن أقعد على مزبلة أحب إليّ من أن أجلس فيه وكان يقول ما حدثوك عن السنن والآثار فخذ به وما حدثوك عما أحدثوا من رأيهم فامخط عليه، وقد قال مرة: فبل عليه، وقد كان السلف يستحبون العي والبله عن علوم المعقول، وقد جعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الإيمان إذ قرنه بالحياء فقال: الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق. وقال عليه السلام: أبغض الخلق إلى الله عزّ وجلّ البليغ الذي يتخلل الكلام بلسانه كما يتخلل الباقر الخلا بلسانها يعني الحشيش الرطب، وقال في حديث آخر: العيّ عن اللسان لا عيّ القلب، وقال: إن الله عزّ وجلّ كره لكم البيان كل البيان فصار الفقه إنما هو فقه القلب عن الرب سبحانه وتعالى وصار فقه اللسان بالبيان إنما هو عيّ القلب عن الشهادة والإيقان وعيّ اللسان وطول الصمت الذي كان يستحبه السلف هو اليوم عيب، ومن المتكلمين من لا يعرف من كلام البدع وعلم المنافقين الذي ذمه القدماء هو اليوم سنّة وأهل النطق به هم العلماء اليوم، ولقد صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً وصار السنّة بدعة والبدعة سنّة، وكذلك جاءت به الأخبار في وصف علماء آخر الزمان، وفي الخبر المشهور: إن الله تعالى يبغض الثرثارين المتشدقين، فمن غلب عليه هذا الوصف فكان متشدقاً بليغاً في علم الرأي والمعقول عيي القلب عن مشاهدة اليقين وعلم الإيمان كان إلى النفاق أقرب، ومن حقيقة الإيمان أبعد، وقد كان أبو سليمان الداراني يقول: لا ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخيرات أن يعمله حتى يسمع به في الأثر فيحمد الله تعالى إذا وافق ما في نفسه. وقال بعض العارفين: ما قبلت خاطراً من قلبي حتى يقيم لي شاهدي عدل من كتاب وسنة وكان إمامنا أبو محمد سهل رحمه الله تعالى يقول: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه هذه الأربع: أداء الفرائض بالسنّة، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي من الظاهر، والباطن والصبر على ذلك حتى الممات، وقد كانوا يعيبون على من تكلم بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بغير ذكر الله تعالى وكانوا يخرجون المتحدثين من المساجد فلا يبقى فيه إلا مصلٍّ أو ذاكر لله تعالى، وقد كان السلف يستعظمون يسير الحديث في الدين ودقائق البدع في الإسلام لعظم الإيمان والسنّة في قلوبهم ولمعرفتهم بحقيقة المعروف، قال عبد الله بن مغفل لابنه وقد سمعه يقرأ خلف الإمام: يا بني إياك والحدث إياك والحدث، وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لابنه عمر وقد سمعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 يسجع في كلامه: هذا الذي يبغضك إليّ لا قضيت حاجتك أبداً، وكان قد جاءه يسأله حاجة له، وقال عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أتي امرؤ شراً من طلاقة في لسانه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن رواحة حين سجع سمعه فوالى بين ثلاث وقال: إياك والسجع يا ابن رواحة، فكان السجع ما زاد على كلمتين، وكذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي أمره بديّة الجنين، لما قال كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل هذا بطل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسجع كسجع الأعراب. وروينا أن مروان لما أحدث المنبر في صلاة العيد عند المصلّى قام إليه أبو سعيد الخدري فقال: يا مروان ما هذه البدعة فقال: إنها ليست بدعة هي خير مما تعلم، إن الناس قد كثروا فأردت أن يبلغهم الصوت، قال أبو سعيد رضي الله عنه: ولا تأتون بخير مما أعلم أبداً والله لاصليت وراءك اليوم، فانصرف ولم يصلِّ معه صلاة العيد، فالخطبة على منبر في صلاة العيد وخطبة الاستسقاء بدعة، وكان عليه السلام يخطب فيهما على الأرض متوكئاً على قوس أو عصا، وروي أن عمر رضي الله عنه أخّر صلاة المغرب ليلة حتى طلع نجم فأعتق رقبة، وفعله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أيضاً فأعتق رقبة استناناً بعمر وهو جده لأمه. وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخّر صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين وفي الخبر: لا تزال أمتي على مسكة من دينها ما لم يؤخروا صلاة المغرب إلى اشتباك النجوم تشبهاً باليهودية ولم يؤخووا صلاة الصبح إلى افتراق النجوم تشبهاً بالنصرانية، وقال سفيان الثوري رحمه الله ويوسف بن أسباط: لا تقّلد دينك من لا دين له، وقال وكيع: لأن أزني أحبّ إليّ من أن أسأل مبتدعاً عن ديني، وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قد أكثر عن عبيد الله بن موسى العبسي ثم بلغه عنه أدنى بدعة قيل إنه كان يقدم علياً على عثمان، وقيل: بل ذكر معاوية بسوء، فانصرف أحمد ومزّق جميع ما حمل عنه ولم يحدث عنه شيئاً، وقيل له مرة: يا أبا عبد الله أوكيع أشبه بالسلف أم عبيد الله فقال: وكيع وإن زنى، وحدثونا عن إبراهيم الحربي قال: كتبت عن علي بن المديني رضي الله عنه جملاً لله تعالى على أن لا أحدث عنه بحرف، قيل: ولم يا أبا إسحاق فذكرصلاته خلف مبتدع وكان رحمه الله تعالى يقول: صحبت الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل العربية واللغة سبعين سنة ما سمعت هذه المسائل التي أحدثت في هذا الوقت من أحد منهم قط يعني الاسم والمسّمى ونحو ذلك، وقال: وأخرج على من كان من أهل الكلام والجدل أن يحضر مجلسي أو يسألني عن شيء فإنه لا علم لي بالكلام ولا أنا أحسنه ولا أقول بأهله، ولو عرفت أحداً منهم ما كلمته ولا أجبته عن شيء، وهجر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أبا ثور صاحب الشافعي لما سئل عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 معنى قول النبي: إن الله تعالى خلق آدم على صورته قال: إن الهاء عائدة على آدم فغضب وقال: ويله وأي صورة كانت لآدم يخلقه عليها؟ ويله يقول إن الله تعالى خلق على مثال فأي شيء يعمل في الحديث المفسر إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن، فبلغ ذلك أبا ثور فجاءه واعتذر وحلف أنه ما قلت عن اعتقاد وإنما هو رأي رأيته والقول ما قلت وهو مذهبي، وهجر أيضاً حارثاً المحاسبي رحمه الله تعالى في رده على المبتدعة وكان من أهل السنة فقال: أين ترد عليهم وقد حكيت قولهم وأيضاً فإنك تحملهم على التفكر والرأي فيما قلت فيكون سبباً لردّ الحق بالباطل، وهجر أيضاً يحيى بن معين في كلمة تكلم بها وهو قوله: لو أعطاني الشيطان شيئاً أخذته، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: ليس من السنّة أن تجادل عن السنّة ولكن تخبر بها فإن قبل منك وإلا فاسكت، وقيل لعبد الرحمن بن مهدي رضي الله عنه: إن فلاناً يردّ على المبتدعة فقال: بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: لا بل بالمعقول قال بئسما صنع ردّ بدعة ببدعة. وحدث زيد بن أحزم عن وهب بن جرير قال: سمعت شعبة رحمه الله تعالى يقول: أتيت الحرث العكلي فقلت: ما معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تبع أحدكم جنازة فلا يجلس حتى توضع قال: أرأيت إن جئنا ولم يحفر له ينبغي لنا أن نقوم قياماً فحيث قال لي: أرأيت تركته وروى محمود بن غيلان أيضاً عن وهب أيضاً عن شعبة قال: أتيت المنهال بن عمرو أسأله عن حديث فسمعت من منزله صوت طنبور فرجعت ولم أسأله ثم ندمت بعد ذلك فقلت: هلاّ سألته فعسى: كان لا يعلم به، ومما أحدثوا البيع والشراء على الطريق وكان الورعون لا يشترون شيئاً ممن قعد يبيعه على طريق وكذلك إخراج الرواشن من البيوت وتقديم العضايد بين يدي الحوانيت إلى الطريق مكروه، ومما كرهه أهل الورع البيع والشراء من الصبيان لأنهم لا يملكون وكلامهم غير مقبول، وحدثت عن أبي بكر المروزي أن شيخاً كان يجالس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ذا هيبة فكان أحمد يقبل عليه ويكرمه فبلغه عنه أنه طين حائط داره من خارج قال: فأعرض عنه في المجلس فاستنكر الشيخ ذلك فقال: يا أبا عبد الله هل بلغك عني حدث أحدثته؟ قال: نعم طينت حائطك من خارج قال: ولا يجوز قال: لا لأنك قد أخذت من طريق المسلمين أنملة قال: فكيف أصنع؟ قال: إما أن تكشط ما طينته وإما أن تهدم الحائط وتواخره إلى وراء مقدار أصبع ثم تطينه من خارج قال: فهدم الرجل الحائط وأخّره أصبعاً ثم طينه من خارج قال: فأقبل عليه أبو عبد الله كما كان، ومما كرهه السلف طرح السنّور والدابة على المزابل في الطرقات فيتأذى المسلمون بروائح ذلك، وكان شريح وغيره إذا مات لهم سنّور دفنوها في دورهم ومثله إخراج الميازيب وصيها إلى الطرقات، وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وأهل الورع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 يجعلون ميازييهم إلى داخل دورهم، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كان أحدهم يكذب مرتين ولا يشعر يقول: لا شيء إلا شيء ليس بشيء يعني قول الناس للشيء اليسير الذي لا يوصف بكثير لا شيء فاستعظم هذا ورآه كذباً مرتين. وروينا عن عمر رضي الله عنه: إنه قال لعوانه: كنت أرثي لك من العمى فصرت الآن غبطك به قال وكيف؟ قال: صرت لا ترى أبا الصغري بعينيك مبتدع كان بالمدينة، وقيل لقتادة: تود لو أنك بصير؟ فقال: لا على من كنت أفتح عيني بل لو كان في وقت أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنت أنظر إليهم، وحدثونا عن الفضل بن مهران قال: قلت ليحيى بن معين: أخ لي يقعد إلى القصّاص فقال: انهه فقلت: لا يقبل قال عظه قلت: لا يقبل أأهجره؟ قال: نعم قال: فأتيت الإمام أحمد بن حنبل فذكرت له نحو ذلك فقال: قل له يقرأ في المصحف ويذكر الله تعالى في نفسه ويطلب حديث رسول الله لله قلت: فإن لم يفعل قال: بلى إن شاء الله تعالى فإن هذا الاجتماع محدث قلت: فإن لم يقبل أأهجره؟ فتبسم وسكت، وسأل رجل بشر بن الحارث رحمه الله تعالى عن مسألة من علم القلوب فتوقف ثم أجابه ثم سأله مسألة أخرى من علم المعاملات فسكت ونظر إليه ثم قال: من تجالس من الناس فقال: منصور بن عمار وابن السماك فقال: ألا تستحي تسألنا عن علم القلوب ثم تجالس القصّاص؟ قال: وأعرض عنه حتى قلنا له: يا أبا نصر إنه لا بأس به، إنه من أهل السنّة وقد كانوا يكرهون الصلاة في المقصورة ويرونها أنها أول بدعة أحدثت في المساجد ويكرهون تزويق المساجد وكذا القبلة بالزخرف وتحلية المصاحف وهذا من البدع، وفي الخبر: إذا ما زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم وقد كانوا يكرهون كثرة المساجد في المحلة الواحدة. روي أن أنس بن مالك رضي الله عنهما لما دخل البصرة جعل كلما خطا خطوتين رأى مسجداً فقال: ما هذه البدعة؟ لما كثرت المساجد قلّ المصلون، أشهد لقد كانت القبيلة بأسرها ليس فيها إلا مسجد واحد، وكان أهل القبائل يتبانون المسجد الواحد في الحي من الأحياء واختلفوا في أيهما يصلّي إذا اتفق مسجدان في محلة، فمنهم من قال في أقدمهما وإليه ذهب أنس بن مالك وغيره من الصحابة، قال: وكانوا يجاوزون المساجد المحدثة إلى المساجد العتق، وكان الحسن يقول: يصلي في أقربهما منه ويقال: أول ما حدث من البدع أربع: الموائد، والمناخل، والأشنان، والشبع، وكانوا يكرهون أن تكون أواني البيت غير الخزف ولا يتوضأ أهل الورع في آنية الصفر والنحاس، قال الجنيد: قال لي سري السقطي: اجتهد أن لا تستعمل من آنية بيتك إلا جنسك يعني من الطين، ويقال: لا حساب عليه، ومما كرهه السلف تشييد البناء بالجص والآخر، يقال: أول من طبخ الطين هامان أمره به فرعون، ويقال: هو بناء الجبابرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وكرهوا النقوش والتزويق في السقوف والأبواب، وكانوا يغضون من النظر إلى ذلك وغاب الأحنف بن قيس غيبة فرجع وقد خضّروا سقف بيته وصفّروه فلما نظر إليه خرج من منزله وحلف أن لا يدخله حتى يقلعوا ذلك منه ويعيدوه كما كان، وقال يحيى بن معاذ من أصحاب الثوري رحمه الله: كنت أمشي مع الثوري في طريق فمررنا بباب منقوش مزوّق فنظرت إليه فجذبني سفيان حتى جزت فقلت: ما تكره من النظر إلى هذا؟ فقال: إنما بنوه لينظر إليه ولو كان كل من مرّ به لا ينظر إليه ما بنوه، فكأنه خشي أن يكون بنظره إليه معاوناً له على بنائه، ومما أحدث الناس مما كانوا يكرهونه الثياب الرقاق مثل القصب ورقيق بز مصر للنساء والرجال وهو للنساء أكره وأغلظ وكانوا يقولون: الثياب الرقاق لباس الفساق ومن رق ثوبه رق دينه ويقولون أول النسك الزي. وقال ابن مسعود رضي الله عنه لا يشبه الزي الزي حتى يشبه القلب القلب، وخطب بشر بن مروان وعليه ثوب رقيق فجعل رافع بن خديج رضي الله عنه يهزأ به ويقول: انظروا إلى أميركم يعظ الناس وعليه ثياب الفسّاق، ولما جاء عبد الله بن عامر بن ربيعة في بزته إلى أبي ذر رضي الله عنه وسأله عن الزهد وأخذ يتكلم فيه فجعل أبو ذر يضرط به في كفه ثم أعرض عنه ولم يكلمه، فغضب ابن عامر وكان قرشياً شريفاً وشكاه إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال له: أنت فعلت نفسك تأني أبا ذر في هذه الثياب وتسأله عن الزهد، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقد وصف نساء يكن في آخر الزمان فقال: كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن أمثال أسنمة البقر يعني المعاجر والأكوار لا يجدن رائحة الجنة، كان ابن عباس يفسر التبرّج أنه منه لبس ما رقّ من الثياب وقال في قوله تعالى: (ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجََاهِلِيَّةِ الأُولى) الأحزاب: 33، قال: كانت المرأة تلبس ثياباً قيمتها كذا وكذا لا توارى لها عورة مما لا يجوز فيه الصلاة لأنه يصف أو يشف فمكروه لبسه وإنما كانت ثياب السلف السنبلاني والقطواني وعصب اليمن ومعافري مصر والقباي مثل كسوة الكعبة والثياب السحولية اليمانية والكرابيس الحضرمية، وهذه كلها غلاظ كثيفة، وكانت الأثمان من خمسة دراهم إلى ثلاثين درهماً وما بين ذلك، ثم أحدث الناس الثياب الرقاق من كتان مصر وقطن خراسان، وكان طول مئزر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أذرع ونصفاً وثمنه إلى الأربعة والخمسة، وكانت أثمان ثيابهم القمص من الخمسة إلى العشرة فيما بينهما من الثمن، ولكن قد جاء في الخبر: لا تقوم الساعة حتى يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وكان ابن عاس رضي الله عنهما يقول: لا يأتي على الناس عام إلا أماتوا فيه سنّة وأحيوا فيه بدعة حتى تموت السنن وتحيا البدع وإنما قيل منكر لأنه لا يعرف، فإذا خفي الحق فلم يعرف وقع عليه اسم منكر، وكذلك قيل معروف لأنه مشهور مألوف، فإذا فشا الباطل وكثر الجهل حتى ألف وعرف وقع عليه اسم المعروف، وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 قيل: يكثر الجور حتى يولد فيه من لا يعرف العدل. وكان الشعبي رحمه الله يقول: يأتي على الناس زمان يصلون فيه على الحجاج وهذا قد أتى منذ زمان لأن الحجاج قد ابتدع أشياء أنكرها الناس عليه في زمانه هي اليوم سنن معروفة وأعمال مستحسنة يترحم الناس ويغبطن من أحدثها ويحسبون أنه مأجور عليها مشكور له سعيه فيها إلا أنهم لا يعرفون أنه أحدثها فهم وإن لم يفوهوا بالصلاة عليه قولاً فإن استعمالهم لما أحدث واستحسانهم لما ابتدع ترحم منهم عليه، والترحم هو الصلاة، وأيضاً فإنه ابتدع أشياء من الخير وداخله في أبواب الآخرة ثم ظهرت ولاة بعده أحدثوا احداثاً من الجور وابتدعوا بدعاً من الفسوق فصارت سنناً بعدهم فوجب بذلك الصلاة على الحجاج إلى جنب ما أظهر بعده فممّا أحدث هذه المحامل والقباب التي خالف بها هدي السلف بالتنعم والرفاهية وإنما كان الناس يخرجون على الرواحل والزوامل فيضحون للشمس وينصبون في سبيل الله تعالى ويشعثون ويغبرون ويقل أكلهم ونومهم وتكثر رفاهة الإبل وتقل المشقة والحمل عليها فيكون ذلك أثوب لهم وأزكى لحجهم وأدنى إلى السلامة لإبلهم، ويوافقون به سنّة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخرجهم من جميع ذلك بما أدخلهم فيه من بدعته فصاروا يخرجون في بيوت ظليلة مع الحمل على الإبل ما لا تطيق فيكون سبب تلفها فيشركونه فيه ويشركهم بسنته. وابتدع أيضاً هذه الأخماس والعواشر ورؤوس الآي وحمر السواد وخضره وصفره فأدخل في المصحف ما ليس فيه من الزخرف وكان السلف يقولون: جرّدوا القرآن كما أنزله الله تعالى ولا تخلطوا به غيره، فأنكر العلماء ذلك عليه حتى قال أبو رزين: يأتي على الناس زمان ينشأ فيه نشء يحسبون أن ما أحدث الحجاج في المصاحف هكذا أنزله الله تعالى يذمه بذلك وحتى نقل الاختلاف وأن بعضهم كان لا يقرأ في مصحف منقوط بحمرة لأن بعضهم كان لا يرى القراءة في مصحف منقوط كما نقل أن بعضهم كان يرى شراء المصحف ويكره بيعه أي: وكذلك إذا لم تنقطه أنت فلا بأس أن تقرأ فيما نقطه غيرك، وقد كانوا يكرهون أخذ الأجر على تنقيط القرآن لأجل أنه مبتدع، وقال أبو بكر الهذلي: سألت الحسن رحمه الله عن تنقيط المصاحف بالأجر قال: وما تنقيطها قلت: يعربون الكلم بالعربية فقال: أما إعراب القرآن فلا بأس به، وقال خالد الحذاء: دخلت على ابن سيرين فرأيته يقرأ في مصحف منقوط وقد كان يكره النقط، وقال فراس بن يحيى: وجدت ورقاً منقوطاً بالنحو في سجن الحجاج فعجبت منه وكان أول نقط رأيته فأتيت به الشعبي فأخبرته فقال لي: اقرأ عليه ولا تنقطه أنت بيدك، ومنها أنه جمع من القراء ثلاثين رجلاً فكانوا يعدون حروف المصحف ويعدون كلمه شهراً، ولو رآهم عمر أو عثمان أو علي يصنعون هذا بالقرآن أي يعدون حروفه وكمله لأوجع رؤوسهم ضرباً وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الذي كرهته الصحابة ووصفوا به قراء آخر الزمان أنهم يحفظون حروفه ويضيعون حدوده وكان الحجاج أقرأ القراء وأحفظهم لحروف القرآن كان يختم القرآن في كل ثلاث وكان أضيع الناس لحدوده، ومنها أنه ابتدع إخراج الحصى والرمل من المساجد وفرشها بالبواري، كما روى أن قتادة سجد فدخلت في عينه قصبة وكان ضريراً فقال لعن الله الحجاج ابتدع هذه البواري يؤذي بها المصلين وقد كانوا يستحبون السجود على الأرض والتراب تواضعاً لله تعالى وتخشعاً وذلاً إلى غير ذلك من بدعه التي لم نقصد تعديدها عليه ولا جمعها فهي اليوم سنن معروفة وشرائع مألوفة مع ما أحدث غيره مما يكثر عدده منكر كله عند من عرف المعرو ف من سيرة المتقدمين وشمائل الصالحين. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: يظهر المنكر والبدع حتى إذا غيّر منها شيء قيل غيّرت السنّة وقال في آخر حديثه: أكيسهم في ذلك الزمان الذي يروغ بدينه روغان الثعالب، وقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه في سنة ثمانين وأيام الحجاج يقول: ما أعرف اليوم شيئاً كان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قد غيّر إلا شهادة أن لا إله إلا الله قيل: فالصلاة يا أبا حمزة قال: أوليس قد أحدثوا في الصلاة ما علمتم يعني تأخيرها والتثويب قبلها وتعين السلام حتى أنهم يضاهون به الإقامة فجعلوه كالسنّة، وكان يقول للقراء إذا دخلو عليه مثل يزيد الرقاشي وزيد النميري وفرقد السنجي: ما أشبهكم بأصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيفرحون فيقول نعم رؤسكم ولحاكم فهذا كما قال المجنون: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائه وعن جماعة من الصحابة: لو نشر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأوكم لما عرفوا شيئاً مما أنتم عليه الآن إلا الصلاة في جماعة، وفي لفظ آخر: إلا أنكم تصلّون جميعاً، وكان الحسن يقول: صحبت طوائف لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، وقال أبو حازم: أدركت القرّاء وهم القرّاء حقاً ولو كان حامل القرآن في مائة رجل لعرف بشدة تواضعه وحسن سمته وخشوعه وقد وقره القرآن في سمته وقد خضعه القرآن وأخشعه، فأما هؤلاء فو الله ما هم بالقرّاء ولكنهم الجراء، وقد قال بعضهم: كنا نشهد الجنازة فلا نعرف صاحب المصيبة ولا ندري من نعزي من شدة حزن القوم قال: وكان أحدهم يبقى بعد شهود الجنازة ثلاثاً لا ينتفع به، وكان الفضيل رحمه الله يحذّر من قرّاء زمانه فقال: إياك وصحبة هؤلاء القرّاء فإنك إن خالفتهم في شيء كفروك، وقال سفيان الثوري رحمه الله ما شيء أحبّ إليّ من صحبة فتى ولا شيء أبغض إليّ من صحبة قارئ، وكان كثيراً يقول: من لم يحسن يتغنّى لم يحسن يتقرّى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وكان بشر بن الحارث يقول: لأن أصحب فتى أحبّ إليّ من أن أصحب قارئاً فإياك وصحبة القرّاء فإنهم يذمّون غير مذموم وإن تركت الصلاة معهم في جماعة تشاهدوا عليك، كل ذلك لأنهم يجاوزون الحد في الشيء ويسرعون الإنكار إلى كل شيء لغلبة الجهل عليهم وقلة مجالستهم للعلماء ومعاناتهم للعلم وإنهم موصوفون بدقائق الرياء والتصنع للعامة فينكرون غير منكر ويتعصبون بالبغضة والهجر في الشيء اليسير الذي قد يغتفر مثله وهم غير موصوفين بمحاسن الأخلاق ولا موسومين بالبشاشة والانطلاق إذ فيهم كزازة وتغليظ على الناس ولزازة وحنق على الأغنياء حتى كأنهم يأكلون أرزاقهم وكأنهم يعملون العبادة لهم وفيهم كثرة مقت لأهل البشر والطلاقة، فلذلك قال بعضهم: الشريف إذا تقرّى تواضع والوضيع إن تقرّى تكبر، وقال آخر السفلة: إذا تقرّى أكثر الأمر بالمعروف واعترض على جيرانه في كل شيء يعني أكثر الأمر بالمعروف ليعرف به، فمن أجل ذلك رفضهم العلماء وذمّهم الحكماء لأن العلم يبسط ويوسع وتكون معه الأخلاق الحسنة والآداب والمروءات الواسعة والعالم يضع الأشياء في مواضعها من الناس ولا يجاوز بها ولا بهم المقادير ويستخرج لهم المعاذير، ومن صفة العلماء الانقباض في بسط خلق، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله الانقباض على الناس مكسبة لعداوتهم فكن بين المنقبض والمنبسط. وفي الخبر: إنكم لا تسعون الناس بأموالكم فليسعهم منكم وجه طلق وخلق حسن، وفي لفظ آخر: وبشر وبشاشة وهذا كله معدوم من القرّاء ولا يعرفونه، وقد جعل الله تعالى لكل شيء قدراً فمن تعدّى حدّ الشيء فقد أفسده، وقال بعض السلف: قليل التواضع يكفي من كثير العمل وقليل الورع يكفي من كثير العلم، ومن أخلاق السلف مما تهاون به الخلف أنهم كانوا يعدّون من النفاق أن يتكلم الرجل فيمن يكلمه أو يكلم من تكلم فيه لأنهم كانوا إذا كلموا أحداً أو سلّموا عليه سلمت له قلوبهم ولم يتكلّموا فيه وإذا تكلّموا في أحد لبدعته أو ظهور فسقه لم يكلموه وكانوا إذا مدحوا أحداً بقول لم يذمّوه بفعل وإذا ذمّوا واحداً يفعل يمدحوه بقول لأن في ذلك لسانين واختلاف وجهين واختلاف سرّ وعلانيّة وكانوا يقولون معنى سلام عليك إذا لقيته أي سلمت مني أن أغتابك وأذمك فكان اختلاف هذا عندهم من أبواب النفاق. وروينا عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه وفي حديث آخر: من كان ذا لسانين في الدنيا جعل اللّّه له يوم القيامة لسانين من نار، وكان بعضهم يقول: ما ذكر عندي إنسان قط إلا مثلته جالساً فقلت في غيبته بما يجب أن يسمع، وقال آخر: ما ذكر عندي رجل إلا تصوّرت في نفسي مثاله فكل ما أحب أن يقال لي قلته له، وقال بعض السلف: قليل التواضع يكفي عن كثير العمل وقليل الورع يكفي عن كثير العلم، فهذه كانت صفات المسلمين الذي يسلم الناس على أيديهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وقلوبهم، كان أحدهم إذا ذكر عنده غيره بسوء وقف وتفكّر في شأن نفسه فإن كان فيه مثل ذلك السوء قطعه الحياء عن الكلام في أخيه فسكت وإن لم يكن ذلك فيه حمد الله عزّ وجلّ ورحم أخاه فشغله الشكر لمولاه إذ عافاه، فهذه كانت سيرة السلف، ويقال في بعض كتب الله تعالى: عجباً لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح ولمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف يغضب، وأعجب من ذلك من أحبّ نفسه على اليقين وأبغض الناس على الشك، ومن طريقة السلف مما كانوا يشدّدون فيه حب المدح وطلب الحمد حتى قال بعضهم: من أحب المدح وكره الذم فهو منافق، وقال عمر رضي الله عنه لرجل: من سيّد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تقل، وكتب محمد بن كعب فانتسب فقال القرظي قيل له: قل الأنصاري قال أكره أن أمنّ على الله عزّ وجلّ بما لم أفعل، وقال الثوري رضي اللّّه عنه: إذا قيل لك بئس الرجل أنت تغضب فأنت بئس الرجل، وقال آخر: لا يزال فيك خير ما لم ترَ أن فيك خيراً، وسئل بعض العلماء: ما علامة النفاق؟ قال: الذي إذا مدح بما ليس فيه ارتاح لذلك قلبه، وكان سفيان رضي اللّّه عنه يقول: إذا رأيت الرجل يحب أن يحبه الناس كلهم ويكره أن يذكره أحد بسوء فاعلم أنه منافق فهذا داخل في وصف الله تعالى المنافقين بقوله تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُم) النساء: 91، فينبغي لمن أمن في أهل السنة أن يخاف في أهل البدع وهذا مما دخل على القرّاء الذي ذمّهم العلماء مداخل الليل في النهار ولعل مغروراً جاهلاً يتأوّل الحديث الذي جاء إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه على غير تأويله ويحمله على غير محمله فإنما قال ربا الإيمان ولم يقل ربا المؤمن فربّو الإيمان زيادته وزيادته بالخوف والإشفاق من المكر به والاستدراج وفيه طريق للعارفين بأن يعلو الإيمان العلي إلى المومن الأعلى فيفرح بذلك لمولاه ويضيفه إلى سيده الذي به تولاّه فيردّ الصنعة إلى صانعها ويشهد في الفطرة فاطرها فيكون ذلك مدحاً للصانع ووصفاً للفاطر لا ينظر إلى نفسه لا يعجب بوصفه وهذه طرقات قد درست وانقطع سلاكها إلا من رحم ربك. باب تفضيل علم الإيمان واليقين على سائر العلوم والتحذير من الزلل فيه ووبيان ما ذكرناه: اعلم أن كلّ علم من العلوم قد يتأتى حفظه ونشره لمنافق أو مبتدع أو مشرك إذا رغب فيه وحرص عليه لأنه نتيجة الذهن وثمرة العقل إلا علم الإيمان واليقين فإنه لا يتأتى ظهور مشاهدته والكلام في حقائقه إلا لمؤمن موقن من قبل أن ذلك تقرير مزيد الإيمان وحقيقة العلم والإيمان، فهو آيات الله تعالى وعهده عن مكاشفة قدرته وعظمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وآيات الله تعالى لا تكون للفاسقين وعهده لا ينال الظالمين وعظمته وقدرته لا تكون شهادة للزائغين ولا وجد للمبطلين إذ في ذلك توهين لآيات اللّّه وحججه وانتقاص لبراهينه وقدرته ودخول الشك في اليقين الذي هو محجة المخلصين والذين هم بقية الله من عباده واشتباه الباطل بالحق الذي هو وصف أهل الصدق الذين هم أدلته عليه من أهل وداده وهذا من أدل دليل على فضل علم المعرفة على غيره قال اللّّه عزّ وجلّ: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَني إسْرَائيلَ) الشعراء: 197، وقال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ في صُدُورِ الَّذين أُوتُوا الْعلِْمَ) العنكبوت: 49، وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ في ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمينَ) الحجر: 75، وقال: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُون) ، البقرة: 118وقال عزّ وجل: (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، الأنعام: 105 فهؤلاء العلماء بالله تعالى الناطقون عن اللّّه عزّ وجلّ جعل لهم أنصبة منه ومكاناً عنده، ولا يكون ذلك لمن ليس أهلاً له ولا حقيقاً به لأنهم آيات الله تعالى وبيناته وشهوده وبصائره كاشفو طريقه ومظهرو بيانه إذ يقول تعالى: (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) القيامة: 19، ثم قال تعالى: (خلَقَ الإنسانَ) (عَلَّمَهُ الْبيانَ) الرحمن: 3 - 4 بعد قوله: (وكانَ حقَّاً عَلَيْنا نصْرُ الْمُؤْمنين) الروم: 47، مع قوله تعالى: (وكانُوا أحَقَّ بها وأَهْلها) الفتح: 26 فنصروه بما نصرهم به وتحققوا بما حققهم منه وشهدوا له ما شهد لهم عنه فكانوا للمتقين إماماً وإلى الهداية أعلاماً. وقال بعض أهل المعرفة: من لم تكن له مشاهدة من هذا العلم لم يعر من شرك أو نفاق لأنه عار من علم اليقين ومن عري من اليقين وجد فيه دقائق الشك، وقال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى النصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله وقال آخر من كان فيه خصلتان لم يفتح له من هذا العلم شيء بدعة أو كبر، وقال طائفة من أهله: من كان محباً للدنيا أو مصراً على هوى لم يتحقق به، وقال أبو محمد سهل: أقل عقوبة من أنكر هذا العلم أن لا يرزق منه شيء أبداً، واتفقوا على أنه علم الصديقين وأن من كان له منه نصيب فهو من المقربين وينال درجة أصحاب اليمين، وأعلم أن علم التوحيد ومعرفة الصفات مباين لسائر العلوم، فالاختلاف في سائر العلوم الظاهرة رحمة والاختلاف في علم التوحيد ضلال وبدعة والخطأ في علم الظاهر مغفور وربما كانت حسنة إذا اجتهد والخطأ في علم التوحيد وشهادة اليقين كفر من قبل أن العباد لم يكلفوا حقيقة العلم عند الله تعالى في طلب العلم الظاهر وعليهم واجب طلب موافقة الحقيقة عند الله في التوحيد ومن ابتدع شيئاً ردت عليه بدعته وكان مسؤولاً عنه ولم يكن حجة لله تعالى على عباده ولا غيثاً نافعاً في بلاده بل كان موصوفاً بالدنيا وفيها من الراغبين ولم يكن دليلاً على الله عزّ وجلّ ولا من دعاة الدين ولا إماماً للمتقين، وقد جاء في الخبر: العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم، والخبر المشهور: من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو ردّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقد روينا عن عيسى عليه السلام وقيل له: من أشد الناس فتنة فقال: زلة عالم إذا زلّ بزلته عالم، وقد روينا معناه عن نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق في القرآن، وكان بعض السلف يقول: مثل العالم إذا زل مثل سفينة إذا غرقت غرق معها خلق كثير ومثل كسوف الشمس يصيح الناس يا غافلون الصلاة وإنها عند العامة آية يفزع منها. ويروى في خبر غريب: من غشّ أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين قيل: يا رسول وما غشّ أمتك؟ قال: أن يبتدع بدعة في الإسلام يحمل الناس عليها، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول ويل للعالم من الأتباع وويل للأتباع من العالم يزل العالم بزلة فيتبعه عليها فئام من الناس وتبلغ الآفاق وما أعلم أحداً أعظم جرماً ممن ابتدع في دين الله عزّ وجلّ فنطق في كتاب الله تعالى وفي علم المعرفة بما لم يأذن به الله ثم لم يعبأ بسنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو حجة الله تعالى على جميع خلقه وطريق مقربيه من عباده فأضل بذلك عباد الله عزّ وجلّ فإن مثل من ابتدع في الدين واتخذ وليجة دون الكتاب والسنّة وبين طريق المؤمنين إلى جنب من يكاثر في أمور الدنيا وارتكب فيها شهوات الأهواء كمثل من اجترح المظالم بين الناس في الأموال والدماء إلى جنب من ظلم نفسه بكسب الذنوب بينه وبين ربه، إن مظالم العباد أعظم وهو الديوان الذي لا يترك، كذلك التمويه في الدين أعظم لأنه مظالم الآخرة وقطع طرقات المؤمنين ومحو شريعة المرسلين، ومثله أيضاً مثل من أذنب وجحد ذنبه واحتج لنفسه إلى من أذنب واعترف بذنبه واعتذر من نفسه فهو أقرب للعفو وأرجى للرحمة من الآخر، كذلك من اعتلّ بالتقصير والتفريط في العمل ولم ينصح لنفسه إلا أنه أظهر حقيقة العلم ونصح لله تعالى ولرسوله ببيان كتابه وذكر سنته أقرب إلى حسن الإخلاص وأولى بالتدارك في العافية ممن شرع في دين الله تعالى وابتدع في الأمة ما يخالف به الكتاب والسنّة، هكذا كأنه قد قلب ملة وبدل شريعة، فهذا يولد النفاق في قلبه حتى يختم له به ومثل من ابتدع في الملة مخالفاً للسّنة إلى من أساء إلى نفسه بالذنوب مثل من عصى الملك في قلب دولته وتظاهر عليه في ملكه بالإزالة إلى جنب من عصى أمره وقصر في حقه من الرعية، وقد قال بعض الحكماء: ثلاث لا يحسن من الملك أن يغفرها، من قلب دولة من رعيته، أو عمل فيما يوهن الملك، أو أفسد حرمة من حرمه. وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لله تعالى ملكاً ينادي كل يوم من خالف سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تنله شفاعته، وقال علي كرّم الله وجهه: الهوى شريك العمى، وقال الله تعالى: (وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ الله) النساء: 87 قيلاً ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضلّ الناس بغير علم، ثم قال تعالى: (أوْ قَالَ أُوحِيَ إليَّ وَلمْ يُوحَ إليْهِ شَيْءٌ ومنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزلَ الله) الأنعام: 93 فسوّى بين الكذاب في العزية على الله تعالى وبين المتشبه المضاهي للربوبية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وكذلك من أعظم المنكر بعد هذا إنكار الحق من أهله وردّه عليهم بالتكذيب، وقد سوّى تعالى أيضاً بين التكذيب بالحق وبين ابتداء الكذب على الخالق في قوله عزّ وجلّ: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى على الله كَذِباً أوْ كَذَّبَ بِالْحقِّ لَمَّا جَاءَهُ) العنكبوت: 68، وقال تعالى في مثله: (فَمَنْ أظْلمُ مِمَّنْ كذبَ على الله وكذَّبَ بِالصدْقِ إذْ جاءَهُ) الزمر: 32 كذلك أيضاً في ضده سوّى كما سوّى عزّ وجل بين الصادق بالصدق والمصدق به فقال تعالى: (والَّذي جاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بهِ أُولئكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الزمر: 33 قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العالم والمتعلم شريكان في العلم، وقال عيسى عليه السلام بمعناه: المستمع شريك القائل ولكن الله تعالى قد جعل هذه الطائفة من أهل العلم بالله تعالى ترد على جميع الطوائف من الشاطحين والمبتدعين أهل الجهالة بالدين والحيدة عن سبيل المؤمنين بما أراهم الله تعالى من علم اليقين وبما شهد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعلم والتعديل في قوله: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فالغالون هم الشاطحون لأنهم قد جاوزوا العلم ومحوا الرسم فأسقطوا الحكم، والمبطلون هم المدّعون المبتدعون لأنهم جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق وافتروا بالدعوى وابتدعوا بالرأي والهوى، والجاهلون هم المنكرون لغرائب العلم المفترون لما عرفوا من ظاهر العقل، كما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله عزّ وجلّ، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الإغترار بالله تعالى: ولا تحقروا عالماً آتاه الله تعالى علماً فإن الله عزّ وجلّ لم يحقره إذ أتاه وكل من تأول السنن بالرأي أو المعقول أو نطق بما لم يسبق إليه السلف من القول أو بمعناه فهو متكلف مبطل، فأهل العلم بالله تعالى يردّون علوم المعقول بعلم اليقين وعلم الرأي بعلم السنة يثبتون أهل الآثار ويؤيدون نقلة الأخبار بما يفصلون من أخبارهم ويفسرون من حديثهم مما لم يجعل للنقلة طريق إليه ولم يهتد الرواة إلى كشف منه بما أشهدهم الله عزّ وجلّ واستودعهم ونوّر به قلوبهم ونطقهم فهم ينطقون عن الله سبحانه وتعالى فيما يخبرون عنه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون. وقد قال بعض العلماء: ما تكلّم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف وقال آخر: الحق ثقيل من جاوزه ظلم ومن قصر عنه عجز ومن وقف معه اكتفى وقال علي رضي الله عنه عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه العالي ويرتفع عنه القالي وهكذا سيرة السلف إنه لا يستمع إلى مبتدع لأنه منكر ولا يرد عليه بالجدال والنظر لأنه بدعة، ولكن يخبر بالسنن ويحتج بالأثر فإن قيل فهو أخوك في الله عزّ وجلّ ووجبت عليك موالاته وإن لم يرجع وأنكر نقض بإنكاره وعرف ببدعته وحقّت عداوته وهجر في الله تعالى، وهذا طريق لا يسلكه في وقتنا هذا إلا من عرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فضله وطريقه السلف فيه. وحدثت عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة فرجعوا إليه محسورين فقال: ما شأنكم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء القوم ما نصيب منهم شيئاً قد أتعبونا فيقول: إنك لا تقدرون عليهم قد صحبوا نبيهم وشهدوا تنزيل ربهم ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم، فلما جاء التابعون بث جنوده فيهم فرجعوا إليه منكسرين منكوسين، فقال: ما شأنكم، قالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء القوم نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الخطايا فإذا كان من آخر النهار أخذوا في الاستغفار فتبدل سيئاتهم حسنات فقال: إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئاً لصحة توحيدهم واتباعهم سنّة نبيهم ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقرّ أعينكم بهم تلعبون بهم لعباً وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم إن استغفروا لم يغفر لهم ولا يتوبون فتبدل حسناتهم سيئات قال: فجاء قوم بعد القرن الأول فبعث فيهم الأهواء وزين لهم البدع فاستحلّوها واتخذوها ديناً لا يستغفرون منها ولا يتوبون إلى الله قال فتسلطت عليهم الأعداء وقادتهم أين شاؤوا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: إن للضلالة حلاوة في قلوب أهلها. وقد قال الله تعالى: (اتَّخذُوا ديَنَهُمْ لَعِباً وَلهْواً) الأنعام: 70، وقال تعالى: (أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلهِ فَرَآهُ حَسَناً) فاطر: 8 كما قال تعالى: (أفمنْ كانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) هود: 17 فالعلم رحمك الله هو الذي كان عليه السلف الصالح المقتفي آثارهم والخلف التابع المقتدي بهديهم وهم الصحابة أهل السكينة والرضا ثم التابعون لهم بإحسان من أهل الزهد والنهي والعالم هو الذي يدعو الناس إلى مثل حاله حتى يكونوا مثله فإذا نظروا إليه زهدوا في الدنيا لزهده فيها كما كان ذو النون رحمه الله يقول: جالس من يكلمك علمه لا من يكلمك لسانه، وقد قال الحسن رضي الله عنه قبله: عظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك، وقال سهل رحمه الله: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، وقد روينا معنى ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قيل له: أي جلسائنا خير فقال: من ذكركم بالله تعالى رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله، فأمّا الذي يطلب دنياهم حتى يكون مثلهم فإذا رأوه اعتبطوا بحالهم فهذا شر منهم لأنه يدعو إلى نفسه لا إلى مولاه ولأنه طامع فيهم وهم زاهدون فيه، فالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء هم الورعون في دين الله عزّ وجلّ، الزاهدون في فضول الدنيا الناطقون بعلم اليقين والقدرة لا علم الرأي والهوى، والصامتون عن الشبهات والآراء لا يختلف هذا إلى يوم القيامة عند العلماء الشهداء على الله تعالى برأي قائل ولا بقول مبطل جاهل. كما روي عن عبد الله بن عمر وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل، وقال يوسف بن أسباط: كتب إلى حذيفة المرعشي ما ظنك بمن قد بقي لا يجد أحداً يذكر الله تعالى معه إلا كان آثماً وكانت مذاكرته معصية وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أنه لا يجد أهله قلت ليوسف: يا أبا محمد وتعرفهم قال: لا يخفون علينا ويقال: إن الأبدال إنما انقطعوا في أطراف الأرض واستتروا عن أعين الجمهور لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء هذا الوقت ولا يصبرون على الاستماع لكلامهم لأنهم عندهم جهّال بالله تعالى وهم عند أنفسهم وعند الجاهلين علماء، فقد صاروا من أهل الجهل وأهل الجهل بالجهل على الوصف الذي قال سهل رحمه الله: إن من أعظم المعاصي الجهل بالجهل والنظر إلى العامة واستماع كلام أهل الغفلة أيسر عندهم لأنهم لا يعدمون ذلك حيث كانوا من أطراف الأمصار لأن العامة لا يموّهون في الدين ولا يغرون المؤمنين ولا يدّعون أنهم علماء لأنهم يتعلمون وبالجهل معترفون، فهم إلى الرحمة أقرب ومن المقت أبعد. وكان أبو محمد أيضاً يقول: قسوة القلب بالجهل بالعلم أشد من القسوة بالمعاصي لأن الجاهل بالعلم تارك ومدّع والعاصي بالفعل مقرّ بالعلم، ويقول أيضاً: لأن العلم دواء به تصلح الأدواء فهو يزيل فساد الأعمال بالتدراك، والجهل داء يفسد الأعمال بعد صلاحها فهو يزيل الحسنات فيجعلها سيئات، فكم بين ما يصلح الفاسد وبين ما يفسد الصالحات، وقد قال الله تعالى: (إنَّ الله لا يُصْلِحُ عَملَ الْمُفْسِدينَ) يونس: 81، وقال تعالى: (إنَّا لا نُضيعُ أجْرَ الْمُصْلِحينَ) الأعراف: 170 فهذا من أدل دليل على فضل العالم المقصر على العابد المجتهد، وأعلم أن العبد إذا باين الناس في كل شيء من أحوالهم انفرد عن جمعهم ولم يألف أحداً منهم وإن باينهم في أكثر أحوالهم اعتزل عن الأكثر منهم فإن فارقهم في بعض الأحوال ووافقهم في بعض حاله خالط أهل الخير وفارق أهل الشر. باب تفضيل الأخبار وبيان طريق الأرشاد وذكر الرخصة والسعة في النقل والرواية جميع ما ذكرناه في هذا الكتاب من الأخبار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عن الصحابة وعن التابعين وتابعيهم رسمناه حفظاً وسقناه على المعنى إلا يسيراً اتفق وجوده في أيدينا وقرب تناوله منا من أخبار فيها طول فإنا نقلناها من مواضعها وما بعد علينا فلم نفقه ولم نشغل همتنا به فما كان فيه من صواب وبيان وتثبت فمن الله تعالى بحسن توفيقه وقوّة تأييده، وما كان فيه من خطأ وعجلة وهوى فمنا بالسهو والغفلة ومن عمل الشيطان بالعجلة والنسيان، كذلك رويناعن ابن مسعود رضي الله عنه في قضيته التي قضاها برأيه وقولنا لرأيه تبع. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: البيان والتثبت من الله عزّ وجلّ والعجلة والنسيان من الشيطان يعني بواسطته وبقلة التوفيق، ولم أعتبر ألفاظ الأخبار في أكثره ولم آل عن سياق المعنى في كله إذ ليس تحرير الألفاظ عندي واجباً إذا أتيت بالمعنى بعد أن تكون عالماً بتصريف الكلام وبتفاوت وجوه المعاني مجتنباً لما يكون به تحريف أو إحالة بين اللفظين وقد رخص في سوق الحديث على المعنى دون سياقه على اللفظ جماعة من الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 منهم: علي وابن عباس وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وأبو هريرة ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم منهم: إمام الأئمة الحسن البصري ثم الشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة رضي الله عنهم نقلنا ذلك عنهم في كتب سيرهم بأخبار مختلفة الألفاظ، وقال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة المعنى واحد والألفاظ مختلفة، ولذلك اختلف الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنهم من يرويه تاماً ومنهم من يجيء به مختصراً ومنهم من يرويه على المعنى وبعضهم يغاير بين اللفظتين ويراه واسعاً إذا لم يخالف المعنى ولم يحل البغية وكلهم لا يتعمد الكذب وجميعهم يقصد الصدق ومعنى ما سمع ولا يحيل البغية فلذلك وسعهم وكانوا يقولون: إنما الكذب على من تعمّده. وقد روينا عن عمران بن مسلم قال: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد إنك تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقاً وأجود تحبيراً وأفصح به لساناً منا إذا حدثتنا به، فقال: إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك، وقد قال النضر بن شميل: كان هشام لحاناً فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة يعني بالإعراب وكان النضر نحوياً ونحن قائلون في جميع ما رويناه أو كما قيل ونحوه وشبهه، وبمعناه كذلك قال ابن مسعود في حديثه: وكان سليمان التميمي يقوله في كل ما يحدث به وقد كان سفيان رحمه الله يقول: إذا رأيت الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فاعلم أنه يقول: اعرفوني قال: وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه فقال له يحيى: يا هذا ليس في أيدينا أجلّ من كتاب الله تعالى، وقد رخص بالقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد، وفي بعض ما رويناه مراسيل ومقاطع ومنها ما في سنده مقال وربما كان المقطوع والمرسل أصحّ من بعض المسند إذ رواه الأئمة وجار لنا رسم ذلك لمعان أحدها أنا لسنا على يقين من باطلها والثاني أن معنا حجة بذلك وهو روايتنا له وأنا قد سمعنا فإن أخطأنا الحقيقة عند الله تعالى فذلك ساقط عنا، كما قال الأسباط: وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين في قولهم: إن ابنك سرق فأخطؤوا الحقيقة عند الله تعالى إلا أنهم كانوا معذورين لوجود الدليل وهو شهادتهم للصاع مستخرج من رحل أخيهم والثالث أن الأخبار الضعاف غير مخالفة الكتاب والسنّة لا يلزمنا ردّها بل فيهما ما يدل عليها والرابع أنّا متعبدون بحسن الظن منهيون عن كثير من الظن مذمومون بظن السوء والخامس أنه لا يتوصل إلى حقيقة ذلك إلا من طريق المعاينة ولا سبيل إليها فاضطررنا إلى التقليد والتصديق بحسن الظن بالنقلة مع ما تسكن إليه قلوبنا وتلين له أبشارنا ونرى أنه حق كما جاء في الخبر وأيضاً فإنه ينبغي أن نعتقد في سلفنا المؤمنين أنهم خير منا ثم نحن لا نكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا على التابعين فكيف نظن بهم أن يكذبوا وهم فوقنا على أنه قد جاءت أحاديثاً ضعاف بأسانيد صحاح فكذلك يصلح أن نورد أحاديث صحاحاً بسند ضعيف لاحتمال أن يكون قد روي من وجه صحيح إذ لم نحطّ بجملة العلم أو لأن بعض من يضعفه أهل الحديث يقوّيه بعضهم وبعض من يجرحه ويذمه أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 يعدّ له ويمدحه آخر فصار مختلفاً فيه فلم يرد حديثه بقول واحد دون من فوقه أو مثله أو لأن بعض ما يضعف به رواة الحديث وتعلل به أحاديثهم لا يكون تعليلاً ولا جرحاً عند الفقهاء ولا عند العلماء بالله تعالى مثل أن يكون الراوي مجهولاً لإيثاره الخمول، وقد ندب إليه أو لقلة الأتباع له إذ لم يقم لهم الأثرة عنه أو ينفرد بلفظ أو حديث حفظه أو خصّ به دون غيره من الثقات أو يكون غير سائق للحديث على لفظة أو لا يكون معتنياً بحفظ ودرسه وقد يتكلم بعض الحفاظ بالإقدام والجراءة فيجاوز الحدّ في الجرح ويتعدّى في اللفظ ويكون المتكلم فيه أفضل منه، وعند العلماء بالله تعالى: أعلى درجة فيعود الجرح على الجارح أو يكون رأى عليه لباساً أو سمع منه كلاماً يجرحه عند الفقهاء علّله به بعض القرّاء من الرواة وأن بعض من يضعفه أصحاب الحديث هو من علماء الآخرة ومن أهل المعرفة بالله تعالى وله في الرواية والحديث مذاهب غير طريقة بعض أصحاب الحديث فيعمل في روايته بمذهبه فلا يكون أصحاب الحديث حجة عليه إلا كان هو حجة عليهم إذ ليس هو عند أصحابه من العلماء دون أصحاب الحديث ممن ضعفه إذ رأى غير رأي مذهبه. وقال بعض العلماء: الحديث وإن كان شهادة فقد وسع فيه بحسن الظن كما جوّز فيه قبول شهادة واحد أي للضرورة كشهادة القابلة ونحوها، وروينا معناه عن الإمام أحمد بن حبنل رضي لله عنه: والحديث إذا لم ينافه كتاب أو سنّة وإن لم يشهدا له إن لم يخرج تأويله عن إجماع الأمة فإنه يوجب القبول والعمل بقولّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف وقد قيل: والحديث الضعيف عندي آثر من الرأي والقياس وهذا مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والحديث إذا تداوله عصران أو رواه القرون الثلاثة أو دار في العصر الواحد فلم ينكره علماؤه وكان مشهوراً لا ينكره الطبقة من المسلمين احتمل ووقع به حجة وإن كان في سنده قول إلا ما خالف الكتاب والسنن الصحيحة أو إجماع الأمة أو ظهر كذب ناقليه بشهادة الصادقين من الأئمة، وقال وكيع بن الجراح: ما ينبغي لأحد أن يقول هذا الحديث باطل لأن الحديث أكثر من ذلك، وقال أبو داود: قال أبو زرعة الرازي: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عشرين ألف عين تطرف، كل واحد قد روى عنه ولو حديثاً ولو كلمة أو رواية فحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من أن يحصى وذكر رجل عند الزهري حديثاً فقال: ما سمعنا بهذا فقال: أكل حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعت؟ قال: لا، قال: فثلثاه؟ قال: لا، قال: فنصفه فسكت وقال: عدَّ هذا من النصف الذي لم تسمعه، وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: كان يزيد بن هارون يكتب عن الرجل وهو يعلم أنه ضعيف وكان له ذكاء وعلم بالحديث وقال إسحاق بن راهويه: قيل للإمام أحمد بن حنبل: هذه الفوائد التي فيها المناكير ترى أن نكتب الجيد منها، فقال: المنكر أبداً منكر قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يحتاج إليه في وقت كأنه لم يرَ بالكتابة عنهم بأساً. وقال أبو بكر المروزي عنه: إن الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه ومما يدلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 على مذهبه في التوسعة أنه أخرج حديثه كله في المسند المأثور عنه الذي رويناه عن أشياخنا عن ابنه عبد الله عنه ولم يعتبر الصحيح منه وفيه أحاديث كثيرة يعلم الثقات أنها ضعيفة وهو أعلم بضعفها منهم ثم أدخلها في مسنده لأنه أراد تخريج المسند ولم يقصد تصحيح السند فاستجاز رواياتها كما سمعها وقد كان قطع أن يحدث الناس في سنة ثمان وعشرين وتوفي في سنة إحدى وأربعين فلم يسمع أحد منه في هذه المدة إلا ابنه عبد الله وابن منيع جزءاً واحداً بشفاعة جده أحمد بن منيع، وحدثونا عنه أعني الإمام أحمد قال: كان عبد الرحمن ينكر الحديث ثم يخرج إلينا بعد وقت فيقول: هو صحيح قد وجدته، قال: وأما وكيع فلم ينكر ولكن يقول إذا سئل عنه لا أحفظه، وحدثونا عن ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي قال: كان خالي قد خط على أحاديث ثم صحح عليها بعد ذلك وقرأتها عليه فقلت: قد كنت خططت عليها قال: نعم، ثم تفكرت فإذا إني إن ضعفتها أسقطت عدالة ناقليها فإن جاءتني بين يدي الله تعالى وقال: لم أسقطت عدالتي رأيتني سمعت كلامي لم يكن لي حجة، هذا كان مذهب الورعين من السلف، وقد كان بعضهم يقول: كنا نترك مجالسة شعبة لأنه كان يدخلنا في الغيبة وإنما كان كلامه في التضعيف وقال بعضهم في تضعيف الرواة: إن خلصت نيتك يعني أن أردت الله عزّ وجلّ والدين بذلك لم يكن لك ولا عليك فهذه الفصول الذي ذكرناها هي أصول في معرفة الحديث وهو علم لأهله وطريق هم سالكوه ثم حدثت قوم لم يكن لهم علم يختصون به ولا حال من علم يوصفون به ولا شغل من عبادة تقطعهم فجعلوا لنفوسهم علماً تشاغلوا به وشغلوا من استمع إليهم فصنفوا كتباً وأخذوا يتكلمون في نقلة الأخبار بالتعليل وتتبع العثار فطرقوا لأهل البدع إلى ردّ السنن وإيثار الرأي والمعقول عليها لما يرون من طعنهم فيها واغتبطوا بالقياس والنظر لما وجدوا من زهدهم في السنة والخبر سيما في زمانك هذا والأحاديث في الترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا والترهيب لوعد الله تعالى وفي فضائل الأعمال وتفضيل الأصحاب متقبلة محتملة على كل حال مقاطيعها ومراسيلها لا تعارض ولا ترد، وكذلك في أهوال القيامة ووصف زلازلها وعظائمها لا تنكر بعقل بل تتقبل بالتصديق والتسليم كذلك كان السلف يفعلون لأن العلم قد دلّ على ذلك والأصول قد وردت به، وقد روينا من بلغه عن الله فضيلة أو عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل به أعطاه الله ثواب ذلك وإن لم يكن ما قيل والخبر الآخر من روى عني حقاً فأنا أقوله وإن لم أكن قلته ومن روى باطلاً فإني لا أقول بالباطل، وفي كل ما رسمنا من هذا الكتاب نقول: الله أعلم وأحكم وعلمه المقدم وعنده حقائق العلوم وإليه ترجع الأمور وما شاء كان والله المستعان ولا حول ولا قوّة إلا بالله، وهذا آخر كتاب العلم وتفصيل العلوم ووصف طريق السلف ونشر ما أحدث بعدهم الخلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الفصل الثاني والثلاثون شرح مقامات اليقين وأحوال الموقنين أصول مقامات اليقين التي ترد إليها فروع أحوال المتقين تسعة، أوّلها التوبة، والصبر، والشكر، والرجاء، والخوف، والزهد، والتوكل، والرضا، والمحبة وهذه محبة الخصوص وهي محبة المحبوب. ذكر فروض التوبة وشرح فضائلها ووصف التوابين قال الله تعالى في البيان الأوّل من خطاب العموم: (وَتُوبُوا إلى الله جميعاً أيُّها الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور: 31 معناه: ارجعوا إليه من هوى نفوسكم ومن وقوفكم مع شهواتكم عسى أن تظفروا ببغيتكم في المعاد وكي تبقوا بقاء الله عزّ وجلّ في نعيم لا زوال له ولا نفاد ولكي تفوزوا وتسعدوا بدخول الجنة وتنجوا من النار فهذا هو الفلاح، وقال في البيان الثاني من مخاطبته الخصوص: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةَ نَصُوحاً عسى ربُّكُمْ أنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تجري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ) التحريم: 8، فنصوحاً من النصح جاء على وزن فعول للمبالغة في النصح، وقد قرئت نصوحاً بضم النون فتكون حينئذ مصدر نصحت له نصحاً ونصوحاً فمعناه خالصة لله تعالى وقيل اشتقاقه من النصاح وهو الخيط أي مجردة لا تتعلق بشيء ولا يتعلق بها شيء وهو الاستقامة على الطاعة من غير روغان إلى معصية كما تروغ الثعالب وأن لا يحدث نفسه بعود إلى ذنب متى قدر عليه وأن يترك الذنب لأجل الله تعالى خالصاً لوجهه كما ارتكبه لأجل هواه مجمعاً عليه بقلبه وشهوته، فمتى أتى الله عزّ وجلّ بقلب سليم من الهوى وعلم خالص مستقيم على السنّة فقد ختم له بحسن الخاتمة، فحينئذ أدركته الحسنى السابقة وهذا هو التوبة النصوح وهذا العبد هو التوّاب المتطهّر الحبيب وهذا إخبار عمّن سبقت له من الله الحسنى ومن تداركه نعمة من ربه رحمه بها من تلوث السوأى وهو وصف لمن قصده بخطابه إذ يقول في كتابه: ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 إنَّ الله يُحِبُّ الْتَّوَّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتطَهِّرينَ) البقرة: 222، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وسئل الحسن عن التوبة النصوح: فقال هي ندم بالقلب واستغفار باللسان وترك بالجوارح وإضمار أن لا يعود إليه. وقال أبو محمد سهل رحمه الله ليس من الأشياء أوجب على هذا الخلق من التوبة ولا عقوبة أشد عليهم من فقد علم التوبة وقد جهل الناس علم التوبة وقال: من يقول إن التوبة ليست بفرض فهو كاف، ومن رضي بقوله فهو كافر وقال: التائب الذي يتوب من غفلته في الطاعات في كل طرفة ونفس، وقد جعل عليّ كرم الله وجهه ترك التوبة مقاماً في العمى وقرنه باتباع الظن ونسيان الذكر فقال في الحديث الطويل: ومن عمي نسي الذكر واتبع الظن وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة ففرض التوبة الذي لا بد للتائب منه ولا يكون محقاً صادقاً إلا به الإقرار بالذنب والاعتراف بالظلم ومقت النفس على الهوى وحلّ الإصرار الذي كان عقده على أعمال السيئات وإطابة الغذاء بغية ما يقدر عليه لأن الطعمة أساس الصالحين ثم الندم على ما فات من الجنايات. وحقيقة الندم إن كان حقاً إذ لكل حق حقيقة أن لا يعاود إلى مثل ما وقع الندم عليه ثم اعتقاد الاستقامة على الأمر ومجانبة النهي وحقيقة الاستقامة أن لا يقابل ما استقبل من عمره بمثل ما وقع الاعوجاج به وأن يتبع سبيل من أناب إلى الله وأن لا يصحب جاهلاً فيرديه ثم الاشتغال بإصلاح ما أفسد في أيام بطالته ليكون من المصلحين الذين تابوا وأصلحوا ما أفسدوا فإن الله عزّ وجلّ لا يصلح عمل المفسدين كما لا يضيّع أجر المحسنين ثم الاستبدال بالصالحات من السيئات والصالحات من الحسنات ليكون ممن تبدل سيئاته حسنات لتحققه بالتوبة وحسن الإنابة لأن التبديل يكون في الدنيا يبدّل بالأعمال السوأى أعمالاً حسنى بدليل قوله تعالى: (إنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد: 11 فإذا غيّر ما بهم من سيّءٍ حسناً بدّل سيئاتهم حسنات ثم الندم ودوام الحزن وحقيقة الندم والحزن على الفوت أن لا يفرط ولا يني في وقت دركه ولا يرجع ولا ينثني في حيز استبداله فيفوت نفسه وقتاً ثانياً إذ كان يعمل في درك ما فات ولا يفوت ما أدرك في حال تيقظه فتكون يقظته شبيهاً بما مضى من غفلته إذ كان في درك ما فات شبيهاً بما مضى من غفلته إذ لا يدرك الفوت بالفوت ولا ينال النعيم بالنعيم ليكون كما وصف الله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا علماً صالحاً وآخر سيئاً) قيل: الاعتراف والندم، وقال أبو سليمان الداراني: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على فوت ما مضى منه في غير الطاعة لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات فكيف بمن يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله. وقال سهل بن عبد الله: التائب لا يقله شيء يكون قلبه متعلقاً بالعرش حتى يفارق النفس ولا عيش له إلا الضرورة للقوام ويغتمّ على ما مضى والجدّ في الأمر ومباينة النهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فيما بقي ولا يتم له ذلك إلا باستعمال علم اليقين في كل شيء ثم المتابعة بأعمال الصالحات ليكون ممن قال الله تعالى: (وَيَدْرَؤونَ بِالْحسنَةِ السيَّئِّةَ) الرعد: 22 الآية أي يدفعون ما سلف من السيئات بما يعلمون من الحسنات. وكذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي ذر فإذا عملت سيئة فأعمل بعدها حسنة السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية وفي وصية معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها وليدخل في الصالحين كما قال الله تعالى: (والَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصَّالِحينَ) العنكبوت: 9، ثم المسارعة إلى الخيرات إذا قدر عليها ليدرك بها ما ضيع وفات ليكون من الصالحين وفي هذا المقام يصلح لمولاه فيحفظه ويتولاه كما قال الله: (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحينَ) الأعراف: 196، وجمل ما على العبد في التوبة وما تعلق بها عشر خصال، أولها فرض عليه أن لا يعصي الله تعالى، والثانية إن ابتلى بمعصية لا يصرّ عليها، والخصلة الثالثة التوبة إلى الله تعالى منها، والرابعة الندم على ما فرط منه، والخامسة عقد الاستقامة على الطاعة إلى الموت، والسادسة خوف العقوبة، والسابعة رجاء المغفرة، والثامنة الاعتراف بالذنب، والتاسعة اعتقاد أن الله تعالى قدر ذلك عليه وأنه عدل منه، والعاشرة المتابعة بالعمل الصالح ليعمل في الكفارات لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وفي جميع هذه الخصال جمل آثار رويناها عن الصحابة والتابعين يكثر ذكرها، ويقال: إن ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنه قد بقي من عمرك ساعة وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين قال: فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا من أوّلها إلى آخرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها أو يستبدل بها فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، وهذا تأويل قوله عزّ وجلّ: (وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) سبأ: 54 قيل: التوبة وقيل: الزيادة في العمر وقيل: حسن الخاتمة حيل بينهم وبين ذلك كما فعل بأشياعهم من قبل أي بنظرائهم وأهل فرقتهم قال: فإذا كل ساعة تمضي على العبد فهي بمنزلة هذه الساعة قيمتها الدنيا كلها إذا عرف قيمة ذلك فلذلك قيل ليس لما بقي من عمر العبد قيمة إذا عرف وجه التقدير من الله تعالى بالتصريف والحكمة وقيل في معنى قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ أحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أخَّرتني إلى أَجلٍ قَريبٍ) المنافقون: 10 قال: الوقت القريب أن يقول العبد عند كشف الغطاء: يا ملك الموت أخرني يوماً أعبد فيه ربي وأعتب فيه ذنبي وأتزوّد صالحاً لنفسي فيقول: فنيت الأيام فلا يوم، فيقول: أخرني ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة، قال: فتبلغ الروح الحلقوم فيؤخذ بكظمه عند الغرغرة فيغلق باب التوبة ويحجب عنه وتنقطع الأعمال وتذهب الأوقات وتتصاع الأنفاس يشهد فيها المعاينة عند كشف الغطاء فيحتد بصره فإذا كان في آخر نفس زهقت نفسه فيدركه ما سبق له من السعادة فتخرج روحه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 التوحيد فذلك حسن الخاتمة أو يدركه ما سبق له من الشقوة فتخرج روحه على الشرك فهذا الذي قال الله عزّ وجلّ: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذين يَعْمَلُونَ السَيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَر أحدَهُمُ الْمَوْتُ قال إنّي تُبْتُ الآن) النساء: 18، فهذا سوء الخاتمة نعوذ بالله منه وقيل: هذا هو المنافق ويقال: المدمن على المعاصي المصرّ عليها. وقد قال الله تعالى: (إِنَّما التَّوْبَةُ على الله للَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ منْ قَريبٍ) النساء: 17، قيل: قبل الموت وقبل ظهور آيات الآخرة وقبل الغرغرة أي تغرغر النفس في الحلقوم لأنه تعالى قد حكم أن التوبة بعد ظهور إعلام الآخرة لا تقبل، ومنه قوله عز وجلّ: (يَوْمَ يأْتي بعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنتْ مَنْ قَبْلُ) الأنعام: 158 يعني من قبل معاينة الآيات أو كسبت في إيمانها خيراً قيل: التوبة هي كسب الإيمان وأصول الخيرات وقيل: الأعمال الصالحة هي مزيد الإيمان وعلامة الإيقان وقد قيل: ثم يتوبون من قريب أي عن قريب عهد بالخطيئة لا يتمادى فيها ولا يتباعد عن التوبة وتوبته من قريب أن يعقب الذنب عملاً صالحاً ولا يردفه ذنباً آخر وأن يخرج من السيئة إلى الحسنة ولا يدخل في سيئة أخرى وقيل: أول من يسأل الرجعة من هذه الأمة من لم يكن أدى زكاة ماله أو لم ييكن حجّ بيت ربه فذلك تأويل قول الله تعالى: (فأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصالِحينَ) المنافقون: 10، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: هذه الآية من أشد شيء على أهل التوحيد هذا لقوله تعالى في أوّلها: (يا أيُّها الَّذين آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُم ولا أوْلادُكُمْ عنْ ذِكْرِ اللهِ) المنافقون: 9، وقد قيل: لا يسأل عبد الرجعة عندا لموت وله عند الله عزّ وجلّ مثقال ذرة من خير. وروينا بمعناه من كان له في الآخرة مثقال ذرة من خير لو أن له الدنيا بما فيها من أوّلها إلى أخرها لم يحب أن يعود إلى الدنيا، وقال بعض العارفين: إن لله تعالى إلى عبده سرّين يسرهما إليه يوجده ذلك بإلهام يلهمه، أحدهما إذا ولد وخرج من بطن أمه يقول له: عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك عمرك ائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وأنظر كيف تلقاني كما أخرجتك، وسرّ عند خروج روحه يقول: عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية فألقاك بالوفاء والجزاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟، فهذا داخل في قوله عزّ وجّل: (والَّذينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المؤمنون: 8، وفي قوله تعالى: (وأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) البقرة: 40 عمر العبد أمانة عنده إن حفظه فقد أدى الأمانة وإن ضيّعه فقد خان الله، إن الله لا يحبّ الخائنين، وفي خبر ابن عباس رضي الله عنه من ضيع فرائض الله عزّ وجلّ خرج من أمانة الله وعند التوبة النصوح تكفير السيئات ودخول الجنات، وكان بعضهم يقول: قد علمت متى يغفر الله لي قيل: ومتى؟ قال: إذا تاب علي، وقال آخر: أنا من أن أحرم التوبة أخوف مني من أن أحرم المغفرة، وقال الله تعالى: (وَمَنْ أصْدقُ مِنَ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 حَديثاً) النساء: 87 فتاب عليكم وعفا عنكم وقال تعالى في مثله: (وَهُو الَّذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عن السَّيِّئاتِ) الشورى: 25 وقال بعض العلماء: لا تصحّ التوبة لعبد حتى ينسى شهواته ويكون ذاكراً للحزن لا يفارقه قلبه ذاهباً عن الذنب لا يخالج سرّه، وقال بعض علماء الشام: لا يكون المريد تائباً حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال معصية عشرين سنة، وقال بعض السلف: من علامة صدق التائب في توبته أن يستبدل بحلاوة الهوى حلاوة الطاعة وبفرح ركوب الذنب الحزن عليه والسرور بحسن الإنابة، وقال بعض العلماء في معناه: لا يكون العبد تائباً حتى يدخل مرارة مخالفة النفس مكان حلاوة موافقتها، وحدثنا في الإسرائيليات: إن الله عزّ وجلّ قال لبعض أنبيائه وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين في العبادة ولم يرَ قبول توبته فقال له: وعزتي وجلالي لو شفع فيه أهل السموات والأرض ما قبلت توبته وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه ومن بقيت حلاوة المعصية في قلبه أو نظر إليها إذا ذكرها بفكره خيف عليه العود فيها إلا بشدة مجاهدة وكراهة لها ونفي خاطرها عن سره إذا ذكرها بالخوف والإشفاق منها، وقال أبو محمد سهل: أول ما يمر به المبتدئ المريد التوبة وهو تحويل الحركات المذمومة إلى حركات محمودة ويلزم نفسه الخلوة والصمت ولا تصحّ له توبة إلا بأكل الحلال ولا يقدر على الحلال حتى يؤدي حق الله تعالى في الخلق وحق الله تعالى في نفسه ولا يصح له هذا حتى يتبرأ من حركته وسكونه إلا بالله تعالى وحتى لا يأمن الاستدراج بأعمال الصالحات وحقيقة التوبة أن يدع ما له حتى لا يدخل فيما عليه ولا يكون يسوف أبداً إنما يلزم نفسه الحال في الوقت. وحدثونا عن سري السقطي أنه قال: من شرط التوبة أن ينبغي للتائب المنيب أنه يبدأ بمباينة أهل المعاصي ثم بنفسه التي كان يعصى الله تعالى لها ولا ينيلها إلا ما لا بدّ منه ثم الاعتزام على أن لا يعود في معصية أبداً ويلقى عن الناس مؤونته ويدع كل ما يضطره إلى جريرة ولا يتبع هوى ويتبع من مضى من السلف، وينبغي لأهل التوبة أن يحاسبوا نفوسهم في كل طرفة ويدعوا كل شهوة ويتركوا الفضول وهي ستة أشياء: ترك فضول الكلام، وترك فضول النظر، وترك فضول المشي، وترك فضول الطعام، والشراب، واللباس، قال: ولا يقوى على ترك الشبهات إلا من ترك الشهوات، وسئل يحي بن معاذ رحمه الله كيف يصنع التائب؟ فقال: هو من عمره بين يومين، يوم مضى ويوم بقي، فيصلحهما بثلاث: أما ما مضى فبالندم والاستغفار، وأما ما بقي فبترك التخليط وأهله ولزوم المريدين ومجالسة الذاكرين والثالثة لزوم تصفية الغذاء والدأب على العمل، ومن علامة صدق التوبة رقة القلب وغزارة الدمع، وفي الخبر: جالسوا التوابين فإنهم أرقّ شيء أفئدة ومن التحقق بالتوبة أن يستعظم ذنوبه فإنه يقال إن الذنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 كلما استعظمه العبد صغر عند الله تعالى ويقال: إن استصغار الذنب كبيرة، كما جاء في الخبر: المؤمن الذي يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه والمنافق الذي يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه فأطاره، وقد روينا في خبر مرسل: ليتقّ أحدكم أن يؤخذ عند أدنى ذنوبه في نفسه. وقال بعضهم: الذنب الذي لا يغفر قول العبد: ليت كل شيء عملته مثل هذا فهذا كما قال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت. وقد حدثنا عن الله تعالى أنه أوحى إلى بعض أوليائه: لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظمة مهديها ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها فإنما عظمت الذنوب من تعظيم المواجه بها وكبرت في القلوب لمشاهدة ذي الكبرياء ومخالفة أمره إليها فلم يصغر ذنب عند ذلك وكانت الصغائر عند الخائفين كبائر وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى: (ذلك ومَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ الله فَهُو خيْرٌ لَهُ) (وَمَنْ يُعَظِّمْ شعائِرَ الله فإنَّها مِن تَقْوى القُلوُبِ) الحج: 30 - 32 قيل: الحرمات تعظم في قلبه فلا ينتهكها، ومن هذا قول الصحابة للتابعين: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدّها في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات ليسوا يعنون أن الكبائر التي كانت على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارت بعده صغائر ولكن كانوا يستعظمون الصغائر لعظمة الله تعالى في قلوبهم لعظيم نور الإيمان، ولم يكن ذلك في قلوب من بعدهم، وأوحى الله تعالى إلى بعض أوليائه: كم من ذنب رأيته منك قد أهلكت بدونه أمة من الأمم. وقد روينا عن أبان بن إسماعيل عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه أهلك الله تعالى أمة من الأمم كانوا يعبثون بذكورهم فأما نسيانه الذنوب وذكرها فقد اختلف قول العارفين في ذلك فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك، وهذا طريقان لطائفتين وحالان لأهل مقامين فأما ذكر الذنوب فطريق المريدين وحال الخائفين يستخرج منهم بتذكرها الحزن الدائم والخوف اللازم، وأما نسيان الذنوب شغلاً عنها بالأذكار وما يستقبل من مزيد الأعمال فطريق العارفين وحال المحبين ووجهة هؤلاء شهادة التوحيد وهي مقام في التعريف ووجهة الأولين مشاهدة التوقيف والتحديد وهي مقام في التعريف، ففي أيّ المقامين أقيم عبد قام بشهادة وجهته وعمل بحكم حالته ومقام شهادة التوحيد أفضل عند العارفين من مقام مشاهدة التعريف وإن كانت هذه أوسع وأكثر إلا أنها في أصحاب اليمين وفي عموم المقربين، وشهادة التوحيد أضيق وأقل وأهلها أعلى وأفضل وهي في المقرّبين وخصوص العارفين وقد يعترض المريد بقصة دواد عليه السلام في تذكره ونوحه على خطيئة فإن الأنبياء لا يقاس عليهم لمجاوزتهم حدود من دونهم وقد يقلبون في أحوال المريدين ويسلك بهم سبيل المتعلمين وذلك لأجل الأمة ليكون طريقاً للعالمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وأعلم أنه لا يؤمن على ضعيف اليقين قوي النفس عند تذكّر الذنوب نظر القلب إليها بشهوة أو ميل نفس معها بحلاوة فيكون ذلك سبب فتنته فيفسد من حيث صلح كما لا يؤمن على معتاد خطيئة بالنظر إلى سببها حركة النفس إليها وإن كان الأفضل الإتفاق معها ما لم يكن الإتفاق معصية لمجاهدة النفس بالصبر عنها إلا أن ذلك غرور وفيه خطر فترك الاجتماع وقطع الأسباب حينئذ أسلم وما كان أسلم للمريد فهو أفضل وفي نسيان الذنوب الذكر لما يستقبل والانكماش على ما يفوت من الوقت خوف فوت الثاني. وقد كان بعض أهل المعرفة يكره للمريد أن يكون وسواسه الجنة أو نذكر ما فيها من النعيم واللباس والأزواج وقال: واستحب للمريد أن يكون وسواسه ذكر الله تعالى وخواطره وهممه متعلقة بالله تعالى لا سواه قال: لأن المريد حديث عهد بتوبة غير معتاد لطول الاستقامة والعصمة، فإذا تذكر نعيم الجنة لم آمن عليه لضعف قلبه أن يشتهي مثله مما يشاهد في الدنيا من اللباس والطيبات والنكاح لأن هذا عاجل وذاك آجل فتطلب نفسه مثل ما تذكرت من نعيم الآخرة معجلاً في الدنيا قال: فإذا كان همه الله تعالى كان أبعد له من زينة الدنيا وشهواتها ولم يجتر العدو بتمثيل ذلك له من العاجل إلى أن يقوى يقينه وتنتقل عادته وتدوم عصمته، وقد اختلف أهل العلم أيضاً في عبد ترك ذنباً وعمل في الإستقامة ونفسه تنازعه إليه وهو يجاهدها، وفي آخر: ترك الذنب وانكمش في الإصلاح فلم تكن نفسه تطالبه فلا تنازعه إلى الذنب ولم يكن على قلبه منه ثقل ولا مجاهدة، أيّ هذين أفضل فقال بعض علماء أهل الشام: الذي تنازعه نفسه إلى الذنب وهو يجاهدها أفضل لأن عليه منازعة وله فضل مجاهدة، ومال إلى هذا القول أحمد بن أبي الحواري وأصحاب أبي سليمان الداراني. وقال علماء البصرة: الذي سكنت نفسه عن المنازعة بشاهد من شواهد اليقين والطمأنينة فلم يبق فيه فضل لعود ولا طلب لمعتاد أفضل، ومال إلى هذا رباح بن عمرو القيسي وهو من كبار علماء البصريين، وقال: لو فتر هذا لكان هذا أقرب إلى السلامة ولم يؤمن على الآخر الرجوع وهذا كما قال، وقد اختلف العلماء أيضاً في عبدين سئل أحدهما شيئاً: من بذل ماله في سبيل الله فأبت نفسه عليه وثقل عليها ذلك فجاهدها وأخرج ماله، وسئل آخر، بذل ماله فبذله مع السؤال طوعاً من غير منازعة نفس ولا ثقل عليها ولا مجاهدة منه لها أيهما أفضل؟ فقال: قوم المجاهد لنفسه أفضل لأنه جتمع له الإكراه والمجاهدة فحصل له عملان، وذهب إلى هذا القول ابن عطاء وأصحابه، وقال آخرون: الذي سمحت نفسه بالبذل طوعاًمن غير إكراه ولا اعتراض أفضل قال: لأن مقام هذا في سخاوة النفس والتحقق بالزهد أفضل من جميع أعمال الأول من الإكراه والمجاهدة، ومن بذل ماله على ذلك ولأن الأول وإن غلب نفسه في هذه الكرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 لأياً من غلبتها له في كرة ثانية أو ثالثة إذ ليس السخاء من مقامها لأنها كانت محمولة عليه وإلى هذا ذهب الجنيد رحمه الله وهو عندي كما قال اللفظ لنا. وسئل أبو محمد سهل عن الرجل يتوب من الشيء ويتركه ثم يخطر ذلك الشيء بقلبه أو يراه أو يسمع به فيجد حلاوة فقال: الحلاوة طبع البشرية ولا بدّ من الطبع وليس له حيلة إلا أن يرفع قلبه إلى مولاه بالشكوى وينكره بقلبه ويلزم نفسه الإنكار ولا يفارقه ويدعو الله تعالى أن ينسيه ذكر ذلك ويشغله بغيره من ذكره وطاعته، وقال: فإن هو غفل عن الإنكار طرفة عين أخاف عليه أن لا يسلم وتعمل الحلاوة في قلبه ولكن مع وجدان الحلاوة يلزم قلبه الإنكار والحزن فإنه لا يضره، وهذا عندي هكذا لأن التوبة لا تصحّ مع بقاء الشهوة، ويكون العبد مراداً بالمجاهدة، وهذا حال المريدين ومحو الشهوات من القلب بدوام التولي وصف العارفين وربما تعلق بالذنب ذنوب كثيرة هي أعظم منه مثل الإصرار عليه والاغتباط به وتسويف التوبة بعده ووجد حلاوة الظفر بمثاله أو وجد الحزن والكراهة على فوته والسرور بعمله أو حمل غيره عليه إن كان ذنباً بين اثنين أو إنفاق مال الله سبحانه وتعالى فيه فهو كفر النعمة به، وقد قيل: من أنفق درهماً في حرام فهو مسرف ومن ذلك أن يستصغر الذنب ويحتقره فيكون أعظم من اجتراحه أو يتهاون بستر الله تعالى عليه ويستخف بحلم الله تعالى عنه، فيكون ذلك من الإغترار والأمن أو يجهل نعمة الله تعالى عليه في ستره وإظهار ضده كما قال في الدعاء المأثور الذي يمدح الله سبحانه وتعالى به: يا من أظهر الجميل وستر على القبيح ولم يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر ويقال كلّ عاصٍ تحت كنف الرحمن فإذا رفع يديه عنه انهتك ستره ومن ذلك المجاهرة بالذنب والصول به والتظاهر وهذا من الطغيان، وفي الخبر: كل الناس معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم على الذنب، قد ستره الله تعالى عليه فيصبح فيكشف ستر الله تعالى ويتحدث بذنبه وربما سن العاصي بالذنب سنّة أتبع عليها فتبقى سيئات ذنبه عليه ما دام يعمل به وقد قيل: طوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه ولم يؤاخذ بها بعده وطوبى لمن لم يعدد ذنبه غيره، قال بعضهم: لا تذهب فإن كان لا بدّ فلا تحمل غيرك على الذنب فتكسب ذنبين، وقد جعل الله تعالى هذا المعنى وصفاً من أوصاف المنافقين في قوله تعالى: (اَلْمُنَافِقُونَ والْمُنافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنع بَعْضٍ يأْمُروُن بِالْمُنْكرِ وَيَنْهَوْن عَنِ الْمَعْرُوفِ) التوبة67 فمن حمل أخاه على ذنب معه فقد أمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وقال بعض السلف: ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصيته ثم يهونها عليه وقد يعيش العبد أربعين سنة ثم يموت فتبقى ذنوبه بعده مائة سنة يعاقب عليه في قبره إذا كان قد سنّها سنّاً وأتبع عليها إلى أن تندرس أو يموت من كان يعمل بها ثم تسقط عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ويستريح منها، ويقال: أعظم الذنوب من ظلم من لا يعرفه ولم يره من المتقدمين مثل أن يتكلم فيمن سلف من أهل الدين وأئمة المتقين، فهذه المعاني كلها تدخل على الذنب الواحد وهي أعظم منه ومن ذلك قوله تعالى: (وَنَكْتُبُ ما قَدَّموا وآثارَهُمْ) يس: 12 قيل: سننهم التي عمل بها بعدهم، وفي الخبر: من سنّ سنّة سيئة فعمل بها من بعده كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ويل للعالم من الأتباع يزل زلة فيرجع عنها ويحتملها الناس فيذهبون بها في الآفاق، وقال بعض أهل الأدب: مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ويغرق الخلق معها، وفي الخبر الإسرائيلي: إن عالماً كان يضلّ الناس بالبدع ثم أدركته توبة فرجع إلى الله تعالى وعمل في الإصلاح دهراً فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قل له إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك بالغاً ما بلغ ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار، فأما استحلال المعصية أو إحلالها للغير فليس من هذه الأبواب في شيء إنما ذلك خروج عن الملة وتبديل للشريعة وهو الكفر بالله تعالى كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه وقد سمّى الله تعالى عملة السوء جهلة فقال تعالى: (أنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجهَالةٍ) الأنعام: 54، وقال تعالى: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) النمل: 55 وقال: (بل أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُون) الأعراف: 81، ويقال: إن العرش يهتز ويغضب الرب تعالى لثلاثة أعمال: لقتل النفس بغير نفس، وإتيان الذكر الذكر، وركوب الأنثى الأنثى، وفي خبر: لو اغتسل اللوطي بالبحار لم يطهّره إلا التوبة ولو لم يكن في يسير المعصية من الشؤم إلا حرمان الطاعة وفقد حلاوة الخدمة ومقت المولى لكان هذا من أعظم العقوبات، كما قال وهيب بن الورد وقد سئل: هل يجد العاصي حلاوة الطاعة قال: لا ولا من هم بمعصية، ولذلك سمّى الله تعالى يحيى سيداً لأنه لم يهمّ بمعصية فصار علامة السيد بقدر سؤدد من لا يهمّ بالمعاصي فصار من لا يهمّ بالمعاصي سيداً، وفي خبر من لبس ثوب شهرة وفي بعضها: من نظر إلى عطفيه فاختال أعرض الله تعالى عنه وإن كان عنده حبيباً كيف وفي المخالفة وجود البعد والوحشة والانقطاع من المعاملة. وروينا في خبر: إن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته قال: فاستحيا التاج والإكليل من وجهه أن يرتفعا عنه فجاءه جبريل عليه السلام فأخذ التاج عن رأسه وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه ونوديا من فوق العرش: اهبطا من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني، فالتفت آدم إلى حوّاء باكياً وقال: هذا أول شؤم المعصية أخرجنا من جوار الحبيب، وروينا أن سليمان نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عوقب على خطيئته من أجل التمثال الذي عبد في داره أربعين يوماً وقيل: إن المرأة سألته أن يكون الحكم لأبيها على خصمه فقال: نعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ولم يفعل وقيل: بل أحب بقلبه أن يكون الحكم لأبيها على خصمه لمكانها فسلب ملكه أربعين يوماً فهرب تائهاً على وجهه وكان يسأل بكفه فلا يطعم فإذا قال: أطعموني فإني سليمان بن داود شج وضرب، ولقد بلغني أنه استطعم من بيت فطرد وبزقت امرأة في وجهه، وفي رواية قال: فأخرجت إليه عجوز جرة فيها بول فصبته على رأسه إلى أن خرج له الخاتم من بطن الحوت فلبسه بعد انقضاء الأربعين وهي أيام العقوبة قال: فجاءت الطير فعكفت عليه وجاءت الجنّ والشياطين والوحوش فاجتمعت حوله، فلما عرفه الصيادون عقروا بين يديه واعتذروا إليه مما كانوا طردوه وشجوه فقال: لا ألومكم فيما صنعتم قبل ولا أحمدكم فيما تصنعون الآن، هذا أمر من السماء فلا بدّ منه ولقد بلغني أنه كان في مسيره والريح تحمله في جنوده إذ نظر إلى قميصه نظرة وكان عليه قميص جديد فكأنه أعجبه فوضعته الريح بالأرض فقال لها لم فعلت ولم آمرك قال: إنما نطيعك إذا أطعت الله تعالى. وقد قال بعض العلماء في معنى هذا: من خاف الله تعالى خافه كل شيء، ومن خاف غير الله تعالى أخاف الله تعالى من كل شيء، فكذلك أيضاً: من أطاع الله تعالى سخّر له كل شيء ومن عصاه سخّره لكل شيء أو سلط عليه كل شيء ولو لم يكن في الإصرار على المعصية من الشؤم إلا أن كلّ ما يصيب العبد يكون له عقوبة إن كان سعة عوقب بذلك ولم يأمن بها الاستدراج وإن كان ضيقاً كان عقوبة له، وفي الخبر أن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وقد قيل: الرزق من الحرام من قلة التوفيق للأعمال الصالحة، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إني لأحسب أن العبد ينسى العلم بالذنب يصيبه ولو لم يكن من بركة التوبة والعلم والاستقامة على الطاعة إلا أن كل ما يصيب العبد فهو خير له إن: كان سعة فهو رفق من الله تعالى به عليه ولطف له منه وإن كان ضيقاً فهو اختبار من الله تعالى وخيره للعبد ويجد حلاوة ذلك ولذته لأنه في سبيله وقد أصابه وهو مقيم على طاعته ولو لم يكن من شؤم الناس ووجد النقص لمخالطتهم إلا أن المعصية معهم أشد وهي بهم أعظم لتعلق المظالم في أمر الدنيا وشأن الدين وكل من قلّت معارفه قلّت معهم خطاياه، وقال بعض السلف: ليست اللعنة سواداً في الوجه ونقصاً في المال إنما اللعنة أن لا يخرج من ذنب إلا وقع في مثله أو شّر منه وذلك أن اللعنة هي الطرد والبعد فإذا طرد من الطاعة فلم تيسر له بعد عن القربات فلم يوفق لها فقد لعن. وقد قيل في معنى الخبر الذي رويناه آنفاً: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه قيل: إن يحرم الحلال ولا يوفق له بوقوعه في المعصية وقيل: يحرم مجالسة العلماء ولا ينشرح قلبه لصحبة أهل الخير وقيل: يمقته الصالحون وأهل العلم بالله تعالى فيعرضون عنه وقيل: يحرم العلم الذي لا صلاح للعمل إلا به لأجل إقامته على الجهل، ولا تنكشف له الشبهات بإقامته على الشهوات بل تلتبس عليه الأمور فيتحير فيها بغير عصمة من الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 تعالى ولا يوفق للأصوب والأفضل، وقد كان الفضيل يقول: ما أنكرت من تغير الزمان وجفاء الإخوان فذنوبك أورثتك ذلك ويقال: نسيان القرآن بعد حفظه من أشد العقوبات والمنع من تلاوته وضيق الصدر بقراءته والاشتغال عنه بضده عقوبة الإصرار، وقال بعض صوفية أهل الشام: نظرت إلى غلام نصراني حسن الوجه فوقفت أنظر إليه فمر بي ابن الجلاء الدمشقي فأخذ بيدي فأستحييت منه فقلت: يا أبا عبد الله سبحان الله تعجبت من هذه الصورة الحسنة وهذه الصنعة المحكمة كيف خلقت للنار فغمز يدي وقال: لتجدّن عقوبته بعد حين قال: فعوقبت بعد ثلاثين سنة، وقال بعضهم: إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري، وقال آخر: أعرف العقوبة حتى في نار بيتي. وحدثونا عن منصور الفقيه قال: رأيت أبا عبد الله السكري في النوم فقلت: ما فعل الله بك قال: أوقفني بين يديه في العرق حتى سقط لحم خدي قلت: ولم ذاك قال: نظرت إلى غلام مقبلاً ومدبراً والعقوبة موضوعها الشدة والمشقة، فعقوبة كل عبد من حيث يشتد عليه، فأهل الدنيا يعاقبون بحرمان رزق الدنيا من تعذر الإكساب وإتلاف الأموال وأهل الآخرة يعاقبون بحرمان رزق الآخرة من قلة التوفيق للأعمال الصالحات وتعذر فتوح العلوم الصادقة ذلك تقدير العزيز العليم، وكان أبو سليمان الداراني يقول: الاحتلام عقوبة: وقال: لا يفوت أحداً صلاة في جماعة إلا بذنب يحدثه فدقائق العقوبات على قدر ترافع الدرجات، وقد جاء في الأخبار ما أنكرتم من زمانكم فبما غيرتم من أعمالكم، وفي الخبر يقول الله عزّ وجلّ: إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي فهذه عقوبة أهل المعاملات ولو ظهر تغيّر القلب عند المعصية على وجه العاصي لا سودّ وجهه ولكن الله تعالى سلم بحلمه وستره فغطى ذلك في القلب مع تأثيره فيه وحجابه لصاحبه وقسوته عن الذكر وعن طلب الخير والبر والمسارعة إلى الخير وهو من أكير العقوبات ويقال: إن العبد إذا عصى أظلم قلبه ظلمة يثور على القلب منها دخان يشهده الإيمان فهو مكان حزن العبد الذي تسوءه سيئته ويكون ذلك الدخان حجاباً له عن العلم والبيان كما تحجب السحابة للشمس فلا ترى ويكون غلفاً يجده في نفسه للخلق فإذا تاب العبد وأصلح إنكشف الحجاب فيظهر الإيمان فيأمر بالعلم كما تبرز الشمس من تحت الحجاب. ومن هذا قوله تعالى: (كَلاّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) المطففين: 14 قيل: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب ويصير الإيمان تحت الحجاب فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً وعندها ينكس أعلاه أسفله إذا استكمل سواده، فحينئذ مرد على النفاق فأملس فيه واطمأن به وثبت إلى أن ينظر الله تعالى إليه فيعطف بفضله عليه، وقد كان الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 رضي الله عنه يقول: إن بين العبد وبين ربه عزّ وجلّ حداً من المعاصي معلوماً إذا بلغه العبد طبع على قلبه فلم يوفقه بعدها للخير، وفي حديث ابن عمر: الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمات واستحلت المحارم أرسل الله تعالى الطابع فطبع على القلوب بما فيها، وفي حديث مجاهد: القلب مثل الكف المفتوحة فكلما أذنب ذنباً انقبضت أصبع حتى تنقبض الأصابع كلها فتشد على القلب فذلك هو القفل، ويقال لكلّ ذنب نبات ينبت على القلب فإذا كثرت الذنوب قام النبات حول القلب مثل الكمّ للثمرة فانضمّ على القلب فذلك هو الغلاف، ويقال: إنه الكنان أحد الأكنة التي ذكر الله تعالى أن القلب لا يسمع معها ولا يفقه، وقد حدثني بعض هذه الطائفة عن أبي عمرو بن علوان في قصة تطول قال فيها: فكنت قائماً أصلّي ذات يوم فخامر قلبي هواء طاولته بفكري حتى تولد منه شهوة الرجل قال: فوقعت إلى الأرض واسودّ جسدي كله فاستترت في البيت ثلاثة أيام فلم أخرج وقد كنت أعالج غسله في الحمام بالصابون والألوان الغاسلة فلا يزداد إلا سواداً قال ثم انكشف عني بعد ثلاث فرجعت إلى لوني البياض قال: فلقيت أبا القاسم الجنيد رحمه الله وكان وجه إلي فأشخصني من الرقة فلما أتيته قال لي: أما أستحيت من الله تعالى كنت قائماً بين يديه فسامرت نفسك شهوة حتى استولت عليك برقة فأخرجتك من بين يدي الله تعالى لولا أني دعوت الله عزّ وجلّ لك وتبت إليه عنك للقيت الله تعالى بذلك اللون قال فعجبت كيف علم بذلك، وهو ببغداد وأنا بالرقة ولم يطلع عليه إلا الله عزّ وجلّ، فذكرت هذه الحكايات لبعض العلماء فقال: كان هذا رفقاً من الله تعالى به وخيرة له إذ لم يسودّ قلبه وظهر السواد على جسده ولو بطن في قلبه لأهلك ثم قال: ما من ذنب يرتكبه العبد يصرّ عليه إلا اسودّ القلب منه مثل سواد الجسم الذي ذكره لا يجلوه إلا التوبة ولكن ليس كل عبد يصنع له صنع ابن علوان ولا يجد من يلطف له به مثل أبي القاسم الجنيد رحمه الله ولكل ّ ذنب عقوبة إلا أن يعفو الله والعقوبة ليست على قدر الذنب ولا من حيث يعلم العبد لكنها على تقدير المشيئة وعن سابق علم الربوبية فربما كانت في قلب وهي من أمراض القلوب وربما كانت في الجسد وقد تكون في الأموال والأهل وتكون في سقوط الجاه والمنزلة من عيون علماء الإسلام والمؤمنين وقد تكون مؤجله في الآخرة وهذه أعظم العقوبات وهي لأهل الكبائر من الموبقات الذين ماتوا عن غير توبة ولأهل الإصرار والعزة والاستكبار لأنها إذا كانت في الدنيا كانت يسيرة على قدر الدنيا وإذا تأخرت كانت عظيمة على قدر الآخرة. وفي الخبر: إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً عجّل له عقوبة ذنبه وإذا أراد به شراً أخره حتى يوافي به الآخرة، وأعلم أن الغم على ما يفوت من الدنيا والهم بالحرص عليها من العقوبات والفرح والسرور بما نال من الدنيا مع ما لا يبالي ما خرج من دينه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 العقوبات، وقد يكون دوام العوافي واتساع الغنى من عقوبات الذنوب إذا كانا سببين إلى المعاصي، وقد تكون عقوبة الذنب ذنباً مثله أو أعظم منه كما يكون مثوبة الطاعة طاعة مثلها أو أفضل منها، وفي أحد الوجوه من معنى قوله تعالى: (وَعَصَيْتُمْ مِن بعْدِ ما أراكُمْ ما تُحِبُّونَ) آل عمران: 152، قال: الغنى والعافية كما يكون الفقر والسقم برحمة من الله تعالى إذا كانا سبباً للعصمة وهما أمّهات المعاصي إذا كانا سببين لها ومطرقين إليها، واعلم أن الحلم لا يرفع العقوبة ولكن يؤخرها، ومن شأن الحليم أن لا يعجل بالعقوبة وقد يعاقب بعد حين. وروينا في معنى قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عليْهِمْ أبْوابَ كُلِّ شيءٍ) الأنعام: 44، أي الرخص والرغد حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة قيل بعد ستين سنة، وفي الخبر: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهمّ بطلب المعيشة، وفي لفظ آخر: لا يكفرّها إلا الهموم والأحزان والإهتمام بالمباحات من حاجات الدنيا للفقراء كفارات وهو على ما يفوت من قربات الآخرة للمؤمنين درجات وهو على محب الدنيا والجمع منها والحرص عقوبات، وقال بعض السلف: كفى به ذنباً لا يستغفر منه حبّ الدنيا وقال آخر: لو لم يكن للعبد من الذنوب إلا أنه يقيم بمصائب الدنيا بما لا يقيم بما لا يفوته فيها من نصيب الآخرة والتزودّ لها. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له من الأعمال ما يكفّرها أدخل الله عزّ وجلّ عليه الغموم والهموم فتكون كفّارة لذنوبه ويقال: إن الهمّ الذي يعرض للقلب في وقت لا يعرف العبد سبب ذلك فهو كفّارات الهم بالخطايا ويقال: هو حزن العقل عند تذكره الوقوف والمحاسبة لأجل جنايات الجسد فيلزم العقل ذلك الهمّ فيظهر على العبد منه كأنه لا يعرف سبب غمه، ومن أخبار يعقوب عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه: لولا ما سبق لك في علمي من عنايتي بك لجعلت نفسي عندك أبخل الباخلين لكثرة تردادك إليّ بطول سؤالك لي وتأخيري إجابتك ولكن من عنايتي بك أن جعلت نفسي في قلبك إني أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، وقد سبق لك عندي منزلة لم تكن تنالها بشيء من علمك إلا بحزنك على يوسف فأردت أن أبلغك تلك المنزلة، وكذلك ما روينا أن جبريل عليه السلام لما دخل على يوسف عليه السلام في السجن قال له: كيف تركت الشيخ الكئيب؟ قال: قد حزن عليك حزن مائة ثكلى، قال: فماذا له عند الله تعالى؟ قال: أجر مائة شهيد، وفي خبر رويناه عن السلف: ما من عبد يعصى إلا استأذن مكانه من الأرض أن يخسف به واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفاً فيقول الله عزّ وجلّ للأرض والسماء كفّا عن عبدي وأمهلاه فإنكما لم تخلقاه ولو خلقتماه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 لرحمتماه لعله يتوب إليّ فأغفر له لعله يستبدل صالحاً فأبدله حسنات فذلك معنى قوله تعالى (إنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَواتِ والأرْضَ أن تَزُولاً) فاطر: 41 أي من معاصي العباد: (وَلَئِنْ زالتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحِدٍ مَنْ بَعْدِهٍ إنَّهُ كانَ حليماً) فاطر: 41 أي عن معاصيهم غفوراً لمساوئهم وقيل في تفسير ذلك: إن الله عزّ وجلّ إذا نظر إلى معاصي العباد غضب فترجف الأرض وتضطرب السماء فتنزل ملائكة السماء فتمسك أطراف الأرضين وتصعد ملائكة الأرضين فتمسك على أطراف السموات، ولا يزالون يقرؤون: (قُلْ هَوَ اللهُ أحدٌ) الإخلاص: 1، حتى يسكن غضبه سبحانه وتعالى فذلك قوله تعالى: (إنَّ الله يُمْسِكُ السَّمواتِ) فاطر: 41 الآية. وقال بعض العلماء: إذا ضرب الناقوس في الأرض ودعى بدعوة الجاهلية اشتد غضب الرب سبحانه وتعالى فإذا نظر إلى صبيان المكاتب ورأى عمار المساجد وقيل: إذا نظر إلى المتحابين في الله أو المتزاورين له وسمع أصوات المؤذنين حلم وغفر فذلك قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ حليماً غَفُوراً) فاطر: 41 فإذا أتبع العبد الذنب بالذنب ولم يجعل بين الذنبين توبة خيف عليه الهلكة لأن هذه حال المصرّ ولأنه قد شرد عن مولاه بترك رجوعه إليه ودوام مقامه مع النفس على هواه وهذا مقام المقت في البعد وأفضل ما يعمله العبد قطع شهوات النفس أحلى ما يكون عنده الهوى إذ ليس لشهواتها آخر ينتظر كما ليس لبدايتها أوّل يرتسم فإن لم يقطع ذلك لم يكن له نهاية فإن شغل بما يستأنف من مزيد الطاعة ووجد حلاوة العبادة وإلا أخذ نفسه بالصبر والمجاهدة فهذا طريق الصادقين من المريدين. وقيل في قوله تعالى: (اسْتَعينوا بالله واصْبِروا) الأعراف: 128 أي استعينوا به على الطاعة واصبروا على المجاهدة في المعصية، وقال علي كرمّ الله وجهه: أعمال البرّ كلّها إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتفلة إلى جنب البحر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جنب الجهاد في سبيل الله تعالى كتفلة في جنب بحر والجهاد في سبيل الله تعالى إلى مجاهدة النفس عن هواها في اجتناب النهي كتفلة في جنب بحر لجيّ، وعلى هذا معنى الخبر الوارد رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة النفس، وكان سهل بن عبد الله يقول: الصبر تصديق الصدق وأفضل منازل الطاعة صبر على معصية ثم الصبر على الطاعة، وقد روينا في الإسرائيليات: إن رجلاً تزوّج امرأة في بلدة وأرسل عبده يحملها إليه فراودته نفسه وطالبته بها فجاهدها واستعصم بالله قال: فنبأه الله تعالى فكان نبياً في بني إسرائيل. وفي بعض قصص موسى عليه السلام: إنه قال للخصر عليه السلام: بأيّ شيء أطلعك الله تعالى على علم الغيب؟ فقال: بترك المعاصي لأجل الله تعالى، فالجزاء من الله تعالى يجعله غاية العطاء لا على قدر العمل لكن إذا عمل له عبد شيئاً لأجله أعطاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أجره بغير حساب ثم إنه لا يتخذ التائب عادة من ذنب فيتعذر بها توبته فإن العادة جند من جنود الله تعالى لولاها لكان الناس كلهم تائبين ولولا الابتلاء لكان التائبون مستقيمين ثم إن يعمل في قطع معتاد إن كان ثم ليصبر على مجاهدة النفس في هوى إن بلي به، فهذه الخصال من أفضل أعمال المريدين وأزكاها ومعها تلهم النفس المطمئنة رشدها وتقواها وبها تخرج من وصف الأمّارة بالسوء إلى وصف المطمئنة إلى أخلاق الإيمان وهذا أحد المعاني في الخبر الذي روى: أفضل الأعمال ما أكرهتم عليه النفوس، لأن النفس تكره خلاف الهوى، والهوى هو ضد الحق والله تعالى يحب الحق فصار جبار النفس على خلاف الهوى وعلى وفاق الحق لأن محبة الحق من أفضل الأعمال كما قال تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) الأعراف: 8 الآية، واستثنى من أهل الخسر الذين تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وهذا أوّل اليقين، وحدثت عن بعض أهل الاعتبار: إنه كان يمشي في الوحل فكان يتقي ويشمر ثيابه عن ساقيه ويمشي في جوانب الطريق إلى أن زلقت رجله في الوحل فأدخل رجليه في وسط الوحل وجعل يمشي في المحجة قال: فبكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: هذا مثل العبد لا يزال يتوقى الذنوب ويجانبها حتى يقع في ذنب منها وذنبين فعندها يخوض الذنوب خوضاً وعلى العبد أن يتوب من الغفلة التي هي كائنة فإذا عرف هذا لم تنقطع أبداً توبته وقد جعل الله تعالى أهل الغفلة في الدنيا هم أهل الخسران في العقبى، فقال عز من قائل: (أولئكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف: 179، لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ولكن غفلة دون غفلة وخسران دون خسران ولا تستحقرن الغفلة فإنها أوّل المعاصي وهي عند الموقنين أصل الكبائر وقد جعل علي كرم الله وجهه الغفلة إحدى مقامات الكفر وقرنها بالعمى والشك وأمال صاحبها عن الرشد ووصفها بالحسرة فقال في الحديث الذي يروى من طريق أهل البيت: فقام عمار بن ياسر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ما بني؟ فقال: على أربع دعائم: على الجفاد، والعمى، والغفلة، والشك، فمن جفا احتقر الحق وجهر بالباطل ومقت العلماء، ومن عمى نسي الذكر ومن غفل حاد عن الرشد وغرّته الأماني فأخذته الحسرة والندامة وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، ومن شكّ تاه في الضلالة. وقال بعض العلماء: من صدق في ترك شهوة وجاهد نفسه لله تعالى سبع مرات لم يبتل بها، وقال آخر: من تاب عن ذنب واستقام سبع سنين لم يرجع إليه أبداً، وقال بعض العلماء: كفارة الذنب المعتاد أن تقدر عليه عدد ما أتيته ثم لا تقع فيه فيكون كل ترك كفارة لفعل وهذا حال الأقوياء من التوّابين وليس هو طريق الضعفاء من المريدين بل حال الضعفاء والهرب والبعد، ومن حدث نفسه بمعصية في عدمها لم يملك نفسه عند وجودها فليعمل المريد في قطع وساوس النفس بالخطايا وإلا وقع فيها لأن الخواطر تقوى فتكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وسوسة، فإذا كثرت الوساوس صارت طرقاًِ للعدوّ بالتزيين والتسويل فأضرّ شيء على التائب تمكينه خاطر السوء من قلبه بالإصغاء إليه فإنه يدب في هلكته وكل سبب يدعو إلى معصية أو يذكر بمعصية فهو معصية وكل سبب يؤول إلى ذنب ويؤدي إليه فهو ذنب وإن كان مباحاً وقطعه طاعة وهذا من دقائق الأعمال وكان يقال: من أتى عليه أربعون وهو العمر وكان مقيماً على الذنب لم يكد يتب منه إلا القليل من المتداركين، وقد روي في الخبر: المؤمن كل مفتن تواب وإن للمؤمن ذنباً قد اعتاده الفيئة بعد الفيئة يعني حيناً بعد حين. وفي الحديث: كل بني آدم خطاء وخير الخطائين المستغفرون، وفي الخبر الآخر: المؤمن واه راقع فخيرهم من مات على رقعه أي واه بالذنوب راقع بالتوبة والاستغفار، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بترك متابعة الذنوب وترادف السيئة بالحسنة في قوله تعالى: (وَيَدْرَؤُون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الرعد: 22، وقد جعل هذا من وصف العاملين الذين صبروا فقال تعالى: (أُولئكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهْمُ مرَّتينِ بِما صبرُوا وَيَدْرَؤُون بِالْحسنةِ السَّيّئةَ) القصص: 54 فجعل تعالى لهم صبرين عن الذنب وعلى التوبة فآتاهم به أجرين وقد اشترط الله تعالى على التائبين من المؤمنين ثلاث شرائط وشرط على التائبين من المنافقين أربعة لأنهم اعتلوا بالخلق في الأعمال فأشركوهم بالخالق في الإخلاص فزاد عليهم الشرط تشديد الشدة دخولهم في المقت واعتل غيرهم بوصفه فخفف عنهم شرطين فقال عزّ وجلّ: (إلاّ الَّذين تَابُوا وأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) البقرة: 160 قوله تعالى تابوا أي رجعوا إلى الحق من أهوائهم، وأصلحوا يعني ما أفسدوا بنفوسهم، وبينوا فيها وجهان، أحدهما بينوا ما كانوا كتموا من الحق وأخفوا من حقيقة العلم وهذا لمن عصى بكتم العلم ولبس الحق بالباطل وقيل: بينوا توبتهم حتى تبيّن ذلك فيهم فظهرت أحكام التوبة عليهم، وقال في الشرطين الآخرين: (إنَّ الْمُنافِقينَ في الْدَّرْكِ الأسْفِل مِنَ الْنَّارِ وَلَنْ تجِدَ لَهُمْ نَصيراً) النساء: 145 (إلاَّ الَّذين تَابُوا وَأصْلَحُوا واعْتصمُوا باللهِ وأخْلصُوا دَيْنَهُم للهِ) النساء: 146، لأنهم كانوا يعتصمون بالناس وبالأموال وكانوا يراؤون بالأعمال فلذلك اشترط عليهم الاعتصام بالله والإخلاص لله عزّ وجلّ فينبغي أن تكون توبة كل عبد عن ضد معاصيه قليلاً بقليل أو كثيراً بكثير ويكون التائب على ضد ما كان أفسد ليكون كما قال الله تعالى: (إنا لا نُضيعُ أجْرَ الْمُصْلِحينَ) الأعراف: 170، ولا يكون العبد تائباً حتى يكون مصلحاً ولا يكون مصلحاً حتى يعمل الصالحات ثم يدخل في الصالحين. وقد قال الله تعالى: (وَهُو يَتَولَىّ الصَّالِحينَ) الأعراف: 196، وهذا وصف للتواب وهو المتحقق بالتوبة والحبيب لله تعالى كما قال تعالى: (إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ) البقرة: 222 أي يتولى الراجعين إليه من أهوائهم المتطهرين له من المكاره، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التائب حبيب الله، وسئل أبو محمد سهل: متى يكون العبد التائب حبيب الله تعالى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فقال: حتى يكون كما قال الله تعالى: (التَّائِبُون العابِدُونَ) التوبة: 112 الآية، ثم قال الحبيب: لا يدخل في شيء لا يحبه الحبيب، وقال: لا تصح التوبة حتى يتوب من الحسنات، وقد قال غيره من العارفين: العامة يتوبون من سيئاتهم والصوفية يتوبون من حسناتهم يعني من تقصيرهم في أدائها العظيم ما يشهدون من حق الملك العزيز سبحانه وتعالى المقابل بها ومن نظرهم إليها أو نظرهم إلى نفوسهم بها وهي منة الله تعالي إليهم واصلة، وكان سهل يقول: التوبة من أفضل الأعمال لأن الأعمال لا تصحّ إلا بها ولا تصحّ التوبة إلا بترك كثير من الحلال مخافة أن يخرجهم إلى غيره، والاستغفار قوت التّوابين ومفزع الخطائين، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: (اسْتَغْفِروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبوا إليهِ) هود: 52، وقال تعالى: (أفلا يَتُوبُون إلى الله ويستْغَفِرُونهُ) المائدة: 74 فابتدئ التوبة بالاستغفار وعقب الاستغفار بالتوبة، فالاستغفار مع الذنب سؤال الستر من الله تعالى ومغفرة الله تعالى لعبده في حال ذنبه ستره عليه وحلمه عنه ويقال: ما من ذنب ستره الله تعالى على عبده في الدنيا إلا غفره له في الآخرة، إن الله تعالى أكرم من أن يكشف ذنباً كان قد ستره وما من ذنب كشفه الله في الدنيا إلا جعل ذلك عقوبة عبده في الآخرة فالله أكرم من أن يثنى عقوبته على عبده. وروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما نحو ذلك وقد أسنداه من طريق الاستغفار بعد التوبة وهو سؤال العبد مولاه العفو عن المؤاخذة ومغفرة الله تعالى لعبده بعد التوبة تكفيره لسيئاته وتجاوزه عنها بالعفو الكريم وهو تبديل السيئات حسنات كما جاء في الخبر أن تفسير قول العبد: يا كريم العفو قال: هو إن عفا برحمته عن السيئات ثم بدلها بكرمه حسنات وقد أحكم الله تعالى ذلك بقوله: (فَاسْتَقيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) فصلت: 6 بعد قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ قالوا رَبُّنا الله ثم استقاموا تَتنزَّلُ عَليْهِمُ الْملائكِةُ ألاّ تخافُوا ولا تحْزنُوا) فصلت: 30، أي وحّدوا الله تعالى ثم استقاموا على التوحيد فلم يشركوا وقيل: استقاموا على السنة فلم يحدثوا وقيل: استقاموا على التوبة فلم يروغوا معها أن لا تخافوا عقاب الذنوب فقد كفرها عنكم بالتوحيد ولا تحزنوا على ما فاتكم من الأعمال فقد تداركها الله تعالى لكم بالتوبة وبلغكم منازل المحسنين بالاستقامة، ثم قال تعالى: (وَأبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعدُون) فصلت: 30 في السابق (نَحْنُ أوْلِياؤُكُمْ) فصلت: 31 أي نليكم ونقرب منكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالتثبيت لكم على الإيمان ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم أي أجسامكم من النعيم المقيم ولكم فيها ما تدّعون أي ما تمنون بقلوبكم من النظر إلى الملك الرحيم، وفي الخبر: التائب من الذنب كمن لا ذنب له والمستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بآيات الله تعالى: وكان بعضهم يقول: أستغفر الله من قولي أستغفر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 باللسان عن غير توبة وندم بالقلب، وفي بخبر: الاستغفار باللسان من غير توبة وندم بالقلب توبة الكذابين، وكانت رابعة تقول: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار فكم من توبة تحتاج إلى توبة في تصحيحها والإخلاص من النظر إليها والسكون والإدلال بها، فمن عقب السيئات بحسنات وخلط الصالحات بالطالحات طمع له في النجاة ورجا له الاستقامة قبل الوفاة، قال الله تعالى: (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وآخرَ سَيِّئاً عسى الله أنْ يَتُوب عَلَيْهِمْ) التوبة: 102 أي يعطف عليهم وينظر إليهم وقيل: خلطوا علملاً صالحاً هو الاعتراف بالذنوب والتوبة المستأنفة وآخر سيّئاً ما سلف من الغفلة والجهالة، وقد كان ابن عباس يقول: غفور لمن تاب رحيم حيث رخص في التوبة، وقد قال الله تعالى (وإنّي لَغفَّارُ لِمَنْ تابَ) طه: 82 أي من الشرك وآمن بالتوحيد وعمل صالحاً؛ أدّى الفرئض واجتنب المحارم ثم اهتدى كان على السنّة وقيل: استقام على التوبة فهذه صفات المؤمنين فلم يرّد الله تعالى المخلصين إلى ما ردّ إليه المنافقين وهو التوبة وكذلك ردّ إليها المشركين إذ لا طريق للكل إلا منها ولا وصول إلى المحبة والرضا إلا بها. وقال تعالى في وصف المنافقين: (وآخرون مُرْجَوْنَ لأمْرِ الله إمّا يُعَذِّبُهُمْ) التوبة: 106 أي مع الإصرار وإمّا يتوب عليهم أي بالاستغفار وأحكم ذلك وفصله بما شرط له، كما قال في شأن الكافرين: (فإن تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكاة فخلُّوا سبِيلهُمْ) التوبة: 5 وقد قرن الله تعالى الاستغفار للعبادة ببقاء الرسول لله في الأمة ورفع العذاب عنهم بوجوده فضلاًمنه ونعمة، وقال تعالى: (وما كان الله لِيُعَذِّبَهُمْ وأنت فيهم وما كان الله مُعَذِّبَهُمْ وهمْ يَستغفِرُون) الأنفال: 33، وكان بعض السلف يقول: كان لنا أمانان ذهب أحدهما وبقي الآخر، فإن ذهب الآخر هلكنا يعني الذي ذهب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي بقي الاستغفار، وسئل سهل رحمه الله عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال: أوّل الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة ثم التوبة فالاستجابة أعمال الجوارح والإنابة أعمال القلوب والتوبة إقباله على مولاه وترك الخلق، ثم يستغفر من تقصيره الذي هو فيه ومن الجهل بالنعمة وترك الشكر، فعند ذلك يغفر له ويكون عنده مأواه ثم ينقل إلى الانفراد ثم الثبات ثم البيان ثم القرب ثم المعرفة ثم المناجاة ثم المصافاة ثم الموالاة ثم محادثة السر وهو الخلّة، ولا يستقر هذا في قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه والذكر قوامه والرضا زاده والتفويض مراده والتوكل صاحبه، ثم ينظر الله تعالى إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش وكان يقول العبد لا بدّ له من مولاه على كل حال، وأحسن حاله أن يرجع إليه في كل شيء إذا عصي يقول: يا رب استر علي فإذا فرغ من المعصية قال: يا ربّ تبْ عليّ فإذا تاب قال يا ربّ ارزقني العصمة فإذا عمل قال: يا ربّ تقبّل مني، ومن أحسن ما يتعقب الذنب من الأعمال بعد التوبة وحلّ الإصرار مما يرجى به كفارة الخطيئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ثمانية أعمال: أربعة من أعمال الجوارح وأربعة من أعمال القلوب، فأعمال الجوارح أن يصلي العبد ركعتين ثم يستغفر سبعين مرة. ويقول: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة ثم يتصدق بصدقة ويصوم يوماً، وأعمال القلوب هي اعتقاد التوبة منه وحبّ الإقلاع عنه وخوف العقاب عليه ورجاء المغفرة له، ثم يحتسب على الله تعالى بحسن ظنه وصدق يقينه كفّارة ذنبه، فهذه الأعمال قد وردت بها الآثار، إنها المكفرة للزلل والعثار، وقد يشترط في بعضها فيتوضأ ويسبغ الوضوء ويدخل المسجد فيصلّي ركعتين وفي بعض الأخبار فيصلّي أربع ركعات، قال: ويقال إذا أذنب العبد أمر صاحب اليمين صاحب الشمال وهو أمير عليه أن يرفع القلم عنه ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبها عليه وإن لم يستغفر كتبها، ويقال صدقة الليل تكفّر ذنوب النهار وصدقة السرّ تكفّر ذنوب الليل، وفي بعض الأخبار إذا علمت سيئة فأتبعها حينة تكفرها السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية، وفي أخبار متفرقة جمعناها: ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما: يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا ويقول الآخر: ويا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا فيقول الآخر: ياليتهم إذ علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا، وفي بعضها: تجالسوا فتذاكروا ما علموا فيقول الآخر: ويا ليتهم إذ لم يعملوا بما علموا تابوا مما عملوا، فأول ما يجب لله عزّ وجلّ على عبده أن لا يعصيه بنعمه لئلا تكون معصيته كفراناً لنعمته وجوارح العبد وما له من نعم الله تعالى لأن قوام الإنسان بجوارحه وثبات جوارحه بالحركة ومنافع الحركة بالعافية، فإذا عصاه بالنعمة فقد بدلها كفراً، كما قال تعالى: (بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً) إبراهيم: 28 قيل: استعانوا بها على معاصيه ثم توعد على التبديل بالعقاب الشديد فقال: (ومَنْ يُبَدلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتّهُ فإنّ َ الله شديدُ الْعِقابِ) البقرة: 211، على تبديل النعمة بالمعصية معجلاً في الدنيا ويكون مؤجلاً في الآخرة. وقد يكون العقاب في أسباب الدنيا، وقد يكون في حرمان أسباب الآخرة لأنها مآله ومثواه، وقد يكون فيهما معاً، وقد تكون نفس المعصية بالنعمة عقوبة والجهل بالنعمة وتضييع الشكر عليها واستصغارها والسكون إليها والتطاول والتفاخر والتكابر بها كل هذه الأسباب عقوبات ثم يفترض على العبد إذا عصاه الرجوع إلى مولاه وهو التوبة عقيب وقوفه مع نفسه وهو موافقة الهوى بالخطيئة فتأخيره بالتوبة وإصراره على الذنب ذنبان مضافان إلى الخطيئة، فإذا تاب من ذنبه وأحكم التوبة منه اعتقد الاستقامة على الطاعة ودوام الافتقار إلى الله تعالى في العصمة ثم يتوب أبداً من الصغائر إلى الهمّ والتمني، ومن الخوف والطمع في المخلوق، وهي ذنوب الخصوص إلى الطرفة والنفس والسكون إلى شيء والراحة بشيء وهذه ذنوب المقربين حتى لا يبقى على العبد فيما يعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 مخالفة وحتى يشهد له العلم بالوفاء فتبقى حينئذ ذنوبه من مطالعة علم الله تعالى فيه لما أستأثر به عنه من علم غيبه يكاشفه به ومن معنى نفس العبودية وكون الخلقة عن تسليط الربوبية بوصفها وكبرها فيكون هذا الخوف مثوبة له لما فزع من علم نفسه إلى ما لا يمكن ذكره ولا يعرف نشره من ذنوب المقربين التي هي صالحات أصحاب اليمين لفقد مشاهدتها وللجهل بمعرفة مقاماتها عند العموم فيكون حال هذا المقرب الإشفاق من البعد في كل طرفة ونفس إلى وقت اللقاء والخوف من الإعراض والحجب في كل حركة وهم في هذه الدار إلى دار البقاء. وقد روينا في خبر غريب: إن الله عزّ وجلّ أوحى إلى يعقوب عليه السلام أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف، قال: لا، قال: لقولك لإخوته إني أخاف أن يأكله الذئب لم خفت عليه الذئب ولم ترجني له ولم نظرت إلى غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظي له فهذا معنى قول يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قال الله تعالى: (فأنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكرَ رَبِّهِ فَلبِثَ في السِّجْنِ بَضْعَ سِنينَ) يوسف: 42، فهذا مما يعتب على الخصوص من خفي سكونهم ولمح نظرهم إلى ما سوى الله تعالى وإنما حرم بعض التابعين ذلك المزيد ولم يجدوا حلاوة التوبة لتهاونهم بحال الرعاية وتسامحهم بترك حسن القيام بشاهد المراقبة وذلك يكون من قلة أحكام أمر التوبة ولو قاموا بحكم التوبة من الذنب الواحد وأحكموا حال توّاب من الصادقين في التوبة لم يعدموا من الله تعالى المزيد لأنهم محسنون فهم في تجديد، قال الله تعالى: (سَنَزيدُ الْمُحْسِنينَ) البقرة: 58 فإذا رآك مستقيماً على التوبة عاملاً بالصالحات ولم تجدك على مزيد من مبرّات بوجد حلاوة أو حسن خليقة أو عروض زهد أو خاصية معروفة فارجع إلى باب المرقبة أو موقف الرعاية فتفقدهما وأحكم حالهما فمن قبلهما أتيت، وقال بعض العلماء: من تاب من تسعة وتسعين ذنباً ولم يتب من ذنب واحد لم يكن عندنا من التائبين ولا تغفلن عن التفقد وتجديد التوبة إدبار الصلوات فإنما دخل الخسران على العمال من حيث لا يعلمون من تركهم التفقد ومحاسبة النفس وبمسامحتها مما يعملون، واعلم أن حقيقة كل ذنب عشرة أعمال لا يكون العبد توّاباً يحبه الله تعالى ولا تكون توبته نصوحاً التي شرطها الله تعالى وفسرتها النبوّة إلا أن يحكم العبد عشر توبات من كل ذنب أولها ترك العود إلى فعل الذنب ثم يتوب من القول به ثم يتوب من الاجتماع مع سبب الذنب ثم التوبة من السعي في مثله ثم التوبة من النظر إليه ثم التوبة من الاستماع إلى القائلين به ثم التوبة من الهمة ثم التوبة من التقصير في حق التوبة ثم التوبة من أن لا يكون أراد وجه الله تعالى خالصاً بجميع ما تركه لأجله ثم التوبة من النظر إلى التوبة والسكون إليها والإدلال بها ثم يشهد بعد ذلك تقصيره عن القيام بحق الربوبية لعظيم ما يشهد بالمزيد من الإشراف على التوحيد من كبير جلال الله تعالى وعظم كبريائه فتكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 توبته بعد ذلك من تقصيره عن القيام بحقيقة مشاهدته ويكون استغفاره لما ضعف قلبه ونقص همّه عن معاينة مشاهدة لعلوّ مقامه ودوام فريدة وإعلامه ولا نهاية لتوبة العارف ولا لغاية وصفه لما هو عليه عاكف ولا وصف محتمل ذكر دقيق بلائه ولا يكبر عن التوبة نبي فمن دونه ولكل مقام توبة ولكل حال من مقام توبة ولكل مشاهدة ومكاشفة توبة فهذا حال التائب المنيب الذي هو من الله تعالى مقرب وعنده حبيب وهذا مقام مفتن توّاب أي مختبر بالأشياء مبتلى بها توّاب إلى الله تعالى منها لينظر مولاه أينظر بقلبه إليه أو إليها أو يعتكف بهمته عليه أو عليها أو يطمئن إليه بوجودها أو إليها أو يطلب إياه هرباً منها أو إياها فعليه لكل مشاهدة لسواه ذنب وعليه في كل سكون إلى سواه عتب كما له في كل شهادة علم ومن كل إظهار في الكون حكم بذنوبه لا تحصى وتوباته إلى الله تعالى لا تستقصى، فهذه حقيقة التوبة النصوح وصاحبها مسلم وجهه لله تعالى محسن من نفسه مستريح ودينه عند الله تعالى مستقيم ومقامه وحاله من الله تعالى سليم. وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله يحبّ كل مفتن توّاب، واعلم أن الذنوب على سبعة ضروب بعضها أعظم من بعض، كل ضرب منها مراتب في كل مرتبة من المذنبين طبقة منها معاصٍ يعتلّ بها العبد من معاني صفات الربوبية مثل الكبر والفخر والجبرية وحبّ الحمد والمدح ووصف العزّ والغنى، فهذه مهلكات وفيها من العموم طبقات ومعاصي تكون من معاني أخلاق الشياطين مثل: الحسد والبغي والحيلة والخداع والأمر بالفساد، فهذا موبقة وفيها من أهل الدنيا طبقات ومعاصي تكون من ضد السنّة وهو ما خالفها إلى بدعة والأحداث المبتدعة وهي كبائر منها ما يذهب الإيمان وينبت النفاق، وست من كبائر البدع، وهي تنقل عن الملة: وهي القدرية والمرجئة الرافضية والإباضية والجهمية والشاطحون من المغالطين وهم الذين لا يقولون بخلق ولا رسم ولا حكم في تعدّي الحدود ومجاوزات العلم فهم زنادقة هذه الأمة ومعاصٍ متعلقة بالخلق من طريق المظالم في الدين والإلحاد بهم عن طريق المؤمنين، وهو ما أضلّ به عن الهدى وأزاغ به عن السنن وحرّفه من الكتاب وتأوّله من السنّة ثم أظهر ذلك ودعا إليه فقبل منه وأتبع عليه. وقد قال بعض العلماء: لا توبة لهذه المعاصي كما قال بعضهم في القاتل: لا توبة له للأخبار بثبوت الوعيد وحقّ القول عليه، والضرب الخامس من المعاصي ما تعلّق بمظالم العباد في أمر الدنيا مثل ضرب الإنسان وشتم الأعراض وأخذ الأموال والكذب والبهتان، فهذه موبقات ولا بد فيها من القصاص للموافقة بين يدي الحاكم العادل والقطع منه بقضاء فاصل إلا أن يقع استحلال أو يستوهبها الله عزّ وجلّ من أربابها في المآل بكرمه ويعوض المظلومين عليها من جنابه بجوده، وقد جاء في الخبر: الدواوين ثلاثة: ديوان يغفر، وديوان لا يغفر، وديوان لا يترك، فأما الديوان الذي يغفر فذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى وأما الديوان الذي لا يغفر فالشرك بالله تعالى وأما الديوان الذي لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 يترك فمظالم العباد أي لا يترك المطالبة به والمؤاخذه عليه، والضرب السادس من الذنوب ما كان بين العبد وبين مولاه من نفسه إلى نفسه متعلّق بالشهوات والجري في العادات وهذه أخفها وإلى العفو أقربها، وهذه على ضربين كبائر وصغائر، فالكبائر ما نصّ عليه بالوعيد وما وجبت فيه الحدود، والصغائر دون ذلك إلى نطرة وخطرة والتوبة النصوح تأتي على الجميع ذلك بعموم قوله تعالى: (فتاب عليكم وعفا عنكم) وبإخباره عزّ وجلّ عن حكمه إذ يقول: ثم تاب عليهم ليتوبوا، وبظاهر قوله تعالى (إنَّ الَذين فَتَنُوا المُؤْمنينَ والْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) البروج: 10، ومثله: (ثُمَّ إنَّ رَبَّك لِلَّذينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) النحل: 110 إلى قوله: (إنَّ رَبَّك مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحيمٌ) النحل: 110 هكذا قراءة أهل الشام بنصب الفاء والتاء ولأن البغية من التوبة إذا كانت غفران الذنب والزحزحة عن النار ونحن لا نرى أبدية الوعيد على أهل الكبائر بل نجعلهم في مشيئة الله ونجوز تجاوز الله تعالى عنهم في أصحاب الجنة، كما جاء في الخبر في تفسير قوله تعالى: (فَجَزاؤهُ جَهَنَّمُ خالدِاً فِيها) النساء: 93، أي إن جازاه، وكما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من وعده الله تعالى على عمل ثواباً فهو منجزه له ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وكما قال ابن عباس رضي الله عنه: يغفر لم يشاء الذنب العظيم ويعذّب من يشاء على الذنب الصغير، وقد قال الله تعالى: (إنَّ الله لا يغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلك لمِنْ يشاءُ) النساء: 48، فلم يجد للمغفرة ذنباً غير الشرك وترك المسلمين مع سائر الذنوب في مشيئته فقد يحتج محتج بالخبر المأثور في ترك قبول توبة المبتدع إن الله تعالى احتجر التوبة على كل صاحب بدعة فهذا مخصوص لمن لم يتب ممّن حكم عليه بدرك الشقاء، ألا ترى أنه لم يقل إن الله تعالى احتجر قبول التوبة عمّن تاب إنما أخبر عن حكم الله تعالى فيمن لم يتب بأن الله تعالى حجب التوبة عنه، فهكذا نقول أيضاً: إن القاتل إذا كان قد سبق له سوء الخاتمة بأنه يموت على غير توحيد، وكذلك المبتدع إن جعل اسمه في أصحاب النار ثم كان القتل والبدعة علامة ذلك وسببه أنهما جميعاً ممنوعان من التوبة فإنها محتجرة عنهما، سورة وكذلك القول فيمن حقْت عليه كلمة العذاب بسبق سوء الخاتمة فلو أنه تاب سبعين توبة لم تنقذه من النار وليست توبته بأكثر من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة حتى يقول الناس: إنه من أهلها ولا يبقى بينه وبينها إلا شبر ثم يدركه الشقاء. وفي لفظ آخر: ثم يسبق عليه الكتاب بعمل أهل النار فيدخلها فقد دخلت التوبات في صالح أعماله الحسنات ثم أحبطها عنه في جملة عمله بسبق الكتاب بالشقاء له، وأما من لم يسبق له سوء الخاتمة ووهب له التوبة النصوح ولم يدركه الشقاء فإنها لم تحتجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 عنه وإن الله تعالى يعفو عنه بما وهب له من التوبة كقوله تعالى في المنافقين: (إمَّا يُعَذِّبُهُمّ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) التوبة: 106، وليس النفاق دون البدعة ولا كل المنافقين تاب عليهم ولا جميعهم ختم لهم به، ولعموم قوله تعالى: (فَتابَ عَلَيْكُمْ وعفا عنْكمْ) البقرة: 187، فهذا مجمل فيمن تاب والخبر مخصوص فيمن لم يتب، ولقوله تعالى: (ثُمَّ تابَ عليْهِم لِيتُوبُوا) التوبة: 118، ولقوله تعالى: (عسى الله أن يَتُوبَ علَيْهِمْ إنَّ الله غفورٌ رَحيمٌ) التوبة: 102، ثم إن الناس في التوبة على أربعة أقسام، في كل قسم طائفة، لكل طائفة مقام، منهم: تائب من الذنب مستقيم على التوبة والإنابة لا يحدث نفسه بالعود إلى معصية أيام حياته مستبدل بعمل سيئاته صالح حسناته، فهذا هو السابق بالخيرات وهذه هي التوبة النصوح ونفس هذا المطمئنة المرضية، والخبر المروي في مثل هذا سيروا سبق المفردون المستهترون بذكر الله وضع الذكر أوزارهم فوريوا القيامة خفافاً والذي يلي هذا في القرب عبد عقده التوبة ونيّته الإستقامة لا يسعى في ذنب ولا يقصده ولا ينجوه ولا يهتم به وقد يبتلي بدخول الخطايا عليه عن غير قصد منه ويمتحن بالهم واللمم، فهذا من صفات المؤمنين يرجى له الاستقامة لأنه في طريقها وهو ممّن قال الله تعالى: (يَجْتَنِبُونَ كبائِرَ الإثْمِ والْفَواحشِ إلاَّ اللَّممَ إنَّ ربَكَ واسِعُ الْمغفرةِ) النجم: 32 وداخل في وصف المتقين الذين قال الله تعالى فيهم: (والَّذين إذا فَعَلُوا فاحِشةَ أو ظلمُوا أنْفُسَهُمْ) آل عمران: 135 الآية، ونفس هذا هي اللوّامة التي أقسم الله تعالى بها وهو من المقتصدين وهذه الذنوب تدخل على النفوس من معاني صفاتها وغرائز جبلاتها وأوائل أنسابها من نبات الأرض وتركيب الأطوار في الأرحام خلقاً بعد خلق ومن أختلاط الأمشاج بعضها ببعض ولذلك عقبه تعالى بقوله: (هُو أعْلمُ بِكُمْ إذْ أنْشأكُمْ مِنَ الأرضِ وإذ أنْتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهاتِكمُ) النجم: 32 الآية، فلذلك نهى عن تزكية النفس المنشأة من الأرض والمركبة في الأرحام بالأمشاج للاعوجاج فقال تعالى: (فلا تُزكُّوا أنْفُسكُمْ) النجم: 32 أي فهذا وصفها عن بدء إنشائها وكذلك وصف مشيج خليقته بالابتلاء في قوله: (إنَّا خلقْنا الإنسان مِنْ نُطْفَةِ أمشاجٍ نَبْتليهِ فجعلْناهُ سميعاً بصيراً) الإنسان: 2، شوح هذا يطول ويخرج إلى علم تركيبات النفوس ومجبول فطرتها. وقد ذكرنا أصوله في بعض الأبواب من هذا الكتاب: وفي مثل هذا العبد معنى الخبر الذي جاء المؤمن مفتن توّاب والمؤمن كالسنبلة تفيء أحياناً وتميل أحياناً فإزراء هذا العبد على نفسه ومقته لها عن معرفته بها وترك نظره إليه وسكونه إلى خير إن ظهر عليها يكون من كفارات ذنوبه لأنه من تدبر الخطاب في قوله تعالى: (فلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُو أعْلمُ بِمَنِ اتَّقى) النجم: 32، والعبد الثالث هو الذي يقرب من هذا الثاني في الحال عبد يذنب ثم يتوب ثم يعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 إلى الذنب ثم يحزن عليه بقصد له وسعي فيه وإيثاره إياه على الطاعة، إلا أنه يسوّف بالتوبة ويحدث نفسه بالاستقامة ويحب منازل التوابين ويرتاح قلبه إلى مقامات الصديقين ولم يأن حينه ولا ظهر مقامه لأن الهوى يحركه والعادة تجذبه والغفلة تغمره إلا أنه يتوب خلال الذنوب ويعاود لتقدم المعتاد فتوبة هذا فوت من وقت إلى وقت ومثله ترجى له الاستقامة لمحاسن عمله وتكفيرها لسالف سيئته وقد يخاف عليه الانقلاب لمداومة خطئه ونفس هذا هي المسوّلة وهو ممّن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليه فيستقيم فيلحق بالسابقين فهذا بين حالين، بين أن يغلب عليه وصف النفس فيحق عليه ما سبق من القول وبين أن ينظر إليه مولاه نظرة تجبر له كلّ كسر ويغنى له كل فقر فيتداركه بمنّة سابقة فتلحقه بمنازل المقرّبين لأنه قد سلك طريقهم بفضله ورحمته ونيته الآخرة، والعبد الرابع أسوأ العبيد حالاً وأعظمهم على نفسه وبالاً وأقلهم من الله نوالاً عبد يذنب ثم يتبع الذنب مثله أو أعظم منه ويقيم على الإصرار ويحدث نفسه به متى قدر عليه ولا ينوي توبة ولا يعقد استقامة ولا يرجو وعداً بحسن ظنّه ولا يخاف وعيداً لتمكّن أمنه، فهذا هو حقيقة الإصرار ومقام بين العتو والاستكبار، وفي مثل هذا جاء الخبر: هلك المصرّون قدماً إلى النار ونفس هذا هي الأمّارة وروحه أبداً من الخير فرّارة ويخاف على مثله سوء الخاتمة لأنه في مقدماتها وسالك طريقتها ولا يبعد منه سوء القضاء ودرك الشقاء ولمثل هذا قيل من سوف الله تعالى بالتوبة أكذبه وأن اللعنة خروج من ذنب إلى أعظم منه، وهذه الطائفة في عموم المسلمين، وهم في مشيئة الله من الفاسقين، كما قال تعالى: (مُرْجَوْنَ لأمْرِ الله) التوبة: 106 أي مؤخرون لحكمه إما يعذبهم بالإصرار وإما يتوب عليهم بما سبق من حسن الاختيار نعوذ بالله تعالى من عذابه ونسأله نعيماً من ثوابه، وهذا آخر كتاب التوبة. شرح مقام الصبر ووصف الصابرين وهو الثاني من مقامات اليقين قد جعل الله عزّ وجلّ الصابرين أئمة المتقين وتمّم كلمته الحسنى عليهم في الدين فقال تعالى: (وجَعَلْناهمْ أئِمَةً يَهْدُونَ بأمْرِنا) الأنبياء: 73 لما صبروا، وقال تعالى: (وتَمَّتْ كلمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى على بني إسْرائيل بِما صَبَرُوا) الأعراف: 137، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وقال المسيح عليه السلام: إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون، وقال بعض الصحابة: ماذا جعل الله تعالى من الشقاء والفضل في التقى والصبر، وقال ابن مسعود: الصبر نصف الإيمان، وقد جعل علي كرم الله وجهه الصبر ركناً من أركان الإيمان وقرنه بالجهاد والعدل والإيقان فقال: بني الإسلام على أربع دعائم، على اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل، وقال عليّ كرم الله وجهه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد لا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له، ورفع رسول الله: الصبر في العلو والفضل إلى مقام اليقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وقرنه به، وكذلك قال تعالى: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا لِمَّا صبَرُوا وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُونَ) السجدة: 24، وأخبر النبي لله: إن من أوتي نصيبه منهما لم يسأل ما فاته، وأخبر عليه السلام: إن الصبر كمال العمل والأجر، فقال في حديث يرويه شهر بن حوشب الأشعري عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أقلّ ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار ولأن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحبّ إليّ من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضاً وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه،، ثم قرأ ما عندكم ينفد وما عند الله باق وليجزينّ الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. وفي حديث ابن المنكدر عن جابر قال: سئل رسول الله عن الإيمان فقال الصبر والسماحة، وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: (أُولئكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمّ مرَّتَيْنِ بِما صبَرُوا) القصص: 54، وقال عزّ وجلّ: (إِنَّما يُوفَّى الصَّابِرون أجْرََهُمّ بِغيْرِ حِسابٍ) الزمر: 10 فضاعف أجر الصابرين على كلّ عمل ثم رفع جزاء الصبر فوق كلّ جزاء فجعله بلا نهاية ولا حدّ فدلّ ذلك أنه أفضل المقامات وجمع للصابرين ثلاثاً فرقها على جمل أهل العبادات، الصلاة، والرحمة، والهدى بعد البشارة في الآخرة والعقبى، وكان عمر رضي الله عنه يقول: نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين، يعني بالعدلين الصلاة والرحمة وبالعلاوة الهدى، والعلاوة ما يعلى به فوق الحملين على البعير فيكون كعدل ثالث، وقد أخبر الله تعالى أنه مع الصابرين، ومن كان الله تعالى معه غلب، كما أن من كان معه علا، فقال تعالى: (واصْبِرُوا إنَّ الله مع الصَّابِرينَ) الأنفال: 46، كما قال الله عزّ وجلّ: (وأنْتُمُ الأعلوْنَ والله معكُمْ) محمد: 35 واشترط الصبر لإمداده بجنده ولنصرة تأييده بقوله تعالى: (بلى إنّ تصْبِرُوا وتتَّقوا ويأْتُونكُمْ منْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسةِ آلافِ من الملائكةِ مُسَوِّمينَ) آل عمران: 125، وكان سهل يقول: الصبر تصديق الصدق وأفضل منازل الطاعة الصبر على المعصية ثم الصبر على الطاعة، وقال في معنى قوله عزّ وجلّ: (اسْتَعِنُوا بِالله وَاصْبِروُا) الأعراف: 128 أي استعينوا بالله على أمر الله، وأصبروا على أدب الله، وقال: لم يمدح الله تعالى أحداً إلا من صبر للبلاء والشدة فبذلك يثني عليه، وكان يقول: الصالحون في المؤمنين قليل، والصادقون في الصالحين قليل، والصابرون في الصادقين قليل، فجعل الصبر خاصيّة الصدق وجعل الصابرين خصوص الصادقين، وكذلك الله تعالى وهو أصدق القائلين، قد رفع الصابرين على الصادقين في ترتيب المقامات، فجعل الصبر مقاماً في الصدق إن كانت الأوصاف المنسوقة نعتاً واحداً للمسلمين، وكانت الواو للمدح وإن كانت مقامات فالواو للترتيب، فقد جعل الله الصابرين فوق الصادقين والقانتين أعني في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 قوله تعالى: (إنَّ الْمُسْلمِينَ وَالْمُسْلِماتِ والْمُؤمنينَ والْمُؤمِنَاتِ) الأحزاب::35 الآية، وفي حديث عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأنصار قال: أمؤمنون أنتم؟ فسكتوا فقال عمر رضي الله عنه: نعم يا رسول الله قال: وما علامة إيمانكم؟ قال: نشكر في الرخاء ونصبر على البلاء ونرضى القضاء فقال: مؤمنون: ورب الكعبة، والصبر ينقسم على عملين، أحدهما لا صلاح للدين إلا به، والثاني هو أصل فساد الدين، ثم يتنوع الصبر فيكون صابراً على الذي فيه صلاح الدين فيكمل به إيمانه ويكون صابراً عن الذي فيه فساد الدبن فيحسن به يقينه. روينا في معنى هذا عن عليّ رضي الله عنه: أنه لما دخل البصرة واستاقم له الأمر دخل جامعها فجعل يخرج القصّاص ويقول القصص بدعة، فانتهى إلى حلقة شاب يتكلم على جماعة فأستمع إليه فأعجبه كلامه فقال: يا فتى أسألك عن شيئين فإن خرجت منهما تركتك تتكلم على الناس وإلا أخرجتك كما أخرجت أصحابك، فقال: سل يا أمير المؤمنين فقال: أخبرني ما صلاح الدين وما فساده؟ قال: صلاحه الورع وفساده الطمع قال: صدقت تكلم فمثلك يصلح أن يتكلم على الناس، يقال: إن هذا الشاب هو إمامنا في هذا العلم وهو إمام الأئمة الحسن بن يسار مولى الأنصار البصري، وكان ميمون بن مهران يقول: الإيمان والتصديق والمعرفة والصبر واحد، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: دروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر، وأعلم أن الورع أول الزهد وهو أول باب من أبواب الآخرة والطمع أوّل الرغبة، وهو باب كبير من أبواب الدنيا، وهو استشعار الطمع من حبّ الدنيا، وحبّ الدنيا رأس كل خطيئة، ويقال: أول معصية عصى الله تعالى بها الطمع، وهو أن آدم عليه السلام طمع في الخلود فأكل من الشجرة التي نهى عنها وإبليس طمع في إخراج آدم عليه السلام من الجنة فوسوس إليه فاتفقا في إسم المعصية لربهما تعالى بالطمع، ثم افترقا في المطموع فيه وفي الحكم، فتدورك آدم عليه السلام بحسن سابقته من الله تعالى وهلك إبليس بما سبق عليه من الشقوة ولاطمع هو تصديق الظن، ولذلك وصف الله تعالى به عدوه في قوله تعالى: (ولقد صدَّق عَلَيْهِمْ إبليسُ ظَنَّهُ) سبأ: 20، والظنّ ضد اليقين ولا يغني من الحق شيئاً، وقال الله تعالى في وصف المشركين: (إنْ نَظُنُّ إلا ّظنًّا وما نَحْنُ يِمُسْتَيْقِنين) الجاثية: 32، فمن صبر عن الطمع في الخلق أخرجه الصبر إلى الورع ومن صبر عن الورع في الدين أدخله الصبر في الزهد ومن طمع في تصديق الظنّ الكاذب أدخله الطمع في حبّ الدنيا، ومن استشعر حبّ الدنيا أخرجه حبها من حقيقة الدين. وقد قال بعض العلماء: ما كنا نعدّ إيمان من لم يؤذ فيحتمل الأذى ويصبر عليه إيماناً وقد فعل الله تعالى ذلك بالمؤمنين اختباراً وأخبر أن ذلك ليس منه عذاباً وإنما هو فتنة لمن أراد فتنته وبلاءه من الناس، فصار ذلك فتنة عليهم وابتلاء لهم وصار رحمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 للمؤذي وخيراً في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله فإذا أُوذِي في الله جعل فِتْنَةَ النَّاسِ كعذابِ الله) العنكبوت: 10 له، يعني فتنة الناس به كعذاب الله تعالى يعني إياه أي ليس ذلك عذاباً مني إنما هو رحمة باطنة فهو كقوله تعالى: (وَأَمَّا إذا ما ابتْلاهُ فَقدرَ عليْهِ رِزْقَهُ فيقُول ربّي أهانِنِ) (كَلاّ) سورة الفجر: 16 - 17 أي لم أهنك بالفقر كما لم أكرم الآخر بالإكرام والتنعيم وعلى معنى هذا خاطب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر الذي أمره به فقال تعالى: (اصبِر على ما يَقُولونَ واذْكُرْ عَبْدنا داوُد) ص: 17 فسلاه به وفضله عليه. وقد روينا في خبر: يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله تعالى جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له: أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر؟ فيقول: نعم يا رب فيقول الله تعالى: كما أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر عليه فيعطي أضعاف جزاء الشاكرين، وكتب ابن أبي نجيح يعزي بعض الخلفاء فقال في كتابه: إن أحقّ من عرف حقّ اللهّ فيما أخذ منه من عظم حقّ الله تعالى عنده فيما أبقى، واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك والباقي بعدك هو المأجور فيك، واعلم أن أجر الصابرين فيما يصابون فيه أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون به، وفي الأخبار: ما من عبد إلا يعطى أجره بحساب وحدّ إلا الصابرين فإنهم يجازفون مجازفة بغير ميزان ولا حدّ، وجاء في الخبر أن أبواب الجنة مصراعان يأتي عليها زحام كثير إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد لا يدخل منه إلا الصابرون أهل البلاء في الدنيا، واحد بعد واحد. وقد قال الله تعالى في جزاء المخلصين: (أولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) الصافات: 41، وقال تعالى في جزاء الصابرين (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرون أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الزمر: 10، قيل في التفسير: يغرف لهم غرفاً، المعنى في ذلك أن الصبر أشق شيء على النفس وأكرهه وأمرّه على الطبع وأصعبه فيه الألم والكظم عند الذل والحلم ومنه التواضع والكتم وفيه الأدب وحسن الخلق وبه يكون كفّ الأذى عن الخلق واحتمال الأذى من الخلق، وهذه من عزائم الأمور التي يضيق منها أكثر الصدور وفيه إكراه النفوس وحملها على الشدة والبؤس، وقد جاء أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس، ولأجل ذلك اشترط الله تعالى على المّتقين والصادقين الصبر في الشدائد والمكاره وحقق بالصبر صدقهم وتقواهم وأكمل به وصفهم وأعمال برّهم فقال تعالى: (والصّابِرينَ في الْبَأْساءِ والضَّرَّاءِ وحينَ الْباسِ أُولئكَ الَّذين صدقُوا وأُولئكَ هُمُ الْمُتَّقُون) البقرة: 177، فمعنى الصبر حبس النفس عن السعي في هواها وحبسها أيضاً عن مجاهدتها لمرضاة مولاها بمثل ما يوجب المجاهدة على قدر ما يبتلي به العبد لأن المجاهدة على قدر البلاء والحبس عن نحو الشرود وحبسها على دوام الطاعة وصبرها عن شره الطبع الذي يظهر سوء الأدب بين يدي الربّ سبحانه وتعالى وصبرها على حسن الأدب في المعاملة، ثم يتفرع الصبر إلى معانٍ شتى: من الصبر عن تفاوت الأهواء والصبر على الثبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 في خدمة المولى فمن ذلك ما توجب المجاهدة صرف الهمة عنه وتطهير القلب منه من خطرات الهوى ونزعات الأعداء وتزيين الدنيا، ومن الآفات ما يوجب الصبر كفّ الجوارح عنها وحبس النفس عن المشي فيها، ومن الصبر حبس النفس على الحقّ وعكوفها عليه بمعاملة اللسان والقلب والجسم، وبذلك؛ وصف الله تعالى المؤمنين الذين يعملون الصالحات واشترط لصلاح أعمالهم الصبر وأخبر أن الناس كلهم في خسران إلا من كان من أهل الحق والصبر وعظم الصبر فأفرده بإعادة التواصي به، ومن الصبر حبس النفس على عبادة الخالق سبحانه وتعالى، وصبرها على القناعة وعلى صنع الرازق، ومن الصبر كفّ الأذى عن الخلق، وهو مقام العادلين يدخل في قوله تعالى: (إنَّ الله يأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسانِ) النحل: 90، ثم احتمال الأذى عن الخلق وهو مقام المحسنين يدخل في قوله: والإحسان، ومن الصبر الصبر على الإنفاق وإعطاء أهل الحقوق حقوقهم الأقرب فالأقرب وهذا مقام المنفقين يدخل في قوله تعالى: (وإيتاء ذِي الْقُربى وينْهى عَنِ الْفحشاءِ والْمُنْكَرِ والْبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) النحل: 90 ومنه الصبر على الفحشاء وهو الأمر الفاحش في العلم والإيمان والصر عن المنكر وهو ما أنكره العلماد، والصبر عن البغي وهو التطاول والغلوّ ومجاوزة الحدّ بالكبر والإسراف في أمور الدنيا، فهذه الآية كلها جامعة لمعنى الصبر وهي قطب القرآن، ثلاث منها وهي الأول الصبر على العدل والإحسان والإعطاء، وثلاث منها الصبر عن الفحشاء والمنكر والبغي. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: أجمع آية في كتاب الله عزّ وجلّ لأمر ونهي هذه الاية، وقال الله تعالى: (وَنِعِمْ أَجْرُ الْعامِلينَ) آل عمران: 136 الذين صبروا فما أنعم أجرهم حتى وصفهم بالصبر وما أكرم رزقهم ووصفهم حتى مدحهم بالصبر، والصبر يحتاج إليه قبل العلم، ومعه وبعده، يحتاج في أول العمل أن يصبر على تصحيح النّية وعزم العقود والوفاء بها حتى تصحّ الأعمال لأن النبيّ عليه السلام قال: إنما الأعمال بالنيات ولكلّ امرئ ما نوى، وقال الله تعالى: (وما أُمِرُوا إلاَّ لِيعْبُدوا الله مُخْلِصينَ لهُ الدين) البينة: 5، وحقيقة النيّة الإخلاص ولأن الله تعالى قدّم الصبر على العمل فقال تعالى: (إلاَّ الَّذينَ صبَرُوا وعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجرٌ كَبيرٌ) هود: 11، والصبر: التأني في العمل حتى يتم ويعمل لقوله تعالى: (وَنِعَمْ أجْرُ الْعَامِلينَ) آل عمران: 136 الذين صبروا، والصبر بعد العمل هو الصبر على كتمه وترك التظاهر به والنظر إليه ليخلص من السمعة والعجب فيكمل ثوابه كما خلص من الرياء، كما قال الله تعالى: (أطيعُوا الله وأطيعُوا الرَّسُولَ ولا تُبْطِلوا أعمالَكُمْ) محمد: 33 وقال تعالى في مثله: (لا تُبْطِلُوا صدقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأذى) البقرة: 264، وقال بعض السلف لا يتمّ المعروف إلا بثلاث: تعجيله، وتصغيره، وكتمه، ومن الصبر حبس النفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 عن المكافأة والصبر على الأذى توكلاً على المولى عزّ وجلّ، ومنه قوله تعالى: (وَلنَصْبِرنَّ على ما آذَيْتُمُونا وعلى الله فلْيَتوكَّل الْمُتَوكِّلُونَ) إبراهيم: 12 وهذا صبر الخصوص ومنه قال بعض أهل المعرفة: لا يثبت للعبد مقام في التوكل حتى يؤذى ويصبر على الأذى، وقد ذكر الله تعالى ذلك في قوله عزّ وجلّ: (وَدَعْ أزَاهُمْ وتوَكَّلْ على الله) الأحزاب: 48، وفي قوله تعالى: (فاتَّخِذْهُ وكيلاً) (وَاصْبرْ على ما يَقُولونَ) المزمل: 9 - 10 وهذا هو أوّل الرضا، والمقام الثاني من الرضا: هو الصبر على الأحكام وهو صبر أهل البلاء الأمثل فالأمثل بالأنبياء لقوله: نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل، ولقوله تعالى في المجمل: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 المدثر: 7، ثم فسرّه في الكلام المفسرّ، وأصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا، ومن الصبر حبس النفس على التقوى، والتقوى اسم جامع لكلّ خير، فالصبر معنى داخل في كل برّ فإذا جمعهما العبد فهو من المحسنين وما على المحسنين من سبيل، ومنه قوله تعالى: (إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرْ فإنَّ الله لا يضيعُ أجْرَ الْمُحْسنينَ) يوسف: 90 وقال تعالى: (لَتُبْلوُنَّ في أموالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ولَتسْمَعُنَّ مِن الَّذين أُوتُوا الكتابَ مِنْ قبلكمْ ومن الَّذين أشرْكوا أذىً كثيراً وإن تَصبِرُوا وتتَّقُوا فإنَّ ذلك مِنْ عَزْم الأُمورِ) آل عمران: 186 أي إن تصبروا على الأذى عن المكافأة وتتقوا عند الابتلاء والمكاره ولا تجاوزوا فإنه أفضل كما قال تعالى: (وإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل ما عُوقِتْتُمْ بهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خيْرٌ للصّابرينَ) النحل: 126، وقوله تعالى: (ولمنَِ انْتصَر بَعْد ظُلمهُ فأُولئكَ ما عَليْهِمْ من سبيلٍ) الشورى: 41 ثم قال عزّ وجلّ: (وَلَمَنْ صبرَ وغَفرَ إنَّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) الشورى: 43، قال: فالأول أعني المكافأة والانتصار بالحق من العدل والعدل حسن، والثاني أعني العفو والصبر من الفضل وهو الإحسان وهذا مجاز قوله تعالى: (الَّذين يَسْتَمِعُون الْقَول فَيَتَّبِعُونَ أحْسنهُ أُولئكَ الَّذين هداهُمُ الله وأُولئكَ هم أولُوا الألْبَابِ) الزمر: 18، فاستماع القول هو العدل والعدل حسن وهو الانتصار والعفو أحسن وفيه المدح بالهدى والعقل، وهذا هو مقام المخبتين قيل: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا فالمدح بالوصف لأهل هذا المقام هو الإخبات وهو الخشوع والطمأنينة بحسن الجزاء من الله سبحانه وتعالى في الآخرة لقرب اللقاء وسرعة فناء الدنيا أمدح كما قال تعالى: (وإنَّ السَّاعَة لآتِيَةٌ فاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَميلَ) الحجر: 85، والتقوى والصبر معينان أحدهما منوط بالآخر لا يتم كل واحد منهما إلا بصاحبه فمن كانت التقوى مقامه كان الصبر حاله فصار الصبر أفضل الأحوال من حيث كان التقوى أعلى المقامات إذ الأتقى هو الأكرم عند الله تعالى، والأكرم على الله تعالى هو الأفضل، وقد شرف الله تعالى الصبر بأن أضافه إليه بعد الأمر به فقال: (وَاصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ بِالله) النحل: 127 وقال تعالى: (وَلِربَِّكَ فاصْبِرْ) المدثر: 7 وإن كان كل شيء به وكل عمل صالح له ولا يصف الله تعالى عبداً ولا يثني عليه حتى يبتليه فإن صبر وخرج من البلاء سليماً مدحه ووصفه وإلا بين له كذبه ودعواه، وقيل لسفيان الثوري رضي الله عنه: ما أفضل الأعمال قال الصبر عند الابتلاء. وقال بعض العلماء: وأي شيء أفضل من الصبر وقد ذكره الله تعالى في كتابه في نيف وتسعين موضعاً ولا نعلم شيئاً ذكره الله تعالى هذا العدد إلا الصبر فلا يطمعنّ طامع في مدح الله له وحسن ثنائه عليه قبل أن يبتليه فيصبر له ولا يطمعنّ أحد في حقيقة الإيمان وحسن اليقين قبل أن يمدحه الله تعالى ويثني عليه، ولو أظهر الله تعالى على جوارحه سائر الأعمال ثم لم يمدحه بوصف ولم يثن عليه بخير لم يؤمن عليه سوء الخاتمة، وذلك أن من أخلاق الله تعالى أنه إذا أحبّ عبداً ورضي عمله مدحه ووصفه، فمن ابتلاه بكراهة ومشقة أو بهوى وشهوة فصبر لذلك أو صبر عن ذلك، فإن الله تعالى يمدحه ويثني عليه بكرمه وجوده فيدخل هذا العبد في أسماء الموصوفين ويصير واحداً من الممدوحين فعندها يثبت قدمه من الزلل ويخت له بما سبق من صالح العمل، ومن الصبر، صبر على العوافي أن لا يجريها في المخالفة والصبر على الغنى أن لا يبذله في الهوى، والصبر على النعمة أن لا يستعين بها على معصية، فحاجة المؤمن إلى الصبر في هذه المعاني ومطالبته بالصبر عليها كحاجته ومطالبته بالصبر على المكاره والفقر وعلى الشدائد والضرّ، ويقال: إن البلاء والفقر يصبر عليهما المؤمن والعوافي لا يصبر فيها إلا صديق، وكان سهل يقول: الصبر على العافية أشدّ من الصبر على البلاء، وكذلك قالت الصحابة رضي الله عنهم: لما فتحت الدنيا فنالوا من العيش واتسعوا ابتلينا بفتنة الضّراء فصبرنا وابتلينا بفتنة السرّاء فلم نصبر فعظموا الاختبار بالسرّاء وهو ما سرّ على الاختبار بالضراء وهو ما ضرّ. وقد قال تعالى: (الَّذينَ يُنْفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ) آل عمران: 134 فمدحهم بوصف واحد في الحالين المختلفين لحسن يقينهم وسخاوة نفوسهم وحقيقة زهدهم، ومن هذا المعنى قول الله تعالى: (يا أيُّها الَّذين آمِنوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله) المنافقون: 9 لأن فيهما ما يسرّ ويشغل عن الذكر، ثم قال عزّ وجلّ: (إنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وأَولادِكُمْ عَدْوَّا لَكُمْ فاحْذَرُوهُمْ) التغابن: 14 لأن في الأواج والأولاد ما يفرح به فيوافق فيه الهوى ويخالف بوجودهما المولى فصار اعدوين في العقبى لما يؤول إليه من شأنهما، ومن هذا الخبر الذي روى عن النبي لما نظر إلى ابنه الحسن يتعثر في قميصه فنزل عن المنبر واحتضنه ثم قال صدق الله: (إنَّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) التغابن: 15 أي لما رأيت ابني هذا لم أملك نفسي أن أخذته، ففي هذا عبرة لأولي الأبصار، وروي عنه في الحديث أيضاً: الولد محزنة مبخلة مجبنة، فهذه مصادر الحزن والبخل والجبن أي يحمل حب الأولاد والأموال على ذلك، فمن صبر على السرّاء وهي العوافي والغنى والأولاد وغير ذلك وأخذ الأشياء من حقّها ووضعها في حقّها فهو من الصابرين الشاكرين لا يزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 عليه أهل البلاء والفقر إلا بحقيقة الرضا والشكر، وقد جمع الله تعالى بين ما سرّ وضرّ وجعلهما من وصف المتّقين ومدحهم بالإحسان معهما فقال تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقينَ) (الَّذين يُنْفِقُونَ في السَّرَّاء والضَّرَّاء والْكاظِمينَ الْغيْظ والْعافينَ عََنِ النّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسنينَ) آل عمران: 133 - 134، ومن الصبر كتمان المصائب والأوجاع وترك الاستراحة إلى الشكوى بهما فذلك هو الصبر الجميل قيل: هو الذي لا شكوى فيه ولا إظهار. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء الفرائض لله تعالى، وصبر عن محارم الله تعالى، وصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى، فمن صبر على أداء فرائض الله تعالى فله ثلاثمائة درجة، ومن صبر على محارم الله تعالى فله ستمائة درجة، ومن صبر في المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة، وهذا يحتاج إلى تفسير، ولم يفضل ابن عباس الصبر على المصيبة لأنه أفضل من الصبر عن المحارم وعلى الفرائض بل لأن الصبر على ذينك من أحوال المسلمين والصبر على المصيبة من مقامات اليقين وإنما فضل المقام في اليقين على مقام الإسلام ومن ذلك ما روي من دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسألك من اليقين ما تهون به علي مصائب الدنيا، فأحسن الناس صبراً عند المصائب أكثرهم يقيناً وأكثر الناس جزعاً وسخطاً في المصائب أقلّهم يقيناً، ومثل هذا الخبر الذي رويناه عن سلمة بن وردان عن أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من ترك المراء وهو محقّ بني له بيت في أعلى الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بني له في وسط الجنة، ومن ترك الكذب بني له في ربض الجنة، فقد علمت أن ترك الكذب وترك المراء مبطلاً أفرض وأوجب فينبغي أن يكون أفضل، ولكن المعنى فيه أن الكذب والمراء بالباطل يتركه المسلمون، فأما المراء والعبد محقّ صادق ثم لا يماري زهداً في التظاهر ورغبة في الصمت والسلامة فلا يصبر على هذا إلا الموقنون وهم خصوص المؤمنين، فمقامه من اليقين، والزهد وإيثار الخمول والصمت على الكلام والشهوة به أفضل وهو من اليقين فصار هذا المؤمن بمقامه أفضل من عموم المؤمنين الذين يتركون الكذب والمماراة وإن كانا أفرض وأوجب فهذا بيان ذلك معناه، ومن الصبر إخفاء أعمال البرّ ومنع النفس الفكاهة والتمتع بذكرها وإخفاء المعروف والصدقات فإن كتمه من الأدب مع السلامة في الإعلان وبرء الساحة في الإخبار ولكن إخفاؤه أفضل وأزكى وأحبّ إلى الله تعالى بل هي من كنوز البرّ أعني هذه الثلاثة إخفاء الأوجاع والمصائب والصدقة أي من الذخائر النفيسة عند تبارك وتعالى، ومن الصبر صون الفقر وإخفاؤه، والصبر على بلاء الله تعالى في طوارق الفاقات، وهذا حال الزاهدين الراضين وأفضل الصبر: الصبر على الله تعالى بالمجالسة له والإصغاء إليه وعكوف الهمّ وقوّة الوجد به، وهذا خصوص للمقربين أو حياءً منه أو حبًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 له أو تسليماً أو تفويضاً إليه وهو السكون تحت جريان الأقدار وشهودها من الأنعام، ومن حسن تدبير الأقسام في شهود المسألة والحكمة فيها والقصد بالابتلاء بها وهو داخل في قوله تعالى: (وَلِرَبِّكَ فاصْبِرْ) المدثر: 7، وفي قوله تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فإنَّكَ بأعْيُنِنا) الطور: 48 وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وغيره من الأئمة: أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القدر، وروي أيضاً إلا انتظار القضاء، ويقال: من علامة اليقين تسليم القضاء بحسن الصبر والرضا، وهو مقام العارفين، وقال سهل في تأويل قول علي رضي الله عنه: إن الله تعالى يحبّ كل عبد نومة قال: هو الساكن تحت جريان الأحكام يعني من غير كراهة، ولا اعتراض، فأما اشتراط الصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الصبر عند الصدمة الأولى فلأنه يقال: إن كلّ شيء يبدو صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة، فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر، فاشترط لعظم الثواب لها عند أوّل كبرها قبل صغرها وهي في صدمة القلب أوّل ما يبغته الشيء، فينظر إلى نظر الله تعالى فيستحي فيحسن الصبر كما قال: فإنك بأعيننا وهذا مقام المتوكلين على الله تعالى، والصبر أيضاً عن إظهار الكرامات وعن الإخبار بكشف القدرة والآيات داخل في حسن الأدب من المعاملات، وهو من معنى الحياء من الله تعالى، وهذا طريق المحبين لله تعالى وهو حقيقة الزهد، ومن فضائل الصبر حبس النفس عن حب المدح والحمد والرياسة. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً مقطوعاً: الصبر في ثلاث، الصبر في تزكية النفس، والصبر عن شكوى المصيبة، والصبر على الرضا بقضاء الله تعالى على خيره وشرّه، ومن الصبر حبس النفس عن الخمول والتواضع والذلة إيثاراً للآخرة على الدنيا وهرباً إلى الله تعالى وتحققاً بوصف العبودية وترك المنازعة والتشبه بمعاني أوصاف الربوبية تسليماً للإلهية واستسلاماً للأحدية فلا يخرجك قلة الصبرعن ذلك إلى الطلب بشيء منه فتزل قدم بعد ثبوتها نعوذ بالله من ذلك، ومن الصبر صبر على العيال في الكسب لهم والإنفاق عليهم والاحتمال للأذى منهم، فإن في العيال طرقات إلى الله تعالى أدناها الإهتمام بهم، وأعلاها الرضا عن الله تعالى والتوكل عليه فيهم، وأوسطها الإنفاق وحبس الإنفاق وحبس النفس عليهم، واعلم أن أكثر معاصي العباد في شيئين: قلة الصبر عما يحبون، أو قلة الصبر على ما يكرهون، وقد قرن الله تعالى الكراهة بالخير والمحبة بالشر في قوله تعالى: (وعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكٌمْ وعسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُو شَرٌ لَكُمْ) البقرة: 216 وحدّ الصبر وهو أوّله فريضة بمثل أوّل الإخلاص، والصبر أيضاً حيلة من لا حيلة له لأن الأمر إذا كان بيد غيرك لم يكن إلا الصبر عليه ولأن الشيء إذا كان لا يأتيك إلا قليلاً قليلاً وأنت محتاج إليه لم يكن إلا الصبر عليه وإلا انقطع ذلك القليل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وأصل قلة الصبر ضعف اليقين بحسن جزاء من صبرت له لأنه لو قوي يقينه كان الأجل من الوعد عاجلاً إذا كان الواعد صادقاً فيحسن صبره لقوّة الثقة بالعطاء ولا يصبر العبد إلا بأحد معنيين مشاهدة العوض وهو أدناهما، وهذا حال المؤمنين ومقام أصحاب اليمين أو النظر إلى المعوّض وهو حال الموقنين ومقام المقربين، فمن شهد العوض عني بالصبر، ومن نظر إلى المعوّض حمله النظر وقد جعل بعض العارفين الصبر على ثلاثة معان، وإنه في أهل مقامات ثلاث، فقال: أوّله ترك الشكوى قال وهذه درجة التائبين، والثانية الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين، والثالثة المحبة لما يصنع به مولاه وهذه درجة الصادقين وقد نوّع القدماء من السلف الصبر على ثلاثة أنواع. وروينا عن الحسن وغيره: الصبر على ثلاثة معان صبر عن المعصية وهو أفضلها، وصبر على الطاعة، وصبر في المصائب، وهذا داخل في جمل ما فرقناه من معاني الصبر، ومجمل ذلك أن الصبر فرض وفضل يعرف ذلك بمعرفة الأحكام، فما كان أمراً أو إيجاباً فالصبر عليه أو عنه فرض، وما كان حثاً وندباً فالصبر عليه أو عنه فضل والتصبر غير الصبر وهو مجاهدة النفس وحملها على الصبر وترغيبها فيه وهو التعمّل للصبر والتصنّع للصبور بمنزلة التزهد، وهو أن يعمل في أسباب الزهد ليحصل الزهد والصبر، هو التحقق بالوصف وذلك هو المقام، ولا يخرج العبد من الصبر كراهة النفس ولا وجدان المرارة والألم بل يكون مع ذلك صابراً لأن هذا وصف البشرية لما ينافي طبعها، ولكن يكون حاله الكظم عن الشكوى ونفي السخط لحكم المولى لأن عدم ذلك وفقده هو الرضا وحقيقة التوكل، وهذان من أعلى مقامات اليقين، وفقد مراتب اليقين لا يخرج عن حدّ الصبر والذي يخرج عن حد الصبر ضده وهو الجزع ومجاوزة الحدّ من السعلم وإظهار السخط وكثرة الشكوى وظهور الذم والتبرّم، ومن رياضة النفس على التصبّر وهو مقام المتصبرين وحال ضعفاء المريدين أن النفس الأمارة إذا جنحت بك إلى فضول الشهوات أو نازعتك إلى مطالبة متقدم العادات أن تمنعها حاجتها من كل شيء فيشغلها منع الحاجة ووجود الفاقة ممّا لا بدّ منه عن طلب فضول الشهوات فإذا رضتها بالمنع ومنعتها محبوبها بالتصبّر عن الحلال انقادت لك بالصبر عن فضول الشهوات فتكون تاركة لشهوة بعوض عاجل من مباح وتكون صابرة عن فضول شهوة لما منعتها من منال الفاقة وتاركة للهوى طمعاً في نوال الحاجة من الغذاء وهذا من أكبر أبواب الرياضات للنفوس الطامحات وفيه فضل الأقوياء من المتصبرين الذين لم تستجب لهم نفوسهم بالصبر والصلاة ولم تنقد بالجوع والظماء، فأما الضعفاء من أهل الطبقة الثالثة لا من الأوّلين أهل الصوم والصلاة ولا من هؤلاء فإنهم لا يصبرون على تصبر النفس عن الحاجة كما لا تصبر نفوسهم عن الشهوة فرياضة هؤلاء لنفوسهم أن يقطعوها من كل حرام معناه من الحلال ومن كل شهوة مهلكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وصفها من شهوة مقتصدة لتسكن نفوسهم بذلك في حبسها عن المحرّمات وتنقطع شهوتها عمّا وراء ذلك من الموبقات فبهذا تطمئن نفوس الضعفاء، وقد أختلف الناس في الصبر والشكر أيّهما أفضل وليس يمكن الترجيح بين مقامين لأن في كل مقام طبقة متفاوتين، والمحققون من أهل المعرفة يقولون إنه لا يجتمع عبدان في مقام بالسواء بل لا بدّ من أن يكون أحدهما أعلى بعلم أو عمل أو وجد أو مشاهدة وإن كان الصواب والقصد والأصل واحداً وأعلى التفاوت مشاهدات الوجه. وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَديثاً) النساء: 87 ولكل وجهة هو موليها، وقال تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ يِمَنْ هُوَ أَهْدى سبيلاً) الإسراء: 84، قيل: أقصد وأقرب طريقاً، وظاهر الكتاب والسنّة يدلان على تفضيل الصبر لقوله تعالى: (يُؤْتَون أْجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) القصص: 54 فالشاكر يؤتى أجره مرة فأشبه مقام الصبر مقام الخوف وأشبه مقام الشكر مقام الرجاء، وقد قال الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مقامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن: 46، وقد اتفق أهل المعرفة على تفضيل الخوف على الرجاء من حيث اتفقوا على فضل العلم على العمل، فالصبر حال من مقام الخوف فقرب حال الصابر في الفضل من مقامه والشكر حال من مقام الرجاء كذلك يقرب حال الشاكر من مقامه ومن السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الذي ذكرناه من قبل: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته وذكر الحديث المتقدم فقرن الصبر باليقين الذي لا شيء أعزّ منه ولا أجلّ وارتفاع الأعمال وعلوّ اليقين به، وفي مناجاة أيوب عليه السلام: إن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه: يا أيوب إني آليت على نفسي لا نشرت للصابرين ديوان توبيخ ولا نظروا إلى حد الصراط ولا أروعهم نقص الميزان دارهم دار السلام. بيان آخر من تفضيل الصبر الصبر: حال البلاء، والشكر: حال النعمة والبلاء أفضل لأنه على النفس أشق لقول الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر: 10، فالشاكر يوفي أجره بحساب لأن إنما تحقيق للوصف ونفي ما عداه. بيان آخر من فضل الصبر قد رفع علي كرّم الله وجهه الصبر على أربع مقامات اليقين وجعلها دعائمه التي بها يستبين وجعله فيه فوقها فقال في حديثه الطويل الذي وصف فيه شعب الإيمان: والصبر على أربع دعائم: على الشوق، والشفقة، والزهد، والترقب، فمن أشفق من النار رجع عن المحرّمات، ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، فجعل هذه المقامات أركان الصبر لأنها توجد عنه وتحتاج إليه في جميعها وجعل الزهد أحد أركانه، وقد جعل الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الصبر حال التقوى ورفع للمتقين في الإكرام درجات، فقال عزّ وعلا: (إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) يوسف: 90 وقال تعالى: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ) الحجرات: 13، فأكرم وأتقى فوق أن يقال كرامكم المتقون لأن أكرم وأتقى يدل على تفاوت، فمن كان أتقى كان أكرم عند الله سبحانه وتعالى، ومن كان أصبر على ما يوجب التقوى كان أتقى، وأعلم أن الصبر سبب دخول الجنة وسبب النجاة من النار لأنه جاء في الخبر: خفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات فيحتاة المؤمن إلى الصبر على المكاره ليدخل الجنة ويحتاج إلى الصبر عن الشهوات لينجو من النار، فأما تفصيل التفضيل فعلى ثلاثة أوجه، أحدها: أن المقامات أعلى من الأحوال، وقد يكون الصبر والشكر حالين، وقد يكونان مقامين، فمن كان مقامه الصبر كان حاله الشكر عليه فهو أفضل لأنه صاحب مقام، ومن كان مقامه الشكر كان حاله الصبر عليه فحاله مزيد لمقامه فقد صار الصبر مزيداً للشاكر في مقامه، الوجه الثاني من التفضيل: المقربون أعلى من أصحاب اليمين فالصابرون من المقربين أفضل من الشاكرين من أصحاب اليمين والشاكرون من المقربين أفضل من الصابرين من أصحاب اليمين فإن قيل: فإن كان الشاكر والصابر من المقربين فيهما أفضل قيل: فقد قلنا إن اثنين لا يتفقان في مقام من كل وجه لانفراد الوجه بمعاني لطائف اللطيف بمثل ما انفردت الوجوه بلطيف الصنعة مع تشابه الصفات واستواء الأدوات، فأفضلهما حينئذ أعرفهما لأنه أحبهما إلى الله تعالى وأقربهما منه وأحسنهما يقيناً لأن اليقين أعزّ ما أنزل الله تعالى. وجه آخر من بيان التفضيل نقول: إن الصبر عمّا يوجب الشكر أفضل وإن الشكر على ما يوجب الصبر أفضل، فقد يختلف باختلاف الأحوال تفسيره أن الصبر عن حظ النفس وعن التنعّم والترفّه أفضل إن كان عبداً حاله النعمة فالصبر عن النعيم والغنى مقام في المعرفة وهو أفضل لأن فيه الزهد المجمع على تفضيله، ونقول إن الشكر على الفقر والبلاء والمصائب أفضل إن كان عبداً حاله الجهد والبلاء فالشكر عليه مقام له في المعرفة فهو حينئذ أفضل لأن فيه الرضا المتفق على فضله. نوع آخر من الاستدلال على فضل الصابر وتفضيل الصبر جملة الصابر العارف أفضل من الشاكر العارف لأن الصبر حال الفقر والشكر حال الغنى، فمن فضل الشكر على الصبر في المعنى فكأنه قد فضّل الغنى على الفقر، وليس هذا مذهب أحد من القدماء إنما هذه طريقة علماء الدنيا طرقوا لنفوسهم بذلك وطرقوا الخلق إلى نفوسهم من ذلك، فإن من فضّل الغنى على الفقر فقد فضل الرغبة على الزهد والعزّ على الذلّ والكبر على التواضع، وفي هذا تفضيل الراغبين والأغنياء على الزاهدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 والفقراء، ويخرج ذلك إلى تفضيل أبناء الدنيا على أبناء الآخرة: وإنما فضلنا الصبر على الشكر في الجملة والمعنى، لأن الصبر حال من مقامه البلاء، وأهل البلاء هم الأمثل فالأمثل بالأنبياء ولأن الصبر أبعد من أهواء النفوس وأقرب إلى الضرّ والبؤس وأشدّ في مكاره النفوس وأنفر لطباعها وأشد مباينة لما يلائمها فإذا سكنت معه وجد عندها كان أعجز لوصفها وأعجب في طمأنينتها فمدحت بالسكون والطمأنينة وكانت راضية مرضية، وأيضاً فإن اللهّ تعالى أمر بالصبر وبالغ فيه بالمصابرة ووكدهما بالمرابطة في قوله تعالى: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا اصْبِروُا وَصابِرُوا وَرَابِطُوا) آل عمران: 200، قيل: في أحد الوجوه رابطوا عليهما فهذه ثلاثة أمور في مكان واحد بمعنى الصبر، فهذا يدل على تعظيمه للصبر ومحبته تعالى فمن وجد منه ذلك كان أشد تعظيماً لشعائر الله عزّ وجلّ، ومن عظم شعائر الله فهو أتقى لله تعالى، ومن كان أتقى لله كان أكرم على الله لقوله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فإِنَّها مِنْ تَقْوى الْقُلُوبِ) الحج: 32، ثم قال تعالى: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ) الحجرات: 13، والصبر أيضاً مقام أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقدوة بهم وباهى الله تعالى بهم عبده فقال تعالى: (فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف: 35 وأيضاً فإن العزائم في الدين أولى من الرخص. روينا عن سفيان الثوري رضي الله عنه عن حبيب بن أبي ثابت قال: سئل مسلم البطين: أيما أفضل الصبر أم الشكر؟ فقال: الصبر والشكر والعافية أحبّ إلينا، وقد قيل في معنى قوله تعالى: (الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه) الزمر: 18 قيل: شدائده وعزائمه لأن إباحة حلال الدنيا حسن والزهد فيه أحسن، وقد جعل الله تعالى الصبر من العزائم في قوله: (وإنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمورِ) آل عمران: 186، وقد شرك الله تعالى عباده في الشكر وأفرد عزّ وجلّ لنفسه تعالى الصبر فينبغي أن يكون المفرد للمفرد أعلى من المشترك بالعبد فقال تعالى: (أن اشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْكَ) لقمان: 14 وقال تعالى على لسان نبيّه: من لم يشكر الناس لم يشكر الله عزّ وجلّ ولم يشرك في الصبر من خلقه أحداً، فقال تعالى: (وَلِربِّكََ فاصْبِرْ) المدثر: 7، وقال: واصبر لحكم ربّك واعلم أن الشكر داخل في الصبر والصبر جامع للشكر، لأن من صبر أن لا يعصي الله بنعمة فقد شكرها ومن أطاع الله فصبر نفسه على طاعته فقد شكر نعمته، وقد سئل الجنيد رحمه الله عن غني شاكر وفقير صابر أيهما أفضل؟ فقال: ليس مدح الغني للوجود ولا مدح الفقير للعدم إنما المدح في الاثنين قيامهما بشروط ما عليهما، فشرط الغني يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمتعها وتلذّها، والفقير يصحبه فيما عليه أشياء تؤلم صفته وتقبضها وتزعجها، فإذا كان الاثنان قائمين لله تعالى بشروط ما عليهما كان الذي آلم صفته وأزعجها أتم حالاً ممّن متّع صفته ونعّمها، هذا نقل كلام الجنيد رحمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 تعالى، وكان أبو العباس بن عطاء قد خالفه في ذلك فيقال: إن الجنيد دعا عليه فلحقه ما أصابه من البلاء منه، قتل أولاده، وإتلاف ماله، وزوال عقله أربع عشرة سنة، فكان يقول: دعوة الجنيد أصابتني، ورجع عن قوله في تفضيل الغنى على الفقر، فصار يفضّل الفقر ويشرّفه، وأيضاً فقد روينا في الخبر: أعرفكم بنفسه أعرفكم بما ابتلاه به منها وما ابتلاها به منه فأعظم ما ابتلانا به محبتنا بها وابتلاها بعدواتنا، فمن أفضل ممّن صبر على مجاهدة عدوّه على أنه مع ذلك عدوّ الله تعالى منازع لصفات الربوبية، ومن أشد بلاء ممنّ ابتلي بعداوتك وبتليت بمحبته وأنت في ذلك تترك محبته لمحبة الله تعالى وتصبر على عداوته بدوام مجاهدته لمرضاة الله تعالى، فهذا أعدل العدل وأفضل الفضل ولا سبيل إلى ذلك إلا بفضل أثرة من الله تعالى وحسن عنايته ودوام نظره إذ لا توفيق ولا قوّة ولا صبر إلا به سبحانه وتعالى، فأما المسألة التي سئل عنها بعض القدماء عن عبدين ابتلي أحدهما فصبر وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء قال: لأن الله تعالى أثنى على عبدين أحدهما صابر والآخر شاكر بثناء واحد، فقال تعالى في وصف أيوب عليه السلام: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ص: 30 وقال في وصف سليمان عليه السلام: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابُ) ص: 30، ففي قول هذا رحمه الله غفلة عن لطائف الأفهام وذهاب عن حقيقة تدبّر الكلام إذ عندنا بين ثناء الله عزّ وجلّ على أيوب في الفضل على ثنائه على سليمان عليهما السلام ثلاثة عشر معنى، وشركه سليمان عليه السلام بعد ذلك في وصفين آخرين وإفراد أيوب عليه السلام بفضل ثناء ثلاثة عشر معنى، أول ذلك قوله عزّ وجلّ في أول مدحه: (واذْكُرْ) ص: 41 فهذه كلمة مباهاة باهى بأيوب عند رسوله المصطفى عليه السلام وشرفه وفضله بقوله تعالى: (واذْكُرْ) ص: 41 يا محمد فأمره بذكره والاقتداء به كقوله تعالى: (فاصْبِرْ كما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف: 35، قيل: هم أهل الشداء والبلاء منهم أيوب عليه السلام قرضوا بالمقاريض ونشروا بالمناشير وكانوا سبعين نبياً وقيل: هم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهؤلاء آباء الأنبياء وأفاضلهم لقوله تعالى: (وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ ابْرَاهِيَمَ) مريم: 41 ولقوله تعالى: (واذْكُرْ عِبادَنا إبْراهِيمَ وإسْحق وَيعقُوبَ أولي الأيدي والأبْصارِ) ص: 45 يعني أصحاب القوّة والتمكّن وأهل البصائر واليقين، ثم رفع زيوب إلى مقامهم فضمه إليهم وجعله سلوة له ثم ذكره إياه وذكره به، ثم قال تعالى: (عَبْدنا) ص: 41 فأضافه إليه عزّ وجلّ إضافة تخصيص وتقريب ولم يدخل بينه وبينه لام الملك فيقول عبداً لنا فألحقه بنظرائه من أهل البلاء في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهيمَ وَإِسْحق وَيعْقُوبَ) ص: 45 وهم أهل الابتلاء الذين باهى بهم الأنبياء وجعل من ذرياتهم الأصفياء فأضاف أيوب إليهم في حسن الثناء، وفي لفظ التذكرة به في الثناء ثم قال: (إذْ نادى رَبَّهُ) مريم: 3 فأفرده بنفسه لنفسه وانفرد له في الخطاب بوصفه وقال: ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 مَسَّنِي الْضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمْ الْرَّاحِمين) الأنبياء: 83 فوصفه بمواجهة التملق له ولطيف المناجاة وظهر له بوصفه الرحمة فاستراح إليه به فناداه فشكا إليه واستغاث به فأشبه مقامه، مقام موسى ويونس عليهما السلام في قولهما: سبحانك تبت إليك، وفي قول الآخر: لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين، وهذا خطاب المشاهدة ونظر المواجهة، ثم وصفه بالاستحابة له وأهله لكشف الضرّ عنه وجعل كلامه سبباً لتنفيذ قدرته ومكاناً لمجاري حكمته ومفتاحاً لفتح إجابته، ثم قال بعد ذلك كله: ووهبنا له أهله فزاد على سليمان في الوصف إذ كان بين من وهب لأهله وبين من وهب له أهله فضل في المدح لأنه قال في وصف سليمان: ووهبنا لداود سليمان فأشبه فضل أيوب في ذلك على سليمان كفضل موسى على هارون لأنه قال عزّ وجلّ في مدح موسى عليه السلام وتفضيله على هارون: (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أخاهُ هارُونَ نَبيّاً) مريم: 53، وكذلك قال في مدح داود: (وَوَهَبْنا لِدَاوُدَ سُلَيْمانَ) ص: 30 فوهب لموسى أخاه كما وهب لداود ابنه وأشبه مقام أيوب في المباهاة والتذكرة به مقام داود عليه السلام لأنه قال تعالى في وصف داود لنبيّه عليه السلام: (اصْبِرْعلى ما يَقُولُونَ واذْكُرْ عَبْدنا دَاوُد) ص: 17 وكذلك قال تعالى في نعت أيوب: (واذْكْرْ عَبْدنا أَيُّوبَ إذْ نادى ربَّهُ) ص: 41، فقد شبه أيوب بداود وموسى عليهما السلام في المعنى ورفعه إليهما في المقام، وهما في نفوسنا أفضل من سليمان عليهم السلام، فأشبه أن يكون حال أيوب على من حال سليمان، وعلم الله تعالى المقدم ولكن هكذا ألقى في قلوبنا والله أعلم، ثم قال تعالى بعذ ذلك كلّ (رَحْمَةً مِنَّا) ص: 43 فذكر رنفسه ووصفه عند عبده تشريفاً له وتعظيماً، ثم قال عزّ وجلّ: (وَذِكْرى لأُولي الألْبابِ) ص: 43 فجعله إماماً للعقلاء وقدوة لأهل الصبر والبلاء وتذكرة وسلوة من الكروب للأصفياء، ثم قال تعالى: (إِنَّا وَجَدْناهُ صابرِاً) ص: 44 فذكر نفسه سبحانه وتعالى ذكراً ثانياً لعبده ووصل اسمه باسمه حباً له وقرباً منه، لأن النون والألف في وجدنا اسمه تبارك وتعالى، والهاء اسم عبده أيوبَ، ثم قال صابراً فوصفه بالصبر فأظهر مكانه في القوة وخلقه بخلقه، ثم قال تعالى في آخر أوصافه: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ص: 44، فهذان أوّل وصف سليمان وآخره ههنا شركه في الثناء وزاد أيوب بما تقدم من المدح والوصف الذي لا يقوم له شيء فمن قوله عزّ وجلّ: (وَاذْكُرْ عَبْدنا أَيُّوبَ) ص: 41 إلى قوله: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ص: 44 عظيم من الفرقان عند أهل الفهم والتبيان وجعل في أوّل وصف سليمان أنه وهبه لأبيه داود عليهما السلام فصار حسنة من حسنات داود عليه السلام واشتمل قوله تعالى: (نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّاب) ص: 44 على أوّل وصفه وأوسطه وهو آخر وصف أيوب عليه السلام، وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وقد روينا في الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آخر الأنبياء دخولا ً الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه، وآخر اصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه، وفي لفظ آخر: يدخل سليمان بن داود الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً، وقد جاء في الآثار إن أوّل من يدخل الجنة أهل البلاء إمامهم أيوب وهو إمام أهل البلاء وإن أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد، وأوّل من يدخله أهل البلاء فقد زاد أيوب على سليمان عليهما السلام بعموم هذه الأخبار لأنه سيد أهل البلاء وتذكرة وعبرة لأولي النهي وإمام أهل الصبر والضرّ والابتلاء، ولم نقصد بما ذكرناه التفضيل بين الأنبياء لأنّا قد نهينا عن ذلك فيما روينا عن نبيّنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: لا تفضّلوا بين الأنبياء ولكن الله تعالى قد أخبرنا أن بعضهم مفضل على بعض في قوله: (وَلَقَدْ فَضَّلنا بَعْضَ الْنَّبِيَّين على بَعْضٍ) الإسراء: 55 وإنما أظهرنا فضل الثناء المستودع في الكتاب فاستنبطنا باطن الوصف المكرر في الخطاب في قصة أبوب على قصة سليمان عليهما السلام بما ظهر لنا من فهم فصل الخطاب وتدبر معاني الكلام وعلم الله تعالى المقدم وهو عزّ وجلّ أعلم وأحكم وقد ندبنا إلى الاستنباط في قول الرسول عليه السلام: اقرؤوا القرآن والتمسوا غرائبه ولأن في ذلك عزّ الأهل الصبر والبلاء وتقوية لقلوبهم وتعريفاً لسوابغ نعم الله تعالى عليهم وإظهاراً لبواطن النعم وتنبيهاً على لطائف الكلم وتزهيداً في الدنيا والنفس وترغيباً في الآخرة والصبر وتفضيلاً لطريق أهل البلاء الذين هم الأمثل فالأمثل بالأنبياء، فجاء من ذلك تفضيل المتبلي الصابر على بلائه ورضاه بحكم مولاه وتسليماً لمرضاته على المنعم عليه، الشاكر على نعمائه، إذ النعم ملائمة للطبع موافقة للنفس لا يحتاج معها إلى كدّ النفس بالصبر عليها ولا حملها على المشقة فيها بالرضا بها، والبلاء مباين للطبع نافرة منه النفس يحتاج إلى حمل عليه ومشقة فيه، وما كرهته النفس فهو خير وأفضل ولا سبيل إليه إلا بسكينة من الله تعالى وتصبر عليه بقوة به عزّ وجلّ وعناية منه: (وَاصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ بالله) النحل: 127، وهذا آخر شرح مقامات الصبر. شرح مقام الشكر ووصف الشاكرين وهو الثالث من مقامات اليقين قال الله تعالى: (ما يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ) النساء: 147 فقرن الشكر بالإيمان ورفع بوجودهما العذاب، وقال تعالى: (وَسَنجْزِي الشَّاكِرينَ) آل عمران: 145، وروي عن النبي لله أنه قال: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الشكر نصف الإيمان، وقد أمر الله تعالى بالشكر وقرنه بالذكر في قوله تعالى: (فاذْكُروني أذْكُرْكُمْ واشْكُروا لي ولا تَكْفُرُونِ) البقرة: 152، قد عظم الذكر بقوله: (ولذِكْر الله أَكْبَر) فصار الشكر أكبر لاقترانه به ورضا الله تعالى بالشكر مجازاة من عباده لفرط كرمه لأن قوله تعالى: (فاذْكُروني أذْكُرْكُمْ واشْكُرو لي) البقرة: 152 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 خروج من لفظ المجازاة لتحقيق الأمر وتعظيم الشكر لأن الفاء للشرط ولاجزاء والكاف المتقدمة للتمثيل، فقوله تعالى: فاذكروني متصل بقوله: (كما أَرْسَلْنا فيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) (فاذْكُرُوني) (وَاشْكُرُوا لي) البقرة: 151 - 152، والمعنى كمثل ما أرسلت فيكم رسولاً منكم فاشكروا لي، والعرب تكتفي من مثل بالكاف كما اكتفت من سوف بالسين في قوله تعالى: (سَنُؤْتيهِمْ) (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) الأعراف: 182 وهذا تفضيل للشكر عظيم لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى. وقد روينا في أخبار أيوب عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه: إني رضيت بالشكر مكافأة من أوليائي في كلام طويل، وفي أحد الوجوه من قوله عزّ وجلّ: (لأقْعُدَنَّ لَهُم صِراطَكَ الْمُسْتَقيمَ) الأعراف: 16، قال: طريق الشكر، فلولا أن الشكر طريق يوصل إلى الله تعالى لما عوّل العدو على قطعه ولولا أن الشاكر حبيب ربّ العالمين ما نقصه إبليس اللعين في قوله تعالى: (ولا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرينَ) الأعراف: 17 وكذلك قال الله تعالى: (وقليلٌ مِنْ عِبادي الشَّكُورُ) سبأ: 13، كما قال تعالى: (ولقدْ صَدَّق عَلَيْهِمْ إبليسُ ظنَّهُ فاتَّبَعُوهُ إلاَّ فريقاً من المؤْمِنينَ) سبأ: 20، وقد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن فيه واستثنى في خمسة أشياء: في الإغناء، والإجابة، والرزق، والمغفرة، والتوبة، فقال تعالى: (فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ) التوبة: 28 وقال تعالى: (فيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إليهِ إنْ شاء) الأنعام: 41، وقال تعالى: (يَرْزُقُ مَنْ يشاءُ) البقرة: 212 (وَيغْفِرُ لِمَنْ يشاءُ) المائدة: 40، وقال عزّ وجلّ: (ثُمّ َ يَتُوبُ الله مِنْ بَعْدِ ذلك على منْ يشاءُ) التوبة: 27، وختم بالمزيد عند الشكر من غير استثناء فقال تعالى: (لئِنْ شَكَرْتُمْ لأزيدِنَّكُمْ) إبراهيم: 7، فالشاكر على مزيد والشكور في نهاية المزيد وهو الذي يكثر شكره على القليل من العطاء ويتكرر منه الشكر والثناء على الشيء الواحد من النعم وهذا خلق من أخلاق الربوبية لأنه سماه باسم من أسمائه والمزيد هو إلى المنعم يجعله ما شاء، فأفضل المزيد حسن اليقين ومشاهدة الأوصاف، وأوّل المزيد شهود النعم، إنها من المنعم بها من غير حول ولا قوّة إلا به عزّ وجلّ، وأوسط المزيد دوام الحال ومتابعة الخدمة والاستعمال، وقد يكون المزيد أخلاقاً وقد يكون علوماً وقد يكون في الآخرة وتثبيتاً عند فراق العاجلة، وقد جعل الله تعالى الشكر مفتاح كلام أهل الجنة وختام تمنّيهم في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لله الَّذي صَدَقنا وَعْدََهُ) الزمر: 74، وقال تعالى: (وآخِرُ دَعْواهُمْ أنِ الْحَمْدُ لله ربِّ الْعالمينَ) يونس: 10، فلولا أنه أحب الأعمال إليه ما بقاه عليهم لديه. وروينا في مناجاة أيوب عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه في صفة الصابرين دارهم دار السلام إذا دخلوها ألهمتهم الشكر وهو خير الكلام وعند الشكر أستزيدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وبالنظر إلي أزيدهم وهذا غاية الفضل، فأوّل الشكر معرفة النعم، إنها من المولى وحده لا شريك له فيها، ولا ظهير له عليها، إذ قد نفى ذلك عن نفسه لأنه هو الأوّل في كل شيء، لا شيء معه ولا ظهير له في شيء إذ قد جعل الضرّاء والسرّاء منه وإليه جاريين على عباده فقال تعالى: (وَما لَهُمْ فيهما مِنْ شِركِ وما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظهيرٍ) سبأ: 22، الشرك الخلط والظهير المعين، ثم قال تعالى (وما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فإليْهِ تَجْئرَوُنَ) النحل: 53، وقال تعالى: (وإنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فلا كاشِفَ لَهُ إلاّ هُوَ وإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُو على كُلِّ شيء قديرٌ) الأنعام: 17، وقال تعالى في جمل النّعم بعد إضافتها إليه: (وَسخَّر لَكُمْ ما في السَّمَواتِ وما في الأرْضِ جَميعاً مِنْهُ) الجاثية: 13، وقال تعالى: (وأسْبغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً) لقمان: 20، فالأسباب مع صحتها والأواسط مع ثبوتها إنما هي حكمه وأحكامه، فظروف العطاء وآثار المعطي لا تؤثر في الحكم بها والجعل لها حكماً ولاجعلاً يعني لا تحكم ولا تجعل لأنها محكومات فكيف تحكم ومجعولات فكيف تجعل لا حاكم إلا الله وحده ولا يشرك في حكمه أحداً وهذا الحرف في مقرأ أهل الشام أبلغ وأوكد لأنه يخرج على الأمر لأنهم قرؤوه بالتاء وجزم الكاف ولا تشرك في حكمه أحداً، فالأسباب أحكام حق وأواسط حكمه فمشاهدة المنعم في النعمة وظهور المعطي عند العطاء حتى ترى النعمة منه والعطاء عنه هو شكر القلب لأن الشكر عند الشاكرين معرفة القلب ووصفة لا وصف اللسان، وقد أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وأمر باقتناء الشكر وإتخاذه مالاً في الآخرة عوضاًمن إاقتناء الأموال في الدنيا، فقال في حديث ثوبان وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: حين نزل في الكنوز ما نزل سأله عمر: أيّ المال نتخذ؟ فقال: ليتخذنَّ أحدكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً. وروينا في أخبار موسى عليه السلام وداود عليه السلام: يا ربّ كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك، وفي لفظ آخر: وشكري لك نعمة أخرى منك توجب علي الشكر لك فأوحى الله تعالى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتني، وفي خبر آخر: إذا عرفت أن النعم مني فقد رضيت منك بذلك شكراً وشكر اللسان حسن الثناء على الله تعالى وكثرة الحمد والمدح له وإظهار إنعامه وإكرامه ونشر أياديه وإحسانه وأن لا يشكو لمالك إلى المملوك ولا المعبود الجليل إلى العبد الذليل، وفي الخبر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجل: كيف أصبحت قال: بخير فأعاد عليه النبي السلام السؤال ثانية كيف أنت؟ فقال: بخير فأعاد عليه الثالثة كيف أنت؟ فقال: بخير أحمد الله تعالى وأشكره، فقال: هذا الذي أردت منك يعني إظهار الحمد والشكر والثناء، وإنما كان السلف يتساءلون عن أحوالهم إذا التقوا ليستخرجوا بذلك حمداً لله تعالى وشكره فيكونوا شركاءه في ذلك لأنهم سبب ذكره لله تعالى فمن علمت أنه يشكو مولاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ويتكره عندك قضاءه إذا سألته عن حاله فلا تسأله فتكون أنت سبب شكواه وشريكه في جهله، وما أقبح بالعبد أن يشكو المولى الذي ليس كمثله شيء والذي بيده ملكوت كل شيء إلى عبد مملوك لا يقدر على شيء، ومن الشكر أن يشكر الله تعالى على اليسير لأن القليل من الحبيب كثير ولأن الله تعالى حكيم فمنعه حكمة وقدرة، فإذا عرف وجه الحكمة في المنع مع القدرة على العطاء علم أنه منعه ليعطيه فثم صار المنع عطاء واليسير منه كثيرا، ً ويعلم أن الذل والصبر عند المنع عزّ وشرف، وهو أفضل وأنفس عند العلماء من التعزز بالعبيد والشرف بهم، وأن الطمع والتذلل إليهم والاستشراف إلى عبد مملوك مثلك ذلّ ذليل وحسن الذلّ للعزيز كحسن الذلّ للحبيب وقبح الذلّ للذليل كقبح الذلّ للعدو. وقد قال الله تعالى: (إنَّ الَّذين تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فابْتغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ) العنكبوت: 17، وقال تعالى في معناه: (إنَّ الَّذين تَدْعُون مِن دُونِ الله عِبادٌ أمْثَالُكُمْ) الأعراف: 194، والعبادة هي الخدمة والطاعة بذلّ ولا يحسن للعبد المقبل أن يظهر فقره وفاقته إ لى غير مولاه الذي يلي تدبيره ويتولاه لأنه عليم خبير بحاله يسمعه ويراه فهو أعلم بما يصلحه منه، وقد قال الله تعالى في معناه: (ولوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ) الشورى: 27، فعلى الموقن أن يشكر في القبض والمنع كما يشكر في العطاء والبسط ثم يشهد الشاكر بقلبه شهادة يقين ويعلم أن وصفه وصف العبودية وحكمه أحكام العبيد محكوم عليه بأحكام الربوبية وأنه لا يستحق على الله شيئاً وأن الله عزّ وجلّ يستحقّ عليه كلّ شيء فالعبد خلقه وصنعته والرب صانعه ومالكه، فإذا شهد العبد هذه الشهادة رأى لله عزّ وجلّ عليه كل شيء فرضي منه بأدنى شيء ولم ير له على الله تعالى شيئاً فلم يقنع لله تعالى منه بشيء ولم يطالب مولاه بشيء، فكثرة الذكر وحسن الثناء وجميل النشر للنعماء وتعديد النعم والآلاء هو شكر اللسان لأن معنى الشكر في اللغة هو الكشف والإظهار يقال: كثر وشكر بمعنى إذا كشف عن ثغره فأظهره فيكون إظهار الشكر وكشفه باللسان ما ذكرناه كما جاء في الخبر ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد. وفي الحديث: من قال سبحان الله فله عشر حسنات، ومن قال: لا إله إلا الله فله عشرون حسنة، ومن قال: الحمد لله كتبت له ثلاثون حسنة ليس أن الحمد أعلى من التوحيد ولكن لفضل مقام الشاكر ولأن الله تعالى افتتح به كلامه في كتابه، وفي الخبر: الحمد رداء الرحمن عزّ وجل، ّ وفي الخبر أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله رب العالمين، ويكون أيضاً ظهور الشكر وغلبته في القلب شكر القلب، ويكون شكر الله تعالى لعبده كشفه له ما ستره عنه وإظهاره له ما حجبه منه من العلوم والقدر وهو المزيد فيفيده ذلك حسن معرفته به سبحانه وتعالى وعلوّ مشاهدته منه وكله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 يرجع إلى معنى الكشف والإظهار، وأما شكر الجوارح للمنعم المفضل سبحانه وتعالى فهو أن لا يعصيه بنعمة من نعمه وأن يستعين بنعمته على طاعته ولا يستعين بها على معاصيه فيكون قد كفرها كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً) إبراهيم: 28، قيل: استعانوا بنعمه علي معاصيه فالخلق لا يقدرون على تبديل نعمة الله عزّ وجلّ ولكن معناه: بدلوا شكر نعمة الله كفراً وهذا من المضمر معناه لظهور دليله عليه لأنه أمرهم بالطاعة بالنعم فخالفوه فعصوه بها فكان ذلك تبديلهم لما أمروا، ومثله قوله تعالى: (وَتَجْعَلونَ رِزْقَكُمْ أنَّكُمْ تُكذِّبُونَ) الواقعة: 82 المعنى شكر رزقكم تجعلونه تكذيبكم برسل الله تعالى وهذا من المحذوف أيضاً وهي في قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مظهرة مفسّرة. روينا عنه عليه السلام: أنه قرأ وتجعلون شكركم فهذا ظاهر وبمعناه: ومن يبدّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب أي يعاقب من كفر بالنعمة فضيّع شكرها بمعصيته بها يعاقبه بزوالها، وكذلك قوله تعالى: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابي لَشديدٌ) إبراهيم: 7، قيل: إن كفرتم النعمة فقد يكون العذاب في الدنيا تبديل النعمة عقوبات وتغييرها هوان ومذلاّت، وقد يكون العذاب مؤجلاً كقوله تعالى: (إنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الفرقان: 65، قال: طالبهم على النعم بالشكر فلم يكن عندهم فأغرمهم ثمن النعمة فحبسهم في جهنم، وقد قال الله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعِمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً) لقمان: 20، ثم قال: (وَذَرُوا ظاهِرَ الإثْمِ وباطِنهُ) الأنعام: 120 ففيه تنبيه لذوي الألباب الذين وصل لهم القول ليتذكروا أن يذروا ظاهر الإثم شكر الظاهر النعم، ويذروا باطن الإثم شكر الباطن النعم وظاهر النعم عوافي الأجساد ووجود الكفايات من الأموال وظاهر الإثم أعمال الجوارح من معاني حظوظ النفس وباطن النعم معافاة القلوب وسلامة العقود، وباطن الإثم أعمال القلوب السيئة مثل الإصرار وسوء الظن ونيّات السوء، وقال مطرف بن عبد الله: لأن أعافى فأشكر أحبّ إلي ّ من أبتلى فأصبر، لأن مقام العوافي أقرب إلى السلامة، فلذلك اختار حال الشكر على الصبر لأن الصبر حال أهل البلاء. وقد روينا عن الحسن البصري معنى ذلك الخبر الذي لا شرّ فيه العافية مع الشكر والصبر عند المصيبة فكم من منعم عليه غير شاكر وكم من مبتلى غير صابر، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنى هذا في قوله: وعافيتك أحبّ إلي، ّ وقال لعلي رضي الله عنه حين سمعه يثول في مرضه: اللهم إني أسألك الصبر، قال: لقد سألت الله تعالى البلاء فسله العافية، ومن الشكر الأعمال الصالحة، وبالعمل فسرّ الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشكر للمنعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 فقال تعالى: (اعْملُوا آل داوُد شُكْراً) سبأ: 13، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما عوتب في اجتهاده وقيامه حتى تورمت قدماه: أفلا أكون عبداً شكوراً، فأخبر أن المجاهدة وحسن المعاملة شكر المستعمل وجزاء المنعم، وقد قال بعض العلماء: شكر القلب المعرفة بأن بالنعم من المنعم لا غير وشكر العمل كلما وهب الله عزّ وجلّ لك عملاً أحدثت له عملاً ثانياً شكراً منك للعمل الأوّل، وعلى هذا يتصل الشكر بدوام المعاملة، وأوّل الشكر عند العارفين أن لا تعصيه بنعمة من نعمه فتجعلها في طاعة الهوى، فأما شكر الشاكرين فهو أن تطيعه بكلّ نعمة فتجعلها في سبيل المولى وهذا شكر جملة العبد، وحقيقة الشكر التقوى وهو اسم يستوعب جمل العبادة التي أمر الله تعالى بها عباده في قوله تعالى: (يا أيُّها النَّاسُ أعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلقَكُمْ وَالَّذين من قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 21، ثم عبّر حقيقة عن الشكر بتقواه وأخبر سبحانه وتعالى أن التقوى هو الشكر فقال سبحانه وتعالى: (فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) آل عمران: 123، وفي الشكر مقامان عن مشاهدتين: أعلاهما مقام شكور وهو الذي يشكر على المكاره والبلاء والشدائد واللأواء، ولا يكون كذلك حتى يشهد ذلك نعماً توجب عليه الشكر بصدق يقينه وحقيقة زهده وهذا مقام في الرضا وحال من المحبة، وبهذا الوصف ذكر الله تعالى نبيّه نوحاً عليه السلام في قوله تعالى: (إنَهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) الإسراء: 3 في التفسير أنه كان يشكر الله تعالى على كل حال من خير أو شر أو نفع أو ضرّ. وروينا في الخبر: ينادي منادٍ يوم القيامة ليقم الحمادون فيقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة قيل: ومن الحمادون؟ قال: الذين يشكرون الله تعالى على كل حال، وفي لفظ آخر: على السرّاء والضرّاء، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: (وَأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنةً) لقمان: 20، قال: ظاهرة العوافي والغنى وباطنه البلوى والفقر فهذه نعم الآخرة، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا عيش إلا عيش الآخرة، والمقام الثاني من الشكر أن ينظر العبد إلى من هو دونه ممّن فضل هو عليه في أمور الدنيا وأحوال الدين فيعظّم نعمة الله تعالى عليه بسلامة قلبه ودينه وعافيته مما أبتلى الآخر به ويعظّم نعمة الدنيا عليه لما آتاه الله تعالى وكفاه فيما أحوج الآخر وألجأه إليه فيشكر على ذلك ثم ينظر إلى من هو فوقه في الدين ممن فضل عليها بعلم الإيمان وبحسن يقين فيمقت نفسه ويزري عليه وينافس في مثل ما رأى من أحوال من هو فوقه ويرغب فيها، فإذا كان كذلك كان من الشاكرين ودخل تحت اسم الممدوحين. وقد روينا معنى ذلك في حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال من نظر في الدنيا إلى من هو دونه ونظر في الدين إلى من هو فوقه كتبه الله صابراً شاكراً ومن نظر في الدنيا إلى من هو فوقه ونظر في الدين إلى من هو دونه لم يكتبه الله صابراً ولا شاكرا، ً وقد شرحنا هذا في مقام الرضا، فكرهنا إعادته ههنا، وكل وصف يكون العبد شاكراً به، يكون الشكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 مقاماً له فيه، فإن كفر النعمة يلزمه بضده لأن الكفر ضد الشكر، ومن كبائر النعم ثلاث من جهلها أضاع الشكر عليها ومعرفتها شكر العارفين، أولها استتار الله تعالى بقدرته وعزته عن الأبصار ولو ظهر للعباد لكانت معاصيهم كفراً لأنهم لم يكونوا ينقصون من المعاصي المكتوبة عليهم جناح بعوضة ولأنه تبارك وتعالى كان يظهر بوصف لا يمتنعون معه عن المعاصي، ووراء هذا سرائر الغيوب، إلا أنهم كانوا يكفرون بالمواجهة لانتهاك حرمة المشاهدة أيضاً لما كان لهم في الإيمان به من عظيم الدرجات ما لهم الآن لأنهم حينئذ يؤمنون بالشهادة وهم اليوم يؤمنون بالغيب، فرفعت لهم الدرجات بحسن اليقين، ولذلك مدحهم الله تعالى ووصفهم، والنعمة الثانية إخفاء القدر والآيات عن عموم الخلق لأنها من سر الغيب، وصلاح العبيد، واستقامة الدنيا والدين، ولو ظهرت لهم لكانت خطاياهم الصغائر كبائر مع معاينة الآيات، ولما ضوعفت لهم على أعمالهم الحسنات كمضاعفتها الآن للإيمان بالغيب، والنعمة الثالثة تغيّب الآجال عنهم إذ لو علموا بها لما كانوا يزدادون ولا ينقصون من أعمالهم الخير والشرّ ذرّة، فكان مع علمهم بالأجل أشد مطالبة لهم وأوقع للحجة عليهم فأخفى ذلك عنهم معذرة لهم من حيث لا يعلمون، ولطفاً بهم ونظراً لهم من حيث لا يحتسبون، ثم بعد ذلك من لطائف النعم شمول ستره لهم فيحجب بعضهم من بعض، وسترهم عند العلماء والصالحين، ولولا ذلك لما نظروا إليهم، ثم حجب الصالحين والأولياء عنهم، ولو أظهر عليهم آيات يعرفون بها حتى يكون الجاهلون على يقين من ولاية الله تعالى لهم وقربهم منه لبطل ثواب المحسنين إليهم ولحرم قبول عملهم ولحبطت أعمال المسيئين إليهم، ففي حجب ذلك وستره ما علم العاملون لهم في الخير والشرّ على الرجاء وحسن الظن بالغيب من وراء حجاب اليقين، وتأخرت عقوبات المؤذيين لهم عن المعاجلة لما ستر عليهم من عظيم شأنهم عند الله تعالى وجليل قدرهم، ففي ستر هذا نعم عظيمة على الصالحين في نفوسهم من سلامة دينهم وقلة فتنتهم ونعم جليلة عن المنتهكين لحرمتهم، المصغرين لشعائر الله تعالى من أجلهم، إذ كانوا أساءوا إليهم من وراء حجاب، فهذا هو لطف خفيّ من لطف المنعم الوهّاب سبحانه وتعالى، كما جاء في الخبر: يقول الله عزّ وجلّ: من آذى وليّاً من أوليائي فقد بارزني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 بالمحاربة، ثم أنا الثائر لوليّ لا أكلّ نصرته إلى غيري. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه في معنى هذه النعم التي أوجبنا الشكر في إخفائها قال: إن الله تعالى خبأ ثلاثاً في ثلاث، رضاه في طاعته، فلا تحتقروا منها شيئاً لعلّ رضاه فيه، وخبأ غضبه في معاصيه، فلا تحتقروا منها شيئاً لعلّ غضبه فيه، وخبأ ولايته في عباده المؤمنين، فلا تحتقروا منهم أحداً لعلّه وليّ الله تعالى، ويكون مثل ذلك مثل من آذى نبيّاً وهو لا يعلم بنبوّته وإن الله تعالى نبأه قبل أن يخبره أنه نبيّ الله عزّ وجلّ ورسوه إليه فلا يكون وزره وزر من انتهك حرمة نبي قد أعلمه أنه نبيّ الله تعالى لعظيم حرمة النبوّة، وللشاكرين طريقان: أحدهما أعلى من الآخر أوّلهما شكر الراجين وهو حسن المعاملة لما أملوه ورجوه من ظواهر النعم فعملوا رجاء إتمامها فكان حالهم المسارعة والمسابقة إلى الأعمال الصالحة شكراً لما ابتدأهم به وخصّهم دون سائر خلقه، وأعلاهما شكر الخائفين وهو خوف سوء الخاتمة والإشفاق من درك الشقاء بحكم السابقة نعوذ بالله تعالى منه فكان خوفهم دليلاً على اغتباطهم بموهبة الإيمان، وكان اغتباطهم يدل على عظيم قدر الإسلام في قلوبهم ونفيس مكانه عندهم فعظمت النعمة به عليهم فمعرفتهم بذلك هو شكرهم فصارالخوف والإشفاق طريقاً لهم في الشكر للرازق. وقد جعل الله تعالى ذلك نعمة وكل نعمة تقتضي شكراً في قوله تبارك وتعالى: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذينَ يَخَافُونَ أنْعم اللهُ عَلَيْهِما) المائدة: 23 قال بعض المفسرين: أنعم الله عليهما بالخوف وهذا أحد وجهي الكلام ولو لم يشكر العبد مولاه إلا أنه تبارك وتعالى على هذه الأوصاف والأخلاق التي هي صفاته وأخلاقه من نهاية الكرم والجود الذي لا غاية له ومن غاية التفضّل والحلم الذي لا نهاية له، فلما كان تبارك وتعالى بهذه الأخلاق المرجوّة والصفات الحسنى وجب أن يشكره العبيد لأجله تعالى لا لأجل نعمه وأفعاله؛ وهذا ذكر المحبين إذ لو كان الله تعالى على غير هذه الصفات والأخلاق التي عرفه بها العارفون ولا بدّ لهم منه أي شيء كان يصنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 العباد وأي حيلة كانت لهم فله الحمد كله وله الشكر كله كما هو مستحقه وأهله بحمده لنفسه، ولا ينبغي إلا له سبحانه وتعالى، كما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله إذ كان ولم يزل على ما هو الآن ولايزال أبداً على ما كان من الأوصاف والنعوت التامات والأسماء الحسنى والأمثال العلى، ومعرفة هذا هو شكر العارفين ومشاهدته هو مقام المقربين فشكر هؤلاء للّّه تعالى لأجل الله تعالى ودعاء هؤلاء التحميد والتقديس وأعمالهم الإجلال والتعظيم للأجل وسؤالهم تجلّي الصفات والنصيب من مشاهدة معاني الذات ووصف هذا لا يوصف وشرحه بالمعقول لا يعرف، وهذا داخل في مشاهدة قوله لمن شهد سر الكلام إذ يقول عزّ وجلّ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ) الشورى: 11 وعن هذه المشاهدة اغتبط موسى عليه السلام بالربوبية وأنس بالتقريب فانبسط بالتمكين فقال لي: ما ليس لك فقال: الله تعالى وما هو، فقال لي: مثلك وليس لك مثل نفسك فقال عزّ وجلّ: صدقت، يعني لي أنت على هذه الأوصاف التي هي غاية الطالبين ولا مزيد عليها للراغبين وليس لك كأنت إذ ليس كمثلك شيء وأن لا إله إلا أنت، فمن غامض النعم الشكر على هذه المعاني ما روي عنك وصرفه من فضول الدنيا فإنه أقل للشغل والإهتمام وأيسر للحساب، ثم ابتلي به غيرك من الدنيا مما شغله به عنه وقطعه دونه، ففي صرف الدنيا عنك وابتلاء غيرك بها نعمتان عليهما شكران وكذلك إذا رأيت مبتلي في دينه بصفات المنافقين أو مبتلي بنفسه بأخلاق المتكبرين أومنهما فيما عليه من أفعال الفاسقين عددت جميع ذلك نعماً من الله تعالى عليك إذ لم يجعلك كذلك لأنك قد كنت أنت ذاك لولا فضل الله عليك ورحمته فتحسب كل ما وجه إلى غيرك من الشرّ أو صرفه عنك من الخيران تعده نعماً عليك بمثل ما وجه إلىك من الخير وصرف عنك من الشرّ لأن النفوس كنفس واحدة في الأمر بالسوء والمشيئة والقدرة واحدة فقد رحمك بما صرف عنك من السوء فذلك من فضل الله تعالى عليك فمعرفته بذلك شكر منك لله تعالى وأكثر عقوبات الخلق من قلة الشكر على النعم وأصل قلة الشكر الجهل بالنعمة، وسبب الجهل بالنعمة قصور العلم بالله تعالى وطول الغفلة عن المنعم وترك التفكر في نعمه والتذكر لآلائه، ومنه سبحانه وتعالى فقد أمر بذلك في قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا آلاءَ الله لَعَلَّكُمُ تُفْلِحُونَ) الأعراف: 69 قيل: نعمه. وقال المفسرون: واذكروا نعمة الله عيكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به وبمعناه قوله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكبِّرُوا الله على مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) البقرة: 185، يعني على نعمة الهداية وتوفيق الطاعة فإذا جهل العبد النعمة لم يعرفها، وإذا لم يعرفها لم يشكر عليها وإذا لم يشكر عليها انقطع مزيده، ومن انقطع عنه المزيد فهو في نقصان ما أدّعى وأيضاً فإن من لم يشكر النعم لجهله بها لم يؤمن عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 كفرها، فإن كفرها أدركه العذاب الشديد للوعيد إلا أن تداركه نعمة من ربه وأصول نعم المرافق للأحراث أربعة؛ أوّلها: النطفة التي أخرجت من خزانة الأرحام جميع البهائم والأنام، ثم الحرث الذي أخرج من خزانة الأرض جميع الثمر، ثم الماء الذي لنا منه شراب ومنه شجر، ثم النار التي فيها ضياء ومصالح الأطعمة وبها لأهل البصائر تذكرة، وهذه النّعم هي التي ذكرها المنعم في آخر سورة الواقعة وأضافها إلى نفسه عزّ وجلّ ولم يجعل فيه شريكاً معه وفتح للعباد العمال أبوابها. ومن أفضل النّعم وأجلّها نعمة الإيمان به سبحانه وتعالى، ثم نعمة الرسول، ثم نعمة القرآن، ثم أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وقبل ذلك أول نعمة عقلناها أن جعلنا موجودين دون سائر المعدومات، ثم جعلنا حيواناً دون سائر الموات، ثم جعلنا بشر دون سائرالحيوان ثم جعلنا ذكوراً دون الإناث، ثم صوّرنا في أحسن تقويم ثم عوافي القلوب من الزيغ عن السنة ومن الميل إلى دواعي النفس الأمّارة، ثم صحة الأجسام ثم كشف الستر، ثم حسن الكفاية لحاجة، ثم صنوف ما أظهر من الأزواج للأقوات، ثم تسخير الصنعة لنا ممّا بين السماء والأرض؛ فهذه أمهات النعم فكلّما كثرت هذه المعاني وحسنت كثر الشكر عليهما فعظيم النّعم بها، (وإنْ تَعدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاتُحْصُوهَا) إبراهيم: 34 وكان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: خصّ بمعرفة النّعم وبمعرفة عظيم حلم الله تعالى وستره الصديقون. وقد قال الله تعالى أصدق القائلين وأحسن الواصفين: (وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَة الله لا تُحْصُوها إنَّ الله لَغَفُورٌ رَحيمٌ) إبراهيم: 34، فتمّت النعمة بوصفيه اللذين هو لهما أهل من المغفرة والرحمة ثم قال أيضاً في مثله: (إنَّ الإنّسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ) إبراهيم: 34 فكان أعظم للنعمة وأوسع في الكرم والمنّة على وصفي الإنسان اللذين هو أهل لهما من الظلم والكفر، فهو سبحانه وتعالى أهل التقوى وأهل المغفرة والعبد أهل لما وصفه به مولاه عزّ وجلّ إلى أن يجود عليه بقديم ما به تولاه فبنعمته أطاعه العاملون، ومن نعمته جازاهم وبنعمته عصاه الجاهلون، ومن نعمته ستر وحلم عنهم، ومن النعم إظهار الجميل وستر القبيح فلا ندري أي النعمتين أعظم جميل ما أظهر أو قبيح ما ستر، وقد يمدح الله تعالى بالوصفين معاً في الدعاء المأثور: يا من أظهر الجميل وستر القبيح، ومن النعمة الصحة والفراغ هما أوّل نعيم الدنيا وأصول أعمال الآخرة وبهما تكون المغابنات كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ، وقال الفضيل بن عياض: عليكم بمداومة الشكر على النّعم فقلّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم، وقال بعض السلف: النّعم وحشية فقيدوها بالشكر، وقد روي في خبر: ما عظمت نعمة الله تعالى على عبد إلاّ كثرت حوائج الناس إليه، فمن تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وقد قال الله تعالى: (إنَّ الله لا يُغَيّرُ مَا بِقَوْم حتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهمْ) الرعد: 11 قيل: لا يغير نعمه عليهم حتى يغيّروها بتضييع الشكر فيعاقبهم بالتغيير والوجه الآخر لا يغير ما بهم من عقوبة حتى يغيّروا معاصيهم بالتوبة، فذكر بذلك السبب الأوّل من حكمه ثم ذكر السبب الثاني من حكمته وهو مسبّب الأسباب للحكمة والمشيئة ويقال: إن تحت كل شعرة من جسم العبد نعمة، وبكل عرق في جسده نعمتان في تسكينه وتحريكه، وفي كل عظم أربع نعم، وبكل مفصل سبع نعم، وفي جسم الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، ومثل ذلك من العظام، وفي كل طرفة نعمتان، وبكل نفس نعمتان، وفي كل دقيقة تأتي عليه من عمره نعم لا تحصى، والدقيقة جزء من اثني عشر جزءاً من شعيرة، والشعيرة جزء من اثني عشر جزءاً من ساعة، والأنفاس أربعة وعشرون ألف نفس في اليوم والليلة، وفي أخبار موسى عليه السلام: ياربّ كيف أشكرك ولك في كل شعرة من جسدي نعمتان إن لينت أصلها وإن طمنت رأسها. وقد روينا في الأثر: من لم يعرف نعم اللّّه تعالى عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قلّ علمه وحضر عذابه؛ هذا مع سوابغ العوافي والكفايات والوقايات، ويقال: إن في باطن الجسم من النّعم سبعة أضعاف النّعم التي في ظاهره، وإن في القلب من النّعم أضعاف ما في الجسم كلّه من النّعم، وإن نعم الإيمان بالله تعالى والعلم واليقين أضعاف نعم الأجسام والقلوب؛ فهذه كلّها نعم مضاعفة على نعم مترادفة لا يحصيها إلا من أنعم بها ولا يعلمها إلا من خلقها، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، سوى نعم المطعم والمشرب والملبس والمنكح من دخول ذلك وخروجه وكثرة تكرره وتزايده بأن أدخل مهناه وأخرج أذاه وبأن طيب مدخله ويسرّ مخرجه وبقى منفعته وما أحال من صورته وغيّر من صفته فللتزهيد والذلة والاعتبار والتذكرة؛ وتلك أيضا نعم، قال: يقال إن الرغيف لا يستدير حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صنعة من السماء والأرض وما بينهما من الأجسام والأعراض والأفلاك والرياح والليل والنهار وبني آدم وصنائعهم والبهائم ومعادن الأرض، أوّلها ميكائيل الذي يكيل الماء من الخزائن فيفرغه على السحاب ثم السحاب التي تحمله فيرسله ثم الرياح التي تحمل السحاب والرعد والبرق والملكان اللذان يسوقان السحاب وآخرها الخباز فإذا استدار رغيفاً طلب سبعة آلاف صانع كل صانع أصل من أصول الصنائع؛ فهذه كلها نعم في حضور رغيف فكيف بمازاد عليه مما وراءه، فعلى العبد بكلّ نعمة شكران طولب بشكرنعمة واحدة علي حقيقتها هلك إلا أن تغمّده رحمة من ربه فتغمره لتمام النعمة. وروينا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة، فقال: هل تدري ماتمام النعمة؟ قال: لا، قال: دخول الجنة وقيل لبعض الحكماء: ما النعيم؟ قال: الغني فإني رأيت الفقير لا عيش له، قيل: زدنا، قال العافية فإني رأيت السقيم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 عيش له قيل: زدنا قال: الأمن فإني رأيت الخائف لا عيش له، قيل: زدنا، قال: الشباب فإني رأيت الهرم لا عيش له، قيل: زدنا، قال: لا أجد مزيداً، وبعض ما ذكره هو أحد الوجوه في قوله تعالى: (أَذْهَبْتُمْ طَيِبَّاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) الأحقاف: 20 قيل: الشباب وقيل: الفراغ وقيل الأمن والصحة، وفي قوله تعالى: (وَعَصيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ) آل عمران: 152 قيل: العوافي والغنى، وبمعناه في قوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) لقمان: 20 قيل: ظاهرة العوافي وباطنة البلاوي لأنه سبب نعيم الآخرة ومزيدها لقوله تعالى: (وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُس والثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابرينَ) البقرة: 155، وقد جاء في الخبر: من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها وأنشدت في معناه لبعض أهل القناعة: إذا القوت تأتي لك ... والصحة والأمن وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن وأنشد الآخر: كن وفلقة خبز ... وكوز ماء وأمن ألذ من كل عيش ... يحويه سحب وسجن وحدثونا أن عابداً عبد الله تعالى سبعين عاماً، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً يبشّره بدخول الجنة برحمة الله تعالى، فهجس في نفسه بل بعملي فاطلع الله تعالى على ذلك منه فأوحى إلى عرق ساكن من عروقه أن تحرك عليه، قال: فاضطرب لذلك وقلق وانقطعت عبادته وذهبت أعماله شغلاً منه بنفسه وقلق بنفسه، ثم أوحى الله تعالى إلى العرق أن اسكن فسكن، فرجع العبد إلى عبادته فأوحى الله تعالى إليه إنما قيمة عبادتك عرق واحد سكن من عروقك فاعترف. وروينا معناه عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوصف آخر أن رجلاً عبد الله سبعين عاماً قال: فيأمر الله عزّ وجلّ به إلى الجنة برحمته فيقول: بل بعملي فيقول الله عزّ وجلّ: أدخلوا عبدي الجنة بعمله قال: فيمكث في الجنة سبعين عاماً فيأمر الله تعالى به أن يخرج، ويقال له: قد استوفيت ثواب عملك قال: فيسقط في يديه ويندم فينظر أقوى شيء كان في نفسه بينه وبين ربه فإذا هوالرجاء وحسن الظن فيقول: ياربّ اتركني في الجنة برحمتك لا بعملي قال: فيقول اللّّه عزّ وجلّ: دعوا عبدي في جنتي برحمتي، وحدثت عن رجل شكا إلى بعض أهل المدينة فقره وأ ظهر لذلك غمه فقال له الرجل: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف؟ قال: لا، قال: فيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف قال: لا، قال: فيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرة آلاف، قال: لا، قال: فيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف؟ قال: لا، قال: أفما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً وهذا كما قال لأن في الإنسان قيم هذه الأشياء من الجوارح وزيادة من المال لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ديات جوارحه لو قطعت. وحدثني بعض الشيوخ في معناه أن بعض القراء المقربين اشتد به الفقر حتى أحزنه وضاق به ذرعاً، قال: فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له تود أنا أنسيناك سورة الإنعام وأن لك ألف دينار؟ قال: لا، قال: فسورة هود؟ قال: لا، قال: فسورة يوسف، قال: لا، قال: فمعك قيم مائة ألف وأنت تشكو الفقر فأصبح وقد سرى عنه همه، وهكذا جاء في الخبر: تغنوا بالقرآن أي استغنوا به ومن لم يستغن بآيات الله تعالى فلا أغناه الله عزّ وجلّ وإن القرآن هو الغنى الذي لا فقر معه ولا غنى بعده، ومن آتاه الله القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد استهزأ بآيات الله تعالى، وفي لفظ آخر: فقد استخف بما أنزل الله عزّ وجلّ، وفي الخبر: من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منا، وفي الخبر المجمل كفى باليقين غنى والقرآن هو حق اليقين. وروينا عن بعض السلف يقول الله عزّ وجلّ: إن عبداً أغنيته عن ثلاث فقد أتممت عليه نعمتي عن سلطان يأتيه وطبيب يداويه وعما في يد أخيه. وروينا في مناجاة أيوب عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى أوحى إليه: ما من عبد لي من الآدميين إلا ومعه ملكان فإذا شكر على نعمائي قال الملكان: اللهم زده نعماً على نعمه، فإنك أهل الشكر والحمد فكن من الشاكرين قريباً وزدهم شكراً وزدهم من النعماء وكفى بالشاكرين ياأيوب علوّ الرتبة عندي وعند ملائكتي، فأنا أشكر شكرهم وملائكتي تدعو لهم والبقاع تحبهم والآثار تبكي عليهم فكن لي ياأيوب شاكراً ولآلائي ذاكراً ولا تذكرني حتى أذكرك ولا تشكرني حتى أشكر أعمالك أنا أوفق أوليائي لصالح الأعمال وأشكرهم على ما وفقتهم وأقتضيهم الشكر ورضيت به مكافأة فرضيت بالقليل عن الكثير وتقبّلت القليل وجازيت عليه بالجزيل وشرّ العبيد عندي من لم يشكرني إلا في وقت حاجته، ولم يتضرّع بين يديَّ إلا في وقت عقوبته وذكر الكلام وقد جعل الله تعالى الشاكرين بوصف الصالحين والمقربين والعالمين؛ وهذه الأوصاف الثلاث من أعالي مقامات الموقنين، فقال عزّ وجلّ: وقليل من عبادي الشكور كما قال الله تعالى: (إلاّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملوا الصَّالِحَاتِ وَقَليلٌ مَا هُمْ) ص: 24 وكما قال في وصف المقربين: (ثُلَّةٌ مِنَ الأوّلينَ) (وٍَقَليلٌ مِنَ الآخِرينَ) الواقعة: 13 - 14 وكما قال عزّ وجلّ: (مَا يَعْلمُهُمْ إلاّ قليلٌ) الكهف: 22 وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سلوا الله العافية وما أعطى عبد أفضل من العافية إلا اليقين ففضل العافية على كلّ عطاء ورفع اليقين، فوق العافية لأن بالعافية يتمّ نعيم الدنيا واليقين معه وجود نعيم الآخرة؛ فلليقين فضل على العافية كفضل الدوام على الانتقال، والعافية سلامة الأبدان من الأسقام والعلل واليقين سلامة الأديان من الزيغ والأهواء: فهاتان نعمتان تستوعبان عظيم الشكر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 العبد كما استوعب القلب والجسم جسيم النّعم من الملك، ومن أقوى المعاني في قوله تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون) (إِلاّ منّ أَتى اللّّه بِقَلْبِ سَليمٍ) الشعراء: 88 - 89 قيل: سالم من الشك والشرك والسالم الصحيح المعافى وبوجود عافية اليقين في القلوب عدم الشك والنفاق وهي أمراض القلوب، كما قال تعالى: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) البقرة: 10 قيل: شك ونفاق وعافية القلب أيضاً من الكبائر كما قال تعالى: (فَيَطْمَعَ الّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ) الأحزاب: 32 يعني الرياء، ويقال: ما من مصيبة إلا ولله تعالى فيها خمس نعم؛ أوّلها: أنها لم تكن في الدين ويقال كل مصيبة في غير الدين فهي طريق من الدين، والثانية: إنها لم تكن أكبر منها، والثالثة: أنها كانت مكتوبة عليه لا محالة فقد نفدت واستراح منها، والرابعة: إنها عجّلت في الدنيا ولم تؤجل في الآخرة فتعظم على مقدار عذاب الآخرة، والخامسة: أن ثوابها خير منها فإن المصيبة إذا كانت في أمر الدنيا فإنها طريق إلى الآخرة وعندنا في قوله تعالى: (إنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار) إبراهيم: 34 قيل: ظلوم بالتسخط كفّار بالمعاصي وبالنعم، وحدثت أن العباس رضي الله عنه لما توفي قعد ابنه عبد الله رضي الله عنه للتعزية فدخل الناس أفواجاً يعزونه فكان فيمن دخل أعرابي فأنشده: اصبر نكن بك صابرين فإنما ... صبر الرعية بعد صبر الراس خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس فقال ابن عباس: ماعزّاني أحد تعزية الأعرابي واستحسن ذلك، وفي قوله تعالى: (إنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) العاديات: 6 قيل: هو الذي يشكو المصائب وينسى النعم، ولو علم أن مع كل مصيبة عشر نعم بحذائها وزيادة قلت شكواه وبدّلها شكراً، ثم إن المصائب لا تخلو من ثلاثة أقسام كلها نعم من الله تعالى، إما أن تكون درجة وهذا للمقرّبين والمحسنين، واما أن تكون كفّارة، وهذا لخصوص أصحاب اليمين وللأبرار، أو تكون هذا عقوبة وهذا للكافة من المسلمين، فتعجيل العقوبة في الدنيا رحمة ونعمة ومعرفة هذه النعم طريق الشاكرين، ومن أفضل النعم عند العلماء نعمة الإيمان ثم دوامه، لأن دوام الشيء نعمة ثانية لأنه بحكم ثانٍ عن مشيئة ثانية لأن الإرادة منه تعالى بحكم الإظهار لا توجب دوام المظهر فكان الشيء يظهر بإرادته ثم يتلاشى كأن لم يكن إلا أن يحكم سبحانه وتعالى حكماً ثانياً بنعمة ثانية بالثبات والدوام إذ لو لم يرد دوام السموات والأرض ما داما ولو لم يرد دوام ثبات الجبال ما ثبتت، كذلك لو لم يرد دوام الإيمان وثباته في القلوب بعد الكتب لظهر بالكتب ثم انمحى ورجع القلب إلى الكفر لكنه أنعم نعماً لا تحصى بدوامه وثباته في القلب، ومنه قوله تعالى: (يَمْحُوا الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبتُ) الرعد: 39 أي يمحو ما لايشاء ثبوته ويثبت ما يحبّ ولا يستطيع العبد شكر نعمة الإيمان ومعرفة بداية التفضّل به وقديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الإحسان من غير قدم من العبد ولا استحقاق بل بفضل الله وبرحمته، وهذا أحد الوجوه في قوله تعالى: (كلا لَمَّا يَقضِ مَا أَمَرَهُ) عبس: 23 أي لا يقضي العبد أبداً شكر ما أمره الله تعالى من نعمة الإسلام الي هي أصول النّعم في الدنيا والآخرة وهي سبب النجاة من النار ومفتاح دخول الجنة ولا أوّل للعبد فيها ولاشفيع كان له إلى الله تعالى بها ثم دوام ذلك وثباته مع الطرف والأنفاس بمدد منه نعم مترادفة. ومن هذا قوله تعالى: (كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة: 22 أي قواهم بمدد يثبته ويقوّيه وهو معنى قوله تعالى: (يُثَبَّتُ الله الَّذين آمَنُوا بالقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ) إبراهيم: 27 ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يامقلب القلوب أي عن الإيمان ومقلبها في الشك والشرك ثبّت قلبي على طاعتك، ومعرفة هذه النعمة اللطيفة العظيمة تستخرج من القلب خوف سوء الخاتمة لمشاهدة سرعة تقليب القلب بالمشيئة وذلك مزيد شكرها وهذا داخل في معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحبوا الله تعالى لما أسدى إليكم من نعمه ولما يغذوكم به أيضاً، فمن أفضل ما غذانا به نعمة الإيمان له والمعرفة به وغذاؤه لنا منه دوام ذلك ومدده بروح منه وتثبيتنا عليه في تصريف الأحوال إذ هو أصل الأعمال التي هي مكان النوال، فلو قلب قلوبنا عن التوحيد كما يقلب جوارحنا في الذنوب، ولو قلب قلوبنا في الشك والضلال كما يقلب نيّاتنا في الأعمال أي شيء كنّا نصنع وعلى أي شيء كنّا نعوّل وبأي شيء كنّا نطمئن ونرجو؛ فهذا من كبائر النعم ومعرفته هو من شكر نعمة الإيمان والجهلُ بهذا غفلة عن نعمة الإيمان يوجب العقوبة وادعاء الإيمان أنه عن كسب معقول أو استطاعة بقوّة وحول هو كفر نعمة الإيمان وأخاف على من توهم ذلك أن يسلب الإيمان لأنه بدل شكر نعمة الله كفراً. وقد جعل الله تعالى الخيرات من كسب الإيمان وليس لنا فيما يكسبنا الخيرات مكان بل الله تعالى منّ علينا أن هدانا للإيمان وجعله سبباً يكسب لنا بإحسانه الإحسان كما قال تعالى: (أَوْ كَسَبَتْ في إيمَانِهَا خَيْرَاً) الأنعام: 158 قيل التوبة، وقيل: الصالحات كلها كسب الإيمان ومن النّعم بعد الإيمان توفيقنا للحسنى وتيسيرنا لليسرى، ثم صرف الكفر وأخلاق الكفرة وأعمالهم ثم تزيين الإيمان وتحبيبه إلينا وتكريه الفسوق والعصيان فضلاً منه ونعمة إلى ما لا يحصى من نعمه فشكر ذلك لايقام به إلا بما وهب أيضاً وأنعم به من المعرفة بذلك والمعونة عليه، والحياء من تتابع النّعم هو من الشكر والمعرفة بالتقصير عن الشكر شكر، والاعتذار من قلة الشكر شكر، والمعرفة بعظيم الحلم وكثيف الستر شكر، والاعتراف بما أعطى من حسن الثناء وجميل النشر أنه من النّعم من غير استحقاق من العبد بل هو مضاف إلى نعمه بل هو من الشكر، وحسن التواضع بالنّعم والتذلّل فيها شكر، وشكر الخلق بالدعاء لهم وحسن الثناء عليهم لأنهم ظروف العطاء وأسباب المعطى تخلّقاً بأخلاق المولى جلّ وعلا هو من الشكر، وقلة الاعتراض وحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الأدب بين يدي المنعم شكر، وتلقّي النّعم بحسن القبول وتكثير تصغيرها وتعظيم حقيرها من الشكر، لأن طائفة هلكت باستصغار الأشياء واستحقار وجود المنافع بها جهلاً بحكمة الله تعالى واستصغار النعمة فكان ذلك كفراً بالنّعم، ومن الناس من يقول إن الصبر أفضل من الشكر وليس يمكن التفضيل بينهما عند أهل التحصيل من قبل أن الشكر مقام لجملة من المؤمنين والترجيح بين جماعة على جماعة لا يصحّ من قبل تفاوتهم في اليقين في المشاهدات لأن بعض الصابرين أفضل من بعض الشاكرين لفضل معرفته وحسن صبره، وخصوص الشاكرين أفضل من عموم الصابرين لحسن يقينه وعلوّ مشاهدته، ولكن تفضيل ذلك من طريق الأحوال والمقامات أنا نقول: والله أعلم أن الصبر عن النعيم أفضل لأن فيه الزهد والخوف؛ وهما أعلى المقامات وأن الشكر على المكاره أفضل لأن فيه البلاء والرضا، وأن الصبر على الشدائد والضرّاء أفضل من الشكر على النّعم والسرّاء من قبل أنه أشقّ على النفس وأن الصبر مع حال الغنى والمقدرة أن يعصي بذلك أفضل من الشكر على النّعم من قبل أن الصبر عن المعاصي بالنّعم أفضل من الطاعة بها لمن جاهد نفسه فيها، فإذا شكر على ما يصبر عليه فقد صار البلاء عنده نعمة، وهذا أفضل لأنها مشاهدة المقربين، وإذا صبر عمّا يشكر عليه من النّعم كان أفضل لأنها حال المجاهدة. وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاءً ثم الأمثل فالأمثل يعني الأقرب شبهاً بنا فالأقرب، فرفع أهل البلاء إليه ووصف نفسه به وجعلهم الأمثل فالأمثل منه فمن كان برسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمثل كان هو الأفضل، وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاكراً على شدة بلائه كذلك الشاكر من الصابرين يكون أفضل لشكره على البلاء إذ هو الأقرب والأمثل بالأنبياء، وكلّ مقام من مقامات المقرّبين يحتاج إلى صبر وشكر، وأحدهما لا يتمّ إلا بالآخر لأن الصبر يحتاج إلى شكر عليه ليكمل، والشكر يحتاج إلى صبر عليه ليستوجب المزيد، وقد قرن الله تعالى بينهما ووصف المؤمنين بهما فقال: (إنَّ فِي ذَلِكَ لأيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لقمان: 31 فذكرالشكر بلفظ المبالغة في الوصف على وزن فعول، كما ذكرالصبر على وزن فعّال وهو وصف المبالغة أيضاً، ولذلك اقتسما الإيمان نصفين، كما جاء في الخبر: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله؛ لأن اليقين أصلهما وهما ثمرتاه عنه يوجدان لأن الشاكر أيقن بالنعمة أنها من المنعم وأيقن بإنجاز ما وعده من المزيد فشكر كما أيقن الصابر بمسّه بالبلاء لأنه هو المبتلي وأيقن بثواب المبلي وحسن ثنائه على الصابرين فصبر فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم؛ فهما حالا الموقن إذ لا يخلو في أدنى وقت من أحد اثنين؛ بليّة وتحية، إذ في كل شيء له آية فحاله في البليّة الصبر، وحاله في التحية الشكر، والله يحب الصابرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ويحب الشاكر وهذا آخر شرح مقام الشكر والحمد لله ربّ العالمين. شرح مقام الرجاء ووصف الراجين وهو الرابع من مقامات اليقين قال الله تعالى: (الله لَطيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) الشورى: 19 وقال: جلت قدرته: (وَكَاَنَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) الأحزاب: 43 وقال تعالى: (يَاعِبَاديَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفسهمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إن الله يَغْفِرُ الّذُنُوبَ جَميعاً) الزمر: 53 وروينا في قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ولا يبالي أنه هو الغفور الرحيم، وفي الأخبار لمشهورة فقبض قبضة فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي المعنى والله أعلم أن رحمتي وسعت كل شيء فليس يضيق هولاء عنها ولا أبالي بدخولهم فيها، ويكون هؤلاء أيضاً في الجنة، ولا أبالي بأعمالهم السيئة كلها، وقال سبحانه وتعالى في وصف المتقين: (وَالَّذينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله) آل عمران: 135 فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، وقال عزّ وجلّ في وصف المتوكلين: (إلا اللَّمَمَ إِنَّ ربَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة) النجم: 32 وقال تعالى مخبراً عن الملائكة الحافين حول عرشه: (وَالْملائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ربَّهِمْ وَيَستَغٌفِرون لمَنْ في الأرض) الشورى: 5 وأخبر عزّ وجلّ أن النار أعدها لأعدائه وأنه خوّف بها أولياءه، فقال تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهمْ ظُلَل مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخوِّفُ الله بهِ عِبَادَهُ) الزمر: 16 ومثله قول عزّ وجلّ: (واتَّقُوا النار الَّتي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ) آل عمران: 131 وقال: (فَأنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) الليل: 14 لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، وقال تعالى في عفوه عن الظالمين (وَإنَّ رَبَّك لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) الرعد: 6 ورينا أن النبي عليه السلام لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له: أما ترضى وقد أنزلت عليك هذه الآية: (وَإنَّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للنَّاس عَلى ظُلْمِهِمْ) آل عمران: 135 وفي تفسير قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) الضحى: 5 قال: لا يرضى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدخل واحد من أمته النار، وكان أبوجعفر محمد بن علي رضي الله عنه يقول: أنتم أهل العراق تقولون أرجى آية في كتاب اللّّه تعالى قوله تعالى: (يَاعِبَادي الَّذين أَسْرَفُوا على أَنْفُسهِمْ لاتَقْنطُوا مِنْ رَحْمةِ الله) الزمر: 53 الآية، ونحن أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله تعالى: (وَلَسَوْف يُعْطِيكَ رَبُّك فَتَرْضَى) الضحى: 5 وعده ربه عزّ وجلّ أن يرضيه في أمته، وروينا في حديث أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى: أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة جعل عقابها في الدنيا الزلازل والفتن فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجلاً من أهل الكتاب فيقال هذا فداؤك من النار، وروينا في لفظ آخر: يأتي كلّ رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم فيقول: هذا فدائي من النار فيلقي فيها، وفي الخبر: إن الحمى من فيح جهنم وهي حظ المؤمنين من النار، وروينا في تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ لايُخْزِي اللهُ الْنَّبيَّ والَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ) التحريم: 8، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تريد أن أجعل حساب أمتك إليك؟ فقال: لا ياربّ أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 خير لهم مني، قال: إذاً لا نخزيك فيهم، وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبوي لأني أعلم أن الله تبارك وتعالى أرحم بي منهما. وروينا في خبر سلمة بن وردان عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل ربه تعالى في ذنوب أمته فقال: ياربّ اجعل حسابهم إلي لئلا يطلع على مساوئهم غيري فأوحى الله تعالى إلىه: هم أمتك وهم عبادي وأنا أرحم بهم منك لا أجعل حسابهم إلى غيري كيلا تنظر في مساوئهم أنت ولا غيرك، وقد روينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال حياتي خير لكم وموتي خيرلكم، أما حياتي فإني أبين لكم السنن وأشرع الشرائع، وأما موتي فأعمالكم تعرض عليّ فما رأيت منها حسناً حمدت الله عزّ وجلّ وما رأيت منها شيئاً استغفرت الله عزّ وجلّ لكم. وروينا في الأثر: إذا تاب العبد من ذنوبه أنسى الله عزّ وجلّ ملائكته وبقاع الأرض معاصيه وبدلها حسنات حتى يرد القيامة وليس شيء يشهد عليه، وكذلك يقال: إن المؤمن إذا عصاه ستره الله تعالى عن أبصار الملائكة كيلا تراه فتشهد عليه، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم: ياكريم العفو، فقال له جبريل عليه السلام: تدري ما تفسير يا كريم العفو هو أنه عفا عن السيئات برحمته ثم بدلها حسنات بكرمه، وسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة، فقال: هل تدري ما تمام النعمة؟ قال: لا، قال: دخول الجنة، وقد أخبرنا الله تعالى أنه قد أتمّ نعمته علينا برضاه الإسلام لنا؛ فهذا دليل على دخول الجنة، فقال عزّ وجلّ: (اليْوَمَ أَكمْلتُ لَكُمْ دينَكمُ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسلام ديناً) المائدة: 3 وقد اشتركنا في ذلك مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنحن نرجو المغفرة لذنوبنا بفضله، فقال عزّ من قائل: (ليغفرلك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر يتمّ نعمته عليك) ، وفي خبر علي رضي الله عنه: من أذنب ذنباً فستره الله تعالى عليه في الدنيا، فالله تبارك وتعالى أكرم من أن يكشف ستره في الآخرة، ومن أذنب ذنباً فعوقب عليه في الدنيا فالله تعالى أعدل من أن يثني عقوبته على عبده في الآخرة، وفي لفظ آخر: لا يذنب عبد في الدنيا فيستره الله تعالى عليه إلا غفر له في الآخرة. وعن بعض السلف: كل عاصٍ فإنه يعصي تحت كنف الرحمن، والكنف من الإنسان حضنه ما بين يديه وصدره، قال: فمن ألقى عليه كنفه ستر عورته ومن رفع عنه كنفه افتضح، ويقال: إن من فضح في الدنيا بذنب فهو كفّارته ولا يفضح به في الآخرة. وفي الخبر: إذا أذنب العبد فاستغفر الله، يقول الله سبحانه وتعالى لملائكته: انظروا إلى عبد أذنب ذنباً فعلم أن له ربَّاً يغفرالذنب فيأخذ بالذنب، أشهدكم أني قد غفرت له، وحدثت عن محمد بن مصعب قال: كتب إلى أسود بن سالم بخطّه: إن العبد إذا كان مسرفاً على نفسه؛ يرفع يديه يدعو يقول: ياربّ فإذا قال ياربّ، حجبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الملائكة صوته، فإذا قال الثانية ياربّ، حجبت الملائكة صوته، فإذا قال الثالثة يا ربّ حجبت الملائكة صوته، فإذا قال الرابعة يقول الله تعالى حتى متى تحجبوا صوت عبدي عني، قد علم عبدي أنه ليس له ربّ يغفر الذنوب غيري، أشهدكم أني قد غفرت له، وفي الحديث إذا أذنب العبد حتى تبلغ ذنوبه عنان السماء غفرتها له ما استغفرني ورجاني. وفي حديث آخر: لو لقيني عبدي بقراب الأرض ذنوباً، لقيته بقرابها مغفرة ما لم يشرك بي شيئاً، وفي الخبر: إن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا أذنب ست ساعات، فإن تاب واستغفر لم يكتبه عليه وإلا كتبها سيئة، وفي لفظ آخر: فإذا كتبها عليه وعمل حسنة، قال صاحب الشمال وهو أمير عليه: ألق هذه السيئة حتى ألقي من حسناته واحدة من تضعيف العشرة وأرفع تسع حسنات فيلقي عنه هذه السيئة ويقال: إن الله تعالى جعل في قلب صاحب اليمين من الرحمة للعبد أضعاف ما جعل في قلب صاحب الشمال مع أنه أمره عليه، فإذا عمل العبد حسنة فرح بها ملك اليمين، ويقال: فرح بها الملائكة فيكتب للعبد بفرحه الحسنات. وروينا في حديث أنس بن مالك الطويل: إذا أذنب العبد ذنباً كتب عليه، فقال الأعرابي: فإن تاب؟ محي من صحيفته، قال: فإن عاد؟ قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكتب عليه، قال الأعرابي: فإن تاب؟ قال محي من صحيفته، قال: إلى متى يارسول الله؟ قال: إلى أن يستغفر: ويتوب إلى الله تعالى، وأن الله لا يملّ من المغفرة حتى يملّ العبد من الاستغفار، فإذا هم العبد بحسنة كتبها صاحب اليمين حسنة قبل أن يعملها فإذا عملها كتبها عشر حسنات ثم ضاعفها الله عزّ وجلّ إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بخطيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت خطيئة واحدة وراءها حسن عفوالله تعالى: وجاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه ولاأصلي إلا الخمس لا أزيد عليهنّ وليس للّّه تبارك وتعالى في مالي صدقة ولاحجّ ولا أتطوع أين أنا إذا مت؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في الجنة، قال: يا رسول الله معك فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال نعم معي إن حفظت قلبك من اثنين الغل والحسد ولسانك من اثنين: الغيبة والكذب، وعينك من اثنين: النظر إلى ما حرم الله تعالى وإن تزدري بهما مسلماً دخلت معي الجنة على راحتي هاتين. وروينا في الخبر الطويل عن أنس رضي الله عنه: أن الأعرابي قال: يا رسول الله من يلي حساب الخلق؟ قال: الله عزّ وجلّ قال: هو بنفسه؟ قال: نعم، قال: فتبسم الأعرابي فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ممّ ضحكت ياأعرابي؟ فقال: إن الكريم إذا قدر عفا وروي تجاوز، وإذا حاسب سامح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدق ألا ولا كريم أكرم من الّه عزّ وجلّ هو أكرم الأكرمين، ثم قال عليه السلام: فقه الأعرابي، وفيه أيضاً: إن الله تبارك وتعالى شرف الكعبة وعظمها، ولو أن عبداً هدمها حجراً حجراً ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخف بوليّ من أولياء الله تعالى، قال الأعربي من أولياء الله؟ قال: المؤمنون كلهم أولياء الله تعالى، أما سمعت الله تعالى يقول: (الله وَلِيُّ الَّذين آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 إلى النُّورِ) البقرة: 257، وفي الخبر المفرد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن أفضل من الكعبة، والمؤمن طيب طاهر والمؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة، وفي الخبر المشهورعن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة رضي الله عنهما وكعب الأحبار أنه نظر إلى الكعبة فقال: ما أشرفك وما أعظمك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أنبياءه بتطهير بيته لأوليائه إجلالاِ لهم فشرّف البيت بهم، وفي الخبر عن الله تعالى: من أهان وليّاً فقد بارزني بالمحاربة وأنا الثائر لوليي في الدنيا والآخرة، وفي أخبار يعقوب عليه السلام أن الله تعالى أوحى إلىه: تدري لم فرقت بينك وبين يوسف عليه السلام هذه المدة؟ قال: لا قال: لقولك لإخوته أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، لم خفت الذئب عليه ولم ترجني له، ولم نظرت إلى غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظي له، ومن سبق عنايتي بك أن جعلت نفسي عندك أرحم الراحمين، فرجوتني ولولا ذلك لكنت أجعل نفسي عندك أبخل الباخلين، فالرجاء هو اسم لقوّة الطمع في الشيء بمنزلة الخوف اسم لقوّة الحذر من الشيء، ولذلك أقام الله تعالى الطمع مقام الرجاء في التسمية وأقام الحذر مقام الخوف فقال: علت كلمته: (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) وقال تعالى: (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) وهو وصف من أوصاف المؤمنين وخلق من أخلاق الإيمان لا يصحّ إلا به كما لا يصحّ الإيمان إلا بالخوف، فالرجاء بمنزلة أحد جناحي الطير لايطير إلا بجناحيه، كذلك لا يؤمن من لا يرجو من آمن به ويخافه وهو أيضاً مقام من حسن الظن بالله تعالى وجميل التأميل له، فلذلك أوصى رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لا يموتن أحدكم إلاوهو حسن الظن بالله تعالى لأنه قال عن الله تعالى: أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي ماشاء، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله تعالى ماأحسن عبد بالله تعالى ظنّه إلا أعطاه الله تعالى ذلك لأن الخير كله بيده أي فإذا أعطاه حسن الظن بالله تعالى فقد أعطاه ما يظنه لأن الذي حسن ظنه به هو الذي أراد أن يحققه له. وروينا عن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري رضي الله عنه يقول في قوله تعالى: (وَأَحْسِنُوا إنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ) البقرة: 195 قال: أي أحسنوا بالله تعالى الظنّ، وكذلك دخل رسول الله على الرجل وهو في سياق الموت فقال: كيف تجدك؟ فقال: أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي، فقال عليه السلام: ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله تعالى ما رجا وأمنه مما يخاف، ولذلك قال عليٌّ كرّم اللهُ وجهه للرجل الذي أطار الخوف عقله حتى أخرجه إلى القنوط فقال له: يا هذا أيأسك من رحمة اللهّّ تعالى أعظم من ذنبك؟ صدق رضي الله عنه لأن الإياس من روح الله تعالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الذي يستريح إليه المكروب من الذنوب والقنوط من رحمة الله تعالى التي يرجوها المبتلي بالذنوب أعظم من ذنوبه وهو أشد من جميع ذنوبه لأنه قطع بهواه على صفات الله تعالى المرجوّة وحكم على كرم وجهه بصفته المذمومة فكان ذلك من أكبر الكبائر وإن كانت ذنوبه كبائر. وهكذا جاء في التفسير: ولاتلقوا بأيدكم إلى التهلكة قال: هو العبد يذنب الكبائر ويلقى بيده ولا يتوب ويقول: قد هلكت لا ينفعني عمل فنهوا عن ذلك إلا أن الرجاء مقام جليل وحال شريف نبيل لا يصلح إلا للكرماء من أهل العلم، والحياء وهو حال يحول عليهم بعد مقام الخوف، يروحون به من الكرب ويستريحون إلىه من مقارفة الذنب، ومن لم يعرف الخوف لم يعرف الرجاء، ومن لم يقم في مقام الخوف لم يرفع إلى مقامات أهل الرجاء على صحة وصفاء ورجاء، كل عبد من حيث خوفه ومكاشفته عن أخلاق مرجوة من معنى ما كان كوشف به من صفات مخوفة، فإن كان أقيم مقام المخوفات من المخلوقات مثل الذنوب والعبوب والأسباب، رفع من حيث تلك المقامات إلى مقامات الرجاء، بتحقيق الوعد وغفران الذنب وتشويق الجنان وما فيها من الأوصاف الحسان؛ وهذه مواجهات أصحاب اليمين وإن كان أقيم مقام مخاوف الصفات عن مشاهدة معاني الذات مثل سابق العلم وسوء الخاتمة وخفي المكر وباطن الاستدارج وبطش القدرة وحكم الكبر والجبروت، رفع من هذه المقامات إلى مقام المحبة والرضا، فرجا من معاني الأخلاق وأسماء الكرم والإحسان والفضل والعطف واللطف والإمتنان، وليس يصحّ أن نخبر بكل ما نعلم من شهادة أهل الرجاء في مقامات الرجاء من قبل أنه لا يصلح لعموم المؤمنين، وهو يفسد من لم يرزقه أشد الفساد فليس يصلح إلا بخصوصة ولا يجديه ولا يستجيب له ولا يستخرج إلا من المحبة ولا محبة إلا بعد نصح القلب من الخوف، وأكثر النفوس لا يصلح إلاعلى الخوف، كعبيد السوء لا يستقيمون إلا بالسوط والعصا ثم يواجهون بالسيوف صلتاً، ومن علامة صحة الرجاء في العبد كون الخوف باطناً في رجائه لأنه لما تحقق برجاء شيء خاف فوته لعظم المرجوّ في قلبه وشدة اغتباطه به، فهو لا ينفك في حال رجائه من خوف فوت الرجاء؛ والرجاء هو ترويحات الخائفين، ولذلك سمّت العرب الرجاء خوفاً لأنهما وصفان لا ينفك أحدهماعن الآخر، ومن مذهبهم أن الشيء إذا كان لازماً لشيء أو وصفاً له أو سبباً منه، أن يعبّروا عنه به فقالوا: مالك لا ترجو كذا وهم يريدون ما لك لا تخاف؟ وعلى هذه اللغة جاء قول الله تعالى: (مَا لَكُْم لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً) نوح: 13 أجمعوا على تفسيره: مالكم لا تخافون لله عظمة، وهو أيضاً أحد وجهي تفسير قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) الكهف: 110 أي يخاف من لقائه ومثل الخوف من الرجاء، مثل اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 من الليلة لما لم ينفك أحدهما عن الآخر جاز أن يعبر عن المدة بأحدهما فيقال: ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، ومنه قول الله تعالى مخبراً عن قصة واحدة فقال عزّ وجلّ: (آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَال سَويَّاً) مريم: 10 ثم قال تعالى: (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً) آل عمران: 41 فلما لم يكن اليوم ينفك عن ليلته والليلة لا تنفك عن يومها أخبر عن أحدهما بالآخر لأن أحدهما يشبه الآخر مندرج فيه، ولا يظهر إلا أحدهما بحكمة الله تعالى وقدرته لتفاوت أحكامه فيهما، وافتراق إنعامه بهما، فإذا ظهر النهار اندرج الليل فيه بقدرته تعالى، وإذا ظهر الليل استتر النهار بحكمه تعالى، وهو حقيقة إيلاجه أحدهما في الآخر، وتحقيق تكويره أحدهما على صاحبه، فكذلك حقيقة الرجاء والخوف في معاني الملكوت إذا ظهر الخوف كان العبد خائفاً، وظهرت عليه أحكام الخوف عن مشاهدة التجلي بوصف مخوف، فسمّي العبد خائفاً لغلبته عليه وبطن الرجاء في خوفه، وإذا ظهر الرجاء كان العبد راجياً وظهرت منه أحكام الرجاء عن مشاهدة تجلّي الربوبية بوصف مرجوّ فوصف العبد به لأنه هو الأغلب عليه وبطن الخوف في رجائه لأنهما وصفان للإيمان كالجناحين للطير، فالمؤمن بين الخوف والرجاء كالطائر بين جناحيه وكلسان الميزان بين كفتيه ومنه قول مطرف: لو وزن خوف المؤمن ورجاءه لاعتدلا فهذا أصل في معرفة حقيقة الرجاء وصدق الطمع في المرجوّ، فالمؤمنين في اعتدال الخوف والرجاء مقامان؛ أعلاهما مقام المقرّبين، وهو ما حال عليهم من مقام مشاهدة الصفات المخوفة والأخلاق المرجوّة، والثاني مقام أصحاب اليمين وهو ماعرفوه من بدائع الأحكام وتفاوت الأقسام، من ذلك أنه أنعم سبحانه وتعالى على الخلق بفضله عن كرمه اختياراً لا إجباراً، فلما أعلمهم ذلك رجو تمام النعمة من حيث ابتداؤها، ومن ههنا طمع السحرة في المغفرة لما ابتدؤا بالإيمان فقالوا: إنّا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا إن كنّا أول المؤمنين، أي من حيث جعلنا أوّل المؤمنين من هذا المكان نرجو أن يغفر لنا بأن جعلنا مؤمنين به فرجوه منه، وقد ذم الله تعالى عبداً أوجده نعمة ثم سلبها فأيس من عودها عليه فقال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسََانَ مِنّا رَحْمَةً ثُم نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ) هود: 9 ثم استثنى عباده الصابرين عليه الصالحين له فقال تعالى: (إِلا الَّذين صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هود: 11 وروي أن لقمان عليه السلام قال لابنه خف الله تعالى خوفاً لا تأمن فيه مكره، وارجه رجاء أشدّ من خوفك، قال: وكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟ قال: أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما، ويرجو بالآخر؟ والمعنى أن الخوف والرجاء وصف الإيمان لا يخلو منهما قلب مؤمن، فصار كذي قلبين حينئذ ثم إن الخلق خلقوا على أربع طبقات، في كل طبقة طائفة فمنهم من يعيش مؤمناً ويموت مؤمناً، فمن ههنا رجاؤهم لأنفسهم ولغيرهم من المؤمنين، إذ قد أعطاهم فرجوا أن يتمّ عليهم نعمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وأن لا يسلبهم بفضله ما به بدأهم، ومن الناس من يعيش مؤمناً ويموت كافراً فهذا موضع خوفهم عليهم وعلى غيرهم لمكان علمهم بهذا الحكم ولغيب حكم الله تعالى بعلمه السابق فيهم، ومن الناس من يعيش كافراً ويموت مؤمناً، ومنهم من يعيش كافراً ويموت كافراً؛ فهذان الحكمان أوجبا رجاءهم الثاني للمشترك إذا رأوه فلم يقنطوا بظاهره أيضاً خوف هذا الرجاء خوفاً ثانياً أن يموت على تلك الحال وأن يكون ذلك هو حقيقة عند الله تعالى، فعلم المؤمن بهذه الأحكام الأربعة ورثه الخوف والرجاء معاً، فاعتدل حاله بذلك لاعتدال إيمانه به، وحكم على الخالق بالظاهر، ووكّل إلى علام الغيوب السرائر، ولم يقطع على عبد بظاهره من الشرّ، بل يرجو له ما بطن عند الله تعالى من الخير، ولم يشهد لنفسه ولا لغيره بظاهر الخير، بل يخاف أن يكون قد استسرّ عند الله تعالى باطن شرّ، إلا أن حال التمام أن يخاف العبد على نفسه ويرجو لغيره لأن ذلك هو وجد المؤمنين من قبل أنهم متعبدون بحسن الظن، فهم يحسنون الظنّ بالناس، ويخرجون لهم المعاذير بسلامة الصدور، وتسليم ما غاب إلى من إليه تصير الأمور، ثم هم في ذلك يسيئون الظنّ بنفوسهم لمعرفتهم بصفاتها، ويوقعون الملاوم عليها ولا يحتجون لها لباطن الإشفاق منهم عليهم، ولخوف التزكية منهم لهم، فمن قلب عليه هذان المعنيان فقد مكر به حتى يحسن الظن بنفسه ويسيء ظنّه بغيره، فيكون خائفاً على الناس، راجياً لنفسه، عاذراً لنفسه، محتجاً لها، لائماً للناس، ذامّاً لهم؛ فهذه أخلاق المنافقين، ثم إن للراجي حالاً من مقامه ولحاله علامة من رجائه، فمن علامة الرجاء عن مشاهدة المرحوّ، دوام المعاملة وحسن التقرب إليه وكثرة التقرب بالنوافل لحسن ظنّه به وجميل أمله منه، وأنه يتقبّل صالح ما أمر به تفضّلاً منه من حيث كرمه، لا من حيث الواجب عليه، ولا الاستحقاق منّا وأنه أيضاً يكفر سئ ما عمله إحساناً منه ورحمةً من حيث لطفه بنا وعطفه علينا لأخلاقه السنيّة وألطافه الخفيّة لا من حيث اللزوم له بل من حيث حسن الظنّ به، كما قال سفيان الثوري رضي الله عنه: من أذنب ذنباً، فعلم أن الله تعالى قدره عليه ورجا غفرانه غفر الله عزّ وجلّ له ذنبه، قال: لأن الله تعالى غيّر قوماً فقال تعالى: (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذي ظًنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) فصلت: 23 وقد قال سبحانه وتعالى في مثله: (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) الفتح: 12 أي هلكى، ففي دليل خطابه عزّ وجلّ أنّ من ظنّ حسناً كان من أهل النجاة، وقد جاء في الأثر: إن من أذنب ذنباً فأحزنه ذلك غفر له ذنبه وإن لم سيغفر، ومقام الرجاء كسائر مقامات اليقين منها فرض وفضل، فعلى العبد فرض أن يرجو مولاه وخالقه معبوده ورازقه، من حيث كرمه وفضله، لا من حيث نظره إلى صفات نفسه ولؤمه، وقد كان سهل رحمه الله تعالى يقول: من سأل الله تبارك وتعالى شيئاً فنظر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 شيء وإلى أعماله لا يرى الإجابة حتى يكون ناظراً إلى الله تبارك وتعالى وحده وإلى لطفه وكرمه، ويكون موقناً بالإجابة، ولعمري أن من سأل الله تعالى ورغب إلىه في شيء، ورجاه ناظراً إلى نفسه وعمله، فإنه غير مخلص في الرجاء له تعالى لشركه في النظر إليه، وإذا لم يكن مخلصاً لم يكن موقناً، ولا يقبل الله تعالى عملاً ولا دعاء إلا من موقن بالإجابة مخلص، فإذا شهد التوحيد ونظر إلى الوحدانية فقد أخلص وأيقن، وهكذا جاء في الخبر: إذا دعوتم فكونوا موقنين بالإجابة، فإن الله تعالى لا يقبل إلا من موقن ومن داع دعاءً بيناً من قلبه، لأن من استعمله الله تعالى بالدعاء له فقد فتح له باباً من العبادة. وفي الخبر: الدعاء نصف العبادة ولايقبل الله تعالى من الدعاء إلا الناخلة بمعنى المنخول وهو الخالص، فأقل ما يعطيه من دعائه أن يكون ذلك حسنة منه، يضعفه له عشراً إلى سبعمائة ضعف، وأعلاه أن يدخر له في الآخرة ماهو خير له من جيمع الدنيا وما فيها مما لم يخطر على قلبه قطّ، ويكون ذلك حسن نظر من الله تعالى له واختيار، وأوسط ذلك أن يصرف عنه من البلاء الذي هو لو كان علمه كان صرفه أهمّ عليه وأحبّ إليه مما سأل فيه، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من داع دعا موقناً بالإجابة في غير معصية ولا قطيعة رحم، إلا إعطاه الله تعالى إحدى ثلاث؛ إما أن يجيب دعوته فيما سأل، أو يصرف عنه من السوء مثله، أو يدخر له في الآخرة ما هو خير له، وفي أخبار موسى عليه السلام: ياربّ أي خلقك أنت عليه أشدّ تسخطاً؟ فقال تعالى: من لم يرض بقضائي، ومن يستخيرني في أمر فإذا قضيت له كره ذلك، وفي الخبر الآخر: إنه قال ياربّ أي الأشياء أحب إليك وأيها أبغض؟ فقال سبحانه وتعالى: أحب الأشياء إليّ الرضا بقضائي وأبغضها إليّ أن تطري نفسك. وروينا عن نبيّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال للرجل الذي قال: أوصني فقال: لاتتهم الله تعالى في شيء قضاه عليك، وفي الخبر الآخر: أنه نظر إلى السماء وضحك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسئل عن ذلك فقال: عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن في كلّ قضائه له خير، إن قضي له بالسرّاء رضي؛ وكان خيراً له وإن قضي عليه بالضرّاء رضي به وكان خيراً له، ومن حسن الظنّ بالله تعالى لطف التملّق له سبحانه وتعالى، وهو من قوة الطمع فيه، وفي خبر: حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ من حسن عبادة الله عزّ وجلّ، كما روينا في تفسير قوله تعالى: (فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) البقرة: 73 إن الكلمات هي قوله عليه السلام: ياربّ هذا الذنب الذي أصبته كان من قبل نفسي أو من شيء سبق في علمك قبل أن تخلقني قضيته عليّ، فقال: بل شيء سبق في علمي كتبته عليك، قال: ياربّ فكما قضيته عليّ فاغفر لي، قال: فهي الكلمات التي لقاه الله تعالى إياها. وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله تعالى للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 أن تنكره؟ قال: فإن لقن الله تعالى العبد حجته قال: ياربّ رجوتك وخفت الناس، قال: لقد غفرت له، وفي الخبرالمشهور: أن رجلاً كان يداين الناس فيسمح لهم ويتجاوز عن المعسر فلقي اللّّ تعالى ولم يعمل خيراً قط، فقال اللّّه تعالى سبحانه وتعالى: نحن أحقّ بذلك منك قال: فغفر له برجائه وظنه، ثم يتفاوت الراجون في فضائل الرجاء، فالمقرّبون منهم رجوا النصيب الأعلى من القرب والمجالسة والتجلّي بمعاني الصفات مما عرفوه؛ وهذا عن علمهم به وأصحاب اليمين من الراجين رجوا النصيب الأوفر من مزيده والفضل الأجزل من عطائه يقيناً بما وعد، ومن الرجاء: انشراح الصدر بأعمال البّر وسرعة السبق والمبادرة بها خوف فوتها ورجاء قبولها، ثم مهاجرة السوء ومجاهدة النفس رجاء انتجاز الموعور وتقرّباً إلى الرحيم الودود، ومنه قول أصدق القائلين: (إنَّ الَّذينَ آمَنُواوالََّذينَ هَاجرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ) البقرة: 218 وفسّر رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرة والمجاهدة فقال المهاجر: من هجر السوء، والمجاهد: من جاهد نفسه في الله تعالى، وأقام الصلاة التي هي خدمة المعبود، وبذل المال سرّاً وعلانيّةً وقليلاً وكثيراً، وأن لا يشتغل عن ذلك بتجارة الدنيا، كما وصف الله سبحانه وتعالى المحقّقين من الراجين إذ يقول عزّ من قائل: (إنَّ الَّذينَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله وأقَامُوا الْصَّلاة وَأنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعلانِيَة يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور) فاطر: 29 ومن الرجاء القنوت في ساعات الليل؛ وهو طول القيام للتهجّد، والدعاء عند تجافي الجنوب عن المضاجع لما وقر في القلوب من المخاوف، ولذلك وصف الله الراجين بهذا في قوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الَّليْل سَاجِداً وقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَة وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لا يَعْلمُون) الزمر: 9 فسمّى أهل الرجاء والحذر وأهل التهجّد آناء الليل علماء، وحصل من دليل الكلام: أن من لم يخف ولم يرج غير عالم لنفيه المساواة بينهما، وهذا ممّا يحذف خبره اكتفاء بأحد وصفيه إذ في الكلام دليل عليه فالرجاء هو أوّل مقام من اليقين عند المقرّبين وهو ظاهر أوصاف الصدّيقين، ولايكمل في قلب عبد، ولا يتحقّق به صاحبه حتى يجتمع فيه هذه الأوصاف؛ الإيمان بالله تعالى، والمهاجرة إليه سبحانه وتعالى، والمجاهدة فيه وتلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، والإنفاق في سبيل الله تعالى، ثم السجود آناء الليل، والقيام والحذر مع ذلك كله؛ فهذه جملة صفات الراجين، وهو أوّل أحوال الموقنين ثم تتزايد الأعمال في ذلك ظاهراً وباطناً بالجوارح والقلوب عن تزايد الأنوار والعلوم ومكاشفات الغيوب بالأوصاف الموجودة وفصل الخطاب، إن الخوف والرجاء طريقان إلى مقامين؛ فالخوف طريق العلماء إلى مقام العلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 والرجاء طريق العمال إلى مقام العاملين، وقد وصف الله عزّ وجلّ الراجين مع الأعمال الصالحة لقوة رجائهم بالخوف، تكملة لصدق الرجاء وتتمة لعظيم الغبطة به، فقال تعالى وتقدّس: (وَالّذينَ يُؤتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) المؤمنون: 60 وقال عزّ وجلّ مخبراً عنهم في حال وفائهم وأعمال برّهم: (إنّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنا مُشْفِقينَ) (فَمَنَّ اللّّه عَلَيْنَا) الطور: 26 - 27 وقال عزّ وجلّ: (يُوفُون بِالَّنذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَاً) الإنسان: 7 من قبل أن الخوف مرتبط بالرجاء، فمن تحقق بالرجاء صارعه الخوف أن يقطع به دون ما رجا، وقال أهل العربية في معنى قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذينَ لا يَرْجُونَ أَيَّام الله) (الجاثية: 14 أي للذين لايخافون عقوبات الله تعالى، فإذا كان هذا أمره بالمغفرة لمن لا يرجو فكيف يكون غفره وفضله على من يرجو، وبعضهم يقول في معنى قوله تعالى: (وَيَرْجُونَ مِنَ الله ما لا يَرْجُونَ) النساء: 104 أي تخافون منه ما لا يخافون، فلولا أنهما عند العلماء كشيء واحد ما فسّر أحدهما بالآخر، ومن الرجاء الأنس بالله تعالى في الخلوات، ومن الأنس به الأنس بالعلماء والتقرّب من الأولياء، وارتفاع الوحشة بمجالسة أهل الخير، وسعة الصدر والروح عندهم، ومن الرجاء سقوط ثقل المعاونة على البّر والتقوى، لوجود حلاوة الأعمال والمسارعة إليها، والحثّ لأهلها عليها والحزن على فوتها والفرح بدركها، ومن ذلك الخبر المأثور من سرّته حسنته وساءته سيئته، فهو مؤمن، والخبر المأثور: خيار أمتي الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا لأن المؤمن على يقين من أمره وبصيرة من دينه، والخوف والرجاء وصف الموقن بالله تعالى فهو إذا عمل حسنة، أيقن بثوابها لصدق الوعد وكرم الموعد، وإذا عمل سيئة أيقن بالكراهة لها، وخاف المقت عليها لخوف الوعيد وعظمة المتوعد من قبل أن دخوله في الطاعة، دخول في محبة الله تعالى ومرضاته لما دلّ العلم عليه؛ فهذا رضا الله سبحانه وتعالى في الدنيا، فكيف لا يسرّه رضاه ومن قبل أن دخوله في المعصية دخول في غضب الله تعالى ومكارهه، بما دلّ العلم عليه فذلك الذي يسوءه لأن مقت الله تعالى اليوم معاصيه وسخطه غداً تعذيبه، ومن هذا قول الله عزّ وجلّ وهو أصدق القائلين: (يُنادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكبَر مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) غافر: 10 قال: لما نظروا إلى أنفسهم بتشويه خلقهم في النار مقتوها فنودوا لمقت الله في الدنيا على معاصيه أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم في العذاب، كما أن رضاه غداً تنعيمهم في جنته كذلك رضاه اليوم عملهم بطاعته ومرضاته؛ وهذا وصف عبد مراد مكاشف بعلم اليقين. ومن هذا حديث زيد الخيل إذ قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جئتك أسألك عن علامة الله تعالى فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد فقال: كيف أصبحت فقال: أصبحت أحبّ الخير وأهله وإذا قدرت على شيء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه وإذا فاتني شيء منه حزنت عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وحننت إليه فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذه علامة الله تعالى فيمن يريد ولو أرادك للأخرى هيأك لها، ثم لم يبال في أي أوديتها هلكت، ومن الرجاء التلذذ بدوام حسن الإقبال والتنعّم بمناجاة ذي الجلال وحسن الإصغاء إلى محادثة القريب والتلطّف في التملق للحبيب وحسن الظنّ به في العفو الجميل ومنال الفضل الجزيل، وقال بعض العارفين: للتوحيد نور وللشرك نار، ونور التوحيد أحرق لسيئات المؤمن من نار الشرك لحسنات المشرك، ولما احتضر سليمان التيمي قال لابنه: يابني حدثني بالرخص واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله تعالى على حسن الظنّ به، وكذلك لما حضر سفيان الثوري رضي الله عنه الوفاة جعل العلماء حوله يرجونه، وحدثنا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال لابنه عند الموت: اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظنّ، فلولا أن الرجاء وحسن الظنّ من فواضل المقامات ما طلبه العلماء في آخر الأوقات عند فراق العمر ولقاء المولى لتكون الخاتمة به وهم يسألون الله حسن الخاتمة طول الحياة، ولذلك قيل: إن الخوف أفضل مادام حيّاً فإذا حضر الموت فالرجاء أفضل، وقد كان يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى يقول في مقامات الرجاء: إذا كان توحيد ساعة يحبط ذنوب خمسين سنة فتوحيد خمسين سنة ماذا سيصنع بالذنوب؟ وقال أبو محمد سهل رضي الله عنه: لا يصبح الخوف إلا لأهل الرجاء، وقال مرّة: العلماء مقطوعون إلا الخائفين، والخائفون مقطوعون إلا الراجين، وكان يجعل الرجاء مقاماً في المحبة وهو عند العلماء أوّل مقامات المحبة، ثم يعلو في الحبّ على قدر ارتفاعه في الرجاء وحسن الظن، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث في الرجاء لا يصلح ذكرها لعموم الناس ولكن نذكر من ذلك ما ظهر خلق الله تعالى لجهنم من فضل رحمته سوطاً يسوق الله عزّ وجلّ به عباده إلى الجنة، وخبر آخر، يقول الله تعالى: إنما خلقت الخلق ليربحوا عليّ ولم أخلقهم لأربح عليهم، وفي حديث عطاء بن يسارعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماخلق الله تعالى شيئاً إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه، والخبر المشهور: إن الله تعالى كتب على نفسه قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي تغلب غضبي، والأخبار المشهورة عن معاذ بن جبل وأنس بن مالك رضي الله عنهما: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن كان آخركلامه قول: لا إله إلا الله لم تمسّه النار، ومن لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً حرمت عليه النار ولا يدخل النار من في قلبه وزن ذرة من إيمان، وقد قال في خبر آخر: لو يعلم الكافر سعة رحمة الله تعالى ما أيس من رحمته أحد وقد قال تعالى في حسن عفوه عن أكبر الكبائر بعد ظهور الآيات: (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلكَ) النساء: 153، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وقال في خطاب لطيف لأوليائه يعرفهم نفاذ أحكامه فيهم وجريان مشيئته عليهم: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيّنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم، عزيز لا يوصل إليه إلا به، حكيم حكم بمشيئته على عباده، ثم يغفر الذنوب جميعاً فلا يبالي كما أجرى على من فضله على العالمين، مقالة الكافرين فلم يضرّهم مع تفضيله لهم إذ قالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فقال: أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين؛ وبهذا المعنى عارض عليّ كرّم اللّّه وجهه رأس الجالوت لما قال له: لم تلبثوا بعد نبيكم عليه السلام إلا ثلاثين سنة حتى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف فقال عليّ كرّم الله وجهه: أنتم لم تجفّ أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بمايفزعهم وينفرهم، وقال في حديث آخر: بشّروا ولا تنفروا ويسّروا ولا تعسّروا، ولما وعظهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً الحديث، فهبط جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول: لم تقنط عبادي؟ فخرج إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجاهم وشوّقهم، ولما تلا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية: (إنَّ زَلْزَلَة السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الحج: 1 قال: أتدرون أيّ يوم؟ هذا يوم يقال لآدم عليه السلام: قم فابعث نصيب النار من ذرتك، فقال: كم؟ قيل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة، قال: فبكوا يومهم ذلك وتركوا الأشغال والعمل، فخرج عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 فقال: ما بالكم أنتم في الأمم مثل شعرة بيضاء في جلد ثور أسود، والخبر المشهور: لو لم تذنبون لخلق الله تعالى خلقاً يذنبون ليغفر لهم، وفي لفظ آخر: لذهب بكم وجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم، إنه هو الغفور الرحيم أي أن وصفه سبحانه وتعالى المغفرة والرحمة، فلابدّ أن يخلق مقتضى وصفه حتى يحق وصفه عليه هذا كما يقول في علم المعرفة: إن له سبحانه وتعالى من كلّ اسمٍ وصفاً ومن كل وصف فعل، وفي هذا سرّ المعرفة ومنه معرفة الخصوص، وحكي لنا معناه عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه قال: خلا لي الطواف ذات ليلة، وكانت ليلة مطيرة مظلمة فوقفت في الملتزم عند الباب فقلت: ياربّ اعصمني حتى لاأعصيك أبداً، فهتف بي هاتف من البيت: ياإبراهيم أنت تسألني العصمة وكل عبادي المؤمنين يطلبون ذلك، فإذا عصمتهم فعلى من أتفضّل ولمن أغفر؟ وكان الحسن البصري رضي اللّّه عنه يقول: لو لم يذنب المؤمن لكان يطير طيراً ولكن الله تعالى قمعه بالذنوب. وفي الخبر مثله: لوم لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو شرّ من الذنوب، قيل: وما هو؟ قال: العجب، ولعمري أن العجب من صفات النفس المتكبرة، وهو يحبط الأعمال، وهو من كبائر أعمال القلوب والذنوب من أخلاق النفس الشهوانية، ولأن يبتلي العبد الشهوانِي بعشر شهوات من شهوات النفس خير له من أن يبتلي بصفة من صفات النفس مثل الكبر، والعجب، والبغي، والحسد، وحبّ المدح، وطلب الذكر؛ لأن هذه منها؛ معاني صفات الربوبية، ومنها أخلاق الأباسلة، وبها هلك إبليس، وشهوات النفس من وصف الخلقة وبها عصى أدم ربه فاجتباه بعدها وتاب عليه وهدى، وقد قال بشر بن الحرث: سكون النفس إلى المدح أضرّ عليها من العاصي، ورأى يوسف بن الحسين مخنثاً فأعرض عنه إزراء عليه، فالتفت إليه المخنث وقال: وأنت أيضاً يكفيك مابك ففزع من قوله، فقال: وأي شيء تعلم؟ قال: لأن عندك أنك خير مني، فاعترف يوسف بقوله، فتاب واستغفر وكان بعض الراجين من العارفين إذا تلا هذه الآية، آية الدين التي في سورة البقرة، يسرّ بذلك ويستبشر لها ويعظم رجاؤه عندها، فقيل له في ذلك: إنها ليس فيها رجاء ولا ما يوجب الاستبشار فقال: بلى فيها رجاء عظيم، قيل: وكيف ذلك؟ فقال: إن الدنيا كلّها قليل ورزق الإنسان فيها قليل من قليل وهذا الدين من رزقه قليل، ثم إن الله تبارك وتعالى احتاط في ذلك ورفق النظر لي بأن وكد ديني بالشهود والكتاب وأنزل فيه أطول آية في كتابه، ولو فاتني ذلك لم أبال به فكيف يكون فعله بي في الآخرة التي لا عوض لي من نفسي فيها. وكذلك كان بعض الراجين يفهم من قوله تعالى إذا تلا: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ الله ما لَمْ يَكُونوا يَحْتَسِبُونَ) الزمر: 47 يرجو من ذلك بوادي الجود والإحسان مما لم يحسبه في الدنيا قطّ، وقد كان الجنيد رحمه الله يقول: إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 بالمحسنين، وعلى ذلك جاء في الخبر: ليغفرنّ الله تعالى يوم القيامة مغفرة ماخطرت قطّ على قلب أحد حتى أن إبليس يتطاول رجاء أن تصيبه، وفي الخبر: إن لله تعالى تسعًا وتسعين رحمة أظهر منها في الدنيا رحمة واحدة بها يتراحم الخلائق فتحنّ الوالدة إلى ولدها وتعطف البهيمة على ولدها، فإذا كان يوم القيامة ضمّ هذه الرحمة إلى تلك التسعة والتسعين، ثم بسطها على جميع خلقه وكل رحمة منها طباق السموات والأرضين، قال: فلا يهلك على الله تعالى إلا هالك، وقد قال بعض العلماء: إن الله تعالى إذا غفر لعبد في موقف القيامة ذنباً غفر ذلك الذنب لكل من عمله، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعملوا وأبشروا واعلموا أن أحدًا لن ينجّيه عمله. وفي الحديث الآخر: ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة ولا ينجّيه من النار، قالوا: ولا أنت يارسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة وفضل، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، وفي لفظ آخرأترونها للمصفين المتقين بل هي للمخلصين المتلوّثين وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ وأبي موسى رضي اللّّه عنهما، وقد بعثهما واليين على اليمن فأوصاهما فيما أمرهما به فقال يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفّرا، فعلم المؤمنين بكرم الله تعالي وخفيّ لطفه، ولطيف منه لا يقعدهم عن تأميله، ولا يقصر بهم عن رجاءه، ولا حسن ظنّهم به، ولا يقوى الخوف فيخرجهم إلى الأياس من رحمته، لأجل علمهم بجبريته وكبريائه، من قبل أن المهوب هو المحبوب فمحبته تؤنسهم وترجيهم، وهيبته تزعجهم وتخيفهم فخوفهم في المهابة في لذاذة ونعيمهم بالحبّ في مهابة فهم في مقام الخوف والمحبة معتدلون، وبقوّة العلم بهما متمكنون، وفي مشاهدة المخوف والمحبوب مستقيمون، وهذا المقام هو وصف العارفين من الموقنين؛ وهم أهل كمال الإيمان وصفوة خصوص ذوي الإيقان إذ قد عرفوا أن الله تبارك وتعالى كامل في صفاته لا يعتريه نقصان في وصف دون وصف وإنما الرحمة لسعة العلم، كما العلم لسعة القدرة لما شهدوا من وصفه بما سمعوا من كلامه أنه كان عليماً قديرًا. كذلك قال تعالى: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلمًا) غافر: 7 وكذلك فهموا من قوله تعالى: (وَرَحْمَتي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الأعراف: 156 فدخلت جهنم وغيرها في توسعة الرحمة من حيث كنّ شيئاً وقولّه عزّ وجلّ: (فسَأَكْتُبُهَا لِلَذين يَتَّقُونَ) الإسراء: 44 معناه خصوص الرحمة، وصفها لا كنهها، إذ لا نهاية للرحمة، لأنها صفة الراحم الذي لا حدّ له، ولأنه لم يخرج من رحمته شيء كما لم يخرج من حكمته وقدرته شيء، لأن جهنم والنار الكبرى وغيرهما ليس كنه عذابه ولا كلية تعذيبه، فمن ظنّ ذلك به لم يعرفه، ولأنه لما أظهر من عذابه مقدار طاقة الخلق كما أنه أظهر من ملكه ونعمه مقدار مصالح الخلق وما لا يصلح للخلق، ولا يطيقون إظهاره أكثر مما أظهر من النعيم والعذاب، بل لا ينبغي لهم أن يعرفوا فوق ما أبدى لأن نهاية تعذبيه وتنعيمه من نهاية ملكه الذي هو قائم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وملكه عن غاية قدرته وسلطانه، ولانهاية لذلك، ولا يطيق الخلق كلّه إظهار ذلك، وذلك أيضاً عن تعالي صفاته وبهاء أسمائه المتناهيات، ولا سبيل إلى كشف ذلك من الغيوب، فسبحان من لا نهاية لقدرته ولا حدّ لعظمته ولا أمد لسلطانه، وكذلك شهدوا ما سمعوا من قوله عزّ وجلّ: (إِنَّهُ كَانَ حَليماً غَفُورًا) الإسراء: 44، وقال: (وَكَانَ الله عَليمًا حَليمًا) الأحزاب: 51، فعلموا أن المغفرة على سعة الحلم، كما أن الحلم سعة العلم، فلما رأوا عظيم حلمه رجو عظيم مغفرته، ولما شهدوا كثيف ستره أملوا جميل عفوه، وكذلك يقال: إن حملة العرش يتجاوبون بأصوات سبحانك على حلمك بعد علمك، سبحانك على عفوك بعد قدرتك، فللراجين من العارفين فهوم من السمع للكلام نحو علوّ نظرهم عن سموّ علومهم بمعاني الصفات، وكل صاحب مقام يشهد من مقامه ويسمع من حيث شهادته، فأعلاهم شهادة الصديقون، ثم الشهداء ثم الصالحون، ثم خصوص المؤمنين، فبه تبارك وتعالى استدلوا عليه، ومنه إليه نظروا، هم درجات عند الله والله بصير بمايعلمون، وكان سهل رضي الله عنه يقول: المحسن يعيش في سعة الرحمة والمسيء يعيش في سعة الحلم، وصفاته تبارك وتعالى كاملات، فمن شهد ترجيح بعضها على بعض دخل عليه النقص من مشاهدته لقصور علمه عن تمام علم من فوقه من الشهداء، ولأجل مقامه المراد به دون طريق الصدّيقين من الأقوياء، فعاد ذلك على العبد فصار ذلك مقاماً له في القرب والبعد تعالى وصف المشهود عن النقصان والحدّ، ومثل الرجاء من الخوف مثل الرخصة في الدين من العزائم، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه، وفي لفظ آخر أبلغ من هذا: وأؤكد أن الله يحب أن يقبل رخصه كما يكره أن يوتى معاصيه. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق: ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله تعالى، وخيرالدين أيسره، وقال هلك المتعمّقون، هلك المتنطّعون، وقال عليه الصلاة والسلام: بعثت بالحنيفية السهلة السمحة، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحبّ أن يعلم أهل الكتاب أن في ديننا سماحة، وقال الله عزّ وجلّ: (وَيضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتّي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) الأعراف: 157، واستجاب للمؤمنين في قولهم: ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، فقال عزّ وجلّ: قد فعلت؛ فهذه العلوم هي أسباب قوّة الرجاء في أولي الألباب كيف وقد جاء ما يغلب حكم الرجاء من غير اغترار ماروي عن الله تعالى أنا إلى الرحمة والعفو أقرب مني إلى العقوبة، وفي الخبر: إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يفزعهم ويشق عليهم، وفي كلام لعلي رضي الله عنه: إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولا يؤمنهم مكر الله تعالى، وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى داود عليه السلام: ما لك وحدانيّاً؟ قال: عاديت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الخلق فيك، قال: أما علمت أن محبتي أن تعطف على عبادي وتأخذ عليهم بالفضل هنالك، أكتبك من أوليائي وأحبابي ولا تنظر إلى عبيدي نظرة جفاء ولا قسوة، فإذا أنت قد أبطلت أجرك فاحفظ عني ثلاثًا: خالص حبيبي مخالصة، وخالف أهل الدنيا مخالفة، ودينك فقلدنيه، وعن داود وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: أحبّني وأحبّ من يحبني وحببني إلى خلقي، قال: يا ربّ هذا أحبّك وأحبّ من يحبّك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ فقال عزّ وجلّ: اذكرني لحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني وذكرهم ذلك فإنهم لايعرفون مني إلا الجميل. وروي عن يزيد الرقاشي عن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ألا أخبركم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله تعالى على منابر من نور يعرفون عليها، قالوا: من هم؟ قال: الذين يحببون عباد الله إلى الله تعالى ويحببون الله عزّ وجلّ إلى عباده ويمشون في الأرض نصحاء، فقلنا هذا حببوا الله إلى عباده فكيف يحببون عباد الله إلى الله؟ قال: يأمرونهم بما يحبّ الله وينهونهم عما حرم الله فإذا أطاعوهم أحبهم الله، ورؤي أبان بن عياش في النوم بعد موته، وكان من أكثر الناس حديثاً بالرخص وأبواب الرجاء فقال: أوقفني ربي عزّ وجلّ بين يديه فقال: ما حملك على أن حدثت عني بما حدثت به من الرخص؟ قال: فقلت يا ربّ أردت أن أحبّبك إلى خلقك، قال: قد غفرت لك، وحدثت عن مالك بن دينار: أنه لقي أبانا فقال: إلى كم تحدث للناس بالرخص فقال: يا أبا يحيى إني لأرجو أن ترى من عفو الله تعالى يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح. وفي حديث ربعي بن حراش عن أخيه، وكان من خيار التابعين وهو ممّن تكلم بعد الموت، قال: لما مات أخي سجّي بثوبه وألقيناه على نعشه فكشف الثوب عن وجهه واستوى قاعداً وقال: إن لقيت ربي عزّ وجلّ فحياني بروح وريحان وربّ غير غضبان، وإني رأيت الأمر أيسر مما تظنون ولا تغتروا فإن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرني وأصحابه حتى أرجع إليهم قال: ثم طرح نفسه فكأنه كانت حصاة وقعت في طست فحملناه فدفناه، وقال بكر بن سليمان: دخلنا على مالك رحمه الله تعالى في العشية التي قبض فيها فقلنا كيف تجدك؟ قال: ما أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون غداً من عفو الله تعالى ما لم يكن لكم في حساب، قال: فما برحنا حتى أغمضناه ودفناه، ورؤي يحيى بن أكثم في النوم فقيل: ما فعل الله تعالى بك: فقال: أوقفني بين يديه وقال: ياشيخ السوء فعلت وفعلت قال: فأخذني من الرعب والفزع ما يعلم الله تعالى، ثم قلت ياربّ ما هكذا حدثت عنك، فقال: وما حدثت عني؟ فقلت: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس بن مالك عن نبيّك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنك أنك قلت: تباركت وتعاليت أنا عند ظنّ عبدي بي فليظن بي ما شاء، وقد كنت أظنّ بك أن لا تعذّبني، فقال عزّ وجلّ: صدق نبييّ وصدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أنس صدق الزهري وصدق معمر وصدق عبد الرزاق وصدقت، قال: فغلفت وخلع عليّ وألبست ومشى بين يدي الولدان إلى الجنة فقلت يا لها من فرحة. وفي الخبر: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يشدد على الناس ويقنطهم من رحمة الله تعالى فيقول الله تعالى له يوم القيامة: اليوم أؤيسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها، وفي الحديث: أن رجلين تواخيا في الله تعالى من بين إسرائيل فكان أحدهما عابداً والآخر مسرفًا على نفسه، فكان هذا العابد ينهاه ويزجره فيقول له: دعني وربي أبعثت عليّ رقيباً؟ حتى رآه ذات يوم على كبيرة فغضب فقال: لا يغفر الله لك قال: فيقول الله تعالى له يوم القيامة: أتستطيع أن تحظر رحمتي على عبادي اذهب فقد غفرت لك، ثم قال للعابد: وأنت فقد أوجبت لك النار، قال: فوالذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أهلكت دنياه وآخرته، وروينا في معناه أن لصّاً كان يقطع الطريق أربعين سنة في بني إسرائيل فمرّ عليه عيسى عليه السلام وخلفه عابد من عباد بني اسرائيل من الحواريين فقال للصّ في نفسه: هذا نبي الله يمرّ وإلى جنبه حواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثًا، قال: فنزل فجعل يريد أن يدنو من الحواري ويزدري نفسه تعظيماً للحواري ويقول في نفسه: مثلي لا يمشي إلى جنب هذا العابد قال وأحس به الحواري فقال في نفسه: هذا يمشي إلى جانبي قال: فضمّ نفسه وتقدم إلى عيسى عليه السلام فمشى إلى جانبه فبقي اللصّ خلفه، قال: فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: قل لهما يستأنفان العمل فقد أحبطت ما سلف من أعمالهما، أما الحواري فقد أحبطت حسناته لعجبه بنفسه وأما الآخر فقد أحبطت سيئاته بما ازدرى على نفسه قال: فأخبرهما بذلك وضمّ اللص إلىه سياحته وجعله من حواريه. وروينا عن مسروق بن الأجدع: إن نبيَّا من الأنبياء كان ساجدًا فوطئ بعض العتاة على عنقه حتى الزق الحصى بجبهته قال: فرفع النبي عليه السلام رأسه مغضبًا فقال: اذهب فلن يغفر الله قال: فأوحى الله تعالى إليه تتألى عليّ في عبادي أني قد غفرت له. قال ابن عباس رضي الله عنه كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت يدعو علي لمشركين ويلعنهم في صلاته فنزلت ليقطع طرفًا من الذين كفروا أو يكبتهم إلي قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذِّبَهُمْ) آل عمران: 128 قال: فترك الدعاء عليهم، قال: فهدى اللّّه تعالى عامة أولئك الإسلام. والأخبار فيما يوجب الرجاء وحسن الظن أكثر من أن تجمع ولم نقصد جمعها، وإنما دللنا بقليل على كثير، ونبهنا عقول ذوي التبصير، وقد قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّها الإنْسَانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ) الانفطار: 6 فنبه العبد مع غرته على كرمه، وذكره مع جهله حسن تسويته إياه بتعديله، يدل على نعمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وروينا عن الضحاك إن العبد ليدنو من ربه تبارك وتعالى عند العرض فيقول: عبدي أتحصي عملك؟ فيقول: إلهي كيف أحصيه من دونك وأنت الحافظ للأشياء، فيذكره اللّّه تعالى جميع ذنوبه في الدنيا في ساعاتها، فيقول: أنت عبدي فقر بما عرفتك وذكرتك، فيقول نعم سيدي، فيقول اللّّه سبحانه أنا الذي سترتها عليك في الدنيا، فلم أجعل للذنوب رائحة توجد منك، ولم أجعل في وجهك شينها، وأنا أغفرها لك اليوم على ما كان منك، بإيمانك بي وتصديقك المرسلين. وروينا عن محمد الحنفية عن أبيه علي كرم الله وجهه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَميل) الحجر: 85 قال: يا جبريل وما الصفح الجميل؟ قال: يا محمد إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتب، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جبريل فالله مع كرمه تعالى أولى أن لا يعاتب من عفا عنه، قال فبكى جبريل وبكى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث الله عز وجل إليهما ميكائيل فقال: إن ربكما يقرئكما السلام ويقول لكما: كيف أعاتب من عفوت عنه، هذا ما لا يشبه كرمي. ومن الرجاء شدة الشوق إلى ما شوق إليه الكريم وسرعة التنافس في كلّ نفيس ندب إليه الرحيم، فأما الرجاء الذي هو همة جملة الناس من الإقامة في المعاصي والانهماك في الخطايا وهو يرجو المغفرة وينتظر الكرامة، فليس هذا برجاء عند العلماء، لأن الرجاء مقام من اليقين، وليس هذا وصف الموقنين؛ لأن هذا اسمه هو اغترار بالله تعالى، وغفلة عن اللّّه تعالى، وجهل بأحكام الله تعالى. وقد تهدد الله تعالى قومًا ظنوا مثل هذا، وأصروا على حب الدنيا والرضا بها، وتمنوا المغفرة على ذلك، فسماهم خلفاً، والخلف: الرديء من الناس، وتوعدهم بشديد البأس في قوله عزّ وجلّ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يَأْخُذونَ عَرَضَ هذا الأَدْنَى ويَقولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) الأعراف: 169 والأخبار في حقيقة الرجاء تزيد المغترين اغتراراً وتزيد المستدرجين بالستر والنعيم خساراً، وهي مزيد للتوابين الصادقين، وقرة عين المحبين المخلصين، وسرور لأهل الكرم والحياء، وروح ارتياح لذوي العصمة والوفاء، ينتفع به، ويشتد عنده حياؤه، ويروح به كروبهم، وترتاح إليه عقولهم، فهؤلاء يستخرج منهم الرجاء وحسن الظن من العبادات ما لا يستروحه الخوف، إذ المخاوف تقطع عن أكثر المعاملات، فصار الرجاء طريقاً لأهله وصاروا رائجين به كما قال عمر رضي الله عنه: رحم الله صهيباً لو لم يخف الله تعالى لم يعصه: أي يترك المعاصي للرجاء لا للخوف، فصار الرجاء طريقه، فهؤلاء هم الراجون حقًا وهذه علامتهم، ولمثل هذا ذكرنا الأسباب التي توجب الرجاء، وتولد حسن الظن في قلوب أهل الصفاء. ومن الرجاء تحسين الأخلاق مع الخلق، وجميل الصبر عليهم، وحسن الصفح، ولطيف المداراة لهم تقرباً إلى الله عزّ وجلّ بذلك، وتخلقاً بأخلاقه رجاء ثوابه، وطمعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 في تنجيز وعده، واتباعًا لسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن الرجاء ترك الأهواء الرديئة، والشهوات المطغية ويحتسب في ذلك على الله نفيس الذخائر العالية. فقد روينا عن حميد عن أنس قال: مقابل عرش الرحمن غرفة يرسل إليها جبريل عليه السلام، فإذا انتهى إليها خر لله ساجدًا، ثم يقول: يارب لمن خلقت هذه، لأي نبي؟ لأ صديق؟ لأي شهيد؟ قال: فيرد عليه عزّ وجلّ: لمن آثر هواي على هواه. ومن الرجاء افتعال الطاعات، وحسن الموافقات، ينوي بها، ويسأل مولاه الكريم عظيم الرغائب وجليل المواهب، لما وهب له من حسن الظن به. كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا سألتم الله تعالى فأعظموا الرغبة، وسلوه الفردوس الأعلى، فإن الله عزّ وجلّ لا يتعاظمه شيء. وفي حديث آخر فأكثروا وسلوا الدرجات العلى، فإنما تسألون جوادًا كريمًا، وفي الآثار أن رجلين كانا من العابدين متساويين في العبادة، فإذا دخلا الجنة رفع أحدهما في الدرجات العلى على صاحبه، فيقول الآخر: يارب ما كان هذا في الدنيا بأكثر عبادة لك مني فرفعته علي في عليين، فيقول الله سبحانه وتعالى: إنه كان يسألني في الدنيا الدرجات العلى وكنت أنت تسألني النجاة من النار، فأعطيت كل عبد سؤله. وروينا في الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن رجلاً يخرج من النار فيوقف بين يدي الله تعالى، فيقول له: كيف وجدت مكانك؟ فيقول: يارب شر مكان، فيقول: ردوه إلى مكانه، قال: فيمشي ويلتفت إلى ورائه، فيقول الله عزّ وجلّ: إلى أي معنى تلفت؟ فيقول له: يارب قد رجوت أن لا تعيدني إليها بعد إذ أخرجتني منها، فيقول تعالى: اذهبوا به إلى الجنة فقد صار الرجاء طريقه إلى الجنة، كما كان الخوف طريق صاحبه في الدنيا إليها. كما روينا: إن الآخر سعى مبادرًا إلى النار لما قال: ردّوه فقيل له في ذلك، فقال: لقد ذقت من وبال معصيتك في الدنيا ماخفت من عذابه في الآخرة فقيل: اصرفوه إلى الجنة، وقال الله سبحانه في وصف قوم: (أُولئِك الَّذينَ يَدْعُونَ يَبْتغُون إلى رَبِّهِمْ الْوَسيلَةَ أيُّهمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذابهُ) الإسراء: 57 فطرق لأوليائه من القرب والوسيلة الرجاء، كما طرق الخوف منه إليها، وهذا أحد الوجهين في الآية لمن لم يجعله وصفًا للأصنام لأنها قرئت بالتاء تدعون قرأها طلحة بن مصرف، فكذلك ندب المؤمنين إلى طلب القرب منه قي قوله عزّ وجلّ: (يَا أيهُا الذين آمنُوا اتَّقُوا الله وَابْتَغُوا إليْهِ الْوَسيلَةَ) المائدة: 35 فهذه جملة أحكام الرجاء وأوصاف الراجين، فمن تحقّق بجميعها فقد استحق درجات أهل الرجاء، وهو عند الله تعالى من المقرّبين، ومن كان فيه وصف من هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الأوصاف فله مقام من الرجاء. واعلم أن مقام اليقين لا يزيل بعضها بعضًا ولكن يندرج بعضها في بعض، فمن غلب عليه حال مشاهدته وصف بما غلب عليه واستمر بما سوى ذلك من المقامات فيه، ومن عمل بشرط مقام منها وقام بحكم الله تعالى فيه نقل إلى ما سواه، وكان المقام الأول له علماً والثاني الذي أقيم فيه له وجدًا، فكتم الوجد لأنه سرّه وعبّر عن العلم لأنه قد جاوزه فصار له علانيّة، ومقام الرجاء هو جند من جنود الله عزّ وجلّ يستخرج من بعض العباد ما لا يستخرج غيره لأن بعض القلوب تلين وتستجيب عن مشاهدة الكرم والإحسان وتقبل وتطمئن بمعاملة النّعم والإحسان ما لا يوجد ذلك منها عند التخويف والترهيب بل قد يقطعها ذلك ويوحشها إذ قد جعل الرجاء طريقها فوجدت فيه قلوبها. ومثل الرجاء في الأحوال مثل العوافي والغنى في الإنسان من يقبل قلبه ويجتمع همّه عندهما ويوجد نشاطه وتحسن معاملته بهما. كما روينا عن الله سبحانه وتعالى: إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ومن عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي بعلمي، إني بهم خبير، فكذلك من عبادي من لا يصلحه إلا الرجاء ولا يستقيم قلبه إلا عليه ولا تحسن معاملته إلا بوجود حسن الظنّ فهو طريقه إليه ومقامه منه ومنه علمه به وعنده يجد قلبه معه، إلا أنه وإن كان طريقًا يخرج إلى الله عزّ وجلّ فإن الخوف أقرب منه، وما كان أقرب فهو أعلى، كما أن الغنى والعوافي طرقان إلى الله تعالى إلا أن الفقر والبلاء عندي أقرب منهما وأعلى والله غالب على أمره. وقد روينا عن معمر عن الحسن: أنه قال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم فأما المؤمن فأحسن بالله الظنّ وأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق فأساء بالله الظنّ ولكن أكثر الناس لا يعلمون. شرح مقام الخوف ووصف الخائفين وهو الخامس من مقامات اليقين قال الله عزّ وجلّ: (ومَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) العنكبوت: 43 فرفع العلم على العقل وجعله مقامًا فيه وقد قال سبحانه وتعالى: (إنَمَا يَخْشى اللّّه منْ عبَادِهِ الْعُلمَاءُ) فاطر: 28 فجعل الخشية مقامًا في العلم حققه بها، والخشية حال من مقام الخوف، والخوف اسم لحقيقة التقوى، والتقوى معنى جامع للعبادة وهي رحمة الله تعالى للأوّلين والآخرين، ينظم هذين المعنيين قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم الَّذي خَلَقكُمْ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تتَّقُونَ) البقرة: 21 وقوله تعالى: (وَلقَدْ وَصَّيَّنْا الَّذين أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أنّ اتََقُوا الله) النساء: 131، وهذه الآية قطب القرآن مداره عليها والتقوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 سبب أضافه تعالى إليه تشريفاً له، ومعنى وصله به وأكرم عباده عليه تعظيماً له فقال: (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومَها وَلا دِمَاؤُهَا ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم) الحج: 37 وقال: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ) الحجرات: 13 وفي الخبر: إذا جمع الله الأوّلين والآخرين لميقات يوم معلوم ناداهم بصوت يسمع أقصاهم كما يسمع أدناهم يقول: يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، فأنصتوا إلي اليوم، فإنما هي أعمالكم ترد عليكم، أيها الناس إني جعلت نسباً وجعلتم نسباً، فوضعتم نسبي ورفعتم نسبكم، قلت: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ) الحجرات: 13 وأبيتم إلا فلان بن فلان أغنى من فلان، فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي، أين المتقون؟ قال: فينصب للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم فيدخلهم الجنة بغير حساب. والخوف حال من مقام العلم، وقد جمع اللّّّه تعالى للخائفين ما فرقه على المؤمنين، وهو الهدى والرحمة والعلم والرضوان، وهذه جمل مقامات أهل الجنان، فقال تعالى: (هُدَى وَرَحْمَةٌ للّذينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُون) الأعراف: 154 وقال: (إنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلمَاءُ) فاطر: 28 وقال جل ذكره: (رَضِيَ اللّّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة: 8 وفي خبر موسى عليه السلام: وأما الخائفون فلهم الرفيق الأعلى، لا يشاركون فيه، فأفردهم من غير مشاركة بالرفيق الأعلى، كا حققهم اليوم بشهادة التصديق، وهذا مقام من النبوة، فهم مع الأنيباء في المزية من قبل أنهم ورثة الأنبياء، لأنهم هم العلماء، قال تعالى: (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَبِييِّنَ والصِّدِّيقِينَ) النساء: 69، ثم قال تعالى في وصف منازلهم: (وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) النساء: 69 بمعنى رفقًا، عبر عن جماعتهم بالواحد، لأنهم كانوا كأنهم واحد، وقد يكون رفيقاً مقاماً في الجنة من أعلى عليين، لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الموت وقد خير بين البقاء في الدنيا وبين القدوم على الله تعالى فقال: أسألك الرفيق الأعلى. وفي خبر موسى عليه السلام: فأولئك لهم الرفيق الأعلى، فدل أنهم مع الأنبياء بتفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك، وشرف مقامهم فوق كل مقام، لطلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك. فالخوف اسم جامع لحقيقة الإيمان، وهو علم الوجود والإيقان، وهو سبب اجتناب كل نهي ومفتاح كل أمر، وليس شيء يحرق شهوات النفوس فيزيل آثار آفاتها إلا مقام الخوف. وقال أبو محمد سهل رحمه الله تعالى: كمال الإيمان العلم، وكمال العلم الخوف، وقال مرة: العلم كسب الإيمان، والخوف كسب المعرفة. وقال أبو الفيض المصري: لايسقى المحب كأس المحبة إلا من بعد أن ينضج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الخوف قلبه وقال: خوف النار عند خوف الفراق بمنزلة قطرة قطرت في بحر لجيّ، وكل مؤمن بالله تعالى خائف منه، ولكن خوفه على قدر قربه، فخوف الإسلام: اعتقاد العزة والجبرية لله تعالى، وتسليم القدرة والسطوة له، والتصديق لما أخبر به من عذابه وما تهدد به من عقابه. وقال الفضيل بن عياض: إذا قيل لك تخاف الله فاسكت، لأنك إن قلت لا كفرت، وإن قلت نعم فليس وصفك وصف من يخاف. وشكا واعظ إلى بعض الحكماء فقال: ألا ترى إلى هؤلاء أعظهم وأذكرهم فلا يرقون؟ فقال: وكيف تنفع الموعظة من لم يكن في قلبه لله تعالى مخافة، وقد قال اللّّه تعالى في تصديق ذلك: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى) الأعلى: 10 - 11 أي يتجنب التذكرة الشقي، فجعل من عدم الخوف شقياً وحرمه التذكرة فخوف عموم المؤمنين بظاهر القلب عن باطن العلم بالعقد، وخوف خصوصهم وهم الموقنون بباطن القلب عن باطن العلم بالوجد: فأما خوف اليقين فهو للصديقين من شهداء العارفين عن مشاهدة ما آمن به من الصفات المخوفة. وقد جاء في خبر إذا دخل العبد في قبره لم يبق شيء كان يخافه دون الله عز وجل إلا مثل له يفزعه ويرعبه إلى يوم القيامة فأول خوف اليقين الموصوف الذي هو نعت الموصوفين من المؤمنين، المحاسبة للنفس في كل وقت، والمراقبة للرب في كل حين، والورع عن الإقدام على الشبهات من كل شيء من العلوم بغير يقين بها ومن الأعمال بغير فقه فيها. وفي خبر موسى عليه السلام: وأما الورعون فإنه لايبقى أحد إلا ناقشته بالحساب وفتشته عما في يديه إلا الورعين، فإني أستحييهم وأجلهم أن أوقفهم للحساب، فالورع حال من الخوف، ثم كف الجوارح عن الشبهات وفضول الحلال من كل شيء، بخشوع قلب، ووجود إخبات. وقال عليّ كرم الله وجهه: ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ثم سجن اللسان وخزن الكلام، لئلا يدخل في دين الله عزّ وجلّ ولا في العلم ما لم يشرعه الله في كتابه أو لم يذكره رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته، أو لم ينطق به الأئمة من السلف في سيرهم مما لم يكن أصله موجودًا في الكتاب والسنة، وتسميته واضحة في العلم، فيجتنب ذلك كله، (وَلاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الإسراء: 36 خوفًا من المساءلة، ولا يدخل فيه لدقيق هوى يدخل عليه ولا لعظيم حظ دنيا يدخل فيه وأن ينصح نفسه لله تعالى لأنها أولى الخلق، ثم ينصح الخلق في الله تعالى فيبتدئ بالنصح في أمور الدين والآخرة، ثم يعقبه في أسباب الدنيا لأن أمور الآخرة أهم، والغش في الدين أعظم، والتزود للمنقلب آثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من غش أمتي فعليه لعنة الله، قيل وما غش أمتك يا رسول اللّّه؟ قال: أن يبتدع لهم بدعة فيتبع عليها، فإذا فعل ذلك فقد غشهم. وثمرة الخوف العلم بالله عزّ وجلّ والحياء من الله عز وجلّ وهو أعلى سريرات أهل المزيد يستبين أحكام ذلك في معنيين؛ هما جملة العبد إن يحفظ رأسه وما حواه من السمع والبصر واللسان وأن يحفظ بطنه وما وعاه وهو القلب والفرج واليد والرجل: وهذا خوف العموم، وهو أول الحياء. فأما خوف الخصوص فهو أن لا يجمع ما لا يأكل ولا يبني ما لا يسكن، ولا يكاثر فيما عنه ينتقل ولا يغفل ولا يفرط عمّا إليه يرتحل، وهذا هو الزهد وهو حياء مزيد أهل الحياء من تقوى أصحاب اليمين، وقد روينا معنى ما ذكرناه في حديثين، أحدهما عام والآخر خاص، وكل من لم يستعمل قلبه في بدايته، ويجعل الخوف حشو إرادته لم ينجب في خاتمته، ولم يكن إماماً للمتقين عند علوّ معرفته. وأعلى الخوف أن يكون قلبه معلقًا بخوف الخاتمة، لا يسكن إلى علم ولا عمل، ولا يقطع على النجاة بشيء من العلوم وإن علت، ولا لسبب من أعماله وإن جلت، لعدم علمه تحقيق الخواتم، فقد قيل: إنما يوزن من الأعمال خواتمها. وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى يقال إنه من أهل الجنة، وفي خبر: حتى ما يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر، ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار ولا يتأتى في هذا المقدار من الوقت شيء من عمل الجسم بالجوارح، إنما هو من أعمال القلوب بمشاهدة العقول، وهو شرك التوحيد الذي لم يكن متحققًا به، وشكّ في اليقين الذي لم يكن في الحياة الدنيا مشاهدًا له، فظهر له بيان ذلك عند كشف الغطاء، فغلب عليه وصفه وبدت فيه حاله كما يظهر له أعماله السيئة فيستحليها قلبه أو ينطق بها لسانه أو يخامرها وجده، فتكون هي خاتمته التي تخرج عليها روحه، وذلك في سابقته التي سبقت له من الكتاب كما قال تعالى: (أولئكَ يَنَالُهُمْ نَصيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) الأعراف: 37 تكون عند مفارقة الروح من الجسد (وإنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيْبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) هود: 109 وقد جاء في خبر حتى لايبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة، فيختم له بعمل أهل النار، وهذا يكون عند بلوغ الروح التراقي، وتكون النفس قد خرجت من جميع الجسد، واجتمعت في القلب إلى الحلقوم فهذا هو شبر، وفواق ناقة: هو ما بين الحلبتين، وقيل: هو شوط من عدوها بين سيرين؛ وهذا من تقلّبات القلوب عند حقيقة وجهة التوحيد إلى وجهة الضلال والشرك عندما يبدو له من زوال عقل الدنيا، وذهاب علم المعقول فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسب. وأكثر ما يقع سوء الخاتمة لثلاث طوائف من الناس: أهل البدع والزيغ في الدين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 لأن إيمانهم مرتبط بالمعقول، فأول آية تظهر لهم من قدرة الله تعالى أن يطيح عقله عند شهودها فيذهب إيمانه ولا يثبت لمعاينتها، كما تحترق الفتيلة فيسقط المصباح. والطبقة الثانية أهل الكبر والإنكار لآيات الله عزّ وجلّ وكراماته لأوليائه في الحياة الدنيا، لأنهم لم يكن لهم يقين يحمل القدرة ويمده الإيمان؛ فيعتورهم الشك ويقوى عليهم لفقد اليقين. والطبقة الثالثة ثلاثة أصناف: متفرقون متفاوتون في سوء الخاتمة، وجميعهم دون تينك الطائفتين في سوء الخاتمة، لأن سوء الختم على مقامات أيضاً كمقامات اليقين والشرك في عمر الحياة، منهم المدعي المتظاهر الذي لم يزل إلى نفسه وعمله ناظراً، والفاسق المعلن، والمصرّ المدمن، يتصل بهم المعاصي إلى آخر العمر، ويدوم تقلبهم فيها إلى كشف الغطاء، فإذا رأوا الآيات تابوا إلى الله تعالى بقلوبهم، وقد انقطعت أعمال الجوارح فليس يتأتى منهم، فلا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، ولاترحم عبرتهم، وهم من أهل هذه الآية، (ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ للَّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ: إنِّي تُبْتُ الآنَ) النساء: 18 فهم مقصودون بقوله عزّ وجلّ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) سبأ: 54 وهم معنيون بمعنى قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنا قَالُوا: آَمَنَّا باللهِ وَحْدَهُ) غافر: 84، فنصوص الآية للكفار ومعناها ومقام منها لأهل الكبائر وذوي الإصرارمن الفاسقين الزائغين، من حيث اشتركوا في سوء الخاتمة ثم تفاوتوا في مقامات منها، تظهر لهم شهوات معاصيهم، ويعاد عليهم تذكرها، لخلو قلبهم من الذكر والخوف حتى يختم لهم بشهادتها؛ فهذه الأسباب تجلب الخوف وتقطع قلوب ذوي الألباب. وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: المريد يخاف أن يبتلي بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلي بالكفر. وكذلك قال أبو يزيد رحمه الله تعالى قبله: إذا توجهت إلى المسجد كان في وسطي زنار أخاف أن يذهب بي إلى البيعة وبيت النار حتى أدخل المسجد فيقطع عني الزنار، فهذا لي في كل يوم خمس مرات، هذا لعلمهم بسرعة تقلّب القلوب في قدرة علام الغيوب. وقد روينا معنى ذلك عن عيسى عليه السلام أنه قال: يا معشر الحواريين أنتم تخافون المعاصي ونحن معشر الأنبياء نخاف الكفر. وروينا في أخبار الأنبياء: أن نبياً شكا إلى الله تعالى الجوع والقمل والعري سنين فأوحى الله تعالى إليه: أما رضيت أن عصمت قلبك أن تكفر بي حتى تسألني الدنيا، فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال: بلى قد رضيت يارب فاعصمني من الكفر فلم يذكر له نعمته عليه بنبوته وعرضه للكفر، وجوز دخوله عليه بعد النبوة، فاعترف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، ورضي به واستعصم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وقد كان عبد الواحد بن زيد إمام الزاهدين قبلهما يقول: ماصدق خائف قط ظن أنه لا يدخل النار وما ظن أن يدخل النار إلا خاف أن لا يخرج منها أبداً. وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى إمام العلماء قبلهم: يخرج من النار رجل بعد ألف عام وياليتني ذلك الرجل، هذا لشدة خوفه من الخلود في الأبدية، قال فبعد أن أخرج منها بوقت لا أبالي. والعدو يدخل على العارفين من طريق الإلحاد في التوحيد والتشبيه في اليقين والوسوسة في صفات الذات، ويدخل على المريدين من طريق الآفات والشهوات، فلذلك كان خوف العارفين أعظم، ومن قبل أن العدو يدخل على كل عبد من معنى همه فيشككه في اليقين كما يزين له الشهوات، فأرواحهم معلقة بالسابقة ماذا سبق لهم من الكلمة، هناك مشاهدتهم، ومن ثم فزعهم، لايدرون أسبق لهم قدم صدق عند ربهم فيختم لهم بمقعد صدق، فيكونون ممن قال تعالى: (إنَّ الّذيْنَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون) الأنبياء: 101 ويخافون أن يكونوا قد حقت عليهم الكلمة، فيكونون ممن قال فيهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول اللّّه سبحانه وتعالى هؤلاء في النار ولا أبالي فلا ينفعهم شفاعة شافع، ولاينقذهم من النار دافع، كما قال مولاهم الحق: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ في النَّارِ) الزمر: 19 وكقوله تعالى: (ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ) السجدة: 13 فهذه الآية ومعناها تخويف لأولي الأبصار. وقال عالمنا رحمه الله في قوله تعالى (وَإيَّايَ فَاتَُّقونِ) البقرة: 41 عموم أي فيما نهيت عنه: وقوله تعالى (وإيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة: 40 أي في السابقة وهذا خصوص. وقد نوع بعض العارفين خوف المؤمنين على مقامين فقال: قلوب الأبرار معلقة، بالخاتمة يقولون: ليت شعري ماذا يختم لنا به؟ وقلوب المقربين معلقة بالسابقة يقولون: ليت شعري ماذا سبق لنا به؟ وهذان المقامان عن مشاهدتين: إحداهما أعلى وأنفذ من الأخرى لحالين: أحدهما أتم وأكمل، فهذا كما قيل ذنوب المقربين حسنات الأبرار: أي ما يرغب فيه الأبرار فهو عندهم فضائل، قد زهد فيه المقربون، فهو عندهم حجاب، ومن حقت عليه كلمة العذاب، وسبق له من مولاه الختم بسوء الاكتساب، لم ينفعه شيء، فهو يعمل في بطالة لا أجر له ولا عاقبة قد نظر إليه نظرة بعذ؛ فهو يزداد بأعماله بعداً من قبل أن سوء الخاتمة قد تكون في وسط العمر، فلا ينتظر بها آخره يوافق معصية تكون سببها كعند الخاتمة، إذ هما في سبق العلم سواء، فالخاتمة حينئذ فاتحة، والوقتان واحد. فإذا انقطعت الآجال وانتهت الأعمال تناهي في الإبعاد فحلّ في دار البعد، وقد روينا في الخبر والله لا يقبل الله تعالى من مبتدع عملاً إنه ردّ على اللّّه تعالى سننه فرد عليه عمله كلما ازداد اجتهادًا ازداد من اللّّه تعالى بعداً، كما قال الحكيم: من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 بل كيف يصنع من أقصاه مالكه ... فليس ينفعه طب الأطباء وعن مشاهدة هذا المعنى كان خوف الحسن البصري رحمه الله تعالى وحزنه، لعلمه بأنه عزّ وجلّ لايبالي ما فعل، فخاف أن يقع بوصف الجبرية في ترك المبالاة، وأن يجعله نكالاً لأصحابه، وموعظة لأهل طبقته. ويقال إنه ما ضحك أربعين سنة وكنت إذا رأيته قاعداً كأنه أسير قدم ليضرب عنقه، وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها، وإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه، وعوتب في شدة حزنه فقال: ما يؤمنني أن يكون قد اطلع عليَّ في بعض ما يكره فمقتني، فقال اذهب فلا غفرت لك، فأنا أعمل في غير معمل، فنحن أحق بهذا من الحسن رحمه اللّّه، ولكن ليس الخوف يكون لكثرة الذنوب، فلو كان كذلك لكنا أكثر خوفًا منه، إنما يكون لصفاء القلب وشدة التعظيم لله تعالى. وقد بشر العلاء بن زياد العدوي بالجنة وكان من العباد فغلق عليه بابه سبعاً ولم يذق طعامًا، وجعل يبكي ويقول: أنا في قصة طويلة، حتى دخل عليه الحسن فجعل يعذله في شدة خوفه وكثرة بكائه، فقال يأخي من أهل الجنة إن شاء الله تعالى، أقاتل نفسك؟ فما ظنك برجل يعذله الحسن في الخوف، وقد كان من فوقهم من عليه الصحابة يتمنون أنهم لم يخلقوا بشرًا وقد بشروا بالجنة يقينًا في غير خبر. من ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه: ليتني مثلك ياطير وأني لم أخلق بشرًا، وقول عمر رضي الله عنه: وددت أني كنت كبشاً ذبحني أهلي لضيفهم، وأبوذر رضي الله عنه يقول: وددت أني شجرة تعضد، وطلحة والزبير رضي الله عنهما يقولان: وددنا أنّا لم نخلق، وعثمان رضي الله عنه يقول: وددت أني إذا متّ لا أبعث، وعائشة رضي الله عنها تقول: وددت أني كنت نَسْيًا مَنْسِيًا، وابن مسعود رضي الله عنه يقول: ليتني أني أكون رماداً، وفي رواية عنه: ليتني كنت بعرة، ليتني لم أك شيئًا في طبقة يكثر عدهم ونحن في ارتكاب الكبائر ونحدث نفوسنا بالدرجات العلى والقرب من سدرة المنتهى، ونسينا أن أبانا آدم صلوات الله عليه أخرج من الجنة بعد أن دخلها بذنب واحد ونحن لم نرها بعد فإنما نضرب في حديد بارد. وروينا في خبر أن رجلاً من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئًا فقالت أمه هنيئًا لك عصفور من عصافير الجنة هاجرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتلت في سبيل اللّّه تعالى فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يدريك فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضرّه، وفي حديث آخر بمثل هذه القصة أنه دخل على بعض أصحابه وهو عليل، فسمع أمه تقول هنيئًا لك الجنة، فقال: من هذه المتألية على الله عزّ وجلّ فقال الرجل: هي أمي يا رسول الله فقال: وما يدرك لعل فلانًا كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وروينا بمثل معنى هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى على طفل منفوس، ففي راوية: إنه سمع يقول في دعائه: اللهم قه عذاب القبر وعذاب جهنم وفي رواية ثانية: إنه سمع قائلة تقول: هنيئًا لك عصفور من عصافير الجنة، فغضب وقال: ما يدريك؟ إنه كذلك والله، إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي، إن الله عزّ وجلّ خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً لا يزاد فيهم ولاينقص منهم، وقد قاله رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة عثمان بن مظعون، وكان من المهاجرين الأول واستشهد لما قالت أم سلمة رضي الله عنها ذلك، وكانت تقول: والله لا أزكي أحدًا بعد عثمان رضي الله عنه، وأعجب من ذلك أنّا روينا عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه أنه قال: والله لا أزكي أحدًا غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبي الذي ولدني قال: فتكلمت الشيعة، فأخذ يذكر من فضائل عليّ كرّم الله وجهه ومناقبه؛ فهذه المعاني أحرقت قلوب الخائفين ولعل ذكر البعد في الأبعاد الذي شيب الحبيب القريب في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شيّبتني هود وأخواتها وسورة الواقعة وإذا الشمس كوّرت وعمّ يتساءلون لأن في سورة هود ألا بعدًا لثمود (ألا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) هود: 60 ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود، وفي سورة الواقعة: (ليْسَ لِوَقعَتِهَا كَاذِبَةٌ) الواقعة: 2 يعني وقعت السابقة لمن سبقت له وحقّت الحاقة بمن حقّت عليه خافضة رافعة خفضت قومًا في الآخرة كانوا مرفوعين في الدنيا حين ظهرت الحقائق وكشفت عواقب الخلائق، وأما سورة التكوير ففيها خواتم المصير وهي صفة القيامة لمن أيقن وفيها تجلّي معاني الغضب لمن عاين آخر ذلك، وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أُزلفت علمت نفس ما أحضرت هذا فصل الخطاب أي عند تسعير النيران واقتراب الجنان، حينئذ يبتين للنفس ما أحضرت من شرّ يصلح له الجحيم أوخير يصلح له النعيم وتعلم إذ ذاك من أيّ أهل الدارين تكون وفي أيّ منزلين تحلّ، فكم من قلوب قد تقطّعت حسرات على الأبعاد من الجنان بعد اقترابها وكم من نفوس تصاعدت زفرات عن يقينها بمعاينة لنيران أنها تصيبها، وكم من أبصار ذليلة خاشعة لمشاهدة الأهوال، وكم من عقول طائشة لمعاينة الزلزال. وحدثنا عن أبي سهل رحمه الله تعالى قال: رأيت كأني أدخلت الجنة فلقيت فيها ثلاثمائة نبي، فسألتهم ما أخوف ما كنتم تخافون في الدنيا؟ فقالوا لي: سوء الخاتمة، فالخاتمة هي من مكر الله تعالى الذي لا يوصف، ولا يفطن له ولا عليه يوقف، ولا نهاية لمكره، لأن مشيئته وأحكامه لا غاية لها. ومن ذلك الخبر المشهور أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجبريل بكيا خوفًا من الله تعالى، فأوحى الله إليهما لم تبكيان وقد أمنتكما؟ فقالا: ومن يأمن مكرك؟ فلولا أنهما علما أن مكره لانهاية له، لأن حكمه لاغاية له، لم يقولا ومن يأمن مكرك مع قوله: قد أمنتكما ولكان قد انتهى مكره بقوله، ولكانا قد وقفا على آخر مكره، ولكن خافا من بقية المكر الذي هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 غيب عنهما، وعلما أنهما لا يقفان على غيب الله تعالى، إذ هو علام الغيوب، فلا نهاية للعلام في علم، ولا غاية للغيوب بوصف، فلم يحكم عليهما القول لعنايته بهما وفضل نظره إليهما، ولأنهما على مزيد من معرفة الصفات، إذ المكر عن الوصف وإظهار القول لايقضي على باطن الوصف، فكأنهما خافا أن يكون قوله تعالى: قد أمنتكما مكري مكراً منه أيضًا بالقول على وصف مخصوص عن حكمة قد استأثر بعلمها يختبر بذلك حالهما، وينطر كيف يعملان تعبدًا منه لهما به، إذ الابتلاء وصفه من قبل أن المبتلي اسمه فلا يترك مقتضى وصفه لتحقق اسمه، ولا تبدل سنته التي قد خلت في عباده، كما اختبر خليله عليه السلام لما هوى به المنجنيق في الهواء، فقال حسبي الله ربي فعارضه جبريل عليه السلام فقال ألك حاجة؟ قال لا، وفاء بقوله حسبي الله فصدق القول بالعمل فقال الله تعالى: (وإبْرَاهِيمَ الّذِي وَفَّى) النجم: 37 بقوله حسبي اللهولأن الله تعالى لا يدخل تحت الأحكام؛ ولا يلزمه ما حكم به على الأنام، ولا يختبر صدقه سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يوصف بضد الصدق وأن بدل الكلم هو بتبديل منه، لأن كلامه قائم به، فله أن يبدل به ماشاء، وهو الصادقين في الكلامين، العادل في الحكمين، الحاكم في الحالين، لأنه حاكم عليه ولا حكم يلزمه فيه، لأنه قد جاز العلوم والعقول التي هي أماكن للحدود من الأمر والنهي، وفات الرسوم والمعقول التي هي أواسط الأحكام والأقدار. وفي مشاهدة ما ذكرناه علم دقيق من علوم التوحيد، ومقام رفيع من أحوال التوحيد وبمثل هذا المعنى وصف صفيه موسى في قوله تعالى (فَأَوْجَسَ في نفسه خيفة موسى) طه: 66 بعد قوله تعالى (لا تخافا إنني معكما) طه: 46 الآية، فلم يأمن موسى أن يكون قد أسر عنه في غيبه، واستثنى في نفسه سبحانه ما لم يظهره له في القول، لمعرفة موسى عليه السلام بخفي المكر وباطن الوصف، ولعلمه أنه لم يعطه الحكم إذ هو محكوم عليه مقهور، فخاف خوفًا ثانياً حتى أمنه أمناً ثانياً بحكم ثان، فقال: (لا تخف إنك أنت الأعلى) طه: 68 فاطمأن إلى القائل ولم يسكن إلى الإظهار الأول، لعلمه بسعة علمه أنه هو علام الغيوب التي لا نهاية لها، ولأن القول أحكام والحاكم لا تحكم عليه الأحكام كما لا تعود عليه الأحكام، وإنما تفصل الأحكام من الحاكم العلام، ثم تعود على المحكومات أبدًا، ولأنه جلت قدرته لا يلزمه مالزم الخلق الذي هم تحت الحكم، ولايدخل تحت معيار العقل والعلم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرًا، عند من عرفه فأجله وعظمه عن معارف من جهله. ومن هذا قول عيسى عليه السلام من قوله تعالى: (إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا في نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ) المائدة: 116 لما قال له: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَأُمِّيَ إلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّّهِ) المائدة: 116 ومثل هذا قوله في يوم القيامة (إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ) المائدة: 118 فجعلهم في مشيئة لعزته وكحمته ولا يصلح أن نكشف حقيقة ما فصلناه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 كتاب، ولا ينبغي أن نرسم ما رمزناه من الخطاب خشية الإنكار، وكراهة تفاوت علم أهل المعقول والمعيار إلا أن يسأل عنه من أقيم فيه وأريد به من ذوي القوة والإبصار، فينقل من قلب إلى قلب، فحينئذ يتلوه شاهد منه، أويكشفه علام الغيوب في سرائر القلوب بوحي الإلهام، ويقذفه بنور الهدى للإعلام، والله الموفق لمن شاء من العباد، لما شاء من الحيطة بالعلم وهو الفتاح العليم إذا فتح القلب علمه وإذا نوره بالقين ألهمه. ومن خوف العارفين علمهم بأن الله تعالى يخوف عباده بمن شاء من عباده الأعلين، يجعلهم نكالاً لأدنين ويخوف العموم من خلقه بالتنكيل ببعض الخصوص من عباده حكمة له وحكمًا منه. فعند الخائفين في علمهم أن الله تعالى قد أخرج طائفة من الصالحين نكالاً خوف بهم المؤمنين؛ ونكل طائفة من الشهداء خوف بهم الصالحين، وأخرج جماعة من الصديقين خوف بهم الشهداء؛ والله تعالى أعلم بما وراء ذلك. وقد أخرج جماعة من الملائكة وعظ بهم النبيين، وخوف بهم الملائكة المقربين، فصار من أهل كل مقام عبرة لمن دونهم وموعظة لمن فوقهم، وتخويف وتهديد لأولي الأبصار، وهذا داخل في بعض تفسير قوله عزّ وجلّ: (آَتَيْنَاه آَياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) الأعراف: 175 قال بعض أهل التفسير في أخبار بلعم بن باعوراء: إنه أوتي النبوة، والمشهور أنه أوتي الاسم الأكبر، فكان سبب هلاكه، وهو مقتضى وصف من أوصافه، وهو ترك المبالاة بما أظهر من العلوم والأعمال، فلم يسكن عند ذلك أحد من أهل المقامات في مقام، ولا نظر أحد من أهل الأحوال إلى حال، ولا أمن مكر الله تعالى عالم به في كل حال، كيف وقد سمعوه تبارك وتعالى يقول: (إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) المعارج: 28 فأجهل الناس من أمن غير مأمون، وأعلمهم من خاف في الأمن حتى يخرج من دار الخوف إلى مقام أمين. وهذا خوف لايقوم له شيء؛ وكرب لا يوازيه مقام ولا عمل، لولا أن الله تعالى عدله بالرجاء لأخرج إلى القنوط، ولولا أنه روحه بروح الأنس بحسن الظن لأدخل في الإياس، ولكن إذا كان هو المعدل وهو المروح كيف لا يعتدل الخوف والرجاء، ولا يمتزج الكرب بالروح والرضا، حكمة بالغة، وحكم نافذ، لعلم سابق، وقدر جار، ماشاء اللّّه تعالى لا قوّة إلا بالله. وفي شهود ما ذكرناه علم عن مشاهدة توحيد لمن أشهده، فأقل ما يفيد علم هذا الخائفين ترك النظر إلى أعمالهم ورفع السكون إلى علومهم وصدق الافتقار في كل حال ودوام الانقطاع بكل همّ والإزراد على النفس في كل وصف؛ وهذه مقامات لقوم، فيكون هذا الخوف سبب نجاتهم من هذه الوقائع إذ قد جعل الله تعالى التخويف أمنة من الأخذ بالمفاجأة وسببًا للرأفة والرحمة لمن ألبسه إياه، وهو أحد الوجهين وفي قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 تعالى: (أَفَأمِنَ الَّذين مَكَرُوا السَّيئاتِ أنْ يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرْضَ) النحل: 45 الآية، ثم قال تعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ علَى تَخَوُّفٍ فَإنَّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحيمٌ) النحل: 47 وليس يصلح أيضًا أن نكشف سرّ المخاوف من الخاتمة والسابقة لأن ذلك يكون عن حقائق معاني الصفات التي ظهرت عن حقيقة الذات فأظهرت بدائع الأفعال وغرائب المآل وأعادت الأحكام على من أظهر بها وجعل لها ممن حقّت عليه الكلمات وجعل نصيبه من معاني هذه السريرة من الصفات فيؤدي ذلك منّا إلى كشف باطن الأوصاف؛ وهذا غير مأمور به ولا مأذون فيه، لأنه لا يجب فلم يؤمر به، ولأنه لم يبح فلم يؤذن فيه، وهو من سرّ القدر وقد نهي عن إفشائه في غير خبر ولو لم يطلع الأولياء عليه لما قيل: فلا تفشوه، فإن أقام الله تعالى عبدًا مقام هذه المشاهدة أغناه بالمعاينة عن الخبر، وآنسه بالمحادثة عن الأثر، وذلك هو العلم النافع الذي يكون العلاّم معلّمه، وذلك هو الأثر اللازم الذي يكون الجاعل مؤثره، (ومَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً وَيَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَنْ يَتَوَكَّلْ على اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق: 3 فالكتب الذي لا يمحي ما كان من نوره والعين التي لا تخفى لأنها بحضوره والنور الذي لا يطفأ لأنه من روحه والروح الذي لا كرب فيه لأنه من ريحانه والمدد الذي لا ينقطع فمن روحه، وقد كتب وأيد وكل كتاب بيد مخلوق فغيرمحفوظ وقد يضيع وكل أيد بغير روحه فمقطوع وما كتبه الصانع بصنعه في قلب حفيظ فمثبت عتيد. وقد روينا عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: (في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) البروج: 22، قال: قلب المؤمن وقال آخر في قوله: (والبيت المعمور) الطور: 4 قلب العارف، وقال بعض أهل المعرفة: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) النور: 36 قلوب المقرّبين رفعت إلى وصف الخالق عن ذكر المخلوقين ويذكر فيها اسمه بالتوحيد على تجريد الوحدانية عن شهادة الأحدية. وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله تعالى يقول: الصدر هو الكرسي والقلب هو العرش والله تبارك وتعالى واضع عليه عظمته وجلاله، وهو مشهود بلطفه وقربه، فصدرالمومن أوّله صمدية وآخره روحانية وأوسطه ربوبية، فهو صمديّ روحانيّ ربانيّ وقلبه أوله قدرة وآخره برّ، وأوسطه لطف، فإذا كان كذلك فهو مشكاة فيها مصباح يرى به الزجاج كأنها كوكب دريّ تشهد به الآلاء، فهو مرآة جسدي يرى فيرى به الوجه ويجده عنده كما يراه به من وراء مرآة مشاهدة من قلب موقن بعين يقين، يشهد الصدر الكرسي والقلب العرش والله تعالى عليه. ولا يحلّ للعلماء أيضاً كشف علامات سوء الخاتمة فيمن رأوها فيه من العمال لأن لها علامات جليّة عند المكاشفين بها وأدلة خفيّة عند العارفين المشرف بهم عليها، ولكنها من سر المعبود في العبد خبيئة وخبأة في خزائن النفوس لم يطلع عليها إلا الأفراد وقد ستر ذلك وعطاه بسعة رحمته وحلمه وكثيف ستره وفضله وسيخرج ذلك الخباء يوم تبلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 السرائر عند غضبه وعظيم سطوته، فما له من قوة، من عمل، ولا ناصر من علم لا قوّة له فينتصر بها، لأن النصرة عزّة وهو ذليل، ولا ناصر، لأن الناصر هو الخاذل والمقوّى هو المضعف، فما أسوأ حال من لا ينصر نفسه، وليست له من مولاه صحبة، ولو صحبه لنصره، ولو نصره لأعزه ولو وليه لهرب منه عدّوه. قال تعالى: (لا يَسْتَطَيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) الأنبياء: 43 وقال تعالى: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذي يَعلَمُ السِّرَّ في السَّمواتِ والأَرْضِ) الفرقان: 6 الآية. فمن حكمته غفره ومن رحمته ستره، وقال تعالى: (يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخفُونَ وَمَا تُعلِنُونَ) النمل: 25؛ فهذه العلوم التي ذكرناها توجب حقائق المخاوف، وهي من سرّ الملك وخباء الملكوت. على أن للعبد عند الموت علامات ليس يخفى على العارف بسوء الخاتمة بها لمشاهدته لها وللأحياء علامات عند المكاشفين على الاطلاع يعرفون بها سوء الخاتمة منهم، وهذا علم مخصوص به: من أقيم مقام مقامات المكاشفات عن مشاهدة حقيقة من ذات، وهوسرّ علام الغيوب عند من أطلعه عليه من أهل القلوب، لأن الكشف يتنوّع أنواعاً من المعاني، فمنه كشف معاني الآخرة، ومنه كشف بواطن الدنيا، ومنه الاطلاع على حقائق الأشياء المستورة لظواهر الأحكام، فهذا من سر الملكوت، ومن معاني كشوف الجبروت. وقد جاء في خبر القدر سر الله فلا تفشوه فهذا خطاب لمن كوشف به، وفي خبر آخر ستر الله فلا تكشفوه فهذا خطاب لمن لم يكاشف به، وهذا نهي عن السؤال عنه، وهو داخل في قوله تعالى (ولاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الإسراء: 36 أي لا تتبع نفسك علم ما لم تكلف، ولا تسأل عما لم يجعل من علمك ولم يوكل إليك، ولأنه إذا علمه لم ينفعه علمه شيئاً، وإنما ينفعه علم الأحكام والأسباب، لأنها طرقات، وبمثل مخاطبة المؤمنين خاطب أنبياءه عليهم السلام في هذا المعنى في قوله تعالى لنوح عليه السلام حين قال: (إنَّ ابني مِنْ أَهْلي وإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ) هود: 45 لأنه قدكان وعده نجاة أهله فقال سبحانه وتعالى: (إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فلا تَسْأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) هود: 46 أي دعاءك ومسألتك لي ما لم أجعله من علمك ولم أكله إليك عمل غير صالح، فعندها استغفر ربه واسترحمه. وإن العبد عند موته في آخر ساعة من عمره يكشف له عند كشف الغطاء عن بصره وجوه كثيرة قد اتخذت آلهة من دون الله أو أشرك بها مع الله تعالى وكلها تزيين وغرور فإن وقف القلب مع أحدها، أو زين له بعضها أوتقلب قلبه في شيئ منها عند آخر أنفاسه ختم له بذلك، فخرجت روحه على الشك أو الشرك، وهذا هو سوء الخاتمة، وهو نصيب العبد من الكتاب في السابقة عند خلق الأرواح، معدومة لها في الأشباح في الآباد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 والآزال قبل إظهار الأكوار والأدوار، فشهدتها الأرواح هناك غرورًا، ووقفت معها وقد زادت لها زورًا رسوم في القلب في التخطيط قبل خلق الأجسام لها، وقبل حجبها بكشف الهياكل عند ظهورها في الوجود، وقبل إقامتها بشاهد العقل، لكن بشاهد الأولية بدت، وبمعنى القيومية وجدت، وبوصف الجامع جمعت ثم فرقت ههنا، فظهرت الآن عند الفراق، لما كانت شهدت في التلاق، واعترفت في الآخر بما كانت نطقت في الأول وخرجت الروح على ما شهدت، وهذا كان خبر السابقة التي أدركت الأرواح المرافقة لها في الأجسام عند الخاتمة. ومن ذلك جاء في الأثر: يأخذ ملك الأرحام النطفة في يده فيقول: يارب أذكر أم أنثى؟ أسوى أم معوج، ما رزقه، وما عمله؟ ما أثره ماخلقه؟ قال: ثم يخلق الله تعالى على يده كما قال: فإذا صورة قال: يارب أنفخ فيه بالسعادة أو بالشقاوة فلذلك خرجت الروح بما دخلت به (فَأَمّا إنْ كانَ مِنَ المقَرَّبينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وجَنَّةٌ نَعيمٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ اليَمينِ، وأَمّا إنْ كَانَ مِنَ المُكَذِّبينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَميمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحيمٍ) الواقعة: 88 - 94 (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَريقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) الأعراف: 29 (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) الأنبياء: 104 (ولَوْ شِئْنا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاها ولكنْ حَقَّ القَوْلَ مِنِّي) السجدة: 13 وقال سبحانه وتعالى: (إنَّ الذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحُسْنى) الأنبياء: 101 (إنَّ الّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِم كَلِمَةُ رَبِّكَ) يونس: 96 (ولَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ) الأعراف: 179 (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلكَ هُمْ لها عَامِلُونَ) المؤمنون: 63 (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الزمر: 47 (إنَّ في هَذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدينَ) الأنبياء: 106 فهذه الآي ونظائرها وردت في السوابق الأول والخواتم الآخر، وفيها سرائر الغيوب وغرائب الفهوم، وهي من آي المطلع لأهل الإشراف على شرفات العرش والأعراف. وقال بعض العارفين: لو علمت أحدًا على التوحيد خمسين سنة ثم حالت بيني وبينه أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد، لأني لا أدري ما ظهر من التقليب. وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل حركة، وكل خطرة وهمة، يخافون البعد من الله تعالى، وهم الذين مدح الله تبارك وتعالى (وقلوبهم وجلة) وقال لا يصح خوفه حتى يخاف من الحسنات كما يخاف من السيئات. وقال أيضًا: أعلى الخوف أن يخاف سابق علم الله تعالى فيه، ويحذر أن يكون منه حدث خلاف السنة يجره إلى الكفر، وقال: خوف التعظيم ميزان خوف السابقة. وكان بعض العارفين يقول: لو كانت الشهادة على باب الدار والموت على الإسلام عند باب الحجرة لاخترت الموت على الشهادة، قيل ولم؟ قال: لأني لا أدري ما يعرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 بقلبي من المشاهدة فيما بين باب الحجرة وباب الدار فيغير التوحيد. وروينا عن زهير بن نعيم الباني قال: ما أكبر همي ذنوبي، إنما أخاف ما هو أعظم عليّ من الذنوب وهو أن أسلب التوحيد، وأموت على غيره، وروي ابن المبارك عن أبي لهيعة عن بكر بن سوادة قال: كان رجل يعتزل الناس أينما كان يكون وحده فجاء أبو الدرداء فقال: أنشدك الله تعالى ما يحملك على أن تعتزل الناس؟ قال: إني أخشى أن أسلب ديني وأنا لا أشعر، قال: أترى في الحي مائة يخافون ما تخاف؟ فلم يزل ينقص حتى بلغ عشرة قال: فحدثت بذلك رجلاً من أهل الشام فقال ذلك شرحبيل بن سمط يعني من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كان أبوالدرداء يحلف بالله تعالى ويقول: ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه، وقد كان بعض علمائنا يقول: من أعطى التوحيد أعطيه بكماله، ومن منعه منعه بكماله إذا كان التوحيد في نفسه لا يتبعض. ولما احتضر سفيان الثوري رضي الله عنه جعل يبكي ويجزع فقيل له: يا أبا عبد الله عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك فقال: أو على ذنوبي أبكي؟ لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال أن ألقى الله تعالى بأمثال الجبال من الخطايا، وقال مرة: ذنوبي أهون من هذه ورفع حبة من الأرض إنما أخاف أن أسلب التوحيد في آخر الوقت، وقد كان رحمه الله أحد الخائفين، كان يبول الدم من شدة الخوف، وكان يمرض المرضة من المخافة، وعرض بوله على بعض الكتابيين فقال: هذا بول راهب من الرهبان وكان يلتفت إلى حماد بن سلمة فيقول: يا أبا سلمة ترجو لمثلي العفو أو يغفر لمثلي؟ فيقول له حماد: نعم أرجو له. وقد كان بعض العلماء يقول: لو أني أيقنت أن يختم لي بالسعادة كان أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس في حياتي أجعله في سبيل الله تعالى. وحدثني بعض إخواني الصادقين وكان خائفًا أنه أوصى بعض إخوانه فقال: إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي فإذا عاينت فانظر إليّ فإن رأيتني متّ على التوحيد فاعمد إلى جميع ما أملكه فاشتر به لوزًا وسكرًا وانثره على صبيان أهل المدينة وقل: هذا عرس المنفلت، وإن رأيتني متّ على غير التوحيد فأعلم الناس أني قد متّ على غير التوحيد حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحبّ على بصيرة لئلا يلحقني الرياء فأكون قد خدعت المسلمين فقلت: ومن أين أعلم أنك قد متّ على التوحيد؟ فذكر له علامة تظهر من بعض الأموات لم نحبّ ذكرها، قال: فكنت عند رأسه أنظر إليه كما أمر، حتى أعاين فرأيت علامة حسن الخاتمة وأمارة الموت على التوحيد قد ظهرت وفاضت روحه، قال: فنفّذت وصيتّه كما أمر ولم أحدّث بذلك إلا خصوص إخواني من العلماء؛ وذلك أن العبد مهما عمل في حياته من سوء أعيد ذكره عليه عند فراق الحياة ووقعت مشاهدته فيه عند آخرساعة من عمره، فإن استحلى ذلك بقلبه أو استهواه بنفسه وقف معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فإذا وقف معه حسب عليه عملاً له وإن قل وكان ذلك خاتمته وكذلك ما عمل من خير أعيد ذكره ومشاهدته عليه فإن عقد عليه بقلبه أو أحبّ وقف معه فحسب عملاً له وكان ذلك حسن خاتمته. وقال بعض هذه الطائفة في قول الله تعالى: (خَلَقَ المَوْتَ وَالَحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ) الملك: 2 قال: يبلوكم بتقليب القلوب في حال الحياة بخواطر الذنوب وفي حال الموت بإلحاد عن التوحيد، فمن خرجت روحه على التوحيد وجاوزت البلاوي كلها إلى المبلى فهو المؤمن وذلك هوالبلاء الحسن، كما قال الله تعالى: (وَلِىُبْلي المُؤْمِنينَ مِنهُ بَلاءً حَسَناً) الأنفال: 17 فهذه المعاني من العلوم أوجبت خوف الخائفين من علم الله تعالى فيهم فلم ينظروا معها إلى محاسن أعمالهم لحقيقة معرفتهم بربهم؛ وهذا الخوف هو الثواب لعلمهم بما يعلمون، فلما سلموا من مطالبة بما يعملون وصحوا على العلم ظهر لهم خوف علم الله تعالى فيهم نعمة من الله تعالى عليهم، فكان ذلك مقامًا لهم، كما قال الله تعالى: (قَالَ رجُلانِ مِنَ الّذينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا) المائدة: 23 قيل بالخوف. والمقام الآخر لأصحاب اليمين دون هولاء؛ خوف الجنايات والاكتساب، وخوف الوعيد وسرّ العقاب، وخوف التقصير في الأمر وخوف مجاوزة الحدّ وخوف سلب المزيد، وخوف حجاب اليقظة بالغفلة، وخوف حدوث الفترة بعد الاجتهاد عن المعاملة، وخوف وهن العزم بعد القوّة وخوف نكث العهد بنقض التوبة، وخوف الوقوع في الإبتلاء بالسبب الذي وقعت منه التوبة، وخوف عود الاعوجاج عن الاستقامة، وخوف العادة بالشهوة وخوف الحور بعد الكور؛ وهو الرجوع عن الحجة إلى طريق الهوى وحرث الدنيا وخوف اطلاع الله تعالى عليهم عندما سلف من ذنوبهم ونظره إلىهم على قبيح فعلهم فيعرض عنهم ويمقتهم وهذه كلها مخاوف وطرقات لأهل المعارف وبعضها أعلى من بعض وبعضهم أشد خوفًا من بعض، ويقال: إن العرش جوهرة يتلألأ ملء الكون فلا يكون للعبد وجد في حال من الأحوال إلا طبع مثاله في العرض على الصورة التي يكون عليها العبد فإذا كان يوم القيامة ووقف للمحاسبة أظهرت له صورته من العرش فرأى نفسه على هيئته التي كان في الدنيا فذكر فعله بمشاهدته نفسه فيأخذه من الحياء والرعب ما يجلّ وصفه. ويقال: إن الله سبحانه إذا أعطى عبدًا معرفة ثم لم يعامله بها لم يسلبه إياها، بل أبقاها عليه ليحاسبه على مقدارها، ولكن يرفع عنه البركة ويقطع عنه المزيد. وقد ذم الله تعالى عبدًا أوجد له نعمة استعمله بها صالحًا بعد أن كان قد ابتلاه بهواه ففخر الآن بعمله ونسي ما قدمت يداه، ولم يخف أن يعيده فيما قد كان جناه في قوله تبارك وتعالى: (ولَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) هود: 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ومن المخاوف خوف النفاق، وقد كان السلف لصالح من الصحابة رضي الله عنهم وخيار التابعين يخافون ذلك. كان حذيفة رضي الله عنه يقول: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصير بها منافقاً حتى يلقى الله تعالى، إني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات. وكان يقول: تأتي على القلب ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة، ويأتي عليه ساعة يمتلئ بالنفاق حتى لايكون للإيمان فيه مغرز إبرة. وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: إنكم لتعلمون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكبائر وفي لفظ آخر: من الموبقات. وقد كان الحسن رحمه الله يقول: لوأني أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. وقيل: لايعرى من النفاق إلاثلاث طبقات من المؤمنين: الصديقون والشهداء والصالحون، وهؤلاء الذين مدحهم اللّّه تعالى بكمال النعمة عليهم، وألحقهم بمقامات أنبيائه لكمال الإيمان وحقيقة اليقين فيهم، وقيل من أمن من النفاق فهو منافق. وكان بعضهم يقول: علامة النفاق أن يكره من الناس ما يأتي مثله، وأن يحب على شيء من الجور، وأن يبغض على شيء من الحق، ومن النفاق من إذامدح بما ليس فيه أعجبه ذلك. وعلامات النفاق أكثر من أن تحصى، يقال هي سبعون علامة، والحديث عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أربع هن أصولها تتشعب منها الفروع فقال عليه الصلاة والسلام أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، وإن كانت فيه خصلة منهن ففيه شعبة من نفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب؛ وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر وفي لفظ آخر إذا عاهد غدر فصارت خمساً. وقال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على هؤلاء الأمراء ونصدقهم بما يقولون فإذا خرجنا تكلمنا فيهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروينا عنه من طريق آخر أنه سمع رجلاً يذم الحجاج ويقع فيه فقال له: أرأيت لو كان الحجاج حاضرًا أكنت تتكلم بما تكلمت به؟ قال لا، قال: كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأشد من ذلك أن نفرًا قعدوا على باب حذيفة رضي الله عنه ينتظرونه، فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه، فلما خرج عليهم سكتوا حياء منه، فقال: تكلموا فيما كنتم تقولون فسكتوا، فقال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأعظم من هذا ما كان الحسن رحمه الله يذهب إليه، كان يقول: إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، واختلاف اللسان والقلب، والمدخل والمخرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فدقائق النفاق وخفايا الشرك عن نقصان التوحيد وضعف اليقين أوجبت المخاوف على المؤمنين خشية مقت الله تعالى، وخوف حبوط الأعمال. من ذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن الرجل ليخرج من منزله ومعه دينه فيرجع إلى منزله وليس معه من دينه شيء، يلقى الرجل فيقول: إنك لذيت وذيت ويلقى الآخر فيقول لأنت وأنت، ولعله لا يخلى منه بشيء، وقد سخط الله تعالى عليه، يعني به التزكية لما لا يعلم، والمدح لمن يستحق الذم، واختلاف قلبه ولسانه، ففي هذا مقت من الله تعالى. وفوق هذه المخاوف سلب الإيمان الذي هو عندك في خزانة المؤمن، يظهره كيف شاء، ويأخذه متى شاء، لا يدري أهبة وهبه لك فيبقيه عليك لكرمه؟ أو وديعة وعارية أودعك إياه وأعارك هو؟ فيأخذه إذا لا محالة لعدله وحكمته، وقد أخفى عنك حقيقة ذلك، واستأثر بعاقبته. وقال بعض العارفين: إنما قطع بالقوم عند الوصول مع الخاتمة: وقال آخر: واخطراه كما قال أبو الدرداء وحلف: ما أحد أمن من أن يسلب إيمانه إلا سلبه، أفرأيت الوقت الذي قال حذيفة: يأتي على القلب ساعة فيمتلئ نفاقاً حتى لا يكون فيه للإيمان مغرز إبرة، إن صادف الموت ذلك الوقت وكان هو آخر وقت، أليس تخرج روحه على النفاق، وكذلك تقليبات القلوب في معاني الشرك وتلويحات الشك إن وافق وقت الوفاة كان خاتمته عند لقاء مولاه، وإنما سميت الخاتمة لأنها آخر عمله وآخر ساعة من العمر، وخاتم الشيء آخره ومن ذلك قوله تعالى: (وَخَاتَمَ النَّبِييِّنَ) الأحزاب: 40 أي آخرهم، ومثله: (خِتَامُه مِسْكٌ) المطففين: 26 وخاتمه مسك أي آخر الكأس، بدلاً من الثفل يكون مسكاً. ومن المخاوف خوف قطع المزيد من علم الإيمان مع بقية المعرفة المبتدأة ليكون مستدرجاً بها كما قال بعض العلماء: إن الله تبارك وتعالى إذا أعطى عبدًا معرفة فلم يعامله بها لم يسلبه تلك المعرفة ولكن بقاؤها فيه حجة عليه ليحاسبه على قدرها وإنما يقطع عنه المزيد وقد يقسى قلبه وتجري عينه وذلك من النقصان الذي لا يعرفه إلا أهل التمام لأنه يمنعه منه ما ينفعه عنده ويعطيه ما يغترّ به ويفتتن عند الخلق لأن عين الوجه من الملك للدنيا وعين القلب من الملكوت للآخرة وقال مالك ابن دينار: قرأت في التوراة: إذا استكمل العبد النفاق ملك عينيه فيبكي متى شاء وقد كانوا يستعيذون بالله عزّ وجلّ من بكاء النفاق وهو أن يفتح للعبد ألوان البكاء ويغلق عنه باب الذل والخشوع. وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَجَاءُوا أَباهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) يوسف: 16 وكان السلف أيضًا يقولون: استعيذوا بالله من خشوع النفاق قيل: وما هو؟ قال: أن تبكي العين والقلب قاس فلأن يعطي الإنسان رقة القلب في جمود عين خير من أن يعطي دموع عين في قسوة قلب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ورقة القلب عند أهل القلوب هو خشوعه وخوفه وذلّه وانكساره وإخباته، فمن أعطاه هذا في قلبه لم يضرّه ما منعه من بكاء عينه فإن رحج له بفيض العين فهو فضل، ومن أعطاه بكاء العين وحرمه خشوع القلب وذلّه وخضوعه وإخباته فهو مكر به؛ وهذا هو حقيقة المنع وعدم النفع وجملة بكاء العين إنما هو في علم العقل، فأما علم التوحيد بمشاهدة اليقين فلا بكاء فيه لأنه يظهر لشاهد الوحدانية فيحمله على علم القدرة فتفيض الدموع بانتشاق القوّة، وقد وصف الله تعالى الباكين: إن البكاء يزيدهم خشوعاً في قوله تعالى: (يَبْكُونَ وَيَزيدُهمْ خُشُوعًا) الإسراء: 109 فإذا زادنا البكاء كبرًا وفخرًا علمنا بذلك عدم الخشوع في القلب فكان تصنّعاً وعجباً لخفايا آفات النفوس، فأعلى المخاوف خوف السوابق والخواتم كما كان بعض العارفين يقول: ما بكائي وغمّي من ذنوبي وشهواتي لأنها أخلاقي وصفاتي لا يليق بي غيرها إنما حزني وحسرتي كيف كان قسمي منه ونصيبي حين قسم الأقسام وفرق العطاء بين العباد فكيف كان قسمي منه البعد، فهذا الذي ذكرناه هو جمل خوف العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وهم أبدال النبيين وأئمة المتقين، أولو القوّة والتمكين، وسئل أبو محمد رحمه الله: هل يعطي الله أحداً من الخوف مثقالاً فقال: من المؤمنين من يعطي من الخوف وزن الجبل قيل: فكيف يكون حالهم يأكلون وينامون وينكحون؟ قال: نعم يفعلون ذلك والمشاهدة لا تفارقهم والمأوى يظلّهم قيل: فأين الخوف قال: يحمله حجاب القدرة بلطيف الحكمة ويستر القلب تحت الحجاب في التصريف بصفات البشرية فيكون مثل هذا العبد مثل المرسلين، وهذا كما قال لأن مشاهدة التوحيد بالتصريف والحكمة تقيمه بالقيام بالأحكام، وذلك أن نور الإيمان في القلب عظيم لو ظهر للقلب لأحرق الجسم وما اتصل به من الملك إلا أنه مستور بالفضل مغطّى بالعلم لإيقاع الأحكام، وإيجاب التصريف فيها والقيام يجري مجرى الغايات من معاني القدر والصفات لأن الأنوار محجوبة بالأسماء والأسماء محجوبة بالأفعال والأفعال محجوبة بالحركات فتظهر الحركة بالقدرة وهي غيب من ورائها، كذلك يظهر التصريف بالحكمة من نور الإيمان وأنوار الإيمان مستورة من ورائه. وقال بعض العارفين: لو كشف وجه المؤمن للخلق عند الله تعالى لعبدوه من دون الله تعالى ولو ظهر نور قلبه للدنيا لم يثبت له شيء على وجه الأرض، فسبحان من ستر القدرة ومعانيها بالحكمة وأسبابها حلمًا منه ورحمة وتطريقًا للخلق إليه للمنفعة، وفي قراءة أبيّ بن كعب مثل نور المؤمن، فولا أن نوره من نوره ما استجاز إبدال حرف بغير معناه، وقد كان سهل رحمه الله تعالى يقول: الخوف مباينة للنهي والخشية الورع والإشفاق الزهد، وكان يقول: دخول الخوف على الجاهل يدعوه إلى العلم، ودخوله على العالم يدعوه إلى الزهد، ودخوله على العامل يدعوه إلى الإخلاص، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وقال أيضًا الإخلاص فريضة لا تنال إلا بالخوف ولا ينال الخوف إلا بالزهد فقد صار الخوف يصلح للكافة إذ دخوله على العامة يخرجهم عن الحرام، ودخوله على الخاصة يدخلهم في الورع والزهد، لأن من خاف ترك، وقال أيضًا: من أحبّ أن يرى خوف الله تعالى في قلبه فلا يأكل إلا حلالاً ولا يصلح علم الرجاء إلا للخائف، وقال: الخوف ذكر والمحبة أنثى، ألا ترى أن أكثر النساء يدعون المحبة يريد بهذا أن فضل الخوف على الرجاء كفضل الذكر على الأنثى؛ وهذا كما قال لأن الخوف حال العلماء، والرجاء حال العمّال، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على الكواكب. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضل من علم أحبّ إليّ من فضل من عمل، وخير دينكم الورع واعلم أن الخوف عند العلماء على غير ما يتصوّر في أوهام العامة وخلاف ما يعدّونه من القلق والاحتراق أو الوله والانزعاج لأن هذه خطرات وأحوال ومواجيد للوالهين وليست من حقيقة العلم في شيء، بمنزلة مواجيد بعض الصوفية من العارفين في أحوال المحبة، من احتراقهم وولههم. والخوف عند العلماء إنما هو اسم لصحيح العلم وصدق المشاهدة، فإذا أعطى عبد حقيقة العلم وصدق اليقين سمي هذا خائفاً، فلذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أخوف الخلق، لأنه كان على حقيقة العلم ومن أشدهم حباً لله تعالى، لأنه كان في نهاية القرب، وقد كان حالة السكينة والوقار في المقامين معاً، والتمكين والتثبيت في الأحوال كلها، ولم يكن وصفه القلق والانزعاج، ولا الوله والاستهتار، وقد أعطي أضعاف عقول الخليقة وعلومهم، ووسع قلبه لهم، وشرح صدره للصبر عليهم. فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الأعرابي كأنه أعرابي، ومع الصبي بمعناه، ومع المرأة في نحوها، يقاربهم في علومهم، ويخاطبهم بعقولهم، ويظهر منه مثل وجدهم، ليعطيهم نصيبهم من الأنس به، ويوفيهم حقوقهم من الدرك منه، ولئلا تعظم هيبته في صدورهم، فينقطعون عن السؤال له والأنس به حكمة منه، لا يفطنون لها ورحمة منه قد جبل عليها، قد ألبس مواجيدهم لبسة، وأدخل ذلك عليه صبغة، بغير تكلف ولا تصنع، تعلم ذلك من الحكيم العليم، فلذلك وصفه عزّ وجلّ بخلقه، وتعجب من وصفه فقال تعالى: (وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ) القلم: 4 قيل على أخلاق الربوبية، وقرئت بالإضافة ليكون عظم اسم الله سبحانه لا يظهر من حاله ونصيبه شيئاً لقوة التمكين وفضل العقلاء ولا يبخس من نصيبهم منه شيئاً لحقيقة العدل، ولا يتظاهر بشيء لحقيقة الزهد ونهاية الخشوع والتواضع، ولا يظهر عليه شيء لمكانة القوة ورسوخ العلم والحكمة، وعلى منهاجه وسنته وصف العارفين من أهل البلاء الذين هم الأمثل فالأمثل بالأنبياء. وقال بعض أهل المعرفة: من طالب الخلق بعلمه وخاطبهم بعقله، فقد بخسهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 حقوقهم منه، ولم يقم بحق الله تعالى فيهم. وقال بعض العلماء: لا يكون إماماً من حدث الناس بكل ما علمه وأظهر لهم نصيبه وكان يحيى بن معاذ يقول: لا تخرج أحداً من طريقه ولا تخاطبه بغير علمه فتتعب، ولكن أغرف له من نهره، واسقه بكأسه. وسئل بعض العلماء عن العارف، هل يستوحش من الخلق؟ قال: لا يستوحش، ولكن قد يكون نفوراً، قيل: فهل يستوحش منه؟ فقال العارف لا يستوحش منه، ولكن قد يهاب. ومما يدلك أن الخوف اسم لحقيقة العلم أن في قراءة أبي بن كعب في قوله تعالى: (فَخَشِيْنَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا) الكهف: 80 فخاف ربك أن يرهقهما. وقال يحيى بن زياد النحوي: ومعناه فعلم ربك، وقال: الخوف من أسماء العلم والله أعلم. بيان آخر في معنى الخوف والخوف أيضاً من أسماء المعاني، فوجوده بانتفاء ضده فإذا عدم من القلب الأمن من كل وجه من أحوال الدنيا وأمور الآخرة؛ فلم يأمن مكر الله تعالى في كل الأحوال، في تصريف أحكام الدنيا وتقليب حركات القلوب والنفوس، وجواذب الشهوات، وإثارة طبائع العادات، ولم يسكن إلى عرف ولا اعتياد، ولم يقطع بسلامته وبراءته في شيء كان هذا خوفاً، وسمى العبد بفقد الأمن من جميع ذلك خائفاً، فهذا مستعمل فاش في كلام العرب، ومذهبهم، يقول أحدهم: أخاف من كذا إذا لم يأمنه، أو أخاف أن يكون كذا إذا تحقق علمه. وقيل لبعض العلماء: ما بال العارف يخاف في كل حال؟ فقال: لعلمه أن الله تعالى قد يأخذ في جميع الأحوال. ثم إن للخائفين بعد هذا طرقاً ووجهة من قبل الخوف المقلق والإشفاق المزعج، والوجل المحرق، وهي مجاوزات للطرق السابلة التي هي محاج للأئمة المختارة الفاضلة، وفيها متاوه ومهالك، نقلت عنها العلماء السادة، والصفوة المختارة، إلا أنه قد سلك ببعض الزهاد والعباد فيها وأريد بعض العارفين بها ليست بمفضلة كل ذلك عن العلماء، ولا بمتنافس فيها مغبوط عليها عند العارفين، لأنها قد تخرج من طرقات المسالك إلى مفاوز المهالك، وإنما أريد ببعضهم التعريف لها والاطلاع عليها، ومنهم من أريد منه التيه والوله فيها إلا أنها أشهر في أسماع العامة وأعجب وأهول عند العموم. ذكر تفصيل هذه المخاوف اعلم أن للخوف سبع مفائض تفيض إليها من القلب، فإلى أي مفيض فاض من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 القلب إليه أتلف صاحبه به إلا ما يستثنيه. قد يفيض الخوف من القلب إلى المرارة وهي أرق صفات الأدمة، وهي باطن البشرة فيحرقها فيقتل العبد، وهؤلاء هم الذين يموتون من الغشى والصعق وبداوة الوجه، وهم ضعفاء العمال. وقد يطير الخوف من القلب إلى الدماغ فيحرق العقل فيتيه العبد فيذهب الحال ويسقط المقام. وقد يحل الخوف السحر وهو الرئة فينقبها فيذهب الأكل والشرب حتى يسلّ الجسم وينشف الدم، وهذا لأهل الجوع والطي والاصفرار. وقد يسكن الخوف الكبد، فيورث الكمد اللازم، والحزن الدائم ويحدث الفكر الطويل والسهر الذاهب، وفي هذا المقام يذهب النوم ويدوخ السهر وهذا من أفضلها، وفي هذا الخوف العلم والمشاهدة وهو من خوف العاملين، وقد يقدح الخوف في الفرائص؛ والفريصة هي اللحمة التي تكون على الكتف، يقال للحمتي الكتفين: الفريصتان وجمعها الفرائص، ومنه الخبر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعجبه الفريصتان من اللحم وهو أرقّ لحم الحيوان وأعذبه، فمن هذا الخوف يكون الاضطراب والارتعاش واختلاف الحركة، وقد يبدو الخوف من القلب فيغشى العقل فيمحي سلطانه لقهر سلطان القدرة ومحو الشمس إذا برزت ضوء القمر للبادي الذي يبدو على السر من خزائن الملكوت فيضعف لحمله العقل فيضطرب لضعفه الجسم فلا يتمكّن العبد من القرار لضعف صفته وذلك أن أجزاء الإنسان وإن كانت متفرقة في البنيان للحكمة والإتقان فهي كشيء واحد يجمعها لطيف القدرة بإظهار المشيئة، فأسفل البنية منوط بأعلاها فإذا اضطراب أعلاها مال أسفلها وإذا وصل الداء أو الدواء إلى عضو منها تداعى له سائرها، وهذه الطائفة أشبه بالفضل وأدخل في وصف العلم وقد سلك في هذا الطريق أكابر العماء وأفاضل أهل القلوب وقد كان هؤلاء في التابعين كثير منهم؛ الربيع بن خيثم وأويس القرني، وزرارة بن أوفى، ونظراؤهم من الأخيار رضي الله عنهم، ولم ينكر هذا عليّة الصحابة مثل عمر وابن مسعود رضي الله عنهم. وقد كان عمر رضي الله عنه يغشى عليه حتى يضطرب مثل البعير ويسقط من قيام، وقد كان ذلك يلحق سعيد بن جذيم، وكان من زهاد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أمراء الأجناد بعثه عمر رضي الله عنه واليًا على أهل الشام، وكان يوصف له من زهده وشدة فاقته ما يعاتبه عمر في ذلك ويبعث إليه بالمائة دينار وبأربعمائة دينار ليستنفقها على أهله فيفرق ذلك على الغزاة في قصة طويلة، فكتب إليه أهل الشام يذكرون شأنه، وكان يغشى عليه في مجلسه فخشوا عليه من دخيلة في عقله ولم يعرف ذلك أهل الشام فسأله عمر لما لقيه الذي يصيبه إذا تحدث فأخبره بما يجد من مشاهدته وهو وجد الصوفية من أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الأحوال، فعرف عمر ذلك وعذره، وما زاده ذلك عنده إلا خيرًا فكان يرمه ويعرف له فضله، وكتب إلى أهل الشام أن لا تعنفوا في أمره ودعوه وقد كان أقوى الأقوياء وهادي الهداة رسول رب العالمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغشى عليه عند نزول الوحي إذا لبسه أزال ترتيب العقل منه ورفع مكان الكون عنه ويغط ويتربد وجهه وينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي، إلا أن هذا كان يصيبه في ضرب من الوحي إذا تغشاه ونزل عليه روح القدس في روحه واستبطن قلبه لأن الوحي على أربعة أضرب؛ ضربان متصلان هذا أحدهما، وضربان منفصلان، ومن كل واحد يلحق العلماء بالله تعالى أهل القلوب الناظرة والشهادة الحاضرة، وشرح هذا يطول وليس يعرفه علم يقين إلا من سلك طريقه ولا يشهده شهادة تحقيق إلا من ذاق حقيقته ومن آمن به تصديق تسليم فله منه نصيب، إلا أن هذا في أهل مقامات ثلاث من المقرّبين؛ مقام المعرفة؛ والمحبة والخوف، وكل ضروب الوحي بعد هذه الأربعة وهي عشرة لأهل هذه المقامات الثلاث منه نصيب خواطر أو وجد أوشهادة أوحال أو مقام؛ وهو وصف التمام إلا نوعين من أنواع الوحي فإنهما ممتنع ومخصوص بهما المرسلون؛ أحدهما ظهور الملك في صورته وسمع كلام الله بصفته ونظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جبريل عليه السلام في صورته بالأبطح فصعق. وروى حمزة عن حمران بن أعين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ آية في سورة الحاقة فصعق وقال الله تعالى: (وخَرَّ موسى صَعِقًا) الأعراف: 143 وقد يفيض الخوف من القلب إلى النفس فيحرق الشهوات ويمحو العادات ويخمد الطبع ويُطفئ شعل الهوى وهذا أحد المخاوف وأعلاها عند أهل المعارف، وهؤلاء أفضل الخائفين وأرفعهم مقامًا؛ وهو خوف الأنبياء الصدّيقين وخصوص الشهداء، وليس فوق هذا وصف يغبط عليه الخائف ولا يفرح به عارف، فإن جاوز الخوف هذه الأوصاف فقد خرج من حدّه وجاوز قدره لأنه إذا أحرق الشهوات ومحا الأهواء فلم يترك شهوة ولا هوى ثم إن لم يعصم العبد من مجاوزة حدّ الخوف خرج به الخوف إلى أحد ثلاثة معانٍ خيرها أن يسري إلى النفس فيحرقها فيتلف العبد فتكون له شهادة، وليس هذا محمودًا عند علماء الخائفين من أرباب العلوم والمشاهدات، إلا أنه قد قال بعض العلماء ما شهداء بدر بأعظم أجرًا ممن مات وجدًا؛ وهذه أوصاف ضعاف المريدين إذ للعلماء الموقنين بكلّ شهادة من اليقين أجر شهيد وأوسطها أن يعلو إلى الدماغ فيدنيه فتنحلّ عقدة العقل لذويه فتضطرب الطبائع لانحلال عقدة العقل ثم تختلط المزاجات لاضطرابها فتحترق الصفراء فتحول سوداء فيكون من ذلك الوسواس والهذيان والتوه والوله، وذلك أن الدماغ جامد وهو مكان للعقل هو مركب عليه معقود به فإذا اختلطت المزاجات اشتعلت فتلهب شعلها إلى الدماغ فأحرقه وأذابه، فحل محل العقل الذي مكانه مخ الدماغ وسلطانه صقال القلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الظاهر كصقال الرقعة، وهو بمنزلة الشمس الطالعة، محلها الفلك العلوي، وشعاعها على الأرض، كذلك العقل محله المخ، وسلطانه في القلب، وفي هذا المقام الطيش والهيمان، وهذا مكروه عند العلماء؛ وقد أصاب ذلك بعض المحبين في مقام المحبة فانطبق عليهم فولهوا بوجوده، ومنهم من فزع ذلك عن قلوبهم فسرى عنهم فنطقوا بعلمه. وقد كان أبو محمد رحمه الل تعالى يقول لأهل التقلل الطاوين المتقشفين: احفظوا عقولكم، فإنه لم يكن ولى الله ناقص العقل. والمعنى الثالث وهو شرها في مجاوزة الخوف، هو أن يعظم ويقوى، فيذهب الرجاء إذا لم يواجه بعلم الأخلاق من الجود والكرم والإحسان التي تعدل المقام، فتروح كروب الحال فيخرجه ذلك إلى القنوط من رحمة الله، والإياس من روح الله تعالى، دخلت عليهم هذه المشاهدة من قبل العدل والإنصاف بمعيار العقل فجاوزت بهم علم وصفه بالكرم، وخفى الألطاف، فتعدت بهم الحدود من قبل قوة نظرهم إلى الاكتساب؛ وتمكن تحكم شهادة الأسباب، ورجوعهم إلى أنفسهم في الحول والاستطاعة، وإثباتهم لتحقيق الوعيد عليهم خاصة لا محالة، والحكم علي الحاكم الراحم بعقولهم وعلومهم، من غير تفويض منهم إلى مشيئته، ولا استلام لقدرته، ولا تأميل لأحد معاني صفاته الحسنى التي تعم جميع صفاتهم السوأى، فظهرت سيئاتهم الثواني أمامهم، فحجبتهم عن المحسن الأول، ولم يعلموا أنهم بإحسانه إليهم أساءوا، وبسبق علمه فيهم تعدوا، وإن قلمه لم يكن بأيديهم إذ جرى بما عليهم، وإن قهر قدرته وسلطان جبره أظهر منهم من خزائنه ما فيهم، يدلك على صحة ما ذكرناه أن أكثر هذه المخاوف كانت في البصريين، وأهل عبادان والعسكريين، فكان مذهبهم القدر، والقول باللطف، وتفويض المشيئة وتقديم الاستطاعة. منهم العمرية أصحاب عمرو، والعبادية شيعة عباد، والفوطية والعطوية أصحاب هشام الفوطى، وابن عطاء الغزالي. ومنهم التيمية نفوا نصف القدر، ومنهم المنازلية أصحاب المنزلة بين المنزلتين، والقول بمقدور من قادرين، وفعل من فاعلين، فابتلوا بالاعتماد على الأسباب، وبالنظر إلى أولية الاكتساب فحجبهم ذلك عن المقدر الوهاب، فهرب هؤلاء من الأمن والاغترار، فوقعوا في أعظم منهما من القنوط والإياس، فصاروا في كبائر المعاصي من خوفهم منها. فمثلهم مثل الخوارج، خرجوا على الأئمة بالسيف لإنكار المنكر، فوقعوا في أنكر المنكر من تكفير الأئمة، وإنكارهم السلطان، وتكفيرهم الأمة بالصغائر، وهذا من أبدع البدع، وهؤلاء كلاب أهل النار. ومثلهم أيضاً مثل المعتزلة، هربوا من طريق المرجئة أن الموحدين لا يدخلون النار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 فحققوا الوعيد على الموحدين، وخلدوا الفاسقين في النار، فجاوزوا حد المرجئة وزادوا عليهم، كما جاوزت المرجئة طريق أهل السنة وقصرت عنهم. وكان شيخنا أبو محمد رحمه الله تعالى يقول: أهل البدعه كلهم يرون الخروج على السلطان، ويرون السيف على الأمة، ويكفرون الأئمة، فهذا أضر الوجوه في مجاورة الخوف عن قدره، وهو من التعدي لحدود الله تعالى وأمره (قد جعل الله لكل شيء قدرا - ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) الطلاق: 3 فصدق الرجاء واعتدال الخوف به من نحقيقة العلم بالله تعالى، ومجاوزة الشيء كالتقصير عنه، والمؤمن حقا هو المعتدل بين الخوف والرجاء، فالخوف المتلف للنفس بالموت، أو المزيل للعقل بالفوت خير من هذا الوصف الذي هو القنوط، لأن هذا مزيل للعلم؛ ومسقط للمقام، موقع في الكبائر. على أن هذين المقامين من الخوف، ليس فيهما علم ولا مشاهدة على الكشف، وإنما هو قوة وجد تصطلم مرارته فتوجد إتلاف النفس، ومحو العقل من عبد بمنزلة خوف الكروبيين خاصة من الأملاك أهل الكرب والتمكن، لأنهم لا ينقلون في المقامات التي يعدلون بها كمقربي الروحانيين. وبلغني أن منهم جيلاً يخرج كل يوم من تحت العرش بعدد البشر، قد أقلقه الشوق وحقره الكرب، يريد النظر إلى وجه العلىّ الأعلى فيحرقهم شعاع سبحات وجهه الكريم سبحانه وتعالى، فيحترقون احتراق الفراش في المصباح، ثم يعود مثلهم من الغد، فهذا دأبهم إلى يوم القيامة، كل ملك لو جمع السموات والأرضين في كفة غابت في قبضته. ولعمري إن سائر الملائكة لا ينقلون في المقامات كالمؤمنين، بل لكل ملك مقام معلوم لا ينتقل منه إلى غيره، إنما يمدون من ذلك المقام بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة بأكثر ما يزاد جميع البشر، ولكن أولئك يحمل خوفهم قواهم، ويثبت بمشاهدة وصف المخوف خوفهم وصفاتهم، فلا يئودهم ولا يقتلهم، لأنهم يمدون بالقوى، ويعصمون من الموت، بحفظ آجالهم إلى وقتها في الآخر، على أن منهم من يطيش عقله ويتوله قلبه ومنهم من يصبح في تيهه، ومنهم من يتيه فلا يرد وجهه شيء إلى يوم القيامة، ومنهم من يفزع الفزعة فلا يرتد إليه طرفه، ولا يرجع إليه عقله إلى يوم الحشر، ومنهم من يصعق صعقة فلا يزال في صرخة واحدة إلى نفخ الصدور، وكثير منهم يصعقون عند سماع الكلام من الملك الجبار (حتى إذا فزع عن قلوبهم) سبأ: 23 سألوا الروحانيين من المقربين ذوي الحجب القريبة والرتب العلية، منهم جبريل وإسرافيل وميكائيل (ماذا قال ربكم) فهؤلاء الحاضرون من الناظرين والتمكنون من الشاهدين حجبة القدس أولو المحبة والأنس، قالوا: الحق وهو العليّ الكبير، فمثل هؤلاء الخائفني مثل المخلصين من المؤمنين الذين قال الله: (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 مَعْلُومٌ) الصافات: 41 ومثل الأقوياء من العالمين أولي البصائر والتمكين مثل الصابرين الذين يؤتون أجرهم بغير حساب وهعلماء الموقنين ينقلون في مقامات اليقين بمقتضى أحكامها من مقام خوف إلى مقام رجاء مثله، فإذا عملوا في هذه المقامات بما يقتضيهم رفعوا إلى ما فوقها من مقام رجاء إلى مقام رجاء، هو خيرمنه، ومن حال خوف إلى حال خوف أشرف منه، ثم ينتقلون من مقامات الإشفاق إلى حال الإشتياق ومن أحوال الوجل والإحتراق إلى مقام التملّق والطمأنينة، ومن حال الفزع إلى مقام الأنس ومن الإبعاد والوحشة والتهويل إلى الرضا والمحبة والتأميل، فهذا مكن فضلهم على من وقف في مقامه لم يجاوزه من العموم، ومن استتر بحاله وقام في ظلّ فلم يعطعه إلى ظل ممدود فوقه ولم يرفع منه إلى محل رفيع أعلاه ومثل الخائفين من المؤمنين مثل الكروبيين من الملائكة، ومثل الراجين من المحبين؛ كمثل الروحانيين من المقرّبين، وأصل الرجاء وتفضيله أن عند العلماء بالله تعالى من عظيم الرجاء ما يضاهي عظيم الخوف، فيعدل البنية ويحكم بين المقامين بالسوية، فلا يبدو على قلوبهم بادٍ من الخوف عن مشاهدة وصف من الصفات المخوفة تكربهم إلا طلع طالع وراء من عظيم الرجاء أشهد خلقًامن الأخلاق اللطيفة تروحهم ولا يطرأ على قلوبهم طارئ من الخوف، يهربون منه إلا بدا عليهم بادٍ من الرجاء يأنسون به إليه فتعتدل صفاتهم وتستوي مقاماتهم عن معاينة معنى من معاني صفاته لا ستواء كمال ذاته فتكون قلوبهم كلسان الميزان بين الخوف والرجاء، وتكون كالطائر مقوّمًا بين جناحيه عن شهود وصف وخلق اقتضاء ظهور البلاء والنعماء، فيحمل الخوف الرجاء، ويستولي يالرجاء على الخوف ويفيضان معًا في سعة القلب وقوّته، فيغيبان فيه لأنه قوي بقوي ووسع بواسع وقادر بمقتدر، وينفرد الهمّ عن المعنيين فيقف بمشاهدة منفرد فيحكم عليه ما به أفرد، ومن هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بك أحول وبك أقول وبك أصول؛ ومن ذلك قوله في علوّ شهادته ونفاذ علمه من كونه بشاهده أعوذ بك منك، ومثله قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فهذا نطق عن وجد في مقام البقاء بعد، فقد حال الفناء هنالك سمع قول الباقي المغني: (كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك) الرحمن: 26 - 27 ومن ذلك الأثر المشهور عن الله سبحانه وتعالى: لم تسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الشاكر اللين الوادع، ولا يصلح تفصيل ما أجملناه ولاشرح ما رمزناه، وقال بعض علماء السف: ما ألبس المؤمن لبسة أحسن من سكينة في خشوع وذلّة في خضوع فهذا حالان من الخوف، وهي لبسة الأنبياء وسيما علماء الأولياء. وقال لقمان لابنه: يا بني خف الله تعالى خوفًا لا تيأس فيه من رحمته وارجه رجاء لاتأمن فيه مكره، ثم فسّره مجملاً فقال المؤمن: كذي قلبين؛ يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر، ومعنى لك أن المؤمن ذو وصفين عن مشاهدتين لأن المؤمن الأوّل والشاهد الأعلى ذو وصف مخوف مثل البطش والسطوة والعزة والنقمة. فإذا شهد العبد ما آمن به من هذه الصفات خاف إذا عرفه بها وتجلّى له بشاهدها والمعروف أيضًا هو المألوف ذو أخلاق مرجوّة من الكرم والرفق والرحمة واللطف. فإذا شهد القلب ما آمن به من هذه الأخلاق رجا من شهده بها فصار العبد لوصفيه الرجاء والخوف عن معنى شهادتيه المخوفة والمرجوّة عن وصفي مخوفه ومرجوّة وصار كذي قلبين كأنه يرجو بقلب ويخاف بآخر، وإنما هما شهادتان في قلب واحد لأنهما مقامان لقلب واحد عن شهود مخوف ومرجوّ واحد؛ فهذا تفسير قول لقمان، وهو صفة المؤمن ذي الإيقان، إلا أن الخائف يوصف بما غلب عليه من الحال عما قوي عليه من مشاهدة ويندرج الرجاء في مقامه، ويوصف الراجي بما قوي عليه من الحال عن غلبة شهادته وينطوي الخوف في مقامه ولا كنه للمخوف تعالى وعلا ولا نهاية للمرجوّ عزّ وجلّ سبحانه وتعالى، فأما الشهيد الموقن العالم المقرّب فبالحالين جميعًا يوصف مع اعتدالهما وبالوصفين جميعًا يعرف مع استوائهما، ثم يغلب عليه الوصف التام والحال الكامل. فإذا عرف به أدرج الوصفان فيه فيقال: صديق لأنه قد تحقق بالصدق فأغنى عن أن يقال مخلص، ثم يقال عارف لأنه قد رسخ في العلم فكفى أن يقال صادق ثم يقال مقرّ ب لأنه قد أشهد القرب فاقترب ولم يحتجّ إلى أن يقال عامل؛ وهذه أسماء الكمال وأحوال التمام لا يفتقر إلى ذكر حال دونها ولايوصف بوصف كوصف خائف أو راجٍ لوجودهما فيه واعتدالهما عنده لأن الخوف والرجاء قد فاضا عليه ثم غاضا فيه فإذا قلت عارف أو مقرب أو صديق، فقد دخل فيه وصف حبّ خائف راجٍ عامل لا محالة كما إذا قلت فلان هاشميّ استغنيت أن تقول قرشيّ أو عربيّ لأن كل هاشمّي يكون عربّيًا قرشيًّا لا محالة ثم تصفه بوصف التمام أيًا فيندرج الوصفات فيه فتقول: فلان حسنيّ أو حسينيّ فاكتفيت أن تقول هاشميّ أو قرشىّ أوعلويّ، وإن كان هاشميّا قرشيًّا علويًّا لأنه قد عرف أن كل حسينيّ فهو هاشميّ قرشىّ علويّ لامحالة، فأما أن تقول: فلان عربيّ أو هاشميّ أو قرشيّ أو علويّ فلا يعرف إلا بما وسمته به لأنه قد يكون علويًّا وهو الغاية في النسب ولا يكون حسينّيًا وقد يكون هاشمياً غير علويّ ويكون قرشيًّا غير هاشميّ ويكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 عربياً غير قرشي فيلزمه وصف ما عرفته حسب، فكذلك قولك: عارف أو محبّ أومقرّب أو صديق هي اسم التمام والكمال في المقامات الي تحتوي على جميع الأسباب كقولك: حسنيّ هو اسم التمام وشرف الكمال الذي يفوق على كل الأنساب ولايصح مقام المعرفة إلا بعين اليقين وشاهد التوحيد بعد أن لا يبقى من النفس بقية في مقام اليقين ولا من الخلق رؤية في شاهد التوحيد فيكون روحانيًّا بعد فناء النفس باليقين ربانيهًا عند شهود الخالق سبق منه التوحيد لأن العارف لا يوسم بحال دون حال وقد استغرق الأحوال ولا يوسم بمقام دون مقام إذ قد جاوز المقامات؛ فحقيقة معناه عارف بالمعروف الذي هو بكل نهاية وفضل موصوف وغموض غريبة عند غير أبناء جنسه أن ينكروه فإن تعرف إليهم أوعرفوه فليس بعارف. وقال بعضهم في وصف العارف: أن يعرف كلّ شيء ولا يتعرّف إلى شيء وقيل: حقيقته أن يعرف ولا يعرف عن مقتضى وصف من أوصاف الربوبية لأنه روحانيّ ربانيّ، وثلاث مقامات لا يقاس عليها ولايتمثّل بها، فمن قاس عليها أخطأ، ومن تمثّل بها ادّعى مقام النبوّة ومقام المعرفة ومقام محبوب، وقد ذكرنا وصفه في شرح مقام المحبة في كتاب المحبين؛ فهذه طرائق الخائفين وجل صفات العارفين لأنهم متفاوتون في القرب والاقتراب متعالون في التقرّب والتقريب مترافعون في التعرّف والتعريف، فالموقنون من الشهداء وهم المقرّبون من الصديقين بشهادتهم قائمون لهم من القرب الاقتراب ومن التقرّب التقريب ومن التعريف التعرّف ومن الإيلاف التأليف لأن مقامهم من القريب العالي الطريق الأقرب والجهة العليا هم السابقون لأهل مقامات اليمين أوّل القرب والتقرب وأوهل الحبّ التحّبب ولهم التألف والتعريف وهؤلاء الأبرار، ومن أفضل طرقات الخائفين ما سرى خوفه إلى النفس قاطعًا شغل الهوى وأخمد نار الشهوات فسقطت له أثقال المجاهدة وخفّت عنده مؤنه المكابدة ووجدت معه حلاوة الطاعة لفقد حلاوة المعصية واجتمع لهم بالحّق عند زوال التشتت بالهوى والخلق وسكنت النفس بالطمأنينة لمعاينة القلب للشهادة وظهر نعيم الزهد والرضا لباطن الصدق والإخلاص ثم سكن الخوف في القلب بعد ذلك ولم يجاوزه فيتعدّى الحدّ إلى بعض المفائض التي ذكرناها بل كان منه الحزن الدائم والهمّ اللازم والخشوع القائم وهذا هو وصف القلب المنكسر وحال العبد المنجبر الذي يوجد عنده الجبار فجبره بعد كسره فصلح له بعد أن عطل من غيره وصار مزيدًا لعالم الخائف من الله تعالى كشوف اليقين وتنقيله لديه في شهادة المقرّبين فكان القريب لدي موجودًا وصار الحبيب عنده مطلوبًا لأنه من المنكسرة قلوبهم من أجله وبأنه صار عنده من أهله، واعلم أن الذي قطع الخلق عن هذه حلاوة الهوي ولا يخرجها إلا أحد كأسين؛ تجرّع مرارة الخوف فيغلب حلاوة الهوى فيخرجه أو غلبة حلاوة المحبة فيستغرق حلاوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الهوى فيغمره، فإن عدم أحد هذين فهو من المذبذبين بن ذلك. وروينا أن عليّا رضي الله عنه قال لبعض الخائفين، وقد تاه عقله فأخرجه الخوف إلى القنوط: ما أصارك إلى ما أرى؟ فقال: ذنوبي العظيمة، فقال: ويحك إن رحمة الله تعالى أعظم من ذنوبك فقال: إن ذنوبي أعظم من أن يكفّرها شيء فقال: إن قنوطك من رحمة الله تعالى أعظم من ذنوبك والخوف جند من جنود الله تعالى قد يستخرج من قلوب المريدين والعابدين لا يستخرجه الرجاء فتستجيب له القلوب المرادة به بنهايات الزهد وحائق التوبة وشدة المراقبة، وقد يفعل الله تعالى جميع ذلك بأهل الرجاء في المحبة ومقام الرجاء مستخرج منهم الكرم والحياء والخوف اسم جامع لمقامات الخائفين ثم يشتمل على خمس طبقات، في كل طبقة ثلاث مقامات، فالمقام الأوّل من الخوف هو التقوى؛ وفي هذا المقام المتقون والصالحون والعاملون، والمقام الثاني من الخوف هو الحذر؛ وفي هذا المقام الزاهدون والورعون والخاشعون، والمقام الثالث هو الخشية؛ وفي هذا طبقات العالمين والعابدين والمحسنين، والمقام الرابع هو الوجل؛ وهذا للذاكرين والمخبتين والعارفين، والمقام الخامس هو الإشفاق وهو للصديقين وهم الشهداء والمحّبون وخصوص المقرّبين وخوف هؤلاء عن معرفة الصفات لأجل الموصوف لا عن مشاهدة الاكتساب لأجل العقوبات، كما جاء في الخبر: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري، فالسبع إنما يخاف لوصفه بالبطش والسطوة ولما ألبس وجهه من الهيبة والكبر لا لأجل ذنب كان من الإنسان إليه، وكذلك لهؤلاء من الرجاء العظيم والنصيب الأوفر على معنى خوفهم ما لا يسع للعموم أن يذكر، فطلبهم برجائهم وحسن ظنهم بما هو لهم لا يصفه إلا هم ولا يعرفه سواهم، جمل ذلك أنصبة القرب ونعيم الأنس وروح اللقاء وسرور التملّق وحلاوة الخدمة وفرح المناجاة وروح الخلوة وارتياح المحاورة فلهم منه تجلّي معاني الصفات وظهور معاني محاسن الأوصاف فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين ولأصحاب اليمين إظهار نعيم الأفعال ومواهب العطاء والأفضال، وقد كان يحيى بن معاذ يقول من عبد الله تعالى بالخوف دون الرجاء غرق في بحار الأذكار، ومن عبده بالرجاء دون الخوف تاه في مفاوز الاغترار، ومن عبده بالخوف والرجاء معًا استقام في محجة الأذكار، وقال مكحول النسفي رحمه الله تعالى في معناه: إلا أنه جاوز فيه الحدّ فقال: من عبد الله تعالى لخوف فهو جروري، ومن عبده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 بالرجاء فهو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحّد والله سبحانه وتعالى أعلم. شرح مقام الزهد ووصف أحوال الزاهدين وهو المقام السادس من مقامات اليقين قد سمّى الله تعالى أهل الزهد علماء بقوله تعالى إذ وصف قارون فخرج على قومه في زينته إلى قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذينَ أُوتفوا الْعِلْمَ وَيْلكُمْ ثَوَابُ الله خَيرٌ لِمَنْ آمَنَ) القصص: 80 قيل: هم الزاهدون في الدنيا، وقال عزّ وجلّ: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمُ مَرَّتَيْنِ بِمَا صََبَرَوا) القصص: 54، جاء في التفسير صبروا على الزهد في (الدنيا وقال جلّ وعلا: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم) الرعد: 23 - 24 قيل على الفقر، ويشهد للصبرعن الدنيا في هاتين الآيتين قوله عزّ وجلّ في وصف العلماء الزاهدين لما قال: (وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعِلْم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لمنْ آمنَ) القصص: 80، قال عقيب ذلك في بقية ثنائه عليهم: (وَلا يُلَقَّاهَا إلا الصَابِرونَ) القصص: 80 أي عن زينة الدنيا، ثم قال في مدحهم بوصف آخر: (يُؤتونَ أجْرَهُمْ مَرَّتيْنِ بِمَا صَبَرُوا) القصص: 54 فقد حصل للزاهدأجران بصبره على الفقر وبوجود زهده، وللفقير المعدم أجر واحد على الغني لوجود فقره وعدم زهده وعلى ذلك تأويل الخبرين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في أحدهما: يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا، وقال في الخبر الآخر يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأن الفقير الزاهد يدخل الجنة قبل الغني المصلح بخمسمائة عام، وهؤلاء خصوص الفقراء، وإن الفقير غير الزاهد يدخل الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفًا لأجل فقره فقط؛ وهم عموم الفقراء، فصار الأغنياء مفضولين في الحالين معًا، وإن جملة الفقراء يدخلون الجنة قبلهم لمكان غناهم في الدنيا، وإن عموم الأغنياء من أهل الدنيا وأبنائها موقوفون للحساب ومطالبون بالإنفاق والاكتساب بالخبر الثالث: اطلعت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الجنة فإذا أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فإذا أكثر أهلها الأغنياء وفي معناه الخبر الآخر فقلت: أين الأغنياء؟ فقال: حبسهم الجد أي الحظ، وقد سمّى الله تعالى الفقراء الزاهدين محسنين ووضع عنهم السبيل فقال تعالى: (وَلا عَلى الَّذين لا يجدُونَ مَا يُنْفِقونَ حرَجٌ) التوبة: 91، ثم قال: (مَا عَلَى المُحْسِنينَ منْ سَبيل) التوبة: 91 ثم نصّ عى ذكر من عليه الحجة والمطالبة فقال جلّ وعلا: (إنَّمَا السَبيلُ عَلَى الَّذينَ يَسْتَأْذِنونك وَهُمْ أغْنيَاءُ رَضُوا بأن يَكُونوا مَعَ الْخَوَالِفِ) التوبة: 93 يعني النساء. وعلى هذا المعنى جاء تأويل قوله تعالى: (إنَّا جَعَلنا ما عَلَى الأرْضِ زينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أيُّهُمْ أَحْسَن عَمََلاً) الكهف: 7 قيل: أزهد في الدنيا فصار الإحسان مقام الزاهدين؛ وهو وصف اليقين، كذلك فسرّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل ماالإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، يعني على اليقين وهو المشاهدة ولعمري أن الزهد حال الموقن لأن مقتضى يقينه، وقد يحتجّ متوهّم بفضل الأغنياء على الفقراء عنده لقوله تعالى مخبرًا عن الفقراء: (تَوَلّوْا وَأَعْيُنُهمْ تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَنًا ألا يَجدُوا ما يُنْفِقُون) التوبة: 92، يعلم أن هذا عند أهل التدّبر للقرآن مزيدًا للفقراء لتمام حالهم لما كانوا محسنين كما قال سبحانه وتعالى: (وَسَنَزيدُ المُحْسِنينَ) البقرة: 58 فكان مزيدهم الحزن والإشفاق وخوف التقصير لمشاهدة عظم حقّ الربوبية عليهم حتى كأنهم مسيئون حتى بشرهم الله تعالى بأنهم محسنون لما قال عزّ وجلّ: (مَا عَلَى المُحْسِنينَ مِنْ سَبيلٍ) التوبة: 91 لأنه ضمّهم إليهم في الوصف وعطفهم عليهم في المعنى، وأيضًا فلم يكن بكاؤهم على فوت الدنيا ولا على طلب الغنى، والله تعالى يمدحهم بصبرهم عن الدنيا ويذم الدنيا إليهم بل حزنهم على طلب المزيد من الفقر ليجدوا الإنفاق فيخرجوه فيفتقروا منه فيزدادون فقرًا ببذله إلى فقرهم فعلى كثرة الإنفاق وحقيقة الفقر من الدنيا كان حزنهم فهذا فضل ثانٍ للفقراء لا على الجمع والادخار والموضع الأعلى الذي فضل الفقراء من هذه الآية عن أهل الاستنباط والتفكّر وهو مشاركتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاله، ووصف الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل حالهم في قوله تعالى: (قُلَت لا أجدُ مَا أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) التوبة: 92 ثم نعتهم بمثله لأنهم هم الأمثل، فالأمثل به فقال تعالى: (ألا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) التوبة: 92 فمن كان برسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمثل فهو أفضل، كيف وقد روينا عن النبي: تحفة المؤمن في الدنيا الفقر فجعل الفقر تحية له من ذي التحيات المباركات مع الخبر المشهور: الفقر على المؤمن أزين من العذار على خد الفرس الجواد، والفقر اختيار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشعار الأنبياء وطريقة علية الصحابة والأصفياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وروينا في الخبر: آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لأجل غناه في الدنيا وفي الخبر الآخر رأيته يدخل الجنة زحفًا ولا نعلم في الأمة أفضل من طائفتين؛ المهاجرون وأهل الصفة وجميعًا مدح الله تعالى بالفقر، فقال (للفقراء المهاجرين الذين أحصروا في سبيل الله) البقرة: 372 (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) الحشر: 8 فقدم وصفهم بالفقر على أعمالهم الهجرة والحصر، والله تعالى لا يمدح من يحبّ إلا بما يحبّ ولا يصفه حتى يحبه. وروينا في قوله تعالى: (وَجَعَلْناهُمْ أَئمَةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا) الأنبياء: 73 لما صبروا قيل: عن الدنيا، وفي خبر: العلماء أمناء الرسل مالم يدخلوا في الدنيا فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم، وجاء في الأثر لا يزال لا إله إلا اللّّه ترفع عن العباد سخط الله تعالى ما لم ينالوا ما نقص من دنياهم، وفي خبر آخر ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم، فإذا فعلوا ذلك وقالوا: لا إله إلا الله قال الله عزّ وجلّ: كذبتم لستم بها صادقين. وقد روينا في خبر عن أهل البيت: إذا أحبّ الله تعالى عبدًا ابتلاه، فإذا أحبه الحبّ البالغ اقتناه، قيل: وما اقتناؤه؟ قال لم يترك له أهلاً ولا مالاً، وفي أخبار أهل الكتب: أوحى الله تعالى إلى بعض أوليائه: احذر إذا مقتك فتسقط من عيني فأصبّ عليك الدنيا صبًّا ويقال: ليس عمل من أعمال البر يجمع الطاعات كلها إلا الزهد في الدنيا، وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم: تابعنا الأعمال كلّها فلم نر أبلغ في أمر الآخرة من زهد في الدنيا وقال بعض الصحابة لصدر التابعين: أنتم أكثر أعمالاً واجتهادًا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم كانوا خيرًا منكم، قيل ولم ذلك؟ قال كانوا أزهد منكم في الدنيا، وفي وصية لقمان لابنه: واعلم أن أعون الأشياء على الدين زهادة في الدنيا، ويقال: من زهدفي الدنيا أربعين يومًا أجرى الله تعالى ينابيع الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه، وفي خبر آخر: إذا رأيتم العبد قد أعطى صمتًا وزهدًا في الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة، وقد قال الله تعالى: (مَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فقد أُوتِيَ خَيْرًا كَثيرًا) البقرة: 269 وروينا في الآثار جمل هذه الأخبار: من أصبح وهمه الدنيا شتّت الله تعالى عليه أمره وفرق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم ينل من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله همه وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، وقال الله تعالى في معنى ذلك: (مَنْ كَاَن يُريدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 كَانَ يُريدُ حرْثَ الدُّنيا نُؤتِه مِنها وَمَا لَهُ في الآخرِةِ منْ نَصيبٍ) الشورى: 20 وقد روينا في خبر قلنا: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: مجموم القلب صدوق اللسان قلنا: يا رسول اللّّه وما مجموم القلب؟ قال التقيّ النقيّ الذي لا غلّ فيه ولا غشّ ولاحسد ولا بغي قيل: يا رسول الله فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحبّ الآخرة والشيء يعرف بضده كما يعرف بمثله وضد الشنئان المحبة وضد الزهد الرغبة، وفي دليل خطابه: إن شرّ الناس الذي يحبه الدنيا وإن الراغب فيها هو المحبّ لها، والإقتناء لها والاستكثار منها علامة الرغبة فيها، كيف وقد جاء أيضًا: إن أردت أن يحبك الله تعالى فازهد في الدنيا فجعل الزهد سبب محبة الله تعالى فصار الزاهد حبيب الله تعالى فينبغي أن يكون الزهد من أفضل الأحوال إذ المحبة أعلى المقامات، وفي دليل الكلام: إن من رغب في الدنيا فقد تعرض لبغض الله تعالى الذي لاشيء أعظم منه وأن المحبّ للدنيا بغيض الله تعالى، وكان أبو محمد رحمه الله تعالى يقول: اجعلوا أعمال البّركلّها في موازين الزهّاد ويكون ثواب زهدهم زيادة لهم، وقال أيضًا: العباد في موازين العلماء والعلماء في موازين الزهاد يوم القيامة فلا يطمعنّ طامع في محبة الله تعالى وهو محبّ للدنيا لأن الله تعالى يمقتها، وفي خبر: ما نظر إليها منذ خلقها، يقول لها: اسكتي يا لاشيء أنت وأهلك إلى النار، وفي الخبر: يقول الله تعالى: يوم القيمة للدنيا ميّزوا ما كان منها لي وألقوا سائرها في النار، وكذلك روينا في الأثر: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه، وفي لفظ آخر: فمثل الدنيا مثل إبليس خلقه الله تعالى للعبد واللعنة ليبتليه ويبتلي به، ويهلكه ويهلك به، وقد شهد ذلك بعض المكاشفين فقال: رأيت الدنيا في صورة جيفة ورأيت إبليس في صورة كلب وهوجاثم عليها، ومنادٍ ينادي من فوق: أنت كلب من كلابي، وهذه جيفة من خلقي وقد جعلتها نصيبك مني، فمن نازعك شيئاً منها فقد سلطتك عليه فجاء من هذا أنها مكانه فمن تمكّن في شيء منها تسلّط العدو بالمكانة منه بقدر ما أصاب منها وقد كوشف بها بعض الأولياء في صورة امرأة ورأى أكفّ الخلق ممدودة إليها هي تجعل في أيديهم شيئًا، قال: فقلت له ما هو قال قال شيء يلتذ وطائفة تمرّ عليها مكتوفي الأيد تعطيهم شيئاً وكوشف بها مورق العجلي في صورة عجوز شمطاء دندانية مسمجة عليها ألوان المصبغات وأنواع الزينة قال: فقلت أعوذ باللّّه منك فقالت: إن أردت أن يعيذك الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 تعالى مني فابغض الدرهم، وكذلك جاء في الخبر: الدنيا موقوفة منذ خلقها الله تعالى بين السماء والأرض لا ينظر إليها فتقول يوم القيامة: ياربّ اجعلني لأدنى أوليائك نصيبًا اليوم فيقول: اسكتي يا لا شيء أنا لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم وقال بعض السلف الدنيا دنيئة وأدنى منها قلب من يحبّها. وروي عن عليّ كرّم الله وجهه: الدنيا جيفة، فمن أرادها فليصبر على مزاحمة الكلاب، وفي أخبار موسى عليه السلام: إن لم تلق الفقير بمثل ما تلقى به الغني فاجعل كل علم علمتك تحت التراب وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحبًا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته، وقال إمامنا أبومحمد رحمه الله تعالى وروينا عن بعض علمائنا في أخبار داود عليه السلام: إني خلقت محمدًا لأجلي وخلقت آدم لأجل محمد وخلقت ما خلقت لأجل ولد آدم، فمن اشتغل منهم بما خلقته لأجله حجبته عني ومن اشتغل منهم بي سقت إليه ما خلقته لأجله، وكان يقول: الصديقون في بداياتهم طلبوا الدنيا من الله تعالى فمنعهم فلما تمكّنوا من أحوالهم عرضها عليهم فامتنعوا منها، وكان عيسى عليه السلام يقول للدنيا: إليك عني ياخنزيرة، وقد روينا هذا القول عن يزيد بن ميسرة، وكان من علماء الشام قال: كان أشياخنا يسمّون الدنيا خنزيرة ولو وجدوا لها اسّماً شرَّا من هذا سموها به قال: وكانت إذا أقبلت على أحدهم الدنيا قال لها: إليك عنّا يا خنزيرة، لا حاجة لنا بك إنّا قد عرفنا إلهنا عزّ وجلّ معناه قد عرفناه بلا ابتلاء بك لينظر كيف نعمل في الزهد فيك والأثرة له سبحانه وتعالى، وعرفناه أيًضا بالمقت لك فوافقناه في ذلك وعرفناه أيضًا فتألهت قلوبنا إليه أعرضنا عمّا سواه، وكذلك كان الحسن رحمه الله تعالى يصف أشياخه كان أحدهم يعرض عليه المال الحلال فيقال: خذه فاستغن به فيقول لا حاجة لي فيه أخاف أن يفسد على قلبي فهذا كان له قلب صالح راعاه فخاف تغيّره كذلك. روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه مرّ بجدي ميت أجرب فقال: أترون هذا هان على أهله قلنا: يا رسول الله من هو؟ إنه ألقوه فقال للدنيا أهون على الله تعالى من هذا على أهله، وفي لفظ آخر: أنه قال: أيكم يحبّ أن هذا له بدرهم قلنا: لا أينا وأي شيء يساوي هذا؟ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدنيا أهون على الله تعالى من هذا عليكم، وكذلك أخبر بالغاية في قلتها وعدم قيمتها بقوله: ولو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء، وضرب المثل في نتنها وانقلابها على أهلها بقوله للأعرابي: أرأيت ما تأكلون وتشربون ألستم تتغوطون وتبولون؟ قال: بلى، قال: فإلى أي شيء يصير؟ قال: إلى ما علمت يا رسول الله قال أليس يقعد أحدكم خلف بيته فيجعل يده على أنفه من نتن ريحه، قال: نعم قال: فإن الله تعالى جعل الدنيا مثلاً لما يخرج من ابن آدم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وكذلك روينا في تأويل قوله تعالى: (وَفي أَنْفُسِكُمُ أَفَلا تُبْصِرُونَ) الذاريات: 21 قيل: مواضع الغائط والبول، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا في الآخِرَة إلا مَتَاعٌ) الرعد: 26 قال بعض أهل اللغة: متاع أي جيفة، سمعت عن الأصمعي، قال بعض العرب يقول متع اللحم إذا تغير وأنتن، وقد كان الحسن رحمه الله تعالى يقول لما هبط آدم عليه السلام إلى الدنيا كان أوّل شيء عمل فيها أنه أحدث. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه نظر إلىما خرج منه فآذاه ريحه فاغتمّ لذلك فقال له جبريل: هذه رائحة خطيئتك فشهد العقلاء عن الله تعالى الدنيا في صورة كنيف فلم يدخلوا فيها إلا ضرورة فكلما استغنيت عن دخولك الكنيف كان أفضل وشهدها بعضهم جيفة فلم ينالوا منها إلا بلغة فكلما تقللت من الجيفة كان خيرًا، وقال وهب بن منبه: قرأت في بعض الكتب: يا بابن آدم إن تردني أترك الدنيا وإن ترد الدنيا طال عناك، وفي بعض كتب الله تعالى: يا ابن آدم أنا بدك اللازم فلا تؤثر على ما منه بد، وقال بعض المخبرين عن الله سبحانه وتعالى: إنه أوحى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني واتعبي من خدمك، وقال آخر: وقد روينا مسندًا أن الله تعالى أوحى إلى الدنيا: تمرري لأوليائي حتى تكون رغبتهم فيما عندي واحلولي لأعدائي حتى يكرهوا لقائي، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: من أحب ّ لقاء الله تعالى أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله تعالى كره الله لقاءه؛ فهذه الآثار كلها، قاصمة لظهر زبناء الدنيا، مسخنة لعين محّبيها ووأضدادها من الأخبار الحسنى في فضل الزهد وشرف الفقر، رافعة لرؤوس الفقراء الصادقين، وقرّة عين الصالحين لله عزّ وجلّ الزاهدين؛ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرهة أعين جزاء بما كانوا يعملون، وأصل الرغبة في الدنيا من ضعف اليقين لأن العبد لو قوي يقينه نظر بنوره إلى الآجل فغاب في نظره العاجل فزهد فيما غاب وأحبّ الحاضر فآثر ما هو أعود عليه وأبقى وأنفع له ولمولاه، أرضى وقدم ما يفنى وينقطع إلى ما يدوم ويتصل؛ وهذا هو صورة الزهد وشهادة الموقن وإن الحاضرلا يحبّ ما غاب وانتقل: ألم تر إلى وصفه عزّ وجلّ لإبراهيم وليكون من الموقنين قال: لا أحبّ الآفلين، والموقن مأمور باتباع ملّة إبراهيم بقوله تعالى: (مِلَّةَ أَبيكُمْ إبْراهيمَ) الحج: 78 أي عليكم ملّة أبيكم إبراهيم واتبعوا ملّته وليس يشهد الوعد والوعيد الآجل بنور العقل إنما يشهد بنور اليقين على أنّا نقول: إن الأنوار أربعة والقلب موجه جهات أربعة إلى الملك والملكوت وإلى العزّ والجبروت؛ فبنور العقل يشهد الملك، وبنورالإيمان يشهد الملكوت وهو الآخرة، وبنور اليقين يشهد العزة وهي الصفات، وبنور المعرفة يشهد الجبروت وهو الوحدانية، والجبار تعالى فوق القلب محيط به يكاشفه بما شاء فيغلب عليه وجد ما أشهده، وضعف اليقين قد يدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 في كلّ شيء، وقوة اليقين تحتاج إليه في كلّ عمل وإلا فهو دنيا يهتدي إلىه بنور العقل، فمن لم يعط نور اليقين لم يرَ الملك الكبير فاستهواه الملك الصغير فأحبّ لا شيء فلم تكن همّته في العلوّ ولا عنده الأعلى شيئًا. ذكر ماهية الزهد أيّ شيء هو ليس يمكن عبد أن يعرف الزهد حتى يعرف الدنيا أيّ شيء هي، فقد قال الناس في الزهد أشياء كثيرة ونحن غير محتاجين إلى ذكر أقوالهم بما بيّن الله تعالى وأغنى بكتابه الذي جعل فيه الشفاء والغنى، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو الحبل المتين والصراط المستقيم من طلب الهدى في غيره أضلّه الله وقال سبحانه تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فيهِ مِنْ شيء فحُكْمُهُ إلى الله) الشورى: 10 وقال عزّ وعلاّ: (فَهَدى الله الّذينَ آمَنُوا لِمَا اختَلَفُوا فيهِ مِنَ الْحَقِّ بإذْنِه) البقرة: 213 فقد ذكر الله جلّ اسمه في كتابه: إن الدنيا سبعة أشياء وهو قوله تعالى: (زُيَِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهَوَاتِ مِنَ النِّساء والْبَنينَ والْقنَاطير المُقَنطرةِ من الذَّهبِ والْفَضَّةِ وَالْخيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ وَالْحرْثِ) آل عمران: 14 ثم قال تعالى في آخرها: (ذلِك مَتَاعُ الْحَياةِ الدُّنيا) آل عمران: 14 ووصف حبّ الشهوات بالتزيّن ثم نسق الأوصاف السبعة على الحبّ لها ثم أشار لها، بقوله تعالى ذلك فذا إشارة إلى الكاف والكاف كناية عن المذكورالمتقدّم المنسوق واللام بين ذا والكاف للتمكين والتوكيد فحصل من تدبر الخطاب أن هذه السبعة جملة الدنيا وأن هذه الدنيا هذه الأوصاف السبعة، وما تفرع من الشهوات ردّ إلى أصل من هذه الجمل، فمن أحبّ جميعها فقد أحبّ جملة الدنيا نهاية الحبّ ومن أحبّ أصلاً منها أو فرعًا من أصل فقد أحبّ بعض الدنيا فعلمنا بنص الكلام أن الشهوة دنيا وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا لأنه تقع ضرورات فإذا لم تكن الحاجة دنيا دلّ أنه لا تسمّى شهوة، وإن كانت قد تشتهى لأن الشهوة دنيا، ولتفرقة الأسماء لإيقاع الأحكام عليها، واستند ذلك إلى خبر رويناه عن الله سبحانه وتعالى في الإسرائيليات: إن إبراهيم صلوات الله عليه أصابته حاجة فذهب إلى صديق يستقرض منه شيئاً فلم يقرضه فرجع مغمومًاً فأوحى الله تعالى إلىّه: لو سألت خليلك لأعطاك فقال: يا ربّ عرفت مقتك للدنيا فخشيت أن أسألك منها فتمقتني فأوحى الله تعالى إلىه: ليس الحاجة من الدنيا ثم سمعناه تعالى وجلّ قد ردّ هذه السبعة الأوصاف في مكان آخر إلى خمسة معانٍ فقال جلّ من قائل: (اعملوا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر) فهذه الخمسة هي وصف من أحبّ تلك السبعة، ثم اختصر الخمسة في معنيين منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 هما جامعان للسبعة فقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، ثم ردّ الإثنين إلى وصف واحد وعبّر عنه بمعنيين فصارت الدنيا ترجع إلى شيئين جامعين مختصرين يصلح أن يكون كلّ واحد منهما هو الدنيا، فالوصف الواحد الذي ردّ الاثنين إليه اللذان هما اللعب واللهو هو الهوى اندرجت السبعة فيه. فقال عزّ وجلّ: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات: 40 - 14 فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى بدليل قوله تعالى: (فَأمَّا مَنْ طَغى) (وَآثَرَ الْحيَاةَ الدُّنْيَا) (فإن الْجَحيمَ هِيَ الْمَأْوى) النازعات: 37 - 38 - 39، فلما كانت الجنة ضد الجحيم كان الهوى هو الدنيا لأن النهي عنه صدّ الإيثار له، فمن نهى نفسه عن الهوى فإنه لم يؤثر الدنيا وإذا لم يؤثر الدنيا فهذا هو الزهد، كانت له الجنة التي هي ضد الجحيم التي هي لم ينه نفسه عن الهوى بإيثاره الدنيا فصارت الدنيا هي طاعة الهوى وإيثاره في كل شيء فينبغي أن يكون الزهد مخالفة الهوى من كلّ شيء، وأما المعنى الآخر الذي عبّر به عن هذا الوصف الذي هو الهوى فجعله دنيا أيضًا فهو حبّ البقاء لمتعة النفس، استنبطنا ذلك من قوله تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا لمَ كَتبْتَ عَلَيْنَا القِْتَال لَولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجِلٍ قَريبٍ) النساء: 77، فالقتال هو فراق الحياة الدنيا لأنه المشي بالسيف إلى السيف والفناء بين السيفين فقالوا: هلا أبقيتنا إلى وقت آخر وهو أجلنا بالموت لا بالقتل وهذا هو حبّ البقاء ففسر حبِ البقاء بأنه هو الدنيا، فقال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَليلٌ والآخرَةُ خَيْرٌ لِمَن اتَّقى) النساء: 77 فانكشف الناس وافتضح المنافقون وابتلى المؤمنون عند فرض القتال وظهر المحبون الذي يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص وعندها ربح الذين هم لأنفسهم وأموالهم بائعون وخسر الذين هم للحياة الدنيا بالآخرة مشترون لما قال الله تعالى: (إنّ الله اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أنُْفسهم وَأمْوَالَهُمْ بأنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) التوبة: 111 فلما اشتراها باعوها وقال في المشترين الخاسرين: (اشترُوا الْحَياة الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) البقرة: 86 يعني رغبوا في البقاء الأدنى لما اشتروه ببيع البقاء الآخرة إذ باعوه، فمن اشترى ثلاثين سنة وأربعين سنة بألف ألف وبأبد الأبد فما ربحت تجارته ولا هدى سبيله؛ فهذه تجارة من رغب في حياة دنياه فاشتراها ببقاء الأبد فقد صار بائعًا للحياة العالية بما استبدل به من اشتراء ضدها فهذا تدبر قوله تعالى: (اشترَوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) البقرة: 86 أي باعوا الحياة العليا وذلك الأوّل تجارة من باع حياة نفسه وفرّق مجموع ماله فاشتراه الله تعالى منه وعوضه داره وأسكنه عنده جواره فقد ربحت تجارته واهتدى سبيله؛ لما باع حياة عشرين سنة وثلاثين سنة بحياة أبدالأبد؛ فهذا ربح تجار الآخرة الزاهدين في الدنيا وذلك خسر تجارالدنيا الراغبين في الهوى، فشتان بين التجارتين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فما أعظم حسرة الفوت على من خسر ما ربحه الزاهدون بعد الموت، وقد كان الناس مستورين بإظهار الزهد في البقاء ومظنونًا بهم حبِّ الباقي الأعلى حتى نزلت: (ألَمْ تَرَ إلى الَّذينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْديَكُمْ وَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَريقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أوْ أشَدَّ خَشْيَةً) النساء: 77 الآية، وحتى نزل: (يا أيُّهَا الَّذينَ آمنوا لِمَ تَقُولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ) الصف: 2، كانوا قالوا: إنّا نحبّ ربنا ولو علمنا في أيّ شيء محبّته لفعلناه، فلذلك قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (إنَّ الله يُحِبُّ الَّذين يُقَاتِلُونَ في سَبيلِهِ صَفّا) الصف: 3 - 4 ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كنت أحسب أن فينا أحدًا يريد الدنيا حتى نزلت (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) آل عمران: 251، وكذلك قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حين نزلت (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) النساء: 66 قال ابن مسعود قال لي رسول الله عليه السلام: قيل لي: أنت منهم؛ أي من القليل الذي كان يفعل ذلك، فإذا كان حبّ البقاء هو الدنيا فينبغي أن يكون حبّ بقاء الباقي هو الزهد فصار الزهد في الدنيا هو الزهد في البقاء، فمن زهد في الحياة الفانية وفي ماله المجموع بالجهاد للنفس والإنفاق في سبيل الله فقد زهد في الدنيا، ومن زهد في الدنيا أحبّه الله تعالى كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ولذلك صار الجهاد أفضل الأعمال لأنه حقيقة الزهد في الدنيا ولأن الله تعالى يحبّ من زهد في الدنيا ثم كان مخالفة الهوى أفضل الجهاد لأنه هو حقيقة الرغبة في الدنيا، وقد عبّر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الزهد في الدنيا إذ قال في الحديث الأول: ازهد في الدنيا يحبّك الله تعالى، ثم قال في الخبر الثاني بمعناه: اجتنب المحارم يحبك الله تعالى، واجتنابهم زهد في الدنيا، فالزاهد في الدنيا حبيب ربه تعالى، والراغب في حبّ البقاء لنفسه منافق في دين ربّه تعالى، ومنه الخبر الذي جاء: من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق، وبه كشف الله تعالى الكاذبين ووصفهم بمرض القلوب. فقال سبحانه وتعالى: (فَرذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فيهَا الْقِيَالُ رَأيْتَ الَّذينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ) يعني نفاقًا (ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت، فأولى لهم) محمد: 20 تهدد ووعيد أي ولهم العذاب وقرب منهم ثم قال: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْروفٌ فَإذا عَزَمَ الأمْر) محمد: 21 وحقّت الحقائق كذبوا ونكثوا، فلو صدقوا الله أي في الوفاء لكان خيًرا لهم، وهذا من الكلام المضمر، فلذلك أشكل والبقاء والحياة اسمان لمعنى، ولذلك جعل الله تعالى الدنيا وصفًا للحياة فتكون الدنيا هي الحياة ونعتها بالدنيا نعت مؤنث لدخول الهاء في الإسم الي هي إحدى علامات التأنيث، فصارت الحياة هي الدنيا وصار قوله الدنيا نعتها بالدناءة، ولو كان الإسم مذكرًا مثل البقاء نعته بمذكر فقال: الأدنى، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 قال في مثله: (يَأخُذُونَ عَرَض هذا الأدْنى) الأعراف: 169 فالأدنى تذكير الدنيا، والدنيا تأنيث أدنى كالأعين والأقنى والأشعث؛ تذكير عيناء وقنواء وشعثاء، والعرض اسم لما يعرض ويقل بقاؤه فمن أحبّ ذلك فقد أحبّ الدنيا بحبه الأدنى، وهذا يرجع إلى حبّ حياة الأصل لأنه إنما يريد العرض الأدنى لأجل الحياة فصار حبّ البقاء الذي لأجله يريد عرض الأدنى هو الدنيا وصار حبّ العرض لأجل البقاء من الدنيا فجاء من هذا الذي ذكرناه أن حقيقة الدنيا حبّ البقاء لطاعة الهوى وموافقة الهوى في حبّ العرض لأجل البقاء، فدخل أحد هذين في الآخر لأن حبّ البقاء لأجل المتعة، هو من الهوى الذي هو صفة النفس الأمّارة بالسوء وطاعة الهوى الذي هو عيش النفس إنما يكون لحبّ البقاء، لأن العبد لو أيقن بالموت ساعته لآثر الحقّ على الهوى ولو أيس من البقاء لما رغب في العرض الأدنى، فصار حبّ البقاء من الهوى وصار إيثار الهوى إنما هو لحبّ البقاء، فكان ذلك حقيقة الدنيا، وكان أقصر الناس أملا للبقاء أزهدهم في الدنيا حتى لا يدّخر شيئاً لغد لأنه عنده غير باق إلى غد وصار أرغب الناس في الدنيا أطولهم أملاً لأن رغبته اشتدت فيها وحرصه كثر عليها الإمتداد أمله للحياة فيها إذ ولو قصر أمله لغد لاختار الفقر حينئذ واختيار الفقر هو الزهد. بيان آخر الزهد أي شيء هو؟ قال الله سبحانه وتعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخسٍ دَرَاِهمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فيهِ مِنَ الزَّاهِدينَ) يوسف: 20 فهذه تسمية لهم بالزهد لتحقّقهم بالمعنى نحتاج أن نكشفه ليكون من يتحقق بمعنى ذلك زاهدًا قوله تعالى: وشروه باعوه، العرب تقول: شريت بمعنى بعت لأنهم يقولون: ابتعت بمعنى اشتريت، فلما باعوه وخرج من أيديهم صاروا زاهدين، كذلك العبد إذا باع نفسه وماله من الله تعالى وخرج من هواه إلى سبيل مولاه فهو من الزاهدين، وكذلك قال المولى عزّ وعلا: (إنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤمِنِنَ أنْفُسَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ بِأنَّ لَهمُ الْجَنَّة) التوبة: 111 كما قال عزّ من قائل: (وَنَهى النَّفْس عَنِ الْهَوَى) (فإنَّ الْجَنَة هِيَ المأوَى) النازعات: 40 - 41 فإذا كان العوض واحدًا وهو الجنة ذكر في المعنيين كان بيع النفس والمال وإخراجهما لله تعالى بمعنى النهي عن الهوى فيهما الذي هوالحياة الدنيا وهو اقتناؤه النفس وحبس النفس عليه أعني المال، فاستبدال ذلك بضدّه من إخراج الهوى من النفس وإدخال الفقر على المال هو الزهد في الدنيا، وليس ذلك من أمر النفس الأمّارة بالسوء لأن هذا نهاية الخير فصار نهيًا لها من الهوى الذي هو اقتناء المال للجمع والمنع، وهذا هو الدنيا بوصف النفس الأمّارة بالسوء لأن هذا حينئذ سوء كلّه، فمن كان بهذا الوصف فنفسه غير مرحومة لأمرها بالسوء، وإذا لم تكن مرحومة لم يكن صاحبها بائعها وإذا لم يبعها لم تكن مشتراة فلا يكون صاحب هذه النفس إلا جامعًا للمال ما نعاً له راغباً في الدنيا محبَّاً لها وليس هذا من صفة المؤمن والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وصف آخر من البيان والتفصيل لما حقق الله تعالى الزهد بغنى النفس وإخراج المال في ذكر المبيع والمشترى في قوله تعالى: (يُقَاتِلُونَ في سَبيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ) التوبة: 111 وكان الزهد هو ترك طاعة الهوى وبيع النفس بنهيها عنه من المولى، وكان العوض من ذلك الجنة، كان الزاهد هو الخائف مقام ربه البائع نفسه طوعًا قبل أن يخرج نفسه إليه كرهًا، وكان الله تبارك وتعالى هو المحبوب له القريب منه فصار العبد محبّاً له، فجعله من المقرّبين عنده تعالى، وإذا كانت الدنيا هي طاعة الهوى وحبّ الحياة الدنيّة لمتعة النفس الشهوانية كان الراغب في ذلك آمنًا لمكر الله تعالى مشتريًا للحياة الدنيا بائعاً بذلك الحياة العليا فلم يكن محبَّاً له، وكان من المبعدين عنه بسوء اختياره وحقّ عليه الخسران والجحيم في الآخرة لأنه ضد الزاهد المقرّب الظافر بدار القرب في جوارالحبيب القريب. ذكر بيان حقيقة الزهد وتفصيل أحكامه ووصف الزاهد اعلم أن الزهد يكون بمعنيين؛ إن كان الشيء موجودًا فالزهد فيه إخراجه وخروج القلب منه ولا يصحّ الزهد فيه مع تبقيته للنفس لأن ذلك دليل الرغبة فيه؛ وهذا زهد الأغنياء، وإن لم يكن موجودًا وكان العدم هوالحال فالزهد هو الغبطة به والرضا بالفقد؛ وهذا هو زهد الفقراء، وكذلك القول في الزهد في ترك الهوى لا يصحّ إلا بعد الابتلاء به والقدرة عليه، ألم ترَ أن إخوة يوسف عليهم السلام هموا بالزهد فيه بقولهم: ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا لم يسمّهم الله تعالى زاهدين وتكلّموا بالزهد فيه بقولهم: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخلُ لكم وجه أبيكم ولم يسموا زاهدين، وأرادوا الزهد فيه بقولهم: أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب، ولم يتحققوا بالزهد فيه وعزموا على الزهد فيه وأجمعوا عليه ولم يسمّهم الله تعالى زاهدين مع قوله تعالى مخبرًا عنهم: (فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأجْمَعُوا أنْ يَجْعَلُوهُ في غَيَابَتِ الْجُبِّ) يوسف: 15 لأن هذا كلّه من أسباب الزهد ومقدّماته قد يلتبس ويشكل على من لا يعرف حقيقة الزهد فيظنه زهدًا وليس هو زهدًا لأنه في أيديهم فلما خرج من أيديهم واعتاضوا منه سواه حقّ زهدهم فيه فقال تعالى مخبرًا عن حقيقتهم وشروه أي باعوه: (وَكَانُوا فيهِ مِنَ الزَّاهِدينَ) يوسف: 20 وكذلك الثوب تهمّ ببيعه وتريد بيعه ويغلب عليك بيعه ولا تكون زاهدًا ولكن تكون موصوفًا بالإرادة للزهد حتى تبيعه وتعتاض منه فحينئذ حقّ زهدك فيه، ففي تدبر الخطاب من قوله: وكانوا فيه من الزاهدين أن من أخرج الشيء من يده طوعًا ونفسه تتبعه فله مقام في الزهد بالمجاهدة، ومن أمسك الشيء وأظهرت نفسه الزهد فيه بالإرادة والهمّة فلا مقام له في الزهد لأن الإمساك علامة الرغبة، والرغبة ضدّ الزهد فكيف يوصف بالشيء وضدّه في حال قائمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فالممسك للشيء المتوّهم للزهد فيه بإظهار نفسه ذلك بأحد وصفين؛ إما أن لا يعرفه الزهد أو لا يعرف خفي شهوة النفس؛ هذا إن لم يموّه على الراغبين والمخرج لقلبه عنه هو المتحقق بالزهد فيه، وهذا هوالذي وصف الله تعالى به إخوة يوسف، والممسك للشيء المغتبط به الذي همّه فيه وقلبه عاكف عليه هو المتحقق بالرغبة فيه؛ وهذا وصف عزيز مصرفي يوسف لما اشتراه فحققه الله تبارك وتعالى بالرغبة فيه لا قتنائه له فقال مخبرًا عنه بعدما اشتراه: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا، وكذلك وصف امرأة فرعون في رغبتها في موسى عليه السلام بقولها قرّة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا، فكذلك كل من أمل شيئًا ادخره لنفسه لا يكون زاهداً فيه حتى يخرجه عن يده وقلبه إذ لم يكن ذلك وصف إخوة يوسف الزاهدين فيه إلا بعد أن أخرجوه استصغاراً له وتعوّضوا منه. بيان آخرمستنبط من الكتاب اعلم أن زهد إخوة يوسف عليهم السلام في أخيهم قد كان يقارب زهدهم في يوسف عليه السلام لأنه كان نظيره عند أبيه وقد كانوا همّوا بالزهد فيه أيضًا ليخلو لهم وجه أبيهم منهما، ألم تسمع إلى قولهم: ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا، وكذلك جاء في الخبر: إنهم أرادوا أن يلقوا أخاه معه في الجب حتى ألقى نفسه عليه يهوذا فشِفع فيه فرحمه ومنعهم منه وكان شديداً منهم منيعاً مهيباً فيهم، وقد قيل إنه استوهبه منهم وقال: دعوه يكون فيه سلوة للشيخ الكبير لا تفجعوه بهما ولا تفقدوه إياهما معاً فوهبوه له ثم إنّ الله تعالى لم يقل مع إرادتهم لذلك وهمّهم به وكانوا فيهما من الزاهدين من قبل أنهم لم يتحققوا بالزهد فيه كالزهد في أخيه لأنه كان في أيديهم لم يخرجوه فكذلك أنت إذا كان الشيء موجوداً عندك وأنت ممسكه لنفسك ثم توهمت أنك زاهد فيه لخواطر الإرادة أو لإرادة الزهد فقد كذبت علي نفسك بتمسكك إياها زاهدًا وكذبتك نفسك بوجودها جهلاً منها بالعلم زهدًا أو كذب وجدك على العلم جهلاً منك بربك عزّ وجلّ أو موّهت على نفس غيرك ممن لا يعرف الزهد؛ وهذا زهد منك في الزهد ورغبة منك أيضًا في الدنيا حتى يخرج الشيء الذي تظنّ أنك زهدت فيه وتعتاض منه محبة الله تعالى وطلب مرضاته تبارك وتعالى أو ما عنده من ثوابه، فحينئذ يصحّ زهدك فيه على العلم، وعند العلماء فتكون صادقًا، فهناك وصفك الزاهد بالزهد وسمّاك الزاهدون زاهدًا، فأما إذا لم يكن الشيء موجودًا لك فإن زهدك فيما لا تملك لا يصحّ والزهد في معدوم باطل من قبل أن تصرفك لا يصحّ فيما لا تملك، فكذلك لايصحّ زهدك فيه، ولعلّه لو كان موجودًا تغير قلبك به وتقلّب فيه إذ ليس الخبر كالمعاينة لأن الخبر قد يشتبه ويوهم والمعاينة تكشف الحقيقة وتحكم على الخلقة ولأن النفس ذات بدوات لما طبعت عليه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 حب المتعة بالرفاهية فكذلك لا يجعل ظنَّاً معدومًا كيقين موجود إذ لو كان كيف كان الأمر ولكن قد يكون لك مقام من الزهد في المعدوم بقيامك بشرطه وهو أن لا تحب وجود الشيء ولا تأسى على فقده أو تكون مغتبطًا بعدمك مسروًرا بفقرك يعلم الله تعالى ذلك من غيبك ويطلع على سرّك أنك لا تفرح بوجوده لو وجدته وتخرجه إن دخل عليك وإن قلبك قانع بالله سبحانه وتعالى راضٍ عن الله تعالى بحالك التي هي العدم من الدنيا غير محبّ للاستبدال بها من الغنى بصدق يقينك بفضيلة الزهد، فإذا كنت بهذا الوصف حسب لك جميع ذلك زهداً وكان لك بأحد هذه المعاني ثواب الزاهدين وإن لم تكن للدنيا واجدًا وهذا زهد الفقراء الصادقين وهو التحقق بالفقر. وقد قال بعضهم: حقيقة الفقير أن يكون مغبتطاً بفقره خائفًا أن يسلب الفقر كما يكون الغني مغتبطًا بغناه يخاف الفقر، وقد كان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا قيل له إنك زاهد قال: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز جاءته الدنيا وملكها فزهد فيها، فأما أنا ففي أي شيء زهدت؟ وقد يصحّ الزهد للعارف في الشيء مع وجحّه عنده إذا لم يقتنيه لمتعة نفسه ولم يتملكه ويسكن إلىه بل كان موقوفًا في خزانة الله سبحانه وتعالى، التي هي يده منتظرًا حكم الله تعالى فيه ومحنة ذلك استواء وجوده وعدمه والمسارعة إذا رأى حكم الله تعالى إلى تنفيذه فيكون في ذلك كأنه لغيره من عيلته أو إخوانه أوسبيل من سبيل الله تعالى، وهذا المقام زائد على الزهد فكذلك لم يخرج منه بل كان مخصوصًا فيه بخصوص وهو أيضًا مقام من التوكل وبيان آخر مستنبط من السنّة في ماهية الزهد أي شيء هو الزهد أيضًا تقليل الدنيا وتقريبها واحتقارها بالقلب واستصغارها، من ذلك الخبر الذي جاء في ساعة يوم الجمعة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: هي في آخر ساعة قال: وجعل يزهدها يقللها أي يقرب وقتها ويدينه من الغروب، والمعنى الآخر في الخبر الثاني من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعليّ رضي الله عنه لما نزلت آية الأمر بالصدقة لمناجاة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: كم ترى أن نجعل عليهم من الصدقة مقدمة للمناجاة فقال شعيرة من ذهب قال إنك لزهيد أي مقلّل مصغر للدنيا ولكن نجعل عليهم دينارًا وزهيدكأنه معدول من زاهد للمبالغة في الوصف بالزهد كما عدل شهيد من شاهد ومجيد من ماجد وكما عدل عليم وقدير ورحيم من عالم وقادر وراحم للمبالغة في العلم والقدرة والرحمة. ذكر وصف الزاهد وفضل الزهد قوت الزهد الذي لابدّ منه وبه تظهر صفة الزاهد وينفصل به عن الراغب هو أن لا يفرح بعاجل موجود من حظّ النفس ولا يحزن على مفقود من ذلك وأن يأخذ الحاجة من كلّ شيء عند الحاجة إلى الشيء ولا يتناول عند الحاجة إلا سدّ الفاقة ولا يطلب الشيء قبل الحاجة، وأوّل الزهد دخول غمّ الآخرة في القلب ثم وجود حلاوة المعاملة لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 تعالى ولا يدخل غمّ الآخرة حتى يخرج همّ الدنيا ولا تدخل حلاوة المعاملة حتى تخرج حلاوة الهوى، وكلّ من تاب من ذنب ولم يجد حلاوة الطاعة لم يؤمن عليه الرجوع فيه وكلّ من ترك الدنيا ولم يذق حلاوة الزهد رجع في الدنيا ولا يدخل حلاوة المعاملة حتى يخرج حلاوة الهوى وخالص الزهد إخراج الموجود من القلب، ثم إخراج ما خرج من القلب عن اليد وهو عدم الموجود على الاستصغار له والاحتقار والتقالل لهوان الدنيا عنده وصغرها في عينه فبهذا يتم الزهد، ثم ينسى زهده في زهده فيكون حينئذ زاهداً في زهده لرغبته في مزهده، وبهذا يكمل الزهد؛ وهذا لبّه وحقيقته؛ وهو أعزّ الأحوال في مقامات اليقين، وهوالزهد في النفس لا الزهد لأجل النفس ولا للرغبة في الزهد للزهد؛ وهذه مشاهدة الصديقين، وزهد المقربين عند وجد عين اليقين، ودون هذا مقامات إخراج المرغوب فيه عن اليد مع نظره إليه وعلى مجاهدة النفس فيه؛ وهو زهد المؤمنين، وذلك العمل بالزهد عقد وعمل إذ كان الزهد عن الإيمان، والإيمان قول وعمل، وكذلك الزهد عقد وعمل، فعقده خروج حبّ الدنيا من القلب بدخول حبّ الآخرة في القلب، والعمل بالزهد إخراج المحبوب من اليد في سبيل الله تعالى معتاضًا منه ما عنده سبحانه وتعالى من وجهه الكريم جلّ وتعالى أو قرب جواره في داره وإن لم تكن الدنيا موجودة فإن ترك الأسف عليها وقلة الحرص فيها، وترك الطلب والتمنّي لها، وسكون القلب مع العدم ورضاه بيسير القسم بحسب للعبد زهدًا لأن ذلك حال الفقير، فإذا قام بحكمه لم يجب عليه أكثر من القيام به، والورع هو من الزهد كما الزهد من الإيمان والحياء والإيمان في قرن واحد، كما جاء في الخبر إذا نزع أحدهما تبعه الآخر. وروينا في ذلك حديثًا من طرق أهل البيت: الزهد والورع يجولان في القلب كل ليلة، فإن صادفًا قلبًا فيه الإيمان والحياء أقاما فيه وإلا ارتحلا، والقناعة باب من الزهد أيضا، والرضا باليسير من الأشياء حال من الزهد والتقلّل في الأشياء مفتاح الزهد، وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: قد حجبت قلوبنا بثلاثة أعطية فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب الفرح بالموجود والحزن على المفقود والسرور بالمدح، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل، وقال الله تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتاكُمْ) الحديد: 23 أي منها وهذان الوصفان هما أتمّ حال في الزهد من أعطي أحدهما تبعه الآخرة لأن الذي لايأسى على ما فاته من الدنيا، هو الذي لا يفرح بما أتاه منها لأنه مثله والذي لا يفرح بما أتاه منها هو الذي لا يحزن على ما فاته، وهذا وصف عبد غير متملك لملك وسيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 عبد قائم بحكم ربّ ونعت عبد موقن محبّ قد شغلته مشاهدة الآخرة عن التفرّغ لمتعة الدنيا وقد فرغته معاينة الآخرة من الاشتغال بما يغني، وفي أحد الوجوه من قوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنَى) النجم: 48 قيل: أغنى أهل الآخرة بالله سبحانه وتعالى وأغناهم عن الدنيا بالآخرة وأقنى أهل الدنيا من الدنيا أيّ جعل لهم قنية ومدّخراً وعدة كما وصف من ذمه من قوله تعالى: (جَمَعَ مَالاً وَعَدّدَهُ) الهمزة: 2 أي قال هذا عدّة لكذا وهذه عدّة لكذا فهدّده بالويل فحصل من ذلك أن الزاهد في المال عدّته الله تعالى في كل الأحوال وكنزه وذخره وطوبى له وحسن مآب. وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال: كفى باليقين غنى وكفى بالعبادة شغلاً وكفى بالموت واعظاً؛ وهذا جملة وصف الزاهد الموقن، الذي هو للموت مرتقب مع الخبر المشهور، ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس، وقد جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزهد في الدنيا علمًا لحقيقة الإيمان وقربه بمشاهدة الإيقان في قوله عليه الصلاة والسلام لحارثة: عرفت فالزم عبد نوّر الله قلبه لما قال أنا مؤمن حقًّا قال: وما حقيقة إيمانك، فابتدأ بالزهد فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حجرها وذهبها وكأني بالجنة والنار وكأني بعرش ربيّ بارزًا، وأشدّ من هذا الخبر الآخر الذي جعل النبي الزهد من علامة شرح الصدر بالنور، وهو نور التصديق الذي هو عموم وصف المؤمنين لأنه هو في التحقيق الإسلام، ففسّر قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ الله أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلام) الأنعام: 521 قيل: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال: إن النو إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفتح، قيل يا رسول الله هل لذلك من علامة؟ قال: نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله؛ فهذا هو الزهد جعله شرطًا لحقيقة الإسلام. وأشد من هذين الخبرين الخبر الثالث الذي فسرّ الحياء من الله تعالى بالزهد في الدنيا فقال: استحيوا من الله تعالى حقّ الحياء قلنا: إنّا لنستحي قال: تبنون ما لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون، وبمعنى هذا تمّم إيمان الوفد الذي سألهم ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون، قال: وما علامة إيمانكم؟ فذكروا الصبر على البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمواقع القضاء وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء فقال عليه الصلاة والسلام: إن كنتم كذلك فلا تجمعوا ما لا تأكلون ولا تبنوا ما لا تسكنون ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون؛ فهذا هو الزهدجعله تكملة إيمانهم وعلوّ مقامهم وتمامًا على إحسانهم وأعظم من هذه كلّها الخبر الرابع الذي جعل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزهد من شرط إخلاص التوحيد في حديث رويناه عن ابن المنكدر عن جابر قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من جاء بلا إله إلا الله لا يخلط معها غيرها وجبت له الجنة، فقام إليه عليّ كرّم الله وجهه فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما لا يخلط بها غيرها صفه لنا فسّر هـ لنا فقال: حبّ الدنيا وطلبًا لها واتباعاً لها وقوم يقولون قول الأنبياء، ويعملون أعمال الجبابرة، فمن جاء بلا إله إلا الله ليس شيء فيها من هذا وجبت له الجنة، فلذلك كان علي رضي الله عنه يجعل الزهد مقاماً في الصبر، ويجعل الصبر عمدة الإيمان في حديثين رويناهما عنه؛ أوّلهما قوله في الحديث الطويل الذي رواه عكرمة وعتبة بن حميد والحرث الأعور وقبيصة بن جابر الأسدي في مباني الإيمان أنه قال: الإيمان على أربع دعائم، على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، ثم قال فيه: والصبر منها على أربع شعب؛ على الشوق، والشفق، والزهادة، والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرّمات ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ترقّب الموت سارع في الخيرات. والخبر الآخر في الصبر الذي جعله عمود الإيمان ينهدم الإيمان بهدمه هو قوله: والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، لا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا صبر له، وروينا في خبر مقطوع: السخاء من اليقين ولا يدخل النار موقن، والبخل من الشك ولا يدخل الجنة من شك، فكان هذا الحديث مفسّرًا للخبر المجمل السخيّ، قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من النار، فسرّ في ذلك الخبر بأيّ معنى يكون السخيّ قريباً من الله تعالى، قريباً من الجنة لأن السخاء من اليقين وبأيّ معنى يكون البخيل بعيدًا من الله تعالى، قريبًا من النار لأن البخل من الشك، فالسخاء وصف الزاهد ولا يكون الزاهد إلا سخيّاً، والبخل وصف الراغب، ولا يكون الحريص إلا بخيلاً ولايكون البخيل زاهدًا لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 الزهد يدعو إلى إخراج الشيء، والبخل يدعو إلى إمساكه، فنفس السخاء زهد، فلذلك ذمّ البخل لأنه رغبة في الدنيا، ثم إن الحرص علامة البخل لأنه دليل الرغبة، والقناعة علامة السخاء لأنها باب الزهد، فلذلك قيل: سخاء النفس عمّا في أيدي النفس أفضل من سخاء البذل، ثم يفترقان في الحكم بعد اجتماعهما في الإسم، فمن جاد بملكه لله تعالى كان زاهداً فيه لله تعالى ووقع أجره على الله، ومن جاد بما له لأجل الناس كان أيضاً زاهدًا في ذلك موصوفاً بالسخاء، ولكن ذلك لنفسه ولأجل هواه ولا أجر له عند الله تعالى إذ لم يكن من عمّال الله تعالى فبطل أجره لأنه عمل لنفسه وحصل شكره وذكره في الدنيا لأنه عمل لأجل الناس. كما قال ابن المبارك رحمه الله: ما رأيت بين الفتوة والقراءة فرقاً إلا في شيء واحد ماحظرت القراءة شيئاً إلا قبحته الفتوة وإنما يفترقان في أن القراءة يراد بها وجه الله تعالى، والفتوة يراد بها وجوه الناس ومدحهم وقد كان أستاذه سفيان الثوري رحمه الله يقول: من لم يحسن يتفتى لم يحسن يقترّى أيّ من لم يعرف أحكام التفتي فيقوم بها حتى يستحق وصف فتى لم يحكم أوصاف التقري حتى يوصف بأنه قارئ، ثم إن العبد قد يجاهد نفسه على الزهد كما يجاهدها على مخالفة الهوى وكما يجاهدها بالصبر على الحقّ بأن يهرج المرغوب وينفق المحبوب على كراهة من النفس وجمل بالزهدعليها فيكون له مقام في الزهد ينال البرّ ويستوجب مدحًا من البرّ، والمتزهد غير الزاهد، وهو الذي يتصنْع للزهد ويعمل في أسبابه من التقلّل ورثاثة الحال في كل شيء، فمثله مثل المتصّبرين من الصابر الذي يجهل على نفسه بالصبر ويصابرها على العلم، فيكون له مقام من الصبر، وصفوة الزهد انتظارالموت وقصر الأمل لأن فيهما ترك الادخار وتحسين الأعمال. وقال ابن عيينة: حدّ الزهد أن يكون شاكراً عند الرخاء صابراً عند البلاء. وقال بشر بن الحارث رحمه الله: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، من زهد فيهم فقد زهد في الدنيا، وكذلك قال بعض الحكماء: إذا طلب الزاهد الناس فاهرب منه، وإذا هرب من الناس فاطلبه، وقيل ليحيى بن معاذ رحمه الله: متى يكون الرجل زاهدًا؟ فقال: إذا بلغ حرصه في ترك الدنيا حرص الطالب لها كان زاهدًا، وقال قاسم الجوعي: الزهد في الدنيا هو الزهد في الجوف بقدر ما تملك من بطنك، كذلك تملك من الزهد فكانت الدنيا عنده الشبع وأكل الشهوات، وقال فضيل بن عياض رحمه الله: الزهد هو القناعة فكانت الدنيا عنده هو الحرص والشره، وقال الثوري: الزهد هو قصر الأمل فكانت الدنيا عنده طول الأمل، وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: الدنيا كلّ ما يشغلك عن الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 فكان الزهد عنده التفرغ لله تعالى، وقد قال: إنما الزاهد من تخلى عن الدنيا واشتغل بالعبادة والاجتهاد، فأما من تركها وتبطل فإنما طلب الراحة لنفسه، وكان داود الطائي رحمه الله تعالى يقول: كلّ ما شغلك عن الله تعالى من أهل أو مال فهوعليك شؤم. وقال أبو سليمان: من تزوّج أو كتب الحديث أو طلب معاشًا فقد ركن إلى الدنيا وقرأ قوله تعالى: (إلامَنْ أَتى الله بَقَلْبٍ سليمٍ) الشعراء: 89 قال: هو القلب الذي ليس فيه غير اللّّه تعالى، وقال: إنما زهدوا في الدنيا لتفرّغ قلوبهم من همومها للآخرة، وقد قال أويس القرني رحمه الله تعالى: إذا خرج يطلب ذهب الزهد وكان إمامنا وشيخ شيخنا أبومحمد سهل بن عبد الله رحمه الله يقول: أوّل الزهد التوكّل وأوسطه إظهار القدرة وقال: لا يزهدالعبد زهدًا حقيقيًا لا رجعة بعده إلابعد مشاهدة قدرة، فإن أوّل القدرة عندي أن يشهد ما سمع من كلام القادر المزهد إذ يقول تبارك وتعالى: (ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) الرعد: 71، فالحلية الذهب والفضة؛ وهما قيم الأشياء اللذان ملكا النفوس ونكسا الرؤوس فالمتاع ما سواهما من معادن الأرض، فإذا شهد العبد الذهب الذي هو سبب الدنيا ولأجله أشرك من أشرك وبحبائله ارتبك من ارتبك ولوقوع حلاوته في القلب وقع من وقع، فإذا شهد جوهر الذهب والفضة زبداً طافيًا على وجه الماء لا نفع فيه ولا غنية به ولا قيمة له زهد فيه حينئذ زهدا صادقًا فكان زهده معاينة لا خبرًا وكان من المؤمنين حقًّا الذين وصفهم الحقّ بالحقّ في قوله تعالى: (اِذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوُبُهُمْ وَإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًاَ) الأنفال: 2 فالزهد مزيد الإيمان ثم قال: وعلى ربّهم يتوكّلون، فالزهد يدخل في التوكّل ثم قال: فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون، فالتوكل يوقف على الصبر، وكان هذا قد سمع من كلام الله تعالى ففعله فأبلغه الله تعالى مأمنه في المقام الأمين في جنات وعيون، واستحق وصف الله تعالى بالإيمان إذا تلا القرآن بحقيقة الإيقان فقال عزّ وجلّ: (الّذينَ آتَيْنَاهمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تلاوَته أولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) البقرة: 121 وذلك أن هذا الزبد تشبيه من الله تعالى لمثل ضربه للحّق والباطل، فالمثل هو الماء والزبد فمثل الحقّ في نفعه وبقائه بالماء، ومثل الباطل في ذهابه وقلة نفعه بالزبد، ثم شبّه الذهب لذهابه عن الحقيقة بالزبد تشبيه مماثلة لا تشبيه مجاز لقوله: زبد مثله، والمماثلة مستقصاة، ثم قال: كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى أي الجنة والبقاء. وقال تعالى: (لِلَّذين لايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السّوْء) النحل: 06 هم المريدون للحياة الدنيا وزينتها، الراضون المطمئنون بها، ليس لهم في الآخرة إلا النار، فسبحان من نفد بصره الأبصار وسبحان مقلب الليل والنهار، وسبحان من كلّ شيء عنده بمقدار، يبصر ما لا نبصر، كما يقدر على ما لا نقدر، خصّ المشاهدين بمعنى مشاهدته كما خصّهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 بالإحاطة بشيء من علمه فأحاط عليهم بما شاء، لما أحاط لهم ما شاء فكان الذهب والفضة زبداً طافياً تفرّقه الرياح فيكون فوق الماء متجافياً؛ وهما من معادن الجبال فكانت الجبال عندهم أمواجاً ثابتة بإثبات وساكنة بتسكين تحسبها جامدة، وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي أتقن كلّ شيء وصارت الأرض بحراً عجاجاً يضرب بالأمواج فيظهر بينهما من المدن والقفار للاستواء والاعوجاج وصار الأنام يسبحون في الأسراب يدبون بين المناكب والأحداب، أظهر فيهما من كل شيء موزون بمقدار، كتنفس النهار في اللّيل وكالغشاء على السيل، ذلك لظهور حكمته وخفيّ قدرته ولطيف صنعه ودقيق صنعته ذلك لشهود نعمته من القيام بشكره وجعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وهم من كلّ حدب ينسلون، إن ربّي لطيف لما يشاء فاجتمع الفرق وارتتق الفتق وغاب كل متفرّق ونطق وكان عرشه على الماء ليبلوكم، فهذه مشاهدة أبناء الآخرة هي أعلى من زهدهم في الدنيا، وافترق الجمع وافتتق الرتق وظهر من الماء كلّ شيء حيّ ظاهر واتسع الفضاء واستتر الغطاء ووجد التفصيل وحكم الحسبان بالتحصيل، كانتا رتقًا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حيّ، أفلايؤمنون هذه مشاهدة أبناء الدنيا هي أعظم عليهم إذا تيقظوا من غيبهم وجاءت سكرة الموت بالحقّ، ذلك ماكنت منه تحيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك عطاءك فبصرك اليوم حديد، والنازعات غرقًا والناشطات نشطًا والسابحات سبحاً؛ هذه مشاهدة العموم عند الموت فيعظمه عليهم بالحسرة والفوت، وقد فرغ الخصوص من نصيبهم لمشاهدته فهم ناظرون إلى مستقبل المزيد مشغولون به عن العبيد قائمون بشاهد الحق لهم متصرفون بإشهاده إياهم ظاهرًا وباطنًا ولطيفاً ومستتراً ومعروفًا ومنكراً واللّّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون فما غلب عليه لا يظهر وما غلبه عليهم إيامهم قهر، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصدق كلمة قالها الشاعر: ألا كل شيء ماخلا الله باطل وقال: فالحقّ والحقّ أقول: خلق سبع سموات ومن الأرض مثهنّ يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله علي كلّ شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكلّ شيء علماً، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لو فسّرت لكم هذه لآية لكفرتم قيل: وكيف؟ قال: كنتم تنكرونها وإنكاركم له كفر بها، وفي لفظ آخر: لو فسّرت الآية التي في سورة النساء القصري لرجمتموني بالحجارة معناه لكفرتموني لأنهم لا يقتلون إلا كافرًا عندهم، وروينا عنه قي قوله تعالى جميعاً منه قال: في كل شيء اسم حرف من أسمائه، فاسم كل شيء من اسمه فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله ناطقاً بقدرته وظاهراً بحكمته وبمعناه، كان أبو محمد رحمه الله تعالى يتأوّل قوله: ما نزل من السماء أعزّ من اليقين فغابت السبع سبعاً في السبع العلي والسبع السفلي لما طوى نفس الهوى وغابت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 العليا والسفلى في ملكوت العرش والثرى لما طوي طيّ النفس وغاب العرض والثرى في جبروت الأعلى لما محي طيّ الطي وحضر الأزلي الأول إذا غاب الحدثان الثاني وظهرالباطن الآخير حين بطن الظاهر الساتر فصار العبد شهيداً لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا كل شيء ماخلا الله باطل، وأراه الآيات في الأفاق فتبين الحقّ بقول الحقّ سبحانه وتعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنفسِهمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحَقُّ أَوََلمْ ىَكْفِ بِرَبِّك أنَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ شَهيدٌ) فصلت: 53، (ألا إنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاء رَبِّهِمْ ألا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءِ مُحيطٌ) فصلت: 54 وكذلك قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي قال: اللهم أرني الدنيا كما تراها فقال: لا تقل هكذا فإن الله تعالى لايرى الدنيا كما تراها ولكن قل أرني الدنيا كما يراها الصالح من عبادك؛ وهذه شهادة أهل الله تعالى، وغابت فيه الشهادة الأولى كما غيبت تلك الأولى مشاهدة أهل الدنيا فكشف هذا المقام وإظهار هذه الشهادة لا تحلّ إلا لشهيد ذي مقام في الصديقين عتيد، وقال الحكيم: لقد عزّت معانيه فغابت عن الأبصار: إلا الشهيد وهم أولو المطلع في القرآن الذين سلموا من هول المطلع في العيان، وإفشاء سرّ الربوبية معصية وإعلان سر السر كفر ولكن يحتاج هذا الزاهد أن يشهد المزهود بمنزلة الزبد إن لم يبلغ نظره شهادة المزهد الأحد ليكون من أهل السمع والشهادة فينسى بذكر قلبه معارفه والعادة يكون عند الله شهيدًا له أجره ونوره كما قال الشاهد الأعلى والشهداء عند ربّهم لهم أجرهم ونورهم فكيف يكون شهيداً من لم يشهد بشهادته بل كيف يشهد وصف الأولية بغير نورها أم كيف يقوم بشهادته من لم يشهد قيوميته بل كيف يرى قيوميته بغير نور وحدانيته؟ فإن لم يقرب في هذا المكان فكما قال أو ألقى السمع وهو شهيد فيسمع من مكان هو إلى جنب القرب بعيد ويكون من أهل البيان والفكر كقول الحقّ المبين: (كذلك يبّين لكم الآيات لعلكم تتفكّرون في الدنيا والآخرة) البقرة 219 - 220 أيّ تتفكّرون في فناء الدنيا وزوالها وبقاء الآخرة ودوامها فتؤثرون الباقي الدائم وترغبون فيه على الزائل الفاني وتزهدون فيه لأن ما يكون آخره فناء يشبه آخره أوّل أمره وأوّله لم يكن ومايكون آخره بفاء فكأنه لم يزل فأشبه أوّله آخره في البقاء، وكذلك قال العليم الحكيم: (والآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقى) الأعلى: 17 فوصفها لبقائها في المآل بوصفين من صفاته. كما قال تعالى: (وَالله خَيْرٌ وَأبْقى) طه: 73، ولأنه قال تعالى: (مَا عِنْدَكمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ) النحل: 96 فنسب الدنيا إلينا ليذلنا بها لأنّا أهل الغناء وليزهدنا فيها، وأضاف الآخرة إليه ليعزها به لأنه أهل البقاء وليرغبنا فيها، فإذا شهد العبد بعين قلبه ويقين إيمانه ما صدّق به مما عقله الذي هو فهم سمعه وإدراك خبره ما يفنى آخره كأنه لم يكن وما يبقى آخره كأنه لم يزل كان من المتفكّرين في هذه الآية المشاهدين لها، وممن تلاها حقّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 تلاوتها فآمن حقيقة الإيمان وزهد في الدنيا حقيقة الزهد ورغب في الآخرة حق الرغبة وكان من أولي الأيدي والأبصار أي من ذويّ القوى في الدين والبصائر في اليقين، فلما أبصر بقواه عبر الدنيا إلى اللّّه تعالى وكان زاده تقواه، كما قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات: 49 أي تذكرون الفرد ففرّوا إلى الله أي من الأشكال والأضداد، وكما قال: فاعتبروا يا أولي الأبصار فعبر لما أبصر معه عندها كان ممن أخذ الكتاب بقوّة قيل: بعمل فيه وقيل: بيقين فيه ويقال: بجدّ واجتهاد، فكان من المحسنين الذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة وتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الذين يذكرون الله قياماً وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السموات والأرض) آل عمران: 191 الآية، وقال: ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها ويل لمن تلاها ومسبّح بها سبلنه وذلك أن السموات والأرض عبّر بهما عما وراءهما من درجات الجنات ودركات النيران، وهو الملكوت إلى الملك الباطن والملك الكبير فكشف هذان عمّا علا وسفل وأحاط بهما من العرش والثرى لمن تفكّر فيهما ثم كشف ذلك له ورآه من العزة وجاوز الأفكار الملكوت لما شرحت القلوب بأنوار اليقين إلى الأفق الأعلى والجبروت فنفذت أبصار المتفكرين بقواها إلى مشاهدة ذلك وبقيت أنوار يقنيهم معاينة ما أحاط بذلك وهو ما قدمنا ذكره آنفاً مما لم يظهر كشفه كنحوما نبّه الله تعالى العباد بما يشهدون إلى ما وراءه ممّا به أيقنوا وللمؤمنين مشاهدة للدنيا قريبة دون هذه من طريق العقول يشهدون أنها عقوبة كما قيل: ما فتحت الدنيا على عبد إلا مكرًا به ولا زويت عنه إلا نظرًا له. وسمعنا في أخبار داود عليه السلام: أن الله تعالى أوحى إليه: تدري لم ابتليت آدم بأكل الشجرة لأني جعلت معصيته سبباً لعمارة الدنيا فينبغي في دليل لخطاب أن تكون الطاعة سبب خرابها وهو الزهد فيها، فصحّ بذلك الخبر المشهور: حبّ الدنيا رأس كلّ خطئة لأنه كان أساسها ولكن لايسع ذلك العامة لأنهم مرادون بالعمارة وصلح لنفرمن الخاصة لأن نقصان عددهم من الكافة لا ينقص عمارة الدنيا إذ المراد عمارتها بأهلها، ويقال عن آدم عليه السلام: لما أكل الشجرة تحرّكت معدته لخروج الثفل ولم يكن ذلك مجعولاً في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة، فلذلك نهيا عن أكلها قال: فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكاً يخاطبه فقال له: أيّ شيء تريد؟ فقال آدم عليه السلام: أريد أن أضع ما في بطني من أذى فقيل للملك: قل له في أيّ مكان تضعه علي الفرش أم على السرر أم على الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا موضعاً يصلح لذلك ولكن اهبط إلى الدنيا، قال: وتلطف الله تعالى له بهذا المعنى فأهبطه إلى الأرض وقد نغص اللّّه تعالى فاكهة الدنيا وغيرها بحشو العجم والثفل ليزهد فيها وأخبر أنها مقطوعة ممنوعة ليرغب في الدائم الموهوب. وكان بعض العلماء يقول: ما سطع لي زينة من زخرف الدنيا إلا كشف لي باطنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 فظهر لي عزوف عنه فهذه عناية من الله تعالى بمن وليه من أوليائه المقرّبين منه، فمن شهد الدنيا بأوّل وصفها لم يغتّر بآخره، ومن عرفها بباطن حقيقتها لم يعجب بظاهرها، ومن كوشف بعاقتبها لم يستهوه زخرفها، وكان عيسى عليه السلام يقول: ويلكم علماء السوء مثلكم مثل قناة حش ظاهرها جص وباطنها نتن، وقال مالك بن دينار رحمه الله: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا، فمن حرص على الدنيا بالباطل فقد قتل نفسه، فإن قوى حرصه عليها واشتد عشقه لها قتل غيره، قال الله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبَاطِل وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) النساء: 29 وقال في قتل غيره بصده إياه عن سبيل الله: (إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله) التوبة: 43 وروينا في أخبار عيسى عليه السلام: إنه مرّ في سياحته ومعه طائفة من الحواريين بذهب مصبوب في الأرض فوقف عليه ثم قال: هذا القاتول فاحذروه، ثم عبروا أصحابه فتخلف ثلاثة لأجل الذهب فأقام اثنان ودفعا إلى واحد شيئاً منه يشتري لهم من الطيّبات من أقرب الأمصار إليهم فوسوس إليهما العدوّ: ترضيان أن يكون هذا المال بينكم أثلاثاً اقتلوا هذا فيكون المال بينكم نصفين، فأجمعا على قتله إذارجع إليهما، قال: وجاء الشيطان إلى الثالث فوسوس إليه أرضيت لنفسك أن تأخذ ثلث المال اقتلهما فيكون المال كلّه لك قال: فاشترى سمّاً فجعله في الطعام فلما جاءهما به وثبا عليه فقتلاه ثم قعدا يأكلان الطعام فلما فرغا ماتا، فرجع عيسى عليه السلام من سياحته فنظر إليهم حول الذهب صرعى والذهب بحاله فعجب أصحابه وقالوا: ما شأن هؤلاء فأخبرهم بهذه القصة، وقيل لابن المبارك: من الناس؟ قال: العلماء؟ قيل: فمن الملوك؟ قال: الزاهدون، وروينا عن ابن المسيب عن أبي ذر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من زهد في الدنيا أدخل الله تبارك وتعالى الحكمة قلبه وأنطق بها لسلانه وبصره داء الدنيا ودواِءها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام. وروينا في الخبر: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: رأيت سبعين بدريًا كانوا والله فيما أحلّ تعالى لهم أزهد منكم فيماحرّم اللّّه تعالى عليكم، وفي حديث آخر: كانوا بالبلاء والشدة تصيبهم أشد فرحاً منكم بالخصب والرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم قالوا: ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم قالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب قال: وكان أحدهم يعرض له المال الحلال فلا يأخذه ويقول: أخاف أن يفسد على قلبي، فمن كان له قلب حفظه من فساده وخاف من تغيرّه وإبعاده وعمل في صلاحه وإرشاده، ومن لم يكن له قلب فهو يتقلّب في ظلمات الهوى فربما انقلب على وجهه خسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الدنيا والآخرة، أو يكون من أهل الرضا بالدنيا وأهل الغفلة عن آيات الله تعالى فيكون قد رضي بلاشيء وآثره على من ليس كمثله شيء كوصف من أخبر الله تعالى عنه قي قوله تعالى: (ورَضُوا بالحَياة الدُّنْيَا وَاطمَأَنُّوا بِها وَالْذينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنا غَافِلُونَ) يونس: 7 فيستحق الإعراض من الحبيب ويستوجب المقت من القريب كمثل من أمر الله تعالى بالإعراض عنهم وترك القبول منهم إذ يقول عزّ من قائل: (فَأعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلا الْحَيَاة الدُنْيا) (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) النجم: 29 - 30 وقال عزّ وجلّ: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلَبهُ عِنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبِع هَواهُ وَكانَ أْمرُهُ فرُطًا) الكهف: 28 أي مجاوزاً لما نهي عنه مقصرا عمّا أمر به وقيل: مقدماً إلى الهلاك، وقد نهى الله تعالى رسوله أن يوسع نظره إلى أهل الدنيا مقتاً لهم وأخبر أن ما أظهره من زهرة الدنيا فتنة لهم وأعلمه أن القناعة والزهد خير وأبقى، تنتظم هذه المعاني في قوله تعالى: (وَلاتُمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتَنهُمْ فيهِ وَرِزْقُ رَبََّكَ خَيْرٌ وأبْقى) طه: 131، قيل: القناعة وقيل: فوت يوم بيوم ويقال: الزهد في الدنيا وهذا الوجه أشبه بكتاب الله تعالى بدليل قوله تعالى: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقى) الأعلى: 17 وكذلك قوله تعالى: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خىْرٌ وَأبْقى) طه: 131 يعني الزهد في الدنيا، وقال أيضًا في مثله: (بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لكُمُ) هود: 86 يعني القناعة وقيل: الحلال، وفي خبر: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر في أصحابه بعشار من النوق حفل وهي الحوامل وكانت من أحبّ أموالهم إليهم وأنفسه عندهم لأنها تجمع الظهر واللحم واللبن والولد والوبر؛ وهي الرواحل من الإبل التي ضرب النبي عليه السلام بها مثل خيار الناس فقال عليه السلام الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة أي الإبل كثيرة والراحلة التي تجمع هذه الأوصاف الخمسة من الإبل قليل وهي العشار التي ذكر الله تعالى في قوله: (وَإذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) التكوير: 4 أي تركها أهلها وهربوا لهول قيام الساعة شغلاً بنفوسهم عنها قال: فأعرض عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغض بصره فقيل له: يا رسول الله هذه أنفس أموالنا لما تنظر إليها؟ فقال: قد نهاني الله تعالى عن ذلك، ثم تلا هذه الاية: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك) الحجر: 88، وفي حديث عمر رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية: (والَّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ) االتوبة: 43، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تباً للدينار والدرهم قال: فقلنا نهانا الله تعالى عن كنز الذهب والفضة فأي شيء ندخر فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليتخذ أحدكم لسانًا ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة صالحة تعينه على أمر الآخرة وفي حديث حذيفة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله تعالى بثلاث همّاً لا يفارق قلبه أبداً وفقراً لا يستغنى أبداً وحرصاً لا يشبع أبداً. وروينا حديثًا مرسلاً عن علي بن معبد عن علي بن أبي طلحة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف، وحتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 يكون قلة الشيء أحبّ إليه من كثرة الشيء، وروينا عن عيسى عليه السلام: الدنيا قنطرة خلقت يعبر عليها إلى الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، وقال له رجل: احملني معك في ساحتك فقال: أخرج مالك والحقني قال: لا أستطيع فقال عيسى عليه السلام بشدة: يدخل الغني الجنة أو قال بعجب: وقالوا له: لو أمرتنا يا نبي الله أن نبني بيتًا نعبد الله فيه فقال: اذهبوا فابنوا بيتًا على الماء قالوا: كيف يستقيم بنيان على الماء قال: فكيف تستقيم عبادة على حبّ الدنيا وقال: لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى لا يحبّ أن يحمد بعبادة اللّّّه تعالى ولايبالي من أكل الدنيا، وكان بشر بن الحارث يقول: لا تحسن التقوى إلا بزهد وقال مرة: العبادة لا تليق بالأغنياء مثل العبادة على الغني مثل روضة على المزبلة، ومثل العبادة على الفقير مثل عقد الجوهر في جيد الحسناء، وقد استنبطنا ذلك من كتاب الله تعالى فمعنى وصف الفقراء في العبادة في قوله سبحانه وتعالى: (للِْفُقَرَاء الَّذينَ أُحْصِرُوا في سَبيلِ الله) البقرة: 273 ثم قال: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) الفتح: 29 فحسنت لبسة العبادة عليهم لحسن سيماهم بالفقر، وروينا في وصية لقمان لابنه وهو يحذّره مداخل العدو قال: وإذا جاءك من قبل الفقر فأخبره أن الغني من أطاع اللّّه تعالى والفقير من انتهك معصيته وإذا شهى إليك الغني فأخبره أنه لا يحسن جمع الغنى والقراءة، وقال بعض السلف: أبي أهل العلم بالله تعالى أن يسمعوا الحكمة والوعظ إلا من الزاهدين في الدنيا وقالوا: ليس أهل الدنيا لذلك أهلاً ولا يليق بهم. وروينا عن عيسى عليه السلام فيما أوحى الله تعالى إليه: يا ابن آدم ابك أيام الحياة بكاء من ودّع الدنيا وارتفعت رغبته إلى ما عند الله تعالى، اكتف بالبلغة من الدنيا ليكفك منها الجشب والخشن بحقّ أقول لك ما أنت إلا بيومك وساعتك مكتوب عليك ما أخذت الدنيا وفيما أنفقته فاعمل على حسب هذا، فإنك مسوؤل عنه، لو رأيت ما وعدت الصالحين لزهقت نفسك، فكان عيسى عليه السلام يقول: حلاوة الدنيا مرارة الآخرة وجودة الثياب خيلاء القلب يعني إعجابه وكبره وملء البطن جمام النفس يعني قوتها واجتماعها، بحقّ أقول لكم: لكما لا يلذ المريض بطيب الطعام كذلك لا يجد حلاوة العبادة من أحبّ الدنيا، ومن الزهد في الدنيا ترك الملبس الناعم والمنظور إلىه المرتفع واجتناب النزهات من لطائف الطعام والتفتق في الشهوات التي يرغب فيها المتنعمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وترك الزينة والمفاخر من الآلة والأثاث الذي يستأنس فيه المترفون، ومن الزهد أن يكون الشيء الواحد يستعمل في أشياء كثيرة، كذلك كان سيرة السلف في الأثاث وهو التقلّل، كما أن أبناء الدنيا يستعملون للشيء الواحد أشياء كثيرة؛ وهو وصف من التكاثر وذلك من أبواب الدنيا، وقال بعض السلف: أول النسك الزي، وقال بعض العلماء: من رقّ ثوبه رقّ دينه، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يشبه الزيّ الزيّ حتى يشبه القلب القلب. وفي الخبر المشهور: البذاذة من الإيمان قيل: هو التقارب في اللباس، والحديث المفسر من ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعًا لله تعالى خيّره الله تعالى من حلل الإيمان أيها شاء، وفي لفظ آخر: من ترك زينة لله تعالى ووضع ثيابًا حسنة تواضعًا لله تعالى وابتغاء وجهه كان حقًا على اللّّه تعالى أن يدّّخر له من عبقريّ الجنة في تخات الياقوت، ولما أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل قباء أتوه بشربة من لبن مشوبة بعسل، فوضع القدح من يده قال أما أني لست أحرمه ولكني أتركه تواضعاً لله تعالى وأتى عمر رضي اللّّه عنه بشربة من ماء بارد وعسل في يوم صائف فقال: اعزلوا عني حسابها، وأوحى الله تعالى إلى نبّي من أنبيائه: قل لأوليائي: لا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تدخلوا مداخل أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي، ولما خطب بشر بن مروان على منبر الكوفة قال بعض الصحابة: انظروا إلى أميركم يعظ الناس وعليه ثياب لفساق قلت: وما كان عليه، ثياب رقاق، وجاء عامر بن عبد الله بن ربيعة إلى أبي ذر رضي الله عنه في بزتّه فجعل يتكلم في الزهد فوضع أبو ذر راحته على فيه وجعل يضرط به فغضب عامر فأتى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: ألم ترَ ما لقيت من أخيك أبي ذر قال وما ذاك؟ قال: جعلت أقول في الزهد فأخذ يهزأ بي فقال ابن عمر: أنت صنعت بنفسك تأتي أبا ذر في هذه البزة وتتكلم في الزهد. وقال عليّ كرّم الله وجهه: إن الله تعالى أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدي بهم الغنيّ ولا يزري بالفقير فقره، وقد عوتب عمر رضي الله في لباسه وكان يلبس الخشن من القطن قيمة قميصه ثلاثة دراهم وخمسة دراهم ويقطع ما فضل عن أطراف أصابعه وقال هذا أدنى إلى التواضع وأجدر أن يقتدي بي المسلم، وأتت برود من اليمن إلى عمر رضي الله عنه فقسمها على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بردًا بردًا، ثم صعد المنير بوم الجمعة فخطب الناس في حلّة منها والحلّة عند العرب ثوبان من جنس واحد، وكان ذلك من أحسن زيّهم فقال: ألا اسمعوا ألا اسمعوا، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وعظ فقام سلمان فقال: والله لا نسمع والله لا نسمع قال: وما ذاك؟ قال: لأنك قد أعطيتنا ثوبًا ثوبًا ورحت في حلّة فقد تفضّلت علينا بالدنيا، فتبسم ثم قال: عجلت يا أبا عبد الله رحمك الله إني كنت غسلت ثوبي الحلق فاستعرت برد عبد الله بن عمر فلبسته مع بردي: فقال سلمان: قل الآن حتى نسمع ونهى وسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التنعّم وقال: إن عباد الله تعالى ليسوا بالمتنعمين ورؤي فضالة بن عبي وهو والي مصر أشعث حافيًا فقيل له: أنت الأمير وأنت هكذا فقال: نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الأرفاه وأمرنا أن نحتفي أحيانًا. وروينا أن عمر رضي الله عنه خطب الناس فقال: أنشد الله رجلاً علم فيّ عيباً لا أخبرني به، فقام شابّ فقال: فيك عيبان اثنان قال: وما هما رحمك اللّّه؟ قال: تذيل بين البردين وتجمع بين الأدمين قال: فما أذال بين البردين وما جمع بين الأدمين حتى لقي الله تعالى، هكذا حدثنا به قال الشيخ: بإسناده يذيل بالذال فمعناه تجمع بين ذيليهما فيتفق ذيل الأعلى على ذيل الأسفل من طول البرد الأعلى وأنا أحسب أن معناه تديل بالدال أي تبدّل أحدهما بآخر دولة ذا ودولة ذا ويصلح أن يكون بالذال من الإذالة أي الوضع يقال: أشل هذا وأذل هذا مثل قول الناس من إذالة العلم أن يجيب العالم عن كلّ ما يسأل عنه كأنه: أراد تضعهما عندك معًا وهو راجع إلى معنى تديل من الدولة، وقال علي لعمر رضي الله تعالى عنهما: إن أردت أن تلحق بصاحبيك فارقع القميص ونكس الأزرار واخصف النعل وكل دون الشبع، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: اخلولقوا واخشوشنوا وتمعددوا وإياكم وزيّ العجم كسرى وقيصر، وقال علي رضي الله تعالى عنه: من تزيّا بزيّ قوم فهو منهم. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشدّ من هذا أن من شرار أمتي الذي غذوا بالنعيم الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب ويتشدقون في الكلام، ولما قدم عمير بن سعد أمير حمص على عمر رضي الله عنه قال له: ما معك من الدنيا يا عمير؟ قال: معي عصاي أتوكأ عليها وأقتل بها حية إن لقيتها ومعي جرابي أحمل فيه طعامي ومعي قصعتي آكل فيها وأعسل فيها رأسي وثوبي ومعي مطهرتي أحمل فيها شرابي ووضوئي للصلاة يعني السطيحة، فما كان بعد هذا من الدنيا فهو تبع لما معي فقال له عمر صدقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 رحمك اللّّه وكان عمر رضي الله عنه قد كتب إلى أهل حمص أن عدوا لي فقراءكم فسمّوا له في الكتاب نفراً وذكروا فيهم سعيد بن جذيم ويقال: بل عمير بن سعد فقال عمر: من سعيد بن جذيم؟ فقالوا أميرنا يا أمير المؤمنين، قال: أو فقير هو؟ قالوا: نعم ما فينا أفقر منه، قال: فما فعل عطاؤه قالوا: يخرجه كلّه لا يترك لنفسه ولا لأهله شيئاً منه، فوجه إليه عمر رضي الله عنه بأربعمائة دينار وسأله أن ينفقها على نفسه وأهله، فلما وصلت إليه دخل على زوجته وهو يبكي فقالت له ما شأنك؟ مات أمير المؤمنين؟ قال: أعظم من ذلك قالت: فتق فتق في المسلمين؟ قال: أشدّ من ذلك، قالت: فما هو؟ قال: أتتني الدنيا قد كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم تفتح الدنيا عليّ وكنت في أيام أبي بكر رضي الله عنه فلم تفتح الدنيا عليّ وخلفت إلى أيام عمر رضي الله عنه ألا وشّر أيامي أيام عمر، ثم حدثها فقالت: نفسي فداؤك فاصنع بها ما بدا لك فقال: أو تساعديني على ما أريد؟ قال: نعم، قال: أعطيني خلق ذلك البرد قال: فجعل يمزقه ويصرها فيه صررًا ما بين العشرة والخمسة والثلاثة حتى أفناها ثم جعلها في مخلاة وتأبطها وخرج فاعترض جيشًا من المسلمين يريدون الغزو فجعل يدفع إليهم صرّة صرّة على نحو ما يرى من حالهم ثم رجع ولم يترك لأهله منها ديناراً؛ فهذه كانت شمائل جملة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم. وروينا في حديث عياض بن غنم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف الأخيار: إن من خيار أمتي فيما أنبأني الملأ الأعلى قوم يضحكون جهراً من سعة رحمة ربهم ويبكون سرّاً من خوف عذابه مؤنتهم على الناس خفيفة وعلى أنفسهم ثقيلة يلبسون الخلقان ويتبعون الرهبان، أجسامهم في الأرض وأفئدتهم عند العرش، وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه لما وصف الأبدال قال: فقلت له: فكيف لي أن أكون بهذا الوصف وأنّى لي أن أكون مثلهم؟ فقال: يا ابن أخي ما بينك وبين أن تكون في أوّل ذلك وأوسطه إلا أن تزهد في الدنيا فتعاين الآخرة بقلبك فتعمل لها. وروينا في الخبر: أن الله تعالى يحبّ المبتذل الذي لا يبالي ما لبس، وقال الثوري وفضيل رحمهما الله تعالى: جعل الشر كلّه في بيت وجعل مفتاحه الرغبة في الدنيا، وجعل الخيركله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا، وسئل يوسف بن أسباط وسفيان الثوري رحمهما الله تعالى: أي الأعمال أفضل؟ فقالا: الزهد في الدنيا وهذا موجود في ظاهر الخبر المنقول عن عيسى عليه السلام، ورويناه عن نبيّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حبّ الدنيا رأس كل خطيئة ففي تدبرّه أن بعضها رأس كل طاعة، كذلك كان بعض السلف يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 كفى به ذنبًا لا يستغفر منه حبّ الدنيا، وأشدّ من ذلك ما رواه سفيان عن يحيي بن سليم الطائفي رفعه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أن عبدًا عبد الله تعالى عبادة أهل السموات والأرض ولقيه محبًّا للدنيا لأقامه الله تعالى في الموقف مقاماً شهره فيه بين الخلائٍق، ألا أن فلان بن فلان قد أحبّ ما أبغض الله تعالى، وقال يحيى بن جابر الطائي: قال عمرو بن الأسود العنسي: لا ألبس مشهوراً أبداً ولا أنام بليل على دثار أبدًا ولا أركب على مابور أبدًا ولا أملأ جوفي من طعام أبدًا. فقال عمر رضي الله عنه: من سرّه أن ينظر إلى هدى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلينظر إلى عمرو ابن الأسود، وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سفر فدخل على فاطمة رضي الله تعالى عنها فرأى على بابها سترًا وفي يديها قلبين من فضة فرجع، فدخل عليها أبو رافع وهي تبكي، فأخبرته برجوع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله فقال: من أجل الستر والسوارين، فهتكت الستر ونزعت السوارين فأرسلت بهما بلالاً إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: قد تصدّقت به فضعه حيث ترى فقال: اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصفة فباع القلبين بدرهمين ونصف وتصدّق به عليهم فدخل عليها وقال: بأبي أنت قد أحسنت، وفي الخبر ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله تعالى عنه حتى ينزعه وإن كان عنده حبيبًا، وقال سفيان الثوري وغيره: البس من الثياب ما لم يشهرك عند العلماء ولايحقرك عند الجهال وكان يقول: إن الفقير ليمرّ بي وأنا أصلّي فأدعه يجوز ويمرّ، بعض هؤلاء من أبناء الدنيا وعليه هذه البزة فأمقته فلا أدعه يجوز، قال بعضهم: ما رأيت الغنيّ في مجلس قطّ أذلّ منه في مجلس الثوري رحمه الله تعالى ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري، وقال آخر: كنا إذا جلسنا إلي سفيان تمينا أنّا كنا فقراء لما نرى من إقباله عليهم وإعظامه لهم وقال بعضهم: إنما العالم هو الذي يقوم الفقير من عنده غنيِّاً والغنيّ من عنده فقيرًا، وقال بعضهم قومت ثوبي سفيان ونعليه بدرهم وأربعة دوانيق، وقال ابن شبرمة: خير الثياب ما خدمني وشرّها ما خدمته. وقال بعض السلف: أحبّ الثياب إليّ ما لا يستخدمني وأحبّ الطعام إليّ ما لا أغسل يديّ منه، وقال بعض العلماء: البس من الثياب ما يخلطك بالسوقة ولا تلبس منها ما يشهرك فينظر إليك قال: وعددنا في قميص عمر رضي الله عنه أربعة عشر رقعة بعضها من أدم، وكان بعض العلماء يقول: كثرة الثياب على ظهر ابن آدم عقوبة من الله تعالى له وكان الخواص رحمه الله تعالى لا يلبس أكثر من قطعتين؛ إزارين أو قميص ومئزر تحته ويعطف ذيل قميصه على رأسه ويحلّه في وسطه فيغطي به رأسه، وكذلك استحب للفقير وهو حدّ اللباس، وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: الثياب ثلاثة، ثوب لله تعالى، وثوب للنفس، وثوب للناس، فالذي لله تعالى ما ستر العورة وأديت فيه الفريضة، والذي للنفس ما طلبت لينه ونقاءه، والذي للناس ما طلبت جوهره وحسنه، ثم قال: وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 يكون الثوب الواحد للّّه تعالى وللنفس. وقد كان بعض العلماء يكره أن يكون على الرجل من الثياب ما يجاوز قيمة أربعين درهمًا وبعضهم يقول: إلى المائة ويعدّ سرفًا فيما جاوزها، وكان جمهور العلماء وخيار التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين إلى الثلاثين، وكان المتقدّمون من الصحابة أثمان إزارهم اثنا عشر درهمًا، فكانوا يلبسون ثوبين قيمة نيف وعشرين درهماً، واشترى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوباً بأربعة دراهم وكان قيمة ثوبيه عشرة إلى دينار، وكان طول إزاره أربعة أذرع ونصف، واشترى سراويل بثلاثة دراهم وكان يلبس شملتين بيضاوين من صوف وكانت تسمّى حلّة لأنها ثوبان من جنس واحد وربما لبس ثوبين من جنس واحد وربما لبس بردتين يمانيين أو سحوليين من هذه الغلاظ، وفي الخبر: كان قميص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قميص زيات وقد لبس عليه السلام يوماً واحداً ثوب سيراء من سندس قيمته مائتا درهم فكان أصحابه يلمسون ويقولون: أنزل عليك هذا من الجنة تعجّباً منه وكان قد أهداه إليه المقوقس ملك الإسكندرية فأراد أن يكرمه بقبول هديته ويلبسه ثم نزعه، وأرسل به إلى رجل من المشركين وصله به ثم حرم لبس الحرير والديباج، وقد يكون لبسه إياه توكيدًا للتحريم بعده كما لبس خاتمًا من ذهب يوماً واحداً، ثم نزعه فحرم لبسه على الرجال، وكما قال لعائشة رضي الله عنها في شأن بريرة: اشترطي لأهلها الولاء، فلما اشترطته صعد المنبر فحرمه فهذا يكون مؤكدًا للتحريم، وكما أباح المتعة ثلاثًا ثم حرمها لتوكيد أمر النكاح، وقد يحتج بمثل هذا علماء الدنيا ويطرقون به لنفوسهم ويدعون الناس منه إليهم ويظهرون الدعوة إلى الله تعالى تأولاً بمتشابه الحديث كما تأوّل أهل الزيغ متشابه القرآن على أهوائهم ابتغاء الفتنة وطلبًا للدنيا لأن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على معاني كلام اللّّه تعالى فيه: ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وخاصّ وعام، وعدل علماء الدنيا وأهل الأهواء عن المحكم السائر من فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله إلى ما ذكرناه وقد صلّى رسو ل الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خميصة لها علم، فلما سلم قال: شغلني النظر إلى هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم وأتوني بانبجانيته يعني كساءه فاختار لبس الكساء على الثوب الناعم. ورأى على باب عائشة رضي الله عنها ستراً فهتكه وقال: كلما رأيته ذكرت الدنيا: أرسلي به إلى آل فلان، وفرشت له عائشة رضي الله عنها ذات ليلة فراشًا جديدًا وكان ينام على عباءة مثنية، فما زال يتقلّب ليلته فلما أصبح قال: أعيدي العباءة الخلقة ونحّي هذا الفراش عني قد أسهرني الليلة، وكذلك أتته دنانير خمسة أو ستة عشاء فبيتها فسهر ليلته حتى آخرجها من آخر الليل، قالت عائشة: فنام حينئذ حتى سمعت غطيطه ثم قال: ما ظنّ محمد بربه لو لقي الله تعالى وهذه عنده، وكان شراك نعله العربيّ قد أخلق فأبدل بسير جديد، فصلّى فيه فلما سلم قال: أعيدوا الشراك الخلق وانزعوا هذا الجديد فإني نظرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 إليه في الصلاة ولبس خاتماً فنظر إليه وهو على المنبر بنظرة فرمى به وقال: شغلني هذا عنكم نظرة إليه ونظرة إليكم، وقد قال تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَِّبعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ) آل عمران: 31 وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحبني فليستن بسنتي، وقال في الخبر المشهور: عليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: من علامة حبّ الله تعالى حبّ النبي عليه السلام، ومن علامة حبّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبّ السنّة ومن علامة حبّ السنّة بغض الدنيا، وعلامة بغضها أن لا يأخذ منها إلا زاداً وبلغة وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها: إن أردت اللحوق بي فإياك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعي ثوبًا حتى ترقعيه، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد احتذى نعلين جديدتين فأعجبه حسنهما فخرّ ساجدًا وقال: أعجبني حسنهما فتواضعت لربي خشية أن يمقتني، ثم خرج بهم فدفعهما إلى أول مسكين رآه وأمر عليًّا رضي الله عنه فاحتذى له نعلين سنديتين قال: فرأيته وقد لبسهما يعني جرداوين أي معطوفتين وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أقرب الناس مني مجلساً يوم القيامة من كان على مثل ما أنا عليه من الدنيا، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا، وقال عليه السلام: لا يعذّب الله عبدًا جعل رزقه في الدنيا قوت يوم بيوم، وقال عليه السلام: طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان رزقه في الدنيا قوتًا وقنع به، وفي لفظ آخر: وصبر عليه، وقال عليه السلام: أحد غنيّ ولا فقير إلا ودّ يوم القيامة أن رزقه كان في الدنيا قوتًا. وروينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم من أحبّني وأجاب دعوتي فأقلّل ماله وولده، من أبغضني ولم يجب دعوتي فأكثر ما له وولده وأوطئ عقبيه كثرة الأتباع، وكانت هذه دعوة الصحابة على من مقتوه، وروينا في الخبر: نقصان الدنيا زيادة الآخرة وزيادة الدنيا نقصان الآخرة وفي الأثر: ما من أحد أعطي من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجته وإن كان على الله تعالى كريماً. وقال إبراهيم بن أحمد الخواص رحمه الله في وصف المدّعين: وقوم ادّعوا الزهد ولبسوا الفاخر من الثياب يموّهون بذلك على الناس ليهدوا إليهم مثل لباسهم ولئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحتقرون فيعطون كما يعطى المساكين ويحتجون لنفوسهم باتساع العلم وإنهم على السنّة وإن الأشياء داخلة عليهم وهم خارجون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 منها، وإنما يأخذون بعلّة غيرهم، هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق، وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادّعوا حالاً لهم مائلون إلى الدنيا متبعون الهوى، وكان الخواص رحمه الله تعالى لا يلبس أكثر من قطعتين إزارين وقميص ومئزر تحته، ويعطف ذيل قميصه على رأسه ويغطّي به رأسه، وكذلك استحبّ للفقير هذا اللباس والأخبار في فضائل الفقر وفضل الفقراء وفي ذمّ الدنيا ونقص الأغنياء أكثرمن أن تذكر ولم نقصد جمعها ولا كثرة الاستدلال بها، ومن الزهد ترك فضول للبنيان وأن لايبنى عاليًا ولا مشيدًا ولا من الطين إلا ما يحتاج إليه وقيل: أوّل بدعة حدثت بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المناخل والموائد، وأوّل شيء ظهر من طول الأمل التدريز والتشييد يعني دروز الثياب وإنما كانت تشلّ شلاً والبنيان الجص والآجر وهو التشييد، وإنما كانوا يبنون بالسعف والجريد. وقد جاء في الأثر: يأتي على الناس زمان يوشّون بينانهم كما توشّى البرود اليمانية، ونظر عمر رضي الله عنه في طريق الشام إلى صرح قد بني بجصّ وآجر فكبر وقال: ما كنت أظنّ أن في هذه الأمة من يبني بنيان هامان لفرعون يعني قول فرعون فأوقد لي يا هامان على الطين يعني به الآجر، يقال: أوّل من بنى بالجصّ والآجر فرعون وأوّل من عمله هامان ثم تبعهما الجبابرة، فهذا هو الزخرف، وذكر بعض السلف جامعًا في بعض الأمصار فقال: أدركت هذا المسجد مبنيّاً من الجريد والسعف ثم رأيته مبنيّاً من رهوص ثم رأيته الآن مبنيّاً باللّبن، فكان أصحاب السعف خيرًا من أصحاب الرهوص، وكان أصحاب الرهوص خيرًا من أصحاب اللبن، وقد كان في السلف من يبني داره مراراً في مدة عمره لضعف بنائه وقصر أمله ولزهده في إتقان البنيان وكان منهم من إذا حجّ أو غزا نزع بيته أو وهبه لجيرانه فإذا رجع أعاده، وكانت بيوتهم من الحشيش والثمام والجلود وعلى ذلك العرب ببلاد اليمن إلى اليوم، وأمر رسول اللهّّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس رضي الله عنه أن يهدم علية كان قد علا بها، ومرّ عليه السلام بجنبذة معلاة فقال: لمن هذه؟ قالوا: لفلان، فلما جاءه الرجل أعرض عنه فلم يكن يقبل عليه كما كان فسأل الرجل أصحابه عن تغيّر وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه فرجع فهدمها، فمرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالموضع فلم يرها فسأل عنها فأخبر أنه هدمها فدعا له بخير، وكان سمك بناء السلف قامة بسطة وقال الحسن: كنت إذا دخلت بيوت أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضربت بيدي إلى السقف، وقال عمرو بن دينار: إذا أعلى العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك إلى أين يا فاسق الفاسقين؟ وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من بنى فوق ما يكفيه كلّف أن يحمله يوم القيامة ومرّ عمر رضي اللّّه عنه ببيت عال فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج رؤوسها ومرّ بعامل له فرآه قد علي وشيد فقال لي: على كل خائن أمينان الماء والطين ثم شاطره ماله فجعله في بيت المال، وفي الخبر: كل نفقة يؤجر عليها العبد إلا ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 أنفعه على الماء والطين. وقد روينا عن بعض السلف: إذا مقت الله تعالى مال عبد سلّط عليه الماء والطين، وقال يحيى بن يمان رحمه اللّّه: كنت أمشي مع الثوري رحمه الله في طريق فنظرت إلى باب مشيّد قال: لا تنظر إليه فقلت يا أبا عبد الله ما تكره من النظر قال إذا نظرت إليه كنت عوناً له على بنائه لأنه إنمّا بناه لينظر إليه ولو كان كلّ من مرّ به لم ينظر إليه ما عمله وقد قال بعض السلف قبله: ولا تنظر إلى بنيانهم فإنهم إنما زخرفوه لأجلكم وفي قول الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدُونَ عُلُوًَّا في الأرض وَلا فَسَادًَا) القصص: 83 قيل: حبّ الكثرة والرياسة والتطاول في البنيان، وكذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلّ بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكن من حرّ أو برد، وقال للرجل الذي شكا إليه ضيق منزله اتسع في السماء أي في الجنة وهذا أحد التأويلين، والثاني اتسع في المعرفة ولا تطلب اتساع المكان واعلم أن الزهد لا ينقص من الرزق ولكنه يزيد في الصبر ويديم الجوع والفقر فيكون هذا رزقاً للزاهد من الآخرة على هذا الوصف من حرمان نصيبه من الدنيا وحمايته عن التكثر منها والتوسّع فيها ويكون الزهد سببه فيكون ما صرفه عنه ومنعه من الغني والتوسع رزقه من الآخرة والدجات العلى بحسن اختيار من الله تعالى وحيطة نظركما. حدثنا عن بعض العلماء: أن بقّالاً جاءه فقال: إني كنت أبيع في محلة لا بقّال فيها غيري، فكنت أبيع الكثير ثم قد فتح عليّ بقّال آخر فهل ينقص ذلك من رزقي شيئاً فقال: لا ولكن يزيد في بطالتك عن البيع، فلعله بطّالاً لاعباً يحتجّ لتوسّعه وهواه ويموّه على أبناء الدنيا ممن يتولاه فيقول بأن الزهد في الدنيا لما لم ينقص من رزقي شيئاً قد صح مقاماً لي مع التوسّع والاستكثار وعلى التنعّم والرفاهية والاستئثار لأنّي إنما آكل رزقي وآخذ قسمي فلي في الزهد مقام ومن الرضا والتوكل حال أو يقول: إن الزهد قد يصبح مع التكاثر والزينة يزخرف بقوله على من لا يعرف الزهد ويغرّ بمقالته من لايعرف طريق الزاهدين ولعلّه ممن يأكل الدنيا بالدين أو يزخرف القول ويشبه العلم على الغافلين، فمثله كما قال علي رضي الله عنه للخوارج حين قالوا: لا حكم إلا الله فقال: كلمة حقّ أريد بها باطل وصدق رضوان الله عليه لأنهم أرادوا بذلك إسقاط حكم الأئمة وترك الطاعة للإمام العادل. كما أراد القائل: إنما آكل رزقي وآخذ من الأشياء قسمي، الاحتجاج لنفسه بهواه والاعتذار عند الجاهلين خيفة لومهم إياه ولا يعلم المغرور بداء الغرور أنه وإن كان يأكل رزقه من الدنيا ويأخذ قسمه من العطاء فبحكم النقص والبعد وبوصف الرغبة والحرص لأن السارق والغاصب أيضًا يأكل رزقه ويأخذ قسمه ولكن بحكم المقت وسوء الاختيار إذا كان الله سبحانه وتعالى يرزق الحرام للظالمين كما يرزق الحلال للمتقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وإنما بينهما سوء القضاء ودرك الشقاء للأعداء وحسن التوفيق والاختيار بالسعادة للأولياء من المولى الكريم فقد حرم المدعي لذلك رزقه من الزهد وبخس نصيبه الأوفر من حبّ الفقر ونقص حظّه الأفضل من الآخرة إذ كانت الدنيا ضدّها وجعل ما صرف فيه وما صرف إليه سبباً لنقصان مرتبته من طرائق الزاهدين، وأنه قد اختبر بالدنيا وبما فتح عليه من السرّاء ليظهر صدقه من كذبه فوقع في الفتنة ولم يفطن للابتلاء وصارت مشاهدته هذه إذا كان صادقاً فيها غير كاذب على وجده حجابًا له عن علوم العارفين المعصومين، واستدرج بعلمه هذا لأنه علم من علوم الدنيا يفنى بفنائها لا ثمرة له في الباقية مكر به فيه وعدل به إليه عن علوم الخائفين ومشاهدة الورعين الزاهدين الذين نظروا من الحلال في الدقيق وصدقوا القول في ترك الرغبة بالعمل بالزهد للتحقيق وإن كان كاذباً في مشاهدته ظالماً لنفسه بما ادّعاه من وجده فهو من أولياء الشياطين ومن أئمة المضلين قيض للاعبين وسيق إليهم فتنة لهم ليس إماماً للمتقين بل من الأئمة المضلّين المحرومين أبناء الدنيا الغافلين رغبة في الدنيا وزهداً في طرائق السلف لوجود الطمع وعدم اليقين فقد مكر بهذا المعدول به عن علوم الموقنين وحقائق مشاهدتهم على هذا الوصف الذي أريد به بالذي تقلّب فيه وهولا يشعر بالمكر ولا يعرف الاستدراج بالنِّعم وأنَّى له بعلم ذلك والله تبارك وتعالى يقول: (سنستدرجهم من حيث لا يعملون) الأعراف: 182 قال تعالى: (ومكروا مكراً ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون) النمل: 50 فهيهات هيهات أن يفطن الممكور لما مكر به أو يعلم المستدرج ما درج فيه لأن الماكر ألطف الماكرين والمدرج أحكم الحاكمين نعوذ بالله تعالى من الاغترار بعلم الإظهار ونسأله الصلاة على نبّيه محمد وآله أجمعين وحسن التوفيق لمشاهدة علم التحقيق، وبمثل ما قلناه جاءت الآثار وكثرت الأخبار إن مثل الدنيا والآخرة كضرتين رضا إحداهما في سخط الأخرى وأنهما بمنزلة المشرق والمغرب من استقبل أحدهما استدبر الآخر، وأنهما بمنزلة كفتّي الميزان رجحان إحداهما بنقصان الأخرى وكان عمر رضي الله عنه يقول: والله إن هما إلا بمنزلة قد حين لك ملئ أحدهما فما هو إلا أن تفرغ أحدهما في الآخر يعني أنك إن امتلأت من الدنيا تفرّغت من الآخرة وإن امتلأت من الآخرة تفرّغت من الدنيا، وإن كان لك ثلث قدح الآخرة أدركت ثلثي قدح الدنيا وإن كان لك ثلثا قدح الآخرة يكون لك ثلث قدح الدنيا، وهذا تمثيل حسن إلا أن فيه شدّة وتدقيقاً، وقال بعض السلف: مثل من زهدفي الدنيا مع التنعم فيها كمثل من يغسل يديه من الغمر بسمك، وقال آخر: مثل من زهد وهو يطلب الدنيا مثل يطفئ النار بالحلفاء، وكان بعض الزاهدين من أهل الشام يتكلم عليهم؛ فكان رجاء بن حيوة فقيه أهل الشام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 يحضر مجلسه، فاحتبس يومًا عنهم وقد اجتمعوا فتكلم عليهم مؤذن الجامع فأنكر صوته رجاء بن حيوة فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان فقال: اسكت عافاك الله إنّا نكره أن نسمع الزهد إلا من أهله، وفي لفظ آخر: إنّا نكره أن نسمع الوعظ إلا من أهل الزهد، وقال عيسى عليه السلام: لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم وقال بعض العلماء: تقليب الأموال يمصّ حلاوة الإيمان. وروينا في الخبر: لكلّ أمة عجل، وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم؛ وكان أصل العجل من الحلية، وقال عزّ وجلّ: (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) الرعد: 17 فكان فهم هذه السنّة عن سمع هذه الآية يقال: مامن يوم ذي شارقة إلا وأربعة أملاك ينادون في الآفاق بأربعة أصوات؛ ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب، يقول أحدهما من المشرق: يا باغي الخير هلمّ ويا باغي الشرّ أقصر، ويقول الآخر: اللهم أعط منفعاً خلفاً واعط ممسكاً تلفاً، ويقول أحد اللذين في المغرب: لدوا للموت وابنوا للخراب، ويقول الآخر: كلوا وتمتعوا لطول الحساب، وقال بعض العلماء: إن الله تعالى وسم الدنيا بالوحشة ليجعل أنس المطيعين به وبلغنا أن من دعاء أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه: اللهم إني أسألك الذلّ عند النصف من نفسي والزهد فيما جاوز الكفاف. وقال بعض العارفين: ما من شيء إلا وهومطروح في الخزائن إلا الفقر مع المعرفة فإنه مخزوم مختوم عليه لا يعطاه إلا من طبع بطابع الشهداء، وقد يحتجّ بعض علماء الدنيا لأنفسهم بتفضيل الغنى على الفقر بتأويل الخبر من قوله تعالى: (ذلِكَ فَضْلُ الله يُوْتيِه مَنْ يَشَاءُ) الجمعة: 4 وهذا عند أولي الألباب في تدبّر الخطاب معنيّ به الفقراء لأنه قيل لهم في أوّل الكلام: إن فعلتم كذا لم يسبقكم أحد قبلكم ولم يدرككم أحد بعدكم فثبت هذا القول من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصحّ لأنه معصوم في قوله كما هو معصوم في فعله، فلا ينبغي أن ينقض أول الكلام آخره، فما جاء بعده محمول عليه ولم يصلح أن ينقلب لأنه إخبارعن شيء فلا يجوز الرجوع عنه، ولما فعل الأغنياء ما أمر به الفقراء وقف الفقراء في نظر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمنظرهم إلى مزيد الأغنياء عليهم بالقول فرجعوا إليه يستفتون منه ما أخبر به قال: لاتعلجوا فإن الذي قلت لكم كما قلت هو فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء وأنتم ممن شاء أن يؤتيه فضله، فصحّ تأويلنا هذا وبطل تأويلهم بدليل قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأوّل، فكان قوله الثاني بالآخر مواطئاً لقوله الأوّل ولم يناقض الأوّل بالآخر، كيف وقد جاء دليل ما قلنا مكشوفاً في الحديث المفسّر الذي رويناه عن زيد بن أسلم عن أنس رضي الله عنه قال: بعث الفقراء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً فقال: إن رسول الفقراء إليك فقال: مرحبًا بك وبمن جئت من عندهم من عند قوم أحبّهم قال: قالوا: يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالجنة يحجّون ولا نقدر عليه ويعتمرون ولانقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم فقال رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبلغ عني الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء، أما خصلة واحدة فإن في الجنة غرفًا ينظر إلها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير أو مؤمن فقير، والثانية يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام، والثالثة إذا قال الغني: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني الفقير، وإن أنفق فيها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البرّ كلها فرجع إليهم فقالوا: رضينا فهذا يدل على صحة تأويلنا. وقد روينا معنى هذا مجملاً في الخبر الذي رويناه عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله ابن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه: أي الناس خير؟ قالوا: موسر من المال يعطي حقّ الله في نفسه وماله فقال: نعم الرجل هذا وليس به قالوا: فمن خير الناس؟ مؤمن فقير يعطي جهده، فذهب القوم إلى علم العقل فردّهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى علم اليقين فكذلك من فضل حال الغنى على حال الفقر فإنه ينظر في العلم بعين العقل وإنما يشهد الآخرة والحقيقة بعين اليقين وهذا نصّ في تفضيل حال الفقر، فمن فضّل الغنى بعده فقد عاند السنّة إن كان عالماً فأحسن حاله الجهل بالآثار وإن كان جاهلاً فمقامه في الجهل أضرّ عليه من نطقه بالعلم بهوى، وفي الخبر الآخر: خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجّعاً في الجنة ضعفاؤها، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبلال: إلق الله تعالى فقيرًا ولا تلقه غنيّاً قال: وكيف لي بذلك؟ قال: إذا سئلت فلا تمنع وإذا أعطيت فلا تخبأ أفتراه كان يأمر بلالاً بأدنى الحالين فكيف وهو من أعلى الصحابة فأشبه الفقر في الأحوال اليقين في الإيمان، كما قال لابن عمر: اعمل لله بالرضا واليقين فإن لم يكن فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً فرفعه إلى اليقين لفضله كما رفع بلالاً إلى الفقر لشرفه في الأحوال فلم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرضى لبلال إلا ما يرضاه لنفسه فصار الفقر حال الموقن لأنه يكشف الآخرة، وصار الشكر في الغنى حال المؤمن لأنه يوجد الدنيا ففضل الفقير الزاهد على الغني الشاكر كفضل الموقن الشاهد على الموقن المجاهد. وكذلك روينا في حديث عطاء عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم توفّني فقيرًا ولا توفّني غنيّاً ولم يكن ليأمر بلالاً بأدنى الحالين فيقول: إلق الله تعالى فقيرًا كما لم يندب ابن عمر إلى أخفض المقامين لقوله: اعمل لله تعالى بالرضا في اليقين، وكذلك جاء في الخبر المشهور الذي دعا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه أن يحييه الله تعالى مسكيناً ويتوفّاه مسكيناً ويحشره في زمرة المساكين، كلّ ذلك لتفضيل الفقر وتشريف الفقراء مع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم يعني خمسمائة عام، وروينا عن عيسى عليه السلام أنه قال: إني لأحبّ المسكنة وأبغض المال للغني وإن في المال داء كثيرًا قيل: ياروح الله وإن كان يكتسبه من حلال قال يشغله كسبه عن ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الله تعالى قال وهب بن منبه لابن عباس: إنّا نجد في التوراة أن الفقير المصلح خير من الغني المصلح، قال ابن عباس: أما علمت أنه لا شيء أحبّ إلى الله تعالى من الفقير إذا كان صالحًا وقيل: كان أحبّ الأسماء إلى عيسى عليه السلام أن يدعى به أن يقال له يا مسكين وكان يقول: من شرّ الغنى أن العبد يعصي ليستغني ولا يعصي ليفتقر، وقد قال بعض حكمائنا في كلام منظوم: يا عائباً للفقر تبغي الغنى ... عيب الغنى أعظم لو تعتبر إنك تعصي لتنال الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر وروينا في حديث عطاء عن أبي سعيد الخدري: يا أيها الناس لا تحملنّكم العسرة والفاقة على أن تطلبوا الرزق من غير حلّه فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم توفّني فقيرًا ولا توفّني غنيّاً واحشرني في زمرة المساكين، وقال لقمان لابنه: يا بني إن من أعون الأخلاق على صلاح الدين زهداً في الدنيا، من يزهد في الدنيا يرغب فيما عند الله تعالى، ومن يرغب فيما عند الله تعالى يعمل لله تعالى، ومن يعمل الله تعالى يأجره الله تعالى، وقال الحواريون: يا روح الله نحن نصلّي كما تصلي ونصوم كما تصوم ونذكر الله تعالى كما أمرتنا ولا نقدر نمشي على الماء كما تمشي أنت، فقال: أخبروني كيف حبّكم للدنيا قالوا: إنّا لنحبها فقال: إن حبّها يفسد الدين لكنها عندي بمنزلة الحجر والمدر، وفي خبر آخر: إنه رفع حجراً فقال: أيهما أحبّ إليكم هذا أو الدنيار والدرهم؟ قالوا الدنيار، قال: فإنهما عندي سواء ويقال إن من صحّ زهده في الدنيا حتى يستوي عنده الذهب والحجر مشى على الماء وقد اشتهر ذلك في العامة حتى قال الشاعر: لو كان زهدك في الدنيا كزهدك في ... وصلي مشيت بلا شكّ على الماء وروينا أن عيسى عليه السلام مرّ في سياحته برجل نائم ملتفّ في عباءة فأيقظه وقال: قم يا نائم فاذكر الله تعالى فقال: ما تريد مني؟ إني قد تركت الدنيا لأهلها فقال له عيسى عليه السلام: نم حبيبي إذًا نم، وروينا عن موسى عليه السلام أنه مرّ برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة ووجهه ولحيته في التراب وهو متّزر بشمل عباءة فقال: يا ربّ عبدك هذا في الدنيا ضائع، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أما علمت أني إذا نظرت إلى عبدي بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلّها، وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى نبيّه إسماعيل عليه السلام: اطلبني عند المنكسرة قلوبهم قال يا ربّ ومن هم قال الفقراء الصادقون، فهذا كأنه مفسّر لخبر موسى عليه السلام في وقوله أين أجدك قال: عند المنكسرة قلوبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وقد كان أحمد بن عطاء وهو من المتأخرين يفضّل حال الغنى على الفقر لشبهة دخلت عليه، وهو أن بعض الشيوخ سأله عن الوصفين أيهما أفضل؟ قال: الغني لأنه صفة الحقّ فقال له الشيخ: فالله غني بالإعراض والأسباب فانقطع ولم ينطق بحرف، وهذا كما قال الشيخ لأن الله تعالى غني بوصفه، فالفقير أحقّ بهذا المعنى لأنه غنيّ بوصفه بالإيمان لا بالأسباب لانفرادها عنه، فهو الأفضل فأما الغنيّ فإنه مشتّت مجتمع بالأسباب فهو مفضول بالارتياب وقد خالفه الخوّاص فوفق للصواب وكان فوقه في المعرفة فقال في كتاب شرف الفقر والفقر صفة الحقّ أي صفة منه يصف به الفقراء فوافقنا في التأويل يعني أنه تعالى متخلٍّ عن الأشياء منفرد عنها، ووجه آخر من الغلط الذي دخل عليه من جهة الغنى الذي ذكره لأنه إن كان فضل الغنى على الفقر لأنه صفة الحقّ فينبغي أن يفضّل المتكّبر الجبّار ومن أحبّ المدح والعزّ والحمد لأن ذلك كله صفة الحقّ فما أجمع أهل القبلة على ذم من كان هذا وصفه كان من وصفه الغنى في معناه لأن وصف الغنى صفة الحقّ مقترن بالعزّ والكبر، وينبغي أن يسلّم صفات الحقّ للحقّ ولا ينازع إياها ولا يشارك فيها، فبطل قول ابن عطاء لصحة قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله تعالى العز إزاري والكبرياء ردائي من نازعني أحدهما قصمته في النار، وقد خالفه أيضًا ووافقنا من لا يشك الخاص والعام في فضل معرفته عليه أبو محمد سهل بن عبد الله فقال: من أحبّ الغنى والبقاء والعزّ فقد نازع الله تعالى صفاته وهذه صفات الربوبية يخاف عليه الهلكة فإذا ثبت ذلك كان الفقر أفضل لأنه وصف العبودية، فمن جعله وصفه فقد تحقق بالعبودية وأوصاف العبودية هي أخلاق الإيمان وهي التي أحبّها اللّّه تعالى من المؤمنين مثل الخوف والذلّ والتواضع والفقر مضاف إليها وأوصاف الربوبية ابتلى به قلوب أعدائه الجبارين والمتكبرين مثل العزّ والكبر والبقاء والغنى مضموم إليها. وكان الحسن رحمه الله يقول: مارأيت الله تعالى جعل البقاء إلا لأبغض خلقه إليه وهو إبليس، وكذلك كان العلماء يقولون: لا ترغبوا في البقاء في هذه الدنيا فإن شرار الخلق أطولهم بقاء وهم الشياطين، والغنى إنما يراد للبقاء ويقال: إن الجنيد رحمه الله تعالى باهل بن عطاء في هذه المسألة ودعا عليه لأنه أنكر قوله أشد الإنكار وكان يقول: الفقير الصابر أفضل من الغنيّ الشاكر وإن تساويا في القيام بحكم حالهما لأن الغنيّ التقيّ يمتّع نفسه وينعم صفته والفقير الصابر قد أدخل على صفته الآلام والمكاره فقد زاد عليه بذلك، وهذا كما قال وكذلك كان أحمد بن حنبل يقول: ما أعدل بالفقر شيئاً وكان يفضّل حال الفقر يعظم شأن الفقير الصابر وقال المروزي وذكر بعض الفقراء فجعل يمجّده ويكثر السؤال عنه قال: فقلت له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 يحتاج إلى علم فقال ويحك اسكت صبره على الفقر ومقاساته للضرّ فيه خير من كثير من العلم ثم قال هؤلاء خير منا بكثير وأقول إن من فضل حال الغنى على الفقر فإنه لم يذق مرارة الفقر ولا حلاوته فهو غرّ بشدته فاقد لحلاوته لأنه لو ذاق مرارته من الضرّ والهمّ لفضله ولوأذيق حلاوته من الزهد والرضا لما فضل عليه. وقد روينا في الخبر: يقول إبليس لم ينج الغني مني من إحدى ثلاث خصال؛ أن أحبب إليه المال فيكتسبه من غير حقّه أو يضعه في غير حقّه أو يمنعه من حقّه، فلولم يعلم العدو أن الفقر من أفضل الأحوال ما قعد على طرقه وقد قال لأقعدن لهم صراطك المستقيم فأخبر الخبر عنه فقال: الشيطان يعدكم الفقر أي يخوفكم به، فجاء الفقير الصادق فسلك الطريق المستقيم إلى الآخرة واطرح تخويف العدّو بحول الله وقوّته وقيل: الأغنياء المغتبطون بغناهم تخويف العدوّ فجاء بنو الفقر فحلق بهم مثل السوء، من ذلك قوله: (إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون) آل عمران: 175 فقبلوا تخويف الشيطان وخالفوا ندب الرحمن فكانوا كمن قيل فيهم: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه) الحج: 11، الآية فلو لم يكن من فضل الزاهدين إلا أنهم توسطوا الطريق الذي هرب الناس منه وأمنوا بالتوكّل على الله والرضا عنه ماخافه أبناء الدنيا لكفاهم. ذكر ماهية الدنيا وكيفية الزهد فيها وتفاوت الزهاد في مقاماتهم، ثم إن الدنيا هي نصيب كل عبد من الهوى وما دنا من قلبه من الشهوات، فمن زهد في نصيبه وملكه من هواه المذموم فهذا هو الزهد المفترض، ومن زهد في نصيبه من المباح وهو فضول الحاجة من كّل شيء، فهذا هو الزهد المفضل يرجع ذلك إلى حظوظ جوارحه التي هي أبواب الدنيا منه وطرقها إليه، فالزهد في محرّماتها هو زهد المسلمين به يحسن إسلامهم، والزهد في شبهاتها هو زهد الورعين به يكمل إيمانهم، والزهد في حلالها من فضل حاجات النفس هو زهد الزاهدين به يصفو يقنيهم، وروينا في حديث عمرو بن ميمون عن الزبير بن العوّام أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: يازبير اجهد نفسك عند نزول الشهوات والشبهات بالورع الصادق عن محارم الله عزّ وجلّ تدخل الجنة بغير حساب، وكان سهل يقول في فضائل الزهد وأعلى مقاماته: لا يتمّ زهد عبد حتى يزهد في هذه الثلاث؛ في الدرهم الذي يريد أن ينفقه في أبواب البّر يتقرب بذلك إلى الله تعالى، ويزهد في الثياب التي تستر بدنه في الطاعات، ويزهد في قوته الذي يستعين به على العبادة، وإنما قال هذا لأن عنده حقيقة الزهد من أفضل المقامات كلاً لأنه كان يقول: يعطى الزاهد جميع ثواب العلماء والعباد، ثم يقسم على المؤمنين ثواب أعماله، وقال: لا يوافي القيامة أحد أفضل من ذي زهد وعلم ورع، وقال أيضاً: لا ينال الزهد إلا بالخوف لأن من خاف ترك فجعل الزهد مقاماً في الخوف رفعه مزيداً لهم عليه. وقد روى مسروق عن ابن مسعود: ركعتان من زاهد قلبه خير له وأحبّ إلى اللّّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 تعالى من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبدِاً سرمداً ولانهاية للزهد عند طائفة من العارفين لأنه يقع عن نهاية معارفهم بدقائق أبواب لدنيا وخفايا لوائح الهوى، وقال بعضهم: نهاية الزهد أن تزهد في كل شيء وتتورع عن كلّ شيء للنفس فيه متعة وبه راحة فهذا كما روى عن عيسى عليه السلام أنه وضع تحت رأسه حجرًا فكأنه لما ارتفع رأسه عن الأرض استراح بذلك فعارضه إبليس فقال: يا ابن مريم ألست تزعم أنك قد زهدت في الدنيا قال: نعم، قال: فهذا الذي وطأته تحت رأسك من أي شيء هو؟ قال: فرمى عيسى عليه السلام بالحجر، وقال: هذا لك مع ما تركت ومثله. روينا عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه لبس المسوح حتى نقب جلده فسألته أمه أن ينزع مدرعته الشعر ويلبس مكانها جبة من صوف ففعل فأوحى الله تعالى إليه: يا يحىى آثرت عليّ الدنيا قال: فبكى ونزع الصوف ورد مدرعته الشعر على جسده، وكان الحسن يقول: أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوبًا قطّ، كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه واعلم أنّي رأيت جمل النعم ثلاثًا وتمامها بالزهد، وذلك أن أصل النّعم كلّها الإسلام، لأن من ورائه مقامات كثيرة أخطأوا فيها حقيقة التوحيد، ثم النعمة الثانية السنّة، إذ من ورائها بدع كثيرة كلّهم أخطأوا حقيقة السنة، والنعمة الثالثة العلم بالله تعالى لأن من ورائه جهلاً كثيراً بعظمة الله تعالى وقدرته، ثم الزهد في الدنيا فمن أعطيه مع الثلاث تمّت عليه النّعم فكان مع الذين أنعم الله تعالى عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أي تمّت نعمة الله عليهم لأن من ورائه حرصًا كثيرًا على الشبهات ورغبة عظيمة في الشهوات. وقد كان سهل رحمه الله تعالى يجعل الزهد من شرط السنّة والاتباع لقوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتِبِعُوني) آل عمران: 31 قال: فمن السنّة اتّباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان زاهداً ثم تفاوت الزاهدون لأيّ شيء زهدوا مقامات على نحو علوّ المشاهدات، فمنهم من زهد إجلالاً لله تعالى، ومنهم من زهد حياءً من اللّّه تعالى، ومنهم من زهد خوفاً من الله تعالى ومنهم من زهد رجاء موعود الله تعالى ومنهم من زهد مسارعة منه لأمر الله تعالى ومنهم من زهد حبّاً لله تعالى وهو أعلاهم وأدناهم من زهد مخافة طول الوقوف ومناقشة الحساب كما قيل: ذو الدرهمين أشدّ حسابًا يوم القيامة من ذي الدرهم ولأن طريق المتقين لا يسلكه من ملك في الدنيا زوجين من شيء، ما أحد يعطي من الدنيا شيئًا إلا قيل: خذه على ثلاثة أثلاث؛ ثلث همّ، وثلث شغل، وثلث حساب، وأن الرجل من الأغنياء ليوقف للحساب ما لو ورد مائة بعير عطاش على عرقه لصدرن رواء وإنه ليرى منازله من الجنة فلما وقر هذا في قلوب الورعين أشفقوا من طول الحساب فزهدوا في الجمع والمنع وفارقوا فضول الآمال طلبًا لخفة السؤال وسرعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الوقوف في الأهوال، ومن الزهد في الدنيا حبّ الفقر وأهله ومجالسة المساكين في أوطانهم والتذلّل لهم كما كان مطرف رحمه الله تعالى يجالس المساكين في بزّته يتقرّب بذلك إلى ربه، وكان محمد بن يوسف الأصفهاني عالماً زاهدًا ومن الناس من كان يفضّله على الثوري رحمها الله تعالى، إلا أنه كان يؤثر الخمول فلم يكن يعرفه إلا العلماء، وكان من حسن رهعايته وشدة يقظته يعمل في كلّ وقت أفضل ما يقدر عليه في ذلك الوقت، فلما طلبه ابن المبارك بالمصيصة قال له بعض من يعرف حاله: إن ذاك لا يكون في المصر إلا في أفضل موضع فيه قال: فهو إذا في الجامع فطلبه فقيل له: إنه لا يقعد إلا في أفضل مكان قال: فطلبه عند الفقراء فإذا هو دسّ رأسه وأخمل نفسه مع المساكين فكان عنده أن أفضل وطن في المصر الجامع لأنه يقال: إن الصلاة فيه بخمسين صلاة وإن أفضل الأماكن موضع الفقراء من الجامع وإن أفضل الأحوال الخمول، فلذلك أخمل نفسه فيما بين الفقراء في الجامع ليحوز فواضل الأعمال، ومن الزهد أن يكون بفقره مغتبطاً مشاهداً لعظيم نعمة الله تعالى عليه به يخاف أن يسلب فقره ويحول عن زهده، كما يكون الغني مغتبطاً بغناه يخاف الفقر ثم وجودحلاوة الزهد حتى يعلم الله تعالى من قلبه أن القلّة أحبّ إليه من الكثرة وأن الذلّ أحبّ إليه من العزّ وأن الوحدة آثر عنده من الجماعة وأن الخمول أعجب إليه من الاشتهار فهذا من إخلاصه في زهده. وروينا عن عيسى عليه السلام وعن نبيّنا عليه السلام: أربع لا يدركن إلا بعجب الصمت، وهو أوّل العبادة والتواضع وكثرة الذكر وقلة الشيء، وقال الثوري رحمه الله تعالى: لا يكون الرجل عالماً حتى يعد البلاء نعمة والرخاء عقوبة، وقال بعض السلف: لا يفقه العبد كل الفقه حتى يكون الفقر أحبّ إليه من الغنى والذل آثر عنده من العزّ، وقد روينا خبراً مقطوعاً: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف وحتى يكون قلّة الشيء أحبّ إليه من كثرته، وكان السلف الصالح يقولون: نعمة الله علينا فيما صرف عنّا من الدنيا أعظم من نعمته فيما صرف إلينا، وكان الثوري رحمه الله تعالى يقول الدنيا دار التواء لا دار استواء ودار ترح لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح برخاء ولم يحزن على شقاء، وكان سهل بن عبد الله رحمه الله يقول: لا يصحّ التعبّد لأحد ولايخلص له عمل حتى لا يجزع ولا يفرّ من أربعة أشياء: الجوع، والعرى، والفقر، والذل. كما روينا أن إبراهيم التميمي رحمه الله تعالى دفع إليه خمسون ألف درهم فردّها فقيل له: لم رددتها فقال: أكره أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء بخمسين ألفاً، ومن الزهد عند الزاهدين ترك فضول العلوم التي معلوماتها تؤول إلى الدنيا وتدعو إلى الجاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 والمنزلة عند أبنائها وفيما لا نفع فيه في الآخرة ولا قربة به عند الله تعالى وقد تشغل عن عبادة الله تعالى وتفرق الهمّ عن اجتماعه بين يدي الله تعالى وتقسي القلب عن ذكر الله تعالى وتحجب عن التفكّر في آلائه وعظمته، وقد أحدثت علوم كثيرة لم تكن تعرف فيما سلف اتخذها الغافلون علماً وجعلها البطالون شغلاً انقطعوا بها عن الله تعالى وحجبوا بها عن مشاهدة علم الحقيقة لا نستطيع ذكرها لكثرة أهلها إلا أن نسأل عن شيء منها أعلم هو أم كلام أم حقّ أو تشبيه أو صدق وحكمة أو زخرف وغرور أم سنّة، هو عتيق أو محدث وتشديق، فحينئذ نخبر بصواب ذلك، ومن أفضل الزهد: الزهد في الرياسة على الناس، وفي المنزلة والجاه عندهم، والزهد في حبّ الثناء والمدح منهم لأن هذه المعاني هي من أكثر أبواب الدنيا عند العلماء، فالزهد فيها هو زهد العلماء، كان الثوري رحمه الله تعالى يقول: الزهد في الرياسة ومدح الخلق أشدّ من الزهد في الدنيار والدرهم قال: لأن الدنيار والدرهم قد يبذلان في طلب ذلك وكان يقول: هذا باب غامض لا يبصره إلا سماسرة العلماء. وقال الفضيل رحمه الله تعالى: نقل الصخور من الجبال أيسر من إزالة رياسة قد ثبتت في قلب جاهل، وذهب أويس القرني رحمه الله تعالى إلى أن الزهد هو ترك الطلب للمضمون، قال هرم بن حبان: لقيته على شاطئ الفرات يغسل كسراً وخرقاً قد التقطها من المنبوذ وكان ذلك أكله ولباسه قال: فسألته عن الزهد أيّ شيء هو؟ فقال: في أيّ شيء خرجت قلت: أطلب المعاش فقال: إذا وقع الطلب ذهب الزهد وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: لا زهد إلا زهد أويس بلغ به العري حتى قعد في قوصرة، وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: الزهد في النساء أن تختار المرأة الدون أو اليتيمة على المرأة الجميلة والمرأة الشريفة، وذهب إلى هذا مالك بن دينار، وقال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: لا يصحّ الزهد في النساء لأنهن قد حبّبن إلى سيد الزاهدين ووافقه ابن عيينة فقال: ليس في كثرة النساء ذنب لأن أزهد الصحابة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكان له أربع نسوة وبضعة عشر سرية، وكان الجنيد يقول: أحبّ للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بهذه الثلاث وإلا تغيّر حاله التكسب وطلب الحديث والتزوّج، وقال: أحبّ للصوفيّ أن لا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمّه، وفي الخبر: إنما الزهد أن تكون بما في يد الله سبحانه وتعالى أوثق منك بما في يديك، فهذا مقام التوكّل، وذهب قوم إلى أن الزهد ترك الادخار وكانت الدنيا عندهم هو الجمع. وقال بعضهم: الدنيا هو ما شغل القلب واهتم به فجعلوا الزهد ترك الاهتمام وطرح النفس تحت تصريف الأحكام، وهذا هو التفويض والرضا، وقال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان الداراني: إن مالك بن دينار قال للمغيرة: اذهب إلى البيت فخذ الركوة التي كنت أهديتها لي فإن العدوّ يوسوس إلي أن اللّص قد أخذها، فقال أبو سليمان: هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 من ضعف قلوب الصوفيين هو قد زهد في الدنيا ما عليه من أخذها، فأراد أبو سليمان منه حقيقة الرضا بجريان الأحكام وأراد مالك من نفسه حقيقة الزهد بأن يصرف عن قلبه الاهتمام. وقال بعض العلماء: الدنيا هو العمل بالرأي والمعقول، والزهد إنما هو اتباع العلم ولزوم السنّة، وهذه طريقة أهل الحديث، وهذا القول من الظواهر يشبه قول علماء الظاهر، كما روينا عن سفيان قال: قالوا للزهري: ما الزهد؟ قال: ما لا يغلب الحرام صبره ولا يمنع الحلال شكره يعني أين يكون العبد صابراً عن الحرام حتى لا تغلبه شهوة الحرام ويكون شاكراً في الحلال حتى لا يغلبه الحلال فيشغله عن الشكر، وأما الحسن فإنه قال: الزاهد هو الذي إذا رأى أحداً قال: هذا أفضل مني، فذهب إلى أن الزهد هو التواضع، وكان الفضيل يقول: القناعة هو الزهد، وقال أبو سليمان: الورع هو أوّل الزهد، وقال أحمد ابن أبي الحواري قلت: لأبي هشام المغازلي أيّ شيء الزهد قال: قطع الآمال وإعطاء المجهود وخلع الراحة، وكان يوسف بن أسباط يقول: من صبر على الأذى وترك الشهوات وأكل الخبز من حلاله فقد أخذ بأصل الزهد، وقال أحمد: قلت لأبي صفوان الرعيني: ما الدنيا التي ذمّها الله تعالى في القرآن وينبغي للعاقل أن يجتنبها؟ قال: كلّ ما عملت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت فيها تريد به الآخرة فليس منها، فحدثت به مروان فقال: الفقه ما قال أبو صفوان إنما قال ذلك لأن الدنيا كل ّ شيء إلا الإخلاص، فما وافق العلم فهو مباح وما خلفه فهوى، والهوى حظّ النفس، الإخلاص حظّ الربّ عزّ وجلّ فالمخلصون بيّنة الله عزّ وجلّ من عباده على عدوّه، وهم أهل الآخرة في الدنيا، وكان ابن السماك يقول: الزاهد قد خرجت الأفراح والأحزان من قلبه، فهو لا يفرح بشيء من الدنيا أتاه ولا يحزن على شيء منها، فإنه لا يبالي على عسر أصبح أم على يسر. وقال أبو سعيد بن الأعرابي عن أشياخه الصوفية: إنما الزهد عندهم خروج قدر الدنيا من القلب إذ هي لا شيء ولا يكون في نفسه زاهداً لأنه لم يترك شيئاً إذ كانت لا شيء، وهذا لعمري هو الزهد في الزهد لأنه زهد، ثم لم ينظر إلى زهده فزهده إذ لم يرَ شيئاًً لأنه زهد في لا شيء وهذا يشبه ما نقول: إن حقيقة الزهد هو الزهد في النفس لأنه قد يزهد في الدنيا لنفسه طلباً للعوض فيكون ذلك رغبة على صفة، فإذا زهد في النفس التي يريد لها الأعواض على الزهد فهو حقيقة الزهد وهذا يشبه قول من قال: إن حقيقة الزهد في الفناء هو الزهد في البقاء لأن العبد ربما زهد في الفناء فلم يزهد في البقاء فيكون فيه بقية من الرغبة فإذا زهد في البقاء فهو حقيقة الزهد في الفناء إذ كان الفناء يراد للبقاء. فصل آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 إن الرغبة في الهوى حقيقة الدنيا وإن كان العبد زاهداً في المال من قبل أنه يعطي الزهد في شيء دون شيء، كما يزهد في الثناء ولا يزهد في المال، ولا يعطي الزهد في الأطعمة وقد يعطى الزهد في المال، ولايعطى الزهد في منصبه لغلبة الهوى، فإذا أعطي الزهد في الهوى كائناً ما فقد أعطي حقيقة الزهد في الدنيا، وهذا هو الزهد في النفس، لأن النفس عين الرغبة والهوى روح النفس، فاعرف هذا، وكان يونس بن ميسرة الجيلاني يقول: ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يديك، وأن يكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون ذامّك ومادحك في الحقّ سواء، وقال سلام ابن أبي مطيع رحمهما الله: الزهد على ثلاثة أوجه، واحد أن تخلص العمل لله عزّ وجلّ والقول فلا يراد بشيء منه الدنيا، والثاني ترك ما لا يصلح والعمل بما يصلح، والثالث الحلال أن يزهد فيه وهو تطوّع. وكان إمامنا في هذا العلم إبراهيم بن أدهم رحمه الله يقول: الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالزهد الفرض في الحرام، والزهد الفضل والسلامة الزهد في الشبهات، وأما أيوب السختياني رحمه الله فكان يقول: الزهد أن يقعد أحدكم في منزله فإن كان قعوده لله تعالى رضا وإلا خرج، وإن يخرج فإن كان خروجه لله تعالى رضا وإلا رجع، فإن كان رجوعه لله تعالى رضا وإلا ساح ويخرج درهمه، فإن كان إخراجه لله رضا وإلا حبسه ويحبسه، فإن كان حبسه لله تعالى رضا وإلا رمى به ويتكلم، فإن كان كلامه لله تعالى رضا وإلا سكت، فإن كان سكوته لله تعالى رضا وإلا تكلم فقيل: هذا صعب فقال: هذا الطريق إلى الله عزّ وجلّ وإلا فلا تلعبوا فقد ذهب إلى أن الزهد هو المراقبة، والمراقبة هي الإخلاص، وسئل حاتم الأصم صاحب شقيق البلخي رحمهما الله تعالى عن الزهد فقال: أوّله الثقة وأوسطه الصبر وآخره الإخلاص، فإذا كان الإخلاص عندهم هو آخر الزهد فكيف يصحّ لعبد آخر الزهد قبل أوّله أم كيف يجاوز الإخلاص إلى مقامات المعرفة فقد صار آخر الزهد عندهم أوّل المعرفة وذهبت طائفة إلى أن الزهد في الدنيا فريضة على المؤمنين لأن حقيقة الإخلاص هو الزهد عندهم فأوجبوه من حيث أوجبوا على المؤمنين الإخلاص ومال إلى هذا القول عبد الرحيم بن يحيى الأسود. وقد روينا معناه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قيل لأحمد: بأيّ شيء ذكر القوم وصاروا أئمة فقال: بالصدق، قالوا: وما الصدق؟ قال: الإخلاص، قيل: وما الإخلاص؟ قال: هو الزهد قيل: وما الزهد يا أبا عبد الله فأطرق ثم قال: سلوا الزهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 سلوا بشر بن الحارث، وقال قوم الزهد في الدنيا طلب الحلال وإنه واجب مفترض في مثل زماننا هذا لاختلاط الأشياء وغلبة الشبهات قالوا: فقد تعين فرض الزهد وهذا مذهب إبراهيم ابن أدهم ووهيب بن الورد وسليمان الخواص وجماعة من أهل الشام، وقد كان سهل يقول: أزهد الناس في الدنيا أصفاهم مطعماً، وقال أقصى مقام في الورع أدنى مقام من الزهد. وقد روينا عن يوسف بن أسباط ووكيع رحمهما الله قالا: لو زهد عبد في زماننا هذا حتى يكون كأبي ذر وأبي الدرداء ما سميناه زاهداً لأن الزهد عندنا إنما هو في الحلال المحض، ولا نعرف الحلال المحض اليوم، وكذلك كان الحسن البصري رحمه الله إمام الأئمة يقول لا شيء أفضل من رفض الدنيا، وقال الفضيل بن ثور قلت للحسن: يا أبا سعيد رجلان يطلب أحدهما الدنيا بحلالها فأصابها فوصل بها رحمه وقدم منها لنفسه ورجل رفض الدنيا، قال: أحبّهما إليّ الذي رفض الدنيا قلت: يا أبا سعيد هذا طلبها بحلالها فأصابها فوصل بها رحمه وقدم منها لنفسه قال: أحبّهما إليّ الذي جانب الدنيا وإنما شرف الحسن الذي رفض الدنيا لأن مقام الزهد يجمع التوكل والرضا ألا تسمع إلى الخبر الذي جاء: الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك فهذا هو التوكّل، ثم قال: وأن تكون بثواب المصيبة أفرح منك ولو أنها بقيت لك وهذا هو الرضا، ثم إن المعرفة والمحبة بعد الزهد داخلان عليه فأي مقام أعلى من مقام جمع هذه الأربعة وهي غاية الطالبين، ولعمري أنه هكذا لأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث فيه شدة قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوّه خلقها فتشرف على الخلائق فيقال: أتعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ بالله تعالى من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم فتنادي أي ربّ أتباعي وأشياعي فيقول الله: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً أشد من هذا حدثنا عن عبد الواحد بن زيد عن الحسن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليجيئن أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار قالوا: يا رسول الله مصلّين قال: نعم، كانوا يصلون ويصومون ويأخذون هنّة من الليل فإذا عرض لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه، وكذلك كان الحرث بن أسد المحاسبي رحمه الله يقول: إنما الزهد إسقاط قيمة الدنيا من القلب وأن لا يكون لشيء عاجل في القلب وزن، فإذا سقطت قيم الأشياء واستوت في القلب فهو الزهد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فإنه كان يقول ليس الزاهد من لا يملك شيئاً إنما الزاهد من لا يملكه شيء وقال عالم مثله في معناه: الزاهد من لا يتملك الأشياء ولم يسكن إليها، وكان يقول: الزاهد قوته ما وجد وثوبه ما ستر وبيته ما أواه وحاله وقته. وقال بعض العارفين: الزهد إنما هو ترك التدبير والاختيار والرضا والتسليم لاختياره شدة كان أو رخاء، وهذا طريق الخواص والثوري وذي النون رحمهم الله تعالى، وقال أبو يزيد رحمه الله مرة: إنما الزاهد من لا يملك شيئاً ولا يملكه شيء، وقال: حقيقة الزهد لا يكون إلا عند ظهور القدرة والعاجز لا يصحّ زهده هو أن يعطيه كن ويطلبه على الاسم ويقدره على الأشياء بإظهار الكون فيزهد في ذلك حياءً من الله تعالى ويتركه حبّاً له، وكان يستعيذ بالله من أربعة وعشرين مقاماً من إظهار القدرة وقال لأبي موسى عبد الرحيم في أي شيء تتكلم؟ قلت: في الزهد قال: في أيّ شيء قلت: في الدنيا قال: فنفض يده وقال: ظننت أنه يتكلم في الزهد في شيء الدنيا لا شيء أيش تزهد فيه، وذهب إلى هذا المعنى سهل وغيره، وقال سبعة عشر مقاماً في المعرفة أدناها المشي على الماء وفي الهواء وظهور كنوز الأرض وهذا كله من زخرف الدنيا. وقد حكي لنا معنى هذا عن الجنيد قال: اجتمع أربعة من الأبدال في جامع المنصور ليلة العيد فلما أسحروا قال أحدهم: أما أنا فقد نويت أن أصلي العيد في بيت المقدس، وقال الآخر: أما أنا فقد نويت أن أصلي العيد بطرسوس، وقال الثالث: أما أنا فقد نويت أن أصلي العيد بمكة، وسكت الرابع وكان أعرفهم فقيل له: أنت أيّ شيء نويت فقال: أما أنا فقد نويت اليوم ترك الشهوات لا أصلي إلا في هذا المسجد الذي بتّ فيه فقالوا: أنت أعلمنا فقعدوا عنده فصار عند هؤلاء كما ذكرناه آنفاً أن هذه الآيات هي من الشهوات إذ ليست حاجات مقامات والشهوة من الدنيا لأنها من الهوى وأيضاً ففيها تدبير واختيار، وعند الزهاد العارفين والمحبين أن هذا مكر وخداع يبتلون به ويقتطعون لينظر كيف يعملون إذاً ابتلاء كل عبد على قدر مرتبته وحاله فيلزمه الزهد فيه ويقال: هي في المقام السابع عشر من المعرفة فمن سلك به الطريق رآها فيه وفوقها نيف وسبعون مقاماً أفضل من ذلك. وقد سئل الجنيد عن الزهد فقال معنيان: ظاهر وباطن، فالظاهر بغض ما في الأيدي من الأملاك وترك طلب المفقود، والباطن زوال الرغبة عن القلب ووجود العزوف والانصراف عن ذكر ذلك، فإذا تحقق بذلك رزقه الله تعالى الإشراف على الآخرة والنظر إليها بقلبه، فحينئذ يحد في العلم بتقصير الأمل وتقريب الأجل لأن الأسباب عن قلبه منقطعة والقلب منفرد الآخرة، وحقيقة الزهد قد خلصت إلى قلبه فامتلأ من الذكر الخالص لربّه سبحانه وتعالى، فالزهد عن حقيقة الإيمان والمشاهدة للآخرة تكون بعد الزهد واستواء الأشياء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فيكون عدمها كوجودها بعد المشاهدة لاستواء القلب ومعه يستوي المدح والذّم لسقوط النفس وذهاب رؤية الخلق فعندها خلص الإخلاص إلى قلبه لصفاء الزهد وثبت الزهد لسقوط النفس دليل ذلك: الخبر الذي رويناه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجل: هل استويت؟ قال: وكيف أستوي؟ قال: يستوي عندك المدح والذم؟ وقول حارثة لما سأله عن حقيقة الإيمان: عزفت نفسي عن الدنيا فابتدأ بالزهد ثم ذكر الاستواء لحجرها وذهبها ثم ذكر المشاهدة بعد ذلك الحديث، وهذه كلها مقامات في الزهد وكل من جعل شيئاً الدنيا مبلغ علمه وعلوّ مشاهدته جعل الزهد ضده. وقد نوّع أهل المعرفة الإيمان في القلب على مقامين فجعل لهما زهدين فقال: إذا تعلّق الإيمان بطاهر القلب أحبّ العبد الدنيا وأحبّ الآخرة وعمل لهما، فإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها ولم يعمل لها، وقد كان أبو سليمان يقول: من شغل بنفسه شغل عن الناس؛ وهذا مقام العاملين، ومن شغل بربه سبحانه وتعالى شغل عن نفسه؛ وهذا مقام العارفين، ولهذين المقامين دليل من السنّة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أيّ الناس خير؟ فقال: من يشنأ الدنيا ويحبّ الآخرة فأوقع الشنآن للدنيا لوقوع ضدّه من حبّ الآخرة والمقام الأعلى دليله من جعل الهموم همّاً واحداً كفاه الله تعالى أمر آخرته ودنياه والهم الواحد بوجد واحد لربّ واحد هو وصف عبد متوحد لواحد مقاله إلى واحد، وقد وهب له خلقاً من أخلاقه فهو الأحد بوحدانية صفته، وعبد متوحدّ بوجده بين خلقه، فهو منفرد الهمّ مجتمع القلب وانفراد الهمّ يكون بعد محو الهوى ومحوه بعد امتحان القلب للتقوى، واجتماع القلب يكون مع طيب النفس وطمأنينتها بالإيمان أو فلاحها بالتزكية والرضا، ما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طيب النفس من النعيم، وقال الله تعالى: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها) الشمس: 9 وقال تعالى: (رَاضِيَّةً مَرْضِيَّة) الفجر: 28 فيكون متوحّداً بالروح مخلقة بأخلاق الإيمان مواطئة للقلب بمشاهدة اليقين، وقال وهب بن منبه: وجدت فيما أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام: من أحبّ الدنيا أبغضه الله تعالى، ومن أبغضها أحبه الله تعالى، ومن أكرم الدنيا أهانه الله تعالى، ومن أهانها أكرمه الله تعالى، وأما علماء الظاهر فقالوا: الزهد في الدنيا هو موافقة العلم والقيام بأحكام الشرع وأخذ الشيء من وجهه ووضعه في حقّه، وما خالف العلم فهو هوى كلّه فذكروا فرض الزهد وظاهره ولم يعرفوا دقائقه وبواطنه. وقد روينا عن سفيان بن عيينة والثوري معنى هذا أنهما سئلا: أيكون الرجل زاهدًا وله مال؟ قالا: نعم إذا كان إذا ابتلى فصبر، وإذا أنعم عليه شكر، قال ابن أبي الحواري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 فقلت له: يا أبا محمد يعني ابن عيينة قد أنعم عليه فشكر وابتلى فصبر وحبس النعمة كيف يكون زاهدًا؟ فضربني بيده وقال: اسكت، من لم تمنعه النعماء من الشكر ولا البلوى عن الصبر فذلك الزاهد، ووافقهما الزهري فقال كذلك، وقد فصل ذلك أبو سليمان فقال ابن أبي الحواري: قلت له: أكان داود الطائي رحمه الله تعالى زاهداً؟ قال: نعم، قلت: بلغني أنه ورث من أبيه عشرين دينارًا فأنفقها في عشرين سنة فكيف يكون زاهداً وهو يمسك الدنانير؟ فقال: أردت منه أن يبلغ حقيقة الزهد ولعمري أنّا روينا عن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعماً بالمال الصالح للمرء الصالح والمال الصالح هو الحلال والمرء الصالح المنفق ماله بالليل والنهار سرًّا وعلانية في سبيل اللّّه ابتغاء مرضاته كما وصفه الله تعالى ومدحه. وقد روينا عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الله تعالى يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ ولا يعطي الدين إلا من يحبّ والذي يحبّه الله تعالى ممن أعطاه الدنيا لا يخالف حبيبه إلى هواه ولا يؤثر نفسه على محبة مولاه تبارك وتعالى إذ قد تولاه فيما أعطاه. وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر والطاعم الشاكر هو الذي يستعين بطعمته على خدمة مولاه ويعبده شكراً لما أولاه، وقد قالوا في الزهد وصفان جامعان لأحوال القلوب، قال مضاء بن عيسى: قلت للسباع الموصلي: يا أبا محمد إلى أيّ شيء أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس باللّّه تعالى، وقال عثمان بن عمارة: كان يقال: الورع يبلغ بالعبد إلى الزهد والزهد يبلغ به حبّ الله تعالى؛ فهذان الحالان غاية الطالبين الحبّ للجليل والأنس باللطيف، فمن لم يتحقق بالزهد لم يبلغ مقام الحبّ ولم يدرك حال الأنس ثم إن سرائر الغيوب في مقام الحبّ والخلّة، وفي حال الأنس والقربة وفّقنا الله وإياكم لما يحبّ وبلغنا ما نؤمل بفضله ورحمته ولا حول ولاقوّة إلا باللّّه العليّ العظيم وهذا آخر كتاب الزهد. تم الجزء الأوّل من قوت القلوب ويليه الجزء الثاني أوّله شرح مقام التوكل ووصف أحوال المتوكلين . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 بسم الله الرحمن الرحيم شرح مقام التوكل ووصف أحوال المتوكلين وهو المقام السابع من مقامات اليقين التوكّل من أعلى مقامات اليقين وأشرف أحوال المقرّبين قال الله الحق المبين: (إن الله يحبّ المتوكلين) آل عمران 159فجعل المتوكل حبيبه وألقى عليه محبّته وقال الله عزّ وجلّ: (وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم 12يرفع المتوكلين إليه وجعل مزيدهم منه، وقال جلت قدرته: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) الطلاق: 3 أي كافيه مما سواه فمن كان الله تعالى كافيه فهو شافيه ومعافيه ولا يسأل عمّا هو فيه، فقد صار المتوكل على الله تعالى من عباد الرحمن الذين أضافهم إلى وصف الرحمة، ومن عباد التخصيص الذين ضمن لهم الكفاية، وهم الذين وصفهم في الكتاب بقوله سبحانه: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) الفرقان: 63إلى آخر أوصافهم، وهم الذين كفاهم في هذه الدار المهمّات ووقاهم بتفويضهم إليه السيِّئات بقوله تعالى: (ألَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ) الزمر: 36 وقوله تعالى: (وَأُفَوِّضُ أَمْري إلَى الله إنَّ الله بَصيرٌ بِالْعِبَادِ) (فَوَقاهُ الله سيِّئاتِ مَا مَكَرُوا) غافر: 44 - 45 وليس هؤلاء من عباد العدد فقط الذين قال الله عزّ وجلّ: (إنْ كُلُّ مَنْ في السَّمَواتِ وَالأرْضِ إلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (لَقَدْ أحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداً) مريم 93 - 94. وقال بعض الصحابة وغيره من التابعين: التوكل نظام التوحيد وجماع الأمر، وحدثونا عن بعض السلف قال: رأيت بعض العباد من أهل البصرة في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قلت: فأي الأعمال وجدت هناك أفضل؟ قال: التوكّل وقصر الأمل فعليك بهما وقال أبو الدرداء: ذروة الإيمان والإخلاص والتوكل والاستسلام للربّ عزّ وجلّ، وكان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: ليس في المقامات أعزّ مِن التوكّل وقد ذهب الأنبياء بحقيقته وبقي منه صبابة انتشقها الصدّيقون والشهداء فمن تعلّق بشيء منه فهو صديق أو شهيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وقال بعض العارفين وهو أبو سليمان الداراني: في كلّ المقامات لي قدم إلاّ هذا التوكّل المبارك فما لي منه إلا مشام الريح، وقال لقمان في وصيته لابنه: ومن الإيمان بالله عزّ وجلّ التوكّل على الله، فإن التوكل على الله يحبّب العبد، وإن التفويض إلى الله من هدي الله، وبهدي الله يوافق العبد رضوان ا، وبموافقة رضوان الله يستوجب العبد كرامة الله، وقال لقمان أيضاً: ومن يتوكّل على الله، ويسلّم لقضاء الله، ويفوّض إلى الله، ويرضى بقدر الله، فقد أقام الدين وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير وأقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره. وقال بعض علماء الأبدال، وهو أبو محمد سهل: العلم كلّه باب من التعبّد، والتعبّد كلّه باب من الورع، والورع كلّه باب من الزهد، والزهد كلّه باب من التوكّل، قال: فليس للتوكلّ حدّ ولا غاية تنتهي إليه، وقال أيضاً في قول الله عزّ وجلّ: (لِيَبْلُوَكُمْ أيٍُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً) هود: 7، قال أصدق توكلاً، وقال: التقوى واليقين مثل كفّتي الميزان والتوكل لسانه، به تعرف الزيادة والنقصان، وسئل عن قول الله عزّ وجلّ: (فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن: 16 قال: بإظهار الفقر والفاقة إليه، وسئل عن قوله تعالى: (اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ) آل عمران102 فقال: اعبدوه بالتوكّل، وقال أبو يعقوب السوسي: لا تطعنوا على أهل التوكّل فإنهم خاصّة الله الذين خصّوا بالخصوصية فسكنوا إلى الله، واكتفوا به، واستراحوا من هموم الدنيا والآخرة، وقال: من طعن في التوكّل، فقد طعن في الإيمان لأنه مقرون به، ومن أحبّ أهل التوكّل فقد أحبّ الله تعالى، فأوّل التوكّل المعرفة بالوكيل وأنه عزيز حكيم، يعطي لعزّه، ويمنع لحكمه، فيعتزّ العبد بعزّه ويرضى بحكمه، وكذلك أخبر عن نفسه ونبّه المتوكّلين عليه فقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكيِمٌ) الأنفال: 49 عزّ من أعزّ بعطيته ونظر لمن منعه بحكمته، فإذا شهد العبد الذليل الملك الجليل قائماً بالقسط والتدبير والتقدير، عنده خزائن كلّ شيء، وكلّ شيء عنده بمقدار لاينزله إلا بقدر معلوم، وشهد الوكيل قابضاً على نواصي المماليك له خزائن السموات من الأحكام والأقدار الغائبات، وله خزائن الأرض من الأيدي والقلوب والأسباب المشاهدات، فخزائن السموات ماقسمه من الرزق، وخزائن الأرض ما جعله على أيدي الخلق، وفي السماء رزقكم وما توعدون، وفي الأرض آيات للموقنين، ولكن المنافقين لا يفقهون فأيقن العبد أن في يده ملكوت كلّ شيء وأنه يملك السمع والأبصار ويقلب القلوب والأيدي تقليب الليل والنهار، وأنه حسن التدبير والأحكام للموقنين، وأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، ثم استوى على العرش يدبّر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه، عندها نظر العبد الذليل إلى سيده العزيز، فقوي بنظره إليه، وعزّ بقوّته به، واستغنى بقربه منه، وشرّف بحضوره عنده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وكذلك جاء في الخبر: كفى باليقين غنى، حينئذ نظر إليه في كل شيء، ووثق به، واعتمد عليه دون كل شيء، وقنع منه بأدنى شيء، وصبر عليه، ورضي عنه، إذ لا بدّ له منه، فثمّ لا يطمع في سواه، ولا يرجو إلا إياه، ولا يشهد في العطاء إلا يده، ولا يرى في المنع إلا حكمته، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته، هناك حقّت عبادته وخلص توحيده فعرف الخلق من معرفة خالقه، وطلب الرزق عند معبوده ورازقه، وقام بشهادة ما قال تعالى: (إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبَادُ أَمْثَالُكُمْ) الأعراف: 194قال: (إِنَّ الَّذينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دَونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقَاً فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) العنكبوت: 17. فعندها لم يحمد خلقاً ولم يذمّه ولم يمدحه لأجل أنه منعه أو أنه أعطاه إن كان الله هو الأوّل المعطي، ولم يشكره إلا لأن مولاه مدحه وأمره بالشكر له تخلقاً بأخلاقه، واتّباعاً لسنّة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن ذمه أو مقته فلأجل مخالفته لمولاه بموافقته هواه، لأنه تعالى قد مدح المنفقين وذمّ الباخلين، والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد مفرد لا ينبغي إلا وهو الاعتراف بأن النعمة من الله عزّ وجلّ، وحسن المعاملة بها لوجه الله لاشريك له فيه، ولذلك قال: الحمد لله ربّ العالمين، أي الحمد كلّه لا يكون ولا ينبغي إلا، لأنه ربّ العالمين، وفي الخبر: الحمد رداء الرحمن عزّ وجلّ، والشكر إظهار الثناء، وأسرار الدعاء للأواسط، فهذا مشترك يدخل فيه الوالدان، وهو أيضاً مخصوص لمن هو أهل أن يشكر من الناس، حدثونا عن يوسف بن أسباط قال: قال لي الثوري: لا تشكر إلا من عرف موضع الشكر، قلت: وكيف ذاك؟ قال: إذا أوليتك معروفاً، فكنتُ به أسرّ منك، وكنتُ منك أشد استحياء فاشكر وإلا فلا، وسأل إبراهيم رجلاً من أصحابه درهمين فلم يكن معه، فأخرج فتى في مجلسه كيساً فيه مائتا درهم، فعرضه عليه فلم يقبله وقال: أو كل مَنْ بذل لنا شيئاً قبلناه منه؟ لا نقبل إلا ممن نرى نعمة الله عليه فيما أعطى أعظم من نعمته علينا فيما نأخذ، وحدثونا عن الحسن في قصة طويلة أن رجلاً بذل له جملة من المال فردّه، فلما انصرف قال له هاشم الأوقص: عجبت منك يا أبا سعيد رددت على الرجل كرامته، فانصرف حزيناً، وأنت تأخذ من مالك بن دينار ومحمد بن واسع الشيء بعد الشيء، فقال له الحسن: ويحك إن مالكاً وابن واسع ينظران إلى الله فيما نأخذ منهما، فعلينا أن نقبل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وإن هذا المسكين ينظر إلينا فيما يعطي، فرددنا عليه صلته، وعندها لاتذم أحداً ولا تبغضه لأجل أنه كان سبباً لمنعه إذ كان الله هو المانع الأوّل، وإذ له في المنع من الحكمة مثل ما له من العطاء من النعمة، ولكن نذمّه وننقصه ونبغضه إن كان استوجب ذلك من مولاه، فيكون موافقاً له، والله تعالى يشهد يده في العطاء، ويمدح المنفقين نهاية في كرمه، ويشهد في المنع والمكروه مشيئته، ويذمّ الباخلين والعاصين قدرة من حكمته وحكماً من تقديره لإظهار الأحكام وتفصيل الحلال والحرام وعود الثواب والعقاب على الأنام، فقد أظهر الأمر واستأثر بسرّ القدر فعمل المؤمن بما أمر وسلم له ما استأثر. وروى بعض العلماء عن الله تعالى: لو أن ابن آدم لم يخف غيري ماأخفته من غيري، ولو أن ابن آدم لم يرج غيري ما وكلته إلى غيري، وروى أعظم من هذا قال: وضع العبد في قبره مثل له كل شيء كان يخافه من دون الله عزّ وجلّ يفزعه في قبره إلى يوم القيامة، وقال الفضيل بن عياض: من خاف الله خاف منه كل شيء، ويقال: إن الخوف من المخلوقات عقوبة نقصان الخوف من الخالق، وإن ذلك من قلة الفقه عن الله تعالى وقد قال الله أحسن القائلين في معناه: (لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً في صُدُورِهِمْ مِنَ الله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ) الحشر: 13 فكان العبد إذا تمّ خوفه من الله تعالى، أزال ذلك الخوف خوف المخلوقين عن قلبه، وحوّل ذلك في قلوب المخلوقات فصارت هي تخافه إن لم يخفها هو، كما إذا كملت مشاهدة العبد وقام بشهادته وغيّبت تلك المشاهدة وجود الكون مع الله عزّ وجلّ فلم يرها، وقام له القيوم بنصيبه من الملك لما تفرّغ قلبه لمعاينة الملك، وقال سنيد عن يحيى بن أبي كثير: مكتوب في التوراة ملعون من ثقته مخلوق مثله، وقال سنيد: يعني أن يقول: لولا فلان هلكت، ولولا كذا ما كان كذا، ويقال: إن قول العبد لولا كذا ماكان كذا من الشرك، وقال في الخبر: إياكم ولو فإنه يفتح عمل الشيطان. وقال بعض العلماء: سوف جند من جنود إبليس، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: (فَلَمّا نَجّاهُمْ إلَى الْبِّر إذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) العنكبوت: 65 قالوا: كان الملاح فارهاً، ومثله في قوله تعالى: (ومَا يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بِالله إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يوسف106، قيل قالوا: لولا نباح الكلاب وزقاء الديكة لأخذنا السرق، وروينا عن عمر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من اعتزّ بالعبيد أذلّه الله، وقد جاء في الخبر: لو توكّلتم على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً، ولزالت بدعائكم الجبال، وقد كان عيسى عليه السلام يقول: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر والله يرزقها يوماً بيوم، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 قلتم نحن أكبر بطوناً من الطير فانظروا إلى الأنعام كيف قيّض الله لها هذا الخلق، ويقال: لا يدّخر من الدواب إلا ثلاثة: النملة والفأرة وابن آدم، وقال أبو يعقوب السوسي: المتوكّلون على الله تجري أرزاقهم بعلم الله واختياره على يد خصوص عباده بلا شغل ولا تعب، وغيرهم مكدودون مشغولون، وقال أيضاً: المتوكّل إذا رأى السبب أو ذم أو مدح فهو مّدعٍِ لا يصحّ له التوكّل، وأوّل التوكّل ترك الاختيار والمتوكّل على صحة قد رفع أذاه عن الخلق، لا يشكو ما به إليهم، ولا يذمّ أحداً منهم لأنه يرى المنع والعطاء من واحد، فقد شغله عمّا سواه، وقيل لسهل: ما أدنى التوكّل؟ قال: ترك الأماني، وأوسطه ترك الاختيار، قيل: فما أعلاه؟ قال: لا يعرفه إلا من توسّط التوكّل وترك الاختيار، أعطى فذكر كلاماً طويلاً. وقال بعض هذه الطائفة: العبيد كلّهم يأكلون أرزاقهم من المولى، ثم يفترقون في المشاهدات، فمنهم من يأكل رزقه بذلّ، ومنهم من يأكل رزقه بامتهان، ومنهم من يأكل رزقه بانتظار، ومنهم من يأكل رزقه بعزّ لا مهنة ولا انتظار ولا ذلّة، فأما الذي يأكلون أرزاقهم بذلّ، فالسؤال يشهدون أيد الخلق فيذلّون لهم، والذين يأكلون بامتهان، فالصناع يأكل أحدهم رزقه بمهنة وكره، والذين يأكلون أرزاقهم بانتظار، فالتجار ينتظر أحدهم نفاق سلعته فهو متعوب القلب معذّب بانتظاره، والذين يأكلون أرزاقهم بعزّ من غير مهنة ولا انتظار ولا ذل فالصوفية، يشهدون العزيز فيأخذون قسمهم من يده بعزة، فأمّا الذين يأكلون من أرباب السلاطين فباعوا أرواحهم فتلك قسمة خاسرة وقعوا في الذلّ الواضح. وسئل بعض العلماء عن معنى الخبر المأثور: الخلق عيال الله فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله فقال: هذا مخصوص وعيال الله خاصته، قيل: كيف؟ قال: لأن الناس أربعة أقسام: تجار وتجارة وصناع وزراعة، فمن لم يكن منهم فهو من عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لهؤلاء، وهذا كما قال: لأن الله سبحانه وتعالى أوجب الحقوق وفرض الزكاة في الأموال لهؤلاء لأنه جعل من عياله من لا تجارة له ولا صنعة فجعل معاشهم على التجّار والصنّاع، ألا ترى أن الزكاة لا تجوز على تاجر ولا صانع لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لقويّ مكتسب، فأقام الاكتساب مقام الغنيّ. وقال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقينَ) الحجر20 فكان من تدبّر الخطاب أن من ليسوا له برازقين هو من ليس له فيها معيشة في الأرض، وقال عامر بن عبد الله: قرأت ثلاث آيات من كتاب الله عزّ وجلّ استعنت بهنّ على ما أنا فيه فاستعنت قوله تعالى: (وَإنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هو وَإنْ يُرِدْكَ بَخَيْرٍ فَلا رَادَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 لِفَضْلِهِ) يونس: 107 فقلت: إن أراد أن يضرّني لم يقدر أحد أن ينفعني، وإن أعطاني لم يقدر أحد أن يمنعني، وقوله: (فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ) البقرة: 152 فاشتغلت بذكره عن ذكر من سواه، وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابِّةٍ في الأرْضِ إلاّ عَلَى الله رِزْقُهَا) هود: 6، فوالله ما اهتممت برزقي منذ قرأتها فاسترحت، وقد كان سهل بن عبد الله يقول: المتوكّل إذا رأى السبب فهو مدّع، وقال: ليس مع الإيمان أسباب، إنما الأسباب في الإسلام؛ معناه ليس في حقيقة الإيمان رؤية الأسباب والسكون إليها، إنما رؤيتها والطمع في الخلق يوجد في مقام الإسلام. ومن ذلك ما قال لقمان لابنه: للإيمان أربعة أركان: لا يصلح إلا بهنّ كما لا يصلح الجسد إلا باليدين والرجلين: التوكّل على الله، والتسليم لقضائه، والتفويض إلى الله، والرضا بقدر الله، فحال المتوكّل سكون القلب عن الاستشراف إلى العبيد والتطلّع وقطع الهمّ عن الفكرة فيما بأيديهم من التطمّع، عاكف القلب علّي المقلب المدبر، مشغول الفكر بقدرة المصرف المقدر، لا يحمله عدم الأسباب على ماحظرّه العلم عليه وذمّه، ولا يمنعه أن يقول الحق وأن يعمل به أو يوالي في الله ويعادي فيه جريان الأسباب على أيدي الخلق، فيترك الحق حياءً منهم أو طمعاً فيهم أو خشيةَ قطع المنافع المعتادة، ولا تدخله نوازل الحاجات وطوارق الفاقات في الانحطاط في أهواء الناس والميل إلى الباطل أو الصمت عن حقّ لزمه، أو يوالي في الله عدوَّاً أو يعادي ولياً، ليرب بذلك حاله عندهم، أو يشكر بذلك ما أسدوه إليه بالكفّ عنهم، ولا يرب الصنعة التي قد عرف بها لنظره إلى الصانع، ولا يتصنّع لمصنوع دخله لعلمه بسبق الصنع لدوام مشاهدته، ولا يسكن إلى عادة من خلق، ولا يثق بمعتاد من مخلوق؛ إذ قد أيقن برزقه ونفعه وضرّه من واحد، فهذه المعاني من فرض التوكّل، فإن وجدت في عبد خرج بها عن حدّ التوكّل دون فضائله وتدخّله في ضعف اليقين، وقد كان الأقوياء إذا دخل عليهم شيء من هذه الأهواء المفسدة لتوكّلهم، قطعوا تلك الاسباب، وحسموا أصولها واعتقدوا تركها، وعملوا في مفارقة الأمصار والتغرّب عن الأوطان وترك الآلاف والإيلاف، فأخرجوا ذلك من حيث دخل عليهم، ووضعوا عليه دواءه وضده من حيث تطرق إليهم، حتى ربما فارقوا ظاهر العلم وخالفوا علم أهل الظاهر إلى علوم الباطن وحكم مشاهدتهم وقيامهم بحقّ أحوالهم، إذ ليس أهل الظاهر حجة عليهم في شيء إلا وهم عليه حجة في مثله، لأن الإيمان ظاهر وباطن، والعلم محكم ومتشابه، ولأن أهل الحق أقرب إلى التوفيق وأوفق لإصابة الحقيقة، كل ذلك رعاية لصحة توكّلهم ووفاء بحسن عهدهم وعملاً بأحكام حالهم لئلا تسكن قلوبهم لغير الله، ولا تقف هممهم مع سوى الله، ولا تطمئن نفوسهم إلى غيره، ولا يتخذوا سكناً سواه، ولا يسكنوا إلى أهواء النفوس وينخدعوا لسكونها عن سكون القلب، فيسيء ذلك يقينهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 ويوهن إيمانهم الذي هو الأصل، ويستأسر قلوبهم التي هي المكان للكشف والشهادة، فيخسروا رأس المال فتفوتهم حقيقة الحال، فماذا يرتجون وبأي شيء يقومون؟ وهذا لا يفطن له إلا العاقلون ولا تشهده العيون. وقد قال بعض المقرّبين في حقيقة التوكّل لما سئل عنه فقال: هو الفرار من التوكّل يعني ترك السكون إلى المقام من التوكّل؛ أي يتوكّل ولا ينظر إلى توكّلهم إنه لأجله يكفى أو يعافى أو يوقى، فجعل نظره إلى توكله علّة في توكّله يلزمه الفرار منها حتى يدوم نظره إلى الوكيل وحده بلا خلل، ويقوم له بشهادة منه بلا ملل، فلا يكون بينه وبين الوكيل شيء ينظر إليه، أو يعوّل عليه، أو يدلّ به، حتى التوكّل أيضاً الذي هو طريقه. وكذلك قال قبله بعض العارفين في معنى قوله عزّ وجلّ: (أَمّنْ يُجِيبُ المُضْطَّرَ إذا دَعاهُ) النمل: 26، فقال: المضطّر الذي يقف بين يدي مولاه فيرفع إليه يديه بالمسألة فلا يرى بينه وبين الله حسنة يستحق بها شيئاً، فيقول: هب لي مولاي بلا شيء فتكون بضاعته عند مولاه الإفلاس، ويصير حاله مع كل الأعمال الإفلاس، فهذا هو المضطر، فهؤلاء القوم من الذين وصفهم الله عزّ وجلّ بالتقوى والمخافة، وجعلهم أهلاً للدعوة والنذارة، وأخبر أنهم لا يرون بينه وبينهم سبباً يليهم ولا شفاعة فقال تعالى يأمر رسوله بإنذارهم بكلامه فجعلهم وجهة لخلقه ومكاناً لكلمه، كما جعل رسوله وجهة لهم ومكاناً لتكليمهم، فقال تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذينَ يَخَاْفُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الانعام: 51 ثم قال تعالى في وصف أمثالنا من أهل اللعب واللهو والغرّة والسهوة متهددّاً لنا متوعداً: (وَذَرِ الَّذينَ اتَّخَذُوا دينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحيَاة الدُّنْيا) الانعام: 70 وقيل لبعض علمائنا: ماالتوكل؟ قال: التبرّي من الحول والقوّة؛ والحول أشدّ من القوّة، يعني بالحول الحركة، والقوّة الثبات على الحركة، وهو أوّل الفعل، يعني بهذا لا ينظر إلى حركتك مع المحرّك إذ هو الأول ولا إلى ثباتك أيضاً بعد الحركة في تثبيته إذ هو المثبت الآخر فتكون الأولية والآخرية حقيقة شهادتك له به أنه الأوّل الآخر بعين اليقين؛ أي فعندها صحّ توكّلك بشهادة الوكيل، وقال مرة: التوكّل ترك التدبير، وأصل كل تدبير من الرغبة، وأصل كل رغبة من طول الأمل، وطول الأمل من حبّ البقاء؛ وهذا هو الشرك يعني أنك شاركت الربوبية في وصف البقاء، وقال: الله سبحانه خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه، وإنما جعل حجابهم تدبيرهم، وقد كثر قوله رحمه الله في ترك التدبير، وينبغي أن يعرف مامعناه، ليس يعني بترك التدبير ترك التّصرّف فيما وجّه العبد فيه وأبيح له، كيف وهو يقول: من طعن على التكسّب فقد طعن على السنّة، ومن طعن في ترك التكسّب فقد طعن على التوحيد، إنما يعني بترك التدبير ترك الأماني، وقوله: لمَ كان كذا؟ إذا وقع وِلِمَ لا يكون كذا؟ أو لو كان كذا فيما لايقع، لأن ذلك اعتراض وجهل بسبق العلم، وذهاب عن نفاذ القدرة وشهادة الحكمة، وغفلة عن رؤية المشيئة وجريان الحكم بها، ويعني ترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 التدبير فيما بقي وما يأتي بعد أي لا تشتغل بالفكر فيه بعقلك وعلمك فيقطعك عن حالك في الوقت الذي هو ألزم لك وأوجب عليك حتى قطعك فيما يأتي من الأحكام. والتصريف في ترك التدبير والتقدير لها بالزيادة والنقصان، أو نقلها من وقت إلى غيره أو من عبد أي آخر، بالتقديم والتأخير، تكون في ذلك كما كنت فيما قد مضى، ألا ترى أن الإنسان لا يدبّر ما قد مضى؟ قال: فينبغي أن يكون فيما يستقبل تاركاً للتدبير له، تاركاً للأماني فيه بمعاني ما ذكرناه، كتركه إياه فيما مضى، فيستوي عنده الحالان، لأن الله أحكم الحاكمين، ولأن العبد مسلّم للأحكام والأفعال، راضٍ عن مولاه في الأقدار، مع جهله بعواقب المآل، وترك التدبير بهذه المعاني هو اليقين، واليقين هو مكان المعرفة، إذ جعل الله تعالى قلب الموقن مكاناً يمكن فيه على قدر المكان ما يليق به، وكان يقول: يا مسكين كان ولم تكن ويكون ولا تكون، فلما كنت اليوم قلت أنا وأنا كن فيما أنت الآن كما لم تكن، فإنه هو اليوم كما كان، وكان يقول أيضاً: الزهد إنما هو ترك التدبير، فهذا يعني به ترك الأسباب التي توجب التدبير، وإخراج السبب الذي يجب تدبيره لا أنه يكون مسبباً متيقناً للأسباب وهو ترك تدبيرها، لأن التدبير في هذا الموضع إنما هو التمييز والقيام بالأحكام ووضع الأشياء مواضعها، فكيف لا يكون العبد كذلك مع وجود الأشياء وهو عاقل ممّيز متعبّد بالعلم مطالب بالأحكام؟ وإنما يقول: اترك الأشياء المدبّرة وازهد في الأسباب المميّزة حتى يسقط عنك التدبير والتقدير، فيكون بتركها تاركاً للتدبير بسقوط أحكامها عنك، واستراحتك من القيام بها، والنظر فيها؛ فهذا هو تفصيل جملة قوله في ترك التدبير، وهذا هو حال المتوكّلين، والمتوكّل لا يهتمّ بما قد كفي كما لا يهتمّ الصحيح بالدواء إذا عوفي، ولكن قد يحتمي قبل النزال كما يحتمي المعافى قبل ورود العلل. قال الله سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى الله رِزْقُِهَا) هود: 6 (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) العنكبوت: 60 فالمتوكل قد علم بيقينه، إذ كل ما يناله من العطاء من ذرّة فما فوقها، أن ذلك رزقه من خالقه، وأن رزقه هو له وأن ما له واصل إليه لامحالة على أيّ حال كان، وإن ما له لا يكون لغيره أبداً، وكذلك ما لغيره من القسم والعطاء لا يكون لهذا أبداً، فقد نظر إلى قسمه ونصيبه من مولاه بعين يقينه الذي به تولاّه من إحدى ثلاث مشاهدات، وإن دنت مشاهدته نظر إلى قسمه من العطاء في الصحيفة التي كتبت له عند تصوير خلقه، فكتب فيها رزقه وأجله وأثره، وشقيّ أو سعيد، فكما لايقدر أحد من الخلق أن يجعله سعيداً إن كان قسمه شقيّاً، فلا يقدر أحد أن يجعله شقيّاً إن كان قسمه سعيداً، كذلك لا يقدر أحد أن يمنعه ما أعطاه مولاه من القسم، فيجعله محروماً، ولا يعطيه ما منعه من الحكم فيجعله مرزوقاً، لأن ذلك قد كتب كتباً واحداً وجعل مجعلاً سواء، فإن ارتفعت مشاهدته نظر إلى هذا في اللوح المحفوظ مفروغاً له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 منه، وهو أم الكتاب الذي استنسخ منه هذه الصحيفة، فكان يقينه يكتب رزقه في اللوح، وأنه لا يزاد فيه بحول ولا حيلة ولا ينقص منه لعجز ولا سكينة، كيقينه بما كتب فيه من أنه من أهل الجنة فهو داخلها لامحالة، وإن عمل أي عمل بعد أن يكون قد كتب اسمه في اللوح وجعل له فيها أثر كقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِْثُهَا عِبَاديَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء: 105 فقد كتبت الآثار والأرزاق من كل شيء كتباً واحداً في ثلاث مواضع، توكيداً للعلم وتسكيناً للقلب في القسم، كتب ذلك في الذّكر الأول وهو اللوح المحفوظ ثم في الزبر الأولى وهي الصحف، ثم أنزل ذلك في كتابنا هذا الذي به عرفنا ما سلف من ذلك، وإن علت مشاهدة كل عبد عن مقامه ومن معبوده ومن مكانه في دنوّه وعلوّه يشهد هذا الذي ذكرناه معلوماً في علم الله تعالى قبل خلق اللوح، فسكن قلبه واطمأن إلى علم الله سبحانه وتعالى وما سبق له منه، ولهذا جاء في الأثر أن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن يكون ثواب المصيبة أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك، أي فيقلّ حرصك لنفاذ شهادتك ويذهب في الخلق طمعك؛ فهذا هو الرضا والزهد، فقد جمع التوكّل المقامين معاً، فما في يد الله سبحانه وتعالى هو رزقك الواصل إليك، لا شكّ فيه على أي حال، وهو الذي لك عند الله، وهو معلوم علم الله تعالى الذي لا ينقلب، وذلك أحد ثلاثة أشياء: ماأكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، فهذا هو الذي لك في الدنيا والآخرة. ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول ابن آدم مالي تعجّب من جهل ابن آدم وغفلته، ثم قال: إنما لك من مالك، فذكر هذه الثلاث واشترط مع كل واحدة آخر غايتها فقال: ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، فاشترط الإفناء والإبلاء والإمضاء، ثم قال بعد ذلك: وما سوى ذلك فهو مال الوارث، فهذه الثلاث على هذه الأوصاف هي رزق العبد، وهي التي في يد الله عزّ وجلّ له، الواصلة إليه، فأما ما جعله في يد العبد فقد لا لايكون له، وإنما هو مستودع إياه ومستخلف فيه، وإن تملّكه وحازه خمسين سنة وإنما للعبد ما فرغ منه العبد وهو الذي فرغ له منه لما سبق له به، فإن تملّك سوى هذا وادّعاه لأجل أنه في خزانته، أو قبض يده فذلك لجهله بالله تعالى وقلة فقهه عن الله سبحانه وغفلته عن حكمة الله تعالى في أرضه، يودعها من يشاء إلى الوقت الذي يشاء، حتى يستقرّ إلى كيف يشاء، فقد قال تعالى: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَودَعٌ) الأنعام: 98 وقال: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) الأنعام: 67 وقال سبحانه: (وَخَزَائِنُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) الأنعام: 7 وهكذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 روينا عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وإن لكل عبد رزقاً هو آتيه لا محالة، فمن قنع به ورضي بورك له فيه، ومن لم يقنع به ولم يرضَ لم يبارك له فيه ولم يسعه. ويقال: لو هرب العبد من رزقه كما لو هرب من الموت لأدركه، وفي وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الخلائق لو جهدوا أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا على ذلك، ولو جهدوا أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله سبحانه لك لم يقدروا على ذلك، طويت الصحف وجفّت الأقلام، فمن كانت هذه مشاهدته في القسم المعلوم سقط عنه جملة من الهموم واستراح من النظر إلى الخلق واستراح الخلق، ومن أذاه، وشغل عنهم بخدمة مولاه، وكان قد فهم شيئاً من الخطاب، وممّن أقبل على الله الكريم بصالح ما دعاه إليه واستجاب، كما روي أن رجلاً لزم باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كل غداة فشهد عمر منه مجيئه لأجل الطلب فقال له: ياهذا هاجرت إلى عمر، أو إلى الله، إذهب فتعلّم القرآن، فإنه سيغنيك عن باب عمر، فذهب الرجل فغاب زماناً حتى افتقده عمر، فسأل عنه فدلّ عليه فأتاه، فإذا هو قد اعتزل الناس وأقبل على العبادة فقال له عمر رضي الله عنه: إني قد افتقدتك حتى اشتقت إليك، فما الذي شغلك عنا؟ فقال: إني قد قرأت القرآن فأغناني عن عمر وعن آل عمر، فقال له عمر: رحمك الله فما الذي وجدت فيه؟ فقال: وجدت فيه وفي السماء رزقكم وما توعدون فقلت: رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فبكى عمر، وكانت موعظة له منه، فكان عمر بعد ذلك يشابه في الأحايين فيجلس إليه ويستمع منه. وجاء رجل إلى بشر بن الحارث فقال: إني قد عزمت على سفر إلى الشام وليس عندي زاد فما ترى؟ فقال: ياهذا أخرج فيما قصدت له، فإن لم يعطك ما ليس لك لم يمنعك ما لك، وشكا رجل إلى فضيل حاله فقال ياهذا مدبّر غير الله تريد؟ وكان الحسن يقول: التوكّل هو الرضا، وفي تفسير قوله عزّ وجلّ: (وَقَدَّرَ فيهَا أَقْوَاتَهَا) فصلت: 10 قال: خلق الأرزاق قبل الأجسام بألفي عام فالمتوكّل لا يطالب مولاه برزق غد كما لا يطالبه مولاه بعمل غد، فأما المتوكّل في المضمون من الرزق المعلوم من القسم فهو توكّل العموم يستحي الخصوص من ذكره، ويتكرمون عن نشره إذا كان الله تعالى قد أقسم بنفسه أن الرزق في السماء حقّ، كما أقسم بنفسه أن كلامه حق، فجمع بينهما في الحقيقة بالقسم بالذات دون سائر الأفعال لتسكن بذلك نفوس الخليقة عن النظر إلى الأدوات، ليرتفع الشكّ فيهما ويحصل اليقين بحقيقتهما، فقال سبحانه: (فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الذاريات: 23 كما قال تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ) يونس: 53 وليس في القرآن قسم بالذات فيما سبرناه إلا خمسة: القسم الذي في سورة النساء على تسليم الأحكام (فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) النساء: 65 الآية، وفي سورة التغابن على بعث الكافرين وأبنائهم (زَعَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَن لَنْ يِبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبّي لَتُبْعَثُنَّ) التغابن: 7 وفي سورة المعارج من (سَأَلَ سَائِلٌ) المعارج: 1 في تبديل الخلق خلقاًِ خيراً منهم (فَلاَ أُقسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) المعارج: 40 إلى قوله: (بِمَسْبُوقِينَ) المعارج: 41 وهذان القسمان المتقدمان وسائر الأقسام بالأفعال، ولأن العبد قد وكل برزقه من يقوم له به من الخلق، فإن لم يرزق من كسبه وعن يده رزق من كسب غيره ويده، ولكن شغل الخصوص بأعمال الآخرة، وما يفوتهم من القربات إلى الله عزّ وجلّ، وبالخدمة للمولى الذي وكلّ إليهم، فإن لم يقوموا به لم يقم به غيرهم لهم، ولم ينب غيره من الدنيا منابه، لقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إلاَ مَا سَعى) النجم: 93، وقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ) (لِسَعْيهَا رَاضِيَةٌ) الغاشية: 8 - 9 ولقوله تعالى: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) الأعلى: 71، وقوله تعالى: (وَالله يُريدُ الآخِرَةَ) الانفال: 76 ولقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُريدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ) الشورى:، 2، ولم يقل هذا في أرزاق الدنيا، ومعنى الزيادة أن لا يحاسبه على مايعطيه من الدنيا إذ لا زيادة في القسم. وقد قيل: إن الله تعالى يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا، وهذا لعلوّ الآخرة ودناءة الدنيا، وكان عليّ رضي الله عنه يقول: إلا أن حرث الدنيا المال، وحرث الآخرة العمل الصالح، وقد قيل: إن الزيادة في الآخرة رفعة الدرجات لمن كانت نيّته وقصده ولها يعمل، فشغل الخصوص بما وكلّ إليهم وبما لا يعمله غيرهم لهم عمّا تكفّل به لهم، فأقيم غيرهم فيه مقامهم وناب أيضاً عنه مثله من أسباب دنياهم، كما روي في أخبار داود عليه السلام: إني خلقت محمداً لأجلي، وخلق آدم لأجل محمد، وخلقت ما خلقت لأجل آدم، فمن اشتغل منهم بما خلقته لأجله حجبته عني، ومن اشتغل منهم بي سقت إليه ماخلقته لأجله، وتوكّل الخصوص أيضاً في الصبر على الأذى من القول والفعل، إذ كان أمر بذلك الرسول في قوله تعالى: (فَاتَّخَذَهُ وَكيلاًِ) (وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ) المزمل: 9 - 1 مع قول الرسل عليهم السلام: ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون، وكذلك أمر نبيّه عليه السلام لما قال تعالى: (أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الأنعام: 90 فأمره باتباعهم وقال: (ودع أذاهم وتوكّل على الله) إلى قوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَهُمْ) الاحقاف35. وقال بعض العارفين: لا يثبت لأحد مقام في التوكّل حتى يستوي عنده المدح والذم من الخلق فيسقطان، وحتى يؤذى فيصبر على الأذى، يستخرج بذلك منه رفع السكون إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 الخلق، والنظر إلى علم الخالق الذي سبق، ثم التوكّل في الصبر على حسن المعاملة، وترك الطلب للمعارضة حياء من الله وإجلالاً له وتخوّفاً منه وحبَّاًِ له، فقد وصفهم بذلك ظاهراً وباطناً، فالظاهر قوله تعالى: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلينَ) (الذَّينَ صَبَرُوا وَعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) العنكبوت: 58 - 59، فلما علموا صبروا على علمهم، ثم توكّلوا عليه في جميع ذلك، فأنعم أجرهم وأجزل ذخرهم، والباطن فيما أخبر عنهم إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً فقطعهم الخوف عن الطلب، ففي قوله: منكم، وجه حسن غريب، وهو باطن الآية قد يكون بمعنى لا نريد بدلاً منكم، كقوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ) الزخرف: 60 ليس أنه جعل من البشر ومنكم ملائكة، ولكن المعنى بدلاً، هذا أحد الوجهين في الآية وهو أعلاهما، والوجه الظاهر أن يكون الكاف والميم أسماء المطعمين أي لا نريد من عندكم جزاء أي مكافأة ولا شكوراً أي حسن ثناء، فلما لم يطلبوا العوض من أجلهم ولا المكافأة من عندهم وقالوا: إنّا نخاف من ربّنا، جزاهم أفضل الجزء، وأحسن لهم غاية العطاء فقال تعالى: (وَسَقَاْهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاْباً طَهُوراً) (إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) الدهر: 21 - 22، إذ لم يطلبوا جزاءً ولا شكوراً جعل جزاءهم شراباً طهوراً، وجعل سعيهم لديه مشكوراً، ثم التوكّل عليه في تسليم الحكم والرضا به، ومنه قول يعقوب عليه السلام حين سلم الحكم توكلاً على الوكيل الحاكم: إن الحكم إلا للهِ، عليه توكّلت، لأن العبد إذا كان مريد المراد نفسه من الأشياء قد لا يوجد في كل شيء إرادته، ثم هو على يقين من إرادة مولاه لكلّ شيء، وأن كل شيء مراد لوكيله فينبغي أن يريد ما يريد مولاه إذا لم يتفق له مايريد بل ينبغي أن يكون مراد مولاه أحبّ إليه وأبر عنده لأن ما أراده مولاه مما لاعقوبة على العبد فيه، ولا مسخطة لمولاه فإنه محبوب لله مختار له، فلتكن محبة الله عزّ وجلّ مقدمة لديه على محبته هو واختياره، إذ لله عاقبة الأمور وقد شرّف المتقين ونزّههم عن أمور العاجلة الدنية بقوله عزّ وجلّ: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ) القصص: 83، وكما روي في أخبار موسى عليه السلام إذا لم يكن ما تريد فرد ما يكون، فإن أبيت إلا ما تريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد. وروي عن الحسن: وددت أن أهل البصرة في عيالي وأن حبة بدينار، وهذا من نهاية التوكّل، وليس ذلك إلا في تسليم الأحكام والرضا بها كيف جرت بهم، لأن هذا كلام قد جاوز المعقول، وقد كان وهيب بن الورد المكي يقول: لو كانت السماء نحاساً، والأرض رصاصاً، ثم اهتممت برزقي لظننت أني مشرك، ويقال: من اهتمّ برزق غد وعنده اليوم قوت غد فهي خطيئة تكتب عليه، وقال سفيان: الصائم إذا اهتم في أوّل النهار بعشائه كتب عليه خطيئة، وكان سهل يقول: إن ذلك ينقص من صومه، وقال أعرف في البصرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 مقبرة عظيمة يغدو على موتاهم برزقهم من الجنة بكرة وعشية يرون منازلهم من الجنان وعليهم من الغموم والكروب ما لو قسم على أهل البصرة لماتوا أجمعين، قيل: ولِمَ؟ قال: كانوا إذا تغدوا قالوا بأي شيء نتعشى؟ وإذا تعشوا قالوا بأي شيء نتغدى؟ وقال مرة أخرى: لم يكن لهم من التوكّل نصيب، وهذه المقامات من فضائل التوكّل وفوقها ما لا يصلح رسمه في كتاب من مكاشفات الصدّيقين ومشاهدات العارفين، منها أنه أعطاهم كن بإطلاعه إياهم على الاسم فزهدوا في كون كن لأجل كان، توكلاً عليه وحياءً منه أن يعارضوه في قدرته، ويرغبوا عن تقديره، أو يضاهوه في تكوينه، لأن تدبيره عندهم أحكم وأيقن، وهم بالعواقب أعلم، وأخبروهم له أشد إجلالاً وإعظاماً مما نقدر نحن ونعلم، فأما التوكّل عليه في القوت فإنه عندهم فرض التوكّل يستحيون من ذكره مع الوكيل، وكذلك التوكّل عليه في تسليم الأقدار حلوها ومرّها خيرها وشرها من الله حكمة وعدلاً، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس، وكما قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وكذلك قال الله عزّ وجلّ: (وَكُلُّ صغَيرٍ وَكَبير مُسْتَطَرٌ) القمر: 53، فالعلم بهذه الأشياء، وطمأنينة القلب بها، وسكينة العقل عند ورودها، وأن لا يضطرب بالرأي والمعقول، ولا ينازع بالتشبيه والتمثيل، فإن هذا عندهم من فرائض الإيمان، لا يصحّ إيمان عبد حتى يسلم ذلك كله، وليس هذا من التوكّل في شيء، ومنه قول ابن عباس: القدر نظام التوحيد فمن وحِد الله وكذّب بالقدر كان تكذيبه بالقدر نقصاً لتوحيده، فجعل الإيبمان بالأقدار كلّها أنها من الله مشيئة وحكماً بمنزلة الخيط الذي ينتظم عليه الحبّ، وأن التوحيد منتظم فيه، يقول: إذا انقطع الخيط سقط الحبّ، قال: كذلك إذا كذب بالقدر ذهب الإيمان، فالتوكلّ فرض وفضل، ففرضه منوط بالإيمان وهو تسليم الأقدار كلّها للقادر واعتقاد أن جميعها قضاؤه وقدره، ألم ترَ إلى ربك كيف أقسم بنفسه في نفي الإيمان عمّن لم يحكّم الرسول فيما اختلف عليه من حاله فقال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنَونَ حَتى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسِلِّمُوا تَسلْيماً) النساء: 65، فكيف بالحاكم الأوّل والقاضي الأجلّ؟ فأما فضل التوكّل فإنه يكون عن مشاهدة الوكيل فإنه في مقام المعرفة ينظر عين اليقين، كما قال العبد الصالح: فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون، فظهرت منه قوّة عظيمة بقوي، وأخبر عن عزيز بعزّ فكأنه قيل: ولمَ ذاك وأنت بشر مثلنا ضعيف؟ فقال: إني توكّلت على الله ربي وربكم، فكأنه سئل عن تفسير توكّله كيف سببه فأخبر بمشاهدة يد الوكيل آخذة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 بنواصي دواب الأرض، فقال: ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ثم أخبر عن عدله في ذلك وقيام حكمته، وإنه وإن كان آخذاً بنواصي العباد في الخير والشر والنفع والضرّ، فإن ذلك مستقيم في عدله، فقال: إن ربي على صراط مستقيم، وقال تعالى في فرض التوكل: (وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنيَن) المائدة: 23، وقال تعالى في مثله: (إنْ كُنْتمْ آمَنْتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَْلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمينَ) يونس: 84، وقال تعالى في فضله: (وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم: 12، وقال تعالى: (إنَّ الله يُحبُّ الْمُتَوَكلِّينَ) آل عمران: 159. ذكر إثبات الأسباب والأواسط لمعاني الحكمة ونفي أنها تحكم وتجعل لثبوت الحكم والقدرة: اعلم أن الله عزّ وجلّ ذو قدرة وحكمة، فأظهر أشياء عن وصف القدرة، وأجرى أشياء عن معاني الحكمة، فلا يسقط المتوكّل ما أثبت من حكمته لأجل ما شهد هو من قدرته من قبل أن الله تعالى حكيم، فالحكمة صفته، ولا يثبت المتوكّل الأشياء حاكمة جاعلة نافعة ضارة، فيشرك في توحيده من قبل أن الله قادر والقدرة صفته، وأنه حاكم جاعل ضارّ نافع، لا شريك له في أسمائه، ولا ظهير له في أحكامه، كما قال عزّ وجلّ: (إن الحكم إلا لله) يوسف: 40 وقوله: (وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً) الكهف: 26، وكما قال تعالى: (وَمَا لَهُمْ فيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ منهم منْ ظَهيرٍ) سبأ: 22 الظهير المعين على الشيء، فالمتوكل مع مشاهدته قدرة الله على الأشياء وأنه منفرد بالتقدير والتدبير قائم بالملك والمملوك هو أيضاً عالم بوجوه الحكمة في التصريف والتقليب بإظهار الأسباب الأواسط لإظهار الأشخاص والأشباح لإيقاع الأحكام على المحكوم وعود الثواب والعقاب على المرسوم، من حيث كان المتوكل قائماً بأحكام الشريعة ملتزماً لمطالبات العلم مع تسليمه الحكم الأوّل لله، واعترافه أن كلاً بقدر الله إذ سمع الله تعالى يقول: لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون، وأن الله تعالى في جميع ما أظهر أخفى قدرته في حكمه فظهرت حكمته في الأشياء لعود الأحكام على المظهرين لها، وبطنت قدرته في الأشياء لرجوع الأمر كله إليه ولإتقان الصنعة الظاهرة لصنع الباطن. فلذلك قال عزّ وجلّ: (صُنْعَ الله الَّذي أَتْقَنْ كُلَّ شَيء) النمل: 88، أي صنعه الباطن أتقن صنعه الظاهر، ثم قال تعالى: (وَإلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ) هود: 123، من الظاهر والباطن فاعبده وتوكّل عليه في جميع ذلك، فللعارف المتوكّل من الصنع الباطن شهادة هو قائم بها، وله في الحكمة الظاهرة علم شرع وتسليم اسم ورسم هو عامل به، وهذا هو شهادة التوحيد في عبادة التفضيل، وهو مقام العلماء الربانيين، وكل مؤمن بالله متوكّل على اللَّه، ولكن توكّل كل عبد على قدر يقينه، فتوكّل الخصوص ما قدمناه من ذكر المشاهدة ومعاني الرضا، وتوكّل العموم ما عقبناه من الإيمان بالأقدار خيرها وشرها، وقد أخبر الله تعالى أنه هو الرزاق، كما هو الخالق، كما هو المحيي المميت، فقرن بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 هذه الأربع في قرن واحد مع ترتيب الحكمة والقدرة، فكيف يختلف حكمها أو يتبعّض وصفها لظهور الأسباب ووجود الأواسط. فقال سبحانه وتعالى: (الله الَّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ) الروم: 4،، فكما ليس في الثلاث الأخر جاعل ومظهر إلا الواحد، فكذا ليس في الرابعة من الرزق إلا هو، ألا ترى أنك لا تقول: خلقني أبي وإن كان هو سبب خلقك؟ ولا تقول أحياني وأماتني فلان وإن كان أواسط في الإحياء والقتل، لأن هذا شرك ظاهر اشتهر قبحه فترك؟ ولذلك قال الله تعالى: (أَفرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ) (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخَالِقُونَ) الواقعة: 58 - 59، وكذلك قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) (أأَنْتُمْ تَزْرَعُوَنهُ أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) الواقعة: 63 - 64، فأضاف الإمناء والحرث إلينا، لأنها أعمال ونحن عبيد عمال، ولأنها صفاتنا وأحكامها عائدة علينا، وأضاف الخلق والزرع إليه لأنها آيات عن قدرته، وحكمته واللَّه هو القادر الحكيم، وكذلك كل ما ذكر في الكتاب من الأعمال والاكتساب أضيف إلى الجوارح المجترحة، ونسب إلى الأدوات المكتسبة، وما كان من القدرة والإرادة وصف نفسه به، لأنه المريد الأوّل والقادر الأعلى، فافهم عن الله خطابه كيلا يزيغ قلبك فيما تشابه، ثم قد يقول العبد أعطاني ومنعني فلان لأن هذا شرك خفي، ولأن الأسباب تظهر على أىديهم، وتجري بأواسطهم، فحجبوا بها عن المسبّب واستتر عنهم المعطي المانع، فقبح هذا أيضاً عند الموقنين كقبح ذاك، لأن الله تعالى نفى الرزق عن سواه كما نفى الخلق، فقال تعالى: (هَلْ مِنْ خَاِلقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ) فاطر: 3، ولم يرد اللفظ على اللفظ وإن حسن فيقول: يخلقكم لأنه أراد سبحانه أن يفيدنا فضل بيان ويعلمنا اقتران الرزق بالخلقة، وأنهما مسببان عن القدرة، فالمتوكّل قد أيقن أنه لم يكن على الله أن يخلقه، فلما خلقه كان عليه أن يرزقه، وهكذا روي عن الله تعالى: أأخلق خلقاً ولا أرزقه؟ وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ردًّا عليهم حين قالوا: جدي في كذا وجدي في كذا، يعنون صنوف الأسباب، فنفى ذلك بقوله هذا في صلاته وأسمعهم إياه خشية دخول الشرك عليهم، أي جد العبد لا ينفعه منك شيئاً فهذا كما قال الله تعالى: (إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيْئاً) النجم: 28. قال بعض العلماء في معنى ذلك: من جدّ في الطلب وحرص وجد منك المنع لم ينفعه جده في طلبه وحرصه شيئاً، وقال أيضاً في معنى قول الله عزّ وجلّ: (وَيَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ) الرعد: 39، قال: يمحو الأسباب من قلوب العارفين ويثبت القدرة ويمحو المشاهدة من قلوب الغافلين ويثبت الأسباب في صدورهم، وقال هذا أيضاً: خلق الله النفس متحركة ثم أمرها بالسكون، وهذا هو الابتلاء، فإن تداركها بالعصمة سكنت وهذا خصوص، وإن تركها تحرّكت بطبعها وجبلتها وهذا هو الخذلان، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني اردد رغبتك إلى الله إن شاء أعطاك وإن شاء منعك، فإن حيلتك لن تزيديك ولن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 تنقصك من قسمة الله التي قسم لك، واعتبر رزقك بخلقك، فإن استطعت أن تزيد في خلقك بحيلتك فإنك إذاً تزيد في رزقك، وإلافاعلم أن الله هو الذي عدل الخلق وقسم الرزق، فلن تستطيع أن تزيد في أحد منها، فإن منهم المحتال الجلد البطوش ولا يزداد إلا فقراً، ومنهم المعيي الواهن المهين ولا يزداد ماله إلا كثرة، ولو كان من الحيلة لسبق القوي الضعيف إلى كل شيء، ولكن الله يخلق ويرزق ولا يملك العباد من ذلك شيئاً، وهكذا حكى أن بعض الأكاسرة سأل حكيماً في زمانه فقال: ما بالي أرى العاقل محروماً والأحمق مرزوقاً؟ فقال: أراد الصانع أن يدل على نفسه، ولو كان كل عاقل مرزوقاً، وكل أحمق محروماً، لوقع في العقول، إن العاقل يرزق نفسه والأحمق حرم نفسه فلما رأوا الأمر بخلاف هذا علموا أن الصانع هو الرازق. وروينا عن ابن مسعود في إعطاء هذا المال فتنة، وفي منعه فتنة، إن أعطيه عبد مدح غير الذي أعطاه، وإن منعه عبد ذم غير الذي منعه، وقد روينا معناه في حديث مطرف عن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب فقال: ألا إن في إعطاء هذا المال فتنة،، وفي منعه فتنة، يغدو الرجل إلى ابن عمه فيسأله الحاجة التي قد كتبها الله له فلا يملك منعه فيعطيه ما كتب له فيظل يشكره ويثني عليه بها خيراً، ثم يعود إليه العام المقبل فيسأله الحاجة التي لم يكتبها الله له فلا يملك أن يعطيه كما لم يعطه في العام الأول أن يمنعه فيمنعه ما لم يكتب له، فيرجع فيحتقبها عليه ذنباً، ويثني عليه بها شرَّا، إلا أن في إعطاء هذا المال فتنة وفي منعه فتنة، واللفظ للخبر ولم آل يعني بالفتنة الاختبار وصدق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختبر بذلك الموقنون للخير والغافلون لينظر كيف يعملون، فأما أهل اليقين فيعتبرون بالأسباب ويعجبون من التسبب فيزدادون بذلك هدى وإيماناً لشهودهم المعطي المانع واحداً في العطاء والمنع، ولمعرفتهم بجريان الحكمة فيما جادت به الشريعة ثبت لهم مقامان: الشكر له والصبر عليه، وأما الغافلون فيضطربون لذلك ويثبتون بنظرهم إلى الأسباب والأيدي، فيمدحون المعطين ويذمون المانعين عندهم فينقصون ذلك، فقد صار المال فتنة للفريقين يكشف إيمانهم وتمتحن للتقوى قلوبهم، وكذلك جاء في الخبر: إن العبد ليهمّ من الليل بالأمر من أمور الدنيا من التجارة وغيرها الذي لو فعله كان فيه هلكته، فينظر الله إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه فيصبح كئيباً حزيناً يتطير بجاره وبابن عمه من سبقني من دهاني وما هو إلا رحمة رحمه الله بها، وعن ابن مسعود أنه قال: من الإخلاص أن لا تحبّ أن يحمدك الناس على عبادة اللَّه وأن لا تمدحهم على ما رزقك الله. وقد روينا عن عيسى عليه السلام وعن ابن مسعود وغيره: أن من اليقين أن لا تحمد أحداً على ما أعطاك الله ولا تذمه على ما لم يؤتك الله، وقال: الصبر نصف الإيمان والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، وفي حديث الإفك الذي رواه معمر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 أبان عن حمدان الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فقام إلّي أبواي فقبلاني في صدورهما فقلت بغير حمدكما ولا حمد صاحبكما، أحمد الله تعالى الذي عززني وبرأني، وفي حديث غيره فقال لها أبو بكر: قومي فقبّلي رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: والله لا أفعل ولا أحمد إلا الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعها يا أبا بكر، فهذه المعاني التي قدمناها تكون من ضعف اليقين، ونقصان المعرفة، فإذا انطوت في سرّ العبد وخلده وكثرت من قوله وفعله أذهبت حقيقة الإيمان، كما قال عبد وأن العبد ليخرج من منزله ومعه إيمانه فيرجع إلى منزله وليس معه من إيمانه شيء يلقى الرجل لا يملك له ضرَّا ولا نفعاً، فيقول إنك لذيت وذيت، ويلقى الآخر كذلك حتى يرجع إلى منزله، ولعله لم يخل منه بشيء وقد أسخط الله عليه. وسئل بعض علمائنا عن معنى الخبر المنقول من التوراة: من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه، فقال: لأن الإيمان عقد وفعل وقول، فإذا تواضع للغني لأجل دنياه بالثناء والحركة إليه، ذهب ثلثا إيمانه وبقي الثلث وهو العقد، فإن جعلت الأواسط في الرزق أوائل في الجعل لثبوتها فإن الله تعالى قد أظهرها أسباباً وأثبت نفسه فيها فقال تعالى: (قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذي وُكَّلَ بِكُمْ) السجدة: 11، ثم رفعه وأظهر نفسه فقال تعالى: (اللَّه يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حينَ مَوْتِهَا) الزمر: 42، وكذلك قال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) الواقعة: 63، فذكر الأواسط ثم قال: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبَّا) (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرََْضَ شَقًّا) عبس 25 - 26، وقال في التفصيل: (فَأَرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنَا) مريم: 17، ثم قال تعالى في التوحيد: (فَنَفَخْنَا فيهَا مِنْ رُوحِنَا) الانبياء: 91، وكان النافخ جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: (فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ) القيامة: 18. قال أهل التفسير: فإذا قرأه عليك جبريل فخذه عنه بعد قوله تعالى: (لاَتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) القيامة: 16 وكذلك قال جبريل: لأهب لك غلاماً ذكياً لأن الله تعالى وهب له أن يهب لها، فذكر نفسه وهو يشهد ربه ثم قال في الحرف الآخر: ليهب لك يعني الله تعالى، ومثله قول موسى عليه السلام: لا أملك إلا نفسي وأخي لأجل أن الله تعالى قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ) مريم: 53، وهو في الحقيقة لا يملك نفسه ولا آخاه إذ لا مالك أصلاً إلا الله عزّ وجلّ، وهذا على أحد الوجهين إذا كان وأخي في موضع نصب والوجه الآخر أن يكون قوله وأخي في موضع رفع فيكون المعنى وأخي أيضاً لا يملك إلا نفسه وكذلك قال سبحانه في التفصيل والأمر: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ) التوبة: 5، وقال في مثله من ذكر واسطة الأمر: (قَاِتلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بأَيْديكمْ) التوبة: 14 ثم قال في التوحيد: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ الله قَتَلَهُمْ) الأنفال: 71، وقال في إثبات الأسباب ورفع حقائقها: (وَمَا رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ ولَكِنَ اللهَ رَمَى) الأنفال: 17، وقال تعالى في ذكر الأواسط: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمُ ولاَ أَوْلاَدُهُمْ إنَّمَا يُريدُ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 لِيْعَذّبَهُمْ بهَا) التوبة: 55، وقال في مثله: (الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) العلق: 4، ثم قال تعالى: (الرَّحْمنُ) (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الرحمن: 1 - 2 وقال تعالى: (عَلَّمَهُ الَبَيانَ) الرحمن: 4، ثم قال: إن علينا بيانه، وقال في تثبيت الأملاك وبيعها منه بالأعواض كرماً منه وفضلاً: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، فجاز ذلك لما ملكهم ما له كقوله تعالى: (إلاَّ مَا مَلَكَتْ أيمانكم) النساء: 24، وعند أهل المعرفة أن لا فاعل حقيقة إلا الله عزّ وجلّ، لأن حقيقة الفاعل هو الذي لا يستعين بغيره بآلة ولا سبب، وعندهم إن فعلاً لا يتأتى من فاعلين وإلا كان شركا، لأن الفاعل الثاني المظهر الذي فعل بيده وأجرى الفعل بواسطته هو ثان ومحدث، والأوّل القديم هو الفاعل الأصلي، كما أن عندهم أن حقيقة المالك هو خالق الشيء، ومن جعل في يده فهو مملك، لأنه لم يخلق مابيده كما المجري على يده الفعل مفعول، لأن الله تعالى هو الأول القيوم بنفسه لا يستعين بغيره، وقد جعل الله أيضاً بحكمته وعزته للخلقة والحياة واسطة وهوملك الأرحام، في الخبر أنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده ثم يصوّرها جسداً فيقول يا رب أذكر أم أنثى؟ أسويّ أم معوج؟ فيقول الله ما شاء ويصوّر الملك، وفي لفظ آخر: يخلق الملك ثم ينفخ فيها الروح بالشقاوة أو بالسعادة، ويقال: إن الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجساد، ويقال: إنه يتنفس بوصفه، فيكون كلّ نفس من أنفاسه روحاً يلج في جسم، ولذلك سمّي الروح. وقد قال الله تعالى في وصف نفسه: (الْبَارئ الْمُصَوِّرُ) الحشر: 24، كما قال الخالق، وقال تعالى: (خَلَقَ الْموْتَ وَالْحَياة) الملك: 2، وقد جعل للإحياء واسطة كما جعل للموت وهو إسرافيل صاحب الصور ينفخ في النفخة الثانية فيحيا كل ميت ثم يرفعه الله تعالى، فقال: يوم ينفخ في الصور، ووصف نفسه بأنه المحيي المميت، وفي بعض الأخبار أن ملك الموت وملك الحياة تناظرا، فقال ملك الموت: أنا أميت الأحياء، وقال ملك الحياة: أنا أحيي كل ميت، فأوحى الله إليهما كونا على عملكما وما سخرتما له من الصنع، فأنا المميت وأنا المحيي ولا مميت ولا محيي سواي، وكذلك أيضاً قيل عن الله تعالى: أنا الدليل على نفسي ولا دليل عليّ أدل مني، ولم يمنع وجود هذه الأواسط أن يكون الله سبحانه هو الأول في كل شيء، وهو الفاعل لكل شيء، وحده لا شريك له في شيء، ولم يقل أحد من المسلمين: الملك خلقني ولا عزرائيل أماتني ولا إسرافيل قد أحياني كذلك، أيضاً لا يصلح أن يقول الموقن المشاهد للتوحيد، فلان أعطاني أو منعني، كما لا يقول فلان رزقني ولا فلان قدر عليّ، وإن جعل واسطة في ذلك وأجرى على يديه ذلك لأن العطاء هوالرزق والمنع هو القدر، ولا كان عندهم شركاء في أسماء الله غيره إذ كان الله هو المعطي المانع الضار النافع كما هو المحيي المميت، لا شريك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 له في ملكه ولا ظهير له من عباده في خلقه ورزقه، وهذا عندهم يقدح في حقيقة التوحيد للعبد وهو من الشرك الخفي الذي جاء في الأثر: الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل في الليلة المظلمة. وقال بعضهم في معنى قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إلاّ وَهُمْ مُشركُون) يوسف: 106 قال مؤمن بالإقرار: إن الله هو المقدّر المدبّر، ومشرك في الاعتماد على الأسباب وردّ الأفعال إليها، ومن الإخلاص عند المخلصين بلا إله إلا الله، ولامعطي ولا مانع إلا الله ولا هادي ولا مضلّ إلا الله، كما لا إله إلا الله، هذا عندهم في قرن واحد ومشاهدة واحدة، وهو أوّل التوحيد، وإن كان قد جعل هادين ومضلين ومعطين ومانعين ولكن بعد إذنه ومن بعد مشيئته وحكمه، كما قال تعالى: (أَحْسَنُ الْخَاِلقينَ) المؤمنون: 14 (خَيْرُ الرَّازِقينَ) المؤمنون: 72، لأنه خلقهم وخلق خلقهم ورزقهم ورزق رزقهم، وكذلك هو هداهم وهدى بهم، وأضلهم وأضلّ بهم، فعن هدايته هدوا به، وعن إضلاله ضلّوا بعد إرادته، كما عن خلقه خلقوا، ومن رزقه رزقوا، وكيف وقد فسر ماذكرناه بقوله: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني وبقوله تعالى: (لَوْ هَدانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ) إبراهيم: 21، وقال في مثله: (فَأَغْوَيْناكُمْ إنَّا كُنّا غَاوِينَ) الصافات: 32، فبمشاهدة ما ذكرناه يخرج العبد من الشرك الخفي وهو تحقيق قوله: لا إله إلا الله بعد التصديق، أي ليس من تأله، القلوب وتأله إليه إلا الله، ثم يقول معها: وحده لاشريك له، أي وحده في قدرته وتوحيده لا شريك له في ملكه من خلقه، ثم وكدّ ذلك بقوله: له الملك، أي جميع ما أظهر، وله الحمد في جميع ما أعطى ومنع، يستحق الحمد كله، فهو لا يستحقه غيره، وهوعلى كل شيء قدير أي من الخلق والأمر، فالقدرة كلها له والخلق كله له يحكم في خلقه بأمره ما شاء كيف شاء، ومثل الأواسط مثل الآلة بيد الصانع، ألا ترى أنه لا يقال: الشفرة حذت النعل ولا السوط ضرب العبد، إنما يقال: الحذاء حذ النعل وفلان ضرب عبده بالسوط، وإن كانت هذه الأواسط مباشرة للأفعال إلا أنها آلة بيد صانعها، وكذلك الخليقة يباشرون الأسباب في ظاهر العيان، والله من ورائهم محيط، القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة، ألم ترَ إلى قولهم: الأمير أعطاني كذا وخلع عليّ كذا؟ وإن لم يناوله بيده ولا يصلح أن يقول: خادم الأمير أعطاني لأجل أنه جرى على يده، وإن كان باشر العطاء بنفسه، إذ قد علم أن الخادم لا يملك ولا يتصرف في ملك الأمير إلا أن يسأل الإنسان: بيد من أعطاك الأمير؟ أو على يد من وجه إليك بالعطاء؟ لبغية تكون للسائل في معرفة أي عبد جاء به، فيجوز أن يقول حينئذ: بيد عبده فلان فإما أن يبتدئ المعطي من غير أن يسأل إذا أراد أن يظهر العطاء فيقول الأمير أعطاني على يد عبده فلان، فإن هذا لغو لا يحتاج إلى ذكر العبدمع ذكر الملك، لأن البغية إظهار العطاء من الملك المعطي، فلا معنى لذكر العبد الذي جرى العطاء على يده فافهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 ومن ذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي ناوله التمرة: خذها، لو لم تأتها لأتتك، والتمرة لا تأتي، ولم يقل: لجاءك بها رجل إذ لا بغية في ذكر ذلك، ومن هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي قال: أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد فقال: عرف الحق لأهله، وإنما ذكرالله تعالى الأسباب لأن الأسماء متعلقة بها والأحكام عائدة على الأسماء بالثواب والعقاب، فلم يصلح أن لا تذكر فتعود الأحكام على الحاكم تعالى، عن هذا أنه هو يبدىء ويعيد، يبدئ الأحكام من الحاكم ويعيدها على المحكوم، وهذا هو سبب إظهار المكان من الموات والحيوان لئلا يكون تعالى محكوماً وهو الحاكم ولا يكون مأموراً وهو العزيز الآمر، فعادت على المحكومات المأمورات، ومن هذا قوله تعالى: (مَا عِنْدَكمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ) النحل: 96، فجميعاً عنده، وفي خزائنه، إلا أنه أضاف الدنيا إلينا لرجوع الأحام علينا وليزهدنا فيها وأضاف الآخرة إليه تخصيصاً لها، وتفضيلاً ليرغبنا فيها، وكما أخبر عن عيسى: وإذ تخلق من الطين، ومثله: فارزقوهم فيها، فسماه خالقاً، إذ خلق الله على يده وسماهم رازقين لما أجرى على أيديهم رزق أهليهم، فهو عندي كقوله لمريم: (وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ الَّنخِلةِ تُساقِطْ عَليْكَ رُطَباً جَنِيَّا) مريم: 25، وقد علمت أن الرطب لم يتساقط بهزّها ولا جعل ولا فعل لهزّها في الرطب، ولكن أراد أن يظهر كرامتها ويجعل الآلة منه بيدها، ومثله: (ارْكُضْ بِرِجِلْكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌُ وَشَرَابٌ) ص: 42، فنبعت عينان فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى ولا فعل لرجله في إظهار اليعنين، وقد نفى لبيد ما سوى الله في قوله: دٌُ وَشَرَابٌ) ص: 42، فنبعت عينان فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى ولا فعل لرجله في إظهار اليعنين، وقد نفى لبيد ما سوى الله في قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنشد ذلك صدق، وفي لفظ آخر إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أصدق بيت قاله الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وهو يعلم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ في الأشياء أواسط حقّ وأسباب صدق، ثم لم يمنعه ذلك أن قال أصدق بيت قاله الشاعر: كذا، إيثاراً منه للتوحيد وتوحيداً للمتوحد، هذا مع قرب عهدهم بتكذيب الرسل وإبطال الكتب، ولكن لما كانت الأشياء بعد أن لم تكن ولا تكون، بعد أن كانت أشبهت الباطل الذي لا حقيقة له أولية، ولا ثبات له آخرية، وكان الله تعالى الأوّل الأزلي، الآخر الأبدي، فهو الحق ولا هكذا سواه، ومثله الأسباب أيضاً في ثوانيها وأواسطها إلى جنب الأوّل المسبّب مثل ما يقول في القرآن: قال الله كذا، ولك أن تقول قال نوح، وقال يوسف كذا، فكل صواب، فإذا قلت قال الله سبحانه وتعالى فهو القائل الأوّل قبل القائلين، متكلماً بوصفه مخبراً عن علمه بغير وقت لموقت ولا حدّ لمحدود ولا حدثان، وإن قلت قال صالح وقال شعيب فقد قالوه بأنهم ثوان في القول وأواسط به، وقالوا ذلك عنه بحدوث أوقات وظهور أسباب، كذلك الأسباب في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 أواسطها فهي ثوان عن الأوّل المبدئ، ومن ههنا، وفي مثله دخلت الشبهة على المبتدعين فقالوا بخلق القرآن، فلو لم يدخل عليهم إلا إنهم جعلوا قول القائلين قبل قول الله أحكم الحاكمين، فأثبتوا قبل قوله قيلاً وهو القول منهم لنفيهم قدم الكلام، فوقعوا بجهلهم في أعظم مما هربوا منه لأنهم هربوا من إثبات قديم آخر بزعمهم، فوقعوا في إثبات حدث أوّلاً وإحداث قدم ثانياً، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً وسبحانه بكرة ً وأصيلاً، ولم يعلموا بجهلهم أنهم إنما قالوا بعد قوله، فصار قولهم عن قوله، وكان هو الأوّل في القول من حيث كان هو الأوّل بالقدم والسابق بالعلم، وصاروا هم ثوان في المقال من حيث كانوا حوادث من الأفعال، فكذلك أيضاً تدخل الشبهة على الغافلين من ضعف اليقين لشهود المانعين والمنفقين أوائل في الفعل من قبل أنّ الله تعالى أظهر العطاء والمنع بأيديهم، فشهدوهم معطين مانعين لنقصان توحيدهم فأشركوا في أسماء الله كما أشركت المبتدعة في صفات الله عزّ وجلّ أن حجبوا عن شهادة سبق علم الله كما حجب الزائغون عن حقيقة توحيد الله تعالى، إلا إنّ شرك الزائغين ضلال ينقل عن الملة وهو شرك جلي وشرك ضعفاء اليقين غفلة وجهل لا ينقل عن الملة لأنه شرك خفي، وحكي أنّ بعض العلماء صلّى خلف رجل، فلما انفتل الإمام نظر إليه في زي غير مكتسب فقال: يا شيخ من أين تأكل؟ فقال: اصبر حتى أعيد الصلاة التي صليتها خلفك ثم أجيبك، وحدثونا في معناه عن آخر أنه لزم العكوف في المسجد ولم يكن ذا معلوم من عيش فقال له الإمام: الذي يصلّي بالناس لوتكسّبت وتعبّست كان أفضل لك فلم يجبه، فأعاد عليه وقتاً آخر نحو ذلك، فقال يهوديّ في جوار المسجد: قد ضمن لي كل يوم رغيفين فقنعت بذلك وتركت التكسّب، فقال الإمام: إن كان صادقاً في ضمانه فإن عكوفك في المسجد خير لك، فقال له الرجل: يا هذا أنت لو لم تكن إماماً للمسليمن تقوم بينهم وبين الله لنقص توحيدك كان خيراً لك. وحدثت أنّ الله تعالى أوحى إلى بعض الصدّيقين: أدرك لي لطف الفطنة وخفيّ اللطف فإني أحبّ ذلك، قال: يا رب وما لطف الفطنة؟ قال: إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أوقعتها فسلني أرفعها، قال وماخفيّ اللطف؟ قال: إن أتتك فولة مسوّسة فاعلم أني قد ذكرتك بها، وهذاالذي ذكرناه من أنّ الله سبحانه وتعالى هو المعطي المانع الضارّ النافع حيث كان، هو الخالق الرازق كيف شاء، ومتى شاء، وبمن شاء، هو في عقود عموم المؤمنين وفي علمهم، ألا إنّ فيهم جهلاً بالحكمة وغفلةً عن الحاكم، يحيلون ذلك إلى عاداتهم ويريدون أن يكون رزقهم من حيث معتادهم، أو من حيث معقولهم باختيارهم ومعقولهم بالعزّ والفخر والتطاول والأنفة، لا على الذلّ والتواضع والفقر والمسكنة، ولا يكلون أمورهم إلى الله ويرضون بتدبيره وتقديره أن يرزقهم كيف شاء وبيد مم شاء فيؤثرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 أخلاق الجبابرة على أخلاق المؤمنين، لبعدهم من مشاهدة اليقين ولاستيلاء أخلاق النفس عليهم، ثم إنّ نفوسهم مع علمهم أنّ الخلق والأرض كله لله عزّ وجله، وأنّ الحمد والملك له، قد تطمع في غير الله وترجو سواه، وقد تضطرب بجبلتها عن أثقال الحقائق، وقلوبهم لا تطمئن بل تنزعج عند الابتلاء بالمصائب والفاقات، ولاتصبر للخالق، وإنّ ألسنتهم قد تسبق بالمدح والفرح مع رؤية الأواسط أو بالذم والأسى على فوت العطاء لوجود الغفلة وذهابهم عن مشاهدة ما يعلمون، فهذا دليل نقص توحيدهم وضعف يقينهم، وإن معرفتهم معرفة سمع وخبر لامعرفة شهادة وخبر، وقد شركهم الموقنون بتسليم ذلك لله في العلم والقدرة وإثبات الأواسط والأسباب لمجاري الحكمة وعود الثواب والعقاب على الخليقة، ولكن زادوا عليهم بحسن اليقين وقوة المشاهدة وجميل الصبر وحقيقة الرضا، فسكنت القلوب واطمأنت النفوس عند النوازل والبؤس، وثبتوا في الإبتلاء لشهود المبلي يدبر الخلائق كيف شاء، فحصل لهم في اليقين وحال من التوكل ونصيب من الرضا، وخرج أولئك من حقائق هذه المعاني ودخلوا في عمومها، ودخل عموم المؤمنين مع الموقنين في فرض التوكل، قد جاوزهم الموقنون فارتفعوا عليهم وعلوا في فضله ووقف العموم ونكصوا عن العلوّ لقعود اليقين بهم وحجب الأسباب لهم، وسبق المقربون إلى الفضل، ويؤت كل ذي فضل فضله، هم درجات عند الله، والله بصير بما يعملون، وقال بعض العلماء: احتجب عن العموم بالأسباب فهم يرونها، وحجب الأسباب بنفسه عن الخصوص فهم يرونها ولا يرونها، وحدثونا عن سري السقطي قال: ثلاث يستبين بهن اليقين، القيام بالحق في مواطن الهلكة، والتسليم لأمر الله عند نزول البلاء، والرضا بالقضاء عن زوال النعمة، وقال يوسف بن أسباط قبله: كان يقال: ثلاث من كنّ فيه استكمل إيمانه، من إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى باطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له. ذكر التكسب والتصرف في المعايش ولا يضرّالتصرف والتكسب لمن صحّ توكله ولايقدح في مقامه ولا ينقص من حاله قال الله سبحانه: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً) النبأ: 11، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فيهَا مَعَايِشَ قَليلاً مَا تَشْكُرُونَ) الأعراف: 10 وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحلّ ما أكل العبد من كسب يده وكل بيع مبرور، وقد كان الصانع بيده أحبّ إليهم من التاجر، والتاجر أحبّ إليهم من البطال، وقال ابن مسعود: إني لأكره أن يكون الرجل بطالاً ليس في عمل دنيا، ولا في عمل آخرة، ولأن التوكل من شرط الإيمان ووصف الإسلام، قال الله تعالى: (إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمينَ) يونس: 84، فاشترط في الإيمان به والإسلام له التوكّل عليه، فإن كان حال المتوكل التصرف فيما قد وجه فيه ودخل في الأسباب وهو ناظر إلى المسبّب في تصريفه، معتمد عليه واثق به في حركته، متسبب فيما يقلبه فيه مولاه، متعيش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 فيما يسببه له ويوجهه فيه، عالم بأن الله تعالى قد أودع الأشياء منافع خلقه وجعلها خزائن حكمته ومفاتح رزقه، ويكون أيضاً متبعاً للسنة والأثر تاركاً الترفه والتنعم، فهو في تكسبه وتصرفه أفضل ممن دخلت عليه العلل في توكله فساكنها، وقد ذكر لنا عن بعض العلماء أنه رؤي يطحن برجله، وكان قد ترك العمل أربعين سنة فقيل له: دخلت في التكسب بعد أن كنت قد تركته؟ فقال: يا هذا، إذا عدمنا عزّ التوكل لم نصبر على ذل الاستشراف، فكذلك الأمر فيمن دخلت عليه الآفة في ترك التكسب، فليخرج منها إلى الاحتراف، ومن دخل عليه اليقين فاقتطعه فليقعد عن الاكتساب، فالتكسب خير من التشرف إلى الخلق واعتياد المسألة، وسالك على طريق فهو يصل وإن كان في طريقه بعد، والتوكل لمن أقعد به ناظر إلى الوكيل أفضل لمن صح له لفراغ قلبه من الخلق وشغله بالخالق، وهو طريق قريب فصاحبه مقرب، والتارك للتكسب طمعاً في الخلق وترفّهاً للنفس وحبَّا للمسألة واتباعاً للهوى، سالك على غير طريق لا قريب ولا بعيد هو عن المحجة جائر، كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأن يأخذ أحدكم فأسه وحبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك يعني بمضغه، وقال: من يضمن لي خصلة واحدة، أضمن له الجنة، لا يسأل الناس شيئاً، وقال بعض علمائنا: من أنكر التكسب فقد طعن في السنّة، ومن أنكرالقعود عن التكسب فقد طعن في التوحيد، وقال: بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الخلق وهم أصناف كما هم اليوم، منهم التاجر، والصانع، والقاعد، ومن يسأل الناس، ومن لم يسأل الناس، فما قال للتاجر اترك تجارتك ولا قال للقاعد: اكتسب واصنع، بل جاءهم بالإيمان واليقين في جميع أحوالهم وتركهم مع الله في التدبير، فعمل كل واحد بعمله في حاله، وقد كان بعض المتوكلين يقول: من لم يصبر على جوع ثلاثة أيام أخاف أن لا يسعه ترك العمل إذا وجده، وقال أيضاً: من فقد الأسباب فضعف قلبه، أو كان وجودها أسكن لقلبه من عدمها، لم يصح له القعود عن المكاسب لأن فيه انتظار لغير الله، وقال بعض العلماء: من طرقته فاقة تسعة أيام، فتصور في قلبه طمع في خلق أو استشراف إلى عبد، فالسوق أفضل له من المسجد، وقال أبو سليمان الداراني: لا خير في عبد لزم القعود في البيت وقلبه معلق بقرع الباب متى يطرق بسبب، وقال بعض علمائنا: إذا استوى عنده وجود السبب وعدمه، وكان قلبه ساكناً مطمئناً عند العدم، لم يشغله ذلك عن الله تعالى، ولم يتفرق همّه، فترك التكسب والقعود لهذا، أفضل لشغله بحاله وتزودّه لمعاده، وقد صح له مقام في التوكل، وقال سهل وقد سئل: متى يصح للعبد التوكل؟ فقال: إذا دخل عليه الضرّ في جسده، والنقص في ماله، فلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 يلتفت إليه ولم يحزن عليه شغلاً بحاله وينظر إلى قيام الله عليه، وقال إبراهيم الخوّاص وهو إمام المتوكلين: من المتأخرين: ثلاثة مواطن حمل الزاد فيهن من آداب التوكل: القعود في المسجد والركوب في سفينة وصحبه القافلة، وقال سفيان الثوري: العالم إذا لم يكن له معيشة صار وكيلاً للظلمة، والعابد إذا لم تكن له معيشة أكل بدينه، والجاهل إذا لم تكن له معيشة كان سفيراً للفساق، وقال بعض أهل المعرفة: الناس ثلاثة، رجل شغله معاده عن معاشه فهذه درجة الفائزين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك حال الناجين، وآخر شغله معاشه عن معاده فهذه صفة الهالكين. لفائزين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك حال الناجين، وآخر شغله معاشه عن معاده فهذه صفة الهالكين. وروينا عن عليّ رضي الله عنه الرزق رزقان: رزق يطلبك ورزق تطلبه، ففسره بعض العلماء فقال: الرزق الذي يطلبك هو رزق الغذاء، والرزق الذي تطلبه رزق التمليك، وهو طلب فضول القوت، وقال أبو يعقوب السوسي وقد كان له مقام مكين في التوكل: التوكل على ثلاثة مقامات، عام وخاص عام وخاص خاص، فمن دخل في الأسباب واستعمل العلم وتوكل على الله تعالى ولم يتحقق باليقين فهو عام، ومن ترك الأسباب وتوكل على الله وحقق في اليقين فهو خاص عام، ومن خرج من الأسباب على حقيقته لوجود اليقين، ثم دخل في الأسباب فتصرف لغيره فهذا خاص خاص، وهذا وصف الطبقة العليا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشرة وغيرهم، جودهم اليقين من الدنيا فأدخلهم العلم في الأسباب لغيرهم ردت عليهم أحوال الغير، واتسعوا بالعلم على حقيقة اليقين، ولذلك كان الخواص رحمه الله تعالى يقول: دخول الخصوص في الأسباب لغيرهم ردت عليهم أحوال الغير وجعلوا رازقين لهم، فتصرفوا فيها لأجلهم وهم بريئون من التعلق بها، وقد كان أبو جعفر الحداد شيخ الجنيد أحد المتوكلين وقال: أخفيت التوكل عشرين سنة ولا فارقت السوق، أكتسب في كل يوم ديناراً وعشرة دراهم، أبيت منه دانقاً ولا أستريح فيه إلى قيراط، أدخل به الحمام بل أخرجه كله قبل الليل، وكان الجنيد لا يتكلم في التوكل بحضرة أبي جعفر يقول: أستحي من الله أن أتكلم في مقامه وهو حاضر، وقد شرط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعطاء ترك المسألة والاستشراف تنزيهاً للفقراء ورداً لهم إلى الله تعالى، لأن في مسألة العبد الفقير ذلاً ذليلاً وحرصاً على الدنيا جليلاً، وفي الاستشراف إلى العبيد طمع في غير مطمع، ونظر إلى غير الله، وإتيان البيوت من غير أبوابها، ومنه ماروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن فتح علىه نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب فقر، فكان الفقراء الصادقين جعل لهم أخذ العطاء، بل ندبوا إلى قبوله عوضاً لهم من ذلك لما منعوا من الاستشراف والسؤال تنزيهاً لهم وتفضيلاً، فمثلهم في ذلك مثل أهل البيت جعل لهم خمس الخمس من الغنائم لما حرمت عليهم الصدقة تفضيلاً لهم وتشريفاً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وقد كان أحمد بن حنبل رحمه الله أمر أبا بكر المروزي أن يعطي بعض الفقراء شيئاً فيه فضل عمّا كان استأجره عليه فرده، فلما ولّي قال له أحمد: ألحقه فادفعه فإنه يأخذه قال: فلحقه المروزي فدفعه إليه فأخذ، فسأل أحمد عن ذلك: كيف رد في الأوّل وأخذ في الثاني؟ فقال: إنه كان قد استشرف لذلك فرده، وقد أحسن فلما انصرف أيست نفسه منه فلذلك قبل، وقد كان الخوّاص إذا نظر إلى عبد في العطاء أو خاف اعتياد النفس له، لم يقبل منه شيئاً، وكان يقول: صوفي لا يكون بحريف، وهذا كله يحسن في حال المنفرد، فأما ذو العيال فالأمر عليه واسع من ذلك، ولابأس أن يأخذ لعياله كما أخذ لأجل غيره من الناس، لأن عياله عيال الله عنده، قد وكله بهم وأجرى أرزاقهم على يده، فإن طلب لهم وحث على استخراج حقهم ممّا أوجب الله لهم لم ينقص ذلك من حاله، وآخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف، فقال له سعد: أشاطرك مالي وأهلي، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فعمل يومه ذلك فراح بشيء من سمن وأقط، فلو كان التكسب في الأسواق ينقص التوكل لم يختر عبد الرحمن وهو إمام الأئمة ما ينقص توكله، ولكنه أحب إدخال المشقة على نفسه وكره التنعم، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ: إياك والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين، ورؤي فضالة بن عبيد أشعث أغبر جافياً وهو أمير مصر، فقيل له: لِمَ أنت هكذا؟ فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهانا عن الإرفاه وأمرنا أن نحتفي أحياناً، ثم اختار عبد الرحمن أيضاً إيثار أخيه بما أبره به رعاية لحق إخوته ولأن الله تعالى قد ندب إلى الإيثار ووصف به الأحباب، وأعلى من عبد الرحمن مقاماً إمام الأئمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لما بويع بالخلافة أخذ الأثواب تحت حضنه ودخل السوق ينادي: هذا في أتم أحواله، حين أهل للخلافة وأقيم مقام النبوّة، حتى اجتمع المسلمون فكرهوا له ذلك فقال: لا تشغلوني عن عيالي، فإني إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع، حتى فرضوا له قوت أهل بيت من المسلمين، لا وكس ولا شطط فلما رضوا جميعاً بذلك وأنفقوا عليه، ترك السوق لشغله بهم وبأمورهم؛ ألا تراه كيف آثر القيام بحقه وما أوجب الله عليه لأهله، وتواضع لله في حال رفعته، وأسقط الخلق عن عينه، حتى كره المسلمون ذلك فتركه بحكم ثان، فكذلك التوكل لا يزال مع الحكم الأوّل، حتى ينهج الله له طريقاً آخر فيسلكه بطريق ثان، وقد كان بعض علماء السلف يجمع إليه الناس للكلام عليهم فكان يقول: لو أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أنّ أهلي يحتاجون إلى باقة بقل ما تكلمت عليكم، ففي هذا بيان وبرهان لمن لم تستهوه الأهواء في إنكار التكسب على أهل التوكل احتجاجاً لنفسه واعتذاراً من بطالته، ولا يسع العلماء في الدين إلاّ البيان وكشف حقيقة العلم بالبرهان، فالتكسب والأسباب طرق أودعها الله العطاء والأرزاق لا هي تعطى وترزق بمنزلة الأواسط من الأشخاص، فالمتوكل المتسبب موقن أنّ الله سبحانه هو المعطي والمانع، وأنه هو المسبب الرازق، وأنّه هو الأوّل في التصريف والآخر في التقليب، فقلته ناظر إلى القسام، ونفسه ساكنة إلى القسم، وقلبه قانع راضٍ بالمقسوم، وجسمه متحرك في المعلوم الذي وجه فيه وسبب له، وهو عارف بمقامه، وبالمراد منه، راضٍ بحاله وما قد استسعى فيه وألزم إياه، والذي ينقص المتوكل، ويخرجه من حد التوكل، اكتساب الشبهات للاستكثار، أو السعي بالتكسب للجمع والافتخار، أو الحرص على طلب ما حظره العلم عليه أو لطلب ما يكره المنال منه، أو التسخط للأقدار إذا لم تؤاته على ماقدر، أو ترك لنصح لمن عامله بأن يحتال عليه، أو يدبر أو التشرف إلى الخلق أو الطمع في سبب؛ فهذا كله لا يصح معه التوكل، وقد قال بعض العلماء: إن العبد إذا دخل السوق للتكسب فكان درهمه أحب إليه من درهم غيره، لم ينصح للمسلمين في المبايعة، وهذا عنده يخرجه من التوكل ودخول الآفات ومساكنتها، لقصور علم أو غلبة هوى يخرج العبد من التوكل، وهو أن يكون متوكلاً على الناس بأن يطمع فيهم، أو يتصدى لهم بالتعرض والتصنع، أو يكون متوكلاً على صحة جسمه ودوام عوافيه وأنه لا يرزق إلاّ من كدّه، أو يكون متوكلاً على ماله بأن يثق به ويطمئن إليه ويحسب أنه إن افتقر انقطع رزقه، وعلامة ذلك ضنته به وإعداده له؛ عدة لكذا وعدة لكذا، فهذه المعاني تخرج من التوكل، فقد تخفي دقائقها وتدق حقائقها إلاّ على جهابذة العلماء الرابحين في العلم، المتضلعين باليقين، القائمين على الدوام بالشهادة؛ فمن نظر إلى هذه المعاني من الأسباب والأشخاص أو سكن إليها سكون أنس، فيقوى قلبه بوجودها فإنه يضطرب ويستوحش أو يضعف قلبه لفقدها فهي علة في توكله. عن عيالي، فإني إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع، حتى فرضوا له قوت أهل بيت من المسلمين، لا وكس ولا شطط فلما رضوا جميعاً بذلك وأنفقوا عليه، ترك السوق لشغله بهم وبأمورهم؛ ألا تراه كيف آثر القيام بحقه وما أوجب الله عليه لأهله، وتواضع لله في حال رفعته، وأسقط الخلق عن عينه، حتى كره المسلمون ذلك فتركه بحكم ثان، فكذلك التوكل لا يزال مع الحكم الأوّل، حتى ينهج الله له طريقاً آخر فيسلكه بطريق ثان، وقد كان بعض علماء السلف يجمع إليه الناس للكلام عليهم فكان يقول: لو أعلم أنّ أهلي يحتاجون إلى باقة بقل ما تكلمت عليكم، ففي هذا بيان وبرهان لمن لم تستهوه الأهواء في إنكار التكسب على أهل التوكل احتجاجاً لنفسه واعتذاراً من بطالته، ولا يسع العلماء في الدين إلاّ البيان وكشف حقيقة العلم بالبرهان، فالتكسب والأسباب طرق أودعها الله العطاء والأرزاق لا هي تعطى وترزق بمنزلة الأواسط من الأشخاص، فالمتوكل المتسبب موقن أنّ الله سبحانه هو المعطي والمانع، وأنه هو المسبب الرازق، وأنّه هو الأوّل في التصريف والآخر في التقليب، فقلته ناظر إلى القسام، ونفسه ساكنة إلى القسم، وقلبه قانع راضٍ بالمقسوم، وجسمه متحرك في المعلوم الذي وجه فيه وسبب له، وهو عارف بمقامه، وبالمراد منه، راضٍ بحاله وما قد استسعى فيه وألزم إياه، والذي ينقص المتوكل، ويخرجه من حد التوكل، اكتساب الشبهات للاستكثار، أو السعي بالتكسب للجمع والافتخار، أو الحرص على طلب ما حظره العلم عليه أو لطلب ما يكره المنال منه، أو التسخط للأقدار إذا لم تؤاته على ماقدر، أو ترك لنصح لمن عامله بأن يحتال عليه، أو يدبر أو التشرف إلى الخلق أو الطمع في سبب؛ فهذا كله لا يصح معه التوكل، وقد قال بعض العلماء: إن العبد إذا دخل السوق للتكسب فكان درهمه أحب إليه من درهم غيره، لم ينصح للمسلمين في المبايعة، وهذا عنده يخرجه من التوكل ودخول الآفات ومساكنتها، لقصور علم أو غلبة هوى يخرج العبد من التوكل، وهو أن يكون متوكلاً على الناس بأن يطمع فيهم، أو يتصدى لهم بالتعرض والتصنع، أو يكون متوكلاً على صحة جسمه ودوام عوافيه وأنه لا يرزق إلاّ من كدّه، أو يكون متوكلاً على ماله بأن يثق به ويطمئن إليه ويحسب أنه إن افتقر انقطع رزقه، وعلامة ذلك ضنته به وإعداده له؛ عدة لكذا وعدة لكذا، فهذه المعاني تخرج من التوكل، فقد تخفي دقائقها وتدق حقائقها إلاّ على جهابذة العلماء الرابحين في العلم، المتضلعين باليقين، القائمين على الدوام بالشهادة؛ فمن نظر إلى هذه المعاني من الأسباب والأشخاص أو سكن إليها سكون أنس، فيقوى قلبه بوجودها فإنه يضطرب ويستوحش أو يضعف قلبه لفقدها فهي علة في توكله. وروينا عن بشر بن الحرث قال: إنّ العبد ليقرأ، إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول الله تعالى: كذبت، ما إياي تعبد ولا بي تستعين؛ لو كنت تعبد إياي لم تؤثر هواك على رضاي، ولو كنت بي تستعين لم تسكن إلى حولك ولا قوتك ولا إلى مالك ونفسك، وإنّ التارك للتكسب والتصرف في الأسواق إذا كان في أدنى كفاية وأعين بالصبر والقناعة، في مثل زماننا هذا أفضل وأتم حالاً من المتكسب إذا خاف أن لا ينال المعيشة إلاّ بمعصية الله من دخوله في شبهة عياناً أو خيانة لإخوانه المسلمين، ولأنه قد تعذر القيام بشرائط العلم مع مباشرة الأسباب وكثرة دخول الآفات والفساد في الاكتساب، فترك ملابسة أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الأسواق ومخالطتهم على هذا الوصف المكروه أقرب إلى السلامة لبعده من رؤية الأشياء، وفقده مباشرتها، لأن الحكم متعلق بالرؤية، ومثل الحرام مثل المنكر إذا لم تره سقط عنك حكمه، وليس الخبر كالمعاينة ولا المجاورة كالمباشرة ولا المعاين كالمخبر، وذلك كخبر من زلّ عن حقيقة الكعبة على البعد إلا أنّه متوجه إلى الشطر، فصلاته جائزة ولو زلّ عنه أنملة مع المعاينة لها بطلت صلاته، والتكسب ليس بفرض وقد يفترض بأحد معنيين بوجود العيال وعدم كفايتهم من وجه من الوجوه المباحة، أو بأن يقطع عدمه عن فرض ويضعف عنه مع فقد ما يقام به الفرض مما لابدّ منه، وقد كان بشر بن الحرث ترك التكسب، وكان يتكلم في الحلال ويشدد فيه فقيل له: ياأبا نصر، فأنت من أين تأكل؟ فقال: من حيث تأكلون، ولكن ليس من يأكل وهو يبكي مثل من يأكل وهو يضحك، وقال مرة: ولكن يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وقد كان للثوري خمسون ديناراً يتجر له بها، ثم أخذها في آخر أمره ففرقها على إخوانه وترك التكسب، ويقال إنّه فعل ذلك لمّا مات عياله، وليس للعبد أن يحمل حال عياله على حاله إلاّ أن يكون اختيارهم كاختياره، وصبرهم على فقرهم ومعرفتهم بفضله كمعرفته، فجائز حينئذٍ أن يسير بهم سيريه، ويسقط عنه التكسب لأجلهم، لأنهم كهو في الحال مع سقوط المطالبة منهم بحقوقهم عليه، وقد فعل ذلك جماعة من السلف، وبعض العارفين يفضلون من لا معلوم له على من له معلوم، وهم لا يرون ترك التكسب أفضل لأنه معلوم، ويعد هؤلاء سكون القلب مع وجود المعلوم علة، ولكن إذا سكن قلبه مع غير معلوم، واجتمع همه وانقطع طمعه في حال المعدوم؛ فهذا هو المقام وتفصيل هذا في التوسط من المقال عندي والله أعلم أنّ العبد لا يفضل بنفس عدم المعلوم، كما لا يفضل بنفس القعود عن المكاسب، وإنما يفضل بحاله من مقامه؛ فإذا كان ذو المعلوم أحسن معرفةً وأقوى يقيناً، فضل على من لامعلوم له، ولا يكون سكون القلب وطمأنينة النفس أيضاً مع وجود المعلوم علة في الحال على قدر المقام، ولكن لا يكون مقاماً يرفع به ولا حالاً يفضل فيه، إلا أنّ الطمع في الخلق وتشتت القلب مع وجود معلوم الكفاءة نقصان عند الكل وعندي، وقطع الطمع في الخلق واجتماع القلب مع العدم أفضل وأعلى درجة عند الجماعة. وفي حديث حية وسوار ابني خالد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهما: لاتيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما، فإنّ ابن آدم تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله بعد، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 للرجل الذي ناوله التمرة لو لم تأتها لأتتك، ويقال إنّ العبد لو هرب من رزقه لأدركه كما لو هرب من الموت لأدركه الموت، وأنّ الرزق لا ينقطع عن العبد حتى يظهر له ملك الموت، فحينئذٍ ينقطع عنه رزق الدنيا ويدخل في رزق الآخرة، فيكون أوّل رزق الآخرة آخر رزق الدنيا ولا آخر لهذا الرزق، وقال سهل بن عبد الله الدستوائي: لو أن العبد سأل الله أن لا يرزقه لم يستجب له ولقال له: ياجاهل، أنا خلقتك ولا بدّ من أن أرزقك أبداً، وقال وقد سئل عن القوت فقال: هو الحي الذي لا يموت فقيل: إنما سألتك عن القوام، فقال: القوام هو العلم، قيل: سألناك عن الغذاء، فقال: الغذاء هو الذكر، قيل: سألناك عن طعمة الجسد، فقال: مالك وللجسد، دع من تولاه أولاً يتولاه آخراً، إذا دخل عليه علّة فرده إلى صانعه؛ أما رأيت الصنعة إذا عابت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها، وقال الخوّاص وقد روينا عن سهل: إن الله تعالى يلقي على الخصوص الفاقة ويحوجهم إلى الخلق بالطمع فيهم، ويلقي في قلوب الخلق المنع لهم فيحرمهم ما في أيديهم ليردهم إليه فإذا رجعوا إليه آيسين منقادين رزقهم من حيث لا يحتسبون، ومن علامة الخصوص أنهم إذا استشرفوا إلى شيء حرموا ذلك الشيء وإذا سكنوا إلى عبد سلّط عليهم ليرفع سكونهم إليه، وقد كان بعضهم إذا جاءه السبب بعد تطلعٍ إليه ردّه، ومنهم من كان يخرجه ولا يتناول منه عقوبةً لنفسه، وكان ذو النون المصري يتكلم على إخوانه في علم التوحيد والمعرفة فسأله غلام شاب عن الخبز: من أين هو؟ فقال: خذوا بيده واذهبوا به إلى الصوفية حتى يعلّموه الأدب، وقد حكي عن معروف أبي محفوظ الكرخي أنه ذكر له انقباض بشر عن الأسباب التي تفتتح له فقال: إنّ أخي بشراً قبضه الورع، وأنا نشطتني المعرفة، إلاّ أن معروفاً كان لا يأخذ السبب إلا عند الحاجة، ويأخذ منه ما لا بدّ له منه، وكان لايدّخر، وكان قصير الأمل لم يكن يأمل البقاء من وقت صلاة إلى صلاة أخرى؛ كان إذا صلى الظهر يقول للجيران: اطلبوا؟ لكم من يصلّي صلاة العصر، وكان يقول: إنما أنا ضيف في دار مولاي إن أطعمني أكلت متى أطعمني، وإن أجاعني صبرت حتى يطعمني، وقد كان أبو محمد سهل يقول: المتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحتكر. ذكر الادخار مع التوكّل ولا يضرّ الادخار مع صحة التوكل إذا كان مدخراً لله وفيه، وكان ماله موقوفاً على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 رضا مولاه لا مدخراً لحظوظ نفسه وهواه، فهو حينئذ مدخراً لحقوق الله التي أوجبها عليه، فإذا رآها بذل ماله فيها، والقيام بحقوق الله لا ينقص مقامات العبد بل يزيدها علوّاً، وحدثونا عن بعض أصحاب بشر بن الحرث قال: كنت عنده ضحوة من النهار، فدخل عليه كهل أسمر خفيف العارضين، فقام إليه بشر قال: وما رأيته قام لأحد غيره قال: ودفع إليّ كفّاً من دراهم فقال: اشتر لنا من أطيب ما تقدر عليه من الطعام والطيب، قال: وما قال لي قط مثل ذلك، قال: فجئت بالطعام فوضعته بين يديه، فأكل معه، وما رأيته أكل مع غيره، قال: فأكلنا حاجتنا وبقي من الطعام شيء كثير، فأخذه الرجل فجمعه في ثوبه فجعله تحت يده وانصرف قال: فعجبت من فعله ذلك وكرهته له إذ لم يأمره بشر بذلك ولا هو استأذنه فيه، فقال لي بشر بعد ذلك: لعلك أنكرت فعله ذلك، قلت: نعم، أخذ بقية الطعام من غير إذن، فقال: تعرفه؟ قلت لا، قال: ذلك أخونا فتح الموصلي، زارنا اليوم من الموصل، وإنما أراد أن يعلمنا أن التوكل إذا صح لم يضر معه الادخار، وترك الادخار إنما هو حال من مقامه قصر الأمل، وقد يصح التوكل مع تأميل البقاء، فإن كان أمله للحياة لطاعة مولاه وخدمته والجهاد في سبيل الله فضل ذلك، وهذا طريق طائفة من الراجين والمستأنسين، وإن كان أمله للحياة لأجل متعة نفسه، وأخذ حظوظها من دنياه، نقص ذلك من زهده في الدنيا، فسرى النقص إلى توكله، وما نقص من الزهد نقص من التوكل بحسابه، وليس ما زاد في الزهد يزيد في التوكل بحسابه، لأنّ الزهد من شرط خصوص التوكل، وليس التوكل من شرط عموم الزهد، فكل متوكل ذي مقام زاهد لا محالة، وليس كل زاهد في مقام متوكلاً لأن التوكل مقام والزهد حال، والمقامات للمقربين والأحوال في أصحاب اليمين إلاّ أنّ من أعطى حقيقة الزهد فإنه يعطي التوكل لا محالة، لأنّ حقائق الأحوال وثبوتها، ودوام استقامة أهلها فيها، ولزومها لقلوبهم هي مقامات؛ فإذا جاز للمتوكل تأميل البقاء لشهر أو شهرين جاز له الادخار لذلك، إلاّ أنّ طول الأمل يخرج من حقيقة التوكل عند الخواص ولا يخرجه من حده عندي، وأكره للمتوكل الادخار لأكثر من أربعين يوماً، كما يكره تأميل البقاء لأكثر من أربعين، ومن ادّخر لصلاح قلبه وتسكين نفسه وقطع تشرفه إلى الناس؛ إن كان مقامه السكون مع المعلوم، فالادخار له أفضل، فأما من ادّخر لعياله لتسكن قلوبهم ولوجود رضاهم عن الله، ولسقوط حكمهم عنه ليتفرغ لعبادة ربه، فهو فاضل في ادخاره اتفقوا عليه، ولأنّه في ذلك قائم بحكم ربه راعٍ لرعيته التي هو مسؤول عنها، وقد ادّخر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعياله قوت سنة ليسن ذلك، وقد نهي أم أيمن وغيرها أن تدّخر شيئاً لغد، ونهى بلالاً أيضاً عن الادخار ليقتدي به أهل المقامات في ذلك، كما روي أنه قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله بردان في الحف ينسحبان، وقد كان عليه السلام أقصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 أملاً من ذلك، كان يبول فيتيمم قبل أن يصل إلى الماء، فيقال له في ذلك إنّ الماء منك قريب، فقال: وما يدريني لعلّي لا أبلغه، ولكن فعله لئلا يهلك من طال أمله من أمته، فجعل فعله نجاة له، فهذا يدلك أن الادخار يتسع ويضيق على قدر مشاهدات العارفين، من قبل أن الشريعة جاءت بالرخصة والعزيمة؛ فالعزائم من الدين للأقوياء الحاملين، والرخص من الدنيا للضعفاء المخمولين، وقد كان الخوّاص يدقق في أحوال التوكل ويذكر أن الادخار يخرج من حد التوكل، ولم يكن يفارقه أربعة أشياء، وكان يقول: ادخارها من تمام حال المتوكل لأنها من أمور الدين؛ الركوة والحبل والإبرة والخيوط والمقراض، وكان سهل يضرب لمدّخر مثلاً في قصر الأمل وطوله فيقول: مثل من يترك الادخار مثل رجل يقول: أريد أن أخرج إلى الأيلة فيقال له: خذ رغيفاً فإن قال: أريد أن أخرج إلى عبادان قيل له خذ رغيفين فإن قال: أريد أن أخرج إلى العسكر قيل له: خذ أربعة أرغفة قال: فكذلك ترك الادخار على قدر قصر الأمل وطوله، وأعجب ما سمعت في انقطاع الأمل ما حكي أنّ موسى والخضر اجتمعا، فشكا موسى إلى الخضر الجوع فقال: أقعد فقعد، فتكلم الخضر بشيء فأقبل ظبي مخيض حتى وقف بينهما، فوقع نصفين نصفه إلى الخضر مشويّاً ونصفه إلى موسى نيّئاً، فقال له الخضر: قم فاقدح ناراً واشوِ نصيبك، وأخذ الخضر يأكل، ففعل ذلك موسى ثم سأله: لِمَ وقع نصفه إليك مشويّاً؟ فقال: إنه لم يبقَ لي في الدنيا أمل، وعلى ذلك فإن الادخار ينقص من فضائل الزاهدين بمقدار ما يمنع من حقيقة الزهد، وفي حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة في ذكر الفقير الذي أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليّاً وأسامة، فغسلاه وكفنه ببردته فلما دفنه قال لأصحابه: إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ولولا خصلة كانت فيه لبعث وجهه كالشمس الضاحية فقلنا: وما هي يا رسول الله قال: إنه كان صوّاماً قوّاماً كثير الذكر لله، غير أنّه كان إذا جاءه الشتاء ادّخر حلّة الصيف لصيفه، وإذا جاءه الصيف ادّخر حلة الشتاء لشتائه من قابل، ثم قال: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطى حظه منها لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، وحدثونا عن بعض العارفين قال: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكان الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 يساقون زمرة زمرة إلى الجنة على طبقات، قال: فنظرت إلى طبقة أحسن الناس هيئة، وأعلاهم مرتقى، وأسرعهم سبقاً، فقلت هذه أفضلهم، أكون فيهم قال: فذهبت لأخطو إليهم، وأدخل معهم في طريقهم، فإذا بملائكة حولهم قد منعوني، وقالوا: قف مكانك حتى يجيء أصحابك فتدخل معهم فقلت: تمنعوني أن أكون مع هؤلاء السابقين، فقالوا: هذا طريق لايسلكه إلاّ مَنْ لم يكن له إلاّ قميص واحد، ومن كل شيء واحد، وأنت لك قميصان ومن الأشياء زوجان، قال: فانتبهت باكياً حزيناً فجعلت على نفسي أن لا أملك من كل شيء إلا واحداً، وقد كان حذيفة المرعشي يقول: منذ أربعين سنة لم أملك إلا قيمصاً واحداً، وكان كثير من السلف إذا استجد ثوباً أو شيئاً أخرج الأوّل منهما، وكانوا يستعملون الشيء الواحد من الأشياء الكثيرة؛ وهذا كله داخل في التحقق بالزهد وهو من فضائل المتوكلين، والخبر المشهور أن رجلاً من أهل الصفة توفي فما وجدوا له كفناً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فتشوا ثوبه قال فوجدنا داخل أزاره دينارين، فقال: كيتان، وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف عدة، فلا يقول له ذلك لأنّ هذا كان حاله الزهد وإظهار الفقر فعابه الادخار. اً واشوِ نصيبك، وأخذ الخضر يأكل، ففعل ذلك موسى ثم سأله: لِمَ وقع نصفه إليك مشويّاً؟ فقال: إنه لم يبقَ لي في الدنيا أمل، وعلى ذلك فإن الادخار ينقص من فضائل الزاهدين بمقدار ما يمنع من حقيقة الزهد، وفي حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة في ذكر الفقير الذي أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليّاً وأسامة، فغسلاه وكفنه ببردته فلما دفنه قال لأصحابه: إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ولولا خصلة كانت فيه لبعث وجهه كالشمس الضاحية فقلنا: وما هي يا رسول الله قال: إنه كان صوّاماً قوّاماً كثير الذكر لله، غير أنّه كان إذا جاءه الشتاء ادّخر حلّة الصيف لصيفه، وإذا جاءه الصيف ادّخر حلة الشتاء لشتائه من قابل، ثم قال: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطى حظه منها لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، وحدثونا عن بعض العارفين قال: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكان الناس يساقون زمرة زمرة إلى الجنة على طبقات، قال: فنظرت إلى طبقة أحسن الناس هيئة، وأعلاهم مرتقى، وأسرعهم سبقاً، فقلت هذه أفضلهم، أكون فيهم قال: فذهبت لأخطو إليهم، وأدخل معهم في طريقهم، فإذا بملائكة حولهم قد منعوني، وقالوا: قف مكانك حتى يجيء أصحابك فتدخل معهم فقلت: تمنعوني أن أكون مع هؤلاء السابقين، فقالوا: هذا طريق لايسلكه إلاّ مَنْ لم يكن له إلاّ قميص واحد، ومن كل شيء واحد، وأنت لك قميصان ومن الأشياء زوجان، قال: فانتبهت باكياً حزيناً فجعلت على نفسي أن لا أملك من كل شيء إلا واحداً، وقد كان حذيفة المرعشي يقول: منذ أربعين سنة لم أملك إلا قيمصاً واحداً، وكان كثير من السلف إذا استجد ثوباً أو شيئاً أخرج الأوّل منهما، وكانوا يستعملون الشيء الواحد من الأشياء الكثيرة؛ وهذا كله داخل في التحقق بالزهد وهو من فضائل المتوكلين، والخبر المشهور أن رجلاً من أهل الصفة توفي فما وجدوا له كفناً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فتشوا ثوبه قال فوجدنا داخل أزاره دينارين، فقال: كيتان، وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف عدة، فلا يقول له ذلك لأنّ هذا كان حاله الزهد وإظهار الفقر فعابه الادخار. ذكر التداوي وتركه للمتوكّل وتفصيل ذلك ولا ينقص التداوي أيضاً توكل العبد لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر به، وأخبر عن حكمة الله تعالى فيه فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من داء إلاّ وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلاّ السأم يعني الموت، وقال عليه الصلاة والسلام تداووا عباد الله، وسئل عن الدواء والرقي، هل يرد من قدر؟ فقال: هي من قدر الله، وفي الخبر المشهور: ما مررت بملأ من الملائكة إلاّ قالوا: أمُرْ أمتك بالحجامة، وفي الحديث أنّه أمر بها فقال: احتجموا السبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين، ولا يبيغ بكم الدم فيقتلكم، وفي ذكر تبيغ الدم دليل على توقيت هذا العدد من الأيام للحجامة، إلاّ أنّه أريد به هذه الأيام من الشهر، وأحسبه لأهل الحجاز خاصة لشدة حرّ البلد، كقول عمر رضي الله عنه في الماء المشمس أنه يورث البرص، سمعت أن ذلك في أرض الحجاز خاصة، وكان من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 سيرة السلف أن يحتجموا في كل شهر مرة إلى أن يجاوز الرجل الأربعين وكانوا يستحبون الحجامة في آخر الشهر، وقد يروى في خبر منقطع: من احتجم يوم الثلاِثاء لسبع عشرة من الشهر كان له دواء من داء سنة، وقد روينا من طريق أهل البيت أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب دواء كل سنة، والتداوي رخصة وسعة، وتركه ضيق وعزيمة، والله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج: 78 أي ضيق، وربما كان المتداوي فاضلاً في ذلك لمعنيين: أحدهما أن ينوي اتباع السنة، والأخذ برخصة الله، وقبول ما جاءت به الحنيفية السمحة، وقد أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير واحد من الصحابة بالتداوي والحمية، وقطع لبعضهم عرقاً، وكوى آخر، وقال لعلي رضي الله عنه، وكان رمد العين: لا تأكل من هذا يعني الرطب، وكل من هذا فإنه أوفق لك، يعني سلقاً قد طبخ بدقيق أو شعير، وقد تداوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير حديث من العقرب وغيرها، وروي أنه كان إذا نزل عليه الوحي صدع رأسه فكان يغلفه بالحناء، وفي الخبر أنه كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء: وهو أعلى المتوكلين، وأقوى الأقوياء، فإن قيل إنما تداوى لغيره، وليسن ذلك، قلنا: فلا نرغب عن سنّته، ولا نزهد في بغيته، إذا كان فعل ذلك لنا، لئلا يكون فعلاً لغواً، وتكون الرغبة عن سنته إلى توهم حقيقة التوكل طعناً في الشرع، وقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهرة للخلق ليقتفوا آثاره، من ذلك أنه صام في السفر في شدة الحرّ، فكان يصب على رأسه الماء، ويستظل بالشجر، ليسن بذلك الرخصة في التبرد بالماء للصائم، فقيل له: إن قوماً صاموا وقد شق عليهم، فدعا بقدح فيه ماء فشرب، فأفطر الناس فترك حاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأجلهم، فقيل له: إنّ قوماً لم يفطروا فقال: أولئك العصاة، والمعنى الثاني الذي يفضل به المتداوي، أنّه يحب سرعة البرء للطاعة ولخدمة مولاه، والسعي في أوامره، إذ كانت العلل قاطعة عن التصرف في العمل ومشغلة للنفس عن الشغل بالآخرة، وذكر بعض علمائنا أنّ موسى عليه السلام اعتلّ علّة، فدخل عليه بنو إسرائيل، فعرفوا علّته، فقالوا: لو تداويت بكذا لبرأت، فقال: لا أتداوى حتى يعافيني هو من غير دواء، قال: فطالت علّته، فقالوا له: إنّ دواء هذه العلّة معروف مجرب وإن تتداوَ به تبرأ، فقال: لا أتداوى، فدامت علتّه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: وعزّتي لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه لك، فقال لهم: داووني بما ذكرتم فداووه، فبرأ فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى الله إليه أردت أن تبطل حكمتي لتوكلك على من أودع العقاقير منافع الأشياء، وفي بعض الأخبار: شكا نبي من الأنبياء إلى الله علّة يجدها، فأوحى الله إليه: كل البيض، وفي خبر آخر إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى الله تعالى الضعف فأوحى الله إليه: كل اللحم باللبن فإنّ فيهما القوّة، قال الشيخ أحسبه الضعف عن الجماع، وذكر وهب بن منبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 أنّ ملكاً من الملوك اعتلّ علّة وكان حسن السيرة في أهل مملكته، فأوحى الله تعالى إلى شعياء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل له: اشرب ماء التين فإنه شفاء من علّتك، وقد روينا أعجب من ذلك أنّ قوماً شكوا إلى نبيهم قبح أولادهم، فأوحى الله تعالى إليه مرهم أن يطعموا نساءهم الحبالى السفرجل، فإنه يحسن الولد فقد كانوا يطعمون الحبالى السفرجل والنفساء الرطب، وهذا والله أعلم يكون في الشهر الثالث والرابع من حملها، وعلى ذلك كله فإنّ ترك التداوي أفضل للأقوياء، وهو من عزائم الدين، وطريقة أولي العزم من الصدّيقين، لأن في الدين طريقين: طريق تبتل وعزيمة، وطريق توسع ورخصة، فمن قوي سلك الطريق الأشد فهو أقرب وأعلى، وهذه للمقربين وهم السابقون، ومن ضعف سلك الطريق الأرفه وهو الأوسط إلا أنه أبعد، وهو لأصحاب اليمين وهم المقتصدون، وفي المؤمنين أقوياء وضعفاء ولينون وأشداء. قد كانوا يطعمون الحبالى السفرجل والنفساء الرطب، وهذا والله أعلم يكون في الشهر الثالث والرابع من حملها، وعلى ذلك كله فإنّ ترك التداوي أفضل للأقوياء، وهو من عزائم الدين، وطريقة أولي العزم من الصدّيقين، لأن في الدين طريقين: طريق تبتل وعزيمة، وطريق توسع ورخصة، فمن قوي سلك الطريق الأشد فهو أقرب وأعلى، وهذه للمقربين وهم السابقون، ومن ضعف سلك الطريق الأرفه وهو الأوسط إلا أنه أبعد، وهو لأصحاب اليمين وهم المقتصدون، وفي المؤمنين أقوياء وضعفاء ولينون وأشداء. وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن القوي أحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في المؤمنين من هو أشدّ في الله عزّ وجلّ من الحجارة، وفيهم من هو ألين من اللبن، وقال في وصف الأقوياء: مثل المؤمن كمثل النخلة لايسقط ورقها، وقال الله تعالى في معنى ذلك: (أصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعَهَا فِي السَّماء) إبراهيم: 24 وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مثل المؤمن كمثل السنبلة تفيئها الرياح يميناً وشمالاً، وقال عليه السلام في وصفة المؤمن المطعم مثل المؤمن؛ كمثل النخلة أكلت طيباً ووضعت طيباً، وقال في وصف المستطعم: مثل المؤمن كمثل النملة تجمع في صيفها لشتائها، فأوصاف المؤمنين متفاوتة في الضعف والقوّة، وفي الجبن والشجاعة، وفي الصبر والجزع فشتان بين من شبه في القوّة والعلو بالنخلة؛ قلبه ثابت، وهمه في السماء، يطعم جناه ولا يدّخر، إلى من شبه بالنملة في الضعف والذي يستطعم ويحتكر، وقد فضل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوماً ومدحهم أنهم لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون، وذكر أنهم يدخلون الجنة بغير حساب، فعلل بالتوكل وأخبر أنهم تركوا ذلك توكلاً، ثم سأله عكاشة أن يدعو الله أن يجعله منهم، ففعل، لأنه رأى ذلك طريقه ورأى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 معه زاده، وشهد فيه القوّة فأهله لذلك، فلما قال له الآخر: ادع الله أن يجعلني منهم، والمقامات لا يقتدى بها ولا يتمثل فيها، كما لا تدعى، لأنها مواجيد قلوب باتحاد قريب ومشاهدات غيوب بإشهاد حبيب، فلما لم يرَ ذلك طريقه ولم يشهد معه زاده لم يؤهله لذلك، فأوقفه على حده وحكم عليه بضعفه، فرده ردَّاً جميلاً، لأنه كان حبيباً كريماً، فقال: سبقك بها عكاشة، فهذا كما يقول الحاكم الحكيم: إذا ضعف أحد الشاهدين زدني شاهداً آخر، ولا يصرح بجرح الشاهد ولو عدله لقبله، ولم يطلب الزيادة، وإلاّ فالمقامات لا تضيق لمن سبق إليها، والرسول غير بخيل مع قوله تعالى شاهداً له: (وَمَاهُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) التكوير: 42، ولكن لم يرَ فيه شاهد ذلك من القوّة، وتبين فيه الضعف عن الحمل فلم يخاطر به، وقد نهى عن الكي في غير حديث وقال لرجل أراد أن يداوي أخاه إلاّ أنه مات من علّته، فقال: أما لو برأ لقلت برأته لعلمه بما يهجس في بعض النفوس أنّ الشفاء والنفع من فعل الدواء، وذلك من الشرك فكره المحققون بالتوحيد التداوي خشية دخول ذلك عليهم. وروي عن موسى عليه السلام: يارب ممن الدواء والشفاء؟ قال: مني، قال: فما يصنع الأطباء؟ قال: يأكلون أرزاقهم، ويطيبون نفوس عبادي، حتى يأتي شفائي أو قبضي، وقد كان ابن حنبل يقول: أحبّ لمن اعتقد التوكل، وسلك هذا الطريق ترك التداوي من الأشربة وغيرها، واعتلّ عمران بن حصين فأشاروا عليه أن يكتوي فامتنع، فلم يزالوا به، وعزم عليه زياد بذلك، وكان أميراً حتى اكتوى، فكان يقول: كنت أرى نوراً، وأسمع صوتاً، وأسمع تسليم الملائكة عليّ، فلما اكتويت انقطع ذلك عني، وفي خبر كانت الملائكة تزوره فيأنس بها حتى اكتوى، فكان يقول: اكتوينا كيات، فوالله ما أفلحنا ولا أنجحنا، ثم ناب من ذلك، وأناب إلى الله تعالى، فرد الله عليه ما كان يجد من أمر الملائكة، وقال لمطرف بن عبد الله: ألم ترَ أنّ الكرامة التي كان أكرمني الله بها قد ردها علّي؟ بعد أن كان أخبره بفقدها، فلولا أنّ ذلك كان عنده ذنباً له، لما ندم عليه وتاب منه، ولولا أنّ ذلك كان نقصاً ما صرفت الملائكة عنه، ومرض أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقيل له: لودعونا لك طبيباً، فقال: قد نظر إليّ الطبيب، فقال: إني فعال لما أريد، وقيل لأبي الدرداء في مرضه: ما تشتكي؟ قال ذنوبي، قيل: فما تشتهي؟ قال: مغفرة ربي، قيل: أفلا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني، وقيل لأبي ذر وقد رمدت عيناه: لو داويتهما، فقال: إني عنهما لمشغول، قيل: فلو سألت الله أن يعافيك، فقال: أسأله فيما هو أهم إليّ منهما، وقيل لأبي محمد: متى يصح لعبد التوكل؟ قال: إذا دخل عليه الضر في جسمه، والنقص في ماله، فلم يلتفت إليه شغلاً بحاله للنظر إلى قيام الله عليه، وقد كان أصاب الربيع بن خيتم الفالج، فقيل له: لو تداويت فقال: قد هممت، ثم ذكرت عاداً وثموداً وقروناً بين ذلك كثيراً كانت فيهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 الأوجاع، وكانت فيهم الأطباء، فهلك المداوي والمداوى ولم تغن الرقي شيئاً، وقد أصاب عبد الواحد بن زيد الفالج فعطل عن القيام، فسأل الله أن يطلقه في أوقات الصلاة ثم يرده إلى حاله بعد ذلك، فكان إذا جاء وقت الصلاة فكأنما أنشط من عقال، فإذا قضى الصلاة رجع إليه الفالج وكما كان قبل ذلك، ومن لم يتداوَ من الصدّيقين والسلف الصالح أكثر من أن يحصى، إلا أنه مخصوص لمخصوصين؛ ألم ترَ أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ثم وصفهم بأنهم لا يكتوون، ولا يسترقون، فقام إليه عكاشة بن محصن الأسدي فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا له، فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة، فلم يمنعه من الدعاء بخلاً عليه، إلاّ أنّ طريق الخصوص الأقوياء لا يسلكه العموم الضعفاء، كما أنّ طريق العموم قد زهد فيه الخصوص. وأعجب ماسمعت قال بعض العارفين: أصفى ما أكون قلباً إذا كنت محموماً، أو من مواجيد العارفين ما حكي لنا أن موسى والخضر عليهما السلام اجتمعا في فلاة من الأرض، فشكا موسى إلى الخضر الجوع فقال له الخضر: اجلس بنا حتى ندعو، فتكلم الخضر بشيء، فأقبل ظبي حتى وقع بينهما نصفين: نصفه إلى الخضر مشويّاً ونصفه إلى موسى نيّئاً، فقال له الخضر: قم فاحمل هموماً كما حملت همومها، فأوقد ناراً واشو نصيبك وكل، قال: فقدح موسى ناراً وأشعل حطباً وسوّى نصيبه، فلما فرغ قال للخضر: كيف وقع نصفه إليك مشويّاً؟ قال: إنه لم يبقَ لي في الدنيا أمل، وقيل عنه أيضاً مرة أخرى: إنه ليس لي في هذه الخلق حاجة، وقد كان مذهب سهل أن ترك التداوي، وأن أضعف عن الطاعات، وقصر عن الفرائض أفضل من التداوي لأجل الطاعات، وكانت به علّة فلم يكن يتداوى منها، وقد كان يداوي الناس منها، وكان إذا رأى العبد يصلّي من قعود، أو لا يستطيع أعمال البرّ من الأمراض، فيتداوى للقيام في الصلاة، والنهوض إلى الطاعة، يعجب من ذلك ويقول: صلاته من قعود مع رضاه بحاله أفضل له من التداوي للقوة، ويصلّي من قيام، وسئل عن شرب الدواء فقال: كلّ من دخل إلى شيء من الدواء فإنما هو سعة من الله لأهل الضعف، ومن لم يدخل في شيء منه فهو أفضل، لأنه إن أخذ شيئاً من الدواء ولو كان الماء البارد سئل عنه: لِمَ أخذت؟ ومن لم يأخذ فليس عليه سؤال، وقال: مَنْ لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 يأخذ الماء البارد فليس عليه سؤال، وقال: مَنْ يأخذ الماء البارد على سبيل الدواء سئل، وأصله في هذا أنّ عنده من أفضل الأعمال أن يضعف العبد قوّته، حتى لا يكون لنفسه حراك لأجل الله تعالى، وإنّ ذرّة من أعمال القلوب؛ مثل التوكل والرضا والصبر أفضل من أعمال جبال من عمل الجوارح، وهذا مذهب البصريين في إسقاط القوّة بالتجوع الطويل والطي الكثير لتضعف النفس، لأنّ عندهم أن في قوة النفس قوة الشهوات وغلبة الصفات، وفي ذلك وجود المعاصي وكثرة الهوى وطول الرغبة والحرص على الدنيا وحب البقاء، يقول: إذا أدخل الله عليها الأمراض من حيث لا تحتسب، فلا يتعالج لرفع الأمراض عنها، فإنّ لامرض من نهاية الضعف ومن أبلغ ما ينقص به الشهوة، وقد كان يقول: علل الأحسام رحمة وعلل القلوب عقوبة، وقال مرة: أمراض الجسم للصدّيقين، وقد كان ابن مسعود يقول: تجد المؤمن أصح شيء قلباً وأمرضه جسماً، وتجد المنافق أصح شيء جسماً وأمرضه قلباً، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تحبون أن تكونوا كالحمر الصيالة؛ لا تمرضون ولا تسقمون، وقد قيل: لا يخلوا المؤمن من علّة في جسمه أو قلة في ماله، وقيل: لا يخلو من غلبة أو ذلة، وللعبد إن لم يتداوَ أعمال حسنة؛ منها أن ينوي الصبر على بلاء الله تعالى، والرضا بقضائه والتسليم لحكمه إذ قد حسن عنده لأنه موقن وإذ قد عرف الحكمة في ذلك والخيرة في العاقبة، لأنه حكيم، ومنها أنّ مولاه أعلم به منه وأحسن نظراً واختياراً، وقد حبسه وقيده بالأمراض عن المعاصي، كما روي عن الله تعالى: الفقر سجني والمرض قيدي، أحبس بذلك من أحبّ من خلقي، فلا يأمن إن تداوى فعوفي أن تقوى النفس فيفسده هواها، لأنّ المعاصي في العوافي، وعلّة سنة خير من معصية واحدة، لقي بعض الناس بعض العارفين، فقال له والعارف: كيف كنت بعدي؟ قال: في عافية فقال: إن كنت لم تعص الله فأنت في عافية، وإن كنت قد عصيته فأي داء أدوى من المعصية ماعوفي من عصى، وقال عليّ رضي الله عنه لما رأى زينة النبط بالعراق يوم عيدهم: ماهذا الذي أظهروه؟ قالوا: ياأمير المؤمنين، هذا يوم عيد لهم، فقال: كل يوم لايعصى الله فيه فهو عيد لنا. وقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أراكُمْ مَا تُحِبُّونَ) آل عمران 125قيل: العوافي والغنى، وقال بعضهم: إنما حمل فرعون أن قال: أنا ربكم الأعلى طول العوافي، لبث أربعمائة سنة لم يصدع له رأس، ولم يحمِ له جسم، ولم يضرب عليه عرق، فادّعى الربوبية، ولو أخذته الشقيقة والمليلة في كل يوم لشغله ذلك عن دعوى الربوبية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 واعلم أنّ الإنسان قد يطغى بالعوافي كما يطغى بالمال، لأنه قد يستغني بالعافية كما يستغني بالمال، وكل فيه فتنة، وقد قال الله تعالى: (كَلاّ إنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغى) (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) العلق: 6 - 7، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ، والعصمة في حال العافية نعمة ثانية، كالعصمة في الغنى نعمة النعمة، وهذا أحد الوجوه في قوله عزّ وجلّ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمُ في حَيَاتِكُمُ) الأحقاف: 20 ومنها أنّ الأمراض مكفرة للسّيئات؛ فإذا كره الأمراض بقيت ذنوبه عليه موفورة، وفي الخبر: لاتزال الحمى والمليلة بالعبد حتي يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة، وفي خبر: حمى يوم كفّارة سنة، وأحسن ما سمعت في معناه، قال: لأنّ حمى يوم تهد قوة سنة، وقيل: في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، يدخل حمى يوم في جميع المفاصل فيكون له بكل مفصل كفّارة يوم، ولما ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفّارة الذنوب بالحمى، سأل زيد بن ثابت ربّه أن لا يزال محموماً، قال: فلم تكن الحمى تفارقه في كل يوم حتى مات، وسأل ذلك طائفة من الأنصار، وكذلك لما ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أذهب الله كريمته لم يرضَ له ثواباً دون الجنة، قال: فقد رأيت الأنصار يتمنّون العمى، ولما جاءت الحمى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستأذن عليه قال: اذهبي إلى أهل قباء، وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى: (فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) التوبة: 108 أي بالأمراض من الذنوب، وعن عيسى عليه السلام يقول: لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب على جسده، وما له لما يرجو في ذلك من كفّارة خطاياه، والصدّيقون يبتلون بعلل الجوارح، والمنافقون يبتلون بأمراض القلوب، لأن في أمراض الأجسام ضعفها عن الآثام والطغيان، وفي أمراض القلوب ضعفها عن أعمال الآخرة والإيقان وفي معنى قوله عزّ وجلّ: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) لقمان:، 2، قيل ظاهرة العوافي وباطنة البلاوي لأنها نعم الآخرة، وروي أنّ موسى عليه السلام نظر إلى عبد عظيم البلاء فقال: ياربّ ارحمه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: كيف أرحمه؟ ممّا به أرحمه؟ وقد قال الله وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 أصدق القائلين في تصديق هذا المعنى: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرّ لَلَجُّوا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) المؤمنون: 75 فأخبر أنّ في ترك الرحمة لهم لطفاً ورحمة. وروينا عن عبد الواحد أنه خرج في نفر من إخوانه إلى بعض نواحي البصرة، فأواهم المسير إلى كهف جبل، فإذا فيه عبد مقطع بالجذام يسيل جسده قيحاً وصديد الأطباخ به، فقالوا: ياهذا، لو دخلت البصرة فتعالجت من هذا الداء الذي بك، فرفع طرفه إلى السماء، وقال: سيدي، بأي ذنب سلطت هؤلاء عليّ يسخطوني عليك، ويكرهون إلي قضاءك، سيدي أستغفرك من ذلك الذنب، لك العتبى إني لا أعود فيه أبداً، قال ثم أعرض بوجهه فانصرفنا وتركناه، وفي الحديث: نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي العبد على قدر إيمانه؛ فإن كان صلب الإيمان شدّد عليه البلاء، وإن كان في إيمانه ضعف خفف عليه البلاء، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار؛ فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز، ومنهم دون ذلك، ومنهم من يخرج أسود محترقاً، وقد روينا حديثاً من طريق أهل البيت: إذا أحب الله عبداً ابتلاه؛ فإن صبر اجتباه، وإنْ رضي اصطفاه، ومنها أنّ الملك يكتب له مثل أعماله الصالحة التي كان يعملها في صحته، وأنه يجري له الحسنات، مثل ما كان يجري له على أعمالهم، فيكتب الملك له أعمالاً صالحة خيراً له من أعماله، لأنّه قد يدخلها الفساد، واختيار الله له أن يستعمله بالأوجاع، خير له من اختياره لنفسه أن يستقل إلى الله بالأعمال الصالحة، وهذا أحد المعنيين، في معنى الخبر: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس، قيل: هو ما دخل عليها من المصائب في الأنفس والأموال، فهي تكره ذلك وهو خير لها، ومن هذا المعنى قوله تعالى: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) البقرة: 216 قد يكره العبد الفقر والعيلة والضر والخملة، وهو خير له في الآخرة وأحمد عاقبة، وقد يحب الغنى والعوافي والشهرة وهو شرّ له عند الله وأسوأ عاقبة. وفي الخبر أيضاً يقول الله تعالى لملائكته: اكتبوا العبدي صالح ما كان يعمل فإنه في وثاق؛ إن أطلقته أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وإن توفّيته توفّيته إلى رحمتي، فإبدال صفة لحسن اختيار الله له، خير له من الدنيا والآخرة ومن شهوته، والأصل في التوكل وتركه، أنّ المتوكل على الله قد علم في توكله أنّ للعلّة وقتاً إذا انتهت إليه برأ العليل بإذن الله لا محالة، ولكن الله عزّ وجلّ قد يحكم أنه إن تداوى شفاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 في عشرة أيام، وإن لم يتداوَ أبرأه في عشرين يوماً، ليترخص العليل بما أباحه الله له، فيطمع في تعجيل البرء في عشرة أيام، ليكون أسرع لشفائه، وأقرب إلى عاقبته، على أنه معتقد أنّ الدواء ولا يشفى وإنّ التداوي لا ينفع لعينه، لأنّ الله هو الشافي وهو النافع فالشفاء والنفع فعله لعبده وجعله في الدواء من لطائف حكمته، لا يجعله سواه ولا يفعله إلا إياه، إذ كانت العقاقير مطبوعة مجبولة على خلقها، فجاعل الأسباب فيها هو جابلها، لأن الجعل فيها والخاصية منها ليس من عمل المتطبب، وإن كان يعمل بها ويجمع بينها وبين العليل لأنّه ظهر على يديه سبباً لرزقه، فالله خالق جميع ذلك وفاعله، وكذلك قال الله تعالى: (والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات: 96 وكذلك أيضاً عند العارفين أنّ الخبز لا يشبع وأنّ الماء لا يروي كما أنّ المال لا يغني، والعدم لا يفقر، لأن الله هو المطعم المسقي وهو المشبع والمروي، كما هو المغني المفقر بما شاء، كيف شاء وهو جاعل الشبع والري في المطعوم والمشروب، وفي النفس بالغنى والفقر لحكمته ورحمته، كما أنّ الله تعالى هو المجيع المظمئ، فيدخل الطعام والشراب على الجوع والعطش الذين جعلهما فيذهبهما بما أدخل عليهما، كما يدخل الليل على النهار، ويدخل النهار على الليل، فيغلب سلطان كل واحد على الآخر فيذهبه، فسواء هذا عند الموحدين من وصف الليل والنهار، ومن العلل والأدوية يتسلط الشيء على ضده فيزيله بقلبه، فهذه بإذن الله، والشرك في هذه الأشياء في العموم أخفى من دبيب النمل على الصفا، والموقنون الصحيحو التوحيد من جميع ذلك برآء، وعلى هذه المعاني أحد الوجهين في قوله تعالى: (الَّذي أَعْطى كُلَّ شَيءْ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: 50 أي أعطى كل لون وجنس خلقته وطبعه أي صورة الشيء، ووصفه للضر والنفع، فإن تعجل العليل البرء بالتداوي فبرأ، كان ذلك بقضاء الله وقدره، على وصف السرعة من المعافاة، فإن كان ناوياً في تداويه واستعجاله شفاءه الطاعة لمولاه، والقيام بين يديه للخدمة، كان مثاباً على ذلك فاضلاً فيه غير منقوص في مقام توكله، وإن أراد بذلك صحة جسمه لنفسه والنعيم بالعوافي كان ذلك باباً من أبواب الدنيا، ودخولاً فيما أبيح له منها، وهو يخرجه من فضيلة التوكّل، وحقيقته بمقدار ما نقصه من الزهد في الحياة والنعيم، وإن أراد باستعجال العوافي قوة النفس لأجل الهوى، وليسعى في مخالفة المولى، كان مأزور السوء نيّته ووجود عزيمته وخرج من المباح إلى المحظور، وذلك يخرجه من حد التوكل وأوله، وهذا من مذموم أبواب الدنيا وممقوتها، وإن كانت نيته في تعجيل العوافي التصرف في المعايش والتكسب للإنفاق والجمع، نظر في شأنه؛ فإن كان يسعى في كفاف وعلى عيلة ضعاف، وعن حاجة وإجحاف لحق هذا بالطبقة الأولى، وهذا باب من أبواب الآخرة وهو مأجور عليه، ولا يخرجه من التوكل، وإن كان يسعى في تكاثره، وتفاخر، ولا يبالي من أين كسب، وفيما أنفق، لحق هذا في الطبقة الثالثة من العاصين، وهذا من أكبر الدنيا المبعدة عن الله عزّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وجلّ، فهذه نيات الناس في التداوي المحمودة والمذمومة، فإن لم يتداوَ المتوكل تسليماً للوكيل وسكوناً تحت حكمه ورضاً باختياره وصنعه، إذ قد أيقن أن للعلّة وقتاً إذا جاء برئ بإذن الله تعالى، إلاّ أنها بعد عشرين يوماً، فيصبر ويرضى ويحمل على نفسه ألم عشرة أيام رضاً بقضاء الله، وصبراً على بلائه، وحسن ظن باختياره له، ولا يتهمه في قضاءه عليه، فهذا هو أحد الوجوه في حسن الظن باختيار الله أن لا يتهم الله في فضيلة كيف، وقد روي فيه نص أنّ رجلاً قال: يارسول الله، أوصني، فقال: لا تتهم الله في شيء قضاه عليك. وقد روي في معنى هذا خبر فيه شدة، يقول اللّّه تعالى: مَنْ لم يصبر على بلائي ويرضَ بقضائي ويشكر نعمائي فليتخذ ربًا سواي، وهذا باب من الزهد في الدنيا بمقدار ما نقص من الرغبة في نعيم النفس، لأنّ الجسم من الملك فما نقص منه نقص من الدنيا، والقلب من الملكوت فما زاد فيه زاد في الآخرة وهو باب من الصبر بقدر ما صبر عليه من النقص، كما قال تعالى: (وَنَقْصٍ مِنَ الأموال وَالأْنفُس) البقرة: 155 يعني أمراضها وأسقامها، وبشر الصابرين ونقص الأموال إقلالها وإذهابها، فكذلك جعلناه زهداً لاقترانه بالمال، ومع هذا فهو لا يأمن في تعجيل العوافي من المعاصي، فإذا انتهى وقت العلّة، برئ من غير دواء بإذن الله، وله في الأمراض تجديد التوبة، والحزن على الذنوب، وكثرة الاستغفار، وحسن التذكرة، وقصر الأمل، وكثرة ذكر الموت، وفي الخبر: أكثروا من ذكر هادمّ اللذات: ومن أبلغ ما يذكر به الموت وتوقع نزوله الأمراض فقد قيل: الحمى بريد الموت، وفي قوله عزّ وجلّ: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ في كُلِّ عَامٍ مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ) التوبة: 126 الآية، قيل: بالأمراض والأسقام يختبرون بها، ويقال: إنّ العبد إذا مرض مرضتين ثم لم يتب قال ملك الموت: يا غافل، جاءك مني رسول بعد رسول فلم تقبل، وقد كانوا يستوحشون إذا خرج عنهم عام لم يصابوا فيه بنقص أو مال، ويقال: لا يخلو المؤمن في كل أربعين يوماً أن يروع بروعة أو يصاب بنكبة، فكانوا يكرهون فقد ذلك في ذهاب هذا العدد من غير أن يصابوا فيه بشيء، وروي أن عماراً تزوّج امرأة فلم تكن تمرض فطلقها، وأنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرضت عليه امرأة فذكر من وصفها حتى همّ أن يتزوجها، فقيل له: إنها ما مرضت قط فقال: لا حاجة لي فيها، وذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأوجاع من الصداع وغيره، فقال رجل: وما الصداع؟ ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 أعرفه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إليك عني، من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا، لأنّ في الخبر أنّ الحمى حظ المؤمن من نار جهنم، وفي حديث أنس وعائشة: يا رسول الله، هل يكون مع الشهداء يوم القيامة غيرهم؟ فقال: نعم، من ذكر الموت في كل يوم عشرين مرة، وفي لفظ الحديث الآخر: الذي يذكر ذنوبه فتحزنه، وإن ترك التداوي وبرئ بغير دواء، كان هذا من قضاء اللّّه وقدره على وصف الإبطاء، وقد اختلف رأي الصحابة في مثل هذا المعنى، عام خرج عمر رضي اللّّه عنه إلى الشام، فلما بلغوا الجابية انتهي إليهم خبر الشام أنّ به وباءً عظيماً وموتاً ذريعاً، فوقف الناس وافترقوا فرقتين، فمنهم من قال: لا ندخل على الوباء نلقي بأيدينا إلى التهلكة فنكون سبباً لإهلاك أنفسنا، وقالت طائفة أخرى: بل ندخل ونتوكل على الله ولا نهرب من قدره، ولا نفر من الموت فنكون كمن قال اللّّه تعالى: (أَلََمْ تَرَ إلَى الذين خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) البقرة: 243، فرجع الجميع إلى عمر فسألوه عن رأيه، فوافق عمر الذين قالوا نرجع ولا ندخل على الوباء، فقال له آخرون: أنفر من قدر الله؟ فقال عمر: نعم، نفر إلى قدر الله، ثم ضرب لهم مثلاً فقال: أرأيتم لو كان لأحدكم غنم وله شعبتان، إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة، أليس إن رعى الخصبة رعاها بقدر الله، وإن رعى المجدبة رعاها بقدر الله؟ فسكتوا، ثم دعا عمر بعبد الرحمن بن عوف يسأله عن رأيه فقيل: هو غائب، قد تأخر في المنزل الذي نزلنا فيه، فثبت عمر وأصحابه على ذلك الرأي، وعلى أن يسأل عبد الرحمن عن رأيه فيه، فلما أصبحوا جاء عبد الرحمن بن عوف فسأله عمر عن ذلك، فقال: عندي فيه يا أمير المؤمنين، شيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عمر رضي الله عنه: الله أكبر يقول: إذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، ففرح عمر بذلك إذ وافق رأيه فرجع بالناس من الجابية. بيان آخر من التمثيل في التداوي وتركه ومثل التداوي وتركه في أنهما مباحان، وأنّ أحدهما طريق الأقوياء الصابرين وهو تركه، مثل التكسب وتركه أنّ التكسب عند الجوع الذي هو علّة الجسم ليستعجل العبد الدواء بالخبز جائز له، لا يقدح في توكله لأنه مباح له مأمور به، فإن نوي بالتكسب القوّة على الطاعة والسعي في سبيل الله والمعاونة على البرّ والتقوى، كان فاضلاً فيه، وإن نوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 بالتكسب الأكل للشهوات والقيام بحظوظ النفس من الرفاهية نقص ذلك من توكله وأخرجه من حقيقته، فكان طريقاً من طرقات الدنيا إلاّ أنّه مباح، وإن قصد بتكسبه التكاثر والحرص للجمع والمنع كان عاصياً بكسبه مخالفاً لربّه، وهذا من أكبر طرق الهوى، ثم إن لم يتكسب وصبر على الجوع ورضي بالقلة والفقر، فإن رزقه يأتيه لا محالة لمجيء وقته، وإن كان قليلاً دون سعة، ولكنه يحتاج إلى فضل صبر، وحسن رضاً، وسكون نفس، وطمأنينة قلب، فإن وجد هذه المعاني فهذا هو التوكل، وكان فاضلاً في ترك التكسب بحسن يقينه وثقته برازقه وشغله بما هو أفضل وأنفع له في عاقبته، وإن تشتت همته، واضطربت نفسه، وتكره قضاء ربه، فأخرجه ذلك إلى الجزع والهلع والتبرم والشكوى، فالتكسب لهذا أفضل وهو منقوص بتركه، كذلك أيضاً من أكبر الشكوى من علّته وتسخط حكم ربّه وتبرم وضجر وسطاً على الناس، وساء خلقه بمرضه فإن الأفضل لهذا أن يتداوى وهو ناقص بتركه. وروينا عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنّ من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق اللّّه، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إنّ رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كره كاره، إنّ الله بحلمه وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط. ذكر استواء شهادة المتوكل مع اختلاف ظهور الأسباب ويستوي عند الخصوص بعين يقينهم ما جاءهم بواسطة أيديهم، وأسباب كسبهم وما جاءهم بأيدي غيرهم وبغير كسبهم إذا كان المعطي عندهم واحداً والعطاء كله رزقاً إذ كانت الأيدي ظروف العطاء فيستوي وكأن الظرف يدك أو يد غيرك، وسواء كان الكسب كسبك أو كسب غيرك لك إذ جميعه رزقك، ولأنّ لكل شيء حكماً وفي كل شيء حكمة وبكل شيء نعمة، قال الله تعالى: (إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) (الَّتي لَمْ يُخْلَقْ منِثْلُهَا في الِبْلاَدِ) الفجر: 7 - 8 فأضافها إليه في الخلق بعد أن بنوها بأيديهم وفرغوا منها، ومثل هذين أيضاً يستوي عندهم ما ظهر بيد القدرة لا خلق فيه ولا واسطة به، وما ظهر بأيديهم عن الحكمة وترتيب العرف، لأن القدرة أيضاً بمنزلة ظرف للعطاء ظهر العطاء بها، فهي كأيدي العباد من يد الإنسان نفسه أو يد غيره، إذ القدرة والحكمة خزانتان من خزائن الملكوت والملك، فهذه المعاني الثلاث أعني ما ظهر عن يدك وتكسبك، وما ظهر بيد غيرك، وعن كسبه لك، وما أظهرته القدرة عن غير عرف معتاد ولا واسطة مرت به، هذا كله عند الموقنين سواء، لا يترجح بعضه على بعض لرجحان إيمانهم وقوّة يقينهم ونفاذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 مشاهدهم، إذ كله حكمة بالغة وقدرة نافذة عن حكيم واحد وقادر واحد. وممّا يدلك على استواء ما ظهر بيد الأواسط وما أظهرته القدرة عند العلماء أنّ كلّ من جمع كرامات الأولياء واجبات الصدّيقين ذكر فيها ما ظهر لهم عن القدرة، وما ظهر لهم على أيدي الخلق من الإنفاق عند وقت الفاقات عن غير مسألة ولا استشراف نفس، فسووا بينهما في الكرامات وجعلوهما واحد من الإجابات، وحسبوا كل ذلك من الآيات، على أنّ العارفين يشهدون ما يوصل العبيد إليهم من أقسام رزقهم، إنها ودائع لهم عندهم وإنه حق لهم بأيديهم يؤدونه إليهم قليلاً قليلاً، ويوفونهم إياه شيئاً فشيئاً إلاّ أنهم لا يسألونهم إياه ولا يطالبونهم به، وإن كان لهم عندهم حسن أدب فيهم وحسن اقتضاء لأنّ من حسن الاقتضاء ترك الطلب، ولقوّة يقينهم برازقهم أنّه يوفيهم نصيبهم غير منقوص، فقد سكنوا إلى قديم وعده كما نظروا إلى بسط يده، وكذلك مشاهدة العالمين الموصلين إليهم قسمهم الدافعين إليهم حقوقهم، يشهدون أنهم قد خرجوا إليهم من حقهم وأدوا إليهم ودائعهم، فيستريحون إلى إخراج ذلك، ويفرحون بأدائه إلى أربابه ويشكرون الله على حسن توفيقه وإعانتهم على سقوط ذلك عنهم، كما يفرح من عليه الدين الثقيل إذا أداه فسقط عنه حكمه وقضاؤه، وهذا مقام للموصلين في المعرفة وحال لهم من اليقين حسنة، وهو مشاهدة عالية للآخذين من المتوكلين. ذكر تشبيه التوكل بالزهد اعلم أنّ التوكل لا ينقص من الرزق شيئاً، ولكنه يزيد في الفقر ويزيد في الجوع والفاقة، فيكون هذا رزق المتوكّل ورزق الزاهد من الآخرة، على هذا الوصف الخصوص من حرمان نصيب الدنيا وحمايته عن التكاثر منها، والتوسع فيها فيكون التوكل والزهد سبب ذلك، فيكون ما صرفه عنه من الدنيا زيادة له في الآخرة من الدرجات العلى، وكذلك روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نقصان الدنيا زيادة الآخرة، وزيادة الدنيا نقصان الآخرة، ومن أعطى من الدنيا شيئاً نقص ذلك من منزلته في الآخرة، وإن كان على الله كريماً، وقيل إنّ الدنيا والآخرة مثل ضرتين، من أرضى إحداهما أسخط الأخرى، وقال رجل لبعض العلماء: كنت في محلة ليس فيها بقال غيري، ففتح إلى جنبي بقال آخر فأخاف أن ينقص ذلك من رزقي شيئاً، فقال: ليس ينقص من رزقك شيئاً ولكن يزيد في بطالتك، تقعد كثيراً لا تبيع شيئاً، وقد غلط في هذا الطريق قوم ادّعوا التوكل والزهد واتسعوا في المآكل والملابس، على أنّ ذلك لا ينقصهم من رزقهم شيئاً، فموهوا على دونهم ممن لا يعرف طريق الزهد والتوكل. ذكر كتم الأمراض وجواز إظهارها الأفضل لمن لم يتداوَ أن يخفي علله لأنّ ذلك من كنوز البرّ ولأنها معاملات بينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وبين خالقه، فسترها أفضل وأسلم له إلاّ أن يكون له نية في الإظهار أو يكون إماماً يستمع إليه ويقتبس منه الآثار، ويكون مكيناً في المعرفة يخبر بعلته وقلبه راض عن الله فيما قدره، أو يكون ممن يشهد البلاء نعمة فيكون إخباره بمثابة التحدّث بنعمة الله، وإلاّ فإظهار العلل لمن لا يتداوى نقص لحاله، وداخل في الشكاية لمولاه، لأنّ في الشكوى استراحة النفس من البلوى كالاستراحة بالدواء، وهذا لا يفعله عالم لأنّ الاستراحة بالدواء الذي أباحه له المولي خير من استراحته إلى العبيد بالشكوى، على أنّه لا يأمن دخول الآفات عليه في الأخبار من التصنع أو التزيد في العلّة وغير ذلك، وقيل في قوله عزّ وجلّ: (فَصَبْرٌ جَميلٌ) يوسف: 18، قال: لا شكوى فيه، وقال بعضهم: من بث شكواه فلم يصبر، وقيل ليعقوب عليه السلام: ما الذي أذهب بصرك؟ فقال: من الزمان وطول الأحزان، فأوحى الله إليه: تفرغت تشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب، أتوب إليك، وعن طاووس ومجاهد: يكتب على المريض أنينه في مرضه، قال: وكانوا يكرهون أنين المريض لأنّه إظهار معنى يدل على شكوى، قيل: ما أصاب إبليس من أيوب إلاّ أنينه في مرضه، فجعل الأنين حظه منه، وفي الخبر: إذا مرض العبد أوحى الله تعالى إلى الملكين: انظرا إلى عبدي ما يقول لعواده فإن حمد الله وأنثى عليه بخير، ادعوا له وإن شكا وذكر شراً قالا: لا، كذلك يكون، وإنما كره بعض العباد العيادة خشية الشكاية وخوف الزيارة في القول أن يخبر عن العلّة بأكثر منها فيكون في ذلك كفراً لنعمة بين بلاءين، وكان بعضهم إذا مرض أغلق بابه فلم يدخل عليه أحد حتى يبرأ، فيخرج إليهم، منهم فضيل ووهيب، وبشر كان يقول: أشتهي أن أمرض بلا عواد، وقال فضيل: ما أكره العلّة إلا لأجل العواد، وقد رأينا من الصالحين من فعل ذلك ممن هو إمام وقدوة، ولا ينقص توكل المتوكل إخباره بعلته على معنى التحدث بها مع فقد آفات النفوس، إذا كان قلبه شاكراً لله راضياً بقضائه، ويكون بذلك مظهراً للافتقار والعجز بين يدي مولاه أو راغباً في دعاء إخوانه المؤمنين، أو يشهد ذلك نعمة فيحدث بها شكراً، وقد حكي أنّ بشر بن الحرث كان يخبر عبد الرحمن المتطبب بأوجاعه، فيصف له أشياء، وقيل عن أحمد بن حنبل أنّه كان يخبر بأمراضه ويقول: إنما أصف قدرة الله تعالى فيّ. وروي عن الحسن البصري: إذا حمد المريض الله عزّ وجلّ وشكره ثم ذكر علّته، لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 يكن ذلك شكوى، وقد كان أحمد بن حنبل لا يخبر بأمراضه إذا سئل عنها، ثم رجع إلى قول الحسن هذا، فكان بعد ذلك يحمد الله ويثني عليه ويقول: أجد كذا وأجد كذا، وروي أنه قيل لعلّي رضي الله عنه في مرضه: كيف أنت؟ فقال: بشر، فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك فقال: أتجلد على الله، كأنّه أحبّ أن يظهر افتقاره إلى الله، وأراد أيضاً أنّ يعلمهم أنّه لا بأس بذلك لأن من يقول: بخير إذا سئل كثير، كما قال الثوري: إنما العلم الرخصة من ثقة، فأما التشديد فكل أحد يحسنه، فكان عليّ رضي اللّّه عنه أراد أن يتحقق بتأديب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له ونهيه إياه عن إظهار القوى، لأنه روي أنه مرض فسمعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم، صبرني على البلاء فقال: لقد سألت الله البلاء ولكن سل الله العافية، ومن هنا قال مطرف: لأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن أبتلي فأصبر، لأن البلاء طريق الأقوياء، وكره أهل الإشفاق والخشية إظهار الجلد والقوّة بين يدي القوي العزيز، وقد حكي أنّ الشافعي مرض مرضة شديدة بمصر فكان يقول: اللهم، إن كان في هذا رضاك فزدني منه، فكتب إليه بعض العلماء وهو إدريس بن يحيي المعافري، يا أبا عبد الله، لست من رجال البلاء فسل الله العافية، فرجع عن قوله هذا واستغفر منه، فبعد هذا واللّّه أعلم، لعلّه ما حكي عنه أنه كان يقول في دعائه: اللهم إجعل خيرتي فيما أحببت. ذكر فضل التارك للتكسب قد يفضل التارك للتكسب شغلاً بالعبادة عن المتكسب، من حيث فضل المتقدّمون الزاهد في الدنيا على كاسب المال حلالاً ومنفقه في سبيل الله، وسئل الحسن عن رجلين، أحدهما محترف والآخر مشغول بالتعبد: أيهما أفضل؟ فقال سبحان الله ما اعتدل الرجلان المتفرغ لعبادة أفضلهما، وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفى بالموت واعطاً وبالتقوى غنى وبالعبادة شغلاً، وقد علم التارك للتكسب توكلاً على الله وثقة به ورعاية لمقامه وصبراً على فقره وشغلاً بمعاده عن معاشه ومقاساة الفتنة، إنّ مولاه قد تكلّل له برزقه في الدنيا وقد وكل إليه عمل الآخرة، وأنه إن شغل بما وكله إليه من عمل آخرته أقام له من يقوم بكفايته من دنياه، فلو لم يتصرف المتوكل تصرف له غيره، وإنّ عمل آخرته الذي وكّله إليه هذا فلم إن لم يعمله لم يقم غيره مقامه، وإنّ الله تكفل له بعمل الدنيا، فإن لم يعمل لعمل له سواه كيف شاء، فهذا هو الفرق بين ماتكفل له به من عمل الدنيا وبين ما وكّله به من عمل الآخرة، قال الله سبحانه في رزق الدنيا الذي تكفل به: (وَكَأَيِّنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزِقْهَا الله يرزقها وَإيَّاكُمْ) العنكبوت: 60 وقال تعالى في رزق الآخرة الذي وكل به: (وأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إلاّ مَا سَعى) النجم: 39، ثم قد علم المتوكل بعدتوحيده أنّ هذه الأربعة الأشياء منتظمة في سلك واحد، كشيء واحد يقع وقعة واحدة رزق مقسوم لا يزاد فيه في وقت معلوم ولا يتقدم ولايتأخر بسبب محكوم، لا ينقلب عند أثر مكتوب ولايتغير، فالرزق بفضل الرازق والوقت الذي يظهر فضل العطاء لا يقع إلاّ في ظرف، والسبب حكمة القاسم والأثر حدّ المرزوق، فلما أيقن المتوكل بهذا كان إن تصرف بحكم، وإن قعد قعد بعلم، فاستوى تصرفه وقعوده لأنه قائم بحكم ما يقتضي منه في علم حاله عالم بحكم مصرفه ومقعده، فإن شغله مولاه بخدمته عن خدمة من سواه، فصرفه في معاملته دون معاملة العبيد ساق إليه رزقه كيف شاء من الوجوه وبيد من شاء من العبيد، يحفظه له عن مجاوزة الحدود، كما قال تعالى: (حَاِفظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله) النساء: 34، وبتوليه له وعصمته إياه عن التورط في محظور، كما أخبر عن أوليائه في قوله عزّ وجلّ: (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّاِلحينَ) الأعراف: 196، وكان العبد فاضلاً في قعوده لشغله عن العبيد بمعبوده، بانقطاعه إلى معاملة الملك دون ما يقطعه من معاملة الملوك، وبهمة الآخرة عن الدنيا، وكان داخلاً في وصف ما أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أهل كفاية الله، فيما روي عنه من جعل الهموم همَّا واحداً، كفاه الله آخرته، وخارجاً عن وصف من قطعه عن الله بهمة غيره وعرضه للهلكة في أودية الهموم، في قوله عليه السلام: من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، وفي قوله: ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أوديتها هلك، فإن كان حال المتوكل أن يجري رزقه على يد نفسه وكسب جارحته فهو خزانة من خزائن الملك وهو عبد من عبيد الملك، يوصل إليه عن يد نفسه بما يوصله إليه عن يد غيره وسواه، ساق إليه الرزق أو ساقه إلى الرزق بعد أن يرزقه، لأن ما لقيته فقد لقيك، والعبد متوكل على الله في الحالين، ناظر إليه بالمعنيين، قائم بحكم حاله في الأمرين، عارف بحسن اختيار الله له في الحكمين، ومن ترك التكسب لأجل الله ثقة به وسكوناً إليه أو لدخول الآثام وتعذر القيام بالأحكام، فحسنهُ كحسن من عمل شيئاً لأجل الله لأن الترك عمل يحتاج إلى نية صالحة وأفضل الناس عندالله أتقاهم له وأتقاهم له أعرفهم به متصرفاً كان أو قاعداً، هذا هو فصل الخطاب. وروينا في حديث عبد الله بن دينار عن عمرو بن ميمون عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حين استوى على عرشه ونظر إلى خلقه: عبادي، أنتم خلقي وأنا ربكم أرزاقكم بيدي فلا تتعبوا أنفسكم فيما تكفلت لكم به، واطلبوا أرزاقكم مني وانصبوا أنفسكم لي، وارفعوا حوائجكم إلي أصبّ عليكم أرزاقكم، أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عبدي أنفق أنفق عليك ووسع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 أوسع عليك، ولا تضيق فأضيق عليك، إنّ أبواب الرزق بالعرش لا تغلق ليلاً ولا نهاراً، فأنزل الرزق منها لكل عبد على قدر نيته وعالته وصدقته ونفقته، فمن أكثر أكثر له ومن أقلل أقلل له، ومن أمسك أمسك عليه، يا زبير إنّ الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار، فكل وأطعم ولاتقترّ فيقترّ الله عليك ولا تعسر فيعسر عليك، أطعم الإخوان ووقرالأخبار وصل الجار ولاتماش الفجار تدخل الجنة بغير حساب، فهذه وصبة الله لي ووصيتي لك يا زبير بن العوام: والأسواق موائد الآباق يطعم المولى منها من أبق من خدمته وهرب من مجالسته ووهن عن معاملته وجبن في متاجرته، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ) (مَا أُريدُ مِنْهُمْ مِن رِزْقٍ وَما أَريدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) الذاريات: 56 - 57، وقال بعض أهل العربية من القدماء: ما أريد أن يرزقوا خلقي إنّ الله هو الرزاق، أي لهم لا يطالبهم أن يرزقوا نفوسهم إذا خدموه، فذكر الله الوجوه الثلاثة واختار لنفسه أحدها وهي الخدمة، وعليه الكفاية، واختار من العبيد أحدهم فجعله عابده وتنزه عن أحدهما وتعالى عنه وهو الإطعام من العبيد له، وصرف عموم العبيد في الوجه الثالث من الإطعام لأنفسهم وهو التكسب، وضرب هذا مثلاً بينه وبين خلقه في الأرض وله المثل الأعلى في السموات والأرض، فبقي العبيد مع الله تعالى بحكمين، أحدهما ما اختاره لنفسه من العبادة وهي المعاملة وعليه الرزق كيف شاء ومتى شاء وهؤلاء عباد الرحمن لا عبيد الدنيا، والثاني ماصرف العبيد فيه من التكسب لأنفسهم وجعل ذلك رزقاً منه لهم بجوارحهم ومدحهم على هذا الوصف، وهؤلاء عموم العبيد منهم عبيد الدنيا وعبيد الهوى وبقي المولى مع العبيد على الأحكام الثلاثة التي أباحها الله تعالى لهم وضرب بها المثل بينه وبينهم، أيها اختاره كان ذلك لهم، وتفسير ذلك أن للمولى من الخلق أن يقول لعبده: اذهب فأطعمني لأنك عبدي وملك يدي، فأنا أملك كسبك كما أملك نفسك، وهذا هو الوجه الذي ذكرناه أنّ الله تنزه عنه وتعالى علواً كبيراً فقال تعالى: (مَا أُريدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) الذاريات: 57، كما يريد الموالي من عبيدهم هذا ثم يقول المولى منا لعبده: اذهب فأطعم نفسك واسعَ في قوتك فقد أبحت لك ذلك، ووهبت لك كسبك فهو رزق مني لك وتفضّل مني عليك، وبهذا صار المكاتب لعبده في فكاك عتقه كالمعتق بأن كان له الولاء وقد يكون له الميراث في حال، لأنه منعم عليه بالكتابة له كالمعتق، وإن كان العبد هو الذي سعى في فكاك رقبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 نفسه بكسبه من قبل أنّ المولى يستحق عليه كسبه ويملك رقبته، فلما ملك عبده ذلك صار محسناً إليه فهذا حال عموم العبيد مع الله تعالى، لأنه مولاهم الحق وهم عبيده، قنٌّ فقال: اذهبوا فتكسبوا، وأطعموا أنفسكم فقد رزقتكم ذلك ووهبته لكم، وهذا هو الوجه الثاني الذي نزه الخصوص عنه تفضيلاً لهم، فلم يستسعهم وقطعهم فشغلهم بخدمته عن خدمة نفوسهم وخليقته، وتوكل لهم بكفايتهم ولم يوكلهم فيها كما وكلّ غيرهم، بل وكل بأرزاقهم من يشاء من عباده وهو معنى قوله تعالى (مَا أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) الذاريات: 57 لنفوسهم بدليل قوله تعالى (إنّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ) الذاريات: 58، أي لهم بإقامة غيرهم وبإظهاره في قوله: وما أريد أن يطعمون، فكانت هذه الياء اسمه مكنّى بها وهذه إرداة مخصوصة لا عامة لكل مراد، فهي إرادة ابتلاء ومحبة بمعنى ما أحبّ: ومخصوصة بمخصوصين من عباده، كما كان قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجّنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ) الذاريات: 56، كانت هذه الآية مخصوصة لمن عبده منهم معناها: مؤمني الجن والإنس لا عامة لجميع خلقه، والوجه الثالث أن يقول المولى منا لعبده: اخدمني وعليّ طعمتك، تقوم خدمتك لي مقام كسبك لنفسك، وهذا هو الوجه الأعلى الذي اختاره الله تعالى، وأحبه لمن يحبه واختار له من عبده من العبيد من خصوص العاملين له، وهم العالمون به دون من صرفه في رزق نفسه بنفسه، وهو قوله تعالى: (إلاّ لِيَعْبُدُونِ) (مَا أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) الذاريات: 56 - 57، أي أن يرزقوا نفوسهم بكسبهم الذي أبحته لهم، فيكونوا كغيرهم ممن قلت له: اذهب فتكسب، فقد أردت منك الرزق لنفسك بكسبك وقد وهبته لك، أي أنا أُريد من هؤلاء العبادة ولها خلقتهم فكل ميسر لما خلق له، فمن كانت صنعته العبادة وخلق لها، يسرت له، ومن كانت صنعته الدنيا وخلق لها، يسرت له، وفي الخبر أنّ الله تعالى خلق كل صانع وصنعته، ويقال إنّ الله تعالى لما أظهرالخلق في العدم أظهر لهم الصنائع كلها، ثم خيّرهم فاختار كل واحد صنعته، فلما أبداهم في الوجود أجرى على كل واحد ما اختار لنفسه قال: وانفردت طائفة فلم تختر شيئاً، فقال لها: اختاري فقالت: ما أعجبنا شيء رأيناه فنختاره قال: فأظهر مقامات العبادات فقالت: قد اخترنا خدمتك فقال: وعزّتي وجلالي لأخدمنّكم إياهم ولأسخرنّهم لكم، وفي الخبر: أوحى الله تعالى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك فالعبادة هي الخدمة، ومن ذلك قولهم: إياك نعيد ولك نصلِي ونسجد، وإليك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 نسعي ونحفد، أي إليك نعمل ونخدم مثل قوله تعالى: (بَنِينَ وَحَفَدَةً) النحل: 72 أي خدماً في أحد الوجوه والعبادة هي الخدمة بذلّ وتواضع، والعرب تقول: طريق معبّدٍ إذا كان مذللاً ممهداً وموطوءًا بالأقدام، ويقولون: بعير معبد إذا كان ممتهناً بالكد نضواً من السير والحمل عليه، ومنه قول القبط: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون، يعنون بني إسرائيل، خدمنا نستذلّهم ونمتهنهم بالكدّ والعمل، وقال بعض العارفين: إنّ الله سبحانه وتعالى اطلع على قلوب طائفة من عباده فلم يرها تصلح لمعرفته ولا موضعاً لمشاهدته، فرحمها فوهب لها العبادات والأعمال الصالحات، ثم إطلع على قلوب طائفة أخرى من خلقه فلم يرَ جوارحهم تصلح لخدمته ولا موضعاً لمعاملته، فاستعملهم للدنيا وعبّدهم لأهلها، ومن هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعس عبد الدينار والدرهم، تعس عبد الزوجة، تعس عبد الخميصة؛ أي الذين يذلون لهذه الأشياء ويسعون لها، وفي أخبار داود عليه السلام: إني خلقت محمداً لأجلي وخلقت آدم لأجل محمد، وخلقت جميع ما خلقت لأجل ولد آدم، فمن اشتغل منهم بما خلقته لأجله حجبته عني، ومن اشتغل منهم بي سقت له ما خلقته لأجله. وأحبه لمن يحبه واختار له من عبده من العبيد من خصوص العاملين له، وهم العالمون به دون من صرفه في رزق نفسه بنفسه، وهو قوله تعالى: (إلاّ لِيَعْبُدُونِ) (مَا أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) الذاريات: 56 - 57، أي أن يرزقوا نفوسهم بكسبهم الذي أبحته لهم، فيكونوا كغيرهم ممن قلت له: اذهب فتكسب، فقد أردت منك الرزق لنفسك بكسبك وقد وهبته لك، أي أنا أُريد من هؤلاء العبادة ولها خلقتهم فكل ميسر لما خلق له، فمن كانت صنعته العبادة وخلق لها، يسرت له، ومن كانت صنعته الدنيا وخلق لها، يسرت له، وفي الخبر أنّ الله تعالى خلق كل صانع وصنعته، ويقال إنّ الله تعالى لما أظهرالخلق في العدم أظهر لهم الصنائع كلها، ثم خيّرهم فاختار كل واحد صنعته، فلما أبداهم في الوجود أجرى على كل واحد ما اختار لنفسه قال: وانفردت طائفة فلم تختر شيئاً، فقال لها: اختاري فقالت: ما أعجبنا شيء رأيناه فنختاره قال: فأظهر مقامات العبادات فقالت: قد اخترنا خدمتك فقال: وعزّتي وجلالي لأخدمنّكم إياهم ولأسخرنّهم لكم، وفي الخبر: أوحى الله تعالى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك فالعبادة هي الخدمة، ومن ذلك قولهم: إياك نعيد ولك نصلِي ونسجد، وإليك نسعي ونحفد، أي إليك نعمل ونخدم مثل قوله تعالى: (بَنِينَ وَحَفَدَةً) النحل: 72 أي خدماً في أحد الوجوه والعبادة هي الخدمة بذلّ وتواضع، والعرب تقول: طريق معبّدٍ إذا كان مذللاً ممهداً وموطوءًا بالأقدام، ويقولون: بعير معبد إذا كان ممتهناً بالكد نضواً من السير والحمل عليه، ومنه قول القبط: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون، يعنون بني إسرائيل، خدمنا نستذلّهم ونمتهنهم بالكدّ والعمل، وقال بعض العارفين: إنّ الله سبحانه وتعالى اطلع على قلوب طائفة من عباده فلم يرها تصلح لمعرفته ولا موضعاً لمشاهدته، فرحمها فوهب لها العبادات والأعمال الصالحات، ثم إطلع على قلوب طائفة أخرى من خلقه فلم يرَ جوارحهم تصلح لخدمته ولا موضعاً لمعاملته، فاستعملهم للدنيا وعبّدهم لأهلها، ومن هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعس عبد الدينار والدرهم، تعس عبد الزوجة، تعس عبد الخميصة؛ أي الذين يذلون لهذه الأشياء ويسعون لها، وفي أخبار داود عليه السلام: إني خلقت محمداً لأجلي وخلقت آدم لأجل محمد، وخلقت جميع ما خلقت لأجل ولد آدم، فمن اشتغل منهم بما خلقته لأجله حجبته عني، ومن اشتغل منهم بي سقت له ما خلقته لأجله. ذكر حكم المتوكل إذا كان ذا بيت فإن كان المتوكل ذا بيت فليغلقه إذا خرج، إحرازاً له لأجل الأمر بالحذر ولإتّباع السنّة والأثر قال الله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذينَ آمنُواخُذُوا حِذْرَكُمْ) النساء: 71، وقال تعالى: (واحْذَرْهُم أنْ يَفْتنوك) المائدة: 49، وقد يروي في خبر اعقلها وتوكل ولاينقص ذلك توكله إذا كان ساكن القلب إلى الله لا إلى خلقه، ناظراً إلى حسن تدبيره في تبقية رحله أو إذهابه لا إلى إحرازه، غير مختار لبقاء ما في بيته على اختيار الله له لحسن أحكامه عنده، لأن الله تعالى إذا رفع عبداً إلى مقام التوكّل عليه في شيء أعطاه التوكل في كل شيء، كما لا يكون توّاباً يحبه الله حتى يتوب إلى اللّّه بكل شيء وفي كل شيء أي يرجع إليه بالأشياء وفيها، فلذلك قال الله تعالى: (إنَّ الله يُحِبُّ الُْمُتَوَكلَّينَ) آل عمران: 159، كما قال: (إنَّ اللّّه يُحِبُّ التَّوَّابينَ) البقرة: 222، مع قوله: (وَعَلَى الله فَلْيَتوَكَّلَ الْمُتَوكِّلُونَ) إبراهيم: 12، أي ليتوكل عليه في كل شيء، من توكل عليه في شيء، هذا أحسن وجوهه، والوجه الآخر وعليه فليتوكل في كل توكّله من توكل عليه في الأشياء لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الوكيل في شيء واحد، فينبغي أن يكون التوكّل عليه واحداً في كل شيء، فالتوكل مقام رفيع من مقامات الأنبياء ومن أعالي درج الصدّيقين والشهداء؛ من تحقّق به فقد تحقّق بالتوحيد وكمل إيمانه وكان على مزيد، وانتفى عنه دقائق الشرك وخفايا تولي العدو فانقطع سلطانه عنه، قال الله سبحانه وتعالى: (إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِهُّم ْ يَتَوَكَّلُون) (إنَّما سُلْطَاُنهُ عَلى الَّذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) النحل: 99 - 100 يعني العدو، والذين هم به مشركون يعني الله سبحانه، فلم يشترط نفي سلطان العدو بالإيمان مجرّداً حتى يقيمه في مقام التوكّل في اليقين، فلذلك فصلنا شرحه وأطلقنا تفصيله لأنّ من أعطى مقاماً من التوكّل على حقيقة مشاهدة الوكيل انتظم له جمل مقامات اليقين وأحوال المتقّين، كما قال عبد الله بن مسعود: التوكل جماع الإيمان وقد يبتلى المتوكل في توكّله بالأسباب والأشخاص والأغراض وضروب المعاني، كما يبتلى سائر أهل المقامات ويبقى عليه من العدو نزغ وطيف لا غير دون الاقتران والاستحواذ، يختبر بذلك صدقه في توكّله حتى يرد في جميع ذلك نظره إلى وكيله ليجزى جزاء الصادقين المقرّبين، أو ليكشف له دعواه فيعلم كذب نفسه، فيكون مردوداً إلى التوبة، كما قال تعالى: (لِيَجْزِيَ الله الصَّادِقينَ بصدْقِهِمْ) الأحزاب: 24، وحسب جزاء المتوكلّين أن يكون الصادق حسبهم وأن يكون خلعة الصدق شعارهم ثم قال تعالى: (وَيُعَذِّب الْمنافِقينَ إنْ شَاءَ أوْ يَتوبَ عَلَيْهِمْ) الأحزاب: 24، فأحسن حال المدّعين التوبة بها يخرجون من ظلمهم، وقال تعالى: (أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) العنكبوت: 2، ثم أخبر بسنته التي قد خلت في عباده فقال: ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين، ولن تجد لسنّة الله تبديلاً، فليقل المتوكّل عند خروجه من منزله معتقداً لذلك بعد غلق بابه للأمر والسنّة: اللهم إنّ جميع ما في منزلي إن سلطت عليه من يأخذه فهو في سبيلك صدقة منّي على من أخذه، فإن أخذ ما في منزله كان له في ذلك سبع معاملات: إحداهما قبول توكله على الله بتدبير الله أمره كيف شاء، واختيار الله له نقصان الدنيا، وإذهاب ما لعله يفتتن بتبقيته، والثانية اختيار الله تعالى لعبده وابتلاؤه إياه بفقد محبوبه ليظهر صدقه ومسألته، أو ليستيبن للعبد كذبه، فإن حمد الله وشكره على حسن بلائه ولم تضطرب نفسه أعطي ثواب الشاكرين الراضين، كما جاء في العلم المكنون عن بعض أنبيائه قال: يا رب من أولياؤك؟ قال: الذين إذا أخذت منه المحبوب سالمني، والثانية إن اضطربت نفسه وجزعت جاهدها بالصبر والصمت وحسن الثناء على الله وترك الشكاية إلى عبيده، فأعطي ثواب الصابرين المجاهدين، والرابعة إن لم يكن في هذا المقام ولا في المقام الأوّل انكشف له بطلان دعواه وظهر له خفيّ كذبه في حياته، فاعترف بذلك واعتذر إلى الله واستكان وخضع، فيكون هذا أيضاً مزيد مثله على معنى الإعلام والبيان، فيعلم إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 كذاب لكراهية ما قضى الله وقلّة صبره أو بسخطه ما حوّله الله من خزانته التي هي في يده إلى خزانته الأخرى التي هي في يد غيره، إذ قد علم أن يده خزانة مولاه، وأنّ ما حوله منها لم يكن له وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 كان قد استودعه، فحزن وساءه حين استرجع منه ما أودعه وأعاره وأودعها غيره أو دفعها إلى من هي رزقه، وكانت له من قبل، أنّ المتوكل قد علم أن الله تعالى، إذا وهب شيئاً من الدنيا للأجسام من الملك وشيئاً من الآخرة من الملكوت وصار ذلك رزقاً للمتوكّل في آخرته، فآثر لضعف يقينه رزق دنياه على رزق آخرته لنقصان زهده، ليس ذلك، إلا للطمع فيه، وفضل الرغبة والشره إذ قد علم أن ما أخذ منه كان وديعة لغيره عنده، فهذه كلها ذنوب عند المتوكّلين موجبات للتوبة والاستغفار عند الموقنين، من قبل أن المتوكّل قد علم أن الله إذا وهب شيئاً من الملك في الدنيا للأجسام أو شيئاً من ملكوت الآخرة في القلوب، لم يأخذه أبداً؛ فما كان في الدنيا بقي لصاحبه إلى آخر أثره حتى يفنيه ويبليه، وما وهبه من الآخرة من الإيمان والعلم والعمل لم يأخذه أبداً بل ينميه ويزيده فيه إلى أبد الأبد في دار الأبد، ولكن قد يعير ويستودع من أمور الدنيا وأمور الآخرة، فهذا النوع لا بدّ أن يسترده ويسترجعه في الدنيا لأن حكمته أوجبت ردّه كما أوجب كرمه تبقية ما وهبه، فلا ينبغي للمتوكّل الموقن ما ذكرناه أن يحزنه ما حول الله من خزانته التي في يده مما أعاره واستودعه إلى خزانته الأخرى التي هي يد غيره، ممن لعلّه يهبه له أو يبتليه بأحكامه فيه، فيخرج أيضاً من يده إلى يد غيره لأنه ما خرج من الدار شيء، ولله حكمة وابتلاء في كل شيء؛ فالحزن والأسف على فوت مثل هذا عند العارفين جناية، ومن المؤمنين خيانة، يستغفرون الله ويتوبون إليه كما يتوبون من المعاصي، لأنهم قد شهدوا ما بيّناه ولأنه قد أمرهم بترك الأسى على فائت الدنيا وقلة الفرح بما أتى منها، إذ لا بدّ من كونهما لأنه قد علمه وبعد علمه قد كتبه وبعد كتبه قد أعلم به، فكشف لهم اليقين عن الكتاب المستبين؛ أنّ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، فما ظهر من المصائب في الأموال والأنفس فقد سبق قبل خلق الخلق، وهذا قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) الحديد: 22، قيل: من قبل أن نخلق الخليقة وقبل أن نبرأ الأرض وقيل: من قبل أن نبرأ الأنفس، وقيل: من قبل أن نبرأ المصيبة، ثم قال تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) الحديد: 32، فالأسى على فقد الشيء على قدر الفرح بوجوده، أفلا يستحي العبد أن يكون على ضدّ ما أمر به أو بخلاف ما يحبّه منه مولاه؟ فيأسى على ماليس له ويحزن على ما أخذ منه واستودعه، أو يفرح بما ليس له لأنه لا يعلم أنه قد وهب له، فيبقي عليه، أو قد أعيره فيؤخذ منه، فلما استرجعه من يده التي هي يده تعالى قبضه، أيقن أنه لم يكن له وأنه إنما كان وديعة عنده فحزن وساء، فهذا لما أيقن شك، ولما علم جهل ورغب فيما ينبغي أن يزهد فيه، فأي شكّ مع ذلك يتوهم المتوكّل على الله ويدعي منازل الأقوياء الأغنياء بالله، الشاهدين لمجاري قدر الله في تصاريف حكمه، فإذا علم العبد أنه كاذب استكان استكانة الكذابين وتاب توبة المدعين، ولم ينطق بكلام الصادقين ولا يدل إدلال المحبوبين، فيكون تعريف الله إياه هذه المعاني تأديباً له ومزيد مثله، وهذا مزيد الناقصين. ما حوّله الله من خزانته التي هي في يده إلى خزانته الأخرى التي هي في يد غيره، إذ قد علم أن يده خزانة مولاه، وأنّ ما حوله منها لم يكن له وإنما كان قد استودعه، فحزن وساءه حين استرجع منه ما أودعه وأعاره وأودعها غيره أو دفعها إلى من هي رزقه، وكانت له من قبل، أنّ المتوكل قد علم أن الله تعالى، إذا وهب شيئاً من الدنيا للأجسام من الملك وشيئاً من الآخرة من الملكوت وصار ذلك رزقاً للمتوكّل في آخرته، فآثر لضعف يقينه رزق دنياه على رزق آخرته لنقصان زهده، ليس ذلك، إلا للطمع فيه، وفضل الرغبة والشره إذ قد علم أن ما أخذ منه كان وديعة لغيره عنده، فهذه كلها ذنوب عند المتوكّلين موجبات للتوبة والاستغفار عند الموقنين، من قبل أن المتوكّل قد علم أن الله إذا وهب شيئاً من الملك في الدنيا للأجسام أو شيئاً من ملكوت الآخرة في القلوب، لم يأخذه أبداً؛ فما كان في الدنيا بقي لصاحبه إلى آخر أثره حتى يفنيه ويبليه، وما وهبه من الآخرة من الإيمان والعلم والعمل لم يأخذه أبداً بل ينميه ويزيده فيه إلى أبد الأبد في دار الأبد، ولكن قد يعير ويستودع من أمور الدنيا وأمور الآخرة، فهذا النوع لا بدّ أن يسترده ويسترجعه في الدنيا لأن حكمته أوجبت ردّه كما أوجب كرمه تبقية ما وهبه، فلا ينبغي للمتوكّل الموقن ما ذكرناه أن يحزنه ما حول الله من خزانته التي في يده مما أعاره واستودعه إلى خزانته الأخرى التي هي يد غيره، ممن لعلّه يهبه له أو يبتليه بأحكامه فيه، فيخرج أيضاً من يده إلى يد غيره لأنه ما خرج من الدار شيء، ولله حكمة وابتلاء في كل شيء؛ فالحزن والأسف على فوت مثل هذا عند العارفين جناية، ومن المؤمنين خيانة، يستغفرون الله ويتوبون إليه كما يتوبون من المعاصي، لأنهم قد شهدوا ما بيّناه ولأنه قد أمرهم بترك الأسى على فائت الدنيا وقلة الفرح بما أتى منها، إذ لا بدّ من كونهما لأنه قد علمه وبعد علمه قد كتبه وبعد كتبه قد أعلم به، فكشف لهم اليقين عن الكتاب المستبين؛ أنّ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، فما ظهر من المصائب في الأموال والأنفس فقد سبق قبل خلق الخلق، وهذا قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) الحديد: 22، قيل: من قبل أن نخلق الخليقة وقبل أن نبرأ الأرض وقيل: من قبل أن نبرأ الأنفس، وقيل: من قبل أن نبرأ المصيبة، ثم قال تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) الحديد: 32، فالأسى على فقد الشيء على قدر الفرح بوجوده، أفلا يستحي العبد أن يكون على ضدّ ما أمر به أو بخلاف ما يحبّه منه مولاه؟ فيأسى على ماليس له ويحزن على ما أخذ منه واستودعه، أو يفرح بما ليس له لأنه لا يعلم أنه قد وهب له، فيبقي عليه، أو قد أعيره فيؤخذ منه، فلما استرجعه من يده التي هي يده تعالى قبضه، أيقن أنه لم يكن له وأنه إنما كان وديعة عنده فحزن وساء، فهذا لما أيقن شك، ولما علم جهل ورغب فيما ينبغي أن يزهد فيه، فأي شكّ مع ذلك يتوهم المتوكّل على الله ويدعي منازل الأقوياء الأغنياء بالله، الشاهدين لمجاري قدر الله في تصاريف حكمه، فإذا علم العبد أنه كاذب استكان استكانة الكذابين وتاب توبة المدعين، ولم ينطق بكلام الصادقين ولا يدل إدلال المحبوبين، فيكون تعريف الله إياه هذه المعاني تأديباً له ومزيد مثله، وهذا مزيد الناقصين. والمعاملة الخامسة أن يكون له بكل درهم تلف سبعمائة درهم، كأنه قد أنفقه في سبيل الله، حسب له ذلك لأنه قد كان نواه، وكذلك إن لم يؤخذ ما في بيته استنباطاً من قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن ترك العزل فأقر النطفة قرارها: إنّ له أجر غلام ولد، له من ذلك الجماع وعاش فقتل في سبيل الله، وإن كان لم يولد له فقال: أنت تخلقه، وأنت ترزقه إليك، محياه إليك، مماته أقرها قرارها ولك ذلك. والمعاملة السادسة أن لا يأثم أخوه الذي أخذ رحله إن كان قد جعله صدقة عليه، فيؤجر أجراً ثانياً لإشفاقه على أخيه، وحسن نظره للعصا من حيث لا يعلمون تخلقاً بأخلاق مولاه، وينال بعفوه عن ظالمه درجة المحسنين، ويتحقّق بمقام المتّقين ويكون ممّن وقع أجره على الله، فيخفي له ما لا تعلم نفس من قرة العين ولأنه قد علم كيف جرى الأمر وأنّ الآخذ مبتلي بسوء القضاء، وأنّه قد عوفي إذ لم يكن هو ذلك العبد فيرحم أهل البلاء حينئذ، ويحمد الله على ماعافاه فيشغله الشكر لله عن الدعاء على ظالمه، قال بعض العارفين لبعض أصحابه: لم أسقط أهل المعرفة اللأئمة عن الظالمين لهم فقلت: لاأدري قال: لعلمهم أنّ الله قصدهم بذلك وابتلى الظالمين بهم فرحموهم، وذلك داخل في نصر أخيه الظالم لنفسه، وطاعة لأمر رسوله في قوله: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً؛ أي تمنعه عن الظلم فإذا عفا عنه فقد منعه من الظلم، لأنه لو رآه منعه من أخذه أو وهبه له فيقوم عفوه عنه مقام رؤيته. والمعاملة السابعة تحقّقه في الزهد فيما ذهب، وقال أبو سليمان الداراني لما بلغه عن مالك بن دينار أنه قال للمغيرة: اذهب فخذ تلك الركوة من البيت فلا حاجة لي بها، وكان قد أهداها إليه وقبلها منه فقال: ولِمَ؟ قال يوسوس إلى العدوّ أنّ اللص قد أخذها وكان مالك لا يغلق بابه إنما كان يشدّه بشريط وكان يقول: لولا الكلاب ما شددته أيضاً، فقال أبو سليمان: هذا من ضعف قلوب الصوفيين، هو قد زهد مني الدنيا فما عليه بمن أخذها، وهذا كما قال أبو سليمان: لأن الزهد إذا صحّ دخل الرضا فيه، ولقول مالك أيضاً وجه كأنه كره أن يعصي الله به، فيكون هو سبب معصية الله، ولكن قول أبي سليمان أعلى لأجل التوكّل والرضا، وهذا الذي ذكرناه من ذهاب ما في البيت هو لكل من ذهب له مال في سفر أو حضر، ولكل من أصيب بمصيبة في نفس أو أهل هذه المعاملات كلها إذا اعتقدها بقلبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وكانت في خلده ووجده، وإن لم ينطق بها أو يظهرها: فأكثر الناس إيماناً وأحسنهم يقيناً أقلهم غمّاً وأيسرهم أسى على ما فات من الدنيا، وأحسنهم رضا وأنفذهم شهادة من رأى أن ذلك نعمة أوجبت عليهم شكراً، وأقل الناس إيماناً وأضعفهم يقيناً أشدهم أسى وأكثرهم غمّاً على ما فات، وأطولهم شكوى وأقلّهم شكراً، فالمصائب محنة تكشف الزهد في الدنيا والرغبة، ألم تسمع إلى الحديث الذي جاء فيه هذا الدعاء: وأسألك من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، فشدة الغمّ على فوت الدنيا دليل على حبّها وعلامة ضعف اليقين بمحبوبه وسهوله الغمّ على فوتها دليل على الزهد فيها وقوة اليقين بربّه، فإن وجد المتوكل رحله بحاله لم يضرّه بتبقيته شيء وكان له أحر ما قد نوى من المعاملات، ولا أعلم هذا القول واعتقاده عند خروج العبد من منزله أو تركه لرحله أو خروجه في سفر ينفعه شيئاً ولا يضرّه، ولا يقدم ضياع شيء حكم الله ببقائه له ولا يؤخر ترك العقد لهذا تبقية ما حكم الله بذهابه، ومع ذلك فيكون له حال من التوكل ومقامات في المعاملات إلاّ شيئاً واحداً من باب نقصان الدنيا من طريق الورع، فإنه ينقصه وهو أنّه إن أخذ ما توكّل على الله فيه، وفوّض إليه أمره به، ثم ردّ عليه، لم يستحبّ له في الورع أن يتملّكه، ولا أن يرجع فيه في حسن الأدب، لأنه قد كان جعله صدقة في سبيل الله، فإن رجع فيه لم ينقص ذلك توكله، لأنه قد صحّ تفويضه إلى الوكيل في الخالين معاً، فيكون ردّه عليه لأنه قد كان وهبه له بمنزلته ابتداء عطاء منه. وقد روينا أنّ ابن عمر سرقت ناقته فطلبها حتى أعيا، ثم قال: في سبيل الله، فدخل المسجد وصلّى ركعتين فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنّ ناقتك في مكان كذا، فلبس نعله وقام ثم نزعها، ثم قال: أستغفر الله، وجلس فقيل له: ألا تذهب فتأخذها فقال: إني قد كنت قلت: في سبيل الله، وحدثت عن بعضهم قال: رأيت بعض إخواني في النوم بعد موته فقلت: مافعل الله بك؟ فقال: غفر لي وأدخلني الجنة، وعرضت على منازلي فيها فرأيتها، قال وهو في ذلك كئيب حزين فقلت: قد دخلت الجنة وغفر لك وأنت حزين، فتنفّس الصعداء ثم قال: نعم إني لاأزال حزيناً إلى يوم القيامة، قلت: ولم ذلك؟ قال: إني لما رأيت منازلي من الجنة رفعت لي مقامات في عليين ما رأيت مثلها فيما رأيت، ففرحت بها، فلما هممت بدخولها، نادى منادٍ من فوقها: اصرفوه عنها فليست هذه له، إنما هذه لمن أمضى السبيل فقلت: وما أمضى السبيل؟ قيل لي: قد كنت تقول للشيء إذا ذهب منك: في سبيل الله، ثم ترجع فيه فلو كنت أمضيت السبيل لأمضيناها لك، وقد حدّثونا أن الربيع بن خيتم سرق فرسه وكان ثمنه عشرين ألفاً، وكان قائماً يصلّي فلم يقطع صلاته ولم ينزعج لطلبه فجاءه الناس يعزونه فقال: أما إني قد كنت رأيته وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 يحلّه، قيل: وما منعك أن تزجره؟ قال: كنت فيما هو أحبّ إليّ من ذاك يعني الصلاة قال: فجعلوا يدعون عليه فقال: لا تفعلوا وقولوا خيراً فإني قد جعلتها صدقة عليه، وقيل لبعضهم في شيء قد كان سرق له: ألا تدعو على ظالمك؟ فقال: ما أحب أن أكون عوناً للشيطان عليه، قيل: أفرأيت لو ردّت إليك سرقتك أكنت تأخذها؟ قال: ولا كنت أنظر إليها إني قد كنت أحللته منها، وقيل لآخر: أدع الله على من ظلمك، قال: ماظلمني أحد ثم قال: إنما ظلم نفسه فلا يكفيه المسكين ظلمه لنفسه حتى أزيده شرّاً، وذهب لبعض المسلمين مال فجاء قوم يعزونه عليه فقال: ما تعزوني على أمر الدنيا، فوالله ما حزنت على ذهابها فكيف على ذهاب شيء منها قيل: ولِمَ؟ قال: شغلني الشكر عليه عن الحزن، وقد كانوا يقولون: إذا ظلموا من الغصب والسرقة وغير ذلك، هذه نعمة الله علينا إذ لم يجعلنا ظالمين مظلومين وجعلنا أعظم مما فاتنا من الظلامة، وقد كان السلف يخافون أن يذكروا الظالم بالسبّ له والدعاء عليه فيكون ذلك زيادة على مظلمتهم. وقد روينا: من دعا على ظالمه فقد انتصر، وأكثر بعضهم بشتم الحجاج عند بعض السلف فقال له: لا تغرق في شتمته فإن الله ينتصف للحجاج ممن انتهك عرضه كما ينتصف منه لمن أخذ ماله، وفي الخبر أن العبد ليظلم المظلمة، فلا يزال يشتم ظالمه ويسبّه حتى يكون بمقدار ماظلمه، ثم يبقى للظالم عليه مطالبة بما زاد عليه يقتصّ له من المظلوم، وقال بعض العلماء لرجل وقد كان شكا إليه قطع الطريق وأخذ ماله فقال له: إن لم يكن غمك أنّه قد صار في المسلمين من يستحلّ هذا أكثر من غمك بمالك فما نصحت للمسلمين، وسرقت من علي بن الفضيل دنانير وهو يطوف بالبيت فرآه أبوه وهو يبكي ويحزن فقال: أعلى الدنانير تبكي؟ فقال: لا والله، ولكن على المسكين، أنه يسأل يوم القيامة بهم ولا يكون له حجة، وقيل لبعضهم في معنى هذا: أدع على من ظلمك، فقال: إني مشغول بالحزن عليه عن الدعاء عليه؛ فإن ردّ عليّ المتوكّل كلّ ما أخذ منه فالأفضل له أن لا يتملّكه، إن كان قد جعله في سبيل الله ليمضي السبيل، فإن كان قد جعله صدقة على الآخذ نظر في ذلك فإن كان فقيراً حمله فقره على السرقة والخيانة والحاجة أمضى صدقته عليه، وإن كان غير ذلك صرفها إلى فقير، وقد كان بعضهم إذا أخذ له الشيء يشترط فيقول: إن كان فقيراً فهو صدقة عليه، وإن كان محتاجاً فهو في حلّ، وقد أخبرني بعض الأشياخ عن شيخ كان بمكة من العباد أنّه اتهم بعض الحجاج بسرقة هميانه لأنه كان قائماً إلى جانبه، فقال له: كم كان فيه فأخبره، فحمله إلى منزله فوزن له من المال، ثم إنّ أصحابه أعلموه أنهم مزحوا معه وحلّوا هميانه وهو نائم، فجاء هو وأصحابه إليه فردّوا عليه ماله، فقال: ما كانت لتعود إليّ بعد إذ خرجت هي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 لكم، فقلنا: لاحاجة لنا فيها فقال: خذوها، قال: فأبينا، فقال: يابني، ودعا ابناً له وجعل يصرّها صرراً ويبعث بها إلى قوم حتى فرغ منها، وهذا كانت نيته إخراجها لله سبحانه فلم يعد فيما أخرجه، كما نقول فيمن أخرج رغيفاً إلى سائل أو أعدّ درهماً لفقير فلم يصادفه: إنّا نستحب أن لا يرجع إلى ملكه بل يعزله لسائل آخر أو فقير غيره، لم يزل هذا من أخلاق المؤمنين، وقد رأينا من كان بهذا الوصف وهذا طريق قد عفا أثره ودرس خبره، فمن عمل به فقد أحياه وأظهره وقد كان قديماً طريقاً إلى الله تعالى عليه السابلة من الأولياء. ذكر بيان آخر من أحكام المتوكّل اعلم أنّ التوكّل على الله في الأسباب لا يوجب بقاءها للعبد ولا إيثاره بها ولا حفظها عليه، ولا يقدم شيئاً عن شيء ولا يؤخّره لصلاح دنيا أو اختيارعبد، بل هو إلى الإذهاب والإتلاف أقرب لأن التوكّل قرين الزهد، هكذا هو عند الخصوص ولأجل اختيار العبد وتحقيق صدقه محنة له، ولأجل مَنْ نفي الشيء من الدنيا، قال الله سبحانه وتعالى: (فَمَا أُوتيتُمْ مِنْ شَيءٍ فَمَتَاعُ الْحَياةِ) الشورى: 36 فإن ذهب ماله فصبر أو شكر أو رضي، كان صادقاً في توكله، وهذه أحوال المتوكلين في التوكّل إن كانوا صادقين، وإن عجز واضطرب كان كاذباً في توهّمه للتوكّل ويلزمه من مجاهدة النفس عند اضطرابها بعد عدم الأشياء ما يلزمه من مجاهداتها ونفي الآفات في سائر الأعمال، فإن حفظ عليه ماله فقد رفق به في ذ لك وستر عليه عن كشف حقيقة حاله بتلف ذلك، وجعلت كرامة من الدنيا له ليطمئن بذلك في حاله ويسكن به قلبه في طريقه، وهذا مقام الضعفاء، وإن نقص من الدنيا فقد أقيم مقام أهل البلاء، الأمثل فالأمثل بالأنبياء، ولولا الامتحان لكثر الصادقون وكذلك التوكل على الله في ترك الدواء لا يجلب العوافي ولا يعجلها، ولا ينقص من الأمراض ولا يذهبها، بل هو إلى الازدياد منها أقرب للتمحيص والابتلاء، ومنه قوله عزّ وجلّ: (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرينَ) آل عمران: 141، فمن لم يشهد نقصان الدنيا من النفس والمال نعمة توجب عليه الشكر، ويرى المنع عطاء فقد جهل تلك النعمة بإضاعة شكرها، فما فاته من جهل النعمة، وترك الشكر، أعظم مما يترك من جميع الدنيا، وأخاف عليه لطيفة من المحق، والمحق نقصان الشيء إلى ذهاب جملته عند الكفر بنعمته لقوله تعالى: ويمحق الكافرين فالله أعلم أي شيء يمحقه وينقصه، بمقدار ما كفر شكر نعمته، وقد قال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ) البقرة: 155 فهذا النقص من هذه الخمس التي المزيد منها هو جملة الدنيا، هو المزيد من الآخرة لا ضد الدنيا كما قال تعالى: (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّّلُونَ) الشورى: 36 فصبروا على مصائبهم توكّلاً على ربّهم، ثم توكّلوا رهم لشهادة وكيلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ولحسن ظنّهم به، ثم صبروا على توكّلهم لتمام حالهم، ويعلو بذلك فيه مقامهم: فالصبر أول مقام في التوكّل وهو عند مشاهدة القضاء بلاء، والشكر أعلى من ذلك هو شهود البلاء نعمة، والرضا فوق ذلك كلّه وهو أعلى التوكّل وهو مقام المحبين من المتوكّلين، قال الله عزّ وجلّ في وصف عموم المتوكلين: (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) القصص: 60، فمن اتّقى الله وعقل خطابه توكّل عليه فيما أصابه، فلم ييأس على ما فات ولم يفرح من الدنيا بما هو آت وهذا أوسط الزهد وأوّل التوكّل، وقال تعالى في وصف الخصوص: (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الشورى: 36 فأهل العقل عن الله والمتقون له هم المتوكلون عليه، وقد زهدهم فيما يفنى برغبته إياهم فيما يبقى حين فهموا الخطاب، إذ هم أولو الألباب وذلك أنه أضاف ما عنده إليه ووصفه بالبقاء ليرغبوا فيه، لأنهم قد توكّلوا عليه وأضاف ما عندهم إليهم ليزهدوا فيه، ووصفه بالفناء لأنهم قد زهدوا في نفوسهم، إذ قد باعوها منه، فكيف يتملكون ماعندها؟ والعبد وماله لسيده وهو تعالى قد اشتراها منهم لرغبتهم فيه، وعوّضهم منها ما يبقى لهم فقال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ) النحل: 96 ذكر بيان آخر من فضيلة المتوكّل اعلم يقيناً أن الله تعالى لوجعل الخلائق كلّهم من أهل السموات والأرضين على علم أعلمهم به، وعقل أعقلهم عنه وحكمة أحكمهم عنده، ثم زاد كلّ واحد من الخلائق مثل عدد جميعهم وأضعافه علماً وحكمة وعقلاً، ثم كشف لهم العواقب وأطلعهم على السرائر وأعلمهم بواطن النَّعم، وعرّفهم دقائق العقوبات وأوقفهم على خفايا اللطف في الدنيا والآخرة، ثم قال لهم: دبّروا الملك بما أعطيتكم من العلوم والعقول عن مشاهدتكم عواقب الأمور، ثم أعانهم على ذلك وقواهم له، لما زاد تدبيرهم على ما يراه من تدبير الله تعالى من الخير والشر والنفع والضرّ جناح بعوضة، ولا نقص جناح بعوضة ولا أوجبت العقول المكاشفات ولا العلوم المشاهدات غير هذا التدبير، ولا قضت بغير هذا التقدير الذي يعاينه ويقلب فيه، ولكن لا يبصرون لأنه أجراه على ترتيب العقول وعلى معاني العرف والمعتاد من الأمور، بالأسباب المعروفة والأواسط المشهورة على معيار ما طبع العقول فيه وجبل العقول عليه، ثم غيّب مع ذلك العواقب وحجب السرائر وأخفى المثاوب، فغاب بعينها حسن التدبير وجميل التقدير فجهل أكثر الناس الحكم إلا المتوكلين وما يعقلها إلا العالمون، ويقال: أصغر ماخلق الله من الحيوان والموات البعوضة والخردلة، وفي كل واحدة منها ثلاثمائة وستون حكمة، ثم يتزايد الحكم في المخلوقات على قدر تفاوتها في العظم والمنافع ومزيد آخر من الهدى، والبيان لو تمنّى أهل النهي من أولي الألباب الذين كشف عن قلوبهم الحجاب نهاية أمانيهم، فكوّنت أمانيهم على ما تمنوا لكان رضاهم عن الله في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 تدبيره ومعرفتهم بحسن تقديره لهم، خير لهم من كون أمانيهم، وأفضل لهم عند الله من قبل إن الله، أحكم الحاكمين، وقال تعالى موبخاً للإنسان مجهلاً للتمني لقلة الإيقان: (أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنّى) (فَلِلّهِ الآخِرَةُ وَالأُولى) النجم: 24 - 25 أي يحكم فيهما بترك الأماني لأنه قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَواتُ وَالأَرْضُ ومَنْ فيهِنَّ) المؤمنون: 71 فالمتوكّل محبّ لله تعالى مسرور بربّه فرح له بملكه، بأنّ له الآخرة والأولى يحكم فيهما كيف شاء، والعبد عاجز لا يقدر على شيء، فهذا أوّل مقام في المحبة، فقد كفى الخلائق هذا كله بحسن تدبير الخالق العليم الخبير البصير، وإنما يحتاجون إلى معرفة بالحكمة ومشاهدة للحكم والرحمة، وإلى بصيرة ويقين يسكن عندها قلوبهم ولا يضطرب، هذا الذي ذكرناه عند الموقنين وستطلع العموم على سرّ ما ذكرناه من لطيف التدبير وباطن التقدير، وهو سرّ القدر ولطائف المقدّر في الآخرة عند المعاينة، وقد كشف الغطاء وظهر ما تحته من عجائب الخبء في السموات والأرض، وقد أطلع الله على ذلك العلماء به في الدنيا وهو محمود مشكور على ما أظهر وأخفى، ففي كلّ واحد منهما نعمة، ومع كل واصف منها حكمة ورحمة، ولكن قد خلق الله العلماء بأخلاقه فليس يكشفون من علمه إلا بقدر ما كشف، وليس يعرفون من سرّ قدره إلا بمعيار ما عرف، وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ عندنا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنْزِّلَهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الحجر: 21 فقد تأدبوا بهذا الخطاب ووقفوا عنده، وقال أبو سليمان الداراني: إذا لاحظت الأشياء من فوق وجدت لها طعماً آخر، وقال بعض العارفين: إذا رأيت الأشياء كلها كشيء واحد من معدن واحد، رأيت ما لم تسمع وفهمت ما لم تفهم الخلق، وقال بعضهم: لا ترى العجب حتى ترى عجباً فإن لم ترَ عجباً رأيت العجب. ذكر بيان آخر من وصف المتوكّلين اعلم أن العلماء بالله سبحانه؛ لم يتوكّلوا عليه لأجل أن يحفظ لهم دنياهم، ولا لأجل تبليغهم مرادهم، ولا ليشترطوا عليه حسن القضاء بما يحبّون، ولا ليبدّل لهم جريان أحكامه عمّا يكرهون ولا ليغيّر لهم سابق مشيئته إلى ما يعقلون، ولا ليحوّل عنهم سنّته التي خلت في عباده من الابتلاء والاختبار، هو أجلّ في قلوبهم من ذلك وهم أعقل عنه وأعرف به من هذا، لو اعتقد عارف بالله أحد هذه المعاني مع الله في توكّله كان كبيرة توجب عليه التوبة وكان توكّله معصية، وإنما أخذوا نفوسهم بالصبر على أحكامه كيف جرت، فطالبوا قلوبهم بالرضا عنه كيف جرت، وقال رجل لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إني تعلقت بأستار الكعبة فتبت من كلّ ذنب وحلفت أن لا أعصي الله فيما أستقبل، فقال له: ويحك، ومن أعظم معصية منك تتألى على الله أن لا ينفذ حكمه فيك، وأنشدنا بعض العلماء لبعض الحكماء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 لما رأيت القضا جارياً ... لا شك فيه ولا مرية توكلت حقّاً على خالقي ... وألقيت نفسي مع الجرية وإنما كرهو ما كره الله طاعة لله، فذلك كراهة ما كره حبّاً للّّه واكتراماً لحكمه عليهم، لاكراهة ما قضى إذ ليس لهم أن يقولوا: فلم قضيت ما تكره ولِمَ كرهت ما قضيت؟ هو أجلّ وأعظم، وفي نفوسهم أخوف وأهيب أن يواجهوه بهذا الخطاب في قول أو عقد، بل عرفوا حكمته فيه وصبروا على حكمه به، وإنّما توكّل العلماء به عليه لأجل أنه يحبّ المتوكّلين ولأجل أنه يستحقّ التفويض إليه ويستوجب التسليم له، إذ كان هو الوكيل الأوّل والكفيل الآجلّ حين سمعوه يقول: والله على شيء وكيل، ثم استوى على العرش يدبّر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه، وحين فقهوا قوله: ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، ولما عقلوا من خطابه: أليس الله بأحكم الحاكمين أو لأجل أنه أمر بالتوكّل، وندب إليه وحقق الإيمان به؛ إذ سمعوه تعالى يقول: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أمن يملك السمع والأبصار ومن يدبر الأمر؟ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وفي السماء رزقكم، وما توعدون، ثم أقسم عليه بنفسه أنه حقّ فتوكّلوا عليه إستحياءً، منه ولوجود اليقين الذي رفع خفايا الشكّ وحذّر من التهمة له وتوثقة بالاعتقاد عليه؛ فمنهم من توكّل عليه لأجل هذه المعاني كلها، ومنهم من توكل عليه لمشاهدة بعضها فكل عبد توكّله عن الوصف الذي به عرفه، وكلّ عرفه عن العذر المتجلي الذي عرفه؛ فكلّ يطيعه على قدر قربه منه، وكلّ يقرب على قدر علمه بقربه منه بقدر مايعرف من كينونية في مكنون كأنه، وكلّ بعلمه على قدر عنايته به ومن ورائه سرّ القدر، فمشاهدة كلّ عبد من مقامه وحاله عن وجد شهادته وجزاؤه نحو معاملته، والله يضاعف لمن يشاء هم درجات عند الله، والله بصير بما يعملون، لهم دار السلام عند ربهم وهو وليّهم بما كانوا يعملون، فدار السلام جامعة لهم وهم متفاوتون في درجاتها كدار الدنيا تجمعهم، وهو يرفعهم لديه في ملكوتها بتخصيص التولي وحسن الولايات عن تحسين المعاملات، الله يجيبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب، ومن الخصوص من توكّل عليه تعظيماً له وإجلالاً، ومنهم من توكّل عليه يقيناً بوعده ليحقّق صدقه كأنه قد أخذ الموعود بيده إذ يقول تعالى: ومن أوفى بعهده من الله أنّه كان وعده مأتياً، ومنهم من توكّل عليه استسلاماً لما شهد من قهر عزّه وعظيم قدره، ومنهم من توكّل عليه ليحفظ عليه ماله فيه، ومنهم من توكّل عليه ليحفظ له ما استحفظه ويعصمه في ماله عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 ومنهم من توكّل عليه لقيامه بشهادته عن حسن معرفته، ومنهم من توكّل عليه تسليماً له عن جميل معاملته، ومنهم من فوّض إليه لحسن تدبيره عنده وبحكم تقديره، ومنهم من توكّل عليه لأن توحيده له وشهادة قيوميته، ذلك يقتضيه، فهذه كانت مواجيد أوليائه ومناهج أحبابه عن مشاهدة القرب ومعرفة القريب، وبعضهم أعلى مقاماً من بعض، وبعض هذه المشاهدات أقرب وأرفع فأعلاها من توكّل عليه للإجلال والتعظيم، وأوسطها من توكّل عليه للمحبة والخوف، وأدناها من توكّل عليه تسليماً له وتحبباً إليه، وقد ذكرنا أيضاً من توكّل العموم ما يستحي العارفون من ذكره، وينزّهون قلوبهم عن فكره، وهو التوكّل عليه في القلوب، وقد طوينا ذكر توكل خصوص الخصوص من صديقي المقربين لأنه لا يحتمله عقل عاقل ولا يسع أن يستودع في كتاب الناقل إذ ربما نظر فيه منكر جاهل، والله المستعان فدخل من عرفه فيما يحبّ لأجله، ورغبوا فيما مدح لوصفه ليحصل لهم وصف يعطيهم به الولي حسن ثناء، ينالون بذلك قربة منه ومحبة لديه. ذكر بيان آخر في التوكّل وما لا ينقص المتوكل ولا ينقص المتوكل على الله سبحانه مسألة مولاه فيما أحب من صالح الدنيا ومزيد الآخرة، إذ لم يقصد غير مطلوب، وكان مفوضاً إلى الله الأمور، ولكن يحتاج إلى معرفة الإجابة؛ فقد يكون المنع إجابة وقرباً إذا كان العطاء شغلاً عنه، وبعد الآن الخيرة فيما لا يعلم العبد، وقد يكون فيما يكره مما يعلم الله سبحانه حسن عاقبته، لا فيما يعقل العبد عاجل منفعته، فعليه التسليم لحكم الحاكم والرضا بقسم القاسم، فإن سأل تكاثراً من الدنيا، أو مالاً يحتاج إليه، وما ليس فيه صلاح قلبه، ولا قربة إلى ربّه، أخرجه من حقيقة التوكل بمقدار ما يخرجه من الزهد؛ وإن انقطع بالذكر عن المسألة أعطاه فوق عطاء من سأله، وإن سكت حياء من الوكيل إذ هو حسبه فشهد الكفاية ورضي بجميع التصرف، فهذا مقام من المواجهة عن مشاهدة القيومية وهو حال المقربين، ولا يقدح في التوكل تشرّف المتوكل إلى رزقه لأنه خلق ضعيفاً ذا فاقة، ورزقه معلوم لا بدّ منه، والمعلوم مقسوم فتشرّفه إلى القسم تشرّف منه إلى القاسم، ومن تشرّف إلى مولاه شرّفه وتولاه، ولكن إن تشرّف إلى الزيادة، وخرج من القناعة، وطلب العادة، وأراد الشيء قبل وقته، أو كره تأخره عنه إلى وقت مقدوره، فإنّ هذا يقدح في توكله وينقص من زهده، ولو كان الشرف إلى الرزق منها والتطلع إلى الرزق مجملاً ينقص التوكل لعللنا من باع واشترى وجهلنا من تعالج من علله بالدواء، لأن في ذلك تشرّفاً إلى الرزق وتطلعاً إلى البرء، فجاء من ذلك تضعيف التابعين وطعن على المتداوين من الصحابة والسلف الصالح، وأخرجهم ذلك من التوكل والزهد، فلهم منها مقامات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 ولا يخرجه من التوكل مطالعته للعوض على معاملته من جزاء الآخرة، لأنّه قد شوّق إلى ذلك وندب إليه، ولكن لا يدخله ذلك في حقيقة الإخلاص ولا يرفعه إلى علو درجة الصدّيقين من المتوكلين، وقد يكون مزيداً على قدر حاله، إلاّ أنه لا يدخله في إخلاص المحبين، ولايرفعه في درجات المقربين، ولا يصح التوكل إلاّ بزهده في الدنيا، وأول الزهد ترك الرغبة في الحرام، وأول أحوال المتوكل في القوت ثم الصبر على حكم الحيّ الذي لا يموت، وأعلى التوكل التوكل عليه في الاستسلام للأحكام والرضا عنه في المسابقة بين الأقدام، وهو إطراح النفس ونسيانها شغلاً منه عنها بنفسها وحبّاً له، وحقيقة التوكل بعد مشاهدة يد الوكيل، فإذا ظهرت يده غابت الأيدي فيها، فعندها توكلت عليه بتدلل فقبل توكلك، واستسلمت إليه فسلمك، فإنه يتجلّى لك بوصف يلزمك حكماً، يضطرك الحكم إلى الحاكم ويوقفك الوصف على الوكيل، كما يضطرك الحاكم إلى الحكم ويجري لك وعليك ماشاء من القسم، فأعلى توكلك عليه حياءً منه، وإشهاده إياك توكله لك بحسن التدبير، لم يكلك إلى سواه ولم يولك إلا إياه: فإمّا أن يقتضيك تصبراً له، وإما أن يقتضيك تفويضاً إليه، وأما أن يقتضيك رضا عنه أو تسليماً له أو استراحة من تدبيرك لنفسك، أو يسقط عنك اهتمامك بتقديرك وأمانيك، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، والحسب أي الحسب يجعله ما شاء كيف شاء، فقد قيل: حسبه أي التوكل، وقد قيل: التوكل حسبه من سائر المقامات، وقيل: الله حسبه أي يكفيه ممن سواه، قال تعالى معرفاً للكافة مسلياً للجماعة: (إنَّ اللَّّه بَالِغُ أمْرِهِ) الطلاق: 3؛ أي منفذ حكمه فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلاّ أنّ من توكل عليه يكون الله حسبه أي يكفيه أيضاً مهم الآخرة والدنيا، ولا يزيد من لم يتوكل عليه جناح بعوضة في قسمه، كما لا ينقص من توكل عليه ذرة من رزقه، لكن يزيد من توكل عليه هدى إلى هداه ويرفعه مقاماً في اليقين على تقواه، ويعزه بعزه وينقص من لم يتوكل عليه من اليقين، ويزيده من التعب والهم ما يشتت قلبه ويشغل فكره، والمتوكل عليه يوجب له بذلك تكفير سيّئاته، ويلقي عليه رضاه ومحباته، والكفاية فقد ضمنها تعالى لمن صدق في توكله عليه، والوقاية فقد وهبها لمن أحسن تفويضه إليه، إلا أن الاختيار وعلم الاستئثار إليه والكفاية والوقاية يجعل ذلك ما شاء كيف شاء وأين شاء ومتى شاء من أمور الدنيا وأمور الآخرة، ومن حيث لا يعلم لأنّ العبد موجود، فجرى عليه الأحكام في الدارين، وفقير محتاج إلى اللطف والرحمة والرفق في المكانين، والله هو الغني الحميد المبدئ المعيد، وقيل لأبي محمد سهل: متى يصح للعبد التوكل؟ فقال: إذا علم أن تدبير مولاه له خير من تدبيره لنفسه، فإن نظر مولاه له أحسن من نظره لنفسه، فيترك التفكر فيما كان والتمني لما يكون، فيترك التدبير ولله عاقبة الأمور وهو على كل حال محمود شكور. كل؟ فقال: إذا علم أن تدبير مولاه له خير من تدبيره لنفسه، فإن نظر مولاه له أحسن من نظره لنفسه، فيترك التفكر فيما كان والتمني لما يكون، فيترك التدبير ولله عاقبة الأمور وهو على كل حال محمود شكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 ذكر أحكام مقام الرضا الرضا عن الله سبحانه وتعالى من أعلى مقامات اليقين بالله، وقد قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاّ الإحْسَانُ) الرحمن: 60، فمن أحسن الرضا عن الله جازاه الله بالرضا عنه، فقابل الرضا بالرضا، وهذا غاية الجزاء ونهاية العطاء، وهو قوله عزّ وجلّ: (رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) التوبة100 وقد رفع الله الرضا على جنات عدن، وهي من أعلى الجنات، كما فضل الذكر على الصلاة فقال تعالى: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) التوبة: 27 كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ) العنكبوت: 45 والذكر عند الذاكرين المشاهدة، فمشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة وهو أحد الوجهين من الآية، والوجه الثاني ذكر الله للعبد أكبر من ذكر العبد لله، وقال أبو عبد الله الساجي: من خلق الله عباد يستحيون من الصبي يتلقفون مواقع أقداره بالرضا تلقّفاً، وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول: أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء، فالراضون عن الله عزّ وجلّ هم الذاكرون لله بما يحب ويرضى، فالراضون الأكبر جزاء أهل الذكر الأكبر، وهذا أحد المعاني في قوله: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين؛ أي الرضا عنه، لأن السائلين يسألونه لهم فأعطاهم العفو، والذاكرون ذكروه فأعطاهم الرضا عنه عزّ وجلّ، ويكون أيضاً معناه: أعطيته النظر إليّ لأن الذكر يدخل في المشاهدة، فقابل النظر إليه اليوم بالنظر إليه غداً كما قابل الوصف بالوصف في قوله عزّ وجلّ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) عبس: 38 - 39 وقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يتجلى لنا ربنا ضاحكاً، والذكر قرب السمع. والسمع يخرج إلى النظر، والرضا هو حال الموفق، واليقين هو حقيقة الإيمان، وإلى هذا ندب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عباس في وصيته له فقال: إعمل لله باليقين في الرضا، فإن لم يكن فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، فرفعه إلى أعلى المقامات ثم ردّه إلى أوسطها، كذلك قال لابن عمرو: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فند المشاهدة وهو الإحسان لأنه سُأل: ما الإحسان؟ قال: تعبد الله كأنك تراه، ثم ردّه إلى الصبر والمجاهدة وهو الإيمان، وهذا مكان العلم بأنّ الله يراه، وليس بعد هذا مكان يوصف، وقد رفع الله تعالى الرضا منه فوق ما أعطي من النظر، ففي الخبر أنّ الله تعالى يتجلّى للمؤمنين فيقول: سلوني، فيقولون: رضاك، فسؤالهم الرضا بعد النظر تفضيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 عظيم للرضا، ولأن بالرضا دام لهم النظر لما كان الرضا موجب النظر، سألوا دوام الرضا ليدوم القرب والنظر، فسألوه تمام النعمة من حيث بدايتها، ولا يصلح أن يظهر في معنى قولهم: رضاك أكبر من هذا، ولا يرسم في كتاب حقيقة الأمر لأنّه على كشف وصف من صفات الذات، يوجب على العبد هيبة الربوبية، وخوف هذا عن القلوب محجوب وحكمة من سرائر الغيوب، وهذا في الدنيا ثواب لأهل الخشية عن معرفة خاصية، قال الله سبحانه: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة: 8، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (وَلَدَيْنَا مَزيدٌ) ق: 35 قال: يأتي أهل الجنة في وقت المزيد ثلاث تحف من عند رب العالمين: أحدها هدية من عند الله ليس عندهم في الجنان مثلها، وذلك قوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) السجدة: 17والثانية السلام عليهم من ربّهم فيزيد ذلك على الهداية، فهو قوله تعالى: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحيمٍ) يس: 58 والثالثة يقول الله تعالى إني عنكم راض فيكون ذلك أفضل من الهدية ومن التسليم، فذلك قوله تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) التوبة: 72 من النعيم الذي هم فيه، وروي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لطائفة من المؤ منين: ماأنتم؟ قالوا نحن المؤمنون، فقال: ماعلامة إيمانكم قالوا: نصبر عند البلاء ونشكر عند الرضا ونرضى بمواقع القضاء، فقال: مؤمنون ورب الكعبة، وفي خبر آخر أنّه قال: حلماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء، فشهد لهم بالإيمان بعد وصف الرضا، وكذلك جعل لقمان الحكيم الرضا من شرط الإيمان لايصلح إلا به، فقال في وصيته: للإيمان أربعة أركان لا يصلح إلا بهنّ، كما لا يصلح الجسد إلاّ باليدين والرجلين: ذكر منها الرضا بقدر الله وحدثونا في الإسرائيليات أنّ عابداً عبد الله دهراً طويلاً، فرأي في المنام فلانة الراعية رفيقتك في الجنة، فسأل عنها إلى أن وجدها، فاستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها فكان يبيت قائماً وتبيت نائمة، ويظل صائماً وتظل مفطرة، فقال: أما لك عمل غير مارأيت؟ قالت: ما هو والله إلاّ مارأيت، لا أعرف غيره، فلم يزل يقول: تذكري حتى قالت: خصيلة واحدة هي فيَّ، إن كنت في شدة لم أتمنَّ في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمنَّ أني في صحة، وإن كنت في الشمس لم أتمنَّ أني في الظل قال: فوضع العابد يده على رأسه فقال: أهذه خصيلة؟ هذه والله خصلة عظيمة يعجز عنها العبد، وقد روينا عن ابن مسعود: من رضي بما ينزل من السماء إلى الأرض غفر له، وقال أبو الدرداد: ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر. وروي عن محمد بن حويطب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من خير ما أعطي العبد الرضا بما قسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الله له، وفي الخبر المشهور: طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان رزقه كفافاً ورضي به، وفي مثله أيضاَ من رضي من الله عزّ وجلّ بالقليل من الرزق رضي الله منه بالقليل من العمل، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً: من طرق أهل البيت إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه، فالرضا عن الله عزّ وجلّ والرحمة للخلق وسلامة القلب والنصيحة للمسلمين وسخاوة النفس مقام الأبدال من الصدّيقين، وقد روينا في أخبار موسى عليه السلام أنّ بني إسرائيل قالوا: سل ربّك أمراً إذا فعلناه يرضى به عنا، قال موسى: إلهي قد سمعت ما يقولون، فقال: يا موسي قل لهم يرضون عني حتى أرضى عنهم، ويشهد لهذا الخبر المروي عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحبّ أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده، فإن الله ينزل العبد منه بحيث أنزله من نفسه، وقد روينا حديثاً حسناً كالمسند عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك: إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائقة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان، يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا قال: فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون: ما رأينا حساباً فيقولون: هل جزتم الصراط فيقولون: ما رأينا الصراط فيقال لهم: رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً فتقول الملائكة: من أمة مَنْ أنتم؟ فيقولون مِنْ أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقولون: نشدناكم الله، حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلغنا الله هذه المنزلة بفضل رحمته فيقولون: وما هما؟ فيقولون كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم الله لنا، فتقول الملائكة: يحقّ لكم هذا، هكذا كان في كتاب شيخنا عن أنس، وقال فيه لطائفة من أمتي ففيه دليل على المسند، وقد جاء الأثر: من رضي من الله بالقليل من الرزق رضي الله عنه بالقليل من العمل، وقال بعض علمائنا: أعرف في الموتى عالماً ينظرون إلى منازلهم من الجنان، في قبورهم بغدى عليهم ويراح من الجنة بكرة وعشيًّا، وهم في غموم وكروب في البرزخ، لو قسمت على أهل البصرة لماتوا أجمعين، قيل: وما كانت أعمالهم؟ قال: كانوا مسلمين، إلا أنهم لم يكن لهم التوكل ولا من الرضا نصيب، وقد جاء في فرض الرضا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعطوا اللّّه الرضا من قلوبكم تطفروا بثواب فقركم، وإلا فلا، وقرن لقمان الرضا بالتوحيد فقال في وصيته لابنه: أوصيك بخصال تقرّبك إلى الله وتباعدك من سخطه: الأولى تعبد الله لا تشرك به شيئاً، والثانية الرضا بقدر الله فيما أحببت وكرهت، وقال في وصيته: ومن يتوكل على الله ويرضى بقدر الله فقد أقام الإيمان وفرغ يده ورجليه لكسب الخير، وأقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فمن الرضا سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع مهلع من أمور الدنيا وقناعة العبد بكل شيء، واغتباطه بقسمة ربه وفرحه بقيام مولاه عليه، واستسلام العبد للمولى في كل شيء ورضاه منه بأدنى شيء وتسليمه له الأحكام والقضايا باعتقاد حسن التدبير وكمال التقدير فيها، ولتسليم العبد إلى مولاه ما في يديه رضا بحكمه عليه، وإن لا يشكو الملك السيد إلى العبد المملوك ولا يتبرّم بفعل الحبيب، ولا يفقد في كل شيء حسن صنع القريب، ومن الرضا أن عند أهل الرضا لا يقول العبد: هذا يوم شديد الحرّ ولا هذا يوم شديد البرد، ولا يقول: الفقر بلاء، ومحنة والعيال همّ وتعب، والاحتراف كدّ ومشقّة، ولا يفقد بقلبه من ذلك ما لا يغرّه به بل يرضي القلب ويسلم ويسكن العقل، ويستسلم بوجود حلاوة التدبير واستحسان حكم التقدير، كما قال عمر بن عبد العزيز: أصبحت وما لي سرور إلا في انتظار مواقع القدر، وقال ابن مسعود: الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيّهما ركبت، إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البدل، وقال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان: إنّ فلاناً قال: وددت أنّ الليل أطول مما هو فقال: قد أحسن، وقد أساء، أحسن حيث تمنى طوله للعبادة وأساء إذا لم يحبّ ما لم يحب الله. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت من شدة أو رخاء، وقال ذات يوم لامرأته عاتكة وقد غضب: والله لأسوءنك: فقالت أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد أن هداني الله له؟ قال: لا، قالت: فأي شيء تسوءني إذاً، وقال جعفر بن سليمان الصنعي قال سفيان الثوري يوماً عند رابعة: اللهم ارضَ عنا، فقالت: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا وأنك غير راضٍ عنه؟ فقال: أستغفر الله، قال جعفر فقلت لها: متى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ فقالت: إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة، وقال فضيل بن عياض: إذا استوى عنده المنع والعطاء فقد رضي، وفي أخبار داود: ما لأوليائي والهمّ بالدنيا، إنّ الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، وفي بعضها: يا داود، إياك والاهتمام بالدنيا، محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمّون، إياك والغم ّولاتهتم للخير وأنت تريدني، ويقال: أكثر الناس همًّا في الدنيا أكثرهم همًّا في الآخرة، وأقلّهم همًّا في الدنيا أقلّهم همًّا في الآخرة، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن، واعلم أنّ الفرح بالدنيا يخرج همّ الآخرة من القلب، والغمّ على الدنيا يحجب عن الحزن على فوت الآخرة، وذكر عند رابعة عابد له عند الله منزلة، وكان قوته ما يقمم من منزلة لبعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 ملوكهم فقال رجل عندها: فما يضر هذا إذا كانت له عند الله منزلة أن يسأله، فيجعل قوته في غير هذا فقالت له: اسكت يا بطال، أماعلمت أنّ أولياء الله هم أرضى عنه أن يتخيروا عليه إن ينقلهم من معيشة حتى يكون هو الذي يختار لهم، وقال أحمد بن أبي الحواري: قال لي أبو سليمان: إنّ الله تعالى من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم قلت: وكيف ذلك؟ قال: أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه؟ قلت: نعم قال: فإن محبة الله من عبيده أن يرضوا عنه، وقال الأعمش: قال لي أبو وائل: يا سليمان، نعم الرب ربنا لو أطعناه ما عصانا، وقال الله عزّ وجلّ في معناه: (وَيَسْتَجيبُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّاِلحَاتِ) الشورى: 26، أي يعطيهم ويستجيب لهم، والاستجابة الطاعة كقوله تعالى: (فَلْيَسْتَجيبُوا لي) البقرة: 186، فلما استجابوا له استجاب لهم، أطاعوه فيما أحبّ فأطاعهم فيما يحبون، وهذا أحد وجهي الآية كقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) البقرة: 40 وهو على تأويل من قرأ: هل يستطيع ربك أن يطيعك؟ قال ابن عباس: كان الحواريون أعلم بالله أن يشكوا أنّ اللّّه يقدر على ذلك، وإنّما معناه: هل يستطيع أن يطيعك؟ وروينا أيضاً عن عائشة مثله، وقال الفضيل: من أطاع الله تعالى أطاعه كل شيء، ومن خاف من الله خاف منه كل شيء، وفي أخبار موسى عليه السلام يا رب دلّني على أمر فيه رضاك حتى أعمله، فأوحى الله تعالى إليه إنّ رضاي في كرهك وأنت لا تصبر على ما تكره، قال: يا رب دلني عليه قال: فإن رضاي في رضاك بقضائي، وقد يروى على وجه آخر أن بني إسرائيل سألوا موسى فقالوا: لو علمنا في أي شيء رضا ربنا لفعلناه، فأوحى الله إليه قل لهم: رضاي في رضاهم بقضائي وفي مناجاة موسى عليه السلام يا رب أي خلقك أحبّ إليك؟ قال: من إذا أخذت منه المحبوب سالمني قال: فأي خلقك أنت عليه ساخط؟ قال: من يستخيرني في الأمر فإذا قضيت له سخط قضائي، وقد ورد أشد من هذا كله أن الله تعالى قال: (أَنَا اللهُ لاَ إلّهَ إلاّ أََنَا) طه: 14، من لم يصبر على بلائي ويرضَ بقضائي ويشكر نعمائي فليتخذ ربًّا سواي، وقد رويناه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق ومثله في الشدة يقول الله تعالى: قدّرت المقادير ودّبرت التدبير وأحكمت الصنع، فمن رضي فله الرضا مني حين يلقاني ومن سخط فله السخط مني حين يلقاني، وفي الخبر: أوّل ما كتب لموسى عليه السلام: (إنَّني أنَا اللهُ لاَ إلَهَ إلاّ أنَا) طه: 14، من رضي بحكمي واستسلم لقضائي وصبر على بلائي كتبته صديقاً وحشرته مع الصدّيقين يوم القيامة. وروينا في الخبر المشهور بمعناه يقول الله جل جلاله: قدرت الخير والشرّ وأجريتهما على أيدي عبادي، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الخير على يديه وويل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 لمن خلقته للشرّ وأجريت الشرّ على يديه، وويل ثم ويل لمن قال: لِمَ وكيف؟ وفي الأخبار السالفة أن نبيًّا من الأنبياء شكا إلى الله الجوع والفقر عشر سنين، كل ذلك لا ينظر في مسألته فأوحى الله إليه: لِمَ تشكو؟ هكذا كان بدوّك عندي في أم الكتاب قبل أن أخلق السموات والأرض، وهكذا سبق لك مني وهكذا قضيت عليك قبل أن أخلق الدنيا، أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك أم تريد أن أبدل ما قدرت عليك، فيكون ما تحبّ فوق ما أحب ويكون ما تريد فوق ما أريد، وعزّتي وجلالي لن تخالج في صدرك مرة أخرى لأمحونّك من ديوان النبوّة، وروينا أنّ آدم عليه السلام كان بعض أولاده الصغار يصعدون على جسمه وينزلون، يجعل أحدهم رجله على أضلاعه كهيئة الدرج فيصعد إلى رأسه ثم ينزل على أضلاعه، كذلك قال وهو مطرق إلى الأرض ولا ينطق ولا يرفع رأسه فقال له بعض ولده يا أبت، ألا ترى مايصنع هذا بك لو نهيته عن هذا فقال: يا بني، إني رأيت ما لم تروا، وعلمت ما لم تعلموا، إني تحركت حركة واحدة فأهبطت من دار الكرامة إلى دار الهوان، ومن دار النعيم إلى دار الشقاء، فأخاف أن أتحرك حركة أخرى فيصيبني ما لا أعلم، روينا في بعض الأخبار أنّه قال: إنّ الله ضمن لي إن حفظت لساني أن يردّني إلى الدار التي أخرجني منها، وقال أبو محمد سهل: حظّ الخلق من اليقين على قدر حظّهم من الرضا، وحظّهم من الرضا على قدر عيشهم مع الله، وروى عطية عن أبي سعيد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ الله بحكمه وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغمّ والحزن في الشك والسخط، ومن الرضا أن لا تذمّ شيئاً مباحاً ولا تعيبه إذا كان بقضاء مولاه، شاهداً للصانع في جميع الصنعة ناظراً إلى إتقان الصنع والحكمة وإن لم يخرج ذلك عن معتاد المعقول والعادة، وبعض العارفين يجعل هذه الأشياء في باب الحياء من الله عزّ وجلّ، ومنهم من يقول: هي من حسن الخلق مع الله تعالى، ومنهم من جعله من باب الأدب بين يدي الله، فإذا كان هذا كذلك كان ذم الأشياء التي أبيحت وعيبها من سوء الخلق مع الله، وكانت من سوء الأدب بين يدي الله، وأعظم من ذلك أنها تدخل في باب قلة الحياء من الله، ويصلح أن يكون هذا أحد معاني الخبر الذي جاء: قلّة الحياء كفر، يعني كفر النعمة بأن يذم ويعيب بعض ما أنعم الله به عليه من الإرفاق والإلطاف، إذ كان فيها تقصير عن تمام ملها أو كانت مخالفة لهواه منها، فيكون ذلك كفراً للنعمة وقلّة حياء العبد من المنعم، إذ قد أمره بالشكر على ذلك، فبدل الشكر كفراً لأنّ أحداً لو اصطنع لك طعاماً فعبته وذممته كره ذلك منك، فكذلك تعالى يكره ذلك منك، وهذا داخل في معرفة معاني الصفات، وفي معنى ما قيل أعرفكم بربّه أعرفكم بنفسه، لأنّك إذا عرفت صفات نفسك في معاملة الخلق عرفت منها صفات خالقك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وبعض الراضين يجعل ذم الأشياء وعيبها بمنزلة الغيبة لصانعها لأنها صنعته ونتاج حكمته، ونفاد علمه وحكم تدبيره وتدبير مقاديره، لأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين وأحسن الخاقين، له في كل شيء حكمة بالغة وفي كل صنعة صنع متقن، ولأنّك إذا عبت صنعة أحد وذممتها سرى ذلك إلى الصانع، لأنّه كذلك صنعها وعن حكمته أظهرها، إذ كانت الصنعة مجبولة لم تصنع نفسها ولا صنع لها في خلقتها، وكان الورعون لا يعيبون صنعة عند كراهة الغيبة له وذلك أنّ الراضي عن الله متأدب بين يدي الله يستحي أن يعارضه في داره أو يعترض عليه في حكمه، فصاحب الدار يصنع في حكمه ما شاء والحاكم يحكم بأمره كيف شاء، والعبد راضٍ بصنع سيده مسلم لحكمة حاكمه وروي في الإسرائيليات أن عيسى عليه السلام مرّ مع نفر من أصحابه بجيفة كلب فغطوا آنافهم وقالوا: أف أف، ما أنتن ريحه فلم يخمر عيسى عليه السلام أنفه وقال: ما أشد بياض أسنانه، أراد أن ينهاهم بذلك عن الغيبة ويعلمهم ترك عيب الأشياء، كيف هو يرى بعين نفسه أنّ الصنعة من صانعها، فهو يقلبها ويصرفها على معاني نظره، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وقال أنس: خدمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين، ليس كل امرئ كما يريد صاحبي، ما قال لي لشيء فعلته: لما فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته، ولا قال في شيء كان: ليته لم يكن ولا لشيء لم يكن: ليته كان، وكان يقول: لو قضى شيء لكان، وهذا وصف الراضي الموقن القائم بشهادته، فبالنظر في هذه الدقائق والوقوف عندها رفع القوم عند الله إلى مقام المقربين، وبالتهاون بها والغفلة عنها نغلت القلوب ففسدت حتى لم تصلح للمحبة والرضا، وهذه المعاني من الاعتراضات، والتخير هو تقدم بين يدي الله وذاك التدبير الذي يشير إليه سهل ويقول: إنّ تدبير الخلق حجبهم عن الله عزّ وجلّ، وحكي لنا أنّ بعضهم صحب بعض العارفين في طريق فعبث بشيء فنحاه من مكان إلى مكان آخر فقال له العارف: ماذا صنعت؟ أحدثت في الملك حدثاً عن غير ضرورة ولا سنّة، ولا تصحبني أبداً فلو لم يكن لنا من الذنوب إلا هذه الأشياء لقد كان كافياً، وفوق ذلك تهاوننا بها وأعظم من ذلك ترك التوبة والاستغفار منها، وأعمال طلاب الرضا من الله مضاعفة على أعمال المجاهدين في سبيل الله لأن أعمال المجاهدين تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وتضعيف طالبي الرضا لا تحصى، قال الله تعالى: (وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) البقرة: 261، وقال تعالى: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثيَرةً) البقرة: 245، قيل: الحسنة إلى ألفي ألف حسنة، وقد قال سبحانه: (وَمَثَلُ الَّذينَ يُنِفْقُونَ أَمَوالَهُمُ ابِتْغَاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبيتاً مِنَ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) البقرة: 265، فكم في هذه الحنة من سنبلة وحبة، فهؤلاء الذين قال: والله يضاعف لمن يشاء هم أهل الرضا عنه، وهم الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً لأجله لمضاعفته لهم أضعافاً كثيرة، فمن عقل عن الله حكمته كان مع الله تعالى فيما حكم مسلماً له ما شهد، لأنه سبحانه باختياره أنشأ الأشياء، وبمشيئته أبداها وعنه يتصرف المقدور وإليه عواقب الأمور، لا يكون مع نفسه فيما يهواه ولا مع معتاده وعرفه فيما يعقل، وقال بعض العارفين: قد نلت من كل مقام حالاً إلاّ الرضا، فما لي منه إلا مشام الريح، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة وأدخلني النار لكنت بذلك راضياً، وقيل لعارف فوقه: نلت غاية الرضا عنه فقال: الغاية لا، ولكن مقام من الرضا قد نلته حتى لو جعلني جسراً على جهنم يعبر الخلائق علي إلى الجنة، ثم ملأ بي جهنم تحلة لقسمه وبدلاً من خليقته لأحببت ذلك من حكمه، ورضيت به من قسمه، وحدثونا عن الروذباري قال: قلت لأبي عبد الله بن الجلاء الدمشقي قول فلان: وددت أنّ جسدي قرض بالمقاريض، وأنّ هذا الخلق أطاعوه، مامعناه قال: يا هذا، إن كان من طريق الإشفاق على الخلق والنصح فأعرف، وإن كان من طريق التعظيم والإجلال فلا أعرف، قال ثم غشى عليه، وقد كان عمران بن حصين استسقى بطنه فلبث ملقى على ظهره ثلاثين سنة سطحياً، لا يقوم ولا يقعد، قد نقب له في سرير من جريد كان تحته موضعاً لغائطه وبوله، فدخل عليه مطرف أو أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله، فقال: لِمَ تبكي؟ فقال لأني أراك على هذه الحال العظيمة فقال: لا تبكي فإنّ أحبه إليَّ أحبه إلى الله ثم قال: أحدثك شيئاً لعل الله أن ينفعك به، واكتم عني حتى أموت أنّ الملائكة تزورني فآنس بها، وتسلّم علّي فأسمع تسليمها، أراد عمران رحمه الله بذلك أن يعلم أنّ هذا البلاء ليس بعقوبة: لأن مثل هذه الآية إنما هو درجة ورحمة، وبلاء العقوبات لا يكون معه الآيات ولا يوجد عنده الحلاوات، ولا مزيد القلوب من نسيم ريحان الغيوب ولأنه كان حزن عليه فأراد أن يبشره: فلا تذكر الحبيب ولا حب لقاء الطبيب، كما أنشد بعض المحبين: با حبيباً بذكره نتداوى ... وصفوه لكل داءٍ عجيب من أراد الطبيب سرّ إذا ... اعتلّ اشتياقاً إلى لقاء الطبيب من أراد الحبيب سار إليه ... وجفاً الأهل دونه والقريب ليس داء المحب داء يداوى ... إنما برؤه لقاء الحبيب قال: ودخلنا على سويد بن شعبة نعوده، فرأينا ثوباً ملقى فما ظننّا أَنَّ تحته شيئاً حتى كشف، فقالت له امرأته: أهلي فداؤك ما نطعمك ما نسقيك فقال: طالت الضجعة ودبرت الحراقيف وأصبحت نضواً لا أطعم طعاماً ولا أسيغ شراباً منذ كذا، فذكر أياماً ثم قال: وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 واعتلّ حذيفة علّة الموت فجعل يقول: أخنق خناقك فوعزتك أنك لتعلم أنّي أحبك، فلما حضره الموت جعل يقول: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، وروى أيضاً مثل هذا عن أبي هريرة، ولما قدم سعد إلى مكة وكان قد كفّ بصره جاءه الناس يهرعون، كل واحد يسأله أن يدعو له فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة، دعا له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام فتعرفت إليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم، فذكر قصة قال في آخرها فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فردّ الله عليك بصرك، فتبسم ثم قال: يابني، قضاء الله عندي أحسن من بصري، وقال إنّ بعض هذه الطائفة ضاع ولده وكان صغيراً ثلاثة أيام لا يعرف له خبراً فقيل له: لو سألت الله أن يرده عليك فقال: اعتراضي عليه فيما قضى أشدّ من ذهاب ولدي، وقد روينا عن بعض العباد أنه قال: أذنبت ذنباً فأنا أبكي عليه منذ ثلاثين سنة، وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من ذلك الذنب قيل له: وما هو قال: قلت مرة لشيء كان: ليته لم يكن، وقال بعض السف: لو قرض جسمي بالمقاريض كان أحبّ إليّ من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه، وحدثونا عن بشر الحافي قال: رأيت بعبادان رجلاً قد قطعه البلاء وقد سالت حدقتاه على خديه، وهو في ذلك كثير الذكر عظيم الشكر لله، قال وإذا هو قد صرع من حبه به قال: فوضعت رأسه في حجري وجعلت أسأل الله عزّ وجلّ كشف مابه، وأدعو له، فأفاق فسمع دعائي فقال: من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي ويعترض عليه في نعمه عليّ؟ قال ونحى رأسه، قال بشر فاعتقدت أن لا أعترض على عبد في نعمة أراها عليه من البلاء، وقيل لعبد الواحد ابن زيد: ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة فقصده فقال: حبيبي أخبرني عنك هل قنعت به قال: لا قال: هل أنست به قال: لا قال: فهل رضيت عنه قال: لا قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة قال: نعم قال: لولا أني أستحي منك لأخبرتك أنّ معاملتك خمسين سنة مدخوله، أراد بذلك أنه لم يقربك فيجعلك في المقربين فيكون مزيدك لديه من أعمال القلوب، وكذلك يصنع بأوليائه، إنما أنت عنده في طبقة أصحاب اليمين، فمزيد العموم من أعمال الجوارح، وقد يكون الرجل مخلصاً في مقامه وإن كان فوقه فوق، وقد روينا عن ابن محيريز، وكان من عباد أهل الشام وعلمائهم، كلمة غريبة المعنى دقيقة في معنى المخالفة لله عزّ وجلّ، وإن كان قد فسرها فإنه لم يكشف معناها لفهم السامعين منه والحاضرين عنده فيحتاج تفسيرها إلى تفسير، روينا عنه أنه قال: كلكم يلقى الله تعالى، ولعله قد كذبه وذلك أن أحدكم لو كان له أصبع من ذهب ظل يشير بها، ولو كان به شلل ظل يواريها، يعني بذلك أن الذهب من زينة الدنيا، وقد ذم الله تعالى الدنيا وأنّ البلاء زينة أهل الآخرة وقدّ مدح الله الآخرة، أي فأنت إذا أعطاك زينة الدنيا أظهرتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وفخرت بها وإذا أعطاك زينة الاخرة وهي المصائب والبلاء كرهتها وأخفيتها لئلا تعاب بذلك، فحسب عليه حب الدنيا والتزين بها وكراهة البلاء تكذيباً لله ورداً عليه ما وصفه، وهذا يدخل في باب الزهد وفي باب الرضا، ويدخل على من أخفى الفقر والبلاء حياء من الناس لئلا يعاب بذلك، فهو من ضعف يقينه بقوّة شاهد الخلق، ويدخل فيه من أظهر الغنى من غير نية ولا تحدث بنعمة الله، فذلك أيضاً من قوّة شاهد حب الدنيا، وكذلك قال أبو سليمان الداراني: ثلاث مقامات لا حدّ لها، الزهد والورع والرضا، وخالفه سليمان ابنه، وكان عارفاً، ومن الناس من كان يقدمه على أبيه فقال: بلى، من تورع في كل شيء فقد بلغ حدّ الورع، ومن زهد في كل شيء فقد بلغ حدّ الزهد، ومن رضي عن الله في كل شيء فقد بلغ حدّ الرضا، ولا ينقص الراضي من مقام الرضا مسألة مولاه مزيد الآخرة وصلاح الدنيا، تعبداً بذلك وافتقاراً إليه في كل شيء لأن في ذلك رضاه ومقتضى تمدحه بمسألة الخلائق له، فإن صرف مسائله إلى طلب النصيب من المولى وابتغاء القرب منه حبًّا له وآثره على ما سواه كان فاضلاً في ذلك، لأنه قد ردّ قلبه إليه وجمع همه بذلك، وهذا على قدر مشاهدة الراضي عن معرفته، وهو مقام المقربين ومقتضى حاله، لأنه يسأل عن عمله بعلمه في وقت من أحواله كما يسأل عن جملة عماله بعلومه في جملة عمره، وهذا أصل فاعرفه، فهو طريق الصوفيين وعليه عمل العارفين من السلف، فلم يكن يضرهم عندهم خلاف من خالف، وإن كان دعاؤه تمجيد السيدة وثناء عليه شغلاً بذكره ونسياناً لغيره وولهًا بحبه، لأنه مستوجب لذلك بوصفه، ولأنه واجب عليه، فقد استغرقه وجوب ما عليه عماله، فهذا أفضل وهو مقام المحبين، وهو من القيام بشهادته، وقد دخل فيما ذكرناه من مقتضى حاله بالعمل بعمله في وقته، وللعلماء مسألة قد اختلفوا فيها: في أهل المقامات ثلاث، أيهم أفضل؟ عبد يحب الموت شوقاً إلى لقاء الله، وعبد يحب البقاء للكد والخدمة للمولى، وعبد قال: لا أختار شيئاً بل أرضى مايختار لي مولاي، إن شاء أحياني أبداً وإن شاء أماتني غداً، قال: فتحاكموا إلى بعض العارفين فقال: صاحب الرضى أفضلهم لأنه أقلّهم فضولاً، وهذا كما قاله في الاعتبار بترك الاعتراض والاختبار، لأنه دخل في الدار بغير اختيار، وكذلك يكون خروجه منها على معنى دخوله بلا اختيار، لأنّ مقام الرضا أعلى من مقام التشوق، ثم الذي يليه في الفضل الذي يحب الموت شوقاً إلى لقاء الله، وهذا مقام في المحبة وفي حقيقة الزهد في الحياة. هـ حبًّا له وآثره على ما سواه كان فاضلاً في ذلك، لأنه قد ردّ قلبه إليه وجمع همه بذلك، وهذا على قدر مشاهدة الراضي عن معرفته، وهو مقام المقربين ومقتضى حاله، لأنه يسأل عن عمله بعلمه في وقت من أحواله كما يسأل عن جملة عماله بعلومه في جملة عمره، وهذا أصل فاعرفه، فهو طريق الصوفيين وعليه عمل العارفين من السلف، فلم يكن يضرهم عندهم خلاف من خالف، وإن كان دعاؤه تمجيد السيدة وثناء عليه شغلاً بذكره ونسياناً لغيره وولهًا بحبه، لأنه مستوجب لذلك بوصفه، ولأنه واجب عليه، فقد استغرقه وجوب ما عليه عماله، فهذا أفضل وهو مقام المحبين، وهو من القيام بشهادته، وقد دخل فيما ذكرناه من مقتضى حاله بالعمل بعمله في وقته، وللعلماء مسألة قد اختلفوا فيها: في أهل المقامات ثلاث، أيهم أفضل؟ عبد يحب الموت شوقاً إلى لقاء الله، وعبد يحب البقاء للكد والخدمة للمولى، وعبد قال: لا أختار شيئاً بل أرضى مايختار لي مولاي، إن شاء أحياني أبداً وإن شاء أماتني غداً، قال: فتحاكموا إلى بعض العارفين فقال: صاحب الرضى أفضلهم لأنه أقلّهم فضولاً، وهذا كما قاله في الاعتبار بترك الاعتراض والاختبار، لأنه دخل في الدار بغير اختيار، وكذلك يكون خروجه منها على معنى دخوله بلا اختيار، لأنّ مقام الرضا أعلى من مقام التشوق، ثم الذي يليه في الفضل الذي يحب الموت شوقاً إلى لقاء الله، وهذا مقام في المحبة وفي حقيقة الزهد في الحياة. وفي الخبر: من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، والذي يحب البقاء للخدمة وكثرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 المعاملة هو فاضل، بعد هذين مقامهُ قوّة الرجاء وحسن الظن في العصمة، وله أيصاَ مطالعات من الأنس وملاحظات في القرب، به طاب مقامه وعنده سكنت نفسه وقصرت أيامه، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل المؤمنين إيماناً أو قال: أكمل المؤمنين إيماناً من طال عمره وحسن عمله، هذا لأن الأعمال مقتضى الإيمان إذ حقيقة الإيمان إنما هو قول وعمل، وليس بعد هؤلاء مقام يفرح به ولا يغبط صاحبه عليه، ولا يوصف بمدح إنما هو حب البقاء لمتعة النفس وموافقة الهوى، وقد تشرف النفس على الضعفاء من أهل هذا الطريق ويختفي فيها علة، وهو أن يحب البقاء لأجل النفس وللمتعة بروح الدنيا وما طبعت عليه من حب الحياة، وتكره الموت لمنافرة الطبع ولطول الأمل، فيتوهم أنه ممن يحب البقاء لأجل الله وطاعته، وهذا هو من الشهوة الخفية التي لا يخرجها إلا حقيقة الزهد في الدنيا، ولا يفضل في هذا الطريق االثالث إلا عارف زاهد دائم المشاهدة باليقين، فأما المعتل بوصفه وهواه فليس يقع به اعتبار في طريق ولا مقام، واجتمع ذات يوم وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم، فأما اليوم فوددت أني مت فقال له يوسف: ولِمَ؟ قال لما أتخوف من الفتنة فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء فقال الثوري: ولِمَ تكره الموت قال: لعلي أصادف يوماً أتوب فيه وأعمل صالحاً فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت فقال: أنا لا أختار شيئاً أحبّ ذلك إليّ أحبه إلى الله قال: فقبّل الثوري ما بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة، يعني مقام الروحانيين وهم المقربون أهل الروح والريحان، وأولو المحبة والرضوان، كما قال تعالي (فَرَوْحٌُ وَرَيَحانٌ) الواقعة: 89، يعني لهم ريح من نسيم القرب وريحان من طيب الحب، وأيضاً أنّه تعالى لما ذكر أنّ، لأصحاب اليمين في كل شدة وهول سلامة، وكان المقربون هم الأعلون، كان أيضاً فيما دلّ الفهم عليه، أنّ للمقربين من كل هول روحاً به لشهادتهم القريب، وفي كل قرب منه ريحان لقرب الحبيب فبذلك علوا وبذلك فضلوا، وهكذا قال بعض الصوفية: سرّ العارف في الأشياء واقف مثل الماء في البئر لا يختار المقام وإن أخرج خرج، فإن ذم هذا الراضي ما ذمه الله، وكره ما كرهه الله لم ينقص ذلك رضاه، وكان محسناً في فعله لموافقته مولاه، وإن لم يرضَ بحاله نقص في الدين والآخرة أو كره مزيد الدنيا من الكثرة والجمع والادخار لم يقدح ذلك في رضاه لأنه من التحقق بالزهد، وهو في جميع ذلك موافق للعلم، والله تعالى أعلم بأحكامه من العبد وأغير على نفسه من الغير، وأعلى مشاهدة من الخلق، له المثل الأعلى، فهو على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 ذلك يشهد أحكامه ويذم المحكوم عليه إذ تعدى حدود أمره، وينفذ علمه بمشيئته ويمقت العاصين له باجتراح نهيه، حكمة منه وعدلاً، كما أنه يشهد يده في العطاء ويمدح المنفقين، ويمضي إرادته بالقضاء بتوفيقه، ويشكر العاملين كرماً منه وفضلاً، كذلك الراضي عنه موافق فيما حكم ومتبع له فيما رسم، ومسلم له فيما قدر وعالم منه راض بما دبر، ومستعمل لما شرع ومواطئ لرسوله، يذم ما ذمه مولاه ويمدح ما مدحه لأجل مولاه لا لأجل نفعه إياه، والتحدث بالأوجاع والإخبار عن المصائب لا ينقص حال الراضي إذا رآها نعمة من الله عليه، وكان القلب مسلماً راضياً غير متسخط ولا متبرم بمر القضاء، وأوّل الرضا الصبر ثم القناعة، ثم الزهد ثم المحبة، ثم التوكل، فالرضا حينئذ حال المتوكل والتوكل مقام الرضا، وقال فضيل: إذا استوى العطاء والمنع عند العبد فهو الرضا، وقال غيره: إذا لم يختلف قلبه في العدم والوجود وفي الصحة والسقم فقد رضي، وقال الثوري: منع الله عطاءه لأنه يمنع من غير بخل ولا عدم، فمنعه اختبار وحسن نظر، وهذا كما قال لأن حقيقة المنع إنما يكون لمن لك عنده شيء فمنعك أو تستحق عليه شيئاً فلم يعطك، فأما من لا تستحق عليه شيئاً، ولا لك معه شيء لأنه الأول قبل كل شيء، والمظهر لكل شيء، والمالك لما أظهر، والمختار لما خلق وليس لأحد من خلقه اختيار، ولا في حكمه اشتراك، له الخلق والأمر ولا يشرك في حكمه أحداً، والعبد لم يكن شيئاً مذكوراً، فكل شيء اختاره فهو عطاء منه على تفاوت مقادير وضروب أحكام، وتصاريف تدبير حلو ومر ولطف وعنف وشدة ورخاء، وموافقة للنفس ومرفق ومخالفة لما يهوى مما لطبعها لا يوافق، فالصبر على الأحكام مقام المؤمنين والرضا بها مقام الموقنين، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، واعلم أنّ الرضا في مقامات اليقين وأحوال المحبين، ومشاهدة المتوكلين وهو داخل في كل أفعال الله سبحانه لأنها عن قضائه، لا يكون في ملكه إلاّ ما قضاه فعلى العارفين به الرضا بالقضاء، ثم يرد ذلك إلى تفصيل العلم وترتيب الأحكام، فما كان من خير وبرّ أمر به أو ندب إليه، رضي به العبد وأحبه شرعاً وفعلاً ووجب عليه الشكر، وماكان من شرّ نهى عنه وتهدد عليه، فعلى العبد أن يرضى به عدلاً وقدراً ويسلمه لمولاه حكمة وحكماً، وعليه أن يصبر عنه ويقر به ذنباً ويعترف به لنفسه ظلماً، ويرضى بعود الأحكام عليه بالعقاب، وأنه اجترحه بجوارحه اكتساباً ورضاً بأنّ لله الحجة البالغة عليه، وأنّ لا عذر له فيه، ويرضى بأنّه في مشيئة الله عزّ وجلّ من عفو عنه برحمته وكرمه إن شاء، أو عقوبة له بعدله وحقّه إن شاء، وفصل الخطاب أنه يرضى بسوء القضاء عقد إلا من نفسه فعلاً، ويرضى به عن الله ولا يرضى به من نفسه لأنّ الموقنين والمحبين لا يسقطون الأمر بالمعروف والنهي عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 المنكر، ولا ينكرون إنكار المعاصي وكراهتها بالألسنة والقلوب من قبل أنّ الإيمان فرضها، والشرع ورد بها ولأنّ الحبيب كرهها، فكانوا معه فيما كره كما كانوا معه فيما أحبّ، ومقام اليقين لا يسقط فرائض الإيمان، ومشاهدة التوحيد لا تبطل شرائع الرسول ولا تسقط أتباعه، فمن زعم ذلك فقد افترى على الله ورسوله، وكذب على الموقنين والمحبين، ألم ترَ أنّ الله تعالى ذم قوماً رضوا بالدنيا ورضوا بالمعاصي ورضوا بالتخلف عن السوابق، فقال سبحانه: (رَضُوا بالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) يونس: 7، فذمهم بذلك وقال تعالى: (وَلِتَصْغى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الَْذينَ لاَيُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وَلِيرْضَوْهُ وَلِيَقْترِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) الأنعام: 113، فعابهم به وقال تعالى: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) التوبة: 87، يعني النساء، وهذا جمع التأنيث وطبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون، فمن رضي بالمعاصي والمناكير منه أو من غيره، وأحب لأجلها ووالى ونصر عليها أو ادّعى أنّ ذلك في مقام الرضا الذي يجازى عليه بالرضا أو أنه حال الراضين الذين وصفهم الله تعالى ومدحهم، فهو مع هؤلاء الذين ذم الله ومقت. ومر ولطف وعنف وشدة ورخاء، وموافقة للنفس ومرفق ومخالفة لما يهوى مما لطبعها لا يوافق، فالصبر على الأحكام مقام المؤمنين والرضا بها مقام الموقنين، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، واعلم أنّ الرضا في مقامات اليقين وأحوال المحبين، ومشاهدة المتوكلين وهو داخل في كل أفعال الله سبحانه لأنها عن قضائه، لا يكون في ملكه إلاّ ما قضاه فعلى العارفين به الرضا بالقضاء، ثم يرد ذلك إلى تفصيل العلم وترتيب الأحكام، فما كان من خير وبرّ أمر به أو ندب إليه، رضي به العبد وأحبه شرعاً وفعلاً ووجب عليه الشكر، وماكان من شرّ نهى عنه وتهدد عليه، فعلى العبد أن يرضى به عدلاً وقدراً ويسلمه لمولاه حكمة وحكماً، وعليه أن يصبر عنه ويقر به ذنباً ويعترف به لنفسه ظلماً، ويرضى بعود الأحكام عليه بالعقاب، وأنه اجترحه بجوارحه اكتساباً ورضاً بأنّ لله الحجة البالغة عليه، وأنّ لا عذر له فيه، ويرضى بأنّه في مشيئة الله عزّ وجلّ من عفو عنه برحمته وكرمه إن شاء، أو عقوبة له بعدله وحقّه إن شاء، وفصل الخطاب أنه يرضى بسوء القضاء عقد إلا من نفسه فعلاً، ويرضى به عن الله ولا يرضى به من نفسه لأنّ الموقنين والمحبين لا يسقطون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ينكرون إنكار المعاصي وكراهتها بالألسنة والقلوب من قبل أنّ الإيمان فرضها، والشرع ورد بها ولأنّ الحبيب كرهها، فكانوا معه فيما كره كما كانوا معه فيما أحبّ، ومقام اليقين لا يسقط فرائض الإيمان، ومشاهدة التوحيد لا تبطل شرائع الرسول ولا تسقط أتباعه، فمن زعم ذلك فقد افترى على الله ورسوله، وكذب على الموقنين والمحبين، ألم ترَ أنّ الله تعالى ذم قوماً رضوا بالدنيا ورضوا بالمعاصي ورضوا بالتخلف عن السوابق، فقال سبحانه: (رَضُوا بالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) يونس: 7، فذمهم بذلك وقال تعالى: (وَلِتَصْغى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الَْذينَ لاَيُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وَلِيرْضَوْهُ وَلِيَقْترِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) الأنعام: 113، فعابهم به وقال تعالى: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) التوبة: 87، يعني النساء، وهذا جمع التأنيث وطبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون، فمن رضي بالمعاصي والمناكير منه أو من غيره، وأحب لأجلها ووالى ونصر عليها أو ادّعى أنّ ذلك في مقام الرضا الذي يجازى عليه بالرضا أو أنه حال الراضين الذين وصفهم الله تعالى ومدحهم، فهو مع هؤلاء الذين ذم الله ومقت. وفي الخبر الدال على الشرّ كفاعله، وعن ابن مسعود أنّ العبد ليغيب عن المنكر ويكون عليه مثل وزر فاعله، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يبلغه فيرضى به، وقد جاء في الحديث لو أنّ عبداً قيل بالمشرق ورضي بقتله آخر بالمغرب، كان شريكه في قتله، وقد روينا حديثاً حسناً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق مرسل: من نظر إلى مَنْ فوقه في الدين وإلى مَنْ دونه في الدنيا كتبه الله صابراً شاكراً، ومَنْ نظر إلى مَنْ دونه في الدين وَمنْ فوقه في الدنيا لم يكتبه الله صابراً ولا شاكراً، وقد غلط في باب الرضا بعض البطالين من المتأخرين، ممن لا علم له ولا يقين، فحمل الرضا على جميع ما يكون منه من معصية وهوى لجهله بالتفضيل وقلة فهمه بعلم التأويل، ولاتباعه ما تشابه من التنزيل طلباً للفتنة وغربة الحال وابتداعاً في القول والفعال، لأن أوقاته قد ذهبت فلا يذهب وقت غيره بذكرها، وبطلان قول هذا عند العلماء أظهر من أن يدل على فساده، والاشتغال بالبطال بطالة، وإنما الرضا فيما كان غير مخالفة لله ولا معصية مثل مايكون من نقص الدنيا ونقص الأموال والأنفس من الأهل والولد، وفيما على النفس فيه مشقة ولها منه كراهة، وفيما كان مزيداً في الآخرة لا عقوبة فيه من الله ولا وعيد عليه ولا ذم لفاعليه، وقد يحتج أيضاً بطال لبخله وقلّة مواساته وبذله أو يعتل لاتساعه في أمر الدنيا واستئثاره على الفقر، إنّ الذي يمنعه من البذل والإيثار والزهد فيما في يديه والإخراج رضاه بحاله وقلّة اعتراضه على مجريه فيه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وإنّ هذا مقام من مقامات الرضا خص به عند نفسه، وهذا قول لاعب ذي هوى، وهو من خدع النفوس وأمانيها ومن غرور العدوّ ومكايده، لأنّ الرضا لا يمنع من اختيار الفقر والضيقة لمعرفة الراضي بفضل الزهد وأوصافه كيف يكون، فالراضي لا يأمر بالاستيثار والاتساع لما كره من النعمة والاستكثار، لأنّ الرضا لا يوقف عما ندب العبد إليه ولا يحمل على ما كره له، وهذا اعتذار من النفس وتمويه على الخلق ليسلم منهم، ولا عذر بهذا عند مالكه ولا سلامة له فيه من خالقه، ومجمل ما ذكرناه أنّ الرضا لا يصح إلا فيما يحسن الصبر عليه والشكر عليه، لأنّ الرضا مقام فوق الصبر والشكر ومزيد الصابرين والشاكرين، فأما إن كان العبدعلى نقصان من الدين وفي مزيد من الدنيا ثم رضي بحاله، فرضاه بحاله شرّ من أعماله لمخالفة الأمر، قال الله عزّ وجلّ: (اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إلَيْه ِالْوَسيلَةَ) المائدة: 35، وقال تعالى: (يَبْتغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) الإسراء: 57، وقال تعالى: (سَابقُوا إلى مَغِفْرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الحديد: 21 وقال تعالى: (وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنَ رَبِّكُمْ) آل عمران: 133، وقال تعالى: (وَفي ذِلكَ فلْيَتَنَافَسِ الْمَتَنَافِسُونَ) المطففين: 26، وقال تعالى: (يُسَارِعُونَ في الُخَيَراتِ وِهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون: 61، فندب إلى المسارعة والسوابق وذم التخلف عنها والتتثبط بالعوائق، فعلى هذا طريق المؤمنين وفيه مقامات الموقنين، وإنما كان سبب ترك سري السقطي السوق وزهده في الدنيا قوله: الحمد لله لأنها كلمة رضا ظهرت منه في موضع الاسترجاع للمصيبة وذلك أنه بلغه أنّ الحريق وقع في سوقه فأحرق دكانه، فخرج في قطع من الليل فاستقبله قوم فقالوا: يا أبا الحسن، احترقت دكاكين الناس إلا دكانك فقال: الحمد لله: ثم تفكر في ذلك فقال: قلت الحمد لله في سلامة مالي وهلك أموال إخواني المسلمين، فتصدق بجميع ما كان في دكانه من السقط والآلة كفارة لكلمته هذه، وخرج من السوق فشكر الله له فعله، فزهد في الدنيا ورفعه إلى مقام المحبة فأوصله ترك الرضا إلى الرضا، وبلغني عنه أنه كان يقول: قلت كلمة فأنا أستغفر الله منه ثلاثين سنة يعني قوله الحمد لله. وقد جاء في الخبر: من لم يهتم بأمر المسليمن فليس من المسلمين، وفي الخبر المشهور: أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض فيه، فجعل ذلك من أوثق العرى لأنه منوط بالإيمان، لا يستطيع الشيطان حلّه ولا سلطان له عليه كما لا سبيل له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 على حل الإيمان لأنّ الله يحول بينه وبينه، وقد تولى تأبيد الإيمان بروحه بعد كتبه في القلوب برحمته وفي الحبّ في الله الولاة والنصرة بالنفس والمال والفعل والمقال، وفي البغض في الله ترك ذلك فبغض المبتدع والفاجر المجاهر والظالم المعتدي، وترك موالاتهم ونصرتهم واجب على المؤمنين، فلأجل ذلك صارت الموالاة لأولياء الّله والمعاداة لأعدائه من أوثق عرى الإيمان لأنك قد تعصي وتخالف مولاك تسليط العدوّ وغلبة هواك، إلاّ أنّك تبغض العاصين ولا تواليهم على المعاصي، ولا تحبهم لأجلها من قبل أنّ العدو لم يسلط على حل عقد إيمانك، كما سلط على فعله من نفسك، كما أنه لم يسلط على حل عقد إيمانك كما سلط على حل المراقبة والخوف منك، ولم يسلط أيضاً عليك في استحلال المحارم ولا استحسانها ولا التدين بها، ولا في ترك التوبة منها ولا بالرضا بها كما سلط عليك بافتراقها، فإن سلط على مثل هذا منك العدو حتى تحب الفساق وتواليهم وتنصرهم على فسقهم، أو تستحل ما ارتكب من الحرام أو ترضى به أو تدين به، فقد انسلخ منك الإيمان كما انسلخ النهار من الليل، فلست منه في كثير ولا قليل لأنّ هذه العقود منوطة بعرى الإيمان، وهي وهو في قرن واحد مقترنان، ألم تسمع الله تعالى يقول: (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرينَ أَولِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذِلكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيءْ) آل عمران: 28، أو ما سمعته تعالى يقول: (لاَتَتّخِذُوا الْيَهُودِ وَالنَّصَارى أَولِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِىَاءُ بَعْضٍ وَمنْ يَتَولَّهُمْ مِنْكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ) المائدة: 51، ومثله: (لاَيَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرينَ أَولِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنينَ) آل عمران: 28، أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً أي حجة قاطعة، أن يجمعكم وإياهم في النار، وكذلك قال الله تعالى: (وَإنَّ الظَّالمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضَ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقين) الجاثية: 19، وقال تعالى: (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمينَ بَعْضاً بمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأنعام: 921، ثم قال تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤُمِنينَ نُوَلِّه مَا تَولّى وَنُصِلْهِ جَهَنَّمَ) النساء: 115، وقد روينا في خبر أنّ الله تعالى أخذ على كل مؤمن في الميثاق أن يبغض كل منافق، وأخذ على كل منافق أن يبغض كل مؤمن، وفي الخبر المشهور: المرء مع من أحبّ وله ما احتسب. وفي حديث آخر: من أحب قوماً ووالاهم في الدنيا جاء معهم يوم القيامة، وفي معنى قوله: أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض فيه، وجه خفيّ هو أن يحبك المؤمنون ويبغضك المنافقون، فيكون ذلك علامة وثيقة عرى إيمانك لأنّ قوله الحبّ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الله، يصلح أنّ يبغضك المنافقون كما تبغضهم أنت، فكأنك تتحبب إلى المؤمنين حتى يحبوك وتتبغض إلى المنافقين حتى يبغضوك بإظهار التباعد عنه وبترك الممالاة له وبنصحك إياهم، فيدل ذلك على قوة إيمانك، لم تأخذك في الله لومة لائم منهم، كما وصف تعالى بذلك من يحبهم ويحبونه، ويكون ذلك أبعد لك من المداهنة والنفاق، وأقرب إلى الورع والإخلاص فإذا فعلت ذلك بهم أبغضوك أو مقتوك، فهذا على معنى ما قال الله سبحانه: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رَحَمَاءَ بَيْنَهُمْ) الفتح: 29، وقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ) المائدة: 54، وكما أمر نبيه عليه السلام في قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجدوا فيكْمْ غِلْظَةً) التوبة: 123 وروي عن عيسى عليه السلام أنّ الله عزّ وجلّ قال: أحبّ عبادي إليّ الذين يذكروني بالأسحار ويبغضون إلى الفجار، معناه أن يظهرلهم البغض وينابذهم العداوة حتى يبغضوه، فإذا أبغضوه أبغضهم الله، فيكون بغضهم إليه بهذا المعنى أي كان سبب عقوبة لهم بالبغض والمقت، وقد كان الثوري يقول: إذا رأيت الرجل محبّباً إلى جيرانه فاعلم أنه منافق، وقال كعب الأحبار لأبي إدريس الخولاني وكان من علماء الشام: كيف أنت في قومك؟ قال يحبوني ويكرموني قال كعب: ما صدقتني التوراة إذن قال: وما في التوراة؟ قال أجد في التوراة أنّ الرجل العالم لا يحبه جيرانه، وقال بعض المريدين: قلت لبعض أهل المعرفة: أني كثير الغفلة عن الله قليل المسارعة إلى مرضاته، أوصني بشيء أعمله أدرك به ما يفوتني من هذا، قال: يا أخي، إن استطعت أن تتحبب إلى أولياء الله وتتقرب من قلوبهم فافعل، لعلهم يحبونك فإنّ الله عزّ وجلّ ينظر إلى قلوب أوليائه في كل يوم سبعين نظرة، فلعله أن ينظر إليك في قلوبهم لمحبتهم لك فيجيرك جيرة الدنيا والآخرة، إذا لم تكن ممن ينظر إليه كفاحاً، وكذلك يقال: إنّ الله تعالى عزّ وجلّ ينظر إلى قلوب الصدّيقين والشهداء مواجهة، ثم ينظر إلى قلوب قوم في قلوب قوم وإلى قلوب قوم من قلوب آخرين، فهكذا عندي من عزائم الدين وسبيل الورعين أن تتبغض إلى أعدائه وتتمقت إليهم من المبتدعين والظالمين، ليبغضوك ويمقتوك، فيكون لك من القربة كحبّ أوليائه لك وحبك لهم، فهذا من أسباب ولاية الله. وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي، ووصل بعض الأمراء أبا هريرة بألف دينار وعشرة أثواب فردها عليه وقال، ما كنت لأقبل منه يأخذ المال من غير حله ويضعه في غير حقه، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ردوا هدية الفاجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 عليه لا يرى أنكم ترضون عمله، وأقلّ مالك في هذا الزهد وهو باب كبير من أبواب الدين، إذا كانت المداهنة والممالأة من أكبر أبواب الدنيا، لأنّ بذلك يستوي عيش أهل الدنيا وتتم سلامتها لهم، فهذا هوالطرف الآخر من معنى قوله: الحبّ في الله والبغض في الله، وهو وجه غامض، ومعناه إذا كشف جلي ظاهر موجود عند علماء الآخرة، وقد جعل الله منْ أراد أن يحبه الفاسقون ويأمن فيهم، وجعل من يسارع بالأدهان وإظهار المتابعة للظالمين خشية دور الدوائر عليه علمين من أعلام النفاق، فقال سبحانه: (سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أَنْ يَأْمَُُنوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فيهَا) النساء: 91، وقال تعالى في المعنى الثاني: (فَتَرَىَ الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المائدة: 52، يعني المافقين: (يُسَارعُونَ فيهِمْ) المائدة: 52، يعني يواطئون الكافرين سراً: (يَقُولُونَ نَخْشى أَن تُصيَبنَا دَائِرةٌ) المائدة: 52، أي نخاف أن تكون الدولة للكافرين على المؤمنين، قال تعالى: (فَعَسَى اللهُ أنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أو أَمْر مِنْ عِنْدِهِ) المائدة: 52، فينبغي لمن آمن في المؤمنين وأهل السنّة وأحبوه أن يخاف في المنافقين وأهل البدع أن يبغضوه، وينبغي لمن سارع في مواطأة المؤمنين أن ينئ ويبطئ في مداهنة الظالمين ومتابعتهم، حتى يخلص له إيمانه من النفاق وتستقيم طريقه من الضلال، وقد نفى الله الإيمان عمن أحبّ من حادّه، وأثبت الإيمان والتأييد باليقين لمن أبغض فيه أعداءه، فقال تعالى: (لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُوَلهُ) المجادلة: 22 الآية، فأمّا من قال من الجاهلين بأنَّ الرضا قد يكون بالمعاصي منه أو من سواه، كما يكون في الطاعات، فقد جعل المعاصي والمخالفات من القربات وسوّى بينهما، وفي هذا هدم شرائع الأنبياء وإبطال تفصيل الله ما أحل لنا مما حرم علينا، وما أمرنا به مما نهانا، وقد روي في خبر: من شرّ الناس منزلة عند الله من يقتدي بسيّئة المؤمن ويترك حسنته، وقال بعض العلماء: من حمل شاذ العلماء فقد حمل شرًّا كثيراً، ومن حسن الأدب في المعالمة إذا عملت صالحًا فقل: يا سيدي، أنت استعملتني وبحولك وقوتك وحسن توفيقك أطعتك، لأنّ جوارحي جنودك، وإذا عملت شيئاً ظلمت نفسي، وبهواي وشهوتي اجترحت جوارحي وهي صفاتي، ثم يعتقد في ذلك أنه بقدره ومشيئته كان ما قضاه، فتكون بالمعنيين قد وافقت مرضاة مولاك وتكون في الحالين عاملاً بما يرضيه بالقول والعقود، وينتفي عنك العجب في أعمال برك ويصح منك المقت لنفسك واعترافك بظلمك، وقد ثقلت هذه المشاهدة على الجاهل، فإذا عمل حسناً شهد نفسه ونظر إلى حوله وقوّته، فهلك بالكبر وبطل عمله بالعجب، وإذا عمل سيئّاً لم يعترف بالذنب ولم يقرّ على نفسه بالظلم، ولم تصح له توبة ولم يرض له عملاً، نعوذ بالله من مشاهدة الضلال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وقال أبو محمد سهل رحمه الله تعالى: إذا عمل العبد حسنة فقال: يا رب أنت استعملتني، شكر الله له ذلك فقال: أنت عملت، فإذا نظر إلى نفسه فقال أنا عملت، يقول الله بل أنا استعملت، قال وإذا عمل سيئّة فقال: أنت قدّرت وأنت أردت، يقول الله تعالى: أنت ظلمت وأنت عصيت بشهوتك وهواك، فإن قال العبد: ظلمت نفسي وعصيت بجهلي استحيا الله منه فقال: بل أنا قدرت وأنا قضيت، قد غفر لك باعترافك بالظلم على نفسك، فهذه آداب العاملين ومشاهدة العالمين، وهذا داخل قي قوله: أعرفكم بربه أعرفكم بنفسه، فكذلك يحب ابن آدم ممن عامله الاعتراف والتواضع، وهذا أيضاً أحد المعاني في قوله تعالى: (وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوِبهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحَا وآخرَ سيًّئاً) التوبة: 1، 2، قيل: هو الاعتراف عقيب العمل السيّئ لأنه قد تقدم ذكره فكان الصالح بعده اعترافه. وفي الحديث الذي رويناه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آنفاً أنّه قال: من نظر إلى من فوقه في الدين وإلى من دونه في الدنيا، كتبه الله صابراً شاكراً، ومن نظر إلى من دونه في الدين ومن فوقه في الدنيا، لم يكتبه صابراً ولا شاكراً، فيه أربعة معان حسان إذا تدبرها العبد وتفكّر فيها لم يعدم أن يرى أهلها، لأنه لا يخلو أن يرى بعينه أو بقلبه لسيرة المتقدمين، فيرى من فوقه في باب الدنيا فيشكر الله على حاله ويقنع منه برزقه فيكون صابراً شاكراً بمعرفة ما قنع به، ورضي باختيار ما صرف عنه من الفضول، وروي عنه من الحساب الطويل، ولا يخلو أن يرى من فوقه في أمر الدين يسارع إليه ويسابقه إذ قد ندب إلى ذلك، فيكون حضَّاً له وحثَاً على افتعال الخيرات وأعمال الصالحات، وأقل ما يفيده ذلك الإزراء على نفسه والمقيت لها في تقصيره، ثم ينظر في الأمرين الآخرين من وجه آخر، فلا يخلو أن يرى من هو دونه في الدنيا من ذوي الفاقات والحاجات، فيحمد الله على تفضيله عليه وحس صونه له ويشكر نعمته لفضل إحسانه وكفايته له، ويجد أيضاً في المعنى الآخر من هو دونه في أمر الدين من الفجرة والظالمين وأهل البدع والزائغين، فيفرح بفضل الله ورحمته ويشكر الله على حسن إسلامه وجميل معافاته مما ابتلي به غيره، فيكون أيضاً صابراً شاكراً، فيكون للعبد في هذه الطبقات من الناس أربع معاملات بما وهب الله من البصيرة والاعتبار، ويشهد لما ذكرناه قوله: لا حسد إلاّ في اثنين؛ رجل آتاه الله حكمة فهو يبثها في الناس ويعملها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وفي لفظ حديث آخر: ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 الرجل: لو آتاني الله ما آتى هذا فعلت كما يفعل، فندب إلى الحسد على أعمال البرّ وفضل الحاسد لما ندب الله إليه من المنافسة في أعمال الخير، فمن حسد على هذه المعاني من أعمال الخير، كان ذلك مزيداً له في مقام الرضا للغبطة به والطلب له، فأما من قلبت عليه هذه المعاني فجهل عواقب الأمور، وغلبت عليه الغفلة واستحوذت عليه الجهالة، فجعل ينظر إلى من فوقه في الدنيا فيغبطه على حاله، أو يتمنى مكانه أو يدخله نظره إليه في استصغار نعمة الله عليه ويزدري يسير ما قسمه الله له، ثم ينظر إلى من دونه في الدين من عموم المسلمين فيرضى بنقصان مقامه ويجعل ذلك معذرة له وتأسّياً به، ويثبطه عن المسارعة إلى القربات ولعله أن يداخله العجب والكبر حتى يتفضّل عليه بحاله، أو ينظر إلى نفسه بأعماله، لتقصير غيره عن مثل فعاله، فهذا إذاً يكتب جزوعاً عن الصبر كفور النعمة بإضاعة الشكر، لأنه ليس بصابر ولا شاكر، وهذا وصف من أوصاف المنافقين، وهو مقام الهالكين، إذ الصبر والشكر من صفات المؤمنين، وقد وصف هذا البلد بمثل هذا المعنى: فالله المستعان، وقد حدثونا عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى أنه قال: طفت الشرق والغرب فما رأيت بلداً شرّاً من بغداد، قيل: وكيف ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هو بلد تزدري فيه النعمة وتستصغر فيه المعصية، وحدثونا عنه أنه قيل له حين قدم خراسان: كيف رأيت الناس ببغداد؟ قال: ما رأيت بها إلا شرطياً غضبان أو تاجراً لهفان أو قارئاً حيران، وقيل إنّه كان يتصدق كل يوم بدينار لأجل مقامه ببغداد، إلى أن يخرج إلى مكة، فبلغني أنه كان يتصدّق بستة عشر ديناراً، وقد وصفها الشافعي أنها هي الدنيا، فروينا عنه أنّه قال: الدنيا كلها بادية وبغداد حاضرتها. وروينا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يايونس، رأيت بغداد؟ قلت: لا قال: ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس، وقد ذم العراق جماعة منهم عمر بن عبد العزيز وكعب الأحبار، فروينا عن عمر أنّه قال لمولى له: أين تسكن؟ قال: العراق، فقال له: ما تصنع هناك بلغني أنّه ما من أحد سكن العراق إلاّ قيض له قرين من البلاء، وذكر كعب الأحبار العراق يوماً فقال: فيه تسعة أعشار الشر، وفيه الداء العضال، ومن سكن بلداً كثير المنكر ظاهر المعاصي، فكان منزعجاً فيه غير مطمئن إليه يرغب إلى الله عزّ وجلّ في إخراجه منه لحسن اختياره له، وكان مضطرّاً في المقام فيه لعيلة ثقيلة أو قلّة ذات يد حقيقة، لا يستطيع حيلة في الخروج ولا يعرف طريقاً، وهو على يقين من سلامة دينه فيه، فإنه معذور عند الله لحسن تفضل من الله، وهو أقرب إلى العفو والسلامة ممن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 اغتبط بمقامه واطمأن ورضي بحاله، أو كان مقامه على هوى أو لاختلاف أسباب الفتنة والدنيا، قال الله تعالى: (أَلَمْ تََكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيهَا) النساء: 97 في التفسير: إذا كنت في بلد يعمل فيه بالمعاصي فتحول منه إلى غيره، وقيل: إذا كان العبد في بلد من يعمل فيه بالمنكر والمعاصي أضعف أو أقل من أهل الدين والمعروف، ثم لم ينكر ذلك فقد وجب الخروج منه، ثم قال عزّ وجلّ في قوم من المستضعفين عذرهم وأرجى إلى العفو أمرهم: (وَالْمُستَضعَفينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلْدَانِ الَّذينَ يَقُولُون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) النساء: 75 وقال تعالى في تمام وصفهم واستثنائهم من غيرهم: (ولاَ يَسْتَطيعُونَ حيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبيلاً) (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) النساء98 - 99 ولا يصح الرضا إلا بالعصمة من جميع الهوى، وأوّل الرضا القناعة، وقال بعض أهل المعرفة: لا يكون العبد قانعاً حتى لو جاء إلى باب منزله جميع ما يرغب فيه أهل الدنيا من الاتساع والنعمة، فعرض عليه لم ينظر إلى ذلك ولم يفتح بابه قناعة منه بحاله، والعصمة حال الراضي عن الله عزّ وجلّ، وهي ظاهر الرحمة، والرحمة أول الرضا من الله تعالى، قال الله سبحانه وتعالى: (إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَارَحِمَ رَبِّي) يوسف: 53 وقال تعالى: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إلاّ منْ رَحِمَ) هود: 43 فالعصمة من الله لعبده دليل على الرحمة منه، ثم تدخله في مقام المحبة وهي رحمة المحبوبين، ثم ترفعه إلى الرضا فتكون المحبة مقامه عن شهادة محبوب، ويكون الرضا حاله في جميع تصريف البقية والمطلوب، وهذا آخر كتاب الرضا. ذكر أحكام المحبة ووصف أهلها وهو المقام التاسع من مقامات اليقين المحبة من أعلى مقامات العارفين، وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين ومعها نهاية الفضل العظيم، قال الله جلت قدرته: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُونَهُ) المائدة: 54 ثم قال تعالى: (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشاءُ) الحديد: 21 وهذا الخبر متصل بالابتداء في المعنى لأنّ الله تعالى وصف المؤمنين المحبين بفضله عليهم، وما اعترض بينهما من الكلام فهو نعت المحبوبين، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما كان الله ليعذب حبيبه بالنار، وقال الله عزّ وجلّ مصداق قول نبيه عليه السلام، ردّاً على من ادعى محبته واحتجاجاً عليهم: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذنُوبِكُمْ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) المائدة: 18 وقال زيد بن أسلم: إنّ الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول: اصنع ماشئت فقد غفرت لك، وروينا عن إسماعيل بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ثم تلا: إنّ الله يحب التوّابين ويحب المتطهرين، وقد اشترط الله للمحبة غفران الذنوب بقوله تعالى: (يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) آل عمران: 31 فكل مؤمن بالله فهو محب لله، ولكن محبته على قدر إيمانه، وكشف مشاهدته وتجلي المحبوب له على وصف من أوصافه، دليل ذلك استجابتهم له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 بالتوحيد والتزام أمره وتسليم حكمه، ثم تفاوتهم في مشاهدات التوحيد، وفي دوام الالتزام للأوامر وفي تسليم الأحكام، فليس ذلك يكون إلا عن محبة، وإنّ تفاوت المحبون على حسب أقسامهم من المحبوب، وليس يقصر عن المحبة صغير كما لا يصغر عن المعرفة من عرف، ولا يكبر عن التوبة كبير ولو كان على كل العلوم قد أوقف، لأنّ الله تعالى وصف المؤمنين بشدة الحبّ له فقال تعالى: (وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لله) البقرة: 165 وفي قوله أشدّ دليل على تفاوتهم في المحبة لأنّ المعنى أشدّ فأشدّ ولم يقل شديد، والحب لله، فأشبه هذا الخطاب قوله تعالى: (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) الحجرات: 13 فدلّ على تفاوتهم في الإكرام على قدر تفاضلهم في التقوى ولم يقل: إنّ الكرام المتقون. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ الله يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، فالمؤمنون متزايدون في الحبّ لله عزّ وجلّ عن تزايدهم في المعرفة به والمشاهدة له، وقد جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحبّ لله من شرط الإيمان قال: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وفي حديث: لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وفي خبر آخر أشدّ توكيداً وأبلغ من هذين قوله: والله، لا يؤمن العبد حتى أكون أحبّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين، وفي خبر آخر: ومن نفسك، وقد أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمحبة لله فيما شرعه من الأحكام فقال أحبّوا الله لما أسدى إليكم من نعمه، وأحبّوني لحبّ الله، فدلّ ذلك على فرض الحبّ لله وإنّ تفاضل المؤمنون في نهايات فضائله، ومن أفضل ما أسدى إلينا من نعمه المعرفة به، فأفضل الحبّ له ما كان عن المشاهدة، والمحبون لله على مراتب من المحبة؛ بعضها أعلى من بعض، فأشدهم حبّاً لله أحسنهم تخلقاً بأخلاقه مثل العلم والحلم والعفو وحسن الخلق، والستر على الخلق، وأعرفهم بمعاني صفاته وأتركهم منازعة له في معاني الصفات كي لا يشركوه فيها، مثل الكبر والحمد وحب المدح وحب الغنى والعز وطلب الذكر، ثم أشدهم حبّاً لرسوله إذ كان حبيب الحبيب وأتبعهم لآثاره أشبعهم هدياً لشمائله، وقد روي أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبك فقال: استعد للفقر فقال: إني أحبّ الله فقال: استعد للبلاء، والفرق بينهما أن البلاء من أخلاق المبلي وهو الله تعالى المبتلي، فلما ذكر محبته أخبره بالبلاء ليصبر على أخلاقه، كما قال تعالى: (ولِرَبِّكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 فَاصْبِرْ) المدثر: 7 فدل على أحكامه وبلائه، والفقر من أوصاف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما ذكر محبته دله على اتباع أوصافه ليقتفي آثاره لقوله عليه السلام: أحيني مسكيناً وأْتِني مسكيناً واحشرني في جملة المساكين، ومن علامة المحبة كثرة ذكر الحبيب، وهو دليل محبة المولى لعبده وهو من أفضل مننه على خلقه، وفي الخبر أنّ لله في كل يوم صدقة يمنّ بها على خلقه، وما تصدق على عبد بصدقة أفضل من أن يلهمه ذكره. وفي حديث سفيان عن مالك بن معول قيل: يارسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: احتناب المحارم، ولا يزال فوك رطباً من ذكر الله، وقد أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكثرة الذكر لله كما أمر بمحبة الله، لأن الذكر مقتضى المحبة فقال: أكثر من ذكر الله حتى يقول الناس إنك مجنون، وقد روينا: أكثروا من ذكر الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون، وفي حديث أبي سلمة المدني عن أبيه عن جده: أتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم إلى مسجد قباء، فذكر حديثاً فيه طول قال في آخر: من تواضع لله رفعه ومن تكبر وضعه، ومن أكثر ذكر الله أحبه الله، وقد أخبر أنّ الذاكرين هم السابقون المفردون، ورفعهم إلى مقام النبوّة في وضع الوزر، ورفع الذكر إن كان الذكر موجب الحبّ في قوله: سيروا سبق المفردون، قيل: مَنْ المفردون؟ قال: المستهترون بذكر الله، وضع الذكر عنهم أوزارهم يردون القيامة خفافاً، ومن أعلام المحبة: حبّ لقاء الحبيب على العيان، والكشف في دار السلام ومحل القرب وهو الاشتياق إلى الموت، لأنه مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المعاينة، وفي الحديث: من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، وقال حذيفة عند الموت: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، وقال بعض السلف ما من خصلة أحبّ إلى الله تكون فيّ لعبد بعد حبّ لقائه من كثرة السجود، فقدم حبّ لقاء الله وقد شرط الله لحقيقة الصدق القتل في سبيله، وأخبر أنه يحب قتل محبوبه في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبيلِهِ صَفّاً كَأنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصف: 4، بعد قوله تقريراً لهم: لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟ حيث قالوا: إنّا نحبّ الله، فجعل القتل محنة محبته وعلامة أخذ مال محبوبه ونفسه، إذ يقول تعالى: (يُقَاتِلُونَ في سَبيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) التوبة: 111، وفي وصية أبي بكر لعمر رضي الله عنهما: الحق ثقيل وهو مع ثقله مريء، والباطل خفيف وهو مع خفته وبيء؛ فإن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحبّ إليك من الموت وهو مدرك، وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه، وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 الثوري وبشر بن الحرث يقولان: لا يكره الموت إلا مريب، وهو كما قالا: لأن الحبيب على كل حال لا يكره لقاء الحبيب، وهذا لا يجده إلا عبد يحبّ الله بكل قلبه، عندها يشتاق إليه مولاه فينزعج القلب لشوق الغيب، فيحبّ لقاءه، وروي أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن زمعة لما تبنى سالماً مولاه، عاتبته قريش في ذلك وقالوا: أنكحت عقيلة من عقائل قريش بمولى فقال: والله، لقد أنكحته إياها وأني لأعلم أنه خير منها، فكان قوله أشد عليهم قالوا: وكيف؟ وهي أختك وهو مولاك فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم، فمن الدليل أنّ من المؤمنين من يحبّ الله ببعض قلبه فيؤثره بعض الإيثار، ويوجد فيه محبة الاعتبار، ومنهم من يحبه بكل قلبه فيؤثره على ما سواه، فهذا عابده ومألوهه الذي لا معبود له ولا إله إياه، وفيه دليل على أنهم على مقامات المحبة عن معاني مشاهدات الصفات ما بين البعض في القلوب والكلية، وقد كان نعيمان يؤتي به رسوله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيجده في معصية يرتكبها إلى أن أتى به يوماً فحده فلعنه رجل وقال: ماأكثر ما يؤتى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تفتعل فإنّه يحب الله ورسوله، فلم يخرجه من المحبة مع المخالفة، وقد قال بعض العارفين: إذا كان الإيمان في ظاهر القلب يعني على الفؤاد كان المؤمن يحب الله حبّاً متوسطاً، فإذا دخل الإيمان باطن القلب فكان في سويدائه أحبه الحب البالغ، ومحبة ذلك أن ينظر؛ فإن كان يؤثر الله على جميع هواه ويغلب محبته على هوى العبد، حتى تصير محبة الله هي محبة العبد من كل شيء، فهو محب لله حقّاً، كما أنه مؤمن به حقّاً، وإن رأيت قلبك دون ذلك فلك من المحبة بقدر ذلك، فأدلّ علامات المحبة الإيثار للمحبوب على ذخائر القلوب، ولذلك وصف الله المحبين بالإيثار، ووصفه العارفون بذلك، فقال تعالى في وصفه المحبين: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَيَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً) الحشر: 9، ثم قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) الحشر: 9، وقال في وصفه: تالله لقد آثرك الله علينا، وقال بعض العلماء: إنّ ظاهر القلب محل الإسلام، وإن باطنه مكان الإيمان، فمن ههنا تفاوت المحبون في المحبة لفضل الإيمان على الإسلام، وفضل الباطن على الظاهر، وفرّق بعض علمائنا البصريين بين القلب والفؤاد، فقال: الفؤاد مقدم القلب وما استدق منه، والقلب أصله وما اتسع منه، وقال مرة: في القلب تجويفان، فالتجويف الظاهر هو الفؤاد وهو مكان العقل، والتجويف الباطن هو القلب وفيه السمع والبصر وعنه يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الفهم والمشاهدة، وهو محل الإيمان، وقد قال الله: (كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) المجادلة: 22 وقال: إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمحبة الإسلام مفترضة على الخلق وهي متصلة بأداء الفرائض واجتناب المحارم طاعة لله ومحبة له، فأما محبة المقربين فعن مشاهدة معاني الصفات وبعد معرفة أخلاق الذات، وهي مخصوصة بمخصوصين، والأصل في هذا أنّ المحبة، إذا كانت عن المعرفة فإنّ المعرفة عموم وخصوص؛ فلخصوص العارفين خاصة المحبة، ولعمومهم عموم المحبة. صفه: تالله لقد آثرك الله علينا، وقال بعض العلماء: إنّ ظاهر القلب محل الإسلام، وإن باطنه مكان الإيمان، فمن ههنا تفاوت المحبون في المحبة لفضل الإيمان على الإسلام، وفضل الباطن على الظاهر، وفرّق بعض علمائنا البصريين بين القلب والفؤاد، فقال: الفؤاد مقدم القلب وما استدق منه، والقلب أصله وما اتسع منه، وقال مرة: في القلب تجويفان، فالتجويف الظاهر هو الفؤاد وهو مكان العقل، والتجويف الباطن هو القلب وفيه السمع والبصر وعنه يكون الفهم والمشاهدة، وهو محل الإيمان، وقد قال الله: (كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) المجادلة: 22 وقال: إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمحبة الإسلام مفترضة على الخلق وهي متصلة بأداء الفرائض واجتناب المحارم طاعة لله ومحبة له، فأما محبة المقربين فعن مشاهدة معاني الصفات وبعد معرفة أخلاق الذات، وهي مخصوصة بمخصوصين، والأصل في هذا أنّ المحبة، إذا كانت عن المعرفة فإنّ المعرفة عموم وخصوص؛ فلخصوص العارفين خاصة المحبة، ولعمومهم عموم المحبة. ويروى في الأخبار السالفة: أنّ زليخا لما آمنت وتزوّج بها يوسف عليه السلام، انفردت عنه وتخلت للعبادة وانقطعت، فكان يدعوها إلى فراشه نهاراً فتدافعه إلى الليل، فإذا دعاها ليلاً سوّفته نهاراً فقالت: يا يوسف إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه، فأما إذ عرفته فما أبقت محبته محبة لسواه، وما أريد به بدلاً حتى قال لها: فإنّ الله أمرني بذلك، وأخبرني أنّه مخرج منك ولدين وجاعلهما نبيين فقالت: أما إذا كان الله أمرك بذلك وجعلني طريقاً إليه فطاعة لأمر الله، فعندها سكنت إليه، وقال بعض العلماء بالله: إذا تم التوحيد تمت المحبة، وإذا جاءت المحبة تم التوكّل، فتم إيمانه وخلص فرضه وسمّي ذلك يقيناً، وقال الفضيل بن عياض في فرض المحبة: إذا قيل لك: تحبّ الله؟ فاسكت فإن قلت: لا، كفرت وإن قلت: نعم، فلس وصفك وصف المحبين، فاحذر المقت، وقال بعض علمائنا: ليس في الجنة نعيم أعلى من نعيم أهل المعرفة والمحبة، ولا في جهنم عذاب أشدّ من عذاب من ادعى المعرفة والمحبة، ولم يتحقق بشيء من ذلك، وقال عالم فوقه: كل أهل المقامات يرجى أن يعفى عنهم ويسمح لهم إلا من ادعى المعرفة والمحبة، فإنهم يطالبون بكل شعرة مطالبة، وبكل حركة وسكون وكل نظرة وخطرة لله وفي الله ومع الله، واعلم أنّ المحبة من الله لعبده ليست كمحبة الخلق، إذ محبة الخلق تكون حادثة لأحد سبع معان؛ لطبع أو لجنس أو لنفع أو لوصف أو لهوى أو لرحم ماسة أو لتقرب بذلك إلى اللّّه، فهذه حدود الشيء الذي يشبهه الشيء، والله يتعالى عن جميع ذلك لا يوصف بشيء منه إذ ليس كمثله شيء في كل شيء ولأن هذه أسباب محدثة في الخلق لمعان حادثة ومتولدة من المحبين لأسباب عليهم داخلة، وقد تتغير الأوقات وتنقلب لانقلاب الأوصاف، ومحبة الله سابقة للأسباب عن كلمته الحسنى، قديمة قبل الحادثات عن عنايته العليا، لا تتغير أبداً ولا تنقلب لأجل مابدا لقوله تعالى: إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى، يعني الكلمة الحسنى، وقيل المنزلة الحسنى فلا يجوز أن يسبقها سابق منهم بل قد سبقت كل سابقة، تكون: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 كقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمينَ) الأنبياء51 فكذلك قال: هو سماكم المسلمين من قبل، وقال تعالى: (لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يونس: 2، وقال تعالى في آخر آياتهم: (في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِرٍ) القمر: 55، ولا يصلح أن يكون قبل قدمه الصدق منهم قدم، كما لا يصلح أن يكون قبل علمه بهم منهم عمل بهم منهم، لأنّ عمله سبق المعلوم ومحبته لأوليائه سبقت محبتهم إياه ومعاملتهم له، ثم هي مع ذلك خاصية حكم من أحكامه ومزيد من فضل أقسامه وتتمة من سابغ إنعامه، خالصة لمخلصين، ومؤثرة لمؤثرين بقدم صدق سابق لخالصين، يؤول لي مقعد صدق عند صادق لسابقين، ليس لذلك سبب معقول ولا لأجل عمل معمول، بل يجري مجرى سرّ القدر ولطف القادر، وإفشاء سرّ القدر كفر، ولا يعلمه إلا نبي أو صديق ولا يطلع عليه إلا من يظهره، وما ظهر في الأخبار من الأسباب، فإنما هو طريق الأحباب ومقامات أهل القرب من أولي الألباب، وإنما تستبين المحبة وتظهر للعبد لحسن توفيقه وكلاءة عصمته، ولطائف تعليمه من غرائب علمه وخفايا لطفه، في سرعة ردهم إليه في كل شيء ووقوفهم عنده، ونظرهم إليه دون كل شيء وقربه منهم أقرب من كل شيء، وكثرة استعمالهم لحسن مرضاته وكشف اطلاعهم على معاني صفاته، ولطيف تعريفه لهم مكنون أسراره وفتوحه لأفكارهم من بواطن إنعامه واستخراجه منهم خالص شكره وحقيقة ذكره، فهذه طريقات المحبين له عن كشوف اطلاعه لهم من عين اليقين، يقال: إذا أحب الله عبداً استخدمه؛ فإذا استخدمه اقتطعه، وقيل إذا أحبّ الله عبداً نظر إليه، وإذا نظر الله إلى عبد لم يعذبه، وروي بعض هذا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروينا في الخبر: إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، وإذا أحبه الحبّ البالغ اقتناه، قيل: وما اقتناؤه؟ قيل: لم يترك له أهلاً ولا مالاً، فالمحبة مزيد إيثار من المحب الأوّل وهو الله، لعبده وأحكام تظهر من المحبوب وهو العبد، في حسن معاملته، أوحقيقة علم يهبه له، كما قال إخوة يوسف عرفوا محبة الله ليوسف عليهم: تالله، لقد آثرك الله علينا، ثم قالوا: وإن كنا لخاطئين؟ فذكروا سالف خطاياهم وأنه آثره بما لم يؤثرهم به، فقال الله تعالى في وصفه إياه: (قَالَ اجْعَلْني عَلى خَزَائِنِ الأرْضِ إنّي حَفيظٌ عَليمٌ) يوسف: 55، وقال في موهبته له: آتيناه حكماً وعلماً، وكذلك نجزي المحسنين، فذكر ما سلف من إحسانه لما آثره به، وقالت الرسل: إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده، وقال تعالى: (اللهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 يَصْطَفي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) الحج: 75 وفي الخبر: إذا أحب الله عبداً ابتلاه يعني اختبره؛ فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه، وقال بعض العلماء: إذا رأيتك تحبه ورأيته يبتليك فاعلم أنه يريد أن يصافيك، وقال بعض المريدين لأستاذه: قد طولعت بشيء من المحبة فقال: يا بني هل ابتلاك بمحبوب سواه فآثرت عليه إياه؟ فقال: لا فقال: فلا تطمع في المحبة، فإنه لا يعطيها عبداً حتى يبلوه، ومن دلائل المحبة حبّ: كلام الحبيب وتكريره على الأسماع والقلوب، وحدثونا عن بعض المريدين قال: كنت وجدت حلاوة المناجاة في سوء الإرادة، فأدمنت على قراءة القرآن ليلاً ونهاراً، ثم لحقتني فترة فانقطعت عن التلاوة، قال: فسمعت قائلاً يقول لي في المنام: إن كنت تزعم أنك تحبني فلم جفوت كتابي، أما ترى ما فيه من لطيف عتابي، قال: فانتبهت، وقد أشرب في قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حالي الأوّل، وقد قال بعض العارفين: لا يكون العبد مريداً حتى يجد في القرآن كل مايريد، وقد كان ابن مسعود يقول: لا على أحدكم أن يسأل على نفسه إلا القرآن فإن كان يحبّ القرآن فهو يحبّ الله، وإن لم يكن يحبّ القرآن فليس يحبّ الله، ومن علامة حبّ القرآن حب أهل القرآن وكثرة تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وقال سهل بن عبد الله: علامة حبّ الله حبّ القرآن وعلامة حبّ القرآن وحبّ الله حبّ النبيّ عليه السلام وعلامة حبّ النبيّ عليه السلام حبّ السنّة، وعلامة حبّ السنّة حبّ الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرةوقال تعالى وهو أحسن القائلين: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوْفَ يَأْتي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) المائدة: 54 أي لا يرتدون لأنهم أبدال المرتدين، ولا ينبغي أن يكونوا أمثالهم، كما قال: يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، ومن علامة محبة المولى تقديم أمور الآخرة من كل ما يقرَّب من الحبيب على أمور الدنيا من كل ما تهوى النفس، والمبادرة بأوامر المحبوب وبواديه قبل عاجل حظوظ النفس، ثم إيثار محبته على هواك واتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أمرك به ونهاك، والذل لأوليائه من العلماء به والعاملين، ثم التعزز على أبناء الدنيا الموصوفين بها المؤثرين لها، كما قيل لابن المبارك: ما التوضع؟ فقال: التكبر على المتكبرين، وقال الفتح بن شحرف، رأيت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم فقلت: أنبئني بحرف خير فقال: ماأحسن تواضع الأغنياء للفقراء رجاء ثواب الله، وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بالله، وإنما وصف الله أحباءه بالذل للأولياء والعزّ على الأعداء لأنه يصف من يحبه بأحسن الأوصاف، فالذل للحبيب حسن، والعزّ على العدو في حسنه مثل العزّ على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الذليل، فلذلك وصف الله محبه بالذل للولي وبالعزّ على العدو، وقبح العزّ على الحبيب كقبح الذلّ للعدو، والله لا يصف أولياءه بقبيح، ومن علامات الحبّ: المجاهدة في طريق المحبوب بالمال والنفس، ليقرب منه ويبلغ مرضاته ويقطع كل قاطع يقطعه عنه بالمسارعة إلى قربه، كما قال تعالى: (وَعَجِلْتُ إِلّيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) طه84 وكما أمر حبيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: وتبتل إليه تبتيلاً فيه معنيان: أحدهما انقطع إليه انقطاعاً عمّا سواه بالإخلاص له والأثرة على غيره، والأخرى: اقطع كل ما قطعك عنه إليه أي اقطع كل قاطع حتى تصل إليه، فهذان من أدل الدليل على المحبة، ثم أن لا يخاف في حبه لومة لائم كمن الخلق لأمه على محبته أو على السلوك إليه بشق النفس وهجران الدار ورفض المال، ولا يرجو في محبته مدح مادح ولا يرغب في حسن ثناء العباد بإيثارك له على الأهل والمال، ثم وجود الأنس في الوحدة والروح بالخلوة، ولطف التملق في المناجاة والتنعم بكلامه والتنعم بمرّ أحكامه ووجد حلاوة الخدمة ورؤية البلاء منه نعمة، وقال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة، ومن المحبة ترك السكون إلى غير محبوبه إذ هو السكن، وقال أبو محمد: خيانة المحب عند الله أشدّ من معصية العامة، وهو أن يسكن إلى غير الله ويستأنس بسواه، وفي قصة برخ، العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام أنّ الله تعالى قال لموسى: إنّ برخاً نعم العبد هو لي إلا أنّ فيه عيباً، قال: يارب، وما عيبه؟ قال: يعجبه نسيم السحر فيسكن إليه، ومن أحبني لم يسكن إلى شيء، فالسكون في هذا الموضع الاستراحة إلى الشيء والأنس به، والسكون في غير هذا الموضع النظر إلى الشيء والإدلال به والطمأنينة والقطع به، ذكرت هذه الحكاية لبعض أهل المعرفة فقال: لم يرد بهذا برخاً إنما أراد به موسى، لأنه أقامه مقام المحبة فاستحى أن يواجهه بذلك، فعرض له ببرخ وكان هذا جواباً منه: إنّي سألته، لم أخبر موسى بعيبه وهو يحبه دون أن يخبره هو بعيب نفسه، فأجاب بهذا: فالمقربون من المحبين إنما نعيمهم بالله وروحهم وراحتهم إليه من حيث كان بلاؤهم منه، فإذا وجدوا ذلك في سواه كانت ذنوباً لهم عن غفلة أدخلت عليهم ليتوبوا منها إليه فيغفر لهم، وروينا أن عابداً عبد الله في غيضة دهراً، فنظر إلى طير قد عشش في شجرة يأوي إليها ويصفر عندها فقال: لو حوّلت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر قال: ففعل فأوحى الله إلى النبي عليه السلام: قل لفلان العابد: استأنست بمخلوق لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبداً فمن صدق المحبة وخالصها الانقطاع إلى الحبيب بوجود الأنس به، ومصادفة الاستراحة والروح عنده بمحادثة في المجالسة، ومناجاة في الخلوة وذوق حلاوة النعيم في ترك المخالفة لغلبة حب الموافقة، كما أنشدني بعضهم عن بعض المحبين: إليه أي اقطع كل قاطع حتى تصل إليه، فهذان من أدل الدليل على المحبة، ثم أن لا يخاف في حبه لومة لائم كمن الخلق لأمه على محبته أو على السلوك إليه بشق النفس وهجران الدار ورفض المال، ولا يرجو في محبته مدح مادح ولا يرغب في حسن ثناء العباد بإيثارك له على الأهل والمال، ثم وجود الأنس في الوحدة والروح بالخلوة، ولطف التملق في المناجاة والتنعم بكلامه والتنعم بمرّ أحكامه ووجد حلاوة الخدمة ورؤية البلاء منه نعمة، وقال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة، ومن المحبة ترك السكون إلى غير محبوبه إذ هو السكن، وقال أبو محمد: خيانة المحب عند الله أشدّ من معصية العامة، وهو أن يسكن إلى غير الله ويستأنس بسواه، وفي قصة برخ، العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام أنّ الله تعالى قال لموسى: إنّ برخاً نعم العبد هو لي إلا أنّ فيه عيباً، قال: يارب، وما عيبه؟ قال: يعجبه نسيم السحر فيسكن إليه، ومن أحبني لم يسكن إلى شيء، فالسكون في هذا الموضع الاستراحة إلى الشيء والأنس به، والسكون في غير هذا الموضع النظر إلى الشيء والإدلال به والطمأنينة والقطع به، ذكرت هذه الحكاية لبعض أهل المعرفة فقال: لم يرد بهذا برخاً إنما أراد به موسى، لأنه أقامه مقام المحبة فاستحى أن يواجهه بذلك، فعرض له ببرخ وكان هذا جواباً منه: إنّي سألته، لم أخبر موسى بعيبه وهو يحبه دون أن يخبره هو بعيب نفسه، فأجاب بهذا: فالمقربون من المحبين إنما نعيمهم بالله وروحهم وراحتهم إليه من حيث كان بلاؤهم منه، فإذا وجدوا ذلك في سواه كانت ذنوباً لهم عن غفلة أدخلت عليهم ليتوبوا منها إليه فيغفر لهم، وروينا أن عابداً عبد الله في غيضة دهراً، فنظر إلى طير قد عشش في شجرة يأوي إليها ويصفر عندها فقال: لو حوّلت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر قال: ففعل فأوحى الله إلى النبي عليه السلام: قل لفلان العابد: استأنست بمخلوق لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبداً فمن صدق المحبة وخالصها الانقطاع إلى الحبيب بوجود الأنس به، ومصادفة الاستراحة والروح عنده بمحادثة في المجالسة، ومناجاة في الخلوة وذوق حلاوة النعيم في ترك المخالفة لغلبة حب الموافقة، كما أنشدني بعضهم عن بعض المحبين: ألذّ جميل الصبر عمّا ألذه ... وأهوى لما أهواه تركاً فاتركه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وقال نظيره في مثله: وأترك ما أهوى لمن قد هويته، وأرضى بما يرضى وإن سخطت نفسي، ثم الطمأنينة إلى الحبيب وعكوف الهم على القريب ودوام النظر، وسياحة الفكر لأن من عرفه أحبه، ومن أحبه نظر إليه، ومن نظر إليه عكف عليه، أما فهمت هذا من قوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلى إلهِكَ الَّذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً) طه: 97 ومن فرائض المحبة وفضائلها؛ موافقة الحبيب فيما أحب حبّ الله، كما قال عمر رضي الله عنه لصهيب رحم الله صهيباً: لو لم يخف الله لم يعصه؛ أي أنّ محبته له تمنعه من مخالفته عن غير خيفة، فهو يطيعه حبّاً له، وكان صهيب يقول إنّه يستخرج من حبي لربي شيئاً لا يستخرجه غيره؛ يعني من معاني الصفات المخوفة والأفعال المرجوة، وقال بعض علمائنا: الإيثار يشهد للحب، فعلامة حبه إيثاره على نفسك، وقال: ليس كل من عمل بطاعة الله صار حبيباً لله، ولكن كل من اجتنب ما نهاه صار حبيباً وهذا كما قال: إنَّ المحبة تستبين بترك المخالفة، ولا تبين بكثرة الأعمال، كما قيل: أعمال البرّ يعملها البرّ والفاجر والمعاصي لا يتركها إلا صديق، وقيل: أفضل منازل الطاعات الصبر على الطاعات، وإن الصبر على الطاعة يضاعف إلى سبعين، والصبر عن المعصية يضاعف إلى سبعمائة كأنه أقيم مقام المجاهد في سبيل الله، لأنه يقع اختباراً من الله وضرورة من كلية النفس، فإذا ترك هواه فقد ترك نفسه، فأقلّ ما له في ذلك الزهد في الدنيا والجهاد في سبيل الله، ومن أجل ذلك ضوعفت حسناته إلى سبعمائة، ومن أجله ثبتت له المحبة بترك المخالفة، قال الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن: 46 تفضله على غيره بحبه، وأعجب ما سمعت في هذا أنّ موسى سأل الخضر: بأي شيء بلغت هذه المنزلة؟ فقال: بترك المعاصي كلها، وقد كان أبو محمد يقول في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفَسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) التوبة: 111، قال: عيش نفوسهم الفاني وهو عاجل حظوظهم من الشهوات، ومن المحبة وجود الروح بالشكوى إليه والاستراحة إلى علمه به وحده، وإخلاص المعاملة لوجهه وحسن الأدب فيها، وهو الإخفاء لها وكتم ما يحكم به من الضيق والشدائد، وإظهار ما ينعم به من الإلطاف والفوائد وكثرة التفكر في نعمائه وخفيّ ألطافه، وغرائب صنعه وعجائب قدرته وحسن الثناء عليه في كل حال، ونشر الآلاء منه والأفضال والصبر على بلائه، لأنه قد صار من أهله وأوليائه، وقد يعسف بأوليائه ويعنف بأحبابه لتمكنه منهم ومكانتهم عنده، ولعلمه أنهم لا يريدون له بدلاً ولا يبغون عنه حولاً، إذ ليست لهم راحة لسواه ولا بغية في سواه ولا لهم همّة إلاّ إياه، كما قال بعض المحبين: ويلي منك وويلي عليك، أفزع منك وأشتاق إليك، إن طلبتك أتعبتني وإن هربت منك طلبتني، فليس لي معك راحة ولا لي في غيرك استراحة، ثم المسارعة إلى ما ندب إليه من أنواع البرّ بوجود الحلاوة وبشرح الصدر كما جاء في الأثر، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، ثم الرضا بقضائه لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 مستحسن لأفعاله، ثم اللهج بذكره ومحبة من يذكره ومجالسة من يذكره، ودوام التشكي والحنين إليه وخلو القلب من الخلق، وسبق النظر إلى الخالق في كل شيء، وسرعة الرجوع إليه بكل شيء، ووجد الأنس به عند كل شيء، وكثرة الذكر له والتذكر بكل شيء، ومن علامة المحبة طول التهجد، وروي عن الله سبحانه: كذب من ادّعى محبتي إذا جنه الليل نام عني، إلاّ أنّ بعضهم جعل سهر الليل في مقام بعينه، ذكر له هذا الخبر فقال: ذاك إذا أقامه مقام الشوق فأما إذا أنزل عليه السكينة وأواه بالأنس في القرب، استوى نومه وسهره، ثم قال: رأيت جماعة من المحبين، نومهم بالليل أكثر من سهرهم، وإمام المحبين وسيد المحبوبين رسوله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينام مثل ما يقوم، وقد يكون نومه أكثر من قيامه ولم يكن تأتي عليه ليلة حتى ينام فيها، ومن المحبة الخروج إلى الحبيب من المال بالزهد في الدنيا، والخروج إليه من النفس بإيثار الحق على جميع الأهواء، وقال الجنيد: علامة المحبة دوام النشاط والدؤوب بشهوة يفتر بدنه ولا يفتر قلبه، وقد قال بعض السلف: العمل عن المحبة لا يداخله الفتور، وقال بعض العلماء: والله ما استسقي محب لله من طاعته ولو حل بعظيم الوسائل، ومن المحبة التناصح بالحق والتواصي به والصبر على ذلك، كما وصف تعالى الرابحين من الصالحين، فقال تعالى: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفي خُسْرٍ) (إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَبْرِ) العصر: 2 - 3، لأن المحبين ليسوا كمن وصفه في قوله تعالى: (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألَكُمْ أَمْوَالَكُمْ) (إِنْ يَسْألكُموهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) محمد: 36 - 37 يعني أن يسألكم محبوبكم من الأموال ويستقصي عليكم يخرج أحقادكم عليه. على ذلك، كما وصف تعالى الرابحين من الصالحين، فقال تعالى: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفي خُسْرٍ) (إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَبْرِ) العصر: 2 - 3، لأن المحبين ليسوا كمن وصفه في قوله تعالى: (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألَكُمْ أَمْوَالَكُمْ) (إِنْ يَسْألكُموهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) محمد: 36 - 37 يعني أن يسألكم محبوبكم من الأموال ويستقصي عليكم يخرج أحقادكم عليه. وروينا في مقرأ ابن عباس: ويخرج أضغانكم؛ يعني الأموال، فلو لم يدخل على هؤلاء الضعفاء إلا الشرك في محبة الأموال والشغل بها عن ذكر ذي الجلال، فخسروا ما ربح المخلصون من الأحباب، وفاتهم ما أدرك الصالحون من طوبى وحسن مآب، فالله تعالى يسأل أحبابه أموالهم وأنفسهم حتى لا يبقى لهم محبوب سواه ولئلا يعبدوا إلاّ إيّاه محبة منه وكشفاً لمحبتهم واختباراً لأخبارهم في صدقهم وصبرهم، ولأنه جواد ملك لايسأل إلا كلية الشيء وجملته، وهو غيور لا يحب أن يشركه سواه في محبته، فلا يصبر عليه إلاّ من عرفه ولا يحبه إلا من صبر عليه، ولا يرضى بحكمه فيه إلاّ من أيقن به، إلاّ أنه لا يسأل الجملة كلها إلا لمن أحبه المحبة الخاصة، وذلك كله من نظام حكمته، وقيل لبعض المحبوبين وكان قد بذل المجهود في بذل ماله ونفسه، حتي لم يبقَ عليه منها بقية: ما كان سبب حالك هذه من المحبة؟ فقال: كلمة سمعتها من خلق لخلق عملت بي هذا البلاء، قيل: وما هي؟ قال: سمعت محبّاً قد خلا بمحبوبه وهو يقول: أنا والله أحبك بقلبي كله، وأنت معرض عني بوجهك كله، فقال له المحبوب: إن كنت تحبني فأي شيء تنفق عليّ فقال: ياسيدي، أملّكك ما أملك، ثم أنفق عليك روحي حتى تهلك، فقلت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 هذا خلق لخلق وعبد لعبد، فكيف بخلق لخالق وعبد لمعبود، فكان ذلك سببه فقد دخلت الأموال في الأنفس تحت الشراء، وقد باعوه نفوسهم فما دونها لمحبتهم إياه، وقد اشتراها منهم لنفاستها عنده، فعلامة محبته لها اشتراؤها منهم، وعلامة شرائها طيّها عنهم؛ فإذا طواها فلم يكن عليهم منها بقية هوى في سواه، فقد اشتراها، واعلم أنّ آفات النفوس هي أدواؤها، وطهرة النفوس من الأدواء هو داؤها، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا) الشمس: 9، فإذا صفاها من الآفات فقد صافاها، وإذا امتحنها بالتمحيص من الشهوات للتقوى فقد اشتراها، ولكل داء من النفس دواء على قدر صغره وعظمه، فضع الدواء على الداء من حيث دخل عليك، بإدخال ضده عليه وبقطع أصله عنه، فعلامة النفوس المشتراة وهي المحبوبة المجتباة، التوبة إلى الحبيب بالخدمة له وكثرة الحمد له بالسياحة إليه ودوام الصلاة، بحسن الأدب بين يديه والأمر بما يحب والنهي عمّا يكره والحفظ بحدوده التي حدّها وترتيب العلم على مدارج العقل، بإخفاء علم التوحيد وأسرار قيومية القدرة من المحافظة، لأنّ العقل حدّ، وذلك من كتمان علم المحبة، فهو عند المحبين كحفظ حدوده على الجوارح التي شرعها بألسنة الرسل، ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهرين، والله يحب المتّقين، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أراد أن يحبه الله فليزهد في الدنيا، فلا يطمعن طامع في محبة الله قبل الزهد في الدنيا، فهذه جمل أوصاف المحبين، ومن المحبة أن لا يطلب خدمة سواه وأن يجتمع في محبته همه وهواه، ولا يهوي إلا ما فيه رضا المولى، ولا يقضي عليه مولاه إلا بما يهواه. وروي عن بعض العلماء إذا رأيته يوحشك من خلقه، فاعمل أنّه يريد أن يؤنسك به وفي أخبار داود عليه السلام أنّ الله تعالى أوحى إليه: إنّ أودّ الأودّاء إليّ من عبدني لغير نوال، لكن ليعطي الربوبية حقها، وفيما نقل وهب من الزبور، ومن أظلم ممن عبدني لجنة أونار لو لم أخلق جنة ولا ناراً لم أكن أهلاً أن أطاع، أو كما قال، وفي أخبار عيسى: إذا رأيت التقيّ مشغوفاً في طلب الربّ فقد ألهاه ذلك عمّا سواه، وعن عيسى عليه السلام: المحب لله يحب النصب، وروي عنه أنّه مرّ على طائفة من العباد قد احترقوا من العبادة كأنهم الشنان البالية فقال: ماأنتم؟ فقالوا: نحن عبّاد قال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: خوّفنا الله من النار فخفنا منها فقال: وحق على الله أن يؤمنكم ما خفتم، ثم جاوزهم فمرّ بآخرين أشدّ عبادة منهم فقال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: شوّقنا الله إلى الجنان وما أعدّ فيها لأوليائه فنحن نرجو ذلك، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما رجوتم، ثم جاوزهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فمرّ بآخرين يتعبدّون فقال: ما أنتم؟ قالوا: نحن المحبون لله، لم نعبده خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنة ولكن حبّاً له وتعظيماً لجلاله فقال: أنتم أولياء الله حقّاً، معكم أمرت أن أقيم فأقام بين أظهرهم، وفي لفظ آخر أنه قال للأوّلين: مخلوقاً خفتم ومخلوقاً أحببتم، وقال لهؤلاء: أنتم المقربون، وممن روى عنه هذا القول وأقيم في هذا المقام جماعة من التابعين بإحسان منهم: أبو حازم المدني كان يقول إني لأستحي من ربّي أن أعبده خوفاً من العقاب، فأكون مثل العبد السوء إن لم يعطَ أجر عمله لم يعمل، ولكن أعبده محبة له، وقد روينا معنى هذا الكلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يكون أحدكم كالعبد السوء؛ إن خاف عمل، ولا كالأجير السوء إن لم يعطَ أجراً لم يعمل، وقال بعض إخوان معروف له: أخبرني عنك أي شيء أحاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق؟ فسكت فقلت: ذكر الموت؟ فقال: وأي شيء الموت؟ قلت: ذكر القبر والبرزخ فقال: وأي شيء القبر؟ فقلت: خوف النار ورجاء الجنة فقال: وأيّ شيء هذا؟ إنّ واحداً بيده هذا كله إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا. وحدثت عن عليّ بن الموفق قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة، فرأيت رجلاً قاعداً على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات وهو يأكل، ورأيت رجلاً قائماً على باب الجنة يتصفّح وجوه قوم، فيدخل بعضاً ويرد بعضاً، قال: ثم جاوزتها إلى حظيرة القدس، فرأيت في سرادق العرش رجلاً قد شخص ببصره ينظر إلى الله عزّ وجلّ لا يطرف، فقلت لرضوان: من هذا؟ فقال: معروف الكرخي عبد الله لا خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنته بل حبّاً له، فقد أباحه النظر إليه إلى يوم القيامة، قلت: فمن الآخران قال: أخواك بشر بن الحرث وأحمد بن حنبل، وهذا مقام الأبدال من الصدّيقين، لا يقامون مقام أبدال الأنبياء ولا يعطون منازل الشهداء، حتى تغلب محبة الله على قلوبهم في كل حال فيتألهون إليه، ويذهلون به عن غيره وينسون في ذكره من سواه، فيعبدونه لأجله صرفاً، وهم، المقربون ونعيمهم في الجنان صرف، ويمزج لأهل المزج وهم أصحاب اليمين، كما قال تعالى في وصف نعيمهم: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفي نَعيمٍ) (عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) (تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعيمِ) (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحيقٍ مَخْتُومٍ) المطففين: 22 - 23 - 24 - 25 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ثم قال في نعت شراب المقربين ومزاجه، يعني مزاج شراب الأبرار: من تسنيم عيناً يشرب بها المقرّبون؛ أيّ يشربها المقرّبون صرفاً، ويمزج لأصحاب اليمين، فما طال شراب الأبرار إلا بمزاج شراب المقربين، فعبّر عن جمع نعيم الجنان بالشراب، كما عبّر عن العلوم والأعمال بالكتاب، فقال في نعت الأبرار مثله؛ إنّ كتاب الأبرار لفي عليين، ثم قال: يشهده المقربون؛ فما حسن علمهم ولا صفت أعمالهم، ولا علا كتابهم إلاّ بشهادة المقربين لما قرب منهم وحضروه، كذلك كانوا في الدنيا تحسن علومهم بعلمهم وترتفع أعمالهم بمشاهدتهم، ويجدون المزيد في نفوسهم بقربهم منهم، كما بدأنا أول خلق نعيده، وقلا تعالى: (جَزَاءً وِفَاقَاً) النبأ: 26 أي وافق أعمالهم، وقال تعالى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) الأنعام: 139 أي كوصفهم في الدنيا إنّه حكيم عليم؛ فمن كان في هذه الدار نعيمه طيبات الملك، فكذلك غداً يكون الملك نعيمه، ومن كان فيها نعيمه وروحه بالطيب الملك، فهو غداً في مقعد صدق عند مليكه، كما قال أبو سليمان الداراني: مَنْ كَان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه ومَنْ كان اليوم مشغولاً بربه فهو غداً مشغول بربّه، وقد روينا عن رابعة العدوية وكانت إحدى المحبين، وكان الثوري يقعد بين يديها ويقول: علّمينا مما أفادك الله من ظرائف الحكمة، وكانت تقول: نعم الرجل أنت لولا أنّك تحب الدنيا، وقد كان رحمه الله زاهداً في الدنيا عالماً، إلاّ إنّها كانت تجعل إيثار كتب الحديث والإقبال على الناس من أبواب الدنيا، وقال لها الثوري يوماً: لكل عبد شريطة ولكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقالت: ماعبدت الله خوفاً من الله، فأكون كالأمة السوء إن خافت عملت، ولا حبًّا للجنة فأكون كأمة السوء إن أعطيت عملت، ولكني عبدته حبًّا له وشوقاً إليه، وروى عنهاحمّاد بن زيد أنها قالت: إني لأستحي إن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها، وكان هذا جواباً لأنّه قال لها: اذكري لي حوائجك حتى أقضيها، وخطبها عبد الواحد بن زيد فقالت: يا شهواني اطلب شهوانية مثلك، أي شيء رأيت فيَّ من آلة الشهوة؟ وخطبها محمد بن سليمان أمير البصرة على مائة ألف وقال لي: غلة عشرة آلاف في كل شهر أدفعها إليك، فكتبت إليه: ما يسرني أنك لي عبد وأنّ كل ما تملكه لي وأنك شغلتني عن اللهّ طرفة عين، وقدقالت: في معنى المحبة أبياتاً تحتاج إلى شرح، حملها عنها أهل البصرة وغيرهم، منهم جعفر بن سليمان الضبعي وسفيان الثوري وحماد بن زيد وعبد الواحد بن زيد: أحبُّك حبين: حب الهوى ... وحبُّا لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك للحجب حتى أراكا فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 فأما قولها: حبّ لهوى وقولها حب أنت أهل له، وتفريقها بين الحبين فإنّه يحتاج إلى تفصيل حتى يقف عليه من لا يعرفه، ويخبره من لم يشهده، وفي تسميته ونعت وصفه إنكار من ذوي العقول، ممن لا ذوق له ولا قدم فيه، ولكنّا نحمل ذلك وندّل عليه من عرفه يعني حب الهوى، إني رأيتك فأحببتك عن مشاهدة عين اليقين، لا عن خبر وسمع تصديق من طريق النعم والإحسان، فتختلف محبتي إذا تغيرت الأفعال لاختلاف ذلك عليّ، ولكن محبتي من طريق العيان، فقربت منك وهربت إليك واشتغلت بك وانقطعت عمّن سواك، وقد كانت لي قبل ذلك أهواء متفرقة فلما رأيتك اجتمعت كلّها فصرت أنت كلية القلب وجملة المحبة فأنسيتني ما سواك ثم إني مع ذلك لا أستحق على هذا الحب، ولا أستأهل أن أنظر إليك في الآخرة على الكشف والعيان في محل الرضوان، لأن حبي لك لا يوجب عليك جزاء عليه بل يوجب على كل شيء لك مني كل شيء مما لا أطيقه ولا أقوم بحقك فيه أبداً، إذ كنت قد أحببتك فلزمني خوف التقصير، ووجب علّي الحياء من قلة الوفاء، فتفضلت علّي بفضل كرمك، وما أنت له أهل من تفضلك، فأريتني وجهك عندك آخراً كما أريتنيه اليوم عندي أولاً، فلك الحمد على ما تفضلت به ذا عندي في الدنيا ولك الحمد على ما تفضلت به في ذاك عندك في الآخرة، ولا حمد لي في ذا ههنا ولا حمد لي في ذاك هناك، إذ كنت وصلت إليهما بك فأنت المحمود فيهما لأنك وصلتني بهما، فهذا الذي فسّرناه هو وجد المحبين المحقين ظنَّاً بقولها ذلك، إذا كان لها في المحبة قدم صدق، والله أعلم ولايسعنا أن نشرح في كتاب كشف حقيقة ما أجملناه ولا أن نفصل وصف ما ذكرناه ومَنْ لم يكن من المحبين كذلك حتى يدلّ بمحبته ويقتضي الجزاء عليها من محبوبه ويوجب على حبيبه شيئاً لأجل محبته، فهو مخدوع بالمحبة ومحجوب بالنظر إليها، وإنما ذاك مقام الرجاء الذي ضده الخوف، وليس من المحبة في شيء ولا تصح المحبة إلاّ بخوف المقت في المحبة، وقال بعض العارفين: ماعرفه من ظن أنه عرفه، ولا أحبّه من توهمّ أنّه أحبه. ذكر مخاوف المحبين ومقاماتهم في الخوف وللمحب سبع مخاوف ليست بشيء من أهل المقامات، بعضها أشدّ من بعض: أولها خوف الإعراض، وأشد منه خوف الحجاب، وأعظم من هذا خوف البعد، وهذا المعنى في سورة هود هو الذي شيّب الحبيب إذ سمع المحبوب يقول: ألا بعداً لثمود ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود فذكر البعد في البعد، يشيب أهل القرب في القرب، ثم خوف السلب للمريد والإيقاف مع التحديد، وهذا يكون للخصوص في الإظهار والاختيار منهم، فيسلبونه حقيقة ذلك عقوبة لهم، وقد يكون عند الدعوى للمحبة ووصف النفس لحقيقتها، وينقصون معه ولا يقنطون لذلك وهو لطيف من المكر الخفي، ثم خوف الفوت الذي لا درك له، سمع إبراهيم بن أدهم وهو أحد المحبين قائلاً يقول في سياحته نظماً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 كل شيء لك مغفور ... سوى الإعراض عني قد وهبنا منك ما فا ... ت بقي ما فات مني فاضطرب وغشي عليه فلم يفق يوماً وليلة، وهذا في قصة طويلة كانت له بعد مقامات أقيم نقل عنها إلى هذا المكان، حتى قال في آخر ذلك: فسمعت النداء من الجب: يا إبراهيم كن عبداً قال: فكنت عبداً، فاسترحت، معناه لا يملكك إلا واحد تكون عبداً له حرًّا مما سواه، ولا تملك شيئاً فإنّ الأشياء في خزانة مليكها فلا تتملكها فتحجبك عن مالك، وتأسرك بمقدار ما ملكتها، وقد ضرب الله مثلاً بينه وبين خلقه أنّ رجلين أحدهما فيه شركاء متشاكسون علىه من أهل ومال وشهوات، وآخر مسالماً خالصاً لواحد، إنهما لا يستويان في قوله تعالى: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاَ رَجُلاً فيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهّ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) الزمر: 29، أي الأكثر ليسوا علماء، هكذا الواحد وأشد من الفوت خوف السلو وهذا أخوف ما يخافون، لأن حبَّا له كان به لا بهم وهو نعمة عظيمة لا يعرف قدرها، فكيف يشكره عليها ولا يقوم لها شيء؟ فكذلك سلوهم عنه يكون به كما حبهم له به، فيدخل عليهم السلو عنه من حيث لا يشعرون، من مكان ما دخل عليهم الحبّ له من حيث لا يعلمو، فتجد السلو به كماوجدت الحبّ له، فتكون به قد سلوت عنه وأنت لا تدري كيف سلوت، لأنه يدرجك في ذلك إدراجاً بلطائف الحكمة، كما أنك أحببته وأنت لا تدري لأنه أشهدك وصفه باطلاع القدرة عن جنان الرحمة، فوجدت نفسك محبًّا له، كذلك ترجع المحبة كما جاءت تحجبك عنه عن وصف المكر والجبرية، فتجد قلبك سالياً عنه بلا حول منه ولا قوّة ولا اجتلاب ولا حيلة، وهذا لا يصفه إلا عارف بدقيق بلائه، ولا يحذره إلا خائف من خفي مكره وابتلائه فإذا سلوت عنه به كان ذلك دليلاً منه أنه قد رفضك وأطرحك كما أنت إذا كنت تحبه إنما أحببته به، وهذا هو تحقيق المكر السريع بسرعة تقليب القدرة لقلوب الذي تحقق بالمكور، وهو درك الشقاء الذي أدرك المغرور بما لا يدركه الطرف لسرعته، ولا يحول في الوهم لخفيته، كقوله تعالى: (إَذَاَ لَهُمْ مَكْرٌ في آيَاِتَنا) يونس: 21، أي معصية بالنعم، قل الله أسرع مكراً أي أخفى تقليباً قد أظهر لهم نعماً أحبوها، وكانت عقوبة ونقاماً باطنة في لبس النعم الظاهرة يدر جوابها إلى درجة درجة من حيث لا يعلمون، وأشد من هذا كله خوف الاستبدال لأنه لا مشوبة فيه، وهذا حقيقة الاستدارج يقع عن نهاية المقت من المحبوب، وغاية البغض منه والبعد، والسلو مقدمة هذا المقام والإعراض والحجاب بداية ذلك كله، والقبض عن الذكر وضيق الصدر بالبر أسباب هذه المعاني المبعدة والمدارج المدرجة، إذا قويت وتزايدت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 أخرجت إلى هذا كله، وإذا تناقصت وبدل بها الصالحات والحسنات أدخلت في مقامات المحبة والقربات، كما جاء في الأثر الثابت عن حبيب الله، وكذلك في تدبر الخطاب أنّ العاكف على هواه مقيت الله، فوجد هذه الأوصاف منك دلائل ما عاد عنك من الاستبدال بك والإسقاط لك، والخوف من هذه المعاني علامة المعرفة بأخلاقه الملوئة، ولا يصلح شرح هذه المقامات في كتاب ولا تفصيلها برسم خطاب، إنما يشرح في قلبه بيقينه قد شرح وبفضل العبد من نفسه قد فصل، فأما قلبه مشترك وعبد في هواه مرتبك، فليس لذلك أهلاً والله المستعان، وثم خوف ثامن عن شهادة حب عال يغرب اسمه فيلتبس، ويخفي وصفه لقلة اشتهاره في الاستماع فيجهل، لم نسمه لأنه خوف عن مقام له اسم من المحبة، فيشتبه على كثير من سامعيه فينكرونه ويتشنج في أوهام غير مشاهديه بالخلق فيمثلونه، لأن أسماء صفات الخلق ملتبسة بمعنى صفات الخالق، وإنما لهم من ذلك مايعلمون وهم بعلومهم محجوبون، فكيف بها يشهدون، فإن ذكرنا خوفه ثم على ذكر مقامه فظهر بإظهاره، فكان طيه أفضل من نشره إلى أن يسأل عنه من ابتلي بمصدره عنه، بعد أن نشرت منه لأن مقامات المحبة كلها إلى جنب مقامه، كنهر ضيف إلى بحر مثله، كمثل مشاهدات اليقين كلها إلى جنب شهادة التوحيد بالتوحيد، وهو وصف من المحبة يعرف لأنّه من شوق الحبيب إلى المحب، وهو من معنى قول رابعة آنفاً: حبّ الهوى، ومن معنى قول عائشة رضي الله عنها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرى ربّك يسارع إلى هواك، ومن صدر عن مقام محبّ بعد وروده رفع إلى هذا المقام لأنه في مقام محبوب لجميل مشاهدات اليقين، وقد كان الجنيد رحمه الله ينشد هذين البيتين كثيراً: تين كثيراً: ومن بعد هذا ما تدق صفاته ... وما كتمه أحظى لديه وأعدل ألا أنَّ للرحمن سرًّا يسرّه ... إلى أهله في السرّ والستر أجمل وقد ذكرنا معناه بعض المحبوبين في كلام منظوم في بيتين وهما: فمنك بدا حبّ بعز تمازجا ... بماء وصال كنت أنت وصلته ظهرت لمن أبقيت بعد فنائه ... فكان بلا كون لأنك كنته وقال بعض العلماء: مَنْ عرف الله من طريق المحبة بغير خوف هلك بالبسط والإدلال، ومن عرفه من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش، ومَنْ عرف الله من طريق المحبة والخوف أحبّه الله فقرّبه وعلّمه ومكنّه، وليس العجب من خوف الخائفين إذ لا يعرفون إلا الصفات المخوفات والأفعال القاصمات، وإنما العجب من خوف المحبين مع ما عرفوا من أخلاقه وحنانه وشهدوا من تعطفه وألطافه مالم يعرف الخائفون، ثم هم مع حبهم يهابونه وعلى أنفسهم به يحابونه، وفي فزعهم منه يشتاقون إليه، وفي بسطه لهم ينقبضون بين يديه، وفي إعزازه لهم يذلون له، لأن من قبض فانقبض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فليس بعجب، ولكن من أعزّ وأكرم فتواضع وذلّ فهو العجب، فللمحبين الانقباض في البسط، وللخائفين الانقباض في القبض، وللمحبين الذلّ مع العزّ والكرامة، وللخائفين الذلة مع الهيبة والمهنة، فهذا يدل على أنّ معرفة المحبين به أعظم المعارف إذ كانت أوائل أحوالهم المخاوف، فكل محبّ لله خائف وليس كل خائف محبًّا يعني محبة المقربين، لأنّه لم يذق طعم الحبّ لأنّ طعم محبة المسلمين المفترضة لا يقع بها اعتبار في مقامات الخصوص، لأنّه لا يوجد عنها مواجيد الأحوال، ولا يعلى بها في مشاهدات الأنتفال، لأنها قوت الإيمان، منوطة بصحته وموجودة بوجوده، والمحبة لا ترفع الهيبة، فلذلك كان محبّاً خائفاً لأنّ المحبوب مهوب، والخوف قد يقبض عن المحبة لشغل الخائف بوصفه السالف، وهذا كشف الأبرار وهو حجاب المقرب من المحبة قوت، وهذا كما يقول في الرجاء والخوف لأنهما وصفا الإيمان، إلا إنّ الخائف يتدرج الرجاء في حاله والراجي ينطوي الخوف في رجائه، وفي سبق ترتيب المقامات من الله تعالى حكم غريب وحكمة لطيفة لا يعرفها إلا من أعطى يقين شهادتها، إن سبق إلى العبد بمقام الخوف كان محبًّا حبّ المقربين العارفين، وإن سبق إليه بمقام المحبة كان محبًّا محبة أصحاب اليمين، ولم يكن له مقامات المحبين المستأنسين ولا المشتاقين في مقامات المقربين، وكل هؤلاء موقنون صالحون وإن خرجت أحوالهم عن ترتيب علوم أهل الظاهر، لأن المنكر له أكثر من المقرّ، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون، وربما كانت المحبة ثواباً للخوف ومزيداً له وهذا في مقام العاملين، وربما كان الخوف مزيد المحبة وثوابها وهذا في مقام العالمين، فمن كانت المحبة مزيده بعد الخوف فهو من المقربين المحبوبين، ومَنْ كان الخوف مزيد محبتّه فهذا من الأبرار المحبين، وهم أصحاب اليمين. وسئل بعض علمائنا البصريين: الحبّ أفضل أو الحياء؟ فقال: الحب الذي يورث منه الخوف، الحياء أفضل من، والحبّ الذي يورث الحياء منه أفضل من الحياء وهو الشوق، وقال الجنيد: المحبة نفسها قرب القلب من الله بالاستنارة والفرح، فأما حبّ تجلي الصفات عن الأسماء الباطنة فإنّا لم نذكر منها شيئاً، وإنما ذكرنا محبة الأخلاق عن الأسماء الظاهرة، ولا أحسب أنه يحل رسمه في كتاب ولا كشفه لعموم الناس لأنّه من سرّ المحبة لا يكاشف به إلا مَنْ اطلع عليه ولا يتحدث به إلا مَنْ أعطيه، وما رأيت أحداً رسمه في كتاب لأنّه لا يؤخذ من كتاب، وإنما يتلقى من أفواه العلماء، وينسخ من قلب إلى قلب، وهو يشبه ماكتبنا عنه آنفاً من الخوف الثامن الذي لم نصفه لمن لا يعرفه، ومما نقل في الأثر من وصف من أذيق منه ولم يفصح بذكر وصفه أنّا روينا في الأخبار: أنّ بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسأل الله أن يرزقه ذرة من محبته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 ففعل ذلك، فهام في الجبال وحار عقله، ووله قلبه، وبقي شاخصاً سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء، فسأل له الصدّيق ربه فقال: يارب انقصه من الذرة نصفها، فأوحى الله إليه إنما أعطنياه جزءاً من مائة ألف جزء من ذرة من المعرفة، وذلك أنّ مائة ألف عبد سألوني شيئاً من المحبة في الوقت الذي سألني هذا فأخّرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا، فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته، فقسمت ذرة من المحبة بين مائة ألف عبد فهذا ما أصابه من ذلك، فقلت: سبحانك أحكم الحاكمين انقصه مما أعطيته، قال: فأذهب الله عنه جملة ذلك الجزء وبقي فيه عشر معشاره وهو جزء من ألف جزء، فاعتدل خوفه وحبه وعلمه ورجاؤه، وصار كسائر العارفين، ومن علم المحبة سهر الليل بمناجاة الجليل، والحنين إلى الغروب شوقاً إلى الخلوة بالمحبوب، ومناجاة القلب سرائر الوجد، ومطالعة الغيب والمناجاة عند أهل المصافاة، إنما هي بالقلوب وهي مطالعاتها بواطن الغيوب، وجولانها في سرّ الملكوت وعلوّها في معاني الجبروت بأنوار أرواحها، يحملها شعاع أنواره فيوقعها على خزائن أسراره، والمناجاة دليل رؤية القرب وشاهد وجود الأنس، وفيما أخبرنا عن الله تعالى أنه قال: كذب من ادّعى محبتي إذا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحبّ الخلوة بحبيبه، فها أنا ذا قريب من أحبابي أسمع سرّهم ونجواهم وأشهد حنينهم وشكواهم. وروينا عن بعض العلماء القدماء أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى بعض الصدّيقين: أنّ لي عباداً من عبادي يحبوني وأحبّهم، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم، يذكروني وأذكرهم، وينظرون إليّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتّك، قال: يارب: وماعلامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحنّ الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، ونصبت الأسرّة، وخلا كل حبيب بحبيبه، نصبوا لي أقدامهم، وافترشوا لي وجوههم، وناجوني بكلامي، وتملّقوا لي بأنعامي، فبين صارخ وباك، وبين متأوّه وشاكٍ، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشتكون من حبي، فأول ما أعطيهم ثلاثاً أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم، والثانية لو كانت السموات والأرض ومافيهما في موازينهم لاستقللتها لهم، والثالثة أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت بوجهي عليه لا يعلم أحد ما أريد أن أعطيه، وأما الشوق فإنه مقام رفيع من مقامات المحبة، وليس يبقى الشوق للعبد راحة ولا نعيماً في غير مشوقه، والمشتاقون مقرّبون بما أشهدوا من الشوق إليه، وهم المأمور بطلبهم، الموجود الحبيب عندهم مثوبة منه لهم لما شوقهم إليه في قوله لموسى عليه السلام: اطلبني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، هم المشتاقون من المحبين والله أعلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وذلك أن الحبيب قرب منهم بوصفه تكرّماً، ففرحوا بقربه، وعاشوا بمشاهدته، ونعموا لحضورهم عنده، ثم احتجب عنهم غيرة على نفسه لعزّه فانكسرت قلوبهم لأجله، فاشتاقوا إلى ما عودهم منه، فثبتت لديه حرمتهم، فأمر أولياءه بطلبهم، وأوجد نفسه عندهم لمكانتهم عنده، ففرح هؤلاء من المحبين بقربه لا يوصف، وانكسارهم، وحزنهم لأجله لا يعرف، والله سبحانه قد يعرض عن محبيه تعزّزاً ليزعجهم الشوق إليه، ويقلقهم الأسف عليه، وينظر إليه في إعراضه عنهم من حيث لا يعلمون لينظروا إليه من حيث يعلمون، فسيكنون بالأدب بين يديه، وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم، وكان أحد المشتاقين وهو من أبدال هؤلاء الذين نتكلم في علمهم ونكشف طريقهم، وكانت له رحمه الله أماكن من المحبة رفيعة، وكاشفات في القرب عليه، قال: قلت ذات يوم يا رب إن كنت أعطيت أحداً من المحبين لك ما تسكن به قلوبهم قبل لقائك فأعطني ذلك، فقد أضرّ بي القلق، قال: فرأيت في المنام أنه أوقفني بين يديه، فقال: يا إبراهيم، أما استحيت مني أن تسألني ما يسكن به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه أم هل يستروح المحبُّ إلى غير مشوقه؟ قال: قلت: يا رب تهت في حبك فلم أدرِ ما أقول فاغفر لي وعلمني كيف أقول، فقال: قل اللهم رضني بقضائك، وصبّرني على بلائك، وأوزعني شكر نعمائك. وقد حدثونا بمعنى ذلك عن أحمد بن عيسى الخراز، وكان مشتهراً بالسماع كثير الحركة والصعق عنده، ذكر بعض أصحاب سهل قال: رأيته في المنام بعد موته فقلت: ما فعل الله بك فقال: أوقفني بين يديه، فقال لي: يا أحمد حملت وصفي على ليلي وسعدي لولا أني نظرت إليك في مقام واحد أردتني به خالصاً لعذبتك، قال: وأقامني من وراء حجاب الخوف فأرعدت وفزعت ما شاء الله، ثم أقامني من وراء حجاب الرضا فقلت: يا سيدي لم أجد من يحملني غيرك، فطرحت نفسي فقال: فقل: صدقت من أين تجد من يحملك غيري؟ قال: وأمر بي إلى الجنة، وفي هذا تخويف للسامعين على التشبيه، الحائدين عن سمع أهل الفهم والتنبيه، لأنّ السماع علم لا يصلح إلا لأهل الصفاء، فمن سمعه على كدر فذاك له محنة وضرر، ويدخل من الآفات على نقصان المشاهدات إذا سمع من قبل النغمة والصوت مايدخل على من نظر إلى الأيدي في العطاء، لأنّ الصوت ظرف للمعاني بمنزلة اليد ظرفاً للأرزاق، فالنظر الموقن يأخذ رزقه من اليد، ويترك النظر والسامع المحق، يأخذ المعاني من الصوت ولا يلتفت إلى التنغيم بها، فمن سمع على التشبيه والتمثيل ألحد، ومن سمع على الهوى والشهوة فهو لعب ولها، ومن سمع باستخراج الفهم ومشاهدة العلم على معاني صفات حقّ ونظر وتطرق ودليل على آيات صدق، كان سامعاً على مزيد، وهذه طرائق أهل التوحيد، وفي السماع حرام وحلال وشبهة، فمن سمعه بنفس بمشاهدة هوى وشهوة فهو حرام، وَمنْ سمعه بمعقوله على صفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 مباح من جارية وزوجة كان شبهة لدخول اللهو فيه، وفعل هذا بعض السلف من التابعين، ومن سمعه بقلب بمشاهدة معان تدله على الدليل وتشهده طرقات الجليل فهذا مباح، لا يصحّ إلاّ لأهله ممن كان له نصيب منه، ووجد في قلبه مكاناً له لعبد أقيم مقام حزن، أو شوق أو في مقام خوف، أو محبة، فيحركه السمع ويخرجه إلى الشهادة، فيكون ذلك مزيده من السمع، فأمّا من سمعه على نغمة، أو لأجل صوت، أو ليلهو به، أو ليستروح إليه، فهذا لاعب لاه لا يحلّ له إذ ليس مراداً به، وكان الجنيد يقول: تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواطن، عند الطعام لأنهم لا يأكلون إلاّ عن فاقة، وعند المذاكرة لأنهم يتذاكرون أحوال النبيين، ومقامات الصدِيقين، وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقّاً، وكان بعض العارفين يقول: تعرف مواجيد أصحابنا في ثلاثة أشياء، عند المسائل وعند الغضب، وعند السماع، وإنما ذكرنا هذا لأنّه كان طريقاً لبعض المحبين وحالاً لبعض المشتاقين، فإن أنكرناه مجملاً فقد أنكرنا على تسعين صادقاً من خيار الأمة، وقد دخل فيه غير أهله فأحالوه عن وجهته، وعدلوا به عن قصده، وقد كان بعض السامعين يقتات السماع فيجعله قوته، ويتقوى به على زيادة طيه، وأحدهم يطوي اليومين والثلاثة، فإذا تاقت نفسه إلى القوت عدل بها إلى السماع، فأثار منه مواجيده، وأهاج فيه أذكاره، فحمله ذلك عن الطعام، وأغناه عن الأنام، فهذا لا يصلح إلا لقلب صاف من الأكدار، نقيّ نظيف من الآثام، ومن شهد فيه خلقاً فذلك علامة كدر قلبه، ومن أحدث فيه لعباً ولهواً فهو دليل نقص لبه. حدثني بعض الشيوخ عن شيخ له قال: رأيت أبا العباس الخضر فقلت: ماتقول في هذا السماع الذي يختلف فيه أصحابنا؟ فقال: هو الصفا الزلال لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء، وقد صدق في قوله: لأنّا روينا عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أخوف ما أخاف على أمتي الشهوة الخفية والنغمة الملهية، وأنّ حماد روى عن إبراهيم: الغناء ينبت النفاق في القلب، وعن مجاهد: ومن الناس من يشتري لهو الحدث ليضلّ عن سبيل اللّّه قال: الغناء وهداكما، قالاه: لأنّ سماع الغناء حرام وأجور المغنيات وأثمانهن حرام، والفرق بين الأغاني والقصائد أنّ الأغاني ما شّبب به النساء وذكر فيه الغزل، ووصفن به، وشهدن منه، ودعا إلى الهوى، وشوّق إلى اللهو، فمن سمع من حيث قال القائلون بهذه المعاني فالسماع عليه حرام، والقصائد ماذكر بالله، ودلّ عليه، وشوّق إليه، وأهاج مواجيد الإيمان، وأثار مشاهدات العلوم، وذكر به طرقات الآخرة ومقامات الصادقين، فمَنْ سمع من حيث شهد بهذه الشهادة فهو من أهله إذ له نصيب منه، وقال الله سبحانه: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون، فالكلام روحان، منثور ومنظوم، فالمنثور كلام العلاّمة، والمنظوم كلام الشعراء، فما ذكر به الله ويذكر منه فهو طريق إليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 ولم يزل الحجازيون عندنا يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهي الأيام التي أمر الله عباده أن يذكروه فيها، أيام التشريق من وقت عطاء بن أبي رباح إلى يومنا، هذا ما أنكره عالم، وقد كان لعطاء جاريتان يلحنان فكان إخوانه يستمعون إليهما، ويحمل القول في السماع أنّ من سمع فظهرت عليه صفات نفسه وذكرته حظوظ دنياه فالسماع عليه حرام، ومَنْ سمع فظهر له به ذكر ربّه، وتذكر به أجل ما شوّقه الله إليه وأعده لأوليائه، فهو له ذكر من الأذكار، وسئل عالمنا رحمه الله فقيل له: بلغنا أنك تنكر السماع، وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون فقال: كيف أنكر السماع وقد سمعه عبد الله بن جعفر الطيار، يعني ابن أبي طالب، وإنما أنكر اللهو وأنكر اللعب في السماع، ولعمري أنّ هؤلاء الأشياخ الذين ذكروا قد كانوا يسمعون، ولكن كان منهم مَنْ سمع السرّ دون العلانية، ومنهم مَنْ كان يسمع مع إخوانه ونظرائه دون الأتباع والأصحاب، وكانوا يقولون: لا يصحّ السماع إلا لعارف مكين، ولا يصلح لمريد مبتدىء وكان بعض العلماء قد ترك السماع فقيل له، فقال: ممن؟ فقيل له: فأنت، فقال: مع مَنْ كانوا لا يسمعون إلا من أهله ومع أهله. وحدثونا عن يحيى بن معاذ قال: فقدنا ثلاثاً فما نراها ولاأراها تزداد إلا عزة، حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الديانة، وحسن الأخاء مع الوفاء، وقد سمع من الصحابة غير عبد الله بن جعفر أربعة منهم: ابن الزبير والمغيرة بن شعبة وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم قال: طفت ذات ليلة بالبيت، وكانت ليلة مظلمة ذات مطر ورعد، فخلا الطواف، فلما انتهيت إلى الباب قلت: اللهم اعصمني حتى لا أعصيك أبداً، قال: فسمعت قائلاً يقول: من جوف البيت يا إبراهيم أنت تسألني أن أعصمك وكل عبادي يسألوني العصمة فإذا عصمتهم فعلى مَنْ أتفضل ولمن َأغفر؟ وفي خبر وهب بن منبه أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أنك تكثر مسألتي ولا تسألني أن أهب لك الشوق، قال: يا رب وما الشوق؟ قال: إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني، وأتممتها بنور وجهي، فجعلت أسرارهم موضع نظري إلى الأرض، وقطعت من قلوبهم طرقاً ينظرون به إلى عجائب قدرتي فيزدادون في كل يوم شوقاً إليّ، ثم أدعو نجباء ملائكتي فإذا أتوني خرّوا لي سجّداً فأقول: إني لم أدعكم لعبادتي، ارفعوا روؤسكم أُرِكُمْ قلوب المشتاقين إليّ فوعزّتي وجلالي إنّ سمواتي لتضيء من نور قلوبهم كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، معنى قول لداود عليه السلام: ولا تسألني الشوق ليس أنه قد يعطي الأولياء ما لا يعطي الأنبياء كما غلط في هذا بعض الناس، ففضّل العارف على النبي، ولكنه ذكر ذلك لداود عليه السلام ليسأله إياه فيعطيه، فلما أخبره به أعطاه مقام الشوق إليه، فجاوز مقامات المشتاقين من العارفين، وإنما أراد أن يجعل ذلك على لسانه ليريه فضل مكانه، ويظهر له ذلك عن مسألته ليفضله ويشرفه بسرعة إجابته، كما أنّ قول داود عليه السلام: وماالشوق؟ ليس أنه لم يعرف الشوق وقد اتاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 الحكمة والنبؤّة، ولكن سكت بين يديه استحياءً منه، واعترف لديه بالجهل لأنه عند علاّم الغيوب، واراد أن يسمع منه حقيقة وصفه لأنّه أصدق القائلين وأمدح الواصفين. وأما الغيرة فحال سنية من أحوال المحبين، لأنه قد أظهرهم على معاني نفسه فضنوا بها لما امتلأت بها قلوبهم، وحارت فيها عقولهم، إلا أنّ هؤلاء خصوص أصحاب اليمين، وهم عموم المحبين، إلاّ إنّه إذا رفعهم إلى مقام التوحيد فأشهدهم الإيجاد بالوحدانية والانفراد بالفردانية نظروا، فإذا هو لم يعط منه لسواه شيئاً ولا أظهر من معانيه وصفاً، فانطوت الغيرة من توحيدهم لماعرفوا بيقين التوحيد أنه مانظر إليه سواه، ولا عرفه إلاّ إيّاه، فتسقط هممهم بالغيرة عليه، وعرفوا حكمته بتعريفه أنواع ما يظهر وأقسام ما ينشر، وأنه في غيب غيبه لايظهر عليه سواه وفي سرّسرّه لا يشهده إلاّ إيّاه، فقام لهم مقام المعرفة بالتوحيد مقام الغيرة عليه، فهذا إذا طولعوا به مقام الموحدين من الصدِيقن، وقد روينا في دلائل المحبّ وأوصافه أبياتاً عن يحي بن معاذ، وأبي تراب النخشبي، وعن أبي سعيد الخراز أي أيضاًَ على قافية واحدة في معان متقاربة، وهي جامعة مختصرة في نعت المحبين من المريدين، وفي وصف السائحين من المرادين بالتقرّب والانقطاع أولى الأحوال والمشاهدات الرفاع، فالذي روينا عن أبي تراب هذه الأبيات: لا تخدعنّ فللمحبّ دلائل ... ولديه من تحف الحبيب وسائل منها تنعّمه بمر بلائه ... وسروره في كل ما هو فاعل فالمنع منه عطية مقبولة ... والفقر إكرام ولطف عاجل ومن اللطائف أن يرى من عزمه ... طوع الحبيب وإنّ ألحّ العاذل ومن الدلائل أن يرى متبسّماً ... والقلب فيه من الحبيب بلابل ومن الدلائل أن يرى متفهّماً ... لكلام من يحظى لديه السائل ومن الدلائل أن يرى متقشفاً ... متحفظاً من كل ما هو قائل والذي رويناه عن يحيي بن معاذ: ومن الدلائل أن تراه مشمراً ... في خرقتين على شطوط الساحل ومن الدلائل حزنه ونحيبه ... جوف الظلام فما له من عاذل ومن الدلائل أن تراه مسافراً ... نحو الجهاد وكل فعل فاضل ومن الدلائل زهده فيما يرى ... من دار ذل والنعيم الزائل ومن الدلائل أن تراه باكياً ... أن قد رآه على قبيح فاعل ومن الدلائل أن تراه مسلماً ... كل الأمور إلى المليك العادل ومن الدلائل أن تراه راضياً ... بمليكه في كل حكم نازل ومن الدلائل ضحكه بين الورى ... والقلب محزون كقلب الثاكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 والذي رويناه عن أبي سعيد الخراز دخل فيما ذكرناه عنهما، وأحسب أنه أخذه منها لأنهما أقدم منه، إلا أنّ قوله كان أحد عشر بيتاً فقط، وجميع ما قدمنا ذكره من العلامات والدلالات هي أوصاف المحبين، وكل محبّ لله فعن محبة اللّّّه، لأنّ وجود العبد لمحبته لله علامة غيب محبة الله له، يبين ذلك الغيب له في هذه الشهادة إلاّ أنّ في المحبة مقامين، مقام تعريف ومقام تعرّف، فمقام التعريف هومعرفة العموم وهذا قبل المحبة الخاصة، ومقام التعرّف معرفة الخصوص وهذا بعد محبة العموم، وهو مزيد الحبِ الأول، وهذا محبة خصوص، وكذلك في المحبة مقامان، مقام محبّ وأعلى منه مقام محبوب، وهذا كما عبروا عن قولهم مريد ومراد، وعلى الحقيقة كل مريد لله فهو مراد بذلك، إلا أنهم جعلوا اسم مراد بوصف مخصوص بعرف به فيمتاز معه المبتدئ من المبادئ، والمنيب من المجتبي، والطالب من المطلوب، والراغب من المرغوب، والحافظ من المحفوظ، فكذلك لعمري ليس الحامل مثل المحمول، ولا الزائر كالمزور ولا الاشتياق كالحضور، ولا المحبّ مثل المحبوب، قال أبو موسى الدبيلي: عرضت على أبي يزيد البسطامي كتاب صاحبنا عبد الرحيم في الإخلاص فما أعجبه منه إلاّ حكاية أبي عاصم الشامي في الشوق، يعني أنّ عبد الرحيم ذكر الإخلاص في كتابه فقال: قيل لأبي عاصم وافد أهل الشام يشتاق إلى الله، فقال: لا، قيل: ولِمَ؟ قال: إنما يشتاق إلى غائب، فإذا كان الغائب حاضراً فإلى مَنْ يشتاق؟ قلت: سقط الشوق، وهذا مقام محبوب، وفي المشاهدة مقامان؟ مقام شوق ومقام أنس، فالشوق حال من القلق والانزعاج عن مطالعة العزة ومعاينة الأوصاف من وراء حجاب الغيب بخفايا الألطاف، وفي هذا المقام الحزن والانكسار، والأنس حال من القرب عن مكاشفة الحضور بلطائف القدرة، ففي هذا المقام السرور والاستبشار، وقال ضيغم: عجيب للخليقة كيف أرادت بك بدلاً، وعجبت لهاكيف أنست بسواك، وقال الجنيد: علامة كمال الحبّ دوام ذكره في القلب بالفرح والسرور والشوق إليه والأنس به، وأثرة محبة نفسه، والرضا بكل ما يصنع وعلامة أنسه بالله استلذاذ الخلوة، وحلاوة المناجاة، واستفراغ كله حتى لا يكاد يعقل الدنيا وما فيها، ولا يحمل هذا على الأنس بالخلق، فيرتب على مدراج المعقول، كما لا يحمل المحبة على محبة الخلق فيكون بمعاني العقول، لأنّه حال منها، أو إنما هو طمأنينة وسكون إليه، ووجد حلاوة منه، واستراحة وروح بما أوجدهم، وقد أنكر الأنس من لا مقام له فيه، كما أنكر المحبة أيضاً من لا معرفة له بها لأنه تخيّل فيه محبة المخلوق، وتمثل لها صفاتهم، فقال: لا يعرف المحبة ولا يعقلها إلاّ لمخلوق وليس إلا الخوف والهيبة، وممن ذهب إلى هذا القول: أحمد بن غالب المعروف بغلام خليل، أنكر على الجنيد وأبي سعيد والثوري كلامهم في المحبة، وليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 هذا مذهب السلف ولا طريقة العارفين، كتب عامر بن عبد الله إلى بعض إخوانه: آنسك الله بنفسه، وقيل لإبراهيم بن أدهم وقد نزل من الجبل: من أين أقبلت؟ قال: من الأنس بالله وأنشدونا لبعض العارفين: الأنس بالله لا يحويه بطال ... وليس يدركه بالحول محتال والآنسون رجال كلهم نجب ... وكلهم صفوة لله عمال وقد روينا في التفسير عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله عزّ وجلّ: (الَّذينَ آمَنُوا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) الرعد: 28، قال: هشت إليه وأنست به، وفي مقام الأنس يكون التملق والمناجاة، ومعه تكون المحادثة والمجالسة، ومعنى من البسط، ولا يحبّ الله تعالى هذا النوع من الإدلال إلاّ ممن أقامه مقام الأنس، ولا يحسن ذلك إلاّ منهم لنحو قول موسى عليه السلام في مقام الأنس: يا رب لي ماليس لك، قال: وماهو؟ قال: لي مثلك وليس لك مثل نفسك، قال: صدقت، معنى قوله: مثلك أي لي أنت كقوله تعالي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) الشورى: 11، معناه ليس كهو شيء لأنّه لا مثل له، فيكون لمثله مثل إذ لا يكون لمثله مثل، والعرب تعبر بالمثل عن نفس الشيء وفوق هذا من البسط ما أخبر الله تعالى عنه أنّه قال مواجهاً للجليل العظيم: إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون، وأعظم من هذا قوله: اذهب إلى فرعون، فقال مجيباً له، فأرسل إلى هارون ولهم عليّ ذنب، ومثله قوله: إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري فحسن هذا منه، لأنّه أقامه مقام البسط بين يديه والأنس به، ولأنّ مكانه لديه مكان محبوب، فأدلّ به عليه فحمله ذلك، وهذا من غير موسى في غير هذا المقام من سوء الأدب بين يدي المرسل، ولم يحتمل ليؤنس عليه السلام خاطراً من هذا القول لما أقيم مقام القبض والخوف، حتى عوقب بالسجن في بطن الحوت في البحر، في ظلمات ثلاث، ونودي عليه إلى يوم الحشر، لولا أنْ تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم، وقيل: عراء القيامة، ونهي الله تعالى حبيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي به في القول والفعل فقال تعالى: (فَاصِبْر لِحُكُمِ رَبِّكَ ولاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذْ نَادي وَهُوَ مَكْظُومٌ) القلم: 48، وقد قال تعالى: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) البقرة: 253، واحتمل لإخوة يوسف ما عزموا عليه واعتقدوه وما فعلوه وما أسروه من قولهم: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم إلى نحو ذلك من الكلام والفعال، ولقد عددت من أول قولهم ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا إلى رأس العشر من أخباره عنهم في قوله، وكانوا فيه من الزاهدين نيفاً وأربعين خطيئة بعضها أكبر من بعض، قد يجتمع في الكلمة الواحدة الأربعة والخمسة من الخطايا، ودون ذلك وفوقه بدقائق الاستخراج ومعرفة خفايا الذنوب، فغفر لهم ذلك إن كانوا في مقام محبوبين، ولم يحتمل لعزير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 مسألة واحدة سأل عنها في القدر حتى قيل محي من ديوان النبوة، وقد قال الله تعالى فوق ذلك كله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجَلَ مِنْ بَعْدِهِ) البقرة: 92، ما جاءتكم البّينات فعفونا عن ذلك، فإن شاء أن يعفو عفا عن العظائم فلم يعظم عليه شيء، وإن شاء طالب وناقش على الصغائر، ولا تصغر الذرة والخردلة عن مطالبته، وكيف يصغر ذنب ممن واجه به الملك الجبّار؟ ألا ترى من كشف عورته بين يدي نبي كفر لانتهاك حرمة النبوّة فكيف بالعظيم الأكبر لولا فضله ورحمته؟ وفي قوله سبحانه: (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) آل عمران: 129، قيل: يغفر لمن يشاء على الذنب العظيم، ويعذّب من يشاء على الذنب الصغير، وقيل: يشترك الجماعة في المعصية فيغفرها لبعضهم ويبدلها حسنات، فلا تضرّه بل تكون عاقبتها ما يسرّه، ويعذّب البعض بذنبه ولا يغفر له، وقد لا ينفعه معه عمل لا يسأل عمّا يفعل، وهم يسألون له الخلق والأمر، يحكم بأمره في خلقه ما يشاء، كيف شاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله، واحتمل لآصف بن برخيا فوق ذلك كله، يقال: إنه كان أحد المسرفين، ولا يصلح أن تذكر ذنوبه لمكان علمه ولحسن عطف الله عليه، ثم تداركه مولاه، واجتباه، وأعطاه العلم والفضل، وأيد به نبيه وخليفته، وجعله وزيره، وأطلعه على الاسم الأعظم بعد ما كان منه ما يتعاظم لئلاّ ييأس محبّ من عطفه، ولكيلا يقنط متحجّب من لطفه، ولم يسمح لبلعم بن باعوارء بذنب واحد من ذنوب آصف بن برخيا إلاّ إنّ بلعم أكل دنياه بدينه وأدخل الهوى على العلم فضلّ بذلك وهلك واشتدّ مقت الله له، وآصف كانت معاصيه في جوارحه بينه وبين خالقه، فكان آصف مستبدلاً به من بلعم لما أري تلك الآيات، فانسلخ منها بعد العبادات، إذ لم يرد بحقائقها والنيات فيه، ويقال: إنه أوتي الاسم الأعظم المتصل بكل المتصلة بكان، وقد قيل: كان أوتي فوق ذلك ثم انسلخ من الآيات فسكن إلى الدنيا وهوى في الهالكات، ولم ينفعه ما كان منه من العبادة والزهادة كي لا يأمن عامل من عماله مكره، ولئلا يدل عالم عليه بما أظهره، وكان آصف في كبائر المخالفات فاستنقذ منها ثم أوتي بعدها الآيات لأنّه بوصف مراد وفي مقام محبوب، هذا بحضرة نبي الله وخليفته في الأرض سليمان عليه السلام.، وقد قيل: كان أوتي فوق ذلك ثم انسلخ من الآيات فسكن إلى الدنيا وهوى في الهالكات، ولم ينفعه ما كان منه من العبادة والزهادة كي لا يأمن عامل من عماله مكره، ولئلا يدل عالم عليه بما أظهره، وكان آصف في كبائر المخالفات فاستنقذ منها ثم أوتي بعدها الآيات لأنّه بوصف مراد وفي مقام محبوب، هذا بحضرة نبي الله وخليفته في الأرض سليمان عليه السلام. فأمّا قصة بلعم فهي أشهر من أن نذكرها، ولها مقدمات فيها قصص وإطالة لا نشتغل بذكره، ولكن نذكر بعض ما انتهى إلينا من قصة آصف، وليس كل أحد على قصته يقف، حدثونا أنّ الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام: يا ابن رأس العابدين ويا ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 محجة الزاهدين، إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف وأنا أحلم عنه مرة بعد مرة، فوعزتي وجلالي لئن أخذته عطفة من عطفاتي عليه لأتركنّه مثلة لمن معه ونكالاً لمن بعده، قال: فلما دخل آصف على سليمان أخبره بما أوحى الله إليه، فخرج حتى علا كثيباً من رمل، ثم رفع يديه نحو السماء وهو يقول: إلهي وسيدي أنت أنت وأنا أنا فكيف أتوب إن لم تتب عليّ وكيف أستعصم إن لم تعصمني لأعودنّ فأوحى الله إليه: صدقت أنت أنت وأنا أنا أستقبل التوبة إليّ فقد تبت عليك وأنا التوّاب الرحيم، وهذا كلام مدّل به عليه، وهارب منه إليه، ومتملّق له منه ومن إدلال المحبوبين من المستأمنين مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله كليمه أن يسأله أن يستسقي لبني إسرائيل بعد أن قحطوا سبع سنين، واستسقي لهم موسى في سبعين ألفاً، فأوحى الله إلى موسى كيف أستجيب لهم، وقد أظلمت عليهم ذنوبهم وسرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري، ارجع فإن عبداً من عبادي يقال له برخ قل له يخرج حتى أستجيب له، فسأل عنه موسى فلم يعرف، فبينا موسى عليه السلام ذات يوم يمشي في طريق فإذا بعبد أسود استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى بنور الله فسلم عليه وقال: ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ قال: فأنت طلبتنا منذ حين، اخرج فاستسق لنا، قال: فخرج فقال في كلامه: ماهذا من فعالك وما هذا من حلمك، فما هذا الذي بدا لك؟ أنقصت عليك غيوثك، أم عاندت عن طاعتك الرياح، أم نفد ما عندك، أم اشتد غضبك على المذنبين، ألست كنت غفاراً قبل خلق الخاطئين خلقت الرحمة، وأمرت بالعطفة فتكون لما تأمر من المخالفين، أم ترينا إنك ممتنع، أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟ قال فما برح حتى اخضلت بنو إسرائيل بالقطر وأنبت الله العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب، قال: فرجع برخ، قال: ففي هذا ذكري الراجين، وأنس المشتاقين، وطمع للعالمين، وتحبّب إلى المطيعين؛ هذا كما قال بعض العارفين: الحبيب لا يحاسب والعدو لا يحسب. وروي عن الله سبحانه أنه أوحى إلى عبد تداركه بعد أن كان أشفى على الهلكة: كم من ذنب واجهتني به غفرته لك قد أهلكت في دونه أمة من الأمم، وقد اشترك عبدان في اسم المعصية ثم تباينا في الاجتباء والعصمة؛ آدم عليه السلام وإبليس لعنة الله عليه، ثم اجتبى آدم وهذا لما سبق له من الاصطفاء والكلمة الحسنى، وإبليس أبلس من رحمته وأغوى لما سبق له من الشقوة والكلمة السوء، وقد عاتب الله نبيه على الإعراض عن عبد، وكره له الإقبال على عبد فقال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّى) عبس 8 - 9 - 10 وقال تعالى في الأخرى: (أَمَا مَنِ اسْتَغْنى) (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّى) (وَمَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزَّكَّى) عبس: 5 - 6 - 7، وربهما واحد، وبمثله أمره بالإقبال والسلام على طائفة، وأمره بالإعراض وترك القعود مع طائفة فقال تعالى: (وَإذَا جَاءَكَ الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الأنعام: 45، (واصبر نفسك مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) الكهف: 82، (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) الأنعام: 68 (وإما ينسيّنك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) الأنعام: 68 وكلهم عبيد لواحد ومثل المحبوب من المحبّ مثل مقام المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مقام موسى عليه السلام، قال موسى: ربّ اشرح لي صدري، وقال لمحمد: ألم نشرح لك صدرك؟ وقال موسى: واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي، وقال لمحمد: ورفعنا لك ذكرك، أيّ تقرن بي في الشهادة والآذان، لا أوازرك بغيري لأنك من أهلي، والوزير القرين والظهير، أي فأنت من أهلي فقد وزرتك وقرنتك بذكري، فأنا ظهيرك ومعينك لا أشد أزرك بغيري، فأشبه هذا ما رويناه عن ليث عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ: (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) الإسراء: 79 قال يقعده على العرش فكان العرش مكان الربوبية بمشيئته في الدنيا وهو مستغني عنه بقدرته، فوهبه لحبيبه في الآخرة فجعله مكانه تفضّلاً له وتشريفاً، ليكون هناك فوق المرسلين في الجلالة، كما كان ههنا آخرهم في الرسالة، وقال لموسى عليه السلام بعد المقام: قد أوتيت سؤالك يا موسى ولقد منّنا عليك مرة أخرى، ففي هذا تحديد، وقال لمحمد عليه السلام بعد المقامات وقل: ربّ زدني علماً فلم يحد له حدّاً، فهذا غاية المزيد. وقال موسى عليه السلام ربّ أرني أنظر إليك أي في محل العبودية، وقال لمحمد عليه السلام: ما زاغ البصر وما طغى، فكان قاب قوسين أو أدنى؛ أي مكان الربوبية، فبين المحبّ والمحبوب في التقليب، كما بين موسى ومحمد عليهما السلام في التقريب، كم بين من رأى ما رأى عند نفسه في مكانه وبين من رأى ربّه في علوه، كم بين من عجل إليه شوقاً منه ليرضى عنه وبين من عجل به شوقاً إليه ليرضاه إليه لرضاه عنه، كم بين من رأى ما رأى فلم يثبت، ففاضت عليه الأنوار لضيقه، وبين من رأى ما رأى فثبت له وغاضت فيه الأنوار لسعته، فقد جاوز المحبوب مقام المحبّ في التمكين، كما جاوز محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقام موسى عليه السلام في المكان أدخل بينه وبين موسى لام الملك وأقام محمداً مقامه في الملك وقال تعالى لموسى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي) طه: 41 وقال لمحمد: (إنّ الذَّينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله) الفتح:، 1، فكم بين من صنعه لنفسه وبين من جعله بدلاً من نفسه تفضلاً وتعظيماً، كم بين من فصل مدحه من وصفه وبين من وصل مدحه بوصفه، فقال تعالى في الفصل: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً منّي وَلِتَصْنَعَ عَلى عَيْني) طه: 39 وقال في الوصل: (لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) الفتح: 9 الآية، وقال في مثله: والله ورسوله أحق أن ترضوه، وقد قيل في قوله تعالى: (يَا مُوسى إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتي وَبكَلامي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرينَ) الاعراف: 144 أي خذ ما آتيتك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الكلام فتلا: واصطفيتك به على الناس، فاشكر عليه والنظر فقد خصصت به محمداً، وعن ابن عباس وكعب أنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد فأعطى موسى الكلام وخصّ محمداً بالرؤية، ومما يؤيد هذا القول أنّ الذي آتاه الكلام هو الذي ثبت له فدلّ أنه هو الذي أريد به لأنّ الله تعالى إذا أراد عبداً بشيء ثبته فيه وقواه عليه، وقد ثبت محمداً لما آتاه من الرؤية وقواه لها ومكنه فيه، لأنه أراد بها، ومن وصف مقام المحبوب ما قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: صف لنا أصحابك، فقال: عن أيهم تسألون؟ قالوا: عن سلمان، قال: أدرك علم الأول والآخر، قالوا: فعمار، قال: مليء إيماناً إلى مشاشه، قالوا: حذيفة، قال: صاحب السرّ أعطى علم المنافقين، قالوا: فأخبرنا عن نفسك فقال: إياي أردتم بهذا كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتدأت؛ فهذا مقام محبوب، لأنه إذا سأل سمع منه فاستجيب له، وإذا سكت نظر إليه فعطف عليه، وقد روينا عنه من أحبّ من لا يعرف فإنما يمازح نفسه، أي من لا يعرف صفات حبيبه وأخلاقه وأفعاله وأحكامه فيحبه بعد خبره فيسارع إلى مرضاته ويجانب مكارهه فإنما يمازح نفسه؛ أي يلهو بها ويلعب ليس فيه شيء من حد المحبين ولا حقيقة العارفين إذا لا يأمن انقلاب محبته لتقليب أفعال محبوبه، ولا يأمن تغيير حبه لابتلاء حبيبه واختلاف أحكامه فكأنه كان مازحاً بحبه لا محقّاً به، وفي مثل هذا المقام من جهل المحبين بأفعال المحبوب اغترار عظيم. ومن المحبة كتمان المحبة إجلالاً للحبيب وهيبة له وتعزيزاً وتعظيماً له وحياء منه؛ وهذا وصف المخصوصين من عقلاء المحبين وهو من الوفاء عند أهل الصفاء، إذ كانت المحبة سرّ المحبوب في غاية القلوب؛ فإظهارها وابتذالها من الخيانة فيها وليس من الأدب ولا الحياء النسبة إليها ولا الإشارة بها، لأنّ في ذلك اشتهاراً فتدخل عليه دقائق الدعوى والاستكبار، وقد قال بعض العارفين: أبعد الناس من الله أكثرهم إشارة به هو الذي يكثر التعريض به في كل شيء ويظهر التزيّن والتصنّع بذكره عند كل أحد هذا ممقوت عند المحبين لله والعلماء به. دخل ذو النون المصري على بعض إخوانه ممن كان يذكر المحبة فرآه مبتلي ببلاء يجلّ عن الوصف فقال ذو النون، لا يحبه من وجد ألم ضربه، فقال الرجل: لكني أقول لا يحبه من لم يتنعم بضربه، فقال ذو النون: لكني أقول: لا يحبه من شهر نفسه بحبه، فقال الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه؛ وهذا كما قال ذو النون هو من علامة الإخلاص في المحبة إذ كانت أعمال القلوب، فوجود الإشفاق والحذر من إظهارها خشية السلب والاستبدال، وخوف المكر والاستدراج علامة التحقق بها ودفعها عن النفس، وسترها عن أبناء الجنس، وترك التظاهر بها علامة الظفر بها، لأنّ المحبوب غيور، وغيرته على نفسه وعلى ظهور محبته أشد من غيرته على إظهار محبته، وغيرته على إظهارهم لغير أبناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 جنسهم أشد من غيرة جميع محبيه عليه؛ وهذا كلام على عالم صاح في مقام صحو مكين، فأما السكرن بحاله والولهان بوجده فمغلوب، والمغلوب معذور، قال رجل لأبي محفوظ، وقد رأى من بعض المحبين شيئاً استجهله فيه فأخبر معروفاً بذلك فتبسّم ثم قال: ياأخي له محبون صغار وكبار ومجانين وعقلاء، فهذا الذي رأيته من مجانينهم ومن المحبة كتمان بلاء الحبيب بعد الرضا به لأنّ ذلك من السرّ عنده وحسن الأدب لديه، وعوتب سهل في العلة التي كانت به علة مهولة كان يداوي الناس منها ولا يداوي نفسه فقيل له في ذلك فقال: ضرب الحبيب لا يوجع، وكان حينئذ يقول: من علامة المحبّ في المكاره والأسقام هيجان المحبة وذكرها عند نزول البلاء، إذ هو لطف من مولاه وفيه الغربة إلى محبوبه وقلة التأذي بكل بلاء يصيبه لغلبة الحب على قلبه، وقد كان بعض المحبين يقول: أصفى ما أكون ذكراً إذا ما كنت محموماً، وذكر بعض من ينتمي إلى المحبة مقامه في المحبة عند بعض المحبين فقال له المحبّ: أرأيت هذا الذي تذكر محبته أهممت بسواه قط؟ قال: نعم، قال: فهل رأيته في ليلة مرتين وثلاثاً؟ قال: لا، قال: لولا أني أستحي لأخبرتك أنّ محبتك معلولة تهتم بسوى حبيبك ولا تراه في ليلتك، ثم قال: لكني لا أدعي محبته وعلى ذلك ما اهتممت بسواه مذ عرفته، وربما رأيته في ليلة سبع مرار، وذكر بعض المحبين ممن كان بدلاً عن إبراهيم بن أدهم ممن تكلم في علم طريقه ووصفه حاله وذكر القصة بطولها قال: رأيت الله عزّ وجلّ مائة وعشرين مرة وسألته عن سبعين مسألة أظهرت منها أربعة فأنكرها الناس فأخفيت الباقي، وفيما ذكر من وصف المحبّ كفاية وغيبة عن وصف المحبوب وليس يمكننا وصف المحبوب إذ كان حاله يجلّ عن الوصف، وكيف يوصف من يسمع ويبصر من يحبه ويبطش ويعقل عن محبوبه فيكون هو سمعه وبصره وقلبه ويده ومؤيده، كما جاء في الخبر: إذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقلبه الذي يعقل به، وإن سألني أعطيته وإن سكت ادّخرت له، لو قسم نوره على أهل الأرض لوسعهم؛ فهذا كله في مقام محبوب، ويقال: إنّ هذه الآيات والقدر من سرائر الغيوب وخفايا الملكوت التي تسميها العامة المعجزات والآيات وتسمّيها العلماء الكرامات والإجابات؛ وهي آيات الله في أرضه مودعة وقدرته في عباده جارية، وعنايات له في ملكه مستقرة، ليس للعباد منها إلاّ كشفها ونظرهم إليها إذا أقيموا مقام الأنس من مقام محبوب، ويقال: إنّها توجد في المقام السابع عشر من مقامات المعرفة، إذا أقيم العبد هذا المقام في المعرفة يؤدي بها ظهرت له وفوقها ثلاثة وثمانون مقاماً من مقامات العارفين، أفضل من ذلك، ويقال: إنها لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 تكون لأبدال المرسلين من الصدّيقين، وإنّما يعطاها أبدال النبيين من الصالحين، فأبدال المرسلين فضّلهم على أبدال النبيين كفضل المرسلين على النبيين وكفضل الصدّيقين على من دونهم من الصالحين، كيف وقد قال بعض العلماء: ما رأيت هذه الكرامات أظهرت إلا على أيدي البله من الصادقين. وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من يدخل الجنة من أمتي البله، وعليون لذوي الألباب، فأولو الألباب هم المواجهون بالخطاب، الشهداء عليه، المستحفظون للكتاب، كما قال تعالى: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاْءَ) المائدة: 44، والعامة يحسبون أنها من أعلى مقامات المعرفة فجميع تلك الأسرار من الغيوب التي تكنّها الحجب والأستار لا يظهر عليه إلا مطلوب، والمطلوب عن نفسه مسلوب، فمن بقيت عليه من نفسه بقية، أو نظر إلى حركته وسكونه بعينه نظرة خفية فسترها عليه رحمة له، لأنه لو كوشف هلك في حيرة الهوى، وغرق في بحر الدنيا، ونفس حبه لها، وعين طلبه إياها هو حجابها عنه واستثارها منه، حتى يكون كارهاً لظهورها كراهته لظهور الخلق عليه في معصيته، وخائفاً منها خيفته من نفسه في تظاهرها عليه بهلكته، فإذا بقي بباق وحيّ بحياة حي صرفاً منه وصرفاً عنه بلا طلب ولا نظر ولا سبب ولا فكر، أدّى لعجائبه، وفتح له كنوز غرائبه، ويفعل الله ما يشاء. وقال بعض العارفين ممن يكشف عن مشاهدته: عبدت الله ثلاثين سنة بأعمال القلوب والجوارح على بذل المجهود، واستفراغ الطاقة، حتى ظننت أنّ لي عند الله شيئاً، فذكر أشياء من مكاشفات السموات في قصة طويلة قال في آخرها: فبلغت صفاً من الملائكة بعدد جميع ما خلق الله من شيء فقلت: ما أنتم؟ قالوا: نحن المحبوب لله نعبده ههنا منذ ثلاثمائة ألف سنة ماخطر على قلوبنا قط طلب لسواه ولا ذكرنا غيره، قال: فاستحييت من أعمالي فوهبتها لمن حقّ عليه الوعيد تخفيفاً عنهم في جهنم، وقال بعض العلماء: كل مقام أعبر عنه إلا مقام المحبة، قيل: ولم؟ قال: لأن الشيء يعبر عنه بألطف منه ولا شيء ألطف من المحبة، وقيل لمعروف: أخبرنا عن المحبة أي شيء هي؟ قال: ياأخي ليس المحبة من تعليم الناس، المحبة من تعليم الحبيب، وقد كان الحذاق من العلماء لا يخبرون بحقائق أربع مقامات؛ حقيقة التوحيد، وحقيقة المعرفة، وحقيقة المحبة، وحقيقة الإخلاص، وقال بعض العارفين: كل المقامات عن أنوار الأفعال والصفات، إلا المحبة فإنّها عن نور حقيقة الذات، فلذلك عزّ وصفها، وعزب علمها، وقلّ من المؤمنين المتحقق بها؛ وذلك أنّها سرّ كالمعرفة إذا ظهر المحبوب أحببته كما إذا رأيت المعروف عرفته؛ وذلك متعلّق به وهو الظاهر لظاهر المعرفة والمحبة الباطن لباطن المحبة، والمعرفة عن وصف باطن، ومن أدرك مقام المحبة لله لم يضره فوت شيء من المقامات، ومن فاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 المحبة لم يغبط بدرك شيء، وقد قيل في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق: 3، إن الهاء عائدة على التوكل أي فالتوكل حسبه من جميع المقامات والتوكّل حال من مقام المحبة. وقد قال الله تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أكْبَرُ) ، والرضا مقام من المحبة فقد جلّت المحبة أن توصف ودقت عن العلوم بالعقول أن يعرف مثلها مثل العلم باللّّه؛ فكذلك أي قلب أجلّ من قلب يكون محبوبه الله، ولا أعلم من معلومه الله، وقيل: إن للقلب حبة هي باطنه عليها يتعلق، المحبة، ومنه سمّيت محبة؛ كان اشتقاقه من حبة القلب وهي التي يقال لها سويداؤه، والميم في الأسماء قد تزاد للمبالغة في الوصف، ومن هذا قول الله عزّ وجلّ: (قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً) يوسف:، 3 لما وصفها بنهاية الوصف في الحبّ؛ أي قد خرق حبه شغاف قلبها فوصل إلى حبة القلب، وخرق الشغاف وهو حجاب القلب، وحبّاً منصوب على التفسير كأنّه قيل: قد شغفها أي خرق شغافها، فقيل: ماذا؟ فقيل: حبّاً، فالحب إذا وصل إلى هذا الموضع من العبد لم يملك المحبّ نفسه، ففرغ قلبه له، وامتلأ به، ولم يجر على ترتيب ما رسمناه، وربّما خرج إلى الوله والاستهتار وجاوز معيار العقل في التصريف والأذكار، والعرب تقول: قد دمغه وأرأسه وقاده وركبته، كذلك قولهم أشغفه إذا أصاب شغاف قلبه فهتك حجابه وقد قرئت بالعين، ومعنى قد شغفها بلغ أعلى القلب ونهايته لأن الشغف أعلى كل شيء وأبعده، فالمعنى ذهب به الحبّ أقصى المذاهب وغايته، فحينئذ يملكه الحبّ فيكون أسيره، ويغلب عليه الحبيب فيصبر مأسوره فيحكم عليه ولا يجاوز، ويفرغ له قلبه من كل شيء رسمه، ويمتلئ به فلا يبقى فيه شيء رسمه، ولا يقدر على الكذب لظهور سلطان قهر الحبّ، فحينئ يكشف قناعه ويرسل عذاره فيه ويصفه الحبّ بالحبّ وهو صامت بخيفة المحبّ إلا لمن أحبّ، وهو ظاهر، وليس يكون هذا إلا في مقام شكر وحال عليه، فمن لم يعرف هذا المقام أنكر هذا الكلام إلا أن يربط قلبه بتأبيده ويحفظ سرّه بتمكينه كما قال تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ) القصص: 10 أي من المصدقين إنّا نرده إليها ولا تظهر أنه ابنها فيقتل، وكما لطف للفتية الذين آمنوا وهم أصحاب الكهف لما غلب حبّ الإيمان على قلوبهم، إذ قاموا فقالوا: ربّنا ربّ السموات والأرض لئلا يظهروا إيمانهم لما غلب حبه عليهم فيقتلوا؛ فهذه لطائف الحكيم وخفي صنع العليم، فالمحبون له حافظون للغيب بما حفظ، وقال سمنون لبعض الفقراء في قصة ذكرها يفرح بحبه ويذكر المحبة، وقال بعض الناس في وصف المحبين أقامهم مقام المحبة فلم يزن الملك في قلوبهم حبة فمحبة غير الله في محبة الله شرك عند المحبين؛ وهي خيانة عند بعضهم، وهو من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 نقض العهد وقلة الوفاء بالعقد. وقال سهل: من أحبّ الدرهم لا يحبّ الآخرة، ومن أحبّ الخبز لم يحبّ الله عزّ وجلّ، ولا يخرج حبّ الوالد والولد المحبين من المحبة، لأنّ ذلك جعل الله في القلوب نصيباً لهم ولا يخرجه أيضاً حبّ الزوجة بمعنى الرفق بها والرحمة لها، ولا يخرجه أيضاً حبّ مصالح الدنيا من حاجات الأقسام والقلوب ممّا لا بدّ منه، وليس ذلك كله يكون في مكان محبة الله، لأنّ محبة الله في أنوار الإيمان، ومحبّة هذه الأشياء في مكان العقل، هكذا عندي في الفرق بين محبة الله ومحبة المخلوق، ويخرجه جميع ذلك عند بعض المحبين من السلف، فأما الاشتغال بهده الأشياء بالإيثار لها على التفرغ لمرضاة الله والإنحطاط في أهوائها دون محبة الله فإنّ ذلك يخرجه عند الكل وعندي يخرج العبد من حقيقة المحبة السكون إلى غير الله، والفرح بسواه، والحزن على فوت غيره إياه، وقيل لبعض العارفين من الأبدال: الناس يقولون إنك محبّ فقال لست محبّاً المحب متعوب ولكني محبوب وقيل له أيضاً الناس يقولون إنك واحد من السبعة، فقال: أنا كل السبعة، وقال هذا إذا رأيتموني فقد رأيتم أربعين بدلاً، قيل: كيف وأنت شخص واحد؟ قال: لأني قد رأيت أربعين بدلاً فأخذت من كل بدل خلقاً من أخلاقه، وقيل له: بلغنا أنك ترى الخضر فتبسم ثم قال: ليس العجب ممّن يرى الخضر ولكن العجب ممن يريد الخضر أن يراه فيحجب عنه فلا يقدر عليه ولعمري أن من كان عند الله لم يره بشر ولا ملك. حدثونا أنّ الحسن رحمه الله اختفى عند حبيب العجمي من الحجاج، فسعى به فدخل عليه الشرط، ففزع الحسن وذهب ليتسور الحائط ويهرب، فقال له حبيب أبو محمد: اقعد حتى نبصر، فقال: فدخل عليه الشرط فقالوا: أين الحسن؟ قيل لنا إنه عندك، فقال: هل ترون شيئاً؟ ففتشوا الدار كلها وخرجوا وهم لا يرونه، فقال له الحسن: كيف لم ينظروا إليّ؟ قال لأنك كنت عند الله فلم يروك، ولو كنت عندي لأبصروك، قال له الحسن: إني قد رأيتك لما دخلوا هممت بشيء، فهل ذكرت اسم الله الأعظم؟ قال: لا، ولكن قلت اللهم اجعله عندك حتى لا يبصروه، وهذا هو واحد من أصحاب الحسن، وقد كان الحسن فوقه بدرجات أحوجه الله إليه، وقيل لأبي يزيد بلغت جبل قاف؟ فقال: جبل قاف أمره قريب الشأن في جبل كاف وجبل عين وجبل صاد، قال: وما هذا؟ قال: هذه جبال محيطة بالأرضين السفلى، حول كل أرض جبل بمنزلة جبل قاف محيط بهده الدنيا، وهو أصغرها، وهذه أصغرالأرضين، وقد كان أبو محمد يخبر أنه صعد جبل قاف، ورأى سفينة نوح مطروحة فوقه، وكان يصفه ويصفها، وقال لله عبد بالبصرة يرفع رجله وهو قاعد فيضعها على جبل قاف، وقد قيل: الدنيا كلها خطوة للولي، وإنّ وليَّا لله خطا خطوة واحدة خمسمائة عام، ورفع رجله على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 جبل قاف والأخرى على جانب الجبل الآخر، فعبر الأرض كلها، وقيل لأبي يزيد: دخلت إرم ذات العماد فقال: قد دخلت ألف مدينة لله في ملكه، أدناها ذات العماد، ثم عدد كلها؛ البيت وتأويل وباريس وجايلق وجابرس ومسك، ولعلّ قائلاً يقول: فقد قال الله في وصفها: (الَّتي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلادِ) الفجر: 8، قيل: فإن معناه في بلاد اليمن لأنهم خوطبوا بما في بلادهم، كما قال تعالى: (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ) المائدة: 33، يعني أرض بلادهم، فذات العماد مدينة عاد في اليمن بين إبتر والشحر، يقال: لها سور له ألف باب ما بين البابين، فرسخ مركبة على أعمدة الذهب والفضة والياقوت والزبرجد، فيها مائة ألف عمود من ذلك، كانت الجن اصطنعتها لعاد بن شدّاد بن سام بن نوح، استخرجت الجن هذه العمد من قعور البحار والقفار، وكانت سخرت الجن له قبل سليمان بن داود بأربعة آلاف عام، تجتمع في يهذه المدينة طائفة من الأبدال ليالي الجمع وفي الأعياد، يقال: فيها صناديق من حجارة، طول كل صندوق عشرة أذرع، فيها قبور الأنبياء؛ أجسادهم صحيحة باقية إلى يومنا هذا، وهي محجوبة عن أبصار العباد، وقد كان سهل رحمه الله يزورها في كل جمعة، وهذا واحد من المحبوبين وهذه آيات يسيرة من قدرة الله الكبيرة. وقيل لهذا العبد: حدثنا عن مشاهدتك من الله، فطاح ثم قال: ويلكم لا يصلح لكم أن تعلموا ذلك، قيل: فحدثنا بأشد مجاهدتك لنفسك في الله، فقال: وهذا أيضاً لا يجوز أن أطلعكم عليه، قيل: فحدثنا عن رياضة نفسك في بدايتها، قال: نعم، دعوت نفسي إلى الله في بعض الأمور فتلكعت عليّ، فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق الغمض سنة، فوفت لي بذلك، وحكى عنه بجير بن معاذ في بعض مشاهداته أنه رآه من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر مستوفزاً على صدور قدميه، رافعاً أخمصها وعقبيه على الأرض ضارباً بذقنه على صدره شاخصاً بعينيه لا يطرف، قال: ثم سجد عند السحر ثم قعد فقال: اللهم، إن قوماً طلبوك فأعطيتهم طي الأرض فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم المشي على الماء والهوى فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، وإنّ قوماً طلبوك فأعطيتهم كنوز الأرض فانقلبت لهم الأعيان فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، حتى عد نيفاً وعشرين مقاماً من كرامات الأولياء، قال: ثم التفت فرآني، فقال يحيى: قلت نعم ياسيدي، قال: منذ متى أنت ههنا؟ قلت: من صلاة العشاء، فسكت فقلت: ياسيدي، حدثني بشيء فقال: أخبرك بما يصلح لك، أدخلني في الفلك الأسفل فدورني في الملكوت السفلي، فأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي فطوف بي في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 أوقفني بين يديه فقال لي: سلني أي شيء رأيت حتى أهبه لك، فقلت: ياسيدي، مارأيت شيئاً أستحسنته فأسألك إياه، فقال: أنت عبدي حقّاً، تعبدني لأجلي صدقاً لأفعلن بك ذكر أشياء، قال يحيى بن معاذ: فهالني ذلك وامتلأت به وعجبت منه، فقلت: ياسيدي، ولم لاسألته المعرفة به، وقد قال: سلني ماشئت، فصاح فيَّ صيحة وقال: اسكت، ويلك غرت عليه مني، وقد كان أبو تراب النخشبي رحمه الله معجباً ببعض المريدين، فكان يؤويه ويقوم بمصالحه، والمريد مشغول بعبادته ومواجيده، فقال له أبو تراب يوماً: لو رأيت أبا يزيد، فقال المريد: إني عنه مشغول، فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: لو رأيت أبا يزيد، هاج وجد المريد فقال: ويحك ماأصنع بأبي يزيد، قد رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد، قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي فقلت له: ويلك لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة، كان أنفع لك من أن ترى الله عزّ وجلّ سبعين مرة، فبهت المريد من قولي وأنكره وقال: وكيف ذلك؟ فقلت له: ويلك، إنما ترى الله عندك فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره، قال: فعرف ما أقول فقال: احملني إليه، فذكر قصة قال في آخرها: فوقفنا على تل ننتظره يخرج إلينا من النهر، قال: فمر بنا وقد قلب فروة على ظهره، فقلت للفتى: هذا أبو يزيد فانظر إليه قال: فنظر إليه الفتى فصعق، فحركناه فإذا هو ميت، قال: فتعاونا على دفنه فقلت لأبي يزيد: ياسيدي، نظره إليك قتله؟ قال: لا ولكن كان صاحبك صادقاً وأسكن قلبه سرّ لم يكن ينكشف له بوصفه، فلمّا رآنا كشف له سرّ قلبه فضاق عن حمله لأنّه في مقام الضعفاء المريدين فقتله ذلك، فهذه جمل من أوصاف المحبوب المزاد، ورزق بغير حساب من المحب الجواد، بتيسير من الطالب للمطلوب وعناية من المحب للمحبوب، ومقام الحبيب أعز من أن يظهر وأخفى من أن يعرف، غيرة من عليهم سترهم بأفعالهم وضناً منه بهم حجبهم بأوصافهم، أهل المقامات يشتاقون إليه وهو يشتاق إليهم، وأهل القرب ينظرون إليه وهو ينظر إليهم، وأهل المحبة يحبون أن يسمعوا كلامه وهو يحب أن يسمع كلامهم، وأهل الأحوال يسألونه وهو حسبهم ويحب أن يسألوه، وأهل المشاهدات يزورنه وهو في قلوبهم يزورهم، وأهل الآخرة ينظرون إليه في الآخرة وهو ينظر إليهم في الدنيا، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما ذكرنا في قصة داود الملك الرسول؛ إذ أرسله الملك الجليل إلى أحبائه الأربعة عشر الأولياء أن يسألهم أن يسألوه حاجة، فلما رأوه نفروا منه لئلا يشغلهم عنه، فذكرناها قبل هذا فلا تنكرن من هذا شيئاً فإنه يعطي المحبوب في الدنيا أول عطاء أهل الجنة في الآخرة؛ وهو: كن، فيزهدون في ذلك لأجل بقائه ويكرهون ذلك لحبه، قد جاوزوا معارف من سواهم، فإذا أعطاهم كن أمرهم أن يقولوا: كن في أمر الساعة ولا يقولوا: كن في كشف الغطاء عن النيران والجنان، وما وراءها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 الكون والمكان للعيان قبل اللقاء، وإن كانت ظاهرة لباطن إلا أنها مستورة بالصنع للإيقان، مقطوع عنها الوهم راجع عنها الفكر والهم، وسألهم أن لا يظهروا ما في الحكمة والعقل إخفاؤه، لأن إظهاره لا يصلح للخلائق ولا يستقيم عليه أمر المملكة، ولا ينتظم به التدبير لما سبق من التقدير، وفيه سقوط الأحكام ووقوع الهلكة للأنام، فإذا رأوا ذلك منه وما قد استثناه عليهم منها استجابوا له أحسن استجابة، وردوها إليه أسرع مرد وأبلغه في مرضاته، وهو أن يتركوا إظهار شيء لإظهاره ويزهدوا في كل معنى منها لوجهه، ورضوا بتصريف قدرته في مجاري حكمته. ن للعيان قبل اللقاء، وإن كانت ظاهرة لباطن إلا أنها مستورة بالصنع للإيقان، مقطوع عنها الوهم راجع عنها الفكر والهم، وسألهم أن لا يظهروا ما في الحكمة والعقل إخفاؤه، لأن إظهاره لا يصلح للخلائق ولا يستقيم عليه أمر المملكة، ولا ينتظم به التدبير لما سبق من التقدير، وفيه سقوط الأحكام ووقوع الهلكة للأنام، فإذا رأوا ذلك منه وما قد استثناه عليهم منها استجابوا له أحسن استجابة، وردوها إليه أسرع مرد وأبلغه في مرضاته، وهو أن يتركوا إظهار شيء لإظهاره ويزهدوا في كل معنى منها لوجهه، ورضوا بتصريف قدرته في مجاري حكمته. وهذا غاية الجهد ونهاية الزهد والحب، فيشكر لهم ذلك أحسن شكر ويدخر لهم عنده أفضل ذخر، ولما دخل الزنج البصرة فقتلوا الأنفس ونهبوا الأموال، اجتمع إلى سهل إخوانه فقالوا: لو سألت الله عزّ وجلّ في هذا الأمر، ولو دعوت، فسكت ثم قال: لله تعالى عباد في هذه البلدة، لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة، ولكن لا يفعلون، قيل: ولم؟ قال: لأنهم لايحبون ما لا يحب، ثم ذكر من إجابة الله تعالى أشياء لا نستطيع ذكرها، حتى قال: لو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها، واعلم أن العبد إذا بلغ من الله تعالى هذا المكانة حتى يعطيه كن اقتضته الحال أن يقول: وفقني لما تحب واعصمني مما تكره، فإني بشر جاهل لا أحسن التدبير ولا أعرف المقادير ولا علم لي بعواقب الأمور، وأخاف أن يكون في قولي تفاوت وفي إرادتي اضطراب، وإذا أجابه تعالى إلى ذلك، سكت فلم ينطق وسلم، ورضي بالتدبير فأطرق لأن الذي يحب الله تعالى يحب أن تكون الأمور على ماهي عليه، لأنها عن تدبير يظهر بمعاني الخير والشر لأنه تولى التدبير بنفسه كما استوى على العرش بوصفه، ولم يجعل على العباد تدبير الملك إنما جعل عليهم الصبر والرضا للملك، فمرجع العبد إلى الصمت والأدب في نفوذ المراد كما كان، وترك العبد الفضول والاعتراض وحصل له مقام التوكل والرضا، ولذلك كان أبو محمد رحمه الله تعالى إذا قيل له: مامراد الله تعالى من الخلق؟ يقول: ماهم عليه، فكيف تريد ما لا يريد وهو محب لصفاته التي عنها تظهر المرادات، ومنها تبدو الأحكام، ولا بدّ ممّا يكون كما لابد ممّا كان، وكن منطوٍ تحت كان ولولا كان لم يكن، فكان أحب إليهم من كن لأنّ له ولهم مثل كن أمثال وليس لهم ولا له مثل كان مثل، فهؤلاء هم الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، وهم المحبون لله من عباده الزاهدون في ملكوته لوداده، وكذلك صنعوا مثل هذا فيما استخلفهم فيه من الأموال لما سمعوه يقول: وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فأخرجوا الكل لأجله، فكان هو خلفاً لهم بعد أن كانوا وكلاء؛ فإذا قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل يقول الله تعالى لهم فانقلبوا بنعمة الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله رضي الله عنهم ورضوا عنه لأنهم عملوا بما قالوا، فتحققوا بالإيمان، وقيل: إنّ الإيمان قول وعمل، ولا ينوب القول عن العمل، وإذا قالوا: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى: صدقتم لأنهم لا يخدمون ولا يذلون لسواه، ولا يعدون للنوائب إلا إياه، ولا يستعينون بغيره، ولذلك صاروا صدّيقين لتصديق الصادق لهم، كما بلغنا أنّ العبد ليقرأ قوله: إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول الله تعالى: كذبت ولو كنت إياي تعبد لم تخف ولم ترج سواي، ولو كنت بي تستعين لم تسكن إلى مالك وأهلك، وكذلك بلغنا أنّ العبد ليقرأ السورة من القرآن فتصلي عليه حتى يفرغ منها، إذا عمل بها فهذا صديق، وأن العبد ليقرأ السورة من القرآن فتلعنه إلى أن يختمها، إذا لم يعمل بما يقول فهذا كذاب، فأين الإيمان؟ ولا إيمان إلا بعمل فليس هذا مؤمناً حقّاً، فالأولياء حققوا القول بالعمل، وشهدوا الإيمان باليقين، فإذا قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر توكلوا عليه ورضوا عنه وتألهوا إليه، ولم يكن في صدورهم غيره فيقول الله تعالى: صدقتم، فيكونون صدّيقين كما يقول للشيء: كن فيكون، فتدبروا فإذا قال: ونعم الوكيل، قاموا مقام التوكل فصار لهم في الصدق مقامات، يقول الصادق: صدقتم، فيكونون صدّيقين، فيقول: عبادي، أنتم خيرتي من ذوي ودادي، وأنا وكيلكم رضيتم بي وأنا حسبكم، فهؤلاء الذين انقلبوا بنعمة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله فأعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة والفضل والتوكّل عليه وصرف السوء واتباع الرضا برضاهم عنه رضي الله عنهم، فالحبيب يعتذر له، والعدو لا يقبل عذره، والمحبوب لا يحاسب، والمبغض لا يحسب له، وقد قال بعض الأدباء في معناه: من لم يكن للوصال أهلاً ... فكل إحسانه ذنوب وقال آخر في وصف آخر: في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب ويأتي بالمعاذير وأنشدت لبعض المريدين المتحققين: أني جعلت منظري في مهجتي ... وجعلت ودك لي إليك شفاعة ولو إن وقتاً منك بالدهر كله ... لكان قليلاً ألف عام بساعة فليتق الله تعالى عبد لم يطلعه الله عزّ وجلّ على ماذكرناه، فيزهد فيه ويعلو همه عنه بمشاهدة قدرة عظيمة، ومعاينة آيات كثيرة ظاهراً وباطناً، أن يدعى المعرفة أو يتوهم المحبة فما عنده منها إلا أماني وغرور وظنون وزور، والله تعالى يعطي قوماً الظنون كما يعطي أولياءه اليقين، ويعطي قوماً المزورات لعلل القلوب كما يعطي أحباءه المحققات في مقام محبوب، بآيات بينات وشواهد من اليقين، بإثبات آيات في القرآن وآيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 الرسول، ولا يظهرهم على كن حتى ينكشف الكون عن قلوبهم، وفي الكون ما فيه من نفيس الملكوت وعظيم الرغبوت، مما لا يصلح ذكره، واعلم أنّ آفات النفوس وزينة الملك: حجب قلوب العموم وحظوظ العقل وشهوات الأرواح من رغبوت الملكوت، حجب قلوب الخصوص وسمو القلب إلى معاني الدرجات التي يشاهدها، ووقوفها مع خصائص الرحموت والرغبوت التي يطالع بها، حجب قلوب المحبوبين لأنهم إذا جاوزوا شهوات النفوس ورفعت بحبهم عنه حجب العقول وقعوا في شهوات الأرواح، فلا يواجهون بالوجه ولا ينظرون إلى الوصف حتى يجاوزوا أيضاً شهوات الأرواح وينكشف عنهم أيضاً، حجب الأنوار فيخلفوا الرسم ويغيروا الوسم، فإذا انكشفت المقامات وانقطعت الفضائل وحققت المطالعات وسقطت المنازل والدرجات، اصطلم الطالب وغلب المطلوب وفنى الراغب وبقي المرغوب، أظهر لهم التعلق بالاسم وهو آخر الحجب وأول القرب، يبتليهم به لينظر كيف يعملون في الوسم، فعندها حقت كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك الآية، وهناك صح له هذا المقام وفي معناه: ظهرت لمن أفنيت بعد بقائه ... فصار بلا كون لأنك كنته فهذا مكان وجده بموجوده وقيامه بقيوميته بعد أن كان واجداً بكونه وقائماً بقيامه، وقد كان أبو يزيد يقول: إن أعطاك مناجاة موسى وروحانية عيسى وخلة إبراهيم صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين، فاطلب ما وراء ذلك، فإنّ عنده فوق ذلك أضعافاً مضاعفة، فإن سكنت إلى ذلك حجبك به، وهذا هو بلاء مثلهم في مثل حالهم لأنهم الأمثل فالأمثل بالأنبياء، فإذا لم ينظر العبد إلى جميع المطلوب ولم يقف على كون مرغوب أقامه حينئذ مقام محبوب، فآواه في ظلة وعطف عليه بحنانه، ونظر إليه بعينه وواجهه بوجهه فتوجّه إليه ولم ينتنِ، وسارع إلى قربه ولم ين فلم يشهد في وجهه وجهاً، ولا رأى في يده يداً، وقام بشهادته لقيوميته مشاهداً فهذا غاية الطالبين من العارفين، وقد قال بعض العارفين المحبين: كوشفت بأربعين حوراء، رأيتهن يتساعين في الهواء عليهن ثياب من فضة وذهب وجوهر يتخشخشن، وتنثني معهن، فنظرت إليهن نظرة فعوقبت أربعين يوماً، قال: ثم كوشفت بعد ذلك بثمانين حوراء؛ فوقهن في الحسن والجمال، وقيل: انظر إليهن قال: فسجدت وغمضت عيني في سجودي لئلا أنظر، وقلت: أعوذ بك ممّا سواك، لاحاجة لي بهذا، فلم أزل أتضرع حتى صرفن عني، ولله عزّ وجلّ مثل هذا العبد في كل قرن وزمان ما يكثر عدده، متفرقين في أرضه ومنتشرين في بلاده ومخمولين مختبين تحت ستره في عباده، لا تستطيع العقول حمل وصفهم لضعفها، ولا يثبت في القلوب حق نعتهم لوصفها أقل مايوصفون به الإخلاص في الحركة والسكون، وهو أجلّ ماعندنا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 والإخلاص عند المخلصين خراج الخلق من معاملة الخالق، فإذا لم يدخلوا كيف يخرجون؟ وأول الخلق النفس، فإذا لم يتكدر القلب بها كيف يصفى منها؟ والإخلاص عند المحبين أن لا يعمل عملاً لأجل نفس، ولا دخل عليه مطالعة العرض والتشرف إلى حظ طبع، بل للتعظيم، ولا يشرك محبوباً في حب ذي الجلال والإكرام ولا يعلق قلبه بما يروق نظره من جمال لما ملاه من نهاية الحسن وغاية الجمال، ولا سبيل إلى هذا إلا بعد معرفته، ولا معرفة قبل معاينته إذ ليس الخبر كالمعاينة، ولا معاينة إلا بنور اليقين، ولا حق يقين بوجود هوى نفس، فإذا انكشف الحجاب وهوى الهوى طلعت عين اليقين، فأنوار الصفات من الحسن والجمال والبهاء والكمال، في عين اليقين عيناً بعد عين كنور فوق نور، إلى نور النور، والإخلاص عند الموحدين خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال وترك السكون والاستراحة بهم في الأحوال، ومن الإخلاص في الصدق عند الصديقين سؤال الحجبة في قلوب الناس، كما قال بشر وقد سئل: بأي شيء بلغت هذه المنزلة؟ فقال: كنت أكاتم الله تعالى حالي: معناه أسأله أن يكتم علي ويخفي أمري، وحدثت أنه رأى الخضر عليه السلام فقال: ادع الله تعالى لي فقال: يسر الله تعالى عليك طاعته، قال، قلت: زدني فقال: وسترها عليك، فقيل في تأويل ذلك معنيان؛ منهم من قال: وسترها عليك أي يسترك حتى لا تعرف بها كما ذكرنا آنفاً. وقال بعضهم: أراد سترها عنك حتى لا تنظر أنت إليها، وقال بعضهم: قلقني الشوق إلى الخضر، فسألت الله تعالى مرة أن يريني إياه، ليعلمني شيئاً كان أهم الأشياء علي، قال: فرأيته، فما غلب على قلبي ولا همني إلا أن قلت له: يا أبا العباس، علمني شيئاً إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة، فلم يكن لي فيها قدر، ولم يعرفني أحد بصلاح ولا ديانة، فقال: قل: اللهم أسبل عليّ كثيف سترك وحط عليّ سرادقات حجبك، واجعلني في مكنون غيبك واحجبني في قلوب خليقتك، قال ثم غاب فلم أره ولم أشتق إليه بعد ذلك، قال فما تركت أن أقول هذه الكلمات في كل يوم، فحدثت أنّ هذا كان يستذل ويمتهن حتى كان أهل الذمة يسخرون به في الطريق، يحملونه الأشياء في الطريق لسقوطه عندهم، وكان الصبيان يولعون به، وكانت راحته في ذلك ووجود قلبه به واستقامة حاله عليه، وهذا طريق جماعة من السلف وحال طبقة من صادقي الخلف، أخفوا أنفسهم وأسقطوا منازلهم فسموا عقلاء المجانين، وهذا من الزهد في النفس وحقيقة التواضع، إلا أنه زهد مجانين الأولياء وتواضع موقني الضعفاء؛ فالتكبّر يكون بثلاثة معان: تكبّر على الناس عجباً بالنفس، وتكبّر في قلوب الناس عزّة من النفس، أي يحب أن يكبر في قلوبهم فيكون ذلك تكبّراً منه، وتكبّر في القلب عن نظره إلى صلاحه ودينه فيكبر ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 عنده فيدل به، ولذلك رآه من نفسه لقصور علم اليقين منه، وهذا أدق معاني التكبر ولا يتخلص منه إلا صحيحو التوحيد، صادقو اليقين مخلصو الصالحين، وأما التكبّر الظاهر الذي هو التطاول والفخر والتظاهر، فذاك جلي وهو من أكثف حجب القلب وأقوى صفات النفس، فلذلك فزع العلماء من دقائقه لما عرفوه، فطلبوا القلّة والذلّة للنفس ليمتهنوها بخفايا التواضع، لينتفي عنهم دقائق الكبر لتخلص لهم الأعمال، والتواضع عند المتواضعين هو حقيقة أن يكون العبد ذليلاً صفة لا متذللاً متعمّداً للذلّة، وأن يكون عند نفسه في نفسه وحيداً حقيراً معتقداً لصغره وحقارته في نفسه، لا متواضعاً متكلفاً، وعلامة ذلك أن لا يغضب إذا عابه ونقصه عائب، ولا يكره أن يذمه ويقذفه بالكبائر ذام، وبيان ذلك في وجده أن لا يجد طعم الذل في ذلة ولا يشهد الضعة في تواضعه، إذ قد صار ذلك له صفة، فمن ذلّ ووجد ذوق ذله فهو متعمل للتواضع، ومن تواضع وشهد تواضعه وضعته فهذا متعذر؛ وهي علامة بقية الأنفة في نفسه لنفسه، ومتى غضب أو كره ذمه من غيره فهو يفرح ويرضى بمدحه، فإذا كانت فيه هذه العلامات فهو محجوب عن جميع ما ذكرناه من المقامات، ومتى ذل نفسه وتواضع عند نفسه فلم يجد لذله ذوقاً ولا لضعته حسّاً فقد صار الذل والتواضع كونه، فهذا لا يكره الذم من الخلق لوجد النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم لفقد القدر والمنزلة من نفسه، فصارت الذلة والضعة صفته لا تفارقه، لا زمة له لزوم الزبالة للزبال والكساحة للكساح؛ هما صنعتان لهما كسائر الصنائع، وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما، فهذه ولاية عظيمة له من نفسه، قد ولاه على نفسه وملكه عليها فقهرها بعزه، وهذا مقام محبوب وبعده المكاشفات بسائر العيوب، أول ذلك دخول نور الحكمة في القلب وينبوع الحكم من قلبه، كما روينا أنّ عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام قال: يابني إسرائيل، أين ينبت الزرع؟ قالوا: في التراب فقال: بحق أقول لكم: لا تنبع الحكمة إلا في قلب مثل التراب، ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبّر العز ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارقه العز ساعة تكدر عليه عيشه لأن ذلك عيش نفسه، وممن روينا عنه اختيار الذل وإسقاط المنزلة والقدر عند الناس ومحو جاهه وموضعه من قلوبهم، وأظهر على نفسه ألوان معاني الذم أكثر من أن يحصى، وذكرهم يطول، وذاك أنّ حالهم الصدق فتقتضيهم القيام بحكمها فلا بد من قيامهم بمقتضى حالهم. حدثني بعض الأشياخ عن أبي الحسن الكريني أستاذ الجنيد، أن رجلاً دعاه ثلاث مرات إلى طعامه ثم يرده، فرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله المنزل في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك، فقال: قد رضيت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 فينطرد ثم يدعى فيرمي له عظم فيجيء وزاد غيره، وقال: لو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت، وحدثني شيخ آخر عن أستاذه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح، فتشتت قلبي فدخلت حماماً في جوف المحلة وعنيت على ثياب فاخر فسرقتها ولبستها، ثم لبست مرقعتي فوقها، وخرجت وجعلت أمشي قليلاً قليلاً ليفطن بي فلحقوني فنزعوا مرقعتي واستخرجوا الثياب، وصفعوني وأوجعوني ضرباً، فصرت أعرف في الناحية بلص الحمام فسكنت نفسي، وحدثت عن بعض الصوفية أنّه وقف على رجل يأكل، فمد يده إليه فقال: إن كان ثم شيء لله فقال له: اجلس فكُلْ، فقال: أعطني في كفي، فأعطاه في كفه فقعد في مكانه يأكله، فسأله عن امتناعه من الجلوس معه، فقال: إن حالي مع الله عزّ وجلّ الذل، فكرهت أن أفارق حالي، وكان هذا ربما مديده إلى الهراس فيضع فيها هريسته والعرب تأنف أن يوضع الشيء في أكفها لعزة نفوسها، حتى روينا عن بعض الصحابة من المهاجرين؛ الأول في أول النبوة فقال جعت ثلاثاً لم أطعم شيئاً، فبلغني أن إنساناً يتصدق بزبيب، فسألته فقال: هات كفك فقلت: إني رجل من العرب ولا آخذ في كفي فاجعله لي في شيء، قال فجعله في كيل ثم ناولنيه، فلما فرغته رددته إليه، فكانت فيه عزة نفس، لا جرم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: أنت رجل فيك جاهلية فقال: على ما أنا عليه من كبر السن؟ قال: نعم، وكان قدخاصم رجلاً فأرى عليه تعززاً، وإنما نبهنا ببعض ما ذكرناه له: العقول المستيقظة وحركنا بما بيّنا القلوب الحية، ليحيا من حي عن بينة بذكر أوصاف الصادقين وطرقات المخلصين ليستدل على الكثير باليسير، وقد كان شاهد من شهود بسطام عظيم القدر فيهم لا يفارق مجلس أبي يزيد فقال له يوماً: ياأبا يزيد، أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر، وأقوم الليل لا أنام ولا أجد في قلبي شيئاً من هذا العلم الذي تذكر، وأنا أصدق به وأحبه، فقال له أبو يزيد: لو صمت ثلاثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة، قال: ولم؟ لأنك محجوب بنفسك، قال: أفلهذا دواء؟ قال: نعم، قال: قل لي حتى أعلمه قال: لا تقبل، قال: فاذكره لي، قال: اذهب الساعة إلى المزين واحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك، فقال الرجل: سبحان الله تقول لي مثل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك سبحان الله شرك قال: كيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها قال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره قال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء فقال: لا أطيقه فقال: قد قلت لك إنك لا تقبل، فهذا لما قال سبحان الله كان مشركاً عنده لأنه سبحه برسم النفس، وقد كان أبو يزيد يقول: سبحاني ما أعظم شأني وهو موحد لأنه وحد بأولية بدت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وهذا الذي ذكره دواء من اعتلّ بنظره إلى نفسه، ثم سقم بنظر الناس إليه لزمه سد نظره إلى نظرهم، ليس لها من دون الله كاشفة إلا إن هذا من طبّ المجانين، يصلح لضعفاء اليقين، ولو أدخل الطبيب الأعلى ذرة من عين اليقين، أخرج بها من قلبه كل نظرة فاستراح من كل دواء، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينّة بشواهد الحق، ويحيا من حي عن بينة بشاهد الحق، ويتلوه شاهد منه فلا تنكرنّ من جميع ما ذكرناه شيئاً، فتخسر أقل أنصبة المؤمنين من علم القدرة واليقين، لأن للمؤمنين أنصبة من هذا العلم؛ منها المشاهدة لما وصفناه، والإدراك لما رمزناه، ومنها الوجد والحال، ومنها المعاملة، والمنازلة، ومنها الذوق والشمّ، منه وآخرها التصديق والقبول، فأقل النصيب من علم المعرفة إن لم يشهد فلا يجحد، وإن لم يعرف فليتعرّف، ويكون معقله التسليم وليس وراء هذا مكان، وهذه المقامات التي شرحناها وهي مقامات اليقين؛ أولها التوبة إلى هذا المقام من المحبة، منوط بعضها ببعض، إن أعطي العبد حقيقة من أحدها أعطي من كل مقام حاله ومع كل حال مشاهدة، ولكل مشاهدة علم، إلا من شهد بالحق، وهم يعلمون وكلها مجموعة في حقيقة الإيمان، إن أعطي العبد حقيقة من إيمان ويقين حتى يكون مؤمناً حقّاً، غير مرتدّ عنه ولا مستبدل به في علم الله تعالى، وكان إيمانه منة وهبة لا عارية ولا وديعة، فيسترد ويرتد على إظهار لبس أو إدراج مكر، محنة من الله تعالى وخبرة، ويكون مستبدلاً لا بدلاً، فإذا لم يكن كذلك وكان بدلاً من مستبدل به أعطي من جميعها حالاً فحالاً، وشهادة شهادة، وإن تفاوتوا في العلوم وتعالوا في القرب وذاك هو كمال الإيمان، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف كمال الإيمان، ثلاثة أحاديث من أصول هذه الأحوال وأساس هذه الأفعال منها؛ أنه قال: لا يستكمل العبد إيمانه حتى يكون قلة الشيء أحبّ إليه من كثرة الشيء، وحتى لا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف، فهذان حالا الصادق الزاهد، وهما أول الطريق المؤدي إلى التحقيق وأس البنيان الرافع، إلى أنه ألا يخاف في الله لومة لائم ولا يرائي بشيء من عمله، وإذا عرض له أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، آثر أمر الآخرة على أمر الدنيا، فهذه أحوال المحبّ لله تعالى، المخلص بمعاملة الله عزّ وجلّ، الراغب فيما عند الله تبارك وتعالى، والحديث الثالث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون فيه ثلاث خصال؛ من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا قدر لم يتناول ماليس له، فهذه تجمع أحوال العدل والفضل والمراقبة والزهد، وهي أصول المقامات ويشبه هذا الحديث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث الرابع: ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود، العدل في الرضا والغضب، والقصد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 الغنى، والفقر وخشية الله تعالى في السرّ والعلانية، وتفسير ما ذكرناه قبل، من أن هذه المقامات مرتبطة بعضها ببعض، وأنّ من أعطي حقيقة من أحدها أعطي جميعها حالاً، إذ يجمع ذلك كله الإيمان بالله تعالى ليتوب العبد إلى من آمن به، وإلى ما آمن به من الوعد وما آمن به من الوعيد، ليحقّ إيمانه ويصحّ يقينه، وليستقيم توحيده، كما قال تعالى: إنَّ الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا، وقال تعالى: (فَاسْتَقِيمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) هود: 112 وقال: فآمن له لوط وقال: إني مهاجر إلى ربي فذهب إليه لما آمن به، وهو الرجوع وهي التوبة، ثم يزهد فيما تاب منه من هواه لتصحّ توبته وتخلص نيته، فيكون نصوحاً، كما قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقُ) النحل: 96، وقال: والآخرة خير وأبقى، وقال: وشروه بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين لما أخرجوه من أيديهم وتركوه، وتابوا إلى أبيهم، وزهدوا فيه، ثم يصبر عما زهد فيه ليحق زهده، كما قال: وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وقال عزوجل: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرَ) المدثر: 7، ثم يشكر على ما صبر عنه ليكمل صبره، كما قال: (لاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله) الكهف: 39، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله) النحل: 53، (وَاذْكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) البقرة: 231، ثم يرجو من شكر له ليزيده من فضله فيعطيه فوق سؤله بحسن ظنه به، كما قال تعالى: (وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) الزمر: 9، وقد ذم من أيس من رحمته بقوله: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه، إنه ليؤس كفور، ثم يخاف فوت ما رجا ويخاف من تقصيره في الشكر لما أولى، لتحق غبطته برجائه ويتم إشفاقه من تبديل الآية ويخاف نقصان المزيد كما قال سبحانه: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطَمَعاً) السجدة: 16، وقال مخبراً عن أوليائه: إنّا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ الله علينا وقد عاب الله من فرح بما أظهر له وفخر بما أوتي ومن عود البلاء ونسي أنه كان مبتلي، في قوله تعالى: ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسّته ليقولنّ: ذهب السيّئات عني إنه لفرح فخور، ثم يتوكل على من خافه فيسلم نفسه إليه ويستسلم بين يديه، أن يحكم فيه ما أحبّ لقوله تعالى: (وَعَلَى الله فَتَوَكَّلوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) المائدة: 23، وقوله: نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون، ثم يرضى بمن توكل عليه وعمّن توكل له لعلمه بحكمته البالغة وتدبيره الحسن لقوله تعالى: (رِضِيَ الله عَنْهُمْ رَضُوا عَنْهُ) المائدة: 119، ولقوله تعالى: ( الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وَمِنَ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله) البقرة: 2، 7، ثم يحب من رضي به ورضي عنه، إذ كان قد اختاره على ما سواه وإذ صار حسبه لما رآه، فصارت هذه المقامات التسع كمقام واحد، بعضها منوط ببعض، ودليلها كتاب الله تبارك وتعالى الحقّ اليقين النور المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه من طريق الهوى، ولا من خلفه من خيل الأعداء، فأشبهت دعائم الإسلام الخمس في مقام العموم من طريق الإسلام، إذ بعضها مرتبط ببعض كهذه في مقام الخصوص من طريق المقرّبين، ثم يرجع بعد مقام المحبة إلى حال الرضا قوة فقوة، ثم يتردد في مقام المحبة رتبة رتبة، وليس فوق حال الرضا مقام يعرف، ولا فوق مقام المحبة حال يوصف، وهما موجب المعرفة ومنتهاها المعروف وقرارها المألوف، وإن إلى ربّك المنتهى، إلى ربّك يومئذ المستقر، فليس للرضا نهاية إذ ليس للمحبوب غاية، وإنّ الرضا مزيد أهل الجنة، في الجنة وليس للحب نهاية لأنه عن الوصف ولا غاية للصفات وليس لطلب المحبّ حدّ لأنه عن القرب، ولا غاية للقرب لأنه عن وصف قريب، ولا حدّ لقرب فيترافع المؤمنون في الحبّ مقامات على تجلّي الحبيب بمعاني الصفات، ويتزايد الرضوان في الرضا درجات حسب تعاليمهم في علو المشاهدات، ويتعالى أهل عليّين في العلوّ غايات على قدر أنصبتهم من قوة الإيمان وصفاء اليقين. َيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) الزمر: 9، وقد ذم من أيس من رحمته بقوله: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه، إنه ليؤس كفور، ثم يخاف فوت ما رجا ويخاف من تقصيره في الشكر لما أولى، لتحق غبطته برجائه ويتم إشفاقه من تبديل الآية ويخاف نقصان المزيد كما قال سبحانه: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطَمَعاً) السجدة: 16، وقال مخبراً عن أوليائه: إنّا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ الله علينا وقد عاب الله من فرح بما أظهر له وفخر بما أوتي ومن عود البلاء ونسي أنه كان مبتلي، في قوله تعالى: ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسّته ليقولنّ: ذهب السيّئات عني إنه لفرح فخور، ثم يتوكل على من خافه فيسلم نفسه إليه ويستسلم بين يديه، أن يحكم فيه ما أحبّ لقوله تعالى: (وَعَلَى الله فَتَوَكَّلوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) المائدة: 23، وقوله: نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون، ثم يرضى بمن توكل عليه وعمّن توكل له لعلمه بحكمته البالغة وتدبيره الحسن لقوله تعالى: (رِضِيَ الله عَنْهُمْ رَضُوا عَنْهُ) المائدة: 119، ولقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله) البقرة: 2، 7، ثم يحب من رضي به ورضي عنه، إذ كان قد اختاره على ما سواه وإذ صار حسبه لما رآه، فصارت هذه المقامات التسع كمقام واحد، بعضها منوط ببعض، ودليلها كتاب الله تبارك وتعالى الحقّ اليقين النور المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه من طريق الهوى، ولا من خلفه من خيل الأعداء، فأشبهت دعائم الإسلام الخمس في مقام العموم من طريق الإسلام، إذ بعضها مرتبط ببعض كهذه في مقام الخصوص من طريق المقرّبين، ثم يرجع بعد مقام المحبة إلى حال الرضا قوة فقوة، ثم يتردد في مقام المحبة رتبة رتبة، وليس فوق حال الرضا مقام يعرف، ولا فوق مقام المحبة حال يوصف، وهما موجب المعرفة ومنتهاها المعروف وقرارها المألوف، وإن إلى ربّك المنتهى، إلى ربّك يومئذ المستقر، فليس للرضا نهاية إذ ليس للمحبوب غاية، وإنّ الرضا مزيد أهل الجنة، في الجنة وليس للحب نهاية لأنه عن الوصف ولا غاية للصفات وليس لطلب المحبّ حدّ لأنه عن القرب، ولا غاية للقرب لأنه عن وصف قريب، ولا حدّ لقرب فيترافع المؤمنون في الحبّ مقامات على تجلّي الحبيب بمعاني الصفات، ويتزايد الرضوان في الرضا درجات حسب تعاليمهم في علو المشاهدات، ويتعالى أهل عليّين في العلوّ غايات على قدر أنصبتهم من قوة الإيمان وصفاء اليقين. قال الله تعالى: (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنين) آل عمران: 139، فأعطاهم من معاني وصفه العلو، ثم وصف نصيبهم بوصفهم فقال: إنّ كتاب الأبرار لفي علّيين، وما أدراك ما عليّون، فعليّون لانهاية له في العلوّ إذ هو من أسماء المبالغة في الوصف، وقيل: إنه اسم لا واحد له من جنسه، فهو عليّ في علوّهم يعلو بهم أبداً في علوّ علوّهم في دار الأبد، وهم أعلون لأن الأعلى معهم، فهم يعلون به، وعليّون يلعو بهم هذا كله لأنه معهم، كما قال: وأنتم الأعلون والله معكم، فالرضا الأول الذي هو قبل المحبة مقام التوكّل، وحال المحبّ المحبوب حاله، والرضا الثاني الذي يكون بعد المحبة مقام المعرفة، وحال المحبوب التوكل حاله، والمحبة من أشرف المقامات ليس فوقها إلا مقام الخلّة، وهو مقام في المعرفة الخاصة وهي تخلّل أسرار الغيب، فيطلع على مشاهدة المحبوب باب يعطي حيطة بشيء من علمه بمشيئته على مشيئته التي لا تنقلب، وعلمه القديم الذي لا يتغيرّ، وفي هذا المقام الإشراف على بحار الغيوب وسرائر ما كان في القديم، وعواقب ما يؤت، ومنه مكاشفة العبد بحاله وإشهاده من المحبة مقامه، والإشراف على مقامات العباد من المآل والإطلاع عليهم في تقلبهم في الأبد حالاً فحالاً، وقد ذكر أبو يزيد البسطامي وأبو محمد سهل أنهما أقيما في هذا المقام، ووصفا حاليهما منه، وقد كان لشقيق وابن أدهم البلخيين مطالعات في هذه المعاني، وقد سلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 بابي الفيض في هذا الطريق، فظهر على ما فيه مما يبهر من رأى انقلاب الأعيان وتبصرة بعظيم العيان، وهذا محجوب عن أوهام القلوب بعقولها، ومستقرّ في جبّ غاية القلوب بأرواحها، فإذا خرجت النفس من الروح فكان روحانيًّا خروج الليل من النهار تنفس المكروب، وإذا خلا العقل عن القلب فكان ربّانيًّا انفرجت الكروب، كما قال العارف: بحياتي يا حياتي ... لا تبعد قرباتي أخرج النفس من الرو ... ح وروّح كرباتي وقد قال أحسن القائلين: (وَلاَيُحِيطُونَ بِشَيءِ مِنْ عِلْمِهِ إلاَ بِما شاءَ) البقرة: 255، والاستثناء واقع على إعطاء الحيطة بشيء من شهادة علمه، بنور ثاقب من وصفه وشعاع لائح من سبحته إذ شاء، وهذا معنى من سرّ التوحيد لا يكشفه إلا عين اليقين، ولا نظهره حتى يظهر لنا منه عارف ما عليه قد أوقف، وما منه به قد كوشف، فحينئذ يقع العين على العين ويضيء الكوكب الدرّي في جوهر مشكاة القلب، وقد كان للشيخ أبي الحسن بن سالم رحمه الله تعالى من هذا الطريق، مشاهدات ومطالعات وسياحات في الغيوب، وجريان في الآخريات، وانقلبت له الأعيان وظهر له العيان، وطوى له المكان ورأى ألف وليّ لله تعالى، وحمل عن كل واحد علماً، ثم انقطع الطريق بعد فقده وعفا الأثر ودرس الخبر، ثم الله تعالى أعلم بما هو صانع بهذا الطريق وأهله، هل ينشئ له أهلاً وينهج له غامضات الطريق طريقاً أم يطويهم في طيّ طريقهم ويخفي طريقهم في خفاء الموج الغامض في غامضات العلم السابق؟ نقول في ذلك كا قال إمام الأئمة علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، بعد إذ ذكر في خطبته قيام الساعة واسقرار أهل الدارين فيهما قال: ثم الله أعلم بما هو صانع بالدنيا بعد ذلك، فهذا من سرّ السرّ الذي أودعه صاحب الأمر، وليس فوق الخلة مقام إلا درجة النبوة، وهو محجوب عن القلوب كحجاب هذا المقام من الخلّة عن قلوب العموم، فهذا لا فوت فيه لأنه درك منه، ولا حزن عليه لأنه لا نصيب عنه، ولكن مقام الخلّة لا يكون إلا مقام محبوب على كل حال. وما سمعت من أحد من أهل العلم الباطن والمعرفة الثاقبة رسماً من علم الخلّة ولا من وصف محبوبه شيئاً في كتاب الله تعالى، ولا إشاراته إلا نكتاً في الأخبار ولمعاً من الآثار، أعلم أنه كلام محبوب من مقام خلّة، ولكنه مستودع في كتاب الله تعالى المكنون، وغامض من خطابه المصون، ومخبوّ في سرّ آياته عن القلوب والعيون، وكاشف به الساجدين، وأظهر عليه أهل السرّ من العارفين، ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وقوله تعالى: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمَواتِ وَالأرْض) الفرقان: 6، وقد كان الحسن رحمه الله يروي في الخلّة أخبار، منها أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى بعض أوليائه: إنما أتخذ لخلّتي من لا يفتر عن ذكري ولا يكون له غيري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ولا يؤثر علّي شيئاً من خلقي، وإن حرق بالنار لم يجد لحرق النار وجعاً، وإن قطع بالمناشير لم يجد للمس الحديد ألماً، وقد روينا عن الخليل الحبيب عليه السلام أنه قال: تحابوا في الله وتصافوا وتباذلوا وتخاللوا فيها، وليس من كرم الله تعالى أن اتخذ عبداً من عباده خليلاً فنبه أن الخلّة من الله تعالى كانت لأوليائه عن فرط كرمه وفضل آلائه، ألحقهم بكرامته وأهلهم بفضله لها وعظمهم عن نصيب تعظيمه فيها، والله الواسع الكريم ذو الفضل العظيم، إذا رفع عبداً جاوز به الحدود، وإذا خفضه وضعه تحت المحدود، وقد تكلم الجنيد رحمه الله تعالى في مقام من هذا وقد سئل عنه فقال: هو غاية الحبّ وهو مقام عزيز يستغرق العقول وينسي النفوس، وهو من أعلى علم المعرفة بالله تعالى، وقال: في هذا المقام يعلم العبد أنّ الله عزّ وجلّ يحبه ويقول العبد: بحقي عليك وبجاهي عندك ويقول: بحبك لي، قال: وهؤلاء هم المدلون على الله تبارك وتعالى، والمستأنسون بالله تعالي، وهم جلساء الله تعالى، قد رفع الحشمة بينه وبينهم وزالت الوحشة بينهم وبينه، فهم يتكلمون بأشياء هي عند العامة كفر بالله لما قد علموا أن الله تعالى يحبهم، وأنّ لهم عند الله جاهاً ومنزلة، ثم قال عن بعض العلماء: أما أهل الأنس بالله تعالى فليس إلى معرفتهم سبل، هذا من كلام الجنيد ونحو معناه حدثني به الخاقاني المقري، ولولا أنّا روينا عنه ما ذكرناه لا ما كنا نشرح حال هؤلاء إشفاقاً على الألباب كما قال المجلى: وأن أشرح ثناءك غير أني ... أجلك عن كتاب في كتاب وقد كان شيخنا أبو بكر بن الجلاء رحمه الله كتب إلى شيخنا أبي الحسن بن سالم رحمه الله تعالى، يسأله عن مسائل من معاني السرائر في كتاب، فحدثني من رآه: رمى بالكتاب وقال: أين صاحب هذه المسائل؟ فقيل: هو غائب بمكة فقال: أنا لا أجيب عن هذا في كتاب، قولوا له: يحضر إن أراد، وقد حدثني ابن الجلاء بهدا لأن مقام الخلّة هو الذي أخفيناه وعظمناه، لا يعطاه العبد إلاّ في مقام مع مقام، فالمقام الأوّل هو المعرفة الخاصية بظهور تعرف كشفاً عن وصف الباطن، ثم يدخل عليه المحبة المخصوصة وهو مقام محبوب، ثم يرفع من هذا المقام إلى مقام الخلة وهو الإشراف على سرائر غيوب من شرفات العرش وسرادقات القدس وغير ذلك، والأصل فيما ذكرناه أنه سبحانه يعطي مقامات المعرفة في مقام عارف، ولا يعطي فيه مقام محبوب، وقد يعطي مقامات من المحبة في مقام محبّ ولا يعطي شهادته خلّة لغير خليل عارف، فإذا جمع مقام معرفة تعرّف إلى مقام محبة محبوب أعطي مقاماً من الخلّة الذي وصفناه، وهذا من أعز ما أظهر في الكون لمظهر مكنون، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب الناس قبل موته بثلاث فقال: إن الله تعالى قد اتخذ صاحبكم خليلاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فرفع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقام محبوب إلى درجة خليل كما نقل من مقام محبّ إلى حال محبوب، كما زيد بالمحبة في مقام محبوب الصفوة، وقال أيضاً في المقام الأول: إنّ الله عزّ وجلّ اتخذ موسى صفياً واتخذني حبيباً، فأول العطاء هو الصفاء من الهوى ثم المحبة بعد الصفاء، ثم الزيادة بوصف محبوب فوق المحبة، ثم ارتفع فعلا بعد القوّة والاستواء إلى العلي الأعلى، فدنا لما علا فتدلّى حتى دنا فكان قاب قوسين أو أدنى وكانت البلد من ورائه والوجه مواجها لوجهه: وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر إذ من العلوم علم لا ينبغي أن يسأل عنه حتى يبدي العالم ذكره، فهذا منها فلا يبدي إلا بقدر معلوم بمقدار ما أبدى المبدئ، ويعيد منه بقدر ما أعاد المعيد، وكان لديه خليلاً كما كان عنده قريباً، فصارت الخلّة مقاماً في محبوب وهو نهاية المزيد، كما كان مقام محبوب وزيادة على مقام محب كما رفعه إلى المحبة بعد الصفوة من كدر الهوى، وكذلك أنت أيها السامع الشاهد، يجعل لك بعد الصفاء نصيباً من نصيب وشهادة على شهادة، ووجداً من وجد وفقداً للنفس من فقد، فلا يذهب كثير النبوّة منه صغير العطية لك لأنّه تعالى رفع الطائعين له ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقاماً إلى مقام النبّيين والصدّيقين، والصدّيقون باقون إلى نزول الروح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وهم الأبدال عددهم في كل الدنيا ثلاثمائة، وما شاء الله منهم الشهداء والصالحون، فهم ثلاث طبقات وكلهم مقرّبون سابقون، إيمان صدّيق منهم كإيمان جميع الشهداء، وإيمان شهيد كإيمان كل الصالحين، وإيمان كل صالح بمقدار إيمان ألف مؤمن من عموم المسلمين، وليس في الخلّة شريك لغير الخليل على خليله، ولأنها حال مفردة لفرده موحدة لواحد، ولو كان يصلح لها نظير ويوزر بها وزير كان أحق الأمة بذلك الصدّيق، فقد أعطاه تعالى ثلاثاً لم يعطها غيره منها: إنا روينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: إنّ الله عزّ وجلّ أعطاك مثل إيمان، كل من آمن بي من أمتي، وأعطاني مثل إيمان كل من آمن بي من ولد آدم، والحديث الثاني أنّ لله تعالى ثلاثمائة خلق، من لقيه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنة، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله، هل فيّ منها خلق واحد؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 فقال: كلها فيك يا أبا بكر، وأحبها إلى الله عزّ وجلّ السخاء، والحديث الثالث هو المستفيض، رأيت ميزاناً دليّ من السماء فوضعت في كفة فرجحت بهم، ووضع أبو بكر في كفة، وجيء بأمتي فوضعت في كفة، فرجح بهم وليس بين الصدّيق وبين الرسول إلا درجة النبوّة والقطب اليوم الذي هو إمام لأثافي الثلاثة، والأوتاد السبعة، والأبدال الأربعين والسبعين إلى ثلاثمائة، كلهّم في ميزانه، وإيمان جميعهم كإيمانه، إنما هو بدل من أبي بكر رضي الله تعالى عنه والأثافي الثلاثة بعده، إنما هم أبدال الثلاثة الخلفاء بعده والسبعة هم أبدال السبعة إلى العشرة، ثم الأبدال الثلاثمائة وثلاثة عشر، إنما هم أبدال البدريين من الأنصار والمهاجرين أهل الرحمة والرضوان، فمع هذا الفضل العظيم لأبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه لم يصلح أن يشرك الحبيب الرسول المقرّب الخليل في مقام الخلّة، كما صلح أن يشرك في مقام الأخوة، وهو المقام الذي شرك فيه عليًّا كرّم الله وجهه، فقال عليّ مني بمنزلة هارون من موسى، فهذا مقام أخوة، كذلك في التفرّد بمقام الخلّة: لو كنت متّخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله تبارك وتعالى يعني نفسه صلوات الله عليه، لأنه واحد لواحد، مفرد لفرد، فاعتبروا يا أولي الألباب بتدبر فهم الخطاب، فمن أعطي من الصفاء نصيباً أعطي من الحب نصيباً، وكان له من المعرفة بقوة محبته، ومن المعرفة بقدر معرفته، فأما المعرفة الأصلية التي هي أصل المقامات ومكان المشاهدات، فهي عندهم واحدة، لأن المعروف بها واحد والمتعرّف عنها واحد، إلا أن لها أعلى وأول، فخصوص المؤمنين في أعلاها وهي مقامات المقرّبين، وعمومهم في أولها وهي مقامات الأبرار، وهم أصحاب اليمين، ولكل منهم وجهة من الصفات المخوفة عنها كانوا خائفين، أو الأخلاق المرجوّة منها كانوا راجين، أو الأفعال والأملاك عندها كانوا صابرين شاكرين، أو معاني أوصاف ذات منها كانوا محبين متوكّلين، قال الله سبحانه وتعالى: (وَلِكُلٍ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتِبَقُوا الْخَيْرَاتِ) البقرة: 148، ويقال من أحب شيئاً حشر معه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وفي الخبر: المرء مع من أحبّ وله ما احتسب، وفي الخبر: من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها يوم القيامة، فأماجمل مقامات المحبين فمذكورة في الكتاب العزيز، من الحبيب اثني عشر مقاماً: خميس في دليل الخطاب وتدبّر الألباب، وسبعة في صريح الكلام بظاهر الأفهام، فأمّا السبع المصرحة فقوله عزّ وجلّ: (إنَ الله يُحبُ التَوَّابِينَ وَيُحِبُّ المتُطَهِّرينَ) البقرة: 222، (وَالله يُحِبُ الصَّابِرينَ) آل عمران: 146، (وَالله يُحِبُّ الشَّاكِرينَ) آل عمران: 144، (واللهُ يُحِبُّ الْمُتَّقينَ) آل عمران: 76، (وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنين) آل عمران: 134، (وَاللهِ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلينَ) آل عمران: 159 وأما الخمسة المتدبرة فهم الموحدون لقوله: لا يحبّ الكافرين والعادلون، لقوله: لا يحب الظالمين والمستقيمون، لقوله: لا يحب الفاسقين والمتواضعون، لقوله: لا يحبّ المستكبرين والموفون، لقوله: لا يحبّ الخائنين وهؤلاء طبقات المحبوبين تعريضاً وتصريحاً، وشرح هذه الأوصاف هي مقامات اليقين، وفي كل مقام من هذه أحوال يكثر عددها، كل حال منها طريق إلى الله عزّ وجلّ، في كل طريق طائفة من المحبين، محبتهم على قدر معرفتهم ومعرفتهم على زنة تعرف المعروف إليهم، وعن نحو تعريف المعروف لهم، وذلك معنى من معارفهم، فهم على زنة يقينهم، ويقينهم على حسب صفاء إيمانهم، وإيمانهم على نحو عناية الله بهم وتفضّله عليهم وإيثاره لهم، ومن وراء ذلك سرّ القدر المختزن المستأثر، وليس فوق المحبة مقام مشهور، ولا دون التوبة حال مذكور، فأول المقامات التوبة، يخرج بها من الظلم والظلم حال من الشرك، قال الله تعالى: (إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ) لقمان: 13، وقال الله تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَاَنهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ في الدُنْيَا) الأنعام: 82، وهذا فصل الخطاب لأضدادهم، فأي الفريقين أحق بالأمن؟ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك هم أحق بالأمن غداً في المقام الأمين وقال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحجرات: 11، فآخر الظلم أول التوبة وآخر التوبة أول المحبة، وآخر المحبة أول المعرفة وهي معرفة متعرف، وهي الخاصية مزيد المحبة الأولى وآخر نصيب العبد من المعرفة وأول التوحيد، وهو توحيد الشاهدين ولا آخر له، وأوسط المقامات الزهد وأول الزهد آخر الهوى، وآخر الزهد أول العلم وآخر العلم أول الخوف وآخر الخوف، أول الحبّ وهذا حبّ محبوب، والظالم لامقام له ولاجاه، ومن لا جاه له فلا شفاعة ومن لا شفاعة فلا شهادة، ومن لاشهادة فلا يقين، فلو أعطي مثقالاًِ من الإيمان لم يتجه لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في وصف الداخلين: أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم قال في الخبر الآخر: السخاء من اليقين، ولا يدخل في النار موقن، وقال سبحانه وتعالى في تقصيل ماوصلنا مما عنه شهدناه: (لاَ يَنَالُ عَهْدي الظَّالِمينَ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 البقرة: 124، ثم قال في البيان الثاني من الخطاب: (لاََيَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحَمنِ عَهْداً) مريم: 87، وقال في البيان الثالث: (وَلاَيَمِلْكُ الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلاَّ مَنْ شَهِدَ بالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمْونَ) الزخرف: 86، وقال في وجد اليقين بعد شهادة العين في الرواية بعد المكاشفة: (وَكَذلِكَ نُرِي إبْراهيمَ مَلَكُوتَ الََّسمواتِ وَالأَرَِْض ولِيَكُونَ مِنَ المْوقِنينَ) الانعام: 75، ثم قال بنبأ يقين: إني وجدت، وكما أن اليقين بعد المشاهدة كذلك الوجد بعد اليقين، واليقين هو حقيقة الإيمان وكماله، كما جاء في الأثر: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله. وقد روينا في تفسير قوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين، قيل: الجاه وقيل: الشفاعة ويقال: الولاية، وقيل: الإمامة، لا يكون الظالم إماماً للمتقين لأن من تبعه أمة من المؤمنين فهو إمام للمتقين، والظالم متهدد بالنار متوعّد بسوء المنقلب، مشفوع فيه فكيف يكون شفيعاً محجوب عنه؟ فكيف يكون شهيداً؟ ألم تسمع إلى قول الشاهد: ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون وإلى قوله تعالى: (وَسَيََعْلَمُ الذينَ ظَلَمْوا أيَّ مُنْقَلبِ يَنْقلبُونَ) الشعراء: 227، مع قوله تعالى: (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذِلكَ جَزَاؤُا الظَّالِمينَ) المائدة: 29، ثم أجمل ذلك بقوله: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، فصغير التوبة لصغير الظلم عن صغائر المظالم، وكبير التوبة لكبير الظلم عن كبائر المظالم، والظلم ظلمة اليوم في القلب، وظلمة غداً في القيامة، فالتوبة تخرج العبد من الظلم، وبخروجه من الظلم يدخل في منازل العهد، وبرعاية العهد يعمل في الإصلاح، والله لا يضيع أجر المصلحين، كما لا يصلح عمل المفسدين، فإذا كان مصلحاً بالتوبة ما أفسد بالهوى استعمل بالصالحات لأنه قد صلح، َفإذا عمل بالصالحات أدخل في الصالحين لأنه قد فضل، قال الله تعالى: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذي فَضْلٍ فَضْلَهُ) هود: 3، وقال في البيان الأول: (وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصَّالِحينَ) العنكبوت: 9، فمن صلح له تولاّه ومن تولاه علمه وحباه وكاشفه من نفسه وعافاه وأحبه، فكان هو حسبه وكفاه وجعله تحت كنفه وآواه، فيكون ظاهر حاله العصمة من الهوى، وأعلاه مشاهدة عين اليقين من المولى، ومن اكتسب من المظالم ظلم، ومن ظلم ولاّه مثله ومن ولاّه مثله تولى عنه، ومن تولى عنه أفسد ومن أفسد قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومن قطع بعد فانقطع ومن انقطع فبعد لعن وطرد ومن طرد عمي وصمّ تحت الهوى المعمي المصمّ، ومن عمي لم يشهد البصير ومن صمّ لم يسمع من السميع، فكيف يتدبر الخطاب وقلبه مقفل وهمه على هواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 مقبل؟ والفتاح العليم عنه معرض؟ فهذا من توصيل القول بمطلع المقول من قوله تعالى: (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يكْسِبُونَ) الأنعام: 129 ومن قوله تعالى: (إنْ تَوَلَّيْتُمْ أََنْ تُفْسِدُوا في الأَرْضِ) محمد: 22 الآية، فبينوا وللتائب حال من أول المحبة، وللتواب مقام من حقيقة الحبّ، وللناس في التوبة مقامات حسب كونهم في الهوى طبقات، وهم في الحب درجات نحو مشاهدتهم لمحاسن الصفات، فتجلّى لكل وجه بمعنى، حسن وجهه هذا في القلوب عن محاسن الإيمان، وفي الآخرة على معاني محاسن الوجوه في العيان، فتحكم عليهم المشيئة منه لهم بما يوجدهم به منه على معاني ما أوجدهم منه به اليوم، فسبحان من هذه قدرته عن إرادته وسع كل شيء رحمة وعلماً، ويلزم كل عبد من المجاهدة على قدر ما ابتلى به من الهوى، ويثبت له من المحبة بقدر ما صح له من التوبة، ويسقط عنه من المجاهدة بقوة ما يكشف له من المشاهدة، فيحمل الإشهاد عنه آلام الجهاد، فيكون العبد في البلاء محمولاً، ويكون يقينه بالشهادة واليقين موصولاً، وهذا من سوابغ العوافي وتمام من النعماء، وهؤلاء الذين أنعم الله عليهم من النّبيين والصدِّيقين والشهداء وهم الذين جاء الخبر فيهم. إنّ لله عباداً ضنائن من خلقه، يغذوهم برحمته ويجعلهم في ظل عافيته، يضن بهم عن القتل والبلاء ويحييهم في عافية، ويدخلهم الجنة في عافية أولئك الذين تمرّ عليهم الفتن كقطع الليل المظلم وهم منها في عافية، فالأفضل بعد هذا لكلّ عبد معرفته بعلم حاله، ووقوفه على حده ولزوم الصدق في مقامه، وترك التكلّف والدعوي في جميع سكونه وحركته، فإنه هذا أبلغ فيما يريد، وأوصل في طلب ما يرجو، فإنّ علم العلماء لا يغني عنه من علمه بنفسه شيئاً لا يسأل عن علومهم كما لا يسألون عن علمه، وهذا طريق رأس ماله الصدق، وزاده الصبر وقوته التقوى، فمن عدم الصدق لم يربح، ومن لم يتزود الصبر انقطع، ومن لم يقتت التقوى هلك، فذرة من صدق أنفع من مثقال عمل، وذرة من صبر خير من مثقال من عمل، وذرة من تقوى أنفع من مثقال إيمان، فإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً، ويعطي الله تعالى العبد بأداء الفرائض واجتناب المحارم مقاماً من مقامات اليقين، يرفع به إلى عليين، وربما أعطاه بهما مثل ثواب الأبدال بعد أن يريد بالفعل والترك وجه الله تعالى وحده، وإن لم يسلك به طريق الأبدال قط ولم يعرف منهم أحداً أبداً، ومن نقله مولاه باليقين الذي به تولاه لم يخف عليه التنقيل، لأن النقل يضطره إلى التنقل في الأحوال، والمشاهدة تحكم علىه بالأفعال، وربما بلغ الله تعالى العبد بحسن الظن به، وقوة الأمل والطمع فيه جميع ما ذكرناه، بعد أن يكون حسن اليقين، وقد يعطيه مقام الصدِيقين بخلق من أخلاقه إذا خلقه به، وربّما بلغه منازل الشهداء بشيء واحد يتركه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 له، أو شيء يؤثره به لأنه غفور شكور، وأضرّ شيء على العبد قلة معرفته به، فلربما كان العبد على تسع كبائر فيترك العاشرة لوجه الله تعالى، فتكون تلك الخصلة ذرة إلى جنب تسعة أجبل، فينظر الله تعالى إليه بوجهه لوجهه الذي تركه له نظرة، فتمحو تلك النظرة الجبال التسعة فتصبر هباءً منثوراً، وربما حسن الله تعالى وصفاً واحداً من العبد يصفه به فيحبط عنه مائة وصف قبيح يصفه الناس به، فتدبروا، فلا ييأس عبد من فضل مولاه ولا يقطعن من حبله رجاه بعد إذ عرفه، فإن السيد كريم رحيم، ولا ينقطعن عبد عن بابه وأن يقطع بخلافه ولا يبعدن عن فنائه وإن بعد بأوصافه، ولا يستوحش من التقرّب إليه بما يحب بعد ما توحش، تفحش لديه بما يكره، فهكذا يحب الله تعالى من عباده فتبينوا، ونحو هذا يحبّ الله تعالى منهم أن يعرفوا فيفعلوا بعد المعرفة، فإنّ المعروف مفرط الكرم واسع الرحمة فاضل الفضل، فإن أعطي المعرفة لم يمنع شيئاً ولا يضرّ ما منع وإن منع المعرفة لم يعط شيئاً ولم ينفع منه ما أعطي، وقد تلتبس المحاب فتدخل محبة النعم في محبة المنعم، وتدخل محبة النفس على محبة خالق، ويشتبه ذلك عند عموم المحبين ممن لم يكشف له عين اليقين، فيكون العبد محبَّا للنعم، وهو يظن بوهمه أنه محب للمنعم، ويكون محبّاً لنفسه ويحسب أنه محبّ لمولاه، وعلامة ذلك سكونه إلى الأشياء وفرحه بالموجودات، ووجود راحته ولذته في هواه، فربما اختار الله تعالى أن يكشف له حاله قبل موته، وربما ستر عليه حاله ولم يفضحه حتى يلقاه، فيثيبه ثواب مثله وجزاءه، وليس يظهر فرقان هذا إلا في قلب موقن مراد بنورثاقب، وعلم نافذ ويقين صاف من عين التوحيد وشاهد القيومية لأنه من باب مشاهدة الصفات الغيبية ومشاهدة الأفعال الملكوتية، وهو الفرقان الذي وعده الله تعالى المتقين من المؤمنين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) الأنفال: 29، قيل: نوراً أتفرقون به بين الشبهات وهو المخرج الذي ضمنه الله تعالى لأهل التقوى، والمنهج في قوله تعالى: (وَمنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الطلاق: 2، قيل: من كل أمر ضاق على الناس به فتفصيل معاني التوحيد من شواهد الناظرين أضيق الضيق، وشهادة الجمع في التفرقة والبقاء في الفناء أخفى، وشرح غريب عن الأسماع ينكر أكثره أكثر من سمعه، غير أنّ من له نصيب منه يشهد ما رمزناه، فيكشف له به ما غطيناه، إلا أنه استولى على القلب أحد وجهين، فالخصوص أحبوه من طريق مشاهدة الصفات، فحب هؤلاء بقلب ووجد لا يتغير أبداً، وهم مثبتون فيه إلى لقاء الحبيب، وهؤلاء عبدوه على التعظيم والمحبة والإجلال والكبرياء، وفي هؤلاء المقرّبون والمحبوبون والخائفون والعاملون والمتوكلون والراضون، وهو المقام الأعلى وهم الأعلون عنده في المنتهى، والعموم أحبوه من طريق مواجيد الأفعال، وهي النعم والإحسان والأيادي والأفضال، وعما أظهر من العوافي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 ومما أخبر عنه بما أسروهم الذين خدموه شهوة وعادة وحاجة، أحبوه لمنافعة ومرافقه ولأجل ما في يده من ملكه، وحبّ هؤلاء يتغير لانقلاب الأحكام، وهؤلاء لم يتحققوا بالإخلاص ولا الزهد، وقد بقي عليهم من نفوسهم هوى، حجبهم ذلك عن مخالصته وبعدهم عن مضافاته، وهذه هي أوصافهم عائدة لهم وعليهم، فحبّ هؤلاء حول قلب لأن الأفعال التي أحبوه لأجلها تحول فيحولون، وتختلف عليهم بالمكاره والمرائر فيختلفون، وفي هؤلاء المريدون والعاملون والراجون والطامعون والتائبون وأصحاب اليمين من هؤلاء. ائفون والعاملون والمتوكلون والراضون، وهو المقام الأعلى وهم الأعلون عنده في المنتهى، والعموم أحبوه من طريق مواجيد الأفعال، وهي النعم والإحسان والأيادي والأفضال، وعما أظهر من العوافي ومما أخبر عنه بما أسروهم الذين خدموه شهوة وعادة وحاجة، أحبوه لمنافعة ومرافقه ولأجل ما في يده من ملكه، وحبّ هؤلاء يتغير لانقلاب الأحكام، وهؤلاء لم يتحققوا بالإخلاص ولا الزهد، وقد بقي عليهم من نفوسهم هوى، حجبهم ذلك عن مخالصته وبعدهم عن مضافاته، وهذه هي أوصافهم عائدة لهم وعليهم، فحبّ هؤلاء حول قلب لأن الأفعال التي أحبوه لأجلها تحول فيحولون، وتختلف عليهم بالمكاره والمرائر فيختلفون، وفي هؤلاء المريدون والعاملون والراجون والطامعون والتائبون وأصحاب اليمين من هؤلاء. وقد قال بعض العارفين: كل محبة كانت عن عوض إذا زال العوض زالت المحبة فمنهم من عرف حاله في مقامه، فاعترف بنقصان محبته وتقصير شهادته واستغفر منها وأناب، ومنهم من ليس عليه ذلك لنقصان مزيده وضعف يقينه، فكانت محبته عن صفات متصلة بذات، ويخاف على مثل هذا الانقلاب عندكشف الغطاء، لأنه في اغترار وفتنة والتباس ومحنة، وفي طريق مكر وهلكة إلا أن تداركه رحمة من ربّه، فيوقف في حده في مقامه ويرده إلى حاله من مكانه، فيتوب من محبته ويستغفر من شهادته، فحينئذ يرحمه الله تعالى فيدخله في أهل العفو، ويستر عليه في الآخرة كما ستر عليه في الدنيا، فلقيه تحت الستر في الدارين، وهذه بعض مخاوف الصادقين من المحبين لأنها محبة إظهار لا ظهور، فصاحبها في تقلّب وغرور، إلا أنّ أهل محبة الأفعال ينقسمون قسمين: منهم من أحبه لأجل أفعاله إلا أن يشهدها منه فيراه فيها، فهو يتبصر له ويتعمل في المجاهدة ويجتهد في تنقية محلبه لبقاء حاله، فهذا أعلاهما وهذه محبة عموم أهل الآخرة الذين لا يشهدون سواها، ولايطلبون إلا إياها، ومنهم من تتغير عليه الأفعال وتخرجه من الاعتياد، ويتابع عليه البلاء وينقصه من العوافي في المال والنفس، فيخرج صفته ويظهر من تسخطه وتبرمه به، فهذا قد افتضح بدعوى المحبة وقد كشفه بعد ستره، فلم يزن في المحبين حبة، وهذه محبة أهل الدنيا الذين هم لها يكدحون وإياها يطلبون وقد سئل الجنيد رحمه الله تعالى عن المحبة فقال: الناس في محبة الله خاص وعام: فالعوام نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه وكثرة نعمه، فلم يتمالكوا أن أرضوه إلا أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان، فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظيم القدر والقدرة والعلم والحكمة والتفرد بالملك، فلما عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى، لم يمتنعوا أن أحبوه إذا استحق عندهم المحبة بذلك لأنه أهل لها، ولو زال عنه جميع النعم، ومن الناس من يكون محباً لهواه أو لعدوّ الله إبليس، وهو يدعي لعظيم جهله وطول غرته المحبة لله تعالى. قال بعض علمائنا: عوتب أبو محمد في قوله: لكل أحد يادوست قال: وقلت له: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 قد لا يكون حبيباً كما تقول فقال في أذني سرًّا لا يخلو: إما أن يكون مؤمناً أو منافقاً، فإن كان مؤمناً فهو حبيب الله عزّ وجلّ، وإن كان منافقاً فهو حبيب إبليس، ومن محبة الهوى إيثار عاجل حظ النفس على آجل ما وعدت به ويقدم محبتها على محبة الله عزّ وجلّ، وهي مطبوعة على محبة الهوى، وكراهة الحق أمارة بالسوء فيما تسرّ كذابة فيما تظهر من الخير، قال الله سبحانه تعالى: (وَعسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أنَ تُحِبُّوا شىْئاً وَهُوَ شرٌّ لَكُمْ) البقرة: 216، فقرن محبتها بالشر وقرن كراهتها بالخير، والعرب تسمي النفس كذبة أي التي يكثر منها الكذب، يصفونها بالمبالغة فيه على معنى قوله: ويل لكل همرة لمزة، أي الذي يكثر همز الناس ولمزهم، وكذلك وصفها الله تعالى بالمبالغة بالأمر بالسوء فقال: أمارة بالسوء أي فعالة، التي يكثر منها الأمر يتكرر مرة بعد مرة، من وصفها الفعل ومن محبة العدو طاعته وموافقته لأن فيها كراهة الله تعالى ومخالفته وهو مجبول على ضد ما يحب الله تعالى، والله تعالى يحب ضد ما جعله عليه وذلك ابتلاء من الله تعالى له، وابتلاء منه به لنا، واعلم أنّ قليل ما أعطاك الله عزّ وجل ّمن الإيمان به وصحة التوحيد له، ويسير ما قسم الله تعالى لك من الإخلاص والصدق وحسن المعاملة، خير لك وأنفع من كثير ما أظهر لك وعرفك، وإنما لك مما رأيته ما طلبته ونلته بيدك، وما ملكته وسلطت عليه من منازلتك، فأما ما لم تطلبه ولم تنله فهو لغيرك، لأنك قد قد ترى السماء ولا تنالها، فهي أرض لمن سخرت له، وترى ما جعل لغيرك فلا ينفعك ولا يغني عنك، وهو نافع مغن لمن سلط عليه فلكه، ومن الناس من يتوهم أنّ الإظهار هبة له، وأنّ ما رآه وعرفه ملكه وحازه وتحقق به، واعلم أنّ ألف خاطر لا يجيء منها حال، وألف حال يكون منها مقام، والمقام إنما هو ما ثبت ودام فمثل الخواطر في ممرها كالسحاب في سيرها، وقيل في المثل: سحابة صيف عن قليل تقشع، ومثل الأحوال في حيلولتها كمثل الأزمنة في أحوالها، في كل سنة أربعة مشتاً ومصيف ومربع وخريف، وإنما الهبة من الله تعالى ما وقر في القلوب من المشاهدات، وما حققته الأعمال من المنازلات، فيورث ذلك علماً خاصياً أو خلقاً مرضاً أو حالاً سنياً أو وصفاً زكياً من أخلاق الصالحين، وسيما المتقين وعلوم العارفين وملاحظات المقربين، ولا يصلح الكلام بهذا العلم إلاّ لمن له مشاهدته منه، إن كان من علوم القدرة والتوحيد أو منازلة لمن كان له من مواريث الأعمال، وعن تنقيل الأحوال وعن زهد في الدنيا، وسعي في طلب الأخرى، إن كان من علم الوعظ والندب إلى الفضل، فذل كله بعد التوبة ومع حالك الاستقامة، وعن كمال علم السنة والجماعة، بعد معرفة بعلم الأصول والسنن من آثار الرسول، وإلا كان متكلّفاً، وفي الدعوى داخلاً إلا أن يحكي شيئاً سمعه فيكون به لقائله محاكياً، ويضف حاله إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 صاحبه فيكون عنه راوياً، فأما التحلي وهو اللبس الظاهر والتصنع المفتعل بالإشارة الفارعة، فهو من حلية الدنيا وزينة الهوى، وكذلك التمني، وهو ما يظنه العقل أو توهمته النفس وقدره الوهم، أو من وسوسة العدو الخناس لعنه الله تعالي، فليس هذا كله من الإيمان ولا من علم اليقين في شيء، بل هو من همزات الشياطين وخطراتهم وقرب محضرهم، لأن هذا داء القلوب من أدواء الذنوب، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من تطبب ولم يعلم الطب فقتل، هو ضامن، فالمتكلم للناس بقتلهم يكون قاتلاً، والإظهار الذي يقع به الإغترار أكثر من أن يحصى، والظهور الذي يحق به الحقيقة أعز من أن يرى، والله تعالى يظهر من خزائن ملكه ما شاء على الألسنه والجوارح فهي من خزائن الأرض، فيها من التدبير والحكمة كما في ملك الأرض، وعلوم هذه الخزائن هي العلوم الظاهرة وهي حجج اللهّ تعالى في أرضه على عباده، ويظهر من خزائن ملكوته مايحب، وهي القلوب والبصائر والكنوز والذخائر، فهذه كخزائن الملكوت وهي من خزائن السماء وفيها من القدر والآيات كما في السموات وعلوم هذه الخزائن من علم اليقين، وهو العلم الباطن النافع يخص به من يحب، وهم أولياؤه المقربون إنّ الحكم إلا لله، ولا يشرك في حكمه أحداً يختص برحمته من يشاء، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، وهذا آخر شرح مقام المحبة وهو آخر شرح مقامات اليقين التسعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 الفصل الثالث والثلاثون ذكر دعائم الإسلام الخمس التي بني عليها أول ذكر فرض شهادة التوحيد للمؤمنين ووصف فضائلها وهي شهادة المقربين وشهادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضلها للموقنين، قال الله تعالى وصدقت أنبياؤه لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَه إلاَّ الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) محمد: 19، وقال لعباده يأمرهم بمثل ذلك: (فَاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وأنْ لا إلهَ إلاَّ هُوَ) هود: 14، ففرض التوحيد هو اعتقاد القلب أنّ الله تعالى واحد لا من عدد، وأول لا ثاني له، موجود لا شكّ فيه وحاضر لا يغيب، وعالم لا يجهل قادر لا يعجز، حي لا يموت قيوم لا يغفل، حليم لا يسفه سميع بصير، ملك لا يزول ملكه قديم بغير وقت، آخر بغير حد كائن لم يزل ولا تزال الكينونة صفته لم يحدثها لنفسه، دائم أبد الأبد لا نهاية لدوامه، والديمومة وصفه غير محدثها لنفسه، لا بداية لكونه ولا أولية لقدمه ولا غاية لأبديته، آخر في أوليته أول في آخريته، وإنّ أسماءه وصفاته وأنواره غير مخلوقة له ولا منفصلة عنه، وإنه إمام كل شيء، ووراء كل شيء، وفوق كل شيء ومع كل شيء، وأقرب إلى كل شيء من نفس الشيء، وإنه مع ذلك غير محل للأشياء، وإن الأشياء ليست محلاً له، وإنه على العرش استوى كيف شاء بلا تكييف ولا تشبيه، وإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وبكل شيء محيط، الجو وجه والفضاء من ورائه، والهواء وجه والمكان من ورائه، والحول وجه والبعد من ورائه، وهذه كلها حجب مخلوقات من وراء الأرضين والسموات متصلات بالأجرام اللطاف ومنفصلات عن الأجسام الكثاف، وهي أماكن لما شاء داخلة في قوله ومن كل شيء خلقنا زوجين داخلة في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، والله جلّ وعظم شأنه هو ذات منفرد بنفسه، متوحد بأوصافه لا يمتزج ولا يزدوج إلى شيء، بائن من جميع خلقه لا يحل الأجسام ولا تحله الأعراض، ليس في ذاته سواه ولا في سواه من ذاته شيء، ليس في الخق إلا الخلق ولا في الذات إلا الخالق، فتبارك الله أحسن الخالقين، وإنه تعالى ذو أسماء وصفات وقدرة وعظمة وكلام ومشيئة وأنوار، كلها غير مخلوقة ولا محدثة، بل لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 يزل قائماً موجوداً بجميع أسمائه وصفاته وكلامه وأنواره وإرادته، وإنه ذو الملك والملكوت والعزّة والجبروت، له الخلق والأمر والسلطان والقهر، يحكم بأمره في خلقه وملكه ما شاء كيف شاء، لا معقب لحكمه ولا مشيئة لعبد دون مشيئته، إن شاء شيئاً كان ولا يكون إلا ما شاء، لا حول لعبد عن معصيته إلا برحمته، ولا قوة لعبد على طاعته إلا بمحبته، وهو واحد في جميع ذلك، لا شريك له ولا معين في شيء من ذلك، ولا يلزمه إثبات الوعيد بل المشيئة إليه في العفو، ولا يجب عليه في الأحكام ما أجرى علينا، ولا يختبر بالأفعال ولا يشار بالمقال، حكيم عادل بحكمة وعدل، هما صفتاه لا يشبه حكمته بحكمة خلقه، ولا يقاس عدله بعدل عباده، ولا يلزمه من الأحكام ما ألزمهم، ولا يعود عليه من الأسماء المذمومة كما يعود عليهم، قد جاوز العقول وفات الأفهام والأوهام والعقول، هو كما وصف نفسه وفوق ما وصفه خلقه، نصفه بما ثبتت به الرواية وصحت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه ليس كمثله شيء في كل شيء بإثبات الأسماء والصفات، ونفي التمثيل والأدوات، وأنه سبحانه وتعالى لم يزل موجوداً بصفاته، كلها لم تزل له، وإنّ صفاته قائمة به لم تزل كذلك، ولا يزال بلا نهاية ولا غاية ولا تكييف ولا تشبيه ولا تثنية، بل بتوحيد هو متوحد به وتفريد هو منفرد به، لا يجري عليه القياس ولا يمثل بالناس، ولا ينعت بجنس ولا يلمس بحس ولا بجنس من شيء، ولا يزدوج إلى شيء، وإنّ ما سوى أسمائه وصفاته وأنواره وكلامه من الملك والملكوت محدث كله ومظهر، كان بعد إن لم يكن ولم يكن قديماً ولا أول بل كان بأوقات محدثة وأزمان مؤقتة، والله تعالى هو الأزلي الذي لم يزل، الأبدي الذي لم يحل، القيوم بقيومية هي صفته، الديموم بديمومية هي نعته، أوّل بلا أوّل ولا عن أوّل، آخر لا إلى آخر بكينونة هي حقيقته، أحد صمد لم يلد وبمعناه لم يولد، ومعنى ذلك لم يتولد هو من شيء ولم يتولد منه شيء، ومثل ذلك لم يخلق من ذاته شيء، كما لم تخلق ذاته من شيء، سبحانه وتعالى عمّا يقول الملحدون من ذلك علوّاً كبيراً. ذكر فرض شهادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الله تعالى الكبير المتعال: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ ميثَاقَ النَّبيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدَّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِننَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) آلعمران: 81، وقال عزّ وجلّ: (مَنْ يُطِعِ الرَسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) النساء: 80 وقال: (إنَّ الَّذينَ يُبَايُعونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ الله) الفتح: 10 ففرض شهادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تشهد أنّ محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاتم الأنبياء لا نبي بعده، وكتابه خاتم الكتب لا كتاب بعده، وهو مهيمن على كل كتاب، ومصدق لما سلف من الكتب قبله، وأن شريعته ناسخة للشرائع، قاضية عليها إلا ما أقره كتابه ووافقه، وكتابه شاهد على الكتب وحاكم عليها، وأنه هو الذي بشر به عيسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 عليه السلام أمته، وهو الذي أخبر به موسى عليه السلام أمته، وهو المذكور في التوراة والإنجيل وسائر كتب الله عزّ وجلّ المنزلة، وهو الذي أخذ الله ميثاق النبيين أن يؤمنوا به وينصروه لو أدركوه، فأقرّوا بذلك وشهد الله تعالى على شهادتهم، وهو الذي أخذت الأنبياء شهادة الأمم على الإيمان به وأمرتهم بتصديقه وأخبرتهم بظهوره، وأنّ موسى وعيسى عليهما السلام لو أدركاه لزمهما الدخول في شريعته، وأنّ بقية بني إسرائيل من اليهود والنصارى كفرة بالله لحجودهم رسالته، وأن إيمانهم بكتابه مفترض عليهم مأمور به في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم، وأنّ طاعته ومحبته فريضة واجبة على الكافة كطاعة الله تعالى، واتباع أمره واجتناب نهيه مفترضة على الأمة إيجاباً أوجبه الله تعالى له، وفرضاً افترضه على خلقه متصل بفرائضه. ذكر فضائل شهادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُمْ) آل عمران: 31، وقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لايؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أدركني موسى وعيسى ما وسعهما إلا اتباعي، وروينا في لفظ آخر: ثم لم يؤمنا بي لأكبهما الله في النار، وحدّثونا في الإسرائيليات أنّ رجلاً عصى الله تعالى مائتي سنة، في كلها يتمرد ويجترئ على الله، فلما مات أخذ بنو إسرائيل برجله وألقوه على مزبلة، فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن غسله كفنه وصل عليه في جميع بني إسرائيل، ففعل ما أمر به فعجب بنو إسرائيل من ذلك، وأخبروه أنّه لم يكن في بني إسرائيل أعتى على الله ولا أكثر معاصٍ منه، فقال: قد علمت، ولكن الله تعالى أمرني بذلك، قالوا: فاسأل لنا ربّك، فسأل موسى عليه السلام ربّه فقال: يا ربّ، قد علمت، ما قالوا، فأوحى الله تعالى إليه أن صدقوا أنه عصاني مائتي سنة إلاّ أنه يوماً من الأيام فتح التوراة فنظر إلى اسم حبيبي محمد مكتوباً، فقبله ووضعه على عينه، فشكرت له ذلك، فغفرت له ذنوب مائتي سنة، وحدّثنا في معناه عن العباس بن عبد المطلب قال: كنت مؤاخياً لأبي لهب، مصافياً له، فلما مات وأخبر الله تعالى عنه بما أخبر، حزنت عليه وأهمني أمره، فسألت الله تعالى عليه حولاً أن يريني إياه في المنام، قال: فرأيته يلتهب ناراً فسألته عن حاله فقال: صرت إلى النار في العذاب، لا يخفف عني ولا يروح إلا ليلة الإثنين في كل الليالي والأيام فإنه يرفع عني العذاب، قلت وكيف ذلك؟ قال: ولد في تلك الليلة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءتني أميمة فبشرتني بولادة آمنة إيّاه، ففرحت بمولده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 فأعتقت وليدة لي فرحاً مني به، فأثابني الله تعالى بذلك أن رفع عني العذاب في كل ليلة إثنين لذلك، وقال الله تعالى في تحقيق المحبة: (يُِحبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ) الحشر: 9، ثم قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر: 9، فمن محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيثار سننه على الرأي والمعقول، ونصرته بالمال والنفس والقول، وعلامة محبته اتباعه ظاهراً وباطناً، فمن اتباع ظاهره: أَداء الفرائض واجتناب المحارم والتخلق بأخلاقه والتأدب بشمائله وآدابه، والاقتفاء لآثاره والتجسس عن أخباره، والزهد في الدنيا والإعراض عن أبنائها ومجانبة أهل الغفلة والهوى، والترك للتكاثر والتفاخر من الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة، والتقرب من أهلها والحب للفقراء، والتحبب إليهم، وتقريبهم وكثرة مجالستهم، واعتقاد تفضيلهم على أبناء الدنيا، ثم الحب في الله للبعيد المبغض، وهم العلماء والعباد والزهاد، والبغض في الله للقريب المحب، وهم الظلمة المبتدعة والفسقة المعلنة، ومن اتباع حاله في الباطن مقامات اليقين، ومشاهدات علوم الإيمان، مثل الخوف والرضا والشكر والحياء، والتسليم والتوكل والشوق والمحبة، وإفراغ القلب لله وإفراداً لهم بالله، ووجود الطمأنينة بذكر الله، فهذه معاملات الخصوص وبعض معاني باطن الرسول، وهو من أتباعه ظاهراً وباطناً، فمن تحقق بذلك فله من الآية نصيب موفور أعني قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ) آل عمران: 31وقد كان سهل يقول: علامة المحبة، إتباع الرسول، وعلامة إتباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزهد في الدنيا، وقال أيضاً في تفسير قوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ والرَّسُولَ فَأُولئكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) النساء: 69، قال: يطع الله في فرائضه، والرسول في الدخول في سننه، فإذا اجتنب العبد البدع، وتخلق بأخلاق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد اتبعه وقد أحب الله تعالى، وكان معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غداً موافقاً في منزلته. ذكر فضائل شهادة التوحيد ووصف توحيد الموقنين قال الله تعالى: (شَهِِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ) آل عمران: 18، وقال سبحانه وتعالى: (وَالَّذينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ) المعارج: 33، فشهادة الموقن بيقينه أنّ الله تعالى هو الأوّل في كل شيء، وأقرب من كل شيء، وهو المعطي المانع الهادي المضل، لا معطي ولا مانع ولا ضار ولا نافع إلا الله، كما لا إله إلا الله، وقرب الله منه ونظره إليه وقدرته عليه وحيطته به، فيسبق نظره وهمه إلى الله عزّ وجلّ قبل كل شيء، ويذكره في كل شيء ويخلو قلبه من كل شيء، ويرجع إليه في كل شيء، ويتأله إليه دون كل شيء، ويعلم أنّ الله عزّ وجلّ أقرب إلى القلب من وريده، وأقرب إلى الروح من حياته، وأقرب إلى البصر من نظره، وأقرب إلى اللسان من ريقه، بقرب هو وصفه لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 بتقريب ولا بتقرب، وأنّه تعالى على العرش في ذلك كله، وأنه رفيع الدرجات من الثرى وهو رفيع الدرجات من العرش، وأنّ قربه من الثرى ومن كل شيء، كقربه من العرش، وأنّ العرش غير ملامس له بحس ولا مفكر فيه بوجس، ولا ناظر إليه بعين ولا محيط به بدرك، لأنه تعالى محتجب بقدرته عن جميع بريته، ولا نصيب للعرض منه إلا كنصيب موقن عالم به، واجد بما أوجده منه من أنّ الله تعالى عليه، وأنّ العرش مطمئن به، وأنّ الله تعالى محيط بعرشه فوق كل شيء وفوق، تحت كل شيء، فهو فوق الفوق وفوق التحت، ولا يوصف بتحت فيكون له فوق، لأنه هو العلي الأعلى أين كان لا يخلو من علمه وقدرته مكان، ولا يحد بمكان ولا يفقد من مكان ولا يوجد بمكان، فالتحت للأسفل والفوق للأعلى، وهو سبحانه فوق كل فوق وفوق كل تحت في السمو، وهو فوق ملائكة الثرى، وهو فوق ملائكة العرش والأماكن للممكنات ومكانه، مشيئته ووجوده قدرته والعرش والثرى وما بينهما وحد للخلق الأسفل والأعلى، بمنزلة خردلة في قبضته، وهو أعلى من ذلك، ومحيط بجميع ذلك بحيطة هي صفته وسعة هي قدرته، وعلو هو عظمته بما لا يدركه العقل ولا يكيفه الوهم، ولا نهاية لعلوه ولا فوق لسموه ولا بعد في دنوه، ولا حس في وجوده ولا مس في شهوده، ولا إدراك لحضوره ولا حيطة لحيطته، وقد قال الله تعالى للكل: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) النحل: 50 وقال سبحانه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) الأعلى: 1، وقال عزّ وجلّ: (أَلاَ إنَّهُ بِكُلِّ شيءِ مُحيطٌ) فصلت: 54، وإنّ الله تعالى لا يحجبه شيء عن شيء، ولا يبعد عليه شيء، قريب من كل شيء بوصفه، وهو القدرة والدرك، والأشياء مبعدة بأوصافها، وهو البعد والحجب، فالبعد والأبعاد حكم مشيئته، والحدود والأقطار حجب بريته، والمسافة والتلقاء مكانة لسواه، والنواحي والجهات موضع للمحدثات، والنهار والليل مسكن للمصرفات، والبعد والفضاء مكان للمخلوقين والتوسعة والهواء محل للعالمين، والأحكام والأقدار واقعة على خلقه. وهو سبحانه وتعالى قد جاوز المقدار والأحكام، وفات العقول والأوهام وسبق الأقدار، واحتجب بعزه عن الأفكار، لا يصوره الفكر ولا يملكه الوهم، حجب عن العقول تشج ذاته ولم تحكم العقول بدرك صفاته، إذ يس كمثله شيء فيعرف بالتمثيل، ولا له جنس فيقاس على التجنيس، وهو الله في السموات وفي الأرض، ثم استوى على العرش، وهو معكم أينما كنتم، غير متصل بالخلق ولا مفارق، وغير مماس لكون ولا متباعد، بل متفرد بنفسه متحد بوصفه لا يزدوج إلى شيء ولا يقترن به شيء، هو أقرب من كل شيء بقرب هو وصفه، هو محيط بكل شيء بحيطة هي نعته، وهو مع كل شيء وفوق كل شيء، وهو أمام كل شيء ووراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 كل شيء، بعلو ودنو هو قربه، فهو وراء الحول الذي هو وراء حملة العرش، وهو أقرب من حبل الوريد الذي هو الروح، وهو مع ذلك فوق كل شيء ومحيط بكل شيء، وليس يحيط به شيء وليس هو تعالى في كل هذا مكاناً لشيء، ولا مكاناً له شيء، وليس كمثله في كل هذا شيء، لا شريك له في ملكه ولا معين له في خلقه، ولا نظير له من عباده، ولا شبيه له في اتحاده وهو أوّل في آخريته بأوليّة هي صفته، وآخر في أوّليته بآخريتة هي نعته، وباطن في ظهوره بباطنية هي قربه، وظاهر في باطنيته بظهور هو علوه، لم يزل كذلك أزلاً، ولا يزال كذلك أبداً، لا يتوجه عليه التضاد ولا تجري عليه الحوادث والآباد، ولا ينتقص ولا يزاد، هو على عرشه باختياره لنفسه، فالعرش حد خلقه الأعلى وهو غير محدود بعرشه تعالى، والعرش محتاج إلى مكان والرب غير محتاج إليه، كما كان الرحمن على العرش استوى، الرحمن اسمه والاستواء نعته، متصل بذاته، والعرش خلقه منفصل عن صفاته، ليس بمضطر إلى مكان يسعه، ولا حامل يحمله ولا حيطة تجمعه، ولا خلق يوجده، هو حامل للعرش وللحملة بخفي لطفه، وجامع للعرش وللحفظة بلطيف صنعه، وموجد ما أحب لمن يحب من التجلي بمعالي أسمائه وصفاته بخفي لطفه ولطيف قربه، لاختصاص رحمته، وهو أظهر الكون من وراء الحول، هو ممكن للعرش ببسطه في توسعة الحول، وهو محيط بالعرش والحول بالقدرة والطول، لا يسعه غير مشيئته ولا يظهر إلا في أنوار صفته، ولا يوجد إلا في سعة البسطة، فإذا قبض أخفى ما أبدى، وإذا بسط أعاد ما أخفى، وكذلك جعله في كل رسم كون، وفعله بكل اسم مكان مما جل فظهر، ومما دق فاستتر، لا يسعه غير مشيئته بقربه، ولا يعرف إلا بشهوده، ولا يرى إلا بنوره، هذا لأوليائه اليوم بالغيب في القلوب، ولهم ذلك غداً في المشاهدة بالأَبصار، ولا يعرف إلا بشيئته إن شاء وسعه أدنى شيء، وإن شاء لم يسعه كل شيء، إن أراد عرفه كل شيء وإن لم يرد لم يعرفه كل شيء، إن أحب وجد عند أي شيء، وإن لم يحب لم يوجد بشيء، وقد جاوز الحدود والمعيار وسبق القبل والأقدار، ذو صفات لا تحصى ولا تتناهى، ليس محبوساً في صورة ولا موقوفاً بصفة، ولا محكوماً عليه بحكم ولا موجوداً بلمم، لا يتجلى بوصف مرتين، ولا يظهر في صورة لإثنين، ولا يرد منه بمعنى واحد كلمتان، بل لكل تجل منه صورة، ولكل عبد عند ظهوره له صفة، وعن كل نظرة كلام وبكل كلمةٍ إفهام، ولا نهاية لتجليه ولا غاية لأوصافه ولا نفاد لكلمه، ولا انقطاع لأفهامه ولا تكييف لمعانيه هذه، إذ ليس في التوحيد كيف، ولا للقدرة ماهية، ولا يشبهه بهذه الأوصاف خلق، إذ ليس للذات كفؤ، إذا احتجب عن العيان والأبصار رفع ذاته عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 القلوب والأفكار، فلم يخيله عقل ولم يصوره فكر، لئلا يملكه الوهم، فيكون مربوباً وهو رب، ولا ينظر إليه بفكر فيكون مقهوراً وهو قاهر، لا يعقل بعقل لأنه عاقل العقل، ولا يدرك بحيطة وهو محيط بكل حيطة، حتى يتجلى آخراً بإحسانه، كما تجلى أولاً بحنانه، فيشهد بحضوره وينظر بنوره وليس هذا لسواه ولا يعرف بهذا إلا إياه. وهذا منه لأوليائه اليوم بأنوار اليقين في القلوب، وهو لهم منه غداً بمعاينة الأبصار في دار الحبيب أبد الأبد في الجنان، يتجلّى لهم بعظائم القدرة ولطائف الحنان، ويكلمهم بما لا غاية له من لذيذ المعاني، يتجلّى بصفات الجلال ويظهر بمعاني الحسن والجمال، ويبدو بلبس البهاء والكمال يجمع لهم بأول معنى من معانيه بما يوجدهم به من النعيم والسرور والفضل والحبور، بكل نظرة أو كلمة أو قرب أو لطف أو عطف أو حنان أو إحسان جميع ما فرقه من نعيم الجنان، وينظر إذا أحب إلى ما يحب اختياراً لا تهجم الأشياء عليه في نظره اخباراً، ويعرض عما شاء اختياراً لا تعترض المنظورات في نظره اضطراراً يعرض في نظره لكبرياء عزه، وينظر في أعراضه بلطائف عطفه، الملك في قبضته والخزائن في كلمته والكون في مشيئته والملكوت كله بيده، والجبروت والعظمة سبحات صفاته وجود الأشياء لا يضطره إلى النظر إليها إن أراد الإعراض عنها لأنه مقتدر قهار وعدمها لا يضطره إلى أن يراها لسبق علمه بها، لأنها معلوم علمه ذي الأخبار، ولأنه هو الجبار إذ الموجود والمعدوم يضطر غيره إلى النظر لضعفه عن الامتناع، والعدم يضطر سواه إلى الفقد لعجزه عن الاختراع، وهو تعالى مباين لسواه بعزه، غير مماثل لغيره بقهره، ولأن المعدوم كالمحجوب وهو تعالى يرى المحجوب، من الذرة من تحت الثرى من وراء السموات والأرضين، ولا يحجبن نفاذ نظره إليها ولا يمنعن قربه منها، ولا يحجزن قدرته عليها ولا يجاوز دون حيطته بها، إذ الحجب واقعة على الخلق غيرمتصلة بالخالق، وبواطن الأشياء وغوامضها منكشفة للخالق وهو أيضاً يشهد المآل والأواخر إلى نهاية نهاياتها في أبد أبدها، كما يشهد ذلك اليوم أعني من غد وبعد غد، وما وراءه إلى يوم القيامة وما فيها، وهذا كله عدم لم يخلقه بعد، لأن علمه بذلك شهادة له لأنه ليس بينه وبين علمه حجاب، فهو يشهد الكون من أوله إلى آخره من حيث علمه بعلم هو وصفه، ومشاهدة هي نعته، ولأن كلامه بذلك يخبر بأنه قد كان دليلاً على شهوده المآب، لأنه شهد ما علم كما علم ما به تتكلم، فلم يتفاوت كلامه وعلمه ولم يختلف علمه وشهادته، ومع ذلك كله فلا موجود في الأولية ولا المشاهدة سواه، ولا شريك له في القدم ولا يقدم شاهد إلا إياه، قوته كنه قدرته وقدرته دوام بقائه، ونظره سعة علمه وعلمه مدى نظره، يدرك الأشياء كلها على اختلاف أوصافها بصفة من صفاته، ثم يدرك بجميع أوصافه ما أدركه بهذه الصفة، فصح بذلك أنه نظر وعلم وتكلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 لا يدخل الترتيب في صفاته أعني بقبل وبعد، ولا يوصف بوقت وحدّ ولا يشبه بالتعقيب بقوته وأحكامه أعني بثم ولم، وإذا وحتى، ولزم على ذلك أنه يعلم بنظره وينظر بعلمه، فصارت الأوائل والأواخر لديه كشيء واحد، وكانت صفاته كلها آحاداً كاملات تامات، غير محدودة للمحدودات ولا مؤقتة مرتبة للمرتبات المؤقتات، إذ لم يكن لها محدثات لأنها قديمة بقدمه وكائنة موجودة بكونه ووجوده، إذ الترتيب في النعوت من وصف الخلق والأدوات لكونها محدثة مظهرات بحدود وترتيب وأوقات، والله تعالى ليس كمثله شيء في كل الصفات، فصفاته قديمة بقدمه وكائنة موجودة بكائنته ووجوده، والأفعال محدثة مظهرات بحدود وترتيب، وأوقات بترتيب فلا موجود في الأولية ولا المشاهدة سواه ولا شريك له في القدم، ولا قيوم له في الأبد والأزل سواه قبل وجود الوقت، والحدثان ليست صفاته ذوات جهات فيتوجه إلى جهته فيدرك بصفة دون صفة، ولا ذاته ذو ذات فيقبل على مكان دون مكان فيضطره الترتيب للمخلوقات، ولا يدبر الأمور بأفكار فيشغله شأن عن شأن، ولا يدخل عليه الاعتراض فيتغير عمّا كان، ولا يخلق بآلة فيستعين بسواه، ولا يعجزه قدرة فيحتاج إلى مباشرة يديه، يخلق بيده إذا شاء وعن كلمته إن شاء، وبإرادته متى شاء وبمعاني صفاته كيف شاء، لا يضطره التكوين إلى الكلام وكلامه إليه كيف شاء، كان خزائنه في كلمته وقدرته في مشيئته، إذا تكلم أظهر وإن شاء قدر، ومتى أحب ظهر وبأي قدرة شاء استتر، هو عزيز في قربه وقريب في علوّه حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالفعال، كشف العلم بالإرادة وأظهر الإرادة بالحركات، وأخفى الصنع بالصنعة وأظهر الصنعة بالأدوات، هو باطن في غيبه وظاهر بحكمه وقدرته، غيب في حكمته، وحكمته شهادة ظاهرة بمحكوماته، وهي مجاري قدرته، وصنع سر في صنعته وهي علانية مشيئته، ليس كمثله شيء في كل صفة ولا كقوله في ماهية. لانية مشيئته، ليس كمثله شيء في كل صفة ولا كقوله في ماهية. وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، كلمة مجملة بالغة في وصف التوحيد أنه قال في خطبته: الحمد لله الذي لم يجعل السبيل إلى معرفته إلا بالعجز عن درك معرفته، وروينا عن أحمد بن أبي الحواري عن بعض علماء أهل المعرفه من أهل الشام أنه قال: رأى عزّ وجلّ خلقه قبل أن يخلقهم كما رآهم بعد ما خلقهم، وروي عن أبي سليمان الداراني أن قال: أدخلهم الجنان قبل أن يطيعوه، وأدخلهم النار قبل أن يعصوه. وقال أيضاً: إنّ الله عزّ وجلّ أعزّ من أن يغضبه أفعال خلقه، لكنه نظر إلى قوم بعين الغضب قبل أن يخلقهم، فلما أظهرهم استعملهم بأعمال أهل الغضب فأسكنهم دار الغضب؛ وهو أكبر من أن يرضيه أفعال خلقه، ولكنه نظر إلى قوم بعين الرضا قبل أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 يخلقهم، فلما أظهرهم استعملهم بأعمال أهل الرضا فأسكنهم دار الرضا، وقد روينا عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: (هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسَانِ حينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَىْئاً مَذْكُوراً) الدهر: 1؛ يعني كان في علم اللّّه أنه يكوّنه وكأنه علق قوله، لم يكن بقوله مذكوراً والله تعالى يخبر بما يكون في الدنيا وبما يكون في القيامة وبما بعدها، بلفظ أنه قد كان لاستواء ذلك في عمله آخراً كأول، إذ لا ترتيب في العلم ولا حدّ ولا مسافة ولا بعد في القدرة، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قيلاً) النساء: 122، أعنده علم الغيب، فهو يرى فنقصه بذلك وذمه، وقال تعالى: (الَّذي يَراكَ حينَ تَقُومُ) (وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدينَ) الشعراء: 218 - 219؛ أي ويرى تقلبك وبه انتصب التقلب بالعطف على القيام، وجاء في التفسير تقلبك في الأصلاب الزاكية والأرحام الطاهرة، لم يتفق لك أوان على سفاح قط، كذلك روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل في أصلاب الأنبياء: يقلبك بالتنقيل في صلب نبي بعد نبي حتى أخرجك من ذرية ورثة إسماعيل. وقد روينا يعني ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال تعالى في سمع الأصوات قبل الأشباح وخلقها: (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا) المجادلة: 1، فأخبر أنه سمع الأصوات في القدم في علمه قبل خلق المصوتين في الحديث، فكيف لا يرى الكون عن آخره في القدم بعلمه قبل ظهورهم له متصورين بفعله؟ وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ) الأعراف: 11، والخلق والتصوير كانا بعد السجود لآدم، فأخبر عنه أولاً لشهوده له واستوائه في علمه إذ لا بدّ من كونه، فأشبه قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِِ) الأعراف: 54، والعرش قبل السموات والأرض والاستواء صفته لم تزل به، ثم أخبر عنه أنه أخر الترتيب، فاللّّه سبحانه وتعالى عالم بالكون قبل الكون وناظر إلى علمه، لا حجاب بينه وبين معلومه، وسامع لما شهد ومتكلم بما علم فقد سبق النظر والسمع والكلام الكون كله من حيث سبق العلم والقدرة والمشيئة، فهو ناظر سامع متكلم بنفسه من حيث كان عالماً مقتدراً مريداً بنفسه، ثم أظهر الخلق عالماً بعد عالم في وقت بعد وقت، فجاؤوا على نظره وسمعه وكلامه كما كانوا في علمه وقدرته ومشيئته، بغير زيادة ولا نقصان خردلة، ألا ترى أنه بقدرته وعلمه يرى يوم القيامة وما فيها؟ والآخرة وما يكون منها على حقيقة ما أخبر عنه لا يمنعه عدم الكون ولا يحجبه بعد التأخير؟ كذلك كان يشهد ما قد كان اليوم في قدمه بعلمه به وبقدرته عليه وحيطته به، لا يمنعه عدم كونه ولا يحجبه، فقد ظهوره ولا يجوز أن يدرك سبحانه وتعالى اليوم ما لم يكن أدركه في القدم، كما لا يجوز أن يستفيد الآن علم ما لم يكن علمه فيما لم يزل، فيكون متكلّماً بما لم يشهد وهو معلومه منطوٍ في علمه، أو يكون مستزيداً بما أظهر حين ظهر وهو في قبضته وغيبه، جلّ عن ذلك وصفه وعلا عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 هذا جلاله وعزّه لأنّ نظر سعة علمه وعلمه حيطة نظره، فهو ناظر إلى ما علمه بوصفه لا يختلف عليه أوصافه، فالكون موجود له بعلمه لسبق علمه به، ولا بيان له في علمه ولا أثر له في وصفه ولا وجود للكون في وجودكينونته، ولا قدم له في قدم أزليته، ليس محلاً للكون ولا هو حال فيه، ولأن أوليته سبقت الكون والمكان فليس لهما في قدمه قدم، كما أنه تعالى يشهد الآن ما يكون من العاقبة والمآل إلى آخر الأحوال، لا يختلف الأواخر والأول في صفاته ولا تتفاوت صفاته على ترتيبها من نظر وعلم، لأنها معلوم علمه وموجود إرادته، فهو سبحانه وتعالى واجد الأشياء به لا بها، وناظر إليها في علمه لا بوجودها لاقتداره عليها وإحاطة علمه بها، والكون معدوم لنفسه لتلاشيه لأنه سبحانه وتعالى خالق العدم كما هو خالق الوجود، ليس للعدم قدم مع قدمه فيكون ثانياً معه، ولا الكون كائن موجود بنفسه فيكون أولاً مع أوليته، جلّ الواحد المتحد بنفسه عن ثانٍ معه في الأزل أو شريك له في القدم، ثم ظهرت الأشياء لنفوسها فظهر بعضها لبعض بإظهاره، فوجدت بإيجاده وظهر عليها بإظهاره بحد ووقت لا أول لها ولا قبل بل هو الأول الذي لم يزل بلا أول، والقديم الأبد بلا وقت ولا أمد قائم بصفاته، وصفاته موجودة له قائمة به، فمن شهد ما فصلناه بنور اليقين لم يدخل عليه قدم العالم، إذ لا قديم مع الله في كينونية أزله، ومن لم يهتد بما بيناه ووقف مع العقل ودخلت عليه شبهة قدم العالم، فالحد برؤيته قدم الحدثان أو جحد قدم العلم، ينفي وجود الحدث فيه، وهذا شرك بالصفات بترتيبه إياها بالعقل، ونحن بريئون من شهادته، مبطلون لدعواه منكرون لشركه في القدم، موحدون باليقين ما ألحد بالعقل، لأنّ من قال: إنّ شيئاً قديم مع اللّّه تعالى أو موجود بنفسه لنفسه، فقد أشرك في الصفات، ومن قال: إنّ الله سبحانه نظر بعد أن لم ينظر أو علم بعد أن لم يعلم أو تكلم بعد أن لم يتكلّم، فقد قال بحدوث الصفات وقدم عليها لمعلومات، بل المعلومات منطوية في العلم لا أثر لها فيه، والله قديم بعلمه واجد لمعلومه بنفسه عن علمه به لقدرته عليه يقهره، وناظر إليه بعلمه لا بعدم معلومه والمعلوم معدوم لنفسه غير موجود بنفسه حتى أحدثه وأوجده، فظهر حين أظهره لمن أظهره بعضاً لبعض لا لنفسه، إذ قد فرغ منه لعلمه به لا أنه قرب له نظره؛ كما لم يحدث به علمه لنفسه وعلمه صفته لم يزل له وهو قائم بوصفه، ولا يجوز أن يحدث له شيئاً لم يعلمه، كذلك لا ينبغي أن يفقد شيئاً لم يجده، ومن اختلف عليه ما ذكرناه دخل عليه مذهب المعتزلة والجهمية، لأن المعتزلة مجمعة على اختلافهم أنّ الله تعالى لا يرى الشيء حتى يكون، واختلفوا في العلم فقالت العبادية من القدرية وهم أصحاب عباد: إنّ الله تعالى لا يرى الشيء، حتى يكون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 يضاهون بذلك قول النظام وبشر المريسي في أن الله تعالى لا يرى الأشياء حتى تكون، والجهمية مجمعة على اختلافهم أنّ الله تعالى لم يتكلم بالشيء حتى كان، ثم خلق الكلام فقدموا الكون قبل كلامه، كما قدمه أولئك قبل نظره، وقال الجميع بحدوث النظر، كما قالوا بحدوث الكلام والنظر لأنهم قالوا بحدوث الأسماء بعد حدوث المسميات، وتقدم الاستطاعة من الخلق على الإرادة من الخالق، فاستوى بذلك شركهم خرجوا به من التوحيد، كذلك كذبت العبادية من القدرية أصحاب عباد يضاهون قول النظامية والمريسية، تشابهت قلوبهم فيتبعون ما تشابه منه، والمعتزلة أيضاً مجمعة على نفي العلم والقدرة والمشيئة إلاّ أنهم يقولون: عالم ولكن لا يضطر علمه إلى شيء ولا يوجب شيئاً، فجعلوه كالظن من الخلق فقالوا: عالم بلا علم قديم وقادر بلا قدرة ومريد بلا إرادة سابقة، وقدموا الاستطاعة من الخلق فقالوا: لئلا يلزمهم سبق المعلومات وإنّ الإرادة والكلام من نعوت الأفعال مخلوقان. لا أنه قرب له نظره؛ كما لم يحدث به علمه لنفسه وعلمه صفته لم يزل له وهو قائم بوصفه، ولا يجوز أن يحدث له شيئاً لم يعلمه، كذلك لا ينبغي أن يفقد شيئاً لم يجده، ومن اختلف عليه ما ذكرناه دخل عليه مذهب المعتزلة والجهمية، لأن المعتزلة مجمعة على اختلافهم أنّ الله تعالى لا يرى الشيء حتى يكون، واختلفوا في العلم فقالت العبادية من القدرية وهم أصحاب عباد: إنّ الله تعالى لا يرى الشيء، حتى يكون، يضاهون بذلك قول النظام وبشر المريسي في أن الله تعالى لا يرى الأشياء حتى تكون، والجهمية مجمعة على اختلافهم أنّ الله تعالى لم يتكلم بالشيء حتى كان، ثم خلق الكلام فقدموا الكون قبل كلامه، كما قدمه أولئك قبل نظره، وقال الجميع بحدوث النظر، كما قالوا بحدوث الكلام والنظر لأنهم قالوا بحدوث الأسماء بعد حدوث المسميات، وتقدم الاستطاعة من الخلق على الإرادة من الخالق، فاستوى بذلك شركهم خرجوا به من التوحيد، كذلك كذبت العبادية من القدرية أصحاب عباد يضاهون قول النظامية والمريسية، تشابهت قلوبهم فيتبعون ما تشابه منه، والمعتزلة أيضاً مجمعة على نفي العلم والقدرة والمشيئة إلاّ أنهم يقولون: عالم ولكن لا يضطر علمه إلى شيء ولا يوجب شيئاً، فجعلوه كالظن من الخلق فقالوا: عالم بلا علم قديم وقادر بلا قدرة ومريد بلا إرادة سابقة، وقدموا الاستطاعة من الخلق فقالوا: لئلا يلزمهم سبق المعلومات وإنّ الإرادة والكلام من نعوت الأفعال مخلوقان. والجهمية أيضاً مجمعة أنّ الله تعالى لا يتكلم بوصفه أصلاً وإنما يظهر في أديم القضاء الكلام بخلق الأعراض في الأجسام، فكان هذا عندهم هو التوحيد لئلا يثبتوا مع الله قديماً، وهذا عند أهل السنة والجماعة هو الإلحاد لنفي قدم الصفات والقول بحدوثها وانفصالها عن الذات، وليس يختلف أهل اليقين بحمد الله تعالى في جميع ما ذكرناه، كما لا يختلفون في صحة التوحيد، وهذه شهادة الموقنين وإيمان المقربين، فلا يتشبهن لك العقل بالمعقول عن شهود ما ذكرناه فيعقلك عن النفاد للشهادة، فليس يشهد ما ذكرناه من صفات الشهيد بنور العقل، وإنما يشهد بنور اليقين، لأنّ خالقاً لا يشبه بمخلوق، ومن ليس كمثله شيء لا يشهد إلا بما ليس كمثله شيء، وهو نور اليقين من نور القادر، ومن لم يجعل الله نوراً له فما له من نور، وما ذكرناه من وصفه تعالى هو ظاهر التوحيد المتصل بفرض الشهادة، لا يجري على ترتيب المعقول، ولا يمثل بقياس العقول، لأن نفي الصفات وإثباتها بالمماثلات موجود في رأي العقول، كما أنّ الكفر والضلال موجود في طبائع النفوس لعدم شهادة الأبصار، ولفقد وجود مشاهدة الإلهية في تخيل الأفكار، ولجريان المعتاد والعرف في ظهور الأسباب، كما حدثنا أنّ بعض الصدّيقين دعا إلى الله سبحانه وتعالى بحقيقة التوحيد فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد، فعجب من ذلك فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: تريد أن تستجيب لك العقول؟ قال: نعم، قال: احجبني عنهم قال: كيف أحجبك وأنا أدعو إليك؟ قال: تكلم في الأسباب وفي أسباب الأسباب قال: فدعا إلى الله تعالى من هذه الطرق فاستجاب له الجمّ الغفير، فإنما صحة التوحيد بإثبات الصفات وأوصاف الذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 التي جاءت بها السنن وشريعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع نفي الشبه والماهية ونفي الجنس والكيفية، ثم سكون القلب وطمأنينة العقد إلى الإيمان بهذا، والتسليم له لأجل نور اليقين الموهوب لأن هذا إنما يشهد بنور اليقين وعلمه، لا بعلم العقل ونوره، لأن خالقاً لا يرى بمخلوق، فالعقل مرآة الدنيا بنوره يشهد ما فيها، والإيمان مرآة الآخرة وبه ينظر إليها فيؤمن بما فيها. والله تعالى إنما يرى بنور اليقين، وفي هذا النور مشاهدة الصفات وهو حقيقة الإيمان، وأعز ما نزل من السماء وهو السكينة المنزلة في قلوب المؤمنين لمزيد الإيمان ولتعريف صفاته المؤمن معها بترك ضرب الأخبار بعضها ببعض، ومعارضة بعضها بعضاً أو ترتيب بعضها على بعض، بل يؤمن بكل خبر ورد في الصفات والقدرة على حدته، كما يسلم جميعها على الجملة بإسلامه وإلا أدّى ذلك إلى نفي بعضها أو إبطال جميعها، لأنّا أخذنا الإيمان بمنة اللّّه تعالى ورحمته من قبل التصديق واليقين والنقل، لا من قبل التقليد وحسن الظن والعقل، وأربعة أشياء تسلم ولا تعارض اعتراضاً: أخبار الصفات وأصول العبادات وفضائل الأصحاب وفضائل الأعمال، ولولا أنّ الله تعالى تولّى قلوب المؤمنين فحبب الإيمان إليها وزينه فيها، وكره الكفر وشأنه عندها، لتاهوا في الظلمات وغرقوا في بحار الهلكات لظهور الأغيار ومعاية الأسباب، ولغيب القدرة عن العيان، ولما ابتلوا به من الحجب والأعيان، ولكن اللّّه تعالى سلم وحبب الإيمان في القلوب، وزين وكره الكفر والعصيان وشين، وكذلك مدح المؤمنين بالغيب المستور، ومن ذلك سبق المقربون بمشاهدة النور فقال سبحانه وتعالى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) البقرة: 257، فلولا أنهم كانوا في ظلمة الطبع ما امتنّ عليهم من نور اليقين، وكذلك جاء الخبر أنّ الله تعالى خلق الخلق في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره؛ فمن أصابه اهتدى ومن أخطأه ضلّ، وفي أحد المعاني من قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب قال: يمحو الأسباب من قلوب الموحدين ويثبت نفسه، ويمحو الوحدانية من قلوب الناظرين ويثبت الأسباب ولولا أنّ التوحيد لم يرسمه عارف قط في كتاب ولا كشفه علام في خطاب، لعجز علوم العموم عن درك شهادته، ولسبق إنكاره القول لضعفها عن حمل مكاشفته، لذكرنا من ذلك ما يبهر القول ويبهت ذوي المعقول، ولكنا كرهنا أن نبتدع ما لم نسبق إليه، أن نظهر ما يضطرب العقول بالحيرة فيه، خفنا من عدم النصيب مما نذكره، فيعود على السامعين من نفعنا ضرورة، وحقيقة علم التوحيد باطن المعرفة، وهو سبق المعروف إلى من به تعرف بصفة مخصوصة بحبيب مقرب مخصوص لا يسع معرفة ذلك الكافة، وإفشاء سرّ الربوبية كفر. وقال بعض العارفين: من صرح بالتوحيد وأفشى الوحدانية فقتله، أفضل من إحياء غيره، وقال بعضهم: للربوبية سرّ لو ظهر لبطلت النبوّة وللنبوّة سرّ لو كشف بطل العلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وللعلماء بالله سرّ لو أظهره الله تعالى لبطلت الأحكام، فقوام الإيمان واستقامة الشرع بكتم السرّ، به وقع التدبير وعليه انتظم الأمر والنهي، الله غالب على أمره، وفوق ذلك علم التوحيد والاسم منه وحداني، فالتوحيد وصفه وفوقه علم الإتحاد، فالوصف منه متحد وفوقهما علم الوحدانية، والاسم منه واحد، وفوق ذلك علم الأحدية والإسم منه أحد وهذه أسماء لها صفات، وأوصاف لها أنوار وأنوار عنها علوم، وعلوم له مشاهدات بعضها فوق بعض، فوق كل ذي علم عليم، ثم علم التوحيد أول هذه العلوم وعموم هذه المشاهدات، وظاهر هذه الأنوار وأقربها إلى الخلق، فالاسم منه موحد وههنا بان الخلق وظهر، فهذا توحيده الذي وحده به الموحدون من جميع خليقته، فعاد ذلك عليهم برحمته، والمشاهدات الأول توحيد الرب تعالى نفسه بنفسه لنفسه، قبل توحيد خلقه، فتوحيدهم إيّاه عن توحيده فيما كتبنا عنه، وأخفينا فيما أظهرناه، فهو محجوب في خزائن الغيوب عن البصائر والفهوم، قد جاوز علم الملكوت كله، فهو من ورائها في خزائن الجبروت، وإنما ذكرنا من ذلك قوت القلوب من علم التوحيد، وما لا بدّ للإيمان منه من المزيد، وقال عالمنا أبو محمد سهل رحمه الله تعالى: للعالم ثلاثة علوم؛ علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر، وعلم باطن لا يسع إظهاره إلاّ لأهله، وعلم هو سرّ بين الله وبين العالم هو حقيقة إيمانه، لا يظهره لأهل الظاهر ولا لأهل الباطن، وقال بعض السلف قبله: ما من عالم يحدث قوماً بعلم لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم. شرح ثاني ما بني الإسلام عليه من الخمس: وهو الصلاة وأول ذلك وصف الطهارة، أولها فرائض الاستنجاء وسننه، وفرائض الوضوء وسننه وفضائله، وفرائض الصلاة وسننها وأحكام المصلّي في وقت الصلاة وإدراكها، وما يتعلق بها وهيئات الصلاة وآداب المصلّي. ذكر فرائض الاستنجاء قال الله جلّ ثناؤه وصدقت أنباؤه: (فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُِحِبُّ الْمُطَّهِّرينَ) التوبة: 108 وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يقبل الله صلاة بغير طهور، وقال عليه الصلاة والسلام: الطهور نصف الإيمان، وقال: مفتاح الصلاة الطهور، فأول الطهارة الاستنجاء وفيه فرضان وأربع سنن: أحد الفرضين إزالة الحدث، والثاني طهارة المزيل، وهو أن لا يكون رجيع دابة ولا مستعملاً مرة، ولا عظم ميتة، ويكره له الاستنجاء بفحمة لأثر في ذلك، والسنن الأربع: وتر الاستجمار ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، والاستنجاء بالماء، ومباشرة الأذى بالشمال، ومسح اليد بالتراب، فأما كيفية الإستنجاء فأن يأخذ الحجر بشماله ويمره على مقدمته من مقدمها مسحاً إلى مؤخرها، ثم يرمي به، هناك ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 يأخذ الحجر الثاني فيبتدئ من مؤخر المقعدة فيمسحها مداً إلى مقدمها، ثم يرمي به، ثم يأخذ الحجر الثالث، فيديره حول المسربة إدارة فإن احتاج إلى حجر آخر فليجعلها خمساً، وإن اكتفى بحجر واحد فلا بد من ثلاث، وإن استجمر بحجر كبير ذي ثلاث شعب أجزأه عن ثلاثة أحجار، وفي الخبر: من استجمر فليوتر، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد الحاجة أبعد، وكان يتبوأ لحاجته كما يتبوأ الرجل المنزل لأنه كان لا يقعد في فضاء، بل كان ينصب وراءه شيئاً أو يقعد إلى حائط، أو نشز من الأرض يستره أو كوم من حجارة يحجبه، ثم يستدبر ذلك، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يستقبل القبلة أيضاً لغائط ولا بول، ولم يكن يرفع ثوبه للغائط حتى يدنو من الأرض، فأما من أراد أن يبول قريباً من صاحبه بحيث يراه ويحسه فلا بأس بذلك، فإنها رخصة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع الحياء منها بفعله، لأنه كان عليه السلام أشد الناس حياء، وكان يبول وإلى جانبه صاحبه ليسن التوسعة في ذلك، وقال رجل لبعض الصحابة من الأعراب وقد خاصمه فقال: لا أحسبك تحسن الخراءة فقال: بلى وأبيك إني بها لحاذق، قال فصفها لي قال: أبعد الأثر وأعد المدر واستقبل الشيح واستدبر الريح وأقعي إقعاء الظبي وأجفل إجفال النعام، والشيح نبت طيب الرائحة يكون بالبادية، والإقعاء في هذا الموضع أن يستوفز على صدور قدميه والأجفال أن يرفع عجزه. وفي حديث سلمان: علمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل شيء حتى الخراءة، أمرنا أن لا نستجمر بعظم ولا روث، ونهانا أن لا نستقبل القبلة لبول أو غائط، وأن يجلس أحدنا على رجله اليسرى وينصب اليمنى، فأما وصف الاستبراء فهو أن يستفرغ الرجل بوله رويداً، ولا يحرك ذكره فينتشر البول على الحشفة، فإذا انقطع البول على مهل مد ذكره ثلاثاً من أصله إلى الحشفة مداً رفيقاً، لئلا ينتضح البول، ثم ينتثره ثلاثاً ويتنحنح ثلاثاً، وإن فعل ذلك سبعاً سبعاً فقد بالغ، ثم يأخذ الحجر بيمينه ويأخذ ذكره بشماله، ويمده عليه حتى يرى موقعه جافاً، فهناك طهرين انقطعت النداوة، ومن مده إلى الأرض أو إلى حائط حتى يرى الجفوف عن أثره، فمثله وهذا كافيه من الماء ما لم ينتشر البول على الحشفة ويسحب البول في أرض دمثة رخوة، وعلى تراب مهيل، ويكره له أن يبول مستقبل الريح أو على أرض صلبة كيلا ينضح البول عليه، وقد شبه فقهاء المدينة الذكر بالضرع، وقال بعضهم إنه لا يزال يخرج منه الشيء بعد الشيء ما دمت تمده، وقيل: إذا وقع الماء على الذكر انقطع البول، وقد كان أخفهم استبراء وأقلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 استعمالاً للماء في الطهور، أفقههم عندهم، وقد يكون ما يظهر من النداوة بعد غسل الذكر بالماء أنّ ذلك من مرجع الماء يتردد في الإحليل لضيق المسلك وتلاحم انضمامه عليه فإذا خشي الوسواس فلينضح فرجه بعد وضوئه، وهو أن يأخذ كفاً من ماء فليرشه عليه، وفي خبر أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله، ويكره مس الذكر باليمين ويخرج من الذكر خمسة أشياء؛ البول والمذي والودي وهو لزوجة تتعقب البول إذا طال حبسه، والريح والمني ثم كلها توجب الوضوء إلا المني، وهو الماء الدافق الذي يفتر عنه الذكر وتنقطع الشهوة، ومنه يخلق الإنسان فإنه يوجبُ الغسل، وما خرج من الذكر من غير ذلك من دودٍ أو حصى ففيه الوضوء، وقد يخفي الريح، فلذلك يستحب الوضوء عند كل صلاة وهو من المرأة أطهر. ذكر فرائض الوضوء قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من توضأ كما أمر، وفي لفظ: من توضأ فأسبغ الوضوء وصلّى ركعتين ولم يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وفي لفظ آخر: ولم يسه فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا أنبئكم بما يكفر الله الخطايا به ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء في المكاره، ونقل الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، وتوضأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين فقال: من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً فقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء إبراهيم عليه السلام. ذكر فرائض الطهارة وهي ثمانية: طهارة الإناء ثم الماء الطاهر والنيّة والترتيب على نسق الكتاب وغسل الأعضاء الثلاثة المأمور بها، ومسح الرس، ولا ينفض يديه بالماء عند غسل وجهه وذراعيه، فإنّ ذلك يكون مسحاً، ولا يلطم وجهه بالماء لطماً فإنه مكروه، ولكن ليحمل الماء بيديه معاً إلى وجهه ثم ليسنه عليه سنّاً، ويغسل وجهه غسلاً من أصول شعر رأسه إلى ما ظهر من لحيته وعلى ما استرسل منها، وليدخل البياض الذي بين أذنه ولحيته في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 غسل وجهه، وليدخل مرفقيه في غسل ذراعيه، وهذا فرض وينبغي أن يقطر الماء من وجهه وذراعيه قطراً، ويكفيه في مسح الرأس أن يمسحه بماء، جديد يبتدئ بمقدم رأسه ثم يرد يده إلى مؤخره، ثم يردها إلى يافوخه هذه مرة، وليمسح رأسه أجمع وهذه الأربعة الأعضاء هي المنصوص عليها، فأما ذكر الواو في الترتيب، فإني سمعت بعض فقهاء العرب من أهل اللغة بمكة يقول: إنّ الواو وإن كانت للجمع فلا تقتضي الترتيب في الظاهر، فإنه إذا لم يرد به الجمع بين شيئين واستحال أن يجمع بها بين اثنين معاً فإنها تقوم حينئذ مقام ثم، تكون للترتيب لا غير. ذكر سنن الوضوء وهي عشرة: التسمية وغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار وهو إخراج الماء من الأنف، وتخليل اللحية ومسح الأذنين وغسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، وأن يبدأ بالميامن وتخليل أصابع القدمين. ذكر فضائل الطهارة وما يقال عند غسل كل عضو من الأذكار أول ذلك أن يتوضأ قاعداً مستور العورة، وأن لا يكون الماء مشمساً، وقد كره ذلك وقيل: إنّ كراهيته في أرض الحجاز خاصة وإسباغ الوضوء سيما في الشتاء، فإنه من عزائم الدين، وقال بعض السلف: وضوء المؤمن في الشتاء بالماء البارد يعدل عبادة الرهبان كلها، وأن لا يعتدي في الطهور فقد نهي عن ذلك، وهو أن يغسل كل عضو فوق الثلاث، والوضوء على الوضوء نور، وهو أن يتوضأ لكل صلاة عن غير حدث، فإن ذلك مستحب إذا أمكن، وله بكل وضوء عشر حسنات، ويجزيه أن يصلّي الخمس بوضوء واحد، فقد فعل ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والوضوء على حدته قربة إلى الله تعالى، إذا نوى به العبد ذلك من غير أن يصلّي به، وفي الخبر: إذا توضأ العبد خرجت ذنوبه من جميع أعضائه، وتكون الصلاة نافلة، ويستحب أن يتوضأ العبد كلما بال ما لم يشق ذلك عليه، وأن يصلّي ركعتين كلما توضأ، ثم أن لا يتكلم في الوضوء إلا بذكر الله تعالى، وأن يقول عند غسل كل عضو ما يستحب من الدعاء، فيقول عند الفراغ من الاستنجاء: اللهم طهر قلبي من النفاق، وحسن فرجي من الفواحش، ويقول عند التسمية: أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 ويقول عند غسل يديه: اللهم إني أسألك اليمن والبركة، وأعوذ بك من الشؤم والهلكة، ويقول عند المضمضة: اللهم أعني على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك، ويقول عند الاستنشاق: اللهم صلّ على محمد وأوجد لي رائحة الجنة، وأنت عني راض، ويقول عند الاستنثار: اللهم إني أعوذ بك من روائح النار ومن سوء الدار، ويقول عند غسل وجهه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض فيه وجوه أوليائك، ولا تسود وجهي يوم تسود فيه وجوه أعدائك، وعند غسل يمينه: اللهم آتني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً، وعند غسل الشمال: اللهم إني أعوذ بك أن تؤتيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري، وعند مسح الرأس: اللهم غشُني برحمتك وأنزل علي من بركاتك، وأظلني تحت عرشك يوم لا ظل إلاّ ظلك، ويقول عند مسح الأذنين: اللهم اجعلني ممن يستمع القول فيتبع أحسنه اللهم اسمعني منادي الجنة مع الأبرار، ثم يمسح عنقه فيقول: اللهم فك رقبتي من النار، وأعوذ بك من السلاسل والأغلال، ويقول عند غسل قدمه اليمنى: اللهم ثبت قدمي على الصراط مع أقدام المؤمنين، ويقول عند غسل اليسرى: اللهم إني أعوذ بك أن تنزل قدمي عن الصراط يوم تنزل فيه أقدام المنافقين، وأن يبتدئ بغسل الذراعين من أصابع الكفين ويقطع من المرفقين كل غسلة، وأن يرفع في غسل الذراعين إلى إنصاف العضدين، وأن يبتدئ بغسل القدمين من الأصابع ويخللهما في الميامن ويقطع غسلهما من الكعبين، ويرفع في غسل الرجلين إلى إنصاف الساقين ويمين أصابع اليد اليمنى خنصرهما، ويمين اليد اليسرى إبهامها، وإذا فرغ من وضوئه رفع رأسه إلى السماء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبده ورسوله، سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت، عملت سوءاً وظلمت نفسي، أستغفرك وأتوب إليك فاغفر لي وتب علي إنك أنت التوّاب الرحيم، اللهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهرين، واجعلني شكوراً واجعلني أذكرك كثيراً، وأسبحك بكرة وأصيلاً، هذا جميع ما روي من القول بعد الفراغ من الوضوء بآثار متفرقة جمعناها، يقال إنّ من قال هذا بعد فراغه من الوضوء ختم على وضوئه بخاتم، ورفع له تحت العرش، فلم يزل يسبح الله ويقدسه ويكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة، وأكره الوضوء في إناء صفر، سمعت أنّ العبد إذا توضأ احتوشتْه الشياطين توسوس إليه، فإذا ذكر الله خنست عنه وحضرته الملائكة، فإنّ كان وضوءه في إناء صفر أو نحاس لم تحضره الملائكة. وروي عن ابن عمر وأبي هريرة كراهة ذلك، وقال بعضهم: سألني شعبة أن أخرج له وضوءاً، فأخرجته في إناء صفر فلم يتوضأ به، وقال حدثني عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه كره الوضوء في إناء صفر، وتوضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ركوة ومن إداوة ومن مهراس حجر، وقد روينا في حديث زينب بنت جحش أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ واغتسل، في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 حديث آخر من مخضب لها وهو نحاس وهذه رخصة. صفة الغسل من الجنابة يضع الإناء عن يمينه ثم يسمي الله تعالى، ويفرغ الماء على يديه ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء ثم يغسل ذكره ويستنجي، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كاملاً إلا غسل قدميه، ثم يدخل يديه في الإناء بما حملتا من الماء فيصب على شقه الأيمن ثلاثاً ظهراً وبطناً إلى فخذه وساقه، ثم يغسل شقه الأيسر كذلك ثلاثاً ظهره وبطنه إلى فخذه وساقه، ويدلك ما أقبل من جسده وما أدبر بيديه معاً، ثم يدخل يديه بما حملتا من الماء فيفيض على رأسه ثلاثاً ويخلل شعر رأسه بأصابعه ويبل الشعر وينقي البشرة، ثم يتنحي من موضعه قليلاً فيغسل قدميه، فإن فضل من الإناء ماء أفاضه على سائر جسده، وأمر يديه على ما أدركتا من بدنه؛ فإن قدم غسل رجليه فأدخلهما في أول وضوئه فلا بأس ولا وضوء عليه بعد الغسل، وليتق أن يمس ذكره في تضاعيف ذلك بيديه، فإن مس ذكره فليعد وضوءه وإن نسي المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة حتى صلّى أحببت أن يتمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة، وإن نسيهما في الوضوء فلا إعادة عليه، وكيفما أتى بغسل جسده من الجنابة فجائز بعد أن يعم جميع بدنه غسلاً، ومن لم يتوضأ قبل الغسل أحببت له أن يتوضأ بعده، ومن انغمس في نهر أجزاه عن الغسل وأحب أن يتوضأ وفرض غسل الميت كغسل الجنابة. كتاب الصلاة ذكر فرائض الصلاة قبل الدخول فيها وهي سبع: أول ذلك طهارة الجسد، وطهارة الثوب وطهارة البقعة، وستر العورة وهي من السرّة إلى الركبة، واستقبال القبلة وإصابة الوقت، والقيام إلا من عذر، وفرائض الصلاة في صلبها اثنتا عشر خصلة، روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مفتاح الجنة الصلاة، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تحريمها التكبير وتهليلها التسليم فأول ذلك النية وتكبيرة الإحرام بلفظ التكبير، وليس للعرب في لفظ التكبير بمعنى الإكبار إلا وزن أفعل والأفعل فيقولون: الله أكبر والله الأكبر، وليس يقولون: الله كبير، وهم يريدون معنى أكبر مما سواه، إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 يقولون كبير بمعنى عظيم لأن هذه لفظة أعجمية عربت، وتقول العرب: الله كبار، وليس بمعنى أكبر إنما هو بمعنى كبير، والتفخير للتعظيم، ثم يقرأ سورة الحمد؛ أولها بسم الله الرحمن الرحيم، والركوع، ثم الطمأنينة في السجود والجلسة بين السجدتين والتشهد الأخير، والصلاة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتسليم الأول، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا ينظر الله تعالى إلى من لا يقيم صلبه بين الركوع والسجود، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود، ورأى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يصلي لا يقيم ظهره في ركوعه وسجوده، فقال له: ارجع فصلّ، فإنك لم تصلّ، ثم رآه لا يطمئن إلى الركوع والسجود فأمره أيضاً بإعادة الصلاة، ثم علمه الطمأنينة بينهما والقيام فيهما، فقال: حتى تطمئن مفاصلك وتسترخي، ورأى حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما رجلاً يصلّي لا يتم ركوعه وسجوده فقالا: لو مات هذا لمات على غير فطرة أبي القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي حديث أحدهما: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ فقال: منذ أربعين سنة فقال: ما صليت منذ أربعين سنة، وعن كعب الأحبار قسمت الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود، فمن نقص أحدهما لم يقبل منه سائرها، ويقال: من لم تقبل صلاته ردت أعماله كلها عليه. ذكر سنن الصلاة وهي اثنتا عشرة سنة: رفع اليدين بتكبيرة الإحرام، وصورة الرفع أن يكون كفّاه مع منكبيه وإبهامه عند شحمة أذنية وأطراف أصابعه مع فروع أذنيه، فيكون بهذا الوصف من الرفع موطئاً للأخبار الثلاثة المروية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يرفع يديه إلى منكبيه وأنّه كان يرفعهما إلى شحمة أذنيه، وأنه رفع إلى فروع أذنيه يعني أعاليهما، ولفظ التكبير أن يضم الهاء من الاسم بتخفيف الضمة من غير بلوغ، واو، ويهمز الألف من أكبر ولا يدخل بين الباء والراء ألفاً، ويجزم الراء، لا يجوز غير هذا فيقول: الله أكبر، ثم لا يرفع يديه إذا كبر إلى قدام دفعاً، ولا يردهما إلى خلف منكبيه وتكون أصابعه تلقاء أذنيه، ثم يكبر ويرسلهما إرسالاً خفيفاً رفيقاً، ويكون إرساله يديه مع آخر التكبير، لا يسلهما قبل انقضاء التكبير ولا يوقفهما بعد الفراغ من التكبير، ثم يستأنف وضع اليمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 على الشمال بعد الإرسال، روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا كبر أرسل يديه، فإذا أراد أن يقرأ وضع اليمين على اليسرى، وليقبض على زند كفه الشمال وليجعلهما تحت صدره، ثم التوجه فيقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، ثم يقول: إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك، فقد روي جميع ذلك في روايات مختلفة وجمعه حسن، إلا أن يكون خلف الإمام ولا يكون للإمام سكتتان، فلا يمكنه أن يأتي بهذا التوجه كله مع قراءة الحمد، ولا يشتغلن حينئذ إلا بقراءة الحمد، يغتنم قراءتها في سكوت الإمام، واحذر أن تقرأ في قراءة الإمام، أو تركع أو تسجد أو ترفع رأسك قبله، ثم الاستعاذة، ثم قراءة سورة من القرآن أو ثلاث آيات من سورة بعد الحمد، والتأمين بعد قراءة الحمد سنة حسنة، فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أمر به ثم رفع اليدين بالتكبير، للركوع أيضاً سنة، ثم التسبيح للركوع وإذا أردت عشراً أو سبعاً ولا أقل من ثلاث، وإنما قيل: إن الثلاث أدنى الكمال لأن الكمال عشرة، قال الله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) البقرة: 196، ولتكن الثلاث بعد أن يضع يديه على ركبتيه وقبل أن يرفعهما، لأنه إذا لم يتحفظ في ذلك ويتمهل فيه حصل من التسبيح واحدة بعد الركوع، وتكون الأولى والأخرى في الإنحطاط والرفع، وهذا مكروه، وصورة الركوع أن يفرج بين أصابعه فيملأ بها ركبتيه، ويجافي عضديه عن جنبيه ولا يرفع رأسه ولا يخفضه، وليمد عنقه مع ظهره مداً فيكون ظهره ورأسه سواء، ولا يكون مخفوضاً إلى أسفل ولا مقبواً إلى فوق، ثم رفع اليدين بقول: سمع الله لمن حمده، سنة، ويقول: اللهم ربنا، لك الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، ثم التسبيح في السجود إن شاء عشراً أو سبعاً وأدناه ثلاث، ولتكن الثلاث بعد حصول جبهته على الأرض وقبل رفعه إياه، وإلا كانت واحدة تذهب الأولى في حال وضع الوجه، والأخرى في حال رفع الرأس، فتحصل تسبيحة واحدة في كل سجدة، وهذا غير مستحب أن ينقص من ثلاث، وقال أنس بن مالك: ما رأيت أشبه صلاة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إمامكم، هذا يعني عمر بن عبد العزيز، قال: فكنا نسبح وراءه عشراً في الركوع والسجود عشراً عشراً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 ويجعل رأسه بين كفيه في سجوده، فإنهما يسجدان إذا كانتا مفتوحتين فيجافي عضديه عن جنبيه، ويمد ظهره ويرفع بطنه عن فخذيه، ويستحب أن يباشر الأرض بكفيه، فإنهما يسجدان مع الوجه، ثم التكبير للسجود والرفع بين السجدتين وللقيام بين السجود من غير رفع يديه، ثم يقول: ربّ اغفر لي وارحمني ثلاثاً، روي ذلك عن ابن عمر وإن قال: ربِّ اغفر وارحم، وتجاوز عمّا تعلم، فإنك أنت الأعز الأكرم فجائز، روي ذلك عن ابن مسعود، وإن قال: ربّ اغفر لي وارحمني واهدني وأجبرني وأنعشني، فحسن قد روي ذلك عن عليّ رضي الله تعالى عنه، ثم التشهد الأول ثم السلام الأخير بالألف واللام وضمّ الميم من السلام من غير تنوين، ومد الاسم وجزم الهاء منه، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله حتى يتبين خذاه لمن عن يمينه وشماله ويلوي به عنقه إلى منكبيه، كذلك كان تسليم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير أن يحول جسمه عن القبلة ولا يرفع فخذه عن الأرض. الأرض. ذكر أحكام الصلاة في الإدراك ومن أدرك من صلاة رباعية ركعتين أو الثالثة من صلاة المغرب، فإنّ ما أدرك هو أول الصلاة فليبن على ذلك ومن أدرك مع الإمام بعض القيام افتتح سورة الحمد ولم يركع حتى يتمها، وإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبله رفع بعده، ومن لم يدرك مع الإمام من القيام شيئاً كبر للإحرام، ثم كبر وركع وهي له ركعة، وإن ركع الإمام وهو في قراءة سورة غير الحمد فليقطع حيث انتهى وليركع بعده، ومن أدركه في التشهد أو في السجود ابتدأ التكبير للإحرام قائماً، ثم جلس وسجد للإتباع، فإذا سلم الإمام قام من غير تكبير يحدثه ثانياً، وابتدأ بقراءة الحمد عند قيامه، ولا يعتد بشيء مما أدرك مع الإمام إلا بالركوع، وهو أن يكون قد وضع يديه على ركبتيه واطمأن قبل أن يرفع الإمام رأسه، فهذه له ركعة، ومن دخل في صلاة مكتوبة ثم ذكر أن عليه أخرى أحببت أن يتمها ثم يصلّي التي ذكر، ثم يعيد هذه الصلاة، ومن وافق الإمام في صلاة العصر ولم يكن صلّى الظهر صلاّها معه، ثم يصلّي الظهر ثم أعاد بعدها صلاة العصر، فعله بعض الصحابة وهو أحب الوجوه إليّ، ومن تكلم في صلاته ناسياً أو سلم من ركعتين من صلاة رباعية، فليسجد سجدتي السهو بعد التشهد، فإن كان قد خرج من المسجد وتطاول ذلك، ثم ذكر أحببت أن يعيد الصلاة، ومن تكلم أو سلم عامداً أو استدبر القبلة، أو انكشفت عورته أو رعف في صلاته أو ذكر أنه نسي مسح رأسه، أو غسل عضو من أعضائه، أعاد الصلاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 ومن فاتته جماعة فتطوع رجل قام يصلّي معه أحببت أن يكون هو المصلّي به فرضه، ولا يخرج من الخلاف ويدخل في فرض الجماعة، ولا أستحب أن يصلّي فرضاً خلف رجل يتطوع، ولا أكره صلاة النوافل جماعة، ولا سجود سهو على العبد فيما جهر فيه مما يخافت فيه مما يجهر، ومن شك في ثلاث ركعات أو اثنتين فليجعلهما اثنتين، ومن شكّ في أربع أو ثلاث حسبها ثلاثاً يبني أبداً على اليقين، وهو الأقل، ثم يسجد سجدتيّ السهو قبل السلام، وعليه أن يتشهد ثانياً لسجدتيّ السهو وصلاته تامة، ومن سها عن سجدتي السهو، فإن ذكر قريباً أو قبل أن يخرج من المسجد فأحب أن يسجدهما ثم يتشهد ويسلم، فإن تطاول الوقت أو كان قد خرج من المسجد سقط عنه، ومن شك في القبلة لدخول ظلمة أو فقد أدلة تحرى جهده، فإن تبين له أنّ القبلة بخلاف ذلك أحببت له أن يعيد ذلك، وأستحب سجود السهو فيما زاد بعد التسليم وفيما نقص قبله، فإن سجدهما في الزيادة والنقصان قبل السلام فحسن كل ذلك، قد رويناه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإن لحقه وهم في الصلاة ليس بشك، أو كثر وهمه في الصلاة أحببت أن يجعل سجوده أبداً بعد السلام، ومن صلّى في حال ضرورة بنقصان طهارة أو نقصان فرض من فرائض الصلاة أحببت أن يعيد متى قدر على ذلك، ومن صلّى في ثوب ثم رأى فيه نجاسة بعد ذلك أعاد ما دام في الوقت قبل أن يدخل وقت صلاة أخرى، فإن خرج جميع الوقت فلا إعادة عليه، ولو أعاد تلك الصلاة متى رأى تلك النجاسة كان أحب إليّ، ومن كان عليه صلوات فرط فيها بإضاعة أو نقصان حدود صلاها أحب إليّ متوالية صلاة يوم في وقت واحد إن أمكن، أو في أوقات متفرقة نسقاً، وأن يكون ذلك في غير الأوقات المنهي فيها عن الصلاة أحب إليّ، ومن علم في صلاته أنّ عليه ثوباً فيه نجاسة وأنه غير مستقبل القبلة، فليلق الثوب وليستقبل القبلة وليتم صلاته، وإن أعاد فهو أحب إليّ،. ذكر هيئات الصلاة وآدابها السواك قبل الصلاة من فضائلها، روي في الخبر: صلاة بسواك تفضّل على صلاة بغير سواك سبعين ضعفاً، وأستحب له أن يقرأ، قل: أعوذ بربّ الناس، قبل دخوله في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 الصلاة، فإنه جنة له من العدو، وأن يستعيذ في كل ركعة قبل قراءة الحمد لأنه يكون قارئاً للقرآن ولأنّ كل ركعة صلاة، وأن يضم أصابع كفيه في التكبير وأن يراوح بين قدميه في القيام، لا يضم كعبيه ولكن يجعل بين قدميه مقدار أربع أصابع، فإنّ ذلك يستحب، قال بعضهم: كانوا يفتقدون الإمام إذا كبر في ضم الأصابع، وإذا قام في تفرقة الأقدام، قال: فيستدلون بذلك على فقهه، ونظر ابن مسعود إلى رجل قد ألزق كعبيه في الصلاة فقال: لو رواح بينهما كان قد أصاب السنة. وقد يروى في خبر أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الصفن والصفد في الصلاة، فأما الصفن فرفع إحدى الرجلين من قوله تعالى: (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) ص: 31، إذا عطف الفرس طرف سنبكه، وأما الصفد فهو اقتران القدمين معاً ومنه قوله تعالى: (مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) إبراهيم: 49، واحدها صفد، وقد رأيت بعض العلماء يفرق بين أصابعه في التكبير، وتأول أنّ ذلك معنى الخبر أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا كبر نشر أصابعه نشراً، وذلك محتمل لتوكيده بالمصدر، وهو قوله نشراً، فيصلح أن يكون قوله نشراً، يريد به التفرقة، وقد تسمى التفرقة بثاء ونشراً لأنّ حقيقة النشر البسط، وقد قال الله تعالى: (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) الغاشية: 16، فهذا هو التفرقة وقال في معنى البث كالفراش المبثوث، ثم قال في مثله: (كأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) القمر: 7، فإذا كان النشر مثل البث، وكان البث هو التفرقة، كان قوله نشراً بمعنى فرق، إلاّ أنّ إسحاق بن راهويه سئل عن معنى قوله نشر أصابعه في الصلاة نشراً فقال: هو فتحها وضمها، أراد بذلك أن يعلم أنه لم يكن يقبض كفه وهذا وجه حسن، لأن النشر ضد الطي في المعنى، والقبض طي، ورأيت ثلاثة من العلماء يفرقون أصابعهم في التكبير منهم: أبو الحسن صاحب الصلاة في المسجد الحرام وكان فقيهاً، ورأيت ثلاثة يضمون أصابعهم: منهم أبو الحسن بن سالم وأبو بكر الآجري، وأحسب أنّ أبا زيد الفقيه كان يفرق في أكثر ظني إذا تذكرت تكبيره، قول: آمين من فضائل الصلاة، روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إذا قال الإمام: ولا الضالين فقولوا: آمين، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صوته بآمين، وفي لفظ: آمين لغتان: المد والقصر، والميم فيهما مخففة لأنك إذا شددت الميم أحلت المعنى، فيكون معناه قاصدين من قوله ولا آمين البيت الحرام، وأن يترك إحدى يديه على الأخرى قابضاً على الزندين بين السرّة والصدر، فإنّ ذلك من الخشوع، وقال بعض العلماء: ما أحسبه ذل بين يدي عزيز. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه من سنن المرسلين، وفسر عليّ عليه السلام قوله تعالى: فصل لربك وانحر، قال: وضع اليمين على الشمال، وهذا موضع علم علي رضي الله تعالى عنه، ولطيف معرفته، لأنّ تحت الصدر عرقاً، يقال له: الناحر لا يعلمه العلماء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 فاشتق عليّ رضي الله عنه قوله: وانحر من لفظ الناحر: أي أوضع يدك على إلا الناحر، وهذا هو العرق، كما يقال ادمغ؛ أي أصب الدماغ ولم يحمله على نحر البدن، لأنه ذكر في الصلاة، ومن الناس من يظن اشتقاقه من النحر، والنحر هو تحت الحلقوم عنده لمتقي التراقي، واليد لا توضع هناك إلا من قال من أهل اللغة في معناه: وانحر أي وجه القبلة بنحرك، فهذا لعمري وجه لا يقعي في الصلاة، وهو أن يجلس على قدميه وينصب ركبتيه، هذا مذهب أهل اللغة في الإقعاء، أو على ركبتيه جاثياً وأصابع رجليه في الأرض، هذا مذهب أهل الحديث، وليجتنب السدل والكف، فإمّا السدل فهو أن يرخي أطراف ثيابه على الأرض وهو قائم، يقال: سدل وسدن بمعنى واحد، وقد تبدل اللام نوناً لقرب المخرجين إذا أرسل ثيابه، ومنه قيل: سدنة الكعبة أحدهم سادن، وهم قوامها الذين يسلبون عليها كسوتها؛ وسدانة الكعبة ثيابها المسبلة، وهذا قول أهل اللغة ومذهب أهل الحديث في السدل أن يلتحف بثوبه، ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد كذلك، ولأنّ هذا فعل اليهود في صلاتهم فنهوا عن التشبه بهم، والقميص في معناه؛ ولا يركع ويسجد ويداه في بدن القميص إن اتسع، فأما أن يدخل يديه في جسد القميص في السجود فمكروه، وقد قال بعض الفقهاء في السدل قولاً ثالثاً قال: هو أن يضع وسط إزاره على رأسه، ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه، وهذا قول بعض المتأخرين وليس بشيء عندي، والأولان أعجب إليّ، وهما مذهب القدماء، وأما الكف فقد نهي عنه في الصلاة أيضاً، وهو أن يرفع ثيابه من بين يديه أو من خلفه إذا أراد السجود، وأكره أن يأتزر قوق القميص فإنه من الكف، وقد روي عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه كراهية ذلك، وروينا عن بعض أولاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الرخصة في ذلك صلّى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محتزماً بعمامته فوق القميص، وقد يكون الكف في شعر الرأس، فلا يصلين وهو عاقص شعره، وفي الحديث: أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء ولا أكف شعراً ولا ثوباً، ونهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الاختصار في الصلاة وعن الصلب، فأما الاختصار فأن يضع يده على خاصرته، وأما الصلب فأن يضع يديه جميعاً على خصريه ويجافي بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 عضديه في القيام، ولتقع ركبتاه على الأرض قبل يديه، ويداه قبل وجهه، وأن يسجد على جبهته وأنفه، فإنهما عضو واحد، ولينهض على صدور قدميه وإن ضعف فليعتمد على الأرض بيديه، وأن لا يلتفت في صلاته يميناً وشمالاً ولا يلحظ عن يمين وشمال، فإن لحظ فهو أيسر، وليرم ببصره إلى موضع سجوده، فإن لم يفعل فليقابل بوجهه تلقاء القبلة ولا يعبث بشيء من بدنه في الصلاة. وروي أنّ سعيد بن المسيب نظر إلى رجل يعبث بلحيته في صلاته، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وقد رويناه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق ونهى عن المواصلة في الصلاة وهي في خمس: اثنان على الإمام أن لا يصل قراءته بتكبيرة الإحرام، ولا يصل ركوعه بقراءته، واثنان على المأموم أن لا يصل تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام ولا تسليمه بتسليمه، وواحدة بينهما أن لا يصل تسليم الفرض بتسليم التطوع، وليفصل بينهما، وقد قيل: التسليم حزم والتكبير جزم، وقد جاء في الخبر: سبعة أشياء في الصلاة من الشيطان: الرعاف، والنعاس، والوسوسة، والتثاؤب، والحكاك، والالتفات، والعبث بالشيء، وزاد بعضهم: والسهو، والشك، وقال بعض السلف: أربعة أشياء في الصلاة من الجفاء: الالتفات ومسح الوجه وتسوية الحصى وأن يصلّي بطريق من يمر بين يديه وزاد بعضهم وأن لا يصلّي في الصف الثاني، وفي الصف الأول فرجة وقد نهى عن صلاة الحاقن، والحاقب، والحازق، فالحاقن من البول والحاقب من وجود الغائط والحازق صاحب الخف الضيق فلا يصلّي من كن به هذه الثلاثة لأنها تشغل القلب، وأكره صلاة الغضبان والمهتم بأمر ومن عرضت له حاجة حتى يسري عن قلوبهم ذلك ويطمئن القلب ويتفرّغوا للصلاة ومن شغل قلبه حضور الطعام وكانت نفسه تائقة إليه فليقدم الأكل لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء إلا أن يضيق الوقت أو يكون ساكن القلب، وفي الخبر لا يدخلن أحدكم الصلاة وهو مغضب ولا يصلّين أحدكم وهو غضبان، وكان الحسن يقول: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرعز ذكر فضائل الصلاة وآدابها وماَ يزكو به أهلها ووصف صلاة الخاشعين قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري) طه: 14، وقال: (وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلينَ) الأعراف: 205، وقال تعالى: (لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارى حَتّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) النساء: 43، قيل: سكارى من حبّ الدنيا وقيل: من الاهتمام بها، وقال جلّ ثناؤه: (الَّذينَ هُمْ عَلى صَلاَتِهِمْ دَائِمُون) المعارج: 23، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى ركعتين لم يحدث نفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 فيهما بشيء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الصلاة تمسكن، وتواضع، وتضرع وتباؤس، وتنادم، وترفع يديك وتقول: اللهم، فمن لم يفعل فهي خداج أي ناقصة، روينا عن الله سبحانه وتعالى في الكتب السالفة أنه قال: ليس كل مصلٍّ أتقبّل صلاته إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتكبر عليّ، وأطعم الفقير الجائع لوجهي، فمن الإقبال على الصلاة أن لا تعرف من على يمينك ولا من على شمالك من حسن القيام بين يدي القائم على كل نفس بما كسبت، وكذلك فسّروا قوله تعالى: (هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ) المؤمنون: 2، وقال سعيد بن جبير: ما عرفت من على يميني ولا على شمالي في الصلاة منذ أربعين سنة، منذ سمعت ابن عباس يقول: الخشوع في الصلاة أن لا يعرف المصلّي من على يمينه وعن شماله. وروينا عن بشر بن الحرث قال: قال سفيان: من لم يخشع فسدت صلاته، وروينا عن معاذ بن جبل، من عرف من عن يمينه وشماله في الصلاة متعمّداً فلا صلاة له، وقد أسنده إسماعيل بن أبي زياد عن بشر بن الحرث وغيره وعن الثوري أيضاً: من قرأ كلمة مكتوبة في حائط أو بساط في صلاته فصلاته باطلة، وقال بشر يعني بذلك لأنه عمل في الصلاة، ومن الدوام في الصلاة السكون فيها، وعلى ذلك فسّر قوله تعالى: (الَّذينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) المعارج: 23، قيل: هو السكون والطمأنينة في الصلاة من قولك: ماء دائم إذا سكن، وقال بعض الصحابة: يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئاتهم في الصلاة، من الطمأنينة والهدوء، ومن وجود النعيم بها واللذة، ثم إصغاء القلب للفهم وخشوعه للتواضع، وسكون الجوارح للهيبة، ثم الترتيل في القراءة والتدبر لمعاني الكلام، وحسن الافتقار إلى المتكلم في الإفهام والإيقاف على المراد، وصدق الرغبة في الطلب للاطلاع على المطلع من السرّ المكنون المستودع في الكتاب، وإن مرّ بآية رحمة سأل ورغب، أو آية عذاب فزع واستعاذ، أو مرّ بتسبيح أو تعظيم حمد وسبّح وعظّم، فإن قال بلسانه فحسن وإن أسره في قلبه ورفع به همّه نابه قصده عن المقال، وكان فقره غاية السؤال، وهذا أحد الوجهين في قوله تعالى: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) البقرة: 121، هكذا كان وصفهم في التلاوة، وينبغي أن يكون قلبه بوصف على ركن من أركان الصلاة، وهمه معلّق بكل معنى من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 معاني المناجاة، فإذا قال: الله أكبر أي مما سواه ولا يقال أكبر من صغير، إنما يقال أكبر من كبير، فيقال: هذا كبير وهذا أكبر، فإن كان همّه الملك الكبير كان ذكر الله أكبر في قلبه فليواطئ قلبه قول مولاه في قوله تعالى: (وَلَذِكْرُ الله أَكْبرُ) العنكبوت: 45، ويواطئ لسانه قلبه في مشاهدة الأكبر فيكون يتلو وينظر، فإن الله تعالى قدّم العين على اللسان في قوله تعالى: (أَلَم نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) البلد: 8 - 9. فلا يقدّم لسانه ويؤخّر بصره ويكون عقده محقّقاً لمقاله بالوصف حتى يكون عاملاً بما يقول في الحال، فقد أخذ عليه ذلك لما أمر به حجة عليه وتنبيهاً له، ولا يكون بقوله: الله أكبر، حاكياً؛ ذلك عن قول غيره، ولا مخبراً به عن سواه، بل يكون هو المتحقق بالمعنى القائم بالشهادة، وهذا عند أهل المعرفة واجب لأن الإيمان قول وعمل في كل شيء، فإذا قلت: الله أكبر فإن العمل بالقول أن يكون الله أكبر في قلبك من كل شيء، وهو من رعاية العهد، لتدخل تحت الثناء والمدح في قوله تعالى: (وَالَّذينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المعارج: 32، فالعهد ما أعطيت بلسانك، والرعاية والوفاء بالقلب ليستحق الأجر العظيم كما قال تعالى: (وَمَنْ أَوْفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فَسَيُؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً) الفتح: 1،، ومن كان في قلبه الملك الصغير الفاني أكبر من الملك الأكبر فما عمل بقوله تعالى: الله أكبر، وليس هذا حقيقة الإيمان لأنه لم يأتِ بعمل وقول، وإنما جاء بالقول وهذا قائم بنفس من مشاهدته الآخرة، وكانت قرة عينه الآخرة، كما قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) النحل: 96، يعني الدنيا، (وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ) النحل: 69، يعني الآخرة. وقد قال: جعلت قرة عيني في الصلاة لأنه كان عند ربه فجعل قرة عينه به، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَلِذَكْرُ الله أَكْبَرُ) العنكبوت: 45، فالمذكور أكبر وأكبر، وقد أخبر تعالى أن الصلاة أريد بها الذكر في قوله تعالى: (وَأَقِم الصَّلاةَ لِذِكْري) طه: 14، وروي معنى ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما فرضت الصلاة وأمرت بالحج والطواف وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله، فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود والمبتغى عظمة ولا هيبة فما قيمة ذكرك؟ وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأنس بن مالك، وإذا صليت صلاة فصلِّ صلاة مودّع لنفسه، مودّع لهواه، مودّع لعمره، سائر إلى مولاه، كما قال: (يَا أَيُّها الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الإنشقاق: 6، وكقوله تعالى: (وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أنَّكُمْ مُلاقُوهُ) البقرة: 223، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جعلت قرّة عيني في الصلاة، وكان يرى الأكبر فتقرّ عينه به، وقال: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 إلا بعداً، كما قال: من لم يترك قول الزور والخيانة فليس لله تعالى حاجة أن يترك طعامه وشابه، فإنما المراد من الصلاة والصيام المخالفة من الآثام، ومن إقامة الصلاة وإتمامها الوضوء لها قبل دخول وقتها لئلا يشغله عن أول وقت غيرها، وينبغي أن يكون قلبه في همّه، وهمّه مع ربّه، وربّه في قلبه، فينظر إليه من كلامه، ويكلمه بخطابه، ويتملقه بمناجاته، ويعرفه من صفاته، فإن كل كلمة عن معنى اسم، أو وصف، أو خلق، أو حكم، أو إرادة، أو فعل؛ لأن الكلم ينبئ عن معاني الأوصاف، ويدل على الموصوف، وكل كلمة من الخطاب تتوجه عشر جهات للعارف، من كل جهة مقام ومشاهدات؛ أول الجهات الإيمان بها، والتسليم لها، والتوبة إليها، والصبر عليها، والرضا بها والخوف منها، والرجاء لها، والشكر عليها، والمحبة لها، والتوكل فيها، فهذه المقامات العشر هي مقامات اليقين، لأن الكلمة هي حق اليقين، وهذه المعاني كلها منطوية في كل كلمة يشهدها أهل التملّق والمناجاة، ويعرفها أهل العلم والحياة، لأن كلام المحبوب حياة القلوب، لا ينذر به إلا حيّ ولا يحيا به إلا مستجيب، قال الله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً) يس: 69 - 7،، وقال سبحانه: (اسْتَجيبُوا لله وَلِلرَسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ) الأنفال: 42، ولا يشهد هذه العشر مشاهدات إلا من نقل في العشر المقامات المذكورة في سورة الأحزاب؛ أولها مقام المسلمين، وآخرها مقام الذاكرين، وبعد مقام الذكر هذه المشاهدات العشر فعندها لا يملّ المناجاة لوجود المصافاة، ولا يثقل عليه القيام للذاذة والإفهام، ويسهل عليه الوقوف لدنوّ العطوف، ويتنعم بالعتاب بحلاوة الإقتراب، هنالك يندرج طول القيام في التلاوة فلا يجده كاندراج القبلة في الصلاة فلا يشهدها، فيكون من ورائه القبلة وهو أمامها، كذلك القيام يحمله وهو مع حامله. حدثت أنّ الموقن إذا توضّأ للصلاة تباعدت عنه الشياطين في أقطار الأرضين خوفاً منه، لأنه يتأهب للدخول على الملك، فإذا كبر حجب عنه إبليس وضرب بينه وبينه سرادق لا ينظر إليه، وواجهه الجبار بوجهه، فإذا قال: الله أكبر أطلع الملك في قلبه، فإذا ليس في قلبه أكبر من الله تعالى فيقول: صدقت الله تعالى في قلبك، كما تقول: قال فيتشعشع من قلبه نور يلحق بملكوت العرش، فيكشف له بذلك النور ملكوت السموات والأرض، ويكتب له حشو ذلك النور حسنات، قال: وإنّ الغافل الجاهل إذا قام للوضوء احتوشته الشياطين، كما يحتوش الذباب على نقطة العسل، وإذا كبر أطلع الملك في قلبه، فإذا كل شيء في قلبه أكبر من الله تعالى عنده، فيقول له: كذبت ليس الله في قلبك كما تقول، قال: فيثور في قلبه دخان يلحق بعنان السماء فيكون حجاباً لقلبه، قال: فيرد ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الحجاب صلاته، ويلتقم الشيطان قلبه، فلا يزال ينفخ فيه، وينفث ويوسوس إليه، ويزين له، حتى ينصرف من صلاته ولا يعقل ما كان فيه، وقد جاء في الخبر: لولا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رأى في القبلة نخامة، فغضب غضباً شديداً، ثم حكّها بعرجون كان في يده، وقال: ائتوني بعبير فلطخ أثرها بزعفران، ثم التفت إلينا فقال: أيكم يحب أن يبزق في وجهه؟ قلنا: لا أينا، قال: فإن أحدكم إذا دخل في صلاته فإن الله عزّ وجلّ بينه وبين القبلة، وفي لفظ آخر واجهه الله تعالى؛ فلا يبزقن أحدكم تلقاء وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن شماله، أو تحت قدمه اليسرى، فإن بدرته بادرة فليبصق في ثوبه وليقل به هكذا، وذلك بعضه ببعض، وقد روي: إذا قام العبد في صلاته فقال: الله أكبر، قال الله لملائكته: ارفعوا الحجاب بيني وبين عبدي، فإذا التفت يقول اللّّه تعالى: عبدي إلى من تلتفت؟ أنا خير لك ممن تلتفت إليه، ثم إذا قام المقبل على صلاته شهد قلبه قيامه لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم شهد وقوفه بالحضرة بين يدي الملك الجبار، إذ ليس من الغافلين، فتأخذه غيبة الحضور، ويرهقه إجلال الحاضر، ويستولي عليه تعظيم القريب، وبجمعه خشية الرقيب، فإذا تلا وقف همّه مع المتكلم ماذا أراد، واشتغل قلبه بالفهم عنه والانبساط منه، فإن ركع وقف قلبه مع التعظيم للعظيم، فلا يكون في قلبه أعظم من الله تعالى وحده، فإن رفع شهد الحمد للمحمود، فوقف مع الشكر للودود، فاستوجب منه المزيد، وسكن قلبه بالرضا، لأنه حقيقة الحمد، وإن سجد سما قلبه في العلوّ فقرب من الأعلى بقوله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) العلق: 19. وأهل المشاهدة في السجود على ثلاث مقامات؛ منهم من إذا سجد كوشف بالجبروت الأعلى فيعلو إلى القريب ويدنو من القريب، وهذا مقام المقربين من المحبوبين، ومنهم من إذا سجد كوشف بملكوت العزة، فيسجد على الثرى الأسفل عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وصف من أوصاف القادر الأجل، فيكسر قلبه ويخبت تواضعاً وذلاً للعزيز الأعلى، وهذا مقام الخائفين من العابدين، ومنهم من إذا سجد جال قلبه في ملكوت السموات والأرض فآب بظرائف الفوائد وشهد غرائب الزوائد، وهذا مقام الصادقين من الطالبين، وهناك قسم رابع لا يذكر بشيء ليس له وصف فيستحق المدح، وهم الذين يجول همّهم في أعطية الملك وأنصبة المماليك، فهم محجوبون بالهمم الدنية عن الشهادة العلية مأسورون بالهوى عن السياحة إلى الإعلام، فإن دعا هذا المصلّي نظر إلى المدعوّ فكان هو المرجوّ فأخذ في التمجيد والثناء والحمد والآلاء، ونسي حاجته من الدنيا واشتغل عن نفسه بالمولى وعن مسألته بحسن الثناء، وإن استغفر هذا الداعي تفكّر في أوصاف التوبة وأحكام التائب وتفكّر في ما سلف من الذنوب فعمل في تصفية الاستغفار وإخلاص الإنابة والاعتذار، وجدّدَ عقد الاستقامة، فيكون له بهذا الاستغفار من الله عزّ وجلّ تحية وكرامة، ففي مثل صلاة هذا العبد وردت الأخبار أنّ العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الحجاب بينه وبينه وواجهه بوجهه، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء فيصلون بصلاته ويؤمنون على دعائه، وأنّ المصلّي لينثر عليه البرّ من عنان السماء إلى مفرق رأسه ويناديه منادٍ لو علم المناجي من يناجي ما انفتل، وأنّ أبواب السماء، للمصلّين، وأنّ الله تعالى يباهي ملائكته بصفوف المصلّين، وفي التوراة مكتوب: يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يديّ مصلّياً باكياً فأنا الله تعالى الذي اقتربت من قلبك وبالغيب رأيت نوري، قال: وكنا نرى أنّ تلك الرقة والبكاء وتلك الفتوح التي يجدها المصلّي في قلبه من دنوّ الرب تبارك وتعالى من القلب، وقال رجل للنبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادع الله تعالى أن يرزقني مرافقتك في الجنة، فقال: أعني بكثرة السجود. وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد أحبّ إليه من الصلاة، ولو كان شيء أحبّ إليه من الصلاة لتعبد به ملائكته؛ منهم راكع، وساجد، وقائم، وقاعد، أو كما قال بعض العلماء: الصلاة خدمة الله عزّ وجلّ في أرضه، وقال آخر: المصلون خدام الله عزّ وجلّ على بساطه، إنّ المصلين من الملائكة يسمون في السموات خدام الرحمن ويفخرون بذلك على سائر المرسلين من الملائكة، ويقال: إن المؤمن إذا صلّى ركعتين عجب منه عشر صفوف من الملائكة؛ كل صف منهم عشرة آلاف، وباهى الله تعالى به مائة ألف ملك؛ وذلك أنّ العبد قد جمع فيه أركان الصلاة الأربعة؛ من القيام والقعود والركوع والسجود، وفرق ذلك على أربعين ألف ملك، والقائمون لا يركعون إلى يوم القيامة، والساجدون لا يرفعون إلى يوم القيامة، وكذلك الراكعون والساجدون، ثم قد جمع الله له أركان الصلاة الستة؛ من التلاوة والحمد والاستغفار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 والدعاء والصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفرق ذلك على ستين ألف ملك لأن كل صفّ من الملائكة عبادته ذكر من الأذكار الستة، فإذا رأت الأملاك ما جمع فيه من الأركان الستة والأذكار في ركعتين عجبت منه وباهاهم الله تعالى به، لأنه قد فرق تلك الأعمال والأركان على مائة ألف ملك؛ وبذلك فضّل المؤمن على الملائكة، وكذلك فضّل الموقن أيضاً في مقامات اليقين من أعمال القلوب على الأملاك بالتنقيل في المقامات بأن جمعت فيه ورفع منها، والملائكة لا ينقلون بل كل ملك موقوف في مقام معلوم لا ينقل عنه إلى غيره مثل: الشكر والخوف والرجاء والشوق والأنين والخشية والمحبة، بل كل ملك له مزيد وعلوّ من المقام الواحد على قدر قواه، وجمع ذلك كلّه في قلب الموقن. قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين في صفات أوليائه المؤمنين: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) المؤمنون: 1 - 2 - 3، فمدحهم بالصلاة كما ذكرهم بالإيمان، ثم مدح صلاتهم بالخشوع كما افتتح بالصلاة أوصافهم، ثم قال في آخرها: (وَالَّذينَ هُمْ عَلى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) المؤمنون: 9، فختم بها نعوتهم وقال في نعت عباده: المصلّين الذين استثناهم من الجزوعين من المصائب والفقر، المانعين للمال والخير، إلا المصلّين الذين هم على صلاتهم دائمون، ثم نسق النعوت وقال في آخرها: والذين هم على صلاتهم يحافظون، فلولا أنها أحبّ الأعمال إليه ما جعلها مفتاح صفات أحبائه وختامها، ولما وصفهم بالدوام والمحافظة عليها، ومدحهم بالخشوع فيها؛ والخشوع هو انكسار القلب وإخباته وتواضعه وذلته ثم لين الجانب وكفّ الجوارح وحسن سمت وإقبال، والمداومة والمواظبة عليها وسكون القلب والجوارح فيها؛ والمحافظة هي حضور القلب وإصغاؤه وصفاء الفهم وإفراده من مراعاة الأوقات وإكمال طهارة الأدوات، ثم قال تعالى في عاقبة المصلّين: (أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ) المؤمنون: 1، - 11، فجعل أول عطائهم الفلاح وهو الظفر والبقاء، وآخره الفردوس وهو خير المستقر والمأوى، وقال في أضدادهم: من أهل النار ما سلككم في سقر، قالوا: لم نكُ من المصلّين، وقال موبخاً لآخر منهم فلا صدق ولا صلّى، ونهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن طاعة من نهاه عن الصلاة، ثم أمره بها وأخبره أنّ فيها القرب والزلفى في قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذين يَنْهى عَبْداً إِذَا صَلَّى) العلق: 9 - 1،، ثم قال: (كَلاّ لاَ تَطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) العلق: 19، فالمصلّون بقية من خلقه وورثة جنته من عباده وأهل النجاة من دار غضبه إبعاده جعلنا الله منهم بعطفه ورحمته. ذكر الحث على المحافظة على الصلاة وطريقة المصلّين من الموقنين قال الله سبحانه وتعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) الفتح: 29 الآية، فاختار لنفسه أصحابه صلوات الله عليه ثم اختار لأصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 الصلاة فجعلها وصفهم في الإنجيل والتوراة، فهذا يدل أنّ الصلاة أفضل الأعمال لأن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل العمال، وسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لمواقيتها، وعن عمر رضي الله تعالى عنه: إذا رأيت الرجل حافظاً لصلاته فظنّ به خيراً وإذا رأيته مضيعاً لصلاته فهو لا سواها أضيع، وكان الحسن يقول: ابن آدم ماذا يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟ فهو على الله تعالى أهون، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصلاة عماد الدين من تركها فقد كفر، وفي حديث آخر بين الكفر والإيمان ترك الصلاة، وفي الخبر: من حافظ على الصلوات الخمس بإكمال طهورها ومواقيتها، كانت له نوراً وبرهاناً يوم القيامة، ومن ضّيعها حشره الله تعالى مع فرعون وهامان، وفي تفسير قوله تعالى: (لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة إلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمِن عَهْداً) مريم: 87، قال الصلوات الخمس، وعن ابن مسعود وسلمان: الصلاة مكيال، فمن أوفى وفى له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطففين، وفي الخبر: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته فلا يتم ركوعها ولا سجودها، وفي الخبر: إذا صلّى العبد في الملأ فأحسن وأساء صلاته في الخلا فتلك استهانة يستهين بها ربه عزّ وجلّ، وفي الخبر: إذا أحسن العبد صلاته في العلانية وأحسنها في السرّ قال الله تعالى لملائكته: هذا عبدي حقّاً، وعن كعب وغيره: من قبلت صلاته قبلت أعماله كلها، ومن ردّت عليه صلاته ردّت عليه أعماله كلها، ويقال: من تقبلت منه الصلوات الخمس كملاً من غير أن تلفق، ولا يرفع بعضها من بعضِ، أو غيرها من النوافل، أطلع على علم الأبدال وكتب صديقاً، وعلامة قبول الصلوات أن تنهاه في تضاعيفها عن الفحشاء والمنكر والفحشاء والكبائر، والمنكر ما أنكره العلماء، فمن انتهى رفعت صلاته إلى سدرة المنتهى، ومن تحرقته الأهواء فقد ردّت صلاته لما غوى فهوى، وقال مالك بن دينار وإبراهيم بن أدهم: إني لأرى الرجل يسيء صلاته فأرحم عياله، وقال الفضيل بن عياض: الفرائض رؤوس الأموال والنوافل الأرباح، ولا يصحّ ربح إلا بعد رأس المال، وكان ابن عيينة يقول: إنما جرموا الوصول بتضييع الأصول، وقال عليّ بن الحسين: من اهتم بالصلوات الخمس في مواقيتها وإكمال طهورها لم يكن له في الدنيا عيش وكان عليه السلام إذا توضأ للصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 تغير لونه واصفرّ وأرعد، فقيل له في ذلك فقال: تدرون بين يدي من أريد أن أقف وعلى من أدخل ولمن أخاطب؟ وقال بعض العارفين: للصلاة أربع فرائض؛ إجلال المقام، وإخلاص السهام، ويقين المقال، وتسليم الأمر، وقال أبو الدرداء: خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلّة لذكر الله تعالى وكان وكيع يقول: من لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها لم يحافظ عليها ومن تهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه. وروينا في تفسير قوله تعالى: (سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةِ مِنْ رَبِّكُمْ) الحديد: 21، قال: تكبيرة الإحرام، وفي حديث أبي كاهل عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى أربعين يوماً الصلوات في جماعة لا يفوته منها تكبيرة الإحرام كتب له براءتان؛ براءة من النفاق، وبراءة من النار، وقال سعيد بن المسيب: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في جماعة، وكان يسمى حمامة المسجد، وقال عبد الرزاق: من عشرين سنة ما سمعت الأذان إلا في المسجد، ويقال: إنه إذا كان يوم القيامة أمر بطبقات المصلين إلى الجنة زمراً، قال: فتأتي أول زمرة كان وجههم الكوكب الدري فتستقبلهم الملائكة فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن المصلّون من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولون: ما كانت أعمالكم في الدنيا؟ فيقولون: كنا إذا سمعنا الأذان قمنا إلى الطهارة لا يشغلنا غيرها، فتقول الملائكة: يحق لكم ذلك، ثم تأتي الزمرة الثانية فوق أولئك في الحسن والجمال كأنّ وجوههم الأقمار فتقول الملائكة: من أنتم؟ فيقولون: نحن المصلّون، فيقولون: وما كانت صلاتكم؟ فيقولون: كنا نتوضأ للصلاة قبل دخول وقتها، فتقول الملائكة: يحق لكم ذلك، ثم تأتي الزمرة الثالثة فوق هؤلاء في المنزلة والجمال كأنّ وجوههم الشمس الضاحية، فتقول الملائكة: أنتم أحسن وجوهاًوأعلى مقاماً فما أنتم؟ فيقولون: نحن المصلّون، فيقولون: وما كانت صلاتكم؟ فيقولون: كنا نسمع الأذان في المسجد، فتقول الملائكة: يحق لكم ذلك. وقال بعض العلماء رضي الله عنهم: سميت الصلاة صلاة لأنها صلة بين العبد وبين الله عزّ وجلّ ومواصلة من الله تعالى لعبده، ولا تكون المواصلة والمنال إلا لتقّي، قال الله تعالى: (لَنْ يَنَالَ الله لُُحُومُهَا وَلاَدِمَاؤُهَا وَلكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) الحج: 37، ولا يكون التقيّ إلا خاشعاً فعندها لا يعظم عليه طول الوقوف ولا يكثر عليه الانتهاء عن المنكر والائتمار بالمعروف، كما قال سبحانه وتعالى: (إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرَ) العنكبوت: 45، والخاشعون من المؤمنين هم الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، الحافظون لحدود الله جزاؤهم البشرى، كما قال: (وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) الأحزاب: 47 والخاشعون أيضاً الخائفون، الذاكرون، الصابرون، والمقيمون الصلاة، فإذا كملت هذه الأوصاف فيهم كانوا مخبتين، وقد قال سبحانه: (وَبَشِّرِ الْمُخْتِتِينَ) الحج: 34، وكان ابن مسعود إذا نظر إلى الربيع بن خيثم يقول: وبشر المختبين أما والله لو رآك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفرح بك، وفي لفظ آخر لأحبك، يقال: إنه كان يختلف إلى منزل ابن مسعود عشرين سنة لا تحسب جارية ابن مسعود إلا إنه أعمى لشدة غضّ بصره وطول إطراقه إلى الأرض بنظره، وكان إذا دق الباب عليه تخرج إليه إنه أعمى لشدة غضّ بصره وطول طاقه إلى الأرض بنظره، وكان إذا دق الباب عليه تخرج إليه الجارية فإذا رأته قالت لعبد الله صديقك ذاك الأعمى قد جاءك فكان ابن مسعود يضحك ويقول: ويحك ذاك الربيع، ومشى ذات يوم مع ابن مسعود في الحدادين فلما نظر إلى الأكوار تنفخ وإلى النيران تلتهب، صعق وسقط مغشياً عليه، وقعد ابن مسعود عند رأسه إلى وقت الصلاة فلم يفق فحمله ابن مسعود على ظهره إلى منزله، فلم يزل مغشياً عليه إلى الساعة التي صعق فيها حتى فاتته خمس صلوات، وابن مسعود عند رأسه يقول: هذا والله الخوف، وكان هذا يقول: ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها إلا ما أقول وما يقال لي، وقد كان عامر بن عبد الله من خاشعي المصلّين، كان إذا صلّى ضربت ابنته بالدف، وتحدث النساء بما يردن في البيت، ولم يكن يعقل ذلك ولا يسمعه وقيل له ذات يوم: هل تحدث نفسك في الصلاة بشيء؟ قال: نعم بوقوفي بين يدي الله عزّ وجلّ ومنصرفي إلى إحدى الدارين، قيل: فهل تجد شيئاً مما نجده من أمور الدنيا؟ فقال: لأن تختلف الأسنة فيّ أحبّ إليّ من أن أجد شيئاً في الصلاة مما تجدون، وكان يقول: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، وقد كان مسلم بن يسار من الزاهدين العاملين، كان إذا دخل في الصلاة يقول لأهله: تحدثوا بما تريدون وأفشوا سركم فإني لا أستمع إليكم، وكان يقول: وما يدريكم أين قلبي، وكان يصلّي ذات يوم في مسجد البصرة، فوقعت خلفه أسطوانة معقود بناؤها على أربع طاقات، فتسامع بها أهل السوق فدخلوا المسجد وهو يصلي كأنه وتد، وما انفتل من صلاته، فلما فرغ جاءه الناس يهنونه فقال: أي شيء تهنوني؟ قالوا: وقعت هذه الأسطوانة العظيمة وراءك فسلمت منها، قال: متى وقعت؟ قيل: وأنت تصلّي، قال: ما شعرت بها، وقال بعض المصلّين: الصلاة من الآخرة، فإذا دخلت في الصلاة خرجت من الدنيا، وسئل بعضهم: هل تذكر في صلاتك شيئاً؟ قال: وهل شيء أحبّ إليّ من الصلاة فأذكره فيها؟ وكان أبو الدرداء يقول: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ. وفي الخبر: أنّ عمار بن ياسر صلّى صلاة فخففها فقيل له: خففت يا أبا اليقظان، فقال: هل رأيتموني نقصت من حدودها شيئاً؟ قالوا: لا قال: لأني بادرت سهو الشيطان أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنّ العبد ليصلّي الصلاة لا يكتب له ثلثها ولا نصفها ولا ربعها ولا خمسها ولا سدسها ولا عشرها، وكان يقول: إنما يكتب للعبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 من صلاته ما عقل منها، وقد ذكر هذا عبد الواحد بن زيد أنه إجماع، فروينا عنه أنه قال: أجمعت العلماء أنه ليس للعبد من صلاته إلاّ ما عقل، وقال الحسن: كل صلاة لا يحضرها قلبك فهي إلى العقوبة أسرع منها إلى الثواب، ويقال: إنّ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم الزبير وطلحة، كانوا أخفّ الناس صلاة، فسئلوا عن ذلك فقالوا: نبادر بها وسوسة العدوّ، وروينا أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: إنّ الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة، قيل: وكيف ذاك: لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله تعالى فيها؟ وقال الله جلّ ذكره: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَديثاً) النساء: 87، (حَتّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) النساء: 43 وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من تشعبت به الهموم لم يبال الله تعالى في أي أوديتها هلك، وسئل أبو العالية عن قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ) الماعون: 5، قال: هو الذي يسهو في صلاته فلا يدري على كم ينصرف، على شفع أم على وتر؟ سئل الحسن عن ذلك فقال: هو الذي يسهو عن وقت الصلاة حتى يخرج وقتها، وكان يقول: أما والله لو تركوها لكفروا، ولكن سهوا عن الوقت، وقال بعض السلف فيها: هو الذي إن صلاّها في أوّل الوقت أو في الجماعة لم يفرح وإن صلاّها بعد الوقت لم يحزن، وقيل: هو الذي لا يرى تعجيلها برّاً ولا تأخيرها إثماً ويقال: إنّ الصلوات الخمس يلفق بعضها إلى بعض حتى يتم بها للعبد صلاة واحدة، وقيل: من الناس من يصلّي خمسين صلاة فيكمل له بها خمس صلوات وإن الله تعالى ليستوفي من العبد ما أمره به كما فرضه عليه وإلاّ تممه من سائر أعماله النوافل لأنه ما فرض على العبد إلاّ ما يطيقه بعونه إذ لم يكلفه ما لا طاقة له به برحمته. وروينا عن عيسى عليه السلام: يقول الله تعالى: بالفرائض نجا مني عبدي وبالنوافل تقرّب إليّ عبدي وقد جاء مثله عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله: لا ينجو مني عبد إلاّ بأداء ما افترضته عليه، وفي الخبر المفسر: أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن وجدت كاملة وإلا يقول الله تعالى: انظروا هل لعبدي نوافل؟ فنتمّ فرائضه من نوافله؟ ثم يعمل بسائر الفرائض، كذلك يوفي كل فرض من جنسه من النفل؛ فإذا كانت النوافل في السهو والتقصير كالفرائض أو لم يوجد نوافل فكيف يكون حاله في الحساب؟ وكان ابن عباس يفسر قوله تعالى كلا لما يقض ما أمره قال: يعني به الكافر، لأن عنده أنّ كل موضع في القرآن يذكر به الإنسان خاصة أنه يعني به الكافر، وقد قال الله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) البقرة: 286 يعني طاقتها، وقال سبحانه وتعالى مخبراً عن المؤمنين: (وَلاَ تُحَمِّلْنا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) البقرة: 286، في التفسير قد فعلت؛ وفي هذه المسألة اختلاف وشبهة، والصواب من ذلك أنّ الله عزّ وجلّ لا يكلف المؤمنين خاصة ما لا طاقة لهم به، فهم مخصوصون بذلك فضلاً من الله تعالى ونعمة آثرهم بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 على الكافرين، إذ له أنّ يؤثر بعض عباده على بعض لأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، وهذا مفهوم من دليل الخطاب من قوله: لا تحملنا ما لا طاقة لنا به أن له تعالى أن يحمل الكافر ما لا طاقة له به عدلاً منه وحكمة، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدلَ لِكَلِمَاتِهِ) الأنعام: 115، قيل: صدقاً للمؤمنين وعدلاً على الكافرين، قال الله تعالى مخبراً عن إخوة يوسف: (تَالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا) يوسف: 91 فهذا نص في الإيثار لبعض خلقه على بعض، ثم رأيت تصديق ما ذكرته عن ابن عباس رواها إسماعيل عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الأعراف: 42، يعني إلاّ طاقتها من العمل لأن الله تعالى افترض على المؤمنين أعمالاً يطيقونها، ولم يفترض عليهم ما لا يطيقون، هذا نقل لفظ ابن مسعود في تخصيص المؤمنين، كما ذكرناه آنفاً، ويقول أيضاً في تفصيل هذه المسألة: للزائغين فيها تعلق ابتغاء التآويل أنّ الله تعالى كلّف العباد ما لا يطيقونه إلا به لافتقارهم إليه وعدم استغنائهم عنه في كل حركة وسكون، إذ لا مشيئة لهم دون مشيئته ولا استطاعة إلاّ بتوفيقه ولا حول ولا قوة إلاّ به، ألم تسمع إلى قوله تعالى في وصف الكافرين: (مَا كَانُوا يَسْتَطيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) هود: 2،، وقال تعالى في مثله: (وَكَانُوا لاَ يَسْتَطيعُونَ سَمْعاً) الكهف: 1، 1، وقال فيمن استطاع به إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت. وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلّى كما أمر غفر له ما تقدّم من ذنبه، وقد يروى في خبر: يقول الله تعالى: ليس كل مصلٍّ أتقبّل صلاته إنما أتقبّل صلاة من تواضع لعظمتي وخشع قلبه لجلالي، وكفّ شهواته عن محارمي، وقطع ليله ونهاره بذكري، ولم يصر على معصيتي، ولم يتكبّر على خلقي، ورحم الضعيف، وواسى الفقير من أجلي، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلم له نوراً يدعوني فألبّيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم عليّ فأبره، أكلؤه بقوّتي وأباهي به ملائكتي، لو قسم نوره عندي على أهل الأرض لوسعهم، مثله كمثل الفردوس لا يتسنّى ثمرها ولم يتغير حالها، وفي الخبر: كم من قائم حظه من قيامه السهر والتعب، ومن صلّى صلاة وراء إمام فلم يدر ماذا قرأ فهو نهاية السهو، فإنه تارك الأمر للاستماع فيخاف عليه مجانية الرحمة لأن الله تعالى ضمن الرحمة بشرطين: الاستماع والإنصات، وقال سبحانه في المعنيين: (وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرَحَمُونَ) الأعراف: 204 وقال تعالى: (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) الأحقاف: 29، وروينا في خبر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى صلاة فترك في قراءته، فلما انفتل قال: ماذا قرأت؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فسكت القوم، فسأل أبيّ بن كعب فقال: قرأت سورة كذا وتركت آية كذا فما أدري أنسخت أم رفعت، فقال: أنت لها يا أبيّ، ثم أقبل على الآخرين فقال: ما بال أقوام يحضرون صلاتهم ويتمّون صفوفهم ونبيهم بين أيديهم، لا يدرون ما يتلو عليهم من كتاب ربهم إلاّ أنّ بني إسرائيل كذلكم فعلوا، فأوحى الله إلى نبيهم أن قل لقومك تحضروني أبدانكم وتعطوني ألسنتكم وتغيبون عني قلوبكم باطلاً ما تذهبون. وقال بعض علمائنا: إنّ العبد يسجد السجدة عنده أنه يتقرب بهما إلى الله عزّ وجلّ، ولو قسمت ذنوبه في سجدته على أهل مدينته لهلكوا، قيل: وكيف يكون ذلك يا أبا محمد؟ قال: يكون ساجداً عند الله وقلبه مصغ إلى هوى، ومشاهد لباطل قد استولى عليه، وهذا كما قال لأن فيه انتهاك حرمة القرب وسقوط هيبة الرب تعالى، واعلم أنّ طول الصلاة عليك غفلة وقصرها سهو لأنها إذا طالت عليك دلّ على عدم الحلاوة ووجود الثقل بها وكبرها على جوارحك، وإذا قصرت عليك وخفّت دلّ على نقصان حدودها ودخول الغفلى والسهو فيها، فالنسيان قصرها، والاستقامة في الصلاة أن لا تطول عليك لوجود الحلاوة، ولذة المناجاة، وحسن الفهم، واجتماع الهمّ، ولا تقصر عليك لتيقظك فيها، ورعايتك حدودها، وحسن قيامك بها؛ وهذه مراقبة المصلين ومشاهدة الخاشعين. ذكر أحكام الخواطر في الصلاة وما ذكر به العبد في الصلاة من الخير فليسارع إلى فعله فذلك من أحبّ الأشياء إلى الله تعالى لأنه أذكره إياها في أحبّ المواطن إليه، وما ذكر به من المكروه والممقوت إليه من المعتاد والمستأنف فليجتنبه؛ فإنه هو الذي يبعده من قرب الله سبحانه وتعالى، وتذكيره إياه في محل القرب، توبيخاً له وتقريراً، وقد يكون عتباً وتنبيهاً، فترك ذلك مما يقرب إلى الله تعالى، ويدل على حسن الاستجابة له؛ وهو مسلك طريقه إلى الله تعالى وما خطر به من خاطر تمنٍّ أو هوى أو ذكر بهمة ما يأتي أو ما قد مضى، فإنّ ذلك وسوسة إليه من عدوه حسداً له ليقطعه بذلك عن وقوف قلبه عند كل ركن من أركان الصلاة ويشغل قلبه عن الوقوف في المناجاة، بما يضرّه عما ينفعه ليحرمه بذلك أن يشهد عند كل ذكر من أذكار الصلاة ما يوجبه الذكر من تدبير أو تعظيم أو حمد أو دعاء أو استغفار، وإن خطر بقلبه أمر معاشه وتصريف أحواله وتدبير شأنه من المناجاة، فذلك من قبل النفس وفكرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 بما توسوس به من أمور الدنيا، فأما إن خطرت همة محظورة أو فكرة في معصية مأزورة؛ فهذا هو الهلاك والبعد، يكون عن وصف النفس الأمارة باستحواذ العدوّ المغوي؛ فهو علامة الإبعاد، والحجاب دليل المقت، والإبعاد والإعراض، فإذا ابتلي في صلاته بهذه المعاني فقد اختبر بذلك فعليه أن يعمل في نفيه مع نفس بدوّه، ولا يمكنه من الظهور من قلبه فيملكه، ولا يصغي إليه بعقله فيستولي عليه، ولا يحادثه ولا يطاوله فيخرجه من حدّ الذكر واليقظة إلى مسامرة الجهل والغفلة، وكل عمل محظور فالهمة به محظورة وفيه نقص، وكل عمل مباح فالهمة به مباحة ونفيها فضيلة، وما خظر على قلبه من الخيرات المتأخر فعلها فليعقد النية بذلك، فإنه قد ذكر به وأريد منه، ثم ليمض في صلاته ولا يشتغل بتدبيره؛ كيف يكون؟ ومتى يكون؟ أو كيف أكون فيه؟ وعنده إذا كان فيفوته الإقبال في الحال بتدبير شأنه في المآل؛ وهذا هو استراق من العدوّ عليه وإلقاء من خدوعه إليه، فإن جاهد هذا المصلّي نفسه عن مسامرة الفكر وقابل عدوّه في قطع وسوسة الصدر، كان مجاهداً في سبيل الله تعالى، مقاتلاً لمن يليه من أعداء الله تعالى، له أجران: أجر الصلاة للتقرب إلى الكريم، وأجر المصارمة والمحاربة لعدوّه الرجيم. وقد كان الأقوياء من المؤمنين، أهل الغلظة على الأعداء والتمكين، إذا ابتلوا بداخل يدخل عليهم في الصلاة من الأسباب، يخرجهم عن المشاهدة فيها عملوا في قطع ذلك الشيء وإبعاده من أصله، إذ كان سبب قطعهم وإبعادهم من قربهم، فيستخرج بإدخال ذلك عليهم إخراجهم من الدنيا؛ وهو الزهد فيها، فيكون ذلك إحساناً من الله إليهم ومريداً منه لهم؛ وهذا أحد ما زهد لأجله الزاهدون في الدنيا لتصفو قلوبهم من الأسباب فتخلص أعمالههم من الوسواس بالاكتساب ومن ذلك ما بلغنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نزع الجبة التي كانت عليه في الصلاة لما نظر إلى علمها وقال: ألهتني هذه في الصلاة يعني شغلتني، ونظر إلى شراك نعله في الصلاة وكان جديداً، فأمر أن ينزع منها ويعاد لها الشراك الخلق، وكان قد احتذى نعلاً فأعجبه حسنها فسجد وقال: تواضعت لربي كيلا يمقتني، ثم خرج بها فدفعها إلى أوّل سائل لقيه، ثم أمر عليّاً أن يشتري له نعلين سبتيين جرداوين فلبسهما. وكان الضعفاء من المؤمنين يعملون في نفيه وترك مساكنته ومحادثته في الحال لقوادح اليقين في إيمانهم ولسرعة التيقظ في قلوبهم؛ لأن الآفات تدخل من مكان الهوى وتمكّن الأعداء، ومكان الهوى وقوّة العدوّ لطول الغفلة وعدم حلاوة الطاعة لاتساع النفس في الشهوات وقوة سلطانها على الصفات واتساع النفس وقوة صفتها لضيق القلب، وضعف اليقين إذ لو قوي يقين العبد لانشرح صدره ولأطفأ نور يقينه ظلمة هواه، ولاندرجت النفس في القلب اندراج الليل في النهار، ولأسقط مكانه من الشهادة تمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 أعدائه والعادة، ولعلم يقيناً أنّ ما هو فيه من الذكر والصلاة أنفع له وأحمد عاقبة مما تفكر فيه من عاجل دنياه، فيشتغل حينئذ بما هو فيه له من الذكر عمّا هو عليه من سوء الفكر، وليس بعد هذين المقامين حال ينعت ولا يمدح بشيء، وما قدح في قلبه من فهم الخطاب وتدبر معاني الكلام والإيقان على المقصد والمراد فهو تعليم من الله تعالى وتوقيف وتنبيه منه وتعريف؛ وهذا مزيد التلاوة وعلامة الإخلاص في المعاملة وبركة التدبر، دليل القبول والشكر لحسن الخدمة، فليأخذ من ذلك ما عفا ويغترف منه ما صفا، ولا ينتظره ولا يتمناه ولا يتبعه بعد انصرافه بالفكر في معناه، فيسترق العدوّ عليه السمع ويلقي إليه الوسوسة ويطمع فيه بالغرة ويدخل عليه من باب الأمنية، لأنه قد قرن الأماني بالإضلال؛ فهي مواعيد الكذب للإبطال، ألم تسمع إلى ربك تعالى كيف أخبرك عنه في قوله تعالى: (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمنِّيَنَّهُمْ) النساء: 119، ثم قال في مثله: (وَعِدْهُمْ وَشَارِكْهُمْ في الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً) الإسراء: 64، ثم استثنى عباده المسلطين عليه بسلطانه، الغالبين له بآياته، فلم يصل العدو إليهم لمواصلته لهم وتوكّلهم عليه بوكالته إياهم، تنتظم هذه المعاني في قوله تعالى: (إنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكيلاً) الإسراء: 65، وقوله تعالى: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَن اتَّبَعَكُما الغَالِبُونَ) القصص: 35، مع قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلى الَّذينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) النحل: 99. وللعبد في التفكّر والتدّبر لما يستقبل من كل كلمة شغل عمّا فات مما كان عمله، وله في الشغل في الحال اقتطاع بما قد فهمه وما فهمه من غير ما يتلوه فاستدل به على ما سواه مما يعينه ويحتاج إليه؛ فهي أبواب من الفطنة تفتح له فيكون التكلم مفتاحها، ثم يخرج العبد إلى سواها مما هو له أصلح أو عليه أوجب، فليعرف بذلك ما عرف وليقف من ذلك على ما عليه وقف وما تفكر فيه من غير تدبر التلاوة، أو شغل به من غير فهم المتلوّ فهو حجاب له من الفهم وقطع له عن خالص العلم فليقطع ذلك، والتمام في التلاوة أن يتدبر التالي باطن الكلام، ويتفكرّ في غوامض الخطاب، ويوقف قلبه على معاني المراد، ويعمل فكره في تذكر الموصل والترداد، فإن الكلام عزيز من عزيز، ولطيف من لطيف، وحكيم من حكيم، وعلى من على ظاهره سهل قريب، وباطنه بحر عميق، يقول السامع إذا عقله قد فهمته، لتجلي فحواه، فإذا شهده كأنه ما سمعه لدقيق معناه يحسب العاقل أنه قد عرفه لظهور بيانه وتفصيل حكمته، فإذا عرف المتكلم به كأنه ما عقله لعمق بحاره وسعة أقطاره قد اغترّ به قوم لما سمعوا بيانه فادّعوا أنهم يحسنونه، وخدع به آخرون لما عقلوا أمثاله فطلبوا غيره وسألوا أبداله، وأصغى آخرون إلى سمعه فادّعوا فهمه فأكذبهم الصادق، وعزلهم عن سمعه، ثم أخبرنا بجميع ذلك عن جهلهم، وعجبنا من جراءتهم، فقال في وصف الأولين: ( الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذا) الأنفال: 31، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) يونس: 15. وقال في نعت الآخرين: (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) الشعراء: 223، (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) الشعراء: 212، (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) الأنفال: 21، ثم وصف من أسمعه إياه وأفهمه معناه من الجنّ الذين هم أسد قوة من الأنس وأعظمهم وصفاً فقالوا: (إنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) الجنّ: 1 (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) الجنّ: 2، فهؤلاء ممن عقله فمدحم بفهمه وأخبر عن صاحب التنزيل بمثله فقال: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسخرُونَ) الصافات: 12، أي عجبت من القرآن وتفصيله وتنزيله، ويسخر منه الجاهون، فإن فتح للتالي بالتلاوة عين نفس المتلّو باب الفكر في معاني العظمة والقدرة، وكشف له بواسطة الكلام مشاهدة ما كان علمه من وعد الآخرة وعيدها فله أجران، من حيث كان منه عملان: الفكرة والصلاة، وهذا كله لعموم المؤمنين مزيد، وهو بذلك للخصوص من المقرّبين دون ذلك إلاّ ما وجهوا به من طوالع الغيوب، وأطلعوا عليه من مطالع سرائر المحبوب، فكوشفوا به من بوادي اليقين من العزة والجبروت والإجلال والرهبوت، فأهجم عليهم من غير تفكّر منهم ولا تدّبر مما استعملهم به، واضطرهم إلى مشاهدته، القدير، فأخرس ألسنتهم عن المقال، وعقم عقولهم عن المجال، وأغنى قلوبهم عن الطلب، ولم يوكل إلى فكرهم بنظر إلى سبب، بل من غير تعمّل منهم لتكييفه ولا روية ولا اختيار لماهيته، ثم يجاوزونه إذا أخذ منهم حقه وأدركوا به نصيبهم إلى العالم الأكبر، فيقفون بين يديه ويحطون عنده، ولا يقفون مع المشاهدة طرفة عين، ولا يسكنون إليها خطرة قلب لئلا يقطعهم البيان عن المبين، ولا يشغلهم الخبر عن اليقين، ولا يحجبهم الشهادة عن الشهيد ولا يحسبهم البادئ العائد عن المبدئ المعيد؛ بل قد أشرف بهم على المراد فأسقط عنهم التشرّف وأذهلهم عن الاعتراف والتعريف بما ناداهم به من التعرّف، واقتطعهم العيان فأغناهم عن الانقطاع، وتقطعوا بالمفصل فأنساهم الانتفاع، وتوصّلوا بالموصل فأطلعهم عليه، وكان لهم حاملاً إليه ودليلاً أمامهم منه عليه؛ وهذه صفة الأقوياء بالقوى، الأغنياء بالغنى، الواجدين للموجد، الفاقدين للموجد، الذاكرين بذاكر، الصابرين بصابر ولا ينبغي للمصلي أن يدخل في صلاته حتى يقضي نهمته، ويفرغ من حاجته، ولا يبقى عليه ما يزعج قلبه ويفرّق همّه ليفرغ قلبه في صلاته، ويجتمع همّه في وقوفه، ويصحو عقله لفهمه، ويواطئ قلبه قيله ويقبل على المقبل عليه بمعقوله؛ وهذا يؤمر به القضاء عن مجاهدة الأعداء والمرضى عن مسابقة الأولياء. وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن القويّ أحبّ إلى الله تعالى من المؤمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 الضعيف، وفي كل خير، وقد قال الله تعالى: (لاَ يَسْتَوي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنينَ غَيْرُ أُولي الضَرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ في سَبيلِ اللهِ) النساء: 95، إلى قوله: (فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدينَ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدينَ دَرَجَةً) النساء: 95، مع قوله: (وَكُلاًّ وَعَد اللهُ الحُسْنَى) النساء: 95. شرح ثالث ما بني الإسلام عليه وهو الزكاة كتاب الزكاة فأما فرائض الزكاة فأربع: الحرية، وصحة الملك، ووجود النصاب؛ وهو مائتا درهم وعشرون ديناراً، واستكمال الحول وهو من شهر إلى مثله. ذكر فضائل الصدقة وآداب العطاء وما يزكو به المعروف ويفضل به المنفقون روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ليس في المال حقّ سوى الزكاة، وأنّ جماعة من التابعين كانوا يذهبون إلى أنّ في المال حقوقاً غير الزكاة، منهم: إبراهيم النخعي، قال: كانوا يرون أنّ في المال حقوقاً سوى الزكاة؛ ومنهم: الشعبي سئل: أفي المال حقّ سوى الزكاة؟ قال: نعم، أما سمعت قوله تعالى: (وَآتَىْ المَالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُربى) البقرة: 177 الآية، ومنهم: عطاء ومجاهد، وقد كان المسلمون يرون المساواة والفرض والقيام بمؤن العجزة من أنفسهم وأهلهم من المعروف والبرّ والإحسان، وأنّ ذلك واجب على المتّقين وعلى المحسنين من أهل اليسار والمعروف، وكذلك مذهب جماعة من أهل التفسير أنّ قوله عزّ وجلّ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) البقرة: 3، وقوله: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) البقرة: 254، مأمور به، وأنّ ذلك غير منسوخ بآية الزكاة، وأنه داخل في حقّ المسلم على المسلمين، وواجب بحرمة الإسلام ووجود الحاجة، فمن فضائل الزكاة وأن يخرجها في أول ما تجب عليه، وأن يقدمها قبل وجوبها، إذا رأى لها موضعاً يتنافس فيه، ويغتنم خوف فوته من غاز في سبيل الله عزّ وجلّ، أو في دين مطالب، أو جهاد وغزو، أو إلى رجل فقير فاضل طرأً في وقته، أو أنّ سبيل غريب كان تقدمتها إلى هؤلاء وأمثالهم أفضل وأزكى، لأنه من المسارعة إلى الخير، ومن المعاونة على البرّ والتقوى، وداخل في التطوّع بالخير وفعله الذي أمر به، ولا يأمن الحوادث إذ في التأخير آفات، وللدنيا نوائب وعوائق، وللنفس بدوات، وللقلوب تقليب، وإنّ جعل رأس الحول أحد الشهرين كان أفضل، فإنّ في هذين خاصية من الفضائل ليست الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 في غيرهما، فأما شهر رمضان فإن الله تعالى خصّه بتنزيل القرآن وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وجعله مكاناً لأداء فرضه الذي افترضه على عباده من الصيام وشرّفه بما أظهر فيه من عمارة بيوته بالقيام. وقد كان مجاهد يقول: لا تقولوا رمضان فإنه اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان، وقد رفعه إسماعيل بن أبي زياد فجاء به مسنداً وأما ذو الحجة فإنّا لا نعلم شهراً جمع خمس فضائل غيره؛ هو شهر حرام وشهر حج وفيه يوم الحج الأكبر وفيه الأيام المعلومات؛ وهي العشرة، والأيام المعدودات: وهي أيام الشريق التي أمر الله تعالى بذكره فيها، وأفضل أيام في شهر رمضان العشر الأواخر، وأفضل أيام في شهر الحجة العشر الأُوَل، وقد استحب بعض أهل الورع أنّ يقدم في كل سنة بشهر لئلا يكون مؤخراً عن رأس الحول، لأنه إذا أخرج في شهر معلوم ثم أخرج القابل في مثله، فإن ذلك الشهر يكون الثالث عشر؛ وهذا تأخير، فقالوا: إنه إذا أخرج في رجب فليخرج من القابل في جمادى الآخرة ليكون آخر سنته بلا زيادة، وإذا أخرج في رمضان فليخرج من قابل في شعبان على هذا لئلا يزيد على السنة شيئاً؛ وهذا أحسن، وليتق أن يكون مخرجاً للفرض في كل شهر، ثم أن يخرجها طيبة بها نفسه، مسروراً بها قلبه، مخلصاً لربه، مبتغياً بها وجهه لغير رياء ولا سمعة ولا تزيّن ولا تصنّع، لا يحبّ أن يطلع عليها غير الله عزّ وجلّ، ولا يرجو في إعطائها ولا يخاف في منعها سواه، وليكن ناظراً إلى الله تعالى، عارفاً بحسن توفيقه له، وأن يعتقد فضل من يعطيه من الفقراء عليه ولا ينتقصه بقلبه ولا يزدريه، وليعلم أنّ الفقير خير منه، لأنه جعل طهرة وزكاة ورفعة ودرجة في دار المقام والحياة، وأنه هو قد جعل سخرة للفقير وعمارة لدنياه، كما حدثنا بعض العارفين قال: أريد مني ترك التكسب وكنت ذا صنعة جليلة، فجال في نفسي من أين المعاش؟ فهتف بي هاتف: لا أراه تنقطع إلينا وتتهمنا فيك علينا، أن نخدمك وليّاً من أوليائنا، أو نسخّرلك منافقاً من أعدائنا، وأن يسرّ ذلك إلى الفقير سرّاً ولا يذكر ذلك، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: (لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأَذَى) البقرة: 264، قال: المنّ أن تذكرها، والأذى أن تظهرها، وحدثت عن بشر بن الحارث قال: قال سفيان: من منّ فسدت صدقته، قيل: كيف المنّ يا أبا نصر؟ قال: أن تذكره أو تحدث به، وبعضهم يقول: المنّ هو أن تستخدمه بالعطاء، والأذى أن تعيّره بالفقر وقيل: المنّ أن يتكبر عليه لأجل أن يعطيه، والأذى أن تنهره أو توبخه بالمسألة، وفي الحديث: أفضل الصدقة جهد المقلّ إلى فقير في سرّ، وقال بعض العلماء: ثلاثة من كنوز البرّ منها: إخفاء الصدقة، وقد روينا مسنداً من طريق؛ وذلك أسلم لدينه وأقلّ لآفاته وأزكى لعمله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وقد روينا في الخبر: لا يقبل الله من مسمع ولا مراءٍ ولا منّان، فجمع بين المنّة والسمعة، كما جمع بين السمعة والرياء وردّ بهن الأعمال؛ فالمسمع الذي يتحدث بما صنعه من الأعمال ليسمعه من لم يكن رآه، فيقوم ذلك مقام الرؤية، فسوّى بينهما في إبطال العمل لأنهما عن ضعف اليقين، إذ لم يكتف المسمع بعلم مولاه، كما لم يقنع المرائي بنظره فأشرك فيه سواء وألحق المنّان بهما لأن في المنة معناهما من أنه ذكره فقد سمع غيره به، أو رأى نفسه في العطاء ففخر به وأدّاه سرّاً، فإن أظهره نقل من السرّ وكتب في العلانية، فإن تحدث به محي من السرّ والعلانية فكتب رياء، فلو لم يكن في إظهار الصدقة مع الإخلاص بها إلاّ فوت ثواب السرّ لكان فيه نقص عظيم، فقد جاء في الأثر: تفضّل صدقة السرّ على صدقة العلانية سبعين ضعفاً، وفي الحديث المشهور: سبعة في ظل عرش الله تعالى يوم القيامة يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: أحدهم رجل تصدّق بصدقة فلم تعلم شماله ما أعطت يمينه، وفي لفظ آخر: فأخفى عن شماله ما تصدّقت به يمينه؛ وهذا من المبالغة في الوصف وفيه مجاوزة الحدّ في الإخفاء، أي يخفي من نفسه فكيف غيره؟ وقد تستعمل العرب المبالغة في الشيء على ضرب المثل والتعجّب وإن كان فيه مجاوزة للحدّ، من ذلك أنّ الله عزّ وجلّ ذّم قوماً ووصفهم بالبخل وبالغ في وصفهم فقال تعالى: (أَمْ لَهَمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) النساء: 53، والنقير لا يريده أحد ولا يطلبه ولا يعطاه، لأنه هو النقطة التي تكون على ظهر النواة، منه منبت النخلة وفيه معنى أشدّ من هذا وأغمض أنه لما قال: فأخفى عن شماله، كان لهذا القول حقيقة في الخفاء فهو أن لا يحدّث نفسه بذلك ولا يخطر على قلبه، وليس يكون هذا إلاّ أن لا يرى نفسه في العطاء أصلاً ولا يجري وهم ذلك على قلبه، كما يقول في سرّ الملكوت: إنّ الله تعالى لا يطلع عليه إلاّ من لا يحدّث نفسه به، بمعنى أنه لا يخطر على قلبه، ولا يذكره، ولا يشهد نفسه فيه شغلاً عنه بما اقتطع به، وبأنه لا يباليه؛ فعندها صلح أن يظهر على السرّ، فإن لم يمكنك على الحقيقة أن تخفي صدقتك عن نفسك فاخف نفسك فيها، حتى لا يعلم المعطى أنك أنت المعطي؛ وهذا مقام في الإخلاص، فإن أظهرت يدك في الإعطاء فاخفها سرّاً إلى المعطي؛ هذا حال الصادق، فقد كان بعض المخلصين يلقي الدرهم بين يدي الفقير، أو في طريقه، أو موضع جلوسه، بحيث يراه وهو لا يعلم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 صاحبه، وبعضهم كان يصرّ ذلك في ثوبه وهو نائم فلا يعلم من جعله، وقد رأيت من يفعل ذلك، فأما من كان يوصل إلى الفقير على يد غيره ويستكمه شأنه فلا يحصى ذلك من المسلمين. وفي الخبر: صدقة السرّ، وقيل صدقة الليل، تطفئ غضب الرب تعالى، وقد أخبر الله تعالى أنّ الإخفاء أفضل، ومعه يكون تكفير السيّئات، فقال سبحانه وتعالى: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) البقرة: 271، فإن أظهر مسكين نفسه، وكشف نفسه للسؤال، وآثر التبذل على الصون والتعفّف؛ فلا بأس أن تظهر معروفك إليه، فإن أظهرت زكاتك إرادة السّنة، والافتداء بك، والتحريض على مثل ذلك من غيرك لينافسك فيه أخوك، فيسرع إلى مثله أمثالك منهم فحسن؛ وذلك من التحاض على إطعام المسكين، وقد ندب الله إليه وقد قيده في قوله تعالى: (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرَّاً وَعَلانِيَةً) الرعد: 22، قيل سرّاً التطوّع، وعلانية الصدقة المفروضة، وكذلك قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً) المزمل: 2،، القرض الحسن هو التطوّع، وقد قيل الحلال، كما قال: (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رزْقاً َحسَناً) هود: 88 أي حلالاً، وقد قال تعالى: (إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) البقرة: 271، فمدح المبدي بنعم إلاّ أنّ ذلك لا يحسن إلاّ إلى من أبدى نفسه كأنه هذا السائل الذي يسأل بلسانه وكفّه، وقوله تعالى: (وَإنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ) البقرة: 271 الآية، كأنها للمستخفف بالمسألة وهي لخصوص الفقراء لا يظهرون نفوسهم بما يمنعهم الحياء والتعفّف، فمن أظهر نفسه فأظهر إليه، ومن أخفاها فأخفي له، ومن ذلك كشف عورة الفاسق: إنما حرم عليك أن تظهر عورة من يخفي عنك نفسه ويستتر، فإذا أظهر نفسه بها وأعلن فلا بأس أن يظهر عليه كما جاء في الخبر: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له، وينبغي أن يجعل صدقته من أفضل ما يحبه من المال، ومن جيد ما يدخر ويقتني وتستأثر به النفوس، فيؤثر مولاه به كما أمره، وضرب المثل له فقال: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) البقرة: 267 ثم قال: (وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخِبيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) البقرة: 276، وقال في ضرب المثل بالعبيد: ولستم بآخذيه إلاّ أن تغمضوا فيه، أي لا تقصدوا الرديء فتجعلوه لله تعالى، ولو أعطى أحدكم ذلك لم يأخذه إلاّ على أغماض أي كراهية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وحياء، ولا يجعل ما لله تعالى دون ما يستجيد لنفسه، أو ما يكره أن يقتنيه لعاقبته أو يأخذه من غيره، أو مالا يستحسن أن يهديه لنبيل من العبيد، فتكون قد آثرت نفسك أو عبداً مثلك على مولاك فإن هذا من سوء الأدب ولا يقوم سوء أدب واحد في معاملة بجميع المعاملات. وقد روي في معنى قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً) البقرة: 245، قال: طيّباً، فإن الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً، وفي حديث أبان عن أنس: طوبى لعبد أنفق من مال اكتسبه من غير معصية، وفي الخبر: سبق درهم مائة ألف درهم، وقد تهدد الله تعالى قوماً جعلوا له ما يكرهون ووصفت ألسنتهم الكذب أنّ لهم الحسنى لا جرم فأكذبهم في قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لله مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ ألسِنَتُهُمُ الكَذِبَ أنَّ لَهُمُ الحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) النحل: 62، أي حقاً لهم النّار، وفي الآية وقف غريب لا يعلمه إلاّ الحذّاق من أهل العربية تقف على لا فيكون نفياً لوصفهم أنّ لهم الحسنى، ثم يستأنف بجرم أنّ لهم النار، أي كسب لهم جعلهم لله ما يكرهون النار، أي بجرمهم واكتسابهم، وإذا دعا لك مسكين عند الصدقة فأردد عليه مثل دعائه حتى يكون ذلك جزاء لقوله: وتخلص لك صدقتك وإلاّ كان دعاؤه مكافأة على معروفك، فقد كان العلماء يتحفظون من ذلك وهو أقرب إلى التواضع، ولا نرى أنك مستحق لذلك منه لما وصلته به، لأنك عامل في واجب عليك لمعبودك أو توفي للمعطي رزقه وما قسم له من تعبدك بذلك، وكانت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما إذا أرسلتا معروفاً إلى فقير قالتا للرسول: احفظ ما يدعو به ثم يردّان عليه مثل قوله، ويقولان: حتى تخلص لنا صدقتنا، وفعل ذلك عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما، ولا ينبغي أن تقتضي من الفقير الدعاء لك، أو تطالبه بذلك، أو تحبّ منه الثناء والمدح على ذلك، فإنه ينقص من الصدقة، وإذا كثر منك وقوي أحبطها، وإن كان عليه أن يدعو لك ويثني به عليك فإنما يعمل فيما تعبده مولاه به، وأمره به فلا يرى ذلك من حقك عليه، وإذا وصلت إلى الفقير معروفاً فبحسن أدب ولين جانب ولطف كلام وتذلل وتواضع. وقد كان بعض الأدباء إذا أراد أن يدفع إلى فقير شيئاً بسط كفّه بالعطاء لتكون يد الفقير هي العليا، وبعضهم كان يضعها بين يديه على الأرض، ويسأله قبولها منه ليكون هو السائل، ولا يناوله بيده إعظاماً له؛ وهذا يدل على معرفة العبد بربه وحسن أدبه في عبادته، ومن أحبّ الثناء والذكر على معروفه كان ذلك حظه منه وبطل أجره، وربما كان عليه فضل من الوزر لمحبته الذكر والثناء فيما لله تعالى أن يفعله، وفي رزق الله لعبده الذي أجراه على يده، فإن تخلّص سواء بسواء فما أحسن حاله واستحب للفقير أن يخصّ ذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 المعروف إليه بدعوات شكراً لما أولاه وتأدّباً وتخلقاً بفعل مولاه، لأنه قد جعله سبباً للخير وواسطة للبرّ إذ الله سبحانه وتعالى يشهد نفسه بالعطاء، ثم قد أثنى على عبده وشكر له في الإعطاء، فليقل طهّر الله قلبك في قلوب الأبرار، وزكّى عملك في عمل الأخيار، وصلّى على روحك في أرواح الشهداء؛ فذلك هو شكر الناس، والدعاء لهم، وحسن الثناء عليهم، ومن شكرهم أيضاًِ أن لا يذمهم في المنع، ولا يعيبهم عند القبض. فذلك تأويل الخبر: من لم يشكر الناس لم يشكر الله تعالى فإن فيه إثبات حكم الأواسط، واستعمال حسن الأدب في إظهار النعم والتخلّق بأخلاق المنعم، لأنه أنعم عليهم ثم شكر لهم كرماً منه، وكذلك في الخبر: العبد الموقن يشهد يد مولاه في العطاء، فحمد ثم شكر للمتّقين، إذ جعلهم مولاه سبب حمده، وطرقاً لرزقه. في الخبر: من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه، فأما شكر الله تعالى على العطاء فهو اعتقاد المعرفة أنه من الله تعالى، لا شريك له فيها، والعمل بطاعته بها، ومن فضل الصدقة أن يقصد بها الفقراء الصالحين الصادقين من أهل التصوّف والدين، ممّن يؤثر التستّر والإخفاء، ولا يكثر البث والشكوى، وممّن فيه وصف من أوصاف الكتاب للفقراء، الذين أحصروا في سبيل الله، أي حبسوا في طريق الآخرة لعيلة، أو ضيق معيشة، أو إصلاح قلب، أو قصور يد، لا يستطيعون ضرباً في الأرض، لأنهم مقصوصو الجناح، إذ المال للغني بمنزلة الجناح للطائر بماله حيث شاء من البلاد وينبسط في شهواته كيف شاء من المراد، والفقير محصور عن ذلك لا يستطيعه لقبض يده وقد رزقه، ومن هذا قوله تعالى: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَاري سَوْءَاتِكُمْ وَريشاً) الأعراف: 26، قيل: المال، وقيل: المعاش، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف، فسمّى الله تعالى من لا يعرفهم بالفقر ولا يشهد وصفهم بالتقلّل، لظهور تعففهم عن المسألة، جاهلاً بوصف المؤمنين، ثم وكّد وصفهم وأظهر للخلق تعريفهم بياناً منه، وكشفاً لحالهم، إذ ستروها بالعفة، فقال: تعرفهم بسيماهم فالسيما هي العلامة اللازمة والخليقة الثابتة دون التحلي واللبسة الظاهرة، لا يسألون الناس إلحافاً، أي بهذه العلامة أيضاً تعرفهم إن أشكلوا عليك، فإنهم لا يسألون عفة وقناعة إلحافاً، لا يلتحفون بالأغنياء ولا يلاحفون أهل الدنيا تملّقاً وضراعة؛ أي هم منفردون بأحوالهم، أغنياء بيقينهم، أعزّة بصبرهم، والإلحاف مشتق من اللّحاف الذي يلتحف به فيلزم الجسم، فقال: ليسوا ممن يفعل ذلك، لا يلتحفون الأغنياء كاللحاف ولا يلتحفون المسألة إلزاماً كالصنعة، كما يلتحف بالثوب، فاحرص أن يكون معروفك فيمن فيه هذه الأوصاف أو بعضها، فيزكو عملك ويشكر فعلك، والأفضل في المعروف أن يؤثر الرجل إخوانه من الفقراء على غيرهم من الأجانب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 فقد روي عن علي رضي الله عنه: لأَن أصلَ أخاً من إخواني بدرهم أَحبّ إلي من أن أتصدّق بعشرين درهماً، ولأَن أصلَه بعشرين درهماً أَحبّ إليّ من أن أتصدّق بمائة درهم، ولأَن أصلَه بمائة درهم أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة، ولأنّ الله تعالى ضمّ الأصدقاء إلى الأقارب فكان فضل الصدقة على الأقارب دون البعيد كفضل الصدقة على القربة دون الأباعد، لأنه ليس يعد صلة الرحم في معناها أفضل من صلة الإخوان، وكان بعض السلف يقول: أفضل الأعمال صلة الإخوان وليقصد ببرّه من إذا دفع إليه العطاء حمد الله تعالى وشكره، ورأى النعمة منه، ولم ينظر إلى واسطة في نعمة، فإن هذا أشكر العباد لله تعالى لأن حقيقة الشكر لله بشهود النعمة منه والإخلاص بحسّ المعاملة له، وأن لا يشهد في النعمة بالعطاء والنعمة بالعمل الصالح سواه. وفي وصية عليّ رضي الله تعالى عنه: لا تجعل بينك وبين الله تعالى منعماً، وأعدد نعمة غيره عليك مغرماً، فليقدم مثل هذا على من لو أعطاه ورزقه أثنى عليه ومدحه وشهده فيه فحمده، فيكون قد حمد غير الذي أعطاه، ونظر إلى سواه، وذكر غير الذي ذكره بالعطاء، لأنّ الذي يحمد الله ويشكره ويثني عليه برزقه ويذكره يرى أنّ الله سبحانه وتعالى هو المنعم المعطي، فينظر إليه من قرب؛ فيقين هذا بالله أنفع لصاحب المعروف عند الله من دعاء الآخر المثنى، لأنه كان سبباً لنفع موقن فيكون واضعاً للشيء في حقيقة موضعه، ومدح الآخرة ودعاؤه له لأجل أنه يراه هو المعطي فينظر إليه فيمدحه، فضعف يقين هذا بربه أشّد على المنفق من دعائه له، إن كان ناصحاً لله تعالى في خلقه ولخلق الله تعالى فيه، إلاّ أن لا ينصح لمولاه لغلبة هواه على تقواه، وجهله بعائد النفع له في عقباه، فنقص هذا حينئذ بمقامه من التوحيد أعظم من زيادته بصدقته، على أنه لا يؤمن الاستشراف من الآخر إليه، والاعتياد منه، والطمع فيه، بكلام يحبط عمله، وأيضاً فإنه إذا رآه في العطاء فإنه يراه عند المنع فيذمه ويقع فيه، فيكون هو سبب حمله عليه، وهو آمن مطمئن لهذا كله مع الموقن المشاهد، وفي الخبر أن الصدقة تقع بيد الله تعالى قبل أن تقع بيد السائل وهو يضعها في يد السائل، فالموقن يأخذ رزقه من يد الله تعالى فهو لا يعبد إلاّ الله تعالى، ولا يطلب منه إلاّ كما أمره في قوله تعالى: (فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) العنكبوت: 17، ووجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بعض الفقراء بمعروف، وقال للرسول: احفظ ما يقول، فلما أوصله إليه قال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يضيع من شكره، ثم قال: اللهم إنك لم تنسى فلاناً، يعني نفسه، فاجعل فلاناً لا ينساك، فأخبر الرسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فسرّ به وقال قد علمت أنه يقول ذلك. وقد روي هذا عن عمر وعن أبي الدرداء مع جرير رضي الله عنهم وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل: تب، فقال: أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عرف الحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 لأهله، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك: نحمد الله ولا نحمدك، فسرّه ذلك وقال لها أبو بكر لما نزل تحصينها وبراءتها: قومي فقبّلي رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: والله لا أفعل ولا أحمد إلاّ الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعها يا أبا بكر، وفي لفظ آخر أنها قالت لأبي بكر: نحمد الله ولا نحمدك، ولا نحمد صاحبك، فلم ينكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بل سرّه وأمر أباها بالكفّ عنها، وقد جعل الله تعالى من وصف الكافرين أنهم إذا ذكر الله وحده في شيء انقبضت قلوبهم، وإذا ذكر غيره فرحوا، وجعل من نعتهم أنهم إذا ذكر توحيده وإفراده عند شيء عصوا ذلك وكرهوه، وإذا أشرك غيره في ذلك صدقوا به فقال تعالى: (وَإذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشْمَأَزّتْ قُلُوبُ الَّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الزمر: 45، وقال أيضاً: (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) غافر: 12، والكفر: التغطية، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) غافر: 12، والشرك: الخلط، أن يخلط بذكره ذكر سواه، ثم قال: (فَالحُكْمُ للهِ العَلِيِّ الكَبيرِ) غافر: 12، يعني لا يشركه في حكمه خلق، لأنه العلي في عظمته، الكبير في سلطانه، لا شريك له في ملكه وعطائه ولا ظهير له من عباده، ففي دليل هذا الكلام وفهمه من الخطاب أنّ المؤمنين إذا ذكر الله تعالى بالتوحيد والإفراد في الشيء انشرحت صدورهم، واتسعت قلوبهم، واستبشروا بذكر الله تعالى وتوحيده، وإذا ذكرت الأواسط والأسباب التي دونه كرهوا ذلك واشمأزت قلوبهم؛ وهذه علامة صحيحة فاعرفها من قلبك ومن قلب غيرك لنستدلّ بها على حقيقة التوحيد في القلب، أو وجود خفيّ الشرك في النفس، إن كنت عارفاً، وينبغي أن يجعل صدقته من أجل ما يقدر عليه وأطيبه في نفسه وجهده، فإنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيباً، وزكاء الصدقة ونماؤها عند الله تعالى على حسب حلّها ووضعها في الأخص الأفضل من أهلها، وينبغي أن يستصغر ما يعطي، فإن الاستكثار من العجب، والعجب يحبط الأعمال، قال الله تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) التوبة: 25، ويقال: إنّ الطاعة كلما استصغرت كبرت عند الله تعالى، وإنّ المعصية كلما استعظمت صغرت عند الله تعالى. وعن بعض العلماء: لا يتمّ المعروف إلاّ بثلاث: تصغيره وتعجيله وستره، وقد كانوا يدفعون في الزكاة المئين، وفي التطوّع الألوف، وكانوا يصلون الفقير بما يخرجه من حدّ الفقر، ومن الحاجة والضرّ إلى حدّ الكفاية والغنية، ويبقى لهم فضل، وعلى هذا تأويل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير الصدقة ما أبقت غني؛ أي تكفي الفقير لوقته، ويبقى له غنية واستغناء لوقت ثانٍ تستقلّ به عن المسألة والتشرّف، فيكون كأنه عمل عملاً ثانياً للمعطي غير عمله الأول بالعطاء؛ وهذا أحد تأويل الخبر، وقد وصف الله تعالى أهل الحاجة بأوصاف خمسة فرقها في كتابه فقال سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وتعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُوم) الذاريات: 19، وقال تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ) الحج: 36، وقال عزّ وجلّ: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقيرَ) الحج: 28، فأما السائل فهو الذي يسأل بكفه ويظهر السؤال بلسانه، وأما المحروم فهو المحارف الذي حارفه الرزق أي انحرف عنه، فقد حرمه، وقيل: هو الذي لا معلوم له ولا كسب، قد حرم التصرف والتعيش، وأما القانع فهو الذي يقعد في بيته ويقنع بما آتاه الله من غير طلب ولا تعرض، وقيل: إنّ القنوع هو وصف من أوصاف المسألة من غير إلحاف ولا إلحاح، وهو اسم من الأضداد يكون القنوع العفّة والكف ويكون المسألة، وأما المعتّر فهو الذي يعرض بالسؤال ولا يصرح تحمله الحاجة على التعريض، ويوقفه الحياء عن التصريح، وأما البائس فهو الذي به بؤس وشدة من مرض أو برد أو عضب وزمانة، ثم إنّ الله تعالى قد فضل بين الفقراء والمساكين فقال أهل العلم: الفقير الدي لا يسأل، والمسكين السائل، وقيل: الفقير المحارف وهو المحروم، والمسكين الذي به زمانة، واشتقاقه من السكون، أي فقد أسكنه الفقر لما سكنه وأقلّ حركته؛ وهذه أوصاف، يقال: قد تمسكن الرجل وسكن، كما يقال: تمدرع وتدرّع إذا لبس مدرعة، فكذلك الفقير إذا كانت المسألة لبسة له، وأهل اللغة مختلفون فيهما، قال بعضهم: المسكين أسوأ حالاً من الفقير لأن الله تعالى قال: (أَوْ مِسْكيناً ذَا مَتْرَبَةٍ) البلد: 16، فهو الذي لا شيء له، قد لصق بالتراب من الجهد، وذهب إلى هذا القول يعقوب بن السكيت ومال إليه يونس بن حبيب، وقال: قلت مرة لأعرابي: أفقير أنت؟ فقال: لا والله بل مسكين أسوأ حالاً من الفقير، وبعضهم يؤوله على غير هذا فيقول: ذا متربة من الغنى، يقال: أترب الرجل إذا استغنى فهو مترب من المال؛ أي قد كان مترباً غنياً من أهل النعم، ثم افتقر فهذا أفضل من أعطى. وقال بعض أهل اللغة في قوله تعالى: ذا متربة، دليل أنّ المسكين أسوأ حالاً، قال: إنّ الله تعالى لما نعته بهذا خاصة علمت أنه ليس كل مسكين بهذا النعت، ألا ترى أنك إذا قلت: اشتريت ثوباً ذا علم نعته بهذا النعت، لأنه ليس كل ثوب له علم، فكذلك المسكين الأغلب عليه أن يكون له شيء، فلما كان هذا المسكين مخالفاً لسائر المساكين بين الله تعالى نعته؛ وبهذا المعنى استدل أهل العراق من الفقهاء أنّ اللمس هو الجماع بقوله تعالى: (فَلَمَسُوهُ بِأيْديهمْ) الأنعام: 7، أنّ اللمس يكون بغير اليد وهو الجماع، فلما قال: بأيديهم خصّ به هذا المعنى فردّوه على من احتج به من علماء الحجاز في قولهم: اللمس باليد، وقال آخرون: بل الفقير أسوأ حالاً من المسكين، لأن المسكين، يكون له الشيء والفقير لا شيء له، قال الله تعالى في أصحاب السفينة: (فَكَانَتْ لِمَسَاكينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الكهف: 69، فأخبر أنّ لهم سفينة وهي تساوي جملة وقالوا: سمي فقيراً لأنه نزعت فقرة من ظهره فانقطع صلبه من شدة الفقر فهو مأخوذ من فقار الظهر، ومال إلى هذا القول الأصمعي وهو عندي كذلك من قبل أنّ الله تعالى قدمه على الأصناف الثمانية التي جعل لهم الصدقة فبدأ به فدل على أنه هو الأحوج فالأحوج أو الأفضل فالأفضل، وقال قوم: الفقير هو الذي يعرف بفقره لظهور أمره، والمسكين هو الذي لا يفطن له ولا يؤبه به لتخفيه وتستّره، وقد جاءت السنّة بوصف هذا، في الخبر المروي: ليس المسكين الذي ترده الكسرة والكسرتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه. وقد قال بعض الحكماء في مثل هذا، وقد سئل: أي الأشياء أشدّ؟ فقال: فقير في صورة غني، وقيل لحكيم آخر: ما أشد الأشياء؟ قال: من ذهب ماله وبقيت عادته، وقال الفقهاء: المسكين الذي له سبب ويحتاج إلى أكثر منه لضيق مكسب أو وجود عيلة؛ فهذا أيضاً قد وردت السنّة بفقره، وذكر فضله في الحديث الذي جاء أنّ الله يحبّ الفقير المتعفف أبا العيال ويبغض السائل الملحف، وفي الخبر الآخر: أنّ الله تعالى يحبّ عبده المؤمن المحترف؛ وكل هذه الأقوال صحيحة، فالأفضل أن توضع الزكاة في الأحوج فالأحوج، والأفضل فالأفضل، من أهل العلم بالله تعالى، وأهل المعاملة وأهل الدين لله، المنقطعين عن أهل الدنيا، المشغولين بتجارة الآخرة عن تجارات الدنيا، ثم في ذي العيال بقدر عياله بمقدار غناه عن حاجاته، فيكون له بعددهم أجور أمثاله من المنفردين إذ هم جماعة، وقد كان عمر رضي الله عنه يعطي أهل البيت القطيع من الغنم العشرة فما فوقها، وكذلك في السنّة، روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يعطي العطاء على قدر العيلة، ويعطي المتأهل ضعف ما يعطي العزب، ويعطي كل رجل على قدر أهل بيته، وحدثنا عن بعض هذه الطائفة قال: صحبنا أقواماً كان برّهم لنا الألوف من الدراهم انقرضوا وجاء آخرون كان برّهم لنا المئين، ونحن بين قوم صلتهم لنا العشرات نخاف أن يجيء قوم شر من هؤلاء، وقال بعض السلف: رأينا قوماً ما كانوا يفعلون، ونخاف أن يجيء قوم يقولون ولا يفعلون، وإن اتفق ذو دين في عيلة من مساكين فذلك غنيمة المتقين، وذخيرة المنفقين، والمعروف في مثله واقع في حقيقته، وسئل ابن عمر عن جهد البلاء ما هو؟ فقال: كثرة العيال وقلة المال. وقد جاء في الخبر: لا تأكل إلاّ طعام تقيّ ولا يأكل طعامك إلاّ تقيّ، لأن التقي تستعين به على البرّ والتقوى فيشركه في قصده، وفي الخبر أيضاً: أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين، وفي لفظ آخر: أضف بطعامك من تحبه لله تعالى، وينبغي للموقن أن يكون يفرح ويُسرُّ بقبول معروفه من الأتقياء، لأن ذلك عمله، إن لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 يقبله منه عارف بالله تعالى وأحكامه، وقد ردّت عليه أعماله، فينبغي أن يحزن برّدها عليه إذ كان ذلك ردّاً من الله تعالى له، ومن وصل فقيراً بمعروف فردّه عليه فعظم الفقير في عينه فذلك يدل على جهل المعطي بربه، لأنه لو أخذها فأسقط منزلته عنده ثم أخرجها سرّاً إلى من هو أحوج إليها منه كان بذلك فاضلاً، ومن ردّ عليه فقير برّه فلم يحزنه ذلك أو سرّه، ذلك دل على ضعف نيته في الإخراج وقلة إخلاصه بمعروفه، لأن الصادق يسوءه ردّ معروفه إليه ويحزنه، وينبغي أن لا يتملك ذلك أنْ ردّه عليه بل يدفعه إلى فقير آخر، لأنه قد أخرجه لله تعالى، فلا يرجع فيه، والفقراء شركاء في العطاء يردّ عليهم من بعضهم إلى بعض، وكذلك إن أخرج صدقة باسم فقير بعينه ليعطيه إياها فصادف غيره فذكر من هو أحوج منه أو أفضل ووافق طالباً إليه في حق عليه فلا بأس أن يدفعها إلى من يدفعها إلى الثاني ما لم تخرج عن يده، أو يكون قد وعده بها، وكذلك إن دفعها إلى من يدفعها إلى فقير بعينه ثم رأى من أثر في قلبه فأخرج منه فله أن يسترجعها من المأمور ويدفعها إليه، ما لم يكن قد نفدها أو أعلمه بها، وينبغي أن يستبشر بقبول العارفين معروفه، لأن ذلك قبول من الله تعالى لعلمه، إذ كان العارف بالله تعالى وأيامه يتصرف عن الله تعالى في الأفعال، كما أنه ينطق عنه في المقال، وليس قبوله منه كقبول غيره ولا ردّه عليه كردّ غيره، إذ كان الشاهد فيه من الله سبحانه أقوى وأعلى من الشاهد في غيره ولما هو إلى التوفيق والعصمة أقرب مما سواه من الفقراء. حدثني بعض إخواني: أنّ فقيراً بمكة ردّ على بعض الأغنياء معروفه فأخذ يبكي، فقال: أليس هذا عملي قد ردّ عليّ؟ قيل له: فإن غيره يقبله، فقال: من أين لي مثل هذه العين؟ وهذا كما قال، لأن المؤمن ينظر بعين اليقين ونور الله تعالى، فردّه عن الله تعالى، كما قال تعالى: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) هود: 17، والجاهل يتصرف بهواه عن نفسه فردّه كقبوله، لأنه يأخذه لنفسه، ويرد بنفسه، والعارف إن أخذ فبرب، وإن ردّ فعن ربّ تعالى، وليزدد في عينه من قبل منه معروفه نبلاً وجلالة، ويعظم في عينه محبة ومهابة، لأنه قد أعانه على برّه وتقواه، وأكرمه بقبول جدواه، فليشهد ذلك نعمة من الله تعالى وإحساناً منه إليه، وعلى العبد أن يجتهد في طلب الأتقياء وذوي الحاجة من الفقراء ويبلغ غاية علمه بذلك، فإن قصر علمه ولم تنفذ فراسته ومعرفته في الخصوص استعان بعلم من هو أعلم منه، وأنفذ نظر، أو أعرف بالصالحين وأهل الخير منه، ممن يوثق بدينه وأمانته من علماء الآخرة، لا من علماء الدنيا، وعلماء الآخرة هم الزاهدون في الدنيا، الورعون عن التكاثر منها، فإن حبّ الدنيا غامض قد هلك فيه خلق كثير لم ينج منه إلا العلماء، ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 يسلم من الدنيا إلاّ المتحققون بالعلم واليقين؛ وهم المتقللون من الدنيا، وقد قال الله تعالى: (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) البقرة: 265، أي يقيناً، يعني أنهم يتثبتون في صدقاتهم أن لا يضعوها إلاّ في يقين يستروح إليه القلب وتطمئن به النفس، وقد كان بعض العلماء يؤثر بالعطاء فقراء الصوفية دون غيرهم فقيل له: لو عممت بمعروفك جميع الفقراء؟ فقال: لا أفعل بل أؤثر هؤلاء على غيرهم، قيل: ولم؟ قال: لأن هؤلاء همهم الله سبحانه وتعالى، فإذا طرقتهم فاقة تشتت همّ أحدهم فلأن أردّ همة واحد إلى الله تعالى أحبّ إليّ من أن أعطي ألفاً من غيرهم ممن همّه الدنيا، فذكر هذا الكلام لأبي القاسم الجنيد فاستحسنه، وقال: هذا كلام وليّ من أولياء الله تعالى، ثم قال: ما سمعت منذ زمان كلاماً أحسن من هذا، وبلغني أنّ هذا الرجل اختل حاله في أمر الدنيا حتى همّ بترك الحانوت فوجه إليه الجنيد بمال كان صرف إليه فقال: اجعل هذا في بضاعتك ولا تترك الحانوت، فإنّ التجارة لا تضرّ مثلك، ويقال: إنّ هذا الرجل كان بقّالاً ولم يكن يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه، وأما ابن المبارك رحمه الله تعالى فإنه كان يجعل معروفه في أهل العلم خاصة، فقيل له: لو عممت به غيرهم، فقال: إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء، فإذا اشتغل قلب العالم بالحاجة أو العيلة لم يتفرغ للعلم، ولا يقبل على تعليم الناس، فرأيت أن أعينهم وأكفيهم حاجاتهم لتفرغ قلوبهم للعلم، وينشطوا لتعليم الناس؛ هذا طريق السلف الصالح، والتوفيق من اللّّه تعالى للعبد في وضع صدقته في الأفضل كالتوفيق منه إطعام الحلال الذي في غيبه يوفقه لأوليائه ويستخرجه لهم من علمه كيف شاء بقدرته. شرح رابع ما بني الإسلام عليه: وهو الصيام ذكر فرائض الصيام اعتقاد الصوم إيجاباً لله تعالى عليه وقربة منه إليه، وإخلاصاً به له، وسقوط فرض عنه، وأن يجتنب الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر الثاني، وأن يتم الصيام إلى سقوط قرص الشمس، وأن لا ينوي في تضاعيف النهار الخروج من الصوم. ذكر فضائل الصوم ووصف الصائمين صوم الخصوص حفظ الجوارح الست: غضّ البصر عن الاتساع في النظر، وصون السمع عن الإصغاء إلى محرم، أو الوزر، أو القعود، مع أهل الباطل، وحفظ اللسان عن الخوض فيما لا يعني جملة مما إن كتب عنه كان عليه وإن حفظ له لم يكن له، ومراعاة القلب بعكوف الهمّ عليه، وقطع الخواطر والأفكار التي كفّ عن فعلها، وترك التمني الذي لا يجدي، وكفّ اليد عن البطش إلى محرم من مكسب أو فاحشة، وحبس الرجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 عن السعي فيما لم يؤمر به ولم يندب إليه من غير أعمال البرّ، فمن صام تطوّعاً بهذه الجوارح الست وأفطر بجارحتين: الأكل والشرب والجماع؛ فهو عند الله تعالى من الصائمين في الفضل لأنه من الموقنين الحافظين للحدود، ومن أفطر بهذه الست أو ببعضها وصام بجارحتين: البطن والفرج، فما ضيع أكثر مما حفظ؛ فهذا مفطر عند العلماء صائم عند نفسه، وقد قال أبو الدرداء: أيا حبذا نوم الأكياس كيف يعيبون قيام الحمقى وصومهم، ولذرّة من تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين، ومثل من صام عن الأكل وأفطر بمخالفة الأمر مثل مسح كل عضو، فصلاته مردودة عليه لجهله، ومثل من أفطر بالأكل والجماع وصام بجوارحه عن النهي مثل من غسل كل عضو مرة واحدة وصلّى، فهو تارك للفضل في العدد إلاّ أنه مكمل للرضى بحسن العمل، فصلاته متقبلة لأحكامه للأصل وهو مفطر للسعة صائم في الفضل، ومثل من صام من الأكل والجماع وصام بجوارحه الست عن الآثام، كمثل من غسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، فقد جمع الفرض والفضل وأكمل الأمر والندب؛ فهو من المحسنين، وعند العلماء من الصائمين، وهذا صوم الممدوحين في الكتاب الموصوفين بالذكر من أولي الألباب، ومن فضائل الصوم أن يجتنب من حظوظ هذه الجوارح الشبهات من الأشياء وفضول الحلال، ويرفض الشهوات الداعية إلى العادات، ولا يفطر إلاّ على حلال متقلّلاً منه، فبذلك يزكو الصيام، ولا يقبل امرأته في صومه ولا يباشرها بظاهر جسمه فإن ذلك إن لم يبطل صومه فإنه ينقصه وتركه أفضل، إلاّ لقوي متمكن مالك لأربه، وليقل نومه بالنهار ليعقل صومه بعمارة الأذكار، وليجد مسّ جوعه وعطشه، وقد كانوا يتسحرون بالتمرتين والثلاث وبالحبات من الزبيب والجرعة من الماء، ومنهم من كان يقضم من شعير دابته التماساً لبركة السحور، وليكثر ذكر الله تعالى، وليقلل ذكر الخلق بلسانه، ويسقط الاهتمام بهم عن قلبه؛ فذلك أزكى لصومه، ولا يجادل ولا يخاصم وإن شتم أو ضرب لم يكافئ على ذلك لأجل حرمة الصوم ولا يهتم لعشائه قبل محل وقته، يقال: إنّ الصائم إذا اهتم بعشائه قبل محل وقته أو من أول النهار كتبت عليه خطيئة وليرض باليسير مما قسم له أن يفطر عليه ويشكر الله تعالى عزّ وجلّ كثيراً عليه. ومن فضائل الصيام التقلّل من الطعام والشراب، وتعجيل الفطر، وتأخير السحور، وليفطر على رطب إن كان وإلاّ على تمر إن وجد فإنه بركة، أو على شربة من ماء فإنه ظهور. هكذا روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يفطر على جرعة من ماء، أو مذقة من لبن، أو تمرات قبل أن يصلي، وفي الخبر: كم من صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش قيل: هو الذي يجوع بالنهار ويفطر على حرام، وقيل: هو الذي يصوم عن الحلال من الطعام ويفطر بالغيبة من لحوم الناس، وقيل: هو الذي لا يغضّ بصره ولا يحفظ لسانه عن الآثام ويقال: إنّ العبد إذا كذب، أو اغتاب، أو سعى في معصية في ساعة من صومه، خرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 صومه، وإنّ صوم يوم يلفق له في صيام أيام حتى يتمّ بها صوم يوم ساعة ساعة، وفي الحديث: الصوم جنة ما لم يخرقها بكذب أو غيبة، وكانوا يقولون: الغيبة تفطر الصائم، وقد كانوا يتوضؤون من أذى المسلم، وروي عن جماعة في الوضوء مما مسّت النار: لأن أتوضأ من كلمة خبيثة أحبّ إليّ من أن أتوضأ من طعام طيّب، وروي عن بشر بن الحرث عن سفيان: من اغتاب فسد صومه، وروينا عن ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصوم: الغيبة والكذب، وروي عن جابر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خمس يفطرن الصائم: الكذب، والغيبة، والنميمة، واليمين الكاذبة، والنظر بشهوة، ويقال: إنّ من الناس من يكمل له صوم رمضان واحد في عشر رمضانات، وفي عشرين، مثل سائر الفرائض من الصلاة والزكاة التي يحاسب عليها العبد، فإن وجدت كاملة وإلاّ تممت من سائر تطوعه، ويقال: إنّ العبد يصحّ له صوم في خمسة أيام كما يصحّ له صلاة واحدة بخمس صلوات ترفع له الأوقات، وفي الخبر: من اغتاب خرق صومه فليرقع صومه بالاستغفار، ويقال: إنّ الله تعالى لم يفترض شيئاً فرضي بدونه، وأنه يطالب بما فرضه ويحاسب على ما أوجبه وعفو الله سبحانه وتعالى يأتي على كثير من الذنوب، والمراد من الصيام مجانبة الآثام لا الجوع والعطش، كما ذكرناه من أمر الصلاة أنّ المراد بها الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لم يترك قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يترك طعامه وشرابه. شرح خامس ما بني الإسلام عليه: الحج بالحج كمال الشريعة وتمام الملة ذكر فرائض الحج قال الله تعالى: (وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً) آل عمران: 97، وفسّر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاستطاعة بالزاد والراحلة، فإذا وجد العبد زاداً وراحلة لزمه فرض الحج، فإن أخرّه بعد وجود ذلك كان مكروهاً، فإن مات ولم يحج، أو مات على عدم الإمكان بعد وجوده، كان عاصياً لله تعالى من حين أمكنه إلى يوم موته، ولم يكن كامل الإسلام، لأن الله تعالى أكمل الإسلام بالحجّ لما أنزل هذه الآية في الحج يوم عرفة (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) المائدة: 3، وفي الخبر: من لم يمنعه من الحج مرض قاطع أو سلطان جائر ومات ولم يحجّ فلا يبالي مات يهوديًّا أو نصرانيّاً، وقال عمر: لقد هممت أن أكتب إلى الأمصار بضرب الجزية على من لم يحجّ ممن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 يستطيع إليه سبيلاً، وعن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاووس: لو علمت رجلاً غنيّاً وجب عليه الحجّ ثم مات قبل أن يحجّ ما صليت عليه، وبعضهم كان له جار موسر فمات قبل أن يحجّ فلم يصلِّ عليه، وكان ابن عباس يقول: من مات ولم يزك ولم يحج: سأل الرجعة إلى الدنيا، وكان يفسرّه في هذ الآية قال: (رَبِّ أَرْجعُونِ) (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت) المؤمنون: 99 - 100 قال: أحجّ ومثله فيقول: (رَبِّ لَوْلاَ أخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) المنافقون: 10 قال: أزكي وأحجّ، وكان يقول هذه الآية، أشد شيء على أهل التوحيد ومن كان ذا قوة على المشي أو ممن يصلح له أن يؤجّر نفسه وأمن التهلكة في خروجه فحجّ على ذلك كان فاضلاً في فعله، وللحاج الماشي بكل قدم يخطوها سبعمائة حسنة، وللراكب بكل خطوة تخطوها دابته سبعون حسنة، والقوّة على المشي من الاستطاعة عند بعض العلماء، فأما فرائض الحجّ عند جملة العلماء فستة اختلفوا منها في ثلاث وهنّ: السعي، والبيتوتة بمزدلفة عند المشعر ليلة النحر، ورمي جمرة العقبة يوم النحر، وأجمعوا على ثلاث وهنّ: الإحرام به، والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، ولم يختلفوا في أنّ ما سوى هذه سنّة واستحباب، ومذهبي في هذا وهو مذهب الأكثر من العلماء أنّ فرائض الحج أربعة: أولها الإحرام به والوقوف بعرفة بعد زوال الشمس من يوم عرفة، وآخر حدّ الوقوف قبل طلوع الفجر من يوم النحر، وطواف الزيارة بعد الوقوف بعرفة بعد رمي جمرة العقبة، والسعي بين الصفا والمروة بعد الإحرام بالحج إن شئت قبل الوقوف بعرفة وإن شئت بعده، وما سوى ذلك من المناسك فمسنون ومستحبّ، وبعضه أوكد من بعض، وفي ترك بعضه كفارة وفي بعضه لا حرج فيه، وطواف الحج ثلاثة: واحد فريضة إن تركه بطل حجه وهو طواف الزيارة، وواحد سنة إن تركه كان عليه دم وحجه تام وهو طواف الوداع، وواحد مستحبّ إن تركه فلا شيء عليه وهو طواف الورود، ولم نذكر من فرائض الحج وأحكامه وهيئاته في هذا الباب إلاّ قوت الأعمال، مثل ما ذكرناه من سائر الأبواب في هذا الكتاب، على ما يليق بيانه للمعنى الذي قصدناه فيه، وقد أشبعنا أحكام الحج وما يقال في المشاعر في كتاب مناسك الحج المفرد. ذكر فضائل الحج وآدابه وهيئاته وفضائل الحجاج وطريق السلف السالكين للمنهاج قال الله سبحانه وتعالى: (أالحَجُّ أَشْهُرٌ مَعلُومَاتٌ َُمَنْ فَرَضَ فيهِنَّ الحَجَّ) البقرة: 196، يعني من أوجبه على نفسه في هذه الأشهر فأحرم به وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، الرفث اسم جامع لكل لغوٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وخني وفجر من الكلام ومغازلة النساء ومداعبتهن والتحدث في شأن الجماع، والفسوق جمع فسق وهو اسم جامع لكل خروج من طاعة ولكل تعدّي حدّ من حدود الله تعالى، والجدال وصف مبالغ للخصومة والمراء فيما يورث الضغائن وفيما لا نفع فيه؛ فهذه ثلاثة أسماء جامعة مختصرة لهذه المعاني المثبتة أمر اللّّه تعالى بتنزيه شعائره ومناسكه منها لأنها مشتملة على الآثام وهنّ أصول الخطايا والإجرام، والحجّ في اللغة هو القصد إلى من يعظم، وكانت العرب تقول نحجّ إلى النعمان أي نقصده تعظيماً له وتعزيزاً، فينبغي أن يكون الحاجّ معظّماً لمن قصده بالحجّ ليتحقق بمعنى هذا الاسم، والحجّ أيضاً سلوك الطريق الواضح الذي يخرج إلى البغية ويوقف على المنفعة واشتقاقه من المحجّة بمنزلة النسك، وهو اسم للطريق مشتقّ من المنسك، وهو من أسماء الطريق وإن كان أصله المذيح ومنه سمي الناسك لأنه سالك لطريق الآخرة، فأول فضائل الحجّ حقيقة الإخلاص به لوجه الله تعالى، وأن تكون النفقة حلالاً واليد فارغة من تجارة تشغل القلب وتفرق الهم، ويكون الهمّ مجرّداً والقلب ساكناً مطمئناً مملوءاً بالذكر فارغاً من الهوى ناظراً أمامه غير ملتفت إلى ورائه، وصحة القصد بحسن الصدق ثم طيب النفس بالبذل والإنفاق والتوسع في النفقة والزاد وبذل ذلك، لأنّ النفقة في الحجّ بمنزلة النفقة في سبيل الله تعالى؛ الدرهم بسبعمائة درهم، والحجّ من سبيل اللّّه، روي ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال ابن عمر وغيره: من كرم الرجل طيب زاده في سفره، وكان يقول: أفضل الحجاج أخلصهم نية وأزكاهم نفقة وأحسنهم يقيناً، وفي حديث ابن المنكدرعن جابر عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحجّ المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة، وقال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما برّ الحجّ، قال: طيب الكلام وإطعام الطعام، ويقال: إنّما سمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وبعضهم يقول يسفر عن صفات النفس وجوهرها إذ ليس كل من حسنت صحبته في الحضر حسنت صحبته في السفر، وقال رجل لآخر: إنه يعرفه، فقال له: هل صحبته في السفر الذي يستدلّ به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: ما أراك تعرفه، ولا يجادل ولا يخاصم ولا يكثر المراء ولا يرفث بلسانه. وروينا عن بشر بن الحرث قال: قال سفيان: من رفث فسد حجّه، وليتعلّم أحكام المناسك ومعالم الحجّ وهيئاته وآداب المشاهد قبل الخروج، وليكن ذلك أهمّ شيء إليه وليقدّمه على جميع أسباب السفر، فإن هذا هو المقصود والبغية فلا يتأبن عنه، وليعد له رفيقاً صالحاً عالماً محبّاً للخير معيناً عليه، إن نسي ذكره، وإنْ ذكر أعانه، وإن جبن شجعه، وإن عجز قواه، وإن أساء ظنه وضاق صدره وسّع صدره وصبره وحسن ظنه ولا يخالف رفيقه ولا يكثر الاعتراض عليه، وليحسن خلقه مع جميع الناس، ويلين جانبه ويخفض جناحه، ويكف أذاه عن الخلق، ويحتمل أذاهم؛ فبهذه المعاني يفضل الحج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وإن يحج على رحْل أو زاملة فإن ذلك حج المتّقين وطريق السلف، يقال: حجّ الأبرار على الرحال، وحدث سفيان الثوري عن أبيه قال: برزت من الكوفة إلى القادسية للحجّ، ووافيت الرفاق من البلدان فرأيت الحاج كلهم على زوامل وجوالقات ورواحل، وما رأيت في جميعهم إلاّ محملين، وقال مجاهد لابن عمر وقد دخلت القوافل: ما أكثر الحجاج، فقال: ما أقلّهم، ولكن قل: ما أكثر الراكب، قال: وكان ابن عمر إذا نظر إلى ما أحدث الحاج من الزوامل والمحامل يقول: الحاج قليل والركب كثير، ثم نظر إلى رجل مسكين رثّ الهيئة تحته جوالق فقال: هذا نعم الحاج، فينبغي أن يكون رثّ الهيئة، خفيف المؤونة، متقلّلاً من كل شيء، لا يحمل معه من الزاد إلاّ ما لا بدّ له منه مما يحتاج إليه، ولا يسرف في المبالغة والتناهي فيه، ولا يقتر، ولا يضيق على نفسه ورفيقه، بل يستعمل الاقتصار في كل شيء والكفاية، ويجتنب من الزي الحمرة فإن ذلك مكروه. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان في سفر، فنزل أصحابه منزلاً، فسرحت الإبل، فنظر إلى أكسية حمر على الأقتاب فقال: أرى هذه الحمرة قد غلبت عليكم، قال: فقمنا نتساعى حتى نزعناها عن ظهورها حتى شرد بعض الإبل، ثم ليجتنب من الزي الشهرة، وكل منظور إليه من الأثاث، ولا يتشبّه بالمترفين ولا بأهل الدنيا من أهل التفاخر والتكاثر فيكتب من المتكبرين، ولا يكثر التنعّم والرفاهة فإن ذلك غير مستحبّ في سبيل الله تعالى، لأن المشقّة والظمأ والمخمصة والأواء كلما كثر في سبيل اللّّه كان أفضل وأثوب، حجّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلة وكان تحته رحل رثّ وقطيفة خلقة قيمته أربعة دراهم، وطاف على الراحلة لينظر الناس إليه ويهتدوا بشمائله، وقال عليه الصلاة والسلام خذوا عني مناسككم، وكان يقول: لبيك اللهم لبيك، حجّاً لا رياء فيه ولا سمعة، وقال: لبيك، أنّ العيش عيش الآخرة، وأمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشعث والاختفاء، ونهى عن التنعّم والرفاهة، في حديث فضالة بن عبيد، وفي الخبر: إنما الحاج الشعث التفل، يقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى زوّار بيتي قد جاؤوني شعثاً غبراً من كل فجّ عميق، وقال الله عزّ وجلّ: (ثُمَّ ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ) الحج: 29، التفث الشعث والأغبار، وقضاؤه حلق الرأس وقص الأظافر، وكتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد: اخلولقوا واخشوشنوا أي البسوا الخلقان واستعملوا الخشونة من الأشياء، وبعض أصحاب الحديث يصف هذه الحروف يقول: احلقوا من الحلق، ولا يجوز أن يأمرهم بإسقاط سنة كيف، وقد قال لصبيغ حين توسّم في مذهب الخوارج: اكشف رأسك، فرآه ذا ضفيرتين فقال: لو كنت محلوقاً لضربت عنقك، ولينح مثال أهل اليمن في الزي والأثاث، فإن الاقتداء بهم والاتباع لشمائلهم في الحجّ طريقة السلف على ذلك الهدى والوصف، كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وما عدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وصفهم وخالف هديهم، فهو محدث ومبتدع، ولهذا المعنى قيل: زين الحجيج أهل اليمن لأنهم على منهاج الصحابة وطريقة السلف، وقيل في مدحهم بالتقلّل والانفراد: لا يغلون سعراً ولا يضيقون طريقاً، وقد كان العلماء قديماً إذا نظروا إلى المترفين قد خرجوا إلى مكة يقولون: لا تقولوا خرج فلان حاجّاً، ولكن قولوا: خرج مسافراً، ويقال: إنّ هذه المحامل والقباب أحدثها الحجاج بن يوسف، فركب الناس سنتّه، وقد كان العلماء في وقته ينكرونها ويكرهون الركوب فيها، وأخاف أنّ بعض ما يكون من تماوت الإبل يكون ذلك سببه لثقل ما يحمل، ولعله عدل أربعة أنفس وزيادة مع طول الشقة وقلة الطعم، وينبغي أن يقلّل من نومه على الدابة، فإنه يقال: إنّ النائم يثقل على البعير، وقد كان أهل الورع لا ينامون على الدواب إلاّ من قعود يغفون غفوة بعد غفوة، وكانوا أيضاً لا يقفون عليها الوقوف الطويل لأن ذلك يشق عليها. وفي الحديث: لا تتخذوا ظهور دوابكم كراسي، ولا يحمل على الدابة المكتراة إلاّ ما قاضى عليه الجمال أو ما أعلمه به، وقال رجل لابن المبارك: احمل لي هذا الكتاب معك، فقال: حتى أستأمر الجمال، فإني قد اكتريت، ولينزل عن دابته غدوة وعشية يروحها بذلك، ففيه سنّة وآثار عن السلف، وقد كان بعض السلف يكتري لازماً ويشترط أن لا ينزل، ثم إنه ينزل للرواح ليكون ما رفه عن الدابة من حسناته محتسباً له في ميزانه، وبعض علماء الظاهر يقول: إنّ الحج راكباً أفضل لما فيه من الإنفاق والمؤونة، ولأنه أبعد لضجر النفس، وأقل لأذاه وأقرب لسلامته وتمام حجه، فهذا عندي بمنزلة الإفطار يكون أفضل إذا ساء عليه خلقه، وضاق به ذرعه، وكثر عليه ضجره، لأن حسن الخلق وانشراح الصدر أفضل، وقد يكون كذلك لبعض الناس دون بعض ممن يكون حاله الضجر ووصفه التسخط وقلة الصبر، أو لم يمكن المشي، وسألت بعض فقهائنا بمكة وكان ورعاً عن تلك العمر التي تعتمر من مكة إلى التنعيم، وهو الذي يقال له مسجد عائشة، وهو ميقاتنا للعمرة في طول السنة أي ذلك أفضل المشي في العمرة، أو يكتري حماراً بدرهم يعتمر عليه فيقال: يختلف ذلك على قدر شدته على الناس، فإن كان إنفاق الدرهم أشدّ عليه من المشي فالاكتراء أفضل لما فيه من إكراه النفس عليه وشدته عليها، ومن كان المشي عليه أشق فالمشي أفضل لما فيه من المشقة، ثم قال: هذا يختلف لاختلاف أحوال الناس من أهل الرفاهية والنعمة، فيكون المشي عليهما أشد، وعندي أنّ الاعتمار ماشياً أفضل، وكذلك الحج ماشياً لمن أطاق المشي ولم يتضجر به وكان له همة وقلب، وقد روينا في خبر من طريق أهل البيت: إذا كان في آخر الزمان خرج الناس للحج أربعة أصناف؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسمعة، ويكره أخذ الأجرة على الحجّ فيجعل نصيبه وعناه لغيره ملتمساً عرض الدنيا، وقد كره ذلك بعض العلماء، ولأنه من أعمال الآخرة ويتقرّب به إلى الله، يجري مجرى الصلاة والأذان والجهاد فلا يأخذ على ذلك أجراً إلاّ في الآخرة، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان بن أبي العاص: واتخذ مؤذناً لا تأخذ على الأذان أجراً، وسئل عن رجل خرج مجاهد فأخذ ثلاثة دنانير فقال: ليس له من دنياه وآخرته إلاّ ما أخذ، فإن كان نية عبد الآخرة أو همته المجاورة واضطر إلى ذلك، فإن الله تعالى قد يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا، رجوت أن يسعه ذلك، وفي الخبر: يؤجر على الحجة الواحدة ثلاثة ويدخلون الجنة: الموصي بها، والمنفذ للوصية، والحاجّ الذي يقيمها لأنه ينوي خلاص أخيه المسلم والقيام بفرضه، وقد جاء مثل المجاهد الذي يأخذ أجراً على جهاده مثل أم موسى يحلّ أجرها وترضع ولدها، هذا إذا كانت نيته الجهاد واحتاج إلى معونة عليه، كذلك من كانت نيته في حجه الآخرة، والتقرّب إلى الله تعالى بالطواف والعمرة بعد قضاء ما عليه، لم يضره أخذ أجرة على حجه إن شاء الله تعالى. ومن فضائل الحجّ أن لا يقوي أعداء الله الصادين عن المسجد الحرام بالمال، فإن المعونة والتقوية بالمال تضاهي المعونة بالنفس، والصدّ عن المسجد الحرام يكون بالمنع والإحصار، ويكون بطلب المال، فليحتل في التخلص من ذلك فإن بعض علمائنا كان يقول: ترك التنقل بالحجّ الرجوع عنه أفضل من تقوية الظالمين بالمال، لأن ذلك عنده دخيلة في الدين، ووليجة في طريق المؤمنين، وإقامة وإظهار لبدعة أحدثت من الآخذ والمعطي؛ وهذا كما قال لأنه جعل بدعة سنة ودخولاً في صغار وذلة ومعاونة على وزر أعظم في الحرم من تكلّف حجّ نافلة قد سقط فرضه كيف، وفي ذلك إدخال ذلة وصغار على الإسلام والمسلمين مضاهاة للجزية، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل واحد من المسلمين على ثغر من ثغور الإسلام، فإن ترك المسلمون فاشدد لئلا يؤتى الإسلام من قبلك، وفي الخبر المشهور: المسلمون كرجل واحد ومثل المسلم من المسلمين كمثل الرأس من الجسد، يألم الجسد لما يألم الرأس ويألم الرأس لما يألم الجسد، وقد يترخص القائل في ذلك بتأويل أنه مضطر إليه، وليس كما يظن، لأنه لو رجع لما أخذ منه شيء، ولو خرج في زيّ المترفين مما أحدث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 من المحامل لما أخذ منه شيء، فقد زال الاضطرار وحصل منه بالطوع والشهوة الاختيار، لعل هذا الذنب عقوبة ما حّملوا على الإبل فوق طاقتها من البيوت المسقفة التي علوها عليها، كان البعير يحمل الرجل ورحله فجعلوه يحمل مقدار أربعة وزيادة، فأدى ذلك إلى تلفها، فهم مطالبون بقتلها، لأن من حمّل بعيراً فوق طوقه حوسب بذلك وطولب، أو لعلّه ذنب ما خرجوا به من التجارات وفضول الأسباب وشبهات الأموال أو لسوء النيات وفساد المقاصد، وروينا أنّ أبا الدرداء قال لبعير له في الموت: يا أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك فإني لم أكن أحمّلك فوق طاقتك، وقد يعاقب الله على الذنب بذنب مثله أو فوقه، وينبغي أن يكون في المشاعر والمناسك أشعث أغبر فإنه سنّة، ويكثر ذكر الله في طريقه وجميع مناسكه، ويذكر به الغافلين ويقل ذكر الناس ويلزم الصمت فيما لا يعنيه، ولا يتكلّف ما قد كفى، ولا يدخل فيما لم يكلف، وإن رأى موضعاً للمعروف أمر به أو منكراً نهى عنه، فهذه المعاني تضاعف أمر الحجّ وتفضل الحجاج واستحبّ أن يقرن بين حجة وعمرة من ميقاته لأن فيه إيجاب هدى يقربه وليكون جامعاً بين نسكين من ميقات بلده، ويكون قد أتى بالعمرة لأنها مقرونة بالحجّ في الكتاب، ولأن مذهب كثير من العلماء أنها فريضة كالحجّ، وجماعة من السلف كانوا يستحسنون الابتداء بالعمرة وتقديمها على الحجّ، منهم: الحسن وعطاء وابن سيرين والنخعي. وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بينهما وأهل بهما معاً في حديث أنس، وقد حدثت عن شقيق بن سلمة عن الضبي بن معبد قال: أردت الغزو فأشار عليّ رجل من أهل العلم أن أبدأ بالحجّ فاستشرت رجلاً من أهل الفقه فأمرني أن أجمع بين حجّ وعمرة جميعاً، ففعلت، فأنشأت إليّ بهما حتى قدمنا على عمر فأخبرته بالذي فعلت، فقال: هديت لسنّة نبيّك وإن قدم العمرة فحجّ متمتعاً ثم أفرد الحجّ بعدها من عامه فهو أفضل؛ وهذا اختيار جماعة من العلماء، وإن حجّ مفرداً كما روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أفرد الحجّ فيما روينا عن عائشة وجابر، وإذا فرغ من حجه رجع إلى ميقات بلده فاعتمر من هناك فحسن، وقد قال الله عزّ وجلّ: وأتموا الحجّ والعمرة لله فإفرادهما من إتمامهما؛ وهذا قول عمر وعثمان في الإتمام، وليطف لقرانه ويسع طوافين وسعيين ليخرج بذلك من اختلاف العلماء جمعهما أو فرّقهما، وليكثر العبد من التلبية في حال إحرامه فهي من أفضل الأذكار فيه، وليرفع بها صوته وإن قال في تلبيته: لبيك يا ذا المعارج، لبيك حجّاً حقّاً، تعبّداً ورقّاً، والرغباء إليك والعمل، فقد روي هذا عن الصحابة وإن اقتصر على تلبية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسن، وفيها كفاية وبلاغ وأحبّ أنّ يذبح وإن لم يجب عليه ويجتنب الأكل من يذبح ما كان واجباً عليه مثل نسك قران أو متعة أو كفارة، واستحب أن يأكل مما لم يكن عليه واجباً وليجتنب المعايب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الثمانية في ذبيحته التي وردت بها الآثار، وكذلك في الأضحية فقد نهي أن يضحي بالجدعاء والعضباء والجرباء، ونهى عن الشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة والعجفاء، التي لا تنقي، يعني المهزولة؛ وهذا جميع ما جاء في عيوب الأضاحي بأخبار متفرقة، فالجدع في الأنف والأذن، والقطع فيهما، والعضب الكسر في القرن، وفي نقصان القوائم، والجرباء من الجرب، والشرقاء المشقوقة الأذن من فوق، والخرقاء المشقوقة من أسفل، والمقابلة المخروقة الأذن من قدام، والمدابرة المخروقة من خلف، والتي لا تنقي المهزولة التي لا نقي لها؛ والنقي هو المخ وقد روينا في تفسير قوله تعالى ذلك: (وَمَنْ يُعظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ) الحج: 32، قيل: تسمين الهدي وتحسينه، وأفضل الهدي بدنة، ثم بقرة، ثم كبش أقرن أبيض، ثم الثني من المعز، وإن ساق هديه من الميقات فهو أفضل من حيث لا يجهده ولا يكدّه، وقد كانوا يغالون بثلاث ويكرهون المكاس، فيهن الهدي والأضحية والرقبة، فإن أفضل ذلك أغلاه ثمناً وأنفسه عندأهله، وفي حديث ابن عمر أنّ عمر أهدى نجيبة فطلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً، فنهاه عن ذلك وقال: بل أهدها فهذه سنّة في تخيّر الهدى، وحسن الأدب في المعاملة، وترك الاستبدال بها طلباً للكثرة، لأن القليل الجيد خير من الكثير الدون، إنّ في ثلاثمائة دينار قيمة ثلاثين، فكان الخالص الحسن كافياً من الكثير المتقارب، وفي حديث ابن المنكدر عن جابر سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما برّ الحج؟ قال: العج والثج، فالعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج هو نحر البدن. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما عمل آدمي يوم النحر عملاً أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من إهراق دم، وأنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها فإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض، طيبوا بها نفساً، وفي الخبر: لكم بكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 صوفة من شعرها وبكل قطرة من دمها حسنة، وأنها لتوضع في الميزان فأبشروا ولا يضحى بجذع إلا من الضأن فقط، وهو ما كان في آخر حوله، وبالثني من المعز والبقر والإبل، فالثني من المعز ما دخل في السنة الثانية، والثني من البقر ما دخل في الثالثة، والثني من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، وإن أحرم من بلده فقد قيل إنه من إتمام الحج والعمرة ومن عزائم الأعمال، روينا عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهما: وأتموا الحج والعمرة لله، قالوا: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ولتكن حاضر القلب، مشاهد القرب عند المواطن المرجوّ فيها الإجابة، وفي المشاهد المبتغي منها المنفعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم، واستحبّ له أن يمشي في المشاعر من حين يخرج من مكة إلى أن يقف بعرفة، وإلى أن يرجع من طواف الزيارة إلى منى، ومن استحبّ للحاجّ الركوب فإنه يستحبّ له المشي إلى مكة في المناسك إلى انقضاء حجّه، ولأن عبد الله بن عباس أوصى بنيه عند موته فقال: يا بنيّ حجوا مشاة، فإن للحاج الماشي بكل قدم يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال الحسنة بمائة ألف وأوكد ما مشي فيه من المناسك وأفضله، من مسجد إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الموقف، ومن الموقف إلى المزدلفة في الإفاضة، ومن المشعر الحرام غداة النحر إلى منى، وفي أيام رميه الجمار وصومه يوم عرفة فيه فضل إن قوي معه على الدعاء والتلبية ولم يقطعه الصوم عن ذلك، فإن أضعفه فالفطر أفضل، ولم يصمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرفة ولا أبو بكر ولا عمر وصامه عثمان رضي الله عنه وعنهم، وليعتبر في طريقه وسيره بالآيات وما يرى من الحكمة والقدرة من تصريف الخلق، وما يحدث الله تبارك وتعالى في كل وقت فيكون له في كل شيء عبرة، ومن كل شيء موعظة، فإنه على مثال طريق الآخرة، وليكن له بكل شيء تذكرة، وفي كل شيء فطنة وتبصرة، ترده إلى الله تعالى، وتدله عليه، وتذكره به، ويشهده منها فيتفكر في أمره، ويستدلّ به على حكمته، ويشهد منه قدرته. وسئل الحسن ما علامة الحجّ المبرور؟ فقال: أن يرجع العبد زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، وقيل في وصف الحج المبرور: هو كفّ الأذى، واحتمال الأذى، وحسن الصحبة، وبذل الزاد، ويقال: إنّ علامة قبول الحج ترك ما كان عليه العبد من المعاصي والاستبدال بإخوانه البطالين إخواناً صالحين وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة، فمن وفّق للعمل بما ذكرناه فهو علامة قبول حجه ودليل نظر الله إليه في قصده، ومن أصيب بمصيبة في نفسه وماله فهو من دلائل قبول حجه، فإن المصيبة في طريق الحج تعدل النفقة في سبيل الله تعالى، الدرهم بسبعمائة، وبمثابة الشدائد في طريق الجهاد، وليستكثر من الطواف بالبيت، لأنه يستوعب بطواف أسبوع مائة وعشرين رحمة يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 بكل رحمة ما شاء الله، لأنه سبحانه يختصّ برحمته من يشاء، وأقل ماله بكل رحمة عشر حسنات، لأن في حديث عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ينزل الله على هذا البيت في كل يوم مائة وعشرين رحمة، ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين، وفي الحديث: استكثروا من الطواف بالبيت فإنه من أقل شيء تجدونه في صحفكم يوم القيامة، وأغبط عمل تجدونه، ولا تتحدث في طوافك، وعليك بكثرة ذكر الله سبحانه وتعالى من التسبيح والتهليل والحمد وتلاوة القرآن وامش بسكينة ووقار وخشوع وانكسار، ولا تزاحمنّ أحداً، واقرب من البيت ما أمكن، واستلم الركنين اليمانيين مع تقبيل الحجر في كل وتر من طوافك إن أمكن. وقد روينا في الخبر: من طاف بالبيت حافياً حاسراً كان له كعتق رقبة، ومن طاف أسبوعاً في المطر غفر له ما سلف من ذنوبه، روي ذلك عن الحسن بن علي قاله لأصحابه ورفعه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: واتق الهمة الردية والأفكار الدنية، فيقال: إنّ العبد يؤاخذ بالهمة في ذلك البلد، وعن ابن مسعود: ما من بلد يؤاخذ العبد فيه بالإرادة قبل العمل إلاّ بمكة، وقال أيضاً: لو همّ العبد أن يعمل سوءاً بمكة عاقبه الله تعالى، ثم تلا: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) ؛ يعني أنه علق العذاب بالإرادة دون الفعل، ويقال: إنّ السيّئات تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، وإنّ السيّئات التي تكتسب هنالك لا تكفر إلاّ هناك، وكان ابن عباس يقول: الاحتكار بمكة من الإلحاد في الحرم، وقيل: الكذب فيه من الإلحاد، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، لأن أذنب سبعين ذنباً بركية أحبّ إليّ من أن أذنب ذنباً واحداً بمكة؛ وركية منزلة بين مكة والطائف، وقد كان الورعون من السلف منهم عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهما يضرب أحدهم فسطاطاً في الحرم وفسطاطاً في الحلّ، فإذا أراد أن يصلي أو يعمل شيئاً من الطاعات دخل فسطاط الحرم ليدرك فضل المسجد الحرام، لأن المسجد الحرام عندهم في جميع ما يذكر إنما هو الحرم كله، وإذا أراد أن يأكل أو يكلّم أهله أو يتغوّط خرج إلى فسطاط الحل، ويقال: إنّ آل الحجاج في سالف الدهر كانوا إذا قدموا مكة خلعوا نعالهم بذي طوي تعظيماً للحرم، وقد سمعنا من لم يكن يتغوّط ولا يبولّ في الحرم من المقيمين بمكة ورأينا بعضهم لا يتغوّط ولا يبول حتى يخرج إلى الحلّ تعظيماً لشعائر الله تعالى، وتنزيهاً لحرمه وأمنه، وأعمال البرّ كلها تضاعف بمكة، والحسنة بمائة ألف حسنة على مثال الصلاة في المسجد الحرام، روي معنى ذلك عن ابن عباس وأنس، وعن الحسن البصري: أنّ صوم يوم بمائة ألف وصدقة درهم بمائة ألف درهم، ويقال: إنّ طواف سبعة أسابيع يعدل عمرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 وإنّ ثلاث عمر تعدل حجة، وإنّ العمرة هي الحجة الصغرى؛ وهذا في دليل الخطاب من قوله تعالى: يوم الحج الأكبر، فدل أنّ الحج الأصغر هو العمرة، ومن العرب من يسمّي العمرة حجّاً، وفي الخبر: عمرة في رمضان تعدل حجة، فمن وفق للعمل بما ذكرناه فهو علامة قبول حجه ودليل نظر الله إليه في قصده. ذكر فضائل الحج والحاجين لوجه الله روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وفي حديث آخر: من خرج من بيته حاجاً أو معتمراً فمات أجري له أجر الحاج والمعتمر إلى يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين لم يعرض ولم يحاسب، وقيل له: أدخل الجنة، وروي في الخبر حجة مبرورة خير من الدنيا وما فيها، وحجة مبرورة ليس لها جزاء إلاّ الجنة، وفي الحديث: الحجاج والعمار وفد الله تعالى وزوّاره، إن سألوه أعطاهم، وإن استغفروه غفر لهم، وإن دعوه استجيب لهم، وإن شفعوا شفعوا، وذكر بعضهم أنّ إبليس ظهر له في صورة شخص بعرفة، فإذا هو ناحل الجسم، مصفرّ اللون، باكي العين، مقصوم الظهر، فقال له: ما الذي أبكى عينك؟ فقال: خروج الحاج إليه بلا تجارة، أقول قصدوه أخاف أن لا يخيبهم فيحزنني ذلك، قال: فما الذي أنحل جسمك؟ قال: صهيل الخيل في سبيل الله تعالى، ولو كانت في سبيلي، كان أحبّ إليّ قال: فما الذي غيّر لونك؟ قال: تعاون الجماعة على الطاعة، ولو تعاونوا على المعصية كان أحبّ إليّ قال: فما الذي قصم ظهرك؟ قال: قول العبد أسألك حسن الخاتمة، أقول: يا ويلتي متى يعجب هذا بعمله؟ أخاف أن يكون قد، ولقي رجل ابن المبارك وقد أفاض من عرفة إلى مزدلفة فقال: من أعظم الناس جرماً يا أبا عبد الرحمن في هذا الوقت؟ فقال: من قال إنّ الله عزّ وجلّ لم يغفر لهؤلاء، وقد روينا حديثاً مسنداً من طريق أهل البيت: أعظم الناس ذنباً من وقف بعرفة فظنّ أنّ الله عزّ وجلّ لم يغفر له، ويقال إنّ من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها إلاّ الوقوف بعرفة، وقد رفعه جعفر بن محمد فاسنده، ويقال: إن الله عزّ وجلّ إذا غفر لعبد ذنباً في الموقف غفره لكل من أصابه في ذلك الموقف، وزعم بعض السلف: إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 لكل أهل الموقف، وهو أفضل يوم في الدنيا، وفيه حجّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع، ولم يحج بعد نزول فرض الحج غيرها، وعليه نزلت هذه الآية وهو وافق بعرفة (اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمْ الإسْلامَ ديناً) المائدة: 3 وقال علماء أهل الكتاب: لو أنزلت علينا هذه الآية لجعلنا يومها عيداً، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أشهد لقد أنزلت في يوم عيدين اثنين؛ يوم عرفة ويوم جمعة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو واقف بعرفة، وقد روينا في تفسير قوله تعالى: ليشهدوا منافع لهم؛ عن جماعة من السلف قال: غفر لهم وربّ الكعبة، وفي تفسير قوله تعالى: لأقعدن لهم صراطك المستقيم؛ قال: طريق مكة بصدهم عنه وروينا عن مجاهد وغيره من العلماء: دخل حديث أحدهما في الآخرة، كانوا يتلقون الحاج يدعون لهم قبل أن يتدنسوا ويقولون: تقبل الله منا ومنكم، وأنّ الحاج إذا قدموا مكة تلقتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل وصافحوا ركبان الحمير واعتنقوا المشاة اعتناقاً، وقال الحسن: من مات يعقب شهر رمضان، أو يعقب غرواً، أو يعقب حجّاً، مات شهيداً، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: الحاج مغفور له ولمن استغفر له شهر ذي الحجة والمحرم وصفر وعشرين من ربيع الأول، وقد كان من سنة السلف أن يشيعوا الغزاة وأن يستقبلوا الحاج ويقبلوا بين أعينهم ويسألوهم الدعاء لهم، وفي الخبر: اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج. وحدثونا عن عليّ بن الموفق قال: حججت سنة فلما كان ليلة عرفة بتّ بمنى في مسجد الخيف، فرأيت في المنام كأنّ ملكين قد نزلا من السماء عليهما ثياب خضر فنادى أحدهما صاحبه: يا عبيد الله، فقال الآخر: لبيك يا عبد الله، قال: تدري كم حجّ بيت ربنا في هذه السنة؟ قال: لا أدري، قال: حجّ بيت ربنا ستمائة ألف، فتدري كم قبل منهم؟ قال: لا، قال: قبل منهم ستة أنفس، قال: ثم ارتفعا في الهواء فغابا عني فانتبهت فزعاً فاغتممت غمّاً شديداً وأهمني أمري فقلت: إذا قبل حجّ ست أنفس فأين أكون أنا في ستة أنفس؟ فلما أفضنا من عرفة وبت عند المشعر الحرام جعلت أفكر في كثرة الخلق وفي قلة من قبل منهم فحملني النوم، فإذا الشخصان قد نزلا من السماء على هيئتهما فنادى أحدهما: يا عبد الله، قال: لبيك يا عبد الله، قال: تدري كم حجّ بيت ربنا؟ قال: نعم ستمائة ألف، قال: فتدري كم قبل منهم؟ قال: نعم ستة أنفس، قال: فتدري ماذا حكم ربنا في هذه الليلة؟ قال: لا، قال: فإنه وهب لكل واحد من الستة مائة ألف، قال: فانتبهت وبي من السرور ما يجلّ من الوصف، ذكر في هذه القصة ستة ولم يذكر السابع؛ وهؤلاء هم الأبدال السبعة أوتاد الأرض المنظور إليهم كفاحاً، ثم ينظر إلى قلوب الأولياء من وراء قلوبهم، فأنوار هؤلاء عن نور الجلال وأنوار الأولياء من أنوارهم، وأنصبتهم وعلومهم من أنصبة هؤلاء وعلومهم، فلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 يذكر السابع وهو قطب الأرض، والأبدال كلهم في ميزانه، ويقال إنه هو الذي يضاهي الخضر من هذه الأمة في الحال ويجاريه في العلم، وإنهما يتفاوضان العلم ويجد أحدهما المزيد من الآخرة، فإنما لم يذكر والله أعلم لأنه يوهب له من مات، ولم يحجّ من هذه الأمة لأنه أوسع جاهاً من جميعهم وأنفذ قولاً في الشفاعة من الجملة. وقد روينا عن ابن الموفق قال: حججت سنة، فلما قضيت مناسكي تفكّرت فيمن لا يتقبل حجّه، فقلت: اللهم إني قد وهبت حجتي هذه وجعلت ثوابها لمن لا يتقبل حجّه، قال: فرأيت ربّ العزة في النوم، قال لي: يا علي تتسخّى عليّ وأنا خلقت السخاء وخلقت الأسخياء، وأنا أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأحقّ بالجود والكرم من العالمين، وقد وهبت كل من لم يقبل حجّه لمن قبلته، وكان ابن الموفق هذا قد حجّ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حججاً وقال: فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا ابن الموفق حججت عني؟ قلت: نعم يارسول الله، قال: ولبيت عني؟ قلت: نعم، قال: فهذه يد لك عندي أكافئك بها يوم القيامة آخذ بيدك في الموقف فأدخلك الجنة والخلائق في كرب الحساب. ذكر فضائل البيت الحرام وما جاء فيه في الخبر: أنّ الله تعالى وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا كملهم الله تعالى بالملائكة، وأنّ الكعبة تحشر كالعروس المزفوف وكل من حجّها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخون معها، وفي الخبر: أن الحجر ياقوتة من يواقيت الجنة، وأنه يبعث يوم القيامة، وله عينان، ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحقّ وصدق، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقلبه كثيراً، وروينا أنه سجد عليه وكان يطوف على الراحلة فيجعل المحجن عليه، ثم يقبل طرف المحجن، وقبله عمر ثم قال: إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك لما قبلتك، ثم بكى حتى علا نشيجه فالتفت إلى ورائه فإذا عليّ، فقال: يا أبا الحسن ههنا تسكب العبرات، فقال عليّ: يا أمير المؤمنين بل هو يضرّ وينفع، قال: وكيف؟ قال: إنّ الله عزّ وجلّ لما أخذ الميثاق على الذرية كتب عليهم كتاباً، ثم ألقمه هذا الحجر فهو يشهد للمؤمن بالوفاء، ويشهد على الكافر بالجحود، قيل: فذلك معنى قول الناس عند الاستلام: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك يعنون هذا الكتاب والعهد، وفي الخبر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا أول من تنشقّ عنه الأرض ثم آتي البقيع فيحشرون معي، ثم آتي أهل مكة فأحشر بين الحرمين، وفي الخبر: أنّ آدم لما قضى مناسكه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 لقيته الملائكة فقالوا: برجحك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، وجاء في الخبر: أنّ الله تعالى ينظر في كل ليلة إلى أهل الأرض، فأول من ينظر إليه أهل الحرم وأول من ينظر إليه من أهل الحرم أهل المسجد الحرام، فمن رآه طائفاً غفر له، ومن رآه منهم مصلياً غفر له، ومن رآه نائماً مستقبل القبلة غفر له، وذكرت الصلاة بعبادان لأبي تراب النخشي فقال: نومة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة بعبادان، وكوشف بعض الأولياء قال: رأيت الثغور كلها تسجد لعبادان، ورأيت عبادان ساجدة لجدة، لأنها خزانة الحرم، وفرضة أهل المسجد الحرام، وكنت أنا بمكة سنة فأهمني الغلاء بها حتى ضقت ذرعاً به، فرأيت في النوم شخصين بين يديّ، يقول أحدهما للآخر: كل شيء في هذا البلد عزيز كأنه يعني الغلاء، فقال الآخر: الموضع عزيز فكل شيء فيه عزيز، فإن أردت أن ترخص الأشياء عليك فضّحها إلى شرف الموضع حتى ترخص. ذكر من كره المقام بمكة كان سفيان الثوري يقول: والله ما أدري أي البلاد أسكن، فقيل له: خراسان، قال: مذاهب مختلفة وآراء فاسدة، قيل: الشام، قال يشار إليك بالأصابع، قيل: فالعراق، قال: بلدة الجبابرة، قيل: مكة، قال: تذيب الكيس والبدن، وقال رجل للثوري: قد عزمت على المجاورة بمكة فأوصني، قال: أوصيك بثلاث؛ لا تصلّين في الصف الأول، ولا تصبحن قرشياً، ولا تظهرن صدقة، إنما كره له الصلاة في الصف الأول لأنه يفتقد فيسأل عنه إذا غاب فيشتهر ويعرف إذا واظب، فيجب أن يرب الحال بلزوم الموضع، فيذهب الإخلاص ويحصل التزيّن والتصنّع، وجاء رجل إلى سفيان بمكة فسأله فقال: أرسل معي رجل بمال فقال: ضعه في سدانة الكعبة، أو قال: في سدنة الكعبة، فما ترى؟ قال سفيان: قد جهل فيما أمرك به، وإنّ الكعبة لغنية عن ذلك، قال: فما ترى؟ قال: أصرفه للفقراء والأرامل، وإياك وبني فلان فإنهم سراق الحاج، وقد كان بعض السلف يكره المجاورة بمكة ويحبّ قصد البيت للحجّ والخروج منه، إما لأجل الشوق إليه أو خشية الخطايا فيه، أو حبّاً للعود، وقد قال الله تعالى: (وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) البقرة: 125، أي يثوبون إليه يعودون مرة بعد مرة ولا يقضون منه وطراً وكان بعضهم يقول تكون في بلد وقلبك مشتاق متعلق بهذا البيت، خير لك من أن تكون فيه وأنت متبرم بمقامك أو قلبك متعلّق إلى بلد غيره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وروى ابن عيينة عن الشعبي: لأن أقيم بحمام أعين أحب إلي من أن أقيم بمكة، قال سفيان يعني إعظاماً لها وتوقيتاً عن الذنب فيها وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يضرب الحجاج إذا حجوا ويقول: يا أهل اليمن يمنكم ويا أهل الشام شامكم ويا أهل العراق عراقكم، وكان ابن عباس يقول: أجور بيوت مكة حرام ولا تقوم الساعة حتى يستحل الناس اثنتين إتيان النساء في أدبارهن وأجور بيوت مكة، وكان الثوري وبشر وجماعة من الفقهاء وأهل الورع يكرهون أن يدفع الرجل كراء بيت مكة، حتى قال الثوري: إذا طالبوك ولم يكن لك بدّ من أن تعطيهم فخذ لهم من البيت قيمة ما أخذوا منك، وقال بعض السلف من رجل بأرض خراسان أقرب إلى هذا البيت ممن يطوف به ويقال إن لله عباداً تطوف هم الكعبة تقرّباً إلى الله عزّ وجلّ، وحدثني شيخ لنا عن أبي علي الكرماني شيخنا بمكة وكان من الأبدال إلا أني سمعت هذه الحكاية منه، قال: سمعته يقول: رأيت الكعبة ذات ليلة تطوف بشخص من المؤمنين، وقال لي هذا الشيخ: ربما نظرت إلى السماء واقعة على سطح الكعبة قد ماستها الكعبة ولزقت بها وأكثر الأبدال في أرض الهند والزنج وبلاد الكفرة، ويقال لا تغرب الشمس من يوم إلا يطوف بهذا البيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به واحد من الأوتاد وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض فيصبح الناس وقد رفعت الكعبة ولا يرون لها أثراً وهذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد ثم يرفع القرآن من المصاحف فيصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح ليس فيه حرف ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا تذكر منه كلمة ثم يرجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية ثم يخرج الدجال وينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله والساعة عند ذلك بمنزلة الحامل المقرب يتوقع ولادتها. روينا عن وهيب بن الورد المكي قال كنت ذات ليلة أصلي في الحجر فسمعت كلاماً بين الكعبة والأستار يقول إلى الله تعالى أشكو ثم إليك يا جبريل ما ألقى من الطائفين حولي تفكههم في الحديث ولغوهم ولهوهم لئن لم ينتهوا من ذلك لأنتفضن انتفاضة يرجع كل حجر مني إلى الجبل الذي قطع منه، وفي الخبر لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن والمقام، وروي أن الحبشة يغزون الكعبة فيكون أولهم عند الحجر الأسود وآخرهم على ساحل البحر بجدة فينقضونها حجراً حجراً يناول بعضهم بعضاً حتى يرمونها في البحر وكذلك يذكر عن بعض الصحابة وقراء الكتب السالفة كأني أنظر حبشياً أصلع أجدع قائماً عليها يعني الكعبة هدمها بمعوله حجراً حجراً، وفي الخبر استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة ورفعه الذي ذكرناه يكون بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 هدمه لأنه بيني من ذي قبل حتى يعود إلى مثل حاله ويحج مراراً ثم يرفع بعد ذلك. وروينا في حديث أبي رافع عن عليّ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول الله تعالى: إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتي فخربته ثم أخرب الدنيا على أثره، وليس بعد مكة مكان أفضل من مدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأعمال فيها مضاعفة، روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام، وكذلك قيل: إنّ فضل الأعمال بالمدينة كفضل الصلاة، كل عمل بألف عمل، وبعد ذلك الأرض المقدسة فإن فضل الصلاة فيها بخمسمائة صلاة، وكل عمل يضاعف بخمسمائة مثله، روينا عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلاة في مسجد المدينة بعشرة آلاف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى بألف صلاة، ثم يستوي الأرض بعد ذلك فلا يبقى مندوب إليه مقصود لفضل دلّ الشرع عليه، كما جاء في الخبر: لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى، وبعد ذلك فأي موضع صلح فيه قلبك، وسلم لك دينك، واستقام فيه حالك؛ فهو أفضل المواضع لك، وقد جاء في الخبر: البلاد بلاد الله تعالى، والخلق عباده، فأي موضع رأيت فيه رفقاً، فأقم واحمد الله تعالى، وفي الخبر المشهور من حضر له في شيء فليلزمه ومن جعلت معيشته في شيء فلا ينتقل عنه حتى يتغير عليه، وقال نعيم: رأيت الثوري قد جعل جرابه على كتفه وأخذ قلته بيده، فقلت: إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال: إلى بلد أملأ فيه جرابي بدرهم، وفي حكاية أخرى: بلغني أنّ قرية فيها رخص فأخرج إليها، فقلت: وتفعل هذا يا أبا عبد الله؟ فقال: نعم، إذا سمعت في بلد برخص فاقصده فإنه أسلم لدينك، وأقلّ لهمّك، وكان يقول: هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين فكيف بالمشهورين، هذا زمان تنقل الرجل ينتقل من قرية إلى قرية يفرّ بدينه من الفتن، وقد كان الفقراء والمريدون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 يقصدون الأمصار للقاء العلماء والصالحين، للنظر إليهم والتبرّك والتأدب بهم، وكان العلماء ينتقلون في البلاد، ليعلموا، ويردوا الخلق إلى الله تعالى، ويعرفوا الطريق إليه، فإذا فقد العالمون وعدم المريدون فالزم موضعاً ترى فيه أدنى سلامة دين وأقرب صلاح قلب وأيسر سكون نفس ولا تنزعج إلى غيره فإنك لا تأمن أن تقع في شرّ منه وتطلب المكان الأول فلا تقدر عليه، والله غالب على أمره ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 الفصل الرابع والثلاثون تفصيل الإسلام والإيمان وعقود شرح معاملة القلب من مذاهب أهل الجماعة قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ) المائدة: 1، وقال سبحانه وتعالى: (وَلكنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) المائدة: 89، وقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَا أَخْطَأتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) الأحزاب: 5، وقال جلّ ثناؤه: (وَلكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) البقرة: 225، فعمد القلوب وكسبها هو عقودها وأعمالها، وعقود القلب التي هي السنّة المجتمع عليها نقلها الخلف عن السلف، ولم يختلف فيه اثنان من المؤمنين، فيها ست عشرة خصلة؛ ثمان واجبات في الدنيا، وثمان واقعات في الآخرة، فأما اللاتي هنّ في الدنيا أن يعتقد العبد أنّ الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ويقوى بالعلم، ويضعف بالجهل، وأنّ القرآن كلام الله عزّ وجلّ غير مخلوق، وعلمه القديم صفة من صفاته، وهو متكلم به بذاته، وفي الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تقرب العبد إلى الله عزّ وجلّ بأفضل من شيء خرج منه وهو كلامه، وروينا عن ابن عباس: أنّ علياً رضي الله تعالى عنهما دعا عند قتال صفين يا كهيعص أعوذ بك من الذنوب التي توجب النقمة، وأعوذ بك من الذنوب التي تغيّر النعم، وأعوذ بك من الذنوب التي تهتك الحرم، وأعوذ بك من الذنوب التي تحبس غيث السماء، وأعوذ بك من الذنوب التي تديل الأعداء، انصرنا على من ظلمنا، قال الضحاك بن مزاحم: فكان عليّ رضي الله عنه يقدم هذه بين يدي كل شديدة، وفيما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله: أعوذ بكلمات الله وأسمائه كلها، كما قال أعوذ بعزة الله وقدرته، دليل أنّ الكلام والأسماء صفات، وعن عليّ رضي الله تعالى عنه حين حكم الحكمين فنقم عليه الخوارج ذلك فقالوا: حكم في دين الله من المخلوقين، فقال: والله ما حكمت مخلوقاً، ما حكمت إلاّ القرآن، وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 سمع قرآن مسيلمة الكذاب الذي افتعله وتخرصه يضاهي به كلام الله تعالى، والله ما خرج هذا من آل ولا من تقي، قال أبو عبيدة: يعني ما خرج من الله تعالى، قال: وفيه دليل أنّ القرآن غير مخلوق، وأنه خرج من الله تعالى تكلم به، قال ومن هذا قوله تعالى: (لاَ يَرْقُبُونَ في مُؤمِنٍ إلاًّ وَلاَ ذِمَّةً) التوبة: 10معناه الله عزّ وجلّ لا يرقبونه. وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعنى ذلك في قوله: فضل كلام الله عزّ وجلّ على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه، وذلك أنه خرج منه، وقرأت في مصحف ابن مسعود قال: يا موسى قد فضّلتك برسالاتي وبكلامي على الناس، وهذا لا يجوز فيه إلاّ التكلم بالذات مع قوله سبحانه وتعالى: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكُلِيماً) النساء: 164، قال أهل اللغة: المصدر إذا أدخل في الفعل فهو للمواجهة والوصف لا للأمر بالفعل، ولا على المجاز، ثم تسليم أخيار الصفات فيما ثبتت به الروايات وصحّ النقل، ولا يتأول ذلك ولايشبه بالقياس والعقل، ولكن يعتقد إثبات الأسماء والصفات بمعانيها وحقائقها لله تعالى، وينفي التشبيه والتكييف عنها إذ لا كُفُؤَ للموصوف فيشبه، ولا مثل له فيجنس منه، ولا نشبه ونصف، ولا نمثل ونعرف، ولا نكيف، وفي رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام من قبل أنّ الناقلين إلينا ذلك هم ناقلو شرائع الدين وأحكام الإيمان، فإن كانوا عدولاً فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول في كل ما نقله، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من أخبار الصفات فالكذاب مردود القول في كل ما جاء به، والكذب على الله كفر، فكيف تقبل شهادة كافر؟ وإذ جاز أن يجترِئُوا على الله عزّ وجلّ بأن يزيدوا في صفاته ما لم يسمعوه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم إلى أن يكذبوا على الرسول فيما من الأحكام أولى، ففي ذلك إبطال الشريعة، وتكفير النقلة من الصحابة والتابعين بإحسان، فلذلك كفر أصحاب الحديث من نفي أخبار الصفات، ويعتقد تفضيل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل بيته رضي الله عنهم ورضوا عنه كافة، ويسكت عمّا شجر بينهم، وينشر محاسنهم وفضائلهم لتأتلف القلوب بذلك، ونسلم لكل واحد منهم ما فعله، لأنهم أوفر وأعلى عقولاً منا، فقد علم كل واحد بعلمه ومنتهى عقله فيما أدى إليه اجتهاده، وإن كان بعضهم أعلم من بعض، كما أن بعضهم أفضل من بعض، إلاّ أنّ علومنا وعقولنا تضعف وتنقص عن علم أدناهم علماً، كما فضّلوا علينا بالسوابق سبقاً وتقدّم من قدم الله ورسوله وأجمعِ المسلمون الذين تولى الله إجماعهم على الهداية، وضمن لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفضيلاً لهم وتشريفاً لهم أن لا يجتمعوا على ضلالة، وقد قال عليّ لما قيل له: ألا تستخلف علينا؟ فقال: لا أستخلف عليكم بل أكلكم إلى الله عزّ وجلّ، فإن يرد بكم خيراً جمعكم بعد نبيكم على خيركم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 قال إبراهيم النخعي: فلما سلم الحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنهما الأمر إلى معاوية سمّيت سنّة الجماعة، وقال له رجل من الشيعة: يا مذلّ المؤمنين، فقال: بل أنا معز المؤمنين، سمعت أبي عليه السلام يقول: لا تكرهوا إمارة معاوية فإنه سيلي هذا الأمر بعدي، وإن فقدتموه رأيتم السيوف تبدر عن كواهلها كأنها الحنظل، فليعتقد بقلبه من رضي الصحابة بإمامته، وأجمعوا على خلافته واتفق الأئمة من أهل الشورى على تقدمته على حديث ابن عمر في التفضيل، قال: كنا نقول على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا ينكر وعلى حديث سفينة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً، فهؤلاء الأربعة خلفاء النبوة؛ وهم أئمة الأئمة من العشرة، وعيون أهل الهجرة والنصرة، وخيار الخيار من الأصحاب، كما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ الله عزّ وجلّ اختار أصحابي على العالمين، واختار من أصحابي أربعة فجعلهم خير أصحابي، وفي كل أصحابي خير، واختار أمتي على الأمم، واختار من أمتي أربعة قرن، فكل قرن سبعون سنة فإنّا نحن قوم متبعون نقفو الأثر غير مبتدعين بالرأي والمعقول نرد به الخبر، إذ لا مدخل للقياس والرأي في التفضيل، كما لا مدخل لهما في الصفات وأصول العبادات، وإنما يؤخذ التفضيل توقيفاً وتسليماً ومن طريق الاجماع والإتباع خشية الشذوذ والابتداع لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضُّوا عليها بالنواجذ، ومن شذ ففي النار، وقال تعالى في تصديق ذلك: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) النساء: 115، وإنما جاء الترتيب في التفضيل والخلافة مخالفاً للقياس، والمعقول توكيداً للنبوة وتأكيداً للرسالة، لئلا تلتبس النبوة بالملك ولا ينحو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخلافة نحو الأكاسرة والأقاصرة في المملكة كما، كانت النبوة مخالفة للملك جاءت الخلافة على غير سيرة الملوك من استخلاف أبنائهم وأهل بيتهم، ولو كان للمعقول والقياس مدخل في التفضيل لكان أفضل الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحسن ابنه، لأنّ فيه النبوّة والعبّاس عمّه إذ فيه الأبوّة، وقد أجمعوا على خلاف ذلك وبمعنى هذا من إخراج الخلق من المألوف ورفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 سكونهم عن المعهود، أنّ أبا قحافة وأبا سفيان ماتا مؤمنين، وأنّ أبا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمه ماتا كافرين، أجمع أهل النقل والتواريخ على ذلك، وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه لما أسلم أبوه بين يدي رسول الله عام فتح مكة: والله يا رسول الله لإسلام أبي طالب كان أحبّ إليّ لو أسلم من إسلام أبي ليقرّ الله به عينك، فبكى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأيضاً، فلما سبق في علم الله تعالى أن يجعل هؤلاء الأربعة خلفاء النبوة بما قدّر الله من أعمارهم، فلم يكن يتم ذلك إلاّ بترتيبهم على ما رتبوا في الخلافة، فكان آخرهم استخلافاً هو آخرهم موتاً، فدبر خلافتهم على ما علم من آجالهم، ووفى لهم بما وعدهم من استخلافهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم من خلائف أنبيائه السوالف، ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وبدلهم أمناء بعد خوفهم، كما قال الصادق فيما عهد، ومن أوفى بعهده من الله، فذلك تأويل قوله عزّ وجلّ: (وَعَدَ الله الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ ليستَخلفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) النور: 55 الآية، وأن يعتقد أنّ الإمامة في قريش خاصة دون سائر العرب كافة إلى يوم القيامة، وأن لا يخرج على الأئمة بالسيف، ويصبر على جورهم إن كان منهم، ويشكر على المعروف والعدل، ويطيع إذا أمر بالتقوى والبر حتى تأتيه يد خاطئة أو منية قاضية، كذلك السنّة، قال عالمنا أبو محمد سهل رحمه الله تعالى: هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة: اثنتان وسبعون هالكة، كلّهم يبغض السلطان، والناجية هذه الواحدة التي مع السلطان، وسئل أي الناس خير؟ فقال: السلطان، قيل: كنا نرى أنّ شرّ الناس السلطان، فقال: مهلاً إن لله تعالى في كل يوم نظرتين، نظرة إلى سلامة أموال المسلمين ودمائهم، ونظرة إلى سلامة أفكارهم، فيطلع في صحيفته فيغفر له ذنوبه، وقال أبو محمد الخليفة إذا كان غير صالح فهو من الأبدال، وإذا كان صالحاً فهو القطب الذي تدور عليه الدنيا، قوله من الأبدال يعني أبدال الملك، كما حدثنا عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: أبدال الدنيا سبعة، على مقاديرهم يكون الناس في كل زمان من العباد، والعلماء، والتجار، والخليفة، وزير، وأمير الجيش، وصاحب الشرطة، والقاضي وشهوده، روينا في الخبر: عدل ساعة من إمام عادل خير من عبادة ستين سنة، ويقال: إن الإمام العادل يوضع في ميزانه جميع أعمال رعيته، وكان عمرو بن العاص يقول: إمام غشوم خير من فتنة تدوم، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون عليكم أمراء يفسدون وما يصلح الله تعالى بهم أكثر، فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وفي الخبر الآخر، يليكم أمراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 يقولون ما لا يعرفوه ويفعلون ما ينكرون، وفي لفظ يفعلون ما لم يؤمروا، قلنا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلّوا. لى سلامة أفكارهم، فيطلع في صحيفته فيغفر له ذنوبه، وقال أبو محمد الخليفة إذا كان غير صالح فهو من الأبدال، وإذا كان صالحاً فهو القطب الذي تدور عليه الدنيا، قوله من الأبدال يعني أبدال الملك، كما حدثنا عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: أبدال الدنيا سبعة، على مقاديرهم يكون الناس في كل زمان من العباد، والعلماء، والتجار، والخليفة، وزير، وأمير الجيش، وصاحب الشرطة، والقاضي وشهوده، روينا في الخبر: عدل ساعة من إمام عادل خير من عبادة ستين سنة، ويقال: إن الإمام العادل يوضع في ميزانه جميع أعمال رعيته، وكان عمرو بن العاص يقول: إمام غشوم خير من فتنة تدوم، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون عليكم أمراء يفسدون وما يصلح الله تعالى بهم أكثر، فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وفي الخبر الآخر، يليكم أمراء يقولون ما لا يعرفوه ويفعلون ما ينكرون، وفي لفظ يفعلون ما لم يؤمروا، قلنا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلّوا. وفي الحديث الآخر: ما أقاموا الصلاة، وكان سهل رحمه الله تعالى يقول: من أنكر إمامة لسطان فهو زنديق، ومن دعاه السلطان فلم يجب فهو مبتدع، ومن أتاه من غير دعوة فهو جاهل، وكان يقول: الخشيبات السود المعلقة على أبوابهم أنفع للمسلمين من سبعين قاضياً يقضون في المسجد، وقد كان أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يقول: إذا كان السلطان صالحاً فهو خير من صالحيّ الأمة، وإذا كان فاسقاً فصالحو الأمة خير منه؛ وهذا قول عدل، ولا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وإن عظم، ولا ينزله جنة ولا ناراً بل يرجو له ويخاف عليه، وإن من مات مصرّاً على الكبائر عن غير توبة منها في مشيئة الله تعالى، إن أثبت وعيده عليه كان عدلاً، وإن عفا عنه وسمح له بحقه كان ذلك منه فضلاً، ولا نحكم ولا نقطع على الله تعالى بشيء، ولا نوجب لنا عليه شيئاً إنما نحن بين عدله وفضله وبمشيئته واختياره، إن حقّق علينا وعيده فنحن أهل ذلك، وإن غفر لنا فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، كيف وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من وعده الله تعالى على عمل ثواباً فهو ينجزه له، ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار، والحديث الآخر أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيها) النساء: 93 فقال: جزاؤه جهنم إن جازاه، ففي كل قضاء الله تعالى حكمة بالغة وعدل، وحكم صادق وحق، وإن يصدق بجميع أقدار الله تعالى خيرها وشرها أنها من الله تعالى سابقة في علمه جارية في خلقه بحكمه، وأنهم لا حول لهم عن معصيته إلاّ بعصمته، ولا قوّة لهم على طاعته إلاّ برحمته، وأنهم لا يطيقون ما حملهم إلاّ به، ولا يستطيعون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بمشيئته، ونؤمن بقدرة الله وآياته في ملكه وغيب ملكوته مما ذكر في الأخبار من كرامته لأوليائه، وإجاباته لأحبائه، وإظهار القدرة للصدّيقين والصالحين، مزيداً لإيمانهم وتثبيتاً ليقينهم وتكرمة وتشريفاً لهم، وأنه ليس في ذلك إبطال لنبوّة الأنبياء ولا إدحاض حججهم من قبل أنّ هؤلاء غير مثبتين ولا مخالفين للأنبياء، ولا ادّعوا ما ظهر لهم بحولهم وقوّتهم، ولا أظهروا دعوة إلى أنفسهم، ولا تظاهراً به، ولا اجتلاباً للدنيا، ولا طلباً للرياسة على أهلها، وإنما هو شيء كشفه الله تعالى لهم من سرّ ملكوته كيف شاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وأظهرهم عليه من غيب قدرته أين شاء كما شاء، تخصيصاً لهم وتعريفاً، وهم للأنبياء متبعون، وعلى آثارهم مقتفون، ولسنّتهم مقتدون، فآتاهم الله تعالى ذلك ببركة الأنبياء وبحسن اتباعهم لهم، ولأنهم إخوانهم أبدالاً لا أشكالاً وعنهم أمثالاً، وقد تواترت الأخبار من الصحابة والتابعين الأخيار بما ذكرنا فغنينا بالتواتر عن التناظر. وأما الثماني الواقعات في الآخرة فأن يعتقد العبد مساءلة منكر ونكير يقعدان العبد في قبره سوياً ذا روح وجسد، فيسألانه عن التوحيد وعن الرسالة؛ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، وهما فتانا القبر، كذلك روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو معنى قول الله عزّ وجلّ: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخرة) إبراهيم: 27، قيل: عند مساءلة منكر ونكير، ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء، وعذاب القبر حقّ وحكمة وعدل على الجسم والروح والنفس، يشتركون في ذلك حسب اشتراكهم في المعصية، وإن كان نعيماً كان ذلك على الجسم والروح والنفس، يشتركون في النعيم كما اشتركوا في الطاعة؛ وهذا من أحكام الآخرة، يكون بمجاري القدرة ليس على ترتيب المعقول ولا عرف العقول، يوصل الله العذاب والنعيم إلى الأرواح والأجسام وهي متفرقة فيتصل ذلك بهما كأنهما متفقان، وليس في القدرة مسافة ولا ترتيب ولا بعد ولا توقيت، ويؤمن بالميزان ذي الكفتين واللسان أنه حق وعدل وحكمة وفضل، كما جاء وصفه في العظم، من أنّ طبقات السماوات والأرض توزن فيه الأعمال بقدرة الله تعالى، والصنج يومئذ مثاقيل الذرّ والخردل بحقيقة العدل، وقد خاب من حمل ظلماً فتكون الحسنات في صورة حسنة تطرح في كفة النور فيثقل بها الميزان برحمة الله تعالى، وتكون السيّئات في صورة سيئة تطرح في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل الله تعالى، ويعتقد أنّ الصراط حقّ على ما جاء وصفه في الآثار كدقة الشعرة وحدّ السيف؛ وهو طريق الفريقين إلى الجنة أو النار، دحض مزلة يثبت عليه أقدام المؤمنين بقدرة الله عزّ وجلّ، فيحملهم إلى الجنة بفضل الله تعالى، وتزل عنه أقدام المنافقين فتهوي بهم في النار بحكم الله عزّ وجلّ، وهو على متن جهنم بإذن الله تعالى، من قطعه نجا منها برحمة الله، ومن زلّ عنه وقع فيها بحكمة الله تعالى، ويؤمن بوقوع الحساب وتفاوت الخلق فيه، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً، ومنهم من يدخل النار بغير حساب؛ وهم الكافرون، وكان إمامنا أبو محمد رحمه الله تعالى يقول: يسأل الأنبياء عن تبليغ الرسالة، ويسأل الكفّار عن تكذيب المرسلين، ويسأل المبتدعة عن السنّة، ويسأل المسلمون عن الأعمال، فقولنا لقوله تبع، ويؤمن بالنظر إلى الله جلّ جلاله عياناً بالأبصار كفاحاً مواجهة تكشف الحجب والأستار بقدرة الله ومشيئته ونوره ورحمته كيف شاء؛ وهو معنى قول الله تعالى: (لِلَّذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنى وَزِيَادَةَ) يونس: 26، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى الله تبارك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وتعالى، وكذلك فسّره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعتقد إخراج الموحدين من النار بعد الانتقام حتى لا يبقى في جهنم موحّد بفضل الله بشفاعة الشافعين من النبيّين والصدّيقين، وأنّ لكل مؤمن شفاعة بإذن الله، فيشفع النبيوّن والصديقون والعلماء والشهداء وسائر المؤمنين كل واحد وسع جاهه وقدر منزلته، أجمعت الرواة بذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إثبات الشفاعة وفي إخراج الموحدين من النار؛ وهم الجهنميون من أهل الطبقة العليا من النار؛ وهو معنى قول الله تعالى: (رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمينَ) الحجر: 2، قال أهل التفسير ذلك عند إخراج الموحدين من النار، ويبقى الباقي لرحمة أرحم الراحمين، فيخرج من النار بمشيئته، وسعة رحمته، وفضل فضله، من لم يشفع لهم الشافعون ولم يقدم في الشفاعة لهم المرسلون، هكذا روينا معناه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهذه عقود السنّة الهادية وطريقة الأمة الراضية، وقد أجمع السلف من المؤمنين على ما ذكرناه من قبل أنه لم ينقل عن أحد منهم خلافه، ولا روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضدّه، بل قد روي في كل ما ذكرناه أخبار توجب إيجابه ومعانٍ تشهد لإثباته وتولى الله تعالى إجماعهم على سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تولى إظهار دينه على الدين كلّه. وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ الله عزّ وجلّ ضمن لي، وفي لفظ آخر: أعطاني أن لا تجتمع أمتي على ضلالة، فإذا رأيتم خلافاً فكونوا مع السواد الأعظم؛ والسواد الأعظم يعبّر به عن الكثرة، فالمختلفون متفقون على أنّ السواد الأعظم ما عليه العامة من المسلمين والكافة من العموم، وأنّ المبتدعة والمخالفة لما ذكرناه إنما هم فرق وشراذم قليلون وشيع وأحزاب متفرقون، لأن كل مبتدعة منهم فرقة، وكل شرذمة منهم مختلفة، وليس السواد الأعظم والجمّ الغفير الدهماء إلاّ أهل السنة والجماعة؛ وهم السواد والعامة، ولذلك كان عمر ابن عبد العزيز وغيره من الصالحين يقولون: ديننا دين العجائز وصبيان المكاتب ودين الأعراب أي هو القوي السليم العام، فسّر ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر فقال: من كان على ما أنتم عليه اليوم، فأجمعت الأمة على أنّ ما أحدثت الفرق المختلفة لم تكن عليه الصحابة ولا تكلموا فيه ولا نقل عنهم، وأنهم كانوا على ما ذكرناه آنفاً، لأنه لم يرو عن أحد منهم خلافه، بل قد نقل عنهم وفاقه في القرن الأول والثاني، ثم حدث ما ذكرناه من الخلاف في بعض القرن الثالث، وفي القرن الرابع، وقد كان عمرو بن دينار وأيوب وحماد بن زيد إذا ذكر أحدهم الأرجاء ومذهب جهم يقول: لعن الله ديناً أنا أكبر منه؛ يعني أنه سبق حدوث هذه المذاهب التي تدين بها المبتدعون فلله الحمد؛ ربّ السموات وربّ الأرض؛ العالمين على حسن توفيقه وجميل هدايته، وما كنا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله، فنعمة الله تعالى علينا بالسنّة كنعمتة علينا بالإسلام إذ نعمته علينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنعمته علينا بمعرفته لاقتران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 طاعته بطاعته ولحاجة الكتاب العزيز إلى تفسير سنّته. وقد روينا في حديث عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشيطان مع الواحد وهو من اثنين أبعد، ذئب أحدكم كذئب الشاة، يتبع الشاذة والقاصية، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن شذّ ففي النار، وروينا عن أبي غالب عن أبي أمامة: أنه نظر إلى رؤوس الحرورية جيء بها من البصرة فنصبت على الخشب بدمشق، قال: شر قتلى تحت ظل السماء وخير قتلى من قتلوه، ثم قال: كلاب النار، ثم قرأ: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءِ الفتنة) آل عمران: 7، ثم قرأ: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجوُهٌ وَتَسْوَدُّ) آل عمران: 160، فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم، ويشير بإصبعه إليهم، ثم بكى، فقلت: يا أبا أمامة تقول فيهم ما تقول؟ ثم بكى، فقال: قاتل الله إبليس ما صنع بهؤلاء الناس يا أبا غالب، إنهم كانوا على ديننا فأبكي مما هم لاقون، هؤلاء بأرضك كثير فأعيذك بالله منهم ثلاث مرات، فقلت: آمين يا أبا أمامة أشيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو شيء تقوله من قبل رأيك؟ قال: إني إذاً لجريء ثلاث مرات، لقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع يقول: تفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، تزيد أمتي عليها فرقة، كلها في النار إلاّ السواد الأعظم فقال رجل كان معنا: يا أبا أمامة إنّ في السواد الأعظم بني فلان قال: وإن فعلوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم، والجماعة خير من الفرقة، والطاعة خير من المعصية، ثم نظر إلى الرؤوس فقال: أيغضبون لنا ويقتلوننا هذه رؤوس الخوارج وهم الحرورية الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بالنهروان؛ وهم أوّل قرن نبغ من المبتدعة وأوّل بدعة ابتدعت في الإسلام، وكانوا قرّاء المصاحف في أعناقهم والسجادات كركب المعزى في جباههم، فأنكروا عليه تحكيم الحكمين وسألوه أن ينقض حكمه فيرجع عنه وقالوا: لا حكم إلاّ لله، وأنكروا أمر السلطان ورأوا الخروج على الإمام، وكفروا عثمان وصوّبوا قتل غوغاء المصريين له، وطالبوا عليًّا عليه السلام أنّ يوافقهم على رأيهم ويتابعهم على أهوائهم على أن قاتلوا معه المسلمين إن رجع عن تحكيم الحكمين، وكفّروا أهل الكبائر بالمعاصي، فرأى على ما أراه الله تعالى وبما عهد إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قتل المارقين فقتلهم فهؤلاء في النار، وقاتلوهم عليّ وأصحابه خير أهل الأرض عليّ يبغضه ويسبّه قبل أن يظهر منه ما ظهر، فخرج عليه عبد الله بن الكوافي ستة آلاف، فأرسل عليّ عليه السلام عبد اللّّه بن عباس إليهم يناظرهم ويحاجّهم، فسبّوه وبطشوا به، وجرأهم عليه ابن الكوافي هذا فقام خطيباً فيهم فقال: أتعرفوني بهذا أنا أعرفكموه: هذا من القوم الذين قال الله فيهم: ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 ثم تراجع بعضهم إلى ابن عباس فسأله فكشف له عن الحقّ واستتاب منهم ألفين، وقاتل عليّ كرّم الله وجهه أربعة آلاف؛ فهذه أوّل فرقة مرقت من الدين واتبعت غير سبيل المؤمنين، ثم افترقت الفرقة الثانية بالمدائن فرأوا دين الأرجاء، وأنّ الإيمان قول وعمل، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وكتب بذلك إلى أمير الشام فهمّ بقتالهم، ثم شغل عنهم بقتال الروم ثم افترقت الفرقة الثالثة بالبصرة وهم القدرية إمامهم معبد الجهني، وتابعه عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأصحابهم، ثم خرجت الفرقة الرابعة من الكوفة سموا بذلك لما رفضوا زيد ابن علي بن الحسين حين خرج يقاتل هشاماً فقالوا له: أتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما؟ قال: هما جداي إماما عدل لا أتبرأ منهما فرفضوه، ثم افترقت كل فرقة ثمان عشر فرقة، فتمت اثنتان وسبعون فرقة، وكلها نبع بأرض العراق، ومنه طلع قرن الشيطان، وظهرت الفتن نعوذ بالله منها، ما ظهر منها وما بطن، وقد روينا عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ لله عزّ وجلّ ثلاث أملاك؛ ملك على ظهر بيت الله تعالى، وملك على مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وملك على ظهر بيت المقدس، ينادون في كل يوم، يقول الملك الذي على ظهر بيت الله تعالى: من ضيّع فرائض الله خرج من أمان الله، ويقول الملك الذي على ظهر مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من خالف سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تنله شفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول الملك الذي على ظهر بيت المقدس: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل. لى الله عليه وسلم لم تنله شفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول الملك الذي على ظهر بيت المقدس: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل. شرح معاملة القلب من العلم الظاهر ذكر مباني الإسلام وأركان الإيمان قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أََنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَا) الأعراف: 172، وقال عزّ وجلّ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَميثَاقَهُ الَّذي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) المائدة: 7، وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ ميثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) الحديد: 8، فمباني الإسلام خمسة: أوّلها شهادة أنّ لا إله إلاّ الله وحده وأنّ محمّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبده ورسوله؛ وهما كواحدة لاتصال إحداهما بالأخرى في الوجوب والحكم، وإقام الصلوات الخمس وهنّ كواحدة منها لتعلق كل واحدة بصاحبتها، وإيتاء الزكاة وهي كالصلاة، لاقترانها بها والإشتراط بها، وصوم رمضان، وحجّ البيت؛ وهما كشيء واحد من الفرض، فهذه الخمس كواحدة منهن في إيجاب العقد واعتقاد الوجوب، وإن اختلف الحكم في سقوط فعل بعضها بشرط، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: بُنيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحجّ البيت، وأركان الإيمان سبعة: الإيمان بأسماء الله وصفاته، والإيمان بكتب الله تعالى وأنبيائه، والإيمان بالملائكة والشياطين، والإيمان بالجنة والنار، وأنهما قد خلقتا قبل آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان بجميع أقدار الله خيرها وشرّها، حلوها ومرّها أنها من الله تعالى قضاءَ وقدراً أو مشيئةً وحكماً، وأنّ ذلك عدل منه، وحكمة بالغة، استأثر بعلم غيبها ومعنى حقائقها، لا يسأل عمّا يفعل، ولا تضرب له الأمثال بملزمات العقول وتميثلات المعقول، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، وقد شهد الله سبحانه وتعالى بالضلالة على من ضرب لعبده الأمثال فقال تعالى جده: (أُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا) الإسراء: 48، فكيف بمن ضرب المثل للسيد الأجلّ بعد نهيه عن ذلك وإخباره بعلم غيب ذلك، إذ يقول: فلا تضربوا لله الأمثال، إنّ الله يعلم وأنتم لا تعلمون، والإيمان بما صحّ من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقبول جميعه، وافتراض طاعته وأمره على العباد، والتزام ذلك، إذ قد جعل الله تعالى طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شرط الإيمان وقرنها بطاعته، فقال تعالى: (وَأَطيعُوا الله وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) الأنفال: 1، واشترط للرحمة طاعة الرسول كما اشترط لها تقواه فقال: (وَأَطيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) النور: 56، وحذّر من مخالفة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإستجابة له مقامه، وجعله في المبالغة في الوصف والمدح بدلاً عنه، فقال تعالى: (فَليْحَذَرِ الَّذينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصيبَهُمْ فِتْنةٌ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذَابٌ أَليمْ) النور: 63، كما قال سبحانه وتعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ) آل عمران: 28، وقال تعالى: (اسْتَجيبُوا الله وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لمَا يُحْييكُمْ) الأنفال: 42، لأنه قال: (إنَّ الَّذينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايَعُونَ الله) الفتح: 1،، وهذه أمدح آية في كتاب الله تعالى وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه جعله في اللفظ بدلاً عنه، وفي الحكم مقامه، ولم يدخل بينه وبينه كاف التشبيه كإنما ولا لام الملك فيقول لله تعالى وليس هذا المقام من الربوبية لخلق غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 الفصل الخامس والثلاثون ذكر اتصال الإيمان بالإسلام في المعنى والحكم وافتراقهما في التفصيل والاسم وأنّ كل مؤمن مسلم، وتحقيق القول بالعمل، وإبطال مذهب الجهمية والكرامية والحرورية، وبيان مذهب أهل السنّة والجماعة، وفقنا الله تعالى لذلك، قال قائلون: الإيمان هو الإسلام وهذا قد أذهب التفاوت والمقامات، وهذا يقرب من مذهب المرجئة وقال آخرون: إنّ الإسلام غير الإيمان، وهؤلاء قد أدخلوا التضاد والتغاير وهذا قريب من قول الإباضية، فهذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرح وتفصيل، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول غير شهادة التوحيد؛ فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى؛ فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصحّ إسلامه، ولا بدّ للمسلم من إيمان به يحقّ إيمانه، من حيث اشترط الله سبحانه وتعالى للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) الأنبياء: 94، وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: (وَمَنْ يَأتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى) طه: 75، ومن كان ظاهره أعمال الإسلام لا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملّة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب لا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام؛ فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد، ومن كان مؤمناً بالغيب مما أخبر به الرسول عن الله سبحانه عاملاً بما أمر به فهو مؤمن مسلم، ولولا أنه كذلك لكان المؤمن يجوز أن لا يسمى مسلماً، ولجاز أن لا يسمّى كل مسلم مؤمناً بالله تعالى ورسله وكتبه، ومثل الإيمان من الأعمال كمثل القلب من الجسم، لا ينفك أحدهما من الآخر، لا يكون ذو جسم حيّ لا قلب له، ولا ذو قلب لا جسم له؛ فهما سببان منفردان، وفي المعنى والحكم متصلان، ومثلهما أيضاً مثل حبة لها ظاهر وباطن وهي واحدة لا يقال حبتان لتقارب وصفيهما، فكذلك أعمال الإسلام من الإيمان، الإسلام هو ظاهر الإيمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وهو أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام وهو أعمال القلوب. روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإسلام علانية والإيمان سرّ، وفي لفظ آخر: والإيمان في القلب، فالإسلام أعمال الإيمان والإيمان، عقود الإسلام، فلا إيمان إلاّ بعمل ولا عمل إلاّ بعقد، ومثل ذلك مثل العلم الظاهر والباطن؛ أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، ومثله قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الأعمال بالنية؛ أي لا عمل إلاّ بعقد وقصد، لأنّ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما تحقيق للشيء ونفي لما سواه، فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات، وأعمال القلوب من النيات، فمثل العلم من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصحّ الكلام إلاّ بهما، لأنّ الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، كذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان، ولذلك عدد الله تعالى في نعمته على الإنسان بالكلام ذكر الشفتين مع اللسان في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) البلد: 8 - 9، المعنى: ألم نجعله ناظراً متكلّماً؟ فعبّر عن الكلام باللسان والشفتين لأنهما مكان له، وذكره الشفتين لأنّ الكلام الذي جرت النعمة به لا يتمّ إلاّ بهما، ومثل الإيمان والإسلام أيضاً كفسطاط قائم في الأرض له ظاهر متجاف وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط مثل الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في باطن الفسطاط مثله كالإيمان لا قوام للفسطاط إلاّ به، فقد احتاج الفسطاط إليهما، إذ لا استقامة له ولا قوة إلاّ بهما، كذلك الإسلام من أعمال الجوارح، ولا قوام له إلاّ بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب لا نفع له إلاّ بالإسلام؛ وهو صالح الأعمال، وقد عبّر الله تعالى عن الإيمان بالإسلام، فلولا أنهما كشيء واحد ما عبّر عن أحدهما بالآخر، فقال سبحانه: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِِينَ) الذاريات: 35 - 36، ولم يكونا بيتين إنما هم أهل بيت واحد لوط وبناته، وقال عزّ وجلّ في مثله: (إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمينَ) يونس: 84 فعطف بقوله: إن كنتم مسلمين على قوله: إن كنتم آمنتم، فدلّ على أنهما اسمان بمعنى واحد؛ وهذا كقوله تعالى فيما عبر عن الأيام بالليالي، لأن اليوم مرتبط بالليلة وأنت تعلم أنهما شيئان، فقال في قصة واحدة: (قَالَ آيَتُكَ أَلاًَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً) آل عمران: 41 وقال أيضاً سبحانه: (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً) مريم: 1،، وأيضاً فإن الله تعالى قد جعل ضدّ الإسلام والإيمان واحد، فلولا أنهما كشيء واحد في الحكم والمعنى ما كان ضدهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 واحد، فقال سبحانه: (كَيْفَ يَهدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) آل عمران: 86، وقال: (يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران: 8،، فجعل ضدهما الكفر، وعلى مثل هذا خبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان والإسلام بوصف واحد، فقال في حديث ابن عمر: بني الإسلام على خمس: شهادة أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، صوم رمضان، وحجّ البيت، وفي حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس أنهم سألوه عن الإيمان فذكر هذه الأوصاف فدلّ بذلك أنه لا إيمان باطن إلاّ بإسلام ظاهر، ولا إسلام على نية إلاّ بالإيمان سرّاً، وأنّ الإيمان والعمل قرينان لا ينفع أحدهما بغير صاحبه، ولا يصحّ أحدهما إلاّ بالآخر، كما لا يصحان ولا يوجدان معاً إلاّ بنفي ضدهما وهو الكفر، كما روي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يكفر أحد إلا بجحود ما أقرّ به، وأظهر من حديث ابن عباس آنفاً أنّ في نفس حديث ابن عمر ذكر الإيمان أيضاً بدلاً من لفظ الإسلام. ورواه جرير عن سالم بن أبي الجعد عن عطية مولى بني عامر عن يزيد بن بشر قال: أتيت ابن عمر فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله بن عمر ما لك تحجّ وتعتمر وقد تركت الغزو؟ قال: ويلك إن الإيمان بني على خمس تعبد الله تعالى، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتحجّ البيت، وتصوم رمضان، كذلك حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد اشترط الله تعالى للإيمان العمل الصالح، ونفى النفع بالإيمان إلاّ بوجود العمل، كما شرط للإيمان الإسلام فقال تعالى: (إلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأوُلئِكَ يُبَدِّلُ الله سيّئاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) الفرقان: 7،، إجماع من أهل التفسير؛ إلاّ من تاب من الشرك كقوله تعالى: (فَإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ) التوبة: 5، بعد قوله وخذوهم واحصروهم، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ بِالتي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً) سبأ: 37، وقال تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يونس: 63، كما قال تعالى: (الَّذينَ آمَنُوا بِآيَاتِنا وَكَانُوا مُسْلِمينَ) الزخرف: 69، فاشترط للإيمان الأعمال والتقوى، كما اشترط للأعمال الصالحة الإيمان، فكما لو عمل العبد بالصالحات كلها لم تنفعه إلاّ بالإيمان، كذلك لو آمن من الإيمان كله لم ينفعه إلاّ بالأعمال، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني كما لا يصلح الزرع إلاّ بالماء والتراب فكذلك لا يصلح الإيمان إلاّ بالعمل والعلم، فأما تفرقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل عليه السلام لما سأله ما الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبهِ ورسله بالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشره، ثم قال: ما الإسلام؟ فذكر الخصال الخمس؛ فإن ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني التي وصفناها، أن تكون عقوداً من تفصيل أعمال الجوارح، فيما توجب الأفعال الظاهرة التي وصفها أن تكون علانية، إلاّ أنّ ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضادّ، وليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم، إذ قد يجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن، فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف ظاهر جسمه، والدليل على ذلك أنه جعل وصف الاسمين معنى واحداً في حديث ابن عمرو في حديث وفد عبد القيس الذي ذكرناه قبل عن ابن عباس، وقد روى ذلك مفصّلاً في حديث عليّ رضي الله تعالى عنه: الإيمان قول باللسان، وعقد بالقلب، وعمل بالأركان، فأدخل أعمال الجوارح في عقود الإيمان، وأيضاً فإن الأمة مجمعة أنّ العبد لو آمن بجميع ما ذكرناه من عقود القلب في حديث جبريل عليه السلام من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكرناه من وصف الإسلام بأعمال الجوارح لا يسمّى مؤمناً، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان أنه لا يكون مسلماً. وقد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وليس فيه دليل على أنّ الإسلام غير الإيمان، أو أنّ المسلمين سويّ المؤمنين، أو أنّ الإيمان ضدّ الإسلام، والوجه الثاني من تأويل الخبر أنّ معنى قوله أو مسلم يعني به أو مستسلم، فإذا جمع بين عقود القلب وبين أعمال الجوارح كان مسلماً مؤمناً، ومن لم يقل بهذا الذي ذكرناه فقد كفّر أبا بكر رضي الله تعالى عنه وجهله في قتال أهل الردة وادّعى عليه أنه قتل المؤمنين، لأن القوم جاؤوا بعقود الإيمان ولم يجحدوا التوحيد ولا أكثر الأعمال وإنما أنكروا الزكاة فاستحلّ قتلهم، وواطأه الصحابة على ذلك حتى استتاب من رجع منهم. وأما الحديث الآخر الذي جاء ظاهره أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرّق بين المؤمن والمسلم في أنه أعطى رجلاً ولم يعط الآخر، فقال له سعد: يا رسول الله تركت فلاناً لم تعطه وهو مؤمن فقال: أو مسلم؟ فأعاد عليه، فأعاده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلم؟ فإنما في هذا دليل على تفرقة الإيمان والإسلام في التفاضل والمقامات؛ أي ليس هو من خصوص المؤمنين ولا أفاضلهم، فكشف مقامه الذي خفي على سعد كما كشف مقام حارثة عن حقيقة إيمانه، إذ كان خاملاً لا يؤبه له فقال: كيف أصبحت؟ فنطق بوجده عن مشاهدته، فقال: عرفت فالزم؛ فهذا دليل لنا في تفضيل مقام الإيمان على مقام الإسلام، وأنّ المؤمنين يتفاضلون في الإيمان، وإن تساووا في أعمال الجوارح من الإسلام، وأنّ الإيمان لا حدّ له وإن كانت صحته بمحدود الإسلام، فآثر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي آمن طوعاً على المكره، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يعطي من المؤلفة الرؤساء، ومن لا يؤمن عاديته، وجمعه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحريضه المشركين كما أكرم الرجل بعد أنّ تكلم فيه فقيل له في ذلك، فقال: هذا أحمق مطاع، أو من يكثر عشيرته وأتباعه فيكون ظهيراً على المؤمنين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 أو من فيه غنى للمسليمن ومنفعة وعزة للمسلمين، فأما الأتباع والسفلة من المؤلفة فلم يكن يؤثرهم بالعطاء، بل كان يؤثر المؤمنين، يقدّمهم على أراذل المؤلفة وضعفائهم، كما فعل بالقسم الذي قسمه بين المؤمنين فأعطاهم، إلا رجلاً من الغزاة له سجادة محلوق الرأس فإنه لم يعطه وقال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، والله ما عدل فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن لم أعدل فمن يعدل؟ وكان ذلك أول قرن نبغ من الخوارج، أفلا تراه لم يعط هذا شيئاً ولم يستمله لأنه لم يكن من خصوص المؤمنين، ولا ممن يتقي بأسه أو يظهر في الإسلام غناه فيتألف بالعطاء؛ وهذا مثل قول فرعون حين ألجمه الله الغرق فاضطره إلى الإسلام بقوله: آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين، أجمع أهل التفسير أنّ معناه من المستسلمين فإن قيل، فقد روي في آخر هذا الخبر في بعض الروايات ما يدل على ضدّ هذا التأويل، وأنّ الرجل كان فاضلاً لا أنه كان مستسلماً، وهو أنّ في الحديث أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إني لأعطي قوماً وأمنع آخرين أكلهم إلى ما جعل الله تعالى في قلوبهم من الإيمان: منهم فلان، قيل: إنّ هذا كلام مستأنف من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفاده القائل لأنه بعث بجوامع الكلم، وكان يسأل عن الشيء فيخبر به ويزيد عليه للبيان والهداية الذي أعطي فكأنه أراد أن يخبر بتنويع عطائه وبضروب المعطين من الناس؛ هذا للحاجة، وهذا للفضل، وهذا للتآلف؛ لأن الذي منعه كان أفضل من الذي أعطاه، إذ لو كان الأمر كما قال هذا القائل لكان الإسلام أفضل من الإيمان، ولكان المسلمون أفضل من المؤمنين، ولم يقل بهذا أحد من العلماء، إلاّ أنّ الإيمان خاص فيه التفاوت والمقامات؛ فهو يشتمل على الإسلام، والإسلام داخل فيه، والمؤمنين هم خصوص المسلمين، منهم المقربون والصديقون والشهداء، والإسلام عام محدود يوصف به عموم المؤمنين، ويدخل فيه أهل الكبائر والإجرام، ولا يخرج منه من فارق الكفر ووقع عليه اسم الإيمان، كما قال تعالى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِب) آل عمران: 94 وأخبر عنه بالفسوق، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إَِلَى الإِسْلاَمِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمً الظَّالِمينَ) الصف: 7، فعلى إجماعهم أنّ الإيمان أعلى اسقاط وهم من توهّم أنّ الرجل كان أفضل، كيف وقد روينا تخصيص الإيمان عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصّاً أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإسلام، قيل: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان، فجعل الإيمان مقاماً في الإسلام، ففي هذا الحديث أيضاً تخصيص للإيمان على الإسلام لا تفرقة بينهما، بمعنى قوله في وصف الرجل أو مسلم، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف الرجل: أو مسلم، فدلّ على بطلان ما ناوله القائل لأن هذه اللفظة بألف الإستفهام لا تستعمل في عرف الكلام إلاّ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الوصف الأنقص والحال الأدنى فافهم. وأما قوله تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) الحجرات: 14، فإن هذا أيضاً من هذا النوع معناه: قولوا: استسلمنا حذر القتل؛ وهؤلاء ضعفاء المؤلفة وأراذلهم كانوا ينقمون على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيثاره وتقديمه المؤمنين بالعطاء عليهم، وإرجاءه إياهم فقالوا: لم لا يعطينا كما يعطي المؤمنين؟ فإنّا مؤمنون كهم، فأخبر الله تعالى بذلك عنهم وأكذبهم في دعواهم وهم الذين قصّ الله تعالى أخبارهم في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ في الصَّدَقاَتِ فَإِنْ أُعطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُون) التوبة: 58، ففي هذه الآية دليل على أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعطي هذا الضرب من المؤلفة، وليس في الآية تفرقة بين الإيمان والإسلام بدليل قوله تعالى في الآية التي بعدها: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَليَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمَانِ) الجرات: 17، فسمّى إسلامهم إيماناً لأنه عطف ببعض الكلام على بعض، وردّ أوله إلى آخره، وإنما أسقط المنة به على رسوله، وأثبت المنّ عليهم بنفسه، وعطف بآخر الإسم على أوله، وغاير بين اللفظين، فلم يرد أحدهما على الآخر، فيقول: أن هداكم للإسلام لاتساع لسان العرب وليفيدنا فضل بيان، وإنّ الإسلام والإيمان اسمان بمعنى واحد، كما قال تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ) فاطر: 3، ولم يقل: يخلقكم، ليبيّن أنّ الرازق هو الخالق وليفيد وصفاً ثانياً وصف به نفسه تعالى فهو كقوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فيهَا مِنَ المٌُؤْمِنينَ ففَمَا وَجَدْنَا فيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمينَ) الذاريات: 35 - 36، وهكذا قراءتها في مصحف ابن مسعود قال: سبحانك تبت إليك، وأنا أول المسلمين، فلولا أنهما بمعنى لم يجز أن يقرأا بخلاف المعنى، فأما ما روي عن أبي جعفر بن عليّ: الإيمان مقصور في الإسلام؛ فمعناه هو باطنه، قال: وأدار دائرة كبيرة فقال: هذا الإسلام، ثم، أدار في وسطها دارة صغيرة فقال: وهذا الإيمان في الإسلام، فإذا فعل وفعل خرج من الإيمان وصار في الإسلام، يريد أنه خرج من حقيقة الإيمان وكماله ولم يكن من الموصوفين الممدوحين بالخوف والورع من المؤمنين، لأنه خرج من الإسم والمعنى حتى لا يكون مؤمناً بالله مصدقاً برسله وكتبه، ألا ترى إلى الدارة الصغيرة غير خارجة من الدارة الكبيرة التي أدارها حولها فجعلها فيها وضرب المثل بها، لكنها خالصها وليها ومخصومة فيها، ولو أراد أنه يخرج من الإيمان لجعلها دائرتين منفردتين ولم يجعل إحداهما جوف الأخرى، وكذلك جاء الخبر: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخر وهو مؤمن، معناه كامل الإيمان أو مؤمن حقّاً، لأن حقيقة الإيمان وكماله بالخوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 والورع، إذ الأمة مجمعة أنّ أهل الكبائر ليسوا بكافرين، وإذا فسق بالزنا وشرب الخمر خرج من حقيقة الإيمان، هو الخوف والورع، ولم يخرج من اسمه ومعناه؛ وهو التصديق والتزام الشريعة، وفيه معنى لطيف كأنه يرتفع عنه إيمان الحياء، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الحياء من الإيمان، والمستحي لا يكشف عورته على حرام، ويبقى إيمان الإسلام والتوحيد وإيجاب الأحكام، وقد روينا عن الحسن بيان ذلك أنه قال: الإيمان حقيقة الإسلام، وقيل لحذيفة: من المنافق؟ فقال: الذي يتكلّم بالإسلام ولا يعمل به فسمِي علم الإيمان إسلاماً وقرن القول، بالعمل وقال الثوري رحمه الله: الناس عندنا مؤمنون مسلمون في حدودهم، وفرائضهم، وفي النكاح، وفي المواريث، وفي الصلاة خلفهم، والصلاة عليهم، لا يحاسب الأحياء ولا يقضي على الأموات، ونكل ما لم نعلم من سرائرهم إلى الله تعالى، ونسمع بالتشديد فنخافه ونسمع اللين فنرجوه لأهل القبلة، ونتهم رأينا لرأي السلف قبلنا، وما ذكرناه من أنّ الإسلام والإيمان قرينان لا يفترقان؛ هذا مذهب فقهاء أصحاب الحديث وطريقة أئمة السلف رضي الله عنهم أجمعين. باب ذكر تفضيل بيان ما نقل عن المحدثين من التفرقة بينهما وما جاء في معناه فأما ما حكي عن بعض أصحاب الحديث، أنه فرّق بين الإيمان والإسلام فقال الزهري: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، وقال عبد الرحمن بن مهدي وقد سئل عن الإيمان والإسلام فقال: هما شيئان، وقال حمّاد بن زيد: الإسلام عام، والإيمان خاص، فإن قول هؤلاء على جملة قولنا، وهو دليل له وشاهد عليه، وأنهم لم يفرّقوا بين الإيمان والإسلام تفرقة اختلاف ولا تضادّ، ولم يريدوا أنّ أحدهما يوجد ويصحّ بعدم الآخر ليواطئوا مذهب المرجئة، لأنهم أبعد شيء منهم، إذ هم أصحاب أثر وتوقيف، وإنما فرّقوا بينهما تفريق تفاوت وتخصيص؛ أي أنّ الإيمان أخصّ وأعلى، لأن الزيادة والنقصان فيه، والفضائل والمقامات عنه، والإستثناء واجب فيه، وأنّ الاسلام عام لا يخرج منه إلاّ الكافرون، إذ ليس وراءه شيء، وعند جماعة من العلماء أنّ الإستثناء غير واجب في الإسلام، لأنه محدود معلوم، فهذا كان قصد من فرّق بين الإسلام والإيمان، وهي طريقة بعض السلف، وعبارة القدماء؛ وهو على نحو ما فصلناه وبمعنى ما بيناه، وإن كنا نحن أظهر تفصيلاً وأبين ترتيباً، وهذا مثل الخبر الذي روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أي الإيمان أفضل؟ قال: الإسلام قيل: فأي الإسلام خير؟ قال الإيمان، فلم يفّرق بينهما، ولكنه خصّص فجعل الإيمان حقيقة الإسلام وخالصه لأنه أخبر أنه منه فهذا من قوله: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 أي من تحقّقه بالإسلام ومن أعلى إسلامه؛ هذا الوصف، وهذا هو نعت المؤمن الموقن الزاهد وهذا يشبه ما مثله أبو جعفر محمد بن علي في أنه أدار دائرة كبيرة وأدار فيها دارة صغيرة تخصيصاً، وجميع ما شرحناه وذكرناه عن السلف يبطل قول المرجئة والكرامية الإباضية ويدحض دعواهم، في أنّ الإيمان قول أو معرفة وعقد بلا عمل، وهو أيضاً ردّ على المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، الذين يقولون: مؤمن، وفاسق، وكافر؛ فلا يجعلون الفاسق مؤمناً وهو ردّ على الحشبية والجرمية والقطعية والحرورية، أصناف من الخوارج يقولون: من أتى كبيرة خرج من الإيمان، وأن أهل الكبائر كفّار يحلّ قتلهم، ويقولون إنّ أهل البغي من الأئمة كفرة يجب على الرعية قتالهم، ومنهم من يقول: إنّ من بغى على الإمام فقد كفر بخلاف قول الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) الحجرات: 9، فأمر بقتال أهل البغي بتسميته إياهم مؤمنين ولم يجعل لهم منزلة ثالثة، وقد ابتلينا بطائقتين مبتدعتين متضادتين في المقالة المرجئة والمعتزلة، قال المرجئة: إنّ الموحدين لا يدخلون النار، وإن عملوا بالكبائر والفسوق كله لأن ذلك لا ينقص إيمانهم، وقالت المعتزلة: إن ليس الفاسق بمؤمن وإن مات على صغيرة من الصغائر من غير توبة دخل النار لا محالة ولم يخرج منها خالداً من الكفار، والصواب من ذلك أنّ الفاسق مؤمن لا يخرجه فسقه من اسم الاسمان وحكمه، ولكن لا يدخله في المؤمنين حقّاً من الصديقين والشهداء، وأنّ أهل الكبائر قد استوجبوا الوعيد ودخول النار، وجائز أن يعفو الله تعالى عنهم بكرمه ويسمح لهم بجوده، كما روينا عن عليّ أنه قال: عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه الغالي ويرتفع عنه القالي. وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف علماء السنة ومدحهم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين؛ فالغالون هم المجاوزون للسنن والآثار، والمبطلون هم المدعون بالرأي والقياس، والجاهلون هم الشاطحون من المتصوّفة الضلال، وعدول كل خلق من اتبّع سنّة صالح من سلف، ولم يبتدع في الدين، ولا اتخد وليجة دون طريق المؤمنين؛ وهم رواة الأخبار وجملة الآثار من المحدثين وفقهاء المسلمين، ويوضح قولنا ويصححه قول الله تعالى: (الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ) المائدة: 3، إجماعاً من المسلمين، وأنها نزلت بعد نزول الفرائض وإتمام الشرائع وفي حجة الوداع؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وهي آخر حجة حجّها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول فرض الحج، لأنّ سورة المائدة مدنية بإجماع من القراء، وهي من آخر ما نزل من القرآن باتفاق من الفقهاء، ولم يلبث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول هذه الآية إلاّ ثلاثة أشهر وثلاثة أيام اتفق عليه أهل التاريخ، لأنها نزلت يوم التاسع من ذي الحجة من آخر يوم عرفة وقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاثنتي عشرة خلون من ربيع الأول، فقال الله تعالى بعد نزول الأحكام وأحكام الحلال والحرام: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ) المائدة: 3، والإكمال هو إتمام الشيء الذي بعضه متعلق ببعض، فلا يقال أكمل لما كان بعضه قبل بعض، فإذا وجد جميعه قيل: قد أكمل وتمّم؛ هذا هو حقيقة هذه الكلمة، فلما كان الإيمان قد تقدم بمكة، وأنزل الله تعالى الفرائض والدين شيئاً بعد شيء، وكان الإكمال من الدين دلّ أنّ بعضه متعلّق ببعض إلى أكمله، فصارت الأعمال متعلقة بالإيمان؛ وهما الدين المكمل. وقال بعض السلف: من لم يقل من المرجئة أن إبليس مؤمن لأنه قد أقرّ بالإيمان وقال به انكسر عليه مذهبه، ولعمري أنّ إبليس لعنه الله موحد لله تعالى عارف به إلاّ أنه لم يعمل بالتوحيد ولم يطع من عرفه وآمن به فكفر، فأما تعلقهم بقول الله تعال: (فَأَثَابَهُمْ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار) المائدة: 85، فإنه شرط القول للجنات أو علق الجنات بالقول فإنما ذلك إثبات منه تعالى لتحقيق القول، وأنه قول إيمان ويقين، وأنهم غير متعوّذين بالقول، ولا متخّذوه جنة كالمنافقين، إذ المنافقون قد قالوا كقولهم إلاّ أنه أخبر عن سرائرهم بضده فقال: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) آل عمران: 761، فأراد سبحانه بأنّ قول هؤلاء قول المؤمنين، وأنّ قولهم إيمان من أعمالهم لأنهم منفردون بالقول دون العمل وفيه أيضاً دليل أنّ القول بالحقّ من الإيمان، وأنه يستحق عليه ثواباً، لأنه من أعمال البرّ بمنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأما أن يكون فيه دليل أنّ القول حسب هو الإيمان كله وأنّ الإيمان يكون قولاً لا يحتاج إلى عمل، فهذا باطل بالأدلة التي قدمنا ذكرها من الآي التي شرط الله تعالى فيها الأعمال، ومن قوله في الكفار: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتُوا بالزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ) التوبة: 5 وأيضاً فإن في نفس هذه الأية بطلان دعوى المرجئة لأن الله تعالى لم يقل فلم يثبهم الله إلاّ بما قالوا جنات وإنما قال عزّ وجلّ: (فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ) المائة: 85، فأخبر أنه أجرهم على قولهم بالحق، كما قال فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا، ثم أحكام ذلك وقيده بقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ وَيُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) البينة: 5، ولكن هؤلاء كما قال الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءِ تَأْويِلهِ) آل عمران: 7، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه من القرآن فهم الذين عنى الله تعالى فاحذروهم؛ وذلك أنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 الله تعالى قرن الأعمال بالإيمان في كل المواضع، فلم تقف المرجئة مع شيء من هذا البيان والأحكام، فلما أجمل القول في موضع واحد لما ذكرناه من السبب تعلقوا به ووقفوا معه، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صنفان لا نصيب لهما في الإسلام، وفي لفظ آخر: لا تنالهم شفاعتي: القدرية والمرجئة، وفي الحديث الغربي: طائفتان لا يدخلون الجنة: من قال أنّ الإيمان كلام، ورواه حذيفة فقال: إني لأعلم أهل دينين في النار قوم شرار بلا علم، وقوم في آخر الزمان يقولون كانوا ألوفاً ضلالاً، نسأل الله تعالى أنّ لا يصرفنا عن فهم آياته ولا يبلونا بالكبر، وإن يرينا سبيل الرشد ويوفقنا لاتخاذه سبيلاً، وإن يرينا سبيل الغيّ ويعصمنا من اتخاذه سبيلاً، كما أخبر بذلك عمن بلاه به فقال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الَحقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبيلَ الرُّشْدِ لاََ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) الأعراف: 146 الآية. ذكر الاستثناء في الإيمان والإشفاق من النفاق وطريقة السلف في ذلك فأما الاستثناء في الإيمان فإنه سنة ماضية وفعل الأئمة الراضية، على معنى الخوف والتقصير، وكراهية التزكية للنفس، لا على وجه الارتياب في اليقين، ولا بمعنى الشك في التصديق، إذ الإيمان مقامات والمؤمنون فيه درجات، ولذلك قال الله تعالى لقوم موصوفين بأعيانهم: (أُولئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حقَّاً) الأنفال: 4، فهذا وصفهم بالكمال ومدحهم بخصال الأعمال، ففي دليل خطابه أنّ ثم مؤمنين غير حق كيف وقد قال تعالى: (وأنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين) الأنفال: 5 - 6، وقال سبحانه وتعالى في وصف آخرين: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلونَ) الصف: 2، وقال في نعت الصادقين: (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمَنُوا بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجََاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبيلِ الله أولئِكَ هُمْ الصَّادِقُونََ) الحجرات: 51، وقال في مثل وصفهم: (وَلكِنَّ البرَّ مَنْ آمَنَ بالله والْيَومِ الآخر وَالمَلائِكَةِ) البقرة: 177، الآية، فذكر عشرين وصفاً إلى قوله: (أُولئِكَ الّذينَ صَدّقوا وَأولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ) البقرة: 177، منها الإيثار بالمال على حبه، والوفاء بالعهد، والصبر في الأمراض والجوع والشدائد، فبعد ذلك شهد لهم بالصدق والتقوى وقال في وصف المحبوبين من الموقنين: (إنَّ الله اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 أَمْوَالَهُمْ) التوبة: 111، وقال في نعت عموم المؤمنين: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسأَلكُمْ أَمْوَالَكُمْ إنْ يَسْأَلَكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخِْرجْ أَضْغَانَكُمْ) محمد: 36 - 37، فشتان بين من وصف بالمجاهدة والصدق وبين من نعت بالخلف وعرض للمقت، وبين من وصف بالحقّ وبين من يجادل في الحق، وكم بين من قبل منه المال والنفس وبين من ردّ عليه المال ولم يسأله لما علم منه من البخل والضغن، واسم الإيمان يجمعهم ومعناه يجتمع عليهم، إلاّ أنّ مقامات الإيمان ترفع بعضهم على بعض وتفاوت بين بعضهم وبعض، كما قال تعالى: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ) المجادلة: 11، وكقوله: (لاَ يَسْتَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجةً منَ الَّذين أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسْنى) الحديد: 1،، يعني الجنة على تفاوت الدرجات فيها، فجمع بينهم في الدار كما جمع بينهم في اسم الإيمان، ورفعهم في الدرجات علوّاً في المقامات، كما قال تعالى: (لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَالله بَصيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) آل عمران: 163، وقد روينا في خبر: الإيمان عريان ولباسه التقوى وحليته الورع وثمرته العلم، ففيه دليل أنّ من لا تقوى له فلا لبس لإيمانه ومن لا ورع له فلا زينة لإيمانه ومن لا علم له فلا ثمرة لإيمانه فإن اتفق فاسق ظالم جاهل كان بالمنافقين أشبه منه بالمؤمنين وكان إيمانه إلى النفاق أقرب ويقينه إلى الشك أميل ولم يخرجه من اسم الإيمان إلا أنّ إيمانه عريان لا لبسة له، معطّل لا كسب له، كما قال: (أَوْ كَسبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْراً) الأنعام: 158، والنفاق مقامات قيل سبعون باباً والشرك مثل ذلك فيها طبقات. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أربع من كنّ فيه فهو منافق خالص، وإن صام وصلّى وزعم أنه مؤمن؛ من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وفي بعض هذا الحديث: وإذا عاهد غدر؛ فصارت خمساً، فإن كانت فيه واحدة منهن ففيه شعبة من نفاق حتى يدعها، وفي حديث أبي سعيد الخدري وأبي كبشة الأنماري: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كالبقلة يمدّها الماء العذب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح والصديد، فأي المدتين غلبت عليه حكم له بها، وفي لفظ آخر: أيهما غلبت عليه ذهب به، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وفي الخبر: الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أنّ لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ففي تبعيض أخلاق الإيمان وفي وجود دقائق الشرك وشعب النفاق ما يوجب الاستثناء في كمال الإيمان لجواز اجتماع الإيمان والنفاق في القلب ولوجود شعب النفاق وعدم بعض شعب الإيمان من القلب، كيف وقد جاء في الخبر: أكثر منافقي أمتي قراؤها، والحديث الآخر: الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا، وقال حذيفة: كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصير بها منافقاً إلى أن يموت: إني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات، وفي حديث عليّ كرّم الله وجهه: أنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء؛ فإذا عمل العبد الصالحات نما وزاد حتى يبيضّ القلب كله، وأنّ النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهكت الحرمات نمت وزادت حتى يسوّد القلب فيطبع عليه؛ فذلك الختم، ثم قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) المطففين: 41؛ فهذا كله موجب للاستثناء في الإيمان خشية خفايا الشرك ووجود دقائق النفاق وخوفاً من الدعوى للحقيقة والكمال، لأن من قال: إني مؤمن حقّاً فقد زكى نفسه وعصى ربه، لأن الله تعالى نهى عن الزكية للنفس، وعرض المزكي نفسه للكذاب في قوله تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) النجم: 32، وبقوله: (ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكّي مَنْ يَشَاءُ) النساء: 49، ثم قال تعالى: (اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكَذِبَ) النساء: 5،، وقد قال إبراهيم عليه السلام في تفسير أحد الوجهين من قوله تعالى: (وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبّي شَيْئاً) الأنعام: 8،، ومثله قال شعيب: وما يكون لنا أن نعود فيها، يعني ملة الكفر، إلاّ إن يشاء الله ربنا، ثم علّلا جميعاً بسعة العلم وسبق المشيئة به فلم يأمنا أن يكونا في سعة علم الله عزّ وجلّ وفي خفيّ مشيئته؛ وهذا هو خوف المكر، وحقيقة المكر معنيان؛ أحدهما أن يظهر شيئاً ويخفي ضده، والثاني أن يكشف ما كان ستره ويفشي ما كان أسره بعد الطمأنينة والعزة، والأنبياء مع فضلهم ومكانهم يستثنون في الكفر خيفة المكر، ولا يستثني الضعيف الجاهل في الإيمان ويغترّ بظاهر أمره، بل ينبغي أن يستثني في الإسلام أيضاً وفي جميع أعمال البرّ، لأن القبول غير العمل والسابقة غير ما ظهر من المعاملة، ولا ينبغي أن يدع الاستثناء في شيء من الأحوال. وقال بعض العلماء في معنى قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ) ق: 19، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 بالسابقة، وقال بعض السلف: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وكان أبو الدرداء يحلف بالله عزّ وجلّ: ما أحد أمن أن يسلب إيمانه إلاّ سلبه، ويقال: من الذنوب ذنوب تؤخر عقوبتها إلى سوء الخاتمة؛ وهذا من أخوف ما خافه العاملون من قوله تعالى: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) المؤمنون: 63، وقيل: من الذنوب ذنوب لا عقوبة لها إلاّ سلب التوحيد في آخر نفس نعوذ بالله تعالى من ذلك، وقيل: هذا يكون عقوبة الدعوى للولاية والكرامات للافتراء على الله تعالى، وكان سهل رحمه الله تعالى يقول: من علامة الأولياء أنهم يستثنون في كل شيء، وقال من قال: أفعل كذا، ولم يقل إن شاء الله تعالى، سئل عن هذا القول يوم القيامة فإن شاء عذبه وإنْ شاء غفر له، وقد نهى الله تبارك وتعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا يقول شيئاً حتى يستثني، وأمره بالاستثناء إذا نسي فقال تعالى: (وَلاَ تَقُولَنَّ لشَيءٍ إنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله) الكهف: 23 - 24، ثم قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسيتَ) الكهف: 24، أي الاستثناء، أي فاستثن إذا ذكرت فتأدب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك أحسن الأدب فكان يستثني في الشيء يقع لا محالة،. فروي أنه دخل المقابر فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، وقال سبحانه معلماً لعباده الاستثناء ورادّهم إليه بمشيئته؛ وهو أصدق القائلين وأعلم العالمين: (لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنّ شَاءَ الله آمِنينَ) الفتح: 27، والاستثناء أصل يرد إليه من عرفه ولم ينكر الاستثناء، والأصل هو أن يزيد وينقص فأما زيادته فقد ثبت بنص الكتاب من قوله تعالى: (وَيَزيدُ الله الَّذينَ اهْتَدَوْا هُدْىً) مريم: 76، ومن قوله تعالى: (فَزَادَهُمْ إيمَاناً) آل عمران: 173، إلى نظائرها وما يزيد فهو ينقص لأن معناه موجود في الكتاب بدليل الخطاب من قوله تعالى: (وَلاَ يَزيدُ الظَّالِمينَ إلاَّ خَسَاراً) الإسراء: 82، وقوله: (وَلَيَزَيدّنَ كَثيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً) المائدة: 64، ومن قوله تعالى: (وَفي آذَانِهِمْ وَقْراً) الأنعام: 25، وفي قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ) التوبة: 125، فما يزيد الظالمين إلا خساراً ينقصهم رجحاناً وربحاً، وما يزيدهم إلاّ كفراً ينقصهم إيماناً، وما يكون عليهم عمى ينقصهم بصيرة، وما يكون لهم رجساً يكون لهم من الطهارة نقصاً، من قبل أنّ مزيد الشرّ نقصان الخير، كما أنّ مزيد الخير نقصان الشرّ،، فإذا ثبت أنّ الإيمان يزيد بالصالحات وينقص بالسيّئات وجب الاستثناء فيه، لأن الصالحات درجات يعلو فيها المؤمنون بحسن الولايات والمجاهدات، قال الله تعالى في المجمل من الخطاب: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) آل عمران: 139، وقال: (وَالله وَلِيُّ المُؤْمِنينَ) آل عمران: 68، وقال في المفسّر: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) الأحقاف: 19، وقال في مثله: (وَهُوَ وَليُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام: 127، وقال: (لاَ يَسْتَوي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنينَ غَيْرُ أُولى الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ في سَبيلِ الله) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 إلى قوله: (وَفَضَّلَ الله المُجَاهِدينَ عَلَى القَاعِدينَ أَجْراًعَظيماً) النساء: 95. وروينا في حديث وائلة بن الأسقع: الإيمان يزيد وينقص، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة ومن لا يحصى من التابعين، وقيل لأحمد بن حنبل رضي الله عنهما: ما معنى الاستثناء في الإيمان؟ قال: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ قيل: نعم، قال: فالتصديق بالقول والاستثناء بالعمل، وقال بعض العلماء: أقرب الناس من النفاق من يرى أنه منه بريء، وقال مرة: آمنهم له، وقال عمر مولى عفرة: أقرب الناس إلى النفاق الذي إذا زكّى بما ليس فيه ارتاح لذلك قلبه، وأبعد الناس منه من يتخوّف أنه لا ينجيه حقيقة ما هو فيه، وقال بشر بن الحرث: سكون القلب إلى قبول المدح أضرّ عليه من المعاصي، وكان سهل يقول: غفلة العالم السكون إلى الشيء، وغفلة الجاهل الافتخار بالشيء، والسكون عندهم من الدعوى، والدعوى من المعاصي، وقال حذيفة اليوم المنافقون أكثر منهم على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا إذ ذاك يخفونه وهم اليوم يظهرونه، وقيل للحسن: إنّ قوماً يقولون لانفاق اليوم، فقال: يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطرقات، وعنه وعن غيره: لو نبت للمنافقين أذناب ما قدرنا أنّ نطأ على الأرض، وسمع ابن عمر رجلاً يطعن على الحجاج فقال: أرأيت لو كان حاضراً بين يديك أكنت تتكلم فيه بما تكلمت الآن؟ قال: لا، قال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان ذا لسانين في الدنيا جعل له لسانان من نار في الآخرة، وفي خبر آخر: شرّ الناس ذو الوجهين يأتي هولاء بوجه وهؤلاء بوجه، وقيل للحسن إنّ قوماً يقولون: لا نخاف النفاق، فقال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحبّ إليّ من تلاع الأرض ذهباً، وقال الحسن: إنّ من النفاق اختلاف اللسان والقلب والسرّ والعلانية والمدخل والمخرج، وقال رجل لحذيفة: إني أخاف أنْ أكون منافقاً، فقال: لو كنت منافقاً ما خفت أن تكون منافقاً، إنّ المنافق قد أمن النفاق لأن النفاق على ضربين؛ نفاق ينقل عن الملة وهو الشك في دين الله تعالى والردّ لشرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونفاق لا ينقل عن الملة ولا يخرج عن الإسلام، ولكنه ينقص الإيمان ويذهب حقيقته، ويطفئ أنواره، ويحرم مزيده، ويحبط الأعمال، ويوجب المقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 والإعراض؛ وهو الرياء والمداهنة والتصنّع للخلق والتزيّن بالحق وائتلاف الألسنة واختلاف القلوب وتفاوت القول والعمل ومخالفة الأمر إلى ما ينهي عنه واختلاف السرّ والعلانية وزيادة الظواهر على السرائر، وهذا المعنى من النفاق الذي خالفه السلف وكانوا منه على إشفاق، وكان سهل يقول: المرائي حقّاً الذي يحسن ظاهره، حتى لا تنكر العامة والعلماء من ظاهره شيئاً وباطنه خراب، وقد كان الحسن وأصحابه يسمون أهل البدع منافقين، وكان ابن سيرين وأصحابه يسمونهم خوارج، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين ومائة، وفي رواية خمسمائة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه، وقال مرة: ما منهم أحد يقول أنا على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام. وقد روينا عن عليّ وأبي سعيد قال: الأرجاء بدعة وقال أبو أيوب: أنا أكبر من الأرجاء، أول من أحدث الأرجاء رجل من أهل المدينة ذكره، وقال قتادة: لعن الله ديناً أنا أكبر منه، وإنما ظهر الأرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث يعني في ولاية الحجاج، وقال سفيان الثوري: من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين، ومن قال أنا مؤمن حقّاً فهو بدعة، قيل: فما يقول؟ قال: (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إبْرَاهِيمَ) البقرة: 136 الآية، فقيل للحسن: أمؤمن أنت؟ قال إن شاء الله، فقيل: تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أنْ أقول نعم فيقول الله تعالى: كذبت يا حسن فيحق علي الكلمة، وكان يقول ما يؤمنني أن يكون الله عزّ وجلّ قد اطلع عليّ في بعض ما يكره فمقتني، وقال: اذهب لا قبلت لك عملاً أبداً فأنا أعمل في غير معمل، وكان جماعة من أهل العلم يرون السؤال عن قوله أمؤمن أنت؟ بدعة، ويقول بعضهم: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وكتبه ورسله، وقال إبراهيم: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: ما أشك في الإيمان وسؤالك إياي بدعة. وروينا عن الثوري عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم النخعي: إذا سئلت أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلاّ الله، ومنصور عن إبراهيم قال: سئل علقمة فقال: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو ذاك إن شاء الله، وكان الثوري يقول: نحن مؤمنون بالله وملائكته ورسله وما ندري ما نحن عند الله، وقال بعض العلماء: أنا مؤمن بالإيمان غير شاكّ فيه ولا أدري أناممن قال الله سبحانه أولئك هم المؤمنون حقّاً أم لا. وقال بعض العارفين: لو عرضت عليّ الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 عند باب الحجرة لاخترت الموت على الشهادة، قيل: ولِمَ؟ قال: لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغير عن التوحيد من باب الحجرة إلى باب الدار، وقال أبو سليمان الداراني: سمعت فلاناً - يعني بعض الأمراء - يتكلم على المنبر بكلام أردت أن أقوم فأنكر عليه فخشيت أن يأمر بقتلي، فلم يكن بي أن أموت ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق بأني أمرت بالمعروف على الإمام وقتلت في الله عزّ وجلّ عند خروج روحي فكففت عن ذلك. وقال بعض العارفين: لو عرفت أحداً على التوحيد خمسين سنة ثم حالت بيني وبينه سارية ثم مات، لم أحكم أنه مات على التوحيد لعلمي بسرعة تقليب القلوب، وقال منصور بن زاد: إن كان الرجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئل قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقال أبو وائل: قال رجل لابن مسعود: لقيت ركباً فقالوا: نحن المؤمنون فقال: ألا قالوا نحن من أهل الجنة؟ وقال بعض أصحاب عبد الله لرجل: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، فذكر ذلك لابن مسعود فقال: سلوه أمن أهل الجنة أنت؟ فقال: أرجو، فقال: ألا رجيت الأولى كما رجيت الثانية، ونقش ابن لبعض التابعين على خاتمه: فلان لا يشرك بالله تعالى شيئاً فقال أبوه: هذا أقبح من الشرك. وقال بعض السلف: أقرب الناس من النفاق من يرى أنه أبعدهم منه عند نفسه، وفي الخبر: أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان جالساً في جماعة من أصحابه فذكروا رجلاً ومدحوه وأحسنوا الثناء عليه، فبيناهم كذلك إذ طلع عليهم الرجل يقطر وجهه ماء من أثر الوضوء قد علق نعليه بيديه وبين عينيه أثر السجود فقالوا: يا رسول الله هذا هو الرجل الذي وصفنا لك آنفاً، فلما نظر إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أرى على وجهه سفعة من الشيطان، يعني ظلمة، فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك؟ فقال: اللهم نعم، في الحديث: من قال إني مؤمن فهو كافر، ومن قال إني عالم فهو جاهل، ومن قال إني في الجنة فهو في النار، وعلّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق رضي الله تعالى دعاء قال: قل فيه: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، وجاء في الخبر: الشرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا، وكان من دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أستغفرك لما علمت وما لم أعلم، فقيل له: أتخاف يا رسول الله؟ قال: وما يؤمنني والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وقال اللّّه تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) الزمر: 74، قيل: عملوا أعمالاً ظنوا أنها حسنات، فلما كان عند الحساب والميزان وجدوها سيّئات، وقيل كانت هذه الآية مبكاة العابدين، وقيل في معنى قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) الأنعام: 115، وقيل: صِدْقاً لمن مات على الإيمان وعدلاً لمن مات على الشرك كقوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) يونس: 96 - 97، وقال سبحانه: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذِلكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) المؤمنون: 63، وقال: (يَنَالُهُمْ نَصيبُهُمْ مِنَ الكِتَابِ) الأعراف: 37، وقال: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) هود: 9، 1، وقال: (وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) الحج: 41، وقال: (لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلاَّ للهُ) النمل: 65، فالاستثناء في الإيمان هو من الإيمان، والاستثناء في كل شيء من علامة الأولياء، والإشفاق من الشرك والنفاق، هو من مزيد الإيمان لئلا يسكن العبد إلى شيء ولا يزكي نفسه بشيء، وقال سري السقطي: لو أنّ رجلاً دخل إلى بستان فيه من جميع الأشجار عليها من جميع الأطيار فخاطبه كل طير منها بلغة فقال السلام عليك يا ولي الله فسكنت نفسه إلى ذلك كان أسيراً في أيديها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 الفصل السادس والثلاثون فضائل أهل السنّة والطريقة وطرق السلف من الأئمة السنّة اسم من أسماء الطريق، وهو اسم للطريق الأقوم، يقال: طريق وطريقة وسنن وسنّة وحجّة ومحجّة، فمن فضائل السنّة وطريق أهلها التقلّل من الدنيا في كل شيء، والقناعة من الله تعالى بأدنى شيء، والتواضع لله بكل شيء، وفي الخبر فضل العبادة التواضع، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أربع لا يوجدن إلاّ بعجب التواضع؛ وهو أوّل العبادة، والصمت، وذكر الله تعالى، وقلة الشيء، واعلم أنّ التواضع يظهر بمعان خمسة: بالقول، والفعل، والزيّ، والأثاث، والمنزل، يكون في المؤمن بعضها، فمن كملت فيه فهو متواضع، والكبر ضد التواضع وهو يظهرأيضاً بأضداد هذه الخمسة يبتلي المؤمن ببعضها ويعافى من البعض، فمن كملت فيه فهو متكبر، وحقيقتها في القلب وظاهرها بالأفعال والأقوال ثم الورع عن الشبهات والمشكلات من العلوم والأعمال أن يقدم عليها بنطق أو عمل ولا يعتقد نفيها ولا إثباتها خشية أن يكون معتقد الباطل أو نافياً لحق، بل يكون اعتقاده فيها تسليماً لله عزّ وجلّ، ويقول: آمنت بحقائقها عند الله تعالى فذلك تعبّد من الله عزّ وجلّ للمؤمنين فيما تشابه من الأمور، أن يسكتوا ويسلموا، وبذلك وصف الراسخين في العلم وأقسم بنفسه على نفي إيمان من لم يسلم تسليماً وجعل التسليم مزيد الإيمان في قوله تعالى: (وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَاناً وَتَسْلِيماً) الأحزاب: 22، وفي الخبر: إنما الأمور ثلاثة أمر استبان رشده فاتبعه، وأمر استبان غيه فاجتنبه، وأمر أشكل عليه فكله إلى عالمه، وكذلك ابن مسعود يقول: إن لهذا القرآن مناراً كمنار الطريق، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه، وكان أيضاً يقول: أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع، وسيأتي عليكم زمان يكون خيركم فيه المتبين يعني لوضوح الحق في القرن الأوّل ولدخول الشبهات في زماننا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 هذا، فصار الحق غامضاً فكان خير الناس اليوم المتثبت بالورع، كما أخبر أنّ خيرهم يومئذ المسارع بالفضل ومما يدلك أنّ الإيمان هو التسليم، كما أنّ الإيمان هو التصديق، أنّ في قراءة بعض التابعين منهم جعفر بن محمد، وقد رويناه عن أبي جعفر ومحمد بن عليّ أنهما قرأا: (واجعلنا مسلمين لك) البقرة: 128 وقرأا أيضاً: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) الزخرف: 69 فلولا أنهما بمعنى واحد لم يجز أن يخالفوا المعنى في المقروء. وكذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الأمر المتشابه الذي يشبه الحق من جهة ويشبه الباطل من جهة: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ولكن قولوا: آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم، هذا لأن الله سبحانه وتعالى أنزل التوراة؛ فهي حق، ثم أخبر أنهم قد حرّفوها فاحتمل أن يكون ما يخبرون به المؤمنين مما أنزل الله تعالى فلا يحلّ التكذيب به ولا اعتقاد نفيه، واحتمل ما يخبرون به المؤمنين أنهم حرّفوا فلا يحلّ قبوله ولا اعتقاد ثبوته، فأمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإيقاف ذلك والإيمان بما أنزل الله تعالى جملة، فإن كان ما أخبروهم حقّاً دخل فيه، وإن كان باطلاً لم يضرّه، فالمسلم هو الذي يسلم ما لم يظهر دليله في العقل لأجل القدرة والسنّة والنقل، كما أنّ المؤمن هو الذي يصدّق بما لم يظهر بمشاهدة العين الإيمان بالغيب، لأن العقل بصره القلب كالعين بصر الجسم، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع القلم عن المجنون حتى يعقل، كما قال الله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الأَعمى حَرَجٌ) النور: 61، ثم ترك ما لا يعني مما قد كفي ومما لم يكل إليه من القول والفعل، لأن الدخول فيما لا يعني هو التكلّف المنهي عنه الذي أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ الأتقياء من أمته براء منه، وهو يشغل ويقطع عمّا يعني، وفيما يعني شغل عمّا لا يعني لكل فطن عاقل، وهو أصل الحكمة فيما أخبر به لقمان لما سئل: أنّى أوتي الحكمة؟ قال: بشيئين لا أتكلّف ما كفيت ولا أضيع ما كلّفت فهذا شيء لا يضرّ جهله ولا ينفع فعله، ولأنه شيء كتب عليه لم يكن له فيه فضل وإن سمع منه وظهر به، ولم يكن له فيه مزيد ولا لغيره نفع، ثم كفّ الأذى؛ فإن ذلك من الورع، وكان سهل رحمه الله تعالى يقول: كفّ الأذى كسب العقل واحتمال الأذى كسب العلم، والنصيحة للخلق والرحمة لهم كسب الإيمان من العمل في قطع ما قد اعتاد من عاجل حظوظ النفس مما يقطعه عن العمل لأجل الآخرة وأعمال النفس وإجهادها، وأن لا يكون لها معتاد من شهوة تعود على النفس منه منازعة، فإن العادة جند غالب لأجلها تعذرت التوبة ولغلبتها رجع العبد عن الاستقامة؛ وهي باب من أبواب الهوى، إلاّ فيما أمر به العبد أو ندب إليه، قال أبو سليمان الداراني: إن قدرت أنّ لا يكون لك وقت معتاد في الأكل تنازعك نفسك إليه فافعل، وقال: لأن أترك لقمة من عشائي أحبّ إليّ من قيام ليلة، أي لنقص النفس من المعتاد والتقلل أيضاً، وقال أيضاً، ترك شهوة من شهوات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 النفس أنفع للقلب من صيام سنة، وقيامها هذا كله خشية إيلاف العادات، فتنازع النفس إلى الألف فلا يمكنك ضبطها لغلبة الوصف، ثم حسن الصبر على ما أمر به، وحسن الصبر عمّا نهى عنه؛ فإن ذلك من أفضل الأعمال وله فضائل المزيد والكمال. وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتقّ المحارم تكن من أعبد الناس، وفي لفظ آخر: تكن من أورع الناس، ومن أحسن ما سمعته من عظيم المثوبة في الصبر عن المعصية ما حدثونا في الإسرائيليات: أنّ رجلاً تزوّج امرأة من بلدة، وكان بينهما مسيرة شهر، فأرسل إلى غلام له من تلك البلدة ليحملها إليه فسار بها يوماً، فلما جنّه الليل أتاه الشيطان فقال له: إنّ بينك وبين زوجها مسيرة شهر فلو تمتعت بها ليالي هذا الشهر إلى أن تصل إلى زوجها، فإنها لا تكره ذلك وتثني عليك عند سيدك فتكون أحظى لك عنده، فقام الغلام يصلي فقال: يا رب، إنّ عدوك هذا جاءني فسوّل لي معصيتك، وإنه لا طاقة لي به في مدة شهر وأنا أستعيذك عليه يا رب فأعذني عليه، واكفني مؤونته، فلم تزل نفسه تراوده ليلته أجمع وهو يجاهدها حتى أسحر فشّد على دابة المرأة وحملها وسار بها، قال: فرحمه الله تعالى، فطوى له مسيرة شهر فما برق الفجر حتى أشرف على مدينة مولاه، قال: وشكر الله تعالى له هربه إليه من معصيته فنبأه، فكان نبيّاً من أنبياء بني إسرائيل، ثم إعداد العدة لما يستقبل إذا كان ذلك من مريديّ السعي للآخرة والشغل بالنفس والإقبال عليها دون الناس فقد وجب ذلك، والزهد في فضول الشهوات واجتناب كثير من الشبهات فقد افترض ذلك، وقلة الذكر للناس ولأمور الدنيا فقد حسن ذلك، ومنه غفلة وقسوة للقلب وكثرة الذكر لله تعالى والتذكير به وذكر آلائه ونعمائه وحسن الثناء عليه والمدح له، وقد كان بعض العلماء يقول: من جالسنا فليجتنب ذكر ثلاث خصال وليقض فيما يشاء: يجتنب ذكر الناس فإنهم داء، ويجتنب ذكر الدنيا فإنها قسوة، ويجتنب كثرة الطعام فإنها شره، وقال عالم آخر: من جالسنا فلا يذكر إلاّ الله وحده، فإن كان لا بدّ من ذكر غيره فليذكر الآخرة وليذكر الصالحين، وكان سهل رحمه الله تعالى ورضي عنه يقول: السنّة ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وأول السنة الزهد في الدنيا لأنهم كانوا زاهدين، وكذلك جاء الخبر في وصف الفرقة الناجية: من كان على ما أنا عليه وأصحابي فقد كانوا على هذه الأوصاف التي ذكرناها، فمن كان على ذلك فهو على السنّة فهذه فضائل السنّة وهو مزيد الإيمان وحسن اليقين. ذكر عري الإيمان وجمل الشريعة قال الله جلّ ثناؤه وصدقت أنباؤه: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 الجاثية: 18، فالشريعة اسم من أسماء الطريق، وهو اسم الطريق الواضح المستقيم الواسع، وهو وصف لطريق جامع لجوامع المحاج كلّها، كأنه طريق يستوعب ويجمع سائر الطرق، وللطريق أسماء كثيرة منها الصراط المستقيم والسبيل والمنهاج والمحجّة والمنسك، وجاء من اشتقاق هذا اللفظ أربعة أسماء: شارع، ومشرعة، وشرعة، وشريعة؛ وهو اسم لأوسعها وأوعبها لجميع الطرق، فالشريعة تشتمل على اثنتي عشرة خصلة هي جامعة لأوصاف الإيمان؛ أول ذلك الشهادتان وهي الفطرة، والصلوات الخمس وهي الملة، والزكاة وهي الطهرة، والصيام وهو الجنة، والحج وهو الكمال، والجهاد وهو النصر، والأمر بالمعروف وهو الحجة، والنهي عن المنكر وهو الوقاية، والجماعة وهي الألفة، والاستقامة وهي العصمة، وأكل الحلال وهو الورع، والحبّ والبغض في الله وهو الوثيقة، وقد روينا بعض هذه الخصال عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد جاء نحوها عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما. ذكر شرط المسلم الذي يكون به مسلما ً لا يكون معتقد البدعة، ولا مقيماً على كبيرة، ولا آكل الحرام، ولا طاعناً على صالح السلف، ويكون كافّ اللسان واليد عن أعراض المسلمين وأموالهم، ويكون ناصحاً لجميع المسلمين مشفقاً عليهم، يسرّه ما يسرّهم ويسوءه ما يسوءهم، سيما لأئمتهم، داعياً لجملتهم، ويكون مخلصاً لأعماله كلها لله تعالى، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، وروي عنه: ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العلم لله تعالى، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال في زماننا هذا فهو من أولياء الله عزّ وجلّ؛ وهذا أول ولاية وأول نظرة من الله تعالى حامية عاصمة راحمة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله: اكتب إليّ بسيرة عمر رضي الله تعالى عنه في الناس فإني أحب أنّ أسير بها فكتب إليه: أما بعد فإنك لست في زمان عمر، ولا لك رجال كرجال عمر؛ فإن عملت في زمانك هذا ورجالك هؤلاء بسيرة عمر فأنت خير من عمر رضي الله عنه. ذكر حسن إسلام المرء وعلامات محبة الله تعالى له يكون محباً للخير وأهله، مجانباً للشرّ وأهله، مسارعاً إلى ما ندب إليه أو أمر به إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 قدر عليه، حزيناً على ما فات من ذلك إذا أعجزه، تاركاً لما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، بريئاً من التكلّف؛ وهو اجتناب ما لم يؤمر به ولم يندب إليه من ترك وفعل مصلّياً للخمس في جماعة إذا أمن الفتنة وسلم له دينه، ومجتنباً للغيبة ولذكر الناس، يحبّ للكافة ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه، ومسارعاً إلى الخيرات، مسابقاً إلى أعمال البرّ والقربات، طويل الصمت، لينّ الجانب، ذليلاً للمؤمنين، عزيزاً على المتكبرين، لا يماري في الباطل ولا يداهن في الدين، ولا يبغض على شيء من الحق وإن كان عليه، أو من أبعد الناس منه، ولا يحبّ على شيء من الباطل وإن كان له أو من أقرب الناس إليه، كارهاً للمدح ممن يحبه، قابلاً للنصح ممن يبغضه، يكون المدح والذم يجريان من قلبه مجرى واحد، صدوقاً فيما يضرّه، غير متصنّع بما يستعجل نفعه، سريرته أفضل من علانيته، محتملاً لأذى الخلق، صابراً على بلائهم، منفرداً بحاله عنهم، تاركاً الكثير من مجالسهم واجتماعهم خشية دخول الشبهات عليه، وخوفاً من تغيّر قلبه له، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال في زماننا هذا فهو من المريدين للآخرة، وهذه ولاية ثانية ونظرة ثانية، ويقال إنّ أبدال كل قرن على قدر زمانهم وفي كل قرن سابقون ومقربون. وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ) الإنشقاق: 19، قال: لتركبنّ في كل قرن في طبقة من الناس على حال لم يكونوا عليه، وأكثر ما قيل في القرن مائة سنة، وأقل ما قيل فيه أربعون، وأوسط ذلك وأعدله وأشبهه بحمل الأحاديث والأخبار فيه أنّ القرن سبعون سنة؛ وهو قول عليّ رضي الله عنه، لأن رأس المائتين تمام ثلاثة قرون من المبعث، ونحن الآن في القرن السادس من أول سنة أربعين وثلاثمائة وآخره سنة عشر وأربعمائة، ويقال: إن الشمس تطلع من المغرب بعد القرن السابع وهو رأس الثمانين وأربعمائة وعلى قول من قال: القرن مائة سنة تطلع بعد سبعمائة سنة، وفي الخبر: أنّ ملك الموت إذا جاء لقبض روح المؤمن قال له ملكاه: أنظرنا حتى نملأ مسامعه من الثناء الحسن، فيقولان: جزاك الله عنّا خيراً فإنك كنت ما علمنا سريعاً في طاعة الله تعالى بطيئاً عن معاصية تحبّ الخير وأهله وتعمل بما استطعت منه، فربّ كلام حسن قد أسمعتنا ومجلس كريم قد أجلستنا فأبشر بالموعود الصدق بيننا وبينك الوقوف بين يدي الله تعالى بالشهادة لك عنده غداً. ذكر حق المسلم على المسلم وهو وجوب حرمة الإسلام على المسلمين وذلك عشر خصال مجموعة من ستة أحاديث؛ حديث عليّ رضي الله عنه: للمسلم على المسلم ست خصال واجبة، وحديث أبي أيوب الأنصاري: حق المسلم على المسلم ستّ خصال إن ترك منها شيئاً ترك حقّاً واجباً عليه، وحديث البراء بن عازب: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبع ونهانا عن سبع، وحديث ابن مسعود: للمسلم على المسلم أربع خلال واجبات، وحديث سعد وأبي هريرة في معنى ذلك، وحديث أنس: أربع من حق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 المسلم عليك إلاّ أنه ذكر غير ذلك، فاختلفت الألفاظ في الخصال وأنفقت المعاني، وذكر بعضهم في حديث ما لم يذكره الآخر، فجمعنا اختلافهم وعدد جمل الخصال فكانت عشرة إلاّ ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه؛ فإنه حديث غريب مؤكد للخصال وزائد عليها في الألفاظ نذكره بعدها، فأما الخصال العشر التي كثرت الأخبار بها فهي أن يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات، ويبرّ قسمه إذا أقسم عليه، وينصح له إذا استنصحه، ويحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنه، ويحبّ له ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، فأما حديث أنس: فروينا عن إسماعيل بن أبي زياد عن أبان بن عياش عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أربع من حق المسلم أن تعين محسنهم وأن تستغفر لمذنبهم وأن تدعو لمدبرهم وأن تحب تائبهم؛ فهذه الخصال داخلة في تلك الخصال وجامعة لها في معنى النصيحة لأخيك، وفي أن تحب له ما تحبّ لنفسك، وقد كان ابن عباس يؤكد هذا المعنى خاصة للمسلم على المسلم، ويفرضه فرض الحلال والحرام، ويفسّر به قوله: رحماء بينهم، فحدثناه في رواية جبير عن الضحاك عنه في قول الله عزّ وجلّ: رحماء بينهم؛ يعني متوادّين بينهم، يدعو صالحهم لطالحهم، إذا نظر الطالح إلى الصالح من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اللهم بارك له فيما قسمت له من الخير، وثبته عليه، وانفعنا به؛ وإذا نظر الصالح إلى الطالح من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اللهم اهده، وتب عليه، واغفر له، قال ابن عباس هذه الآية من حلالكم وحرامكم؛ فهذه الخصال المذكورة جامعة مختصرة في حرمة المسلمين ووجوب حق بعضهم على بعض لا عذر لأحد منهم في تركها إلاّ من عذرته السنّة، ويشهد له العلم، وبعضها أوكد من بعض وأكمل المؤمنين إيماناً لقومهم بها وأسرعهم إليها قد كثرت بها الروايات، وقد كان بعض السلف تركوا منها ثلاثة: إجابة الدعوة، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، إلاّ أنّ هؤلاء اعتزلوا الناس أصلاً وكانوا أحلاس بيوتهم لم يخرجوا إلاّ إلى الجمعات، ومنهم من ترك الجماعات وكان منهم من تبوأ الجبانات وفارق الأمصار والإخوان، وقال سهل: ما أعلم شيئاً أشدّ من حقوق الناس وكان يقول من كفّ أذاه عن الخلق مشى على الماء، وقال أبو يزيد وغيره بغية العقلاء السلامة من الله تعالى، ومن أراد السلامة من الله فليسلم الناس منه، فمن أراد أن يسلم الناس منه فليبعد منهم، فقد أنشدت لبعضهم في معناه: الناس بحر عميق ... والبعد منهم سلامه وقد نصحتك فانظر ... لا تدركنك ندامه وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: اتقوا الله واتقوا الناس، وعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 ابن عباس مثلها: لولا مخافة الوسواس لم أجالس الناس، وقال مرة: لدخلت بلاداً لا أنيس بها وهل يفسد الناس إلاّ الناس؟ وقال بعض السلف: كلما كثرت المعارف كثرت الغرماء وكلما أطالت الصحبة توكدت الحقوق، وقال بعض العلماء: من عرف نفسه استراح، ومن عرف الناس تعنى، وقال بشر بن الحرث في ضده: من عرف الناس استراح، وقد قيل في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: مداراة الناس صدقة، قال: مداراتهم في العلوم ومفارقتهم في العقول وفي أحد الوجوه من قوله تعالى: (إدْفَعْ بِالَّتي هيَ أَحْسَنُ) المؤمنون: 96، قال هي المداراة، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن منع حظه من الرفق منع حظه من الدنيا والآخرة. ذكر سنن الجسد وفي الجسد اثنا عشرة سنة، وذلك مأخوذ من ثلاثة أحاديث متفرقة: منها حديث جبريل عليه السلام حين استبطأه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي؛ خمس منها في الرأس وهي: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقصّ الشارب، وفرق شعر الرأس؛ ومنها سبع في الجسد: وهي الختان، والاستحداد، وانتفاض الماء وهو الاستنجاء ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وغسل البراجم، وتنظيف الرواجب، فأما البراجم فهي معاطف ظهور الأنامل لم تكن العرب تكثر غسل ذلك لتركها غسل أيديها عقيب الطعام، فكان يجتمع في تلك المكاسر الوسخ فأمروا بغسلها، قال أبو هريرة وغيره من أهل الصفة: كنا نأكل الشواء ثم تقام الصلاة فندخل أصابعنا في الحصباء، ثم نفركها في التراب ونكبّر، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما كنا نعرف الأشنان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما كانت مناديلنا بواطن أرجلنا، كنا إذا أكلنا الغمر مسحنا بها، ويقال: أول ما ظهر من البدع بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع: المناخل، والأشنان، والموائد، والشبع؛ فهذه كلها في شأن الجوف وهو شر وعاء مجوّف، وأما الرواجب فهي جمع راجبة وهي واحدة الأنامل لم تكن العرب يتفق لها الجلمان في كل وقت فيقصون أظفارهم فوقت لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقصّ الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أربعين يوماً، إلاّ أنه أمر بتنظيف ما تحت الأظافر لأنه مجمع النفث؛ وهي الرواجب إلى أن يقصوا أظفارهم، وجاء في الأثر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استبطأ الوحي فلما هبط جبريل عليه السلام قال له: كيف ننزل عليكم وأنتم لا تغسلون براجمكم ولا تنظفون رواجبكم، وقلحاً لا تستاكون؟ مر أمتك بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 ويقال لما تحت الأظافر من الوسخ الأف، وهو الذي يقال أف وتف؛ فالأف وسخ الظفر، والتف وسخ الأذن، وقيل: بل التف كلمة اتباع للمبالغة في التأذي بالقذر المؤذي؛ ومن ذلك قولهم في الإتباع جائع نائع وعطشان نطشان ولا أثر له ولاعنبر، وقيل من هذا قول الله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) الإسراء: 23، أي لا تعبهما بما تحت الظفر من الوسخ، وقيل: لا تؤذهما تأذيك بما تحت ظفرك من الأذى أو لا تؤذهما بمقدار ذلك. ذكر ما في اللحية من المعاصي والبدع المحدثة قد ذكر في بعض الأخبار: أنّ لله تعالى ملائكة يقسمون والذي زين بني آدم باللحي، ويقال: إنّ اللحية من تمام خلق الرجل وبها تميّز الرجال من النساء في ظاهر الخلق، في وصف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان كثّ اللحية، وكذلك كان أبو بكر وكان عثمان طويل اللحية دقيقها، وكان علي رضي الله تعالى عنه عريض اللحية قد ملأت ما بين منكبيه، ويقال: إنّ أهل الجنة مرد إلا هارون أخا موسى عليهما السلام فإن له لحية إلى صدره تخصيصاً له وتفضيلاً، ووصف بعض بني تميم من رهط الأحنف بن قيس قال: وددنا أنا اشترينا للأحنف اللحية بعشرين ألفاً فلم يذكر حنفه في رجله ولا عوره في عينه وذكر كراهية عدم لحيته وكان عاقلاً حليماً، وقد روينا من غريب تأويل قوله تعالى: (يَزيدُ في الخَلْقِ مَا يَشَاءُ) فاطر: 1، قال اللحي وفيه وجوه كثيرة، وذكر عن شريح القاضي قال: وددت لو أنّ لي لحية بعشرة آلاف، وقال بعض الأدباء في اللحية خصال نافعة منها تعظيم الرجل والنظر إليه بعين العلم والوقار، ومنها رفعه في المجالس والإقبال عليه، ومنها تقديمه على الجماعة وتعقيله وفيها وقاية للعرض؛ يعني إذا أرادوا شتمه عرضوا له بها فوقت عرضه، وقال أبو يوسف القاضي: من عظمت لحيته جلت معرفته، ففي اللحية من خفايا الهوى ودقائق آفات النفوس، ومن البدع المحدثة اثنتا عشرة خصلة بعضها أعظم من بعض وكلّها مكروهة، قد كنا أجملنا ذلك عدداً في باب آفات النفوس، فأما تفسيره فإن من ذلك خضابها بالسواد لأجل الهوى وتدليس الشيبة، وخضابها بالحمرة والصفرة من غير نية تشبيهاً بالصالحين والقراء من السنّة، وتبييضها بالكبريت وغيره استعجالاً لإظهار علو السنّ وستر الحداثة لأجل الرياسة والتعظيم ليشهد عند الحكام أو لينفق بذلك حديثه ويدعي بالسنّ مشاهدة من لم يره، فعل ذلك بعض المحدثين وبعض الشهود، ومن ذلك نتفها أو نتف الشيب منها تغطية للتكهل، ومنها تقصيصها كالتعبية طاقة على طاقة للتزين والتصنع، ومن ذلك النقصان منها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 والزيادة فيها وهو أن يزيد في شعر العارضين من الصدغ من شعر الرأس حتى يجاوز عظم اللحى وذلك هو حدّ اللحية، أو ينقص من العظمين إلى نصف الخد وذلك مثله وهو نقصان من اللحية، ومن ذلك تسريحها لأجل الناس تصنّعاً أو تركها لأجل الناس شعثة مفتلة مغبرة إظهاراً للزهد أو التهاون بالقيام على النفس لأنه قد عرف بذلك، ومن ذلك النظر إلى سوادها عجباً بها وخيلاء وغرة بالشباب وفخراً؛ ومن ذلك النظر إلى بياضها تكبّراً بكبر السنّ وتطاولاً على الشبان فيحجبه نظره إليها عن النظر إلى نفسه من تعلّم العلم وتعلّم القرآن الذي لا يسعه جهله والسؤال عمّا يجهله استصغاراً لغيره من الشباب، أو حياء من شيبه، أو استنكافاً منه، فيظن بجهله أنّ كثرة الأيام التي بيّضت شعر لحيته أعطته فضلاً أو جعلت فيه علماً، ولا يعلم أنّ العقل غرائز في القلوب وأنّ العلم مواهب من علاّم الغيوب، ومن كانت غريزته الحمق وطبيعته الجهل كثرت حماقته كلما كبر وعظمت هالته إذا أسنّ، وقد روينا جميع ذلك في كثير من الناس وهذا كله محدث وهو ضاهي سنن الجسد الاثنتي عشرة في العدد، ومما جاء في جمل معاني ما ذكرناه من الكراهة أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: حفوا الشوارب واعفوا اللحى، فقوله: حفوا أي اجعلوها حفافي الشفة أي حولها، لأنّ حفاف الشيء حوله، ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: (وَتَرَى المَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرشِ) الزمر: 75، وكان بعض العلماء يكره حلق الشارب حتى تظهر البشرة ويراه بدعة، وقد كان مالك بن أنس وبعض علماء المدينة يقولون: حلق الشارب مثله إنما هو الأخذ منه حتى يبدو الإطار والإطار حروف الشفة من فوق. وفي الحديث لفظة أخرى: أحفوا الشوارب، والإحفاء هو الاستئصال والاستقصاء؛ وهو أبلغ من قوله: حفوا، ومن هذا قوله عزّ وجلّ: (إنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) محمد: 37 أي يستقصي عليكم، وقد كان كثير من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحفي شاربه، ونظر بعض التابعين إلى رجل أحفى شاربه، فقال: ذكرتني أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فقلت هكذا كانوا يحفون شواربهم، فقال: نعم وأشد من هذا كالحلق، وليس الإحفاء حلقاً إلاِ أنه شبيه به، وقد روينا في هذا الحديث ثلاثة ألفاظ أخر وهو: خذوا من الشوارب فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأخذ من شاربه، وروي قصوا الشوارب، وجزوا الشوارب؛ فهذه الثلاثة بمعنى واحد وهو يقتضي أخذ بعضه وترك البعض ليست كالإحفاء، وقال المغيرة بن شعبة: نظر إليّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد عفا شاربي فقال تعال: فقصه لي على سواك فهذا نص من فعله في أخذ الشارب، وقد رويت لفظة غريبة طروا الشوارب طراً؛ والطرّ أن يؤخذ من فوق الشارب ومن تحته يستدق، والطرّ الدقيق المستطيل المستخرج من شيء أكثر منه حتى يحمل على وصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 دونه أو أصغر منه؛ ومن هذا سميت الطرة كأنها مستخرجة من شيء كثير مجعولة على وصف لطيف، وكان بعض السلف يترك سباليه وهما طرفا الشارب ويحفي وسط شاربه، وروي هذا عن عمر وغيره، وكذلك رأيت أبا الحسن بن سالم رحمه الله تعالى يفعل فأما قوله: وأعفوا اللحى يعني كثروها، ومن هذا قول الله عزّ وجلّ (حَتّى عَفَوْا) الأعراف: 95، أي كثروا، وفي الخبر أنّ اليهود يعفون شواربهم ويقصون لحاهم، فخالفوهم وردّ عمر بن الخطاب وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة رجل كان ينتف لحيته ونتف الفينكين بدعة؛ وهما جنبتا العنفقة، شهد رجل عند عمر بن عبد العزيز بشهادة وكان ينتف فينكيه فردّ شهادته. وورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النهي عن نتف الشيب وقال: هو نور المؤمن ونهى عليه السلام عن الخضاب بالسواد قال: هو خضاب أهل النار، وفي لفظ آخر: الخضاب بالسواد خضاب الكفّار، وأمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر أن يغير شيب أبيه، وقال: جنبه السواد وقال: هو خضاب أهل النار، وتزوج رجل على عهد عمر رضي الله عنه وكان يخضب بالسواد فنصل خضابه وظهرت شيبته فرفعه أهل المرأة إلى عمر فردّ نكاحه وأوجعه ضرباً، وقال: غررت القوم بالشباب ودلست عليهم شيبتك، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصفرة خضاب المسلمين، والحمرة خضاب المؤمنين، وكانوا يخضبون بالحناء للحمرة وبالخلوق والكتم للصفرة، ويقال: أوّل من خضب بالسواد فرعون لعنه الله، وقال سري بن المغلس السقطي: في اللحية شركان: تسريحها لأجل الناس وتركها متفتلة لإظهار الزهد، وقال أيضاً لو دخل عليّ داخل فمسحت لحيتي لأجله ظننت أني مشرك، وعن كعب وأبي الجلد وصفا قوماً يكونون في آخر الزمان يقصون لحاهم كذنب الحمامة ويعرقفون نعالهم كالمناجل أولئك لا آخلاق لهم، وذكر أيضاً عن جماعة أنّ هذا من أشراط الساعة، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة، وروي أبو المهزم عن أبي هريرة أنّ أصحاب الدجال عليهم السيجان شواربهم كالصياصي ونعالهم مخرطة؛ يعني شواربهم ملس تلوح، وأصل الصياصي القرون وهو جمع صيصة ومنه صيصة الديك الظفر الثاني الأملس مؤخر رجله كأنه عظم، وقوله عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 السيجان يعني الطيالسة وهو جمع ساج، وقوله: نعالهم مخرطة أي لها أعناق طوال معرقفة كالخراطيم وهي أكمام الأباريق، وكان ابن عمر يقول للحلاق أبلغ العظمين فإنهما منتهى اللحية؛ يعني حدّها، ولذلك سميت لحية لأن حدّها للحي فالزيادة على ذلك الحد والنقصان منه محدث. ذكر ما جاء في فعل بعض ذلك واستحبابه إنّ من العلماء من كان يأخذ من لحيته في المناسك وغيرها وإن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما تحت القبضة فلا بأس، قد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين وكرهه الحسن وقتادة وتركها عافية على خلقتها أحبّ إليّ، وقد روينا خبراً من سعادة المرء خفة لحيته، إلاّ أنّ بعض الرواة رواه على معنى آخر فإن لم يكن صحفه فهو غريب، كان يقول فيه خفة لحيته أي بتلاوة القرآن ولا أراه محفوظاً، وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم الصالحون بعده يسرّحون لحاهم لأجل الدين والسنّة وتنظيفاً للطهارةونزع التفث من القمل وغيره ولإسقاط شعر ميت إن كان هناك، وقد كان من الزّهاد من يترك لحيته متفتلة لا يسرّحها شغلاً عن نفسه، والصدق بعينه حسن والصدق في كل شيء حسن، قال بعضهم: رأيت داود الطائي منفتل اللحية، فقلت: يا أبا سليمان لو سرّحت لحيتك، فقال: إني إذاً لفارغ، إلاّ أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدهن شعره ويرجله غبّاً، وأمر بذلك فقال: وادهنوا غبّاً، وقال: من كانت له شهرة فليكرمه ودخل رجل ثائر الرأس أشعث اللحية فقال: أما كان لهذا دهن يسكن به شعره؟ ثم قال: يدخل أحدكم كأنه شيطان. وقد روينا في خبر غريب: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسرّح لحيته في كل يوم مرتين، وفي خبر أغرب منه قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: اجتمع قوم بباب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج عليهم فرأيته يطلع في الحب ليسوي من رأسه ولحيته، وفي الخبر المشهور أنه كان يمشط لحيته في كل يوم، وأنّ المشط والمدرى لم يكن يفارقه في سفر ولا حضر؛ فهذه سنّة العرب المعروفة فيهم وكان عليه الصلاة والسلام عليها، وكانت من أخلاقه، وقد كان الشباب يتشبهون بالكهول تفضيلاً للكهول غير عجب بالشباب ولا فخر بالحداثة. وفي الخبر: خير شبابكم من تشبّه بشيوخكم وشرّ شيوخكم من تشبّه بشبابكم، وفي الحديث: أنّ من إجلال الله تعالى إجلال ذي الشيبة لمسلم، وقد كان الشيوخ يقدمون الشباب ويرون فضلهم بالعلم والدين تواضعاً وإخباتاً لا تكبّراً بالكبر ولا غلّواً، كان عمر رضي الله تعالى عنه يقدم ابن عباس وهو حدث السنّ على أكابر الصحابة ويسأله دونهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وروي عن ابن عباس وغيره: ما آتى الله تعالى عبداً العلم قط إلاّ شاباً والخير كله في الشباب، ثم تلا قوله تعالى: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبراهيمُ) الأنبياء: 60 وتلا قوله سبحانه: (إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) الكهف: 13، وقوله تعالى: (وَآَتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً) مريم: 12، وقد كان أنس بن مالك إذا ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قبض، وليس في شعر رأسه وشعر لحيته عشرون شعرة بيضاء فقيل ولِمَ يا أبا حمزة وقد أسنّ؟ قال: لم يشنه الله تعالى بالشيب، قيل: أو شين هو؟ قال: كلكم يكرهه، ويقال إنّ يحيى بن أكثم ولي القضاء وسنّه إحدى عشرون سنة فقال له رجل ذات يوم وهو في مجلسه يريد أن يحشمه بذلك كم سنّ القاضي أيده الله تعالى؟ فقال مثل سن عتاب بن أسيد حيث ولاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمارة مكة وقضاءها فأفحمه، وروينا عن مالك بن معول قال: قرأت في بعض كتب الله عزّ وجل: لا تغرّنكم اللحى فإن التيس له لحية، وقال بعض الأدباء كلما طالت اللحية تشمّر العقل وقال أبو عمرو بن العلاء إذا رأيته طويل القامة صغير الهامة عريض اللحية فاقض عليه بالحمق، ولو كان أمية بن عبد شمس، وقال معاوية رحمه الله تعالى: يتبين حمق الرجل من طول قامته وعظم لحيته، وفي كنيته ونقش خاتمه، وكان إبراهيم النخعي ومثله من السلف يقول: عجبت لرجل عاقل طويل اللحية كيف لا يأخذ من لحيته فيجعلها بين لحيتين فإن التوسط في كل شيء حسن وأنشدت لبعض الظرفاء: لا تعجبنّ بلحية ... كبرت منابتها طويله يهوى بها عصف الريا ... ح كأنها ذنب الحسيله قد يدرك الشرف الفتى ... يوماً ولحيته قليله وأنشد لبعض العرب: لعمرك ما الفتيان ... إن تنبت اللحى ولكنما الفتيان ... كل فتى ندي ولم يكن الأشياخ يستنكفون أن يتعلموا من الشباب ما جهلوا ولا يزرون عليهم لصغر سنهم إذ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا مانع لما أعطى الله من صبي أو غيره ولا معطي لما منع الله من كبير أو غيره، وقال أبو أيوب السجستاني: إني أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبع الغلام يتعلم منه فيقال له تتعلم من هذا؟ فيقول: نعم، أنا عبده ما دمت أتعلم منه، وقال عليّ بن الحسن من سبق إليه العلم فهو إمامك فيه وإن كان أصغر سنّاً منك، وقيل لأبي عمرو بن العلاء: أيحسن للشيخ الكبير أن يتعلم من الصغير؟ فقال: إن كانت الحياة تحسن به فإن التعلّم يحسن، فإنه يحتاج إلى العلم ما دام حيّاً، وقال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي رضي الله تعالى عنه: يا أبا عبد الله تترك حديث سفيان بعلوّ وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه؟ فقال أحمد: لو عرفت منه ما أعرف لكنت تمشي من الجانب الآخر، إن علم سفيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 إن فاتني بعلوّ أدركته بنزول وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم أدركه بعلوّ ولا نزول، وسمعت أبا بكر بن الجلاء يقول، إني لأرى الصبي يعمل الشيء فأستحسنه فأقتدي به فيكون إمامي فيه وما رأيت أشد تواضعاً منه على علمه وزهده، فأما معنى الخبر الذي روي لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم عن أكابرهم، فإذا أتاهم عن أصاغرهم هلكوا، فإن ابن المبارك سئل عن معنى ذلك فقال: أصاغرهم أهل البدع لأنه لا صغير من أهل السنّة ممن عنده علم، ثم قال: كم من صغير السن حملنا عنه كبير علم، وقد قيل: إنّ قوله عن أكابرهم يعني أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهذا مواطئ للخبر الآخر: لا تزال أمتي بخير ما دام فيهم من رآني وليأتين عليهم زمان يطلب في أقطار الأرض فلا يوجد أحد رآني، كيف وقد جاء بذلك لفظة ذكرتها لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أكابرهم، فإذا أتاهم عن أصاغرهم استعصى الكبير على الصغير فهلكوا أي فذلك خشية أن لا يتعلم منه لما ذكرناه من الحياء والتكبّر والاستنكاف ووجه آخر هذا مجازه عندي على الخبر والكون لا على الذم لأنه قد جاء في الأثر وصف هذه الأمة في أوّل الزمان بتعلم صغارها من كبارها، فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم، فإذا كان كذلك فهذا تفضيل الأصاغر وتشريف هذه الأمة على سالف الأمم لأنهم لم يكونوا يحملون العلم إلاّ عن القسيسين والرهبان والأشياخ العباد والزهاد، وأخبر أنّ هذه الأمة في آخر الزمان تفضل سالف الأمم في أوّل أزمنتهم بأن يتعلم الكبير من الصغير كما فضلهم الله تعالى به فذلك أشدّ وطأ للخبر الآخر: أمتي كالمطر لا يدري أوّله خير أم آخره، ولمثله من الشاهد: كيف تهلك أمة أنا في أولها والمسيح ابن مريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخرها. وقد روينا في الخبر: لا تحقروا عبداً آتاه الله تعالى علماً فإن الله تعالى لم يحقره إن جعل العلم عنده وكان شعبة يقول: من كتبت عنه حديثاً أو تعلمت منه علماً فأنا عبده، وقال مرة: إذا كتبت عن الرجل سبعة أحاديث فقد استرقني، فأما الخضاب بالسواد فقد يروى أن بعض العلماء ممن كان يقاتل في سبيل الله تعالى كان يخضب بالسواد ولكن لم يكن هذا يخضب به لأجل الهوى وتدليس الشيب إنما كان يعدّ هذا من أعداد القوة من العدة لأعداء الله تعالى بمعنى قول الله عزّ وجلّ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) الأنفال: 60 وإظهار الشباب من القوة وقد رمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضطبع هو وأصحابه ليراهم الكفار فيعلموا أنّ فيهم جلداً وقوة، ومن صنع شيئاً بنية خالصة صالحة يريد بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وجه الله تعالى وكان عالماً بمذهب له ذهب إليه فهو فاضل في علمه وفعله وإن كان ذلك من دون أعماله لم يتبع أن يستن به فيه لأنّا روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من شرّ الناس منزلة عند الله يقتدي بسيئة المؤمن ويترك حسنته، فأخبر أنّ للمؤمن سيئة وأنّ من شرّ الناس من تأسى بها معذرة لنفسه في هواها. باب ما ذكر من نوافل الركوع وما يكره من النقصان منه قال الله سبحانه وتعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) الطور: 49، روينا عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه فسره قال: ركعتا الفجر، وكذلك فسّر قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) ق: 40، قال: ركعتا المغرب، وهذا على قراءة من كسر الألف، فأما من نصبها فإن معناه إدبار الصلوات أي أعقابها وأواخرها، والتسبيح اسم الصلاة النافلة لكون التسبيح فيها، وتسمى النافلة سبحة، فمن سنن الركوع واستحبابه إدبار الصلوات وقبلها الذي لا أستحبّ ترك شيء منه، وبعضه أوكد من بعض سبع عشرة ركعة مجموع من خمسة أحاديث: حديث عليّ رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنهار فقال: ست عشرة ركعة، وحديث ابن عمر: حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر ركعات، وحديث أبي أيوب الأنصاري في الصلاة قبل الظهر، وحديث أنس بن مالك وعائشة في الصلاة بعد العشاء الآخرة، وفي الوتر وخبر أم حبيبة الوارد بالفضل من العدد: من صلّى في يوم اثنتي عشرة ركعة غير المكتوبة بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة، وخبر غريب رواه أهل البيت مواطئ لبعض ما ذكرناه أنّ الله تعالى فرض عليكم في اليوم والليلة سبع عشرة ركعة وسننت لكم مثلها؛ أول ذلك ركعتا الفجر وهما سنّة مؤكدة، وأربع قبل الظهر وهن مستحبات مؤثرة في الاستحباب، وركعتان بعدها وهما سنّة، وأربع قبل العصر رجاء أن يدخل في دعوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وركعتان بعد المغرب وهما سنّة مؤكدة، وثلاث ركعات الوتر مؤكدة، فأما حديث عليّ رضي الله عنه فإنه ذكر من صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً لم يذكره غيره: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي الضحى ست ركعات في وقتين، إذا أشرقت الشمس وارتفعت قام فصلّى ركعتين وهذا هو الإشراق وهو الورد الثاني من النهار، وإذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء من المشرق، ومثلها حين تكون في ثلاثة أرباع السماء، من صلاة العصر صلّى أربعاً وهذا هو الضحى الأعلى والورد الثالث من النهار، والمواظبة على هذه الصلاة بمراعاة هذين الوقتين من عزائم الأعمال وفواضلها، وذكرت أم هانئ أخت عليّ رضي الله عنه أنه صلّى الضحى ثماني ركعات أطالهن وحسّنهن ولم ينقل هذا العدد غيرها، وأما عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها ذكرت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء لله فلم تحد. وقد روينا في حديث منفرد أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي الضحى ست ركعات، وقد روى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً تفرّد به: أنه لم يكن يدع أن يصلي أربعاً الزوال وقبل صلاة الظهر يقرأ فيهن بمقدار سورة البقرة، قال: فسألته عن هذه الصلاة فقال: إنّ أبواب السماء تفتح هذه الساعة ويستجاب الدعاء فأنا أحبّ أن يرفع لي فيها عمل صالح، وقد جاء في حديث أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفسّراً: من صلّى في يوم اثنتي عشرة ركعة غير المكتوبة بنى الله له بيتاً في الجنة، ركعتين قبل الفجر، وأربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، ورواه ابن عمر في حديثه: حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل يوم عشر ركعات فذكرها إلاّ قوله: وركعتين قبل الفجر، فإنه قال: تلك الساعة لم تكن تدخل فيها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن حدثتني أختي حفصة أنه كان يصلّي ركعتين في بيتها ثم يخرج، وقال في حديث: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد العشاء، وقالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلّى بعد العشاء الأخيرة أربع ركعات ثم ينام. وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر بعد العشاء بثلاث ركعات، يقرأ الأولى: بسبِّح اسم ربِّك الأعلى وفي الثانية: قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة: قل هو الله أحد، وقد جاء في خبر أنه كان يصلّي بعد الوتر ركعتين جالساً وفي بعضها متربّعاً، وفي بعض الخبر إذا أراد أن يدخل في فراشه زحف إليه وصلّى فوقه ركعتين قبل أن يرقد، يقرأ فيهما: إذا زلزلت الأرض، وسورة ألهاكم التكاثر. وفي رواية أخرى: وقل يا أيها الكافرون، فإن أضعف العبد هذه السبع عشرة ركعة فجعلها أربعاً وثلاثين يداوم عليها ويجعلها ورده من الصلاة فهو أفضل؛ وهذا مذهب أهل البيت واحتجوا فيه بخبر رووه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: فرض الله تعالى على أمتي في اليوم والليلة سبع عشرة ركعة وسننت لهم مثلهما وإن كان الحفاظ من أهل النقل يضعغون هذا الحديث إلاّ أنه قال عليه الصلاة والسلام: الصلاة خير موضوع، فمن شاء أكثر ومن شاء أقلّ، وقال: بين كل أذان وإقامة صلاة لمن شاء، فإن فعل ذلك وراعاها على ما يرتبه فهو مقارب لما ذكرناه آنفاً من السنن والاستحباب قبل الصلوات الخمس وبعدها ركعتان قبل الفجر، وأربع من الضحى، وأربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وست بعد المغرب، وأربع قبل العشاء وست بعدها، ثم يوتر بواحدة؛ فهذا حينئذ نحو ما رسمناه وهو مشبه لما نقلناه من الآثار، وليستند إلى الخبر المأثور وإلى فعل أهل البيت، وأكثر ما روي من صلاته بين العشاءين مما نقل عدده ست ركعات، وأكثر ما روي من صلاة الضحى ثمان ركعات، ومن صلاته بالليل ثلاث عشرة ركعة، إلاّ حديثاً مقطوعاً موقوفاً على طاووس رواه ابن المبارك: أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلّي من الليل سبع عشرة ركعة، فهو حديث شاذ ذو سائر الأخبار المسندة عن ابن عباس، وعائشة، وميمونة، وأم حبيبة؛ إنما هي إحدى عشرة ركعة وثلاث عشرة ركعة، واستحب أن يصلّي العبد قبل كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 صلاة أربعاً وبعدها أربعاً إلا ما لا صلاة قبلها ولا صلاة بعدها، ثم يزيد بعد ذلك ما قسم الله تعالى له، وأن يصلّي الضحى ثماني ركعات ويواظب عليهن إذا أنشط أطالهن وإذا فتر قصرهن، فإنّ المداومة على العمل عمل ثان، وهو من أفضل الأعمال وأحبّه إلى الله تعالى، وإلاّ اقتصر على أربع يديمهن، ولا أكره أن يصلّي قبل المغرب ركعتين بعد غروب الشمس، فقد قال أنس بن مالك: كان اللباب من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلّون ركعتين قبل المغرب، وكان أبيّ بن كعب، وعبادة بن الصامت، وأبو ذر، وزيد بن ثابت، وغيرهم من أكابر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلّونها، وقال عبادة أو غيره: كان المؤذن إذا أذن لصلاة المغرب ابتدر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السواري يصلّون ركعتين، وقال أيضاً بعضهم: كنّا نصلّي ركعتين قبل المغرب وذاك داخل في عموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بين كل أذانين صلاة لمن شاء، وقد كان أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يصلّيهما فعليهما الناس عليه، وقال مرة: لم أرَ الناس يصلّونهما فتركتهما، وقال: إن صلاّهما الرجل في بيته أو حيث يراه الناس فحسن وذلك استحب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 ال فصل السابع والثلاثون شرح الكبائر التي تحبط الأعمال وتوبق العمال وتفصيل ذلك ومنازل أهلها فيها ومسألة محاسبة الكفار: قال الله تعالى: (إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) النساء: 31، فاشترط لتكفير الصغائر من السيئات اجتناب الكبائر الموبقات، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفر ما بينهن لمن اجتنب الكبائر، وفي لفظ آخر: كفّارات لما بينهن إلاّ الكبائر، فاستثنى من كفّارات الذنوب الكبائر، فاختلف العلماء من الصحابة والتابعين في الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك، فكان ابن مسعود يقول: هنّ أربع، وكان ابن عمر يقول: الكبائر سبع، وقال عبد الله بن عمر وهنّ تسع، وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر إنّ الكبائر سبع يقول: هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبع، وقال مرة: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو من الكبائر، وقال هو وغيره: كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار فهو من الكبائر، وقال بعض السلف: كلما أوجب الحد في الدنيا فهو كبيرة، والصغائر عندهم من اللمم وهو ما لا حدّ فيه وما لم يتهدد بالنار عليه، فقد روي هذا عن أبي هريرة وغيره، وكان عبد الرزاق يقول: الكبائر إحدى عشرة وهذا أكثر ما قيل في جملة عددها مجملاً، وقيل: إنها مبهمة لا يعرف حقيقة عددها كإبهام ليلة القدر وساعة يوم الجمعة والصلاة الوسطى ليكون الناس على خوف ورجاء فلا يقطعون بشيء ولا يسكنون إلى شيء، وقد قال ابن مسعود فيها قولاً حسناً من طريق الاستنباط، وقد سئل عن الكبائر فقال: اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عِنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) النساء: 31، فكل ما نهى الله تعالى عنه من أول السورة إلى ها هنا فهو من الكبائر، فأشبه هذا استدلال قول ابن عباس في استنباط ليلة القدر أنها ليلة سبع وعشرين، أنه عد كلمات سورة القدر حتى انتهى إلى قوله هي فكان سبعاً وعشرين كلمة، والله أعلم بحقيقة هذين القولين والذي عندي في جملة ذلك مجتمعاً من المتفرق سبع عشرة تفصيلها: أربعة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 أعمال القلوب وهنّ: الشرك بالله تعالى والإصرار على معصية الله تعالى والقنوط من رحمة الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى، وأربعة في اللسان وهنّ شهادة الزور وقذف المحصن وهو الحرّ البالغ المسلم واليمين الغموس، وهي التي تبطل بها حقّاً وتحقُّ بها باطلاً، وقيل: هي التي يقطع بها مال مسلم ظلماً ولو سواكاً من أراك، وسميت غموساً لأنها تغمسه في غضب الله تعالى، وقيل: لأنها تغمس صاحبها في النار، والسحر وهو ما كان من كلام أو فعل يقلب الأعيان أو يغير الإنسان وينقل المعاني عن موضوعات خلقها، والسحرة هم النفاثات في العقد الذين أمر الله تعالى بالإستعاذة منهم، وثلاثة في البطن وهي: شرب الخمر، والسكر من الأشربة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا وهو يعلم، واثنتان في الفرج: وهما الزنا، وأن يعمل قوم عمل لوط في الادبار واثنتان في اليدين وهما: القتل والسرقة، وواحدة في الرجلين وهي الفرار من الزحف الواحد من اثنين، غير متحرف إلى الأمام، ولا متحيزاً إلى فئة، ولا معتقد الكرة، وواحدة في جميع الجسد هي: عقوق الوالدين وتفسير العقوق جملة أن يقسما عليه في حق فلا يبرّ قسمهما، وأن يسألاه في حاجة فلا يعطيهما، وأن يأمناه فيخونهما، وأن يجوعا فيشبع ولا تطعمهما، وأن يستبّاه فيضربهما، وذكر وهب بن منبه اليماني: أصل البرّ بالوالدين في التوراة أن تقي مالهما بمالك وتؤخر مالهما وتطعمها من مالك، وأصل العقوق أن تقي مالك بمالهما وتوفر مالك وتأكل مالهما، وفي حديث أبي هريرة: الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلاّ من ثلاثة: إشراك بالله، وترك السنّة، ونكث الصفقة، أن تبايع الرجل ثم تخرج عليه بالسيف تقاتله. وقد روينا عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق، ومن الكبائر السبّتان بالسبّة، وأما عبادة بن الصامت وأبو سعد الخدري وغيرهما من الصحابة فكانوا يقولون: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكبائر، وهي في بعض الألفاظ من الموبقات، وقالت طائفة كل عمد فهو كبيرة، وقال بعض السلف: أربعة أشياء مبهمة لا يعلم حقائقها: الصلاة الوسطى، وليلة القدر، وساعة يوم الجمعة المرجّو فيها الإجابة، والكبائر ذلك ليكون الناس على خوف من الوعيد في الإتقاء، وعلى رجاء من الوعود في الابتغاء، لئلا يقطعوا بشيء ولا يسكنوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 إلى شيء ولله عاقبة الأمور، فالذي ذكرناه من الخصائل هو من أوسط الأقوال وأعدلها وهو ما اتفقوا عليه، وكثرت الأخبار فيه، فهذه الكبائر الموبقات التي من اجتنبها كفرت عنه السيّئات وثبتت له النوافل من الفرائض الخمس التي هي أبنية الإسلام، وذلك أنّ دعائم الإسلام وهذه الكبائر قرينان يعتلجان ويتقاومان في العظم والمعنى بالتضاد، فالكبائر كبرت فكفّر اجتنابها ما دونها من الصغائر، والفرائض الخمس التي هي أبنية الإسلام إذا تممت كفّرت ما بعدها من السيّئات وثبت للعبد نوافله وتبدل سيّئاته حسنات فيكون له فضل عظيم يرجى له الجنة ومنازل العاملين وهو السابق بالخيرات. قال الله تعالى: (إنْ تَجْتِنَبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) النساء: 31 وقال من بعد الكبائر: (إلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ عَمَلاً صَالِحًا فَأوُلئكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهمْ حََسنَاتٍ) الفرقان: 7، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصلوات الخمس كفّارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، فالفرائض الأربع التي هي أبنية الإسلام منوطة بالصلوات الخمس، لا تصّح إلاّ بها كالشيء الواحد بمنزلة الأربع، فالصلوات مرتبطة بالشهادتين، إن ترك خصلة منها كان كترك الخمس لأنها أسّ الإسلام وأبنية الإيمان، واجتناب الكبائر منوط بالشهادتين لا يقع جميع ذلك إلاّ بهما، فإذا انتهكت الكبائر أحبطت الأعمال الفرائض الخمس، أحبطت ما بينها من السيّئات إلاّ الكبائر، فإنهاكبرت فلا تكفرها فلا يبقى للعبد يوم القيامة مع ارتكاب الكبائر من الأعمال إلاّ الفرائض الخمس، وقد أكل سائر نوافله ارتكاب الكبائر فيخاف عليه النار ومنازل المسرفين وهذا هو ظالم لنفسه وهو الذي حذر الله تعالى المؤمنين عنه قال: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُول وَلا تُبْطِلوا أعْمَالَكُمْ) محمد: 33، ومنه قوله تعالى: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيّئةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطَيئَتُهُ) البقرة: 81 قيل: هي الكبائر أحاطت بجميع حسناته فمحقتها، وعلى هذا اختيارنا هذا الحرف من مقرانا وعلى الوجه الآخر وأحاطت به خطيئة هي الشرك الذي ختم له به فلم ينفعه عمل كان قبله، فإن قصر في الفرائض الخمس التي هي مباني الإسلام إلاّ أنه مجتنب الكبائر كفرّت عنه سيّئاته كلها، وتممت فرائضه بسائر نوافله لأنها ثابتة له بعد أن يحصل له صحة التوحيد ويسلم من كبائر البدع التي تنقل عن الملة؛ وهذا ممن استوت حسناته وسيئاته فيطول وقوفه للحساب ويشاهد الزلازل والأهوال ليكون ذلك رجحان حسناته ويجعل من أصحاب الأعراف على أعراف السور هي شرفه التي بين الجنة والنار هو الحجاب الذي بين أهل النار وأهل الجنة إلى أن يتفضل الله تعالى عليه بفضل رحمته، فإن سمح له مولاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 فعفا عنه سقط عنه هذا كله وأدخل الجنة في أصحاب اليمين؛ وهذا هو المقصد المتوسط بين الظالم لنفسه والسابق إلى ربه، فإن لم يكن له نوافل مع نقصان فرائضه لم يبق له من أعماله إلاّ اجتناب الكبائر فيوزن ما بقي من عمله وهو اجتنابه الكبائر بفرائضه النواقص، فإن رحج اجتناب الكبائر مثقال ذرة أو فضلت له حسنة واحدة، ضاعفها الله تعالى بالمزيد وتجاوز عن سيّئاته في أصحاب الجنة ولم تكن له مقامات المقربين ولا درجات السابقين وهو ممن قال الله سبحانه وتعالى: (إنَّ الله لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ منْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) النساء: 40، يعني الجنة وإن خف أضاعته الفرائض لسنّته كان من الموقنين للحساب الطويل واحتاج إلى شفاعة الشافعين، فإن كان فرائضه الخمس ناقصة، وكان مرتكباً للكبائر فهو من الهالكين، لأنه ممن خفت موازينه من المؤمنين، وهذا من المسرفين هم أصحاب النار، فيدخل النار لنقص إسلامه ولوفور سيّئاته عليه إذ لم تمحها حسناته ولتطول نوافله بانتهاكه الكبائر، ولأن هذا نقص من مثقال دينار إلاّ أنه لا يكون من المخلدين لصحة توحيده، وعلى أنه أول من يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينارمن إيمان فهو في أول طبقة يخرج هذا إلى زنة شعيرة إلى ذرة من إيمان؛ وهؤلاء آخر الطبقات خروجًا إلى أن يبدو لبعضهم من الله تعالى ما لا يحتسبه ويظهر له غدًا ما لا يعلمه، فيعفي عن البعض ولا يجعل ممن حق عليه الوعيد لما سبق له من الكلمة الحسنى، ويتجاوز عن سيّئاتهم في أصحاب الجنة. وقد جاء في الخبر: يؤتى بالرجل من هذه الأمة فيسدّ به ركن من أركان جهنم، وقد جاء في الخبر: أنّ العبد ليوقف بين يدي الله عزّ وجلّ وله من الحسنات أمثال الجبال لو سلمت له لكان من أهل الجنة، فيقوم أصحاب المظالم فيوجد قد سبّ عرض هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، فيقص من حسناته حتى لا تبقى له حسنة، فيقول الملائكة: يا ربنا قد فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير، فيقال: ألقوا من سيّئاتهم على سيّئاته وصكّوا له صكًّا إلى النار، وقد جاء في العلم أنّ آخر من يبقى في جهنم من الموحدين سبعة آلاف سنة. وروينا عن أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة: وفيه شدة، وقال: والله لا يخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 عبد من النار بعد أن دخلها حتى يقيم فيها سبعة آلاف سنة، وهذا والله أعلم آخر من يخرج من النار لأنهم يخرجون زمراً متفاوتون من اليوم والجمعة والشهر والسنّة إلى ستة آلاف سنة فأكثرهم إيماناً أقلهم مقاماً وأقلهم مكثاً أولهم خروجاً، أما أول زمرة تخرج من في قلبه مثقال من الإيمان فهذا أقلهم لبثًا وأسرعهم خروجًا إلى شعيرة إلى ذرة؛ فهؤلاء أقلهم إيماناً وأنقصهم توحيداً وأعظمهم جرماً وأشدّهم على الله عتياً وهم أكثرهم مقاماً وقد اشتهر خبر من يخرج من النار بعد ألف عام ينادي: ياحنّان يا منّان، فقال الحسن لما روى هذا الحديث يا ليتني كنت ذلك الرجل لشدة خوفه خاف أن يدخلها ثم عظم خوفه فخاف أن لا يخرج منها فتمنى أن يخرج منها بعد ألف عام. وقد جاء في الخبر: آخر من يخرج من النار وهو أيضاً آخر من يدخل الجنة، فلعله والله أعلم بعد سبعة آلاف سنة فيعطى من الجنة مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف، رواه أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ومعنى الحكمة في إدخال البشر إلى النار على ترتيب الكون أنهم خلقوا من ماء ثم خالطه ما امتزج به من الأهواء فلا يستخرج ذلك إلاّ بالنار، فإنها تخرج الماء مما مازجه حتى يخلص، وأنهم أيضاً خلقوا من تراب الأرض بمنزلة الخشب المعوجّ يقوم بالنار حتى يستقيم، ثم يقطع عنه النار ويستقيم ذلك فعندها يصلح لغير النار وموضع الحكمة في تخليد الكافرين والشياطين في النار أنّ أرواحهم خلقت من جوهر النار فرجعت إلى معدنها، وهي أيضاً سوداء مظلمة نارية، وهم أيضاً خلقوا لها لا يصلحون لغيرها بمنزلة الحطب والشوك والحراق الذي لا يصلح إلاّ للنار، فتبارك الله تعالى حكمته معتدلة في الأشياء وحكمه غامض فيها، ينظر بعين التعديل فيقسم بها المقادير بمعاني التنقيص والتفضيل، ومجمل ما ذكرناه أنّ كل وصف يكون للعبد من الخير كفر عنه سيّئاته، فإن نوافله ساقطة وكل وصف يكون له من الشرّ لا يحبط نوافله، فإن نوافله موفرة ثابتة ومن كان عاملاً للحسنات وهو في ذلك يرتكب بعض الكبائر فإن أعمال برّه وفضائله موقوفة إلى التوبة، فإن تاب واستقام كفرت توبته ما سلف من كبائره وبدلت استقامته على الطاعة سيّئاته حسنات، وأكثر ما يوبق الناس من الكبائر المظالم، وأكثر ما يدخلهم النار ذنوب غيرهم إذا طرحت عليهم وكثير يدخلون الجنة بحسنات غيرهم إذا طرحت عليهم لأنها صحيحة ثابتة، وقد تبطل حسناتهم لدخول الآفات عليها، بلغني عن أبي عبد الله بن الجلاء أنّ بعض إخوانه اغتابه ثم أرسل إليه ليستحلّه فقال: لا أفعل، ليس في صحيفتي حسنة أفضل من حسناته، أريد أن أزين صحيفتي بها، وفي الحديث: ذنب يغفر وذنب لا يترك؛ فالذنب الذي يغفر ظلمك نفسك، والذنب الذي لا يترك مظالم العباد؛ والتوبة طريق الكل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 والرحمة تسعهم، وباب التوبة مفتوح للكافة إلى طلوع الشمس من مغربها، وكل عبد توبته متقبلة ما لم تبلغ الروح الحلقوم ولم يعاين الملائكة فإذا بلغت الروح التراقي وعاينت الأملاك غلق عليه باب التوبة ومات على الإصرار، وقيل: من راق أي من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وظن أنه الفراق أيقن أنه قد فارق الدنيا بمعاينة الآخرة وفارق الناس والأهل بمعاينة الملائكة، فإن مات عن غير توبة كان ممن قال الله عزّ وجلّ: (وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) سبأ: 54 قيل: التوبة كما فعل بأشياعهم من قبل. ولما قال تعالى: (وََلَيْسَتِ التَّوْبةُ لِلَّدينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئات حتّى إذا حضرأحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنّى تُبْتُ الآن) النساء: 18 وحضور الموت يكون عند معاينة ملك الموت إذا خرجت الروح من جميع الجسم فلم يبق إلاّ ما بين القلب والعينين فهو الوقت الذي قال الله عزّ وجلة: (يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرى يَومَئِذٍ لِلمُجْرِمينَ) الفرقان: 22 وهو الذي خوف منه في قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ تأتيَهُمُ المَلائِكَةُ) الأنعام: 158 يعني عند الموت؛ وهذا لأهل المعاينة أو يأتي ربك، يعني يوم القيامة؛ وهذا لأهل البرزخ يوم يأتي بعض آيات ربك وهو اليأس الذي يقع عنده من الدنيا؛ اليأس من طلوع الشمس من مغربها وهو آخر التوبة ويؤمن معه كل كافر، فقال سبحانه: (يَوْمَ يَأْت بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ منْ قَبْلُ) الأنعام: 158 أي من قبل المعاينة: (أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا) الأنعام: 158 قيل التوبة، وهوالوقت الذي قال اللّّه تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) غافر: 84 يعني كشف الغطاء قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنّة الله التي قد خلت في عباده يعني طريقته وشأنه الذي مضى في الخلق لا تبديل له ولن تجد لسنّة الله تبديلاً، وحكم العباد كلهم في المعاد إلى الله عزّ وجلّ إن عذبهم فبما اكتسبوا، ويعفو عن كثير، وإن شاء أن يغفر لهم وهو الغفور الرحيم، وقد يتفاوت الناس في جميع ما ذكرناه من أداء الفرائض ومن ارتكاب المعاصي والعرف، والتخلق بأخلاق النفس من عادات أبناء الدنيا وعرف معاشرتهم فيما بينهم؛ فإنّ ذلك حال الغافلين ومقام الجاهلين غير محمود العاقبة، ولامغبوط الخاتمة، ولا يترك العمل الصالح أيضاً خشية دخول الآفة، ولايدعه إن كان داخلاً فيه لما يعتريه فيه؛ ذلك بغية عدّوه منه لكن يكون على نيته الأولى من جهة القصد، فإن دخلت عليه علّة وضع عليها دواءها فعمل في نفيها وإزالتها وثبت على حسن نيته وصالح معاملته، ولا يدع عملاً لأجل الخلق حياء منهم وكراهة واعتقادهم فضله، لأن العمل لأجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الناس شرك، وتركه لأجلهم رياء، وترك العمل لأجل دخول الآفة فيه جهل، وتركه عند دخول العلّة عليه ضعف ووهن، ومن دخل في العمل للّّه تعالى وخرج منه لله تعالى لم يضرّه ما كان بين ذلك بعد أن ينفيه ولا يساكنه، وقد يضرّه ما يكون بعد ذلك: مثل إن كان سرّاً فأظهره بعد زمان فصار علانية فنقل من ديوان السرّ إلى ديوان العلانية، ومثل أن يتظاهر به ويفتخر ويدل به ويتكبر فيحبط ذلك عمله لأنه قد أفسده، والله لا يصلح عمل المفسدين، ومن دخل في العمل لله تعالى ودخل عليه في وسط العمل علة فخرج من العمل بها بطل عمله، ومن دخل في العلم بآفة وخرج منه بصحة سلم له عمله وجبر بآخره أوّله، وأفضل الأعمال ما دخل في أوّله لله تعالى وخرج منه بالله تعالى، ولما تطرقه فيما بينهما آفة فيكون الله تعالى هوالأول فالآخر معه وعنده، ثم يظهره بعد ذلك ولا يتظاهر به، وأفضل النيات أن لا تريد بعملك إلاّ وجه الله تعالى وحده تعظيمًا لحق الربوبية وإلزامًا للنفس وصفُ العبودية، فإن لم يكن هذا المقام عن مشاهدة وجه ذي الجلال والإكرام فمشاهدة ما رغب فيه وشوق إليه من الآخرة عن مقام الرجاء، ولا ينبغي للعبد أن يدخل في شيء حتى يعلم علمه فيكون داخلاً في علم يعلم مثله، لأن لله سبحانه وتعالى في كل شيء حكمًا، فما علم من ذلك حمد الله تعالى عليه وعمله، وما جهل سأل عنه من هو أعلم به، وما أشكل عليه أمسك عنه حتى يستبين له وجهه فيقدم عليه أو يتركه، وليكن ما تحرك فيه أو سكن عنه أو توقف عن الإقدام عليه ابتغاء مرضاة الله تعالى تقريباً إليه لأجل الله تعالى، فهذا أعلى النيات وهو غاية الإخلاص. ومن أراد بأعماله ما عند الله تعالى من ثواب الآخرة من حظوظ نفسه ومعاني شهواته ولذته من النعيم في الجنان، واتخاذ الحور الحسان، مما وصف الله تعالى وندب، لم يقدح ذلك في إخلاصه ولم يغير صحة نيته من قبل أنّ الله تعالى مدحه ورغب فيه ووصفه، وكان ذلك مزيد مثله، إلاً أنّ هذا نقص في مقام المحبين وعيب عندهم كعيب من عمل لعاجل حظه من دنياه، وهو شرك في إخلاص الموحدين الذي اختصوا بالعبودية، فعتقوا من أسر الهوى بالحرية، فلم يسترقهم سوى الوحدانية لما شهدوا من خالص الربوبية، وإخلاص العبودية للربوبية أشد من إخلاص المعاملة ضرورة، إلاّ أنّ من رزق المقام منها دخل بحقيقة لإخلاص المعاملة ضرورة، فلا ينقيه ولا يصفيه عمل ولا مجاهدة، فكانوا مخلصين؛ وهذا مقام المحبين، وإنما أتعب المريدين بالتنقية والتصفية للمعاملة لما بقي عليهم من الشرك الخفي والشهوة الخفية، كما أتعب خدام الدنيا بالجمع لها لما استرقهم من الهوى فأما الأحرار فهم من خدمة الخلق برآء؛ وهذا يذهب الإخلاص ويفسد النية ويدخل الانتقاص، وما تلف له من شيء أو ظلم من حقه فلينوِ بذلك لذخر عند الله تعالى وليجعله في سبيل اللّّه بحسن ظنه بالله تعالى وصدق يقينه فإن له من ذلك ما نوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 حدثونا عن رجل رؤي بعد وفاته فسئل منه كيف رأيت أعمالك؟ فقال كل شيء عملته لله تعالى وجدته، حتى حبة رمان التقطتها من طريق، وحتى هرة ماتت لنا، رأيت ذلك كله في كفة الحسنات، قال: وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيّئات، قال: وكان قد نفق لي حمار قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواباً، فقلت: موت سنور في الحسنات وهذا حمار قيمته مائة دينار ولا أدري له ثواباً؟ فقيل: إنه وجّه حيث بعثت به لأنك قلت لما قيل لك مات الحمار فقلت: في لعنة الله تعالى، أما بطل أجرك؟ ولو قلت في سبيل الله لوجدته في حسناتك. وفي رواية أخرى قال: وتصدقت يوماً بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إليّ فوجدته لا علي ولا لي، قال سفيان: وقد رووا هذا ما أحسن حاله حيث وجدها لا له ولا عليه قد أحسن إليه، ومن أوذي أو اغتيب فليحتسب عرضه عند الله تعالى، فلعل ذلك يكون سبيًا لنجاته، فقد روي أنّ العبد ليحاسب على أعماله كلها فتبطل بدخول الآفات فيها حتى يستوجب النار، ثم ينشر له أعمال من الحسنات لم يكن عملها فيستوجب به الجنة، فيعجب من ذلك فيقول: يارب هذه أعمال ما عملتها؟ فيقال: هي أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك جعلت حسناتهم لك، ولا تحقرن شيئًا من الأعمال وإن قل فتخليه من النية أو تصغره فربما كان هلاكه وعطبه فيه وهو لا يعلم، وقد روي ابن المبارك عن الحسن: أنّ الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: بيني وبينك الله تعالى: فيقول: والله ما أعرفك، فيقول: بلى أنت أخذت من حائطي تبنة وأنّ الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: هذا أخذ من ثوبي زبيرة، ومات حماد بن أبي سليمان وكان أحد علماء أهل الكوفة، فقيل للثوري: ألا تشهد جنازنه؟ فقال: لو كانت لي نية لفعلت، ومات الحسن البصري فلم يحضر ابن سيرين جنازته فسئل عن ذلك فقال: لم يكن لي نية، وقد كان العلماء إذا سئلوا عن عمل شيء أو سعي فيه يقولون: إن رزقنا الله نية فعلنا ذلك، وقال يحيى بن كثير: حسن النية في العمل أبلغ من العمل، وقال بعض السلف كانوا يستحبون أن يكون لهم في كل شيء نية، وقال الفضيل بن عياض: لا تتحدّث إلاّ بنية، وكان بعضهم يقول: الخوف على فساد النية وتغيرها أشد من ترك الأعمال، وقال الثوري: من دعا رجلاً إلى طعامه وليس له نية في أن يأكل فإن أجابه فأكل فعليه وزران، وإن لم يجبه فعليه وزر واحد فصيّر عليه وزرين مع أكل طعامه بغير نية، لتعرضه للمقت وحمله أخاه على ما يكره، إذ لو علم لما أجابه، فمن أفهمه الله تعالى إخلاص النية وزاده معرفة الإخلاص أخرجه ذلك إلى الهرب من الناس ليخلص له معاملته لأنه ينظر بعين اليقين، وإذا لا ينفعه شيء إلاّ شيء بينه وبين الله عزّ وجلّ لا شرك فيه لسواه؛ وهذا المعنى هو الذي أخرج طائفة الأبدال إلى الكهوف تخليًا من أبناء الدنيا لخلاص أعمالهم إلى النظر إليهم، فهم وإن فارقوا فضائل الأعمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 من صلاة الجماعة وغيرها فقد تقرر عندهم أنّ اجتناب معصية واحدة خير من عمل سبعين طاعة، فلذلك فارقوا فضول النوافل خشية دخول معصية واحدة عليهم، والجاهل بالله عزّ وجلّ يعمل في طلب الفضائل ولا يبالي بيسير الذنوب وفيها بعد من الله تعالى، وليس ذلك طريق المقربين، وقد تختلف النيات لاختلاف المقاصد فيصير ما كان بعداً قربًا بحسن النية وما كان حسنًا سيئًا لسوء النية به، من ذلك أنّ داود المحبر لما صنف كتاب العمل جاء أحمد بن حنبل فطلبه منه فنظر فيه أحمد صفحًا ثم رده إليه فقال: ما لك؟ فقال فيه أسانيد ضعفاء فقال له داود: أنا لم أخرجه على أسانيد فانظر فيه بعين الخبر، إنما نظرت بعين العمل فانتفعت به، قال أحمد: رّده عليّ حتى أنظر فيه بالعين التي نظرت بها، فردّه عليه فمكث الكتاب عنده طويلاً حتى اقتضاه إياه ابن المحبر، ثم رده عليه وقال: جزاك الله خيرًا، قد انتفعت به منفعة بينة، وقال الحسن: النية أبلغ من العمل، وقال: ابن آدم لا يهم بخير الآثار في قلبه منه نوران: فإن كانت الأولى لله عزّ وجلّ فلا تضرّ هذا الآخرة؛ يعني إن كان عنده الإخلاص في الخير في الهمة الأولى فلا تضرّه الوسوسة التي تخالجه بعد ذلك فإنها ضعيفة لا تحل قوة العقد ولا تحلّ محكم مبرمه، وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد. وحدثونا عن بعض الصوفية قال: كنت قائمًا مع أبي عبيد التستري وهو يحرث أرضه بعد العصر من يوم عرفة، فمرّ به بعض إخوانه من الأبدال فساره بشيء، فقال أبو عبيد: لا، فمرّ كالسحاب يمسح الأرض حتى غاب عن عيني، فقلت لأبي عبيد: ما قال لك؟ فقال: سألني أنْ أحج معه فقلت لا، فقال: ألا فعلت؟ قال: ليس لي في الحج نية، وقد نويت أنّ أتمم هذه الأرض العشية فأخاف إن حججت معه لأجله أتعرض لمقت الله تعالى لأني أدخل في عمل الله تعالى شيئًا غيره فيكون هذا عندي أعظم من سبعين حجة، ومن كان له في مباح نية ولم تكن له نية في فضيلة فالأفضل هو المباح، حينئذ وقد انتقل المعنى فصار المباح هو الفضيلة وصارت الفضيلة هي النقيصة لعدم النية، وهذا لا يعلمه إلاّ العلماء بباطن العلم وهو غوامض التصريف: مثل أن يكون رجل قد ظلم فله أن ينتصر وإن عفا كان أفضل إلاّ أنه له نية في الانتصار وليس له نية في العفو، فالانتصار هو الأفضل، ومثل أن تكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليتقوى بها على الطاعة ويريح بها نفسه لوقت آخر وليس له في الصوم ولا في القيام نية، فقد صار الأكل والنوم حينئذ هو الأفضل، وقد كان أبو الدرداء يقول: إني لأستجم نفسي ببعض اللهو ليكون ذلك عونًا لي على الحق، وكل عمل مباح للعبد فيه نية فهو مأجور عليه، وكل عمل فاضل لا نية للعبد فيه فأحسن حاله السلامة منه لا له ولا عليه وربما كان مأزورًا فيه إذا دخلت عليه نية دنيا، وكان عمل مباح أو فضل ليس للعبد فيه نية فهو عقل لا شيء له فيه، ولكنه يسأل عن فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وقته، وكل عمل فاضل للعبد فيه نية؛ فالعمل باطل ونيته هوى، وإنما وجد النية فيه القصور واختفاء لشهرته، فإن أراد به وجه الله تعالى سلم من عاقبته ولا فضيلة له به، وإن كان قد خفي عليه الهوى أو دق عليه لطيف حبّ الدنيا لجهله بالعلم فهو مأثوم فيه لتقصيره في طلب العلم الذي يعرف به الإخلاص وسكوته على الجهل الذي يدخل منه الانتقاص، ولا عذر له في ذلك، وقد جاء في الخبر: أنّ الله تعالى لا يعذر على الجهل ولا يحلّ للجاهل أن يسكت على جهله ولا للعالم أن يسكت عن علمه، وقد قال الله سبحانه تعالى: (فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْر إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل: 43. وقد كان سهل رحمه الله تعالى سئل: ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل؟ قال: نعم، قيل: ماهو؟ قال: الجهل بالجهل يعني أن يكون العبد جاهلاً وهو لا يعلم أنه جاهل، أو يحسب بجهله أنه عالم، فيسكت عن جهله ويرضى به فلا يتعلم فيضيع فرض الفرائض وأصل الفرائض كلها وهو طلب العلم، ولعله أن يفتي الجهل أو يتكلم بالشبهات وهو يظن أنه علم؛ فهذا أعظم من سكوته، وكذلك أيضاً ما أطيع اللّّه تعالى بمثل العلم، ومن العلم العلم بالعلم أي شيء هو؟ وذلك أيضًا واجب من حيث كان العلم واجباً ليكون على بصيرة من تعلّم العلم، لأنه قد دخل مذهب المتكلمين وأقوال الغالطين من الصوفية والقصاص في شبهات العلم، فصار زخرفًا من القول غروواً يشبه العلم وليس بعلم لالتباس المعنى بعضه ببعض ولإشكال دقائق العلوم وغرائبه وخفاء السنّة من طريقة علماء السلف، فاختلط لذلك القصاص والمتكلمون بالعلماء فصار معرفة العلم أي شيء هو والعلم بالعالم من هو علم آخر، وصار العالم بالعلم ما هو دون الزخرف من القول كأنه عالم فكان أيضًا العلم بالمعلم بمنزلة فضل العلم ووجب وجوبه، كما كان الجهل بالجهل أعظم من الجهل، وقد كان سهل رحمه الله تعالى يقول: قسوة القلب بالجهل من قسوته بالمعاصي لأن الجهل ظلمة لا ينفع البصر فيه شيئاً ونور العلم يهتدي به القاصد وإن لم يمش. وقد قيل في تفسير وقوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يََحْتَسِبُونَ) الزمر: 47 قال: عملوا أعمالاً لجهلهم ظنوا أنها حسنات فوجدوها سيئات وقيل: ذنوب غيرهم طرحت عليهم فعذبوا بها ولم يكونوا يحتسبون بها في الدنيا؛ يعني هذا مثل ما روي في الخبر: أنّ العبد ليرى من أعماله الحسنات مما يرجو به المنازل في الجنة فتلقى عليه سيّئات لم يعملها فترجح بحسناته كلها فيستوجب النار فيول: يارب هذه سيّئات ما عملتها هلكت بها، فيقول: هذه ذنوب القوم الذي اغتبتهم وآذيتهم وظلمتهم ألقيت عليك وتخلصوا منها، وقد روينا في معناه حديثًا مسندًا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ العبد ليوافي القيامة بحسنات أمثال الجبال لو خلصت له دخل الجنة، ويأتي قد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيقتص لهذا من حسناته ولهذا من حسناته حتى لا تبقى له حسنة، فتقول الملائكة: يا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ربنا قد فنيت حسناته وقد بقي طالبون كثير، فيقول الله تعالى: ألقوا عليه من سيّئاتهم ثم صكّوا له صكًّا إلى النار، وينبغي للعبد إن أراد أن يعمل عملاً أن يثبت له فيجدد له نية حسنة، ثم يقف وقفة فيتفقد هل يدخل عليه في ذلك آفة واحدة أو أكثر، فيخرج ما دخل عليه من الآفات بمشاهدة اليقين، ثم يعمل ذلك العمل للّّه وحده لا شريك له في قصده ووجده وطلبه وثوابه ثم يستقيم على ذلك العمل؛ فإن دخلت عليه آفة في خلله نفاها حتى يكون قائمًا بشهادته؛ فهذا هو الإخلاص لأن المخلص يحتاج في إخلاصه إلى شيئين ليس أحدهما أولى به من الآخر صحة القصد لوجه الله تعالى وطلبه ما عنده من الآخرة، ثم إخراج الآفات والحذر على ذلك العمل من دخولها عليه إلى فراغه منه، فبذلك يتم إخلاصه ويصفو من كدرة الهوى ويخلص من الشهوة الخفية فيكون خالصًا من الرياء بالإخلاص، صافيًا من الشهوة، يتفقد دخول الآفة، كما روي في الخبر: أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية، قيل: حبّ الدنيا وقيل: العمل؛ لأنه يؤجر العبد ويحمد ثم إذا همّ العبد بعمل وقف قبله وقفة فتبدبره وتفكّر كم فيه من نية، فربما وجد في العمل الواحد عشر نيّات أو خمسًا وما بين ذلك لما يحتمل ذلك العمل من وجوه البرّ ومعاني القربات المندوب إليه ا، فيكون له بكل نية عمل، فيؤجر على العمل الواحد عشرة أجور لأنه عشرة أعمال أو خمسة، يكون لكل نية عمل وبكل عمل أجر؛ وهو من فضائل الأعمال وتضاعيف الحسنات، ولا يعلمه إلاّ العلماء بالله تعالى وأحكامه؛ وهو طريق الأبدال من صالحيّ أهل الأحوال؛ فبذلك زكت أعمالهم وارتفعت مقاماتهم وكثرت أجورهم وحسنت حالاتهم لا بكثرة الأعمال لكن بتحسينها ووجود النيات الكثيرة فيها، وقد جاء في الأثر: من عمل عملاً لا يريد به وجه الله لم يزل في مقت من الله حتى يفرغ، وقد قال بعض الأدباء: من لم يشكر لك حسن النية فيه لم يشكر لك حسن الصنيعة إليه وأنشدوا في معناه: لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إذا لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المكتوب مصروف ولو لم يكن في تجديد النية الحسنة وتفقد الهمة العالية إلاّ أنّ صاحبها لايزال عاملاً من عمال الله تعالى بقلبه وهمه، وإن لم يساعده القدر على الأفعال بجوارحه، فيكون أبداً مأجوراً، ولو لم يكن في نية الشر والهمة الدنية إلاّ أنّ صاحبها في بطالة وخسارة وإن لم يساعده المقدور على الأفعال السيئة بجوارحه فيكون خاسرًا أبدًا مأزورًا، ونعوذ بالله من ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وقال بعضهم: إني لأستعد النية في كل شيء قبل الدخول فيه حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء، والنية في هذا التقوي على الطاعة والاستعانة به على الخدمة لأنّ النفس مطيتك إن قطعت بها قطعت بك ونية التطهر من التحلي لأجل الدين فكان الناس لشدة تفقدهم وحسن رعايتهم صادقين في ترك كثير من أعمال البرّ لضعف النية ويعملون في أحكام الأصل، قال ابن عيينة: إنما حرموا الوصول لتضييع الأصول، والنية أصل الأصول لأنها فرض الفرائض، وقال بعضهم: إنما أبعد القلب من الله عزّ وجلّ مظاهر أعمال الجوارح بغير مواطأة من القلب بصحة القصد؛ يعني بذلك نقص الإخلاص بها لأجل الله تبارك وتعالى، فالنكاح من معظم شأن الدين فنيته فيه أن لا يتزوج المرأة لجمالها ولا لمالها ولا لحسنها بل لدينها وعقلها، ثم ينوي السنّة لها والعفة والتحصين لهما، ويقنع بالمرأة الدون عن غيرها. وفي الخبر: من نكح لله عزّ وجلّ وأنكح لله تعالى استحق ولاية الله تعالى، وأفضل الأعمال ما دخل فيه للّّه عزّ وجلّ وخرج منه لله ولم يعتوره بعد ذلك علة، وأعلى من هذا من دخل في الأعمال بالله عزّ وجلّ وثبت فيها مع الله وخرج منها بالله تعالى، وهذا مقام الموحدين من الموقنين والعارفين، فأصح الأعمال وأخلصها ما كان لله تبارك وتعالى هو الأوّل في أولها، ومع العامل في أوسطها، وللعبد عنده فيها، والله تعالى هو الآخرة عند آخرها، ثم لايظهرها بعد ذلك ولايتظاهر بها ولايطالع عوضًا عنها من الكبر الأكبر، بل ينساها ويشتغل بذكر مولاه عنها، والقعود في المساجد من أفضل شأن الدين وفضائل أعمال المتقين، فليكن له فيه عشر نيّات منها زيارة مولاه عزّ وجلّ في بيته، كما روي: من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى وحق على المزور إكرام زائره، ومنها انتظار الصلاة بعد الصلاة، كما روي في معنى قوله تعالى: ورابطوا وهي المرابطة ومنها كفّ سمعه وبصره وترهبه في تألهه، كما روي: رهبانية أمتي القعود في المساجد، ومنها العكوف وحقيقته عكوف الهمّ على القلب، وعكوف السرّ بالتأله إلى اللّّه عزّ وجلّ، ومنها ذكر الله تعالى واستماع ذكره والتذكير به، كما روي: من غدا إلى المسجد يذكر الله تعالى ويذكر به كان كالمجاهد في سبيل الله، ومثل ذلك إذا جلس ليعلم علمًا أو يتعلّمه كان أيضًا كالمجاهد، أو جلس لاستفادة أخ في الله عزّ وجلّ أو لتنزل رحمه الله أو لترك الذنوب للخشية والحياء، كما روينا في حديث الحسن بن عليّ عليهما السلام: من أدمن الاختلاف إلى المساجد رزقه الله تعالى إحدى سبع خصال: أخًا مستفادًا في اللّّه تعالى، أو رحمة مستنزلة، أو علمًا مستظرفًا، أو كلمة تدلّه على هدى أو تصرفه عن ردى، أو ترك الذنوب خشية أو حياء منه، فإخلاص النية هو بخروج أضدادها من القلب وعن القصد والهمة وإن كثر أعداده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 لتنفرد النية بقصدها، ويخلص العمل بانفراد النية لوجه الواحد الفرد المقصود بها، يروى عن بعضهم قال: غزوت في البحرفعرض بعضنا مخلاة فقلت: اشتريها وانتفع بها في غزاتي، فإذا دخلت مدينة كذا بعتها فربحت فيها، فاشتريتها فرأيت تلك الليلة في النوم كأنّ شخصين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: أكتب الغزاة فأملي عليه، أكتب: خرج فلان متنزهًا وفلان مرائيًا وفلان تاجرًا وفلان في سبيل الله، ثم نظر إليّ فقال: أكتب: خرج فلان تاجرًا، فقلت: اللّّه الله فيّ واللّّه ما خرجت أتجر ولا معي تجارة أتجر فيها، ما خرجت إلاّ للغزو، فقال لي: يا شيخ قد اشتريت أمس مخلاة تريد أن تربح فيها فبكيت وقلت لا تكتبوني تاجرًا فنظر إلى صاحبه وقال: ما ترى؟ فقال: أكتب: خرج فلان غازيًا إلاّ أنه اشترى في طريقه مخلاة ليربح فيها حتى يحكم الله عزّ وجلّ فيه ما يرى. فصل ومن المناقص المشبهة للفضائل الملتبسة على الأفاضل، لشهرة فضلها وروعة الهموم للدخول فيها، والتصبر عليها، وهي منكشفة للعلماء بالله تعالى: ما روي أنّ رجلين تآخيا في الله عزّ وجلّ بعد رفع عيسى بن مريم إلى السماء فترهب أحدهما وهو سرجس ولزم أخوه الآخر الجماعة والمساجد ومخالطة الناس، وكان أعلم منه بالله عزّ وجلّ، وكان يلقى آخاه سرجس فيقول: يا أخي إنّ هذا الأمر الذي دخلت فيه بدعة، وإنّ عليك فيه رعاية لا تقوم بحقها، وإنه ليس لله فيه رضا، فلو دخلت معي في الجماعة والإلفة كان ذلك لله تعالى رضًا وأصبت السنّة، فكان المترهب يعرض عنه ولا يعبأ برأيه ويقول له: إنك قد ركنت إلى الدنيا وأنست بالخلق، فلما أعياه قال له: فاجعل فطرك عندي الليلة حتى يتبين ذلك ففعل فقدم إليه فرخين شواهما وقال له: تعال حتى نجعل هذين الفرخين قاضيين بيننا قال: حتى يدعو الله كل واحد منا، فمن كان سيرته وهديه أحبّ إلى الله ورسوله يبعث بدعائه هذين الفرخين حتى يطيرا حييّن، قال: نعم فادع أنت، فدعا الراهب فقال: اللهم إنْ كان هذا الأمر الذي دخلت فيه أريد به رضاك أقرب إلى الحق مما يدعوني إليه أخي هذا فابعث هذين الفرخين إليّ قال: فلم يجب، فقال الآخر: اللهم إن كان هذا الأمر الذي تمسكت به وخالفت فيه هذا وأصحابه أقرب إلى الحق وأرضاهما عندك مما يدعوني إليه، أخي هذا من الاعتزال والفرقة للجماعة، فابعث لي هذين الفرخين قال: فصارا حييّن فطارا بإذن الله تعالى فعلم الأخ أنّ ذلك ليس لله رضا فرجع إلى الجماعة والمساجد، ومن التباس الفضائل العالية ترك العبد حاله في مقامه طلبًا للفضيلة ليزداد بها قربًا إلى الله عزّ وجلّ فينقلب عليه فيهلك ما أدخل العدو على برصيصًا العابد في تعليم الاسم الأعظم وقصته مشهورة، فالعالم عند العلماء من علم خير الخيرين فسبق إليه قبل فوته وعلم شرّ الخيرين فأعرض عنه لئلا يشغله عن الأخير منها، وعلم أيضاً خير الشرين ففعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 إذا اضطر إليه وابتلى به، وعلم شرّ الشرين فأمعن في الهرب منه واحتجب بحجابين عنه وهذا من دقائق العلوم. فصل وقد تلتبس النية بالأمنية فتخفي والهمة وبالوسوسة فتشتبه، والنية ما كان يراد به وجه الله عزّ وجلّ ويطلب به ما عنده، والأمنية ما تعلق بالخلق وطلب منه عاجل الحظ من الملك الفاني، وقد تلتبس الإرادة بالمحبة والحاجة بالشهوة؛ فالإرادة أن يريد وقوع الأمر وقد لا يحبّ كونه أو يريد أيضاً وجود ضده، والمحبة ما قهر العقل وغلب الوجد وحلّ في مجامع القلب وكره وجود غيره ولم يرد فقده، والحاجة ما اضطررت إليه، ولم يكن منه بداً ولا يستغني عنه بغيره، والشهوة مزيد لذّة واستدعاء فضل فآفة واجتلاب تقدم عادة، وقد يختلط الذكر بالقلب بالفكر في معاني القرب؛ فالذكر ما أظهر النسيّ وكشف الغيّ وأذكر الشكر، والفكر ما صوّر الأمر وأظهر الخبر، وقد يلتبس الرجاء بالمحبة والهوى بالنية، فالرجاء ما طمعت فيه بسبب ما والمحبة ما تطمعت ذوقه وجدته بغير تسبب تستخرجه وقد يلتبس ذل القلب بضعفه وموته للطمع في الخلق بذل النفس لمشاهدة عز الخالق سبحانه وتعالى، وقد يتداخل ذلّ الطمع لدناءة الهمة والنفس بذل العقل للاعتراف بالحق وخضوع العلم له، وقد يلتبس ذلّ النفس لغلبة الهوى وقهره للعقل بذل القلب لسرعة الانقياد للعالم المحقّ، وقد يختلط عزة القلب بمقلبه بدوام النظر إليه وعزة العقل بعمله الذي كبر عنده، وقد تلتبس عزة النفس بوصفها المتسلّط بعزة الإيمان، المعزز بغيبة اليقين؛ فهذه فروق ظاهرة للعارفين وخروق متسعة ترهب الغافلين، وقد تلتبس العبادة بالعادة مثل أن يكون للعبد نية في علم أو عمل أو صدقة أو نفقة الشهر والسنة ثم تعزب نيته فيبقى على عادته يرب حاله الذي قد عرف به، لا يحبّ أن يخرج من عرف الناس فيتعمل لاستقامة الحال على التكلّف بتلك الأعمال فتذهب النية وتبقى العادة فيخرج بذلك من إرادة الآخرة والسعي لها، ويدخل في إرادة الدنيا بالشهوات على جريان العادة بها، وقد يشهد شهادة الدنيا من طلب الرياسة لوجود الهوى بطرقات الآخرة في معنى العلوم والأعمال فما طلب من أعمال السلف وأريد به تأديب النفس ويعلم به الزهد في الدنيا؛ فهذه طرقات الآخرة، وما كان على ضده فهو طرقات الدنيا؛ إذ هو ضدها، وقالوا: كان الناس إذا علموا عملوا، وإذا عملوا شغلوا، وإذا شغلوا هربوا، وقالوا: تفقه ثم اعتزل، وقد يلتبس إظهار الأعمال وكشف ما كتم من الأحوال لأجل التأديب به والابتاع عليه، أو لاظهار قدرة اللّّه عزّ وجل وآياته لمزيد السامع من المعرفة به بفعل مثل ذلك للتزين والفخر أو للمدح به وطلب الذكر، وسئل أبو سليمان عن الرجل يخبر بالشيء عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 نفسه فقالوا: إذا كان إمامًا يقتدى به فنعم، وقال مرة هو أو غيره: يختلف ذلك على قدر الإرادة به إذا أراد التأديب للنفس حسن ذلك فهذا يلتبس بمداخلة النفس أو بفنائها بقيومية شاهد اليقين للرب عزّ وجلّ. فصل ترك العمل عمل كثير يحتاج التارك للنهي أو المكروه فرضًا أو ورعًا إلى نية حسنة أن يتركه لله عزّ وجلّ طلب مأمنه أو رغبة فيما عنده، لا لوجود الخلق، ولا ليرب به حاله أو يقيم به عند العبيد جاهه، لأنّ ترك المعصية من أفضل الأعمال فيحتاج إلى أحسن النيات، إذ عليها من الله تعالى أجزل المثوبات لبلوى النفس بهاواضطراب الوصف إليها، وقال بعضهم: من أحبّ أن يعرف ورعه غير الله تعالى فليس من الله في شيء، وروي عن زكريا عليه السلام: أنّ قومًا دخلوا عليه وكان يعمل في حائط القوم بالطين، وكان صانعًا يأكل من كدّ يديه، فقدم إليه عندهم رغيفيه وجعل يأكل ولم يدعهم حتى فرغ، فسألوه عن ذلك لعلمهم بزهده وكرمه فقال: إني أعمل لقوم بأجرة، وقربوا إليّ هذين الرغيفين لأتقوّى بهما على عملهم، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم؛ فهذا ممن ترك فضلاً لفرض، وممن كانت له نية في الترك، كما تكون له في الفعل وقال بعضهم: دخلت على سفيان بن أبي عاصم وهو يأكل فما كلمني حتى لعق أصابعه، ثم قال: لولا أني أخذته بدين لأحببت أن تأكل منه. وقد روينا في الخبر: أنّ أعجميّاً مرّ بنفر قعود يتكلمون بكلام فيه استهزاء ولهو فظن أنهم يدعون الله عزّ وجلّ فقال: مثل ما يقولون بحسن نيته، قال: فغفر الله لهم بحسن نيته وقال الحسن: من علامة المسلم أن لا يبدره لسانه ولا يسبقه بصره، ولا تقصر به نيته؛ يعني لا يضعف ولا تقعد به عن المسارعة إلى القربات هي أبد في قوة وزيادة وإن قصرت أعماله فيها وعجزت قوّى جوارحه وقال: المؤمن تبلغ نيته وتضعف قوته، والمنافق تضعف نيته وتبلغ قوته، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل الله عزّ وجلّ، وقال الحواريون لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: ياروح الله ما الإخلاص لله عزّ وجلّ؟ قال: الذي يعمل العمل لله تعالى لا يحبّ أن يحمده عليه أحد من الناس، قالوا: فمن الناصح لله عزّ وجلّ؟ قال: الذي يبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس، وإذا عرض له أمران؛ أحدهما للدنيا والآخر للآخرة بدأ بأمر اللّّه تعالى قبل أمر الدنيا، فحبّ المحمدة من الناس أصل هو فرعها، وهو يحبّ أن يعرف مكانه، ويريد الاشتهار، وينوي بقلبه محبة الإعظام له من وجوه الأنام، فلا ينفعه، مع هذه النية اختفاؤه في الآجام وعمله غير مقبول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 كما روي أنّ عابداً من بني إسرائيل عبد اللّّه تعالى في سرب أربعين سنة، فكانت الملائكة ترفع عمله في السماء فلا يقبل، فقالت: ربنا وعزتك ما رفعنا إليك إلاّ حقّاً فقال عزّ وجلّ: صدقتم ملائكتي ولكنه يحبّ أن يعرف مكانه، فلذلك قال بعض السلف: من نجا من الكبر والرياء وحبّ الشهرة فقد سلم، وقال الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي لأنها تفلت عليّ يعني تشرد أو تضعف، فتحتاج إلى مداواة لها، كما قال المنصور: المداومة على العمل حتى يخلص أشد من العمل، وقال الثوري: ما أعتد بما ظهر من عملي، وقال عليّ رضي الله تعالى عنه: كونوا بقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، فإنه لا يقلّ عمل مع تقوى وكيف يقلّ عمل يتقبل؟ وقال بعضهم: من استوحش من الوحدة وأنس بالجماعة لم يسلم من الرياء، وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العلم الصالح فإذا بلغوه وقع عليهم الهمّ أيتقبل منهم أم لا. وقال مالك بن دينار: الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل، وقال ابن عجلان: العمل لا يصلح إلاّ بثلاث؛ التقوى لله عزّ وجلّ، والنية الحسنة، والإصابة وقد فسر الفضيل قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) هود: 7، قال: أخلصه وأصوبه قيل: وما ذاك؟ قال: العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وقال التياحي: للعمل أربع خصال لا يتم إلاً بهنّ: معرفة الله عزّ وجلّ، ومعرفة الحق، والإخلاص به والعمل على السنّة، فأي عمل كان قبل هذه الأربع لا ينفع فمنهم من يكون حسن الأداء لفرضه، كثير الندم والإشفاق من معاصيه، فيكون هذا أحسن حالاً، ومنهم من يكون سيء الأداء، قليل الحزن والندم على ذنوبه، فيكون هذا أسوأ حالاً وليس يجدون في ذلك على قياس واحد، والله تغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير، لما سبق لهما في علمه، ولما نفذ لهما من مشيئته وحكمه، وقد يشترك الإثنان في معصية ويتفاوتان في حكم المشيئة ويتوب الله على من أحبّ ويتقبل ممن يحبّ، والقبول غير العمل، على العبد العمل وإلى المولى القبول، يقبل ممن يحبّ ويرد ما يشاء ممن يشاء، والسابقة غير المعصية؛ السابقة في المشيئة يغفر لمن سبقت له الحسنى جميع معاصيه السوأى ويعذب من حقّت عليه كلمة العذاب ويحبط أعماله الحسنى، والخلق مردودن إلى السابقة ومحكوم عليهم بعلم الله تعالى فيهم، وفي الخبر: هلك المصرون قدمًا إلى النار؛ والإصرار يكون بمعنى أن يعتقد بقلبه متى قدر على الذنب فعله أو لا يعقد الندم عليه ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 التوبة منه وأكبر الإصرار العسي في طلب الأوزار، وفي الخبر: سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر أوزارهم فوردوا القيامة خفافًا؛ فهؤلاء الذين سبقت لهم منا الحسنى من المقرّبين أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ لهم أوزارًا وضعتها الأذكار. وقال تعالى: (وَالسَّابقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ) الواقعة: 10 - 11، هذا ما علمناه من أدلة العلوم وتأوى التنزيل وعفو الله تعالى وإرادته من وراء ذلك كله وعلم القديم وللهّّ عاقبة الأمور. مسألة محاسبة الكفّار فأما محاسبة الكفّار فهذه مسألة اختلف الناس فيها، فمنهم من ذهب إلى أنهم يحاسبون، ومنهم من أنكر حسابهم، وقد اختلف الآثار في ذلك، فقد جاء في بعضها ما يدل على حسابهم وبه تعلق من قال به، وجاء في كثير منها ما يدل على أنهم لا يحاسبون، وبه احتجّ من أنكر حسابهم، وإنما يرجع عند الاختلاف إلى كتاب الله تعالى، ففيه الشفاء وبه الغنى، فيفصل ما أجمل القائلون ونعدل في القول الشديد فيما تأوّله المتأولون، فنقول: واللّّه أعلم أنّ الله سبحانه ذكر في كتابه آيتين تدل على مسألة الكفّار عن الشرك الذي أدخلوا في التوحيد، وعن إجابة المرسلين وتكذيبهم قال الله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَاديهِمْ فَيَقُولُ أيْنَ شُرَكَائي الَّذينَ كُنْتمْ تَزْعمون) القصص: 62 ثم قال في الآية الأخرى: (وَيَوْمَ يُنَاديهِمْ فَيَقُولُ مَاذَاَ أجَبْتُمُ المُرْسَلينَ) القصص: 65 فنقول أنهم على هذا يسألون عن التوحيد فقط وعن تكذيب المرسلين هاتين الآيتين، وقال في الآيتين الآخرتين: (وَلا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمون) القصص: 78 وقال في الأخرى: (فَيَوْمَئِدٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جان) الرحمن: 39 ثم قال: (يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنَّوَاصي وَالأقْدَام) الرحمن: 41 فهذا نصّ في ترك المسألة على الذنوب والأعمال، فنقول بهاتين الآيتين: إنهم لا يسألون عن الأعمال، وإنما يحاسب على العمل من كانت بينه وبينه معاملة ومن ثبتت له حسنات يقع بها ترجيح وموازنة. وقد روينا عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: (وَفِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) الصافات: 42، قال عن قول لا إله إلاّ الله، وقد رويناه مرفوعًا إلى النبي فهذ على معنى ماذكرناه أنهم يسألون عن التوحيد، فالناس من أهل الجنة والنار يحشرون يوم القيامة على ست طبقات؛ طائفة تدخل الجنة بغير حساب وهم السابقون المقرّبون، وطائفة تدخل الجنة بعد الحساب اليسير وهم خصوص المؤمنين والصالحين، ومنهم من يدخل بعد الحساب الطويل والمناقشة وهم أصحاب اليمين وعموم المؤمنين وكذلك أهل النار ثلاث طبقات؛ طائفة تدخل النار بغير سؤال ولا حساب، عالمان من عبدة الأوثان من ولد يافث بن نوح وهم يأجوج ومأجوج خلق خلقوا للنار، وطائفة تدخل النار بعد الحساب الطويل والمناقشة، وهم أهل الكبائر والمنافقون، وطائفة بسؤال وتوقيف من غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 محاسبة على الأعمال وهم، أمم الأنبياء المرسل إليه م المرسلون لقوله تعالى: (فَلَنَسْألَنَّ الَّذين أُرْسِلَ إلَيْهِمْ) الأعراف: 6. وقد روينا في الخبر المشهور: من نوقش الحساب عذّب فقيل: يا رسول الله أليس اللّّه تعالى يقول: فسوف يحاسب حسابًايسيراً؟ فقال ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذّب، وقد كان إمامنا سهل بن عبد الله يقول: يسأل الكفّار عن التوحيد ولا يسألون عن السنّة، ويسأل المبتدعون عن السنّة، ويسأل المسلمون عن الأعمال، فأما قوله تعالى: (إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) الغاشية: 25 - 26 ففيها وجهان: أحد الوجهين أن يكون هذا كلامًا منفصلاً عما قبله يراد به المسلمون لأنه ذكر خبر الكفّار فختمه بالعذاب، فقال في أول الكلام: (إلاّ من تولّى وكفر فيعذبه اللّّه العذاب الأكبر) الغاشية: 23 - 24 هذا آخر خبرهم، ثم استأنف مخبرًا عن غيرهم فقال إنّ إلينا إيابهم ثم إنَّ علينا حسابهم، والوجه الآخر أن يكون قوله تعالى: (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) الغاشية: 25 أي جزاءهم، فالحساب أيما ذكر للكفّار يكون بمعنى المجازاة على أعمالهم السيئة وكذلك قوله تعالى: (ووَجَدَ الله عِنْدَه فَوَفّاهُ حِسَابَهُ) النور: 39 يعني جزاءه، إلاّ إنّ الفراء وغيره من أهل اللسان خالفونا في هذا فاعتبروه بما بعده فجعلوه دليلاً على المحاسبة قالوا: احتمل أن يكون قوله فوفاه حسابه أن يكون جزاءه كما قلنا واحتمل أن يريد محاسبته، فلما قيل: والله سريع الحساب كشف التنزيل التأويل بذلك أنّ حسابه يعني محاسبته، وكذلك قال الزجاج في تأويل ما ذكرناه آنفًا من قوله: (وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهمُ المُجْرِمونَ) القصص: 78 فقال معناه لا يسألون لتوجه من قبلهم أو ليرجع إليه م من علم ذلك وسبقه عليهم، أي قد فرغ الله عزّ وجلّ من ذلك فأحكمه بما سبق من علمه، وواطأه مقاتل بن سليمان على هذا التأويل باختلاف معنى بمعنى صنعته التفسير، لأنه لم يكن له في اللغة تمكين، فقال: معنى ذلك: ولا يسأل هؤلاء المجرمون عن ذنوب السالفين؛ فجعل الهاء والميم على من تقدم ذكره من قارون وأصحابه والقرون السالفة، لأنّ ذكرهم كان سياق هذا الخطاب في قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هو أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) القصص: 78، ثم قال: ولايسأل عن ذنوبهم؛ يعني هؤلاء المجرمون؛ يعني مشركي هذه الأمة، وقال أيضاً هو وغيره: إنّ الكفّار سألوا فقالوا: ترى ماذا فعل الله تعالى بالقرون الأولى الذين يقص علينا نبأهم؟ قال: فنزلت هذه الآية فهي بمنزلة قول فرعون، قال: فما بال القرون الأولى؟ فقال موسى عليه السلام: علمها عند ربي، إلاّ أنّ الله عزّ وجلّ قد قال في ذكر الحساب بمعنى الجزاء دعطاء حسابًا يعني مجازاة، وقيل: كفاية بمعنى كفاهم وأحسبهم ذلك، كما قال تعالى: (حَسْبُهمْ جَهَنَّمُ) المجادلة: 8، أي كافيهم ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 الفصل الثامن والثلاثون الإخلاص وشرح النيّات والأمر بتحسينها في تصريف الأحوال والتحذير من دخول الآفات عليها في الأفعال: قال الله الكبير المتعال: (وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ) البينة: 5 وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب رجل مسلم: إخلاص العمل لله تعالى، وقال: إنما الأعمال بالنيّات، ولكل امرئ ما نوى، وقد روينا في الحديث من طريق أهل البيت عليهم السلام: لايقبل الله تعالى قولاً إلاّ بعمل ولا قولاً وعملاً إلاً بنية، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى والورع عمّا حرم الله تعالى وصدق النية فيما عند الله عزّ رجلّ، فينبغي أن يكون للعبد في كل شيء نية حتى في مطعمه ومشربه وملبسه ونومه ونكاحه؛ فإن ذلك كله من أعماله التي يسأل عنها؛ فإن كانت لله تعالى وفيه كانت في ميزان حسناته، وإن كانت في سبيل الهوى ولغير المولى كانت في ميزان سيّئاته، إذ لكل عبد ما نوى وإن كان ذلك غفلة وسهواً من غير نية ولا عقد طوبة ولا حسبة، لم يكن له في ذلك شيء، ولم يجد عمله في الآخرة شيئًا، وكان فيه لا له ولا عليه، وكان ذلك في الدنيا على مثال الأنعام التي تتصرف عن غير مقول ولا تكليف ولكن بإلهام وتوفيق، وأخاف أن يدخل في وصف من قال الله تعالى: (أَغْفلنا قَلْبَه عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَبعَ هَواه وَكَانَ أَمْرُهُ فَرُطًا) الكهف: 28، أي غفلة وسهوًا، وقيل: تفريطًا وتضييعاً، وقيل: مقدماً إلى الهلاك، فالنية الصالحة هي أول العمل الصالح وأول العطاء من الله تعالى وهو مكان الجزاء، وإنما يكون للعبد من ثواب الأعمال على حسب ما يهب الله تعالى له من النيّات، فربما اتفق في العمل الواحد نيّات كثيرة على مقدار ما يحتمل العبد من النية، وعلى مقدار علم العامل، فيكون له بكل نية حسنة، ثم يضاعف كل حسنة عشر أمثالها، لأنها أعمال تجتمع في عملٍ، وصورة النية معنيان، أحدهما: صحة قصد القلب إلى العمل بحسن التيقظ فيه والإخلاص به لوجه الله تعالى ابتغاء ما عنده من الأجر، فكل عمل كان على علم بهذه النية فهو صالح متقبل بفضل الله تعالى وبرحمته، لأن صاحبه قد اتقى الشرك والجهل والهوى، فعمله مرفوع في الخزائن مدّخر له الجزاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وحقيقة الإخلاص سلامته من وصفين؛ وهما: الرياء والهوى، ليكون خالصًا كماوصف الله تعالى الخالص من اللبن، فكان بذلك تمام النعمة علينا، فقال: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لبََناً خَالصاً) النحل: 66، فلو وجد فيه أحد الوصفين من فرث أو دم لم يكن خالصًا، ولم تتم النعمة به علينا ولم تقبله نفوسنا، فكذلك معاملتنا لله عزّ وجلّ إذا شابها رياء بخلق أو هوى من شهوة نفس، ولم تكن خالصة لم يتم بها الصدق والأدب في المعاملة ولم يقبلها الله تعالى منّا فاعتبروا. وروينا عن سعيد بن أبي بردة عن كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعري: أنه من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن للناس بما يعلم الله تعالى منه غير ذلك شانه الله تعالى، فما ظنك؟ وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزير: اعلم يا عمر أن ّ الله تعالى عون للعبد بقدر النية، فمن تمّت نيته تم عون الله تعالى إياه، ومن قصرت عنه نيته قصر عنه من عون الله تعالى بقدر ذلك، وقد قال الله تعالى في تصديق ذلك: (إنْ يُريدا إِصْلاحاً يُوَفّّقِ الله بَيْنَهُمَا) النساء: 35، فجعل سبب التوفيق إرادة الإصلاح؛ فذلك هو أول التوفيق من الموفق المصلح للعامل الصالح، وقال بعض السلف: رأيت الخير إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم ينصب ربّ عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبر تصغره النية، وكتب بعض الأدباء إلى أخيه: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل، وقال داود الطائي: من أكبر همه التقوى لو تعلقت جميع جوارحه بالدنيا لردته نيته يوماً إلى نية صالحة، فكذلك الجاهل بالله تعالى وأيامه همه الدنيا والهوى، ولو تعلقت جوارحه بكل أعمال الصالحات لكان مرجوعًا إلى إرادة الدنيا وموافقة الهوى، لأن سرّها كان همه النفس لعاجل عرض الدنيا، وقال محمد بن الحسين: ينبغي للرجل أن تكون نيته بين يدي عمله، وقال أيوب السجستاني وغيره: تخلص النيّات على العمّال أشدّ عليهم من جميع الأعمال، وقال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل كما يتعلمون العلم، وقال بعض العلماء: طلب النية للعمل قبل العمل وما دمت تنوي الخير فأنت بخير، وقال زيد بن أسلم: خصلتان هما كمال أمرك تصبح ولا تهيّم لله تعالى بمعصية وتمسي ولا تهيّم لله تعالى بمعصية، وكذلك قال بعض السلف في معناه: إنّ نعمة الله تعالى أكثر من أن تحصوها وإنّ ذنوبكم أخفى من أن تعلموها ولكن أصبحوا توّابين وأمسوا توّابين يغفر لكم ما بين ذلك. وروينا في الخبر عن بعض المريدين: أنه كان يطوف على العلماء يقول: من يدلّني على عمل لا أزال فيه عاملاً لله تعالى فإني أحبّ أن لاتجيء عليّ ساعة من ليلٍ أو نهار إلاّ وأنا عامل من عمال الله تعالى، فقيل له: قد وجدت صاحبك اعمل الخير ما استطعت، فإذا أقترت أو تركته فهمّ بعمله، فإن الهامّ بعمل الخير كعامله. وروينا عن عيسى عليه الصلاة والسلام: طوبى لعين نامت ولا تهمّ بمعصية وانتهت إلى غير إثم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن همّ بسيّئة ولم يعملها كتبت له حسنة، وقد جاء في الخبر المشهور نية المرء خير من عمله. تفسير قوله نية المرء خير من عمله فيه عشرة أوجه؛ قيل: إنّ النية سرّ وأعمال السرّ تضاعف، وقيل: لأنها غيب لا يطلع عليها غير الله تعالى، والظواهر مشتركة، وأيضاً فإن الله عزّ وجل يهبها للعبد خالصة لا يشوبها شيء إذا وهبها، ولا يدخل عليها الآفات؛ فهذا عطاء مهيأ وسائر الأعمال مدخر له، وأيضاً لأنها من شرط العمل حتى لا يصحّ عمل إلاّ بها وهي تصحّ بمجردها، وكان عبد الرحيم بن يحىى الأسود يقول: معنى قوله نية المرء خير من عمله يعني إخلاصه في العمل خير من العمل، قال: فالإخلاص بغير عمل خير من عمل غير مخلص والنية عنده: هو الإخلاص نفسه، وعند غيره: هو الصدق في الحال باستواء السريرة والعلانية، وقد قال الجنيد رحمه الله تعالى في الفرق بين الإخلاص والصدق معنى لطيفًا لم يفسره ويحتاج إلى تفسير، حدثنا بعض الأشياخ عنه قال: شهد جماعة على رجل بشهادة فلم تضرّه وكانوا مخلصين، ولو كانوا صادقين لعوقب؛ يعني أنّ صدقهم أن لا يعملوا عمله أومثل عمله الذي شهدوا به عليه؛ فهذا صدق الحال، وهو حقيقة النية وإخلاصها عند المحققين، وقد قيل في معنى قوله: نية المرء خير من عمله لأن نية المؤمن دائمة متصلة، والأعمال منقطعة، وبالنية خلد أهل التوحيد في الجنة، وخلد أهل الشرك في النار لدوام نياتهم على التوحيد ودوام نيات الآخرين على الشرك مدة الدهر؛ فهذه المعاني كلها على هذا الوجه الذي يقول فيه: إنّ معناه أنّ النية خير من العمل، وفيه وجه آخر يكون الكلام فيه على التقديم والتأخير أي نية المؤمن هي من عمله خير، كأنه قال: هي بعض أعماله الخير، فهذا كقوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) البقرة: 160، معناه نأتِ منها بخير، وكما قال: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حفي عَنْها) الأعراف: 781، معناه: يسألونك عنها كأنك حفي بهم، فآخر قوله عنها ومعناه التقديم فيكون هذا على التأويل أنّ النية من أعمال القلوب، وأنها من أعمال العبد خير كثير، وهذه الأقوال كلها صحيحة وهي موجودة في النية ففضلت النية العمل، لأن هذه المعاني من صفتها، وقال بعض التابعين: قلوب الأبرار تغلي بالبرّ وقلوب الفجّار تغلي بالفجور والله تعالى مطلع على نيّاتهم فيثيبهم بقدر ذلك فانظر ما همك وما نيتك. وروينا عن الله سبحانه وتعالى في بعض الكتب أنه قال: ليس كل كلام الحكيم أتقبل، ولكني أنظر إلى همه وهواه، فمن كان همه وهواه لي جعلت صمته ذكرًا ونظره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 عبرًا؛ وهذا داخل في عموم الخبرالذي رويناه عن نبيناصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، وسئل سفيان الثوري: هل يؤاخذ العبد بالنية؟ قال: نعم إذا كانت عزماً أخذ بها، وفي الخبر: أنّ العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد بها الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنه لم يرد بذلك وجهي، ثم ينادي الملائكة: اكتبوا له كذا واكتبوا له كذا، فيقولون: ربنا إنه لم يعمل شيئًا من ذلك، فيقال إنه نواه، وفي حديث أبي كبشة الأنماري: الناس أربعة: رجل آتاه الله عزّ وجلّ ومالاً فهو يعمل بعلمه في ماله، فيقول رجل: لو آتاني الله تعالى ما آتاه لعملت كما يعمل؛ فهما في الخير سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمًا فهو يتخبط بجهله في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت كما يعمل؛ فهما في الوزر سواء، ألا ترى كيف شركه بحسن النية في محاسن عمله وشرك الآخر بسوء النية بنيته في مساوئ عمله؟ وكذلك في حديث أنس بن مالك لما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك قال: إنّ بالمدينة أقواماً، ما قطعنا وادياً ولا وطئنا موطئاً يغيظ الكفّار ولا أنفقنا نفقة ولا نصبنا نصبًا ولا أصابتنا مخمصة، إلا شركونا في ذلك وهم بالمدينة، قالوا: وكيف ذلك يارسول الله وليسوا معنا؟ قال: حبسهم العذر فشركونا بحسن النية. وقال بعض السلف: صلاح الأعمال وفسادها بصلاح النيّات وفسادها، وكان مطرف يقول: صلاح عمل بصلاح قلب، وصلاح قلب بصلاح نية، ومن صفا صفي له، ومن خلط خلط عليه، وكذلك جاء في الخبر وهو أصل من أصول الدين قولهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوج بها فهجرته إلى ما هاجر إليه فأخبر أنّ لا عمل إلاّ بالنيّة، ثم جعل لكل عبد نية ثم ردّ طالبي الدنيا والأزواج إلى نياتهم، وحكم عليهم بها، وجعلها نصيبهم من الله تعالى، وفّق ذلك لهم أو لم يوفقه، فبطلت هجرتهم بفساد نيّاتهم وصارت همتهم بدنياهم وهواهم سبب حرمان ثواب المخلصين لله بحسن نياتهم، وطلب آخرتهم؛ وكان ذلك في الآخرة حسرة عليهم في الدنيا وشيئًا لهم. وفي حديث ابن مسعود: من هاجر يبتغي شيئًا فهو له فهاجر رجل فتزوّج امرأة منا فكان يسمى مهاجر أم قيس، وقال أبو داود: هذا الحديث ربع العلم، وذلك أنه قال: جمعت السنن الصحاح في حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت أربعة آلاف حديث، ثم قال: قد أمررتها على أربعة أحاديث؛ كل حديث ربع العلم، قال: وهذا الحديث أوّلها، وإنما قال ذلك لأنه فرض الفروض لا يتمّ فرض إلاّ به، وكذلك جاء في الخبر: أنّ رجلاً قتل في سبيل الله عزّ وجلّ فكان يدعى قتيل الحمار، وذلك أنه قاتل رجلاً ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته، وفي حديث أبي عبادة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من غزا وهو لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 ينوي إلاّ عقالاً فله ما نوى، وقال: إني استعنت رجلاً يغزو معي، فقال: لا حتى تجعل لي جعلاً: فجعلت له فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: ليس له من ديناه وآخرته إلا ما جعلت له. وروينا في الإسرائيليات أنّ رجلاً مرّ بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان لي هذا الرمل طعامًا لقسمته بين الناس، قال: فأوحى الله تعالى إلى نبيّهم أن قل له: إنّ الله تعالى قد قبل صدقتك وقد شكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به، وفي أخبار كثيرة: من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وفي حديث عبد الله بن عمر: من تكن الدنيا نيّته جعل الله فقره بين عينيه وفارقها أرغب مايكون فيها، ومن تكن الآخرة نيته جعل لله غناه في قلبه وجمع عليه ضيعته وفارقها أزهد ما يكون فيها، وحديث أم سلمة ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشًا يخسف بهم في البيداء فقلت: يا رسول الله يكون فيهم المكره والأجير، فقال: يحشرون على نياتهم، وفي حديث عمر مثله: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنما يقتتل المقتتلون على النيّات، وفي حديث فضالة: من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها، وكذلك قال في الخبر: إذا التقى الصفّات نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم فلان يقاتل للدنيا، فلان يقاتل عصبية إلاّ فلانًا يقولون قتل فلان في سبيل الله فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل اللّّه تعالى. وعن جابر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يبعث كل عبد على ما مات عليه، وفي حديث الأحنف بن قيس عن أبي بكرة: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنه أراد قتل صاحبه، والنية عند قوم الإخلاص بعينه، وعند آخرين الصدق، وعند الجملة أنها صحة العقد وحسن القصد، وهي عند الجماعة من أعمال القلوب مقدمة في الأعمال وأوّل كل عمل، وقد قال الله تعالى: (واذْكُروا الله ذِكْرًا كَثيرًا) الأحزاب: 41 قيل: في التفسير خالصاً فسمي الخالص كثيرًا، وهو ما خلصت فيه النية لوجه الله تعالى، ووصف ذكر المنافقين بالقلة فقال: (يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً) النساء: 142 يعني غير خالص، وسمّيت سورة: (قُلْ هُوْ الله ُ أحدْ) سورة الإخلاص لأنها خالصة في ذكر صفات الله تعالى وحده، لا يختلط بذكره جنة ولا نار ولا وعد ولا وعيد ولا أمر ولانهي وكذلك قيل سورة التوحيد إذ لا شريك فيها من سواه فأول سلطان العدو على القلب عند فساد النية فإذا تغيرت من العبد طمع فيه فيتسلط عليه وأوّل ارتداد العبد عن الاستقامة ضعف النية، فإذا ضعفت النية قويت النفس فتمكن الهوى، فإذا قويت النية صحّ العزم وضعفت صفات النفس، ولأنه ينتقل العبد من معصية إلى معصية دونها فيكون تاركًا للأولى بنية الترك لله تعالى كان أنفع له وأحمد عاقبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 وأصلح لقلبه وأقرب إلى توبته من افتعال الطاعات مشوبة بالهوى وفساد النيّات، لأنه يكون حينئذ متقلبًا في المعاصي بفساد نيته، وخالط عملاً سيِئًا بسيء مثله، ودرأ بالسيّئة لسيّئة قبلها، وهذا بخلاف وصف الله تعالى من قوله: (خَلَطُوا عَملاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) التوبة: 102 وقوله: (وَيَدْرَؤُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الرعد: 22، ومخالف لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: اتبع السيّئة الحسنة تمحها، وفي حديث أبي هريرة: من تزوج امرأة على صداق وهو لا ينوي أداءه فهو زان، ومن أدان ديناً وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق، وفي حديث ابن مسعود ذكر عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشهداء فقال: إنّ أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، وربّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، وقال ثابت البناني: نية المؤمن أبلغ من عمله، إنّ المؤمن ينوي أن يصوم النهار ويقوم الليل ويخرج من ماله فلا تتابعه نفسه على ذلك فنيته أبلغ من عمله، وقد ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل القلب بالملك والجوارح جنوده، قال: فإذا صلح القلب صلح الجسد، وإذا فسد فسد الجسد؛ معناه إذا صلحت للعبد نيته دامت للعبد استقامته، وإذا خلص وصفا من شوب الكدر والهوى خلصت الأعمال من الرياء وصفت من الشهوات والأهواء، وإذا فسدت نيته بحبّ الدنيا فسدت أعمال الجوارح بحبّ المدح والرياء. وقد حدثونا في الإسرائيليات أنّ عابداً عبد الله تعالى دهرًا طويلاً فجاءه قوم فقالوا: إنّ ههنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى، فغضب لذلك، فأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله، قال: وما أنت وذاك؟ تركت عبادتك والاشتغال بنفسك وتفرّغت لغير ذلك؟ فقال: إنّ هذا من عبادتي، فقال له: إني لا أتركك تقطعها، قال: فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره، فقال له إبليس: أطلقني حتى أكلمك، فقام عنه فقال له إبليس: يا هذا إنّ الله تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك، أنبيّ أنت؟ قال: لا، قال: فلا عليك ممن كان يعبدها، فلو اشتغلت بعبادتك وتركتها فإن لله تعالى في أرضه أنبياء لو شاء بعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها فقال العابد: لا بدّ لي من قطعها، قال: فنابذه إبليس للقتال فغلبه العابد فأخذه وصرعه وقعد على صدره، فلما رأى إبليس أنه لا طاقة له به ولاسلطان له عليه قال: يا هذا هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خير لك وأنفع من هذا الأمر الذي جئت تطلبه قال: وما هو؟ قال: قم عني أخبرك به، فأطلقه العابد فقال له إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك إنما أنت كل على الناس يعولونك، ولعلك تحبّ أن تفضل على إخوانك، وتواسي جيرانك، وتتسع في حالك وتستغني عن الناس، قال: نعم، قال: فارجع عن هذا الأمر الذي جئت فيه ولك عليّ أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين، فإذا أصبحت أخذتهما فصنعت بهما ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 شئت، وأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك، فيكون لك أفضل من ذلك وأنفع للمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانه، ولا يضرّهم قطعها شيئًا ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك لها، قال: فتفكر العابد فيما قال له وقال: صدق الشيخ، لست بني فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله تعالى أن أقطعها فأكون قد عصيت بتركها، وإنما هو شيء تفضّلت به، وماذا يضرّالموحدين من بقائها وهذا الذي ذكره أكثرمنفعة لعموم الناس، قال: فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له فرجع العابد إلى متعبده فبات ليلته فأصبح فإذا ديناران عند رأسه فأخذهما، ثم كذلك الغد، ثم أصبح اليوم الثالث فلم يرَ شيئًا، ثم أصبح بعد ذلك فلم يجد فغضب وأخذ فأسه على عاتقه وخرج يؤم الشجرة ليقطعها وقال: إن فاتني أمر الدنيا لا أتركنّ أمر الآخرة، قال: فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد؟ قال: أقطع تلك الشجرة، قال: كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليه ا، قال: فتناوله العابد ليأخذه كما فعل أول مرة فقال: هيهات قال: فأخذه إبليس فصرعه فإذا هو كالعصفور بين يديه، قال: وقعد إبليس على صدره وقال: لتنتهينَ عن هذا الأمر أو لأذبحنك، فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا قد غلبتني فحلّ عني وأخبرني عنك كيف قد غلبتك أول مرة فصرعتك والآن غلبتني فصرعتني؟ فكيف ذلك؟ قال له إبليس: لأنك أول مرة غضبت لله تعالى وكانت نيتك الآخرة فسخرني الله لك فغلبتني، وهذه المرة جئت مغاضباً لنفسك وكانت نيتك الدنيا فسلطني الله تعالى عليك فصرعتك، وهكذا حدثونا في قصة تطول أنّ ملكة من بني إسرائيل راودت عابدًا عن نفسه فقال: اجعلوا لي ماء في الخلاء أتنظف، قال، ثم صعد على موضع في القصر فرمى بنفسه فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ملك الهوى: الزم عبدي قال: فلزمه حتى وضعه بالأرض على قدميه رويدًا، فقيل لإبليس: ألا أغويته؟ فقال: ليس لي سلطان على من خالف هواه وبذل نفسه لله تعالى. وفي حديث معاذ بن جبل أنّ العبد يوم القيامة ليسأل عن كل شيء حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بأصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه، وروينا في خبر مقطوع من تطّيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك، ومن تطّيب لغير الله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة، وليس الطيب من أكبر المأمور به ولا من الإثم المنهى عنه، وإنما لصاحبه منه نيته، فإن كان نيته اتباع سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإظهار النعمة لله تعالى، كان بذلك مطيعًا وكان له ثواب ما نواه، وإن تطيّب لغير ذلك كان به عاصياً لاتباعه هواه. وعن بعض السلف الصالح قال: كتبت كتابًا وأردت أنّ أتربه في منزل جاري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 فتحرجت من ذلك ثم قلت: تراب وما تراب؟ فترتبه فهتف بي هاتف سيعلم من استخف بتراب ما يلقى غداً من سوء الحساب، وقال بعض العلماء: إن لأستحبّ أن يكون لي في لك شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي، وحدثت أنّ رجلاً صلّى مع سفيان صلاة العيد وكان قد خرج معه بغلس، فلمّا أصبح نظر وإذ إزار سفيان مقلوب فقال له: يا أبا محمد قد لبست ثوبك مقلوبًا فأصلحه قال: فمد سفيان يده ليسوّي إزاره ثم قبضها فلم يسوّه فقا له الرجل: ما منعك أن تسوّيه عليك؟ قال: إني لبسته لله عزّ وجلّ فلا أريد أن أسويه لغير ذلك ونادى رجل امرأته وكان فوق سطح يسرّح شعره فقال: هاتي المدري ليفرق به شعره فقالت امرأته: وأجيء بالمرآة فسكت هنيّة ثم قال: نعم، فقال له من سمعه لأي شيء سكتَّ عن المرآة؟ فقال له: إني قلت لها: هاتي المدري بينة، فلما قالت والمرآة؟ فلم يكن لي في لمرآة نية، فتوفقت حتى هيأ الله لي نية فقلت نعم جيئي بها. وحدثونا عن بعض أصحاب بشر أن فتحًا الموصلي دخل عليه فقام له بشر، قال: وما رأيته قام لغيره، فقمت فأجلسني، فلما انصرف قلت له: قمت أنت إليه فلما قمت أنا أجلستني، فقال: أنا قمت إليه لأجل الله تعالى وأنت قمت لأجلي فأجلستك، وحدثونا أنّ بعض الفقراء كان يصحب أبا سعيد الخراز فكان يخف بين يديه في حوائجه، ويخدم الفقراء، ويسارع في قضاء حوائج أبي سعيد وأصحابه، قال: فتكلم أبو سعيد يوماً في إخلاص الحركة فوقر ذلك قي قلب الشاب فكأنه أخذ الإخلاص التفقد لحركته وخدمته فترك ما كان يعمله من قضاء حوائج أبي سعيد في الخفة بين يدي إخوانه حتى أضّر ذلك بأبي سعيد فقال له: يا بني قد كنت تسعى في حوائج إخوانك ثم قطعت ذلك فما السبب؟ فقال يا أستاذ إنك تكلمت في الإخلاص وأني خشيت أن تكون أفعالي مدخولة فتركتها، قال أبو سعيد: لا تغفل إنّ الإخلاص لايقطع المعاملة ولا ينبغي للعاقل أن يترك العمل لأجل الإخلاص فيفوته الإخلاص والعمل، ولم أقل لك: اترك ما أنت عليه إنما قلت لك: أخلص فيه فإنّ طلبك للإخلاص قد قطعك عن عمل البرّ وقد أضرّ ذلك بنا فارجع إلى ما كنت فيه وأخلص فيه لله تعالى، فينبغي للعبد أن يكون له نية خالصة في جميع تصرفه في حركته وسكونه وسعيه وتركه، فإن الحركة والسكون اللذين هما أصلاً الأعمال من أعماله التي يسأل عنها فيحتاج إلى النية والإخلاص فيهما، فليجعل جميع ذلك لله تعالى وفيه بعقد واحد على مراتب من المقامات عنده، إما حبًا له وإجلالاً له، وإما خوفًا منه أو رجاء له، أو لأجل ما أمره به، فينوي أداء الفرائض، أو لما ندبه فينوي المسارعة إلى الخير، وفيما أبيح له فتكون نيته في ذلك صلاحاً لقلبه، وإسكان نفسه، واستقامة حاله، وذلك كله لأجل الدين وعدة الآخرة، وشكرًا لربّه تعالى، ودخولاً فيما أحلّ له، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 واعترافاً بما أنعم عليه، واتباعاً لسنّة نبيّه فيه ولا يكون واقفًا مع طبع ولا جاريًا على العادة، وقال أبو عبدة بن عقبة: من سرّه أن يكمل عمله فليحسن نيته، فإن الله عزّ وجلّ يأجرالعبد إذا حسنت نيته حتى باللقمة، فأحسن تفسير النية بما فسرّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عن الإحسان فقال: تعبد الله كأنك تراه فهذه شهادة العارفين ومعرفة الموقنين، فهم مخلصو المخلصين، وقال ابن المبارك: ربّ عمل صغير تعظمه النية، وقال بعضهم: القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من حركات الأعمال بالصلاة والصيام ونحوه، وقال الأنطاكي: إذا صارت المعاملة إلى القلب استراحت الجوارح، وروي عن عليّ عليه السلام: من كان ظاهره أرجح من باطنه خفّ ميزانه، ومن كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة، وقال داود الطائي: رأيت الخير كله يجمعه حسن النية فكفاك به خيرًا، وإن لم ينصب، وروي عن الحسن في تفسير قوله تعالى: (وَآتيّنَاهُ أَجْرَهُ في الدُّنْياَ) العنكبوت: 27، قال: نيته الصادقة اكتسب بها الأجر في الآخرة. وروي عن عبد الرحمن بن مربح قال: من قام إلى شيء من الخير لا يريد به إلاّ الله عزّ وجلّ، ثم عرض له من يريد أن يرائيه بذلك أعطاه الله عزّ وجلّ بالأصل، ووضع عنه الفرع، ومن قام إلى شيء من الخير لا يريد إلاّ المراءاة ثم فكر وبدا له فجعل آخر ذلك لله عزّ وجلّ أعطاه الله تعالى بالفرع ووضع عنه الأصل، كأنه حسب ذلك توبة؛ والتوبة مكفرة لماسلف والله أعلم، وقد تلتبس الفضائل بالمناقص لدقة معانيها وخفيّ علومها كصلاة العبد النفل وهو يحسب أنه الأوجب، من ذلك أن رجلاً كان يصلّي فدعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يجبه فظن أنّ وقوفه بين يدي الله تعالى بالغيب أفضل له، فلما سلم جاءه فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما منعك أن تجيبني حين دعوتك؟ فقال: كنت أصلّي، فقال: ألم تسمع قول اللّّه تعالى: (اسْتجيبوُا لله وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُم لِمَا يُحييكُمْ) الأنفال: 24؟ فكان إجابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل له، لأن صلاته نافلة وإجابة الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض عليه، قال بعضهم: من كان طلب الفضائل أهم إليه من أداء الفرائض فهو مخدوع، ومن شغل بغيره عن نفسه فقد مكر به، وقال سفيان: إنماحرموا الوصول بتضييع الأصول: فأفضل شيء للعبد معرفته بنفسه، ثم وقوفه على حده، ثم إحكامه لحاله التي أقيم فيها، ثم قيامه بعلمه الذي فتح له، فيبتدئ العمل بما افترض عليه بعد اجتنابه مانهى عنه مبلغ علمه ووسع وجده، لا يشتغل بطلب فضل حتى يحكم عمل فرض، لأن الفضل ربح لا يصحّ إلا بعد رأس المال، ولكل فضل آفة قاطعة، فمن سلم منها حاز فضله، ولكل أمر نفيس مؤونة ثقيلة، فمن تحملها أدرك نفيسها، ومن تعذرت عليه السلامة فهيهات أن يصير إلى فضل كرامة، ومن لم يصبر على تحمل غرامة لم يدرك علوّ مقامه، وقد يلتبس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 التكلف بالإخلاص وإظهار العلم بظهور التزيّن به، قال الثوري رحمه الله: زيّن نفسك بالعلم لولا تزيّن به؛ أي أدبها لله عزّ وجلّ فتكون زينًا في أوليائه، ولا تتزين به عند الناس ليمدحوك عليه ويلتبس الاختبار بالاختيار ما كان عن حاجة وتطرقت به إلى الله عزّ وجلّ، والاختيار ما زاد في الشهوة وكان سلماً إلى الخلق كالتباس ستر العورة من الثياب بالفاخر منها للنعمة والتكثر من الأسباب، ووقد يتطوع العبد بعمل يضيع به فرضًا وأحكام الفرض لجواز السلامة هو الفضل. وقد روي: إذا دعي أحدكم للطعام فإن كان مفطرًا فليجب وإن كن صائمًا فليقل إني صائم، فأمره بإظهار عمله وهو يعلم أنّ الإخفاء أفضل، ولكن إظهار عمله من حيث لا يؤثر في قلب أخيه وجدًا أفضل من إخفائه لنفسه مع تأثير ذلك في قلب أخيه لتفضيل العمال على الأعمال، إذ الأعمال موقوفة على العامل، فإنما يعطي الثواب على قدر العامل لا على قدر العمل لتضعيف الجزاء لمن يشاء عزّ وجلّ على غيره في العمل لواحد، فدلّ ذلك أنّ المؤمن أفضل من العمل فقيل له: ارفع التأثير والكراهة عن قلب أخيك بإظهار عملك؛ فهو خير من إخفاء العمل مع وجد أخيك عليك، لأن أخاك إذا دعاك إلى طعام صنعه لك فلم تجبه ولم تعتذر إليه عذراً بيّناً يقبله منك ويعرفه شقّ عليه ذلك إن كان صادقًا في دعائك، قال ابن شبرمة: سأل كرز بن وبرة ربه عزّ وجلّ أن يعطيه الاسم الأعظم على أن لا يسأله شيئاً من أمر الدنيا، فأعطاه الله تعالى ذلك فسأل أن يقوي أن يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات، فقيل لكرز: أتعبت نفسك في العبادة، فقال: كم مقدار الدنيا قيل سبعة آلاف سنة؟ قال: أما يرضى عبد أن يعمل سبعة آلاف سنة وينجو من يوم مقداره خمسين ألف سنة؟ وقال سري السقطي: ركعتان تخلصهماخير لك من أن تكتب سبعين حديثا أو قال سبعمائة حديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 الفصل التاسع والثلاثون ترتيب الأقوات بالنقصان منها أو بزيادة الأوقات أما الأقوات فقد كان بعض السلف ينقص منها حتى يرد النفس إلى أقل قوامها،، فمن أراد هذا الطريق فلينقص في كل أكلة ربع سبع رغيف فيكون تاركاً لرغيف في شهر برياضة وتمهل، فلا يؤثر النقصان عليه شيئاً حتى تقف النفس على الأكل في ثلث بطنها وهو ثلث أكله المعتاد، وهذا طريق المريدين، ومن العلماء من لم يكن يعرض للأقوات ولكن يعمل في زيادة الأوقات فيؤخر أكله وقتًا بعد وقت حتى ينتهي إلى أكثر طاقة النفس لحمل الجوع بضعف الجسم عن الفرض أو خشية اضطراب العقل، فمن أراد هذا الطريق أخّر فطره كل ليلة إلى نصف سبع الليل حتى يكون قد طوى ليلة في نصف شهر؛ وهذا طريق من أراد الطي السبع والعشر والخمس عشرة يومًا إلى الأربعين، لأنه يعمل في تجوعه على مزيد الأيام ولا يعمل في نقصان الطعام فلا يؤثر ذلك نقصًا في عقله ولا ضعفًا عن أداء الفرائض، إذا كان على صحة قصد وحسن نية وصدق عقد، فإنه يعان على ذلك ويحفظ فيه ويكون طعمه إذا أكل عند كل وقت يزيد فيه النقص ضرورة عن غيرتعمل لنقصانه، لأن معاه تضيق لا محالة، فكلما زاد جوعه نقص أكله على هذا إلى أن ينتهي في الجوع، وينتهي في قلة الطعم، ولا ينال فضيلة الجوع التي وردت به الأخبار إلاّ بالطي، ومن الناس من يقول: حدّ الجوع الأول من الوقت إلى مثله كالغد أربعة وعشرون ساعة، وحدّه الآخر اثنان وسبعون ساعة؛ فهذا حدّ الجوع من الأوقات فأما حدّه في الأقوات فكان بعضهم يقول: حدّ الجوع أن لا تطلب نفسك الأدم، فمتى طلبت نفسك الأدم مع الخبز فلست جائعًا؛ فهذا حدّ الأوّل، وقيل: حدّه الجوع أن تطلب الخبز فلا تميز بينه وبين غيره، فمتى تاقت النفس إلى الخبز بعينه فليست بجائعة لأن لها شهوة في التخير، ومتى لم تميز بين خبز وغيره من مأكول؛ فهذا حدّ الجوع وهو الفاقة والحاجة إلى الطعام الذي جعله الله تبارك وتعالى غذاء للأجسام؛ وهذا يكون في آخر الحدّين من الأوقات بعد الثلاث إلى خمس وسبع، ويكون طلب العبد عند هذا الجوع القوام من العيش والضرورة من القوت وهو ما سدّ الجوعة وأعان على أداء الفريضة؛ وهذا حال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الصديقين وقد سمعت بعض هذه الطائفة يقول: حدّ الجوع أن يبزق العبد، فإذا لم يقع على بزاقه ذباب فقد خلت معدته من الطعام يريد أنّ بزاقه قد خلا من الدسومة والدهنية وصار صافيًا مثل الماء فلا يسقط عليه الذباب مع نطق حاسته التي ركبت فيه وخفيّ إدراكه لما يقع عليه، فأما أكل العادات والتنقل في الشهوات والأكل حتى يشبع، فهذا عند العلماء مكروه، وأهله عندهم بمنزلة البهائم وأما الأكل على شبع والامتلاء حتى يتخم فهذا فسق عند العلماء وقد قاله لي بعض العارفين. وروينا أنه قيل لأبي بكر: إنّ ابنك أكل البارحة حتى بشم، فقال: لو مات ما صلّيت عليه، فأما الصوم فليس هو عندهم الجوع المقصود لإسكان النفس وإخماد الطبع لأن الصوم يصير عادة ويرجع الصائم إلى قوة طبعه إذا أفطر، فأما إذا كان يصوم ويفطر على الشهوت ويمتلئ من الأكل فإن صوم هذا لا يزيده إلاّ قوة طبع وظهور نفس، وتفتق عليه الشهوات، ويدخل عليه الفتور عن الطاعات، ويجلب عليه الكسل والسبات، وربما قوي طبعه جملة واحدة فظهرت عليه نفسه بقوة مجملة إلاّ إنه لا يجري في نهاره إلاّ فيما أجريت عادته عليه وجعل حاله فيه من أبواب الدنيا والتنقل في الهوى، وإن كان ظاهر حاله أسباب الآخرة عنده لقصور علمه، فإن شهودها دنيا، فالتقلل وأخذ البلغة من القوت في الأوقات مع الإفطار أصلح لقلب هذا، وأدوم لعمله، وأبلغ في آخرته من مثل هذا الصوم، لأن هذا الذي وصفناه هو صوم أبناء الدنيا المترفين ليس بصوم أهل الآخرة الزاهدين ولكن بالتقلل والطي وترك الشهوات واجتناب الشبهات تنكسر النفس وتذلّ، ويخمد الطبع، وتضعف الصفة عن العادة، وتقوي إرادة الآخرة، ويعمل المريد في سعيها وتخرج حلاوة الدنيا من القلب فيصير العبد مع التجوع والطي وترك النزهات كأنه زاهد. وروينا في حديث أسامة بن زيد وأبي يزيد الطويل اختصرته: إنّ أقرب الناس من الله عزّ وجلّ يوم القيامة من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، الأحفياء الأتقياء الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، تعرفهم بقاع الأرض وتحفّ بهم ملائكة السماء، نعم الناس بالدنيا ونعموا بطاعة الله عزّ وجلّ، افترش الناس الفرش وافترشوا الجباه والركب، ضيّع الناس فعل النبيّين وأخلاقهم وحفظوهم، تبكي الأرض إذا فقدتهم ويسخط الله تعالى على كل بلدة ليس فيها منهم، لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف، أكلوا الفلق ولبسوا الخرق، شعثًا غبرًا، يراهم الناس يظنون أنّ بهم داء، يقال: قد خولطوا وقد ذهبت عقولهم، ولكن نظر القوم بقلوبهم إلى أن ذهبت الدنيا عنهم، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول، عقلوا حيث ذهبت عقول الناس، لهم الشرف في الآخرة، يا أسامة إذا رأيتهم في بلدة فاعلم أنهم أمان لتلك البلدة، لا يعذّب الله عزّ وجلّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 قومًا هم فيهم، الأرض بهم رحيمة، والجبّار عنهم راض، اتخذهم لنفسك أخداناً عسى أن تنجو بهم، وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فإنك تدرك بذلك شرف المنازل وتحلّ مع النبيّين، وتفرح بقدوم روحك الملائكة، ويصلّي عليك الجبّار عزّ وجلّ، وممن اشتهر بالطيّ وكثر النقل عنه بذلك الخمس عشرة يومًا إلى عشرين إلى شهر، جماعة من العلماء يكثر عددهم؛ منهم: ابن عمرو العوفي، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، وإبراهيم التميمي، وحجاج بن قرافصة، وحفص بن العابد المصيصي، والمسلم بن سعد، وزهير البنائي، وسليمان الخواص، وسهل بن عبد الله، وإبراهيم الخواص، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوي ستًا، وكان عبد الله بن الزبير يطوي سبعة أيام، وكان أبو الجوزاء صاحب ابن عباس يطوي سبعاً، وروي أن الثوري وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثًا ثلاثًا، وقد رأينا من كان يطوي تسعًا وخمسًا، وكثيرًا ممن يطوي ثلاثًا ثلاثًا. وقد قال بعض العلماء: من طوى أربعين يوماً من الطعام ظهرت له قدرة من الملكوت، وكان يقول: لا يزهد العبد حقيقة الزهد الذي لا مشوبة فيه إلاّ بمشاهدة قدرة من غيب الملكوت، وبعضهم يقول: لا يوقن العبد يقيناً ثابتاً بحكم عليه لاستقامة فيه، ولبسة حال لازمة، وعلم نافذ في الملكوت، إلاّ بمشاهدة قدرة من قدرة الغيب، برأي عين تظهر له بشهادة دائمة، يقوم بها ويضطره؛ فعند هذا يعرف من الله تعالى، ومنه المخصوص القيوم به، ويصحّ لعبد مراد بهذا الطريق المنهج أربعين في سنة وأربعة أشهر، على ما نزلنا من تأخير الأوقات وقتًا بعد وقت، ورتبنا من رياضة النفس في الأوقات حتى تندرج الليالي في الأيام، وتدخل الأيام في الليالي، فتكون الأربعون بمنزلة يوم واحد وليلة واحدة، وهذا طريق بعض المقربين، لا يقدر عليه إلاّ مراد به، محمول فيه، مكاشف بشهادة تشغله عن نفسه، وتقطعه عن طبعه وعادته، وتنسيه جوعه، ويكشف له حقيقته ومرجوعه، وقد عرفنا من كان فعل ذلك، وظهرت له آيات من الملكوت، وكشف له عن معاني قدرة من الجبروت، تجلى الله له عزّ وجلّ بها ومنها كيف شاء، وقد وقف بعض هذه الطائفة على راهب فذاكره بحاله، وطمع في إسلامه، وترك ما هو عليه من الغرور، فكلمه في ذلك بكلام كثير إلى أن قال له الراهب: فإن المسيح كان يطوي أربعين يوماً وأن معتقد إعجاز هذا وأنه لا يكون إلاّ النبي، فقال له الصوفي: فإن طويت خمسين يومًا ما تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام، وتعلم أنّ ما نحن عليه حقّ وأنك على باطل؟ قال: نعم فقعد عنده لا يبرح ولا يذهب إلاّ من حيث يراه الراهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 إلى أن طوى خمسين يومًا، فقال: أزيدك أيضًا، فطوى إلى تمام الستين فعجب الراهب منه واعتقد فضله وفضل دينه، وقال: ما كنت أظن أنّ أحداً يجاوز فعل المسيح عليه السلام ولكن هذه أمة تشبه الأنبياء في العلم والفضل، فكان سبب إسلامه، وممن كان يطوي أربعين يومًا إبراهيم التميمي وحجاج بن قرافصة، فأما الثلاثين والعشرين فقد حكي عن عدد كثير منهم: سهل بن عبد الله وجماعة من البصريين، وأما من يأكل في الشهر أكلتين وثلاثة وأربعة فهم كثير من الشاميين والجزريين، وإن أحبّ المريد أن يقسم فطره قسمين فيأكل رغيفاً عند إفطاره في أول الليل فيسكن بذلك جوعه، ويأكل رغيفًا عند السحر يستعين به على صومه فحسن، وإن أحب عمل في تأخير الإفطار على رياضة، ووقف عند السحر فلم يجاوزه، فيكون أكله سحراً فيحصل له بذلك خمسة أشياء جوع النهار للصائم، وجوع الليل للقائم، وخلوّ القلب لفراغ المعدة، ورقة الفكر واجتماع الهمّ لخلوّ القلب، وسكون النفس للمعلوم فلا ينازعه قبل وقته؛ وهذا أوسط الطرقات وأحبها إليّ وهو طريق السائرين. وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال: ما قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيامكم هذا قط، وإن كان ليقوم حتى تزلع رجلاه، وما واصل وصالكم هذا قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحر. وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يواصل إلى السحر، فإن كان المريد يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ وهو أعدل طرقات الصيام أيضًا، أكل يوم فطره بعد الظهر وليلة صومه عند الفجر، فإن لم يفعل فليأكل يوم فطره نصف أكله بالأمس فكأنه صائم، فإن لم يفعل اضطراب جسمه وداخله الفتور في حاله، ومن لم يكن له معلوم فلا بأس أن يأكل شبعه ثم يتربص حتى ينتهي جوعه؛ فعلامة جوعه، أن لا تختار نفسه الخبز دون غيره من المأكولات، فإن اختارت نفسه الخبز ففيه بقية من الشبع، وعلامة شبعه بعد الأكل أن يأكل الخبر البحت على شهوة، فإذا تاقت نفسه إلى الأدم فقد ابتدأ شبعه، فإن تخيرت الأدام فهو شبعان، وترك المعلوم في الطعام طريق صوفية البغداديين، والوقوف مع المعلوم طريقة البصريين، ولما قدم صوفية أهل البصرة على أبي القاسم الجنيد بعد وفاة سهل رحمه اللّّه تعالى قال لهم: كيف تعملون في الصوم؟ فقالوا: نصوم بالنهار فإذا أمسينا قمنا إلى قفافنا، فقال: آه آه لو كنتم تصومون بلا قفاف كان أتم لحالكم؛ أي لا تسكنون إلى معلوم، فقالوا: لا نقوى على هذا ولعمري أنّ طريق البغداديين بترك المعلوم من المطعوم أعلى؛ وهو طريق المتوكلين من الأقوياء وطريقة البصريين بالمعلوم، والتوقيت أسلم من آفات النفوس وأقطع للتشرف والتطلع؛ وهو طريق المريدين والعاملين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 ذكر رياضة المريدين في المأكول وفضل الجوع وطريقة السلف في التقلّل والأكل كان أبو ذر يقول في بعض إنكاره: قد غيرتم بنخلكم الشعير ولم يكن منخل، وخبزتم المرقق وجمعتم بين أدمين، واختلف عليكم بألوان الطعام وغداً أحدكم في ثوب، ورجع في آخر، ولم يكونوا هكذا في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يقول: قوتي في كل جمعة صاع من شعير والله العظيم لا أزيد عليه حتى ألقاه، فإني سمعته يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحبّكم إلىّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة من مات على مثل ما تركته عليه، وقد كان قوت جماعة من الصحابة صاع من حنطة في كل جمعة، فإذا أكلوا التمر اقتاتوا صاعًا ونصفًا، وكان قوت أهل الصفة مدّ من تمر بين اثنين في كل يوم، والمدّ رطل وثلث، وكان الحسن يقول: المؤمن مثل العنيزة يكفيه الكف من الحشف، والقبضة من السويق، والجرعة من الماء، والمنافق مثل السبع سرطًا سرطًا وبلعًا بلعًا، لا يطوي بطنه لجاره، ولا يؤثر أخاه بفضله، وجهوا هذه الفضول أمامكم، وكان أبو يزيد البسطامي يقول: إذا وجد الفقير الماء سقط عنك فرضه. وفي الحديث المشهور العام: المؤمن يأكل في معي واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء، هذا على التمثيل في الاتساع والكثرة؛ أي يأكل أضعاف أكل المؤمن، فكان المؤمن يأكل سبع أكل المنافق، والعرب ترفع في ذكر ضعف الشيء وإضعافه إلى سبعة، وقد فسّر ذلك عالمنا أبومحمد سهل فقال: معنى يأكل في سبعة أمعاء؛ أحدها شره، وطمع، وحرص، ورغبة، وغفلة، وعادة، أي فالمنافق يأكل بهذه المعاني، والمؤمن يأكل بمعنى الفاقة، والزهد، ولهذا كان يقول: لو كانت الدنيا دمًا غبيطًا كان قوت المؤمن منها حلالاً، لأنّ أكل المؤمن عنده ضرورة للقوام، ومن الناس من يضيف هذا الكلام إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مخطئ في ذلك، إنما هو كلام إمامنا سهل بن عبد الله التستري رحمه الله، وقد سئل عن قوت المؤمن فقال: قوته الله تعالى، قال: سألت عن قوامه، فقال: الذكر فقال: إنما سألت عن غذائه، فقال: غذاؤه العلم، قلت: سألت عن طعمة الجسم، فقال: ما لك والجسم، دع الجسم على من تولاه قديماً يتولاه الآن، ثم قال: الجسد صنعة إذا عابت ردّها إلى صانعها، وسئل أيضًا عن الحلال، فقال: ما لم يعص الله في أوله ولم ينس في آخره، وذكر عند تناوله وشكر بعد فراغه، وكان يقول: القوت للمؤمنين والقوام للصالحين، والضرورة للصدّيقين، ومن كان ذا معلوم فالمستحبّ له أن لا يزيد على رغيفين في يوم وليلة، وليجعل بينهما وقتاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 طويلاً مرة وقصيرًا أخرى على حسب الحاجة وتوقان النفس إلى الغذاء، لاعلى طرد العادة والشهوة، والرغيف ستة وثلاثون لقمة يكون قوام النفس في كل ساعة ثلاث لقمات، فإذا أراد أن يأكل الرغيف على هذا التقسيم فليجرع بعد كل ثلاث لقم جرعة ماء، فذلك اثنا عشر جرعة في تضاعيف ستة وثلاثين لقمة، ففي ذلك قوام الجسم وصلاحه في كل يوم وليلة على هذا الترتيب. وقد روينا في مجمل هذا أثرًا، كان أبوذر يقول: كان قوتي على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاعًا في كل جمعة، واللّّه العظيم لا أزيد عليه حتى ألقاه؛ فهذا يكون في كل يوم رطل أو نحوه، والأصل في جمل ما ذكرناه من التنزل في القوت ما رويناه أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى رجل سمين فأومأ إلى بطنه بأصبعه، فقال: لو كان هذا في غير ها كان خيراً لك؛ يعني لو قدمته لآخرتك وآثرت به إخوانك فكان في غير جوفك لكان ذلك خيراً لك، ويعني قلة الطعم خير من كثرته وتجشاً أبو جحيفة عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثريد ولحم، قال: كنت أكلته، فقال: اكفف عنا جشاءك، فإن أكثركم شبعاً في الدنيا أطولكم جوعًا يوم القيامة، قال: فوالله ما ملأت بطني من طعام بعدها إلى يومي هذا، وأرجو أن يعصمني الله فيما بقي، وقد روينا عن الحسن عن أبي هريرة أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال البسوا الصوف وشمروا وكلوا في إنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء. وروينا عن عيسى عليه السلام: أجيعوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعلّ قلوبكم ترى اللّّه عزّ وجلّ، وقد رواه عبد الرحمن بن يحيى الأسود عن طاوس رفعه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: وقيل لأبي يزيد البسطامي وهو أعلى هذه الطائفة إشارة بأي شيء نلت هذه المعرفة؟ قال: ببطن جائع وجسد عارٍ، وفي التوراة مكتوب: أن الله تبارك وتعالى ليبغض الحبر السمين، وفي بعض الكتب: ويمقت أهل بيت لحمين، وقد جاءا مسندين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق، وقد روينا عن ابن مسعود أنّ الله عزّ وجلّ يبغض القارئ السمين، وفي خبر مرسل: أنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش، فإذا جعل العبد شبعه بين جوعين كان جوعه أكثر من شبعه وسلم من حديث أبي خحيفة، ومن كانت له جوعة بعد كل شبعة اعتدل جوعه وشبعه، ومن أكل يوم في كل مرتين فقد تابع الشبع وتحقق بخبر أبي جحيفة وشبعه، حينئذ أكثر من جوعه؛ وليس ذلك من السنّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وهو من فعل المترفين وقد كانوا يعدونه سرفًا. وقد روينا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا تغدى لم يتعشَّ، وإذا تعشّى لم يتغدَّ، وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة، وقد روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضي الله عنها: إياك والإسراف، فإن أكلتين في يوم من الإسراف، وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلمْ يَقْتُرُوا) الفرقان: 67 فكأنّ أكلتين في يوم إسراف، وأكلة في يومين إقتار وأكلة في يوم قواماً بين ذلك، وأقول على هذا إنّ أكل أربعة أرغفة سرف، وزغيفين قتر، وثلاثة أرغفة قوام حسن؛ وهذا أعدل الأقوات ولا يعجبني أكل أربعة أرغفة في مقام واحد لأني لا آمن به ازديادًا فيصير ذلك مقتاً، وقد يروى في خبر الأكل على الشبع يورث البرص، وقال بعض السلف: إنّ من السرف أن يأكل العبد كلما يشتهيه، وقد كان للصحابة أكلتان وشربتان، فالأكلتان الوجبة والغبوق، فالوجبة من الوقت إلى الوقت، وكقولك الوقعة، ومنه قوله: فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها؛ أي إذا وقعت جنوب البدن على الأرض، والغبوق أن يشرب مذقه لبن، أو يأكل كفّ تمر عند النوم، أو بعد عتمة، أو يكون عند الظهيرة، وقد يكون ذلك سحرًا، والشربتان العلل والنهل، فالنهل الشربة الأولى من اللبن بمنزلة الوجبة، والعلل الشربة الثانية بمنزلة الغبوق من نقيع تمر أو زبيب يقوم مقام الأكلتين فهنّ تمام الري، والأولى علالة النفس من العطش فسمي عللاً، وكان من أخلاف السلف ترك الشبع اختيارًا لأنفسهم لخفة الجسم، أو مواساة الفقراء، أو مساواة لهم في الحال لئلا يفضل عليهم في حالهم؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: أوّل بدعة حدثت بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشبع، إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا. وروينا في خبر: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجوع لا من عوز أي مختارًا له مع الإمكان في الأوقات، وقال بعض العلماء: أبغض الأشياء إلى الله عزّ وجلّ بطن مليء ولو من حلال. وقد روينا معناه مسندًا وفي الخبر الإسرائيلي أنّ يحيى عليه السلام ظهر له إبليس فرأى عليه معاليق من ألوان الأصباغ من كل شيء، فقال له: ما هذه المعاليق؟ قال: شهوات بني آدم، قال: فهل لي فيها شيء؟ قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر، قال: هل غير ذلك؟ قال: لا، قال لله تبارك وتعالى على أن لا أملا بطني من طعام أبداً، قال إبليس: ولله علي أن لا أنصح مسلماً أبداً، وقد كان من أخلاق التابعين الصبر على الطعم إلى أحد حدّي الجوع؛ الأول منها وهو أربعة وعشرون ساعة، ولم يكن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 أخلاقهم الأكل للعادة ولا تخيّر الأطعمة، ولا تعمّد الخبر خاصة دون غيره من المأكولات إذا سدّ الجوعة وقامت به البلغة، وكان أبو سليمان الداراني يقول: إذا عرضت لك حاجة من حوائج الآخرة فاقضها قبل أن تأكل، فما من أحد شبع إلاّ نقص من عقله، أو قال: تغير تقله عماً كان عليه، وكان يقول لأن أترك من عشائي لقمة أحبّ إليّ من قيام ليلة، هذا لإيثاره الجوع والتقلل على العباد مع التكثر. وروينا عن وهب بن منبه وغيره أنّ عابداً دعا بعض إخوانه فقرّب إليه رغيفان فجعل أخوه يقلب بعض الأرغفة ليختار أجودها، فقال له العابد: من أي شيء تصنع؟ أما علمت أنّ هذا الرغيف الذي رغبت عنه ولم تقنع به قد عمل فيه كذا وكذا صانع، وظهرت فيه كذا وكذا صنعة؛ منها السحاب الذي يحمل الماء، والماء الذي يسقي الأرض، والأرض التي أنبتتت، والرياح، والبهائم، وبنو آدم حتى صار إلىك، ثم أنت بعد هذا تقلبه لا ترضى به؟ وقال الآخر زيادة في الخبر: إنّ الرغيف لا يستدير فيوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صانعاً وصنعة؛ أولهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجر السحاب والشمس القمر والأفلاك وملكوت الهواء ودواب الأرض، وآخر ذلك الخباز، (وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تَحْصُوها) إبراهيم: 34 والخبر المشهور: ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّّا من بطن فدل أنّ ما نقص من ملء البطن فذلك خير، ثم قال: حسب ابن آدم لقيمات يشددن صلبه، ففي قوله: لقيمات معنيان؛ التقلل والتصغير، لأن التاء تدخل للجمع القليل وهو ما دون العشرة من العدد، والمعنى الآخر هو التصغير لأن لقيمة تصغير لقمة، ثم قال: فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس، وفي لفظ آخر: وثلث للذكر، فدل أيضًا أنّ ملء البطن يمنع من الذكر وما منع من الذكر فهو شرّ، قال الله سبحانه وتعالى: (وَالله خيْرٌ وَأبْقى) طه: 73، وقال: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقى) الأعلى: 17 ومعنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلث طعام أن يأكل شبعه المعتاد فيصير ثلث الشبع قوام الجسد باعتياد ثان، كما كان ملء البطن من الشبع هو العادة الأولى، وثلث الشبع هو ثمان أواق؛ فهذا على معنى الخبر الآخر: طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الانين يكفي الأربعة، ففي هذا خمسة أوجه، قال بعض علمائنا البصريين: طعام الواحد شبعاً يكفي الاثنين قوتاً، وطعام الاثنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 شبعاً يكفي الأربعة قوتاً، ومنهم من قال: طعام المسلم يكفي مؤمنين، وطعام مسلمين يكفي أربعة من خصوص المؤمنين، ويجوز أيضًا أن يكون طعام الواحد من المنافقين يكفي مسلمين على معنى قوله: المؤمن يأكل في مِعًى واحد والمنافق في سبعة أمعاء، ويصلح أن يكون معناه طعام الواحد من الصناع المتصرفين في المعايش يكفي اثنين ممن هو قاعد لا يتصرف، ويصلح أيضاً طعام الواحد من المفطرين يكفي طعام صائمين من الخصوص، وفي خبر عمر رضي الله عنه حين قال لابن مسعود وأبي موسى في قصة المرتد الذي قتلاه قبل أن يستتيباه ويحكما: ألا طينتم عليه بيتًا وألقيتم إليه كل يوم رغيفًا ثلاثة أيام، فلعله أن يتوب ويرجع إلى الإسلام، اللهم إني لم آمر ولم أعلم ولم أرض إذ بلغني فدل هذا أنّ في كل رغيف كفاية يوم وثلاثة أرغفة عندنا بالحجاز رطل، لأن الرطل المكي عدد ستة أقراص مذ ذاك إلى يومنا، هذا فيكون كل رغيف ثمان أواق؛ فهذا كما قلناه: إنّ ثمانيَ أواق ثلث الشبع لقوله ثلث طعام بعد قوله لقيمات جمع لما دون العشرة، وهذا مواطئ لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأكل سبع لقم، وحدثونا في أخبار الخلفاء أنّ الرشيد جمع أطباء: هندي، ورومي، وعراقي، وسوادي، فقال لهم: ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه، فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الاهليلج الأسود، وقال الرومي: الدواء الذي لا داء فيه حبّ الرشاد الأبيض، وقال العراقي: الدواء الذي لا داء فيه الماء الحار، فقال السوادي، وكان أعلمهم: إنّ الاهليلج يعفص المعدة وهذا داء، وإنّ حبّ الرشاد يرق المعدة وهذا داء، وإنّ الماء الحار يرخي المعدة وهذا داء، قالوا: فما عندك؟ قال: الدواء الذي لا داء فيه أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه وترفع يدك عنه وأنت تشتهيه، فقالوا: صدق. وحدثني بعض العلماء قال: ذكرت لبعض الفلاسفة من أطباء أهل الكتاب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس، فتعجب منه واستحسنه وقال: ما سمعت كلامًا في قلّة الأكل أحكم من هذا وإنه لكلام حكيم، ثم قال: جهدت الأطباء من الفلاسفة أن يقولوا مثل هذا في التقلل من الأكل فلم يهتدوا إليه فأكثر ما قالوا: لا تقعد على طعامك حتى تشتهيه وترفع يدك عنه وأنت تشتهيه، ومنهم من قال: لا يأكل إلاّ بعد الجوع ويرفع قبل الشبع، ومنهم من قال: لا يأكل إلاّ بعد الجوع المفرط ولا يشبع شديداً، وإنما كان مراده هذا الذي ذكره نبيّكم، وقد كان بعض علمائنا يقول: من أكل خبز الحنطة بحتًا بأدب لم يعتلّ إلاّ علّة الموت، قيل له: وما الأدب قال: يأكل بعد الجوع، ويرفع قبل الشبع، والأصل في هذا أنّ العلل داخلة على الأجسام من اختلاف نبات الأرض، لأن المعدة مركبة على طبائع أربع: الحرارة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وكذلك منابت الأرض على هذه الطبائع فإذا أكثر من اختلاف منابتها أمالت الحرارة والبرودة من النبات غرائز الطبائع من الحرارة والبرودة من المعدة، وأمالت الرطوبة واليبوسة من النبات غرائز الطبائع من الرطوبة واليبوسة، فزاد بعض على بعض وقوي وصف على مثله فكانت الأمراض من مثل ذلك، لأن كل مأكول من نبات الأكل يعمل في وصف من معاني الجسم، وأنّ الحنطة مخالفة لسائر نبات الأرض المعتدلة في الطبائع الأربع كاعتدال الماء في سائر الأشربة، وقد شبّهوا لحم الدراج في خفته وقلة دهنه من سائر اللحوم بطبع الحنطة في سائر الحبوب. وقال بعض الأطباء: كل من الخبز بحتًا ما شئت، فإن لا يضرّك، وقال غيره: أكل الخبز وحده خير من الأدم المردي، وقال بعضهم: لم يدخل الإنسان إلى معدته أنفع من الرمان، ولا أضرّ من المالح، ولأن يتقلل من المالح خير له من أن يستكثر من الرمان، وقد مثل الأترج من سائر الفاكهة على سائر المعدة في الطبائع الأربع، وقد شبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤمن بالأترجة طعمها طيب وريحها طيب؛ فهذه لطيفة من اللطيف، وحكمة من الحكيم تعالى، إذا أراد صحة جسم عبد أوحى إلى المعدة أن يأخذ كل طبع منها ضده من نبات الأرض الذي وقع في المعدة، فيأخذ طبع الحرارة طبع البرودة، ويأخذ طبع الرطوبة طبع اليبوسة من المأكول، فتعتدل الطبائع، فاستوى المزاج فيكون ذلك سببًا لصحة الجسم من علله، فإذا أراد أسقام جسم أمر كل طبيعة أن تأخذ جنسها ومثلها من المأكولات من نبات الأرض مثله، فتضرب المزاجات، ثم يدور ذلك في الجسد بمجاري العروق ومصباته إلى الأعضاء المتفاوتة الأدوات، فتقع كل أداة في عضو ضدها فتثقل بها، ويغشي كل آلة من جارحة ما لا يلائمها من طبعها فيسقم الجسم وتتفاوت العلل، فيكون هذا سبب الأمراض والعوارض، نعوذ بالله ذلك تقدير العزيز العليم. وقد روينا: أصل بنية الإنسان عن الله تعالى في صفة خلق آدم عليه السلام، حدثنا عن البراء قال: حدثنا عبد المنعم بن إدريس قال: حدثني أبي عن ابن منبه اليماني أنه وجد في التوراة صفة آدم عليه السلام حين خلقه الله عزّ وجلّ وابتدعه، فقال: إني خلقت آدم ركّبت جسده من أربعة أشياء، ثم جعلتها وراثة في ولده تنمي في أجسادهم، وينمون عليها ركّبت جسده من رطب ويابس وسخن وبارد، وذلك لأني خلقته من التراب، ورطوبته من الماء وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح، ثم جعلت في الروح بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع من الخلق هنّ ملاك الجسم بإذني وقوامه لا يقوم الجسم إلاّ بهن، ولا يقوم منهن واحدة إلاّ بأخرى منهن المرة السوداء والمرة الصفراء والدم والبلغم، ثم أسكت بعض هذا الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في المرة الصفراء، ومسكن الحرارة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع التي جعلتها ملاكه وقوامه فكانت كل واحدة منهن ربعاً لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدلت بنيته؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 فإن زاد منهن واحدة عليهن قهرتهن ومالت بهن، ودخل عليه السقم من ناحيته بقدر غلبتها حتى تضعف عن طاعتهن، وتعجز عن مقاربتهن، ثم ذكر الحديث بطوله: وقد تغلب الحرارة على بعض المريدين من قبل قوة المزاج وحدّة الشبهات، فيظهر الطبع فيتسع المني على العزب، كما تقوى الحرارة فينبع الدم؛ لأن أصل المني هو الدم يتصاعد في خرزات الصلب وهناك مسكنه فتنضجه الحرارة فيستحيل أبيض، فإذا امتلأت منه خرزات الصلب وهو الفقار طلب الخروج من مسلكه فقويت الصحة بذلك، فهذا حين هيجان الإنسان إلى النكاح، ولا يصلح لمثل هذا أن يأكل الحرارات من الأطعمة، وليطفئ ذلك بأكل البرودات والأشياء القاطعة، وليجتنب أكل كل حار يابس أو بارد رطب؛ فإنه يهيّج الطبع ويقوي العضو. وقد روينا عن قتادة في تفسير قوله تعالىك (وَلا تُحَمِّلْنامَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) البقرة: 286، قال الغلمة وقال فياض بن نجيح: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلث عقله. وقد روينا عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) الفلق: 3 قال: قيام الذكر، وقد أسند بعض الرواة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاّ أنه قال: الذكر إذا دخل، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: أعوذ بك من شرّ سمعي وبصري ولساني وقلب ومَنِيي وروينا عن أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهن أجمعين السلام أنهن كنّ يأكلن الخلّ والبرودات بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطعن به الشهوة، وروى بعض أشياخ الصوفية قال: اشتدت علي صفتي في بدء إرادتي بما لم أطق فكنت أضج إلى اللّّه تعالى في كل وقت فرأيت شخصًا في النوم فقال لي: ما لك؟ فشكوت إليه، فقال: تقدم إليّ فتقدمت فوضع يده على صدري فوجدت بردها في فؤداي وجميع جسدي، قال: فأصبحت وقد انكشف مابي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك بمثله أو أشد فأكثرت الضجيج إلى الله عزّ وجلّ فجاءني شخص في المنام قال: تحبّ أن يذهب ما تجد وأضرب عنقك؟ فقلت: نعم، فقال: مدّ رقبتك، فمددتها فجرد سيفاً من نور فضرب به عنقي، قال: فأصبحت وقد انكشف ما بي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني بمثله من الاغتلام وأشدّ فرأيت شخصًا يخاطبني فيما بين صدري وثوبي: فقال ويحك كم تسأل اللّّه تعالى رفع ما لم يحبّ رفعه؟ قال: فتزوجت فانقطع عني ولم يعاودني، فكان ذلك سبب ذريته وولد له، فإذا كان العبد ناسيًا لجوعه ذاكرًا لربّه عزّ وجلّ فهو يشبه الملائكة، وإذا كان شبعان مهمومًا في طلب الشهوات فهو أشبه بالبهائم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 ويقال إنّ الجوع ملك والشبع مملوك، إنّ الجائع عزيز والشبعان ذليل، وقيل: الجوع عزّ كله، والشبع ذلّ كله، وقال بعض السلف: الجوع مفتاح الآخرة وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا وباب الرغبة. وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ لكل شيء باباً، وباب العبادة الصوم، والخبر المشهور: صوموا تصحوا فصحة القلوب من علل الرؤوس أعلى وأحسن من صحة الأجسام من علل الأسقام. وقد روينا عن عائشة رضي الله عنها قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم، قلت: وكيف نديم قرع باب الجنة يا رسول الله؟ قال: بالجوع والظمأ، وقد نوّع أبو سعيد الخراز مقامات أهل الجوع في مقاصدهم عن مواجيدهم وهممهم، فحدثني الجهضمي عن أحمد بن شاكر قال: سمعت أبا سعيد يقول: سمعت الثقة من علمائنا يقول عن عبد الواحد بن زيد: إنه كان يقسم بالله ما صافى أحد إلاّ بالجوع، ولا مشوا على الماء إلاّ بالجوع، ولا طويت لهم الأرض إلاّ بالجوع. وكان يعد الأخلاق السنية الشريفة المحمودة ويحلف أنهم ما نالوها إلاّ بالجوع، قال أبو سعيد: معنى الجوع اسم معلق على الخلق افترقوا في الدخول فيه والعمل به لعلل كثيرة، فمنهم من يجوع ورعًا إذا لم يصب الشيء الصافي، ومنهم من وجد الشيء الصافي فتركه زهدًا فيه من مخافة طول الحساب والوقوف والسؤال، ومنهم من استلذ العبادة والنشاط بها والخفة فرأى النيل من الطعام والشراب قاطعاً له وشغلاً عن الخدمة والخلوة، ومنهم من قرب من الله عزّ وجلّ فلزم قلبه حقيقة الحياء حين علم أنّ الله تبارك وتعالى مشاهده، وكان الحياء مقامه لا غير، فتوهم أنّ الله تعالى يراه وهو يمضغ بين يديه ويأكل ويشرب فيؤديه ذلك إلى الكنيف فيجوع من هذه العين، وهكذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومنهم من أدركه السهو عن حاجاته فسلا عن نيل مصلحتين حتى يذكر في الغيب أو يذكر. وقال أبو سعيد الخراز أيضاً: قال جماعة من الحكماء: إنّ الله تعالى لا يكلم أحدًا، وفي بطنه شيء من الدنيا؛ فهذا يدل على أمره لموسى عليه السلام، يقول: النيل ليلقاه خالياً من الدنيا، وبنفس ساكنة عن المنازعة إلى شيء من الملك، وروح روحانية قد أحياها الحي لحياته فعند ذلك يصلح هذا الشخص لمخاطبته مثلاً بلا ترجمان. وحدثني الحسن بن يحيى البستي عن ابن مسروق قال: لقيت سهل بن عبد الله، فلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 دخلت عليه وبشرني وقبلني وكان في إرادة وتذلل فقلت له: أحبّ أن تصف لي بدايتك وما كنت تقوت به، فقال: في كل سنة ثلاثة دراهم؛ كنت آخذ بدرهم دبساً، وبدرهم سمنًا، وبدرهم دقيق الرز، وأشوبه مخلصًا ثلاثمائة وستين أكرة آخذ ليلة أكرة أفطر عليها، فقلت: الساعة كيف تعمل؟ فقال: أكلاً بلا حدّ ولا توقيف. وحدثونا في أخبار الملوك أنّ ملك الهند أهدى إلى المنصور تحفًا منها أنه وجه إليه بفيلسوف طبيب قال: فأنزله المنصور وأحسن إليه، فلما دخل عليه قال الفيلسوف: قد جئتك يا أمير المؤمنين بثلاث خصال يتنافس الملوك فيها لا نصنعها إلاّ لهم قال: وماهي؟ قال: أخضب لحيتك بسواد لا تنصل أبدًا ولا تتغير عن حالها، قال: وما الخصلة الثانية؟ قال: أعالجك بعلاج تتسع به في المأكل فتأكل أي شيء شئت فلا تتخم ولا يؤذيك الطعام، قال: وما الثالثة؟ قال: أقوّي صلبك بقوة تبسط إلى الجماع فتجامع ما شئت لا تملّ من ذلك ولا يضعف بصرك ولا ينقص من قوتك، قال: فأطرق المنصور ثم رفع رأسه إليه فقال: قد كنت أظن أنك أعقل مما أنت، أما السواد فلا حاجة لي به؛ فإن ذلك غرور وزور، والشيب هيبة ووقار، ولم أكن لأغير نورًا جعله الله تبارك وتعالى في وجهي بطلمة السواد، وأما ما ذكرت من الأكل فوالله ما أنا بشره، وما لي في الاستكثار من الطعام حاجة، لأنه يثقل الجسم ويشغل عن النوائب وأقل شيء فيه كثرة اختلافي إلى الخلاء فأرى ما أكره وأسمع ما لا أحب، وأما ماذكرت من النساء فإن النكاح شعبة من الجنون، وما أقبح بخليفة مثلي يجثو بين يدي صبية، ارجع إلى صاحبك مذمومًا مدحورًا فلا حاجة لي بما جئت به. وحدثونا عن بعض هذه الطائفة قال: أتيت قاسمًا الجوعي فسألته عن الزهد أي شيء هو؟ فقال لي: أي شيء فيه؟ فقلت: قالوا الزهد قصر الأمل، فقال: وأي شيء سمعت فيه؟ فقلت: قالوا الزهد ترك الادخار، فقال: حسن؛ حتى عددت عليه أقوالاً فسكت، فقلت: أي شيء تقول أنت؟ فقال: أعلم أنّ البطن دنياً العبد وبمقدار ما يملك من بطنه يملك من الزهد، وبمقدار ما يملكه بطنه تملكه الدنيا، وعلى هذا المعنى قال وهب بن منبه حكيم هذه الأمة: لكل شيء وسط وطرفان، فإذا أمسكت أحد الطرفين مال الآخر، وإن أمسكت الوسط اعتدل الطرفان، فكذلك البطن وسطاً بين الجوارح إن امسكتها اعتدلت الأطراف السمع والبصر واللسان والفرج والرجلان، وكذلك كان شيخنا ابن سالم يقول: إذا أعطيت البطن حظه من الشبع طلبت كل جارحة حظها من اللهو فجمحت بك النفس إلى الهلكة، وإذا منعت البطن حظه قصرت عنك كل جارحة عن حظها فاستقام القلب لذلك. وكان بشر بن الحارث قد اعتل فسأل عبد الرحمن المتطبب عن شيء يوافقه من المأكول فقال له عبد الرحمن: تسألني؟ فإذا وصفت لك لم تقبل مني، فقا له بشر: صف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 لي حتى أسمع، فقال: تحتاج تستعمل ثلاثة أشياء، فإن فيهنّ صلاح جسمك، قال: ما هنّ؟ قال: تشرب سكنجبيناً وتمص سفرجلاً وتأكل بعد ذلك إسفيذاجًا، فقال له بشر: تعلم شيئًا أقل شيء من السكنجبين يقوم مقامه؟ قال: لا، قال: فأنا أعرف، قال: وما هو؟ قال: الهندبا بالخل يقوم مقامه فتعرف شيئاً أقل ثمناً من السفرجل يقوم مقامه قال: لا قال: فأنا أعرف قال: ما هو؟ الخرنوب الشامي؟ قال: تعرف شيئاً أقل ثمنًا من الاسفيذاج يقوم مقامه؟ قال: أما هذا فلا، قال: بلى، قال: ما هو؟ قال: ماء الحمص بسمن البقر في معناه، فقال له عبد الرحمن: فأنت أعلم مني بالطب فلِمَ تسألني؟. ويستحبّ للعبد إذا كان جائعًا فتاقت نفسه إلى الجماع أن لا يأكل لئلا يجمع لنفسه بين حظين فيطلبهما، فربما طلبت الجماع للتعفف وهي تريد الأكل لتنبسط به إلى الجماع، وفي الجمع بين شهوتين تقوية النفس واجراء عادة لها، ويستحبّ للعبد إذا أكل أن لا ينام على أكله فيجمع بين غفلتين، فيعتاد الفتور ويقسو قلبه لذلك، ولكن ليصلِ أو يجلس فيذكر الله تعالى، فإنه أقرب إلى الشكر، وفي الحديث: أذيبوا طعامكم بالصلاة والذكر لا تناموا فتقسو قلوبكم، فأقل ذلك أن يصلّي أربع ركعات، ويسبح مائة تسبيحة، ويقرأ أجزاء من القرآن عقيب كل أكلة، وقد كان سفيان الثوري إذا شبع في ليلة أحياها، وإذا شبع في يوم واصله بالصلاة والذكر، وكان يتمثل فيقول: أشبع الزنجي وكده، ومرة يقول: أشبع الحمار وكده، وكان إذا جاع كأنه يتراخى في ذلك، وينبغي للمتقشف أن يأكل اللحم والدسم في الشهر مرتين، فإن أكله أربعًا فلا بأس قد كان السلف يفعلون ذلك، وفي خبر عن عليّ عليه السلام: من ترك أكل اللحم أربعين يومًا ساء خلقه، ومن داوم عليه أربعين يومًا قسا قلبه، وقد نهى عن مداومة اللحم، وقيل: إنّ له ضراوة كضراوة الخمرة، وقد كان أبو محمد سهل رحمه الله يقول للمتقللين من أهل عبادان: احفظوا عقولكم وتعاهدوها بالأدهان والدسم، فإنه ما كان وليّ للّّه عزّ وجلّ ناقص العقل، وإن أحبه المريد أن يأكل شيئاً من الطيّبات والفاكهة فليجعل ذلك بدلاً من الخبز ويقطع به جوعه؛ فيكون ذلك له قوتًا عند الحاجة إلى طعم ولا يكون تفكّهًا لئلا يجمع للنفس بين عادة وشهوة، فإنه أسرع لِمَلَلهِ لأنه إذا شبع من الطِيبات غير الخبز شبعة أو شبعتين كان أقرب إلى تركه وانقطاع شهوته، ونظر أبو محمد سهل إلى ابن سالم شيخنا رحمه الله وفي يده خبز وتمر فقال له: ابتدئ بالتمر فإن قامت كفايتك به وإلاً أخذت من الخبز بعده حاجتك، قال: إن التمر مبارك، والخبز شؤم؛ يعني أنه كان سبب إخراج آدم من الجنة، وأما بركة التمر فإن الله تعالى ضرب النخلة مثلاً لكلمة التوحيد في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتُ وَفَرْعُهَا في السًّماء) إبراهيم: 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 قال ابن عباس: كلمة التوحيد لاشيء أحلى منها كشجرة طيبة وهي النخلة، وليس في الثمار أحلى من الرطب، ولذلك شبّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤمن في حلاوته ولينه وقوته وثبات أصله بالنخلة، فقال: لا يسقط ورقها مثلها كمثل المؤمن، يقول سهل رحمه الله: إذا استغنيت عن الخبز بغيره من الطعم كان خيرًا لك؛ يريد أن أتوقف نفسك مع عادة فتنازعك إليه ا، وقد ذكرت هذه الحكاية لأبي بكر بن الجلاء فأعجبته، وقال: هذا كلام الحكماء، وكان هذا يلائم حاله، وإن خشي المريد أن يكون شيء من المآكل والطيبات له عادة ولم يأمن تألّه قلبه وتوقان نفسه إليه ومنازعتها إياه، وكان العبد مبتدئًا غرّاً لا يعرف خبء النفس ودواهيها ولايفطن لمكرها وآفاتها؛ فإن ترك ذلك أفضل. فليتركه حينئذ لأجل الله خوفًا أن يشتهيه فيحرص على مثله، ويدخل مداخل السوء من أجله، ويبيع دينه فيه أو خشية تمكّن العادة فيه، فتعذر عليه التوبة لدخوله في الشبهات عند اعتياد الشهوات لأنّ العادة جند الله تغلب العقل، والابتلاء سلطان من سلطان الله تعالى يقهر العلم، لأجله تعذرت الاستقامة، ولولا العداوة لكان الناس تائبين، ولولا الابتلاء لكان التائبون مستقيمين، فليترك حينئذ أكل الطيّبات إذا صارت شهوات، وخشي منها مطالبة العادات، ودعاوي النفس بالآفات، ناويًا بذلك ما ذكرناه لصلاح قلبه، وتسكين نفسه، ليملك بذلك نفسه قبل أن تملكه، ويفطم عادتها قبل أن تهلكه، ويغلب بالترك طبعه وهواه قبل أن يكونا بالشهوة يغلبانه، كما قال بعض الحكماء: إن لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون أروح لنفسي، وكما قال آخر: إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي، فيصير الترك حينئذ والمنع للنفس غذاء وعادة، كما كان الأخذ والأكل عادة، ففي هذا عون له على صلاح قلبه ودوام حاله، وكان إبراهيم بن أدهم يسأل أصحابه عن الشيء من المأكول فيقال: إنه غال، فيقول له: أرخصو هـ بتركه، وقال بعض الأدباء في معناه: وإذا غلا شيء على تركه ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا وهو حينئذ تارك للشهوات لأجل الله تعالى وعامل من عمال الله؛ وقد كان هذا طريق طائفة من السلف إلى الله تعالى، ثم انقرضوا فانمحى طريقهم وخلف بعدهم خلف من العلماء ابتغوا الشهوات؛ ولم يقاموا في هذه المقامات ولاسلك بهم هذه الطرقات، فلم يتكلموا في ترك الشهوات؛ فلذلك درس هذا الطريق وعفا أثره لفقد سالكه وعدم كاشفه، فمن عمل به وسلكه فقد أظهره، ومن أظهر فقد أحيا أهله، حدثني بعض علمائنا عن بعض المريدين من أهل البصرة قال: نازعتني نفسي خبز أرزة وسمكاً فمنعتها فقويت مطالبتها فاشتدت مجاهدتي لها عشرين سنة، قال: فمات، فرأيته في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: لا أحسن، أصف إليك ما يلقاني به ربي من النعيم والكرامة؟ وكان أول شيء استقبلني به خبز أرزة وسمكاً، فقال: كل شهوتك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 اليوم هنيئاً بغير حساب، وقد قال الله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبَوُا هَنِيئًا بِمَا أَسْلُفْتُمْ في الأيَّامِ الخَالِيَة) الحاقة: 24، فكأنهم أسلفوا ترك الشهوات لما تركوها، وقدموا الجوع والعطش في خلو أيامهم فاستقبلهم بالأكل والشرب، ويقال: لكل عمل جزاء في الآخرة من جنسه وبمعناه، وقال سري القطي: منذ ثلاثين سنة أشتهي أن أغمس جزرة في دبس وأنا أمنع نفسي، وكان أبو سليمان الداراني يقول: ترك شهوة من شهوات النفس أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها، وقال: لأن أترك لقمة من عشائي أحبّ إليّ من قيام ليلة ذلك إيثاراً للتقلل وخفة للعدة من الطعام أو خشية الاعتياد للشبع، وسمعت أبا بكر بن الجلاء يقول: أنا أعرف إنساناً تقول له نفسه: أنا أصبر لك على طيّ عشرة أيام وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها، فيقول لها: لا أريد أن تصبري على طيّ عشرة أيام، ولكن اتركي هذه الشهوة التي تشتهيها، وقال لي رجل: رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فأخذ بجلد ذراعه وجعل يقول: جعت هذا الجوع كله؟ ولم يقل لي أترك الجوع، ولو قال لي: أتركه لعله كان يتركه، وقد كان رحمه الله قد ترك أكل الشهوات وأكل الخبز أيضًا ثلاثين سنة، وكان الجنيد رحمه الله يقول: يقوم أحدهم في صلاته فيجعل بينه وبين الله تعالى زنبيل طعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة، أو يسمع فهم الخطاب، ومثل البطن مثل الزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار، إنما حسن صوته لخفته ورقته، ولأنه أجوف غير ممتلئ، ولو كان ثقيلاً جالساً ممتلئاً لم يكن له صوت، وكذلك الجوف إذا خلا من الامتلاء كان أرقّ للقلب وأعذب للتلاوة وأدوم للقيام وأقل للمنام، وروي عنه أنّ عتبة الغلام قل لعبد الواحد بن زيد: إنّ فلانًا يصف من قلبه منزلة لا أعرفها، قال: إن فلانًا لا يأكل التمر وأنت تأكله، قال: فأنا إنْ تركت التمر وأكله عرفت تلك المنزلة، قال: نعم وغيرها، فأخذ يبكي فقال له بعض أصحابه أبكى الله عنك أعلى التمر تبكي؟ فقال عبد الواحد: دعه فإن نفسه عرفت صدق عزمه في الترك، هو إذا ترك شيئًا لم يعاود فيه أبدًا، وكان بعض أشياخنا ترك أكل الخبز الحار لأن كان يحبه ويشتهيه سنين كثيرة فعوتب في ذلك فقال: لو طمعت نفس في أكل الخبز عشرين سنة ما أطعمتها الساعة، وكان ربما يبكي من شدة شهوة نفسه وشدة عزم مجاهدته لاستشعار نفسه صدقه وحسن وفائه، فتيأس من شهوتها آخر الدهر، فكذلك كان يقع عليه البكاء للإياس من المشتهي، واعلم أنّ الشهوت لا حّد لها، ومثل القوة مثل العلم ذو حدود، فكم من شهوة دنية منعت رتبة علية، فإن لم تقطع الشهوات وتحسمها أحبّ ما كانت إليك أعطتك أرغب ما تكون فيها، فلا تقعد عن التوبة تنتظر آخرها، فإن النفس لا آخر لشهواتها إلى أن ترى الملائكة فعند ذلك تمحي صفاتها فتغيب الشهوات لأنها من أوصافها، فإن لم تترك الشهوات المعتادة فلا تعمل في مثلها من الزيادة بل يكون عملك في النقصان؛ فهو أقرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 إلى أخلاق الإيمان، وقد كان بعضهم يقول لأصحابه: لا تأكلوا الشهوات فإن أكلتموها فلا تطلبوها، فإن طلبتموها فلا تحبوها، وكانوا يقولون ما زاد على الخبز فهو شهوة حتى الملح، وقال بعضهم: الخبز من أكبر الشهوات واعلم أنّ مازاد على الخبز فهو فاكهة يتفكّه به. وقد روينا عن ابن عمر أنه قال ما تأتينا من العراق فاكهة أحبّ إلينا من الخبز، فإن كان لابد من تفكّه بفاكهة مع الخبز الذي هو قوت النفس فكما أطعم الله عز وجلّ الفقراء في الكفّارة وهو التوسط في الأدام الذي أمر به وأحبه لفقرائه مثل الخبز واللبن، لأن أعلى الأدام اللحم والحلو، وأدناه الملح والخلّ، فلم يأمر سبحانه وتعالى بأعلاه لأن يشقّ على الأغنياء، ولم يأمر بالأدنى لأنه يشقّ على الفقراء، وتوسط الأمر بينهما، فقال عزّ من قائل: (مِنْ أوْسطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْليكُمْ) المائدة: 89 فهو ما ذكرناه، وعلى ذلك فإن ابتلى العبد كل الشهوات وحبّها فليظهر ذلك ولايخفيه وليشترها بنفسه ولا يسترها؛ فإن هذا من صدق الحال؛ وهو طريق السلف إن فاته المجاهدة في الأعمال فلا يفوتّنه الصدق في الحال، وإن لم يكن صديقًا فليصدق في كذبه؛ فإنّ الصدق في الكذب أحد الصدقين، وإن خفاء الكذب والنقص وإظهار ضده من الإخلاص والتمام هو كذبان لأنه نقص، وأظهر حال الكاملين واعتل وأبدى شعار المعصومين فكذب من طريقين، واستحق المقت من وجهين؛ فلذلك غضب الله عزّ وجلّ على المنافقين ومقتهم مقتين ثم لم يرض منهم إلاّ بتوبتين واشترط علهيم شرطين فقال تعالى: (إِنَّ المُناَفِقينَ في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ منَ النَّارِ) النساء: 145 يعني أسفل من الكفّار؛ لأنّ الكافر أخلص في كفره فسوي بين باطنه وظاهره، والمنافق كفر وأشرك في إيمانه فخالف بين باطنه وظاهره واستخف بنظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه وعظم عين المخلوق، فزاد اللّّه عزّ وجلّ في هوانه وشدد في توبه بما وكد من شرطه فقال تعالى: (إلاَّ الَّذين تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بالله وَأخْلصُوا دَيَنهُمْ للّّه) النساء: 146 الآية، وهذا الضرب من الرياء مما لا يمتحن به عالم بالله عزّ وجلّ ولا عاقل عن الله عزّ وجلّ ولله الحمد، وإن ابتلى بأكل الشهوات وببعض المعاصي، كما تجري الذنوب على العارفين، ولايبتلون برياء المخلوقين وليس للسلف في هذا الباب إلاّ طريقان؛ طريق هو المجاهدة للنفس وترك الشهوات، فمنهم من كان يخفيه لأنه أسلم له، ومنهم من كان يظهره لأنه مؤمن قوي نيته في ذلك القدوة والتأسي، وطريق آخر كان فيه طائفة من العلماء والعاملين وكانوا يأكلون الطيّبات ويتسعون في المآكل إذا وجدوها، إلاّ إنهم كانوا يظهرون ذلك ويكسفون نفوسهم به، فإن فاتك الطريق الأعلى فاسلك الطريق الأوسط الأسلم، فإما أن يكون عبدًا يأكل الشهوات في السرّ ويخفيها في العلانية، أو يظهر شعار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 ضدها من الترك لها والزهد فيها؛ فليس هذا طريق الموقنين ولامسلك الصادقين هذا وقد عرج طريق المسالك وسلك سبيل المهالك فإياك أن تترك محجّة الطريق فتقع في حيرة المضيق. حدثنا أنّ عابدًا من بني إسرائيل انتهى في سياحته إلى أرض لقوم رأى في وسطها طريقًا مستطرقًا يسلك فيه السابلة فقال: هذه أرض لقوم كيف أسلكها؟ وشقّ عليه أن يجاوز الأرض فيبعد عليه طريقه فتفكر وقال: هذا طريق مسلوك لا بأس عليّ أن أسلكه فسلكه، فلما خرج من تلك الأرض عوقب على ذلك ونسي ذنبه فجعل يستكشف فقيل له: لأنك سلكت إلى غير طريق ودخلت في حرث قوم بغير إذنهم، فقال: يارب معذرة إلىك إني رأيته قد جعل طريقًا فأوحى الله عزّ وجلّ إليه، وكلما اتخذ الظالمون طريقًا جعلته إليّ سبيلاً، فمن سلك طريق ظالم بغرور لم يكن في ذلك معذورًا وأوقعه في الحيرة والغرور فهلك وأهلك من اقتدى به؛ وهذا طريق متصنّع جاهل متطرف بذلك إلى الدنيا، متشوف عند الناس بترك الشهوات، مظلم التوحيد في الوجد، ضعيف اليقين في غيبة عن العيون، وقد كان من شأن الصادقين من السلف اشتراء الشهوات بأنفسهم وتعليقها في منازلهم يظهرون للناس شعار الراغبين وهم فيها عند الله عزّ وجلّ من الزاهدين، لا يأكلونها، إنمايريدون بذلك إسقاط منزلتهم من قلوب الجاهلين، وإخفاء حالهم عن الناظرين وليصرفوا عنهم قلوب الغافلين، يقطعون بذلك المقامات ويشترون به المعاملات، لأن هذا مقام من زهد في الأشياء وأخفى زهده، فمن نهاية إخفاء الزهد إظهار ضده واستشعار المزهود فيه، ثم لا يتناول ولايتمتع به فيكون هذا أشدّ على النفس من المجاهدة، لأنه حمل عليها ثقلين: ثقل المنع من الحظ وثقل سقوط المنزلة عنه، فعدمت النفس لذة المتعة به، وفقدت أسباب المنزلة بتركه فجرعها كأس الصبر مرتين؛ فهذا حال الصادقين في تلك الشهوات، وطريق الأقوياء من أهل الإرادات، وهو يشبه فعل الزاهدين في باب العطاء، إنّ منهم من كان يأخذ العطاء علانية ثم يخرجه سرّاً فيكون له في الأخذ سقوط الجاه بظهور الرغبة، ويكون له في الإخراج معاملة السر بحقيقة الزهد فلا هو متّع نفسه بالجاه مع الرّد ولا هو أنالها حظها بتناوله مع الأخذ، فهذا أشد شيء على النفس، وهو طريق علماء الزهد، ومن سلكه أخرجه إلى مقام الصدّيقين، وهذان طريقان قد درسا وقد عفا أثرهما في وقتنا هذا لا يسلكه إلاّ من عرفه الفرد بعد الفرد والسابلة من القرّاء على طرقات التصنع والتزين. وروي عن جعفر الصادق رضوان الله عليه: إذا قدمت إليّ شهوة نظرت إلى نفسي، فإن أظهرت شهوتها لها أطعمتها منها، وكان ذلك أفضل من منعها، وإن أخفت شهوتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وأظهرت العزوف عنه عاقتبها بالترك ولم أنلها منها شيئًا؛ تفسير ذلك أنّ إظهار النفس الشهوة أن لا تبالي أن تعرف بأكل الشهوات، وأن تحبّ أن يظهر على ذلك من يعرف من أهل الديانات، وإخفاء النفس الشهوة أن تشتهي وتحبّ أن لا يعلم أنها تشتهي، وتكره أن تعرف بأنها ممن تشتهى، فقال: هذه هي المعاقبة بترك أكلها لأنه إذا ترك أكل شهوة لأجل الشهوات ثم اشتهى أن لا يعرف بتركها؛ فهذا شهوة الشهوات، فقد وقع في أعظم مما كره، وتمتعه بشهوة النظر إليه اوالمدح له أكثر من تمتعه بترك شهوته المأكولة؛ وهذا من الشهوة الخفية، التي جاء في الخبر: أخوف ما أخاف على أمتي الرياء، والشهوة الخفية، والرياء بالمعاملات، وخفيّ الشهوة أنْ تشتهي أن تعرف وتوصف بترك الشهوات. وسئل بعض العلماء عن بعض الزّاد فسكت عنه فقال: تعلم به بأساً؟ فقال: ما أعلم به بأساً إلاّ في شيء واحد مكروه يأكل في الخلوة ما لا يأكله في الجماعة، فأعلّه بذلك، ولعمري أنه موضع علّة؛ لأن الصادقين قد كانوا يأكلون في الجماعة ما لا يأكلون في الخلوة، فهذا ضد حالهم، فإن اتفق للعبد لونان أحدهما ألطف من الآخر ابتدأ فأكل الألطف منهما، فلعل كفايته تتّم به فيستريح من الآخرة، فإنما قدم أهل الدنيا غليظ الألوان على رقيقه ليتسعوا في الأكل وتنفتق شهواتهم فيكون لكل لون لطيف مكان آخر، وشبّه بعضهم المعدة بمنزلة جراب ملأته جوزاً حتى لم يبقَ فيه فضل للجوز، فجئت بسمسم فصببته عليه، فأخذ لنفسه موضعاً في خلال الجوز، فوسّع الجراب السمسم للطفه مع الجوز؛ فكذلك المعدة إذا ألقيت فيها طعامًا رقيقاً لطيفًا بعد طعام غليظ خشن أخذته الشهوات في أماكنها فتمكن فيها بعد الشبع مما قبله والعرب تعيب ذلك ولا تفعله إذ من سنتها أن تبتدئ باللحم قبل الثريد، قال رجل لبعض الأنباط: أنت من الذي يبتدئون بالثريد قبل الشواء، يذم أهل العراق بذلك هذا إذا استوى اللونان في الحكم أو لم يكن للمريد في ترك الأفضل منهما نية، فأما إن كان قد ترك الشهوات ثم قدمت إليه وكان على عقد نيته وقوة عزمه فلا بأس بأكل الأدون، وقد كان بعض الصادقين ممن ترك أكل الشهوات في الانفراد إذا قدمت إليه نال منها شيئاً يسيراً ليستر عن نفسه أبصار الناظرين ويصرف عنه قلوب المادحين، وقال أبو سليمان: إذا قدمت إلىك شهوة وقد كنت تاركًا لها فَأصِبْ منها يسيرًا ولاتعط نفسك منتهاها فتكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة، وتكون قد نغصت على نفسك، إذ لم تبلغ في شهوتها؛ فإن فعل هذا فحسن، لأن أبا سليمان خاف عليه ما ذكرناه قبيل من يظهر ترك الشهوة فيصير متعته باعتقاد فضله من ترك الشهوات أبلغ من كل الشهوات لو أن يأكلها فيسرف على نفسه بلوغ شهوته التي كان تركها بعلة الإخلاص، كما تقول العامة: بعلة الصبي تشبع الدابة، فإن قوي يقينه وغاب الخلق عن عينه تركها وقلبه مطمئن بالإيمان لأنه لم قد نغصت على نفسك، إذ لم تبلغ في شهوتها؛ فإن فعل هذا فحسن، لأن أبا سليمان خاف عليه ما ذكرناه قبيل من يظهر ترك الشهوة فيصير متعته باعتقاد فضله من ترك الشهوات أبلغ من كل الشهوات لو أن يأكلها فيسرف على نفسه بلوغ شهوته التي كان تركها بعلة الإخلاص، كما تقول العامة: بعلة الصبي تشبع الدابة، فإن قوي يقينه وغاب الخلق عن عينه تركها وقلبه مطمئن بالإيمان لأنه لم يعتل بالنظر فيتداوى بالتناول للبعض، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 فأما إن كان قد اعتقد ترك شهوة لمعنى دخل علىه منها يخرجه من الورع، أو يعزم على المجاهدة، ثم أتى بها؛ فهذا اختبار من الله سبحانه وتعالى لينظر كيف يعمل في الوفاء بالعقد، فأحبّ إليّ أن لا ينال منها شيئاً وليتعلّل ويدافع عن نفسه بالمعاريض والمعاني حتى لا يفطن به أنه قد تركها للمجاهدة، فيكون قد فعل الوصفين معًا؛ الوفاء لعقد في تركها، والتورية بلطيف الحيلة من الفطنة له في قصده؛ وهذا طريق المريدين وصفات المتّقين؛ وهو الطريق الأدنى الذي ذكراه أولاً، فإن ظهر قرب الله تعالى منه وغلب نظره إليه أغناه عن الحيلة والاحتىال لقربه وشهادته ذا الجلال والإكرام؛ وهو الطريق الأعلى الذي ذكرناه آخراً، وهذا للموقنين، فأما إنْ كان الغليظ الخشن هو الأحل في الحكم وأبعد من الشبهة فهو الأطيب والأفضل في العلم فلا يأكل إلاّ منه، يقال: أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنبه، فلعل الله تعالى أن يشر له ترك لقمة شبهة لذيذة في الطعم إن كانت كريهة في الحكم، يتركها لأجله فيغفر له ما سلف من ذنبه، إنه غفور شكور، قيل: غفور لذنوب كثيرة، شكور لعمل يسير، كيف وقد صف المؤمنين أولي الهدى والتوحيد وذوي الرحمة والرشد بحسن التفقد في الطعمة فقال: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِِّّهمْ وَزِدْنَاهمْ هُدًى) الكهف: 13، (وَرَبطْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقَالُوا) الكهف: 14 يعني بشهادتهم بالتوحيد، فكان من قيامهم حسن تفقدهم في المأكول، ومراقبتهم للواحد في قولهم: (فَابْعَثَوا أَحدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلى المدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكِى طَعَامًا فَْليأْتِكُمْ بِرِزقٍ منهُ) الكهف: 19 يعني أيها أحلّ وأفضل فأمروا رسولهم يتحرى الحلال إذ قاموا لذي الجلال والإكرام لما أمرهم بأكله إذ قدمه على الأعمال الصالحة في قوله تعالى: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) المؤمنون: 51، ورعًا منهم وتقوى، وكذلك فافعل لتتبع سبيل المؤمنين فتكون معهم ولا تتبع سبيل المجرمين الظالمين فتحشر معهم. هذه رياضة المريدين وطريق المجاهدين، فأما العارفون فليس لهم في الأكل تجربة وتقسيم إذا أطعموا تقلّلوا وشكروا، فإن رأوا له مكانًا آثروا، وإن جوعوا عملوا وصبروا، قالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل على أهله فيقول: هل عندكم من شيء فإن قالوا نعم أكل، وإن قالوا لا قال إني صائم، وكان يقدم إليه الشيء فيقول: أما إني كنت أردت الصوم ثم يأكل، وفي الخبر: أنه خرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومًا فقال: إني صائم ثم دخل فقالت عائشة: قد أهدي لنا حيس فقال: قد كنت أردت الصوم ولكن قرّبيه وكانت بينه وبين الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 علامة في فطره وصومه، كان الوجود علامة فطرة يكون مرادًا به وكان العدم علامة صومه يكون معه مرادًا، وعلى المعنى تصريف قلوب العارفين ومن هذه المشكاة تضيء بصائر الشاهدين ولا يوكلون إلى حال، ولا يوقفون مع مقام، ولا تصحّ هذه الثلاث إلاّ بثلاث خلال: أحدها عدم الهوى وتوقان النفس بالعادة، والثانية: أن يكون له في أكله نية كما له في صومه نية فيكون أكله لله فيستوي أكله وصومه إذ كان العامل فيهما واحدًا، والثالثة أن يحفظ الجوارح الست بحسن الرعاية فيكون صائماً بما هو فرض علىه وأفضل له؛ وهنّ البصر، والسمع، واللسان، والقلب، واليد، والرجل، ويكون مفطراً بالبطن والفرج فيكون ما حفظ أكثر وأبلغ وأحب إلى الله عزّ وجلّ، ويكون أفضل ممن صام بجارحتىن؛ فإن لم يكن من أصبح صائمًا ثم أفطر بهذه الأوصاف الثلاث دخلت علىه الشهوة الخفيّة التي فسّرها رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد روينا أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: أخاف علىكم الرياء والشهوة الخفيّة فقال: أن يصبح أحدكم صائمًا ثم يعرض له الطعام يشتهيه فيفطر لأجله فالأفضل لمن عقد لله صومًا أن يتمه، فإن فسخه لغير الله تعالى عوقب على ذلك من عقوبات القلوب أو عقوبات الجوارح في طرقات الآخرة؛ فتلك عقوبة ترك فضائل الأعمال، وفي خبر: نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح، هكذا رويناه، وقيل لبشر بن الحارث: إنّ فلاناً الغني يصوم الدهر، فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره، إنما حاله أن يطعم الجياع، ويكسو العراة، ويواسي المحتاجين؛ فهذا أفضل له من صيامه الدهر، ثم قال بشر: عبادة الغني كروضة على مزبلة، وعبادة الفقير كعقد الجوهر في جيد الحسناء، ودخل سفيان الثوري يوماً على أبي إسحاق الفزاري فقدم إليه قصعة فيها خبيص، فقل: لولا أني صائم لأكلت معك، فقال الفزاري: دخل عليّ أخوك إبراهيم بن أدهم فقعد في موضعك هذا فقدمت إليه خبيصاً في هذه القصعة فأكل، فلما أراد الانصراف قال: إني كنت صائمًا إلاّ إني أحببت أن آكل معك أسرّك بذلك، قال: فوضع الثور ي يده وجعل يأكل وتأدب بإبراهيم، وحدثونا عن سهل رحمه الله أنه سئل كيف كان في بدايته فأخبر بضروب من الرياضيات منها أنه كان يقتات ورق النبق مدة، ومنها أنه أكل دقاق التبن ثلاث سنين، ثم ذكر أنه اقتات ثلاثة دراهم في ثلاث سنين، قيل: وما هو؟ قال: كنت أشتري في كل سنة بدانقين تمراً وأربعة دوانق كسباً، ثم أعجنها عجنة ثم أجزئها ثلاثمائة وستين كبة أفطر في كل ليلة على كبة قال فقلت له فكيف أنت في وقتك هذا قال آكل بلا حدّ ولا توقيت. وقد كان معروف الكرخي يهدي إليه طيّبات الطعام فيأكل فيقال له: إنّ أخاك بشرًا لا يأكل من هذا، فيقول: أخي بشر قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، ثم قال: إنما أنا ضيف في دار مولاي إذا أطعمني أكلت، وإذا جوّعني صبرت، ما لي والاعتراض والتخّير؟ وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 بعض إخوان بشر الحافي: دخلت عليه وهو يأكل فقال لي: كل، فقلت: إني صائم، فناولني كسرة وقال لي: كل، فأكلتها، فقال: سلمت من آفة الصوم وأدخلت عليّ السرور، وكان بشر رحمه الله قد أصبح ذات يوم صائماً فزاره فتح الموصلي، قال حسين المغازلي: فدفع إليّ كفّاً من دراهم فقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام وأطيب ما تجد من الحلاوة وأطيب ما تجد من الطيب، قال: وما قال لي مثل ذلك قط، ففعلت فوضعت الطعام بين أيديهم فجعل يأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، وكان بعض هذه الطائفة يقول: إذ أعطاك مولاك بقطعة فقد شهاك أن تشتري ما تشاء وتشتهي، وإن أعطاك مأكولاً بعينه فكل ذاك ولا تتخير سواه، ودفع إبراهيم بن أدهم إلى بعض أخوانه دراهم فقال: خذ لنا بهذه زبدًا وعسلاً وخبزاً حورانياً، فقلت: يا أبا إسحاق بهذا كله؟ فقال: ويحك إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال، وأصلح ذات يوم طعامًا فأكثر ودعا نفرًا يسيرًا منهم الثوري والأوزاعي فقال له: أما تخاف أن يكون هذا إسرافًا؟ فقال: ليس في الطعام إسراف، إنما الإسراف في الأثاث واللباس، وهكذا حكي عن سيرة السلف، قال: كانوا في الرجال مخاصيب وكان في الزي والثياب تقصير، وفي الخبر أنّ رجلاً صنع طعامًا فدعا إليه بعض أخوانه فقال: إني صائم، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: صنع لك أخوك طعامًا فلم تأكل ألا أفطرت يومًا مكانه. وحدثونا عن بعض العلماء أنه كان قاضيًا بصنعاء فدخل على أمير صنعاء فحضر وقت غدائه فعرض عليه الأكل فقال: إني صائم، فلما أخذ الأمير في الأكل وهو يحدثه إذ نظر القاضي فإذا قد جاؤوا بجمل مشوي، فجعل القاضي يزحف ويتقدم إلى المائدة، ثم مدّ يده يأكل، فقال له الأمير: ألم تقل إني صائم، فقال: أيها الأمير أنا على قضاء يوم أصومه أقدر مني على قضاء مثل هذا الجمل، وكان أبو سليمان الداراني يقول: لا تضرّ الشهوات من لم يتكلفها إنما تضرّ من حرص عليها، وكان يدعو أصحابه فيقدم إليه م الطيبات فيقولون له تنهانا عنها وتقدمها إلىنا؟ فال: لأني أعلم أنكم تشتهونها فتأكلونها عندي خيرًا، ولو جاءني من يزهد ما زدته على الملح شيئاً، وكان يقول: أكل الطيبات يورث الرضا عن الله تعالى، وقال بعض الخلفاء: شرب الماء بثلج يخلص الشكر لله تعالى وأوحى الله سبحانه إلى بعض أوليائه: أدرك لي لطف الفطنة وخفيّ اللطف فإني أحبّ ذلك، قال: ياربّ وما ألطف الفطنة؟ قال: إذا وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أوقعتها فسلني حتى أدفعها، قال: وما خفيّ اللطف؟ قال: إذا أتاك فولة مسوسة فأعلم إني ذكرتك بها فاشكرني عليها وأوحي إلى بعض الأنبياء: لا تنظر إلى قلّة الهدية، وانظر إلى عظمة مهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها؛ فإذا أصابك فقر وضرّ فلا تشكني إلى خلقي كما إذا صعدت مساوئك لم أشكك إلى ملائكتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 الفصل الأربعون فيه كتاب الأطعمة وذكر ما يجمع الأكل من السنن والآداب وما يشتمل على الطعام من الكراهة والاستحباب: قال الله الجليل جلّ جلاله: (يَا أَيُهَا الذَّي آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقنْاكُمْ واشْكُرُوا الله) البقرة: 172، فقدم الأمر بالأكل على الأمر بالشكر، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لا تَأكُلُوا أمْوَاَلكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ) النساء: 29، فقدم النهي عن الأكل للحرام على القتل للنفس تفضيلاً للأكل الحلال وتعظيمًا للأكل بالباطل، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الرجل ليؤجر حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه أو إلى في امرأته وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أطعم المسلم نفسه وأهل بيته فهو صدقة له، وسئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإيمان؟ فقال: إطعام الطعام وبذل السلام، وقال عليه السلام في الكفّارات والدرجات: إطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام، وسئل عن الحجّ المبرور فقال: إطعام الطعام ولين الكلام، وكان ابن عمر يقول: من كرم الرجل طيب زاده في سفره وبذله لأصحابه، وروينا عن عليّ عليه السلام لأن أجمع إخواني على صاع من طعام أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة. ورينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إذا وضع الطعام وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء قبل الصلاة، قال: فكان ابن عمر ربما سمع الإقامة وقراءة الإمام فلا يقوم من عشائه، وعن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفضل الطعام ما كثرت عليه الأيدي، وقال عليه السلام: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ويصحّ البصر يعني به غسل اليد، وقال أحمد بن حنبل: الأكل من الطيب قدمه الله عزّ وجلّ على العمل، فقال عزّ وجلّ: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) المؤمنون: 51، وكان سهل يقول: من لم يحسن أدب الأكل لم يحسن أدب العمل، قال: والذي يتصنّع في الأكل هو الذي يتصنع في العمل، وقل مرة الذي يؤدي في الأكل هو الذي يؤدي في الصلاة، وكان بعض السلف يقول: إني لأحبّ أن يكون لي نية في كل شيء حتى في الأكل والنوم، وقد كان السلف الصالح يكون لأحدهم في الأكل نية صالحة كما يكون له في الجوع نية صالحة، والذي يأكل بغير نية الآخرة للعادة والشهوة والمتعة قد يجوع لغيره الآخرة للعادة والشهوة أيضًا والتزين للخلق، وهذا من دقيق آفات النفوس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 فحسن من يأكل بنية الآخرة ولأجل الله سبحانه وتعالى كحسن من جاع لله تعالى وبنية الآخرة، وإلا كان من أبواب الدنيا، فالطعام والأكل يشتمل على مائة وسبعين خصلة ما بين فرض، وسنّة، وأدب، وفضيلة، واستحباب، وكراهة، ومروءة، وفتوة من طريق السلف وصنائع العرب؛ أول ذلك أن يكون المأكول حلالاً، وعلامة الحلال ثلاث: تكون عينه معروفة لم يخالطها عين ذمها العلم من ظلم وخيانة، ويكون سببه مباحًا لم تحتوه بسبب محظور في الشرع لأجل هوى أو مداهنة في دين ودنيا، ويكون قد وافق فيه حكم السنّة لا يكون على وصف مكروه، ثم ينوي بالأكل التقوى على البرّ والتقوى والاستعانة على خدمة المولى، ويعرف النعمة فيها أنها من المنعم وحده لا شريك له فيها، ويعتقد الشكر له عليها، ويؤثر التقلل على الاتساع، والقناعة على الحرص، والأدب فيه على الشره، ثم غسل اليد في أوله للاستحباب، وفي آخره للنظافة والتسمية في أوله، والحمد في آخره، والأكل باليمين، ويبتدئ بالملح ويختم به وأن لا يذم مأكولاً ولا يعيبه إن أعجبه أكل وإلا تركه والقناعة بالمأكول من القسم والرضا بالموجود من الرزق وأن تكثر الأيدي على الطعام. وفي الخبر: اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه وتصغير اللقمة وتجويد المضغ، وأن لا ينظر في وجوه الآكلين، ولا يفقد مأكلهم، وأن يقعد على رجله اليسرى وينصب اليمنى، ولا يأكل متكئًا ولا مضطجعاً، ولا يكون أول من يبتدئ بالأكل حتى يسبق صاحب المنزل، والأكبر فالأكبر إلاّ أن يكون إماماً يقتدى به، أو يكون القوم منقبضين فيبسطهم بالابتداء، ولا يجمع بين التمر والنوى في طبق ولا يجمعهما في كفه، وليضع النواة على ظهر كفه من فيه، ثم يلقيها كذلك وما كان في معناه مما له عجم أو ثفل، ويستحبّ أنّ يأكل من التمر وترًا سبعًا أو إحدى عشرة وإحدى وعشرين، وأن يفطر على رطب إن وجده، وإلاّ فتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، وكان وهب بن منبه يقول: الصائم يزيغ بصره، فإذا أفطر على حلاوة رجع بصره، ولايقرن بين تمرتين في الجماعة إلاّ أنْ يفعلوا ذلك أو يستأذنهم، وأنْ يأكل بعد الجوع، ويرفع يده قبل الامتلاء بمقدار ثلث بطنه أو نصفه، كذلك سنّة السلف وهو أصحح للجسم، وقال حكيم من أهل الطبّ: إن الدواء الذي لا داء فيه هو أنْ لاتأكل الطعام حتى تشتهيه وترفع يديك عنه وأنت تشتهيه، وفي الخبر: أصل كل داء البردة، يقال: هي التخمة، ويقال في اختيار الحكماء: إنّ خادماً لأرسطاطاليس استقضى رجلاً من أهل السواد حاجة له فلم يفعل، فقال له: لعلك تحتاج إليه، فقال: ما لي إليه من حاجة، فأخبر الخادم الحكيم بذلك، فقال: إن كان يأكل بعد الجوع ويرفع قبل الشبع ويتقلل بين ذلك فقد صدق ما له إلىنا من حاجة، وقد أحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بقوله: ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن حسب ابن آدم لقيمات يشد بهّن صلبه فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وثلث للنفس والطعام، إنما وضع دواء من داء الجوع، إذا وجدته عالجته به، فإذا لم تجده صار الأكل داء، لأنّ التأذّي بالأكل مثل التأذّي بالجوع أو أشد، وليأكل ما يليه إلاّ الفاكهة له أن يجيل يده فيها ويأكل بثلاثة أصابع، إلا الثريد فليأكل بأصابعه كلها، وأن لا يأكل من ذروة القصعة ولا وسط الطعام، وليأكل من نواحيه، وأن لايصمتوا على الطعام فإنه من سيرة العجم فليتكلموا بالمعروف، ولا يقطع اللحم بالسكين، فقد نهى عن ذلك، ولكن انهشوه نهشًا، ولا يقطع الخبر بالسكين ويأكل من استدارة الرغيف، إلاّ أن يكون في الخبز قلة وفي الآكلين كثرة، فيستعان بتكسير الخبز على التفرقة، ولا يكثر قول: كل على، أخيه فإن ذلك يحشمه وربما قطعه، ولا ينبغي لأخيه أن يحوجه إلى تفقده في الأكل وتكرير قوله له: كل. وقال بعض الأدباء: أحسن الآكلين أكلاً من لم يحوج صاحبه إلى تفقده في الأكل، ومن حمل على أخيه مؤونة القول، ولايدع شيئًا من المأكول يشتهيه لأجل نظر الغير إليه، فإنه من التصنّع، فإن تركه إيثارًا لإخوانه أو قدمه إلى أخيه فحسن، ولا ينقص من أكله المعتاد في الوحدة، وإن زاد لأجل مساعدة الجماعة أو بنية فضل الأكل مع الإخوان فلا بأس بذلك، والشرب في تضاعيف الأكل متسحبّ من جهة الطب مما لم يبتدئ به أو يكثر منه، يقال: إنه دباغ المعدة، والشرب متكئًا مكروه للمعدة أيضًا من جهة الطب، والأكل متكئاً ونائماً ليس من السنّة إلاّ ما يتناول أو يتنقل به من الحبوب وما في معناها، وقد رؤي علي رضي الله عنه وهو يأكل على ترس مضطجعًا كعكًا، ويقال: منبطحًا على بطنه، والعرب تفعله، وفي الخبر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه، واملكوا العجين فإنه أعظم للبركة، وما ردّ له من المأكول مع الجماعة فلا يرده في القصعة مع الثقل، فيأكله غيره، إن وقع بيده أكله وإلاّ تركه مع الثقل، ولا نتمم الخلّ بالدسم ليطبع بالخل قبل اللحم، ويقال: إنّ الملائكة تحضر المائدة إذا كان عليها بقل، وفي الخبر: أن المائدة التي أنزلت على بني إسرائيل من السماء كان عليها من كل البقول إلاّ الكرّاث، وكان فيها سمكة عند رأسها خلّ وعند ذنبها ملح، وكان عليها سبعة أرغفة على كل رغيف زيتونتان وحبّ رمان، فهذا من أحسن الطعام إذا اتفق، فإن لم يكن فكما قال بعض الأدباء: إذا دعوت إخوانك فقدمت إليه م حصرمية وبورانية وسقيتهم ماء بارداً فقد أكملت الضيافة، ودعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 بعض الرؤساء إخوانه فأنفق مائتي درهم، فقال له بعض الحكماء: لم تكن تحتاج إلى هذا كله إذا كان خبزك جيداً وخلك حامضاً وماؤك بارداً فهو كفاية، وقال بعضهم: الحلاوة بعد الطعام خير من كثرة الألوان، والتمكن على المائدة خير من زيادة لونين، وقال آخر: شرب الماء البارد على الطعام خيرمن زيادة الألوان، وقال أبو سليمان الداراني: أكل الطيّبات يورث الرضا عن الله عزّ وجلّ، وقال المأمون رحمه الله: شرب الماء بثلج يخلص الشكر لله عزّو جلّ. وقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن إكرام الضيف تعجيل الطعام لهم، وأفضل ما قدم إليهم اللحم، وخير اللحم السمين النضيج؛ فإن كان بعد اللحم حلاوة فقد جمع لهم الطيّبات، ينتظم هذه المعاني قوله عزّ وجلّ: (هَلْ أَتَاكَ حديثُ ضَيْفِ إبْراهيمَ المُكْرَمَينَ) الذاريات: 24، قيل في المكرمين قولان؛ أحدهما: خدمته إياهم بنفسه، والثاني أكرمهم بتعجيل الطعام إليه م، قوله تعالى: (فَمَا لَبثَ أنْ جَاءَ بِعْجِلٍ حنيذ) هود: 69 أي فما احتبس ولا أقام والحنيذ النضيج، وقال تعالى: (فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعْجِلٍ سمين) الذاريات: 26، الروغان: الذهاب بسرعة، وقيل: الذهاب بخفية، وقيل: إنه جاء بفخذ من لحم فسمى عجلاً لأنه عجله ولم يلبث به، ثم وصف بأنه سمين نضيج، يقال: حنيذ ومحنوذ أيضًا، قال: كان نضيجًا، وقال في وصف الطيّبات: (وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى) البقرة: 57 المن: العسل، والسلوى: اللحم، سمي سلوى لأنه يسلى به عن جميع الأدام، إنّ فيه غنية عن جميعها، وليس في كلها مقامه، ثم قال تعالى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما رزقْناكُمْ) البقرة: 57، فاللحم والحلاوة من طيّبات الرزق، وليأكل الرجل في منزل أخيه سجية أكله في منزله بغير تكلّف ولاتزين، لأنه قد يدخل من الرياء والتزين في الطعام مثل ما يدخل في سائر الأعمال من الصلاة والصيام؛ والأكل عمل وكل عمل يحتاج إلى نية وإخلاص، فلتكن نيته في أكله الاستعانة على الطاعة، ولتكن نيته مع إخوانه إكرامهم بذلك وإدخال السرور عليهم والتبرك بالجماعة، لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجماعة بركة، وينوي إقامة السنّة في إجابة الدعوة ليكون مأجورًا في أكله، عاملاً في جميع ذلك بسنّة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا كله داخل في حسن الخلق، وهو في معنى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وقد قال بعضهم: هو الرجل يسأل إخوانه أنْ يفطر معهم نهارًا، أو يسهر معهم ليلاً، ويكون من عادته الصيام والقيام، فيساعدهم تخلقًا معهم فيدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم. وقال بعض العلماء من أهل الأدب: ليس من السنّة والمروءة أن يزور الرجل إخوانه فيتشاغل عنهم بالصلاة النافلة، أو يستزيره إخوانه فيقدمون إليه الطعام فلا يساعدهم عليه لأجل الصيام ولايقصر عن بغيته من الأكول فيترك الأكل مع حاجته إليه، فإنه غير محمود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 ولا مأجور عليه إن لم يكن سبب أوجب عليه ذلك، وقال جعفربن محمد عليه السلام: أحبّ إخوان إلىّ أكثرهم أكلاً وأعظمهم لقمة وأثقلهم عليّ من يحوجني إلى تعاهده في الأكل، وقال أيضاً: يتبيّن محبة الرجل لأخيه بجودة أكله في منزله، فإن قلل الأكل مع الفقراء إيثارًا لهم أو لقلة الطعام فحسن. وروينا أنّ سفيان الثوري دعا إبراهيم بن أدهم وأصحابه إلى طعام فقصروا في الأكل، فلما رفعوا الطعام قال له الثوري: إنك قصرت في الأكل فقال إبراهيم: لأنك قصرت في الطعام فقصرنا في الأكل، قال: ودعا إبراهيم الثوري وأصحابه إلى طعام فأكثر منه فقال له: يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام سرف، وليلعق أصابعه قبل أنْ يمسحها بالخرقة، وليأكل ما سقط من فتات الطعام، يقال: إنه مهور الحور العين يقال: من لعق الصحفة وشرب ماءها، كان له عتق رقبة، وإنْ أكل حلالاً فليقل: الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات وتنزل البركات، اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وأطعمنا طيبًا، واستعملنا صالحًا، وليكثر شكر الله تعالى على ذلك، وإنْ أكل شبهة فليقل: الحمد لله على كل حال، اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سينا محمد، ولا تجعله قوّة لنا على معصيتك، وليكثر الحزن والاستغفار، وفي خبر: إذا دعي أحدكم إلى طعام فلم يجب فلا يقل: كل هنيئًا، فلعله يكون أخذه من غير حله، ولكن ليقل: أطعمك الله طيبًا وليقل إذا أكل لبناً: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، وبارك لنا فيما رزقتنا، وارزقنا خيراً منه. كذلك روي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: لأن اللبن أعمّ نفعًا من غيره، وليقل في أول لقمة: بسم الله، وفي الثانية: بسم الله الرحمن، وفي الثالثة: بسم الله الرحمن الرحيم، وليشرب الكوز في ثلاثة أنفاس يقطعه، وليقل في أول جرعة: الحمد لله وفي الثانية: الحمد لله رب العالمين، وفي الثالثة يزيد: الرحمن الرحيم، وإن سمى في أول كل لقمة فحسن، وليقرأ بعد فراغه من الطعام: قل هو الله أحد ولإيلاف قريش وتقديم الفاكهة قبل الطعام أوفق، وفي كتاب الله عزّ وجلّ ترتيب ذلك من قوله سبحانه وتعالى: (وفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرون) الواقعة: 2، (ولَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) الواقعة: 21، ولا يرفع يده قبل إخوانه إذا كانوا يحتشمون أو يحتاجون إلى بسط، فإن كان قليل الأكل تربّص حتى يضعوا أيديهم فيأكلوا صدراً من الطعام، ثم يقعد بعدهم ليستوي أكله مع أكلهم، فإن كانوا علماء لم يكرهوا ذلك منه، وقد فعله كثير من الصحابة، ولا يتكلف لإخوانه من المأكول ما يثقل عليه ثمنه أو يأخذه بدين أو يكتسبه بمشقة أو من شبهة ولا يدّخر عنهم ما بحضرته ولا يستأثر بشيء دونهم ولا يضرّ بعياله. وروينا أنّ رجلاً دعا عليّاً رضي الله عنه إلى منزله فقال: أجيبك على شرائط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 ثلاث؛ لا تدخل من السوق شيئًا، ولاتدّخر ما في البيت، ولاتجحف بعيالك، وقد كان من سيرة السلف إذا دعا أحدهم أخاه قدم جميع ما بحضرته أو أخرج من كل شيء عنده شيئاً، وكان بعض الرؤساء من الأجواد إذا دعا الناس إلى طعامه يدعو الخباز فيقول: أعلم الناس بما عندك من الألوان، قال: ثم يدعهم يأكلون حتى إذا قاربوا الفراغ جثاً على ركبتيه ومدّ يده إلى الطعام فأكل، وقال: ساعدوني بارك الله عليكم، فكان السلف يسحسنون ذلك منه وليس من السنّة أن يقصد الرجل قومًا يتحيّن حضور طعامهم ليصادفه؛ فإن ذلك من المفاجأة، فقد نهى عنه قال الله سبحانه تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبيّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طعام غَيْرَ ناظرين إناهُ) لأحزاب: 53 يعني منتظرين حينه ونضجه، وفي الخبر: من مشى إلى طعام لم يدع إليه مشى فاسقًا وأكل حراماً، ولكن إن صادفهم يأكلون فسألوه أن يأكل معهم، وعلم أنهم يحبون أكله معهم فلا بأس، وليس ذلك داخلاً في المفاجأة، فإن لم يعلم أنهم يحبون أن يأكل معهم وإنما قالوه تعزيزاً وحياء كرهت له الأكل معهم، وإن كان جائعاً فقصد بعض إخوانه ليطعمه ولم يتحيّن وقت أكله فلا بأس بذلك، قد قصد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهم منزل أبي الهيثم بن التيهان وأبا أيوب الأنصاريين لأجل طعام يأكلونه وكانوا جياعًا، ومن السنّة أن يخرج الرجل مع ضيفه إذا انصرف إلى باب الدار، وليس من السنّة أن يخرج الضيف من النزل عن غير إذن صاحبه ولا أن يقيم للضيافة فوق ثلاثة أيام حتى يخرجه أويتبّرم به يتأثر في ذلك. وقال بعضهم: إذا قصدت للزيارة فقدّم ما حضر، وإذا استزرت فلا تبقَ ولا تذر، وفي الخبر: دخلناعلى جابر بن عبد لله فقدم إلىنا خبزًا وخلاة وقال: لولا أنّا نهينا عن التكلّف لتكلفت لكم، وفي حديث يونس عليه السلام أنه زاره إخوانه فقدّم إليهم كسراً من شعير، وخبز لهم بقلاً كان يزرعه ثم قال: كلوا لولا أنّ الله تبارك وتعالى لعن المتكلفين لتكلفت لكم، وروينا عن أنس بن مالك وغيره من الصحابة: كانوا يقدمون إلى إخوانهم ما حضر من الكسر اليابسة والحشف من التمر والدقل ويقولون: لا ندري أيهما أعظم وزرًا الذي يحتقر ما يقدّم إليه أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدّمه. وقد روينا في معناه خبراً مسنداً وقد كان أنس وغيره يقدمون ما عندهم إلى إخوانهم ويقولون إنّ الاجتماع على الطعام من مكارم الأخلاق، وفي الخبر: أنّ أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يجتمعون على قراءة القران ولاذكر ولا يفطرون إلاّ عن ذواق ولا ينبغي للمدعو أن يقترح على الداعي شيئًا بعينه فيقول: أريد كذا، فليس ذلك من القناعة، فإن خيّره أخوه بين طعامين فليختر أقربهما منه وأيسرهما عليه كذلك السنة، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما خيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما، وحدثونا عن الأعمش عن أبي وائل قال: مضيت مع صاحب لي إلى سلمان نزره فقدم إلىنا خبز شعير وملحًا جريشًا، فقال صاحبي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 لو كان في هذا الملح سعتر لكان أطيب، فخرج سلمان فرهن مطهرته وأخذ سعترًا، فما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال سلمان: لو قنعت بما رزقت لم تكن مطهرتي مرهونة، فإن كان أخوه ممن يأنس به وعلم أنّ اقتراحه عليه مما يحبّه فلا بأس بذلك، قد فعله الشافعي مع الزعفراني رحمها الله تعالى، كن نازلاً عليه ببغداد فكانا يخرجان يوم الجمعة إلى الصلاة، فكان الزعفراني يكتب في رقعة للجارية ما تصلح من الألوان، فدعا الشافعي ذات يوم الجارية فنظر فيها ثم زاد لوناً اشتهاه، فلما جاء الزعفراني وقدّمت الجارية ذلك اللون أنكره، إذ لم يأمرها به فسألها عنه فأخبرته أنّ الشافعي زاد ذلك في الرقعة، فقال: أريني الرقعة، فلما نظر إلى خط الشافعي في الرقعة بذلك اللون فرح بذلك وأعجبه، فقال: أنت حرة لوجه الله تعالى فأعتقها سروراً منه بفعل الشافعي ذلك، وإليه نسب درب الزعفراني بباب الشعير في الجانب الغربي من بغداد، فإن شهاه أخوه وسأله فلا بأس أن يذكر له شهوة ليصنعها فيعينه على فضيلتها. فقد روينا في فضل ذلك غير حديث، منها الحديث المشهور: من صادف من أخيه شهوة غفر له، ومن سرّ أخاه الممؤمن فقد سرّ الله عزّ وجلّ، وروينا عن ابن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لذذ أخاه بما يشتهي كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف درجة، وأطعمه الله تعالى من ثلاث جنات؛ جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة الخلد، والخلال بعد الأكل حسن فلا يبين عنه، ولا بأس بغسل اليد في الطست وليس من الأدب التنخم فيه. وروينا أنّ أنس بن مالك اجتمع هو وثابت البناني على طعام فقدّم الطست إلى ثابت ليغسل يده فامتنع، فقال أنس: إذا أكرمك أخوك فاقبل كرامته ولاتردّه فإنه إنما يكرم الله عزّ وجلّ، وروى أنّ هارون الرشيد دعا أبا معاوية الضرير فصبّ الرجل على يده في الطست، فلما فرغ قال له: يا أبا معاوية تدري من صب على يدك؟ قال: لا، قال أمير المؤمنين قال: يا أمير المؤمنين، إنما أكرمت العلم وأجللته فأجلّك الله عزّ وجلّ وأكرمك، كما أجلت العم وأكرمته، وأكره قيام الخادم أحبّ إلى أن يصبّ على يده جالسًا، واجتماع الاثنين أو الثلاثة في غسل اليد وجمع مائهم المستعمل في مرة واحدة في الطست حسن؛ وهو من التواضع، ومن انفرد بغسل يده وحده فلا بأس أن يتنخم في الطست، ومن بزق فيه بعد أن يرفع ويفرغ من غسل يده فلا بأس. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: لا يرفع الطست من بين يدي القوم إلاّ مملوءاً ولا تشبّهوا بالعجم، وقد رويناه عن ابن مسعود أنه قال: اجتمعوا على غسل اليد في طست واحد ولا تستسنوا بسنّة العجم، ولا يزدردن ما أخرج الخلال من أسنانه فإنه داء ومكروه، وما لاكه بأسنانه فلا بأس أن يزدرد وليتمضمض بعد الخلال ففيه أثر عن بعض أهل البيت عليهم السلام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وليقل عند فراغه من الطعام: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وأوانا سيدنا ومولانا، ياكافي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، أطعمت من جوع وأمنت من خوف، لك الحمد، أويت من يتم، وهديت من ضلالة، وأغنيت من عيلة، لك الحمد حمداً كثيراً دائماً طيباً نافعاً مباركاً فيه، كما أنت أهله ومستحقّه، اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأطعمنا طيباً واستعملنا صالحاً لجعله عونًا لنا على طاعتك ونعوذ بك أن نستعين به على معاصيك. وفي الأكل مع الإخوان ثلاث فضائل: روي عن جعفر بن محمد عليهما السلام: إذا قعدتم مع الإخوان على المائدة فأطيلوا الجلوس فإنها ساعة لا تحتسب عليكم من أعماركم، وقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تزال الملائكة تصلّي على أحدكم ما دامت مائدته موضوعة بين يديه حتى ترفع. وروي عن الحسن البصري رحمه الله: كل نفقة ينفقها الرجل على نفسه وأبويه فمن دونهم يحاسب عليها إلا نفقة الرجل إذا دعا إخوانه إلى طعام، فإن الله سبحانه وتعالى يستحي أن يسأله عن ذلك، وقد روي عن بعض علماء خراسان أنه كان إذا دعا إخوانه قدّم إليه م نحو القفيز من صوف الأطعمة والحبوب والفواكه اليابسة فسئل عن ذلك فقال: بلغنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الإخوان إذا رفعوا أيديهم عن الطعام لم يحاسب من أكل فضل ذلك الطعام، فأنا أحبّ أن أستكثر مما أقدّم إلىكم لنأكل فضل ذلك، وفي خبر عن بعض السلف: لا يحاسب العبد على ما يأكله مع إخوانه، فكان بعضهم يكثر من الأكل في الجماعة ويتقلّل إذا أكل وحده، وفي الخبر: ثلاث لا يحاسب عليها العبد، أكلة السحور وما أفطر عليه والأكل مع الإخوان، ومن لم يكن له نية في تقديم فضول الأطعم بهذا الخبر، فإني أكره أن يقدّم من الطعام إلاّ ما يريد أن يؤكل، ولا يترك منه شيء ولا يستثنى هو ولا أهل البيت في أنفسهم رجوع شيء منه، وإلاّ كان ما يقدمه مما ينوي رجوع بعضه، ولا يحبّ أكل كله تصنّعًا ومباهاة، فإن علم بذلك من قدم إليه لم استحب له في الورع في أن يأكل منه لأن المأكول إذا قدّم ليؤكل بعضه فهو تصنّع وتزيّن، لا يصنع الورعون ذلك ولا يأكل المتّقون من هذا، لأنه لا يدري كم مقدار ما يحبون أن يأكلوا منه. وروينا عن ابن مسعود قال: نهينا أن نجيب دعوة من يباهي بطعامه، وقد كره جماعة من الصحابة أكل طعام المباهاة والمباداة، وهذا مكروه لم يقدمه بهذه النية إلى إخوانه لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 قد عرضهم لتناول ما يكرهون، وقد دلس عليهم ما لا يعلمون، وأيضًا فإنه شيء قد قدّم لأجل الله تعالى فلا يصلح أن يستثنى ارتجاع شيء منه بمنزلة من يخرج الرغيف أو الشيء إلى السائل فيجده قد انصرف فكره أن يرجع فيه فيأكله، وقال: يعزله حتى يأتي سائل آخر فيدفعه إليه. وكان بعض أهل الحديث إذا أكل مع إخوانه ترك من الطعام على رغيف يعزله معه وكان سيّار بن حاتم إذا حضر على مائدة أكل لقيمات، ثم يقول: اعزلوا نصيبي، وأكل ذات يوم على مائدة في جماعة فلما جاءت الحلوى نزع قلنسوته، ثم قال: اجعلوا نصيبي في هذه، فينبغي أن يعزل أنصبة أهل البيت قبل تقديم الطعام إلى إخوانه كيلا يحدثوا نفوسهم برجوع شيء منه فإنه مكروه لهم، ولعله لا يرجع شيء منه فيكون ذلك إحراجًا من الآكلين ومنقصة لهم؛ وهذا عليهم أشدّ من إكرامهم بالطعام، أن يكون ذلك مضرّاً بالأهل فيكون مضيعًا للأصل، ولا ينبغي له أن يقدّم إلاّ ما يحبّ أن يأكلوه من كل شيء أيضاً ومقدار الحاجة والكفاية من المأكول فيجمع بين السنّة والفضيلة. روي في الخبر: ما رفع من بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضلة طعام قط؛ هذا لأنهم كانوا مخلصين في كل شيء فلا يقومون إلا كفايتهم، ولا يأكلون إلاّ بعد جوعهم، ولا يتركون الأكل وفي نفوسهم منه شيء وللاقتصار الذي كان فيهم، ففيما ذكرناه من تقديم الكفاية لئلا يرد فضول الأطعمة موافقة للسنّة، وفي تقديم المأكول ليرجع أكثره نية حسنة، لما جاء فيه: أن من أكل ما فضل من الإخوان لم يحاسب عليه، ومن كان في جماعة فلا يأمر بتأخير الطعام فلعل فيهم من يحتاج إلى تقديمه إلا أن يتفقوا على تأخيره فلا يأمر حينئذ بتقديمه لأجل نفسه، وإذا حضر الطعام والصلاة فإنْ كانت نفوسهم تتوق إليه وفي الوقت سعة قدموا الأكل وإن كانت نفوسهم ساكنة أو ضاق الوقت أو خشوا أن يتطاول بهم الأكل صلّوا أوّلاً واستحبّ الأكل على الأرض، كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتى بطعام وضعه على الأرض وكان يأكل مقعياً على قدميه ويقول: لا آكل متكئاً، إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد، وربماجثا للأكل على ركبتيه وجلس على ظهر قدمه، ونصب وجله اليمنى وهي جلسة العرب للأكل إلى اليوم، وإن أكلو على السفر فهو سنّة فيتزود لسفره، وخير الزاد التقوي، وأكره الأكل على الموائد العالية لأنهم كانوا يكرهون أن يعلون الطعام على الأيدي؛ وهذا محدث وليس من التواضع، قال أنس بن مالك: ما أكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حوان ولا في سكرجة قط، قيل: فعلى ما كنتم تأكلون؟ قال: على السفر، وقيل: أول ما أحدثت الأمة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 هذه الأربع: الموائد، والمناخل، والأشنان، والشبع، ومن غسل بأشنان ابتدأ بغسل فيه بعد غسل يده اليمنى، ويجعل الأشنان في بطن كفه اليسرى يابسًا، ثم يغسل فاه حتى ينقيه بأصابعه، ثم يبل الأشنان فيغسل يديه ولايعيد يغسل كفيه وهو فعل ذوي المروءة، وينغي إذا حضرت الألوان أن يبتدئ بتقدمة الألطف فالألطف والأطيب فالأطيب والأمثل أن يبتدئ بالشواء قبل اليريد ويقدم الطباهج قبل السكباج؛ فذلك سنّة العرب ليصادف جوعهم أطيب الطعام فيستوفوا من ذلك أوفر النصيب فيكون أثوب لصاحبه وأقل لأكلهم، فإن احتاجوا إلى مابعده من غليط الألوان والطعام تناولوا منه قليلاً، فإنما قدم أهل الدنيا اللون الغليظ على اللطيف ليتسع أكفهم وتنفتق شهوتهم، فيكون اللون اللطيف في موضع آخر، وليكونوا قد أكلوا من اللون الأجود الأطيب أقلّ؛ وهذا غير مستحبّ عند أبناء الآخرة، وقد كان من سنّة المتقدمين أن يقدّموا جملة الألوان في مكان واحد مما يشتهي، وليكون ماتقدّم معلومًا لهم وقال لهم إذ لم يكن عنده إلاّ لون واحد: ليس يحضر إلاّ هذا ليستوفوا منه ولايتطلعوا إلى غيره كان صوابًا، حدثني بعض شيوخنا عن شيخ له قال: قدم إلى بعض أهل الشام لونًا من طبيخ فقلت له عندنا بالعراق يقدم هذا اللون آخر الآلوان فقال لي: هكذا هو عندنا بالشام، قال: فاستحييت إذ لم يكن عنده غير ذلك اللون، وقال لي آخر: كنا في جماعة عند رجل فجعل يقدّم إلينا ألوان الرؤوس منها طبيخًا وقديدًا فجعلنا نقصر في الأكل نتوقع بعده الألوان وجملاً أو جدياً، قال: فجاءنا بالطست ولم يقدّم غيرها، فقال لي بعض الشيوخ من أهل التصوّف وكان مزّاحاً: وهو تعالى يقدر أن يخلق رؤوساً بلا أبدان، قال: فبتنا تلك الليلة جياعاً فطلب بعضنا في آخر الليل خبزًا أو فتيتاً لسحوره وينبغي أن يمكنهم من بقية الألوان ولا يرفعهاحتى يرفعوا أيديهم، فإنه من الأدب، ولعل فيهم ما يكون عنده ما قدّم أشهى إليه مما يقدم بعد، وقد يكون فيهم من به حاجة إلى فضل أكل فينقص عليه برفعه قبل أن يستوفي ما في نفسه. حدثني بعض أصحابنا عن الستوري وكان صوفياً أنه حضر على مائدة أبناء الدنيا وكان فيه بخل، قال: فقدم جملاً فجعلوا يأكلون فلما رآهم يمزقون كل ممزق ضاق صدره فقال: يا غلام ارفع إلى الصبيان قال: فرفع الجمل إلى داخل الدار، فقام الستوري بعد وخلف الجمل فقال صاحب المنزل: إلى أين يا أبا عبد الله فقال: آكل مع الصبيان، فاستحيا الرجل وأمر برد الجمل حتى استوفوا منه، وكان سفيان الثوري يقول: من دعا رجلاً إلى طعامه وهويحبّ أن لا يجيبه فإن لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 يجب كتبت عليه خطيئة، وإن أجاب كتبت عليه خطيئتان؛ فالمعنى في الخطيئة الأولى لأنه أظهر بلسانه خلاف ما في قلبه فتصنّع بالكلام وهذا من السمعة وداخل في محبة أن يحمد بما لم يفعل، والمعنى في الخطيئتين أنه أجابه أخوه، فالخطيئة الثانية لأنه حمل أخاه على ما لم يعلم حقيقته منه وعرضه لما يكره فلم ينصحه فيما أظهر له من نفسه، لأن أخاه لو علم غير محبّ لإجابته لم يأكل من طعامه، ولأنه قد أدخله في السمعة، فلذلك كانت عليه خطيئة ثانية، وقد كان من المتقدمين من إذا دخل عليه وهو يأكل قوته لم يعرض على إخوانه الأكل إذا لم يحب أن يأكل معه خشية التزين بالقول أو لئلا يعرضهم لما يكرهون. دخل قوم على سمير أبي عاصم، وكان زاهدًا، وهو يأكل فقال: لولا أني أخذته بدين لأطعمتكم منه، وكان بعض السلف يقول في تفسير التكلف: أن تطعم أخاك ما لا تأكله أنت أي لا يكون من مأكلك في الجودة ومما له قيمة فتشق على نفسك بذلك. وكان الفضيل يقول: إنما تقاطع الناس بالتكّلف، يدعو أحدهم أخاه فيكلف له فيقطعه عن الرجوع إليه، وكان بعض السلف يأمر بتقديم ما حضر فإنه أدوم للرجوع، وأذهب لكراهة صاحب المنزل، وقال بعضهم: ما أبالي من أتاني من إخواني فإني لا أتكلف له إنما أقرّب ما عندي، ولو أني تكلّفت ماليس حاضرًا لمللته وكرهت دوام مجيئه، وقال لي بعض الشيوخ: كنت آنس بعض إخواني فكنت أكثر زيارته، فكان يتكلف الأشياء الطيبة فقلت له يومًا: حدثني عن شيء أسألك عنه: إذا كنت وحدك تأكل مثل هذا الذي تقدّمه إليّ؟ قال: لا، قلت: وكذلك أنا في منزلي إذا كنت وحدي لا آكل مثل هذا فلِمَ إذا اجتمعنا نأكله ونحن لا نأكل مثله على الانفراد هذا من التكلف فأما أن تقطع هذا وتقدّم إلىّ ما تأكله على الانفراد أو أقطع مجيئي إلىك، قال: فقطع ذلك، وكان يقدّم ماعنده وما يأكل مثله فدامت معاشرتنا، ومن دعي إلى طعام وعنده إنسان أو جماعة من حيث يعملون فليستثن الواحد أو الجماعة معه، فإنه من السنّة والأدب، فإن دعي وحده أو مع نفر بأعيانهم أو أعدادهم فتبعهم واحد لم يكن في العدد فليذكر للداعي قبل دخولهم إليه ليأذن له معهم، كذلك السنّة ومن دعي في جماعة وفوّض إليه الأمر فيهم فليعرف صاحب المنزل عدتهم قبل مجيئهم ليستعدّ لهم بعد أن يعرض عددهم، من دعا رجلاً في غير دعوة عامة وعنده قوم أو رجل بعينه فليعلمه بمن عنده ليدخل على بصيرة، فلعلّ أن يكون عنده من يكره هذا المدعو لاجتماع معه، أو لعله أن يجيبه لأنه يحسب أن ليس عنده غيره لأن الأكل معاشرة وليس كل إنسان يحبّ أن يعاشر كل أحد خاصة الرؤساء، ومن أكل مع رجل من طعامه فوقف عليه سائل فلا يعطينّ شيئاً إلاّ بأذنه أو يسأل صاحب الطعام حتى يكون هو الذي يعطيه، فإن أعطاه بغير إذن كان الأجر لصاحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 الطعام والوزر عليه، روي ذلك عن أبي الدرداء قال لإنسان كان يأكل معه فأعطى سائلا بغير أمره: لقد كنت غنياً أن يكن الأجر لي والوزر عليك، ومثله لا يدعو إلى طعام غيره أحداً بغير إذن صاحبه ومن دعا خصوص إخوانه فدخل عليه داخل فلا يقعده معهم للأكل وليصرفه أو يفرده عنهم. حدثني بعض أشياخنا عن بعض الخلف الصالح أنه دعا إخوانه من الصوفية على طعام فدخل رجل من العامة فجلس يأكل معهم فقبض على يده ونحاه وقال: هذا عملناه لهؤلاء خاصة لا يصلح أن يكون معهم غيرهم، ثم أفرده بطعام خصّه به وعمله لأجله عوضاً مما فعل ومن دخل عليه داخل وهو يأكل فلا يرفع الطعام فليس ذلك من السنّة ولا من فعل المروءة ولعل الداخل أحوج إليه منه وقد بعث إليه اختباراً له، وإذا عرضت على أخيك الطعام مرة أو مرتين فلا تلحن عليه، وكذلك إذا دعوته فكره فقد قالوا لا تكرم أخاك بما يشقّ عليه ولا تزيدن على ثلاث مرات فإن إلالحاح واللجاج مازاد على ثلاث مرات وليس ذلك من الأدب، قالوا: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خوطب في شيء ثلاثاً لم يراجع بعد ثلاث. وكان الحسن بن عليّ رضي الله عنهما يقول: الطعام أهون من أن يحلف عليه، وقال مرة: من أنْ يدعى إليه ذلك لعظيم حق، وكان الثوري يقول: إذا زارك أخوك فلا تقل له تأكل أو أقدم إليك ولكن قدّم ما عندك، فإن أكل وإلا فارفعه، وكان الحسن وابن المبارك إذا أرادا الغداء أو العشاء فتحابا بهما فمن دخل عرضاً عليه الأكل، وقد كان هذا من سيرة السلف أنهم يفتحون الباب عند حضور الطعام ومن صادف دخوله أكل معهم، ومنهم من كان يقعد في دهليز داره ويفتح الباب فكل من مرّ عليه في الطريق دعاه إلى طعامه من غني أو فقير، وقال بعض التابعين: إلاّ إنّ خياركم آكلكم في الأفنية وأوسعكم آنية وأحلاكم أطلية إلاّ إنّ شراركم آكلكم في الأخبية وأصغركم أطلية، ومن دعا رجلاً إلى طعامه وهويعلم أنّ الأحبّ إليه أن لا يأكل فمكروه له أن يأكل ولا يعبأ بقوله إذا علم منه خلافه، فإن لم يعلم حقيقة ذلك فله أن يجيبه على ظاهر قوله وليس له أن يسيء الظن به، دعا رجل الأحنف بن قيس في سفر إلى طعامه فقال له الأحنف: لعلك من العارضين، قال: وما العارضون؟ قال: الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فسكت الرجل فلم يجبه الأحنف إلى الطعام، وكان الثوري يمشي مع رجل فمّر بباب منزله فعرض عليه الدخول ليأكل عنده فقال له الثوري: أصدقني عن شيء أسألك: أيما أحبّ إليك أدخل أو أنصرف؟ فسكت، فانصرف الثوري، ومن علم من أخيه أنه يحبّ أن يأكل من طعامه فلا بأس أن يأكل بغير إذن لأن علمه بحقيقة حاله ينوب عن إذنه له في الأكل. وقد كان محمد بن واسع وأصحابه يدخلون منزل الحسن فيأكلون مايجدون بغير إذن، وكان الحسن ربما دخل فيجدهم كذلك فيسرّ ويقول هكذا كنا، وروي عنه أنه كان يأكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 من متاع بقال يأخذ من هذه الجونة تينة ومن هذه فستقة فقال له هاشم الأوقص: يا أبا سعيد تأكل من متاع الرجل بغير إذنه؟ فقال: يالكع أما قرآت آية الأكل؟ ثم تلا عليه: (وَلا عَلى أَنْفُسِكُم أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) النور: 61، إلى قوله تعالى: (أوْ صَدىقِكُمْ) النور: 61، ثم قال الحسن الصديق: من استروحت إليه النفس واطمأن إليه القلب فإذا كان كذلك فلا يأذن له في ماله، وجاء قوم إلى منزل سفيان الثوري فلم يجدوه ففتحوا الباب وأنزلوا السفرة فجعلوا يأكلون ما فيها فدخل الثوري فجعل يقول: ذكرتموني أخلاق السلف، هكذا كانوا، وزار قوم بعض التابعين ولم يكن عنده ما يقدمه إليهم، فذهب إلى منزل بعض إخوانه فلم يصادفه في المنزل فدخل فنظر إلى قدر قد طبخها وإلى خبز قد خبزه وغير ذلك فحمله كله فقدّمه إلى أصحابه وقال: كلوا، فجاء رب المنزل فلم ير الطعام، فسأل عنه فقيل له: قد جاء فلان فأخذه، فقال: قد أحسن، فلما لقيه قال: يا أخي إن عادوا فعد، وقد أكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحماً تصدق به على بريرة من غير أن يستأذنها، ولم تكن حاضرة، لعلمه أنها تسرّ بذلك، وقال: إنّ الصدقة قد بلغت محلها هو عليها صدقة ولنا هدية، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رسول الرجل إلى الرجل إذنه أي قد علم بإذنه له في الدخول عليه فأغناه عن الاستئذان، ففي تدبر فعله عليه السلام أنّ من علمت كراهته لأكلك من طعامه أن لا تأكل وإن أذن لك بقوله، فتدبر عمل بعض السلف صنيعاً، فدعا رجلاً فلم يصادفه الرسول، ثم أعلم وقد انصرف الناس من عنده فقصد منزله، فدقّ عليه الباب، فخرج إليه الرجل فقال: هل من حاجة؟ قال: إنك دعوتني فلم يتفق ذلك فقد جئت الآن لماعلمت، فقال: قد انصرف الناس، قال: فهل بقي منه بقية؟ قال لا، قال: فكسرة، إنْ بقيت، قال: فلم يبقَ شيء، قال: فالقدور أمسحها، قال: قد غسلناه فانصرف بحمد الله تعالى فقيل له في مسألته عن ذلك فقال: وقد أحسن الرجل دعانا بنية فنفس؛ هذا في الضعة والذلة وسقوطها من مراتب الأنفة والعزة تشبه نفس ابن الكديني، وهو أستاذ أبي القاسم الجنيد دعاه صبي إلى دعوة أبيه فردّه الأب أربع مرات في دعوة واحدة وهو يرجع في كل مرة وهو يرده؛ فهذه نفوس مطمئنة بالتوحيد، مشاهدة بالبلوى من المولى المبلى للعبيد، مذللة بالذلة، موضوعة على الضعة؛ وهذا طريق مفرد لأفراد وحال مجرد لآحاد، والمتكبرون لا يجيبون الدعوات؛ وهم عند بعضهم من أنفة النفوس، قال قائلهم: أنا لا أجيب دعوة، قيل: ولِمَ؟ قال: انتظار المرقة ذلّ، وقال آخر: إذا وضعت يدي في قصعة غيري ذلّت له رقبتي، ومنهم من لم يكن يجيب الفقير لكبر في نفسه ويجيب الأغنياء لعظمهم في عينه، ومن أبناء الدنيا الموصوفين بها من لايجيب إلاّ نظراءه وأشكاله من مثل طبقته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ومرتبته في الرياضة في الدنيا؛ وهذا على خلاف سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفعاله أنه كان يجيب دعوة المسكين ويجيب دعوة العبد، ومن قوله: بئس الطعام وشرّ الطعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ثم قال: من لا يجيب الدعوة فقد عصى الله تعالى، ومرّ الحسين بن عليّ رضي الله عنهما بقوم من المساكين الذين يسألون الناس على قارعة الطريق، وقد نثروا كسراً على الأرض في الرمل وهم يأكلون، وكان على بغلته، فلما مرّ بهم سلّم عليهم فردوا عليه وقالوا: هلمّ إلى الغداء يا ابن بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: نعم إن الله لا يحبّ المستكبرين ثم ثنى وركه فنزل عن دابته وقعد معهم على الأرض وأقبل يأكل ثم سلم عليهم وركب، وفي خبر آخر - زيادة - فقال: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم فوعدهم المجيء في وقت من النهار فجاؤوا فرحّب بهم ورفع مجلسهم، ثم قال: يا واذات هاتي ما كنت تدّخرين، فأخرجت الجارية فاخر ما عندها من الطعام فأقبل يأكل معهم، وكان ابن المبارك يقدم إلى إخوانه فاخر الرطب ويقول: من أكل أكثر أعطيته بكل نواة درهماً فكان يعد النوى فيعطي من كان له فضل نوى بعددها دراهم. وقال بعض أهل الاعتبار: ما أجبت إلاّ لأتذكر بها نعيم الجنة، طعام ينقل بغير كلفة ولا مؤونة، ولذلك قيل: إنّ اجتماع الإخوان في وجود الكفاية على الأنس والأُلفة ليس هو من الدنيا، وقد كان بعض الصوفية يقول: لا تجب دعوة إلاّ من يرى لك أنك أكلت رزقك وأنه سلمه إليك وديعة كانت لك عنده، ويرى لك الفضل عليه في قبولها منه؛ فهذه شهادة العارف من الداعين، كذلك شهادة المدعوين من الموحدين؛ أن يشهدوا الداعي الأول، والمجيب الآخر، والمعطي الباطن، والرازق الظاهر، كما امتحن أصحابه بذلك بعض الصوفيين: بلغني أنّ رجلاً دعا إماماً من الصوفية في أصحابه إلى طعام، فلما أخذ القوم مجلسهم ينتظرون فضل الطعام إليهم، خرج إليهم شيخهم فقال: إنّ هذا الرجل زعم أنه دعاكم وأنكم تأكلون طعامه ففي حرج، أو قال: حرام على من لم يشهده في فعله أن يأكل، قال: فقاموا كلهم فخرجوا ولم يستحلوا الأكل، إذ كانوا لا يرونه في الفعل إلاّ غلاماً حدثاً، فإنه قعد إذ لم تثبت شهادته ولم ينفذ نظره العبارة والمعنى لقائله مثله أو نحوه: وإن دعاك أخوك وأنت صائم فعلمت أنه يسرّ بأكلك فلا بأس أن تفطر لأجله، فإن لم تعلم ذلك منه وقال لك: أنا أسرّ بأكلك فصدقه وأحسن به الظنّ، وإن لم تعلم ذلك منه ولم يلفظ به لساني فإني أكره خروجك من عقد الصوم لغير نية، هي أبلغ منه أو مثله، فصومك حينئذ أفضل، وإنْ أكلت مع أخيك تريد إكرامه بذلك فهذه نية صالحة، قد كان بعضهم إذا أكل يوم فطره أكل مع إخوانه ويحتسب في أكله ما يحتسب في صو مه. وروينا عن ابن عباس أنه قال: من أفضل الحسنات إكرام الجلساء، ومن لم يرد أن يطعم قوماً من طعام فلا يظهرهم عليه ولا يصفه لهم سواء كان هو قد أكله أو لم يأكله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وكان الثوري يقول: إذا أردت أن لاتطعم عيالك من شيء تأكله فلا تحدثهم به ولا يرونه معك، وينبغي أن يكون للمجيب إلى الدعوة نيّات سبع؛ إذ الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى، إذ الإجابة من الأعمال، فمن نواها دنيا كانت له دنيا لعاجل حظه، ومن أراد بها آخرة فهي له آخرة بحسب نيته، وإنْ لم تحضر نية أو أعتلّ بفسادها توقف حتى يهيئ الله عزّ وجلّ له نية صالحة تكون الإجابة عليها أو ترك الإجابة إذا كانت بغير نية، لأنها من أفاضل الأعمال، فتحتاج إلى أحسن النيّات لوجود العالم فيها فتكثر بها الحسنات، ولفقد الهوى منها فيسلم فيها من السيئات وإلاّ كانت إجابته هزواً، وكان عاملاً في باب من أبواب الدنيا، وساعياً ف حظّ نفسه وملء جوفه وقد قال الرسول عليه السلام: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه، فيصير مأزوراً بفساد النية، أو يكون غير مأجور لعدمها. فأول النيات طاعة الله تعالى وطاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله عليه السلام: من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والثانية إقامة سنته لقوله عليه السلام: لو دعيت إلى كراع لأجبت وهو موضع على أميال من المدينة أفطر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان لما بلغه وقصر عنده في سفره، وقال في الخبر الآخر: لو دعيت إلى ذراع لأجبت؛ فهذا ظاهر في الإجابة عن القليل، والأول محتمل في الإجابة إلى الموضع البعيد، فقد نقل أنّ في التوراة أو في بعض الكتب سر ميلاً عد مريضاً، سر ميلين شيّع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب دعوة، سر أربعة أميال زر أخاً في الله عزّ وجلّ، فبعد في إجابة الدعوة وفضّلها على العبادة وشهود الجنازة لأن فيها قضاء حق الحي، وفيها إجابة داعٍ. والنية الثالثة إكرام أخيه، وفي الخبر: من أكرم أخاه المؤمن فإنما يكرم الله تعالى، وفي حديث الحسن وعطاء: من جاءه شيء من غير مسألة فردّه فإنما يرده على الله تعالى، فترك الإجابة ردّ العطاء، وفي تأويل الخبر عن الله تعالى بمعناه أنه يقول للعبد يوم القيامة: جعت فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ فيقول: جاع أخوك المسلم فلم تطعمه، ولو أطعمته كنت قد أطعمتني، فمن ظاهره تعظيم حرمة المسلم لأنه أقامه مقامه، وفي باطنه في الفهم أنه إذا أجابه فقد عاونه على إطعام نفسه، فكأنه أطعمها، فإذا لم يجب دعوته فقد ترك معاونته على إطعامه فدخل تحت التفريع بأنه لم يطعم نفسه وهو المسلم إذا لم يجب الدعوة فتفكّروا. والنية الرابعة إدخال السرور على أخيك المؤمن، والخبر الآخر: من سرّ مؤمناً فقد سرّ الله عزّ وجلّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 والنية الخامسة رفع الغمّ عن قلبه ووضع الهمّ عن نفسه في ترك إجابته من ترجيم الظنون به وتوقيع الرجم بالغيب فيه لما لم يجب ولعله يجيب، وإلا كان يجيب فيرفع عنه ذلك ويسقط عنه مؤونته سوء الظن به وتنزيل الشك فيه باليقين به. والنية السادسة أن ينوي زيارته فيصير ذلك نافلة له تماماً على الذي أحسن، فقد جاء في فضل الزيارة في الله تعالى وأنّ بها يستحق ولاية الله تعالى، وأنها علامة ولاية المتحابين في الله فاشترط لذلك شيئان: التباذل لله والتزاور فيه، فقد حصل البذل من أحدهما بقيت الزيارة من الآخر على الخبر السائر أنّ الإجابة من التواضع، كما ذكرنا قبل: أنّ المتكبرين لا يجيبون الداعي فهذه سبعة أعمال نيّات لمن وفّق لعملها والعمل بها، ومن طرقته فاقة من الفقراء فقصد بعض إخوانه يتصدى للأكل عنده فجائز له ذلك بشرطين: لا يكون عنده موجود من طعام ونيته أن يؤجر أخاه ويكون هو الجالب لأجره لأنه عرضه للمثوبة؛ فهذا داخل في التعاون على البرّ والتقوى وداخل في التحاض على طعام المسكين ونفسه كغيره من الفقراء، ولأن أخاه لا يعلم بصورة حاله ولو علمه لسرّه ذلك ففيه إدخال السرور عليه من حيث يعلم، وقد فعل هذا جماعة من السلف، وقد روى بمعناه أثر من ثلاثة طرق للسلف الصالح منهم: عون بن عبد الله المسعودي، كان له ثلاثمائة وستون صديقاً، وكان يكون عند كل واحد يوماً وآخر كان له ثلاثون صديقاً كان يكون عند كل واحد يوماً وليلة وكانوا يقدمون هذه الأخلاق السنيّة مع إخوانهم فيؤثرونها على المكاسب والمعلوم، فكان إخوانهم معلومهم، ولم يكن هؤلاء يكتسبون ولا يدّخرون، وكان لإخوانهم فيهم نية صالحة يسألونهم ذلك ويقسمون عليهم فيه ويرونه من أفضل أعمالهم، وكان هؤلاء للإنصاف يكرمون إخوانهم بإجابتهم وكونهم عندهم، ولم يكن سعيد بن أبي عروبة يعرض على إخوانه الطعام، ولكنه كان يظهره ويعرض به فكان اللحم مسلوخاً مصلقاً والخبز موجوداً ظاهراً، وكذلك كان يفعل بالثياب والأثاث، كان جميع ما في منزله مظهراً مسبلاً، فكل من دخل عليه من إخوانه إن شاء قطع من المسلوخ فشوى وطبخ، وإن شاء أكل من الخبز بما وجد من الأدم، ومن شاء لبس من الثياب ما شاء فكان ذلك مشاعاً في منزله لمن أراد تناوله، ومنهم من كان منقطعاً في منزل أخيه قد أفرده بمكان يقوم بكفايته ولا يبرح من منزله على الدوام يحكم فيه ويتحكم كما يكون في منزل نفسه، وقال بعض العلماء: أكلتان لا يحاسب العبد عليهما: ما أكله في سحوره وما أكله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 عند إخوانه إكراماً لهم بذلك، ومن أكل عند قوم فليقل عند فراغه أفطر عندك الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلّت عليكم الملائكة وقد روينا أيضاً: أن يقول عليكم صلاة قوم أبرار لسوا بآثمين ولا فجّار يصلّون الليل ويصومون النهار فقد كان الصحابة يقولون ذلك. ذكر غسل اليد ليس كل أحد يحسن أدب الغسل كما ليس كل إنسان يعرف سنّة الأكل، فمن غسل يده بأشنان ابتدأ بغسل أصابعه الثلاث أوّلاً، ثم جعل الأشنان في راحته اليسرى يابساً، ثم أمره على شفتيه جسّاً وأنعم غسل فيه بأصبعيه وظاهر أسنانه وباطنه وحنكه ولسانه، ثم غسل أصابعه من ذلك بالماء، ثم دلك ببقية الأشنان اليابس أصابعه وظهراً وبطناً، ثم لم يدخل الأشنان ثانياً إلى فيه لئلا يعود بالغمر إليه من يديه؛ وهذا يكفيه من تثنية الغسل، ومن غسل يد إخوانه بعد أكلهم من طعامه فمن الأدب أن يصبّ على أيدهم بالماء العذب، فبمثل هذه اللطيفة ونحوها يعرف حسن تفقد الدعاة وليستبين تعاهد الرعاة كأنّ بعضهم يقول: يدعو الرجل إخوان ينفق في الطّيبات جملة ويحليهم بعدها بالحلاوة، ثم يمرر أفواهم بالماء الملح؛ فهذا يكون من نقص التعاهد وقلة التفقد. ذكر أخبار جاءت في الآثار رويناها منثورة في الأطعمة والأكل من بين نقص وفضل هي من طرائق السلف وصنائع العرب أدخلناها في تضاعيف كلامنا لأنها منقولة من كلام القدماء من حديث إسحاق بن نجيح عن عطاء بن ميسرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أكل ما يسقط من المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده، وفي خبر سعيد بن لقمان عن عبد الرحمن الأنصاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الأكل في السوق دناءة هذا غريب مسند أو ليس بذاك الصحيح أنه من قول التابعين؛ إبراهيم النخعي ومن دونه، وعن جويبر عن الضحّاك عن النزّال بن سيرة عن عليّ عليه السلام قال: من ابتدأ غذاءه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعاً من البلاء، ومن أكل يوماً سبع تمرات عجوة قتلت كل دابة في بطنه، ومن أكل في كل يوم إحدى وعشرين زبيبة حمراء لم يرَ في جسده شيئاً يكرهه، واللحم ينبت اللحم، والثريد طعام العرب، والسارحات تعظم البطن وترخي الأليتين، ولحم البقر داء ولبنها شفاء، وسمنها دواء، والشحم يخرج مثله من الدواء ولن تستشفي النفساء بشيء أفضل من الرطب والسمك يذيب الجسد، وقراءة القرآن، والسواك يذهب البلغم، ومن أراد البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء، وليقلّ غشيان النساء، وليخفف الرداء وهو الدين، في أخبار الأمراء أن الحجاج قال لبنادق المطيب: صف لي صفة آخذ بها ولا أعددها، قال له: لا تنكح من النساء إلاّ فتاة، ولا تأكل من اللحم إلاّ فتيتاً، ولا تأكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 المطبوخ حتى ينعم نضجه، ولا تشربّ دواء إلاّ من علّة، ولاتأكل من الفاكهة إلاّ نضيجها، ولا تأكل طعاماً إلاّ أجدت مضغه، وكل ما أحببت من الطعام ولا تشرب عليه، فإذا شربت فلا تأكل عليه شيئاً ولا تحبس الغائط والبول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فامش قبل أن تنام ولو مائة خطوة، وفيما قاله الفلسوف حكمة، قد ورد ببعضها آثار، قد يروى في خبر مقطوع ذكره أبو الخطاب بن عبد الله بن بكر يرفعه: من استقل بدائه فلا يتداوى فربّ دواء يورث داء، وكانت الحكماء تقول: دافع بالدواء ما حملت قوتك الداء، وقال بعضهم: مثل شرب الدواء مثل الصابون للثوب ينقيه ولكن يخلقه. وقال أبقراط الفيلسوف: الدواء من فوق والداء من تحت، فمن كان داؤه في بطنه فوق سرته سقي الدواء، ومن كان داؤه تحت سرته حقن، ومن لم يكن به داء من فوق ولا من تحت لم يسق الدواء، فإن سقى عمل في الصحة داء إذا لم يجد داء يعمل فيه، وفي الخبر: قطع العروق مقة وترك العشاء مهرمة، والعرب تقول: ترك الغداء يذهب بشحم البكاذة يعني الألية، وقال بعضهم: نهاني الأطباء عن الشرب في تضاعيف الطعام، والعرب تقول: تعشّ وتمشَّ وتغدَّْ وتمدَّ؛ يريدون تمدد فأبدلوا الألف من الدال الثانية كراهية التكرار ولازدواج الكلام، ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) القيامة: 33 أي يتمطط، فأبدل من الثانية ألفاً بمعنى يمدّ مطاه يرفع ظهره، وأما في حبس الغائط: فقد قال بعض الفلاسفة: الطعام إذا خرج نجوه قبل ست ساعات فهو مكروه من المعدة، وإذا بقي فيها أكثر من أربع وعشرين ساعة فهو ضرر على المعدة، ويقال: إنّ حبس البول يفسد من الجسد كما يفسد النهر ما حوله إذا سدّ مجراه ففاض من جوانبه، ويقال: إنّ أرواح المفاصل ميراث حبس الريح، قال الشيخ أبو طالب: قرأت في الحكمة مدار صلاح الأمور في أربعة: الطعام لا يؤكل إلاّ على شهوة، والمرأة لا تنظر إلاّ إلى زوجها، والملك لا يصلحه إلاّ الطاعة، والرعية لا يصلحها إلاّ العدل، وقيل لبعض حكماء الروم: أيّ وقت الطعام فيه أصلح فقال: إما لمن قدر فإذا جاع وإما لمن لم يقدر فإذا وجد، ويقال: إذا كثرت المقدرة نقصت الشهوة، وقال كسرى لجلسائه: أي خصلة في الإنسان أضرّ؟ فقالوا: الفقر، فقال: البخل أشدّ من الفقر، لأنّ الفقير لا يجد ولابخيل يجد ولا يأكل، وقيل لرجل رؤي سميناً ما أسمنك؟ فقال: أكل الحار وشرب القار والاتكاء على شمالي والأكل من غير مالي، وقيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 لأخر رؤي حسن الجسم: ما أحسن جسمك؟ قال: قلة الفكر وطول الدعة والنوم على الكمطة، وقيل لآخر رآه حكيم سميناً: أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك فما هي؟ قال: آكل اللباب وصغار المعز وأدهن بجام بنفسج وألبس الكتان، والعرب تقول: العاشية تهيج الآبية؛ يعني أنّ الذي لا يشتهي الطعام إذا نظر إلى من يأكل هاجه ذلك على الأكل الذي يأباه لما رأى الآخر تعشى، وذكر الأصمعي أنّ بعض الحكماء أوصى ابنه فقال: يا بني لا تخرج من منزلك حتى تأخذ حلمك؛ يعني تتغذى وكذلك يقال في تناول الشيء قبل الخروج إلى السوق وقبل لقاء الناس أنه أقلّ للشهوة في الأسواق وأقطع للطعام بلقاء الناس، وأنشد هلال بن مجشم شعراً: وأنّ قراب البطن يكفيك ملأه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها ورؤي بعض الصوفية يمشي في السوق وهو يأكل وكان ممن يشار إليه قال: فقلت له: تأكل في السوق؟ فقال: عافاك الله إذا جعت في السوق آكل في البيت، قلت فلو دخلت بعض المساجد؟ فقال: أستحي منه أن أدخل بيته للأكل، هذا لأنه رأى الأكل من أبواب الدنيا، فدخل في طريقها كما قيل: الأسواق موائد الآباق أبقوا من الخدمة فجلسوا في الأسواق، وفي خبر ابن عمر قال: كنا نأكل في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام، وقال بعض أهل الطب: لحمية أحد العلّتين، ويقال: الحمية للصحيح ضارة كما أنها للعليل نافعة، والدواء إذا لم يجد ما يعمل فيه وجد الصحة فعمل فيها وأنشد بعض العرب شعراً: وربة حام كان للعبد علّة ... وعلّة جرّ الداء حفظ التقلل وقال لقمان: من احتمى فهو على يقين من المكروه وفي شك مما يأكل من العوافي، وكان يقال: ليس الطبيب من أحمى الملوك ومنعهم من الشهوات، إنما الطبيب من خلاهم وما يريدون، ثم دبر سياستهم على ذلك حتى تستقيم أجسادهم، وقال مدني عندنا بالحجاز لبعض الأعراب: أخبرني بما تأكلون وما تدعون، فقال: نأكل ما أدب ودرج إلاّ أم حنين فقال المدني: ليهن أم حنين منكم العافية، وفي الخبر أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى صهيباً يأكل تمراً وبه رمد فقال له: تأكل التمر وأنت رمد؟ فقال: يا رسول اللّّه إنما آكل بهذا الشق الآخر يعني جانب العين السليمة، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 ذكر أخبار جاءت في التقلل والحمية وذم البطنة في حديث إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال: قال أبو الدرداء: بئس العون على الدين قلب نجيب وبطن رغيب ونعظ شديد نجيب، يعني خفيفاً ضعيفاً، ورغيب يعني واسعة طامعة، قيل لبعض الحكماء: أي الطعام أطيب؟ فال: الجوع أعلم، أي به يطيب الطعام: كما قيل: نعم الإدام الجوع ما ألقيت إليه قبله، قال العتبي: قال عبيد الله لرجل من أهل الدمينة: يا أخي إني لأعجب أنّ فقهاءكم أظرف من فقهائنا، وعوامكم أظرف من عوامنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا، قال: فتدري لِمَ ذاك؟ قلت: لا، قال: الجوع ألا ترى أنّ العود إنما صفي صوته من خلوّ جوفه؟ يقال دعا عبد الله بن الزبير الحسن بن عليّ رضي الله عنهم فحضر هو وأصحابه فأكلوا ولم يأكل هو فقيل له في ذلك، قال: إني صائم، ولكن تحفة الصائم قال: وماهي؟ قال: الدهن والمجمرة، وكذلك يقال: الكحل والدهن أحد القرابين واللبن أحد اللحمين والفاكهة، والحديث للضيف أحد الضيافتين، فيستحب لمن كان صائماً فحضر ولم يأكل أن يطيب ويحيي فذاك زاده، روي أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر كان على خوان معاوية فرأى معاوىة لقم عبد الرحمن، فلما كان بالعشي راح إليه أبو بكرة وحده فقال له: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اعتلّ، قال معاوية: مثله لا يعدم العلّة، وقيل لأبي بكرة: إنّ ابنك أكل حتى بشم، قال: لو مات ما صلّيت عليه، ويقال للبشم سكر كسكر الخمر، وسئل الحارث بن كلدة طبيب العرب: ما الدواد الذي لا داء فيه، فقال: هو اللازم؛ يعني الحمية، وقيل لجالينوس: إنك تقلّ من الطعام فقال: غرضي من الطعام أن آكل لأحيا وغرض غيري من الطعام أن يحيا ليأكل، ويقال: ما أدخل الإنسان جوفه أنفع من الرمان ولا أضرّ من المالح، ولأن يتقلّل من المالح خير من أن يستكثر من الرمان، هذا لذّم الاستكثار وإن كان مما ينفع، ومدح القلّة وإن كان ما يضرّ، حدثت عن عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه قال: قال لابنه: يا بني إن طول الجلوس على الخلاء يرفع الحرارة إلى الرأس ويورث الباسور ويبجبع له الكبد، اجلس هويناً وقم، قال: حكمه على باب الحش، ويقال: سأل الحجاج جلساءه: ما أذهب الأشياء للإعياء؟ قالوا: أكل التمر، وقال بعضهم: الحمام، وقال بعضهم: الجماع، وقال آخر: الصمائخ، فقال يتاذوق: أذهب الأشياء للإعياء قضاء الحاجة، حدثت عن بعض الأطباء أنّ رجلاً شرب خبث الحديد المعجون فبقي في جوفه واشتّد به وجعه، قال: فسحقت له قطنة مغناطيس وسقيته إياه فتعلق بالخبث وخرج مع الغائط. وروى الأصمعي عن جعفر بن سليمان قال: قال يتاذوق الفيلسوف: إنّ اللحم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 اللحم يقتل السباع في البرية، قال: ثم قال أبو جعفر: قالت جارية لنا: كان لنا ظبي فمرّ بعجين قد هيّئ فأكل منه حتى حبط؛ والحبط انتفاخ الجنينين فسلخ فوجد قد شرق بالدم، فقال يونس الطبيب: هكذا يصيب الإنسان إذا بشم يشرق قلبه بدمه، وقال الأصمعي عن جعفر والي البصرة إنه قال لأنسان أكول يقيء إذا أكل: لا تفعل، فإن المعدة تضغن إلى القيء كما تضغن الدابة العلف ولا ينضج الطعام؛ معنى تضغن أي تألف وتعتاد، وقال بعضهم: سئل يتاذوق عن البخر فقال، دواؤه الزبيب يعجن بالشعير، ثم يؤكل أسبوعين أو ثلاثاً، وقال الأطباء: معرفة خفّة الماء أن يكون سريع الغليان سريع البرد، ويكون قبالة الشمس مجراه على الشمال ومروره على الطين الأحمر وعلى الرمل، ذكر أبو طالب أنّ هذا آخر الزيادة من الأقوال، وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: أكرموا الخبز فإن الله قد أنزله من السماء، فمن بركات الخبز أنه لا ينتظر به أدام وىؤكل مع ما حضر معه من الملح والخلّ والبقل وغيره، وأنْ لا يجعل تحت شيء من آلة المائدة ولا تحت غضارة، مثل أن يسند به شيء ولا يتّخذ طبقاً لشيء، فإن وضع عليه ما يؤكل فلا بأس، ومن السنّة والأدب أن لا ينتظر بالطعام غائب إذا حضر جماعة، ولكن يأكل من حضر؛ فإن حرمة الحاضر مع حضور الطعام أوجب من انتظار الغائب إلا أن يكون الغائب فقيراً فلا بأس أن ينتظر ليرفع من شأنه ولئلا ينكسر قلبه، وإن كان الغائب غنياً لم ينتظر مع حضور الفقراء فإن انتظار الغني معصية لما روى أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: شرّ الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، فسمي الطعام شريراً لأجل الأغنياء، والطعام لا تعبد عليه، وإنما الشر اسم لأهل الطعام الداعين الأغنياء عليه التاركين للفقراء، فأما طعام المآتم فهو على ضربين؛ نوع منه يصنعه أهل الميت للنوائح والبواكي ومن يينيهم على الجزع، فإن أكل هذا مكروه منهيّ عنه، ونوع يحمل إليهم لشغلهم عن أنفسهم وإصلاح طعامهم بميتهم؛ فهذا لا بأس به وبحمله إليهم، ويجوز الأكل منه إن أطعموه غيرهم لأنه من البرّ والمعروف إن لم يرد به النوائح ولا المجالسسة على القبور للجزع والأسى. وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب: إنّ آل جعفر شغلوا بميتهم عن صنيع طعامهم فاحملوا إليهم ما يأكلون؛ فهذا سنّة في حمل الطعام إلى أهل الميت، ومن دعي إلى طعام وكان في بيت الداعي إحدى خمس خصال فلا يجبب دعوته ولا حرج في ترك إجابته إن كانت مائدته يشرب بعدها مسكر، وإن لم يعاينه في الحال، أو كان في الأثاث فراش حرير، أو ديباج، أو كان في الآنية ذهب، أو فضة، أو كان متخذ الحيطان مستراً بالثياب كما تستّر الكعبة، أو كان صورة ذات روح في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 ستر منصوب أو في حائط، ومن أجاب الدعوة فرأى إحدى هذه الخمس فعليه أن يخرج أو يخرج ذلك، فإن قعد فقد شركهم في فعلهم، دعي أحمد بن حنبل رحمه الله إلى طعام فأجاب في جماعة من أصحابه، فلما استقر في المنزل رأى إناء من فضة في البيت فخرج وخرج أصحابه معه ولم يطعموا، ويقال: إنه خرج من أشنانة رآها كان رأسها المغطاة به فضة لم يصبر فخرج لذلك، حدثت عن أحمد بن عبد الخالق قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يدعى إلى الوليمة من أي شيء يخرج؟ قال: خرج أبو أيوب حين دعي فرأى البيت قد ستر ودعي حذيفة فرأى شيئاً من زيّ العجم فخرج وقال: من تزيا بزيّ قوم فهو منهم، قلت لأبي عبد الله: فإن رأى شيئاً من فضة ترى أن يخرج؟ قال: نعم أرى أن يخرج، قال: وسمعته يقول: دعانا رجل من أصحابنا قبل المحسنة وكنا نختلف إلى عفان، فإذا إناء من فضة فخرجت فأتبعني جماعة، فنزل بصاحب البيت أمر عظيم فقلت لأبي عبد الله: الرجل يدعي فيرى المكحلة رأسها مفضضة قال: هذا يستعمل كل ما لا يستعمل، فأخرج منه، إنما رخّص في الضبة أو نحوها فهو أسهل، وسألته عن الكلة فكرهها، قلت: فألقيه أو أخليها؟ فلم يرّ بها بأساً، قلت لأبي عبد الله: إنّ رجلاً دعا قوماً فجيء بطست فضة أو إبريق فكسره هل يجوز كسره؟ قال: نعم، قال أبو بكر المروزي: سألته عن الرجل يدعى فيرى فرش ديباج ترى أن يقعد عليه أو يعقد في بيت آخر؟ قال: يخرج، قد خرج أبو أيوب وحذيفة. وقد روي عن ابن مسعود الخروج قلت: ترى أنْ يأمرهم؟ قال: نعم، يقول: هذا لا يجوز، قلت لأبي عبد الله: الرجل يكون في بيت ديباج يدعي إليه للشيء؟ قال: لا تدخل عليه ولا تجلس معه، قلت: الرجل يدعى فيرى الكلة فكرهها وقال: هو رياء لا تردّ من حرّ ولا تردّ من برد، قلت: الرجل يدعى فيرى ستراً فيه تصاوير، قال: لا تنظر إليه قلت: قد أنظر إليه، قال: إنْ أمكنك خلعه خلعته، قال: سألت أبا عبد الله عن الستر يكتب فيه القرآن فكره ذلك قال: ولا يكتب القرآن على شيء منصوب لا ستر ولا غيره، قلت: الرجل يكتري البيت فيه التصاوير تري أن يحكه؟ قال: نعم، قلت لأبي عبد الله: دخلت حماماً فرأيت فيه صورة ترى أن أحك الرأس؟ قال: نعم، وسألته عن الجوز ينثر إسناده جيد أبو حصين عن خالد بن مسعود قال أبوبكر المروزي: دخلت على أبي عبد الله وقد حذق ابنه قد اشترى جوزاً يريد أن يعده على الصبيان يقسمه عليهم وكره النثر وقال: هذه نهبة، وقال هاشم بن القاسم: حدثنا محمد قال: كان طلحة والزبير يكرهان النثر في كل شيئ في العرس وفي الحذاق وغيرهما من الجوز والسكر، قال: وسألت أبا عبد الله عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 قرض الرغيف والخمير فلم يرَ به بأساً آخر الزيادة في الجديد، ومن الأصل الأول خمسة لا تجاب دعوتهم وإن دعي رجل ولم يعلم ثم علم فلا حرج عليه، أن يخرج من بيته المبتدع، وأعوان الظلمة، وآكل الربا، والفاسق المعلن بفسقه، ومن كان الأغلب على ماله الحرام ولم يكن يردع عن الآثام في معاملته الأنام لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تأكل إلاّ طعام تقي وذاك لأن التقي قد كفاك الاجتهاد في المأكول للتقوى فأغناك عن السؤال عنه، لأن التقي إذا أطعمته استعان على الطعمة على البرّ والتقوى فتصير معاوناً له عليها، كما قال تعالى، فيشركه في برّه والفاجر والظالم إن أكلت طعامهما صرت من أعوان الظلمة بمشاركتك لهما في الطمعة، كما سأل خياط ابن المبارك فقال: إني أخيط لبعض وكلاء هؤلاء يعني الأمراء فهل يخاف أن أكون من أعوان الظلمة؟ فقال: لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة، أعوان الظلمة من يبيع منك الخيوط والإبر، وقد عمل ذو النون المصري أغمض من هذا الورع، وما سمعت أدق منه، إن السلطان لما سجنه في كلام أنكره عليه العامّة من العلم الغامض كانت المائدة من قبل السلطان تختلف إليه فلم يكن يطعم منها شيئاً، ولم يأكل أياماً كثيرة مدة مقامه في السجن، فكانت له أخت قد آخته في الله تعالى تبعث إليه من مغزلها وتدفعه إلى السجّان فيحمله إليه ويعرفه أنه من قبل تلك العجوز الصالحة، فلم يأكل أيضاً منه، فلما خرج لقيته العجوز فعاتبته على ردّ الطعام وقالت: قد علمت أنه كان من مغزلي؟ فقال: نعم، إلا أنه جاءني على طبق ظالم فرددته لأجل الظرف يعني بهذا يد السجان، ولعمري أنّا روينا عن عليّ عليه السلام أنه أهدى له دهقان بالكوفة في يوم عيد لهم خبيصاً على جام من ذهب يكرمه بذلك، فردّه ولم يأكل منه، قال: رددته لأجل ظرفه الذي كان فيه، وقيل: من أكل لقمة من حرام قسا قلبه أربعين يوماً، ويقال: أظلم قلبه، ومن أكل الحلال أربعين يوماً زهد في الدنيا وأدخل الله تعالى في قلبه وأجرى الحكمة على لسانه، وقال بعض السلف: أوّل لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر الله تعالى له بها ما تقدم من ذنبه، وقال الآخر: من أقام نفسه مقام ذلّ في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كما يتساقط ورق الشجر في الشتاء، وكان سهل يقول في السائحين في الأمصار والمنقطعين بالأسفار: إنّ الرجل ليدخل قرية فيجوع، ولا يقدر على الشبهات فلا يأكل، ويبيت تلك الليلة جائعاً، فيجعل في ميزانه جميع أعمال أهل تلك القرية، ومن أجبره سلطان على طعام أو قدم إليه شبهة أكرهه على أكلها، فليتعلل بعلالة منه، وليتغيّر تغيّراً، ولا يقصد طيباً ولا يكبر اللقمة، ولا يستكثر في الطعمة وليأكل ما يسدّ رمقه، وما يخاف التلف بنفسه، إن هو فارقه، حدثني بعض الشهود: إنّ مزكياً من بعض أهل العلم بخراسان ردّ شهادة شاهد أكل من طعام سلطان كان أجبره فقال: إنه كان أجبرني على الأكل، فقال: قد علمت ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 ولم أردّ شهادتك لأنك أكلت، ولكنك رأيتك تقصد الطّيب وتكبر اللقمة فهل كان أجبرك على هذا؟ فلهذا جرحتك عند الحاكم، قال لنا الشيخ وأجبر السطان هذا المذكي على الأكل من ماله فقال: اختاروا إحدى خصلتين: إما أن آكل كما أمرتم ولا أزكي أحداً بعد ذلك ولا أجرح ولا أعدل شاهداً، وإما أن أترك على هذا في الجرح والتعديل بالتزكية ولا آكل من طعامكم، قال: فنظرالسلطان وذووه فإذا هم محتاجون إليه لأنه كان قليل النظير، ولم يكن له بدّ من حسن نظره ومن قيامه بشأن الحكام، فتركوه وحده فلم يأكل من طعامهم شيئاً وأجبروا من كان معه، وكانوا قد حملوا من نيسابور إلى بخارى في قصة طويلة حذفت سببها، والمعنى هذا باختلاف الألفاظ التي سمعتها ولكن توخيت ما سمعت على المعنى، وقد كان بشر بن الحارث يقول: في الأكل من الشبهات يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وكان إذا نفروا تكلم في الحلال قيل له: فأنت يا أبا نصر من أين تأكل؟ وهو يضحك، وقد كان سري السقطي يقول: لا نصبر على ترك الشبهات كما كان الزهري إذا عوتب في صحبة بني مروان يقول: أصدقكم الحق اتسعنا في الشهوات فضاق علينا ما في أيدينا فانبسطنا إليهم؛ وهذا فصل الخطاب لأولي الألباب والله أعلم. ين: إما أن آكل كما أمرتم ولا أزكي أحداً بعد ذلك ولا أجرح ولا أعدل شاهداً، وإما أن أترك على هذا في الجرح والتعديل بالتزكية ولا آكل من طعامكم، قال: فنظرالسلطان وذووه فإذا هم محتاجون إليه لأنه كان قليل النظير، ولم يكن له بدّ من حسن نظره ومن قيامه بشأن الحكام، فتركوه وحده فلم يأكل من طعامهم شيئاً وأجبروا من كان معه، وكانوا قد حملوا من نيسابور إلى بخارى في قصة طويلة حذفت سببها، والمعنى هذا باختلاف الألفاظ التي سمعتها ولكن توخيت ما سمعت على المعنى، وقد كان بشر بن الحارث يقول: في الأكل من الشبهات يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وكان إذا نفروا تكلم في الحلال قيل له: فأنت يا أبا نصر من أين تأكل؟ وهو يضحك، وقد كان سري السقطي يقول: لا نصبر على ترك الشبهات كما كان الزهري إذا عوتب في صحبة بني مروان يقول: أصدقكم الحق اتسعنا في الشهوات فضاق علينا ما في أيدينا فانبسطنا إليهم؛ وهذا فصل الخطاب لأولي الألباب والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 الفصل الحادي والأربعون ذكر فضائل الفقر وفرائضه ونعت عموم الفقراء وخصوصهم وتفصيل قبول العطاء ورده وطريقة السلف فيه: قال الله الكبير المتعال: (لِلُُقُقَرَاء المُهَاجرِينَ الذَّينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِم) الحشر: 8، وقال تبارك وتعالى: (لِلفُقَرَاءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا في سبيل الله لاَ يَسْتَطيعُونَ ضَرْباً في الأَرْضِ) البقرة: 273 فقدّم وصف أوليائه بالفقر على مدحهم بالهجرة والحصر، والله تعالى لا يصف من يحبّ إلاّ بما يحبّ، فلولا أنّ الفقر أحبّ الأوصاف إليه ما مدح به أحباءه وشرّفهم به، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفقر وأخبر بفضله في غير حديث؛ منها حديث إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار عن ابن عمران عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لأصحابه: أي الناس خير؟ فقالوا: موسر من المال يعطي حق الله عزّ وجلّ في نفسه وماله، فقال: نعم الرجل هذا وليس به، قالوا: من خير الناس يارسول الله؟ قال: فقير يعطي جهده؛ ومنها حديث بلال أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: إلقَ الله عزّ وجلّ فقيراً ولا تلقه غنياً، وفي الحديث الذي روي عن ابن الأعرابي: أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: لا أفضل من الفقير إذا كان راضياً، وفي الحديث الآخر: أنّ الله تبارك وتعالى يحبّ الفقير المتعفّف أبا العيال، وفي الخبرين المشهورين: يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، والحديث الآخر: اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين؛ فهذا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفضيل الفقراء وإكرام لهم وتنبيه وحثّ على فضل الفقر، وروينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجيعاً في الجنة ضعفاؤها. وروينا في خبر إسماعيل النبي عليه السلام المفسّر لخبر موسى عليه السلام: أنّ إسماعيل قال: يارب أين أطلبك؟ فقال الله عزّ وجلّ: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، قال: ومن هم؟ فقال تعالى: الفقراء الصادقون، وقال أبو سليمان الدارني: الأعمال كلها في الخزائن مطروحة إلاّ شيئين، فإنه مخزون مختوم عليه لا يعطيه إلاّ من طبعه بطابع الشهداء، الفقر مع المعرفة، وكان يقول: تنفّس الفقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غنيّ عمره كله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وقد كان بشر يقول: مثل الغني المتعبّد مثل روضة على مزبلة، ومثل العبادة على الفقير مثل عقد جوهر في جيد الحسناء، وقال: العبادة لا تليق بالأغنياء، وكان يقول: التقوى لا تحسن إلاّ في فقر، وقال له رجل فقير: يا أبا نصر ادع الله عزّ وجلّ لي فقد أضرّ بي الفقر والعيال، فقال له بشر: إذا قال لك عيالك: ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع الله تبارك وتعالى أنت في ذلك الوقت، فإن دعاءك أفضل من دعائي، وقال بعض السلف: أي أهل المعرفة بالله عزّ وجلّ أنْ يقبلوا هذا العلم وكرهوا أن يسمعوه من الأغنياء وزعموا أنه لا يليق بهم، وقد كان بعض الفقراء يقول: هذا العلم يعني علم المعرفة عوضه الله سبحانه وتعالى الفقراء بدلاً من الدنيا لا يظهره إلا هم ولا يوجد إلاّ عندهم، روحهم الله عزّ وجلّ به في الدنيا وجعله عوضاً لهم مما تركوه له اليوم، فإذا كان غداً فهم الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين وهو المزيد، وقد روينا في تفسير قوله تعالى: (وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) الرعد: 23 قال: الفقر في الدنيا. فمن فرائض الفقر عند الفقراء: الصبر عليه بترك المسألة قبل ورود الفاقة، وقطع الهمّ عن التشرّف إلى الخلق، وأن لا يتناول عند الحاجة ما حظره عليه العلم، ولا يجاوز حدّاً من حدود الأحكام، وإن سأل عند حاجة لم يستكثر ولم يدّخر، فإن أعطى فوق كفايته فاقتناه ليكف عن المسألة فلا بأس به، ويتوخّى في مسألته المتّقين: ومن يعلم أنه يتحرّى في مكسبه فإن مسألته عمل له يلزمه التورع فيها، كما يلزمه الورع في مكسبه، ولا يسأل من يعلم أنه لا يبالي من أين يأكل، ومن لا يردع عن الحرام في مكسبه والعبد بنفس الحاجة والجوع يستحق على إخوانه شبعة يقيم بها صلبه ويسكن بها نفسه، وبنفس العري والعدم يستحق عليهم ثوباً يواري به عورته، وذلك لازم للمسلمين وواجب له، فإن قام به بعضهم سقط عن بعض وجوبه، وإن سأل ذلك فلا شيء عليه، ويقال إنّ كفّارة المسألة صدق السائل في مسألته وصدقه أن لا يسأل إلاّ بعد فاقته ومع خوف التقصير في أداء فرائضه من اختلاف عقله وتشتّت قلبه، وأن يكفّ مع أول الكفاية، ولا يدخر بعد الشبع ليستكثر، ولا يجعل المسألة إن دفع إليها له عادة وكداً ولا حرفة، ومهما استغنى عن السؤال فليكن ذلك أحبّ إليه، فإنه أفضل له، وقد سأل ثلاثة من الأنبياء عند فاقتهم سليمان عليه السلام لما سلب ملكه أربعين يوماً، وموسى والخضر عليهما السلام لما استطعما أهل القرية. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للسائل حقّ وإن جاء على فرس، وفي الحديث: ردوا السائل ولو بظلف محرق، فلو كانت المسألة إثماً وعدواناً لم يحثّ على الإعطاء فيكون معاوناً على الإثم والاعتداء، ولكن ذلك من البرّ والتقوى، لأنه سبب منه ودالّ عليه، فعاون بالأمر به لحرمة الإسلام، ولأن المواساة من المعروف والإحسان، وسمع عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 رضي الله عنه سائلاً يسأل بعد المغرب فقال: يا يرفا عشِّ الرجل، فعشّاه، ثم سمعه ثانية يسأل فقال: ألم أقل لك عشِّ الرجل؟ فقال: قد عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يدة مخلاة مملوءة خبزاً فقال: لست سائلاً ولكنك تاجر، ثم نثر المخلاة بين يدي إبل الصدقة وضربه بالدرة وقال: لست سائلاً، أنت تاجر. وروينا عن عليّ عليه السلام أنّ لله عزّ وجلّ في خلقه مثوبات فقر وعقوبات فقر، فمن علامة الفقر إذا كان مثوبة أن يحسن خلقه، ويطيع به ربّه، ولا يشكو حاله، ويشكر الله تعالى على فقره، ومن علامات الفقر إذا كان عقوبة أن يسوء عليه خلقه ويعصي به ربّه ويكثر الشكاية ويتسخط القضاء؛ فهذا كما قال عليه السلام، وهذا النوع الذي هو عقوبة من الفقر هو الذي استعاذ منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فقر النفس، لأن الفقر من المال إنما هو الافتقار إلى الخلق والفقر إلى الأشياء مع عدم صدق الحال. وقد روينا في الخبر: مسألة الناس من الفواحش ماأحلّ من الفواحش غيرها، وبايع رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوماً على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة، ثم قال كلمة خفيفة: ولا تسألوا الناس شيئاً فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالتعفّف والكفّ عن المسألة ويقول: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله عزّ وجلّ، وقال: من لم يسألنا فهو أحبّ إلينا، وقال عليه السلام: استغنوا عن الناس، وما قلّ من السؤال فهو خير، قالوا: ومنك يارسول الله قال: ومني، فلو لم يكن في ترك المسألة لادعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سأل عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم، ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ووجهه عظم يتقعقع ليس عليه لحم، وفي خبر آخر: كانت مسألته خدوجاً وكدوحاً في وجهه، وفي الحديث: استغنوا بغنى الله عزّ وجلّ، قالوا: وما هو؟ قال: غداء يوم أو عشاء ليلة، وفي الخبر: من سأل وله خمسون درهماً أو عدلها من الذهب، فقد سأل إلحافاً، ومن كان معه هذا القدر من الدنيا لم يخرجه من عموم الفقراء، فإن سأل مع ذلك أخرجه من عمومهم، ومن سأل قبل الجوع أو بعد الشبع أو سأل ليدّخر أو سأل وله غداء يوم أو عشاء ليلة أخرجه ذلك من خصوص الفقراء، وسئل سفيان الثوري عن أفضل الأعمال فقال: التجمّل عند المحنة، وعلى الفقير أن لا يزكي غنياً لأجل عطائه، ولا يذمّه ولا يمقته لأجل منعه، ولا يعظم أهل الدنيا، ولا يكرّمهم لأجل دنياهم، وقال ابن المبارك: من تواضع الفقير أن يتكبر على الأغنياء، وعن عليّ عليه السلام في حكاية المنام: ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله عزّ وجلّ، وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله عزّ وجلّ، ومن فرائض الفقر أن لا يسكت الفقير عن حقّ، ولا يتكلم بهوى لأجل دوام العطاء من أحد، ولا لاجتلاب نفع؛ فإن ذلك وليجة في الدين ومداهنة للمؤمنين، ومن فضائل الفقر أن لا يدّخر لأكثر من أربعين يوماً، ولا يكون المدّخر أكثر من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 أربعين درهماً، والأصل في ذلك أنّ الله تبارك وتعالى قال عزّ من قائل: (وَإِذْ وَاعَدنَا مُوسى أرْبعينَ لَيْلَةً) البقرة: 51 فإذا فسح له في تأميل أربعين فالادخّار من الأمل؛ فإن أمل حياة أربعين يوماً جاز له أن يدّخر لأربعين، ومن قصر أمله إلى يوم وليلة لم يدّخر إلاّ ليومه وليلته، فترك الادخّار مقتضى قصر الأمل، وقد جعل غنى الفقير في أربعين درهماً فهذا لعموم الفقراء، فأما خصوصهم فإن غناءهم غداء يوم أو عشاء ليلة لقصر أملهم، كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً: استغنوا بغنى الله عزّ وجلّ، قيل: وما غنى الله تبارك وتعالى؟ قال: غداء يوم أو عشاء ليلة، ومن فضل الفقير أن لا يهتم برزق غد كما إن الله تبارك وتعالى لا يطالبه بعمل غد قبل مجيئه، ولأنّ الرزق معلوم مقسوم والوكيل حفيظ قيوم، وأن يكون راضياً بفقره شاكراً عليه ويغتبط بالفقر لعظيم نعمة الله عزّ وجلّ عليه فيه، ويخاف أن يسلب فقره أشد من خوف الغني أن يسلب غناه لشدة اغتباطه به. وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معشر الفقراء أعطوا الله عزّ وجلّ الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلاّ فلا، وروى عبد الرحمن بن سابط عن عليّ عليه السلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث طويل: أحب العباد إلى الله عزّ وجلّ الفقير القانع برزقه، الراضي عن الله عزّ وجلّ، وينبغي أن يغتمّ بالاتّساع ويفرج بالضيقة والمصيبة، ويحبّ المساكين ويفضّلهم على أبناء الدنيا، ويرحم الأغنياء ولا يذمّهم لأجل غناهم، ويؤثر الفقراء ويقربهم ويحسن على الفقير خلقه، ويحمل معه صبره، ويستر بالتعفف فقره، ويظهر الغنيّ ولا يكشف فقره بالتكرّه له والشكوى، في الخبر عن الله عزّ وجلّ: إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنيّ مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته، وقال موسى: يا رب مَنْ أحباؤك من خلقك حتى أحبّهم لأجلك؟ فقال: كل فقير فقير التكرار فيه لمعنيين؛ أحدهما المتحقق بالفقر، والثاني الشديد الحاجة والضرّ، وقال عيسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني لأحب المسكنة وأبغض الغنى، وقيل: كان من أحبّ أسمائه إليه أن يقال له: يامسكين، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعائه الذي تلقاه من ربه وأمره به: أسألك الطيّبات، وفعل الخيرات، وحبّ المساكين؛ ومما يعتبر به فضل الفقر على الغنى أنّ أفضل الخلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن شاركه وقارنه بمعنى وصفه فهو الأفضل لأنه الأمثل فالأمثل وهم الفقراء، وصفهم الله عزّ وجلّ بوصفه فقال تعالى: (وَلاَ عَلَى الَّذينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) التوبة: 92 الآية - فلما شاركوه في العدم وكان حال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأفضل والأتمّ دلّ على فضل حالهم على غيرهم. وقد قال الله عزّ وجلّ: (إنَّمَا السَّبيلُ عَلَى الَّذينَ يَسْتأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) التوبة: 39، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وقال تعالى: (كَلاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) العلق: 6 - 7، فوصف الأغنياء بالطفو وأوقع عليهم الحجة، وقال في وصف الفقراء: (يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ) البقرة: 372، فلولا أنّ الغنى مفضول ما نسب من وصفهم به إلى النقص، والغنى باب الدنيا وأصل التفاخر والتكاثر المذموم، والفقر باب الآخرة وأصل الزهد والتواضع المحمود، وعند أهل المعرفة: إنّ الغنى من الصفات التي لا ينبغي أن ينازع فيها ومكروهة لمن ابتلي بمعانيها، وأنه مثل العزّ والكبر وحبّ المدح والذكر، فمن أحبّ شيئاً من ذلك وطلبه فقد نازع الله تعالى لبسته، وتركوا ذلك لأجل الله عزّ وجلّ لأنه من صفات الربو بية، وسلّموه له خوفاً منه أو حبّاً له، وإن الفقر من صفات العبودية مثل الرجاء والخوف والتواضع والذلّ، فمن طلب ذلك وأحبّه فقد تحقّق بوصف العبودية، والله سبحانه وتعالى يحبّ أن يتحقق العبد بأوصافه لأنه عبد ذليل، ويكره أن ينازعه معنى صفاته لأنه ملك جليل، ومن أحبّ الغنى دلّ على حبه البقاء، وكان سهل يقول: حبّ الغنى شرك في الربوبية؛ أي لأنّ البقاء من صفات الباقي، ومن فضل الغنى على الفقر دلّ على حبه للغنى فظهر بذلك محبة الأغنياء لأنّ حبّ الوصف دليل حبّ الموصوف، وحبّ الشيء أيضاً دليل على بغض ضده، فإذا أبغض الفقراء أبغض الفقر، وبغض الفقر لحبّ الغنى، فقد اختار الرغبة على الزهد، والكثرة على القلة، والعزّ في الدنيا على الذلّ، وفي هذا إيثار الدنيا على الآخرة، وهدم الآثار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين في تفضيل الفقر وتشريف الأغنياء، ويقال: كان الفقر شرف المؤمن وكان الفقراء فيما سلف في المؤمنين بمنزلة الأشراف فيكم اليوم ولا خفاء بفساد هذا القول ونقصه عند العلماء بالله تعالى، ثم إنّ الفقراء على منازل ثلاث؛ فقراء الأغنياء وهم السؤال عند الفاقات، الكافون نفوسهم مع الكفاية، القانعون بالكفاف؛ وهم طهرة الأغنياء، ومزيدهم من الله تعالى، وهم الذين جعل الله لهم في أموال الأغنياء سهماً، لأنّ منهم السائل والمحروم، ومنهم القانع والمعتر، والطبقة الثانية فقراء الفقراء وهم المتحققون بالفقر، المختارون له، المؤثرون إياه على الغنى، لعظم معرفتهم بعظيم فضيلة أهل التعفّف والصيانة، لا يبتذلون للسؤال ولا يعرضون في المقال، راضون بالميسور من مولاهم، تعرفهم إذا رأيتهم سيماهم: يحسبهم الجاهل أغنياء لترك المسألة والشكوى، ومنهم المحروم حرم السعي للدنيا، ومنهم المحارف انحرفت عنه الأسباب، ومنهم القانع قنع بما يصل إليه من غير امتهان وتبذل فيه، ومنهم المعتر رضي عن الله عزّ وجلّ بما يعتريه، وقيل: إنه ما أعطى أحد شيئاً من الدنيا إلاّ قيل له خذه على ثلاثة لثلاث؛ شغل، وهمّ، وطول حساب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وأما الطبقة الثالثة فهم أغنياء الفقراء وهم الأجواد الأسخياء أهل البذل والعطاء، يأخذون ويخرجون، ولا يستكثرون ولا يدّخرون، إن منعوا شكروا المانع لأنه هو المعطي فصار منعه وإنْ ضيّق عليهم حمدوا الواسع لأنه هو المحمود فصار ضيقه رخاء، وإنْ أعطوا بذلوا وآثروا فهم الزاهدون في الدنيا لأنهم موقنون فكفاهم اليقين غنى. وقال إبراهيم بن أدهم لشقيق بن إبراهيم حين قدم عليه من خراسان: كيف تركت الفقراء من أصحابك؟ فقال: تركتهم إن أعطوا شكروا، وإن أعطوا آثروا فقّبل رأسه وقال: صدقت ياأستاذ وقد كان بشر يقول: الفقراء ثلاثة؛ فقير لايسأل وإن أعطى لم يأخذ؛ فهذا مع الروحانيين في عليين، وفقير لا يسأل وإن أعطى أخذ فهو مع المقربين في حظيرة القدس، وفقير يسأل عند فاقته؛ فهذا مع الصادقين، وصدقه في حاله كفّارة مسألته، ودفع إلى إبراهيم بن أدهم ستون ألفاً وكان عليه دين وبه حاجات إليها فردّها فعوتب في ذلك فقال: كرهت أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء لستين ألفاً، وقد كانت عائشة رضي الله عنها تفرق مائة ألف وإنّ درعها لمرقوع فقالت لها الخادمة: لو اشتريت لك بدرهم لحماً تفطرين عليه فقالت: لو ذكرتني لفعلت، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصاها فقال: إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تنزعي ثوباً حتى ترقعيه فأما معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للفقراء: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلعل متوهماً لم يتدبر أول الكلام فظن أنّ هذا تفضيل للأغنياء على الفقراء وإنما هو تحقيق لقوله الأول: قولوا كذا وكذا، فإنه لا يسبقكم أحد قبلكم، ولا يدرككم أحد بعدكم، فقالوه، فلما سمع الأغنياء بذلك فقالوا كقولهم هجس في قلوب الفقراء منه شيء، فاستفتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليتثبتوا في قوله فقال: الأمر كما قلت لكم لا يسبقكم أحد قبلكم إذ قد صحّ منه هذا القول في الأول وهو معصوم فيه، فلو لم يكن كذلك لنقض آخر قوله أوله، ولا يجوز ذلك، وأيضاً فإن حمل على ظاهره كما تأوله، فإنه فضل الله تعالى في الدنيا، لا تفضيل لهم به في الآخرة على مقامات الفقراء، إلاّ إنّ الأولى قد قامت بفضلهم، ويصلح بمعناهم فضل أعطاهم الله تعالى بهذا القول الذي قلتموه، زادهم الله به، لا أنه أفضل من مقامكم وحالكم بغيره، إذ قد ثبت فضلكم عليهم بوصف الفقر وحال الصبر بغير هذا الذكر؛ وهذا التسبيح رجحان لكم تماماً على فضلكم بغيره، وهذا القول للأغنياء تفضيل من الله عليكم ورحمة، إلاّ إنهم يفضّلون به عليكم، ونحن فلم نقل: ليس الغنى طريقاً للأغنياء إلى الله وإنما فضّلنا طريق الفقراء لأنهم الأمثل فالأمثل بالأنبياء، وعن الحسن في قوله عزّ وجلّ: (وَمَا يَسْتوِي الأحْياءُ ولاَ الأمْوَاتُ) فاطر: 22، قال: الفقراء والأغنياء، فجعل الفقراء أحياء بمولاهم، وجعل الأغنياء موتى بدنياهم، وقال الثوري رحمه الله: إذا رأيت الفقير يداخل الأغنياء فاعلم أنه مراء، وإذا خالط السلطان فاعلم أنه لصّ، وقال بعض العارفين: إذا مال الفقير إلى بعض الأغنياء نحلت عروته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 فإذا طمع فيهم انقطعت عصمته، فإذا سكن إليهم ضلّ، فمن فضل الغنى على الفقر بعد الأخبار التي وردت في تفضيل الفقر والفقراء والغنى والأغنياء فأحسن حاله الجهل بالسنن لإيثار الرأي والهوى على ما فيه أثر وسنّة، لأن الأثر إذا جاء في شيء لم يكن للرأي فيه مدخل، وكان في مخالفته مع العلم به عناد ومحادة، نعوذ بالله من الجهل والهوى ونسأله التوفيق للعلم والتقوى. ذكر حكم من لا معلوم له من الأسباب فإن لم يكن للفقير معلوم من الدنيا وكان رزقه قد أجرى على أيدى العباد من غير تعويض منه لهم من صنائع الدنيا معتاد، فقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن هذا المال مال الله فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه: فكان كالآكل ولا يشبع، وروينا من أتاه شيء من هذا المال من غير مسألة ولا استشراف فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه، وفي لفظ آخر فلا يرده فإن كان محتاجاً إليه وإلاّ فليصرفه إلى من هو إليه أحوج منه، وروينا عن الحسن وعطاء حديثاً مرسلاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أتاه رزقه من غير مسألة فردّه فإنما هو يرده على الله، وروينا عن عابد بن شريح عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما لمعطي من سعة بأعظم أجراً من الآخذ إذا كان محتاجاً، وقال بعض العلماء: لو هرب العبد من رزقه لطلبه حتى يصل إليه كما لو هرب من الموت لأدركه، وقال أبو محمد رحمه الله: لو أنّ العبد سأل ربه فقال: لا ترزقني لما استجاب له وكان عاصياً، ويقال له: يا جاهل لا بدّ أن أرزقك كما خلقتك، وقد حدثنا بعض العارفين أنه زهد في الدنيا فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار، وقال: لا أسأل أحد أشياء حتى يأتيني رزقي إن كان لي رزق، قال: فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعاً لم يأته شيء حتى كاد أن يتلف، قال: يارب إن أحييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلاّ فاقبضني إليك فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي لا أرزقنّك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس، فدخل المصر للأمر، وأقام بين ظهراني الناس، فجاءه هذا بطعام، وهذا بأدام، وهذا بشراب، فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى الله إليه: أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا أما علمت أني أرزق عبد بأيدي عبادي أحبّ إليّ من أن أرزقه بيد القدرة. وقال بعض المنقطعين إلى الله من العارفين: كنت ذا صنعة جليلة، فأريد مني تركها، فحاك في صدري: من أين المعاش؟ فهتف بي هاتف: لا أراه، تنقطع إليّ وتتهمني في رزقك على أن أخدمك وليّاً من أوليائي، أو أسخر لك منافقاً من أعدائي، وفي خبر عن بعض السلف: أوحى الله تبارك وتعالى إلى الدنيا: اخدمي من خدمني واتعبي من خدمك، وقال بعض المجاورين بمكة: كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 فرأيت ذات لية فقيراً يطوف بالكعبة في طلمة الليل، حسن الهدى والسمت، قال: فكنت أتتبع آثار قدمه وأمشي خلفه من حيث لا يشعر، فلما قضى أسبوعه وقف في الملتزم بين الباب والحجر، فسمعته يدعو دعاء خفياً، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول: جائع كما ترى، عريان كما ترى، فما نرى فيما ترى يا من يرى ولا يرى، قال: فنظرت فإذا عليه خلقان رثاث، لا تكاد أن تواريه فقلت في نفسي: لا أجد لتلك الدراهم موضعاً خير من هذا، قال: فتبعته حتى انصرف إلى ناحية قبة زمزم يصلّي ركعتي الطواف، وذهبت إلى منزلي فجئت بالدراهم فدفعتها إليه وقلت: رحمك الله أنت في مثل هذا الموضع، وعلى مثل هذه الحالة، فخذ هذه تنفقها، قال: وصببتها في طرف إزاره بين يديه على الأرض، فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم فقال: أربعة ثمن مئزرين ودرهم أتفوّت به ثلاثاً، ثم قال: لاحاجة لي بسائرها، قال: فرأيته الليلة الثانية وعليه مئزران جديدان قد لبسهما، قال: فهجس في نفسي من أمره شيء، فقبض على يدي فأطافني معه أسبوعاً كل شوط منها في جوهر من معادن الأرض تتخشخش تحت أقدامنا إلى الكعبين، منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر، لم يظهر للناس، فقال: هذا كله قد أعطيناه فزهدنا فيه، ونأخذ من أيدي الخلق أحبّ إلينا لأنه أحبّ إلى الله، وأخف علينا في المطالبة؛ وهذه أثقال وفتنة، وذاك للعباد فيه رحمة ونعمة، وروينا في خبر: البلاد بلاد الله والخلق عباده، فأينما وجدت رزقاً فأقم واحمد الله. وروينا عن ابن عباس: اختلف الناس في كل شيء إلاّ في الرزق والأجل، أجمعوا على أنّ لا رازق إلاّ الله ولا مميت إلاّ الله، وقال: إنّ الله عزّ وجلّ لما خلق الأرزاق أمر الرياح أن تمزقها في أقطار الأرض ففرقها، فمن الناس من وقع رزقه في مائة ألف موضع، ومنهم من وقع رزقه في عشرة آلاف موضع، ومنهم من ألف موضع، ومنهم من مائة موضع، ومنهم في موضع وأقل وأكثر، ومنهم من وقع رزقه على باب منزله يغدو ويروم إليه، وكل عبد يسعى بأثره الذي كتب له حتى يستوفي رزقه الذي قسم له، فإذا فني أثره واستوفى رزقه جاءه ملك الموت فقبض روحه، واعلم أنّ العبد لا ينقطع رزقه أبداً منذ أظهرت خلقته كان في بطن أمه، غذاؤه مما تفيض الأرحام من دم الحيض، يعيش بذلك جسمه من ظاهره، ومعاه المستطيل من سرّته متصل بمعي أمه، يصل من بطنها مخ الطعام إلى بطنه، فيعيش بذلك؛ فإذا أذن الله عزّ وجلّ بخروجه بعث إليه الملك، فقطع ذلك المعي من موضع اتصاله بمعي أمه؛ فإذا دخل إلى الدنيا جعل رزقه من الدنيا؛ فإذا خرج منها فآخر رزقه من الدنيا أول رزقه من الآخرة؛ فإذا دخل في الآخرة كان رزقه من البرزخ كما كان في الدنيا بتلك المعاني لمعاينته المختلفة المحتملة؛ لذلك فإذا خرج من البرزخ ودخل في القيامة كان رزقه في الموقف على قدر حاله هناك؛ فإذا خرج من الموقف دخل أحد الدارين انتقل رزقه إليها فكان منها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 إلى أبد الأبد؛ فإذا شهد العبد هذا بيقين إيمانه اطمأن قلبه فاستوى عنده الرزق والأجل فعلم يقيناً أنّ لا بدّ من رزق كما لابدّ من أجل، فلم يكن عليه إلاّ مراعاة الأحكام فيه، وشهد من هذه الشهادة أنّ خلقاً لا يقدر أن يزيد في عمره ساعة ولا ينقص منه ساعة؛ فإذا أيقن بهذا كان مشغولاً بالمخالصة لمولاه فيما تعبده به وولاه، ثم أنّ الرزق على وجهين؛ عن معان لا تحصى وبأسباب لا تعدّ ولا تضبط، فمن الرزق ما يأتي العبد بسكونه وقعوده فيكون الرزق هو الذي تحرك إليه ويأتيه، ومنه ما يأتي العبد بحركته وقيامه فيكون يتسبب إليه ويطلبه، والرزق فيهما واحد والرازق بهما واحد، الحكمة والقدرة في المتحرّك القائم وفي الساكن القاعد واحد، إلاّ إنّ الأحكام فيهما متفاوتة، ثم إنّ الأشياء كلها على ضربين: مسخّر لك ومسلّط عليك، فما سخر لك سلطت عليه وهو نعمة عليك وعليك الشكر عليه؛ وهذا مقام الشكر على معنى الرزق، وما سلط عليك فقد سخرت له أنت وهو بلاء عليك وعليك الصبر فيه؛ وهذا مقام الصبر عن معنى الابتلاء، فمن شهد ما ذكرناه عرف حاله من مقامه فقام بحكم ما عرف، ومن لم يشهده جهل حاله ولم يدر مقامه فاضطرب فيه فضيّع حكم الله عليه والمستحبّ لمن لا معلوم له أن لا يأخذ مما آتاه إلاّ قدر الحاجة، وعلامة حاجته هو أن لا يأخذ إلاّ ما يحتاج أن يشتريه فهو حاجته في وقته؛ فذاك رزق من الله تعالى ومعونة له، فأخذ هذا أفضل وما آتاه مما لا يحتاج أن يشتريه أو عنده مثله فهو اختبار له وابتلاء لينظر كيف زهده في فضول حاجته، وكيف رغبته في الاستكثار، لأنه إذا ملك الشيء فكأنه قد كان له فيعلم الآن بمعرفته أنّ هذا ابتلاء من الله، وفيه حكمان؛ أحدهما أن يأخذه في العلانية ويخرجه في السرّ إلى من هو أحوج إليه منه؛ هذا طريق الأقوياء، ومن أشد الأشياء على النفس وهو الذي أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر وغيره؛ وهذا حال علماء الزاهدين، والحكم الآخر أن لا يأخذه ليصرفه صاحبه إلى من هو أحوج إليه منه لأن الله تعالى له عليه فيه أحكام؛ وهذا هو الطريق الأوسط من طرق الزهاد، فإما أن يأخذه من غير حاجة ليتكثر به ويدّخره فلا أعلم في هذا طريقاً إلى الله تعالى، وما لم يكن طريقاً إلى الله فهو من طرقات الهوى إلى العدوّ، ثم ينظر الآخذ فيما آتاه من الله إلى أحكامه فيه، فإن كان ما يأتيه من الزكاة المفروضة على أربابها المشترط له الأوصاف الستة المنصوص عليها في الكتاب؛ فذلك أضيق عليه وألزم له في الاحتياط لأخيه أن يضعه في حقيقة موضعه عند أخيه نصحاً لله تعالى في دينه ونصحاً لإخوانه في ربه فإنّ الأفضل في ذلك أن لا يضعه إلاّ في أربعة أشياء: مطعم، وملبس، ومسكن، ودين في قضائه عنه؛ فهذا من أفضل ما صرفت فيه الواجبات. وقد روينا عن ابن عباس: من اشترى ما لا يحتاج إليه باع ما يحتاج إليه، وفضول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الدنيا وهو الزيادة على الكفاية لا يحتاج إليه، والدين يحتاج إليه، فلا ينبغي للعاقل أن يبيع ما يحتاج إليه من دينه بشراء ما لا يحتاج إليه من دنياه، فتكون صفقته خاسرة وتجارته بائرة، والشهوات لا حدّ لها لأنه لا غاية ينتهي إليها فيها، والقوت له حدّ وغاية ينتهي إليه فيها، وقد جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا حقّ لابن آدم إلاّ في ثلاث؛ طعام يقيم صلبه، وثوب يواري عورته، وبيت يكنّه، فما زاد فهو حساب؛ وهذه الثلاث مع ابن آدم في بطن أمه، وفي قبره، وبين ذلك في دنياه، وبعد ذلك في عقباه، فالأخذ لمصالح هذه الثلاث مأجور عليه العبد والردّ لما زاد عليها هو أفضل من الأخذ، وينبغي أن يكون العبد الذي لا معلوم له عارفاً بأحكام العطاء؛ فإن العطاء من الله لعبده على أربعة أنواع: نوعان محمودان، ونوعان مكروهان، فالمحمودان ما كان بمعنى الرفق والمعونة، والمكروهان ما يكون بمعنى الاختبار والابتلاء، وبين الرفق والمعونة فتفصيل ذلك أنّ الابتلاء ما جاءه من الأسباب قبل الحاجة إليه أو جاءه وله غنية عنه أو عنده مثله؛ فهذا ابتلاء من الله تعالى له لينظر عمله فيه، فالأفضل في هذا أن يخرجه فيكون معاملاً لله تعالى به في السرّ مسقطاً لمنزلته عند الناس في العلانية، فإن لم يقوَ على هذا الثقل وحمله على النفس فالأفضل بعده أن لا يأخذه ليحكم الله فيه ما يشاء ونصحاً لأخيه في ما له - سيما إن كان من الواجب والاختيار - أن يكون الفقير قد نوى ترك أكل شيء أو اعتقد التقلّل في شيء قربه إلى ربّه تعالى لمخالفة هوى نفسه وعملاً في صلاح قلبه يتباعد به مما يدخله في الكثرة ويحلّ عليه عقده، فردّ هذا أفضل وهو من الزهد والرعاية للعهد، فإن أخذه ثم أخرجه إلى محتاج؛ فهذا هو زهد الزهد، وله في هذا معاملات؛ منها أنّ العبد مندوب إلى الإيثار، فإذا كان فقيراً وملك شيئاً فأخرجه كان في ميزانه، ومنها موافقة السنّة في أنه قد أمر بأخذه أو دفعه إلى من هو أحوج إليه منه، ومنها إنّ أخذ هذا في العلانية من الناس وردّه في السرّ إلى الله تعالى كبيرة على النفوس إلاّ على الخاشعين لأنّ النفس تسقط في منزلتها، ثم لا ينال به سعتها فلا يصبر على هذا إلاّ الموقنون؛ وهذا مقام الزاهدين في النفس؛ وهو حال أغنياء الفقراء، وعلماء الزهاد، وهم أهل الطبقة العليا الذين قدمنا ذكرهم: والوجهان الآخران من العطاء هو الرفق وصورته أن يأتيه الرزق عند حاجته أو مع شهوته للشيء الذي لا يقدر عليه، فيعلم الله ذلك منه فيبعث به إليه من غير طمع في خلق، أو يأتيه ما يصلح أن يشتريه ليرتفق بمنافعه، فهذا النوع من العطاء رفق الله سبحانه، الأفضل للعبد أن يأخذه وربما خيف من ردّ مثل هذا عقوبة من زوال عقل أو رد إلى غلبة طبع أو ابتلاء بطمع خلق أو دخول في دنيء من مكسب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وقال بعض العلماء: من أعطى ولم يأخذ سأل ولم يعط، وهذا من النوع الذي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما المعطي من سعة بأعظم أجراً من الآخذ إذا كان محتاجاً، فأخذ هذا مشاركة لمعطيه في الأجر من حيث استويا على المعاونة في التقوى والبرّ المأمور بهما، ولا يضرّ هذا العطاء آخذه، وقد كان سري السقطي يوصل إلى أحمد ابن حنبل شيئاً فيرده فقال له سري: يا أحمد إحذر آفة الردّ فإنها أشدّ من آفة الأخذ، فقال له أحمد: أعد علي ما قلت فأعاده، فقال أحمد: ما رددت عليك إلاّ لأن عندي قوت شهر فأحبسه لي عندك، فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلىّ، والرابع من العطاء هو المعونة؛ وهذا يكون مخصوصاً لأهله هو أن يكون في خلق هذا الفقير البذل والإفضال وفي غريزته السخاء والاتساع من إطعام الطعام وإيثار الفقراء، فلا يتسع لذلك حاله وتضيق عنه يده فيبعث الله إليه بالعطاء معونة له على أخلاقه ليبلغه به مراده، وينفذ له من المعروف والبرّ عادته، ويعينه على خلقه ومروءته؛ فهذا النوع من العطاء هو الاختبار عند العارفين والأفضل أخذه وإمضاؤه في سبله من المروءات والأخلاق؛ وهذا كان طريقة كثير من السلف، وقد غلط في هذا الطريق قوم لم يكن لهم زهد وقد كانت فيهم رغبة وهمم دنيئة، فاقتنعوا في قبول هذا العطاء لنفوسهم وتملكوه واستأثروا به وزعموا أنّ هذا هو الاختبار، فخالفوا السلف في معرفة الابتلاء من الاختبار لأن هذا عند العارفين، إذا لم ينفذ ويؤثر به ابتلاء ووافقوا أهواءهم في التوسع منه والتكثر به، وتملكوه بالدعوى فأخطؤوا في العلم لإحالة المعنى وغلطوا في طريق الحال لوجود الهوى، وقد كان بعض القاعدين من الصادقين يدان على الله لحسن ظنه به، فإذا رزقه قضاه، فإن مات هذا على هذه النية فلا تبعة عليه فيه في دينه، على مولاه قضاؤه، وأن يرضى عنه غرماءه، وقد كان فيما سلف يقضي دين مثل هذا من بيت مال المسلمين، وكان آخرون لا يقترضون حتى يبيع أحدهم أحد ثوبيه أو فضل ما يحتاج إليه؛ وهذا أحد الوجوه في قوله تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ الله) الطلاق: 7، قال: من ضيقّ عليه معاشه فليبع أحد ثوبيه، وقد قيل: فليستقرض بجاهه فذلك آتاه الله عزّ وجلّ. وقال بعضهم: لله عباد ينفقون على قدر بضائعهم، وله عباد ينفقون على قدر حسن الظن به، ومات بعض السلف فأوصى بماله أن يفرّق على ثلاث طوائف: الأقوياء والأسخياء والأغنياء فقيل: من هؤلاء؟ قال: أما الأقوياء فهم أهل التوكل على الله، وأما الأسخياء فهم أهل حسن الظن بالله، وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله، وينبغي لمن لامعلوم له من الأسباب أن يتورع في أخذها ويتحرّى المعطين لها، كما يتحرى أهل المكاسب في الاكتساب؛ لأن الله سبحانه وتعالى له في كل شيء حكم، والقعود عن المكاسب لا يسقط أحكامها، والقاعد عن الطلب لا تسقط عنه أحكام الطالب، لأنّ ترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 العمل عمل يحتاج إلى عمل، ولم تكن سيرة الفقراء الصالحين أن يأخذوا من كل أحد، ولا في كل وقت، ولا يأخذون كلما يعطون مما زاد على كفايتهم إلاّ أنْ يكونوا ممن يخرجه إلى غيرهم، وإنما كانوا يقبلون ممن يخف على قلوبهم القبول منه وممن يرتفع الوحشة والحشمة فيما بينهم وبينه؛ لأنّ ذلك هو الذي يفرح بقولك ويرى نعمة الله تعالى عليه في أخذك ومن يثقل على قلبك معروفه فهو الذي يثقل على قلبه إخراج ما في يده ولا يغتم بردك عليه. وقال بعض العارفين ما تواخى اثنان في الله عزّ وجلّ فاحتشم أحدهما من صاحبه أو استوحش منه إلاّ من علّة في أحدهما، فلا يستحبّ للفقير أن يأخذ إلاّ من صديق، ولا يقبل إلاّ ممن يحبّ لأن لأهل المعرفة بالله عزّ وجلّ أن يحكموا في الأسباب بما أراهم الله تعالى من الردّ أو من القبول، فإن اعتلّ معتلّ بما رويناه آنفاً من جاءه شيء من غير مسألة فردّه فإنما يردّه على الله تعالى، وبأن أهل المعرفة يشهدون أن العطاء من الله سبحانه وتعالى فلا يصلح أن يردوا عليه، قيل له: إنّ من يشهد العطاء من الله تعالى هو الذي يشهد الردّ أيضاً منه، فإن يردّ إليه له أو ردّ إليه به لمعرفته باختباره وابتلاء حسن الردّ منه وشكر الفعل له، فهو أيضاً إذا شهد تصريف الخلق بالعطاء فعل الله عزّ وجلّ، كان يشهد فعل نفسه بالردّ، فعل الله تبارك وتعالى بالمنح؛ فالحالان سواء عند من علم الأحكام، ولم يتّبع الهوى، وقام بحكم ما منه يقتضي، فليس في هذا حجة إلاّ لعالم مستكثر، أو لعابد جاهل غير مستبصر، على أنّ في القبول من بعض الناس دون بعض، وفي ردّ بعض الهدية سنّة، أهدي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمن وإقط وكبش فقبل السمن والإقط وردّ الكبش، وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل من بعض الناس ويردّ على بعض، وقال: لقد هممت مراراً أن لا أتهب إلاّ من قرشي أو ثقفي أو دوسي وفعل هذا جماعة من التابعين. جاءت صرّة إلى فتح الموصلي فيها خمسون درهماً فقال: حدثنا عطاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أتاه رزق من غير مسألة فردّه، فإنما يردّه على الله عزّ وجلّ، ثم فتح الصرّة فأخذ منها درهماً وردّ سائرها، وقد كان الحسن البصري يروي هذا الحديث أيضاً، ثم حدثنا عنه أنّ رجلاً أهدى إليه كيساً فيه مال ورزمة فيها من دق خراسان، فردّ ذلك، فقال له بعض أصحابه في ذلك فقال: من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة، وليس له عند الله عزّ وجلّ خلاق، وقد كان الحسن يقبل من أصحابه، وكان إبراهيم التيمي يسأل أصحابه الدرهم ونحوه، ويعرض عليه غيرهم المائتين فلا يأخذ، وقد كان بشر بن الحارث لا يقبل من الناس شيئاً، وكان بعضهم يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 أحبّ أن أعلم من أين يأكل؟ فقال له: من يخبر أمره؟ أنا أدري من أين يأكل، له صديق عاقل يعني نظيره في العقل والدين، لأنّ بعضهم كان لا يقبل إلاّ من نظرائه، لا من الأتباع، وهذا الصديق العاقل الذي كان يقوم بكفايته، ولم يكن يظهر أمره، ولا يلتقي معه؛ هو سري بن المغلس السقطي، لأنّا حدثنا عن بشر أنه قال: ما سألت أحد قط شيئاً من الدنيا إلاّ سريّاً السقطي، لأنه قد صحّ عندي زهده في الدنيا، فهو يفرح بخروج الشيء من يده، ويتبرم ببقائه عنده، فأكون أعينه على ما يحبّ. وقد كان سري يوجه إلى أحمد بن حنبل في حاجاته فيقبل منه، وكان إذا ذكر عند أحمد يقول: ذاك الغني المعروف بطيب الغنى أنه ليعجبني أمره، وكان بعض العباد إذا دفع إليه بعض أبناء الدنيا الشيء يقول: دعه عندك، وأعرض على قلبك كيف أنا عندك بعد الأخذ أفضل أو دون ذلك وأصدقني، فإن قال له: أنت عندي الآن أفضل منك قبل ذلك قبل، وإن أخبره بنقصانه في قلبه لم يقبل منه، وكان بعضهم يردّ على أكثر الناس صلته فعوتب في ذلك فقال: ماأردّ إلاّ إشفاقاً عليهم ونصحاً لهم، يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم، وممن ذهب إلى هذا سفيان الثوري، وقد كان يشترط على بعض من يأخذ منه أن لا يذكره إشفاقاً عليه من ذهاب أجره، لأنه قيل في معنى قوله عزّ وجلّ: (لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذى) البقرة: 264 قال: المنّ أن يذكره والأذى أن يظهره، وقال الجنيد للخراساني الذي جاءه بمال وسأله أن يأكله فقال الجنيد: بل أفرقه على الفقراء، فقال: أنا أعلم بالفقراء منك ولم أختر هذا، فقال الجنيد: أنا أؤمل أن أعيش حتى آكل هذا، فقال: إني لم أقل لك أنفقه في الخل والكامخ والبقل، إنما أريد أن تنفقه في الطيبات وألوان الحلاوة فكل ما نفد أسرع كان أحب إلي فقال الجنيد مثلك لا يحل أنْ يرد عليه، فقبله، فقال الرجل: ما ببغداد أحد أعطم منة عليّ منك، فقال الجنيد: وما ينبغي لأحد أن يقبل منه إلاّ من كان مثلك؛ فهذه كانت طرائق أهل الحقائق، ولا ينبغي للقاعد عن المكاسب إلاّ أن يكون تاركاً ذلك لأجل الله سبحانه، عالماً في قعوده بأحكام الله عزّ وجلّ، قائماً بعلم حاله، فيحسن يومئذ قعوده عن الأسباب ثقة منه بالمسبّب الوهاب، ويحلّ تركه للمعلوم يقيناً منه بالعالم. وقد كان بعض العلماء يقول: لا تأكل إلاّ عند من يعلم أنك أكلت رزقك، ولا تشكر عليه إلاّ ربك، ودعا بعض الناس شقيقاً البلخي وكان في طبقة من أصحابه نحو الخمسين رجلاً، فوضع الرجل طعاماً واسعاً وأنفق نفقة كثيرة، فلما قعدوا قال لهم شقيق: إنّ هذا الرجل يقول: من لم يرني صنعت هذا الطعام وأنا أقدمه إليه فطعامي عليه حرام، قال: فقاموا كلهم خرجوا إلاّ شاباً كان فيهم نقصت مشاهدته عنهم، فقال صاحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 المنزل لشقيق: رحمك الله ماأردت إليّ هذا؟ فقال: أردت أن أجرّب توحيد أصحابي أي كلهم، لا يراه فيما صنع ولا ينظرون إليه فيما قدّم إلاّ ذلك الغلام وحده. وحدثونا عن موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ياربّ جعلت رزقي هكذا على أيدي بني إسرائيل يغديني يوماً هذا ويعشّيني هذا الليلة، فأوحى الله إليه: هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي الطالبين من عبادي ليؤجروا فيهم، والعالم القاعد عندهم أفضل من الجاهل المتصرف، والعالم المتكسّب أفضل من القاعد الجاهد، والقوي التارك للتصرف أفضل عندهم من الضعيف المتصرف، والقوي المتصرّف أفضل من الضعيف التارك للتصرف. وقد جعل الله المستحقين للعطاء ستة، ذكرهم في آيات ثلاث، فقال عزّ وجلّ في الآية الأولى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) التوبة: 60 وقال في الثانية: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) الذاريات: 19، وقال في الثالثة: (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) الحج: 36، فمن لامعلوم له من تكسّب أو تصرّف فهو أدخل شيء في هذه الآيات وأحوج أحد إلى الإعطاء، ومن كان ذا معلوم يحتاج إلى أكثر منه لفضل عيلة أو كثرة نفقة فإنه يدخل بمعنى من أوصافهم، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول في الآية: إنما الصدقات للفقراء والمساكين نزلت في أهل الصفة، ومن كان في معناهم إلى يوم القيامة، وكانوا أربعمائة وخمسين رجلاً لم تكن لهم عشائر بالمدينة ولا أموال كالمهاجرين والأنصار، وكانوا نزاع القبائل، أسكنهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفّة المسجد، وقسم اللّّه عزّ وجلّ لهم الأموال، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى أفرد طبقة سابعة عن جمل هؤلاء الستة، ووصفهم بأحسن الصفات، وفضّل أجور المتّقين بطيب الاكتساب عليهم الطالبين وجه الله عزّ وجلّ فقال: (يَاأَيُّهَا الذَّينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ) البقرة: 267 وقال: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إليْكُمْ) البقرة: 272، وكل هذا متصل متعلق بقوله عزّ وجلّ: (للفُقَراءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا في سَبيلِ الله لاَ يَسْتَطيعُونَ ضَرْباً في الأَرْضِ) البقرة: 372، إلى آخر أوصافهم، فوصفهم بالإحصار في سبيله وبالعفة عن الدنيا وأبنائها، وأنهم لا يلتحفونها التحافاً لزهدهم فيها وسمى من لا يعرف أوصافهم جاهلاً؛ فهذه الطائفة فوق الطبقات الموسومة بالصدقات المقسوم عليها الزكوات، بل أمر المؤمنين بالإنفاق عليهم من الاكتساب للطيّبات من بعد وصف أحسن الخالقين لهم، والله تبارك وتعالى لا يحبّ عبداً إلاّ وصفه، فإذا مدحه بوصف وأثنى عليه ثبتت محبته له في المدح والوصف، دليل على الحبّ والمحبّة، تدل على الفضل العظيم، كما قال تعالى في آخر وصف المحبين: (ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) المائدة: 54 وقد قال بعض الصوفية في معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يد المعطي هي العليا ويد المعطى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 هي السفلى، إنّ المعطى هو الفقير وإنّ المعطي هو الغني، ويصلح أن يستدلّ له بأن حقيقة الإعطاء هو النصيب من الآخرة وعطاؤه منها، فصار هو المعطى وصار الغني هو المعطي، ويكون دليل هذا القول الخبرين الآخرين قوله: إنّ الصدقة تقع بيد الله سبحانه وتعالى قبل أن تقع بيد السائل وهو يضعها في يد السائل، فقد صارت يد الفقير هي العليا، والخبر الآخر: يد الله العليا ويد المعطي الوسطى فهذا يصحح أنّ الفقير هو المعطى إذا كان يد الله تبارك وتعالى فوقه لأنها هي التي تضع في يده العطاء فكانت يده هي الوسطى. فإن قيل: قد رتب الأيدي بقوله تعالى: يد الله هي العليا ويد المعطي هي الوسطى ويد المعطى هي السفلى، فينبغي أن يكون المعطي هو الغني إذا كان العطاء يظهر عندنا على الترتيب، قيل له: إنّ يد الله تبارك وتعالى فوقهما معاً وهي لا تدخل تحت الترتيب، فيده سبحانه وتعالى العليا عليهما جميعاً، قال تبارك وتعالى: يد الله فوق أيديهم وقد علمنا أنّ أيديهم بعضها فوق بعض، ثم أخبر مع ذلك أنها فوق الكل ولأنه هو المعطي الأوّل لهما جميعاً، فكما لا أول؛ أول منه في العطاء، فكذلك لا يد فوق يده في الإعطاء، وإنما الترتيب بين الغني والفقير أيهما المعطي بعد يد الله تعالى فقلنا: إنّ المعطي في الحقيقة إذ كان العطاء الحقيقي هو ما يبقى ويدوم لا ما يفنى ويزول؛ وذلك هو العطاء من الآخرة الباقية، فصار الفقير هو المعطي للغني في الدنيا نصيبه من الآخرة لأنه عمارة منازله فيها، والغني رفق بالفقير من الدنيا وعمارة دنياه الفانية، والدنيا موصوفة بلا شيء، فأي شيء يعطي منها؟ فأما يد الله تعالى فإنها فوقهما، والذي أعطاهما جميعاً، لأنّ يده فوق الفوق وفوق التحت لا يوصف بتحت ولا بأسفل، تعالت أوصافه العليا عن نعوت الخلق السفلى، وهو لا يدخل تحت القياس والتشبيه، فقد حدثنا بعض إخواننا عن شيخ له فقال: رأيت أبا الحسن النوري يمد يده ويسأل الناس في بعض المواطن قال: فأعظمت ذلك واستقبحته، فأتيت الجنيد فأخبرته فقال: لا يعظم هذا عليك، فإن النوري لم يسأل الناس إلاّ ليعطيهم إنماسأل لهم ليثيبهم من الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرّه، ثم قال: هات الميزان قال: فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة فألقاها على المائة، ثم قال: احملها إليه، قال: قلت في نفسي إنمايوزن الشيء ليعرف مقداره فهذا قد خلط منه شيئاً آخر فصار مجهولاً وهو رجل حكيم فاستحييت أن أسأله عن ذلك، قال: فذهبت بالصرّة إلى النوري فقال: هات الميزان، قال: فوزن مائة درهم وقال: ردّها عليه، وقل آه: أنا لا أقبل منك أنت شيئاً، وأخذ مازاد على المائة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 قال: فقلت هذا أعجب فسألته: لم فعلت هذا؟ فقال: الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه وزن هذه المائة لنفسه للثواب من الآخرة، وطرح عليها قبضة بلا وزن لله عزّ وجلّ، فأخذت ماكانت لله عزّ وجلّ، ورردت ما كان جعله لنفسه، قال: فرددتها إلى الجنيد فبكى، وقا حلب أخذ ماله ورد مالنا والله أعلم. ذكر اختلافهم في إخفاء العطاء وإظهاره ومن رأى أنّ الإظهار أفضل وتفضيل ذلك: قد اختلف فعل المخلصين في ذلك فرأى بعضهم أن يخفي ما يأخذ من العطاء، لأنه أدخل في التعفف وأقرب إلى التصوّن، وأنه أسلم لقلوب الغير وأصلح لنفوس العامة، وأنّ فيه النصرة لإخوانه من الغيبة والتهمة بمثل ذلك أو بأكثر منه، وفيه الاحتياط لأخيه وعون له على البرّ والتقوى في قوله عزّ وجلّ: (إنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة: 271، وللخير الذي جاء: أفضل الصدقة جهد المقلّ إلى فقير في سرّ، ولأنّ عمل السرّ يفضّل على عمل العلانية بسبعين ضعفاً فإذا لم يعاونه هذا على إخفاء عطائه، ولم يساعده على كتم معروفه فلم يتم له ذلك بنفسه، لأنه سرّ بين اثنين إن أفشاه أحدهما أو لم يتفقا على كتمه فقد ظهر من أيها كان الخبر كيف، وقدروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استعينوا على أموركم بالكتمان، فإنّ كل ذي نعمة محسود، وهذا مذهب القرّاء من العابدين، وقال أيوب السجستاني: إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيراني حسد، وقال بعض الزاهدين: ربما تركت استعمال الشيء لأجل إخواني يقولون من أين، هذا وحدثونا عن إبراهيم التيمي أنّه رأى صاحباً له عليه قميص جديد فقال: من أين للك هذا؟ قال: كسانيه أخي خيثمة ولو علمت أنّ أهله علموا به ما قبلته، ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئاً ظاهراً فردّه ودفع إليه آخر شيئاً في السرّ فقبله، فقيل له في ذلك فقال: إنّ هذا أخفى معروفه وعمل بالأدب في معاملته فقبلنا عمله، والذي أظهر معروفه أساء في الأدب في المعاملة فرددنا عمله عليه، ودفع بعض الناس إلى بعض الصوفية شيئاً بين الملاء فردّه فقيل له: لم تردّ على الله عزّ وجلّ ما أعطاك؟ فقال: إنك أشركت غير الله سبحانه وتعالى فيما لله، ولم تقنع بعين الله عزّ وجلّ فرددت عليك شركك، وقد كان بعض العلماء لا يقبل في العلانية ويأخذ في السرّ سئل عن ذلك فقال: إنّ في إظهار الصدقة إذلالاً للعلم وامتهاناً لأهله وما كنت بالذي أرفع شيئاً من الدنيا بوضع العلم وإذلال أهله، وكذلك حدثنا أنّ رجلاً دفع إلى بعض العارفين شيئاً علانية فردّه ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 دفعه إليه في السرّ فقبله، فقيل له: رددت في الجهر وقبلت في السرّ؟ فقال: لأنك أطعت الله تعالى في السرّ فأعنتك على برّك بقبوله، وعصيته بالجهر فلم أكن عوناً لك على المصية، وقد كان سفيان الثوري يقول لو علمت أنّ أحدهم لا يذكر صلته ولا يتحدث بها لقبلت صلته، وفي هذا لعمري مواطأة لما ندب الله تعالى إليه من الإخفاء ولما أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضله من أعمال السرّ، وهو أيضاً لا يدخل الآخذ في نهي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله: من أهدي له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها، وقال في الحديث الآخر: أفضل ما أهدى الرجل إلى أخيه ورقاً أو يطعمه خبزاً، فجعل الورق هدية كالهدايا، وهو من أفضلها، كما قال: لأنه قيّم الأشياء، فهذا الآخذ للهدية جهراً يلزمه الإشراك للحاضرين فيها إلاّ أنْ يهبوا ذلك له، فإن لم يفعل لم يعجبني ذلك. وذهب آخرون من أهل المعرفة الموصوفين بالتوحيد إلى أنّ الإظهار للآخذ أفضل، لأنه أسلم له، وأدخل في الإخلاص والصدق، وأخرج من الثبات والقدر والمنزلة والجاه بالردّ والزهد، وقد قال الله سبحانه: (لاَتُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ) النساء: 84، قالوا: فليس علينا إذ علمنا في سلامتنا وحكم حالنا من إسقاط جاهنا بالأخذ علانية ما وراء ذلك من أقوال الناس، بتولى الله عزّ وجلّ من ذلك من به ابتلاه، وقالوا: ولأن في التوحيد أنّ الظاهر والباطن هو المعطي فلا معنى للردّ عليه في الظاهر، وقد قال بعضهم: سرّ العارف وعلانيته واحد، لأن المعبود فيهما واحد، فاختلاف فعل أحدهما شرك في التوحيد، وقال بعض العارفين: كنا لا نعبأ بدعاء من يأخذ في السرّ فرفع يده به علانية، ثم قال: هذا من الدنيا والعلانية في أمور الدنيا أفضل والسرّ في أمور الآخرة أفضل، وقال بعض المريدين: سألت أستاذي وكان أحد العارفين عن إظهار السبب أو إخفائه فقال: أظهر الأخذ على كل حال إنْ كنت آخذاً، فإنك لا تخلو من أحد رجلين، رجل تسقط من قلبه إذا فعلت ذلك فذلك هو الذي تريد، لأنه أسلم لدينك وأقلّ لآفات نفسك، وينبغي أن تعمل في ذلك، فقد جاءك بلا تكلّف، ورجل تزداد وترتفع في قلبه فذاك هو الذي يريد أخوك لأنه يزداد ثواباً بزيادة حبه لك وتعظيمه إياك فتؤجر أنت إذ كنت سبب مزيده، وينبغي أن تعمل في ذلك، وقال بعض العارفين: إذا أخذت فأظهر فإنها نعمة من الله إظهارها أفضل، وإذا رددت فأخف فإنه عمل لك وإسراره أفضل، وهذا لعمري قول فصل، وهو طريق العارفين، وقال بعض علمائنا: إظهار العطاء من الآخذ آخرة وكتمانه دنيا وإظهار الأعمال من الدنيا وكتمها آخرة، وكان هذا لا يكره الإظهار، وهذاكما قال الله تعالى: (وَأَمَّا بِنعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) الضحى: 11 وقد ذمّ الله تبارك وتعالى من كتم ما أتاه الله من فضله وقرنه بالبُخْلِ؛ والبخل باب كبير من الدنيا فقال تعالى: (الَّذينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بالبُخْلِ وَيَكْتُمونَ مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ) النساء: 37، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أنعم الله عزّ وجلّ على عبد نعمة أحبّ أن ترى عليه، وهذا هو الأقرب إلى قلوب الموحدين من العارفين، لأنه مقتضى حالهم وموجب مشاهدتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 لاستواء ظروف الأيدي عندهم من العبيد ونفاد نظرهم إلى المعطي الأول، فاستوى سرهم وعلانيتهم في الأخذ من يده، وفصل الخطاب في هذا الباب عندي أنه يحتاج إلى تفصيل فنقول والله أعلم: إنّ الخلق مبتلي بعضه ببعض، وفرض كل عبد القيام بحكم حاله ليفضل بقيامه ويسلم في حاله، فعلى المعطي أن يخفي ويسرّ جهده، فإن أظهر ترك علم حاله فنقص بذلك، فكانت هذه آفة من آفات نفسه وباباً من أبواب دنياه، وعلى المعطي أن يذكر وينشر، فإن أخفى وكتم فقد ترك الإخلاص في عمله ونقص لذلك، وكانت آفة من آفات نفسه وباباً من دنياه مثله. وروينا أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل له: إنّ فلاناً أعطيته ديناراً فأثنى بذلك وشكر، فقال: لكن فلان أعطيته ما بين الثلاثة إلى العشرة فما أثنى ولا شكر، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مريداً أن يشكره أو يثني عليه وهو يقول لابن الحمامة الشاعر وغيره: أما ما مدحتني به فألقه عنك، وأما مامدحت به ربك عزّ وجلّ فهاته، فإنه يحبّ المدح لكنه أراد منه القيام بحكم حاله لعلمه أنّ في الشكر والثناء حضّاً وتحريضاً على المعروف والعطاء، وأنه خلق من أخلاق الربوبية، أحبه الله عزّ وجلّ من نفسه فشكره للمنفقين وهو الرازق، وأحبّ من أوليائه أن يشكروا للأواسط ويثنوا به عليهم، وإنْ شهدوا فيه الأول، وكذلك لما قالت المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا خيراً من قوم نزلنا عليهم قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كلّه، فقال كلاماً شكرتم لهم وأثنيتم به عليهم، ولذلك أمر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر فقال: من أسدي إليه معروف فيلكافئ به، فإن لم يستطع فليثن به، وفي لفظ آخر: من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فأثنوا به خيراً وادعوا له حتى يعلم أن قد كافأتموه، والخبر العام بمعنى ذلك: من لم يشكر الناس لم يشكر الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وقد روينا في معنى الحدث لفظة غريبة جاءت من طريقين، وهو: من لم يذكر الناس لم يذكر الله عزّ وجلّ أن يذكرهم في العطاء ويثني عليهم به، والنوع الثاني من التفضيل أنّ على المعطي أن لا يحبّ أن يذكر معروفه ولا يشكر فإن علمت من يقصد ذلك ويحبه منك فهذا يدل على نقصان علمه وقوة آفات نفسه، فترك الثناء على مثل هذا والكتم من الفقير أفضل، فإن شكر له فأظهر عطاءه فقد ظلمه لإعانته إياه على ظلم نفسه، وقد قوى آفات نفسه، وهذا إذا فعله به من المعاونة على الإثم والعدوان فقد كان ينبغي للمعطي أن ينصره إذا كان ظالماً من حيث لا يعلم بأن يخفي عليه ما يعمل والله أعلم بالصواب. نوع آخر من التفضيل في الآخذ للفقير: إنّ من الناس من يستوي عنده إظهاره للعطاء وإخفاؤه لصحة يقينه بذلك وإخلاص نيته فيه ونفاد مشاهدته بدوام نظره إلى المنعم الأول، فهذا إن قبلت منه علانيته صلح وإن أثنيت عليه بذلك جاز لقوة معرفته وكمال عقله وسبق نظره إلى مولاه فيما وفقه به وتولاه، فيشكر له ذلك ويراه نعمة منه، ولمثل هذا جاء الخبر المشهور: إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه،، وقال بعض العارفين: يمدح الرجل علي قدر عقله، وقال الثوري: من عرف نفسه لم يضرّه مدح الناس له. النوع الرابع من التفضيل من الناس من إذا أظهر معروفه فسد قصده بذلك واعتورته الآفات من التزين والتصنع، فمثل هذا لايصلح أن يقبل منه ما أعلن به لأنه يكون معيناً له على معصيته، وهذا أيضاً لا يصلح أن يثني عليه، فإن ذكر بمعروفه أو مدح به، كان ذلك مفسدة له واغتراراً منه لقوة نظره إلى نفسه ونقصان معرفته بربه، فمن مدح هذا فقد قبله ومن ذكره بمعروفه فقد أعانه على شركه، ومدح رجل رجلاً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ضربت عنقه، لو سمعها ما أفلح وقد كان هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يثني على قوم في وجوههم ومن حيث يسمعون لثقته بيقينهم وعلمه أنّ ذلك مزيداً لهم، وقال لرجل أقبل إليه: هذا سيّد أهل الوبر، وقال لآخر من حيث يسمع: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، وتكلم رجل بكلام فصل فأعجبه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ من البيان سحراً، وقد كان يخفي الثناء على آخرين إذا علم أنّ ذلك خير لهم، وقال الثوري ليوسف بن أسباط: إذا أوليتك معروفاً فكنت أنا أسرّ به منك ورأيت ذلك نعمة من الله تعالى عليّ وكنت أشدّ حياء منك فاشكر، وإلاّ فلا، فجملة ذلك أنّ المعطي حاله الإخفاء وأنّ الآخذ حلاه الإظهار، فمن خالف ذلك فارق حاله، وإن فرض المعطي أن يكره المدح ولا يحبّ الثناء والذكر، فمن علمت منه ذلك فعليك أن تثني وتشكر وتنشر، ومن علمت منه بحبِ الإظهار ويقتضي منك الاشتهار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 فحالك أن تعاونه على ظلمه لنفسه، فترك الثناء لمثل هذا أفضل له وأسلم لك فهذا تفصيل ما أجمله الصادقون ثم اختلفوا في الأخذ من الواجب أفضل أم التطوع؟ فرأى بعضهم أن يأخذ من الواجب ولا يقبل من التطوع، أي لأنّ الواجب يؤخذ بإذن الله تعالى عن قسمه، وإنّ الله تعالى أوجب عليه أن يأخذه من حيث أوجب الزكاة، لأن الفقراء والمساكين لو تواطؤوا على أن لايقبلوا الزكوات أثموا أجمعون ولعصوا كلهم بذلك لإسقاطهم فرض الله عزّ وجلّ من الأموال بالزكوات، قالوا: ولأنّ هذا أدخل له في جملة الضعفاء والمساكين وأقرب إلى التواضع والذلة، قالوا: ولا منّة لأحد علينا فيه ولا حق يلزمنا عليه إذ كنا نستحق ذلك منه، قالوا: ولأنه أسلم لديننا لئلايدخل علينا الأكل بالدين لأنّا إنما نستوجبه بالحاجة وحرمة الإسلام فقط، ونخاف أن يكون أخذنا التطوع أكلاً بديننا أو أنّا أعطينا لصلاحنا واعتقاد فضلنا فلا نحبّ أن نخصّ بشيء دون الفقراء، وهذا مذهب القراء من العابدين، ومن ينظر إلى صلاحه ونفسه في الدين هو مقتضى حالهم وموجب شهادتهم، واختارت طائفة أن يأخذوا من النوافل دون الفرائض أجروه مجرى الهدية وقالوا: قد أمر بقبولها وندب إلى التهادي للتآلف والتحبّب، قالوا: ولانزاحم المساكين في حقوقهم ولعلنا لانكمل أوصافهم، ونخاف أن لايوجد فينا ما شرط الله عزّ وجلّ لواجبه، ولانضعه في حقيقة موضعه، أو لا نحتاط لمن يسقط عنه الواجب به، فالتطوع أوسع علينا، ومع هذا فإنهم يشهدون النعمة من الله تعالى وأنّ الدين إنما هو لله عزّ وجلّ، كا قال: (ألاّ لله الدين الخالص) الزمن: 3، وأنهم مستعملون بأنفسهم من حيث كانوا منعماً عليهم لا منعمين على أنفسهم، وهذه طريقة بعض أهل المعرفة، وممن ذهب إلى هذا إبراهيم الخواص وأبو القاسم الجنيد ومن وافقهما، والأمر في ذلك عندي أنّ من لم يأخذ من كلا إنسان ولا في كل أوان، ولم يقبل إلاّ عند الحاجة، وما لابدّ له منه، ثم قام بحكم الله تعالى في الواجب وحكمه في التطوع أنّ الحالين يتقاربان، لأنّ الواجب أمر الله تبارك وتعالى فيه حكم، والتطوع ندب، وله عزّ وجلّ فيه حكم، فعلى العبد أن ينظر لدينه ويحتاط لأخيه فيعمل بما يوجب الوقت من الحكم من أيهما كان فسواء ذلك، ولا ينظر بظلمة في هوى الحظ ففي ذلك سلامته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 الفصل الثاني والأربعون كتاب حكم المسافر والمقاصد في الأسفار فإن سنح لهذا المريد سفر ففي الحديث: البلاد بلاد الله عزّ وجلّ والخلق عباده، فحيث ما وجدت رزقاً فأقم واحمد الله عزّ وجلّ، والخبر المشهور: سافروا تغنموا، فغنيمة أبناء الآخرة ريح تجارة الآخرة، وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: (أَلمْ تَكُنَ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيهَا) النساء: 97، وقال عزّ وجلّ: (قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فَانْظَرُوا) العنكبوت: 20 وقال تعالى: (وَفي الأرْضِ آيَاتٌ للمُوقِنينَ) الذاريات: 20 وقال جلّ وعلا: (وَفي أَنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ) الذاريات: 21، فمن جعلت آياته في نفسه تبصر ففطن، ومن جعلت له الآيات في الآفاق سرب وسري، وكذلك قال الله عزّ وجلّ: (وَإنَّكُمْ لَتَمُروُّنَ عَلَيْهِمْ مُصبْحِينَ وَبالَّليْلِ أَفلا تَعْقِلُونَ) الصافات: 137 - 138 ومثله: (وَكأَيِّنْ مِنْ آيَة فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعرِضُونَ) يوسف: 105 فمن سار فكانت له بصيرة اعتبر وعقل، ومن مرّ على الآيات فنظر إليها منها تذكر وأقبل، ومن أمر الله عزّ وجلّ بالمشي في مناكب بساطه والأكل من رزقه بعد إظهار نعمته بتذليل مهاده فقال سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الملك: 15، قيل: في أسواقها، وقيل: قراها، وقيل: جبالها، وهو أحبّ إلى أحداب الأرض قراها ومناكبها جبالها لأنها أعاليها، وكان بشر الحافي يقول: يا معشر القراء سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا كثر مقامه في موضع تغيّر، وقيل: إنما سمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق النفس، وأيضاً يسفر عن آيات الله سبحانه وقدره وحكمه في أرضه، فإذا عزم على السفر فليصلّ ركعتي الاستخارة وليعقد التوكّل على الله عزّ وجلّ، فكفى ناظراً وساكناً إليه تبارك وتعالى واثقاً به ومعتمداً عليه مستوراً حاله راضياً عنه عزّ وجلّ في تقلّبه ومثواه، ولينو في سفره الاعتبار بالآثار والنظر إلى الآيات بالاستبصار والابتغاء من فضل الله سبحانه فيما ندبه إليه من الأسباب، ويقال: إنّ الله تبارك وتعالى وكّل بالمسافرين ملائكة ينظرون إلى مقاصدهم فيعطي كل واحد على نحو نيته، فمن كانت نيته طلب الدنيا أعطي منها ونقص من آخرته أضعافه وفرق عليه همه وكثر بالحرص والرغبة شغله، ومن كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 نيته طلب الآخرة وأهلها أعطي من البصيرة والفطنة، وفتح له من التذكرة والعبرة بقدر نيته، وجمع له همه وملك من الدنيا بالقناعة والزهد شغله، ودعت له الملائكة واستغفرت له، فلتكن نية هذا المسافر استصلاح قلبه ورياضة نفسه واستكشاف حاله وامتحان أوصافه، لأنّ النفس إنما أظهرت الإذعان والانقياد في الحضر، وربما استكانت وأجابت في السفر، فإذا وقعت علها أثقال الأسفار ولزمتها حقائق الاستخبار خرجت عن معتاد ذلك المعيار فأسفرت حقيقتها وانكشفت دواعيها، فيكون المسافر في علوم وبصائر يعرف بها خفايا نفسه ومكامنها، ويكون هذا من خبء الأرض الذي يخرجه الله عزّ وجلّ لمحبيه متى شاء، كما قال جلّ وعلا: (يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّمَواتِ وَالأرْضِ) النمل: 25، فإن خرج سائحاً في طلب العلم فقد جاء ذلك في تفسير قوله عزّ وجلّ السائحون قيل: في طلب العلم، وقيل: هم طلبة العلم، وقد كان سعيد بن المسيب يسافر الأيام في طلب الحديث الواحد، وقال الشعبي: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدل على هدى، ما رأيت أنّ سفره كان ضائعاً، ورحل جابر بن عبد الله من المدينة وغيره من الصحابة إلى مصر فساروا شهراً في حديث بلغه عن عبد الله بن أنيس الأنصاري يحدثه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سمعوه، ومن سافر في طلب العلم من عهد الصحابة إلى يومنا هذا أكثر من أنْ يحصى، وفي الخبر: من خرج من بيته في طلب العلم، فهو في سبيل الله عزّ وجلّ حتى يرجع. وفي خبر آخر: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله عزّ وجلّ له طريقاً إلى الجنة، ويقال: إنّ النفقة في العلم كالنفقة في سبيل الله، الدرهم بسبعمائة، وإن سافر في لقاء الصالحين فقد جاء في الأثر: كانوا يحجون للقاء، والحجّ من أفضل الأسفار فجعلوه سبباً للقاء الأخيار، فإن نوى القرب من الأمصار طمعاً في سلامة دينه وبعداً من تعلّق النفس بما في الحضر من حظّ دنياه فحسن، وربما خرج طلباً للخمول والذلة، خشية الفتنة بالشهرة، ورجاء صلاح قلبه، واستقامة حاله في البعد من الناس، ورياضة بالتفرق والتوحّد إلى أن يقوّي يقينه ويطمئن قلبه، فيستوي عنده الحضر والسفر، ويعتدل عنده وجود الخلق وعدمهم بإسقاط الاهتمام بهم، وقد قال الثوري: هذا زمان سوء لايؤمن فيه على الخامل فكيف بالمشهورين، وهذا زمان رجل ينتقل من بلد إلى بلد كلما عرف في موضع تحول إلى غيره، وقال أبو نعيم: رأيت الثوي وقد علق قلّته بيده، ووضع جرابه على ظهره، فقلت له: إلى أين يا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 أبا عبد الله؟ فقال: قد بلغني عن قرية فيها رخص، فأنا أريد أن أقيم بها، فقلت: وتفعل هذا يا أبا عبد الله؟ قال: نعم إذا بلغك عن قرية فيها رخص فأقم بها، فإنه أسلم لدينك، وأقلّ لهمّك، وقد كان سري السقطي يقول للصوفية: إذا خرج الشتاء ودخل آذار وأورقت الأشجار طاب الانتشار، ومن أفضل الأسفار ما خرج له في سبيل الله عزّ وجلّ من الجهاد والحجّ والرباط وزيارة قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم زيارة أصحابه، محتسباً بذلك ما عند الله عزّ وجلّ، والسفر في زيارة الأخ في اللهّ عزّ وجلّ مستحبّ مندوب إليه، روينا في خبر عن بعض أهل البيت عليهم السلام وقيل: مكتوب في التوراة سرْ ميلاً عد مريضاً، سرْ ميلين شيّع جنازة، سرْ ثلاثة أميال أجب دعوة، سرْ أربعة أميال زر أخاً في الله تعالى، وفي الخبر: أنّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله عزّ وجلّ على مدرجته ملكاً، فقال: أين تريد؟ فقال: أخاً لي في هذه القرية أزوره، قال: أبينك وبينه رحم تصلها؟ قال: لا، قال: فله عليك نعمة تردها، قال: لا إلا ّ أني أحببته في الله عزّ وجلّ، قال: فإني رسول الله إليك يبشرك بالجنة ويخبرك أنه قد غفر لك بزيارة أخيك، وإن سافر إلى بعض الثغور ناوياً رباط أربعين يوماً أو ثلاثة أيام فحسن، وإن قصد عبادان فرابط فيها ثلاثاً فقد أسابها ثلاثمائة من العلماء والعباد للرباط فيها ما يجله وصفه. روي عن عليّ عليه السلام أنه سأل رجلاً بالبصرة أن يرابط بعبادان ثلاثاًِ ويشركه في صحبته، وقال بعض العارفين: كوشفت بالأمصار فرأيت الثغور كلها تسجد لعبادان، ومن قصد في سفره أحد المساجد الثلاث المندوب إليها لشدّ الرحال فهو أفضل، أولاها المسجد الحرام، ومسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومسجد بيت المقدس، فيقال: من جمع الصلاة في هذه المساجد الثلاث من سنته غفرت له ذنوبه كلها، ومن أهل بحج أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وخرج ابن عمر من المدينة قاصداً إلى بيت المقدس حتى صلّى فيه الصلوا ت الخمس، ثم كرّ راجعاً من الغد إلى المدينة، وسأل سليمان عليه السلام ربه تعالى: إنّ من قصد هذا المسجد لا يهمه إلاّ الصلاة فيه أن لا تصرف نظرك عنه ما دام مقيماً فيه حتى يخرج منه، وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولدته أمه فأعطاه الله تعالى ذلك، وأما فضائل المسجدين في الحرمين حرم الله عزّ وجلّ وحرم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكثر من أن نذكرها، وإن سافر طلباً للحلال وهويأمن طعمة الحرام فذانك له قربتان، وقد فعله صالحو السلف في كل زمان، وليكن العبد في سفره مراعياً لهمه، حافطاً لقلبه من التشتّت والطمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 في الخلق، والتعرّض للمسألة، فإن لم يكن ذا معلوم معهود كان معلومه العلام الودود، وكان طريقه إليه صدق التوكّل، وزاده في طريقه حسن التقوى له بصحة الأياس من الناس، وعليه حينئذ الصبر على بلائه، والرضا بتصريفه في قضائه، ولاشكر على لطائف نعمائه من منع أو عطاء أو شدة أو رخاء، لأنه في يد الوكيل يقلبه كيف يشاء، والتوكّل عند المتوكّلين هو في الصبر للصبور وتسليم الحكم للحاكم، ومنه قوله تعالى: (الَّذينَ صبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) العنكبوت: 59 وقوله: (إنْ الحُكْمُ إلاَّ لله علَيْهِ تَوَكَّلتُ) يوسف: 67. وقال رجل لبشر بن الحارث: إني أريد سفراً ولكني منعني أنه ليس عندي شيء، فقال: لا يمنعك العدم من سفرك واخرج لقصدك، فإن لم يعطك ما لغيرك لم يمنعك ما لك، وكان إبراهيم الخواص يقول: كفّ فارغ وقلب طيب ومرّ حيث شئت، ومن طرقته فاقة أو رهقته حاجة لم يخرجه من التوكّل أن يسأل إذا عدم القوة والصبر، لأنه حينئذ يسأل لربه لا لنفسه، يحركه العلم لا الهوى لإقامة فرضه وحفظ عقله الذي هو مكان تكليفه، وفي الأثر: من جاع فلم يسأل فمات دخل النار، لأن ّ ترك السؤال عند خوف رهق الموت، ومع عدم الصبر سبب التلف، إن كان الجوع أحد الحنوف القاتلة، وقد تأوّل بعض متأخّري الصوفية قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحلّ ما أكل العبد من كسب يده قال: المسألة عند الفاقة وأنا بريء من عهدة هذا التأويل، وقد كان جعفر الخلدي يحكي هذا عن شيخ من الصوفية وكان هو يستحسنه، ولكن قد كان أبو سعيد الخراز يمدّ يده عند الفاقة ويقول: ثم شيء لله. وحدثونا عن أبي جعفر الحداد، وكان شيخاً للجنيد، له علم في التوكلّ وحال من الزهد، كان يقتات بخروجه بين العشاءين فيسأل من باب أو بابين، فيكون ذلك معلومة إلى بعض حاجاته من يوم أو يومين، ولم يعب هذا عليه أحد من الخصوص، وقد رأى بعض الناس رجلاً من الصوفية دفع إليه كيس فيه مئون دراهم في أول النهار ففرقه كله، ثم سأل قوتاً في يده بعد عشاء الآخرة فعاتبه على ذلك وقال: دفع إليك شيء أخرجته كله، فلو تركت منه لعشائك شيئاً؟ فقال: ما ظننت أني أعيش إلى المساء، ولو علمت ذلك فعلت، وكان هذا زاهد قصير الأمل إلاّ أنّ السؤال للمتوكّل عند الخواص يخرجه من التوكّل، وقد كان سهل يقول: المتوكّل لا يسأل ولا يردّ ولا يحتكر، وليس يخرجه عندي من التوكّل المسألة عند الفاقة، بل عدم الصبر والقوة، ففقد ذينك وجود الإذن من الله له في السؤال إذا كان ناظراً إلى تصريف والوكيل في كل حال، ولأنّ الوليّ الحميد يقلب وليّه في جميع الأحوال، ألم ترَ إلى إمامي أهل الظاهر والكتاب وأهل الباطن والقلوب، استطعما أهلها، لأن المسلم يستحقّ على إخوانه سدّ جوعته لحرمة الإسلام، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليلة الضيف واجبة، وقال عليه الصلاة والسلام: الضيافة حقّ، وفي الخبر: ولك أن تأخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 من ماله مقدار ليلة، وفي الحديث: أيما أهل عرضة أو قرية بات فيهم رجل من المسليمين جائعاً فقد برئت منهم الذمة، وكان الثوري يسأل في البوادي من الحجاز إلى صنعاء اليمن، فقال: كنت أذكرهم حديث عبد الله هذا في الضيافة، قال: فيخرجون إليّ طعاماً فآكل شبعي وأترك ما بقي، والمسافر هو ابن السبيل الذي أوجب الله حقه في الأموال، لأن السبيل هو الطريق، وراكبها ابنها، لأنه صاحب طريق وسالكه، وليس عليه أيضاً في الثواء عن أخيه المسلم ثلاثة أيام شيء، لأنه مقيم على ما أبيح له. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الضيافة ثلاثة، فما زاد فهو صدقة، فلا يقيمنّ فوق ثلاث، فقد نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقال: ولايقم فوق ثلاث فيحوجه أن يضيق عليه، وتأويل قوله عندي فما زاد فهو صدقة، أي مروه لامندوب إليه، ولا مأمور به، فإن اختار الصدقة ولم ينزّه نفسه عنها فهو أعلم، أي وما كان في الثلاث فهو حقّ له وواجب على مضيفه، فإن سألوه الأقامة فوق ثلاث أو علم أنهم يحبون الإقامة فلا بأس بذلك، وقد تأول بعض الصوفية قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فما زاد فوق ثلاث فهوصدقة، إنه صدقة على أصحاب المنزل من الضيف، تصدّق عليهم لإقامته، لأنه مثوبة لهم، ولا يعجبني هذا التأويل، وليحافظ على صلاته في أوقاتها بحسن طهارة وجميل أداء، وليحفظ قلبه أن يتشتت، فإن السفر قد يشتّت همّ المريد، ويجمع همّ العارفين، ويشغل قلوب الضعفاء، ويروح قلوب الأقوياء، وهو محنة وكشف لأخلاق العبد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرجل الذي زكّى عنده رجلاً لما سأله عنه ليقبل شهادته فقال له: هل صحبته في السفر الذي يستدلّ به على مكارم الأخلاق؟ فقال: لا، قال: ما أراك تعرفه، وعن بعض السلف: إذا أثنى على الرجل معاملوه في الحضر ورفقاؤه في السفر فلا تشكّوا في صلاحه إذ ذاك، لأنّ السفر يسيء الأخلاق، ويكثر الضحر، ويخرج مكامن النفس من الشحّ والشره، وكل من صلحت صحبته في السفر صلحت صحبته في الحضر، وليس كل من صحب في الحضر صلح أن يصحب في السفر، وقال بعض السلف: ثلاثة لا يلامون على الضجر، الصائم، والمريض والمسافر، ولا ينبغي أن يفارقه من الأسباب أربعة، الركوة، والحبل، والإبرة بخيوطها والمقراض، وكان الخواص من المتوكلين، ولم تكن هذه الأربعة تفارقه، وكان يقول: ليست من الدنيا، وبعض الصوفية كان يقول: إذا لم يكن مع الفقير ركوة وحبل دلّ ذلك على نقصان دينه، وكان جماعة من أرباب القلوب وأهل المعاينة بالأحوال إذا استوطنت نفوسهم مصر أو سكنت إلى موضع عملوا في الغربة لرفع العادة وإيثاراً للقلة والذلة، وقالوا: لا يخلو المؤمن من قلّة أو علّة أو ذلّة، وكانوا إذا خافوا الاستشراف إلى الخلق خرجوا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 الأسفار لقطع ذلك وحسمه من الأذكار، وقد كان الخواص لا يقيم في بلد أكثر من أربعين يوماً ويرى إنّ ذلك علّة في توكله فيعمل في اختبار نفسه وكشف حاله. وحدثنا عن بعض الشيوخ قال: لبثت في البرية أحد عشر يوماً لم أطعم شيئاً،، وتطّلعت نفسي أن تعرّج على حشيش البرية، فرأيت الخضر مقبلاً نحوي فهربت منه، فلما ولّيت عنه هارباً التفتّ إليه، فإذا هو قد رجع عني، فانظروا إلى وليّ الله عزّ وجلّ كيف لم يفسد على توكلّي، فقيل له: لِمَ هربت منه؟ قال: تشوّفت نفسي أن يقيتني، وعلى المسافر من أهل القلوب أن يفرّق بين سكون القلب إلى الوطن والسفر، وبين سكون النفس إليهما، فإنّ ذلك قد يلتبس فيحسب من لا بصيرة له، ولا تفتيش لحاله، ولا صدق في أحواله، أنّ سكون النفس هو سكون القلب فينقص بذلك ولا يفطن لنقصانه، فإن كان قلبه يسكن إلى أحدهما وفيه صلاح دينه وعمارة آخرته ومحبة ربه، فهذا سكون القلب لأنه يسكن إلى أخلاق الإيمان وماورد العلم به وإن كانت نفسه تسكن إلى أحدهما مما فيه عاجل حظوظ وعمارة دنياه وموافقة هواه، فهذا سكون نفس، لأنها تسكن إلى معاني الهوى، فليتحوّل من الوطن إلى الغربة، وليرجع من الغربة إلى المصر، ومن كان في سفر على غير هذا النعت من التفقد لحاله وحسن القيام بأحكامه فهو على هوى وفتنة، وسفره بلاء عليه ومحنة، وفصل الخطاب أنّ من لم يكن له في سفره حال يشغله، وهمّ يجمعه، ووقت يحبسه، ومأوى يظلّه، ومسكن يؤنسه، وزاد من باطنه، وعلم من عالمه، فإنّ الحضر أرفق لحاله، وأصلح لقلبه، وأسكن لنفسه من السفر، لأنه يكون في السفر مشتّت السرّ، مفرق الهمّ، تارة بوجود معلوم يخاف عليه، ومرة بفقد معتاد يحنّ إليه، مرة باستشراف إلى خلق يطمع فيه، فمرة يضعف قلبه مع العدم، وتارة يقوى بالاستطلاع إلى البشر، ومرة يفزع بفقد ما عنده قد حضر، فمثل هذا يكون في السفر نقصان ما ادعى، والسفر يجمع همّ الأقوياء، ويشتّت قلوب الضعفاء، ويذهب أحوال أهل الابتداء، ثم إن لم يصلح قلبه ولم يستقم حاله في الحضر فإنه لايصلح حاله ولا يستقيم قلبه في السفر، وأنشدوا لبعض السائحين في التغرّب: ألفت التفرّد والغربه ... ففي كل يوم أطي تربه فيوم مقيم على نعمه ... ويوم مطلّ على نكبه ومما يطلب نفس الغري ... ب حبيب تطيب به الصحبه وقد نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسافر الرجل وحده فقال: الثلاثة نفر، وقال: إذا كنتم في سفر ثلاثة فأمروا أحدكم، قال: فكانوا يفعلون ذلك، ويقولون ذاك أمير أمر رسو ل الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك يستحبّ. وقد جاء في الخبر: خير الأصحاب أربعة، والأسفار، والنزه لا تطيب إلاّ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 جماعة، وأقل الجماعة اثنان، والثلاثة والأربعة أفضل، والسياحة لا تحسن إلا على الانفراد والوحدة، فإن اتفق ثلاثة في سياحة بقلب واحد، وهمّ واحد، على حال واحد، فهم كعبد واحد، فهو حسن وفيه معاونة على البرّ والتقوى، قال الله عزّ وجلّ فيمن منعه النصرة وحرمه منه الصحبة: (لاَ يَسْتَطيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبْونَ) الأنبياء: 43، فمن نصره الله على نفسه فقد صحبه، ومن لم يصحبه سلَّط عليه نفسه وسخّره لها، وجمله الأمر أنّ السفر عمل من الأعمال يحتاج إلى نية وإخلاص، فمنه فرض وهو ما هرب به من معصية، ومنه فضل وهو ما طلب به طاعة، ومنه مباح وهو ما ضرب به في تجارة، ومنه معصية وهو ما سعى به في فساد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الفصل الثالث والأربعون فيه كتاب حكم الإمام ووصف الإمام والمأموم فإن كان هذا المريد إماماً لحيّه كان عليه أن يقوم بحكم الإمامة حتى يتمّها، فيستحق الإمام بأن يكون له مثل أجر من صلّى خلفه بأن يكون داعياً إلى الله عزّ وجلّ، قائماً بين الله تعالى وبين عباده هو وجهتهم وطريقتهم إليه، وفي الخبر: إنما الإمام أمير، فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا، وفي الحديث فإن تمّ فله ولهم، وإن نقص فعليه ولا عليهم، وفي الخبر: أئمتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ، فإن أردتم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم، وفي الخبر المشهور: الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين، وفي الحديث: ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، وفي لفظ آخر: لا تجاورصلاتهم رؤوسهم: العبد الآبق، وامرأة زوجها عليهاساخط، وإمام قوم وهم له كارهون، فأوّل ما عليه من الشروط أن يكون مجتنباً للفسوق والكبائر وغير مصرِّ على الصغائر، قارئاً لكتاب الله عزّ وجلّ، أو لما يحسن منه بغير لحن ولا إحالة معنى، عالماً بفرائض الصلاة وسننها، وما يفسدها وما يوجب السهو وما لا يوجبه منها، وإنْ حدثت عليه حادثة في الصلاة، أو ذكر أنه على غير وضوء ورع واتقى اللهّ عزّ وجلّ، وخرج من صلاته وأخذ بيد أقرب الناس منه، فاستخلفه في مقامه، وقد أصاب ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمام الأمة في الصلاة فخرج منها، وذلك أنه ذكر أنه كان جنباً فاغتسل، ثم رجع فدخل في الصلاة، فإن كانت الحادثة في الصلاة فعل ذلك، وإن كان ذكر أنه دخل في الصلاة على غير طهارة خرج ولم يستخلف وابتدأ القوم صلاتهم، فليكن الإمام مأموناً على طهارته بإكمالها، مأموناً في صلاته بإقامتها، مخلصاً بالإمامة، يريد بها وجه الله تعالى وما عنده، ولايحلّ له أن يأخذ على الصلاة أجراً ولا على الأذان الذي هوطريق إليها، أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان بن أبي العاص الثقفي فقال: واتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً، فهذا الداعي إلى الصلاة لا يحلّ له أن يأخذ على دعائه أجراً فكيف المصلّي القائم بين الله وبين عباده؟ وقد كان بعض السلف يقول: ليس بعد الأنبياء أفضل من العلماء، ولا بعد العلماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 أفضل من أئمة المصلّين، لأنّ هؤلاء قاموا بين الله تبارك وتعالى وبين خلقه، هذا بالنبوّة، وهذا بالعلم، وهذا بعماد الدين، وهي الصلاة، وبهذه الحجة احتّج على عليّ رضي الله عنه في تقدمة أبي بكر رضي الله تعالى عنه للخلافة لما أهله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا قال: فنظرنا فإذا الصلاة عماد الدين، فاخترنا لدنيانا من رضيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا، وقال ورجل: يارسول الله دلّني على عمل يدخلني الجنة، فقال: كن مؤذناً، قال: لا أستطيع، قال: كن إماماً، قال: لا أستطيع، قال: فصلِّ بإزاء الإمام، وقد كان بعض الورعين يتورع عن الإمامة لما فيها ولما على الإمام من ثقلها وتحملها، وكانوا يختارون الأذان على الإمامة ويفضلونه عليها، منهم كثير من الصحابة، وعليه أن يراعي أوقات الصلوات ليصلّي في أوائلها، فيدرك رضوان الله عزّ وجلّ، وبيّن فضل الصلاة في أول وقتها على الصلاة في آخر وقتها كفضل الآخرة على الدنيا، كذلك روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي حديث آخر: أنّ العبد ليصلِي الصلاة في آخر وقتها ولم يفته ولما فاته من أول وقتها خير له من الدنيا وما فيها، وليتمّ الركوع والسجود والاعتدال والقعود بنيهما، فيكون ذلك قريباً من السواء، معتدلاً كله، حتى يدرك مَنْ وراءه من الضعفاء والمرضى، فتلك كانت صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينبغي أن يكون له ثلاث سكتات. كذلك روى سمرة بن جندب وعمران بن حصين عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أولهن: إذا كبر وهي الطولى منها مقدار ما يقرأ من خلفه فاتحة الكتاب لئلا يقرؤوا في قراءته، فيكون عليه ما نقص من صلاتهم، فإن لم يقرؤوا فاتحة الكتاب في سكوته واشتغلوا بغيرها، فذلك حينئذ عليهم، وقد فعل هو ما عليه، والسكتة الثانية إذا فرغ هو من قراءة الحمد ليتمم من بقى علي شيء من فاتحة الكتاب في هذه السكتة وهي على النصف من السكتة الأولى، والسكتة الثالثة إذا فرغ من قراءة السورة قبل أن يركع وهي أخفهّن على النصف من السكتة الثانية لئلا يكون مواصلاً في صلاته بأن يصل التكبيرة بالقراءة ويصل القراءة بالركوع فقد نهى عن ذلك، وعلى المأموم أيضاً أن لا يصل تكبيره الإحرام ولا تسليمه بتسليم الإمام، وعليهما أن لا يصلا التسليمتين ليفصلا بينهما، فقد نهى عن المواصلة في الصلاة وهي في هذه الخمس، وعلى المأموم أن يكبر ويركع ويسجد ويرفع ويضع بعد الإمام ولا يخرّون سجّداً حتى تقع جبهة الإمام على الأرض وهم قيام ثم يخرّون بعده، كذلك كانت صلاة الصحابة خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يكبر حتى يعتدل الصف وراءه، وليلتفت يميناً وشمالاً، فإن كان أعوج أشار بيده، وإن رأى خللاً أمر بسدّه فإن تسوية الصف من تمام الصلاة، وكانوا يحذون بين المناكب ويتضامون في الكعاب، وقد قيل: إنّ الناس يخرجون من الصلاة على ثلاثة أقسام، طائفة بخمس وعشرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 صلاة وهم الذي يتمون صلاتهم بعد ركوع الإمام وسجوده، وطائفة بصلاة واحدة وهم الذين يكبرون ويركعون ويسجدون معه مواصلة له ومبادرة، وطائفة تخرج بغير صلاة وهم الذين يرفعون ويضعون قبله فيسابقون إمامهم، وليقرأ في صلاة الغداة بسورتين من المثاني وهي مادون المائة، فإن الإطالة في قراءة الفجر والتغليس سنّة، ولا يضرّه خروجه منها مسفراً إذا كان قد دخل فيها مغلساً، ولا أكره أن يقرأ في الركعة الثانية منها بأواخر السور من نحو الثلاثين أو العشرين إلى أن يختمها لأن في ذلك مزيد تذكرة وفضل تبصرة، لأنه يبعد طروقه على الأسماع لكثرة الاعتياد لتلاوة السور القصار فهي أدنى إلى الانقطاع والتفكّر، وإنما كره أن يقرأ من أوّلها كذلك، ثم يقطع أو يقرأ من وسطها، ثم يركع قبل أن يختمها هذا الذي كرهه بعض العلماء. وقد روينا أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ بعض سوررة يونس فلما انتهى إلى ذكر موسى وفرعون قطع فركع، وروينا حديثاً أشهر منه أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في ركعتي الفجر مائة مرة من سورة البقرة قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِالله) البقرة: 136 الآية، وفي الثانية: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ) آل عمران: 53، وفي رواية أنه قرأ فيهما: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ) آل عمران: 18، وأنه سمع بلالاً يقرأ من ههنا وههنا فسأله عن ذلك فقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال: أحسنت أو أًصبت، والخبر المشهور عن أبي بكر الصديق قال الصنابحي: صلّيت خلفه المغرب فأصغيت إليه في الركعة الثالثة، فإذا هو يقرأ هذه الآية: (رَبَّنَا لاَ تُزِغ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا) آل عمران: 8 الآية، فكذلك يستحبّ أن يقرأ بهذه الآية خاصة في الثالثة من صلاة المغرب، وروينا عن ابن مسعود أنه أمّ الناس في صلاة العشاء الآخرة فقرأ في الركعة الثانية بالعشر الأواخر من سورة آل عمران، وأنه قرأ أيضاً في هذه الصلاة بآخر سورة الفرقان من قوله تبارك وتعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بُرُوجاً) الفرقان: 61 وقد قال الفقهاء في المستحبّ من القراءة بعد سورة الحمد من الزيادة عليها أن يقرأ ثلاث آيات من سورة، وبعضهم يقول: آيتين من سورة، فإن اكتفى بسور الحمد أجزأه. وقد روينا عن جابر بن زيد فقيه أهل البصرة وكان ابن عباس يستخلفه في الفتيا ويأمر أن يستفتي أنه افتتح الصلاة ثم قرأ الحمد ثم قال: (مدهامتان) الرحمن: 64 وركع، وهذه أقصر آىة في كتاب الله عزّ وجلّ وبعدها، ثم نظر وقد رأيت بعض الأئمة في جامع عظيم من جوامع المسلمين قرأ في الركعة الثانية من صلاة العشاء الاخرة بآخر سورة يونس وخلفه العلماء والأشهاد، فما أنكر عليه أحد، وليقرأ في صلاة الظهر بطوال المفصل إلى الثلاثين آية، في صلاة العصر بوسط المفصل على نصف صلاة الظهر، في المغرب بأواخر المفصل وآخر صلاة صلاّها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المغرب قرأ فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 سورة والمرسلات ما صلِّى بعدها حتى قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال أنس: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أخفّ الناس صلاة في تمام ثم قال أيضاً: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالتخفيف في الصلاة وإن كان ليؤمنّا بسورة والصافات. وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرخص إذا صلّى أحدكم بالناس فليخفّف فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء، وقد كان معاذ بن جبل يصلِي بقومه صلاة عشاء الآخرة فافتتح بسورة البقرة، فخرج رجل من الصلاة وأتّم لنفسه، ثم انصرف فقالوا: نافق الرجل، ثم تشاكيا إلى رسول الله ّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشكى الرجل وزر معاذ وقال: أفتّان أنت؟ اقرأ بسورة سبّح والسماء والطارق والشمس وضحاها، وليسبّح في ركوعه وسجوده سبعاً أو خمساً ليدرك من وراءه ثلاثاً ثلاثاً لأنهم يركعون ويسجدون بعده. وروينا أنّ أنس بن مالك لما صلّى خلف عمر بن عبد العزيزكان أميراً بالمدينة قال: ما صلِت بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل صلاة هذا الشاب قال: وكنا نسبّح وراءه في الركوع والسجود عشراً عشراً، وقد روينا مجهلاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كنا نسبح وراءه في الركوع والسجود عشراً عشراًً، فإن قرأ في الأخيرتين من الظهر والعصر وعشاء الاخرة بعد الحمد بسورة قصيرة أو آيتين من سورة فحسن ليدرك مَنْ وراءه قراءة الحمد على مهل، وقد اختلف مذهب السلف في الإمام يكون راكعاً فيسمع خفق النعال هل ينتظر في ركوعه ويتوقّف حتى يدخلوا في الركعة أو لا يباليهم؟ فقال بعضهم: ينتظر حتى يلحقوا معه وممن اختاره الشعبي، وقال آخرون: لا ينتظرهم فإن حرمة من معه في الصلاة أعظم من حرمة من تأخر عنها، وقال بهذا إبراهيم النخعي، وكذلك قال فقهاء الحجاز: لا ينتظرهم فإنه زيادة في الصلاة، ومن الإخلاص بها ترك التوقف بها لأجلهم، وقال بعض فقهاء الكوفة إن انتظرهم فحسن ليدركوا معه الجماعة فيكون له فضل إدراكهم، وقد قدم عثمان القنوت قبل الركوع في صلاة الغداة ليدركوا الناس الركوع، والذي عندي في هذا التوسط وهو أنه ينتظر فإن سمع خفق نعالهم في أوّل ركوعه فلا بأس أن يمدّ حتى يلحقوا، وإن سمعها في آخر ركوعه عند رفع رأسه لم أحبّ أن لا يزيد في الصلاة لأجلهم فليرفع ولا يبالي، وأفضل التشهد عندي الذي رواه ابن مسعود وجابر، وقد اختلفت الروايات في ألفاظ التشهد والذي اختاره، وأقوله ما رويناه عن عبد اللهّ بإثبات الواوات، وبتقديم اسم الله عزّ وجلّ في أوله، وبزيادة المباركات، فأكون بذلك جامعاً بين جميع الروايات لأن في حديث عمر ذكر المباركات وتأخير قوله لله عزّ وجلّ، ومن رواية ابن عمر ذكر التسمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 وقد روينا ذلك في حديث الثوري عن أيمن بن وائل عن أبي الزبير عن جابر أنّ رسول الّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: بسم الله، وبالله، التحيّات لله، والصلوات والطّيبات لله عزّ وجلّ، فهذا هو الأفضل عندي لأنه هو الأحوط ولدخول روايات الجماعات فيه، ثم اختلفوا في مواجهة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإشارة إليه في السلام، أو تركها، فالذي اختاره السلام على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللهّ الصالحين لأنه قد جاء في بعض الأخبار كالتفسير لما ذكرناه، قال: كنا نقول إذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صرنا نقول: السلام على النبي، وفي كل الروايات قوله: وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، فكذلك اختار إلا في رواية عمر، فإنه ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحدثني بعض العلماء عن بعض الصالحين قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقلت: يا رسول الله قد اختلف العلماء علينا في التشهد فيم نأخذ فقال: التشهد هو الذي رواه ابن أم عبد، ولا يدع أن يستعيذ في تشهده بالكلمات الخمس فيقول: أعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيّا، والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قد فعله رسول اللهّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر به، والمسيح بنصب الميم مع التخفيف لأنه قيل سمّي كذلك معدول به من ماسح، أي يمسح الأرض مسحاً، لأنه قيل: تطوى له الأرض، وبعض أهل اللغة يقول: عدل به عن ممسوح العين أي مطموسها، والتكبير والتسليم جزم والأذان جزم، قد قيل ذلك واستحبّ أنْ يكون المؤذن غير الإمام. وقد روينا في الخبر أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كره أن يكون الإمام مؤذناً، وقد كان عمر رضي الله عنه إذا ذكر فضل الأذان يقول لولا الإمامة لأذنت. وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأذان إلى المؤذن والإقامة إلى الإمام؛ أي هو أملك بها، وللمؤذن أنْ ينتظر الإمام، وليس على الإمام والمأموم انتظار المؤذن إذا دخل الوقت، ولا على المؤذن انتظار أحد إذا انتظر الإمام ودخل الوقت، والصلاة في أول وقتها أفضل من انتظار الجماعة لها، وأفضل من قراءة طوال السور فيها، وقيل: قد كانوا إذا حضر اثنان في الصلاة لم ينتظروا الثالث، وإذا حضر أربعة في الجنازة لم ينتظروا الخامس، وقيل: انتظار المأموم مع شهود الإمام مكروه والنعي بالميت والإيذان به بدعة، وقد تأخر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاة الفجر وكانوا في سفر، وإنما تأخر لطهارة، فلم ينتظر، وقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلّى بهم حتى فاتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعة فقام يقضيها، قال: فأشفقنا من ذلك فقال: أحسنتم هكذا فافعلوا، وقد تأخر في صلاة الظهر فقدموا أبا بكر رضي الله عنه حتى جاء وهم في الصلاة، فقام إلى جانبه، ليدخل في الصلاة مكبّراً إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، ويكون الناس قد قاموا إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 قال المؤذن: حيّ على الصلاة، كذلك السنة وعليه كان السلف. وروينا عن عليّ عليه السلام وعبد الله وكانوا إذا قال المؤذن: حيّ على الصلاة قام الناس للدعوة، فإذا قال: قد قامت الصلاة كبّر الإمام، ويبقى المؤذن وحده يتم الإقامة، ثم يدخل في الصلاة والإمام يقرأ سورة الحمد، لأنّ حقيقة قوله قد قامت الصلاة أي قد قام الناس للصلاة، وقد قام المصلّون لأنّ الصلاة لا تقوم، فإذا قاموا عند قوله: قد قامت الصلاة كان المؤذن صادقاً في قوله، وإن كان جائزاً على المجاز لقرب الوقت وظهور سبب القيام، ولذلك كره أن يكون الإمام مؤذناً لأنه حينئذ يحتاج أن يكبّر ويدخل الناس في الصلاة عند قوله: قد قامت الصلاة، وكذلك جاء عن السلف من السنّة أن يكون الأذان في المنارة والإقامة في المسجد ليقرب على المؤذن الدخول في الصلاة، وكذلك قال بلال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تسبقني بآمين؛ أي تمهّل حتى أدرك النامين معك لفضله إذ قد علم أنه يسبقه بافتتاح الحمد، وفي هذا دليل على صحة اختيارنا فيما ذكرنا من انتظار الإمام لمن سمع خفق نعله إذا كان في أول الركوع لقول بلال: لا تسبقني بآمين ولم يقل: لا تسبقني بالحمد ولا أستحبّ للإمام الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن كانت آية من سورة الحمد فأكثر الروايات وأثبتها عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الجهير بها، وأنه الآخر من فعله فقد كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من أفعاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأنه مذهب أكثر العلماء. وروينا عن ابن مسعود أنه قال: من السنّة أن لا يخفي الإمام أربعاً؛ سبحانك اللهم، والاستعاذة، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم، والتأمين، وقد روينا عن عليّ كرّم الله وجهه: الجهر بها، وعن ابن عباس: ليس من السنّة الجهر بها ولا أكره القنوت في صلاة الغداة بالكلمات الثمانية التي رويت عن الحسن عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولها سرّاً ولا يرفع يديه، لأنها تجري مجرى الدعاء، وإن ترك ذلك فحسن، قد تركه أكثر الفقهاء واستحبّ أن يقرأ في ليلة الجمعة وغداتها من السور ما روينا عن رسول الله في حديثين؛ المشهور منهما: أنه كان يقر في صلاة الغداة يوم الجمعة بسورة السجدة (هَل أَتى) الدهر: 1، والحديث الآخر، أنه كان يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ وقُلْ هُوَ الله أحَدٌ) الكافرون: 1، الإخلاص: 1، وفي عشاء الآخرة بسورة الجمعة وسورة المنافقين، واستحبّ أن يقول في تشهّده من الدعاء ما علم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائشة من الجوامع والكوامل: اللهم إني سألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، أسألك مما سألك منه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعوذ بك ما استعاذك منه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم ما قضيت لي من أمر فاجعل عاقبته رشداً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 ثم يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ويقول: (رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا) آل عمران: 8 الآية، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقنا عذاب النار، وليس بعد هذا دعاء مفضل ولا كلام مأثور سوى ما ذكرناه آنفاً من الاستعاذة بالكلمات الخمس، وإنْ اقتصر عليها أجزأته ويكره للإمام أن يخصّ نفسه بدعاء دون من خلفه فإن دعا في صلاته فليجمع بالنون فيقول نسألك ونستعيذك وهو ينوي بذلك نفسه ومن خلفه. وفي الخبر: من أمّ قوماً فلا يخصّ نفسه بدعوة دونهم فإن اختار المريد التأذين على الإمامة فقد قال بعض السلف من العلماء: إنّ الأذان أفضل من الإمامة، وإنّ المؤذن أعظم أجراً لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإمام أمير، ولقوله: الإمام ضامن، فشبهها بالإمارة والضمان، ثم قال: فإن نقص فعليه لا عليهم، فالأذان أسلم، ولعله لا يقوم بحكم الإمامة، ولا يتمّ وصف الإمام فيكون عليه بعض صلاة المصلّين كما يكون له أيضاً في الإتمام أجورهم، وأيضاً فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا للمؤذنين دعاء هو أمدح من دعائه للإمام بقوله: اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين وبقوله: يغفر للمؤذن مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس، ووصفه أيضاً بوصف هو أبلغ فقال: المؤذن مؤتمن، وفي لفظ آخر: مؤذنوكم وأئمتكم ضمناؤكم، فالأمين أرفع حالاً من الضامن لأنّ الضامن غارم، وقد لا يكون أميناً، والأمين مكيناً، ولا ضمان عليه؛ ومن هذا كره سهل بن سعد الساعدي الإمامة، قال أبو حازم: قلت لسهل بن سعد وكان يقدم فيتان قومه يصلّون به، فقلت: أنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولك من السابقة والفضل لو تقدّمت فصلّيت بقومك، فقال: يا ابن أخي سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الإمام ضامن فأكره أنْ أكون ضامناً، وفي الخبر: من أذّن في مسجد سبع سنين وجبت له الجنة، ومن أذّن أربعين عاماً دخل الجنة بغير حساب، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاثة يوم القيامة على كثيب من مسك يفزع الناس ولا يفزعون حتى يقضي بين الخلائق؛ رجل قرأ القرآن فأدّاه إلى الله سبحانه وتعالى بما فيه، ورجل أذّن في مسجد ابتغاء وجه الله تعالىى، ورجل ابتلى بالرق في الدنيا فأطاع الله عزّ وجلّ وأطاع مواليه. وروينا في تفسير قوله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله) فصلت: 33؟ قال: نزلت في المؤذنين وعمل صالحاً قال: الصلاة بين الأذان والإقامة يستجب إذا فرغ المؤذن من الأذان أن يقول: وأنا من المسلمين الحمد لله رب العالمين، وتلا قوله وعمل صالحاً، وقال: إنني من المسلمين، وقوله مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين، فاستحب أنْ يصلّي المؤذن بين الأذان والإقامة أربعاً، وأنْ يجهد في الدعاء، قال: وكان السلف يكرهون أربعاً ويتدافعونها عنهم: الإمامة والفتيا والوصية والوديعة، وقال بعضهم: ما شيء أحب إليّ من الصلاة في جماعة، وأكون مأموماً فأكفى سهوهاً ويتحمل غيري ثقلها، ولكن إذا أقمت الصلاة فليتقدم من أمر بالتقدم ولا يتدافعونها، فقد جاء في العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 أنّ قوماً تدافعوا الإمامة بعد إقامة الصلاة فخسف بهم، ولكن لا يقيم المؤذن حتى يحضر الإمام، ولا ينتظروا الإمام قياماً فإنه مكروه، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تقوموا حتى تروني، وكان بشر بن الحارث يقول: من أراد سلامة الدنيا وعزّ الآخرة فليجتنب أربعاً: لا يحدث ولا يشهد ولا يؤم ولا يفتي، وفي بعضها ولا يجيب دعوة، وقال مرة: ولا يقبل هدية وهذا من تشديده، والذي اختار من التأذين والإقامة مذهب أهل الحجاز بتثنية الأذان، بالترجيع وإفراد الإقامة، وأنْ يزيد في أذان الفجر الصلاة خير من النوم مرتين، وأنْ يؤذن لها قبل دخول الوقت، خاصة ليتأهب لها المصلّون وإنما هي الصلاة الوسطى إلاّ أنْ يتفقوا على صحة الحديث شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، فليدع الاختيار للآثار، وإنْ يمدّ المؤذن صوته ويرفعه جهده ويترسل أذانه، وقيل كانوا يستحبون خفض الصوت في كل موطن إلاّ في موضعين: في الأذان وعند التلبية. وفي الخبر: يتمهل المؤذن بين أذانه وإقامته قدر ما يفرغ الأكل من طعامه، والمعتصر من اعتصاره، فهذا توقيت من مقدار المصلّين بين الأذانين، فمن كانت به حاجة إلى هذين فليقدم ذلك قبل دخوله في الصلاة لئلا يشغله شيء عن صلاته، ونهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مدافعة الأخبثين في الصلاة، وأمر بتبدئة العشاء في قوله: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء، ذلك ليكون القلب فارغاً لربه خالياً من نوائبه، فذلك من إقامة الصلاة وتمامها، وأكره الإمامة لمن كثر سهوه في الصلاة، أو دام اشتغال قلبه عن فهم المناجاة، أو لمن علم أنّ وراءه من هو أقرأ منه أو أفقه في الدين والعلم وإنْ كان هو عابداً صالحاً، أو لفقيه بالعلم إذا كان وراءه أتقى منه وأصلح وأروع بعد أنْ يكون مؤدّياً لفرض التلاوة، ولا يؤم الأمي القراء ولا الأعجمي الفصحاء ولا المتيممون المتوضئين، وإنْ اتّفق أميّون قدم أقرؤهم وإنْ حضر أئمة قرّاء فليتقدم بالعلم، وإنْ اتّفق رجلان أحدهما قد جمع كل القرآن إلاّ أنّ الآخر أحسن تجويداً وتثقيفاً لما يقرأ منه، وليس يحفظ جميعه فليقدم أقومهم قراءة إذا كان عالماً بالصلاة، وفي الخبر: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عزّ وجلّ، فإن كانوا في القراءة سواء فأفقههم في الدين، فإن كانوا في الفقه سواء فأكبرهم سنّاً، فلذلك الأمر الرجل أحق بالإمامة إذا كان في منزله إلاّ أنْ يأذن، واستحب للإمام إذا سلم أنْ يسرع الانفتال بوجهه إلى الناس، وأكره للمأموم القيام قبل انفتال إمامه، فقد روينا في ذلك سنّة حسنة عن طلحة والزبير، أنهما صلّيا في البصرة خلف إمام، فلما سلّما قالا للإمام: ما أحسن صلاتك وأتمّها، كما كنا نصلّي الأشياء، واحداً أنك لما سلمت لم تنفتل بوجهك، ثم قالوا للناس: ما أحسن ما صلّيتم إلاّ أنكم انصرفتم قبل أنْ ينفتل إمامكم، ومن كرهه جيرانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 أو كرهه مَنْ وراءه من المأمومين فلا يحل له أنْ يتقدم، فإن اختلفوا فكرهه قوم وأحبه آخرون، نظر إلى أهل الدين والعلم منهم فحكم بقولهم ولا يعتبر الأكثر إذا كان الأقلون هو الأخير، ولا يصلّي خلف مبتدع، فمن صلّى خلف مبتدع ولا يعلم فليعد، ومن سمع الأذان من مسجد وهو في طريق يمشي فليدخل فليصلِّ، ولا يؤخر إلى مسجد آخر إلاّ لأحد معنيين: أنْ يكون على يقين من لحوق إمام آخر أفضل من هذا، أو يكون يعرف هذا ببدعة أو فسوق، وإلاّ فالصلاة مع أوّل من قام بها من المسلمين أفضل. وفي الخبر: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وفي جار المسجد قولان: أحدهما من سمع الأذان وروي هذا عن عليّ عليه السلام، والثاني من كان بينه وبين المسجد ثلاث دور وهو الرابع، والتشديد في ترك الجماعة على من سمع التأذين، ومن كان في جنبه مسجدان فأولاهما بالصلاة فيه أقربهما منه، وهذا مذهب الحسن إلاّ أنْ يكون له نية في كثرة الخطا إلى الأبعد، أو يكون إمام الأبعد هو الأفضل، وقيل: أقدمهما، وروي هذا عن أنس بن مالك وبعض الصحابة، أنهم كانوا يجاوزون المساجد المحدثة إلى العتق، ومن كان مأموماً فلا يقرأ سورة مع الحمد فيما يجهر به الإمام أصلاً ولا يقرأ الحمد أيضاً إلاّ في سكتات الإمام وإنْ قطعها، فإن لم يكن للإمام سكتات قرأ الحمد فقط فيما يجهر به الإمام، وكان ما عليه من وزر قراءته في قراءة الإمام على إمامه، لأنه قد نقص صلاته وترك ما عليه، فالله عزّ وجلّ حسيبه، فإذا أسر الإمام فليقرأ الحمد وسورة إذا أمكنه ولا بدّ من قراءة الحمد وحدها، واستحب للإمام أنْ يتحول إذا صلّى المكتوبة فلا يصلّي في موضعه نافلة، ففي الخبر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سلم وثب، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا سلم وثب، وكان عمر رضي الله عنه إذا سلم وثب، وفي الخبر المشهور أنه لم يكن يقعد إلاّ قدر قوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، ثم ينصرف، وإنْ تحول المأموم فصلّى النافلة في غير مكان الفريضة ولو بقدم فحسن، ففي ذلك أثر، فإن جلسا قليلاً للتسبيح والدعاء فلا بأس، وهذا آخر كتاب الإمامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 الفصل الرابع والأربعون كتاب الأخوة في الله تبارك وتعالى، والصحبة والمحبة للإخوان فيه، وأحكام المؤاخاة وأوصاف المحبين: ذكر الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين نعمته عليهم في الدين، إذ ألف بين قلوبهم بعد أن كانوا متفرقين، فأصبحوا بنعمته إخواناً بالألفة متفقين، وعلى البرّ والتقوى مضطجعين، ثم ضم التذكرة بالنعمة عليهم إلى تقواه، وأمر بالاعتصام بحبله وهداه، ونهى عن التفرق إذ جمعتهم الدار، وقرن ذلك بالمنة منه عليهم، إذا أنقذهم من شفا حفرة النار، وقد جعل ذلك كله من آياته الدالة عليه سبحانه وتعالى وسيله الواصلة بالهداية إليه، فقال في جمل ما شرحناه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) آل عمران: 102 (ولا تفرقوا) (ولعلكم تهتدون) آل عمران103 وقد كانت المؤاخاة في الله تعالى والصحبة لأجله والمحبة له في الحضر والسفر طرائق للعاملين، في كل طريق فريق، لما في ذلك من الفضل، ولما جاء فيه من الأمر والندب، إذ كان الحبّ في الله عزّ وجلّ من أوثق عرى الإيمان، وكانت الألفة والصحبة لأجله والمحبة والتزاور من أحسن أسباب المتّقين، وقد كثرت الأخبار في تفضيل ذلك والحث عليه، وليس قصدنا الجمع لما روي لميلنا إلى الإيجاز في كل فن، ولكن نذكر الأفعال المستحسنة وما تعلّق بها مما لا بد منه، على أنّ رأي التابعين قد اختلف في التعريف، فمنهم من كان يقول أقلل من المعارف، فإنه أسلم لدينك وأقل غدا لفضيحتك، وأخف لسقوط الحقوق عنك، لأنه يقال: كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق، وكلما طالت الصحبة توكدت المراعاة، وقال بعضهم: هل رأيت شرّاً إلا ممن تعرف، فكلما نقص من هذا فهو خير، وقال بعضهم: أنكر من تعرف ولا تتعرف إلى من لا تعرف، وممن مال إلى هذا الرأي: سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم، وداود الطائي والفضيل بن عياض، وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي وبشر الحافي، وقال أكثر التابعين باستحباب كثرة الإخوان في الله عزّ وجلّ، بالتأليف والتحبب إلى المؤمنين، لأن ذلك زين في الرخاء، وعون في الشدائد، وتعاون على البرّ والتقوى، وألفة في الدين، وقال بعضهم: استكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 من الإخوان، فإن لكل مؤمن شفاعة، فلعلك تدخل في شفاعة أخيك، وكانوا يأمرون بالأخوة ويتحاضون على الألفة، ويقال: إذا غفر للعبد شفع في إخوانه، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً غريباً في تفسير قوله تعالى: (وَيَسْتَجيبُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الشورى: 26، قال: يشفعهم في إخوانهم فيدخلهم الجنة معهم، وممن مال إلى هذا الطريق: ابن المسيب والشعبي، وابن أبي ليلى وهشام بن عروة، وابن شبرمة وشريح وشريك بن عبد الله، وابن عيينة وابن المبارك، والشافعي وأحمد بن حنبل، ومن وافقهم، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون. وروينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن مألوف ولا خير فيمن يألف ولا يؤلف، وقد قيل: أول ما يرفع من هذه الأمة، الخشوع ثم الورع ثم الأمانة ثم الألفة، وفي الخبر: من أراد الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً، إنْ نسي ذكره وإنْ ذكر أعانه، وروينا في خبر مثل الأخوين: إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان إلاّ أفاد الله عزّ وجلّ أحدهما من صاحبه خيراً، وروينا في خبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من آخى أخاً في الله عزّ وجلّ، رفعه الله عزّ وجلّ درجة في الجنة لا ينالها بشيء من عمله، ويقال إنّ الأخوين في الله عزّ وجلّ إذا كان أحدهما أعلى مقاماً من الآخر، رفع الآخر معه إلى مقامه، وأنه يلحق به كما تلحق الذرية بالأبوين، والأهل بعضهم ببعض، لأن الأخوة عمل كالولادة، وقد قال الله سبحانه بعد قوله: (أَلَحقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ وَمَا ألتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيءٍ) الطور: 21، أي وما نقصناهم، وقال تعالى مخبراً عمن لا صديق له حميم تنفعه شفاعته: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعينَ وَلاَ صَديقٍ حَمِيمٍ) الشعراء: 100 - 101 ومعنى حميم أي هميم، أبدلت الحاء هاء لتقاربهما، مأخوذ من الاهتمام أي مهتم بأمره، ففيه دليل أنّ الصديق لك هو المهتم بك، وإنّ الاهتمام حقيقة الصداقة، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المؤمن كثير بأخيه، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أعطى عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح، وقال أيضاً: إذا رأى أحدكم ودّاً من أخيه فليتمسك به، فقلما تصيب ذلك، وقد قال بعض الحكماء في معناه كلاماً منظوماً شعراً: ما نالت النفس على بغية ... ألذّ من ودّ صديق أمين مَنْ فاتَه ودّ أخ صالح ... فذلك المقطوع منه الوتين وقد يروي هذا المصراع الثاني فذلك المغبون حقّاً يقين، وروينا في الأخبار السابقة إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: يا ابن عمران كن يقظان وارتد لنفسك إخواناً، وكل خدن وصاحب لا يوازرك على مسرتي فهو لك عدو، وفي خبر غيره عن داود عليه السلام أنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إليه: يا داود ما لي أراك منتبذاً وحداناً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 قال: إلهي قليت الخلق من أجلك، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا داود كن يقظان مرتاداً لنفسك إخواناً، فكل خذن لا يوافقك على مسرّتي فلا تصحبه، فإنه لك عدو ويقسي قلبك ويباعدك مني، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كونوا مؤلفين ولا تكونوا منفرين، وفي الحديث: إنّ أحبكم إلى الله عزّ وجلّ الذين يألفون ويؤلفون، وإنّ أبغضكم إلى الله عزّ وجلّ المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، وفي أخبار داود صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: يا ربّ كيف لي أنْ يحبني الناس كلهم وأسلم فيما بيني وبينك، قال: خالق الناس بأخلاقهم وأحسن فيما بيني وبينك، وفي بعضها: خالق أهل الدنيا بأخلاق الدنيا، وخالق أهل الآخرة بأخلاق الآخرة، قال الشعبي عن صعصعة بن صوجان أنه قال لابن أخيه زيد: أنا كنت أحبّ إلى أبيك منك، وأنت أحبّ إليّ من ابني، خصلتان أوصيك بهما فاحفظهما: خالص المؤمن مخالصة وخالق الفاجر مخالقة، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن وأنه لحق عليك أنْ تخالص المؤمن، وقد قال أبو الدرداء قبله: إنّا لنشكر في وجوه أقوام وإنّ قلوبنا لتلعنهم، فمعنى هذا على الثقة والمداراة ليدفع بذلك شره وأذاه، كما جاء في تفسير قوله تعالى: (إدْفَعْ بالتي هِيَ أَحْسَنُ) فصلت: 34، قيل السلام: (فَإذَا الَّذي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداَوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ) فصلت: 34 وكان ابن عباس يقول في معنى قوله عزّ وجلّ: (وَيَدْرَؤُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الرعد: 22، قال: يدفعون الفحش والأذى وهو السيّئة بالسلام، والمداراة وهو الحسنة، وقد كان أفضل الحسنات إكرام الجلساء، ومنه قوله عزّ وجلّ: (وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) البقرة: 251، قيل بالرغبة والرهبة والحياء والمداراة، وكذلك معنى قولهم: خالص المؤمن وخالق الفاجر فالمخالصة بالقلوب من المودة واعتقاد المؤاخاة في الله عزّ وجلّ، والمخالفة المخالطة في المعاملة والمبايعة، وعند اللقاء، وكذلك جاء مفسراً: خالطوا الناس بأعمالهم وزايلوهم في القلوب، وقد قال محمد بن الحنفية بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدّاً، حتى يجعل الله عزّ وجلّ له منه فرجاً، فمعاملة غير تقي ومكالمته من أحوال الإضطرار، ومعاشرة التقي ومصافاته من حسن الاختيار. وفي أخبار موسى عليه السلام فيما أوحى الله عزّ وجلّ إليه، إنْ أطعتني فما أكثر إخوانك من المؤمنين، المعنى: إنْ واسيت الناس وأشفقت عليهم وسلم قلبك لهم ولم تحسدهم، كثر إخوانك، ويقال إنّ أحد الأخوين في الله عزّ وجلّ إذا مات قبل صاحبه. وقيل له: ادخل الجنة سأل عن منزل أخيه، فإن كان دونه لم يدخل الجنة حتى يعطي أخوه مثل منازله، قال: ولا يزال يسأل له من كذا وكذا، فيقال إنه لم يكن يعمل مثل عملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 فيقول: إني كنت أعمل لي وله، قال: فيعطي جميع ما سأل له ويرفع أخوه إلى درجته معه، فقد كانوا يتواخون ويتعارفون المنافع الآخرة الباقية، لا لمرافقة الدنيا الفانية وأفضل الأخوة، كما قال بعض العلماء: المحبة الدائمة والألفة اللازمة من قبل، أنّ الأخوة والمحبة عمل، وكل عمل يحتاج إلى حسن خاتمة به ليتم العمل، فيكمل أجره، فإن لم يختم له بالآخرة ولم يحسن عاقبة الصحبة والمحبة، فقد أدركه سوء الخاتمة، بطل عنه ما كان قبل ذلك، فقد يصطحب الاثنان ويتواخى الرجلان عشرين سنة، ثم لا يختم لهما بحسن الأخوة فيحبط بذلك ما سلف من الصحبة، فلذلك شرط العالم المحبة الدائمة والألفة اللازمة إلى الوفاة ليختم له به، ويقال: ما حسد العدو ومتعاونين على برّ حسده، متواخيين في الله عزّ وجلّ ومتحابين فيه، فإنه يجهد نفسه ويحث قبيله على إفساد ما بينهما، وقد قال الصادق عزّ وجلّ: (وقل لعبادي يقولوا: التي هي أحسن إنّ الشيطان يَنْزَغُ بينهم) الإسراء: 53 يعني يقولون الكلمة الحسنة بعد نزغ الشيطان، وقال عزّ وجلّ مخبراً عن يوسف عليه السلام من: (بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْني وَبَيْنَ إخْوتي) يوسف: 100 وقد يقال: ما تواخى اثنان في الله عزّ وجلّ ففرق بينهما، إلاّ بذنب يرتكبه أحدهما، فقال بشر: إذا قصر العبد في طاعة الله تبارك وتعالى، سلبه الله عزّ وجلّ من يؤنسه، ويقال للعدو شيطان، قد وكله بالتفريق بين المتواخيين، ليس له عمل إلاّ ذلك، قد تفرغ له، ومن علامة التقى حسن المقال عند التفرق، وجميل البشر عند التقاطع، أنشدنا بعض العلماء الحكماء في معناه: إنّ الكريم إذا تقضى وده ... يخفي القبيح ويظهر الإحسانا وترى اللئيم إذا تصرم حبله ... يخفي الجميل ويظهر البهتانا فوصف الكريم في هذا المعنى التخلق بخلق الربوبية، ألم تسمع إلى الدعاء المأثور عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوله: يا من أظهر الجميل وستر القبيح، ولم يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر، فكذلك صفات المؤمنين على معاني أخلاق المؤمن الأعلى، وقد كان أبو الدرداء يقول: معاتبة الصديق خير من فقده، ومن لك بأخيك كله هن لأخيك، ولن له ولا تطع الشيطان في أمره، غداً يوافيه الموت فيكفيك فقده، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله، وقد روينا عن عليّ عليه السلام: أحبب حبيبك هوناً ما عسى أنْ يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أنْ يكون حبيبك يوماً ما، وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه معناه: لا يكن حبك كلفاً وبغضك تلفاً، قال: اسلم، قلت: وكيف ذاك، قال: إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضاً تحب أنْ يتلف صاحبك ويهلك، وفي وصية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي رويناها عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكمافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يحبك ما يغلبك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك من القوم إلاّ الأمين، ولا أمين إلاّ من خشي الله عزّ وجلّ، ولا تصحب الفاجر فتعلم فجوره، ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تبارك وتعالى، وحدثونا عن إبراهيم بن سعيد قال: حدثنا يحيى بن أكثم قال: حدثت المأمون أمير المؤمنين فقلت له: حدثني سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن أبجر قال: لما حضرت علقمة العطاردي الوفاة دعا بابنه فقال: يا بني، إنْ عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك، وإنْ قعدت بك مؤونة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدّها، وإنْ رأى منك حسنة عدّها، وإنْ رأى منك سيئّة سدّها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإنْ سكت ابتداك، وإنْ نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدق قولك، وإذا حاولت أمراً أمرك، وإنْ تنازعتما آثرك، قال ابن أكثم: فقال المأمون: وأين هذا؟، وقيل للأحنف بن قيس: أي إخوانك أحبّ إليك فقال: من يسد خللي، ويستر زللي، ويقبل عللي، وحدثونا عن الأصمعي قال: حدثنا العلاء بن جرير عن أبيه قال: قال الأحنف: من حقّ الصديق أنْ يحتمل له ثلاث: أنْ يجاوز عن ظلم الغضب وظلم الهفوة وظلم الدالة، وقال: الإخاء جوهرة رقيقة، فهي ما لم توق عليها وتحرسها كانت معرضة للآفات، فارض الإخاء بالذلة حتى تصل إلى فوقه، وبالكظم حتى تعتذر إلى مَنْ ظلمك، وبالرضا حتى لا تستكثر من نفسك الفضل ولا من أخيك التقصير، ويقال: مَنْ لم يظلم نفسه للناس ويتظالم لهم ويتغافل عنهم، لم يسلم منهم، وكان أسماء بن خارجة الفزاري يقول: ما سئمت أحداً قط لأنه إنما يسأمني أحد رجلين: كريم كانت منه زلة وهفوة، فأنا أحق من غفرها وآخذ عليها بالفضل فيها، أو لئيم فلم أكن أجعل عرضي له غرضاً ثم تمثل شعراً: واغفر عوراء الكريم اصطناعه ... وأعرض عن ذات اللئيم تكرما وأنشدونا لمحمد بن عامر في الإخوان شعراً: فلا تعجل على أحد بظلم ... فإن الظلم مرتعه وخيم ولا تفحش وإن ملئت غيظاً ... على أحد فإن الفحش لوم ولا تقطع أخاً لك عند ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم ولكن داو عورته برقع ... كما قد يرقع الخلق القديم ولا تجزع لريب الدهر واصبر ... فإن الصبر في العقبى سليم وأنشدونا في معناه عن أحمد بن يحيى بن ثعلب، قال: أنشدني عبد الله بن شبيب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 إخاء الناس ممتزج ... وأكثر فعلهم سمج فإنّ بدهتك مقطعة ... فليس وراءهم فرج فقوّمهم بوصلهم ... فإن لم يوصلوا اعتوجوا صروف الدهر دائبة ... تقطع دونها المهج وروينا عن عكرمة عن ابن عباس أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق، وعن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: خذ العفو وأمر بالعرف، قال: خذ من أخلاق الناس ومن أعمالهم ما ظهر من غير تحسس، وقد أنشدنا بعض الحكماء في ذلك: خذ من خليلك ما صفا ... وذر الذي فيه الكدر فالعمر أقصر من معا ... تبة الخليل على الغير ومن عرف فضل الإخوة في الله عزّ وجلّ، وعلم درجة المحبة لله تعالى، صبر لأخيه وشكر له وحلم عنه وإحتمل له، لينال ما أمله من مؤمله فيه ويبلغ ما طلبه من طالبه به، فإنّ الصبر يحتاج إليه ليتمْ العمل والشكر، لا بدّ له منه لدوام النعمة، ومن طلب نفيساً خاطر بنفيس ومن رغب في رغبة بذل لها مرغوباً، والله عزّ وجلّ الموفق من يحب لما يحب، وروينا في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المتحابون في الله عزّ وجلّ على عمود من ياقوتة حمراء، في رأس العمود سبعون ألف غرفة، مشرفون على أهل الجنة، يضيء حسنهم لأهل الجنة كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، عليهم ثياب سندس خضر، مكتوب على جباههم: هؤلاء المتحابون في الله عزّ وجلّ، وروينا في حديث معاذ، وقد قال له أبو إدريس الخولاني: إني لأحبك في الله عزّ وجلّ، فقال له: أبشر ثم أبشر، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، ووجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون، وهم أولياء الله عزّ وجلّ الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقيل: من هؤلاء يا رسول الله، قال: هم المتحابون في الله عزّ وجلّ، ورواه أبو هريرة فقال فيه: إنّ حول العرش منابر من نور، عليها قوم لباسهم نور ووجوههم نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، فقالوا: يا رسول الله حلّهم لنا، فقال: هم المتحابون في الله عزّ وجلّ، والمتجالسون في الله تعالى، والمتزاورون في الله تعالى. وروينا في حديث عبادة بن الصامت، يقول الله عزّ وجلّ: حقّت محبتي للمتحابين فيّ، والمتزاورين فيّ والمتباذلين والمتصادقين فيّ، وكان ابن مسعود يقول في قوله عزّ وجلّ: (لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الأرض جمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلِكنَّ الله ألف بَيْنَهُمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 الأنفال: 63، قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله عزّ وجلّ، وأبو بشر عن مجاهد قال: المتحابون في الله عزّ وجلّ إذا التقوا فكشر بعضهم إلى بعض، تتحات عنهم الخطايا كما يتحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبعة يظلهم الله عزّ وجلّ في ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، منهم كذا، واثنان تواخيا في الله عزّ وجلّ، اجتمعا على ذلك وتفرّقا، وكان الفضيل بن عياض وغيره يقول: نظر الأخ إلى وجه أخيه على المودة والرحمة عبادة، فلا تصح المحبة في الله عزّ وجلّ إلاّ بما شرط فيها من الرحمة في الاجتماع، والخلطة عند الافتراق بظهور النصيحة، واجتناب الغيبة، وتمام الوفاء، ووجود الأنس، وفقد الجفاء، وإرتفاع الوحشة، ووجد الانبساط، وزوال الاحتشام، وكان الفضيل يقول: إذا وقعت الغيبة، ارتفعت الأخوة وقال الجنيد: ما تواخى اثنان في الله عزّ وجلّ فاستوحش أحدهما من صاحبه واحتشم منه إلاّ لعلّة في أحدهما، ومن ذلك ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تحاب اثنان في الله عزّ وجلّ إلاّ كان أحبهما إلى الله عزّ وجلّ أشدهما حبَّا لصاحبه، وفي خبر: كان أفضلهما وفي الخبر الآخر أحب الإخوان إلى الله عزّ وجله أرفقهما بصاحبه. وفي الخبر المشهور: لا يذوق العبد طعم الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وقال ابن عباس في وصيته لمجاهد: ولا تذكر أخاك إذا تغيب عنك إلاّ بمثل ما تحب أنْ تذكر به إذا غبت، وأعفه بما تحب أنْ تعفى به، وكان بعضهم يقول: ما ذكر أخي عندي في غيب إلاّ تمثلته جالساً، فقلت فيه ما يحب أنْ يسمع في حضوره، وقال آخر: ما ذكر أخ لي في غيبة إلاّ تصورت نفسي في صورته، فقلت فيه ما أحب أنْ يقال فيّ، فهذا حقيقة في صدق الإسلام، لا يكون مسلماً حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، وقال بعض الأدباء: من اقتضى من إخوانه ما لا يقتضون منه ظلمهم، ومن اقتضى منهم ما يقتضون منه فقد أتعبهم، ومن لم يقتضهم فقد تفضل عليهم، وبمعناه روينا عن بعض الحكماء: من جعل نفسه فوق قدره عند الإخوان أثم وأثموا، ومن جعل نفسه في قدره تعب وأتعبهم، ومن جعلها دون قدره سلم وسلموا، فلذلك عزز الناس الأخوة في الله عزّ وجلّ قديماً، لأن هذا حقيقتها، فروى في الأخبار، إثنان عزيزان ولا يزدادان، إلاّ عزة درهم من حلال وأخ تسكن إليه، وقيل تأنس به، وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: ثلاثة عزيزة في وقتنا هذا، ذكر منها حسن الإخاء مع الوفاء، يعني بالوفاء أنْ يكون له في غيبته، ومن حيث لا يعلم ولا يبلغه، مثل ما كان له في شهوده ومعاشرته، ويكون له بعد موته ولأهلّه من بعده كما كان له في حياته، فهذا هو الوفاء، وهو الذي شرطه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمؤاخاة في قوله: اجتمعا على ذلك أو تفرّقا، وجعل جزاءه أظلال العرش يوم القيامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 وكذلك قال بعض الأدباء: قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره في حال الحياة، وكذلك كان السلف فيما ذكره الحسن وغيره، قالوا: كان أحدهم يخلف أخاه في عياله بعد موته أربعين سنة، لا يفقدون إلاّ وجهه، ويقال إنّ مسروقاً أدان ديناً ثقيلاً، وكان على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهولا يعلم، وذهب خيثمة فقضي دين مسروق سرّاً وهو لا يعلم، فمن حقيقة المؤاخاة في الله عزّ وجلّ إخلاص المودة له بالغيب، والشهادة واستواء القلب مع اللسان، واعتدال السرّ مع العلانية في الجماعة والخلوة، فإذا لم يختلف ذلك فهو إخلاص الأخوة، وإنْ اختلف ذلك ففيه مداهنة في الأخوة، وممازقة في المودة، وذلك دخل في الدين، ووليجة في طريق المؤمنين، ولا يكون ذلك مع حقيقة الإيمان، وقد سأل أبو رزين العقيلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشرط له أشياء منها: أنْ يحب غير ذي نسب لا يحبه إلاّ لله عزّ وجلّ، ومن شرط المحبة في الله تعالى أنْ لا يكون لرحم يصلها أو لنعمة يربها، كما جاء في الأثر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنّ رجلاً زار أخاً في الله تعالى في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكاً، فقال: أين تريد، قال: أردت أخاً لي في هذه القرية، قال: هل بينك وبينه رحم تصلها أو له عليك نعمة تربها، قال: لا، إلاّ أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك، إنّ الله تبارك وتعالى قد أحبك كما أحببته فيه. وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن ابنه عبد الله رضي اللهّ عنهما: لو أن رجلاً صام النهار لا يفطر، وقام الليل وجاهد، ولم يحب في الله عزّ وجلّ ويبغض في الله ما نفعه ذلك شيئاً، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأنه قال لأصحابه: أي عرى الإيمان أوثق؟ قال: الصلاة، قال: حسنة وليس به، قالوا: الحج والجهاد، قال حسنة وليس به، قالوا: فأخبرنا يا رسول الله، قال: أوثق عرى الإيمان الحب في الله تعالى، والبغض فيه، وقد اختلف مذهب الصحابة في الأخ بحب أخاه في الله عزّ وجلّ، ثم ينقلب الآخر عمّا كان عليه ويتغير، هل يبغضه بعد ذلك أم لا؟ فكان أبو ذر يقول: إذا انقلب عمّا كان عليه وتغير، فأبغضه من حيث أحببته، وروينا عن أبي الدرداء أنّ شاباً غلب على مجلسه حتى أحبه أبو الدرداء، فكان يقدمه على الأشياخ ويقربه فحسدوه، وأنّ الشاب وقع في كبيرة من الكبائر، فجاؤوا إلى أبي الدرداء فحدثوه، وقالوا له: لو أبعدته، قال: سبحان الله لا نترك صاحبنا لشيء من الأشياء، وروينا عن بعض التابعين وعن الصحابة في مثل ذلك، وقد قيل له فيه، فقال: إنما أبغض عمله وإلاّ فهو أخي، وكذلك قال الله عزّ وجلّ لنبيّه في عشيرته: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون، ولم يقل: قل إني بريء منكم للحمة النسب، وقد قيل للصداقة لحمة كلحمة النسب، وقيل لحكيم بن مرة: أيما أحب إليك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 أخوك أو صديقك؟ فقال إنما أحب أخي إذا كان صديقاً، وكان الحسن يقول: كم من أخ لك لم تلده أمك، ولذلك قيل: القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة، وفي حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما شتم القوم الرجل الذي أتى فاحشة فقال: مه وزبرهم لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، وفي أثر عن بعض العلماء في مثل زلات الإخوان، قال: ودّ الشيطان أنْ يلقي على أخيكم مثل هذا حتى تقطعوه وتهجروه، فماذا بغيتم من محبة عدوّكم؟ وقد كان أبو الدرداء يقول: إذا تغير أخوك وحال عمّا كان، فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى، وكان يقول: داوِ أخاك ولا تطع فيه حاسداً، فتكون مثله وقال الحسن: أي الرجال المهذب وقال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب، فإنه يركبه اليوم ويتركه غداً، وقال أيضاً: لا تحدثوا الناس بزلة العالم، فإن العالم يزل الزلة ثم يتركها، وفي الخبر: اتّقوا زلة العالم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء الغيب، وقال سعيد بن المسيب إني لأكره أنْ أفرق بين المتألفين وقال مرة بين المتحابين. وفي حديث عمر، وقد سأل عن أخ كان آخاه فخرج إلى الشام فسأل عنه بعض من قدم عليه، فقال: ذاك أخو الشيطان قال: مه قال: إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر فقال: إذا أردت الخروج فأذني قال: فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم، حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب الآية، ثم عاتبه تحت ذلك وعذله، فلما قرأ الكتاب قال: صدق الله ونصح لي عمر قال: فتاب ورجع، ومن أفضل فضيلة الحب في الله تعالى أنه جعل علماً لوجود الإيمان، وقرن بحب الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الخبر: لا يؤمن عبدي حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ثم جاء مثله: لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لله عزّ وجلّ، فمن مقتضى الحب في الله تعالى ما ذكرناه آنفاً من التزاور والتباذل والتصافي لله عزّ وجلّ، وفي حديث عبادة بن الصمامت وقال موسى بن عقبة: كنت ألقى الأخ من إخواني مرّة فأقيم عاقلاً بلقائه أياماً، وقال جعفر بن سليمان: كمن إذا وجدت في نفسي فترة، نظرت، إلى محمد بن واسع، فأعمل على ذلك جمعة، وكان محمد بن واسع يقول: ما بقي في الدنيا شيء ألذه إلاّ ثلاث: الصلاة في جماعة، والتهجد من الليل، ولقاء الإخوان، وكان بعضهم يقول: لقاء الإخوان مسلاة للهمّ ومذهبة للأحزان، وكان الحسن وأبو قلابة يقولان: إخواننا أحب إلينا من أهلينا وأولادنا، لأن أهلينا يذكرونا الدنيا وأخواننا يذكرونا الآخرة، وقال أحدهما: لأن الأهل والولد من الدنيا والإخوان في الله عزّ وجلّ من آلة الآخرة، وقيل لسفيان بن عيينة: أي الأشياء ألذّ فقال: مجالسة الإخوان والانقلاب إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 كفاية، وفي الخبر: ما زار رجل أخاه في الله عزّ وجلّ شوقاً إليه ورغبة في لقائه، إلاّ ناداه ملك من خلفه: طبت وطابت لك الجنة، وقال الحسن: من شيّع أخاً له في الله عزّ وجلّ بعث الله ملائكة من تحت عرشه يوم القيامة يشيعونه إلى الجنة، وعن عطاء قال: كان يقول: تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، وإن كانوا مشاغيل فأعينوهم، وإنْ كانوا نسوا فذكروهم، وكان الشعبي يقول: في الرجل يجالس الرجل فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه ذلك معرفة التوكل. وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه رأى عمر يلتفت يميناً وشمالاً فسأله، فقال: يا رسول الله أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه، فقال: يا أبا عبد الله إذا أحببت أحداً فسله عن اسمه واسم أبيه، وعن منزله فإن كان مريضاًً عدته، وإنْ كان مشغولاً أعنته، وعن الضحاك عن ابن عباس قيل له: من أحب الناس إليك، قال: جليسي، وكان يقول: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثاً من غير حاجة تكون له إليّ، فعلمت مكافأته من الدنيا. وكان سعيد بن العاص يقول: لجليسي عليّ ثلاث: إذا دنا رحبت به وإذا حدث أقبلت عليه وإذا جلس أوسعت له، وقال الأحنف بن قيس: الإنصاف يثبت المودة، ومع كرم العشرة تطول الصحبة، وكان يقول: ثلاث خلال تجلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة والانطواء على المودة، وقال أكثم بن صيفي لبنيه: يا بني، تقاربوا في المودة ولا تتكلوا على القرابة، وقد قيل لأبي حازم: ما القرابة، قال: المودة، فأول ما تصح له المحبة في الله عزّ وجلّ أنْ لا يكون لضد ذلك من صحبة لأجل معصية، ولا على حظ من دنياه، ولا لسبب موافقته على هواه، ولا لأجل ارتفاقه به اليوم لمنافعه ومصالحه في أحواله، ولا يكون ذلك مكافأة على إحسان أحسن به إليه، ولا لنعمة ويد يجزيه عليها، فهذه ليس فيها طريق إلى الله عزّ وجلّ ولا للآخرة، لأنها طرقات الدينا ولأسباب الهوى، فإذا سلم من هذه المعاني، فهذه أول المحبة لله عزّ وجلّ، ولا يقدح في الأخوة لله تبارك وتعالى لأن هذه شبهة ثانية فيه مثل أنْ يحبه لحسن خلقه، وفضل أدبه، وحسن حلمه، وكمال عقله، وكثرة احتماله وصبره، أو لوجود الأنس به وارتفاع الوحشة منه، أو للألفة التي جعل الله بينه وبينه، وإنما يخرجه عن حقيقة الحب في الله عزّ وجلّ، أنْ يحبه لما يكون دخلا في الدين ووليجة في طرائق المؤمنين، ولما انفصل عنه ولم يكن متصلاً به، مثل الأنعام والأفضال ووجود الارتفاق، فهذا الحب لا يمنع القلب وجده، لما جبل الطبع عليه، ولبغض من كان بضده، ممن أساء إليه وليس يأثم ولا يعصى بوجود هذه المحبة لأجل هذه الأسباب المعروقة، كما أنه إذا أساء إليه ووجد بغضه لا يأثم ما لم يخرجه البغض إلى مجاوزة حد بإيجاب حكم، إلاّ أنْ هذه محبة النفس بالطبع، وإنما يفضل المرء بمحبة القلب لأجل الله عزّ وجلّ، والبغض فيه شيء، وإنْ كان مباحاً لأنها تحول وتزول، وكل محبة تكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 عن عوض، إذا ذهب العوض زالت المحبة، وصحة الحب في الله عزّ وجلّ والبغض فيه لا ينقلب لسبب حب جعل في الطبع لمنافع الدنيا، ولا لأجل بغض في النفس لمضارها، وحقيقة الحب في الله عزّ وجلّ أنْ لا يحسده عى دين ولا دنيا، كما لا يحسد نفسه عليهما، وأن يؤثره بالدين والدنيا إذا كان محتاجاً إليهما كنفسه، وهذا شرطا الحب في الله عزّ وجلّ اللذان ذكرهما الله تعالى في قوله: (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ) الحشر: 9، ثم وصف محبتهم، إذ كان يصف حقًّا ويمدح محقًّا، فقال: (ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاَجةً مِمّا أُوتُوا) الحشر: 9، يعين: من دين ودنيا، والحاجة في هذا الموضع: الحسد، أي كما لا يجدون في صدورهم حاجة لأنفسهم حسداً، ثم قال عزّ وجلّ في الشرط الثاني: (وَيُؤثِرُون على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر: 9، فهذا فصل الخطاب، وجملة نعت الأحباب، فينبغي أنْ يؤثر أخاه بنفسه وماله إنْ إحتاج إلى ذلك، فإن لم يكن في هذه المنزلة وهو مقام الصدّيقين فيساويه في حاله، وهذا من مقام الصادقين، وهذا أقل منازل الأخوة، وهو من أخلاق المؤمنين، وإنما آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَبين الغني والفقير ليساوي الغني الفقير فيعتدلان، وينبغي أنْ يقدمه على أهله وولده، وأنْ يحبه فوق محبتهم لأن محبة أولئك من الدنيا والنفس والهوى، ومحبة الإخوان من الآخرة ولله تبارك وتعالى، وفي الدين وأمور الدين والآخرة مقدم عند المتّقين، وكان عبد الله بن الحسن البصري يصرف إخوان الحسن إذا جاؤوه، لطول لبثهم عنده ولشدة شغله بهم، فيقول لهم: لا تملّوا الشيخ، فكان الحسن إذا علم ذلك يقول: دعهم يا لكع، فإنهم أحب إلي منكم، فؤلاء يحبوني لله عزّ وجلّ وأنتم تريدوني للدنيا، وقال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل: وكيف ذاك قال كلهم يرى الفضل لي عليه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرء على دين خليله، ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه، وكان الأعمش يقول: من أخفى عنا بدعته لم يخف عنا ألفته، أي ينظر إلى إخوانه الذين يألفهم، فيستدل عليه بهم، وقد روى الأصمعي عن مجاهد عن الشعبي قال: قال عليّ بن أبي طالب: كرم الله وجهه لرجل وكره له صحبة رجل رهق فقال شعراً: لا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هوّ ما شاه وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه وأنشد محمد بن جامع الفقيه شعراً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 تذلل لمن إن تذللت له ... يرى ذاك للفضل لا للبله وجانب صداقة من لا يزال ... على الأصدقاء يرى الفضل له وأنشدنا لبعض الأدباء: كم من صديق عرفته بصديق ... صار حظي من الصديق العتيق ورفيق رأيته في طريق ... صار عندي محض الصديق الحقيقي وروينا عن الحسن بن عليّ عليهما السلام في وصف الأخ كلاماً رجزاً جامعاً مختصراً: إن أخاك الحق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتت شمل نفسه ليجمعك ولا تصحّ مؤاخاة مبتدع في الله تعالى، ولا محبة فاسق يصحب على فسوقه، ولا محبة فقير أحب غنياًِ لأجل دنياه، ولا ما يناله من عاجل مهناه، وقد تصح المحبة بين الغني والفقي، وتوجد الأخوة إنْ لم يقم الغني بحقوق أخيه، إذا آثره أخوه بما يحب أنْ يؤثره به، فلم يفتضه، وقد تصح الأخوة بين العالم والجاهل، وبين الصالح والطالح لأجل التدين من أحدهما، والتقربة إلى الله عزّ وجلّ، ويكون من الأعلى منهما لنيات تكون له فيها لحسن خلقه، أو لجميل معاملته، أو لمعان محمودة تكون فيه، لأن لكل مؤمن سديداً من عمله يرجى له به، والمؤمن لا يهلك كله، ولا يذهب جملة واحدة، أو لإشفاقه عليه أو لتواضع العالم والصالح في نفسه، فيراه في كل حال فوقه، أو لأجل الستر عليه لئلا يلحقه النقص والشين من الغير، فهذه طرقات الإخوان، فيها حسن نيات، وينبغي على ذلك أنْ تعلمه ما جهل مما هو به أعلم، فيعينه بعلمه كما يعينه بماله، فإنّ فقر الجهل أشد من فقر المال، وإنّ الحاجة إلى العلم ليست بدون الحاجة إلى المال وكان الفضيل يقول: إنما سمّي الصديق لتصدقه والرقيق لترفقه، فإن كنت أغنى منه فأرفقه بمالك، وإنْ كنت أعلم منه فأرفقه بعلمك، وينبغي أنْ ينصح له فيما بينه وبينه، ولا يوبخه بين الملأ ولايطلع على غيبه أحداً، فقد قيل: إنّ نصائح المؤمنين في آذانهم، وقال جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره، فإن كان أخوه الذي نصح له صادقاً في حاله، أحبه على نصحه، فإن لم يحبه وكره ذلك منه دلّ على كذب الحال، قال الله سبحانه وتعالى في وصف الكاذبين: (وَلكنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحينَ) الأعراف: 79 وقد كان بعض الصالحين يقول: أحب الناس إلي من أهدى عيوبي، وقد كان عمر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 الخطاب رضي الله عنه يقول: ويأمر الإخوان بذلك رحم الله امرءًا اهتدى إلى أخيه عيوب نفسه، ولكن قد قيل لمسعر بن كدام: تحب من يخبرك بعيوبك، فقال: إنْ نصحني فيما بيني وبينه فنعم، وإنْ قرعني في الملأ فلا، ومن أخلاق السلف قال: كان الرجل إذا كره من أخيه خلقاً عاتبه فيما بينه وبينه أو كاتبه في صحيفة، وهذا لعمري فرق بين النصيحة والفضيحة فما كان في السر فهو نصيحة، وما كان على العلانية فهو فضيحة، وقلما تصح فيه النية لوجه الله تعالى، لأن فيه شناعة، وكذلك الفرق بين العتاب والتوبيخ، فالعتاب ما كان في خلوة، والتوبيخ لا يكون إلاّ في جماعة، ولذلك يعاتب الله عزّ وجلّ رجلاً من المؤمنين يوم القيامة تحت كنفه، ويسبل عليه ستره فيوقفه على ذنوبه سرّاً، ومنهم من يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفرون به إلى الجنة، فإذا قاربوا دخول الجنة، دفعوا إليهم الكتب مختومة فيقرؤونها، وأما أهل التوبيخ فينادون على رؤوس الأشهاد، فلا يخفى على أهل الموقف فضيحتهم، فيزداد ذلك في عذابهم، وكذلك الفرق بين المداراة والمداهنة، فالمداراة ما أردت به وجه الله تعالى وطريق الآخرة، من دفع عن دين وقصدت به سلامة أخيك من الإثم وصلاح قلبه لله تبارك وتعالى، والمداهنة ما اجتلبت به دنيا وأردت به حظ نفسك، وكذلك الفرق بين الغبطة والحسد، إن الغبطة أنْ تحب لنفسك ما رأيته من أخيك، ولا تحب زواله عنه بل تبقيته له وإتمامه عليه والحسد ما أردت أنْ يكون ذلك منه لك، وأحببت زواله عنه وكرهت تبقيته عليه، فهذا مكروه، فإن سعيت في ذلك بقول أو فعل فهو البغي زيادة على الحسد، وهو من كبائر المعاصي، وكذلك الفرق بين الفراسة وسوء الظن إنْ الفراسة ما توسمته من أخيك بدليل يظهر لك أو شاهد يبدو منه أو علامة تشهدها فيه، فتتفرس من ذلك فيه ولا تنطق به إنْ كان سوءاً، ولا تظهره ولا تحكم عليه ولا تقطع به فتأثم، وسوء الظن ما ظننته من سوء رأيك فيه أو لأجل حقد في نفسك عليه، أو لسوء نية تكون أو خبث حال فيك، تعرفها من نفسك فتحمل حال أخيك عليها وتقيسه بك، فهذا هو سوء الظن والإثم، وهو غيبة القلب وذلك محرم لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الله تعالى حرم من المؤمن دمه وماله وعرضه، وإنْ تظن به ظن السوء وقوله عليه السلام: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، فهذه خمس معان وأضدادها بينها فرق عند العلماء، فاعرف ذلك، وينبغي أنْ ينصر أخاه ويعينه بماله ولسانه وقلبه وأفعاله، فإن النصرة في الله تعالى تكون بهذه المعاني الأربع: بالنفس إنْ احتاج إليك في الأفعال، وباللسان إنْ ظلم في المقال، وبالمواساة إنْ احتاج إلى المال، وأقل ذلك بالقلب أنْ يساعده في الهم والكرب في اعتقاد السلامة فيه وجميل النية له، وعليه أنْ يحفظ غيبه وأنْ يحسن الثناء عليه وينشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 فضله ويطوي زلَلَه ويقبل علله. رة في الله تعالى تكون بهذه المعاني الأربع: بالنفس إنْ احتاج إليك في الأفعال، وباللسان إنْ ظلم في المقال، وبالمواساة إنْ احتاج إلى المال، وأقل ذلك بالقلب أنْ يساعده في الهم والكرب في اعتقاد السلامة فيه وجميل النية له، وعليه أنْ يحفظ غيبه وأنْ يحسن الثناء عليه وينشر فضله ويطوي زلَلَه ويقبل علله. ويقال: ما من الناس أحد إلاّ له محاسن ومساوٍ، فمن ظهرت محاسنه فغلبت مساوئه فهو المؤمن المقتصد، فالأخ الشفيق الكريم يذكر أحسن ما يعلم في أخيه، والمنافق اللئيم يذكر أسوأ ما يعلم فيه، ومن هذا جاء في الخبر: أستعيذ بالله من جار السوء الذي إن رأى خيراً ستره، وإنْ رأى شرّاً أظهره، وهذا المعنى هو سبب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإنْ من البيان سحراً، إذ لكل حديث يروي آخره سبب يكون أوله خرج الحديث عليه، وهو أنّ رجلاً أثنى على رجل عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما كان الغد ذمه وعابه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه، فقال: والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم، إنه أرضاني بالأمس، فقلت أحسن ما أعلم فيه وأغضبني اليوم مفقلت أسوأ ما أعلم فيه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَعند ذلك: إنّ من البيان سحراً كأنه كره ذلك إنْ شبهه بالسحر، لأن السحر حرام، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الآخر البذاء والبيان شعبتان من النفاق، وفي الحديث الآخر أنّ الله تعالى كره لكم البيان، كل البيان، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله في وصف العدالة قولاً استحسنه العلماء، وحدثنا عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: ما أحد من المسلمين يطيع الله عزّ وجلّ حتى لايعصيه، ولا أحد يعصي الله عزّ وجلّ حتى لا يطيعه، فمن كانت طاعاته أكثر من معاصيه فهو العدل، قال ابن عبد الحكم: وهذا كلام الحذاق، وقال أيضاً قولاً فصلاً في التوسط بين الانقباض والانبساط، حدثنا عنه قال: الانقباض عن الناس مكسبة لعداوتهم، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين الانقباض والانبساط، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بالصبر والرحمة في قوله عزّ وجلّ: (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بالمَرْحَمَةِ) البلد: 17، ونعتهم الذلة في قوله تعالى: (أذِلَّةٍ على المُؤْمِنينَ أَعِزَّةِ على الكافرينَ) المائدة: 54، وقال تعالى: (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) الفتح: 29، وهذا كله داخل في الاهتمام به، وهو حقيقة صدقه في الصداقة له كما قال، ولا صديق حميم أي هميم من الاهتمام به، وقد قال عيسى عليه السلام لأصحابه: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائماً فكشفت الريح عنه ثوبه، قالوا: نستره ونغطيه فقال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان الله من يفعل هذا، فقال: أحدكم يسمع في أخيه بالكلمة فيزيد عليه ويشيعها بأعظم منها، وهذا مخرجه من الحسد الكائن في النفس والغل المستكن في القلب، أنْ يزيد الرجل على الشيء مما يسمع أو يتبعه بمثله، فيظهر هذا غله، وهذا الذي استعاذ منه المؤمنون في قولهم: (ولا تَجْعَلْ في قُلُوبنا غِلاًّ) الحشر: 10 الآية، وينبغي أنْ لا يخالفه في شيء ولا يعترض عليه في مراد، قال بعض العلماء: إذا قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 الأخ لأخيه قم بنا، فقال: إلى أين، فلا تصحبه وقال الآخر: إذا قال: أعطني من مالك، فقال: كم تريد أو ماذا تصنع به لم يقم بحق الإخاء، قال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق، فكنت أجيئه في النوائب فأقول: أعطني من مالك شيئاً فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته ذات يوم فقلت أحتاج إلى شي، فقال: كم تريد فخرج حلاوة أخاه من قلبي، وعن ابن عمر وأبي هريرة: لم يكن أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحرمه، ولا يخذله بحسب المرء من الشر أنْ يحقر أخاه المسلم، وفي حديث عليّ عليه السلام عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوّته وحرمت غيبته، وفي حديث أبي أسامة الباهلي: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن نتمارى فغضب ثم قال: ذروا المراء لقلّة خبره، ذروا المراء فإن نفعه قليل وهو يهيج العداوة بين الإخوان، وقال بعض السلف: من لاص الإخوان وما رآهم، قلت: وذهبت كرامته، وقال عبد الله بن الحسن: إياك ومعاداة الرجال، فإنك لن تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم، وقال بعض الحكماء: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد، ولا يزيدك لطف الحقد إلاّ وحشة منه. وقد روينا في الحقد على الإخوان لفظة شديدة، وهو ما حدثونا عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: كنت باليمن، وكان لي جار يهودي يخبرني عن التوراة، فقدم علينا يهودي من سفر فقلت: إنّ الله تبارك وتعالى قد بعث فينا نبيًّا، فدعا إلى السلام فأسلمنا، وقد نزل علينا مصدقاً للتوراة فقال اليهودي: صدقت، ولكنكم لا تستطيعون أنْ تقوموا بما جاءكم به، إنّا نجد نعته ونعت أمته أنه لا يحل لامرئ يعلم منهم أنّ يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على أخيه المسلم، وقال بعض السلف: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر منهم، وقال الحسن: لا تشتر عداوة رجل بمودة ألف رجل، وقال عمر بن عبد العزيز: إياك ومن مودته على قدر حاجته إليك، فإذا قضيت حاجته انقضت مودته، ومن أخلاف السلف قال: لم يكن أحد منا يقول في رحله: هذا لي وهذا لك، بل كان كل من احتاج إلى شيء استعمله عن غير مؤامرة، وقد وصف الله عزّ وجلّ المؤمنين بهذا في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمّ يُنْفِقُونَ) الشورى: 38، معنى أمرهم أي أمورهم ذكر جماعها كالشيء الواحد بينهم شورى أي مشاع غير مقسوم، ولا يستبد به واحدهم فيه سواء، ومما رزقناهم ينفقون، أي كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله من بعض أي شركاء، وجاء عتبة الغلام إلى منزل رجل كان قد آخاه فقال: أحتاج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 من مالك إلى أربعة آلاف، فقال: خذ ألفين فأعرض عنه وقال: آثرت الدنيا على الله عزّ وجلّ، أما استحيت أنْ تدعي الأخوة في الله عزّ وجلّ وتقول هذا، وجاء فتح الموصلي إلى منزل أخ له وكان غائباً، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه فأخذ من كيسه حاجته، فذهبت الجارية إلى مولاها فأعلمته فقال: إنْ كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله تعالى سروراً بما فعل. وروي أنّ ابن أبي شبرمة قضى لبعض إخوانه حاجة كبيرة، فجاءه الرجل بهدية جليلة، فقال: ما هذا فقال: ما أسديت إلي، فقال: خذ مالك، عافاك الله إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة، وكبّر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى، وعلى ذلك قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك الحاجة فلم يقضها لله فذكّره ثانية، فلعله يكون قد نسي، فإن لم يقضها فعاوده ثالثة فقد يكون شغل عنها بعذر، فإن لم يقضها فكبره عليه واقرأ عليه هذه الآية: (والموتْىَ يَبْعَثُهُمْ اللهُ) الأنعام: 36، وقال ميمون بن مهران: من رضي من الإخوان بترك الأفضال فليؤاخ أهل القبور، وجاء رجل إلى أبي هريرة فقال: إني أريد أنْ أؤاخيك في الله عزّ وجلّ، فقال: أتدري ما حق الإخاء قال: عرفني، قال: لا تكون بدرهمك ودينارك أحقّ مني، قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد، قال: فاذهب عني، وقال عليّ بن الحسين رضي الله عنهما: الرجل هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه، فيأخد منه ما يريد من غير إذن قال: لا، قال: فلستم بإخوان، ودخل قوم على الحسن فقالوا له: أصلّيت يا أبا سعيد، قال: نعم قالوا: فإن أهل السوق لم يصلّوا بعد، فقال: ومن يأخذ دينه عن أهل السوق، بلغني أنّ أحدهم يمنع أخاه الدرهم، وقال محمد بن نصر: جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم وهو يريد بيت المقدس فقال له: إني أريد أنْ أرافقك فقال له إبراهيم: على أنْ أكون أملك بشيئك منك قال: لا، قال: فأعجبني صدقك، وقال موسى بن طريف: كان إبراهيم بن أدهم إذا رافقه رجل لم يخالفه، وكان لا يصحب إلاّ من يوافقه، وبلغني أنّ رجلاً شراًّ كأصحبه في سفر فأهدى إلى إبراهيم قصعة من ثريد في بعض المنازل، فأراد أنْ يرد القصعة فأخذ جراب رفيقه ففتحه، وأخذ حزمة من شرك فجعله في القصعة، ثم دفعها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه قال: أين الشرك؟ قال: تلك القصعة الثريد التي أكلتها أي شيء كانت، قال: فكنت تعطيه شراكين ثلاثة قال: اسمح يسمح لك، وبلغني أنه أعطى مرة حماراً كان لرفيقه بغير إذنه لرجل رآه راجلاً، فلماء جاء رفيقه سكت فلم يكره ذلك، وقد روي عن عون بن عبد الله قال: قال ابن مسعود: لا تسأل امرءاً عن ودّه إياك، ولكن انظر ما في قلبك فإن في قلبه لك مثل ذلك، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: مروءة الحضر الإدمان إلى المساجد وكثرة الإخوان في الله عزّ وجلّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 ومروءة السفر بذل الزاد وقلّة الخلاف على إخوانك وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق أهل البيت قال: ثلاثة من المروءة في الحضر: تلاوة كتاب الله عزّ وجلّ، وعمارة مساجد، واتّخاذ الإخوان في الله تعالى، فمن فضل المؤاخاة في الله تعالى أنه قرنها بتلاوة كتابه وعمارة بيوته، وقد جعل الاختلاف إلى المسجد سبب اجتلاب الإخاء، وفي حديث ابن عباس والحسن بن عليّ: من أدمن الاختلاف إلى المسجد، أصاب إحدى خمس خصال أخاً مستفاداً في الله عزّ وجلّ. وقال أبو عيينة وقد أنشد هذا البيت: وجدت مصيبات الزمان جميعها ... سوى فرقة الإخوان هينة الخطب فقال: لقد عهدت أقواماً فارقتهم منذ ثلاثين سنة، ما تخيل لي أنّ حسرتهم ذهبت من قلبي، وقال بعضهم ما هدني شيء ما هدني موت الأقران، ويقال: إذا مات صديق الرجل فَقَدْ فَقَدَ عضواً من أعضائه وأنشدونا عن العتبي: ولقد بلوت الناس ثم خبرتهم ... ووصلت ما قطعوا من الأسباب فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب وبلغني أنّ أخوين ابتلى أحدهما بهوى، فأظهر عليه أخاه وقال: إني قد اعتللت بالهوى، فإن شئت أنْ لا تعتقد عليّ محبتي لله تعالى فافعل فقال: ما كنت لأحلّ عقد أخوتك لأجل خطيئتك أبدًا، قال ثم عقد أخوه بينه وبين الله عزّ وجلّ أنْ لا يأكل ولا يشرب حتى يعافي الله عزّ وجلّ أخاه من هواه، قال فطوى أربعين يوماً في كلها يسأله عن هواه: كيف أنت منه فكان يقول: القلب مقيم على حاله قال: وما زال أخوه الآخر ينحل ويسقم من الغمّ عليه، ومن تركه الطعام والشراب قال: فأزال الله الهوى عن قلب أخيه بعد الأربعين، فأخبره بذلك، فأكل وشرب بعد أنْ كاد يتلف هزلاً وضرًّا، وبمعناه حدثت عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة، فقيل لأخية التقي: ألا تقطعه وتهجره فقال: هو أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته، أنْ آخذ بيده، وأتلطف له في المعاتبة، وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه، وفيما رويناه من الإسرائيليات أنّ أخوين عابدين في جبل، نزل أحدهما ليشتري من المصر لحماً بدرهم، فبصر ببغي عند اللحام، فهويها فواقعها، ثم أقام عندها ثلاثاً واستحى أنْ يرجع إلى أخيه من جنايته، قال: فافتقده أخوه واهتم بشأنه، فنزل إلى المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دل عليه، فدخل عليه وهو جالس مع البغي، فاعتنقه وجعل يقلبه ويلزمه، وأنكر الآخر أنه يعرفه لفرط استحيائه منه، فقال: قم يا أخي فقد علمت بشأنك وقصتك، وما كنت أعزّ علي وأحبّ منك في يومك هذا وساعتك هذه، فلما رأى ذلك لا يسقطه عنده، قام فانصرف معه، فهذا من أحسن النيات وهو طريق العارفين من ذوي الآداب والمروءات، فإن أحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 هذا الأخ أنْ يؤثر أخاه بما آثره به، ولا يقتضيه حق إخائه، فحسن، قد فعل ذلك عبد الرحمن بن عوف لما آثره سعد بن الربيع بالمال والنفس، فقال: بارك الله لك فيهما، فآثره بما به آثره، فكأنه أستأنف هبته له لأنه قد كان ملكه إياه لسخاوة نفسه، وحقيقة زهده، وصدق مودته، فكانت المساواة لسعد، والإيثار لعبد الرحمن، فزاد عليه، وهذا من فضل المهاجرين على الأنصار إذ كانت المساواة دون الإيثار، وقد كان مضر بن عيسى وسليمان يقولان: من أحبّ رجلاً ثم قصر في حقه فهو كاذب في حبه، وكان أبو سليمان الداراني يقول: هو صادق في حبه مفرط في حقّه، ثم قال: لو أنّ الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له، وقال: إني لألقم الأخ من إخواني اللقمة فأجد طعمها في حلقي، وأعلم أنّ إطعام الطعام والإنفاق على الإخوان مضاعف على الصدقات وعلى العطاء للأجانب، بمنزلة تضعيف الثواب في الأهل والقرابات. وروي عن عليّ عليه السلام: لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله عزّ وجلّ أحّب إلي من أنْ أتصدق بمائة درهم على المساكين، وقال أيضاً: لأن أصنع من طعام وأجمع عليه إخواني في الله عزّ وجلّ أحبّ إلى من أنْ أعتق رقبة، وأوصى بعض الحكماء ابنه فقال: يا بني ادخل بين الأعداء ولا تدخلن بين الأصدقاء، قال: وكيف ذلك قال: الدخول بين الأعداء يكسب الصداقة والدخول بين الأصدقاء يورث العداوة، ولا ينبغي للأخ أنْ يخون أخاه في غيبه بما يكره إنْ كان ذلك في شيء مباح إذا كرهه، ولا ينكر عليه ما لا يقوم في علمه إذا فعله إنْ كان أخوه أعلم منه، أو كان له وجه يخرج عليه، ولا ينبغي أنْ يكذبه في أمره ولا يفشين له سرّاً، ولا يعرضنه لغيبة ولا نميمة، ولا يحوجه إلى مداراة، ولا يلجأ إلى اعتذار، ولا يتكلفن له ما يشق عليه أو ما لا يحبه هو منه، وقال العباس لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل، يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقدمك على الأشياخ ويقربك دونهم فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سرّاً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذبة، وفي بعض الروايات: ولا تعصين له أمرًا، ولا يطلعن منك على خيانة، قال: فقلت للشعبي وقد رواه: كل كلمة خير من ألف قال: كل كلمة خير من عشرة آلاف، وأفشى بعضهم إلى أخيه سرًّا ثم قال له: حفظت قال: بل نسيت وقيل لبعض الأدباء كيف حفظك السرّ قال: أنا قبره وقيل لآخر كيف تحفظ السرّ فقال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر، ومن أحسن ما سمعت في حفظ السر ما حدثني بعض أشياخنا عن إخوان له، دخلوا على عبد الله بن المعتز فاستنشدوه شيئاً من شعره في حفظ السرّ، فأنشدهم على البديهة: ومستودعي سرًّا تبوأت كتمه ... فأود عته صدري فصار له قبرا قال فخرجنا من عنده، فاستقبلنا محمد بن داود الأصبهاني فسألنا من أين جئنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 فأخبرناه بما أنشدنا ابن المعتز في السرّ، فاستوقفنا ثم أطرق مليًّا ثم قال سمعوا قولي: وما السرّ في صدري كثاوٍ بقبره ... لأني أرى المقبور ينتظر النشرا ولكنني أنساه حتى كأنني ... بما كان منه لم أحط ساعة خبرا ولو جاز كتم السرّ بيني وبينه ... عن السرّ والأحشا لم يعلم السرّا وقال عليّ عليه السلام: شر الأصدقاء من أحوجك إلى مداراة، وألجأك إلى اعتذار، وقال أيضاً: شرّ الأصدقاء من تكلف له، وقال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف يزور أحدهم أخاه فيتكلف له ما لا يفعله كل واحد منهما في منزله، فيحشمه ذلك من الرجوع إليه، وروينا عن عائشة رضي الله عنها: المؤمن أخو المؤمن لا يغتنمه ولا يحشمه، وروينا في الانبساط إلى الإخوان شيئاً استظرفته ولولا أنه جاء عن إمام ما ذكرته، حدثنا الحرث بن محمد عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: أهدي لهشام فرو كثير الثمن فقال: اذهب بها إلى سعيد الجوهري فقل له: هذه فرو جاء به هشيم اشترها له قال: فذهب بها إليه فاشتراها، ثم بعت بها إلى هشيم فصارت له ودراهمها، وقال عليّ بن المديني: قال أحمد بن حنبل: إني أحبّ أن أصحبك إلى مكة وما يمنعني من ذلك إلاّ أني أخاف أنْ أملك أو تملني، لأنه يقال إنّ ملل الإخوان ليس من أخلاق الكرام وقال مكحول: قلت للحسن إني أريد الخروج إلى مكة فقال: لا تصحبن رجلاً يكرم عليك فينقطع الذي بينك وبينه، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: يستحسن الصبر عن كل شيء إلاّ عن الصديق، وقال: أستحب للمتواخين في الله عزّ وجلّّ أنْ يلتقيا في كل يوم مرتين وقال أنس بن مالك: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتماشون، فإذا استقبلهم صخرة أو أكمة فرقت بينهم فالتقوا من ورائها، سلم بعضهم على بعض، وقال الحسن وأبو قلابة: ليس من المروءة أنْ يريح الرجل على صديقه، وقال ابن سيرين لا تكرم أخاك بما يشق عليه. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره، وخرج ابن المبارك في سفر، فصحبه قوم فقال لهم: إنْ أنكر أحد منكم شيئاً فليخبرني، فلما أرادوا أنْ يتفرقوا قال لهم: هل أنكرتم مني شيئاً فقال شاب منهم: أنا قال: وما أنكرت قال: لم أرك تستاك فقال: ويحك وهل يستاك الرجل بين يدي صديقه، وكان بشر بن الحارث يقول: لا تخالط من الناس إلاّ حسن الخلق فإنه لا يأتي إلاّ بخير، ولا تخالط سئّ الخلق فإنه لا يأتي إلاّ بشر، وقال الشافعي رحمه الله: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضى فلم يرضى فهو شيطان، وقال عمرو بن دينار: زهدك في راغب فيك نقص حظ، ورغبتك في زاهد فيك ذل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 نفس، وكان ابن سيرين يقول: يحتمل الرجل لأخيه إلى سبعين زلة ويطلب له المعاذير، فإن أغناه ذلك وإلاّ قال: لعل لأخي عذراً غاب عني، وقال الثوري: إذا أردت أنْ تؤاخي رجلا ًفأغضبه ثم دسّ عليه من يسأله عنك، فإن قال خيراً فاصحبه وقال غيره: لا تؤاخين أحداً حتى تبلوه وتفشي إليه سرّاً، ثم إجفه واستغضبه وانظر، فإن أفشاه عليك فأجتنبه، وقيل لأبي يزيد: من أصحب من الناس قال: من يعلم منك ما يعلم الله عزّ وجلّ، ويستر عليك ما يستر الله تعالى، وكان ذو النون يقول: لا خير لك في صحبة من لا يحب أنْ يراك إلاّ معصوماً، وقيل لبعض العلماء: من يصحب من الناس قال: من يرفع عنك ثقل التكلف، وتسقط بينك وبينه مؤونة التحفظ، وقد كان جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام يقول: أثقل إخواني عليّ من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي، يريدون بهذا كله أنّ من لم يكن على هذه الأوصاف دخل عليه التصنع والتزين، فأخرجاه إلى الرياء والتكلف، فذهبت بركة الصحبة وبطلت منفعة الأخوة، وقال بعض الصوفية: لا تعاشر من الناس إلا من لا تزيد عنده ببرّ ولا تنقص بإثم، ومن يتوب عنك إذا أذنبت، ويعتذر إليك إذا أسأت، ويحمل عنك مؤونة نفسه ويكفيك مؤونة نفسك، وهذه من أعز الأوصاف في هذا الوقت، كما قال رجل للجنيد: قد عزّ في هذا الزمان أخ في الله تعالى قال: فسكت عنه، ثم عاد ذلك فقال له الجنيد: إذا أردت أخاً في الله عزّ وجلّ يكفيك مؤونتك ويتحمل أذاك فهذا لعمري قليل، وإنْ أردت أخاً في الله تتحمل أنت مؤونته وتصبر على أذاه، فعندي جماعة أدلك عليهم إنْ أحببت، فهذا لعمري يكون محبّاً لنفسه إذا أقتضى هذا من أخيه لا محبّاً لأخ في الله تعالى، وليس الإخاء كف الأذى لأن هذا واجب، ولكن الإخاء الصبر على الأذى، وكانت هذه الطائفة من الصوفية لا يصطحبون إلاّ على استواء أربع معان، لا يترجح بعضها على بعض، ولا يكون فيها اعتراض من بعض إنْ أكل أحدهم النهار كله لم يقل له صاحبه صم، وإنْ صلّى الليل أجمع لم يقل له أحد نم بعضه، وتستوي حالاه عنده، فلا مزيد لأجل صيامه وقيامه، ولا نقصان لأجل إفطاره ونومه، فإذا كان عنده يزيد بالعمل وينتقص بترك العمل، فالفرقة أسلم للدين وأبعد من المراءاة من قبل إنّ النفس مجبولة على حب المدح وكراهة الذم، ومبتلاة بأن ترب حالها التي عرفت به، وأنْ تظهر أحسن ما يحسن عند الناس منها، فإن صحب من يعمل معه هذا فليس ذلك بطريق الصادقين ولا بغية المخلصين، فمجانبة هؤلاء الناس أصلح للقلب وأخلص للعمل، وفي معاشرتهم وصحبة أمثالهم فساد القلوب ونقصان الحال، لأن هذه أسباب الرياء، وفي الرياء حبط الأعمال وحسن رأس المال، والسقوط من عين ذي الجلال نعوذ به سبحانه وتعالى من ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وكان الثوري رحمه الله تعالى يقول: من عاشر الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم، ومن راياهم وقع فيما وقعوا فهلك كما هلكوا، وكان بعض الناس يقول: لا تؤاخِ من الناس إلاّ من لا يتغير عليك في أربع: عند غضبه ورضاه وعند طمعه وهواه، لأن هذه المعاني تتغير لها الطباع لدخول الضرر منها على النفس وفقد الانتفاع، وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلاّ من كان على هذا الوصف: يكتم سرّك وينشر برّك ويطوي عيبك ويكون في النوائب معك وفي الرغائب يؤثر، فإن لم تجده فلا تصحب إلاّ نفسك، وقد أنشدنا بعض العلماء لبعض الأدباء في معنى هذه الأوصاف: وندمان أخي ثقة ... كان حديثه خبره يسرك حسن ظاهره ... وتحمد منه مختبره فساعد خله كرما ... وفي أخلاقه أثره ويطوى سوءَة أبداً ... وحسناً إن طوى نشره ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنه ستره وقال بعض العلماء: لا تصحب إلاّ أحد رجلين: رجلاً تتعلم منه شيئاً من أمر دينك فينفعك، أو رجلاً تعلمه شيئاً من دينه فيقبل منك، والثالث هرب منه، وقال ابن أبي الحواري: قال لي أستاذي أبو سليمان: يا أحمد لا تصحب إلاّ أحد رجلين: رجل ترتفق به في دنياك، أو رجل تزيد معه وتنتفع به في آخرتك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير. وكان المأمون يقول: الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت، والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه فالعبد مبتلي بهذا الثالث وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع عنده، والأول نعمة من اللهّ سبحانه وتعالى على العبد، فيه أُلفة وأنس ومعه غنيمة ونفع. وكان أبو ذر يقول: الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة، وقال بشر بن الحارث: يكون للرجل ثلاثة إخوان: أخ لآخرته، وأخ لدنياه، وأخ يأنس به، فأخبر أنّ أخ المؤانسة قد لا يكون متقرّباً عابداً، وأنّ الأنس مخصوص يقال: لا يوجد إلاّ في كريم، وكان يوسف بن أسباط يعزز من فيه أنس من الإخوان، فكان يقول ما في المصيصة ثلاثة يؤنس بهم، واعلم أنّ الأنس لايوجد في كل عالم، ولا في كل عاقل، ولا في كل عابد زاهد، ويحتاج الأنس ألى وجود معان تكون في الولي، فإذا اجتمعت فيه كمل فيه الأنس، وارتفعت عنه الوحشة والحشمة، ومن لم تكن فيه لم يوجد فيه أنس، ومن لم تكمل فيه وجد فيه بعض الأنس، وإذا حصل الأنس ففيه الروح من الكروب والاستراحة من الغمّ والسكون وطمأنينة القلب، فكذلك عزّ من يوجد فيه الأنس لعزة خصاله وهي سبع: علم وعقل وأدب وحسن خلق وسخاء نفس وسلامة قلب وتواضع، فإن فقد بعضها لم يجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 خلاً يأنس بكماله، من قبل أن أضّدادها وحشة كلها لأن الجاهل لا أنس فيه، والأحمق لا أنس به، والبخيل سئ الخلق لا أنس عنده، والخبيث والمتكبر لا أنس معه فاعرف هذا. وروينا عن الأصمعي أنه ذكر عن بعض الحكماء قال: عاملوا أحرار الناس بمحض المودة، وعاملوا العامة بالرغبة والرهبة، وسوسوا السفلة بالمخافة، ومثل جملة الناس كمثل جملة الشجر، منهم من له ظل ليس فيه ثمر وهذا الذي فيه نفع من الدنيا ولا ثمرة له في العقبى، ويحتاج إليه في وقت، ومنهم من فيه ثمر وليس له ظل وهذا يصلح للآخرة ولا يصلح للدنيا، ومنهم من فيه ظل وثمر، فهذا الذي يصلح للدين والدنيا وهو أعزها، ومنهم من لا ظل له ولا ثمر وهذا هو الذي لا يحتاج إليه، فمثله في الشجر مثل شجر الغضا وهو شوك البرية التي تسميه العامة أم غيلان، تمزق الثياب لا طعام فيه ولا شراب، فهؤلاء من الناس من يضرّ ولا ينفع ويكثر ولا يدفع، مثله كما قال الله تبارك وتعالى: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبْئِس المَوْلى وَلَبِئسَ العشيرُ) الحج: 13، ومثله في الدواب مثل الفأرة والعقرب، وقد قيل في وصفهم: الناس شيء إذا ما أنت ذقتهم ... لا يستوون كما لا يستوي الشجر ذارب ظلّ وهذا عنده ثمر ... وذاك ليس له ظل ولا ثمر وقد أنشدنا في مثل وصف هذا لبعض الأدباء: إذا كنت لا ترجى لدفع مهمة ... ولم تك يوم الحشر ممن يشفع ولا أنت ذا مال يجود بماله ... فعود خلال من إخائك أنفع قال بعض السلف: إذا ولى أخوك ولاية فثبت على نصف مودتك فكثير، وحدثنا محمد بن القاسم القرشي عن الربيع بن سليمان، عن الإمام الشافعي رحمه الله، أنه آخى رجلاً ببغداد ثم إنّ أخاه ولي السيبين فتغير للشافعي كما كان يعهده منه فكتب إليه الشافعي رضي الله عنه هذه الأبيات: اذهب فودك من ودادي طالق ... مني وليس طلاق ذات البين فإن ارعويت فإنها تطليقة ... ويدوم ودك لي على ثنتين وإذا امتنعت شفتها بمثالها ... فتكون تطليقتين في حيضين فإذا الثلاث أتتك مني بتة ... لم تغنِ عنك ولاية السيبين فذكر هذا الكلام لبعض الفقهاء فاستحسنه وقال: هذا الطلاق فقهي، إلاّ أنه طلق قبل النكاح، وقد كان الشافعي عليه السلام آخى محمد بن عبد الحكم المصري وكان يحبه ويقربه، ويقول: ما يقيمني بمصر غيره، واعتل محمد فعاده الشافعي، فحدثني القرشي عن الربيع قال: سمعت الشافعي ينشد وقد عاد محمدّاً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه وأتى الحبيب يعودني ... فبرأت من نظري إليه وما شك أهل مصر أنّ الشافعي يفوض أمر حلقته إليه، وأنه يستخلفه بعد موته ويأمر الناس بالحضور عنده، حتى سئل عن ذلك في علّته فقيل له: يا أبا عبد الله إلى من نجلس بعدك، ومن يكون صاحب الحلقة، وهم يظنون أنه يشير إلى محمد فاستشرف لذلك محمد وتطاول لها، وكان جالساً عند رأسه فقال: سبحان الله أيشك في هذا أبو يعقوب البويطي، فانكسر لها محمد ووجد في نفسه ومال أصحابه إلى أبي يعقوب البويطي، وقد كان محمد حمل علم الشافعي ومذهبه وفارق مذهب مالك، إلا أنّ البويطي كان أزهد وأورع، فحمل الشافعي نصحه للدين والنصيحة للمسلمين، ولم يداهن في ذلك بأن وجه الأمر إلى أبي يعقوب، وآثره لأنه كان أولى، فلما قبض الشافعي رضي الله عنه إنتقل محمد ابن عبد الحكم مذهبه، وفارق أصحابه ورجع إلى مالك، وروى كتب أبيه عن مالك، وتفقه فيها، فهو اليوم من كبار أصحاب مالك رضى الله عنه، وأخمل البويطي رحمه الله نفسه واعتزل عن الناس بالبويطة من سواد مصر، وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع ابن سليمان ويعرف به، وإنما هو جمع البويطي لم يذكر نفسه فيه، وأخرجه إلى الربيع فزاد فيه، وأظهره وسمعه منه وقد كان البويطي حمل في المحلة ورفع من مصر إلى السلطان، وحبس في شأن القرآن، فحدثنا عن الربيع قال: كتب إليّ البويطي من السجن يحثني على المجالس، ويأمرني بالمواظبة على العلم والرفق بالمتعلمين والإقبال عليهم، وأنْ أتواضع لهم وقال: كثيراً ما كنت أسمع الشافعي رضي الله عنه يقول: أهين لهم نفس لكي يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها وأوصى بعض السلف ابنه فقال: يا بني لا تصحب من الناس إلاّ من إنْ افترقت قرب منك، وإذا استغنيت لم يطمع فيك، وإنْ علت مرتبته لم يرتفع عليك، إنْ تذللت له صانك، وإنْ احتجت له مانك، وإنْ اجتمعت معه زانك، فإن لم تجد هذا فلا تصحبن أحداً، ومن حق الأخوّة في الله عزّ وجلّ ما نقل إلينا من سيرة السلف قال: كان الرجل يجيء إلى منزل أخيه من حيث لا يعلم، فيقول لأهله: هل عندكم دقيق، ألكم زيت تحتاجون إلى كذا، فإن قالوا ليس عندنا اشترى لهم مصالحهم، قال: ولم يكن الأخ يفرق بين عياله وعيال أخيه، يقاسمهم المؤونة قال: ويلقى أخاه فلا يعلمه بشيء من ذلك، وأما سعيد بن أبي عروبة، فكان يعلق كل ثوب عنده على الحبل، ويظهر كل صنف من طعام فيصفه، وربما اشترى المسلوخ فيعلقه، ويفتح بابه ويدخل عليه إخوانه في الله عزّ وجلّ، فكان من أراد طعاماً أكل، ومن اشتهى لحماً قطع وشوى أو طبخ، ومن احتاج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 إلى ثوب لبس من غير إذن ولا مؤامرة، قد عرفوا ذلك من أخلاقه، وكان مثله جماعة متخلّقين بهذه الأخلاق، وقد جعل الله تبارك وتعالى الألفة بين المؤمنين من آياته، وتمدح بوصفها ولم يكلها إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عزّ وجلّ: (وأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولو أنْفَقْتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألَّفْتَ بين قُلُوبهِمْ وَلِكنَّ الله ألَّف بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌٌ) الأنفال: 63، أي عزيز لا يؤلف غيره ما فرق، ولا يفرق سواه ما ألف، حكيم تفرد بالحكم في التأليف، كما توحد بالتوحيد بالتعريف، ومعنى آخر: عزيز عزز الألفة وعظمها عند المؤمنين، حكيم جعلها في الحكمة مع الحكماء من الصالحين، ونظر أبو الدرداء إلى ثورين يحرثان في فدان، فوقف أحدهما يحك جسده فوقف الآخر فبكى أبو الدرداء فقال له: هكذا الإخوان في الله عزّ وجلّ، يعملان لله تبارك وتعالى ويتعاونان على أمر الله، فإذا وقف أحدهما وقف الآخر لوقوفه، وكان أكثر عبادة أبي الدرداء التفكر، وكان يقول: إني لأدعو لأربعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم. وقد جاء في الحديث: دعاء الأخ لأخيه بالغيب لا يرد، ويقول الملك: ولك مثل هذا، وفي لفظ آخر يقول الله تبارك وتعالى: بك أبدأ، والحديث المشهور: يستجاب للمرء في أخيه ما لا يستجاب له في نفسه، فمن واجب الأخوة تخصيصه وإفراده بالدعاء، والاستغفار له في الغيب، فلو لم يكن من بركة الأخوة إلاّ هذا كان كثير، وكان محمد بن يوسف الأصبهاني يقول: وأين مثل الأخ الصالح، أهلك يقتسمون ميراثك وهو منفرد بحسرتك، مهتم بما قدمت، يدعو لك في ظلمة الليل وأنت تحت أطباق الثرى، فقد أشبه الأخ الصالح الملائكة: لأنه جاء في الخبر: إذا مات العبد قال الناس: ما خلف وقالت الملائكة: ما قدم، يفرحون بما قدم من خير ويشفقون عليه، وقال بعض العلماء: لو لم يكن في اتخاذ الإخوان إلاّ أنّ أحدهم يبلغه موت أخيه فيترحم عليه ويدعو له، فلعله يغفر له بحسن نيته له ويقال: مَنْ بلغه موت أخيه فترحم عليه واستغفر له، كأنه شهد جنازته وصلّى عليه، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مثل الميت في قبره مثل الغريق يتعلق بكل شيء، ينتظر دعوة من ولد أو والد أو أخ، وإنه ليدخل على قبور الأموات من دعاء الأحياء، من الأنوار أمثال الجبال ويقال: الدعاء للأموات بمنزلة الهدايا للأحياء في الدنيا، قال: فيدخل الملك على الميت معه طبق من نور، عليه منديل من نور فيقول: هذه هدية من عند أخيك فلان، من عند قرينك فلان قال: فيفرح بذلك، كما يفرح الحي بالهدية، فقد كان الإخوان يوصون إخوانهم بعدهم بدوام الدعاء لهم، ويرغبون في ذلك لحسن يقينهم وصدق نياتهم، وإن أعظم الحسرة من خرج من الدنيا ولم يؤاخ أخاً في الله عزّ وجلّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 فيدرك بذلك فضائل المؤاخاة وينال به منازل المحبين عند الله تعالى، ومن أشد الناس وحشة في الدنيا من لم يكن له خليل يأنس به وصديق صدق يسكن إليه، كما قال عليّ عليه السلام: وغريب من لم يكن له حبيب ولا يوحشنك من صديق سوء ظن، وأنشد بعض الشيوخ لبعضهم: وليس غريبًا من تناءت دياره ... ولكن من يجفي فذاك غريب ومن كان ذا عهد قديم وذا وفا ... فلو جاوز السدين فهو قريب وقيل لسفيان الثوري: بمن تأنس فقال: بقيس بن الربيع، وما رأيته منذ سنتين، وكان بعضهم يقول: أنا بمودة من غاب عني من بعض إخواني أوثق مني بمودة من يغدو علي ويروح في كل يوم مرتين، وقال محمد بن داود: قرب القلوب على بعد المزار خير من قرب الديار من الديار، وليتّقِ أنْ يعاشر أخاه بخمس خصال، فليست من الأدب ولا المروءة: أولها أنْ لا يلزمه بما يكره مما يشق عليه، والثانية أن لا يسمع فيه بلاغة ولا يصدق عليه مقالة، والثالثة أن لا يكثر مسألته من أين تجيء وإلى أين تذهب، وأنْ لا يتجسس عليه ولا يتحسس عنه، والفرق بينهما أنّ التجسس يكون في قفو الآثار، والتحسس يكون في تطلع الأخبار، فقد روينا كراهة هذه الخمس في سيرة السلف، وقال محمد بن سيرين: لا تلزم أخاك بما يشق عليه، وقال مجاهد إذا رأيت أخاك في طريق فلا تسأله من أين جئت ولا أين تذهب فلعله أنْ يصدقك في ذلك أو يكذبك، فتكون قد حملته على الكذب، وروينا أنّ حكيماً جاء إلى حكيم فقال: جئتك خاطباً إليك مودتك فقال: إنْ جعلت مهرهاً ثلاثاً فعلت قال: وما هن قال: لا تخالفني في أمر، ولا تقبل عليّ بلاغة، ولا تعطين فيّ رشوة فقال: قد فعلت قال: قد آخيتك، وأما التجسس والتحسس فقد نهى الله ورسوله عنهما، وجعلهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شرط الأخوة مع ترك التدابر والتقاطع، فقد روينا في الخبر السائر: لا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المقاطعة في الشهادة أن تقطع مواصلته، وتنحرف عن جريان عادته، والتدابر في الغيب مأخوذ منه إذا ولاك الدبر أي لا تدابره إلاّ بما يحب، كما تكون له في المقابلة كما أخذت الغيبة من الغيب أي لا تخلفه في غيبه بما يكره، وقد كان الإخوان يتبايتون على العلوم والأعمال، وعلى التلاوة والأذكار وبهذه المعاني تحسن الصحبة، وتحق المحبة، وكانوا يجدون من المزيد من ذلك والنفع به في العاجل والآجل، ما لا يجدونه في التخلي والانفراد من تحسين الأخلاق، وتلقيح العقول، ومذاكرة العلوم، وهذا لا يصح إلاّ لأهله، وهم أهل سلامة الصدور والرضا بالميسور مع وجود الرحمة، وفقد الحسد، ووجد التناصر، وعدم التظاهر، وسقوط التكلف، ودوام التآلف، فإذا عدمت هذه الخصال ففي وجود أضدادها تقل المباينة، وقد قيل: من سقطت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 كلفته دامت صحبته وألفته، ومن قلّت مؤونته دامت مودته، وقال علي عليه السلام: شرّ الأصدقاء من تكلف له، وقال يونس النبي عليه السلام لما زاره إخوانه، فقدم إليهم خبز شعير وجزلهم من بقل كان زرعه وقال: لولا أنّ الله تبارك وتعالى لعن المتكلفين لتكلفت لكم. وروينا عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا والأتقياء من أمتي براء من التكلف، فجملة التكلف هو عمل ما لا نية للعبد فيه، ودخول العبد فيما لا يعنيه وتعاطيه ما قد كفيه، ومع وجود الحسد وكمون الغل، وهو ثبوت الحقد تكون المباينة، وفي التطاول والتظاهر تقع المجانية، ومع الخبث والمكر تكون المنافرة، وهذا كله يذهب الألفة وينقص المحبة ويبطل فضيلة الأخوة، وقال بعض أهل البيت: أثقل إخواني عليّ من أحتشمه ويحتشمني، وقال بعض السلف: كانوا لا يغتنمون ولا يحتشمون، وسئل الحسن عن الصديق الذي أكل ماله بغير إذن منه فقال: من استراحت إليه النفس وسكن إليه القلب، فإذا كان كذلك فلا إذن له في ماله، وسئل ذو النون عن الأنس فقال: أنْ تأنس بكل وجه صبيح وكل صوت فصيح، والله تبارك وتعالى فيما بينك وبين ذلك، وإذا علمت أنّ أخاك يسر بأخذك من رحله وملكه، أو علمت أنه لا يكره ذلك إنْ فعلته، حل لك أنْ تأخذ، وإنْ كان لم يأذن لك لأن علمك يقوم مقام إذنه، وعلامة هذا منك انشراح صدرك بذلك، وخفته على قلبك، فذلك دليل على سروره به، وعلى قياسه من علمت من الناس أنه يكره تناولك من ماله شيئاً، أو عرفته يبخل ضنانة بما في يديه، فإني أكره لك أنْ تأكل من ماله شيئاً وإنْ أذن لك بعد أنْ تعلم أنّ الأحب إليه أنْ لا تأخذ، ففي الورع وإنْ أعطاك أنْ لا تقبل فإن بذله مع علمك بأمره لغو لا حقيقة له، ودليل ذلك ضيق صدرك به، ووجود الحشمة والوحشة في القلب، فقد جاء في الأثر الإثم حواز القلب، وجاء الإثم ما حاك في صدرك، والبر حسن الخلق، والبر ما سكنت إليه النفس واطمأن به القلب، فقد جاءت هذه الألفاظ في أحاديث متفرقة، وعلى ما ذكرناه أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل من لحم بريرة تصدق به عليها وكانت غائبة لما علم أنه يسرها، فلم ينتظر إذنها فعلى ضد ذلك في القياس ما ذكرناه، ونظر هاشم الأوقص إلى الحسن وهو يأكل من جون لبقال، من هذه بسرة ومن هذه تينة، فقال له: يا أبا سعيد، تأكل من مال الرجل بغير إذنه فقال: يا لكع، اتل عليّ آية الأكل، ثم قرأ الحسن (ولا على أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلوا مِنْ بُيُوتِكُم) النور: 61 إلى قوله تعالى: (أوْ صَدِيِقِكُمْ) النور: 61، وقد كان أصحاب محمد بن واسع وفرقد السنجي يدخلون منزله فيأكلون من غير أنْ يؤذن لهم ويقول: ذكرتموني أخلاق قوم مضوا هكذا كنا، قال: وكنا ندخل على أبي سليمان الداراني، فيقدم إلينا الطيّبات ولا يأكل معنا ويقول: إنما خبأته لكم فقلنا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 تطعمنا الشهوات ولا تأكلها فقال: لا آكلها لأني قد تركت أكلها، وأقدمها إليكم لأني أعلم أنكم تشتهونها وقال: كنا نبايت إبراهيم بن أدهم في المصيصة. وفي قرى السواحل، فكان يكسر لنا الصنوبر والبندق واللوز ليله أجمع ويقول: كلوا فقلنا: لو أقبلت على صلاتك وتركت هذا فيقول: هذا أفضل، وكان بعض الناس يفجؤه الضيف، فلا يكون عنده ما يقدمه إليه، فيذهب إلى منزل أخيه، فيأخذ خبزاً وقدراً قد كان طبخها، فيحمله إلى ضيفه، فيلقاه أخوه بعد ذلك فيستحسنه منه ويأمره بفعل مثل ذلك في كل نائبة، وقال بعض العلماء: إذا عمل الرجل في منزل أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به إذا أكل عنده، ودخل الخلاء ونام وصلّى، فذكرت هذه الحكاية لبعض أشياخنا فقال: صدق، بقيت خصلة قلت: ما هي قال: معها وجامع فإذا فعل هذا فقد تم أنسه به، لأن هذه الخمس لأجلها يتخذ البيوت، ويقع الاستخفاء لما فيها من التبذل والعورة، ولولاها كانت بيوت الله سبحانه أروح وأطيب، ففي الأنس بالأخ وارتفاع الحشمة من هذه الخمس، مثال حال الأنس في الوحدة بالنفس من غير عيب من عائب ولا ضد لكن من اتفاق جنس، وهذا لعمري نهاية الأنس ذاتاً، فأما الخامسة، وهو قول شيخنا وجامع، فعلى ذلك يصلح أنْ يستدل له بقول العرب في تسليمهم وترحيبهم: مرحبًا وأهلاً وسهلاً أي لك عندنا مرحب، وهو السعة في القلب والمكان، ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة منا، وسهلاً أي لك عندنا سهولة، ذلك يسهل علينا ولا يشتد فهو سهولة اللقاء وسهولته من الأخلاق في الالتقاء، واعلم أنّ للناس في التعارف سبع مقامات بعضها فوق بعض، فأوّل ذلك المعرفة عن الرؤية أو السمع فقط، فلهذا حرمة الإسلام وحق العامة، ثم المجاورة وله حق الجوار، وهو ثاني حقوق الإسلام، وهذا هو الجار الجنب، ثم المرافقة في طريق أو سفر وهذا هو الصاحب بالجنب في أحد الوجهين من الآية، فلهذا ثلاثة حقوق لأنه قد جمع حرمة الإسلام وحرمة الجوار وزاد عليها بأنه ابن سبيل، ثم الصحبة وهي الملازمة والاتباع، فهذا فوق ذلك، ثم الصداقة وهي حقيقة الأخوة، ومعها تكون المعاشرة وهو اسم تكون معه المخالطة، وتوجد فيه المؤانسة، وهو يحكم بالمزاورة والمبايتة والمؤاكلة وهذا جملة العشرة، فالمعاشرة مأخوذة من العشير، وهو الخليط المقارب، ولذلك سمي الزوج عشيراً في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويكفرن العشير، وقد قال الله عزّ وجلّ في تسمية المعاشر وفي قربه: (لَبِئسَ الَوْلى وَلًَبِئسَ العَشيرُ) الحج: 13، يعني ابن العم المختلط به، فقيل منه معاشرة على زنة مفاعلة لأنه شيء يقع بين اثنين لا محالة، كان كل واحد قد فعل مثله أي يفعل هذا مثل ما يفعل هذا، مثل المضاربة والمقاتلة والمشاتمة، إذا فعل كل واحد بصاحبه كفعله به، ثم الأخوة فوق الصداقة، وهذا لا يكاد يكون إلاّ بين النظراء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 الحال، والمتقاربين في الحسن، والمعاني بأن يوجد في أحدهما من القلب والهمة والعلم والخلق، ما يوجد في الآخر وإنْ تفاوتا كما قال تبارك وتعالى: (إنَّ المُبذِّرينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّيَاطينَ) الأسراء: 27، وليسوا من جنسهم ولا على وصفهم في الخلقة، ولكن لما تشابهت قلوبهم وأحوالهم آخى بينهم، فهذه أخوة الحال وهي حقيقة الصداقة، ثم المحبة وهي خاصية الأخوة، وهذا يجعله الله تبارك وتعالى من الألفة ويوجده من الأنس في القلوب، يتولاه بصنعه ولا يوليه غيره، وهذا ارتياح القلوب وانشراح الصدور ووجد السرور، وفقد الوحشة، وزوال الحشمة، ثم الخليل وهذا فوق الحبيب، ولا يكون هذا إلاّ في عاقلين عالمين عارفين على معيار واحد، وطريق واحد، وهذا أعز موجود وأغرب معهود، والخلة مأخوذة من تخلل الأسرار، ومعها تكون حقيقة الحب والإيثار، فكل خليل حبيب، وليس كل حبيب خليلاً، لأن الخلة تحتاج إلى فضل عقل، ومزيد علم، وقوّة تمكين، وقد لا يوجد ذلك في كل محبوب، فلذلك عزّ طلبه وجلّ وصفه، وقد رفع الله عزّ وجلّ نبيه محمّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقام المحبة، فأعطاه الخلة ليلحقه بمقام إبراهيم، فكانت الخلة مزيد المحبة، ومنه ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو كنت متخذاً من الخلق خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله عزّ وجلّ، فلما أتخذه خليلاً لم يصلح أنْ يشرك في خلة الخالق خلة الخلق، ثم قال: ولكن أخوّة الإسلام فأوقفه مع الأخوّة، لأن فيها مشاركة في الحال كما فعل بعليّ عليه السلام، وعدل به عن النبوّة كما عدل بأبي بكر عن الخلة. وفي الحديث الآخر أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صعد المنبر فرحاً مستبشراً فقال: ألا إنّ الله تبارك وتعالى، قد اتخذني خليلاً كما أتخذ إبراهيم خليلاً، فأنا حبيب الله عزّ وجلّ، وأنا خليل الله، وليس قبل المعرفة اسم يوجب حكماً إلاّ ظاهر الإسلام، ولا بعد الخليل وصف يعرف إلاّ نعت محب، ثم تتزايد الحرمات في الأخوات ما بين المعرفة والخلة، وتعظم الحقوق بطول الصحبة وجميل العشرة، ويقال صحبة سنة أخوة ومعرفة عشر سنين قرابة، قد ضم الله عزّ وجلّ الصديق إلى الأهل ووصله بهم، ثم رفع الأخ وقدمه على الصديق، وهو قوله عزّ وجلّ: (أو مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) النور: 61، كان الأخ يدفع مفاتح خزائنه إلى أخيه، ويتصرف في الحضر ويتقلب في السفر، ويقول لأخيه: حكمك فيما أملك كحكمي، وملكي له كملكك، فكان أخوه يتضايق ويتحرج فيقتر على نفسه لأجل غيبة أخيه، ويقول: لو كان حاضراً لاتّسعت وأكلت رغداً للورع الذي فيه، والنصح والإيثار لأخيه فرحم الله عزّ وجلّ تضايقهم وشكر تورعهم، فأطلق لهم الإذن ووسع عليهم في الأكل فقال عزّ وجلّ: (ولا على أَنْفُسِكُمْ) النور: 61، أي لا إثم ولا ضيق أن ْ تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 ثم نسق الأقارب على ترتيب الأحكام، وضمّ إليهم الأخ لما وصفه بتمليكه مفاتحه أخاه، فأقام ذلك مقام ملك أخيه، لأنه أقام أخاه مقامه فقال تعالى: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) النور: 61، ثم أخر الصديق بعده إذ لم يكن بحقيقة وصفه، ثم قال عزّ وجلّ: (لَيْسَ عَليْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَأكُلُوا جَمِيعاً) النور: 61، بحضرة الإخوان أو أشتاتاً في حال تفرقهم، فسوى بين غيبتهم وشهودهم لتسوية إخوانهم بينهم وبين أملاكهم، واستواء قلوبهم مع ألسنتهم في البذل والمحبة، لتناول المبذول وهذا تحقيق وصفه عزّ وجلّ لهم في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) الشورى: 38، وقال بعض الأدباء: إذا ائتلف الإخوان جماعة، ثم اجتمع بعضهم على لذّة وفقد البعض نقص من اللذة بمقدار من نقص منهم، وهذا يكون بوجود الأنس بهم ومواصلة الذكر، وروينا أنّ مالك بن دينار ومحمد بن واسع دخلا منزل الحسن وكان غائباً، فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت السرير فجعل يأكل، فدخل الحسن فقال: هكذا كنا لا يحتشم بعضنا من بعض واعلم أنه ليس بين الأخوين والصاحبين رياء في أعمالهما، وإنْ تراءى برأي العين أعمالهم لهم ثواب السرّ والخلوة، لأنهما كالأهل في الحضر وكالصحابة في السفر، وليس بين الرجل وأهل بيته ولا بين المسافر ورفقائه رياء ولا سمعة، ولا عليه منهم اختفاء ولا خلوة، فإن صحبه أخوه هذا في سفر كانت حرمته عليه ألزم وحقه أوجب، فينبغي أنْ لا يخالفه ولا يعترض عليه إنْ أحب النزول في منزل لم يكره أخوه ذلك، وإنْ اختار أحدهما الرحيل لم يحب الآخر المقام، وإنْ سار أحدهما لم يقف صاحبه، وإنْ استراح الآخر وقف له رفيقه، وإنْ اشترى شيئاً لم ينهه عنه، ولا يستأثر بمطعوم ولا مشروب بل يؤثره بذينك، وفي الخبر: ما اصطحب اثنان قط إلاّ كان أحبهما إلى الله عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه. وروينا أيضاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه دخل غيضة مع بعض أصحابه، فاجتنى منها سواكين من أراك، أحدهما معوج والآخر مستقيم، فحبس المعوج لنفسه ودفع المستقيم إلى صاحبه فقال: يار سول الله أنت كنت أحق بالمستقيم فقال: ما من صاحب يصحب صاحبًا ولو ساعة من نهار، إلاّ سأله الله عن صحبته هل أقام فيه حق الله تعالى أو أضاعه، ومن كان ناظراً في أخوة أخيه أو في صحبته إلى كثرة أعماله، أو واقفاً مع أكمل أحواله، دل على جهله بهذا الطريق الذي ينفذ إلى التحقيق لأنها تحول، وإنّما المعول على حقائق القلوب وسلامة العقول لأن إليها الأمر مردود، فإن اقترن إلى جهله نقص معرفة الآخر دل علىه التزين له والتصنع عنده لتعلو منزلته ويحسن عنده أثره فيدخله ذلك في الشرك ويخرجه الشرك عن حقيقة التوحيد، فتزل قدم بعد ثبوتها ويسقط من عين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 مولاه، فلا يتولاه لأن النفس مبتلاة بحب الثناء والمدح وإثبات المنزلة بإظهار الوصف، فيكون هذا الصاحب حينئذ من أشأم الناس عليه وأضرّهم له، ويصير أحدهما بلاء على صاحبه، فليفارقه حينئذ لأنّه جاهل ولا يصحبه، فإنه يجد النقصان وتدخل عليه الآفات بمقارنته، فلينفرد بنفسه فيصدق في حاله عالية كانت أو دنيئة، وضيعة كانت أم رفيعة، من غير مقارنة أحد ولا مباينة فهو خير له وأحمد عاقبة، وهذا باب لطيف قد هلك فيه خلق كثير على ضربين منهم، من صاحب وآخى وبايت على هذه العلل فساكنها، ومن هذه الآفات فقارنها الضعف يقينه وقوة هواه، وكبر الناس في عينه وعظم قدر الدنيا مما يناله منهم في قلبه، فهلك بالتزين والتصنع وأهلك أخاه بنحو ذلك، والضرب الثاني من المتعبدين المعروفين بالستر والصلاح، خافوا ولم يحبوا أن يظهروا على حالهم كراهة الذم وخيفة النقص لهم، فلم يحبوا أنْ يختبروا بالمباينة ولا ينكشفوا في المصاحبة، ولا تعرف أحوالهم بطول الممارسة، وأحبوا مع ذلك أنْ يشار إليهم من بعيد ويتوهم فيهم العبادة من غير طول ملاقاة، فأظهروا التفرد والعزلة، وتركوا المباينة والصحبة، وأنكروا هذا وعابوه، يريدون أنْ يبينوا بذلك عن نظرائهم وينفردوا به عن جملة الخلق بدعوى الحال، ليختصوا بغيرها عندهم من غير حال، ولا انقطاع إلى الله سبحانه، ولا اشتغال، ولقلة معرفة العامة بأحوال الصادقين، فهلك أيضاً بالمباينة وغربة الحال وترك السنة من إجابة الدعوى، ومخالطة الأمة كبراً وتطاولاً على العامة، وتمويهاً منهم على من لا يعرف سيرة الأمة، وأوهم بذلك أنه مشغول عنه بسلوك الطريق، لعلمه أنهم لا يعرفون محجة التحقيق، ولعلّه مشغول بهم وأنهم وساوس قلبه، وهو في ذلك منكشف للصادقين ظاهر جلي للعارفين، وقد جاء في مخالطة المسلمين، وفي الأكل مع الإخوان والاختلاط بالعامة، والمشي في الأسواق واشتراء الحوائج، وحملها للتواضع ما يكثر رسمه ويطول وصفه وكذلك كان سيرة الصحابة وشيمة التابعين بإحسان منهم، عمر رضي الله عنه، كان يحمل القربة على ظهره لأهله، وعليّ رضي الله عنه كان يحمل التمر والملح في ثوبه ويده ويقول: لا ينقص الكامل من كماله ... ما جرّ من نفع إلى عياله ومنهم أبي وابن مسعود وحذيفة وأبو هريرة، كانوا يحملون حزم الحطب وجرب الدقيق على أكتافهم وظهورهم، وسيد المرسلين وإمام المتّقين، ورسول رب العالمين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشتري الشيء فيحمله بنفسه، فيقول له صاحبه: أعطني أحمله عنك فيقول: صاحب الشيء أحقّ بحمله، وكان الحسن بن علي عليهما السلام يمر على السؤال في الطريق، وبين أيديهن كسر ملقاة في الأرض، فيسلم عليهم فيقولون: هلمّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 الغداء يا بن بنت رسول الله، فيثني رجله عن بغلته وينزل، فيقعد معهم على الأرض ويأكل، ثم يركب ويقول: إنْ الله تبارك وتعالى لا يحب المستكبرين ثم يدعوهم بعد ذلك إلى منزله فيقول للخادم: هلمي ما كنت تدخرين فيأكلون معه، وروينا في الإسرائيليات أنْ حكيماً من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين مصنفاً في الحكمة، حتى ظن أنه نال منزلة عند الله تعالى، فأوحى الله إلى نبيه: قل لفلان أنك قد ملأت الأرض نفاقاً، وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً، قال: فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال: قد بلغت محبة ربي فأوحى الله عزّ وجلّ إلى النبي، قل له إنك لم تبلغ رضاي قال: فدخل الأسواق وخالط العامة وجالسهم، وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم، فأوحى الله تبارك وتعالى الآن حين بلغت رضاي، فلو أيقن اليائس المتصنع للخلق، الأسير في أيديهم، الرهين لنظرهم، أنّ الخلق لا ينقصون من رزق، ولا يزيدون في عمر، ولا يرفعون عند الله، ولا يضعون لديه، وأنّ هذا كله بيد الله عزّ وجلّ، لا يملكه سواه، ولو سمع خطاب المولى لاستراح من جهد البلاء، إذ يقول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله) الأعراف: 194، لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، مع قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دون الله عِبَادٌ أمْثَالُكُمْ) الأعراف: 194 فلو عقل ذلك لطرح، الخلق عن قلبه اشتغالاً بمقلبه، ولأعرض عن الناس بهمه نظراً منه إلى مهمه، وأظهر حاله وكشف أمره تقوياً بربه وغنية بعلمه، فلم يبال أنْ يراه الناس على كل حال يراه فيه مولاه، إذا كان لا يعبد إلاّ إياه ولا يضره ولا ينفعه سواه، فعمل ما يصلحه وإنْ كان عند الناس يضعه، وسعى فيما يحتاج إليه وإنْ كان عند المولى يزري عليه، ولكن ضعف يقينه فقوى إلى الخلق نظره، وأحب أنْ يستر عنهم خبره لإثبات المنزلة عندهم، ولاستخراج الجاه لنفسه، فيفخر بالخيلاء والعجب، فموه بحال على من لا حال له، ووهم بمقام عند من ليس له مقام، واعتقدوا فضله بذلك لنقصهم، وتوهموا به علمه لجهلهم، ولو صدقوا الله لكان خيراً لهم، حدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: والله ما أقول لك إلاّ نصحاً، أنه ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما يصلحك فافعله، وحدثونا عن الثوري قال: رضا الناس غاية لا تدرك، فأحمق الناس من طلب من لا يدرك وقد قال بعض الحكماء في معناه قولاً منظوماً: من راقب الناس مات غمًّا ... وفاز باللذّة الجسور ونظر أبو محمد سهل إلى رجل من الفقراء فقال له: اعمل كذا وكذا فقال: يا أستاذ لا أقدر على هذا لأجل الناس، فالتفت إلى أصحابه فقال: لا ينال العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين: عبد يسقط الناس عن عينه فلا يرى في الدار إلاّ هو وخالقه، وأنّ أحد لا يقدر أنْ يضره ولاينفعه، أو عبد أسقط الناس عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وحدثونا عن إمام الأئمة الحسن بن يسار البصري رحمه الله أنَّ رجلاً قال له: يا أبا سعيد إنّ قوماً يحضرون مجلسك ليس بغيتهم الفائدة منك، ولا الأخذ عنك، إنما همهم تتبع سقط كلامك وتعنتك في السؤال ليعيبوك بذلك، فتبسم الحسن ثم قال: هوّن عليك يا ابن أخي فإني حدثت نفسي بسكنى الحنان، فطمعت وحدثت نفسي بمعانقة الحور الحسان، فطمعت وحدثت نفسي بمجاورة الرحمن، فطمعت وما حدثت نفسي قط بالسلامة من الناس، لأني قد علمت أنّ خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم، فكيف أحدث نفسي بالسلامة منهم، وبمعناه ما روي عن موسىصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: يا ربّ احبس عني ألسنة الناس، فقال اللّّه تبارك وتعالى: يا موسى هذا شيء لم أفعله لنفسي، فكيف أفعله بك، وفي لفظ آخر: لو خصصت بهذا أحداً لخصصت به نفسي، وقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: ما من يوم أصبح فيه حيًّا وأمسي ولا يرميني فيه الناس بداهية إلاّ عددته نعمة من الله تعالى عليّ وأنشد: وإن امرًءا يمسي ويصبح سالماً ... من الناس إلاّ ما جنا لسعيد وأوحى الله عزّ وجلّ إلى عزير: إنْ لم تطب نفساً بأن أجعلك علكاً في أفواه الماضغين لم أكتبك عندي من المتواضعين، ومثله روينا عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول يا معشر الحواريين، إنْ أردتم أنْ تكونوا إخواناً فوطنوا نفوسكم عند العداوة والبغضاء من الناس، وقد جعل الله تبارك وتعالى في المخالطة للمؤمنين من البركة، ما لو لم يجيء فيه الأثر إلا هذا، كان فيه كفاية، وروينا أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما طاف بالبيت عدل إلى زمزم ليشرب منها، فإذا التمر المنقع في الحياض الآدم قد مغثه الناس بأيديهم وهم يتناولون منه يشربون فاستسقى منه فقال: اسقوني فقال العباس: يا رسول الله إنّ هذا النبيذ شراب قد مغث وحيض بالأيدي، أفلا آتيك أنظف من هذا في جرّ مخمر في البيت فقال: لا اسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس، ألتمس بركة أيدي المسلمين فشرب، وروينا في خبر آخر قيل: يا رسول الله، الوضوء من جرّ مخمر أحب إليك أو من هذه المطاهر التي يتطهر منها الناس فقال: بل من هذه المطاهر إلتماس بركة أيدي المسلمين، وروينا في الخبر: إذا التقى المسلمان فتصافحا، فتبسم أحدهما إلى صاحبه تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر، وفي لفظ الحديث الآخر: قسمت بينهما مائة رحمة تسعة وتسعون لآنسهما بصاحبه وأحسنهما بشرًا، وروينا في الخبر: خير الأصحاب عند الله عزّ وجلّ أرفقهم بصاحبه، وخير الجيران أرفقهم بجاره، وإياك أنْ تصحب جاهلاً فتجهل بصحبته، أو غافلاً عن مولاه متبعاً لهواه فيصدك عن سبيله فتردى، كما قال سبحانه وتعالى: (فاسْتَقيما ولا تَتَّبِعَانِّ سَبيلَ الَّذينَ لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 يَعْلَمُونَ) يونس: 89، فأول الاستقامة صحبة العلماء بالله عزّ وجلّ وقال تعالى: (ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرنَا وَاتَّبَعَ هَواهُ) الكهف: 28، وقال تعالى: (فلا يَصُدَّنَّك عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بها واتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) طه: 16، أي فتكون ردياً وقيل فتهلك وقال تعالى: (فأعْرِضَ عَمَنْ تَوَلّى عنْ ذِكْرِنا) النجم: 29، ففي دليله الإقبال بالصحبة على من أقبل إلى ذكره تعالى، والإعراض عمن أعرض عن وجهه، فلا تصحبن إلاّ مقبلاً عليه كما قال الله عزّ وجلّ: (واتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أنابَ إِليَّ) لقمان: 15، وإياك أنْ تصحب من الناس خمسة: المبتدع والفاسق والجاهل والحريص على الدنيا والكثير الغيبة للناس، فإن هؤلاء مفسدة للقلوب مذهبة للأحوال، مضرة في الحال والمآل. وقد كان سفيان الثوري رحمه اللهّ يقول: النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة وقال سعيد بن المسيب: لا تنظروا إلى الظلمة فتحبط أعمالكم الصالحة، ولكن قد كان صعصعة بن صوحان يقول: إذا لقيت المؤمن فخالطه مخالطة، وإذا لقيت المنافق فخالفه مخالفة، وقد قال: أحسن الواصفين في وصف أوليائه المتّقين، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً أي سلامة، الألف بدل من الهاء لازدواج الكلم، والمعنى، أي سلمنا من إثمكم وسلمتم من شرنا، وقد كان أبو الدرداء يقول في زمانه: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورق فيه، إنْ ناقدتهم ناقدوك، وإنْ تركتهم لم يتركوك، فأقرضهم من عرضك ليوم فقرك، وكان يقول: كل يوم أصبح لا يرميني الناس فيه بداهية أعده نعمة من الله تعالى عليّ، وقال حكيم الحكماء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من خالط الناس وصبر على أذاهم، أفضل ممن لم يخالطهم ولم يصبر على أذاهم، وقال العلام ذو الجلال والإكرام: (أُولَئِكَ يُؤْتْونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسنَةِ السَّيئةِ) القصص: 45، إي يدفعون بالكلام الحسن السيء وقال عزّ وجلّ في الكلام المفسر: (ادْفَعْ بالتي هي أَحْسَنُ) فصلت: 34، يعني بالكلمة الحسنى: (فإذا الَّذي بَيْنكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّهُ وَليُّ حَميمٌ) فصلت: 34 ثم قال عزّ وجلّ وما يلقاها يعني الكلمة: (إلاّ الَّذينَ صبَرُوا) فصلت: 35، أي على أمر الله تعالى وعلى الغيظ، وعن الغضب: (وما يُلَقّاها إلاَّ ذُو حظٍّ عَظيمٍ) فصلت: 35، أي من الحلم والعلم وقيل ذو حظ عظيم عند الله عزّ وجلّ من النصيب والجزاء وقد قال لقمان الحكيم قولاً متوسطاً: يا بني لا تكن حلواً فتبلع، ولا مرّاً فتلفظ، المعنى: لا تمكن الناس من نفسك ولا تتابعهم في كل شيء فلا يبقوا عليك وينبسطوا إليك، ولا تنافرهم وتخالفهم في كل شيء فيجانبوك ويرفضوك فيقعوا فيك، وقال بعض السلف: لا تصحب إلاّ مريداً، وكل خليل لا يريد ما تريد فانبذ عنك صحبته، وقال بعض علماء العرب: الصاحب كالرقعة في الثوب إنْ لم تكن من جنسه شانته، وقال بعض الحكماء: كل إنسان مع شكله كما أنّ كل طير مع جنسه، وقد كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 مالك بن دينار يقول مثل هذا، وقد لا يتفق اثنان في عشرة ودوام صحبة، إلاّ وفي أحدهما وصف من الآخر وإنّ أشكال الناس كأجناس الطير، قال ورأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك وقال: كيف اتفقا وليسا من شكل قال: ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال: من ههنا اتفقا ويقال: إذا اصطحب اثنان برهة من الزمان ولم يتشاكلا في الحال فلا بدّ أنْ يفترقا، وقد أنشدنا بعض العرب لبعض الحكماء في معناه: وقائل لما تفرقتما ... فقلت قولاً فيه إنصاف لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وآلاف وقد روينا في حديث أنّ الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، تلتقي فتشام في الهواء، قيل معناه في المذهب والخلق، وفي هذا الخبر زيادة ولو أنّ مؤمناً دخل إلى مجلس فيه مائة منافق وفيه مؤمن واحد، لجاء حتى يجلس إليه، ولوأنّ منافقاً دخل إلى مجلس فيه مائة مؤمن وفيه منافق واحد، لجاء حتى يجلس إليه، وقد ذكر لهذا الحديث سبب على ما ذكرناه، وهو أنّ امرأة عطّارة كانت بالمدينة من أحد فقدمت امرأة من مكة عطّارة وكانت مزاحة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على من نزلت قيل: على فلانة فقال: الأرواح جنود مجندة، وبعض العلماء يقول: إنّ الله خلق الأرواح ففلق بعضها فلقاً، وقدر بعضها قدراً، ثم أطافها حول عرشه، فأي روحين من فلقتين تعارفا هناك فالتقيا تواصلا ههنا في الدنيا وترافقا، وأي روحين من قدرتين أو فلقة وقدرة أختلفا ثم وتناكرا هناك فاختلفا في الجولان، فإن هذين إذا ظهرا اليوم تباينا وتنافرا، فهذا تأويل الخبر عنده، فما تعارف منها أي في الطواف فتقابلا تعارفا ههنا وترافقا ائتلفا، وما تناكرا ثم في الجولان فتدابرا تناكرا ههنا اليوم في الخلق والحال لما ظهرا فاختلفا، وليس الائتلاف يقع بنفس الاجتماع ووقت الاتفاق، فإنما الائتلاف يكون بمجانسة الحال ومشاكلة الأخلاق، لأنهم شبهوا أجناس الناس بأجناس الطير، وقد يتفق الطيران من جنسين ويتجامعان في مكان، فلا يكون ذلك ائتلافاً في الحقيقة ولا اتفاقاً في الخليقة لتباينهما في التشاكل، ولا يتبين ذلك في الاجتماع وإنما يتبين في الطيران إذا طارا معاً، فأما إذا ارتفع أحدهما ووقع الآخر وعلا أحدهما وقصر الآخر، فلا بدّ من افتراق حينئذ لفقد التشاكل، ولا بدّ من مباينة لعدم التجانس عند الطيران، فهذا مثال ما ذكرناه من الافتراق لعدم حقيقة تشاكل الحال والوصف بعد الاتفاق، واعلم أنّ الائتلاف والاختلاف يقع بين اثنين إذا اشتركا وافترقا في أربعة معان، إذا استويا في العقود، واشتركا في الحال، وتقاربا في العلم واتفقا في الأخلاق، فإن اجتمعا في هذه الأربع فهي: التشاكل والتجانس ومعه يكون الائتلاف والاتفاق، وإن اختلفا في جميعها فهو التباعد والتضاد وعنده يكون التباين والإفتراق، وإنْ اتفقا في بعضها واختلفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 في البعض كان بعض الاتفاق وبعض الاختلاف فيوجد من الائتلاف بمقدار ما وجد من التعارف، ويوجد من الإختلاف نحو ما فقد من الاتفاق، وهذا هو تناكر الأرواح لتباعد نشأتها وتشامها في الهواء، وذلك الأو ل هو تعارف الأرواح بقرب التشام باجتماع الأوصاف. حدثت عن يعقوب ابن أخي معروف رحمهما الله قال: جاء الأسود بن سالم إلى عمي معروف، وكان مؤاخياً له فقال: إنّ بشر بن الحارث رحمه الله يحب مؤاخاتك، وهو يستحي أنْ يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أنْ تعقد له فيما بينك وبينه أخوّة يحتسبها ويعتد بها، إلاّ أنه يشترط فيها شروطاً لا يحب أنْ يشتهر بذلك، ولا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة، فإنه يكره كثرة الالتقاء، فقال معروف رحمه الله: أما أنا، فلو أحببت واحداً لم أحب أنْ أفارقه ليلاً ولا نهاراً، ولزرته في كل وقت ولآثرته على نفسي في كل حال، ثم ذكر من فضل الأخوة والحب في الله عزّ وجلّ أحاديث كثيرة، ثم قال فيها وقد آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين عليّ عليه السلام، فشاركه في العلم وقاسمه في البدن وأنكحه أفضل بناته وأحبهن إليه، وخصه بذلك لمؤاخاته: وإني أشهدك أني قد عقدت له أخوّ ة بيني وبينه وأعتقده أخاً في الله عزّ وجلّ لرسالته ولمسألتك، على أنْ لا يزورني إنْ كره ذلك ولكني أزوره متى أحببت، وآمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها، وآمره أنْ لا يخفي علي شيئاً من شأنه، وأنْ يطلعني على جميع أحواله، قال: فأنصرف بذلك أسود بن سالم فأخبر به بشراً، فرضي بذلك وسرّبه، فهذا أسود بن سالم أحد عقلاء الناس وفضلائهم، فكان فيه اتساع للأصحاب وصبر عليهم، وهو الذي أشار معروف به على الرجل الذي سأله مستشيراً فقال: يا أبا محفوظ، هذان الرجلان إماما هذا البلد، فأشر علي أيهما أصحب، فإني أريد أنْ أتأدب به أحمد بن حنبل أو بشر بن الحارث رضي الله عنهما قال له معروف: لا تصحب أحدهما، فإن أحمد صاحب حديث، وفي الحديث: اشتغال بالناس فإن صحبته ذهب ما تجد في قلبك من حلاوة الذكر وحب الخلوة، وأما بشر فلا يتفرغ لك ولا يقبل عليك شغلاً بحاله، ولكن اصحب أسود بن سالم، فإنه يصلح لك ويقبل عليك، ففعل الرجل ذلك فانتفع به وإنما ضمه معروف رضي الله عنه إلى الأسود دونهما، لأنه كان أليق بحاله وأشبه بوصفه، وكذلك روينا في حديث المؤاخاة الذي آخى فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أصحابه، فآخى بين إثنين شكلين في العلم والحال آخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبد الرحمن، وهما نظيران، وآخى بين سلمان وأبي الدرداء وهما شكلان في العلم والزهد، وآخى بين عمار وسعد وكانا نظيرين، وآخى بين عليّ وبينه رضي الله عنهم أجمعين، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، وهذا من أعلى فضائله لأن علمه من علمه، وحاله من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 وصفه، ثم آخى بين الغني والفقير ليعتدلا في الحال، وليعود الغني على أخيه الفقير بالمال، قال أبوسليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري: إذا آخيت أحداً في هذا الزمان فلا تعاتبه على أمر تكرهه منه، فإنك لا تأمن أنْ يعنيك بشر من الأمر الأول، قال أحمد: فجربته فوجدته كما قال، وقال بعض العلماء: الصبر على مضض الأخ خير من معاتبته، ومعاتبته خير من القطيعة، والقطيعة أحسن من الوقيعة، وقال بعضهم: كدر الجماعة خير من صفو الفرقة، ومثل الأخوة مثل الزجاجة الرقيقة ما لم تحفظها وتوقها كانت معرضة للآفات، واستتمام الإخاء إلى خير الوفاة أشد من ابتدائها في حال الحياة، وقال بعض الأدباء: الناس أربعة: فواحد حلو كله فهذا لا يشبع منه، وآخر كله مر وهذا لا يؤكل منه، واحد فيه حموضة فخذ من هذا قبل أنْ يأخذ منك، وآخر فيه ملوحة فخذ منه إذ احتجت إليه، وقال بعض الأئمة: الناس أربعة فاصحب ثلاثة ولا تصحب واحداً، رجل يدري ويدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهذا نائم فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا منافق فاجتنبوه، ومثل هذا الرابع قول سهل: ما عصي الله عزّ وجلّ بمعصية شر من الجهل، وأعظم من الجهل الجهل بالجهل، وقال بعض الأدباء: الناس ثلاثة: فاصحب رجلين وأهرب من الثالث: رجل أعلم منك فاصحبه تتعلم منه، ورجل أنت أعلم منه يقبل منك فاصحبه تعلمه، ورجل معجب بنفسه لا علم عنده ولا تعلم فاهرب من هذا، وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: ليس بلبيب من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدًّا، حتى يجعل الله له منه فرجًا، فمعاملته عني يتقي ومخالطته إخوان الأضطرار ومعاشرة التقي ومصافاته من أحس الإحسان، وكان أبو مهران يقول: أخرج من منزلي فأنا بين ثلاثة، إنْ لقيت من هو أعلم مني فهو يوم فائدتي أتعلم منه، وإن لقيت من هو مثلي فهو يوم مذاكرتي، وإنْ لقيت من هو دوني فهو يوم مثوبتي أعلمه فأحتسب فيه الأجر، وقال أبو جعفر محمد بن علي لابنه جعفر بن محمد عليهم السلام: لا تصحبن من الناس خمسة، واصحب من شئت؛ الكذاب فإنك منه على غرر، وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، والأحمق فإنك لست منه على شيء، يريد أنْ ينفعك فيضرك، والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان فإنه يسلمك وماله ونفسه عند الشدة، والفاجر فإنه يبيعك بأكلة أو بأقل منها، قلت: وما أقل منها قال: الطمع. قول: أخرج من منزلي فأنا بين ثلاثة، إنْ لقيت من هو أعلم مني فهو يوم فائدتي أتعلم منه، وإن لقيت من هو مثلي فهو يوم مذاكرتي، وإنْ لقيت من هو دوني فهو يوم مثوبتي أعلمه فأحتسب فيه الأجر، وقال أبو جعفر محمد بن علي لابنه جعفر بن محمد عليهم السلام: لا تصحبن من الناس خمسة، واصحب من شئت؛ الكذاب فإنك منه على غرر، وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، والأحمق فإنك لست منه على شيء، يريد أنْ ينفعك فيضرك، والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان فإنه يسلمك وماله ونفسه عند الشدة، والفاجر فإنه يبيعك بأكلة أو بأقل منها، قلت: وما أقل منها قال: الطمع. روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ رجلاً صحبه في طريق فدخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيضة، فاجتنى سواكين من أراك أحدهما معوج والآخر مستقيم، فأخذ المعوج وأعطى صاحبه المستقيم، فقال الرجل: أنت أحق بالمستقيم مني، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من صاحب يصحب رجلاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 ولو ساعة من نهار إلاّ سأله الله عن صحبته، هل أدّى فيها حق الله عزّ وجلّ أم لا، فكرهت أنْ يكون لك علي حق لم أرده، واعلم أنّ الأخوة في الله عزّ وجلّ، والمحبة في الله تعالى وحسن الصحبة كانت طرائق السلف الصالح، قد درست اليوم محاجها وعفت آثارها، فمن عمل بها فقد أحياها، ومن أحياها كان له مثل أجر من عمل بها، فمن رزقه الله أخاً صالحاً تطمئن به نفسه، ويصلح معه قلبه فهي نعمة من الله عزّ وجلّ مضافة إلى محاسن نعمه، والحمد لله وحده وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 الفصل الخامس والأربعون ذكر التزويج وتركه أيهما أفضل ومختصر أحكام النساء في ذلك قال سبحانه وتعالى: (وَأنْكِحوا الأَيَامى مِنْكُمْ) النور: 32 الآية، فأمر المحتاجين وندب المعصومين، فالنكاح فرض مع الحاجة وسنّة على الكفاية، ثم وعدهم تعالى الغنى على الفقر، فالغنى على الغني يجعله على نحو الفقر من الفقير، فقد يكون فقيراً من الأجر فيغنيه بالأجر، ويكون فقيراً من عدم الحكم فيغنيه بإيجاب الحكم عليه، ويكون فقيراً بالضيعة والشتات وفقد المنزل والأثاث فيغنيه بوجود ذلك، وأحكمه عزّ وجلّ بما عقبه من قوله تعالى وهو الحكيم: (والله وَاسِعٌ عَليمٌ) البقرة: 247، فهو واسع لغناهم عن معاني فقرهم عليهم بحالهم وما يصلحهم فيما لا يعلمون على مقادير رتبهم، وروى الحسن عن أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا، وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فأنكحوه ألاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. وفي الخبر: من نكح لله عزّ وجلّ وأنكح لله تبارك وتعالى استحق ولاية الله تعالى، وهذا أدنى حال تنال به الولاية لأنها مقامات لكل مقام عمل من الصالحات، إلاّ أنا روينا أنّ بشر بن الحارث قيل له إنّ الناس يتكلمون فيك، فقال: وما عسى يقولون؟ قيل: يقولون إنك تارك لسنّة يعنون النكاح، فقال: قل لهم: إني مشغول بالفرض عن السنّة، وقال مرة: ما يمنعني من ذلك إلا آية في كتاب الله تعالى قوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذي عَلَيْهِنَّ) البقرة: 228، ولعسى أن لا أقوم بذلك، وكان يقول: لو كنت أعول دجاجة لخفت أن أكون جلاّداً على الجسر، هذا يقوله في سنة عشرين ومائتين، والحلال والنساء أحمد عاقبة، فكيف بوقتنا هذا؟ فالأفضل للمريد في مثل زماننا هذا ترك التزويج إذا أمن الفتنة وعود العصمة، ولم تنازعه نفسه إلى معصية، ولم يترادف خواطر النساء على قلبه حتى يتشتت همه أو يقطعه عن حسن الإقبال على الخدمة من مسامرة الفكر ومحادثة النفس بأمر النساء، وما لم يجمح بصره إلى محظور ولم يخالط ذكره شهوة تستولي عليه، لأنّ أول خطايا الفرج شهوة القلب بمسامرة الفكر وهو معقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 الخطيئة الثانية: إنعاظ الفرج عن شهوة القلب وهذا عمل، وقبض الرجل على فرجه متعظاً معصية ثالثة، فإن ظهرت الشهوة من الفرج فهو معصية رابعة، ومسّ الفرج باليمين مكروه، فمتى وقعت هذه المعاني فإنها تغيّر القلب عن الخشوع، وتدخل عليه النقصان، ومتى لم يبتل العبد بها، فإن الخلوة أفضل المعاني، وفيها يجد لذة الوجود وحلاوة المعاملة، ويقبل على نفسه ويشتغل بحاله ولا يهتم بحال غيره، فيحمل حاله على حال غيره فيقصر، أو يقوم بحكم آخر فيعجز، ويعالج شيطاناً آخر مع شيطانه، وتنضم نفس أخرى إلى نفسه، وله في مجاهدة نفسه ومصابرة هواه وعدوه أكبر الأشغال، ومنها أنّ المكاسب قد فسدت فليس ينال أكثرها إلاّ يمعصية وهو مسؤول من أين اكتسبه وفيم أنفقه، فإن كان كسب من غير حلّه حسب ذلك عليه، وإن أنفق على هواه لم يحسب ذلك له، ومنها أن أكثر النساء قليلات الدين والصلاح، والأغلب عليهن الجهل والهوى، فلا يأمن أن ينقاد لهنّ لأجل هواه فيخسر آخرته، أو يمانعهن فيغالطهن، فلا ينقدن له فيتنغص عليه عيش دنياه، وقال الحسن رحمه الله: والله ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلاّ أكبه الله في النار، ومنها أنّ الأغنياء في مقام الظالمين للفقراء لبخس حقوقهم عنهم، وتقصيرهم عمّا أوجب الله عزّ وجلّ عليهم لهم، فإن كان المتأهل فقيراً لقي شدةً وجهداً وعنتاً وكداً ولم يأمن دخول الآفات عليه لأجل عيلته، وقد سئل ابن عمر رضي الله عنه عن جهد البلاء فقال: كثرة العيال، وقلة المال، وقال بعض السلف: قلة العيال أحد اليسارين، وكثرة العيال أحد الفقرين، ويقال: إنّ العيال عقوبة شهوة الحلال وإنّ الحرص عقوبة طلب فوق الكفاية فهو عقوبة الموحدين. وقد جاء في الأثر: الوحدة خير من قرين السوء وهو من القرين الصالح على غير يقين، فلا يزال اليقين بالشك، فإن أكثر النساء من لا صلاح فيه لغلبة الهوى وحبّ الدنيا عليهن، وفي الخبر: مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم من مائة غراب، يعني الأبيض البطن، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني اتّقِ المرأة السوء فإنها تشيبك قبل المشيب، واتّقِ شرار النساء فإنهنّ لا يدعون إلى خير، وكان من خيارهن على حذر، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خيرات النساء: إنكن صواحبات يوسف عليه السلام، إن صرفكنّ أبا بكر رضي الله عنه عن الإمامة ميل منكنّ إلى الهوى وتزيين وإغواء، كما أنّ زليخا حين راودت يوسف عليه السلام كان ذلك منها غواية وتسويلاً، ففيه اعتذار ليوسف عليه السلام وإيقاع اللوم عليها وتشبّه لهنّ بها، وقال الله فيهن حين أفشين سرّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنْ تَتُوبا إلى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) التحريم: 4، يعن مالت إلى الهوى فأمرهما بالتوبة للميل إلى الهوى، ثم قال: وإن تظاهرا عليه يعني تعاونا وهما من خير الأزواج فماظنك بمن شاكلته الجهالة ووصف الهوى والضلالة؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أفلح قوم تملكهم امرأة، وقال الله تعالى مخبرًا بعداوة بعض الأزواج والأولاد: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فاحْذَرُوهُمْ) التغابن: 41، يعني في الآخرة لانحطاطكم في أهوائهم وميلكم إلى وهن آرائهن، فصاروا عدوّاً غداً، كيف وقد تكون المرأة والولد أعدى عدو للرجل اليوم بل يوم القيامة إذا خالفهم في أهوائهم وعمل بالعلم في أحوالهم وقد كان إبراهيم بن أدهم يقول: من تعوّد أفخاذ النساء لم يفلح، وكان بشر رحمه الله يقول: لوكان لي عيال لخشيت أنْ أكون جلاّداً على الجسر، فالوحدة أروح للقلب وأقلّ للهمّ لخفة المؤونة وقلة المطالبة وأمن المنازعة وسقوط حكم من أحكام الشرع عنه، وقد كان السلف يعملون في إسقاط الحكم عنهم للعجز عن القيام بها، ويغتنمون ذلك، وفي التخلي قلّة الاهتمام بالأدخار والجمع، وترك المراعاة، والتحفظ للمبيت في البيت، وسقوط المسألة والاستخبار، وترك التجسس للآثار التي نهى الله ورسوله عنها إذ لا يأمن ذلك مع الزوجة السوء، وإنما زهد الزاهدون في الدنيا لراحة القلب واطّراح الهمّ وسقوط المطالبة، وقد أبيحت العزبة وفضل التعزب لهذه الأمة في آخر الزمان، بعد المائتين أبيحت العزبة لأمتي، ولأن يربي أحدكم جرو كلب خير من أن يربي ولدًا، والخبر المشهور: خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاد الذي لا أهل له ولا ولد، وفي خبر آخر: يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يدي زوجته وأبويه وولده، يعيّرونه بالفقر ويحمّلونه ما لا يطيق، فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك وربما كانت المرأة عقوبة للعبد. وقد حدثونا في أخبار الأنبياء عليهم السلام أنّ قوماً دخلوا على يونس عليه السلام فأضافهم، وكان يدخل ويخرج إلى منزله فتؤذيه امرأته وتستطيل عليه وهو ساكت، فعجبوا من ذلك، وهابوه أنْ يسألوه فقال: لا تعجبوا من هذا، فإني سألت الله عزّ وجلّ فقلت: يا ربّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال: إنّ عقوبتك ابنة فلان فتزوّج بها، فتزوّجت بها وأنا صابر على ما ترون منها، وهذا كله لمن لم يخشَ العنت، فأما من خاف العنت وهو الزنا، وأصل العنت في اللغة هو الكسر بعد جبر، يقال للدابة إذا كسرت بعد ما جبرت قد عنتت، فكأنه كان مجبوراً بالعصمة وبالتوبة ثم كسر بالزلل أو العادة السوداء فنكاح الأمة حينئذ خير له من العنت، والصبر عن نكاح الأمة خير من نكاحها، وهذا معنى قوله عزّ وجلّ في نكاح الأمة: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِي َ العَنَتَ مِنْكُمْ) النساء: 25، وكذلك إنْ كثرت الخواطر الردية والوساوس الدنية في قلبه بذكر النكاح فشغله ذلك عن فرضه أو شتت ذلك همه، فإن نكاح الأمة أيضاً خير له على أنّ نكاح الأمة محرم على من وجد طولاً بحرة، انصرف الناس ذات يوم من مجلس ابن عباس وبقي شاب لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 يبرح، فأطال القعود فقال له ابن عباس: هل لك من حاجة فقال: نعم، لي حاجة استحيت أنْ أسألك عنها بحضرة الملأ قال: سلني عمّا شئت قال: إني أهابك وأجلك فقال ابن عباس: إنما العالم بمنزلة الوالد لا حشمة على السائل منه، فمهما أفضيت به إلى أبيك فأفض به إليّ فإنه لا عيب عليك عندي فقال: رحمك الله إني شاب لا زوجة لي وربما خشيت العنت على نفسي، وربما استمنيت بذكري فهل لي في ذلك معصية، فأعرض عنه ابن عباس رضي الله عنهما ثم قال: أف وتف، نكاح الأمة خير من هذا، وهذا خير من الزنا، ونكاح الأمة عند علماء العراق حرام على من وجد عشرة دراهم، وعند بعض علماء الحجاز إذا كان واجداً ثلاثة دراهم لم يحل له نكاح الأمة، وعن بعض أصحاب ابن المسيب إنْ وجد الرجل درهمين حرم عليه الأمة، وقال بعض الناس: أحمق الناس حرّ تزوّج بأمة، وأعقل الناس عبد تزوّج بحرّة، لأن هذا يعتق بعضه وذلك يرق بعضه، لأنه يرق ولده وقد جاء في كراهة الاستمناء وتحريمه والتغليظ فيه أخبار شديدة. روينا أنّ الله عزّ وجلّ أهلك أمة من الأمم كانوا يعبثون بمذاكيرهم، وقد أسنده إسماعيل بن أبان عن أنس بن مالك، وسئل أبو محمد عن النساء فقال: الصبر عنهن ولا الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار، وكذلك قال بعض العلماء قبله: معالجة العزبة خير من معالجة النساء وقال بعض علمائنا البصريين من أهل الورع واليقين، وقد سئل عن التزويج في مثل زماننا، فذكر ضيق المكاسب وقلة الحلال وكثرة فساد النساء، فكرهه للورع وأمره بالمدافعة فأعيد عليه في ذلك، فقال إنه يدخل في المعاصي لدخول الإنسان في الآفات وفي المكاسب المحرمات ومن أكله بدينه وتصنعه للخلق، فلا يصلح التزويج في هذالوقت إلاّ لرجل يدركه من الشبق ما يدرك الحمار إذا نظر إلى أتان، لم يملك نفسه أنْ يثب عليها حتى يضرب رأسه، وهو لا ينثني، فإن كان الإنسان على مثل هذا الوصف كان التزويج له أفضل، وقد روينا عن قتادة في قوله عزّ وجلّ: (ولا تُحمِّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بهِ) البقرة: 286، قال الغلمة وعن عكرمة ومجاهد رضي الله عنهما وخلق الإنسان ضعيفاً قال: لا يصبر عن النساء. وروينا عن فياض بن نجيح إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله، وبعضهم يقول: ذهب ثلث دينه، وروينا في نوادر التفسير عن ابن عباس ومن شرّ غاسق إذا وقب قال: قيام الذكر وقد أسنده بعض الرواة، إلاّ أنه قال فيه: الذكر إذا دخل ولم يذكر قام، وفي الخبر: إذا تزوج الرجل فقد أحرز نصف دينه، فليتّقِ الله في الشطر الآخر، وفي دعاء البراء بن عازب: أعوذ بك من شرّ سمعي وبصري وقلبي ومني، فكان المني إذا امتلأ به خرز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 الصلب، فطلب الخروج فخيف منه فساد القلب ومرضه بمنزلة الدم إذا كان في العروق، فإذا تصاعد من الصلب طبخه وغيره فابيضّ وصار منياً بإذن الله عزّ وجلّ، وذكر النساء في مجلس معاوية فذمهن قوم فقال: لا تفعلوا، فما علل المريض ولا ندب الميت ولا عمر البيوت مثلهن، ولا احتاجت الرجال إلى مثلهن وفي بعض التفسير قال: (أنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها) الكهف: 7 قال: النساء، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوّج، وكان يجمع غلمانه لما أدركوا عكرمة وكريب وغيرهما فيقول: إنْ أردتم النكاح أنكحتكم، فإن العبد إذا زنا نزع نور الإيمان من قلبه، وقد قال عمر رضي الله عنه لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجوز أو فجور، وحدثنا بعض علماء خراسان عن شيخ له من الصالحين، كان يصحب عبدان صاحب ابن المبارك ووصف من صلاحه وعلمه قال: فكان يكثر التزويج حتى لم يكن يخلو من اثنتين أو ثلاثة فعوتب في ذلك فقال: هل يعرف أحد منكم أنه جلس بين يدي الله عزّ وجلّ مجلساً، أو وقف بين يدي الله موقفاً في معاملته، فخطر على قلبه خاطر شهوة، وأفكر في ذلك فقيل: قد يصيبنا هذا كثير فقال: لو رضيت في عمري كله بمثل حالكم في وقت واحد لما تزوّجت ثم قال، لكني ما خطر على قلبي خاطر يشغلني عن حالي إلاّ نفذته لأستريح منه، وأرجع إلى شغلي ثم قال: منذ أربعين سنة ما خطر على قلبي خاطر معصية، وسمع بعض العلماء بعض الجهال يطعن على الصوفية فقال: يا هذا ما الذي نقصهم عندك فقال: يأكلون كثيراً فقال: وأنت أيضاً، لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون ثم قال: ماذ؟ قال: ويتزوّجون كثيراً فقال: وأنت أيضاً، لو حفظت فرجك كما يحفظون تزوّجت كما يتزوّجون وأي شيء أيضاً قال: ويسمعون القول قال: وأنت أيضاً، لو نظرت كما ينظرون لسمعت كما يسمعون، وقد سئل بعض العلماء عن القراء: لِمَ يكثرون الأكل ويكثرون الجماع وتعجبهم الحلاوة فقال: لأنه يطول جوعهم ويتعذر عليهم موجود الطعام، فإذا وجدوا استكثروا منه، وأما الحلاوة فإنهم تركوا شرب الخمر وكثرة لذات النفوس فاجتمعت لذتهم في الحلاوة، فهم يأكلونها، وأما الجماع فإنهم غضّوا أبصارهم في الظاهر، فضيقوا على قلوبهم في الخواطر، فاتسعوا في النكاح فأكثروا منه لما ضيقوا على جوارحهم عن الانتشار في الأبصار، وقد كان الجنيد رحمه الله يقول: أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت، وكان ابن عمر رضي الله عنه من زهاد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمائهم، وكان يصوم كثيرًا، وكان يفطر على الجماع قبل الأكل، وربما جامع قبل أنْ يصلي بالمغرب ثم يغتسل ويصلّي. وروينا عنه أنه جامع أربعًا من جواريه في رمضان قبل صلاة عشاء الآخر، وقد كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: خير هذه الأمة أكثرها نكاحاً، وكان سفيان بن عيينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 يقول: كثرة النساء ليست من الدنيا لأن عليًّا رضي الله تعالى عنه كان أزهد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان له أربع نسوة وسبعة عشر سرية، فالنكاح سنّة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء صلوات الله عليهم، وقد روينا في أخيار الأنبياء أنّ عابداً تبتل وبلغ من العبادة ما فاق على أهل زمانه، ووصف بذلك فقال: فذكر ذلك لنبي ذلك الزمان، فأثنى عليه بحسن الثناء فقال: نعم الرجل هو لولا أنه تارك لشيء من السنة قال: فنمى ذلك إلى العابد فأهمه فقال: ما ينفعني عبادتي ليلاً ونهاراً وأنا تارك للسنة، فجاء إلى ذلك النبي فسأله فقال: نعم أنت تارك للتزوّج فقال: ما تركته أنني حرمته ومنعني منه إلاّ أني فقيرلا شيء عندي وأنا عيال على الناس، يطعمني هذا مرة وهذا مرة، فكرهت أنْ أتزوّج امرأة أعضلها وأرهقها جهداً، فقال: ما يمنعك إلاّ هذا قال: نعم قال: فأنا أزوجك ابنتي قال: فزوجه النبي عليه السلام ابنته في قصة طويلة، وروينا في نوادر أخبارهم أيضاً: أنّ يحيى بن زكريا عليهما السلام تزوّج امرأة ولم يكن يقربها، قيل: لغض البصر وقيل: للفضل في ذلك، كأنه أراد أن يجمع الفضائل كلها، وقيل: للسنّة، وكان بشر بن الحارث رحمه الله يعتقد أحمد بن حنبل رحمه الله ويقول: فضل عليّ بثلاث بطلب الحلال لنفسه ولغيره، وأنا أطلب الحلال لنفسي واتساعه للنكاح وضيقي عنه وقد جعل إماماً للعامة، وأنا أطلب الوحدة لنفسي، ويقال إنّ أحمد بن حنبل رضي الله عنه تزوّج اليوم الثاني من وفاة أم عبد الله ولده، ويقال إنه لم يبت عزباً بعد وفاتها إلاّ ليلة، ولكن قد كان بشر رحمه الله يحتج لنفسه بحجة، قيل له إنّ الناس يتكلمون فيك فقال: وما عسى أنْ يقولوا قال: يقولون هو تارك للسنّة في ترك النكاح فقال: قل لهم: هو مشغول بالفرض عن السنّة، وعوتب مرة أخرى في ترك التزوج فقال: ما يمنعني من ذلك إلاّ حرف في كتاب الله عزّ وجلّ: (ولهن مثل الذي عليهن) البقرة: 228 قال: فذكر ذلك لأحمد بن حنبل فقال: وأين مثل بشر أنه قعد على مثل حد السنان، وعلى ذلك فقد بلغنا أنه رحمه الله رؤي في المنام بعد وفاته، فسئل عن حاله فقال: رفعت سبعين درجة في عليين، وأشرف بي على مقامات الأنبياء ولم أبلغ منازل المتأهلين، وبلغنا عنه أنه قال: وعاتبني ربي عزّ وجلّ وقال: يا بشر ما كنت أحب أنْ تلقاني عزباً قال: فقلت له ما فعل أبو نصر التمار فقال: رفع فوقي سبعين درجة فقلنا: بماذا، وقد كنا نراك فوقه فقال: بصبره على بناته والعيال. وقد كان ابن مسعود يقول: لو لم يبقَ من عمري إلا عشرة أيام أموت في آخرها لأحببت أنْ أتزوج، ولا ألقى الله عزّ وجلّ وأنا أعزب، وماتت امرأة معاذ بن جبل رضي الله عنه في الطاعون، وكان هو أيضاً مطعوناً فقال: زوجوني فإني أكره أنْ ألقى الله عزّ وجلّ عزبًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 وقد كان بعض الصحابة، انقطع إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخدمه ويبيت عنده لحاجة إنْ طرقته فقال له: ألا تتزوج فقال: يا رسول الله، أنا فقير لا شيء لي وأنقطع عن خدمتك، فسكت عنه ثم أعاد عليه ثانية: ألا تتزوج، فقال له مثل ذلك، ثم تفكر الصحابي في نفسه فقال: والله لرسول الله أعلم بما يصلح في دنياي وآخرتي، وما يقربني إلى الله عزّ وجلّ مني لئن قال لي الثالثة لأفعلن فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تتزوج قال: فقلت: يا رسول الله زوجني قال: اذهب إلى بني فلان فقل لهم إنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمركم أنْ تنكحوني فتاتكم قال: فقلت: يا رسول الله إنّه لا شيء لي فقال لأصحابه: اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب، فجمعوا له وذهب إلى القوم فأنكحوه، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أولِمْ فقال: يار سول الله لا شيء عندي فقال لأصحابه: اجمعوا لأخيكم ثمن شاة، فجمعوا له وأصلح طعاماً، ودعا عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وفي الخبر المشهور: من كان ذا طول فيلتزوج، وفي لفظ آخر: من استطاع منكم الباءة يعني الجماع فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لا فليصم، فإن الصوم له وجاء، وأصل الوجاء رض الخصيتين للفحل من الغنم لتذهب فحولته وضرابه، فكانت العرب تجأ بحجرين فتقطع ضرابه، فيسكن لذلك عهره ويسمن، ومن ذلك الخبر ضحى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكبشين أملحين موجوءين يعني أبيضين مرضوضي الخصية. روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تناكحوا، تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط والرضيع، وفي الخبر الآخر: من أحبني فليستن بسنتي يعني النكاح، وحديث أبي سعيد الخدري: من ترك النكاح مخافة العيلة فليس منا، وقد كان عمر يكثر النكاح ويقول: ما أتزوج إلاّ لأجل الولد، وقد كانت هذه نية جماعة من السلف، يتزجون لأجل أنْ يولد لهم فيعيش، فيوحد الله تعالى ويذكره أو يموت، فيكون فرطاً صالحاً يثقل به ميزانه كيف، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ الطفل يجر أبويه بسرره إلى الجنة وأنّ المولود يقال له: ادخل الجنة قال: فيقف على باب الجنة، فيظل محبنطئاً أي ممتلئاً غيظاً وغضباً فيقول: لا أدخل إلاّ وأبواي معي فيقال: أدخلوا أبويه معه الجنة، وقد روينا خبرًا غريباً: أنّ الأطفال يجمعون في موقف القيامة عند عرض الخلائق للحساب فيقال للملائكة: اذهبوا بهؤلاء إلى الجنة قال: فيقفون على باب الجنة قال: فيقول لهم: مرحباً بذراري المسليمن، ادخلوا لا حساب عليكم فيقولون: فأين آباؤنا وأمهاتنا قال: فتقول الخزنة: إنّ آباءكم وأمهاتكم ليسوا مثلكم، إنهم كانت لهم ذنوب وسيّئات، فهم يحاسبون عليها ويطالبون قال: فيتضاغون ويضجون على باب الجنة ضجة واحدة فيقول الله عزّ وجلّ للملائكة، وهو أعلم: ما هذه الضجة، فيقولون: يا ربّنا، أطفال المسلمين قالوا لا ندخل الجنة إلاّ مع آبائنا فيقول الله عزّ وجلّ: تخللوا الجمع، فخذوا بأيدي آبائهم فأدخلوهم معهم الجنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مات له اثنان من الولد، فقد احتظر له بحظار من النار، وفي خبر آخر: من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث أدخله الله عزّ وجلّ الجنة، بفضل رحمته إياهم قيل: يا رسول الله، فاثنان قال: واثنان، وكان بعض الصالحين يعرض عليه التزويج فيأباه برهة من دهره قال: فانتبه من نومه ذات يوم فقال: زوجوني فسئل عن ذلك فقال: لعل الله يرزقني ولداً أو يقبضني، فيكون مقدمة لي في الآخرة، ثم حدث عن سبب ذلك فقال: رأيت في نومي كأن القيامة قد قامت، وكنت في جملة الخلائق في الموقف، وبي من العطش ما كاد أن يقطع عنقي، وكذلك الخلائق في شدة العطش من الحر والشمس والكرب قال: فبينما نحن كذلك، إذا الولدان يتخللن الجمع، عليهم مناديل من نور وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب وهم يسقون الواحد بعد الواحد، ويتخللون الجمع ويجاوزون أكثر الناس قال: فمددت يدي إلى أحدهم فقلت: اسقني شربة فقد أجهدني العطش فقال: ليس لك فينا ولد إنما نسقي آباءنا فقلت: وما أنتم فقالوا: نحن من مات، من أطفال المسلمين. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير نسائكم الودود الولود، وروي أيضاً: حصيرة في البيت خير من امرأة لا تلد، وروي أيضاً: سوداء ولود خير من حسناء لا تلد، هذا كله لأجل هذا، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من رغب عن سنتي فليس مني وإنّ من سنتي النكاح، ومن أحبني فليستن بسنتي ويقال: إنّ الله تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلاّ المتأهلين وهم خمس وثلاثون، وقد ذكرنا آنفًا أنّ يحيى عليه السلام قد تزوّج، وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل من السماء ويولد له، وقد قيل إنّ فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد، وإنّ ركعتين من متأهل أفضل من سبعين ركعة من أعزب، وقال الله تعالى في وصف الرسل ومدحهم: (وَلَقدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) الرعد: 38، فعدّ الأزواج والذرية من مدحهم وذكرها في وصفهم، وكذلك ألحق بهم أولياءه في المدح والفضل في قوله عزّ وجلّ: (وَالَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) الفرقان: 74، فسألوا الله عزّ وجلّ من فضله، وكل ما ذكرناه من فضل النكاح يشترك في فضل ذلك النساء، بل هو لهن أفضل وأثوب لسقوط المكاسب عنهن، وقد أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرأة بالتزوج وندبها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 إليه، وأخبر بفضل الرجل وفضل المتزوجة على العزباء في غير حديث، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لعن الله المتبتلين من الرجال الذين يقولون: لا نتزوج، لعن الله المتبتلات من النساء اللاتي يقلن: لا نتزوج بعد ما ذكر من عظيم حق الرجل على المرأة وثقل واجبه حتى قالت المرأة إذاً لا أتزوج إذاً قال: بل تزوجي، فهو خير، والأخبار في فضل النكاح للزوجين معًا أكثر، وليس مذهبنا الإطالة والإكثار في الجمع، وقد ندب الله تعالى إلى النكاح في قوله تعالى: (فَاْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ) البقرة: 223، وفي أنّى ثلاث، معان: معنيان منها هنا يكون أنّى بمعنى كيف شئتم من ليل أو نهار، فكيف شئتم مقبلة أو مدبرة، وبين ذلك بعد أنْ يكون في موضع الحرث، وقد يكون أنّى في موضع آخر بمعنى أين، ولا يصلح هذا الوجه ههنا ثم قال عزّ وجلّ (وقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ) البقرة: 223، قيل: النكاح معطوف به الإتيان، وهو أحد الوجوه الثلاثة: لما فيه من فضل الاغتسال من الجنابة، ولما فيه من فضل مباشرة المرأة وأنّ المرأة إذا لاعبها بعلها وقبلها كثرت له من الحسنات ما شاء الله، فإذا اغتسلا خلق الله من كل قطرة ملكًا يسبح الله تعالى إلى يوم القيامة، وجعل ثواب ذلك لهما، ولما في ذلك من التحصين لهما ووضع النطفة في محلها، وفي ذلك فضائل جمّة، وقد أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكراً، زوجة مؤمنة تعينه على آخرته. والوجه الثاني في قوله تعالى: (وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ) البقرة: 223، قيل: الولد قدموا لآخرتكم، لأنه عمل من أعمالكم، كما قال عزّ وجلّ: (أَلحقْنا بِهِمْ ذُريَّتَهُمْ وما أَلتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيءٍ) الطور: 21، أي ما نقصناهم أولادهم، أي جازيناهم بهم وجعلناهم مزيدًا في حسناتهم لأنهم من أعمالهم وأكسابهم، وكما قال عزّ وجلّ: (ما أغْنى عنْهُ مَالُهُ وما كسَبَ) المسد: 2، يعني ولده، ففي تدبره أنّ الولد يغني المؤمن في الآخرة كما يغني المال عنه إذا أنفقه في سبيل الله تعالى، وفي الخبر: ولد الرجل من كسبه فأحل ما أكل من كسب ولده، والوجه الثالث في قوله عزّ وجلّ: (وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ) البقرة: 223، قيل التسمية عند الجماع أي اذكروا اسم الله تعالى عنده، فذلك تقدمة لكم، وأنه يستحب للمجامع أنْ يسمي الله عزّ وجلّ عند جماعه، ويقرأ (قل: هو الله أحد) الإخلاص: 1 قبله، وكان بعض أصحاب الحديث إذا أراد الجماع، هَلّل وكبر حتى يسمع أهل الدار تكبيره، وإذا كانت المرأة معينة لزوجها على الطاعة، طالبة للتقلل والقناعة فهي نعمة من الله عليه يطالبه بشكرها قال الله عزّ وجلّ: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) الأنبياء: 90 فعد ذلك من نعمة الله عليه وإحسانه إليه، وقيل في التفسير: كان خلقها سيّئًا فحسن، وقيل: كان في لسانها طول فقصر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وروينا عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فضلت على آدم عليه السلام بخصلتين: كانت له زوجة عونًا له على المعصية وأزواجي عونًا لي على الطاعة، وكان شيطانه كافرًا وشيطاني مسلمًا لا يأمرني إلاّ بخير، فعدّ ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضائله، وإذا كانت المرأة حسنة الوجه خيّرة الأخلاق سوداء الحدقة والشعر، كبيرة العين بيضاء اللون، محبة لزوجها قاصرة الطرف فهذه على صورة الحور العين قال الله تعالى في ذلك: (فيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) الرحمن: 7،، قيل: خيرات الأخلاق حسان الوجوه وقال تعالى: (وَحورٌ عينٌ كأمْثالِ اللُّؤْلُؤ المَكْنُونِ) الواقعة: 22 - 23، والحور البيض والعين، كبار الأعين هو جمع عيناء، والحوراء هي البيضاء شديدة بياض العين، شديدة سوادها وسواد الشعر وقال عزّ وجلّ: (عُُرباً) الواقعة: 157 العربة على معنيين: تكون العاشقة لزوجها، وتكون المشتهية للجماع، وذلك يكون من تمام اللّذة في الوقاع، لأنّ المرأة إذا لم تكن محبة لزوجها ولا مشتهية لإفضائه إليها، نقص ذلك من لذته فلذلك وصف الله عزّ وجلّ نساء أهل الجنة بتمام اللّذة، ويقال: رجل شبق وامرأة عربة يوصفان بشهوة الجماع كيف وقد روي: خير نسائكم الغلمة على زوجها وقال بعض الحكماء: ثلاث من اللّذات لا يؤبه لهن: المشي في الصيف بلا سراويل، والتبرز على الشط، ومجامعة الربوخ يعني المشتهية للجماع وقال عزّ وجلّ في تمام وصفهن: (قاصِراتُ الطَّرْفِ) الصافات: 48، أي قد قصر طرفها على زوجها وحده، فليست ترى أحسن منه ولاتريد بدلاً غيره، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير نسائكم التي إذا نظر إليها الرجل سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسه وماله. وروينا عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه في معنى قوله عزّ وجلّ: (رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةَ) البقرة: 102 قال: المرأة الصالحة، وفي بعض التفسير: (فلنحيينه حياة طيبة) النحل 16قال: المرأة الصالحة وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: المرأة الصالحة ليست من الدنيا لأنها تفرغك للآخرة، إلاّ أنه كان يقول: المنفرد يجد من حلاوة العبادة ما لا يجد المتزوّج، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: ما أعطى عبد بعد إيمان بالله عزّ وجلّ خيرًا من امرأة صالحة، ووصف النساء فقال: منهن غنم لا يجزأ منه، يعني غنيمة لا يعتاض منها بعطاء، الحديا هي العطاء، ومنهن غل لا يفدي منه أي لا قيمة له فيفدى منه ويجوز أنّ لا راحة منه كالغل، فصاحبها أسير بحبها لا يفتدى أبدًا إلاّ بموتها وقال أيضًا: قيل: كانت العرب من نهاية تعذيبها للأسير تسلخ جلد الشاة ثم تلبسه إياه لحماً طريًا، فيلتزق على جسده وينقبض، ثم لا تنزعه عنه حتى يقمل وينتثر منه الهوام، فذلك؛ هو الغل مثل المرأة المكربة، واعلم أنّ النساء على أوصاف النفس، من عرف صفات النفس عرف بها أوصاف النساء، وقاساهن بالتجربة، والخبر: عرف بذلك صفات النفس: فمنهن المسوّلة وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 أدناهن، ومنهن الأمارة بالسوء وهي شرهن لا تستر من الأذى ولا تني عن خلق السوء والبذاء، ومنهن بمنزلة النفس اللوّامة وهي من صالحي النساء، ومنهن المطمئنة المرضية وهذه هي الصالحة الخيّرة الساكنة الراضية، وفصل الخطاب: إنْ كان صلاح قلب العبد واستقامة حاله في بالعزبة فلا أعدل بالوحدة شيئاً، لأن أقل ما فيها السلامة، والسلامة في وقتنا هذا فضيلة وغنيمة، وإن تاقت نفسه إلى التزويج ولم يأمن دواعي الهوى فيتزوج إذا أدى إلى سلامة دينه، وإنْ لم تتم كفايته بواحدة ضم إليها أخرى فإن لم تكن بهما غنيمته وتمام حاله وتحصينه زاد ثالثة إلى أربع، فإن الأربعة مع توقان النفس إلى النكاح وقوة شهوتها في التنقل في المناكح بمنزلة الواحدة، وإنّ الواحدة مع وقوع الكفاية ووجود الاستغناء تنوب عن الأربع، كذلك خير الله عزّ وجلّ صورة النفس فيما عليه جبلها، وفاوت بين الطبائع فيما عليه جعلها، يقال: إنّ الله عزّ وجلّ أباح الجمع بين الأربع لأجل الطبائع الأربع، لكل طبيعة واحدة على قدر حركاتها وتوقان النفس عندها، ولا نقص على العبد في ذلك إذا قام بما عليه لهن أو سمحن بحقوقهن من النفقة والمبيت له، بل ذلك مزيد له. ودلالة على قوته وتمكنه في الحال، وهذه طرائق الأقوياء والأئمة من الرجال، وأيضاً فإنّ الله عزّ وجلّ ما أنعم به من امتطاء الأربع من النساء من الحكمة، وتلوين الطبع في الصنعة مثل ما أنعم به من تكوين سيرة المطايا، التي جعلهن مراكب عباده، فجعل تفاوت تكوين وطء الأربعة بمنزلة تغاير مشي دواب البر الأربعة فقال عزّ وجلّ: (وَالخَيْلَ والبغالَ والحميرَ لِتَرْكَبُوها وَزينَةً) النحل: 8، وقال عزّ وجلّ: (مِنَ الفُلْكِ والأنْعَامِ ما تَرْكَبُونَ) الزخرف: 12، يعني الإبل، فسير الناقة غير سير الفرس، وسير البغل مخالف لمشي الحمار، وكذلك جعل لمن جمع الأربع بالوطء ما لا يجعل بالآحاد والمثنى والثلاث، فحسن ذلك وأباحه لمن جمع بنيهن أربعًا كإطلاقه لمن جعل له المطايا أربعة ينتقل على دابة بعد دابة، فكان له فرس وبغل وحمار إذا اتسع بذلك وأقام بمؤونتهن، وقد يكتفي الواحد بدابة واحدة فيكون فيها بلاغ إلى حين، ذلك تقدير العزيز العليم وإتقان صنع المنعم الحكيم، وقد شرط الله تعالى مع الزوجة ثلاثة شروط، إنْ وجدت تمّت بهن كفاية العبد وسكنت بها نفسه، وكان ذلك من آيات الله الدالة عليه، وإنْ لم توجد الشروط الثلاثة مع الإحدى، كان له المزيد عليها إلى الرباع، وكن في المعنى كالآحاد لعدم الشروط التي أخبر الله عزّ وجلّ بسكون النفس عندها، وعند الأربع توجد الشروط في قلوب المؤمنين لا محالة كما أخبر عزّ وجلّ، وكان ذلك أيضًا من آياته وحكمته الدالة عليه فقال سبحانه: (وَمنْ آياتِهِ أنّ خلَقَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسًكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكنُوا إليْها وجعلَ بينْكمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 الروم: 21، فإن وجد العبد سكون النفس ورحمة القلب ومودة المرأة في الواحدة، فهو من آيات الله عزّ وجلّ وهي كفايته وغنيته، وإنْ لم يجد السكون ولا الرحمة ولا المودة إلاّ في الأربع، فهن حينئذ كفايته وقنيته، والله تبارك وتعالى يغني بالواحدة ويقني بالأربع، أي يجعل غنيًا ويجعل قنية جماعة ومدخرًا، وذلك أيضًا من آيات الله تعالى واختياره لمن قوي عليه واستقام به، وقد شبه بعض الناس الأزواج بالقمص فقال: ليس من السرف أنْ يجمع الرجل أربعة أقمصة، وما زاد على ذلك كان سرفاً، كما إنّ الله عزّ وجلّ أمر بالجمع بين الأربع من النساء، ويصلح أنْ يستدل له بقوله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) البقرة: 187، فجعلهن في معنى الملبوس ورفع فيهن إلى الأربع وفي قوله تعالى: (فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) النساء: 3، ثم ابتدأ فنص على مثنى ولم يقل: إحدى على الندب والاستحباب للجمع بين اثنين، وإنّ العدل قد يوجد ويقدر عليه معهما، ثم رد إلى الواحدة لمن خاف الجور فيهن فقال تعالى: (فإنْ خِفْتُمْ أن لا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) النساء: 3، ففي دليل الخطاب أشتراط العدل في الأربع، ثم ذكره بقوله: (ذَلكِ أدْنى أن لا تَعُولُوا) النساء: 3، يعني أقرب أن لا تجوروا، وقد قال بعض الفقهاء من أهل الحجاز واللغة: لا تعولوا، أي لا تكثر عيالكم، والأول أحب إليّ، لأنه أشبه بالقرآن كأنه عطف على النص لما قال: أنْ لا تعولوا، قال: ذلك أدنى أنْ لا تجوروا، والأول أحب إليّ، ويصلح هذا الوجه أيضًا في اللغة من قال: عال يعول، بمعنى أعال يعيل، وأكثر العرب فرقت بين ذلك يقولون: عال يعول إذا جار، وأعال يعيل من العيلة إذا كثر عياله، وشاذ نادر من يجعلها لغتين بمعنى فليتوخّ العدل بين أزواجه، من جمع بينهن في النفقة والكسوة والمبيت، ولا يحيف على بعض فيقصر عن كفايتها وواجبها في ذلك. فقد جاء في الحديث: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى، وفي لفظ آخر، فلم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ولا عدل عليه في المحبة والجماع، لأن ذلك لا يملك إذاً سوى بين البيتوتة، ولا عليه أيضاً أنْ يجامع من بات عندها إنما عليه المبيت ليلة وليلة وفي تفسير قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتطيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساء ولوْ حرَصْتُمْ) النساء: 129، قال: لا تقدروا على العدل بينهن في الحب والجماع، لأن ذلك فعل الله عزّ وجلّ في القلوب وفي شهوة النفس، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقسم بين نسائه في العطاء والمبيت، وكان يقول: اللهم هذا جهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك، يعني في المحبة والجماع، فقد كان يحب بعضهن أكثر من بعض وكانت عائشة رضي الله عنها أحبهن، وكان يطاف به محمولاً في مرضه في كل يوم وليلة فيقول: أين أنا غدًا ففطنت امرأة منهن فقالت: إنما يسأل عن يوم عائشة رضي الله عنها فقلن: يا رسول الله إنّه ليشق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 عليك أنْ تحمل، فقد أذنا لك أنْ تكون في بيت عائشة رضي الله عنها فقال: قد رضيتن بذلك قلن: نعم قال: فحولوني إلى بيت عائشة، فلذلك كانت تقول: قبض في بيتي وبين سحري ونحري تفتخر بذلك، ثم قال الله تعالى عزّ وجلّ: (فلا تَميلوا كُلَّ المَيْلِ) النساء: 129 يعني على واحدة دون الأخرى في التقصير والنفقة فتذروها كالمعلقة أي موقوفة غير مستقرة، كأنها لا ذات زوج ولا مطلقة، أي لا أيم فتتحمل لنفسها ولا ذات زوج ينفق عليها فتستغني بزوجها. والعرب تقول: علقت الأمر إذا أوقفته، وقول معلق أي موقوف غير مطلق بحكم، فعليه أنْ يقسم بينهن أيامه ولياليه، فيكون عند كل واحدة يوماً وليلة، إلاّ أنْ تهب لصاحبتها ليلتها أو تسمح له بذلك، فكذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم بين نسائه، فأراد أنّ يطلق سودة بنت زمعة لما كبرت فوهبت ليلتها لعائشة، وسألته أنْ يقرها على الزوجية لتحشر في نسائه، فتركها ولم يكن يقسم لها، فكان يقسم لعائشة ليلتين ولسائر أزواجه ليلة ليلة، إلاّ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشدة عدله كانت نفسه إذا تاقت إلى واحدة في غير ليلتها أو نهارًا في غير يومها تاه فجامعها، ثم طاف في ليلته على سائرهن، وكذلك كان يفعل في يومه، فمن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها وغيرها، أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف على نسائه في ليلة واحدة، وعن أنس، طاف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تسع نسوة في ضحوة ومن لم يكن له إلاّ واحدة استحب له أنْ يفضي إليها في كل ثلاث ليال بمنزلة من له أربع نسوة، ويكون يباشرها في الليلة الرابعة، وبهذا قضى عمر وكعب بن الأسود رضي الله عنهما للرجل أن يأتيها في كل أربع ليال ليلة، فإن علم أنّ حاجتها إلى أكثر من ذلك كان عليه أن يفعل ماهو أقرب إلى تحصينها وأثبت لعفافها، وإنْ علم منها كراهة ذلك وقلة همتها له لم يكن عليه الإفضاء إليها إلاّ في كل شهر مرة أو في كل سنة مرة، وعليها أنْ لا تمنعه ليلاً ولا نهارًا في كل وقت، وإن كانت صائمة فلا يحل لها أن تصوم إلاّ بإذنه، وتزوّج عليّ عليه السلام بعشر نسوة وتوفي عن أربع وسبع عشرة سرية، وكان بعض أمراء الشام إذا بلغه عنه كثرة نكاحه يقول: ليست بنكحة ولا طلقة يعرض له بذلك، ويقال أنه تزوّج بعد وفاة فاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها بتسع ليال، ونكح أُمامة ابنة زينب ابنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانت فاطمة صلوات عليها أوصته بذلك، وتزوّج الحسن بن عليّ رضي الله عنهما مائتين وخمسين امرأة وقيل ثلاثمائة، وقد كان عليّ عليه السلام يضجر من ذلك ويكره حياء من أهليهن إذا طلقهن وكان يقول: إنّ حسناً مطلقاً فلا تنكحوه فقال له رجل من همدان: والله يا أمير المؤمنين، لننكحنه ما شاء فمن أحب أمسك ومن كره فارق، فسرّ عليّ رضي الله عنه بذلك وأنشأ يقول: ولو كنت بواباً على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وهذا أحد ما كان الحسن يشبه فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يشبهه في الخلق والخلق فقد قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشبهت خلقي وخلقي، وقال حسن: مني وحسين: من عليّ، وكان الحسن ربما عقد على أربعة وربما طلق أربعاً فأرسل غلامه بطلاق امرأتين لهما وقال: قل لهما: اعتدا، وأمر له أنْ يدفع إلى كل واحدة عشرة آلاف درهم ففعل، فلما رجع إليه قال: ماذا قالتا فقال له الرسول: أما احداهما فنكست رأسها وسكتت، وأما الأخرى فبكت وانتحبت وسمعتها تقول: متاع قليل من حبيب مفارق فأطرق ورحم لها ثم قال: لو كنت مراجعاً امرأة لراجعتها، ودخل على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فخطب ابنته فقال: إنك لأحب الناس إلي، ولكنك مطلاق وأكره أنْ يتغير قلبي عليك، فإن ضمنت أنك لا تفارقها فعلت، فسكت ثم اتكأ على بعض أصحابه ثم قال: ما أراد عبد الرحمن إلاّ أنْ يجعل ابنته طوقاً في عنقي، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ الله عزّوجلّ يحب النكاح ويبغض الطلاق، فانكحوا ولا تطلقوا، وهذا لا يصلح لمن أراد أكثر من أربع، وتزوّ ج المغيرة بن شعبة بثمانين امرأة، وقد كان في الصحابة من له الثلاث والأربع، وكثير منهم لا يحصى كانت له اثنتان لا يخلو منهما، ويقال: إنّ كثرة النكاح من شدة غض البصر وقطع المشي في الأثر، إذا خشع الطرف وقصر عن الحرام وانقطع المشي على الأرض غاض البصر والنفس فاتسع في الحلال، وذلك أنّ للنفس استراحات إلى ما جانسها، هو فتورها عن الذكر، فاستراحات نفوس المتّقين إلى المباح من ذلك قوله عزّ وجلّ: (لِيَسْكُنَ إلَيْهاَ) الأعراف: 189، وهذا سكون النفس إلى الجنس لما تلائمه من الصفات المجانسة، وهو أحد المعاني في قول عليّ عليه السلام: روحوا القلوب يعني، في الذكر قيل: روحوها باستراحة النفس إلى المباح، يعني ذكر الآخرة لأن الذكر أثقال وهو بمعنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ لكل عالم شرهاً وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، والشره المكابدة والفترة الوقوف والاستراحة، وقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فأقوى بذلك فيما بعد على الحق، وقد كان النساء قديماً على غير وصفهن الآن، كان الرجل إذا خرج من منزله تقول له امرأته: يا هذا وتقول له ابنته: يا أبانا، لا تكسب اليوم شيئاً من غير حله فيدخلك النار، فنكون نحن سببه، فإنّا نصبر على الجوع والضر ولانكون عقوبة لك، وأراد رجل من السلف أنْ يغيب عن أهله في غزوة، فكره إخوانه ذلك لأنسهم به فجاؤوا إلى أهله فقالوا: لِمَ تتركين زوجك يسافر ولا يدع لك نفقة، ويغيب عنك ولا تدرين متى يقدم فقالت: زوجي منذ عرفته أكال وما عرفته قط رزّاقاً، يذهب الأكال ويبقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 الرزّاق، ومع ذلك فلا أحب أنْ أكون مشؤومة عليه أقطعه عن سبيل الخير. قال أحمد بن عيسى الخراز لما تزوّج بامرأة عليّ: أي شيئ تزوّجت بي ورغبت فيّ قالت: على أنْ أقوم بحقك عليّ وأسقط حقّي عليكّ، وخطبت رابعة بنت إسماعيل بن أبي الحواري، فكره ذلك لما فيه من العبادة فألحت عليه وأكثرت فقال لها: يا هذه، مالي همة في النساء لشغلي بحالي فقالت يا هذا، إني لأشغل بحالي من شغلك بحالك، ومالي شهوة في الرجال، ولكني ورثت عن زوجي ثلاثمائة ألف دينار وهي حلال، وأردت أنْ أنفقها عليك وعلى إخوانك، وأعرف بك الصالحين فتكون طريقاً إلى الله عزّ وجلّ فقال: حتى أستأذن أستاذي قال: فجئت إلى أبي سليمان فذكرت قولها، وقد كان ينهاني عن التزويج ويقول: ما تزوج من أصحابنا إلاّ تغير، فلما ذكرت له ما قالت، أدخل رأسه في جيبه وسكت ساعة، ثم رفع رأسه وقال: يا أحمد، تزوّج بها فإن هذه وليّة لله تعالى، وهذا كلام الصديقين قال: فتزوّجت بها قال أحمد: فكان في منزلها كرّ من جص، فلم يبقَ منه شيء في غسل أيدي المستعجلين للخروج بعد الأكل سوى من كان يغسل يده بالأشنان في البيت قال: وتزوّجت عليها بثلاث نسوة، فكانت تطعمني من الطيبات وتطيبني وتقول: اذهب بقوتك ونشاطك إلى أزواجك، فكانت هذه من أرباب القلوب، وكان الصوفية يسألونها عن الأحوال، وكان أحمد يرجع إليها في بعض المسائل، وكانت فاضلة تشبه في أهل الشام برابعة العدوية في أهل البصرة، وقد كان أبو سليمان يقول في التزويج قولاً عدلاً: من صبر على الشدة فالتزويج له أفضل، والوحيد يجد من حلاوة العمل وفراغ القلب ما لا يجد المتأهل، وقال مرة: ما رأيت أحداً من أصحابنا تزوّج وثبت على مرتبته الأولى، وروينا عنه أنه قال: ثلاث من طلبهن فقد رغب في الدنيا، من طلب معاشاً، أو تزوّج أو كتب الحديث، ولعمري أنّ المرأة تحتاج إلى فضل مداراة ولطيفة من الحكمة، وطرف من المواساة وباب من الملاطفة، واتساع صدر للنفقة وحسن خلق، ولطف لفظ وهو لا يحسنه إلاّ عالم حليم، ولا يقوم به إلاّ عارف حكيم، فمن لم يقم بذلك ولم يهتدِ إليه، ولم يعتد للنفقة ولم يألف الجماعة، وكان قد ألف وحدته وأعتاد الانفراد بأكلته، وكان ضيق القلب بخيل الكف، سيءّ الخلق غليظ القلب، فظ اللفظ فالوحدة لهذا أصلح، والبعد من النساء لقلبه أروح، فمتى تزوّج من هذا وصفه عذب وعذب، وآذى وتآذى، وأثم وآثم به لأن النساء يحتجن إلى فضل حلم يحمل سفههن، وإلى سعة علم يغمر جهلهن، وإلى حسن لطف وحكمة يداري أخلاقهن ويتغافل عن زللهن، فإذا كان الرجل جاهلاً سفيهاً، أو كان سيءّ الخلق فظاً غليظاً، اجتمع الجهل فافترق العقل وتقادح الجفاء، وغلظ القلب والأذى فسد أكثر مما يصلح، وتنافرا ولم يكن بينهما أبدًا صلح، وليس هو وصف العقلاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 واستحب للرجل إذا أراد التزويج أنْ يشرح حاله ويبين أخلاقه للمرأة، حتى تكون على بصيرة من أمره ويقين من حاله، ويدخل على إختيار منها، فذلك من الورع وقد فعله بعض السلف، وقد تزوج رجل على عهد عمر رضي الله عنه، وكان يخضب بالسواد فلما دخل بأمراته نصل خضابه فظهرت شيبته، فاستعدى أهل المرأة وقالوا: نحن حسبناه شابًا فأوجعه ضربًا وقال: غررت القوم وفرق بينهما. وروينا عن شعيب بن حرب، لما أراد أنْ يتزوج قال للمرأة: إني سيّء الخلق فقالت: يا هذا، أسوأ خلق منك من يحوجك إلى سوء الخلق. وروي ضد هذا أنّ رجلاً أراد أنْ يتزوج فقال للمرأة: إنّ لي أخلاقًا أوقفك عليها فإن رضيت بها تزوّجتك فقالت: افعل فقال: أنا رجل ملول حقود، سيّء الظن غيور، ضيق الصدر واسع الضرب، إنْ كثرت عندي مللت، وإنْ أبعدت قلقت، وإنْ تكلمت أوغرت صدري، وإنْ سكت أشغلت قلبي، فقالت المرأة: أما بعد فقد ذكرت من نفسك أخلاقاً ماكنا نرضاها لبنات إبليس فكيف نرضاها لبنات آدم، انصرف راشداً لا حاجة لنا بك، ومن خشي على نفسه الآفات ووفق له امرأة فيها بعض الخصال المحمودة، فالتزويج له أفضل فليكن له حينئذ في التزويج نيّات، لأنه من أكبر الأعمال ولا يكون نكاحه لأجل هواه مجرداً فقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إذا وافق الحق الهوى فذلك الزبد بالبرّ سيّان، فلتكن نيته إقامة سنّة وصلاح قلب، وسلامة دينه وغض بصره، وتحصين فرجه فقد أمر بذلك، ويحتسب في الكسب على العيال التوبة من الله عزّ وجلّ، ويحتسب مثل ذلك في نصحه لها في أمر الآخرة كما يحبه لنفسه، حتى يؤجر بسببها مثل ما يثاب لنفسه، فهو من النصيحة لها والإشفاق عليها، وليجعل ذلك لوجه الله سبحانه فقد روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أنفق الرجل على أهله فهو له صدقة، وإنّ الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إليّ في إمرأته، ومنها إنه كالمجاهد في سبيل الله، وقال رجل لبعض العلماء وهو يعدد نعم الله عزّ وجلّ عليه: من كل عمل قد أعطاني الله تعالى نصيباً، حتى ذكر الحج والجهاد وصنوف العبادات فقال له العالم: فأين أنت من عمل الأبدال قال: وما هو قال: كسب الحلال والنفقة على العيال، وقال ابن المبارك لإخوانه وهم في الجهاد: تعلمون عملاً أفضل مما نحن فيه قالوا: ما نعلم، ذاك جهاد في سبيل الله وقتال لأعدائه، أيّ شيء أفضل منه قال: لكني أعلم قالوا: ما هو قال: رجل متعفف ذو عيلة، قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياماً متكشفين فسترهم وغطاهم بثوبه، فعمله هذا أفضل من جهادنا في سبيل الله عزّ وجلّ وقال رجل لبشر: قد أضرّني الفقر والعيال فادعُ الله لي فقال له بشر: إذا قال لك عيالك: ليس عندنا خبز ولا دقيق ونحن جياع فادعُ الله لي أنت ذلك الوقت، فإن دعاءك أفضل من دعائي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حسنت صلاته وكثر عياله، وقلّ ماله ولم يغتب المسلمين، فهو معي في الجنة كهاتين. وفي حديث آخر: أنّ الله تعالى يحب الفقير المتعفف، أبا العيال ومن النية في ذلك أنّ الأهتمام بمصلحتهم، والغم على نوائبهم زيادة في حسناتهم، لأنه عمل من أعماله، وفي الخبر: إذا كثرت ذنوب العبد إاتلاه الله تعالى بالهم ليكفرها، وقال بعض السلف: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلاّ الغم بالعيال، وقد روينا: أنّ من الذنوب ذنوبًا لا يكفرها إلاّ الهم بطلب المعاش، وله في الصبر عليهن وجميل الاحتمال لأذاهن، وفي حسن العشرة لهن مثوبات وأعمال الصالحات، وربما كان موت العيال عقوبة للعبد ونقصان حظ، إذا كان الصبر عليم والإنفاق مقاماً له كان عدم ذلك مفارقة لحاله نقص به، وحدثنا بعض العلماء: أنّ بعض المتعبدين كان له زوجة، وكان حسن القيام عليها إلى أنْ توفيت، فعرض عليه إخوانه التزويج فامتنع وقال: إنّ الوحدة أروح لقلبي وأجمع لهمي قال: فرأيت في المنام بعد جمعة من وفاتها، كأن أبواب السماء قد فتحت، وكان رجالاً ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضًا، وكلما نزل واحد نظر إلي فقال: لمن وراءه هذا هو المشؤوم فيقول: نعم ويقول الثالث: لمن وراءه هذا هو المشؤوم فيقول الرابع: نعم قال: فراعني ذلك وعظم عليّ، وهبتهم أن أسألهم إلى أنّ مر بي آخرهم وكان غلامًا فقلت له: يا هذا، من المشؤوم الذي تومؤون إليه قال: أنت قلت: ولِمَ ذلك؟ قال: كنا نرفع أعمالك في أعمال المجاهدين في سبيل الله تعالى، فمنذ جمعة أمرنا أنْ نضعها في أعمال المخالفين، فما أدري ماذا أحدثت فقال لإخوانه: زوّجوني، زوّجوني فلم يكن يفارقه زوجة أو زوجتان أو ثلاث، وربما كانت النفس الأمارة أضر على العبد من أربع نسوة، وإنما كره من كره الأهل والولد لأجل الشغل بهم عن الله تعالى وما قرب إليه، فإذا كان من لا أهل له ولا ولد مشغولاً ببطالته عن الله عزّ وجلّ، منهمكاً في شهواته عن سبيل هؤلاء، كان أسوأ حالاً من ذي الأهل والولد وقد جعل من لا يطلب الأهل والمال للكفاف به والإفضال في المنزل المكروه. وقد روي في الخبر: أنّ من أهل النار الضعيف الذي لا دين له، هو فيكم تبع، لا يبغون أهلاً ولا مالاً، قيل: هم السؤال المنهومون في المسألة، الذي همه بطنه لا يبالي كيف طلب ولا على أي حال من الفحش تقلب، فمن لم يشغله أهله وماله عن الله عزّ وجلّ كان أفضل ممن لا أهل له ولا ولد، فهو عبد بطنه وفرجه، أسير هواه وشهوته، وقد أخبر الله تعالى أنّ للمؤمنين أموالاً وأولاداً، ثم أمرهم أن لا يشغلهم ذلك عن الله عزّ وجلّ، وقد وصف أقواماً بأن بيعهم وتجارتهم لا تشغلهم عن عبادته، وأنهم أهل خوف من يوم تنقلب فيه القلوب والأبصار، وقد مدح قومًا فسألوه الأزواج والذرية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وجعل ذلك في وصفهم في قوله عزّ وجلّ: (يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبّ لنَا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّياتِنا قُرَّةَ أعْيُنٍ) الفرقان: 74، وقرّة أعين لا يشغل ولا يحجب عن قرّة العين بل يكشف عنه ويقرب منه، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حبّب إليّ من دنياكم ثلاث، الطيب، والنساء، وجعل قرّة عيني في الصلاة، وقد كان أبو سليمان يقول: إنما تركوا التزويج لتتفرغ قلوبهم لذكره، وروينا عن ابن أبي الحواري الحديث الذي رواه عن حبيش عن الحسن: إذا أراد الله بعبد خيراً لم يشغله بأهل ولا مال، قال أحمد رضي الله عنه: فناظرنا في الحديث جماعة من العلماء، وإذًا ليس معناه أنه لا يكون له امرأة ولا ولد ولكن يكونون له ولا يشغلونه، وإنما يحسّ النكاح بمشغول الهمّ عن الفكر، فيه ذي نفس مطمئنة وعين خاشعة لرب ذي سكينة وقلب ذي خشية، كما حدثونا عن داود الطائي أنه قال: منذ خمسين سنة ما خالط ذكري ريح، وقيل لبعضهم: هل دخل ذكرك ريح بشهوة؟ فقال: أما منذ قرأت القرآن فلا، وقال بعض العلماء: منذ عشرين سنة ما وقع نظري على فرجي قاما بطال ذو نفس أمارة ونظرة ثاقبة وشهوة قوية، فالنكاح من أحسن أعماله وأرفع أحواله، لأنّ المباح مقام من لا مقام له، فإن عزم العبد على النكاح فلا يكون همه من النساء إلاّ ذات دين وصلاح، والعقل والقناعة فليس تخلص له النيّات التي ذكرناها آنفاً إلاّ على هذه القواعد، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تنكح المرأة لمالها وجمالها وحسنها ودينها فعليك بذات الدين، وفي لفظ آخر: من نكح المرأة لمالها وجمالها حرم مالها وجمالها، ومن نكحها لدينها رزقه الله عزّ وجلّ مالها وجمالها، وروينا أيضًا: لا تنكحوا المرأة لجمالها فلعل جمالها يرديها، ولا لمالها فلعل مالها يطغيها، وانكحوا المرأة لدينها فنكاح المرأة للدين والصلاح طريق من الآخرة، والرغبة في المرأة الناقصة الخلق الدنيئة الصورة الكبيرة السن، السن باب من الزهد، وقد كان أبو سليمان يقول: الزهد في كل شيئ حتى يتزوّج الرجل العجوز أو غير ذات الهيئة إيثارًا للزهد في الدنيا، وكان مالك بن دينار يقول: يترك أحدهم أن يتزوّج يتيمة فيؤجر فيها إنْ أطعمها وكساها تكون خفيفة المؤونة ترضى باليسير ويتزوّج بنت فلان وفلان، يعني أبناء الدنيا، فتشتهي الشهوات عليه وتقول: اكسني ثوب كذا واشتر لي مرط حرير فيتمرط دينه. وقد أختار أحمد بن حنبل رضي الله عنه امرأة عوراء على أختها صحيحة جميلة، فسأل من أعقلهما؟ قيل: العوراء، فقال: زوّجوني إياها، وقد يكون في تزويج المرذولة المجذوعة فيه بأن يرفع قلبها إذ لا يرغب في مثلها، واستحبّ له أن ينظر إلى وجهها قبل التزويج بها وإلى ما يدعوه إليها، فإن ضمّ إلى الوجه والكفين فلا بأس بذلك عند علماء الحجاز، ففي النظر إلى الوجه أحاديث مأثورة، منها حديث محمد بن مسلمة قال: رأيته يتبع النظرة فتاة في الحي حتى توارت بالنخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 فقلت له: تفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا بهذا، قال: إذا أوقع الله عزّ وجلّ في قلب أحدكم خطبة امرأة فلينظر إليها ليرى منها ما يدعوه إليها، وفي الحديث الآخر إن في أعين الأنصار شيئاً، فإذا أراد أحدكم أن يتزوّج منهن فلينظر إليهن، في لفظ آخر: إذا أوقع في نفس أحدكم من امرأة شيئ فلينظر إليها فإنه أحرى أنْ يؤدم بينهما، يعني يؤدم وقوع الأدمة على الأدمة، وهو أبلغ من البشرة لأنّ البشرة ظاهر الجلد والأدمة باطنه جاء، هذا في المبالغة على ضرب المثل، وقد كان الأعمش يقول: كل تزويج يقع عن غير نظر يكون آخره غمّاً وهمّاً ولا يغالي في المهر، فقد تزوّج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث البيت، وكان رحى يد، وجرة، ووسادة من أدم وحشوها ليف، وأولم على أحد نسائه بمدّين من شعير، وعلى أخرى بمدّي تمر، فالوليمة سنّة وترك الإجابة إليها معصية، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهي عن المغالاة بمهور النساء ويقول: ما تزوّج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة من نسائه ولا زوج على أكثر من أربعمائة درهم. وروينا عن عائشة رضي الله عنها: كانت مهور أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثني عشرة وقية ونصفًا، وقد كان يزوّج أصحابه على وزن نواة من ذهب، والنواة صغيرة وهي نواة التمر الصيحاني، يقال: قيمتها خمسة دراهم، وفي خبر: زوّج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أصحابه على نواة من ذهب قومت ثلاثة دراهم وثلث، وقد زوّج سعيد بن المسيب، وهو من خيار التابعين وعلمائهم، ابنته من أبي هريرة على درهمين، ثم حملها هو إليه ليلاً، ولا أكره التزويج على عشرة دراهم، وهو أكثر الاستحباب في القلة ليخرج من اختلاف العلماء، ولا أستحبّ أن لا ينقص المهر عن ثلاثة دراهم، وهذا هو القول الأوسط من مذاهب الفقهاء وفي هذه القيمة تقطع يد السارق، وهذا مذهب بعض أهل الحجاز. وقد روينا: أبركهن أقلهن مهراً، وروينا أيضاً من بركة المرأة سرعة تزويجها وسرعة رحمها، يعني الولادة ويسر مهرها، قال عروة: وأقول فإن من شؤمها كثرة صداقها، ولا يصلح للمتزوّج أن يسأله أي شيئ للمرأة ولا يحل له أن يدفع شيئاً ليأخذ أكثر منه، ولا يحلّ لهم أن يهدوا إليه شيئاً ليضطروه أن يكافئ بأكثر منه، وليس عليه أن يزيد بأكثر من قيمته إن كافأ، وله أن لا يقبل هديتهم إن علم ذلك منهم، وهذا كله بدعة في النكاح، وهو كالتجارة في التزويج، وهو داخل في الربا، وهو يشبه القمار، ومن زوّج أو تزوّج على هذا بهذه النية فهي نية فاسدة وليس نكاحه هذا للدين ولا للآخرة، وكان الثوري يقول: إذا تزوّج الرجل وقال: أي شيء للمرأة فاعلم أنه لصّ، فلا تزوّجوه، ولا ينكح إلى مبتدع، ولا فاسق، ولا ظالم، ولا شارب خمر، ولا أكل الربا، فمن فعل ذلك فقد ثلم دينه، وقطع رحمه، ولم يحسن الولاية لكريمته، لأنه ترك الإحسان، وليس هؤلاء أكفاء للحرة المسلمة العفيفة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 وقد قال بعض السلف: النكاح رقّ فلينظر أحدكم عند من يرقّ كريمته، وقال بعضهم: لا تنكح إلاّ الأتقياء فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها أنصفها، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم، ولا نكاح إلاّ بولي وشاهدي عدل، وإن كانت ثيبًا فإن لم يكن ولّي فالسلطان ولي من لا ولي له أو من ولاه الحكم كذلك السنّة، وليتعلم المتزوّج علم الحيض واختلاف أوقاته وزيادته ونقصانه وأحكام الاستحاضة من ذلك، وعلم وقت الأطهار ليعلمها ذلك وليغنيها بذلك عن السؤال والظهور إلى الرجال، ثم ليعلم أهله علم ما لا يسعهم جهله من الفرائض وأحكام الصلاة وشرائع الإسلام واعتقادات المؤمنين من السنّة وما عليه من مذهب الجماعة، فإذ فعل ذلك لم يكن عليها أن تخرج إلى العلماء، وإن قصر عن علمها علم التوحيد ومباني الإسلام وعقود الإيمان ومذهب أهل السنّة فلها أن تخرج إلى السؤال عمّا لا يسعها جهله وليس لها أن تخرج بغير إذنه لطلب علم يرجى فضله، وليس للمرأة أنّ تحمل زوجها على المكاسب الحرام ولا تكلفه ما يقترف به الآثام، ولا للرجل أن يدخل في مداخل السواء ولا يبيع آخرته بدنياه، فإن صبرت معه على البرّ والتقوى أمسكها، وإن حملته على الإثم والعدوان فارقها، وإن يتفرقا يغنِ الله كلاً من سعته، ويقال: أول من يتعلق بالرجل يوم القيامة زوجته وولده، فيوقفونه بين يدي الله عزّ وجلّ فيقولون: يا ربنا خذ لنا حقّاً من هذا، فإنه ما علمنا ما نجهل، وكان يطعمنا الحرام ونحن لا نعلم، قال: فيقتصّ لهم منه، وفي خبر: أنّ العبد ليوقف للميزان وله من الحسنات أمثال الجبال، فيسأله عن رعاية عياله والقيام بهم، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، حتى تستفرغ تلك المطالبات جميع أعماله، فلا يبقى له حسنة، فينادي الملائكة: هذا الذي أكل عياله حسناته في الدنيا وارتهن اليوم بأعماله، فلهذا قال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد شرّاً سلط عليه في الدنيا أنيابًا تنهشه، يعني العيال. وروينا في الخبر: لا يلقى الله عبد بذنب أعظم من جهالة أهله، والخبر المشهور: كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول، وروي أنّ الآبق من عياله كالعبد الآبق من سيده، لا يقبل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم، وقد قال عزّ وجلّ: (يا أَيُّها الَّذين آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ نَاراً) التحريم: 6، فأضاف الأهل إلى النفس وأمرنا أن نقيهم النار بتعليم الأمر والنهي كما نقي أنفسنا النار باجتناب النهي، وجاء في تفسير ذلك: علّموهن وأدّبوهن، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلكم راع ٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته، فالمرأة راعية على مال زوجها وهي مسؤولة عنه، والرجل راعٍ على أهله وهو مسؤول عنهم، ويقال: إذا أنفقت المرأة من مال زوجها بغير إذنه لم تزل في سخط الله عزّ وجلّ حتى يأذن لها، ولا يحلّ لها أن تطعم من منزله إلاّ الرطب الذي يخاف فساده، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 أطعمت وأنفقت عن إذنه ورضاه كان لها مثل أجره، وإن أطعمت بغير إذنه كان له الأجر وعليها الوزر، وينبغي أن يعرفها أعظم حقه عليها في مقام الوالدة بقوله للمرأة: عليك بطاعة زوجك، فإنّة جنتك ونارك، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة، وكان رجل قد خرج في سفر وعهد إلى امرأته أن لا تنزل من العلو إلى سفل الدار، وكان أبوها في السفل، فمرض أبوها فأرسلت المرأة تسأذن أن تنزل إلى أبيها فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أطيعي زوجك، فمات أبوها فاستأذنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن تنزل إليه فقال: أطيعي زوجك، فدفن أبوها، قال: فأرسل إليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرها أنّ الله قد غفر لأبيها بطاعتها زوجها، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا صلّت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها، فأضاف: طاعة الزوج إلى أبنية الإسلام التي لا يدخل الجنة إلاّ بها، واشترط طاعته لدخولها، وذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء فقال: حاملات والدات مرضعات رحيمات بأولادهن، لولا ما تأتين إلى أزواجهن دخلت مصلياتهن الجنة وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساد، وأطلعت في الجنة فرأيت أقل أهلها النساء فقلت: أين النساء فقيل: شغلهن الأحمران الذهب والزعفران يعني الحلي ولبس المصبغات كانت العرب مشتهرة بذلك وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تصدقن من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار قلن: لِمَ يا رسول الله قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير يعني الزوج المعاشر، تكفرن نعمته عليكن فلذلك قالت الفتاة: يا رسول الله فلا أتزوج. روينا عن أم عبد المغنية عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتت فتاة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إني فتاة أخطب وإني أكره التزويج فما حق الزوج على المرأة فقال: لو كان من فرقه إلى قدمه صديدًا فلحسته ما أدت شكره قالت: فلا أتزوج قال: بلى فتزوجي فإنه خير، فهذا مجمل خبر الخثعمية وقد فسر حقه في حديثها، وروينا عن عكرمة عن ابن عباس أنّ امرأة من خثعم أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني امرأة أيم، وإني أريد أنْ أتزوج فما حق الزوج فقال: إنّ من حق الزوج على الزوجة إذا أرادها على نفسها وهي على ظهر بعير أنْ لا تمنعه، وفي الخبر الجامع لفضائل الزوج: أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو أمرت أحدًا أنْ يسجد لشيء سوى الله تعالى لأمرت المرأة تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها، ومن حقّه أنْ لا تعطي شيئاً من بيته لا بإذنه فإن فعلت ذلك كان الإثم عليها والأجر له، ومن حقه أنه لا تصوم تطوّعاً إلاّ بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 ولم يقبل منها، ومن حقه أنْ لا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه فإن فعلت لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيتها أو تنوب، وينبغي أن تعرض نفسها عليه في كل ليلة، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقرب ما تكون المرأة من وجه ربها عزّ وجلّ إذا كانت في قعر بيتها، وإنّ صلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في المسجد، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، والمخدع بيت في بيت وذلك إنها عورة فما كان أستر لها فهو أسلم، والأسلم هو الأفضل كيف وقد روي أنّ المرأة عوراء فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وفي حديث غريب أنّ للمرأة عشر عورات، فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة، فإذا ماتت ستر القبر عشر عورات، فإن أمرها بما يصلحها مما أبيح لهما فخالفته وعظها وزجرها، فإن عادت لخالفه هجرها في المضجع فبعض العلماء يقول: يوليها ظهره وبعضهم يقول: يعتزل فراشها في ليلة إلى ثلاث إلى سبع ليال فإن لم ينجح فيها ذلك ولم تبال به ضربها والعلماء يقولن: ضربًا غير مبرح وتفسيره أن لا يكسر لها عظماً ولا يدمي لها جسمًا، وله أنْ يغضب عليها في الأمر من أمور الدين من عشرة أيام إلى شهر، فقد غضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهرًا في كلام كلمه بعض أزواجه، فأرسل بهدية إلى بيت زينب فردتها عليه فقالت له التي هو في بيتها: لقد أقمتك إذا ردت عليك هديتك فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتن أهون على الله أنْ تقمينني، ثم غضب عليهن كلهن شهرًا ومعنى أقمتك استصغرتك وأذلتك فهذه كلمة من الاتباع، تقول العرب: أذللته وأقميته ويقولون: لتفعلن كذا صاغراً قميًا، وما زال كذلك حتى ذل وقمى فيبتغون بهذه الكلمة لسب بالتصغير والتذلل، للمبالغة في الوصف ولا ينبغي أن يفترِ على أهله من الإنفاق. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خيركم خيركم لأهله، وكان لعليّ عليه السلام أربع نسوة، وكان يشتري لكل واحدة في كل أربعة أيام بدرهم لحماً وقال الحسن: كانوا في الرحال مخاصيب، وفي الأثاث والثياب تقارب وقال ابن سيرين: أستحب للرجل أنْ يعمل لأهله في كل شهر، فالوذجة وإنْ كانت من أهله زلة أو هفوة احتمل ذلك ورفق بها ولم يعسفها، وفي الحديث: خلقت المرأة من ضلع أعوج إنْ قومته كسرته وإنْ تركتها استمتعت بها على عوج، وفي لفظ حسن: وكسرها طلاقها، وقد كان أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراجعنه القول وتهجره إحداهن يوماً إلى الليل، ودفعت إحداهن في صدره فزجرتها أمها فقال: دعيها، فإنهن يصنعن أكثر من هذا، وجرى بينه وبين عائشة رضي الله عنها كلام حتى أدخل أبا بكر رضي الله عنه بينهما حكماً واستشهد فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تكلمين أو أتكلم قالت: بل تكلم أنت ولكن لا تقل إلاّ حقًا، فلطمها أبو بكر رضي الله عنه حتى دمي فوها وقال: أي عدوة نفسها، أو يقول غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 الحق؟ بل أنت وأبوك تقولان الباطل ولا يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاّ حقّاً، نصرة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغضباً له حتى استجارت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقعدت خلف ظهره فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم ندعك لهذا ولم نرد هذا منك وقالت له مرة في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنك نبي؟ فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلماً وكرماً، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعائشة رضي الله عنها: إني لأعرف غضبك من رضاك قالت: وكيف تعرف ذلك؟ قال: إنْ رضيت قلت: لا وإله محمد وإذا غضبت قلت: لا وإله إبراهيم قالت: صدقت إنما أهجر اسمك وقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمزح مع أزواجه ويقاربهن في عقولهن في المعاملة والأخلاق، وفي الخبر: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفكه الناس مع نسائه، وقد كان لقمان الحكيم يقول: العاقل في بيته ومع أهله كالصبي فإذا كان في القوم وجد رجلاً، وفي تفسير الخبر المروي أنّ الله يبغض الجعظري الجواظ قيل: هو الشديد على أهله المتكبر في نفسه، وفي أحد المعاني في قوله عزّ وجلّ: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذِلكَ زَنيمٍ) القلم: 13، قيل: الفظّ اللسان الغليظ القلب على أهله وما ملكت يمينه، وروينا في في الخبر: غيرة يبغضها الله عزّ وجلّ، غيرة الرجل على أهله في غير رينة كأنه يكون من سوء الظن الذي نهى الله عزّ وجلّ ورسوله عنه. وروينا عن عليّ رضي اللهّ عنه: لا تكثر الغيرة على أهلك فترمي بالسوء من أجلك ولعمري إنّ الغيرة لها حدّ فإذا جاوزها الرجل قصر عن الواجب وزاد على الحق، وقد كان الحسن يقول: أتدعون نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق قبح الله من لا يغار، وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله فقال بعض ولده: بلى والله نمنعهن فضربه وغضب عليه وقال: تسمعني أقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تمنعوهن وتقول: بلى تمنعهن وقد قال الله عزّ وجلّ: (قَدْ جعلَ الله لِكُلِ شيءٍ قَدْرًا) الطلاق: 3، وقال بعض الحكماء: من جاوز الشيئ فمذموم كمن قصر عنه، فلا بأس بالحرة العفيفة أن تخرج لشيئ لا بد لها منه من قضاء حوائجها قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذن لكن أنْ تخرجن في حوائجكن كذلك تخرجن في الأعياد خاصة، أطلق ذلك لهن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن لا يخرجن إلا بأذن أزواجهن وعن رضاهم: ولا يخرجن أيضًا إلاّ فيما يعني مما لا بدّ منه ومهما استغنين عن الخروج، وأنْ لا يراهن رجل فهو أفضل لهن وأصلح لقلوبهن، وروينا أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لابنته فاطمة عليها السلام: يا بنية، أي شيئ خير للمرأة فقالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، فضمها إليها وقال: ذرية بعضها من بعض، وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسدون الثقب والكوى في الحيطان لئلا يطلع النسوان، وروينا إنّ معَّاذًا رأى امرأة تطلع من كوة في الجدار فضربها، وأنّ امرأته دفعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 إلى غلام لها تفاحة قد أكلت بعضها فضربها. وقد كان عمر يقول: أعروا النساء يلزمن الحجال وقال أيضاً: عودوا نساءكم لا، وتكلم مرة في شيئ من الأمر فأخذت امرأته تراجعه في القول فزبرها وقال: ما أنت لهذا إنما أنت لعبة في جانب البيت إن كانت لنا إليك حاجة وإلاّ جلست كما أنت وهو مأجور على احتماله هفوات أهله وصبره على أذاهن ومثاب على حسن عشرتهن، وقد كان محمد بن الحنفية يقول ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدّاً، حتى يجعل الله له منه فرجًا ومخرجًا، فإن كانت بذيئة اللسان قليلة القبول عظيمة الجهل كثيرة الأذى، فطلاقها أسلم لدينهما وأروح لقلوبهما في عاجل دنياه وآجل أخرته، وقد شكى رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذاء امرأته فقال له: طلّقها فقال: إني أحبها قال: أمسكها إذاً، فخشي عليه تشتت همه بفراقها مع المحبة وتشتت الهم أعظم من أذى الجسم. وفي معنى قوله عزّ وجلّ: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاّ أنّ يأتينَ بِفاحَشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) الطلاق: 1. قال ابن مسعود: إذا بذت على أهلها وآذت زرجها فهو فاحشة، وهذا يعني به في العدة لأن الله يقول: (أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حيْثُ سَكَنْتُمْ مِنَ وُجْدِكُمْ) الطلاق: 6. فهو متصل بقوله: (وأحْصُوا العِدَّةَ ولا تُخْرِجوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِن) الطلاق: 1. أي في العدة، ومن الناس من يظن أنّ الطلاق محظور يتأول هذه الآية على غير تأويلها، فالطلاق مباح إلاّ أنه مكروه بغير سب لتفرقه الألفة. وقد يروى في خبر: ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق، ولا بأس أنْ تفتدي المرأة من زوجها إذا خافت أنْ لا تقيم حدود الله فيه ولا تقوم بواجب حقوقه عليها، وأكره أنْ يأخذ في الفدية أكثر مما أعطاها. وقد قال الله تعالى: (فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقيما حُدودَ الله فلا جُناحَ عليْهِما فيما افْتَدتْ بهِ) البقرة: 229، وهذا هو الخلع الجائز عند أكثر العلماء، ولا يحل لامرأة أن تسأل زوجها طلاقها ولا أنْ تختلع منه بغير رضاه. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس لم ترح رائحة الجنة، وقال: المختلعات هن المنافقات والنشوز، قد يكون من الزوجين معًا إلاّ أنه أبيح للزوج ضربها في النشوز وأبيح لها الصلح في نشوز الزوج قال الله عزّ وجلّ: (والصُّلحُ خَيْرٌ) النساء: 128. وأصل النشوز أنْ يعلو أحدهما على صاحبه ويرتفع عنه، كان يجفو عليه ويجتنبه فيكون في نحو غير نحوه، فيكون من هذا الكلام الفاحش ويكون منه الأذى ويكون منه الهجر والانفراد، ويحكم الحكمان في هذا أحدهما من أهله والآخر من أهلها، يعدلون وينظرون فيما بينهما. وقد وعد الله عزّ وجلّ الغني مع الفرقة كما وعده مع النكاح فقال: (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ الله كَلاً مِنْ سَعَتِهٍ) النساء: 130 كما قال: (وَأَنْكِحوا الأيامى مِنْكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 والصَّالِحينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإِمائِكُمْ إنْ يَكُونوا فُقَراءَ يُغنِهِمُ الله من فَضْلهِ) النور: 32. فقد يكون الغني بالمال ويكون بأن يستغني كل واحد منهما عن صاحبه بما خصه الله عزّ وجلّ من خفي لطفه. وجاء في خبر: ثلاث لا يستجاب دعوتهم: رجل له امرأة سوء يقول أراحني الله منك وقد جعل الله الطلاق بيده إن شاء طلق، والآخر في المملوك السوء، وجار السوء، وليحسن الرجل عشرة أهله والقيام بهن. فقد قال الله تعالى: (فإِنْ أطَعْنَكُمْ فلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبيلاً) النساء: 34. أي لا تطلبوا طريقاً إلى الفرقة ولا إلى خصومة ومكروه، وهذه حينئذ على صورة الأنفس المطمئنة إذا استجابت للإيمان وطوعت لك إلى أخلاق المؤمنين فتولها من الإرفاق وأرفق بها في منالها من المباح. وقد شبه الله عزّ وجلّ حسن القيام على الزوجة بحسن القيام على الوالدين فقال فيهما: (وَصاحِبْهُما في الدُّنْيا مَعْروفاً) لقمان: 15. وقال في أمر النساء: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) النساء: 19 ثم أجمل في النساء ما فرقه من حق الزوج في كلمة واحدة فقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) البقرة: 228. وقال في عظيم حقهن: (وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَليظًا) النساء: 21. وقال عزّ وجلّ: (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْب) النساء: 36. قيل: هي المرأة. وآخر ما أوصى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث كان يتكلم بهن حتى تلجلج لسانه وخفي كلامه جعل يقول: الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، والله الله في النساء فإنهن عوار في أيديكم يعني أسرى أخذتموهن بعهد الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. وسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حق المرأة على الرجل قال: يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى. ولا يقبح الوجه ولا يهجر إلا في البيت وينبغي أيضًا إذا أراد النكاح أنْ يتعلم ما تحتاج إليه المرأة من حسن العشرة والقيام بما لها عليه وجميل المداراة ولطف المفاوضة، ويعلمها حسن قيامها بما يجب له عليها ويعرفها ما أوجب الله له عليها من ذلك، ولا تملك المرأة شيئًا من أمرك فإنّ الله عزّ وجلّ قد ملكك إياها فلا تقلب بهواك حكمة الله فينقلب الأمر عليك، فكأنك قد أطعت العدوّ ووافقته في قوله، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وقد قال الله عزّ وجلّ: (ولا تُؤْتُوا السُفَهَاءُ أمْوالَكُمُ الَّتي جَعلَ الله لَكُمْ قِيامًا) النساء: 5 يعني النساء والصبيان ومنه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعس عبد الزوجة لأنه إذا أطاعها فيما تهوى دخل تحت التعس، فكأنه قد بدل نعمة الله كفراً لأن الله عزّ وجلّ جعله سيّدها في قوله عزّ وجلّ: (وَأَلَفيا سَيِّدَها لَدَى البابِ) يوسف: 25. يعني زوجها. قال الحسن: ما أصبح اليوم رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلاّ أكبه الله في النار ولا يعودها عادة فتجترئ عليه وتطلب المعتاد منك، فهي على مثال أخلاق النفس سواء إن أرسلت عنانها جمحت بك، وإن أرخيت عنانها فترًا جذبتك ذراعًا، وإن شددت يدك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 عليها وكبحتها ملكتها فلعلها أن تطوع لك. وكان الشافعي رضي الله عنه يقول ثلاثة إن أكرمتهم أهانوك وإن أهنتهم أكرموك، المرأة والخادم والنبطي. وكان نساء العرب يعلمن أولادهن اختبار أزواجهن. كانت المرأة إن أنكحت ابنتها قال: يا بنية، اختبري حليلك قبل أن تقدمي عليه، انزعي زج رمحه فإن سكت لذلك فقطعي اللحم على ترسه، فإن أقرّ فكسّري العظام بسيفه، فإن صبر فاجعلي الأكاف على ظهره وامتطيه فإنما هو حمار. وأوصى أسماء بن خارجة الفزاري، وكان من حكماء العرب، ابنته ليلة زفافها فقال: يا بنية، قد كانت والدتك أحق بتأديبك مني لو كانت باقية، وأما الآن فإني أحق بتأديبك من غيري افهمي عني ما أقول: إنك قد خرجت من العش الذي فيه درجت وصرت إلى فراش لا تعرفينه وقرين لم تألفيه، كوني له أرضًا يكون لك سماء وكوني له مهادًا يكون لك عمادًا فكوني له أمة يكون لك عبدًا، لا تلحفي به فيقلاك ولا تتباعدي عنه فينساك، إذا دنى فاقربي منه وإن نأى فابعدي عنه، واحفظي أنفه وسمعه وعينه، لا يشم منك إلاّ طيباً ولا يسمع إلاّ حسنًا ولا ينظر إلاّ جميلاً وأنا الذي أقول لأمك ليلة ينائي بها: خذي العفة مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب ولا تنقريني نقرك الدفّ مرة ... فإنك لا تدرين ماذا المغيب فإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب وأوصى بعض العرب بنيه فقال: لا تنكحوا من النساء ستة، أنانة ولا منانة ولا حنانة ولا حداقة ولا براقة ولا شداقة، تفسير ذلك الأنانة وهي التي تعصب رأسها كثيرًا وتكثير الأنين والتوجع والتشكي والمنانة التي تمن على زوجها تقول: فعلت بك وفعلت فأنا أفعل وأفعل والحنانة تكون على وجهين، تكون ذات ولد من غيره فهي تحن إليه وقد تكون ذات زوج قبله فيحن قلبها إليه. وقوله حداقة هي التي تومئ بحدقتها فتشتري كل شيئ وتطالب زوجها بما تشتهيه من كل شيئ، وقد تلحظ الرجال كثيرًا كما يلاحظ بعض الرجال النساء، والبراقة تحتمل تأويلين، أحدهما أنّ تكون غضوبًا في الطعام فتبرق لقلته أو لسوء خلقها ولا تكاد البراقة للمأكول أن تأكل إلاّ وحدها لشرهها، وتكون أيضاً تستقل نصيبها من كل شيئ وهذه لغة يمانية نعرفها فأشبه عندهم يقال: قد برقت المرأة وبرق الصبي الطعام إذا غضب عليه، والوجه الثاني من البراقة أنْ تكون من البريق أنْ تكثر صقال وجهها. وخضابه في بروقه أبدًا، وأما الشداقة فهي التي تشدق بكثرة الكلام وتكون ذربة اللسان مفوّهة في النطق. ومن ذلك الخبر الذي جاء أنّ الله عزّ وجلّ يبغض الثرثارين من المتشدقين. وفي قصة الرجل السائح الأزدي أنه لقي إلياس عليه السلام في سياحته، فأمره بالتزويج وقال: هو خير لك، ونهاه عن التبتل وقال: لا تنكح من النساء أربعًا وأنكح من سواهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 المختلعة والمبارية والعاهر والناشر، فالمختلعة هي التي تطلب الخلع من زوجها من غير ما بأس وهو مع ذلك يحبها. والمبارية المباهية لغيرها، المفاخرة بأسباب الدنيا التي تطلب من زوجها ما تباهي به غيرها وتفتخر به في نظائرها. والعاهر الفاجرة التي تعرف بحليل أو خدن وهو الذي قال الله عزّ وجلّ: (ولا مُتَّخِذاتِ أخْدَانٍ) النساء: 25. والناشر التي تعلو على زوجها في الفعال والمقال. وقد كان عليّ عليه السام يقول: شرار خصال الرجل خيار خصال النساء، البخل والزهو والجبن. فإن المرأة إذا كانت مزهوة أي معجبة استنكفت إن تكلم الرجال، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيئ فلم تخرج من بيتها. وأكره العزل كراهية شديدة فإنه دقيقة من الشرك الخفي، وفيه نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكرهه جماعة من السلف الصالح، ولم يكن خيار المتّقين يعزلون. وأقلّ ما فيه، الخروج من التوكل على الله عزّ وجلّ، وقلة الرضا بحكم الله تعالى. وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول العزل هي الموؤودة الصغرى فلقوله هذا استنباط حسن من السنّة، وذلك أنه روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضائل الجماع: أنّ الرجل ليجامع أهله فيكتب له من جماعة أجر ولد ذكر قاتل في سبيل الله عزّ وجلّ. فقيل له: وكيف ذلك يا رسول الله فقال: أنت خلقته، أنت رزقته، أنت هديته، إليك محياه إليك مماته. قالوا: بل الله خلقه، ورزقه، وهداه، وأحياه، وأماته. قال: فأنت تراه في هذا المعنى فيّ يقول: إذا جامعت فأمنيت في الفرج. وقد قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَءَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ) الواقعة: 58. فإذا لم يخلق الله من منيك خلقاً حسب لك كأنه قد خلق منه ذكرًا على أتم أحواله وأكمل أوصافه بأن يقاتل في سبيل الله فيقتل، لأنك قد جئت بالسبب الذي عليك وليس عليك خلقه ولا هدايته، وإنما يقدر على ذلك الله عزّ وجلّ وهو فعله مجرّدًًا فكان لك أجر ما لو فعله الله تعالى إذا قد أتيت بما أمكنك عمله، فلذلك قال ابن عباس: هو الموؤودة الصغرى لأنه يوجد العزل بعدم هذا الفضل، إذا كان العبد سبب عدمه لأنه لم يفعل ما يتأتى منه الولد، فذهب فضله وحسب عليه فتله، وإنما قلنا أنّ العزل دقيقة من الشرك لأن أهل الجاهلية كان سبب قتلهم بناتهم معاني أحدها خشية العار بهن، ومنها كراهة الإنفاق عليهن ومنها الشح وخوف الفقر والإملاق. وكان العرب من ولد له بنون وبنات فمات البنون وعاش البنات سموه أبتر وذموه بذلك. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الوصف الذي يكرهون مات ولده الذكر وعاش البنات، فلذلك كان يسمونه مذمّمًا أي مذمومًا عندهم. ومنه سبه العاص بن وائل حتى قال، إنك أبتر فرد الله عزّ وجلّ عليه فقال تعالى: (إنَّ شَانِئكَ هُوَ الأبْتَرُ) الكوثر: 3. أي لا ذكر لك بعد موتك قد انقطع ذكرك بموت الذكور من ولدك فقال الله عزّ وجلّ بل: ( الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) الكوثر: 3. الذي ينقطع ذكره وثناؤه فلا يذكر بخير بعد موته، فأما أنت فقد رفعت لك ذكرك تذكر معي إذا ذكرت. وكانت العرب تقول: من كنَّ له أحد الحوبات الثلاث، لم يشرف عشيرته ولم يسد قومه يعنون بالحوب الأم والأخت والبنت، والحوبات جمع حوب وهي كبيرة قال الله تعالى: في أكلكم (أمْوالَ الْيتَامَى ظُلْمًا) (كان حُوبًا كَبيرًا) النساء: 2 - 10. عندي ليس هذا الذي قلتم عندكم. وكان من خيار التابعين المؤمنين من يستحب له الجمع بين هؤلاء الثلاث: الأم والأخت والبنت، لما فيهن من عظيم المثوبة والفضل ليخالف بذلك سنة الجاهلية. فقد توجد هذه المعاني أو بعضها في العزل فلذلك سميناه شركًا وكرهناه، وهو مذهب الخوارج من النساء كأن فيهن تقزز وتعمق من استعمال كثرة الماء للطهارة، ودخول الحمامات ومجاوزة الحد في الطهور. وكنّ أيضاً يقضين الصلاة أيام الحيض ويصمن في حيضهن، ولا يصلّين في ثياب الحيض حتى يغلسنها، ولا تدخلن الخلاء إلاّ عراة، وكانوا يكرهون الولادة طلبًا للنظافة والتقرز خلاف السنة. نساء العرب ابتدعوا هذه البدع ففارقوا بها سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنن نسائه من أنباط العراق وأهل النهر. وكان بعضهن دخل على عائشة رضي الله عنها لما قدمت البصرة، فلم تأذن لهن في الدخول عليها. وأيضًا فإن الله ورسوله ندبا إلى اتخاذ الولادة بقوله تعالى: (فأتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ) البقرة: 223. قيل: الولد وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير نسائكم الودود الولود وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سوداء ولود خير من حسناد لا تلد، وحصير في البيت خير من امرأة لا تلد. ومن بركة المرأة أن تيسر رحمها أحوج ما يكون إلى الجماع إذا طهرت من الحيض. وفي هذا الوقت أكثر ما يعبر النساء بالحمل وأحمد ما يكون المولود عاقبة إذا علق به قبل الطهر. فلهذه المعاني عقب الله عزّ وجلّ الأمر بالجماع والولد بعد الطهر في قوله تعالى: (فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمرَكُمُ الله) البقرة: 222، ولأضدادها في الكراهة والذم أمر الله تعالى باعتزال النساء في الحيض، ويقال إنّ كل مبذول كان أو مجنونًا أو مجذوبًا أو مختلاً، أو في حاله وعتلاً مخبلاً لأنه كان غرسه في سبخة من الأرض فلم يزرع ولم يزك، ومن زرع من حرث طيب زكا زرعه وهو الغشيان في الطهر فلذلك قال: من حيث أمركم الله، وقد رخص طائفة في العزل. روينا في ذلك رخصة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان سعد يعزل وقد أنكر عليّ عليه السلام على ابن عباس رضي الله عنهم في قوله: إنّ العزل هي الموؤودة الصغرى وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 إنها لا تكون موؤودة إلاّ بعد سبع ثم تلا قوله عزّ وجلّ: (وإذا المَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ) التكوير: 8، أنها ذكرت بعد سبع ثم تلا قوله عزّ وجلّ آية تنقيل الخلقة: (وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ مِنْ سُلالَةِ مِنْ طينٍ) المؤمنون: 12. ثم جعلناه نطفة إلى قوله ثم أنشأناه خلقًا آخر أي نفخ الروح فيه قال: فلا يكون موؤودة مقتولة إلاّ بعد هذه السبع الخصال، ولأن الله عزّ وجلّ ذكرها في كوّرت بعد سبع معان ثم جمع بينهما في الفهم فاستنبط ذلك، وهذا من دقيق العلم وغامض الفهم ولطيف الاستدلال الذي تفرد به عليه السلام لثقوب علمه ونفاذ فطنته وخفي استدلاله، فلا يجامعهن حتى يطهرن. فإذا تطهرن يعني بالماء ويكره الجماع مستقبل القبلة لحرمة القبلة. وفي الخبر، إذا جامع أحدكم أهله فلا يتجرّدا تجرد العيرين يعني الحمارين. وروينا أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا جامع غطى رأسه وخفض صوته وقال للمرأة: عليك السكينة، ومن جامع مرة وأراد العود فليغسل فرجه قبل ذلك، فإن احتلم فلا يجامع حتى يغسل فرجه أو يبول، فإن جامع بعد الاحتلام من غير غسل خيف على ولده إن كان من جماعة أنْ يصيبه لمم من الشيطان. ويكره له الجماع في ثلاث ليال من الشهر: في أول ليلة وفي آخر ليلة وفي ليلة النصف. يقال إنّ الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي وقيل إنّ الشياطين يجامعون فيها، وروي عن عليّ عليه السلام كراهة ذلك وأبي هريرة ومعاوية رضي الله عنهما. ومن العلماء من كان يستحب الجماع في يوم الجمعة لأحد التأويلين من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من غسل واغتسل أي غسل أهله. ويكره الجماع في أول الليل لئلا ينام على غير طهارة، فإن الأرواح تعرج إلى العرش فما كان منها طاهرًا أذن له في السجود، وما كان جنبًا لم يؤذن له. والرؤيا أيضًا على طهارة من غير جنابة، وعلى وضوء أصح وأفضل إلاّ أنْ يغتسل ثم ينام فإن لم يغتسل وجامع فلا ينام ولايطعم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة. وقد جاء رخصة في النوم بعد الجماع من غير أنّ يمس ماء، فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أكره أنْ يحلق الرجل رأسه أو يقلم ظفره أو يستحد أو يتورّى ويخرج دمًا وهو جنب، فإن العبد يرد إليه جميع شعره وظفره ودمه يوم القيامة، فما سقط منه من ذلك وهو جنب رجع إليه جنباً. وقيل: طالبته كل شعرة بجنابتها. وقد روينا معنى هذا في حديث مقطوع موقوف عن الأوزاعي ويحيى بن كثير قال الأوزاعي: قد كنا نقول: لا بأس أن يطأ الجنب، حتى سمعنا بهذا الحديث والنص فيه على النهي أن يطأ الرجل جنبًا، ولا يحل للرجل من امرأته إلاّ الفرج لا غير على أي حال شاؤوا من جامع، فليتمهل على أهله وليتوقّف حتى تقضي هي نهمتها كما قضى هو نهمته. فربما أخر انزال المرأة بعد الرجل فيكون ذلك كريهًا إليها، فإن علم أنها قد سبقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 بالشهوة لم يحتج إلى توقف وليس يخفي سبقها بالشهوة على فطن. وأوفق ما يكون الجماع بينهما إذا اتفقت الشهوتان منهما معًا، وأكثر ما يكون التباغض بين الزوجين لاختلافهما من طبع الإنزال أن يكون طبعه سابقًا لطبعها أيضًا. قود كان بعض العلماء من الأدباء لا يتأخر عن المرأة حتى يستأمرها في ذلك، وينبغي أن يعلمها لأن المرأة إذا بلغت واحتلمت يجب عليه الغسل كما يجب على الرجل، فإنّ في ذلك سنة لأن أم سليم سألت عن ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بذلك قال: نعم، النساء نساء الأنصار لا يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، وإذا كانت المرأة حائضاً ائتزرت بمئزر صغير من حقويها إلى أنصاف الفخذين وكان له المتعة بجميع جسدها كيف شاء إلاّ تحت المئزر، وهذا مذهب فقهاء الحجاز وهو أحب الوجهين إليّ، وبعض علماء أهل العراق يجوز من الحائض المباشرة لما تحت خلا الفرجين، ولا يعجبني هذا ولا حرج عليه من الاستمتاع ببدنها، وأستحب للرجل إذا دخل في لحافها أن يأتزر بحقو صغير يكون في وسطه وهو المئرز لئلا يتجرد عريانًا، فإنّ هذا من الأدب. ويضاجع الرجل الحائض كيف شاء وتناوله ما شاء، أو يؤاكلها ولا يجانبها في شيئ من الأشياء إلاّ الجماع في الفرج إتفقوا عليه واختلفوا فيما دونه. فذكر أهل الحجاز كما ذكرناه آنفًا وهو استحباب، واتفقوا على تجويز ما فوق المئزر من السرر إلى أنصاف الفخذين، فينبغي للمتزوّج أن يعرف حكم الطلاق، فإن عرض عليه طلاق طلق واحدة واحدة في طهر لا جماع فيه، لأن التطليقة الواحدة إذا انقضت عدة المرأة منها بحيض أو أشهر تعمل عمل التحريم بالثلاث سواء، إلاّ أنه يربح في التطليقة الواحدة أربع خصال: أحدها موافقة الكتاب والسنّة من قوله عزّ وجلّ: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) الطلاق: 1، وفي قراءة عمر وابن عباس رضي الله عنهم بيان ذلك: فطلقوهن لقبل عدتهن فقد دل أنّ الأقراء هي الأطهار، وكذلك هو عندي. وإن تكافأ ذلك في اللغة وتساوى في المعاني بأن يكون الحيض أيضاً. والثانية تيسير العدة عليها وسرعة خروجها منها، فخروجها من الطلاق محتسب من الطهر الذي طلقها فيه من غير جماع قرأ، فتستعجل الخروج من العدة لأنها من حدود الله عزّ وجلّ، ويربح أيضاً هو أنه ندم على طلاقها كان له رجعتها في العدة من غير إحداث عقد ثان ولا مهر آخر، وإن أحب رجعتها بعد انقضاء العدة كان له تزويجها ثانية من غير زوج ثان تحدثه، وهذا كله معدوم مع الثلاث دفعة واحدة وموجود فيه التحريم، وإن ندم لم يجعل الله له مخرجاً لأنه لا تحل له إلاّ بعد، زوج ويخسر العبد خروج المرأة من يده فإن ابتلى بهواها يحتاج أن ينتظر فراغ الزوج الثاني أو التجأ أنْ يعمل في تزويجها لغيره، فيكون محلّلاً لنفسه ومفسد النكاح الثاني بالتحليل فيقع في ثلاث معان من المعاصي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وقد لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المحلل والمحلل له. وقال بعض العلماء: إنّ نكاح الأول بعده على التحليل لا يجوز أيضاً، وهذا كله ثمرة الجهل ومخالفة السنة. وقد قال الله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهنَّ) الطلاق: 1، ثم قال: لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرًا يعني ندمًا من المطلق فتعجب الزوجة، فإذا كان قد طلق تطليقة واحدة أو اثنتين حلت له من العدة من غير عقد وبعد انقضائها بغير زوج ثم قال: (ومَنْ يتّق الله يجعل له مخرجاً) أي يتّقي الله فيطلق في العدة يجعل له مخرجًا في جواز الرجعة كما ذكرناه ومن طلق ثلاثًا مرة واحدة أو طلق في الحيض، وقع الطلاق وحرمت المرأة ولم تحل له إلاّ بعد زوج إن كان قد خالف السنّة ووافق كراهة الأئمة بآثار، قد كثرت في ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن عمر وابنه وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وابن عباس وجملة من الصحابة والتابعين، والأصل فيما ذكرناه من العزيمة والرخصة في فعل النكاح وتركه قول الله عزّ وجلّ: (وَانْكِحُوا الأيامى مِنْكُمْ) النور: 32، فأمر بالنكاح وهو أعلم بالخير والصلاح، والأيامى جمع أيم وهي التي لا بعل لها، وقد يسمى به الرجل الذي لا زوجة له أيضًا كما يقال ثيبًا وبكرًا ثم قال: (والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) النور: 32. فلولا أنّ النكاح فاضل ما خص به الصالحين وضمه إلى فضلهم، وهم أهل ولايته لقوله عزّ وجلّ وهو يتولى الصالحين، ثم قال: (إن يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهمُ الله من فَضْلِهِ) النور: 32، والله أعلم بالأغنياء كيف هم وقد يغنيهم بالأشياء كقوله: (أَغْنى وأَقْنى) النجم: 48، وقد يغنيهم عن الأشياء وهي القناعة والزهد، وقد يغني نفوسهم عن الإعراض لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الغني بكثرة العرض إنما الغني غني النفس، وقد يغنيهم باليقين كما قال أيضًا: كفى باليقين غنى. وقد يغنيهم بغض البصر وتحصين الفرج كما قال: من استطاع الباءة فليتزوّج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ثم إنّ الله عزّ وجلّ قال في الخبر الثاني: من وعد الغني في التفرق وذلك أيضًا في قوله عزّ وجلّ: (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ الله كُلاً مِنْ سَعَتِهِ) النساء: 3. فقد أجمل وجوه الإغناء كلها في هذا المعنى الآخر أيضًا، ويزيد عليه الغنية بالعصمة والاستغناء عن المكاسب وعن السؤال والمحاسبة على الاكتساب، والغنية عن حال النساء وأحكامهن. ثم قال في الأمر الثاني من البيان الثاني: (فانْكِحوا ما طابَ لَكُمْ مِنْ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) النساء: 3. فهذا أدون من الأول لأنه علقه باختيارنا إنْ طاب لنا، ثم رفع فيه الأربع توسعة منه وتفضيلاً لعلمه بعلاج القلوب وطبائع النفوس وتفاوت سكونها وحركاتها، ووجود كفايتها ومصالحها ثم رحمنا فقال: (فإنْ خِفْتُمْ ألاّتَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكِتْ أيْمَانُكُمْ ذلك أدْنى ألاَّ تَعُولُوا) النساء: 3. فرد إلى الواحدة وهو الحال الأوسط بين الأربع وبين التعزب، وخير الأمور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 أوسطها وفي قوله: ألاّ تعدلوا ثلاثة أوجه: تعدلوا تجوروا وهو أحسنها وأحبها إلي لأنه يواطئ قوله تعالى: (فإنْ خِفْتُمْ أن لاّ تَعْدِلُوا) النساء: 3، لأن العدل ضد الجور فعطف عليه فقال: (ذِلك أدْنى ألاّ تَعُولُوا) النساء: 3، أي تجوروا من العدل. والعرب تقول: عال يعول عولاً إذا جار، والوجه الثاني: ألاّ تعولوا تفتقروا من العيلة وهي الفقر يقال: عال يعيل عيلة وأعاله إذا افتقر ومنه قوله: (إن خِفْتمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ الله) التوبة: 28، ومع العيال الفقر لا محالة، والوجه الثالث: تعولوا تكثر عيالكم فيكون المعنى لذلك أقرب أن لا يكثر من تعولونه، وحذفت الهاء التي هي اسم العيال وهذا مذهب لبعض أهل الحجاز يرجع إلى قوله: عال الرجل عياله، يعولهم مثل مانهم يمونهم ومارهم يميرهم وصانهم يصونهم، فيكون مشتقاً من لفظ العيال والأولان أجود وأشهر والله سبحانه ما افترض النكاح ولا العزبة، كما لم يوجب الأربع من النسوة وافترض صلاح القلب وسلامة الدين وسكون النفس والدخول في الأوامر عند الحاجة إليها. فمن كان صلاحه في التزويج فهو أفضل له، ومن كان استقامته وسكون نفسه عند الأربع فجائز له طلب السكون وصحة الحال مع القيام بالأحكام، ومن وقعت كفايته بواحدة فالواحدة أصلح وأفضل لأنها إلى السلامة أقرب، ومن كان صلاح حاله واستقامة قلبه وسكون نفسه في العزبة فذلك له أسلم، والإسلام لمثله في زماننا هذا أفضل إذا لهذا يراد النكاح فإن وجد لم يضر فقده. ى السلامة أقرب، ومن كان صلاح حاله واستقامة قلبه وسكون نفسه في العزبة فذلك له أسلم، والإسلام لمثله في زماننا هذا أفضل إذا لهذا يراد النكاح فإن وجد لم يضر فقده. ولعمري أنا إذا قلنا إنّ في الدين طريقين: طريق عزيمة وطريق رخصة، فإنه في النكاح أيضًا لأنه من الدين، وفي تركه يكون لأجل الدين طريقان: طريق الأقوياء وهم أهل النكاح، والصبر على أحكامه، وعلى معاشرة النساء، وطريق آخر للأقوياء بالصبر عنهن ووجود العصمة منهن والتفرّغ للآخرة وكفى بها شغلاً، وطريق آخر من وجود الوسوسة وخوف العنت لقوة الطبع وضعف الحال بوجود الاختلاط، فيبدأ بالنكاح طلبًا للاستقامة والصلاح. وقد كان الثوري رحمه الله تعالى يقول: يا حبذا العزبة والمفتاح ... ومسكن تخرقه الرياح لا صخب فيه ولا صياح ولله الأمر من قبل ومن بعد والحمد لله وحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 الفصل السادس والأربعون كتاب ذكر دخول الحمام الأفضل في وقتنا هذا ترك دخول الحمام لكثرة العراة فيه والعجز عن القيام بأحكامه. إلاّ أنّ دخوله مباح، وقداختلف مواجيد الصحابة في دخوله وكل فيه قدوة وهدى فقال بعضهم: بئس البيت الحمام، يبدي العورة ويذهب الحياء، وروي هذا عن ابن عمر رضي الله عنه وعن عليّ رضي الله عنه معناه. وقال بعضهم: نعم البيت ينفي الدرن ويذكر النار، وروي هذا عن أبي الدرداء وأبي أيوب. ودخل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشام الحمامات، فمن كان داخلاً إلى الحمام فلا يدخله لشهوة لعاجل حظ دنياه ولا عابثًا لأجل الهوى لأنه عمل من أعمال العبد، والعبد مسؤول عنه إن كان محاسباً على جهل أعماله فيقال: لِمَ دخلت؟ وكيف دخلت ولمن دخلت؟ كما يقال له: في كل عمل فعله وفي دخول الحمام ثمانية أحكام أربعة فرائض وأربعة نوافل. فأما الفرائض فستر العورة وغض البصر، وأنْ لا يباشر جسده غير يده وأن يأمر بالمعروف وهو أن يرى عريانًا فيقول له: استتر أو هذا حرام عليك وهذا لا يحل لك، أو قد نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو حرم دخول الحمام بغير إزار، فأي هذه الألفاظ قاله سقط عنه ماوراء ذلك من كل شيء يراه من المنكر، وليس عليه القبول ولا الإجبار على المعروف لأن هذا على الإمام القائم بصالح الدين، والداعي لرغبة المسلمين بالبطش والقوة والتمكين في الأرض والتسليط، وهو ساقط عن الرعية بحمد الله ومنه، فأما النوافل الأربع، فأن يرى الطهارة لأجل الدين والنظافة للعبادة لأن الطهارة من أفضل أمور الآخرة والحمام غاية الطهر، وأن يعطي صاحب الحمام الأجرة قبل الدخول، وكذلك يستحب في كل ما يشتريه أو يستعمله خاصة الشيء المجهول مقداره من شرب الماء وأجرة الحجام والذي لا يتقاضى عليه ولا يشترط فيه، فكأنه يكون غير معلوم. وإذا نظر الحمامي إليه صار معلومًا. والثالثة أن لا يكثر صب الماء عليه من غير حاجة، ولا يستعمل ما يكفي رجلين وثلاثة سيما من الماء الحار، فإنّ له موونة، ولا يستعمل من ذلك إلاّ ما لو رآه الحمامي لم يكره ذلك منه ولم يسوءه، وما علم أن الحمامي لو رآه يستعمله من الماء الكثير لشق عليه ذلك، فإنه مكروه له في غيبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 والرابعة أنْ يتذكّر النار بحرارة الحمام ولذع مسه وغشيان ظلمته، لأن الحمام في الظلمة أشبه شيء بجهنم، الحرارة من تحتك والظلمة من فوقك، فهذا وصف جهنم نعوذ بالله منها فليتذكر بقلة صبره على الحمام وعظم كربه فيه حبسه في جهنم، وإنه لو أقام في الحمام فضل ساعة لضعف روحه حتى يخرج خفوقاً، ويكون له في الحمام موعظة وعبرة إذا عبر أولي الأبصار. ومواعظ أهل التقوى لا تنقضي، ولهم في كل شيئ عبرة وموعظة وبكل شيئ تذكرة، لأن الله عزّ وجلّ قد أحياهم حياة طيبة، وهذه علامة من كان له قلب ومن مقامه المزيد، ولا بأس أنْ يظهر ذكر الله عزّ وجلّ بالتسمية والاستغفار، ومكروه له قراءة القرآن إلاّ في نفسه سرّاً ولا يسلم على أحد فيه بلفظ السلام. وروينا أنّ رجلاً أسلم على الحسن بن عليّ رضي الله عنهما في الحمام فقال: ليس في الحمام سلام، فإن احتاج أن يتكلم رجل فيه فلا بأس أن يأخذ بيده استئناساً للكلام أو يقول له: عافاك الله وأدام سلامتك. ومكروه له كثرة الكلام فيه وأن يتكلم رجل بما لا يعنيه، ولكن يقول: بسم الله، إذا دخله ويستعيذ بالله من الرجس الخبث الشيطان الرجيم. وإن أعطى الحمامي أجرة ليخليه له أجر على ذلك. قال بشر: ما أعنف رجلاً لا يملك إلاّ درهماً أنّ يعطيه لخلوة الحمامي. وكان بشر يغطي ليخلي له الحمام، فكان يغلقه عليه من داخل ومن خارج، فإن وليته جاريته للإطلاء في الحمام إذا كان خاليًا ستيرًا فلا بأس، قالب بعضهم: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما في الحمام مستقبلاً بوجهه الحائط، وقد عصب عينيه بعصابة ومدّ يده على الحائط، وقيل لإبراهيم الحربي: تصلّي خلف شارب النبيذ قال: نعم قيل: فتصلّي خلف من يدخل الحمام بلا مئزر قال: لا، ويكره دخول الحمام عند الغروب وبين العشاءين، فإن تلك الساعتين وقتت انتشار الشياطين، وليعرف بدخوله نعمة الله عزّ وجلّ وتسخيره له من شاء من خلقه بالتعب منهم والكد فيه، فهذا من لطيف أفضال الله عزّ وجلّ على المتنعمين به، ومن دخل الحمام وقام بهذه الأحكام كان دخوله أفضل لأن له فيه أعمالاً كثيرة، ودخل الأعمش فرأى عريانًا فغمض عينيه وجعل يتلمس الحيطان، فقال له العريان: متى كفّ بصرك يا هذا؟ فقال الأعمش منذ هتك سترك، وحكى الشافعي عن مالك رضي الله عنهما ثلاثة أشياء فيها، ذلة حضور المجلس بغير محيرة ولا صحيفة، وركوب السفينة بلا زاد، ودخول الحمام بغير كرنيب قال: فقلت للشافعي رضي الله عنه: لم تذكر المئزر فقال: قد أحسن ترك المئزر فسوق، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دخول الحمام على النساء حرام وعلى الرجال إلاّ بمئزر، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: الحمام من النعيم الذي أحدثوه، وفي أحد الوجوه من قوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعيمِ) التكاثر: 8، قال: الماء الحار في الشتاء ولا بأس أن يباشره رجل بالتدليك خلا موضع العورة، حدثني بعض إخواني عن بعض أهل العلم أنه دخل معه الحمام قال: فأردت أدلكه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 فأمتنع قال: ثم دخلت معه بعد ذلك فجعلت أدلكه فلم يمتنع فقلت له: قد كنت أمتنعت أول مرة قال: كنت أعلم فيه أثرًا ثم وجدت بعد ذلك أصبغ الراشني أنّ رجلاً دلكه في الحمام فرأى على فخذه مكتوب لله بعرق في جسده فقال: أما تنظر أما أنه ما كتبه إنسان، وفي ذلك أيضًا أثر عن يوسف بن أسباط أنه لما حضرته الوفاة أوصى أن يغسله فلان إنسان لم يكن من أصحابه ولا كان معروفاً بفضل، فقيل له في ذلك فقال: أنه قد كان مرة دلكني في الحمام ولم أكافئه علي ذلك وأنا أعلم أنه يحب أنّ يغسلني فأوصيت إليه فيكون ذلك مكافأة مني له، ويصلح أن يستدل على ذلك أيضًا بتجويز الغمز للجسد والظهر. فقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نزل منزلاً في بعض أسفاره، قال بعض أصحابه: فذهبت أمشي أتخلل النخل أو قال الشجر، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائم على بطنه وعبد أسود يغمز ظهره فقلت له: ما هذا يا رسول الله فقال: أما أنّ الناقة تقحمت بي، وقال بعضهم: لا يحلّ دخول الحمام إلاّ بمئزرين مئزر لوجهه ومئزر لعورته، ورأى ابن عمر رضي الله عنه رجلاً عرياناً فخرج وهو يقول: أعوذ بالله من الشيطان رأيت شيطانًا، وقال مالك رضي الله عنه: من دخل الحمام وخرج عرياناً فلا شهادة له، وإن كان قاعدًا عند الحوض ليغسل فلا بأس، وغسل الرجلين بالماء البارد عند الخروج من الحمام أمان من النقرس، والتنورد بعده قبل غسل الوجه يشيّب اللحية والخناء بعد، يقال: إنه أمان من الجذام ويستحبّ أهل الطب البول قائمًا في الحمام بعد الإينار وقبل غسل النورة، وأمر بعض أطباء العرب بالنورة في كل شهر وأخبر أنه يطفئ المرارة وينقي اللون وأنها تزيد في الجماع وفي السنّة الاستحداد في كل أربعين يومًا لا يستحبّ مجاوزة ذلك، وبعض زهل الطّب يقول: بولة في الحمام في الشتاء أنفع من شربة دواء، والبول في المستحم مكروه من جهة السنّة، وقيل: إنّ البول في المستحم يورث الوسواس، وبعض أهل الطبّ يقول: نومة في الصيف بعد دخول الحمام تعدل شربة دواء، ويستحبون أيضًا الغسل بماء بارد بعد نومة في الصيف، وأنه نافع للجسد، ويقال: إنّ الإنسان إذا جاوز الأربعين سنة نقص في كل يوم إلاّ اليوم الذي يدخل فيه الحمام، وإنّ الحمام عندهم في الصيف أنفع منه في الشتاء، ويكره شرب الماء البارد عند الخروج من الحمام، وحرم رسول الّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخول الحمام عل النساء، وحرمه على الرجال إلاّ بمئزر فإن دخلت المرأة الحمام ضرورة من علّة أو حيض أو نفاس أو في شتاء فلا بأس، وقد دخلت عائشة رضي الله عنها من سقم كان بها ولينه الرجل امرأته وأهله عن دخول الحمام، فإن لم يقبلن لم يحلّ له أن يعطيهن أجرة الحمام، وكان الأمر عليهن، ولا يحل لمسلمة في الحمام أن يليها للخدمة ذمية، فقد نهى عمر وأبو عبيدة رضي الله عنهما عن ذلك وأكره للرجل أن يعطي امرأته أجرة الحمام فيكون معيناً لها على الإثم فإن نهاها فخالفته كان الإثم عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 الفصل السابع والأربعون ذكر حكم المتسبب للمعاش وما يجب على التاجر من شروط العلم قال الله تعالى: (وَجَعَلْنا النَّهَارَ مَعَاشًا) النبأ: 11، فذكره فيما عدّد من آياته ونعمته، وقال عزّ وجلّ: (وجَعَلنا لَكُمْ فيها مَعَايِشَ قَليلاً ما تَشْكُرونَ) الأعراف: 1،، فجعل المعاش نعمة طالب بالشكر عليها، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلاّ الهم بطلب المعاش، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحلّ ما أكل المرء من كسب يده وكل عمل مبرور، وفي لفظ آخر: أحلّ ما أكل العبد من كسب يد الصانع إذا نصح، وفي الخبر: التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصدّيقين والشهداء. وقد جاء في الحديث: من طلب الدنيا حلالاً وتعفّفاً عن المسألة وسعياً على عياله وتعطّفاً على جاره لقي الله عزّ وجلّ ووجهه كالقمر ليلة البدر، وقد روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ذات غداة جالسًا مع أصحابه فنظروا إلى شاب ذي جلدة وقوة وقد بكر يسعى فقالوا: ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل الله عزّ وجلّ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى تفاخرًا وتكاثرًا فهو في سبيل الشيطان، وقال ابن مسعود: إني لأمقت الرجل أراه فارغاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كان الصانع بيده أحبّ إليهم من التاجر، وكان التاجر أحبّ إليهم من البطالة، وسئل إبراهيم عن التاجر الصدوق أهو أحبّ إليك أم المتفرغ للعبادة؟ قال: التاجر الصدوق أحب إليّ لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده وقد خالفه الحسن البصري رضي الله عنه في هذا، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما من موطن يأتيني فيه الموت أحبّ إليّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري في رحلي وقال أيوب قال لي أبو قلابة: إلزم السوق فإن الغني من العافية يعني الغني عن الناس والله أعلم والغني الذي يطاع الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 به، وكان يقول بعض السلف: اتّجر وبعْ واشترِ ولو برأس المال يجعل لك من البركة مالاً يجعل لصاحب الزرع، وقال ابن محيريز وكان من عباد أهل الشام: ما من طعام أملأ به ما بين جنبي بعد غنيمة في سبيل الله من فيء المشركين أقيم بها حق الله عزّ وجلّ أحبّ إليّ من طعام تاجر صدوق، قال: وكانوا يعدون الكاسب على عياله كالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ ويرون فضله على غيره، وروي فيه أثر أنّ الله عز وجلّ يحبّ المؤمن المحترف، وفي خبر آخر: أنّ الله يحبّ العبد يتخذ المهنة يستغني بها عن الناس. وحدثني بعض إخواني عن أبي جعفر الفرغاني قال: كنا يوماً عند الجنيد فجرى ذكر ناس يجلسون في المساجد يتشبهون بالصوفية، ويقصرون عمّا يجب عليهم من حق الجلوس، ويعيبون من يدخل السوق، فقال الجنيد: كم ممن هو في السوق حكمه أن يدخل في المسجد فيأخذ بإذن بعض من هو فيه فيخرجه ويجلس مكانه، إني لأعرف رجلاً يدخل السوق وورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثون ألف تسبيحة، قال: فسبق، وهمّي أنه يعني نفسه، فإن كان العبد سوقيًّا فليبدأ فليتعلم علم البيع والشراء والأخذ والعطاء ومعاملة الناس في البيوع ومعرفة أبواب الربا، ليعلم ذلك قبل الوقوع فيه فيجتنب ذلك ويتّقيه، وليغدِ إلى المفتي فيسأله عن علم حاله كل يوم من وجوه معاملته، إن لم يكن قد تقدم علمه بذلك ولم يكن عالمًا به في وقت المعاملة، فليجعل بكوره إلى المفتي قبل غدوه إلى السوق، فإن لكل عمل علمًا، ولله في كل شيء حكم، فلا يغنيك كبير علم عن علم غيره، فإن لم تفعل ذلك دخل عليك الربا والبيوع الفاسدة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف في الأسواق ويضرب بعض التجار بالدرة ويقول: لا يبيع في سوقنا إلاّ من تفقه وإلاّ أكل الربا شاء أو أبى، ثم لينصرف بعد العلم فيما يدخل فيه فيما أبيح له من تجارة أو صناعة بصدق معاملة وصدق في مبايعة، ناويًا في ذلك إقامة سنّة وأمراً بمعروف، ونهياً عن منكر، وجهادًا في سبيل الله، لأنّ من أخذ الحق وأعطاه وعامل بصدق ونصح فهو معاون على البّر والتقوى وفي جهاد العدو والهوى سيما في زمان يكثر فيه الباطل لأنّ صلاح الدين بصلاح الدنيا وفساده بفسادها لتعلق أحدهما بالأخرى وحاجة كل واحد منهما بصاحبه. وفي الخبر: لا يستقيم عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى: (الَّذينَ آمَنوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئكَ لَهمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) الأنعام: 82، من هؤلاء؟ فقال: من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعفّ فرجه وبطنه، ثم ليَنْو المتصرف في معاشه كفّ نفسه عن المسألة والاستغناء عن الناس وقطع الطمع فيهم، والتشرف إليهم، فذلك عبادة إذا نوى نزعه، ثم ليحتسب السعي على نفسه وأطعمة عياله فهو له صدقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وعليه الصدق في القول والنصح في معاملة إخوانه المسلمين لأجل الدين، ويعتقد سلامة الناس منه نصحًا لهم ورحمة بهم ويعمل في ذلك ويكون أبدًا مقدمًا للدين والتقوى في كل شيء، فإن انتظمت دنياه بعد ذلك حمد الله وكان ذلك ربحًا ورجحانًا، وإن تكدرت لذلك دنياه وتعذّرت لأجل الدين والتقوى أحواله في أمور الدنيا كان قد أحرز دينه وربحه، وحفظ رأس ماله من تقواه، وسلم له، فهو المعول عليه والحاصل له، إلاّ أنّ من ربح من الدنيا مثل المال وخسر عشر الدين فما ربحت تجارته ولا هدى سبيله وهو عند الله من الخاسرين، وقال بعض السلف: أولى الأشياء بالعاقل أحوجه إليه في العاجل، وأحوج شيء إليه في العاجل أحمده عاقبة في الآجل، وكذلك قال معاذ بن جبل: رضي الله عنه في وصيته أنه لا بدّ لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه فإنه سيمّر على نصيبك من الدنيا فينظمه لك انتظاماً ويزول معك حيثما زلت. قد قال الله تعالى: (ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) القصص: 77، لا تترك نصيبك في الدنيا من الدنيا للآخرة، لأنك من ههنا تكتسب الحسنات فتكون هناك في مقام المحسنين، ففي الخطاب مضمر لدليل الكلام عليه في قوله تعالى: (وَأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ الله إليْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ في الأرضِ) القصص: 77، وقد قال بعض العلماء: من دخل السوق ليشتري ويبيع فكان درهمه أحبّ إليه من درهم أخيه لم ينصح المسلمين في المعاملة، وقال عالم آخر: مَنْ باع أخاه شيئًا بدرهم وهو يصلح له بخمسة دوانيق فإنه لم يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه حتى لا يبيع أخاه شيئاً بدرهم إلاّ وهو يصلح له اشتراؤه به، فينبغي لهذا المتصرف أن يستوي في قلبه درهمه ودرهم أخيه ورحله ورحل أخيه، ليعدل فيما يبيعه أو يشتري منه سواء بسواء، ويكون مراعيًا لموافقة حكم الله تعالى الذي ورد به الشرع في الشراء والبيع، مراعياً للسبب الذي يصل به الدرهم أن يكون السبب معروفاً في العلم، مباحاً في الحكم، فيكون متورّعاً في عين الدرهم المعتاض، لا يكون من خيانة أو سرقة أو فساد أو غصب أو غيلة أو حيلة، فهذه وجوه الحرام التي تحرم بها المكاسب المباحة، فإذا كان متجنباً لهذه المعاني لم يشهد أحدها بعينه أو لم يعلمه من عدل فكسبه حينئذ من شبهة، ولا يكون مع ذلك حلالاً لإمكان دخول أمر هذه الأسباب فيه، ولأنه على غير يقين معاينة منه لصحة أصله وأصل أصله لقلّة المتقين وذهاب الورعين إلاّ أنه شبهة الحلال. وفي الخبر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بلبن فقال: من أين لكم هذا؟ فقيل له: من شاة كذا، فقال: ومن أين لكم هذه الشاة؟ فقيل: من وضع كذا، فشرب منه ثم قال: إنّا معاشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 الأنبياء أمرنا أن لا نأكل إلاّ طيّباً ولا نعمل إلاّ صالحاً، وقال الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طيِّبَاتِ ما رَزَقْناكُمْ) البقرة: 172، فسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أصل الشيء وأصل أصله ولم يسأل عمّا وراء ذلك، لأنه قد يتعذر ولا يوقف على حقيقته، ولأنّ أموال التجار والصناع قد اختلطت بأموال الأجناد، وهم يأخذون ذلك بغير استحاق، فكأنه من أكل المال بالباطل إذ قد أوقفوا نفوسهم، وارتبطوا دوابهم في سبيل الهوى، فصاروا يأخذون العطاء بغير حق، ولا يملكون ذلك، ثم ينتشر ذلك في أموال التجار واصناع وهم لا يميزون بين ذلك ولا يرغبون عنه لقلة التقوى وعدم الورع، فلذلك غلب الحرام لأنّ الحلال إنما هو فرع للتقوى والورع، إذا كثر المتّقون وظهر الورعون كثر الحلال وظهر، وإذا قلّوا فشاء الحرام وانتشر فصار الحلال مستهلكاً غامضاً في الحرام لغربة الورعين وخفية المتّقين، وإنما كان الحلال في القرن الأول موجوداً لوجود السلف الصالح، وكان الناس ورعين وكانوا لا يأخذون ما ليس لهم بحق فكانوا متّقين وكانوا يتركون بعض حقّهم خشية دخول الشبهة عليهم، فمن أجل ذلك كان الحلال كثيراً، وقد حكى عن بعض فقهاء العراق أعرف أنه قال: لا أقبل شهادة شحيح، قيل: ولِمَ؟ قال: الشحّ يحمله على استيفاء حقّه، وفي استيفاء حقّه أخذه ما ليس له، ثم قال: حدثني عطاء عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أته قال: ما استقصى كريم قط، وتلا قوله عزّ وجلّ: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرضَ عَنْ بعْضِ) التحريم: 3، وفي الخبر: كما نترك سبعين باباً من الحلال مخافة باب واحد من الحرام، وقال الحسن: أدركت من مضي يعرض على أحدهم المال الحلال فيقول: لا حاجة لي به، أخاف أن يفسد على قلبي، قد كانت الأئمة عدولاً فكانت الجنود معاونين لهم على التقوى يأخذون عطاءهم بحق. وفي الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذكر الخيل: اختصرناه، قال: والخيل لرجل وزر، وهو الذي يربطها فخراً ورياء وسمعة ونواء على الإسلام، فما أكلت وشربت في أجوافها حتى أبوالها وأرواثها وآثارها أوزار في ميزانه يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: (احْشُروا الَّذينَ ظَلَمُوا وأَزْواجَهُمْ) الصافات: 22، يعني وأشباههم وأعوانهم، فقال الثوري رحمه الله: يقال يوم القيامة ليقم ولاة السوء وأعوانهم، قال: فمن لاق لهم دواة أو بَرى لهم قلماً أو حمل لهم لبداً أو أعانهم على أمر فهو معهم، وجاء رجل إلى ابن المبارك فقال: إني خياط وربما خطت شيئاً لبعض وكلاء السلطان فماذا ترى أكون من أعوان الظلمة؟ قال: لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الإبر والخيوط، وكان بعض العلماء قد جلس في ديوان بعض الأمراء فكتب الأمير كتاباً فقال: ناولني الطين أختم به الكتاب، فامتنع فقال: ناولني الكتاب الذي كتبته حتى أنظر فيه، فلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 يناوله، وفعل مثل ذلك سفيان الثوري مع المهدي فكان بيد المهدي درج أبيض وقد أدخل عليه الثوري فقال له: يا أبا عبد الله أعطني الدواة حتى أكتب، فقال: أخبرني بأيّ شيء تكتب، فإن كان حقّاً أعطيتك وإلاّ كنت عوناً على الظلم، وكان بمكة أمير قد أمر رجلاً أن يقوم له على الصناع في عمارة ثغر من الثغور قال: فوقع في نفسي من ذلك شيء، فسألت سفيان عن ذلك فقال: لا تفعلنّ ولا تكنّ عوناً لهم على قليل ولا كثير، فقلت: يا أبا عبد الله سور في سبيل الله تعالى للمسلمين فقال: نعم ولكن أقل ما يدخل عليك أن تحبّ بقاءهم ليوفونك أجرتك، فتكون قد أحببت من بغض الله عزّ وجلّ، وقد جاء في الخبر: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبَّ أنْ يعصي الله عزّ وجلّ. وفي الحديث: أنّ الله ليغضب إذا مدح الفاسق، وفي خبر آخر: من أكرم فاسقاً فكأنما أعان على هدم الإسلام، وليجتنب هذا السوقي البيوع الفاسدة مثل بيع الغرر والخطر والمجهول، ومثل بيعتين في بيعة، أحدهما مصارفة أو مشارطة، ولا يبيع ما ليس عنده ولا ما اشتراه حتى يقبضه، ولا يبيع الدين بالدين ولا يتبايعان الثمار حتى يبدو صلاحها ويؤمن عليها العاهة، ومن النخيل حتى تحمّر أو تصفرّ، ومن العنب حتى يلين أو يسود، ونهى، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النجش، وهو أن يعطي بسلعة شيئاً وهو لا يريد أن يشتريها بشئ ليغرّ غيره بها، ولا يبتاع شيئاً من ذهب وخرز مثل القلادة ونحوها حتى يفصل كل واحد على حدته، كذلك السنّة، ولا يتبايعان ما لم يظهر من الحيوان والثمار، ويجتنب القبالات مسانهة إلاّ شهراً بشهر أو سنة، فقد كره ذلك، وليتوقّ كل بيع وشراء أخبر العلم ببطلانه من دخول ربا فيه أو خروج من حكم العلم به، فإن ذلك كله منقصة للدين، مخبثة للكسب، فإن أشكل عليه شيء من هده الأمور لخفائها سأل أهل العلم والفتيا فيأخذ عنهم على مذهب الورعين ورأي المتّقين، وليحتط لدينه، ولينظر لنفسه ولا يغمض في أمر آخرته، فذلك خير له وأحسن توفيقاً، وليجتنب الصنائع المحدثة من غير المعروفة والمعايش المتبدعة في زماننا هذا، فإن ذلك بدعة ومكروه إذا لم يكن فيما مضى من السلف، وكلما كان سبباً للمعصية من آلة وأداة فهو معصية، فلا يصنعه ولا يبيعه، فإنه من المعاونة على الإثم والعدوان، وكلما أخذ من المال على عمل بدعة أو منكر فهو بدعة ومنكر، وكل معين لمبتدع أو عاص فهو شريكه في بدعته ومعصيته، وأخذ المال على جميع ذلك من أكل المال بالباطل، ومن أكل الحرام فقد قتل نفسه وقتل أخاه لأنه أطمعه إياه، قال الله تعالى: (ولا تأكُلُوا أَمْوالُمْ بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ) البقرة: 188، وقال تعالى: (ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) النساء: 29، وليس هذا من سبيل المؤمنين، وقد قال الله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنينَ نُوَلّهِ ما تَوَلىّ وَنُصْلِهِ جَهَنّّمَ) النساء: 115، ولا ينبغي للسوقي أن يشغله معاش الدنيا عن الآخرة، ولا تقطعه تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة، ولا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة، لأنه من الموقنين، وبيوت الله عزّ وجلّ في الأرض هي أسواق للآخرة، قال الله عزّ وجلّ: (رِجَالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ) النور: 37، وقال الله عزّ وجلّ: (في بُيُوتٍ أذِنَ الله أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ يُسَبِّح لَهُ فيها بِالغُدُوِّ والآصالِ) النور: 36، رجال، فليجعل العبد طرفي النهار لخدمة سيده يذكره ويسبحه في بيته بحسن معاملته. وقد كان عمر رضي الله عنه يأمر التجار فيقول: اجعلوا أول نهاركم لله عزّ وجلّ وما سوى ذلك لنفوسكم، وفي أخبار السلف كانوا يجعلون أول النهار للآخرة وآخره لدنياهم، ويقال: إنّ الهريسة والرؤوس لم يكن يبيعها في الشتاء إلاّ الصبيان وأهل الذمة لأن الهراسين والرآسين يكونون في المساجد إلى طلوع الشمس، ويقال إنهم: كانوا يجتمعون في المساجد بعد العصر للذكر والتسبيح حتى يدخل الرجل فيقول: أصلّيتم العصر؟ يظن أنهم قعود للصلاة، وإنما كانوا يقعدون للتسبيح إلى غروب الشمس وهذا طريق قد درس، فمن عمل به فقد كشفه، وقال بعض العارفين: الناس ثلاثة، رجل شغله معاده عن معاشه فتلك درجة الفائزين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك درجة الناجين، ورجل شغله معاشه عن معاده فهو حال الهالكين، وقال عالم فوقه: من أحبّ الله عاش ومن أحبّ الدنيا طاش، والأحمق يغدو ويروح في لاش، وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا دخل السوق يقول: اللهم إني أعود بك من الكفر والفسوق ومن شرّ ما أحاطت به السوق، اللهم إني أعوذ بك من يمين فاجرة وصفقة خاسرة، ولذكر الله عزّ وجلّ في السوق ما لا يجد في سواه فيلعتمد ذكر الله تعالى ساعات الغفلة وحين تزاحم الناس في البيع والشراء، وكان الحسن يقول ذاكراً لله في السوق: يجيء يوم القيامة وله ضوء كضوء القمر وبرهان كبرهان الشمس ومن استغفر الله في السوق غفر له بعدد أهله. وفي الخبر العام: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل عن الفارين وكالحي بين الأموات، وفي الخبر الخاص: من دخل السوق فقال: لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألفي ألف حسنة، وكان ابن عمر ومحمد بن واسع رضي الله عنهم، يدخلان السوق قاصدين يذكران الله عزّ وجلّ طلباً للفضيلة، وفإن دخلت سوقاً أو كنت فيه فلا يفوتنّك التهليل والذكر فهو عمل وقتك، ولا تقعدن في السوق لغير ذكر الله أو غير معاش، فقد كره ذلك، وإذا سمعت التأذين للصلاة فلتأخذ في أمر الصلاة ولا تؤخرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 عن الجماعة وإلاّ كان فاسقاً عند بعض العلماء، إلاّ أن يكون في الوقت سعة أو يكون ناوياً للصلاة في جماعة أخرى في مسجد آخر، فإدراكه لتكبيرة الإحرام في الجماعة أحبّ إليه من جميع ما يربح من الدنيا إلى أنْ يموت، وفوتها أشدّ عليه من جميع ما يخسر من الدنيا، هذا إن عقل وأبصر تبينّ له ذلك، وقد كان السلف من أهل الأسواق إذا سمعوا الأذان ابتدروا المساجد يركعون إلى وقت الإقامة، وكانت الأسواق تخلو من التجار، وكان في أوقات الصلاة معايش للصبيان وأهل الذمة، وكانوا يستأجرونهم التجار بالقراريط والدوانيق يحفظون الحوانيت إلى أوان انصرافهم من المساجد، وهذه سنّة قد عفت من عمل بها فقد نعشها، وجاء في تفسير قوله عزّ وجلّ: (رِجَالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزّكاةِ) النور: 36، قيل: كانوا حدادين وخرازين وكان أحدهم إذا رفع المطرقة أو غرز الأشفا فسمع الأذان لم يخرج الأشفا من الغرزة ولم يرفع المطرقة رمى بها وقاموا إلى الصلاة. وروينا عن وهب قال: قال مالك رضي الله عنه في رجل باع بعد النداء يوم الجمعة: يفسخ ذلك البيع، قيل: عامل ترك القيام إليها وهو حر: قال: يستغفر ربه، وقال ربيعة: ظلم وأساء وقال مالك: يحرم البيع حتى يخرج الإمام يوم الجمعة، وليجتنب الصانع عمل الزخرف من الأشياء وما يكون فيه لهو وزينة من التصاوير والنقوش وتخريم العاج ودقائق النقوش من العاج وتشييد الجص والتزويق بالأصباغ المشهاة، فإن عمل ذلك مكروه وأخذ الأجرة عليه شبهة، وقد كان بعض السلف يقول: تخيّروا لأولادكم الصنائع، وروي عن حذيفة: أنّ الله عزّ وجلّ خلق كل صانع وصنعته، وقد كانوا يكرهون بيع الطعام وبيع الدقيق، وقد روي في كراهة بيعها حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الخبر: أنّ الله عزّ وجلّ يحب العبد الحاذق في صنعته، وفي خبر آخر: أنّ الله عزّ وجلّ إذا عمل عبده عملاً أحبّ أنْ يحكمه، وفي لفظ آخر: أن يتقنه، وأوصى بعض العارفين رجلاً فقال: لا تسلم ولدك في بيعتين ولا في صنعتين، بيع الطعام وبيع الأكفان، فإنما يتمنى الغلاء ويتمنى موت الناس، والصنعتان أن يكون جزاراً فإنها صنعة تقسي القلب، أو صوّاغاً فإنه يزخرف الدنيا بالفضة والذهب. وروى عثمان الشحام عن ابن سيرين أنه كره الدلالة، وسعيد عن قتادة أنه كره أجر الدلال، وكانت العرب تقول: بعْ الحيوان واشترِ الموتان كأنهم كرهوا ردّ الثمن في الحيوان لما يخافون من تفله واستحبوا شراء الموات وهو ما لا روح فيه، وقد كانوا يستحبون التجارة في البز، قال ابن المسيب: ما من تجارة أحبّ إليّ من البزاز إن لم يكن فيه إيمان، وقد روي خبراً آخر: لو اتّجر أهل الجنة لاتّجروا في البزّ، ولو اتّجر أهل النار لاتّجروا في الصرف، وقد كره الحسن وابن سيرين رضي الله عنهما التجارة في الصرف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وسئل الحسن عن الصيرفي فقال: الفاسق لا تستظلنّ بظله ولا تصلّين خلفه، والبستاني والحمّال والملاح وصاحب الحمام والخشاش والمزين وقد كانت هذه الصنائع العشر أعمال الأخيار والأبرار الخرز والتجارة والحمل والخياطة والحذو والقصارة وعمل الخفاف وعمل الحديد وعمل المغازل وصيد البر والبحر والوراقة. وحدثونا عن عبد الوهاب الورّاق قال: قال لي أحمد بن حنبل: ما صنعتك؟ فقلت: ورّاق، فقال: كسبك طيب وصنعتك طيبة ولو كنت صانعاً شيئاً بيدي لصنعت صنعتك، وقال لي: لا تكتب إلاّ مواصفة واستثن الحواش وظهور الأجزاء، وكان مالك بن دينار ورّاقاً وكان السلف يستطيعون كسبه وبفضلونه، وكل عمل يتقربّ به إلى الله عزّ وجلّ ويكون من أعمال الآخرة ومن البرّ المعروف، فأخذ الأجر مكروه عليه مثل تعليم القرآن، وتعليم العلم، أو مجالس الذكر والصلاة بالناس في رمضان، وغسل الموتى، وما كان في هذا المعنى، لأن هذه تجارات الآخرة، فلا تأخذ أجرها إلاّ من الآخرة، ومن أخذها من الدنيا فقد خسر خسراناً مبيناً إذا ربح المحتسبون فيها وأخذوا أجورهم التي صبروا عليها في دار الدنيا، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان بن أبي العاص: واتّخذ مؤذناً لا تأخذ على الأذان أجراً. ورووي عنه في فضل الاحتكار: من جلب طعاماً ما فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به، وفي لفظ، آخر: فكأنما أعتق رقبة، ومن العلماء من كان يجعل الاحتكار في كل مأكول من الحبوب والأدام مثل العدس والباقلا والسمن والعسل والشيرج والجبن والتمر والزيت، ويكره احتكار جميع ذلك، وروي نحو هذا عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يُرِدْ فيهِ بإلحَاد بِطُلْم نُذِقْهُ منْ عَذابِ أليمٍ) الحج: 25، قيل: الاحتكار من الظلم، وحدثونا عن بعض السلف أنه كان بواسط فجهز سفينة حنطة إلى البصرة وكتب إلى وكيله: مع هذا الطعام في يوم تدخل البصرة فلا تؤخره إلى غد، قال: فوافق السعر فيه سعة، قال له التجار: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافاً فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا قد كنا قنعنا أن نربح الثلث مع سلامة ديننا وإنك قد خالفت أمرنا وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي فخذ المال كله فتصدّق به على فقراء أهل البصرة وليتني أنجو من الاحتكار كفافاً لا عليّ ولا لي. وحدث شيخنا عابد الشط مظفر بن سهل قال: سمعت غيلان الخياط يقول: اشترى سري السقطي كرّ لوز بستين ديناراً وكتب في رونامجه ثلاثة دنانير ربحه، فصار اللوز بتسعين ديناراً، فأتاه الدلاّل فقال له: إنّ ذلك اللوز أريده، فقال: خذه، فقال: بكم؟ قال: بثلاثة وستين ديناراً، قال له الدلاّل: إنّ اللوز قد صار الكرّ بسبعين ديناراً، قال له السري: قد عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله لست أبيعه إلاّ بثلاث وستين ديناراً، قال له الدلاّل: وأنا قد عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله، أن لا أغشّ مسلماً، لست آخذ منك إلاّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 بسبعين ديناراً، قال: فلا الدلاّل اشترى منه ولا سري باعه، وحدثونا عن رجل من التابعين كان بالبصرة له غلام بالسوس فجهز إليه السكر فكتب إليه الغلام: إن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة فاشتر السكر قال: فاشترى سكّراً كثيراً، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفاً، قال: فانصرف بها إلى منزله فأفكر ليله في الربح فقال: ربحت ثلاثين ألفاً وخسرت نصح رجل من المسلمين، فلما أصبح غدا إلى الرجل الذي كان اشترى منه السكر فدفع إليه الثلاثين ألفاً فقال: هذه لك بارك الله لك فيها، قال: ومن أين صارت؟ قال: لما اشتريت منك؛ السكر لم آتِ الأمر من وجهه، إنّ غلامي قد كان كتب إليّ أنّ قصب السكّر أصابته آفة فلم أعلمك ذلك ولعلك لو علمت لم تكن تبيعني، فقال: رحمك الله قد أعلمتني الآن، وقد طيبتها لك، قال: فرجع إلى منزله فبات تلك الليلة ساهراً أو جعل يتفكر في ذلك ويقول: لم آتِ الأمر من وجهه ولم أنصح مسلماً في بيعه لعله استحيا مني فتركها لي فبكر إليه من الغد فقال: عافاك الله خذ مالك فهو أصلح لقلبي، قال: فدفع إليه ثلاثين ألفاً، وقال سليمان التميمي: لقد ترك محمد بن سيرين أربعين ألف درهم من شيء حاك في صدره، لم تختلف العلماء أن ليس به بأس. ويقال: إنّ هذا كان سبب غلبة الدين عليه، ثم ليتّق البائع مدح السلعة وتنفيقها من خرف الكلام وليحذر المشتري ذمها وعيبها بما ليس فيها للخداع، وأما الإيمان على ذلك فهو معصية وممحقة للكسب، وقد كان السلف يشددون في ذلك، قال أبو ذر: كنا نتحدث أنّ من نفر لا ينظر الله إليهم، التاجر الفاجر، وكنا نعد من الفجور أن يمدح السلعة بما ليس فيها، قال يونس بن عبيد: وكان خزازاً فجاءه رجل يطلب ثوب خز، فأمر غلامه أن يخرج رزمة الخز، فلما فتحها قال الغلام: أسأل الله الجنة، فقال شدّ الرزمة، ولم يبع منها شيئاً خشية أن يكون قد مدح، ويقال: إنه كانت عنده حلل على ضربين أثمان ضرب منها أربعمائة كل حلة، وأثمان الآخر مائتان، فذهب إلى الصلاة وخلف ابن أخيه ليبيع فجاءه أعرابي يطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها منه ومشى بها هي على يده ينظر إليها خارجاً من السوق فاستقبله يونس بن عبيد خارجاً من المسجد فعرف حلته فقال بكم أخذت هذه الحلة؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تسوي إنما قيمتها مائتان فقال: يا ذا الرجل إنّ هذه تساوي ببلدنا خمسمائة درهم، فقال له يونس: إنّ النصح في الدين خير من الدنيا كلها ثم أخذ بيده فرده إلى ابن أخيه فجعل يخاصمه ويقول: أما اتقيت الله؟ أما أستحيت أن تربح مثل الثمن وتترك النصح لعامة المسلمين؟ فقال: والله ما أخذه إلاّ عن تراضي، فقال: وإن رضي ألا رضيت له ما رضيت لنفسك، ثم ردّ على الأعرابي مائتي درهم، وقد فعل مثل ذلك محمد بن المنكدر وكانت عنده شقاق جنابية وبصرية أثمان بعضها خمسة خمسة، وأثمان بعضها عشرة عشرة، فخلفه غلامه في الحانوت فغلط فباع أعرابيّاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 شقة من الخمسات بعشرة، فجاء ابن المنكدر فتفقد الشقاق فعرف غلطه فقال: ويلك أهلكتنا، اذهب فاطلب الأعرابي في الأسواق، فلم يزل يطلبه يومه أجمع حتى وجده، فقال له ابن المنكدر: يا هذا إنّ الغلام غلط فباعك ما يسوى خمسة بعشرة، فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت لنفسك فإنّا لا نرضى لك إلاّ ما نرضاه لأنفسنا فاختر إحدى ثلاث خصال، إما أن تأخذ شقة من العشرات بدراهك وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد علينا شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، قال: فأعطاه من دراهمه خمسة فانصرف الأعرابي فجعل يسأل عنه فيقول: من هذا الشيخ؟ فقيل: هذا محمد بن المنكدر فقال: لا إلّ إلاّ الله هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا. وقد سئل بعض العلماء عن الورع في المبايعة فقال: لا يصحّ الورع في البيع إلاّ بحقيقة النصح، قال: وكيف ذلك؟ قال: إذا بعته شيئاً بدرهم نظرت فإن صلح لك أن تشتريه بدرهم فقد نصحته في البيع، وإن كان يصلح لك بخمسة دوانيق وقد بعته بدرهم فإنك إن لم ترضَ له ما ترضى لنفسك فقد ذهب النصح قال: فإذا عدم النصح ذهب الورع. ويقال: إنَّ البائع يوقف يوم القيامة مع كل رجل كان باعه شيئاً وقفة ويحاسب عن كل واحد محاسبة حتى عدد مَنْ عامله ومَنْ اشترى منه في الدنيا، وذكر بعضهم قال: رأيت بعض التجار في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: نشر عليّ خمسين ألف صحيفة، فقلت: هذه كلّها ذنوب، فقال: هذه معاملات الناس عدد ما كنت عاملته في الدنيا لكل إنسان صحيفة مفردة فيما بينك وبينه من أول معاملته إلى آخرها، فإن كان البائع ذا ميزان فليرجح في الوزن إذا باع وأعطاه ولينقص نفسه إذا أخذ سيما إذا كان ذا ميزانين كان الأمر عليه أشد. وكان بعضهم يقول: ألا أشتري الويل من الله بحبة؟ فكان إذا أخذ نقص نفسه بحبة وإذا أعطى زاد غيره حبة، لقوله عزّ وجلّ: (وَيْلٌ للمُطَفِّفينَ) المطففين: 1، يعني الذين رضوا بالتطفيف بالحبة والحبتين فباعوا بذلك جنة عرضها السموات والأرض لجهلهم بأمر الله تعالى وقلة يقينهم بالآخرة إذا اشتروا الويل بطوبى، ويقال: إنّ هذه المظالم لا ترد أبداً ولا تصحّ التوبة منها لتعذر معرفة أصحابها. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه اشترى شيئاً فلما وزن ثمنه قال للوزان: زن وأرجح، ونظر الفضيل بن عياض رحمه الله إلى ابنه عليّ وهو يغسل كحلاً من دينار أراد أن يصرفه فجعل ينقيه ويغسله من كحله، فقال له: يا بني فعلك هذا أفضل من عشرين حجة، وقال بعض أهل السلف: عجباً للتاجر والبائع كيف ينجو يزن ويحلف بالنهار وينام بالليل، وقال سليمان عليه السلام: كما تدخل الحية بين الحجرين كذلك تدخل الخطيئة بين المتبايعين. وحدثت أنّ بعض السلف صلّى على مخنث قد كان يجمع بين النساء والرجال وغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 ذلك، فقيل له: إنه قد كان فاسقاً وكان كذا وكذا، فسكت، فأعاد عليه القائل فسكت، قال فمه كأنك قلت لي كان صاحب ميزانين يأخذ بأحدهما ويعطي بالأخرى، هذا على التغليظ والوعظ، أراد أنّ التطفيف مظالم بين الخلق وأنّ الفسق ظلم العبد لنفسه وبين مظالم العباد وظلم العبد لنفسه بون كبير من قبل أنّ الخلق فقراء جهلة نيام فيستوفون حقوقهم لحاجتهم إليها والله عزّ وجلّ عالم كريم غني فيسمح بحقه، ولا ينبغي للمشتري أن يسأل البائع الرجحان إلاّ الله عزّ وجلّ قال: (وَأَقيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ) الرحمن: 9، أي بالعدل، وهو السواء، وهو استواء اللسان في البكرة لا مائلاً إلى إحدى الكفتين، وفي قراءة عبد الله: ولا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط باللسان ولا تخسروا الميزان فهذا مفسر في هذا الحرف ومكروه المعاملة بالمزيفة، ولا يصلح بدرهم تكون الفضة فيه مجهولة أو مستهلكة ولا بما لا تعرف قيمته وما يختلط بالفضة من غيرها فلا تمتاز منه، فقد كان بعض السلف يشدد في ذلك ويحرمه منهم الثوري والفضيل بن عياض ووهب ابن الورد وابن المبارك وبشر بن الحارث والمعافى بن عمران رضي الله عنهم، ويقال: إنّ كل قطعة من المزيفة ينفقها صاحبها يجدها ملصقة في صحيفته بعينها وصورتها مكتوب تحتها ألف سيّئة، خمسة آلاف سّيئة على قدر وزنها، ووزن ذرة منها سيّئة، والذرة نقطة من هباء شعاع الشمس في الضوء. حدثني بعض العلماء عن بعض الغزاة في سبيل الله عزّ وجلّ قال: حملت على فرسي لأتناول بعض العلوج فقصر فرسي فرجعت، ثم دنا مني العلج فحملت عليه ثانية لأتناوله فقصر فرسي، وحملت عليه ثالثة وقد قرب مني فنقر بي فرسي، ولم أكن أعتاد ذلك منه: فرجعت حزيناً، فجلست إلى جنب فسطاطي منكراً للذي فاتني من أخذ العلج، ولما اختلف عليّ من خلق فرسي قال: فوضعت رأسي على عمود الفسطاط فنمت وفرسي قائم بين يدي، فرأيت في النوم كأنّ الفرس يخاطبني ويقول لي: بالله عليك أردت أن تأخذ عليّ العلج ثلاث مرات، وأنت بالأمس اشتريت لي علفاً ودفعت في ثمنه درهماً زائفاً؟ لا يكون هذا أبداً، قال: فانتبهت فزعاً فذهبت إلى العلاّف فقلت له: أخرج إليّ الدراهم التي اشتريت بها منك بالأمس العلف، قال: فأخرجها إليّ، فأخذت منها الدرهم الزائف فقلت: إني كنت قد جوزت عليك هذا الدرهم بالأمس، قال: فأبدلته له وانصرفت، وقال عبد الوهاب: سألت بشراً عن المعاملة بالمزيفة فقال: سألت المعافى عنها فقال سألت الثوري عنها فقال حرام. وحدثنا عن أبي داود قال: سمعت أحمد أنكر التجارة والمعاملة بالمزيفة والمكحلة، وقد كان بعض علمائنا يقول: إنفاق درهم مزيف أشد من سرقة مائة درهم، قال: لأن سرقة مائة درهم معصية واحدة منقضية، وإنفاق دانق مزيف بدعة أحدثها في الدين، وإظهار سنّة سيّئة يعمل بها بعده، وإفساد لمال المسلمين، فيكون عليه وزره إلى مائة سنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 فأكثر ما بقي ذلك الدرهم يدور في أيدي المسلمين ويكون عليه، ثم أفسد ونقص من أموال المسلمين إلى آخر فنائه وانقراضه، فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه بعده مائة سنة ومائتي سنة يعذّب بها في قبره، ويسأل عنها إلى آخر انقراضها، قال الله عزّ وجلّ: (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُم) يس: 12، ما قدموا ما عملوا، وآثارهم ما سنّوه بعدهم فعمل به وقال في وصفه: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخّر، قيل: بما قدم من عمل وما أخّر من سنّة عمل بها بعده، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سنّ سنّة سيّئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها، ومثل وزر من علم بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً، وإنفاق الدرهم الرديء على من يعرف النقد أشد وأعلظ، وهو على من لا يعرف أسهل، فيكون به أعذر لأن هذا لا يتعمد الغش والآخر يتعمده ويقصده، فإنما كان المسلمون يتعلمون جودة النقد لأجل إخوانهم المسلمين لئلا يغشوهم بالرديء، وإلاّ فإنّ تعلّم النقد بلاء وإثم على صاحبه لأنّه علم علمه ولم يعلمبه، فهو يسأل عن علمه، ومن ردّت عليه قطعة فلينفقها ولا يجوزها على بيع آخر، ويحتسب بذلك الثواب من الله عزّ وجلّ، فله بذلك من الأجر بوزن كل ذرة منها حسنة، وله في طرحها أعمال كثيرة من الصوم والصلاة، فإن كان في القطعة تجوّز نقد ينصرف مثلها فأراد أن يشتري بها شيئاً فليعلم البائع الثاني أنها قد ردّت عليه، فإن أخذها على بصيرة وعن سماحة فلا بأس، فإن لم يعلمه فإنه لم ينصحه وربما كان على غير بصيرة بالنقد، فقد روي عن عمر رضي الله عنه: من زافت عليه دراهمه فليضعها في كفه ولينادِ عليها في السوق من يبيعها سحق ثوب بدرهم زائف، وهذا إذا كانت زائفة على وجهها كالصفر والرصاص كان لها قيمة مثلها، وفي قول ابن عمر رضي الله عنه لنافع: لو حفظت عني كما يحفظ عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم لكان أحبّ إليّ من أن يكون لي درهم زائف، قيل له: أفلا جعلته جيداً؟ قال: كذلك كان في نفسي. وروينا عن النخعي: إذا كان في الدرهم شيء من الفضة وإن قلّ فلا بأس به، وحدثت عن أبي داود قال: سألت إسحاق بن راهويه رحمهما الله عن إنفاق المزيفة قال: فلا بأس به، ففيه ترخيص بالإنفاق بالزائف إذا عرف ومن سمح في النقد، ويجوز في أخذ الرديء طلباً للآجر، فيما يحتسب، ثم إذا أخرج ذلك على المسلمين وجوزه عليهم بعد ذلك فقد أثم في سماحته وتشديده حينئذ، ونقصه في أخذ الجيد أفضل، وهذا من دقائق الأعمال وباطن الشر في ظاهر الخير، اللهم إلاّ أن يأخذ الرديء ثم يلقيه ولا يخرجه إلى أحد، فإن فعل هذا كان فاضلاً محتسباً محسناً في سماحته وله باحتسابه ذلك مثوبة وأجر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 فينبغي للتاجر أن يكثر من الصدقة ليكون فيها كفّارة خطاياه وإيمانه وكذبه، فقد أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التاجر بالصدقة، لذلك فينبغي للتاجر والصانع أن يكونا مستعملين لهذه الخصال، فإنها جامعة له تشتمل على جمل أعمال البرّ، فليأخذوا أنفسهم بها فإنها من أخلاق المؤمنين وطرائق المتقدمين، وقد ندبوا إلى جميعها، منها أن يسمح إذا باع، ويسمح إذا اشترى، ويحسن إذا، قضى، ويحسن إذا اقتضى، وليمشِ الرجل بدين غريمه إليه ولا يحوجه إلى اقتضائه فيشق عليه، وليصبر صاحب الدين على أخيه ويحسن تقاضيه، ويحسن له النظرة ويؤخر حقه إلى ميسرته، وليغتنم دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم على ذلك فينافسوا في مدحه لمن فعل ذلك، فقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إسمح يسمح لك، وقال: خير الناس أحسنهم قضاء، وقال: خذ حقك في عفاف وافياً كان أو غير وافٍ يحاسبك الله حساباً يسيراً، وقال: رحم الله عبداً سمح البيع سمح الشراء حسن القضاء حسن الاقتضاء، وقال: من مشى إلى غريمه بحقه أظلته الملائكة، وقال: من أنظر معسراً أو ترك له حاسبه الله حساباً يسيراً، وفي خبر آخر: أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلاّ ظله، وذكر عليه السلام رجلاً كان مسرفاً على نفسه حوسب فلم يجد له حسنة فقيل له: هل عملت خيراً قط؟ فقال: لا، إلاّ إني كنت رجلاً أداين الناس وأقول لغلماني سامحوا الموسر وانظروا المعسر، وفي لفظ آخر: وتجاوزوا عن المعسر، قال الله عزّ وجلّ: (نحن أحق بذلك منك فغفر له) وفي خبر آخر: من أقرض ديناً إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله فإذا حلّ الأجل فانظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقة، وفي حديث: من أدان ديناً وهو ينوي قضاءه وكّل به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه، وكان جماعة من السلف يدانون وهم واجدون لأجل هذا الخبر، وكان جماعة لا يحبون أن يقضيهم غرماؤهم دينهم لأجل ذلك الخبر الأوّل إذ له بكل يوم تأخر قضاء صدقة. وفي الحديث: رأيت على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، قيل: معناه لأن الصدقة تقع في يد محتاج وغيره، والقرض لا يقع إلاّ في يد محتاج مضطر إليه، ونظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجل يلازم رجلاً بدين عليه فأومأ إلى صاحب الدين بيده: ضع الشطر ففعل، فقال للمديون: قم فأعطِ، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أدان ديناً إلى أجل فجاءه صاحب الدين عند حلول الأجل ولم يتفق عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل الرجل يكلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويشدد عليه الكلام فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، واستحبّ أن تكون أكثر معاونة الإنسان بين البائعتين مع المشتري منهم، واستحب أيضاً أن يكون عونه بين المتداينين مع الذي له الدين، إلاّ أن يعتدي من له الدين أو يعتدي المشتري فيكون حينئذ على المشتري، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المستبان بالسّئة ربا والمستبان ما قالا، فعلى المعتدي منهما ما لم يعتد المظلوم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 ويسير المغابنة في التجارات جائز، فإن موضوع التجارة على الغبن إذا كان عن تراضٍ، فإذا تفاوتت القيمة وعلم الغبن فمكروه، وقد يروى في حديث أنّ غبن المستغفل حرام، وفي حديث: فيه مقال المغبون لا محمود ولا مأجور، هذا والله أعلم إذا تغابن وهو يعلم فيخسر نفسه حقّه وحمل غيره على ظلمه، وكان إياس بن معاوية قاضي البصرة من علماء الزمان ومن عقلاء التابعين وكانت لأبيه صحبة كان يقول: لست بخب والخب لا يغبن يعني محمد بن سيرين، ولكن يغبن الحسين ومعاوية بن قرة، وكان الزبير بن عديّ يقول: أدركت ثمانية عشر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما منهم رجل يحسن يشتري لحماً بدرهم. وقد روي أنّ الحسن باع بغلاً له بأربعمائة درهم، فلما استوجب المال قال له المشتري: اسمح يا أبا سعيد، قال: قد أسقطت عنك مائة قال له المشتري: فأحسن يا أبا سعيد، قال: قد وهبت له مائة أخرى فنقص من حقه مائتي درهم، وفي رواية أخرى قال: أحسن، قال: وهبت لك مائتي درهم، فقيل له: يا أبا سعيد هذا نصف الثمن، فقال: هكذا يكون الإحسان وإلاّ فلا، وقد كان الحسن والحسين رضي الله عنهما وغيرهما من خيا رالسلف يستقصون في الاشتراء ثم يهبون مع ذلك الجزيل من المال فقيل لبعضهم: تستقصي في شرائك على اليسير ثم تهب الكثير ولا تبالي، فقال قائلهم: إنّ الواهب يعطي فضله وإن المغبون يغبن عقله، وقال آخر: إنما أغبن وبصيرتي، أو قال: معرفتي، ولا أمكن الغابن من ذلك، وإذا وهبت فإنما أعطى لله عزّ وجلّ فلا استكثر له شيئاً والأخبار في هذه المعاني تكثر والفضائل فيها تطول، ولم نقصد جمع ذلك، فقد ذكرنا جملة وهذا كله داخل في البرّ والتقوى ومن العدل والإحسان، ومن تطوع الخير وفعل المعروف فقد أمر الله بذلك في مواضع من كتابه، وينبغي أن يستعمل النصح في البيع والشراء وفي الصنعة ويستوي عملهما في المبيع والمشترى والمصنوع ويفطن كل واحد منهما صاحبه بعيب إن كان في السلعة وينقص إن كان في الصنعةإن لم يفطن المشتري لذلك والمستعمل ليتكافأ العلمان ويثني كل واحد منهما على صاحبه بإحسان، وفي الخبر: البيعان إذا صدقا ونصحا بورك لهما في بيعهما وإذا كذبا وكتما أنزعت بيعهما، وفي حديث آخر: يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا، فإذا تخاونا رفع يده عنهما، ولما بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جريراً، على الإسلام ذهب لينصرف جذب ثوبه، واشترط عليه النصح لكل مسلم، قال: فكان جرير إذا أقام السلعة ليبيعها بصر عيوبها ثم أخبر: فقال: إنّ شئت فخذ وإن شئت فاترك، فقلنا له: رحمك الله، إنك إذا قلت هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: إنما بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النصيحة لأهل الإسلام، وكان واثلة بن الأسقع واقفاً بالناس في الكوفة فباع رجل ناقة بثلاثمائة درهم وغفل واثلة، وقد ذهب الرجل بالناقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 فسعى وراءه وجعل يصوت به حتى رجع، وقال: يا هذا أَللحم اشتريت هذه الناقة أمْ للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: فإن بحقها نقناً قد رأيته وإنها لا تتابع السير عليه، قال: فردّها، فنقصه البائع مائة درهم، فقال لواثلة: رحمك الله أفسدت عليّ بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحلّ لأحد يبيع شيئاً إلاّ يبين ما فيه ولايحلّ لمن يعلم ذلك إلاّ يبينه، فانظر رحمك الله إلى النصح للمسلمين الذي يتعذر فعله علي كثير من المسلمين، إنما جعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شرط صحة الإسلام وكان يبايع عليه، إلاّ إنه جعله من فضائل الدين، ولا نهاية لقرب المتّقين، لأنه قال: الدين النصيحة الدين النصيحة ثلاثاً، ثم سوّى بين طبقات الناس فيه فقال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم. وقد روي في خبر مشهور: لا تزال لا إله إلاّ الله تدفع عن الخلق سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم، وفي خبر آخر: ما لم يبالوا ما نقص من دنياهم بسلامة دينهم، فإذا فعلوا ذلك وقالوا: لا إله إلاّ الله، قال الله سبحانه: كذبتم لستم بها صادقين وفي لفظ آخر: ردّت إليهم، في خبر: كأنه مفسر لحديث مجمل: من قال لا إله إلاّ اللهه مخلصاً دخل الجنة، قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تحرزه عمّا يحرم الله، وخبر مشهور: ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه، وقد روينا عن بعض التابعين: لو دخلت هذا الجامع وهو غاص بأهله فقيل له: من خير هؤلاء؟ لقلت: نصحهم لهم، فإذا قالوا هذا قلت: هو شرهم، والغش في البيوع والصنائع محرم على المسلمين، ومن كثر ذلك منه فهو فاسق، ومن الغش أن ينشر على المشتري أجود الطرفين من المبيع، أو يظهر من المبيع أجود الثوبين، أو يكشف من الصنعة أحسن الوجهين، روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرّ برجل يبيع طعاماً فأعجبه ظاهره فأدخل يده فرأى بللاً فقال: ما هذا؟ فقال: أصابته السماء، فقال: هلاّ جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غش فليس مني. وفي حديث عبد الله بن أبي ربيعة: أنه مرّ على طعام مصير فارتاب منه فأدخل يده فإذا طعام ممطور، فقال: ما هذا؟ فقال: هذا والله طعام واحد يا رسول الله، فقال: هلاّ جعلت هذا وحده حتى يأتوك فيشترون شيئاً يعرفونه مَنْ غشّنا فليس منا، وحدثني بعض إخواننا أنّ رجلاً حذاءً سأل: فكيف أسلم في بيع النعال؟ فقال: استجد الأوّل وليكونوا سواء واجعل الوجهين شيئاً واحداً لا يفضل اليمين وجود الحشو، وقارب بين الخرز ولا تطبق أحد النعلين على الأخرى، فينبغي للبائع والصانع أن يظهرا من البيع والمصنوع أردأ ما فيه وأرذله، ليقف المشتري والصانع على عيوبه، ويكونا على بصيرة من باطنه، وباع ابن سيرين شاة له فقال للمشتري: أبرأ إليك من عيب فيها قال: وما هو: قال: تقلب العلف برجلها، وباع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 الحسن بن صالح جارية فقال للمشتري إنها قد تنخمت مرة عندنا دماً، ويبين دقائق الإعلام والبيان في ذلك مما لا يعلمه المشتري أو المستعمل، فهو من النصح والصدق، وذلك يكون عن التقوى والورع في البياعات والإجارات ويكون الكسب عن ذلك أحلّ وأطيب فليجتنب المسلم محرم ذلك كله وكل مكروه، فهذه سيرة السلف وطريقة صالحي الخلف، وأستحب له أن يتوخى في الشراء والبيع، ويتحرى أهل التقوى والدين، ويسأل عمن يريد أن يبايعه ويشاريه وأكره له معاملة من لا يرغب عن الحرام أو من الغالب على ماله الشبهات. وحدثت عن محمد بن شيبة أخت ابن المبارك قال: كتب غلام ابن المبارك إليه: أنّا نبايع أقوماً يبايعون السلطان، فكتب إليه ابن المبارك إذا كان الرجل يبايع السلطان وغيره فبايعه، وإذا قضاك شيئاً فاقبض منه إلاّ أن يقضيك شيئاً تعرفه بعينه حراماً فلا تأخذه وإذا كان لا يبايع إلاّ السلطان فلا تبايعه. وحدثنا عن بعض الشيوخ عن شيخ له من الخلف الصالح قال: قال أتى على الناس زمان كان الرجل يأتي إلى مشيخة الأسواق فيقول: من ترون لي أن أعامل من الناس من أهل الصدق والوفاء؟ فيقال له: عامل من شئت، ثم أتى عليهم وقت آخر فكان الرجل يقول: ترون لي أن أعامل من الناس؟ فيقال: عامل من شئت إلاّ فلاناً وفلاناً قال: ونحن في زمن إذا قيل لنا: من نعامل من الناس؟ فيقال: عامل فلان بن فلان وأخشى أن يأتي على الناس زمان يذهب فلان بن فلان أيضاً، ولا يحلف ولا يكذب ولا يخلف موعداً، فإنّ اليمين الكاذبة ممحقة للكسب، وقد قيل: ويل للتاجر من يقول: لا والله، وبلى والله، وويل للصانع من اليوم وغد وبعد غد، أبو عمرو الشيباني عن أبي هريرة قال: قال ر سول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، عبد متكبر ومنّان بعطيته ومنفق سلعته بيمينه، ولا يمدح إذا باع أو صنع صنعة ولا يذم إذا اشترى أو استعمل صانعاً، فإنّ هذا لا يزيد في رزقه ولا ينقص منه تركه، وهذا من اليقين في الرزق في هذا الباب، وفعله يزيد في الذنوب فينقص من الدين، وعلى الصانع أنْ يبلغ غاية النصح في صنعته لمستعمله لأنه أعرف بصلاح صنعته وفسادها وبسرعة فناء الصنعة وكثرة بقائها، فينبغي أن يتقن نهاية علم الصانع بصلاح الصنعة وحسن بقائها مع نهاية بغية مستعمله من تجويدها وأحكامها، ويتّقي من فساد يسرع إلى فنائها ما لا يفطن له مستعمله، فإذا فعل الصانع والتاجر ذلك كانا قد عملا بعملهما وسلما من المطالبة والمساءلة عنه، وإلاّ فهما يسألان فيقال لهما: ماذا عملتم فيما علمتم؟ إذ كانوا على علم من التجارة والصناعة وبهذه الأشياء عمارة المملكة، فلا بدّ أن يُسألا عن ذلك كما يسأل من كان على علم من الدين والإيمان، لأن لهم في علوم العقل والتمييز من أبواب الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 أحوالاً أيضاً ومقامات من حيث كان عليهم في ذلك تكليف وعبادات، ويقال: إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر وأصحابه في السفر ومعاملوه في الأسواق فلا تشكّوا في صلاحه، وشهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشهادة فقال: ائتني بمن يعرفك، فأتاه رجل فأثنى عليه خيراً. فقال له عمر رضي الله عنه: أنت جاره الأدنى الذي تعرف مدخله ومخرجه قال: لا قال: فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق قال: لا قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذي يتبين به ورع الرجل قال: لا قال: أظنك رأيته قائماً في المسجد يصلي يخفض رأسه طوراً ويرفعه له زمرة بالقرآن قال: نعم، قال: اذهب فلست تعرفه فقال مرة: أنت القائل ما لا تعلم ثم قال للرجل: اذهب فائتني بمن يعرفك، وقد كال من سيرة السوقة فيما سلف أنه كان للبائع دفتران للحساب أحدهما ترجمته مجهول، فيه أسماء من لا يعرفه من الفقراء الضعفاء، وذلك أنّ المسكين والضعيف كان يرى المأكول فيشتهيه أو يحتاج إليه ولا يمكنه أنْ يشتريه فيقول للبائع: أحتاج إلى خمسة أرطال من هذا أو عشرة وليس عندي ثمنه فيقول: خذ إلى ميسرة فإذا رزقت فاقضِ، ويكتب اسمه في الدفتر المجهول قال: ولم يكن من يفعل هذا من خيار المسلمين بل كان الخير من الباعة من لا يكتب اسمه في دفتره ولا يجعله ديناً حتماً عليه ولا مظلمة عنده، ولكن يقول: خذ حاجتك مما تريد فإن وجدت فاقضني وإن لم تجد فأنت في حل، لا تضيقن قلبك لذلك، وهذا طريق قد مات فمن قام به فقد أحياه فكان مثل هؤلاء في المتقدمين أكثر من أنْ يسعهم كتاب، وكان من ينصح دقائق النصح وشدد على نفسه غاية التشديد وسمح لإخوانه نهاية الجود أكثر من ذلك، وإنما ذكرنا هؤلاء لتنبيه الغافلين على أعمالهم ونكشف بعض ما عفا من طريقهم، ولم يكن هؤلاء المذكورون من السوقة من خيار الناس كلهم إنما كان الأخيار المسجدية العباد والنساك المنقطعون إلى الله الزهاد، فإذا حصلت كفاية السوقي في بعض يومه فليجعل بقيته لأخيه، فقد كان بعض السلف منهم من ينصرف من حانوته بعد صلاة الظهر ويجعل نصف يومه لربه، ومنهم من ينصرف بعد العصر فيكون آخر يومه لآخرته. وكان بعضهم إذا حصلت كفايته في يومه وتأتي قوت عياله في أي وقت من نهاره غلق حانوته وانصرف إلى منزله أو مسجده يتعبد بقية يومه، وكان منهم من إذا ربح دانقاً أو قيراطاً انصرف قناعة وزهداً أو قلة حرص على الدنيا، وأعجب من ذلك ما سمعت عن حماد بن سلمة أنه كان يبيع اللحم في سفط بين يديه، فكان إذا ربح حبتين رفع سفطه وانصرف. وقال إبراهيم بن يسار: قلت لإبراهيم بن أدهم أمر اليوم أعمل في الطين فقال: يا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 ابن يسار إنك طالب ومطلوب يطلبك ما لا تفوته وتطلب ما لا يفوتك، أما رأيت حريصاً محروماً وضعيفاً مرزوقاً؟ فقلت: إنّ لي دانقاً عند البقال فقال عزّ عليّ بك تملك دانقاً وتطلب العمل، وقد كان كثير من الصناع يعمل نصف يومه وثلثي يومه ثم يأخذ ما استحقه من كفايته وينصرف إلى مسجده، ومنهم من كان يعمل في الأسبوع يوماً أو يومين ويتعبد سائر الأسبوع في خدمة سيده، وقد كانوا يجعلون أول النهار وآخره للآخرة في تجارة المعاد والمرجع، ويجعلون وسط النهار لتجارة الدنيا، وفي الخبر: أنّ الملائكة إذا صعدت بصحيفة العبد من أول النهار ومن آخره فيها خير وذكر كفر الله عزّ وجلّ عنه ما بينهما من سيّئ العمل، وفي الخبر: يلتقي ملائكة الليل والنهار، عند طلوع الفجر تنفرج ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار، وعند صلاة العصر فتنزل ملائكة الليل وتنفرج ملائكة النهار فيقول الله عزّ وجلّ: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون وجئناهم يصلّون فيقول الله سبحانه وتعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، وقد كان عليّ رضي الله عنه يمرّ في سوق الكوفة ومعه الدرة وهو يقول: يا معشر التجار، خذوا الحق وأعطوا الحق، تسلموا ولا تردوا قليل الربح فتحرموا أكثر ما منع من حق إلاّ ذهب أضعافه في باطل، وقيل لعبد الرحمن بن عوف: ما كان سبب يسارك؟ فقال: ثلاث، ما رددت ربحاً قط ولا طلب مني حيوان وأخرت بيعه ولا بعت بنسإ، ويقال إنه باع ألف ناقة فربح عقلها وباع كل عقال بدرهم فربح فيها ألفي درهم، ألف أخذها وألف نفقة عليها في يومها، وقد كان الورعون يكرهون ركوب البحر للتجارة ويقال: من ركب البحر للتجارة فقد استقصى في طلب الرزق، وفي الخبر لا يركب البحر إلاّ حاجٍ أو غازٍ أو معتمر، وعن زيد بن وهب عن عمر رضي الله عنه كان يقول: ابتاعوا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة وثمروها لهم بالأرباح، وإياكم والحيوان فإنه ربما هلك، وإياكم ولجج البحر اتجروا لهم فيها مالاً. وكان عمرو بن العاص يقول: لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر خارج فإنّ بها باض الشيطان وفرخ، وروينا عن معاذ وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنّ إبليس قال لولده زلنبور: يا زلنبور سِرْ بكتابيك وأنت صاحب السوق زين الحلف والكذب والخديعة والمكر والخيانة والخلف، وكنْ مع أول داخل وآخر خارج منها. وروينا عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهي أن يدخل السوق أوائل النهار وأن يخرج منها آخر أهلها، فإذا كان المتسبب في المعاش والمتصرف في الأسواق على هذه الأوصاف المحمودة بهذه الشروط الموصوفة قائماً بحكم حاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 حافظاً لمقامه فإنه في سبيل من سبل الله عزّ وجلّ، أفعاله وآثاره حسنات وكل ما تسبب به إلى الآخرة، وكان عوناً له عليها وطريقاً له إليها فهو من الآخرة، وإذا خالف هذه الشروط ولم يستعمل العلم في أحواله وفارق التقوى في تصرفه، أو كان يسعى تكاثراً وحرصاً على الدنيا جزوعاً على ما فاته من الدنيا مستقلاً لما في يديه منها، لا يبالي ما ذهب من دينه إذا سلمت دنياه ولا يبالي من أين اكتسب وفيما أنفق، فهذا يتقلب في المعاصي والمكاره ظهر البطن متعرضاً للمقت من الله عزّ وجلّ، يعمل في البعد والهرب غير مستعد للموت ولا موقن بالحساب، أفعاله وآثاره سيّئات وترك التجارة على هذه الأوصاف المكروهة خير لهذا. ذكر ما روينا من الآثار في البيوع والصنائع وطريقة الورعين من السلف روينا عن علقمة رضي الله تعالى عنه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من جلب إلى مصر من أمصار المسلمين فباعه بسعر يومه كان له عند الله تعالى أجر شهيد، ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، وروينا عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يدخل الجنة صاحب مكس، وروينا عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أقال نادماً في بيع أقاله الله عزّ وجلّ يوم القيامة، روينا عن هشام بن عروة ذكر لمعاوية أنّ رجلاً من المعمرين من الجراهمة بالقرب منه فأحضره فقال: ممن الرجل؟ قال من جرهم قال: وكم تعد من السنين؟ قال: خمسين وثلاثمائة سنة قال: أخبرني أيّ المال أفضل؟ قال: عين خدارة في أرض خوارة تعول ولا تعال قال: ثم ماذا؟ قال: فرس في بطنها بتبعها فرس قال: فقال: الإبل والغنم لا أراك تذكرها قال: إنها لا تصلح لمثلك تصلح لمن يباشرها بنفسه. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير مال المسلم سكة مأبورة أو مهرة مأمورة، قوله سكة مأبورة يعني النخيل التي قد أبرت فهي طريق كالسكك، وقوله مهرة مأمورة يعني الخيل النواتج مأمورة كثيرة. ومن هذا قوله تعالى: (أمَرْنا مُتْرَفِيْهَاْ) الإسراء: 16 أي أكثرناهم، يقال: أمر القوم إذا كثروا، وحدثونا عن عبد الله بن أحمد قال: قدمت من عند معاوية بثلاثمائة ألف دينار وليس بيدي منها إلاّ دقيق وغنم وأثاث، ففزعت من ذلك فلقيت كعب الأحبار فذكرت له ذلك فقال: أين أنت من النخل، فإنّا نجدها في كتاب الله تعالى المطعمات في المحل الراسخات في الوحل وخير المال النخل، بائعها ممحوق ومبتاعها مرزوق، مثل من باعها ثم لم يجعل ثمنها في مثلها كمثل رماد صفوان، اشتدت به الريح في يوم عاصف ففزعت إلى النخل فابتعتها قال: وقال مروان بن الحكم لوهب بن الأسود: ما المروءة؟ قال: برّ الوالدين وإصلاح المال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 حدثت عن عبد القدوس بن عبد السلام قال: كتب إبراهيم ابن أدهم إلى عباد بن كثير: اجعل طوافك وسعيك وحجك كنومة غازٍ في سبيل الله عزّ وجلّ، فكتب عباد إلى إبراهيم: اجعل حرسك ورباطك وغزوك كنومة كاد على عياله من حله، وروينا عن العباس قال: سمعت أحمد بن ثور يقول: شيع رجل إبراهيم ابن أدهم إلى الصنوبر فقال: يا أبا إسحاق أوصيني قال: أكثر وأوجز قال: ما الحاج المعتمر ولا الغازي المرابط ولا الصائم والقائم بأفضل عندنا ممن أغنى نفسه عن الناس. وروينا عن لقمان قال لابنه: يا بني، خذ من الدنيا بلاغاً ولا ترفضها كل الرفض فتكون عيالاً على الناس. وحدثون عن شاذان قال: سألت الحسن بن حيّ عن شيء من المكاسب فقال: إن نظرت في هذا حرم عليك ماء الفرات ثم قال: طلب الحلال أشد من لقاء الزحف. وروينا عن الهيثم بن جميل قال: قال ابن المبارك: اركب البر والبحر واستغن عن الناس، قال الهيثم: ربما يبلغني عن الرجل يقع فّي فأذكر استغنائي عنه فيهون ذلك علي. وروينا عن حماد بن زيد قال: قال أيوب: كسب فيه بعض الشيء أحب إليّ من الحاجة إلى الناس. أنشدونا عن ابن أبي الدنيا قال: أنشدني عمر بن عبد الله: لنقل الصخر من قلل الجبال ... أخف عليّ من منن الرجال يقول الناس كسب فيه عار ... فقلت العار في ذل السؤال حدثنا عن موسى بن طريف قال: ركب إبراهيم بن أدهم البحر فأخذتهم ريح عاصف أشرفوا على الهلكة فقالوا: يا أبا إسحاق، أما ترى ما نحن فيه من الشدة؟ قال وهذه شدة؟ قالوا فأي شيء الشدة؟ قال الحاجة إلى الناس، وأنشدنا بعض العلماء لبعض الأدباء: لموت الفتى خير من البخل للغني ... وللبخل خير من سؤال بخيل فلا تجعلن شيئاً لوجهك قيمة ... ولا تلق مخلوقاً بوجه ذليل ولا تسألن من كان يسأل مرة ... فللفقر خير من سؤال سؤل وأنشدنا بعض الأشياخ: إذا عدت الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل ولا خير في وعد إذا كان كاذباً ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل وأنشدنا لبعضهم: إذا كنت لا بدّ مستطعماً ... فمن غير من كان يستطعم فإنّ الذي كان مستطعماً ... إذا ذكر الجوع لا يطعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 وأنشدنا لبعضهم: ما خلفت حواء أحمق لحية ... من سائل يرجو الغنى من سائل وحدثونا عن زيد بن أسلم قال: كان محمد بن مسلمة في أرض يغرس النخل، فدخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما تصنع يا محمد؟ قال: ما ترى قال: أصبت، استغنِ عن الناس يكن أصون لدينك وأكرم لك عليهم كيف، قال صاحبكم لحيحة بن الحلاج: فلن أزال عن الزوراء أعمرها ... إنّ الحبيب إلى الإخوان ذو المال روينا عن ابن مسعود قال: ما كس دون درهمك فإنّ المغبون لا محمود ولا مأجور، وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إذا قلت لصاحبك أحسن فأحسن فهو صدقة، وحدثت عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: كان إبراهيم بن أدهم ورفقاؤه في المسجد في شهر رمضان، فلما سلم الإمام قام رجل فسأل، فلم يعط شيئاً ووضعوا عشاءهم فقالوا لإبراهيم: يا أبا إسحاق ندعوه؟ قال: لا تدعوه، فبات بغير عشاء فلما كان من الغد جاء رفيق لإبراهيم فقال له: يا أبا إسحاق، رأيت الذي سأل البارحة وعلى رأسه حزمة حطب فقال: تدرون لِمَ قلت لكم: لا تدعوه سبق إلى قلبي أنه لم يسأل قبلها فكرهت أنْ أدعوه فيتكل على عشائكم، قال عبد الله: وقال رجل لإبراهيم: كيف أصبحت؟ قال: بخير ما لم يتحمل مؤونتي غيري، وعن موسى بن طريف قال: كان إبراهيم بن أدهم لا يماكس إذا عمل مع أحد، حدثونا عن يوسف بن سعيد قال: سمعت إنساناً يسأل عليّ بن بكار: أيهما أفضل، اللقاط أو التكابة؟ فقال: اللقاط فيه معروف كثير، كان سليمان الخواص يلقط ههنا عندنا وكان إبراهيم بن أدهم يؤاجر نفسه وكان حذيفة يضرب اللبن، أبو عمرو بن العلاء قال: قال الحسن: الأسواق موائد الله تعالى فمن أتاها أصاب منها، الحسن بن دينار عن قتادة قال: مكتوب في التوراة اتّقِ توق وسل تعط وأطلبْ تجد، ومكتوب في الإنجيل: ابن آدم اصبر تصبر. عن أبي خلدة عن أبي العالية قال: إذا اشتريت شيئاً فاشترِ أجوده. أبو الطفيل قال: كنت عن أنس بن مالك فقيل له: خرج الدجال فقال: كذبة صباغ، حدثنا عن يحيى بن يمان عن بسام الصيرفي عن عكرمة قال: أشهد أنّ الصيارفة من أهل النار. وروينا عن عبد الحميد بن محمود قال: كنت عند ابن عباس، فأتاه رجل قال: أقبلنا حجاجاً حتى إذا كنا بالصفاح توفي صاحب لنا فحفرنا له، وإذا أسود قد ملأ اللحد كله، ثم حفرنا له قبراً آخر فإذا الأسود قد ملأ اللحد، فحفرنا له قبراً آخر فإذا الأسود قد ملأ اللحد كله، فتركناه وأتيناك نسألك ما تأمرنا، قال: ذاك عمله الذي كان يعمل، وفي رواية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 أخرى: ذاك غله الذي كان يغل به، اذهبوا فادفنوه في بعضها فو الله لو حفرتم له الأرض كلها لوجدتم ذاك، قال: فألقيناه في قبر منها، فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألنا عن عمله فقالت: كان رجلاً يبيع الطعام، فيأخذ قوت أهله كل يوم ثم ينظر مثله من قصب الشعير فيقطعه فيخلطه في الطعام مكان ما أخذ فيبيعه، عن حجاج عن أبي جعفر محمد ابن عليّ: أنَّ عليّاً رضي الله تعالى عنه كان يضمن القصار والصباغ والخياط ليحفظوا على الناس أمتعتهم، وروينا عن هشام بن عمار قال: سئل مالك بن أنس: في الرجل يسلم الثوب إلى الحائك بالنصف ودرهم والنصف ودرهمين قال: هذا شرط فاسد وله أجرة مثله إلاّ أن يخالف الشر فعليه العزم، وحدثنا عن أحمد بن الحسن المقري قال: سئل أبو بكر المروزي: وأنا أسمع الحائك ينسج الثوب على الخمسين ودرهمين وعلى الخمسين وثلاثة دراهم وأكثر قال: لا بأس إذا رضينا قلت: فالنصف ودرهم والنصف ودرهمين قال: لا بأس. سئل أحمد بن حنبل عن هذه المسألة فقال: لا بأس، وحدثنا عن أبي داود قال: سمعت ابن حنبل سئل عن الثوب يعطي على الثلث أو الربع للحائك قال: لا بأس به، ثم قال هل هذا إلاّ مثل المضاربة ومثل قصة جبير، لعله أنْ يربح المضارب شيئاً ولا يخرج الأرض شيئاً، كلها عندي قريبة، وعن ابن وهب قال: قال مالك في رجل باع بعد النداء يوم الجمعة قال: يفسخ ذلك البيع قيل: عامل وترك القيام إليها وهو حدّ قال: بئسما صنع، فليستغفر ربه عزّ وجلّ، وقال ربيعة: ظلم وإساء قال: وقال مالك: يحرم البيع حتى يخرج الإمام يوم الجمعة. حدثنا عن أبي داود قال: سمعت أحمد بن حنبل غير مرة يكره التجارة والمعاملة بالمزيفة والمكحلة، قال أبو داود: سألت إسحاق بن راهويه عن إنفاق المزيفة فقال: لا بأس به، وقال عبد الوهاب الوراق: سألت بشراً عن المعاملة بالمزيفة فقال: سألت المعافى عنها فقال: سألت سفيان الثوري عنها فقال حرام، حدثنا عن الحسن الخياط قال: سمعت بشر ابن الحارث وقال له رجل من جيرانه: أسلمت عمامة إلى الحائك الدقيق عليّ من قال على الحائك والخيوط لك، وحدثونا عن بشر عن الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد أنّ مريم عليها السلام مرت بحاكة قعود على ظهر طريق في طلب عيسى عليه السلام فقالت: كيف طريق موضع كذا وكذا؟ فأرشدوها إلى غير الطريق التي أرادت، فضلّت فدعت الله تبارك وتعالى عليهم فقالت: اللهم، إانزع البركة من كسبهم وأمتهم فقراء وحقرهم في أعين الناس، قال بشر: أحسب أنّ الله عزّ وجلّ استجاب دعاءها فيهم، وروينا عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من فرق بين الوالد وولده في البيع، فرق الله عزّ وجلّ بينه وبين أحبته يوم القيامة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 سفيان عن منصور عن موسى بن عبد الله أنّ أباه بعث بغلام له بمال إلى أصبهان بأربعة آلاف، فبلغ المال ستة عشر ألفاً أو نحو ذلك فبلغه أنه مات، فذهب يأخذ ميراثه فبلغه أنه كان يقارف الربا فأخذ أربعة آلاف وترك البقية، وحدثونا عن أبي بكر المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الذي يعامل بالربا يؤكل عنده قال: لا قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: الذي يتعامل بالربا يأخذ رأس ماله، وإن عرف أصحابه رده عليهم وإلا تصدق بالفضل، وروينا حديث ربيعة بن يزيد عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتى يدع ما لابأس به حذراً لما به بأس، وروينا حديث عباس بن جليد قال أبو الدرداء: إنّ تمام التقوى أنْ يتّقي العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أنْ يكون حجاباً بينه وبين الحرام، حدثنا عن أبي بكر المروزي قال: سألت أَبا عبد الله عن الرجل: يكون معه ثلاثة دراهم منها درهم حرام لا يعرفه قال: لا يأكل منه شيئاً حتى يعرفه، واحتج أبو عبد الله بحديث عدي بن حاتم أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني أرسل كلبي فأجد معه كلباً آخر فقال: لا تأكل حتى تعلم أنّ كلبك قد قتله، وسألت أبا عبد الله عن الرجل: يدفع إليه الدراهم الصحاح بصوغها قال فيها: نهى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أصحابه وأنا أكره كسر الدراهم والقطعة قلت: فإن أعطيت ديناراً أصوغه كيف أصنع؟ قال: تشتري به دراهم ثم تشتري به ذهباً قلت: فإن كانت الدراهم من الفيء ويستهي صاحبها أن تكون بأعيانها قال: إذا أخذت بحذائها فهو مثلها. وروى أبو عبد الله حديث علقمة بن عبد الله عن أبيه، أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلاّ من بأس، قال أبو عبد الله: البأس أن يختلف في الدراهم فيقول الواحد: جيد ويقول الآخر: رديء فيكسره، لهذا المعنى قال: وسألت أبا عبد الله عن الرجل يكتسب بالأجر فيجلس في المسجد فقال: أما الخياط وأشباهه فما يعجبني إنما بنى المسجد ليذكر الله تعالى فيه وكره البيع والشراء فيه، قلت لأبي عبد الله: للرجل يعمل المغازل ويأتي المقابر فربما أصابه المطر فيدخل في بعض تلك القباب فيعمل فيها قال: المقابر إنما هي من الآخرة وكره ذلك قلت لأبي عبد الله: اشتري الدقيق فيزيد في مثل القفيز المكوك قال: هذا فاحش، هذا لا يتغابن الناس فيه قلت: فكيلجة أو دونها قال: هذا يتغابن الناس بمثله، قلت لأبي عبد الله: رفاء الوسائد والأنماط يرفوا للتجار وهم يبيعون ولا يخبرون بالرفو قال: يعمله العمل الذي يبتين لا يعمل الخفي الذي لايتبين إلاّ لمن يثق به، قلت لأبي عبد الله: الثوب ألبسه ترى أن أبيعه مرابحة قال: لاوإن بعته مساومة فبين أنك قد لبسته وإلاّ بعته في سوق الخلق، سألت أبا عبد الله عن إبريق فضة يباع قال: لا حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 يكسر ويقول: لا يباع الحرير. أمية بن خلد قال: كان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع أهل إلى وكيله بالسوس أنّ أعلم من يشتري منه المتاع أنّ المتاع يطلب، وحدثنا عن المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الجوز ينثر فكرهه وقال: يعطون يقسم عليهم يعني الصبيان قال: ودخلت على أبي عبد الله وقد حذق ابنه، وقد اشترى جوزاً يريد أن يعده على الصبيان يقسمه عليهم وكره النثر وقال: هذه نهبة، وقال أبو عبد اللّّه وذكر مسائل ابن المبارك فقال: كان فيها مسألة دقيقة، سئل ابن المبارك عن رجل رمى طيراً فوقع في أرض قوم: لمن الصيد؟ قال: لا أدري، قلت لأبي عبد الله: فما تقول أنت فيها؟ قال: هذه دقيقة ما أدري فيها، قلت لأبي عبد الله: إنّ عيسى بن عبد الفتاح قال: سألت بشر بن الحارث: هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ قال: فقال أبو عبد الله: هذا شديد، قلت لأبي عبد الله: فللوالدين طاعة في الشبهة قال: فقال أبو عبد الله: هذا محمد بن مقاتل قد رأيت ما قال، وهذا بشر بن الحارث قد قال ما قال، ثم قال أبو عبد الله: ما أحسن أن يداريهم، ثم قال أبو عبد الله: إلاثم حواز القلوب، قال المروزي: أدخلت على أبي عبد الله رجلاً فقال: إنّ لي أخوة وكسبهم من الشبهة، فربما طبخت أمنا وتسألنا أن نجتمع ونأكل فقال له: هذا موضع بشر لو كان لك كان موضعاً، أسأل الله تعالى أنْ لا يمقتنا، ولكن تأتي أبا الحسن عبد الوهاب فتسأله فقال له الرجل: فتخبرني بما في العلم قال: قد روي عن الحسن إذا استأذن والدته في الجهاد فأذنت له، وعلم أنّ هواها في المقام فليقم، قال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن رجل له والدة يستأذنها يرحل يطلب العلم فقال: إن كان جاهلاً لا يدري كيف يطهر ولا يصلّي فطلب العلم أوجب، وإن كان قد عرف فالمقام عليها أحب إليّ، قلت: فإن كان يرى المنكر فلا يقدر أن يغيره قال: يستأذنهما، فإن أذنا له خرج. حدثنا عن أبي الربيع الصوفي قال: دخلت على سفيان بالبصرة فقلت له: يا أبا عبد الله، إني أكون مع هؤلاء المحتسبة فندخل على المخنثين ونتسلق عليهم الحيطان فقال: أليس لهم أبواب؟ قلت: بلى، ولكن ندخل عليهم كيلا يفروا، فأنكرذلك إنكاراًشديداً وعاب فعالنا، فقال رجل: من أدخل هذا؟ فقلت: إنما دخلت إلى الطبيب أخبره بدائي، فانتفض سفيان وقال: إنما هلكنا إذ نحن سقمى فسمّينا أطباء ثم قال: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاّ من فيه ثلاث خصال، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عالم بما ينهي، عالم بما يأمر عدل بما ينهي، حدثنا عن أحمد بن محمد بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله قلت: أمرّ في السوق فأرى الطبول تباع فأكسرها قال: إن قويت يا أبا بكر قلت: أدعي أغسل الميت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 فأسمع صوت الطبل قال: إن قدرت على كسره وإلاّ فاخرج، سألته عن كسر الطنبور قال: يكسر قلت: فإذا كان معطي؟ قال: إذا ستر عنك فلا قلت: فالطنبور الصغير يكون مع الغلام قال: تكسره أيضاً إذا كان مكشوفاً قلت لأبي عبد الله: رجل له قراح نرجس ترى أنْ يباع؟ فقال: إنهم يقولون الزئبق يعمل منه قلت: فإن كان لا يشتريه إلاّ أصحاب المسكر قال: يسأل عن ذا فإن كان هكذا إلاّ يباع، سمعت أبا عبد الله وسأله رجل فقال: إنّ أبي كان يبيع من جميع الناس وذكر من تكره معاملته فقال يدع من ذلك بقدر ما ربح فقال له: فإنه له ديناً وعليه دين قال: يقتضي ويقضي عنه قلت: وترى له بذلك؟ قال: فتدعه محتسباً بدينه، سألت أبا عبد الله عن قريب لي أكره ناحيته يسألني أن أشتري له ثوباً أو أسلم له غزلاً فقال: لا تعنه ولاتشترِ له إلاّ أن تأمرك والدتك، فإذا أمرتك فهو أسهل لعلها أن تغضب. سمعت أبا عبد الله وسئل عن رجل له أب مراب يرسله أن يتقاضى له: ترى له أن يفعل؟ قال: لا ولكن يقول: لا أذهب حتى تتوب، ذكرت لأبي عبد اللّّه رجلاً من المحدثين فقال: رحمه الله أي رجل كان لولا خلة واحدة؟ ثم قال: ليس كل الخلال يكملها الرجل فقلت له: أليس كان صاحب سنّة قال: أي لعمري وقد كتبت عنه ولكن خلة واحدة فقلت: مثل أيش؟ قال: كان لا يبالي ممن أخذ، سمعت أبا عبد الله وذكر بشر بن الحارث فقال رحمه الله: لقد كان فيه أنس، وذكر له شيء من الورع فقال يسأل عن مثل بشر: هذا موضع بشر وأنا لا ينبغي لي أن أتكلم في هذا. ذكرت لأبي عبد الله رجلاً فقيراً في أطمار خلقان وقلت: ما أحوجه إلى علم؟ فقال لي: اسكت لصبره على فقره وعريه من العلم إني لأذكره وأنا في الفراش وقال: هؤلاء خير منا، قلت لأبي عبد اللّّه قيل لابن المبارك: كيف يعرف العالم الصادق؟ قال: يزهد في الدنيا ويقبل على أمر آخرته فقال أبو عبد الله: نعم، هكذا يريد أن يكون. سألت أبا عبد الله عن امرأة كانت تجري على أخرى وتصلها وذكر المرأة ما أمرني به أبو عبد الله من شيء صرت إليه قال: أن تصدق به وتسأل. سمعت أبا عبد الله وذكر ابن عون فقال: كان لا يكري دوره من المسلمين قلت: لأي علّة؟ قال: لئلا يروعهم ابن المبارك عن حكيم بن زريق عن أبيه عن سعيد بن المسيب في البر بالدقيق قال: هو ربا، قلت لأبي عبد الله: أخبرت أنّ بشر بن الحارث أرسل أخوه بتمر من الأيلة، فأبقت أمه تمرة من التمر الذي كانت تفرقه يعني على أهل بيته، فلما دخل بشر قالت له أمه: بحقي عليك لما أكلت هذه التمرة؟ فأكلها وصعد إلى فوق، وصعدت خلفه فإذا هو يتقيأ، وكان أخوه على شيء فقال أبو عبد الله وقد روي عن أبي بكر رضي اللّّه عنه نحو هذا، وسمعت أبا عبد الله وذكر وهيب بن الورد فقال: قد كلمه ابن المبارك فيما يجيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 من مصر، وإنما أراد ابن المبارك أن يسهل عليه ولم يدرِ أنه يشدد عليه، وكان لا يأكل مما يجيء من مصر، إلاّ الزبيب، وقال أبو عبد الله: بشر بن الحارث كان يأكل من غلة بغداد قلت: لا هو كان ينكر على من يأكل فقال: إنما قدر بشر لأنه كان وحده لم يكن له عيال، ليس من كان معيلاً كمن كان وحده، لوكان إلى ما باليت ما أكلت، وذهب أبو عبد اللّّه إلى أن يأخذ من السواد القوت ويتصدق بالفضل ثم قال: لايعجبني أنْ أبيع شيئاً قلت لأبي عبد الله: ترى أن يشرب الرجل من السواد؟ قال: هذا الذي نحن فيه ميراث إنما آخذ الغلة على الاضطرار، قيل لأبي عبد الله: فيشتري الرجل فيه؟ فقال للسائل: إن كنت في كفاء فلا، ثم قال أكره أن يبيع الرجل داره ولا أرضى في شيء من السواد ولا يشتري إلاّ مقدار القوت، فإذا كان أكثر من قوته تصدق به وقال: أنا أذهب إلى أنّ السواد وقف على المسلمين، أما عمر رضي الله تعالى عنه، فترك السواد ولم يقسمه، وهكذا عثمان تركه، إلاّ أنه أقطع قوماً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن مسعود وسعداً وذكر غير واحد، وأما عليّ رضي الله تعالى عنه فأقره ولم يقسمه، قال أبو عبد الله: من ذهب إلى قول ابن المبارك فذاك البلاء يزعم أنّ السواد يقسم على من شهد الوقعة. وقال ابن إدريس في دار ببغداد: يبيع أمرها حتى يردها إلى من فتحها بالسيف قلت: ومن أين تقدر على هذا؟ فتبسم وقال: يصير إلى المدينة مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيسأل عنهم، قال أبو عبد الله: أهل المدينة على مذهب ابن إدريس يقولون: المدينة إذا فتحت عنوة قسمت على من شهدها، قلت لأبي عبد الله: فمن خالفهم؟ قال: عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي اللّّه عنهما أوقفاها على المسلمين، قلت لأبي عبد الله: فمن ورث داراً في القطيعة؟ قال: قال ابن إدريس يردها على من شهد القادسية قلت: وهذا هو عندك القول؟ قال: نعم، ما أحسن ما قال، ولكن مثل هذا الذي في أيدينا إنما هي قطائع لو أنّ وجلاً أراد أنْ يخرج مما في يديه كنا نأمره أنْ يوقفها لأنها فيء، سألت أبا عبد الله عن الكوفة والبصرة: أليس افتتحت؟ قال: لا، إنما جاؤوا فابتنوا فيها، وأدخلت على أبي عبد الله رجلاً فقال: إني ورثت عن أبي أرضين من السواد فقال له: أوقفها على قرابتك، فإن لم يكن فعلى جيرانك، وقيل له أيضاً: ورث رجل داراً في القطيعة فقال: يوقفها، ثم قال: السواد فيء للمسليمن رخص في الشراء، قلت لأبي عبد الله: كيف أشتري في السواد ولا أبيع؟ قال: الشراء عندي خلاف البيع، واحتج أنّ أصحاب رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها ابن عباس وجابر بن عبد الله، سئل أبو عبد الله: أيما أحبّ إليك؛ سكني القطيعة أو الربض؟ فقال: الربض، قلت لأبي عبد الله: إنّ القطيعة أرفق من سائر الأسواق فقال: أمرها معلوم تعرفها لمن كانت قلت فتكره العمل فيها قد وقع في قلبي منه شيء، فقال ابن مسعود: الإثم حواز القلوب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 قلت لأبي عبد الله: فرجل يريد الخروج إلى الثغر وله دار يريد أن يبيعها قال: لا قلت: فإن قال: إنما أبيع النقض، فتبسم وقال: إن رضي المشتري كأنه عنده حيلة ثم قال: قد ورث ابن سيرين أرضاً من أرض السواد قلت: فهي رخصة قال: هذا معروف عن ابن سيرين، قال أبو بكر: سمعت أبا عبد الله يقول: أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء وقال: ما أعدل بالفقر شيئاً وقال: هذه الغلة ما تكون قوتنا، فأخبرته أنّ رجلاً قال: لو أنّ عبد الله ترك هذه الغلة وكان يتصنع صديقاً له كان أعجب إلي فقال أبو عبد الله: هذه طعمة سوء أو قال: ردية من تعود هذا لم يصبر عنه ثم قال: هذا أعجب إليّ من غيره. حدثنا عن عبد الله بن نوح السراج قال: قال لي بشر: ياسراج، أنت بعد في القطيعة قلت: نعم قال: أغناك الله عزّ وجلّ عن الدخول إليها، حدثت عن بعض أصحاب بشر قال: وصف لي شيء أتداوى به وقال: ليس تجده إلاّ في بستان بني كذا يعني القطيعة فقال: لو كان شفائي فيه ما أردته، محمد بن حاتم قال: سمعت ابن أبي بشر يقول: كنت مع بشر وقد خرجنا من باب حرب فقال لي: يا أبا يعقوب، فكرت في هذه القرية ومن كره الدخول إليها وأعلم أنّ الدباغ إذا كان في المدبغة لا يشم رائحتها إنما يشم رائحتها من ورد عليها، قال بعضهم: وسمعت بشراً يقول: من ذنوبي مقامي ببغداد، وقال شعيب بن حرب: أي رجال ببغداد كان لهم خير؟ وعن عبد الوهاب قال: خرج من ههنا إلى المدائن إلى شعيب بن حرب قوم فكلموه في النزول ببغداد فأشار علهم أن لايرجعوا، فتركوا دورهم وأقام بعضهم ليستقي ماء بالمدائن، ولقد رأى شعيب بعضهم يستقي الماء فقال: لو رآك سفيان لفرح بك، قلت لأبي عبد الله: جاءنا كتاب من طرسوس فيه أنّ قوماً خرجوا من نيف الأسل فطحنوا لهم طعاماً على رحى، فتبينوا بعد أن الرحى فيه ما يكرهونه غصب، فتصدق بعضهم بنصيبه وأبى بعضهم وقال: لست آمر فيه شيء لا أرضى أكله لا أرضى أتصدق به فأي شيء تقول؟ فكان مذهب أبي عبد الله أنْ يتصدق به إذا كان شيئاً يكرهه، ورجل اشترى حطباً واكترى دواب وحمله، ثم تبين بعد أنه يكره ناحيتها، كيف يصنع بالحطب؟ ترى أنْ يرده إلى موضعه وكيف ترى أنْ يصنع به؟ فتبسم وقال: ما أدري، قلت إنّ رجلاً قال لأبي عبد اللّّه: ما تقول في نفاطة لمن تكره ناحيته ينقطع شسعي أستضيء به قال: لا. وذكر أبو عبد الله عثمان بن زائدة أنّ غلامه أخذ له ناراًمن قوم يكرههم فأطفأها، فقال أبو عبد الله: النفاطة أشد، قلت لأبي عبد الله: تنور سجر بحطب أكرهه فخبز فيه، فجئت أنا بعد فسجرته بحطب آخر فيه قال لا، أليس أحمى بحطبهم وكرهه، قلت لأبي عبد الله: الخادم الخصي ينظر إلى شعر مولاته قال: لا، قلت: المرأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 تكون بها الكسرة فيضع المجبر يده عليها قال: هذا ضرورة ولم ير به بأساً قلت: قال المجبر: لابد لي أن أكشف صدر المرأة وأضع يدي عليها، قال طلحة: يوجد، قلت لأبي عبد الله: فالكحال يخلو بالمرأة وقد انصرف من عنده النساء، هل هذه الخلوة منهي عنها؟ قال: أليس هو على ظهر الطريق؟ قيل: نعم قال: إنما الخلوة تكون في البيوت، قال أبو بكر: قلت لأبي عبد الله: إذا اضطر الرجل إلى الميتة ووجد مع قوم طعاماً ما يأخذ الطعام بغير إذن صاحبه أو يأكل الميتة قال: يأكل الميتة قد أحلت له، سألت أبا عبد الله عن الرجل يمر بالحائط أو النخل يأكل منه فقال: قد سهل فيه قوم من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: فماذا تقول إذا اضطر الرجل إلى الميتة ووجد مع قوم طعاماً يأخذ الطعام بغير إذن صاحبه أو يأكل الميتة؟ قال: يأكل ولا يحمل، قلت: الرجل يمر بالبستان قال: إذا كان عليه حائط لم يدخل، وإذا كان غيرمحوّط أكل ولا يحمل، سألت أبا عبد الله عن أجور بيوت مكة فقال: لا يعجبني، قلت لأبي عبد الله: فيكتري الرجل الدار ويخرج ولا يقضي الكراء قال: لايعجبني أن لايخرج الكراء، ثم قال: هذا بمنزلة الحجام لابدّ من أن يعطي، قلت لأبي عبد الله: فترى شراء دور مكة والبيع قال: لا، أما الدور الكبار فمثل دار فلان وفلان سماها فتفتح أبوابها حتى يضرب الحاج فيها فساطيطهم وينزلوها لا يمنع أحد من نزولها، قيل لأبي عبد الله: هذا عمر بن الخطاب قد اشترى السجن قال: لا هذا لا يشبه ما اشترى عمر إنما اشترى السجن للمسلمين، يحبس فيه السراق وغيرهم، سئل أبو عبد الله عن السقايات التي يعملها من تكره ناحيته، ترى أن يتوضأ منها؟ قال: لا إلاّ أن يخاف فوت الصلاة يعني يوم الجمعة، سئل أبو عبد الله عن السقايات التي تفتح إلى الطريق: ترى أن يشرب منها فقال: قد سئل الحسن فقال: قد شرب أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما من سقاية أم سعيد فمه، قلت لأبي عبد الله: حكي عن فصيل أنّ غلامه جاءه بدرهمين فقال: عملت في دار فلان فذكر من يكره ناحيته قال: فرمى بها بين الحجارة وقال: لايتقرّب إلى الله عزّ وجلّ إلاّ بالطيب، فعجب أبو عبد الله وقال: رحمه الله، وذهب أبو عبد الله إلى أن يتصدّق كأنه كان أحوط وقال: يعجبني أن يتصدّق به إذا تصدّق به فأي شيء بقي. ذكر ما رأى أحمد بن حنبل الخروج منه، حدثت عن أحمد بن عبد الخالق قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يدعى إلى الوليمة، من أي شيء يخرج؟ فقال: خرج أبو أيوب حين دعاه ابن عمر، فرأى البيت قد ستر ودعي حذيفة فخرج، وإنما رأي شيئاً من زمي الأعاجم قلت: فإن لم يكن البيت مستوراً ورأى شيئاً من فضة فقال: ما كان يستعمل يعجبني أن يخرج، وسمعت أبا عبد الله: يقول دعانا رجل من أصحابنا قبل المحنة، وكنا نختلف إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 عفان فإذا فضة، فخرجت فأتبعني جماعة فنزل بصاحب البيت أمر عظيم، قلت لأبي عبد الله فالرجل يدعى فيرى المكحلة رأسها مفضض قال: هذا يستعمل فأخرج منه إنما رخص في الضبة أو نحوها فهو أسهل، سألت أبا عبد الله عن الكلة فكرهها قلت: فالقبة أو الحجلة فلم ير به بأساً، قلت لأبي عبد الله أنّ رجلاً دعا قوماً فجيء بطست فضة أو إبريق فكسره، فأعجب أبا عبد الله كسره، سألت أبا عبد الله عن الرجل يدعى فيرى فرش ديباج: ترى أن يقعد عليه أو يقعد في بيت آخر؟ قال: يخرج، قد خرج أبو أيوب وحذيفة، وقد روي عن ابن مسعود قلت: فترى أن يأمرهم؟ قال: نعم، فيقول: هذا لا يجوز، قلت لأبي عبد الله: الرجل يكون في بيت فيه ديباج فيدعو ابنه للشيء قال: لا يدخل عليه ولا يجلس معه، قلت لأبي عبد الله: الرجل يدعى فيرى الكلة فكره وقال: هو رياء، لا يرد من حرّ ولا من برد، قلت: الرجل يدعى فيرى تصاوير قال: لا ينظر إليه قلت: فقد نظرت إليه قال: إن أمكنك خلعه خلعته، أبو صالح الفراء عن يوسف بن أسباط قال: قلت: من أجيب؟ قال: لا تدخل على رجل، إذا دخلت عليه أفسد عليك قلبك، قد كان يكره الدخول على أهل البسط يعني الأغنياء، المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الستر يكتب عليه القرآن فكره ذلك وقال: لا يكتب القرآن على شيء منصوب لا ستر ولا غيره، قلت: فالرجل يكتري البيت يرى فيه التصاوير ترى أن يحكه قال: نعم، قلت لأبي عبد الله: فإذا دخلت حماماً فرأيت فيه صورة ترى أن أحك الرأس قال: نعم. ذكر الورع في أشياء ابن عبد الخالق، قال: حدثنا أحمد بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله: ترى الرجل الوصيء تسأله الصبية أن يشتري لها لعبة قال: إن كانت صورة فلا، وذكر فيه شيئاً قلت: أليس الصورة إذا كان يد أو رجل؟ فقال: عكرمة يقول: كل شيء له رأس فهو صورة، قال أبو عبد الله: وقد يصيرون لها صدراً وعيناً وأنفاً قلت: وأحبّ إليك أن تجتنب شراءها؟ قال: نعم، سألت أبا عبد الله عن قبلة اليد فلم يرَ بها بأساً إن كان على التدين، قال: قد قبّل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما وإن كان على طريق الدنيا، فلا رجل يخاف سيفه أو سوطه، قال لي أبو عبد الله: قال لي سعيد الحاجب ألا يقبل يد ولي عهد المسلمين فقلت: بيدي هكذا ولم أفعل، وروينا عن عليّ بن ثابت قال: سمعت حفيان يقول: لا بأس بها للإمام العادل وأكرهه على الدنيا يعني تقبيل اليد، قلت لأبي عبد الله: رجل يريد الخروج إلى الثغر وقد سألني أسألك، وهذا الطريق طريق الأنبار مخيف، فإن عرض له اللصوص ترى أن يقاتلهم قال: إن طلبوا أشياءه قاتلهم لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من قتل دون ما له فهو شهيد قلت: فإن عرضوا للرفقة، ترى أن يقاتلهم؟ قال: حتى إن يطلبوه هو ولم يرَ أن يقاتل عن الرفقة بالسيف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 سئل أبو عبد الله عن الأسير: يفر؟ قال: نعم إذا قدر على ذلك، قلت لأبي عبد الله: ترى للرجل إذا جاءه الرجل يسأل ترى أن يسأله له قوماً قال: لا لكن يعرض كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم عليه القوم مجتابي النمار فقال: تصدق رجل بكذا، سمعت أبا عبد الله يقول: عبد الوهاب أطيب طعمة من غيره يريد الوراقة، سمعت أبا عبد الله يقول: كان يحيى بن يحيى أوصى إليّ بجبته، فجاءني ابنه فقال لي فقلت: رجل صالح قد أطاع الله تبارك وتعالى فيها أتبرك بها. حدثت عن بعض العلماء أنّ يحيى بن يحيى قالت له إامرأته تشربه دواء: لو قمت فترددت في الدار فقال: ما أدري ما هذه المسألة، أنا أحاسب نفسي منذ أربعين سنة، حدثت عن موسى بن عبد الرحمن بن مهدي قال: لما قبض عمي أغمي على أبي فلما أفاق قال: البساط نحوه أدرجوه لغلة الورثة، ابن أبي خالد قال: كنت مع أبي العباس الخطاب، وقد جاء يعزي رجلاً ماتت امرأته، وفي البيت بساط فقام أبو العباس على باب البيت فقال: أيها الرجل معك وارث غيرك قال: نعم قال: قعودك على ما لا تملك، فتنحى الرجل عن البساط، وحدثت عن ابن الضحاك صاحب بشر بن الحارث قال: كان يجيء إلى أخته حين مات زوجها فيبيت عندها، فيجيء معه بشيء يقعد عليه ولم يرَ أن يقعد على ما خلف من غلة الورثة، ابن عبد الخالق عن المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن بواري المسجد إذا فضل منه الشيء أو الخشبة قال: يتصدق به، سألته عن الجص والآجر يفضل عن المسجد قال: يصير في مثله، قلت لأبي عبد الله: إني أكون في المسجد في شهر رمضان فيجاء بالعود من الموضع الذي يكره فقال: وهل يراد من العود إلاّ ريحه؟ إن خفت خروجك فأخرج، روينا عن أبي عوانة عن عبد الله بن راشد قال: أتيت عمر بن عبد العزيز بالطيب الذي كان في بيت المال فأمسك على أنفه وقال: إنما ينتفع بريحه عبد العزيز بن أبي سلمة قال: حدثنا إسماعيل بن محمد قال: قدم عليّ عمر رضي الله عنه مسك من البحرين فقالت: والله لوددت إني أجد امرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أفرقه بين المسلمين فقالت امرأته عاتكة بنت عمرو بن نفيل: إني جيدة الوزن فهلّم أزن لك قال: لا قلت: ولِمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه وتمسحين عنقك فأصيب فضلاً عن المسلمين، وسليمان التيمي قال: حدثني نعيم عن العطارة قال: كان عمر يدفع إلى امرأته طيباً من طيب المسلمين قال: فتبيعه امرأته، فباعتني طيباً فجعلت تقوم وتزيد وتنقص وتكسره بأسنانها فيعلق بأصبعها شيء منه فقالت به: هكذا بأصبعها ثم مسحت به خمارها فدخل عمر فقال: ما هذه الريح؟ فأخبرته بالذي كان فقال: طيب المسلمين تأخذينه أنت فتتطيبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 به؟ فانتزع الخمار من رأسها وأخذ جرّاً من ماء فجعل يصب على الخمار ثم يدلكه في التراب ثم يشمه، ثم يصب عليه الماء ثم يدلكه في التراب ثم يشمه ففعل ما شاء الله، قالت العطارة: ثم أتيتها مرة أخرى فلما علق بأصبعها منه شيء فعمدت فأدخلت أصبعها في فيها، ثم مسحت بإصبعها التراب. أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: يحضر يوم الجمعة يوم بارد ترى أن يسخن الماء من الموضع الذي أكره؟ قال: لا ترك الغسل أحبّ إليّ من هذا، سمعت أبا عبد الله ينكر على أبي ثور قوله، وإذا أجمع الأطباء أنّ شفاء الرجل في الخمر أنه ليس به بأس فأنكر إنكاراً شديداً عليه وقال: لقد كرهت أن يداوي الدبر بالخمر فكيف بشربه؟ وتكلم بكلام غليظ. حدثت عن شعيب بن حرب قال: لأن أرى ابني يسرق أو يزني أحبّ إليّ من أن يأتي عليه وقت لا يعرف الله تبارك وتعالى فيه، محمد بن أبي داود الأنباري قال: قلت لأبي أسامة: أجيب وليمة فيها نبيذ قال: لا قلت: أخاف الحديث الذي جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لم يجب فقد عصى فقال: مَنْ لم يجب اليوم فقد أطاع الله تعالى ورسوله، هارون بن معروف قال: جاءني فتى فقال: إنّ أبي حلف عليّ بالطلاق أن أشرب دواء مع مسكر، فذهبت به إلى أبي عبد الله فلم يرخص له وقال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل مسكر حرام وكل مسكر خمر. المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن خياط الملحم فقال: ما كان للرجال فلا، وما كان للنساء فليس به بأس، وسألته: يخاط للنساء هذه الزيقات العراض فقال: إن كان شيء عرض فأكرهه هو محدث، وإن كان شيء وسطاً لم يرَ به بأساً، وكره أن يصير للمرأة مثل جيب الرجال، وقطع أبو عبد الله لابنته قميصاً وأنا حاضر فقال للخياط: صير جيبها من قدام، وقطع أبو عبد الله لابنته قميصاً وأنا حاضر فقال للخياط: صير زيقانها دقاقاً وكره أن يصير عريضاً، وقطعت لأبي عبد الله جبة وصيرت زيقها دقيقاً فقلت لأبي عبد الله: هل أدركت أحداً من المشايخ كان له زيق عريض؟ قال: لا، وكنت يوماً عند أبي عبد الله فمرت جارية عليها قباء فتكلم بشيء فقلت: تكرهه قال: كيف لا أكرهه جداً، لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتشبهات من النساء بالرجال، وروينا عن عبد الصمد قال: دعا يزيد ابن هارون خياطاً من النساك فقال: اقطع لهذه الجارية قباء فوضع الخياط المقراض من يده وقال: يا أبا خالد، قباء عمن فسكت يزيد المروزي، قال: ذكر لأبي عبد الله رجل من المحدثين فقال: إنما أنكرت عليه أن لبس زيه زي النساك، سألت أبا عبد الله عن الرجل يلبس النعل السبتي فقال: أما أنا فلا أستعملها، ولكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 إذا كان للمخرج أو الطين فأرجو، وأما من أراد الزينة فلا، ورأى نعلاً سندياً على باب المخرج فسألني: لمن هي؟ فأخبرته قال: يتشبه بأولاد لوط يعني صاحبها، سألت أبا عبد الله قلت: أمروني في المنزل أن أشتري نعلاً سندياً للصبية قال: لا تشتر قلت: تكرهه للصبيان والنساك قال: نعم أكرهه، زياد ابن أيوب قال: كنت عند سعيد بن عياض فأتاه صبي ابن ابنته وفي رجله نعل سندي فقال: من ألبسك هذا قال: أمي قال: اذهب إلى أمك تنزعها. المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن المرأة تلبس المقطوع الأحمر فكرهه كراهة شديدة وقال: أما أن تريد الزينة فلا يقال أول من لبس الثياب الحمر آل قارون، ثم خرج على قومه في زينته، قال في ثياب حمر، مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: مر على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل وعليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد عليه، المروزي قال: رأى أبو عبد الله بطانة جنبي حمراء فقال: لِمَ صبغتها حمراء قلت: للرقاع التي فيها قال: وايش تبالي أن يكون فيها رقاع قلت: تكرهه قال: نعم، وأمرني أن أشتري له تِكّة فقال: لا يكون فيها حمرة قلت: تكرهه قال: نعم، قلت لأبي عبد الله: الثوب الأحمر تغطى به الجنازة فكرهه قلت: ترى أن أجذبه قال: نعم، وأمروني في منزل أبي عبد الله أن أشتري لهم ثوباً عليه كتاب فقال: قل لهم: إن أردتم أن أشتريه وأقلع الكتاب قلت: هم إنما يريدون الكتاب قال: لاتشتره، وأخبرتني المرأة قالت: نهاني أبو عبد الله عن النقش في الخطاب وقال: أغمسي اليد كلها، وسمعت أبا عبد الله وذكر المختضبة فقال: قالت عائشة: أسليه وادعميه، سليمان التيمي عن أبي عثمان قال: أرسلت أم الفضل ابنة غيلان إلى أنس تسأله عن القلادة في عنق المرأة وعن الخضاب، فأرسل أنه يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها شيئاً في الصلاة ولو سيراً وقال في الخضاب: آمرها أن تغمس يدها كلها، المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يجصص فقال: أما أرض البيوت فثوقيهم من التراب، وكره تجصيص الحيطان، وذكرت لأبي عبد الله مسجداً قد بني وأنفق عليه مالاً كثيراً، فاسترجع وأنكر ما قلت وقال: قد سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكحل المسجد فقال: لا عريش كعريش موسى، قال أبو عبد الله: إنما هو شيء من الكحل يطلي فلم يرخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حدثت عن أحمد بن عبد الخالق قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله لا يبيع حاضر لباد كيف هو؟ فقال: حدثنا سفيان قال: حدثنا أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، قال: والبادي الأعرابي وأنت حاضر ويجيء الأعرابي وهو لا يعرف السعر، فتقوم أنت وقد عرفت السعر فتبيع له بما تعرف فهو الذي نهى عنه، قلت لأبي عبد الله: فتشتري له إذا جاء لأنه لو ترك لأشتري منهم الغالي بمنزلته إذا جاء فباع منهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 الرخيص فقال: ليس هذا لو كان هذا هكذا ما اشترى الناس ولا باعوا، إنما عليه لا يبيع له ولم يرَ بأساً أن يشتري له، قلت لأبي عبد الله: ما معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا شرطين في بيع قال: قول الرجل أبيعك أمتي هذه على أنك إذا بعتها فأنا أحق بها، سئل أبو عبد الله عن ربح ما لم يضمن قال: الرجل يبيع الطعام قبل أن يقبضه، قيل لأبي عبد الله في الرجل يشتري الطعام صبرة ترى له أن يبيعه قبل أنْ يكيله؟ فقال: لا، سئل عن بيع المباطح فقال: جنية يوم بيوم، قلت لأبي عبد الله: يكون في سقف البيت الذهب بجانب صاحبه قال: نعم هذا يكره وذهب، إلى أن يجفي، قلت لأبي عبد الله: الرجل يكون له القرابة سكران يجفي قال: أي شيء بقي إذا سكر؟ نعم يجفي أو يجانب، سألته عن المكره يراد على شرب الخمر فقال: يروى عن عمر رضي الله عنه في شرب الخمر، إلاّ أنه لا يفعل حتى ينال بعذاب، قلت: فإن أمر أن يقتل قال: أما القتل فلا يكون عند الله المقتول، قلت لأبي عبد الله: الرجل يبيع داره من نصراني قال: لا، أليس يكفر فيها وذكر المحاريب التي فيها، قال لي أبو عبد الله: أي شيء قال لك عبد الوهاب في خروجي إلى مكة؟ قلت: ما أرى لك أن تخرج أنت ههنا بالقرب ليس تسلم فكيف إن تباعدت؟ قال: أشار علي رجل صالح أن لا أخرج، أخبره أني قد قبلت ما أشرت به عليّ وقد كنا اشترينا بعض حوائجه، سألت أبا عبد الله عن رجل لبي بالحج وليس عنده شيء وعليه دين قال لا يجوز حتى يسأذن أصحاب الدين ثم قال: قد أوجب على نفسه الحج، سألت أبا عبد الله عن رجل له أم ضريرة وله مال يحج عنها فقال: يحج عنها إذا لم تقدر الركوب، وقال يعجبني أنْ لا يحج إلاّ عن قرابة، قلت لأبي عبد الله: إني دخلت أغسل رجلاً من أصحابنا فإذا قد دخل علينا رجل من أهل الخلاف قد سميته له فقال لي: قد وقفت حيث ثبت وغسلته، لو خرجت كنت لا تأمن أن يجيء برجل من أصحابنا فيتولاه، سألت أبا عبد الله عن رجل مات وترك كتباً وله ورثة قال: تدفن، فإن كانوا صبياناً صغاراً قال: يدفنها الوصي عليهم، سمعت أبا عبد الله يقول: حكم المخنثين أن ينفوا، سئل أبو عبد الله عن المرأة إذا كانت موسرة وزوجها غائب: هل تحج؟ قال: تكتب إليه فإن أذن وإلاّ خرجت مع ذي محرم، قيل فإن كان شاهداً يمنعها تخرج من غير علمه مع محرمها؟ قال: نعم، ليس له أن يمنعها قال: ولا تخرج مع غيره، فإن كان أخوها من الرضاعة خرجت، قيل لأبي عبد الله الرجل يستأجر الدار والحانوت فيؤاجره بأكثر مما استأجره قال: فيها اختلاف ولم يجب، قيل له: رجل له شجر في أرضه وأغصانها في أرض غيره قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 يقطع أغصانها، قيل فإن صالحه على أن تكون الغلة بينهم قال: لا أدري، سمعت أبا عبد الله يقول في المحرم إذا اضطر إلى الصيد قال: يأكل الميتة وقال: اذهب في الميتة إلى حديث ابن حكيم، أتانا كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفاته بشهر: لا تنتفعوا من الميتة بشيء، سألت أبا عبد الله عن محرم ذبح صيداً: يؤكل؟ قال: لا، هذا ليس بزكاة هذا لا يؤكل، قلت: فالرجل يقلع ضرسه ثم يرده إلى موضعه، فمكث ثلاثاً ثم يقلعه أيش تقول فيه؟ فإن الشافعي قال يعيد الصلاة لأنه صلّى في ميتة قال: لا تعجل عليّ، ثم سكت ساعة ثم قال: ما أبعد ما قال، بلى لو أخذ سن شاة مما يؤكل لحمه فوضعه لم يكن به بأس. وذكر في هذا أحبّ إليّ أن يعيد ما صلّى، سألت أبا عبد الله: يباع الغزل في الفلكة ولعلها ميتة قال: إن علم فلا قلت: لقد يخصف به الخف أو النعل فقال: إذا كان من حمار فأكرهه قلت: فأي شيء ترى؟ قال: ما لا تعلم فلا تريد أن تبحث قلت له: تنور شوي فيه خنزير ترى أن يخبز فيه قال: لا حتى يغسل ويقلع ما فيه قلت: فيكسر قال: لا، سألته عن البرّ يداس بالحمير فيبال فيه ثم يطحن قبل أن يغسل قال: لا يؤكل، قلت لأبي عبد الله: إنّ رجلاً قال: من كان له امرأة يسكن إليها وخبز يأكله فهو من المتنعمين قال أبو عبد الله: صدق، سمعت أبا عبد الله وذكر المطاعم ففضل عمل اليدين قلت له: إنّ عبد الوهاب قال: قل لأبي عبد الله: يخاف عليّ من أمر الحديث إن امتنعت شيء قال: وأي شيء يمنعه من الحديث؟ قال: الكسب والمعاش قال: هذا أوجب عليه يعني الكسب، قال المروزي: سمعت بعض أصحابنا يقول: رأيت أبا عبد الله في الجمعة وسائل يسأل، فأعطى رجل لبس قطعة ليدفعها إلى السائل، فأخذها فدفعها إليه، قلت لأبي عبد الله: إذا كان لي جار أعلم أنه يجوع قال: تواسيه قلت: فإذا كان قوتي رغيفين قال: تطعمه شيئاً، الذي جاء في الحديث إنما هو في الجار، قلت لأبي عبد الله: إذا كان للرجل قميصان أو جبتان، تجب عليه المواساة؟ قال إذا كان يحتاج إليه في هذا البرد، إلاّ أنْ يكون يفضل، قلت: الأغنياء تجب عليهم المواساة؟ فقال إذا كان قوم يضعون شيئاً على شيء كيف لا يجب عليهم، قال المروزي: سمعت يحيى الجلاء وأبا طالب صاحبنا قالا: سمعنا يزيد بن هارون، وسئل عن أنفاق المكحلة قال: حرام لا نصلح، قيل له: فإن تراضيا أبا خالد قال: الزانيان يتراضيان أفحلال هو؟ قال: قال وسمعت عبد الوهاب يقول: قال أبو أسامة: تقطع الأيدي في المكحلة يعني الذي يعملها، قلت لأبي عبد الله: أقرضت رجلاً عشرة دراهم فردها على مكحلة فقبضت درهماً قال: لم تستوف حقك؟ قلت له: الرجل يدفع إليّ الدنانير فتكون مكحلة أحكها قال: حكها صلاح لصاحبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 قال المروزي: سمعت يحيى الجلاء يذكر عن شعيب بن حرب قال: لأن أرى ابني يحك درهماً أحبّ إلي من أن أحمل على فرس في سبيل الله عزّ وجلّ، قال: ودفع إلى أبو عبد اللّّه ديناراً فقال: صرفه بدراهم صحاح، فجئت بالدراهم فأعطيته فلما كان بعد ذاك اليوم خرج في تلك الدراهم درهم رديء قلت: فهات حتى أبدله فقال: قد اختلفوا فيه، وفيه أربعة أقاويل ثم قال: قال مالك: الصرف منتفض وأما الثوري فيقول: مانقص من الدراهم فتكون له حصته من الدنانير، وهذا قول ما أدري ماهو، قلت: إلى ما تذهب قال: أرجو أن لا يكون به بأس وأما ابن عمر فيقول: ليس له أن يرد، قال أبو عبد الله: وليس هو بذاك، رواه رجل مجهول، وأما قتادة فيقول: له أن يرده ثم قال: قول قتادة أوسع على الناس استخر الله عزّ وجلّ ورده، فدفعه إلي فأبدلته، عن المغيرة عن إبراهيم أنه كره أن يشتري الدراهم بدينار على أن كان فيها زيف رده، وعن وكيع عن سفيان عن رجل عن الحسن في الرجل يصرف الدينار فيعطي الدرهم الزيف قال: لا بأس أن يستبدله، قال سفيان: إذا كان ستوقاً رده ويكون شريكه في الدينار بحصته، وسئل محمد ابن جعفر عن رجل ابتاع دراهم بدنانير وشرط على صاحبها أنه ما ردّ فعليك بدله قال: أخبرنا سعيد عن قتادة عن الحسن قال: إن كان فيها زيف رده ولكن لا يشترطان، سئل أبوعبد الله عن الرجل يستأجر يكتب الورق المائة بعشرة دراهم فيدفع إليه ديناراً فقال ابن عمر: قد اكترى شيئاً فأعطاه دنانير وصارف ولم يرَ به بأساً، قال: ولا يعطي الدنانير من الدراهم إلاّ بسعر يومها ولا زيادة دانق، سألت أبا عبد الله عن حلق القفا فقال: هو من فعال المجوس قال: ودعي حذيفة إلى شيء فرأى شيئاً من زي الأعاجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم، وكان أبو عبد الله لا يحلق قفاه إلاّ في وقت الحجامة، قلت لأبي عبد الله: فما ترى في تحذيف الوجه قال: أما الوجه فالمقاريض تأتي عليه، وكره أن يؤخذ الشعر بالمنقاش من الوجه وقال: لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتنمصات، سألت أبا عبد الله عن المرأة تصل شعرها بقرامل فكره، وسمعت امرأة تقول: جاءت امرأة من هؤلاء الذين يمشطون إلى أبي عبد الله فقالت: إني أصل رأس المرأة بقرامل وأمشطها فترى أن أحج مما كسبت قال: لا، وكره كسبه لنهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: يكون من مال أطيب منه، قلت لأبي عبد الله: فالمرأة الكبيرة تصل رأسها بقرامل فلم يرخص لها وقال: إن كان صوفاً أبيض، وتبسم ودخلت على أبي عبد الله فرأيت امرأة تمشط صبية له فقلت للماشطة بعد أن وصلت رأسها بقرمل فقالت: لِمَ تتركي الصبية قالت: إن أبي نهاني وقالت يغضب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وروينا عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير عن جابر أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زجر أن تصل المرأة برأسها شيئاً، قال أبو بكر: سألت أبا عبد الله عن حلق الرأس فكرهه قلت: تكرهه قال: أشد الكراهية، ثم قال: كان معمر يكره الحلق واحتج أبو عبد الله بحديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال لرجل لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك، قال أبو بكر: رأيت رجلاً من أصحابنا صلّى إلى جانب أبي عبد الله، وقد كان استأصل شعره وظن أبو عبد الله أنه محلوق وكان رآه بالليل فقال لي: تعرفه قلت: نعم قال: أردت أن أغلظ له في حلق رأسه، سألت أبا عبد الله عن الحقنة فقال: إذا اضطر إليها فلا بأس، ورأيت أبا عبد الله ألقى لختان درهمين في الطست وسمعته يقول: الجوز إذا لعب به الصبيان ما يعجبني أن يؤكل، سألته عن مسوك السباع: تفترش؟ فقال: لا تفترش، نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ تفترش، ذكرت لأبي عبد الله أنّ رجلاً خلف متاعه عند غلامه فباع ثوباً ممن يكره ناحيته، فأخذ الدراهم فألقاها في كيسه فجاء الرجل فأخبره، فأخذ الكيس وانطلق به إلى يوسف بن أسباط فأخبره، فذكر له يوسف عن الثوري وابن المبارك: ما أجد قلبي يسكن إلاّ أنْ أتصدق بالكيس، فقال أبو عبد الله بارك الله فيه: سئل أبو عبد الله عن الرجل يكون محتاجاً فيجيئه الرجل من إخوانه بشيء يخاف عليه إن لم يقبله فقال: إن أتاه من غير مسألة ولا استشراف نفس، أخاف أن يضيق عليه إن لم يقبل، قال: وجئته بحمال دقيق فقال: أعطيته الكراء قلت: نعم، فأخرج رغيفاً فقال لي: أعطه، فدفعته إليه فقال: ويحك ما أعلم أني قبلت من أحد شيئاً ولكن لا أرد على أبي عبد الله، أتبرك به، وجئته به مرة أخرى فأخرج إليه رغيفاً فقال: إنّ نفسي استشرفت إليه، فتبسم أبو عبد الله وقال: لك أن ترد ونحن نحب أن تقبل فقبله، سألت أبا عبد الله عن بيع المراوح الرقاق، وربما باعوا المروحة بالدرهم أو أكثر فقال: هي بمنزلة الثياب الرقاق قلت: فأي شيء تقول فقال: إذا باعها من تاجر فلا بأس، قال: سألت أبا عبد الله عن مصحف قد بلي: ماترى في دفنه؟ قال يدفن، قلت: الرجل تدعوه أمه وهو في الصلاة. قال: قد روي عن ابن المنكدر أنه قال: إذا كان في التطوّع فليجبها، قلت لأبي عبد الله: رجل سقطت منه ورقة فيها أحاديث وفوائد، فأخذتها أن أنسخها وأسمعها قال: لا إلاّ أن يأذن صاحبها، سألت أبا عبد الله عن شيء من أمر الورع، فأطرق رأسه إلى الأرض وسكت وكان ربما تغير وجهه، يقول في بعض ما أسأله: استغفر الله قلت: فأي شيء تقول يا أبا عبد الله؟ قال: أحبّ أن تعفيني قلت: فإذا أعفيتك فمن أسأل، لقد أصبح الأدلاء متحيرين قال: هذا أمر شديد، وسمعته يقول: أنا منذ أكثر من سبعين سنة في فقد وقال: ما قل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 الدنيا كان أقل للحساب، قلت له: إنّ رجلاً قال: إنّ أحمد بن حنبل وبشر بن الحارث ليس هما عندي زهاد، أحمد له خبز يأكله وبشر له دراهم تجيئه من خراسان، فتبسم أبو عبد الله ثم قال: من الزهاد أنا، وسمعته يقول: وقع للتيمي فضرب فيه فسطاطاً أو خباء عشرين سنة، وسمعته يقول: وذكر قوماً من المترفين فقال: الدنو منهم فتنة والجلوس معهم فتنة، قلت لأبي عبد الله: إنّ مولى ابن المبارك حدثني أنّ سعيد بن عبد الغفار قال لابن المبارك: ما تقول إذا نزل دار من تكره ناحيته بأجر قال: لا بأس بها، قلت لأبي عبد الله: فإذا أجاز الذي تكره ناحيته رجلاً فاشترى دار غلة ترى إن أنزلها بأجر قال: لا، قال أبو وهب: قال أبو عبد الله يعني المبارك في رجل يشتري جارية من رجل فإذا هي صافنة قال: يردها على الذي كانت له ولا يردها على الذي اشتراها منه وهي صافنة، وذكره عن سفيان عباس العنبري عن رجل قال: كنت مع عبد الرحمن بن مهدي بعبادان، وكنا نغسل أيدينا من ماء السيل وكان هو لا يفعل، يأمر غلامه فيجيء من ماء البحر عبد الصمد ابن مقاتل، قال: كانوا يكتبون الكتاب ولا يتربونه من دور السيل، يرسلون فيأخذون من طين البحر، قال: وكتب إلينا ابن حشرم وكتب في كتابه أنّ بشراً كان لا يشرب بعبادان من الحياض التي اتخذها الملوك، وكان يشرب من ماء البحر. وروينا عن سعيد بن خيثم عن محمد بن خالد قال: مرّ إبراهيم النخعي على امرأة يقال لها أم بكر من مراد وهي تغزل فقال: يا أمّ بكر، أما آن لك أن تتركينه فقالت: يا أبا عمران كيف أتركه وقد سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إنه من أطيب الكسب، قلت لأبي عبد الله: إنّ حسناً مولى ابن المبارك حكى عن سعيد بن عبد الغفار أنه قال لابن المبارك: ما تقول في رجلين دخلا على من تكره ناحيته فأجازهما، فقبل واحد ولم يقبل الآخر فخرج الذي قبل، فاشترى منه الذي لم يقبل، ما تقول؟ فسكت ابن المبارك فقال له ابن سعيد: ما يسكتك، لِمَ لا تجيبني فقال: لو علمت أنّ الجواب خير لي لأجبتك، قال سعيد: أليس أصلنا على الكراهة: قال ابن المبارك: نعم فقال أبو عبد الله: ومن يقوى على هذا؟ قال له: فما تقول في رجل أجازه فاشترى داراً؟ ترى أن أنزلها فسكت ابن المبارك فقال: لِمَ لا تجيبني فقال: هذا أضيق أكره أن أجيبك فقلت له: إنّ الثوري قال: ما في أيدي الحشم سحت فأنكر أبو عبد الله أنّ عبد الوهاب قال في الرجل: يجاز ثم يدفعها إلى الآخر إنّ المال عنده شيء واحد فقال: هذا شديد قلت: إذا أعطي تكرهه للأوّل، والثاني لا ترى به بأساً قال: إنما اكرهه للأوّل من طريق المحاباة، والثاني ليس هو مثل عطية الأوّل، قال: من أعطى هذا المال أو حوبي على أثره فليقبل وليفرق كما فعل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بعث عمر رضي الله عنه بمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 إلى أبي عبيدة ففرق، وبعث مروان إلى أبي هريرة ففرق، وبعث إلى ابن عمر ففرق، وبعث إلى عائشة رضي الله تعالى عنها ففرقت، قلت: فعلى أي وجه قبلها منهم ابن عمر؟ فإنّ قوماً يحتجون يقولون: لو لم يكن مباحاً لأخذ، فأنكر ذلك وقال: إنه لما رأى أنّ حوبي كره أن يرد إليهم وفرقه بالسوية قلت: فإنّ معاذاً يروى عنه أنه فضل عنده دينار، فطلبت منه امرأته فأعطاها فقال: كانت محتاجة إليه فقلت له: أنت تقول من بلى من هذا المال بشيء فليعدل في تفريقه، وعائشة رضي الله عنها لما شكا ابن المنكدر إليها قالت: لو أنّ عندي عشرة آلاف لأعنتك، فلما خرج أرسل إليها بعشرة آلاف فبعثت خلفه فأعطته فقالت: إنها كانت بليت بقولها، ومع هذا قد أخرجته وذكر من زهدها وورعها وقال: كان أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونها، مثل أبي موسى الأشعري وغيره ولم يكن في أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلها وإنما كانت ابنة ثمانية عشرة سنة. أبو يحيى الناقد قال: حدثنا أبو طالب قال: قلت: حدثوني عن عبد الله بن يحيى ابن أبي كثير عن أبيه عن رجل من الأنصار، أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن إذن القلب فقال: نعم هكذا قلت، ما هذا الحديث؟ قال: نهى عن أكل إذن القلب قال: لايؤكل، وعن عبد الله بن أحمد قال: قلت لأبي الغدة فقال: لا تؤكل، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرهها في حديث الأوزاعي عن واصل عن مجاهد، وروينا عن عبد الله بن يزيد عن أم سلمة سألها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إذن القلب فقالت: ألقيته فقال: طاب قدرك، وهذا آخر كتاب المعاش وما اتصل به من الآثار في الورع والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 الفصل الثامن والأربعون كتاب تفصيل الحلال والحرام وما بينهما من الشبهات وفضل الحلال وذم الشبهة وتمثيل ذلك بصور الألوان: روينا عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلاّ أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره يعني والله أعلم أنه يدخل عليه، وإن لم يعمل به من غير قصد له ولا اكتساب، كما يدخل الغبار في المشام للمجتاز لفشو الربا وانتشار مداخله مما لا يمكن التحرز منه، وفي الخبر: درهم من ربا أعظم عند الله عزّ وجلّ من ثلاثين زنية في الإسلام، وما تواعد الله عزّ وجلّ ولا تهدّد في معصية مثل ما تواعد في أكل الربا، فإنه عزّ وجلّ عظم شأنه بوصفين عظيمين إعظاماً له وترهيباً منه، فذكر في أوله المحاربة لله عزّ وجلّ ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي آخره الخلود في النار ينتظم ذلك في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) البقرة: 278 ثم اشترط للإيمان ترك الربا بقوله: إن، وهي للشرط والجزاء ثم قال: (فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) البقرة: 279 ثم أوجب التوبة منه بعد إعلامه الظلم منه فقال: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، ثم نص على تحريمه في قوله: (وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) البقرة: 275 ثم تواعد بالخلود بعد ذلك كله فقال: (ومَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ) البقرة: 275، وهذا من شديد الخطاب وعظيم العذاب. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب الحلال فريضة بعد الفريضة، فسوّى بينه وبين العلم في الفرض فأوجب الطلب لهما، مثل فرض الحلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 للأكل مثل طلب العلم للجاهل، والفرائض إذا شرعت ثبتت إلى يوم القيامة، فإذا أمر بطلبها دلّ على وجودها لأنه لا يؤمر بطلب مفترض علينا يكون معدوماً، فالحلال موجود من حيث افترض علينا وأمرنا بطلبه، ولكن طريقه ضيق ووجوهه غامضة والتسبب إليه فيه مشقة، والحاصل منه فيه خشونة وقلة، ومع ذلك فإنّ المعاون عليه قليل والطالب غريب وهذه أسباب تكرهها النفوس، وعسى أن تكرهو شيئاً وهو خير لكم، ثم إنّ الفرائض لها علوم وأحكام؛ فمن لم يعرف علومها ولم يقم بأحكامها فكأنه لم يعلمها، وكان عمر رضي الله عنه يضرب أهل السوق بالدرة ويقول: لا يتّجر في سوقنا إلاّ من تفقّه وإلاّ أكل الربا: وكان بعض العلماء يقول: تفقّه ثم ادخل السوق فبعْ واشترِ، وتأول معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب العلم فريضة على كل مسلم قال: هو طلب علم الحلال والحرام والبيع والشراء، إذا أراد الإنسان أن يدخل فيه افترض عليه علمه، ففي الخبر: من سعى على عياله من حله فهو كالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، ومن طلب الدنيا حلالاً في عفاف كان في درجة الشهداء، ويقال: إنّ أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه في مقام ذل في طلب الحلال، تساقطت عنه ذنوبه كما يتساقط ورق الشجر في الشتاء إذا يبس، وكان بعض العلماء يقول لبعض المجاهدين: أين أنت من عمل الأبطال: كسب الحلال والنفقة على العيال؟ وقد كان شعيب بن حرب، وغيره يقول: لا تحقر دانقاً من حلال تكسبه تنفقه على نفسك وعيالك أو أخ من إخوانك، فلعله لا يصل إلى جوفك أو لا يصل إلى غيرك حتى يغفر لك، وفي الخبر: من أكل الحلال أربعين يوماً نور الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه، وفي بعض الروايات زهده الله في الدنيا ويقال: من أكل حلالاً وعمل في سنة فهو من أبدال هذه الأمة. وقد كان سهل يقول: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يأكل الحلال بالورع. وروينا عن إبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض رضي الله عنهما: لم ينبل من نبل بالحج ولا بالجهاد ولا بالصوم ولا بالصلاة، وإنما ينبل عندنا من كان يعقل ما يدخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 جوفه يعني الرغيف من حله، وقال يوسف بن أسباط لشعيب بن حرب: أشعرت أنّ الصلاة جماعة سنّة وأن كسب الحلال فريضة؟ قال: نعم، وسأل رجل إبراهيم بن أدهم قال: أنا رجل أتكسب في السوق، فإذا عملت فاتتني الصلاة في جماعة فأيما أحبّ إليك أصلّي في جماعة أو أكتسب فقال: اكتسب من حلال وأنت في جماعة، وقد كان إبراهيم بن أدهم يعمل هو وإخوانه في الحصاد في شهر رمضان، فكان يقول لهم: انصحوا في عملكم بالنهار حتى تأكلوا حلالاً ولا تصلّوا بالليل، وإنّ لكم ثواب الصلاة في جماعة وأجر المصلّين بالليل، وقال بعض السلف: أفضل الأشياء ثلاث؛ عمل في سنة ودرهم حلال وصلاة في جماعة. وكان سهل رحمه الله يقول: لا يبلغ العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يؤدي هذه الأربع؛ أداء الفرائض بالسنّة وأكل الحلال بالورع واجتناب النهي في الظاهر والباطن والصبر على ذلك إلى الممات، وقال: مَنْ لم يكن مطعمه من حلال لم يكشف الحجاب عن قلبه ولم ترفع العقوبة عن قلبه ولم يبالِ بصلاته وصيامه إلاّ أنْ يعفو الله عزّ وجلّ عنه، وقال: من اختار أن يرى خوف الله في قلبه ويكاشف بآيات الصدّيقين، لا يأكل إلاّ حلالاً ولا يعمل إلاّ في سنة أو ضرورة، وكان يقول: إنما حرموا مشاهدة الملكوت، وحجبوا عن الوصول بشيئين سوء الطعمة وأذى الخلق، وكان يقول: بعد سنة ثلاثمائة لا تصح لأحد توبة، قيل: ولِمَ قال: يفسد الخبز وهم لا يصبرون عنه، وقد روى مرة الطيّب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جسم غذي بحرام لا يدخل الجنة، النار أولى به، وفي الخبر: أنه أكل من كسب غلامه ثم سأله عنه فقال: رقيت لقوم فأعطوني، وفي لفظ آخر: تكهنت لهم فأدخل يده في فيه وجعل يقيء حتى استقاءَه عن آخر لقمة ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الإمعاء. وقد روي أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بذلك فقال: أو ما علمتم أنّ الصديق لا يدخل جوفه إلاّ طيّباً؟ وفي الخبر: أنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يجعله الله مستجاب الدعوة فقال: يا سعد، أطب طعمتك تستجب دعوتك، وقال العلماء: الدعاء محجوب عن السماء بفساد الطعمة، ويقال: إنه الله لا يستجيب دعاء عبد حتى يصلح طعمته ويرضى عمله، وقال جماعة من السلف: الجهاد عشرة أجزاء؛ تسعة في طلب الحلال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وقال عليّ بن فضيل لأبيه: يا أبَتِ، إنّ الحلال عزيز فقال: يا بني إنه وإن عزّ فقليله عند الله كثير، يقال: إنّ مَنْ صلّى وفي جوفه طعام حرام، أو على ظهره سلك من حرام لم تقبل صلاته، وقال بعض السلف: يا مسكين إذا صمت فانظر عند من تفطر وطعام من تأكل، فإنّ العبد ليأكل الأكلة فيتقلب قلبه وينغل كما نغل الأديم، فلا يعود إلى حاله أبداً وهذا أحد التأويلين في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كم من صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، قال: هو الذي يصوم ويفطر على الحرام، وفي الخبر: من طلب الدنيا حلالاً مفاخراً مكاثراً ألقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان، وحدثونا من آثار السلف أنّ الواعظ والمذكر كان إذا جلس للناس ونصب نفسه سأل أهل العلم عن مجالسته فكانوا يقولون: تفقدوا منه ثلاثاً، انظروا إلى صحة اعتقاده وإلى غريزة عقله وإلى طعمته، فإن كان معتقد البدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق، وإن كان سيّء الطعمة فاعلموا أنه ينطق عن الهوى، وإن كان غير ممكن العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه، وهذا التفقد والبحث عن طريق قد مات فمن عمل به فقد أحياه. وذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحريص على الدنيا فذمه ثم قال: رب، أشعث أغبر مشرد في الآفاق، مطعمه حرام وملبسه حرام غذي بالحرام، يرفع يده في صلاته فيقول: يا ربّ يا ربّ، فأنّى يستجاب له ذلك، وفي الحديث عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ لله عزّ وجلّ ملكاً على بيت المقدس ينادي في كل ليلة: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل، قيل الصرف النافلة والعدل الفريضة، وفي حديث أبي هريرة: المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق إليها بالصحة، وإذا سقمت المعدة صدرت العروق إليها بالسقم، ومثل الطعمة من الدين مثل الأساس من البنيان؛ فإذا ثبت الأساس وقوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 استقام البناء وارتفع، وإذا ضعف الأساس واعوج انهار البنيان ووقع، وقد قال الله: (أَحسَنَ الخَالِقينَ) الصافات: 125، أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيراً من أسس بنيانه على شفا حرف جرف هار فانهار به في نار جهنم. وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من اكتسب مالاً من حرام وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن تركه وراءه كان زاده إلى النار، وقيل في معنى قول الله عزّ وجلّ: (وَلاَ تأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) النساء: 29، قيل: من أكل حراماً فقد قتل نفسه لأنه كان سبب هلاكها وتعذيبها، وفي الأخبار المشهوة عن عليّ وغيره: أنّ الدنيا حلالها حساب وحرامها عقاب، وقال يوسف بن أسباط وسفيان الثوري رحمهما الله: لا طاعة للوالدين في الشبهة، وقال الفضيل بن عياض: من قام في موقف ذل في طلب الحلال حشره الله مع الصدّيقين ورفعه إلى الشهداء في موقف القيامة، وقال أبو سليمان أو غيره من العلماء: لا يفلح من استحيا من طلب الحلال، وفي بعض التفسير فإن له معيشة ضنكاً، قيل أكل الحرام كما قيل في قول: (فلنحيينه حياة طيبة) قال: نرزقه حلالاً وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) البقرة: 172، قيل: من الحلال كما قال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلِ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صَالِحاً) المؤمنون: 51، أي من الحلال، فأمر بأكل الحلال قبل العمل الصالح، وهكذا قال بعض العلماء: زكاة الأعمال بأكل الحلال، فكلما كانت الطعمة أحل كان العمل أزكى وأنفع، وكان بشر بن الحارث إذا ذكر أحمد بن حنبل يقول: قد فضل عليّ بثلاث؛ صبره على العيال وأنا أضيق عن ذلك وهو يطلب الحلال لنفسه ولغيره وكان يقول: ما أترك الطيبات زهداً فيها وإنما أتركها لأنه لا يصفو لي درهمها، ولو صح لي الدرهم الذي اشتريها به لأكلتها، وقد قال علماء الظاهر: إن الحلال من عشرة أوجه ومنهم من قال: يوجد من سبعة أشياء وأصل ذلك كله يرجع إلى ثلاثة أشياء: تجارة بصدق وصناعة بنصح وعطية بحكم، ثم تنقسم العطية أربعة أقسام؛ فيكون فيئاً أو ميراثاً أو هبة عن طيب نفس، أو صدقة مع وجود فقر، ومدار ذلك كله وقطبه أنّ الحلال مشتق من اسمه بمعنيين؛ ما انحلّ الظلم عنه أو حل العلم فيه، فما انحل الظلم عنه انحلت المطالبة عنه، وما حل في العلم حلت الإباحة والأمر به، والحلال عند العلماء ما لم يعصَ الله عزّ وجلّ في أخذه، قال بعض علماء الباطن: الحلال ما لم يعصَ الله عزّ وجلّ في أوله ولم ينسَ في آخره. وذكر عند تناوله وشكر بعد فراغه، وكان سهل إذا سئل عن الحلال يقول: هو العلم، وقال: لو فتح العبد فمه إلى السماء وشرب القطر ثم تقوى بذلك على معصية أو لم يَطعْ الله عزّ وجلّ بتلك القوة لم يكن ذلك حلالاً، وقال طائفة من أهل العلم: إنّ المتصنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 للناس والمتزين لهم يأكل حراماً، لأنه لم ينصح مولاه في عمله، وقال بعض الموحدين: لا يكون حلالاً حتى لا يشهد فيه سوى الله تعالى، وإنّ من أشرك في رزق الله العباد فذلك شبهة وإنْ حل من طريق الأحكام، واحتجوا بقول عيسى عليه السلام: يأكلون رزقه ويشركون فيه خلقه، ومن الأبدال من يقول الحلال ما لم يؤخذ من أيدي الخلق ولم ينتقل إلى أملاكهم، وكان بعضهم لا يأكل إلاّ مما أنبتت الأرض التي هي غير مملوكة، وقوله عدل أنّ الحلال ما لم يؤخذ من أيدي الظالمين، وما أخذ من أيدي المتّقين، وحدثت عن بعض الأبدال في قصة طويلة ذكرها، أنّ بعض العامة من السياحين دفع إليه شيئاً من الطعام فلم يأكله، فسأله عن امتناعه فقال: نحن لا نأكل إلاّ حلالاً، فلذلك تستقيم قلوبنا على الزهد في الدنيا وتدوم على حالة واحدة، ونكاشف بالملكوت ونشاهد الآخرة ثم قال: لو أكلت مما تأكلون ثلاثة أيام لما رجعنا إلى شيء مما نحن عليه من علم اليقين، ولذهب الخوف والمشاهدة من قلوبنا في كلام طويل، قال له الرجل في آخره: فإني أصوم الدهر وأختم القرآن في كل شهر ثلاثين ختمة فقال له البدل: هذه الشربة من اللبن التي رأيتني فد شربتها أحبّ إلي من ثلاثين ختمة في ثلاثمائة ركعة من أعمالك، وكانت شربة من لبن من أروى وحشية وهو الأنثى من الوعل، وقال بعض السائحين: قلت لبعض الأبدال وقد حدثه عن أكل الحلال بمثل هذا الحديث: أنتم تقدرون على الحلال ولا تطعمون إخوانكم من المسلمين فقال: لا يصلح لجملة الخلق ولم نؤمر بذلك، لأنهم لو أكلوا كلهم حلالاً لبطلت المملكة وتعطلت الأسواق وخربت الأمصار، ولكنه قليل في قليل من الخلق وخصوص في مخصوصين أو معنى هذا الكلام، وقال بعض العلماء: لا أعلم حلالاً لا شك فيه إلاّ ماء الغدران، وماأنبتت أرض غير مملوكة أوهدية من أخ صالح أو معاملة تقي بصدق ونصح، وكان يحيى ابن معين قد صحب أحمد بن حنبل رضي الله عنه في السفر سنين، ولم يكن أحمد يأكل معه لأجل كلمة بلغته عنه وهو أنه قال: أنا لا أسأل أحداً شيئاً، ولو أعطاني الشيطان شيئاً لأكلته، فهجره أحمد رضي الله عنه حتى اعتذر إليه يحيى وقال: إنما كنت أمزح قال: تمزح بالدين، أما علمت أنّ الأكل بالدين قدمه الله على العمل فقال: كلوا من الطيّبات واعملوا صالحاً، وقد كان كثير من الورعين يقول: منذ أربعين سنة ما دخل جوفي إلاّ ماء أعلم من أين هو، وبعضهم يقول: منذ ستين سنة ما أكلت إلاّ من حيث أعلم، وكان وهب بن الورد لا يأكل إلاّ من حيث يعلم أو يشهد عنده شاهدان بصحته، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 كان بشر يقول: من فقر جاع، ومن تغافل شبع، وعند العلماء: إنّ من طلب الدنيا حلالاً فهو أزهد فيها ممن أكل الشبهات من غير طلب، وفي الخبر: من لم يبال من أين مطعمه لم يبالِ الله تعالى من أي أبواب النار أدخله، وقيل: ذلك في التوراة مكتوب. ذكر تفصيل الحلال من الشبهة والأصل في ذلك حديث النعمان بن بشير الحلال بيِّن والحرام بيِّن والشبهات بين ذلك لا يعلمها كثير من الناس، من تركها فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه وإنّ لكل مالك حمى وإن حمى الله في أرضه محارمه، يقال: إنّ هذا الحديث ثلث العلم، فالحلال ما ظهر وتبين وكنت على يقين منه واطمأن به قلب المؤمن العالم، والحرام أيضاً ما تبين وانكشف على يقين منه ولم يختلف أحد من المسلمين فيه، ونفر قلب المؤمن واشمأز منه وقد تطمئن بعض القلوب إلى شيء لقلة ورعها، وقد تنفر بعض القلوب من شيء لقصور علمها وليس يقع بمثل هذين القلبين اعتبار، وإنما الاعتبار بقلب المعيار الذي قد جعل كالمحك يختبر به معادن الملكوت وهو قلب المؤمن الموقن العالم، وهذا القلب في القلوب أعزّ من الذهب إلابريز في سائر المعادن. وقد روينا عن بعض السلف عن تفسير قوله تعالى: (وَكَذلكَ نُوَلّي بَعْضَ الظَّاِلمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأنعام: 129، قال: إذا فسدت أعمال الناس جعل عليهم ولاة يشبهون أعمالهم، وقال بعض العلماء في معناه: إذا فسدت أديان الناس فسدت أرزاقهم والشبهات على وجوه، أحدها ما أشبه الحلال من وجه وما اختلط أيضاً بها فاختلط ولم يتميز منهما، والشبهة أيضاً ما دل باطن العلم على تحليله فهو حلال الحكم وأظهر باطن الورع الوقوف عنه، والشبهة ما أباحه علم الظاهر وكرهه علماء الباطن لحبك القلوب وحوازها ولعدم الطمأنينة ومواجيد القلوب، كنحو ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على ما أسمع منه وهو يعلم خلافه، فمن قضيت له على أخيه فإن أقطع له قطعة من النار، فأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يحكم بظاهر الأمر وردهم إلى حقيقة علم العبد بما شهد وعرف من عيب نفسه المستتر عن الأبصار، والشبهة أيضاً ما اختلف فيه لخفاء أدلته ولتكافؤها بالسوية وما لم تره عينك فتقع على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 غيبه، والحلال والحرام ما أجمعواعليه وظهرت الأدلة عليه، والشبهة أيضاً ما حل سببه وصودف فيه حكمه إلاّ أنّ عينه مجهولة غير متيقن تحليلها، والشبهة أيضاً ما فقد منه بعض القيام بالأحكام أو ما اعتل سببه الذي يوصل العبد ويتطرق إليه من فضول جهل أو حدوث آفة من آفات النفوس، فهذه الأنواع كلها من الشبهات، ثم تختلف نفس الشبهات فيكون ذلك شبهة الحلال وتكون شبهة الحرام، شبهة كدرة، وتكون شبهة متقاربة لأنّ الحلال عند علماء الباطن على ثلاث مقامات، حلال كاف وهذا عموم وكأنه ما حل من طريق الحكم، وحلال صاف وهذا خصوص وكأنه ما ظهرت الأدلة فيه وحل سببه ووجدت السنّة فيه، وحلال شاف وهذا خصوص الخصوص، وكان ذلك ما علم أصله وأصل وجرى على أيدي المتقيّن ولم يخالطه جهل، فلذلك تفاوتت الشبهات لتفاوت حلال ضدها، فأما الحرام فطعمة الفاسقين، أكله فسوق وطلبه فسوق وإطعامه فسوق، والمعاونة عليه فسوق والمدمن عليه فاسق، وهو من الكبائر وليس من حاجة المسلمين ولا يغنيهم، والحلال هو ما أجلّه الكتاب والسنّة وحللته الأحكام والعلوم من سائر الأسباب والمعاني المطلقة والمباحة التصرف في العلم، وهو بغية المؤمنين وطعمة المتّقين ومقام الصالحين، فطلبه جهاد وإطعامه برّ والمعاونة عليه تقوى وأكله عبادة، والمدمن عليه مؤمن تقي، والشبهة ما اختلف العلماء فيه ولم يجمعوا عليه، أو ما التبس باطنه فاشتبه لغموض الأدلة أو خفاء الاستدلال فلم يكن بيّناً فلم يجمع أهل الظاهر. والورع عليه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يعلمه كثير من الناس فهذه طعمة عموم المسلمين فإن ابتليت بهذا فخذ منها حاجتك وضرورتك من كل شيء، تكن بذلك فاضلاً ويصح لك مقام في الورع، والاستكثار منه والاقتناء مكروه، وتركه إذا أمكن أفضل لأن في الخبر: من تركه فقد استبرأ لدينه أي تنزه وتنظف وتفقد دينه واحتاط له، وقيل: إنّ الأيمان نزه نظيف فتنظفوا وتنزهوا، ومعنى التنزه التباعد من الدناءة والأوساخ، ومن ذلك قيل: خرجنا نتنزه، وخرج فلان في نزهة إذا تباعد عن المصر وفارق جملة الناس، ثم قال: وعرضه أي استبرأ لعرضه أن يتكلم الناس فيه بسوء وينسبوه إلى فحش، وقد جعلنا الشبهة طريقاً إلى الحرام وموقعة فيه لأن في الخبر: من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه أي يطلب الشبهة ويدمن عليها ويستكثر منها يسرع الوقوع في الحرام، أي تسرع إليه وتدخله فيه، وقال بعض العلماء: ما أخذ من يد تقي عدل بحكم جائز فهو حلال، وما أخذ من يد من لا يعرف بعدالة ولا جرح فهو شبهة، وما أخذ من يد ظالم أو فاجر فهو حرام وإن أخذ بحكم جائز وهذا القول يقرب من الحق، ومثله من المقال مثل ما قال بعض أهل العلم: إنّ من لم يعرف أنّ ماله خالطه خيانة ولا معاملة ظالم فذلك حلال، ومن خالط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 الظلمة واكتسب المال من خيانات فما في يده حرام وإن اختلط ماله فلم يتميز، وكان يعامل بعض الظلمة ويعامل أهل التقوى والإيمان فما في يده شبهة. وقد جاء في الخبر: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الخير طمأنينة وإنّ الشرّ ريبة، معناه دع ما تشك فيه إنه حلال إلى شيء آخر لا شك فيه، فإن الشرّ ريبة وليس بيقين، وفي لفظ آخر: الإثم حيك الصدور. وقد جاء في الحديث: الإثم حواز القلوب أي ما حزّ في القلب وأثر فيه بنكث فهو إثم، لأن الله تعالى علق الإثم بالقلب وجعله من أوصافه في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) البقرة: 283، وفي الخبر: البرّ ما اطمأن إليه القلب وسكنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس فدعه لأنه قال: المؤمنون شهداء الله وقال: ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عنداللهّ قبيح كما قال سبحانه: (فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرُسُولُُهُ وَالمُؤْمِنُونَ) التوبة: 105 لأن كراهتك نظر الله إليك دليل على وجود الريبة فيك، وفصل الخطاب من ذلك أنه ليس على العبد أكثر من جهده وطاقته، وأن يعمل في دينه بمبلغ علمه وما يؤدي إليه اجتهاده ووسعه، وأنْ لا يخبأ لنفسه خبيئة ولا يرخص لنفسه بهواه رخصة، فإن قصر علمه استعان بعلم غيره، فما أخطأ حقيقته وراء ذلك فهو معفو الخطأ، وبعض الورعين يقول: الحلال ما لم يتناوله أيدي الظالمين، وقال بعضهم: ما لم تجرِ عليه يد ظالم، وقال بعض العلماء: لا يكون حلالاً حتى لا يتخالج في القلب منه شيء وحتى يسكن القلب إليه ويطمئن به، وقال آخر: الحلال ما عرض على أهل الظاهر والباطن، فإذا لم ينكروا منه شيئاً فذلك الحلال، وقد كان اجتمع جماعة من العلماء يتذاكرون أي الأعمال أشد فقال بعضهم: الجهاد وقال بعضهم: الصيام والصلاة وقال آخر: مخالفة الهوى وقال بعضهم: الورع، فأجمعوا على الورع ورجعوا إلى هذا القول، وقال حسان بن أبي سنان: ما شيء عندي أسهل من الورع قيل: وكيف؟ قال: إذا حاك في صدري شيء تركته وهذا سهل على من ساعده القدر بالزهد وقواه على ذي النفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 الشهوانية، كما أنّ الزهد سهل على من أمده الله بروح التأييد باليقين، وعزيز على من ابتلي بحبّ الدنيا، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل الأعمال والذي نقيم به وجوهنا عن الله عزّوجلّ هو الورع، فقال له أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدقت، ولعمري أنّ اليقين إذا وجد والزهد إذا حصل سهل والورع والإخلاص وهما عمدة الأعمال. وحكي عن يوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي وغيرهم من عباد أهل الشام أنّ قائلهم يقول: منذ ثلاثين سنة ماحاك في صدري شيء إلاّ تركته، وبعضهم يقول: منذ أربعين سنة ما وقف قلبي عن شيء وتخالج فيه إلاّ تركته، وقال بعضهم: منذ ثلاثين سنة ما أبالي على أي حال رآني الناس إلاّ أن يكون حاجة الإنسان، وحكي أنّ بعض الورعين وقع منه دينار فانكبّ ليأخذه، فوجد دينارين فلم يعرف ديناره منها فتركهما معاً، وحكي أنّ امرأة من المتعبدّات من أهل القلوب سألت إبراهيم الخواص عن تغير وجدته في قلبها فقال: عليك بالتفقد فقالت: قد تفقدت فما وجدت شيئاً أعرفه، فأطرق ساعة ثم قال: ألاّ تذكرين ليلة المشعل فقالت: بلى فقال: هذا التغير من ذلك، فذكرت أنها كانت تغزل فوق سطح لها فانقطع خيطها، فمر مشعل السلطان فغزلت في ضوئه خيطاً وأدخلت في غزلها، ونسجت منه قميصاً فلبسته قال: فنزعت القميص وباعته وتصدقت بثمنه، فرجع قلبها إلى الصفا، قد حكي عن ذي النون المصري رحمه الله فوق ذلك أنه لما سجن لم يأكل طعاماً ولم يشرب أياماً، فوجهت إليه امرأة يعرفها من العابدات بطعام إلى السجن وقالت: هذا من حلال، فلم يأكله فقالت له بعد ذلك، فقال: ذلك الطعام من حلال إلاّ أنه جاءني في طريق حرام فلم آكله فقالت: وكيف ذلك قال: جاءني في يد السجان وهو ظالم فلذلك لم آكله وهذه خصال الورعين، والورع هو باب الزهد ومفتاح الخوف وحقيقة الصدق، فعموم الورع أول عموم الزهد وخصوصه أول خصوص الزهد. فينبغي للعبد أن يبتدئ بطلب الحلال فيكون هو همه وقصده، فيجعل ما استطاب من المكاسب وأعلى ما قدر عليه مما يسلم فيه، فيجعل ذلك لحاجة نفسه فيما يطعم ويلبس، ويجعل مادخل عليه من الشبهات مما في نفسه منه جزازات في مؤونة عياله وفيما يرتقق به من مؤونة البيت مما لا يطعم ولا يلبس، مثل الحطب والبز وأجرة البيت وما أشبه ذلك، وسنذكر تمثيل ذلك بصور الألوان حتى تعرفه، وفي هذه رخصة وله فيه مجاهدة وحسن نية ومعاملة إذا أخذ نفسه به وصبر عليه، وكان ذلك من باله وهمه فاحتسب في ذلك ما عند الله عزّ وجلّ، وتحرى بذلك لدين الله عزّ وجلّ، فإنّ الله عزّ وجلّ يشكر له سعيه، ويجزل عليه أجره، وهذا طريق يوصل إلى الله عزّ وجل وهو محجة كثير من السلف، ولو أنّ عبداً شك في شيء فتحرز منه شكر الله له نيته، وإن كان قد أخطأ حقيقة الشيء عنده فكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 الشيء حلالاً في علم الله عزّ وجلّ ولو أنه أقدم على شيء بقلّة مبالاة فلم يدعه، فتناول شيئاً على أنه حلال عنده كان مأزور السوء نيته وقلة ورعه، وإن كان أصاب الحقيقة عند الله فهو أفضل وله أجران: أجر العلم ومقام التوفيق، ومن قصد ترك العلم وأخطأ الحقيقة عند الله عزّ وجلّ فعليه وزران: وزر الجهل ونقص العصمة، ومن عمل بعلم فأخطأ الحقيقة فله أجر واحد، ومن عمل بجهل فأصاب الحقيقة فعليه إثم الجهل وهو معصوم في الفعل، وحكى وهب اليماني مما نقل من الزبور أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى داود عليه السلام: قل لبني إسرائيل: إني لا أنظر إلى صيامكم ولا إلى صلاتكم ولكن أنظر إلى من شك في شيء فتركه لأجلي، ذلك الذي أؤيده بنصري وأباهي به ملائكتي، وقد كان بعض العلماء يقول لأهله: أرفقوا بدهن المصباح فإنما توقدون بلحمي ودمي، قيل: وكيف؟ قال لأنكم توقدون من كسبي، وكسبي من ديني وديني من لحمي ودمي، وقد كان يقال: من تفقد من أين يكسب الدرهم تبصر أين يضعه، ومن لم يبال من أين اكتسب لم يبال فيما أنفقه، وقد قال بعض العلماء لرجل رآه بطالاً وكان ذا عيال قال له: احترف فإنه إذا كان لك كسب أكل عيالك دنياك، وإن لم يكن لك كسب أكلوا دينك، وروي أنّ بعض الزهاد وقعت منه قطعة فجعل يطلبها عامة يومه فقيل له: أنت قد زهدت في الدنيا كلها وأنت تطلب هذه القطعة هذا الطلب فقال: إنّ طلبي هذه القطعة من زهدي في الدنيا لأني لا أعتاض منها غيرها، لأنها من حيث أعلم وأنا لا آكل إلاّ من حيث أعلم، وقد كان بشر يقول: المال إذا اجتمع من الشبهات لا ينفق إلاّ في الشهوات، وقال سري السقطي: لا يصبر على ترك الشبهات إلاّ من ترك الشهوات، وفي الخبر أنّ رجلاً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كسب الحجام فنهاه عنه فأعاد مسألته عنه فقال: إنّ لي غلاماً حجاماً فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ كان لا بدّ فأعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك، وفي الخبر أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: لا تأكلوه، وفي خبر آخر: إن كان جامداً فألقوها، وإن كان ذائباً فاستصحبوا به، وعن جماعة من علماء الكوفة: لا بأس بشحوم الميتة تطلى بها السفن ويدبغ بها الجلود. وقد روينا فيه حديثاً مسنداً، فهذا حجة فيما ذكرناه من أنّ حكم الشبهات أن ينفق منها فيما لايطعم ولا يلبس إلاّ إن يضطر إليها فيتناول منها مقدار الحاجة، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أتى بلبن فسأل عن أصله فأخبر به، فسأل عن أصل أصله فأخبر به، فلما رضيه شرب منه، فهذا حكم الحلال أن تعرف عين الشيء ثم تعرف أصله، فإذا صح لك أصله وأصل أصله سقط عنك ما وراء ذلك، فإن لم تعلم رأى عين وأخبرك مسلم تقي أخباره لك مقام ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وفي الخبر: لا تأكل إلاّ طعام تقي ولا يأكل طعامك إلاّتقي، لأن التقي قد استبرأ لدينه واجتهد بعلمه واحتاط لنفسه، فقد سقط عنك البحث والاجتهاد لأنه قد ناب عنك فيه وقام لك به، فكفاك كلفته فغنيت عن تكلفه، فلذلك جاءت الأحاديث على هذا المعنى: إذا دخل أحدكم إلى منزل أخيه فقدم إليه طعاماً فليأكل من طعامه ولا يسأل ويشرب من شرابه ولا يسأل، لأنه قد كفى والسؤال عمّا قد كفى تكلف، والتكلف ليس مما يعني المسلم، وفي الخبر الآخر: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فلهذا سقط عنا السؤال من البحث ولذلك كان المتقدمون يستحبون أكل طعام العلماء والصالحين. وأما من لا يحتاط لنفسه ولا يستبرئ لدينه ولا يتِقي في مكسبه حتى لا يبالي من أين أكل ولا من أين اكتسب ولا من أين جاءه الدرهم أبداً، فهذا غير تقي فحينئذ يلزمك أنت البحث لنفسك والاجتهاد والاحتياط لدينك إذا لم يقم به غيرك ولم يكلفه أخوك، ففي مثل هذا جاء الخبر: لا يأكل طعامك إلاّ تقي ولا تأكل إلاّ طعام تقي، والتقي هو الورع الدين المتّقي للحرام المجتنب للآثام، ففي دليل خطابه: لا تأكل طعام غير تقي فلا يصح التقوى من عبد يتصرف حتى يكون مستعملاً في تجارته وصناعته حكم الكتاب والسنّة، ويشهد له العلم بسلامته وبراءة دينه من الخيانة والمكر في المعاملة، من الكذب والغبن في التجارة والصنعة، بالصدق والنصح في جميع ذلك وحتى يحل السبب المعتاض منهما، وكل تجارة وصناعة يخالف العبد فيها حكم الكتاب والسنّة فليست بتجارة ولا صناعة حلال، وإن كان الاسم موجوداً لعدم المعنى الذي تصح به الأسماء في الحكم، لأن وجود الأسماء فارغة لا يغني مع عدم صحة المعاني لموافقته شيئاً، فإذا كان ما يسميه الجاهلون تجارة وصناعة وما يسميّه المستحلون بيعاً وشراء ومعاملة، وهو غير موافق للعلم، فليس ذلك بتجارة ولا صناعة ولا معاملة، ولا يستحل به أكل الحلال لأنه باطل واسمه عند العلماء خيانة وخلابة، أو غيلة أو حيلة أو محاتلة، وهذه أسماء محرمة للمكاسب لفساد معانيها وعدم حقائقها يتعلق عليها أحكام مذمومة،، لا يحل بها أخذ لأن التسمية إلى العلماء من قبل، أن إيجاب الأحكام منهم يسمون على صحة المعاني بوقوع الأحكام إذا كانوا هم الحكام، فقد اعتزل هذا التصرف، وإن وجد فيه الاسم المبيح لفقد المعنى الصحيح، وهو حكم الكتاب والسنّة، فإن وجد الاسم بحقيقة المعنى حتى تسميه العلماء تجارة وصناعة، إلاّ أنهما لم يصادفا حكم الله تعالى فيه بالسلامة من الربا واجتناب البيوع الفاسدة، فهذا حرام أيضاً لعدم حكم الله عزّ وجلّ فيه بالإطلاق، وإن كان الشراء مباحاً وصودف الأحكام فيه إلاّ أنّ عين المأخوذ المعتاض حرام رأي عين أو خبر من صدق، فهذا الكسب حرام أيضاً لأنّا على يقين من وجود الحرام فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 حتى يصفو العوض المشتبه من عين الحرام بأحد معنيين: إما بيقين أنه حلال الأصل وحلال أصل الأصل، بأن لانعلم في عينه حراماً رأيناه ولا أخبرناه، فيحل به حينئذاً أكل المال ونسميه مع ذلك شبهة، وهو شبهة الحلال إذ لسنا على يقين من حلاله، لا مكان دخول الحرام فيه لغلبة الأموال المأكلولة بالباطل وبالأسباب المكروهة من قبل الأجناد، ومن قلّة المتّقين واختلاط ذلك بالأملاك الصحيحة وبأموال التجار والصناع، فما كنا من حلاله على علم ظن سميّناه شبهة لفقد علم اليقين. وفي الخبر: جاء عقبة بن الحرث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني تزوّجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فزعمت أنها قد أرضعتنا وهي كاذبة فقال: دعها فقلت: إنها كاذبة فقال: وكيف؟ وقد زعمت أنها قد أرضعتكما لا خير لك فيها دعها عنك، وفي لفظ آخر: كيف؟ وقد قيل، وفي حديث عبد الله بن زمعة أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضي بالولد له لأنه ولد على فراشه، وأبطل دعوى الرجل فيه وإن كان منه، فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبهاً بيّناً قال لسودة: احتجبي عنه يا سودة وهي أخته ثم قال: الولد للفراش وكذلك يجب التقوى في الفراش للورع، وإنّ الأحكام على الظاهر تجيزها فيكون تركها مقاماً للورعين والحلال عند الورعين اسم ما انحلت عنه المطالبة وحل فيه العلم على حلال المقتبس في قوله عزّ وجلّ: (وَحَلاِِئِلُ أَبْنَائِكُمْ) النساء: 23، وحلائل جمع حليلة وقيل: إنما سمّيت المرأة حليلة الرجل لأن يحل معها أين حلت، أي يوجد عندها ويقيم كأنها فعيلة من فعول أي حلول، والمعنى الآخر سمّيت حليلة، والرجل حليلها لأن الآثام قد انحلت بينهما، أي لأنها تحل له ويحل لها والحلال في العلم اسم لما أباحه الكتاب والسنّة بسبب جائز مباح، وكان الحلال هو ما وجد فيه ثلاث معان: سبب مباح في العلم وعلم بأصل الدرهم والمعتاض به وبأصل أصله أنه خالص من شبهة ومصادقة حكم الله عزّ وجلّ في المعاملة، فإذا فقد أحد هذه المعاني فهو شبهة إلى الحلال أقرب، وإذا فقد معنيان فهي شبهة الحرام، فإذا فقدت المعاني الثلاث حتى يكون السبب الذي وصل به الدرهم والمعتاض منه مكروهاً، أو يكون عين الدرهم مكروهاً مجهولاً ولم يصادف فيه حكم الشرع في البيع والشراء أو الهبة بطيب نفس، فهذا هو الحرام بعينه والحرام والحلال ضدان ظاهران، والشبهات أعني شبهة الحلال وشبهة الحرام مشتبهان، فهي تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه فمثل الحلال والحرام. من أصول الألوان مثل: البياض والسواد، هما أصلان ليسا فرعين لشيء ولا متوالدين من شيء ومثل شبهة الحلال كمثل الصفرة لأنه لون متولد من البياض، ومثل شبهة الحرام كالخضرة لون متولد من السواد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 فإن رأيت الصفرة فهي علامة شبهة الحلال رددتها إليه وحكمت عليها به، كما أنّ الخضرة أقرب إلى السواد، فإن اجتمع في لون صفرة وخضرة فهي الشبهات المخلطة في الشيء، فانظر إلى الأغلب منها الأكثر، فاحكم عليه، فإن كانت الصفرة هي الأكثر والأغلب، فهذا شبهة الحلال، تناول منه غير متسع فيه إذ ليس حلالاً صافياً وهذا مثل أموال التجار والصناع المختلطة بأرزاق الجند والمعاملات، وإنْ رأيت الخضرة أكثر وأغلب فهذا شبهة الحرام، خذ منه ضرورتك إذ ليس بشبهة صافية، وهذا مثلا أملاك أولياء السلطان، لالتباس ملك أيديهم في خدمتهم لأمرائهم حتى تري البياض المحض الذي هو علامة الحلال فخذ كيف شئت واتسع، لاجناح عليك على أنك لا تكون زاهداً بذلك، وهذا مثل لفيء المشركين والغنائم في سبيل الله، ومثل المواريث الطيبة وما أنبتت الأرض التي هي غير مغصوبة، ومثل ماء السماء والسيح في الأنهار وصيد البر والبحر، وإنْ رأيت السواد الغريب فهو علامة الحرام، فاجتنبه ولا تأخذ منه شيئاً، فإن فعلت كنت بذلك فاسقاً وأكل الحرام من الكبائر، وهذا مثل المغصوب والجنايات، وما أكل بأسباب المعاصي وما تملك من غير طيب نفس من الواهب، واعلم أنّ الحلال والحرام فرعان للتقوى والفجور والعلم والجه، والعلم والتقوي هما حلالان للمتقين العلماء، فإذا كثر المتّقون ووجد المؤمنون كان الحلال أظهر وأكثر، ووجود الحرام بظهوره وكثرته، بكثرته وجود الجهل والفجور وهما حالا الجاهلين الفجار، فإذا كثر الجاهلون وظهر الفاسقون كان الحرام أغلب وأكثر، وأصل وجود الحلال في الكافة عدل الأئمة واستقامة الولاة، وطاعة أوليائهم فيما لهم معهم في سبيل الله عزّ وجلّ لصلاح الدين وحيطة المسلمين، كما إنّ أصل ظهور الحلال وانتشاره هوالرعية، فإذا قل ذلك وكان الأمر على ضده غمض الحلال واختفى، فظهر الحرام وفشا، فكان الحلال قليلاً عزيزاً، وكان في خصوص من المسلمين يخص الله به من يشاء ويصرفه إلى من أحب، كيف أحب من طريق التوفيق والهداية وبمعنى العصمة والوقاية؟ وقد جاء في الخبر إذا فسدت أديان الناس فسدت أرزاقهم، وقال بعض أهل التفسير في قوله عزّ وجلّ: (وَكَذلكَ نُوَلِّي بَعضِ الظََالِمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأنعام: 129، قال: إذا فسدت أعمال الناس، جعل عليهم أئمة يشبهون أعمالهم، وقد روينا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: رزق المؤمن، مثل قطر الحب، فهذا يحتمله معنيان، أحدهما الضيق والقلة والثاني في الصفاء، وهذا على معنى ما قال سهل رحمه الله: لو كانت الدنيا دماً غبيطاً لكان قوت المؤمن منها حلالاً، فهذا على معنيين، أحدهما أنّ المؤمن موفق معصوم قد عمل لله عزّ وجلّ بما علم، والله قد حفظه من حيث لا يعلم بأن يستخرج له الحلال من الحرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 باختياره من عمله، كما يستخرج له العلم من الجهل، والتوحيد من الشرك بلطف قدرته، فمن تذكر به وتبصر به أقامه مقام التوحيد من الحكمة، والمعنى الثاني المؤمن عنده، لا يتناول شيئاً إلا فاقة أو ضرورة، فقد حلّت له وإنْ حرمت على غيره، وهذا هوالمؤمن الصديق وقد قيل لابن المبارك يظهر بعد المائتين عدل فقال: تذاكرنا ذلك عن حماد بن سلمة، فغضب وقال: إن استطعت أنْ تموت بعد المائتين فمت، فإنه يحدث في ذلك الزمان أمراء فجرة ووزراء ظلمة وأمناء خونة، وقراء فسقة حديثهم فيما بينهم، التلاوم يسمون عند الله الأنتان، وقال بعض السلف الصالح: إني لأستحي من الله عزّ وجلّ أنْ أسأله بعد المائتين أن يرزقني حلالاً، ولكني أسأله رزقاً لا يعذبني عليه، وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما ترك لنا بنو فلان من الحلال شيئاً، يعني الملوك والأمراء، ويقال إن عليَّا ًرضي الله عنه، لم يأكل بعد قتل عثمان، ونهب الدار إلاّ طعاماً مختوماً عليه، وروي في الخبر العامل الذي أراد عليّ رضي الله عنه، أنْ يستعمله على صدقات قال: فدعا بطينة مختومة طننت أنّ فيها جوهراً أو تبراً ففض ختامها، فإذا فيها سويق شعير فنثره بين يدي وقال: كل من طعامنا، فقلت: أتختم عليه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم هذا شيء اصطفيته لنفسي، وأخاف أنْ يختلط فيه ما ليس منه، والحديث فيه طول فاختصرت هذا منه. وروي أنّ جماعة من الصحابة ما شبعوا من الطعام منذ قتل عثمان رضي الله عنه لاختلاط أموال أهل المدينة بنهب الدار، منهم ابن عمر وسعد وأسامة بن زيد رضي اللّّه عنهم، وكان يوسف ووكيع بن الجراح يقولان: الدنيا عندنا على ثلاث منازل، حلال وحرام وشبهات، فحلالها حساب، وحرامها عقاب، وشبهاتها عتاب، فخذ من الدنيا ما لا بدَّ لك منه فإن كان ذلك حلالاً كنت زاهداً، وإن كان شبهة كنت ورعاً وكان في عتاب بسير، وقد روينا عنهما أنهما قالا: لو زهد أحد في زماننا هذا حتى يكون كأبي ذر وأبي الدرداء في الزهد ما سميناه زاهداً قيل: ولِمَ؟ قال: لأن الزهد عندنا إنما يكون في الحلال المحض، والحلال المحض لا يعرف اليوم، ومات يوسف ووكيع قبل المائتين، وقد كان وكيع بن الجراح أشبه العلماء بالسلف، وكان يشبه بعبد الله بن مسعود وقد كان يشدد في الطعمة فسئل عن الحلال، فجعل يعزره ويقول: أين الحلال؟ وكيف لي بالحلال؟ ثم قال: لوسألنا مسترشد عن علمنا في الحلال فقلنا له: كل أصول البردي وألقي ثوبك وادخل في الفرات قيل: وأنت يا أبا سفيان من أين تأكل؟ قال: آكل من رزق الله وأرجو عفو اللّّه، وقد كان بشر بن الحارث من المتقدمين، سئل عن الحلال قيل له: من أين تأكل يا أبا نصر؟ فقال: من حيث تأكلون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 وليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهويضحك، وقال مرة أخرى في رواية عنه: ولكن يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وسأله رجل عمّا لا يسكر من النبيذ فقال: انظر في الدرهم الذي تشتري به التمر من أين هو؟ فإن كان حلالاً وإلاّ هلكت دع عنك ما لا يسكر، وقد كان سري السقطي يتحري في أكل الحلال ولم يكن يأكل إلاّ من حيث يعرف، وكان إذا ذكر لأحمد بن حنبل رضي الله عنه أثنى عليه وقال: تعنون ذلك الفتى المعروف بطيب الغذاء، وكان يقول: لا يقوى على ترك الشبهات إلاّ من ترك الشهوات، ويقال إنّ بشر بن الحارث كان يأكل من قبله، وذكر لنا أنّ سرياً السقطي وقف على بشر وهو يتكلم فاطلع في حلقته وقال: يا بشر، لعل يدا نقين تلبسها وتستريح من هذا الاسم: يعني قولهم بشر الحافي، فسكت بشر، فظن من كان من أصحاب سري عند بشر أنه قد وجد عليه فقالوا: يا أبا نصر، إنه لم يرد إلاّ خيراً فقال: سبحان الله، هو سري كما سري، وكان سري رحمه الله قد وجه إلى أحمد بن حنبل رضي الله عنه بمال فرده، فجاء سري فكلمه بكلام من هذا العلم فعرفه فيه ما يدق من آفة الرد فقبل منه ولم يكن بعد ذلك يرد عليه شيئاً. وحدثونا عنه أنه قال: انتهيت ذات يوم في سفر إلى نبات من الأرض وعند غدير ماء، قال: وكنت جائعاً فأكلت من الحشيش، وشربت من ذلك الماء بكفي، ثم استندت على ظهري، ثم خطر ببالي أني إن كنت أكلت حلالاً فاليوم، فهتف بي هاتف يقول: يا سري زعمت أنك أكلت حلالاِ، فالقوّة التي بلغتك إلى ههنا من أين هي؟ قال: فاستغفرت الله تعالى مما كان وقع في قلبي، وكان شقيق البلخي رحمه اللّّه يقول: إنّ المكاسب اليوم قد فسدت، وإنّ التجارات والصناعات شبهات كلها، لا يحل الاستكثار والادخار منهما لوجود الغش وعدم النصح، قال: وإنما ينبغي للمسليمن أنْ يدخلوا فيها ضرورة، وقال: الناس كقتلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم أعانوا على إماتة السنن، ودرس طرق الأنبياء، ومن أبطل سنن نبي فكأنما قتله هذا بقوله في سنة سبعين ومائة، فإذا كان الأمر أيها المسلم الموقن بتوحيد الله ووعيده، على هذا عند العلماء من السلف والأخيار من الخلف، في ذلك الوقت، فكيف بوقتك هذا؟ وقد افترض عليك الزهد في الدنيا، وقد وجب عليك الأخذ بالبلغة، مما لابد منه من كل شيئ، فإن استكثرت أو جمعت من مثل هذه الأشياء كان ذلك معصية، وكل ما يظهره الله عزّ وجلّ لك من غير الأمور وبديهات المصائب، فإنما هو تزهد لك في الدنيا إنْ فطنت لذلك، وكل ما صرف عنك مثل هذا فهو خير، وإنْ كرهت، وفي الخبر: ما ملأ ابن آدم وعاء شرَّاً من بطن ولو كان من حلال، فإن كان لا بدّ فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس، فقد صار الأكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 في ثلث البطن خير من الأكل ملأه لأنه شرّ، وما نقص من الشر فهو خير، وفي الخبر: ما شيء أبغض إلى الله من بطن مليء ولو من حلال. وقد جاء في الخبر: لا يعذّب الله عبداً جعل رزقه في الدنيا قوتاً، وفي قوله تعالى: (وَرِزقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأبْقى) طه: 131 قيل: يوم بيوم، وقيل: القناعة، وقد كان المسلمون يتورّعون عن الشبهات في وقت العدل، ومع وجود الفضل، حدثونا: أنّ الفضل بن عياض وابن عيينة وابن المبارك رضي الله عنهم، اجتمعوا عند وهيب بن الورد بمكة، فذكروا الرطب فقال وهيب: هو أحبّ الطعام إليّ إلاّ أني لا آكله، قيل: ولِمَ؟ قال: لأنه قد اختلط رطب مكة بهذه البساتين التي اشتروها هؤلاء، يعني زبيدة وأشباهها، فقال له ابن المبارك: رحمك الله إنْ نظرت إلى مثل هذا، ضاق عليك الخبز، فقال: وما سببه؟ قال: نظرت في أصول الضياع بمصر فإذا هي قد اختلطت بالصوافي، قال: فغشي على وهيب، فقال له سفيان: ما أردت بهذا؟ قتلت الرجل، قال ابن المبارك: والله ما أردت إلاّ أنّ أهوّن عليه، قال: فلما أفاق وهيب قال لله عليّ أنْ لا آكل خبزاً أبداً حتى ألقاه، قال: فكان يشرب اللبن، قال: فأتته أمه بلبن فقال: من أين لك هذا؟ قالت من شاة بني فلان، قال: ومن أين لهم ثمنها؟ قالت: من كذا وكذا، فرضيه، فلا أدناه من فيه، قال: قد بقي شيء فأين ترعى هذه الشاة؟ فسكتت، فقال: لتخبريني، فإذا هي ترعى مع غنم لابن عبد الصمد الهاشمي أمير مكة في الحي، فقال: هذا اللبن للمسلمين، فيه حق لا يحل لي أنْ أشربه دونهم، وهم شركائي فيه، فقالت له أمه: اشربه فإن الله يغفر لك، فقال: ما أحبّ أني شربته وأنه غفر لي، قالت: ولِمَ؟ قال: أكره أنْ أنال مغفرته بمعصية، وقد كان لطاووس اليماني بضاعة يتجر له فيها من التمر، فاشترى مضاربه ببضاعة أديماً من بعض أولياء السلطان وكتب إليه بذلك، وكتب إليه طاووس: أفسدت علينا مالنا، ما أحبّ أن أتلبس بشيء منه فبع الأديم باليمن، وتصدق بثمنه، ولا تدخل منه إلى الحرم درهماً واحداً، وأنا أستغفر الله من طعمة الفقراء، وأرجو أنْ أنجو كفافاً لا عليّ ولا لي، فيقال: إنّ ذلك كان سبب فقره ولم يكن له مال غيره، فبقي بغير معلوم من دنيا، وكان خالد القشيري لما ولّي مكة بعد ابن الزبير أجرى نهراً في طريق أهل اليمن إلى مكة، فكان طاووس ووهب بن منبه اليمانيان رضي اللّّه عنهما إ ذا مرّا عليه لم يتركا دوابهما أنْ تشرب منه، وقد كان سهل رحمه الله يقول: رجل بات في قرية جائعاً قام إلى الغداة لم يقدر أنْ يصلّي من الجوع، أعطاه الله في منزله جميع صلاة المصلّين القائمين في قريته، قيل: وكيف ذلك، قال: طلب الحلال، فلم يجده فكره أنْ يدخل جوفه حراماً فبات طاوياً فله أجر المصلين القائمين في تلك الليلة وهو سليمان التيمي رحمه الله ترك أكل الحنطة، فقيل له في ذلك، فقال: إنها تطحن في هذا الأرحى، فقال: المسلمون شركاء في الماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وهؤلاء يأخذون خراجها دون سائر الناس. وحدثت أنّ امرأة أهدت إلى بشر بن الحارث سلة عنب، فقالت: هذه من صنيعة أبي فردها بشر عليها، فقالت: سبحان الله تشك في كرم أبي وفي صحة ملكه وميراثي منه وشهادتك مكتوبة في كتاب الشراء، فقال: صدقت ملك أبيك ولكنك أفسدت الكرم، قالت: بماذا؟ قال: سقيته من نهر طاهر يعني طاهر بن الحسين بن مصعب بن عبد اللهّ بن طاهر صاحب المأمون، وهذا النهر هوالخندق المعترض في الجانب الغربي، لم يكن يشرب من الخندق ولا يمشي على الجسر وقد كان بشر يقول: منذ ثلاثين سنة أشتهي شواء وما أتركه زهداً فيه ولو صحّ لي درهمه لأكلته، فهذه سيرة المتقدمين وطريق السالفين، من سلكها لحق بهم وكان كأحدهم، ومن خالفها فليس على سنّة السلف، ولا من صالحيّ الخلف وسعة رحمة الله الواسعة بمشيئته السابقة، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وقد كان من سيرة القدماء من أهل الورع أنْ لا يستوعب أحدهم كليّة حقّه بل يترك شيئاً خشية أنْ يستوفي الحلال كله، فيقع في الشبهة، فإنه يقال: من استوعب الحلال حام حول الحرام، فكانوايستحبون أنْ يتركوا بينهم وبين الحرام من حقهم حاجزاً من الحلال لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يرتع حول الحمى يوشك أنْ يواقعه، ومنهم من كان يترك من حقه شيئاً لغير هذه النية، ولكن لقول اللهّ عزّ وجلّ (إنَّ الله يَأمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسَانِ) النحل: 90 قالوا: فالعدل أنْ تأخذ حقك كله وتعطي الحق، والإحسان أنْ تترك بعض حقك وتبذل فوق ما عليك من الحق لتكون محسناً، ولأن اللّّه تعالى كما أمر بالعدل قد أمربالإحسان لقوله: (حَقّاً عَلَى المتَّقينَ حَقّاً عَلَى المحُسِنينَ) البقرة: 18، - 236، وهذه الطريقة قد جهلت من عمل بها فقد أظهرها، حدثونا عن بعضهم قال: أتيت بعض الورعين بدين له عليّ وكان خمسين درهماً، قال: ففتح يده فعددت فيها إلى تسع وأربعين درهماً فقبض يده، فقلت: هذا درهم قد بقي لك من حقك، قال: قد تركته لك إني أكره أنْ أستوعب مالي كله، فأقع بما ليس لي، قد كان عبد اللهّ بن المبارك وغيره يقول: من اتّقى من تسعة وتسعين شيئاً ولم يتّقِ من شيء واحد لم يكن من المتّقين، ومن تاب من تسعة وتسعين ذنباً ولم يتب من ذنب واحد لم يكن من التوّابين، ومن زهد في تسعة وتسعين شيئاً ولم يزهد في شيء واحد فليس من الزاهدين، وقد روى عطية السعدي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون الرجل من المتّقين حتى يترك ما لا بأس به حذاراً مما به البأس، وروينا عن أبي الدرداء: إنما التقوى أن يتقي اللهّ العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أنْ يكون حراماً، يكون حجاباً بينه وبين الحرام، وبمعنى هذا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كنا نترك سبعين باباً من الحلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 مخافة باب واحد من الحرام، وهذا طريق قد مات أهله، فمن سلكه فقد أحياهم فأما أموال التجار والصناع والمتصرفين في المعايش المباحة بالأسباب الجائزة في العلم، مع موافقة الكتاب والسنّة فهي شبهات، ثم تتنوع بنوعين: فتكون شبهة حلال إذا عاملت المتّقين وأخذت من الورعين، وتكون شبهة حرام إذا عاملت قليلي التقوى والورع، وأما غير ذلك من أموال الجند فإنه حرام لفساد سببه ولمخالفة الأحكام، فما كان عن معاملة لهم وكسب ولم تعلم شيئاً بعينه غصباً ولا جناية فهو أسهل، وما علمته فهو نص الحرام، فاللّّه الله في نفسك انظر أيها المسكين لمعادك واحفظ لدينك، فإنّ كسبك من دينك وطمعتك من إيمانك، فإن تهاونت بذلك فقد تهاونت بالدين، ونبذت الأحكام وضيعت اليوم نفسك ولم تنظر فيما قدمت لغد ونعوذ بالله من سوء القضاء، ويقال إنّ العدو إذا ظفر من العبد بسوء الطعمة لم يعترض عليه في الأعمال، وقال: قد ظفرت منك بحاجتي، اعمل الآن ما شئت ولم يعد عليه من أعماله إلاّ ظلمة في قلبه، وقسوة وضعفاً في عزيمة، وفتوراً ومعصية وحرم التوفيق والعصمة، ولم يورث علم المكتوب والحكمة، فإن كان المتصرف في السوف على الوصف المكروه، مخالفاً للعلم في تصرفه مفارقاً للأحكام لايبالي من أي وجه ظهر وبأي سبب عليه قدر، غير متّقٍ في كسبه ولا مرعٍ لدين الله عزّ وجلّ فيه وحكمه، فهوآكل للمال بالباطل قاتل لنفسه مفسد لدينه غاشٍِ للمسلمين، والله لا يصلح عمل المفسدين كما لايضيع أجر المصلحين، ومع ذلك فهو غير ناصح لله عزّ وجلّ ولخلقه في الدين، مقامه في الظلم وحاله الهوى، واللهّ لا يحب الظالمين، فهو مأمور بالتوبة في جميع تصرفه مفترض عليه الإنابة في جميع تقلبه قبل أنّ يبغته الموت ويفجأ الفوت، فيلقى الله تعالى ظالماً ذا هوى فقد قال تعالى: (وَمَنْ لَمَْ يَتُبْ فأوُلئِك هُمُ الظَّالمُِونَ) الحجرات: 11، وقال تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقلَبٍ يَنْْقَلِبُونَ) الشعراء: 227، وقال بعض الحكماء: الدنيا بحر عجاج والتجار فيه غاصة، فواحد يغوص فيخرج دراً، وهؤلاء أبناء الآخرة الذين لها يعملون، وآخر يغوص فيخرج آجراً وهؤلاء عمال الدنيا الذين عليها يحرصون، وآخر يخرج سمكاً، وهؤلاء المقتصدون، وآخر في قعره قد غرق، وهؤلاء المطرودون عن الطاعة إلى الأسواق كلما أرادوا أعمال البرّ طردوا عنها إلى السوق وشغلوا، فقد غرقوا في بحر الخطايا، وآخر طاف مع الأمواج يضطرب يطلب النجاة، كلما رفعته موجة طمع في النجاة ثم تغطيه موجة أخرى فيخاف الهلكة، وهؤلاء المريدون الاستقامة في زماننا هذا، ترفعهم التوبة إلى النجاة وتحطهم العادة إلى الهلكة. لم وحاله الهوى، واللهّ لا يحب الظالمين، فهو مأمور بالتوبة في جميع تصرفه مفترض عليه الإنابة في جميع تقلبه قبل أنّ يبغته الموت ويفجأ الفوت، فيلقى الله تعالى ظالماً ذا هوى فقد قال تعالى: (وَمَنْ لَمَْ يَتُبْ فأوُلئِك هُمُ الظَّالمُِونَ) الحجرات: 11، وقال تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقلَبٍ يَنْْقَلِبُونَ) الشعراء: 227، وقال بعض الحكماء: الدنيا بحر عجاج والتجار فيه غاصة، فواحد يغوص فيخرج دراً، وهؤلاء أبناء الآخرة الذين لها يعملون، وآخر يغوص فيخرج آجراً وهؤلاء عمال الدنيا الذين عليها يحرصون، وآخر يخرج سمكاً، وهؤلاء المقتصدون، وآخر في قعره قد غرق، وهؤلاء المطرودون عن الطاعة إلى الأسواق كلما أرادوا أعمال البرّ طردوا عنها إلى السوق وشغلوا، فقد غرقوا في بحر الخطايا، وآخر طاف مع الأمواج يضطرب يطلب النجاة، كلما رفعته موجة طمع في النجاة ثم تغطيه موجة أخرى فيخاف الهلكة، وهؤلاء المريدون الاستقامة في زماننا هذا، ترفعهم التوبة إلى النجاة وتحطهم العادة إلى الهلكة. وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا، وأوحى الله عزّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 وجلّ إلى بعض أنبيائه لا تتخذوا الأهل والمال في زمن العقوبات، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم. نحمدك يا من هيأت القلوب للتيقظ لمرضاتك، وفتحت أقفالها بأسرار معرفتك وأنوار هباتك، ونصلي ونسلّم على من أرسلته بطب القلوب، وأيدته بما أنزلت عليه من قوت القلوب وتبيين الغيوب، وعلى آله الذي تحقّقوا برياضة النفوس فتحلّوا بأنوار اليقين، وأصحابه السائرين على منهجه المبين. أما بعد، فقد تمّ بحمده تعالى طبع كتاب قوت القلوب في معاملة المحبوب، للأمام الفاضل والأستاذ الكامل سيّدنا ومولانا الشيخ أبي طالب المكي رحمه الله وأثابه رضاه، وهو كتاب له من اسمه أكبر نصيب، ومن المتكلم على آفات النفوس والاستشهاد بالآي كلا مطرب غريب، وفي تبيين طريق السلف الصالح ما يجعل الغائب كأنه حاضر مبصر، وفي أحوال أهل اليقين ما يزيح الخفاء ويجلو من عين القلب النظر، وبالجملة، فهو كتاب شهرته طبقت الآفاق، وهي أقل مما فيه، وليس الخبر يكفي ما العيان يكفيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488