الكتاب: اليواقيت والضرب في تاريخ حلب المؤلف: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (المتوفى: 732هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- اليواقيت والضرب في تاريخ حلب أبو الفداء الكتاب: اليواقيت والضرب في تاريخ حلب المؤلف: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (المتوفى: 732هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] المقدمة الحمد لله مغيّر الدول، ومهلك الأواخر والأول. والصلاة والسلام الأفضل على محمد الخاتم الأولّ، وعلى آله وأصحابه الكمّل، ما مال ماضٍ وآل مستقبلٌ، وبعد: فيقول فقير عفو ربّه، إسماعيل أبو الفداء، لطف الله تعالى به في مقامه ومسراه، وأحسن إليه في أولاه وأخراه: هذا درٌّ منتخبٌ، وإبريزٌ مكتسبٌ، من كتاب زبدة الحلب في تاريخ حلب للمولى الصاحب صاحب المآثر والمناقب كمال الدين أبي حفصٍ عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيليّ الحلبيّ الحنفيّ، عامله الله تعالى بلطفه الجليّ والخفيّ. وهو التاريخ الذي انتزعه من التاريخ الكبير للشّهباء، المرتّب على الحروف والأسماء، وضمّنه ما وصل إليه، ووقف عليه من ذكر أمراء حلب وولاتها وملوكها ورعاتها، وبعض من عثر عليه من الوزراء والقضاة، سوى الملوك والرعاة، إلى غير ذلك ممّا أفاده هنالك. وقد سمّيت منتخبي هذا باليواقيت والضّرب في تاريخ حلب، وذكرت فيه ما حصل لي من ذلك، ما لم يصل إلى سواي، وأن أبلغ من عفو الله ورحمته نهاية سؤلي وأقصى مناي، وبالله أستهدي وإلى فضله وأقول: تسمية حلب اسم حلب عربيٌّ لا شكّ فيه، وكان لقباً لتلّ قلعتها، وإنّما عرف بذلك لأن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتمل من الأرض المقدّسة ينتهي إلى هذا التلّ فيضع به أثقاله، ويبثّ رعاءه إلى نهر الفرات وإلى الجبل الأسود. وكان مقامه بهذا التلّ يحبس به بعض الرعاء ومعهم الأغنام والمعز والبقر. وكان الضعفاء إذا سمعوا المقدمة أتوها من كلّ وجهٍ من بلاد الشمال، فيجتمعون مع من اتّبعه من الأرض المقدسة لينالوا من برّه. فكان يأمر الرّعاء بحلب ما معهم طرفي النهار؛ ويأمر ولده وعبيدة باتّخاذ الطعام، فإذا فرغ من ذلك أمر بحمله إلى الطرق المختلفة بإزاء التلّ، فينادي الضعفاء: إنّ إبراهيم حلب فيتبادرون إليه. فنقلت هذه اللفظة كما نقل غيرها، فصارت اسماً لتلّ القلعة. ولم يكن في ذلك الوقت مدينةٌ مبنيةٌ. وقيل: إنّ بيت لاها كان يقيم وبيت لاها هو جيل اللّكام ويقال له بيت لاها الغربيّ، وبيت لاها الشرقيّ هو ليلون. ويقال لكلّ منهما بالعبري: بيت لاهون به إبراهيم عليه السلام ورعاؤه يختلف إليه. وكان يفعل فيه أيضاً كما يفعل في تلّ القلعة. لكنّ الاسم غلبه على تلّ القلعة دون غيره. وقيل: إنّ إبراهيم عليه السلام لما قطع الفرات من حران أقام ينتظر ابن أخيه لوطاً في كثير ممّن يتبّعه في سنةٍ شديدة المحل. وكان الكنعانيون يأتون إبراهيم عليه السلام بأبنائهم، فيهبونهم منه، ويتصّدق عليهم بأقواتهم من الطعام والغنم. وصار إبراهيم عليه السلام إلى أرض حلب، فاتخذ الرّكايا وكرا الأعين ومنها عين إبراهيم عليه السلام، وهي التي بنيت عليها مدينة حلب. وكان للكنعانيين بتلّ القلعة في رأسه بيتٌ للصنم، فصار إليه إبراهيم عليه السلام. فأخرج الصنّم، وقال لمن حضره من الكنعانيين: ادعوا إلهكم هذا أن يكشف عنكم هذه الشدّة. فقالوا: وهي هو إلا حجرٌ؟ فقال لهم: فإن أنا كشفت عنكم هذه الشدة ما يكون جزائي؟ فقالوا له: نعبدك، فقال لهم: بل تعبدون الذي أعبد. فقالوا: نعم. فجمعهم في رأس التلّ ودعا الله فجاء الغيث. وضرب إبراهيم عليه السلام برأس ظلّه حين أقلع الغيث، وتوافت إليه رعاؤه فكان يأمر أصحابه بإصلاح الطعام، ويضعه بين أوعية اللّبن، ويأمر بعضهم فينادي: ألا إنّ إبراهيم قد حلب فهلمّوا. فيأتون من كلّ وجهٍ، فيطعمون ويشربون، ويحملون ما بقي إلى بيوتهم. وان الكنعانيون يخبرون عن إبراهيم بما كان يفعله. وصار قولهم حلب بطول هذا الاستعمال لقباً لهذا التلّ. فلما عمرت المدينة تحته سميت باسمه. وذكر بعضهم أنّها إنما سميت حلب باسم من بناها، وهو حلب بن المهر بن حيص بن عمليق من العمالقة، وكانوا إخوةً ثلاثة: بردعة، وحمص، وحلب؛ أولاد المهر. فكلّ منهم بنى مدينةُ فسميت باسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وكان اسم حلب باليونانية باروّا وقيل: بيرؤاا. وذكر أرسطاطاليس في كتاب الكيان أنه لمّا خرج الاسكندر لقصد دارا الملك ومقاتلته كان أرسطاطاليس في صحبته، فوصل إلى حلب وهي تعرف بلسان اليونان بيرؤاا فلما تحقّق أرسطاطاليس حال تربتها، وصحّة هوائها، استأذن الإسكندر في المقام بها، وقال له: إنّ بي مرضاً باطناً، وهواء هذه البلدة موافقٌ لشفائي. فأقام بها فزال مرضه. بناء مدينة حلب وقيل: إنّ الذي بنى مدنية حلب أولاد ملكٌ من ملوك الموصل يقال له: بولكوس الموصلّي، ويسميه اليونانيون سرد ينبلوس. وكان أول ملكه في سنة 3989 سنة لآدم عليه السلام، وملك 45 سنةً. وفي سنة تسع وعشرين من ملكه وهي سنة 4018 سنة لآدم عليه السلام ملكت ابنته أطوسا المسماة سميرم مع أبيها. وذكر أبو الريحان البيروني في كتاب القانون المسعوديّ قال: بنيت حلب في أيام بلقورس من ملوك نينوى، وكان ملكه لمضيّ ثلاثة آلاف وتسع مئةٍ واثنتين وستني سنةً لآدم عليه السلام، ومدة مقامه في الملك ثلاثون سنةً. وشاهدت على ظهر كتاب عتيقٍ من كتب الحلبيين بخطّ بعضهم: رأيت في القنطرة التي على باب أنطاكية من مدينة حلب في سنة 420 لهجرة كتابةً باليونانية فسألت عنها: فحكى لي أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسينيّ الحّرانّي أيّده الله، أنّ أبا أسامة الخطيب بحلب حكى له أنّ أباه حدّثه أنه أحضر مع أبي الصّقر القبيصيّ ومعهما رجلٌ يقرأ باليونانيّ، فنسخوا هذه الكتابة، وأنفذ إليّ نسختها في رقعةٍ وهي: بنيت هذه المدينة؛ بناها صاحب الموصل، والطالع العقرب والمشتري فيه وعطارد يليه، ولله الحمد كثيراً. وهذا يدلّ على ما ذكرناه؛ وهو أنّ بلوكوس الموصليّ هو الذي عمّرها، وكان قبل الإسكندر. وذكر يحيى بن جريرٍ التّكريتيّ في كتاب له ضمّنه أوقات بناء المدن؛ ما يدلّ على أن حلب بعد بناء بلوكوس خربت، وجدّد عمارتها غيره بعد موت الإسكندر، فإنه قال بعد ذكر دولة الإسكندر وموته باثنتي عشرة سنةً: بنى سلوقوس اللاذقية وسلوقية وفامية وباروّا وهي حلب، وأذاسا وهي الرّها، وكمّل بناء أنطاكية وزخرفها، وسمّاها على اسم ولده انطيوخوس وهي أنطاكية، وكان شرع في بنائها قبله أنطيغين في السنة السادسة من موت الإسكندر. وذكر أنّه بناها على نهر أورنطس، وسمّاها أنطيوخيا. ملوك حلب وقال: كان الملك أول على سوريا وبابل سلوقوس نيقطور وهو سريانيّ. وملك في السنة الثالثة عشرة بطليموس بن لاغوس بعد موت الإسكندر وألزم اليهود أن يقيموا في المدن التي بناها، وقرّر عليهم الجزية. وسوريا هي الشام الأولى، وهي حلب وما حولها من البلاد على ما ذكره بعض الرواة وفي طرف بلد حلب بناحية الأحصّ مدينةٌ عظيمةٌ داثرةٌ، وبها آثارٌ قديمةٌ يقال لها سورية، وإليها ينتسب القلم السوريانيّ. فلعل الناحية كلّها ينسب إليها ويطلق عليها اسمها، كما أطلق بعد ذلك على جميع الكورة اسم قنّسرين. وقال، يعني المؤرخين من المسيحية: الذي ملك بعد الإسكندر بطليموس الأريب، وهو بنى حلب وسمّاها أشمونيث، وذلك أنّه اختار بناء المدينة في موضع، وأراد أن يكون بها الماء، فخرج ودار حولها حتى رأى الأعين التي بحيلان، فأمر المهندس أن يبني عليهنّ بناءً ويحكمه، وأن يجريهنّ إلى المكان الذي هو موسومٌ بمنزلة الملك. وجمع الناس للعمل وعمارة المدينة فاحتفر في وسط المدينة حفيرةً، بثقها إلى النهر الذي أجراه، وأمر بالقساطل أن تعمل، فاختلعت فاتخذت من الحجارة فتمّ ما أراد، وبنى له بناءً في موضع الريحانيين يومنا هذا. واتّخذ عليه قصراً وبنى المدينة، وآخر ما بناه باب أنطاكية ورتّب فيها ابنته أشمونيث، وسمّى المدينة باسمها وأضاف لها جنداً وزوّجها بإيلياوس أحد اليونان؛ فإنّ رسمها قديمٌ، فتمّم بناءها وأضافها إلى أيلياوس زوج أشمونيث. وملك بعده ابنه بطليموس، ولقب باليونانية محب أخته وكانت أخته نائبة عنه، فبقي في الملك ستاً وعشرين سنةً. ملك بعده ابنه بطليموس الأورجاتس ولقب باليونانية: محبّ أبيه، وأشمونيث وزوجها وولدها يتولّون حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وملك بعده بطليموس محب أمه وهو ابن أشمونيث، كان ينزل حلب وعمّر على صخرتها قلعة وحصّنها، فخرج عليه في آخر أيامه أنطياخوس ملك الروم واستنجد عليه، فلم يكن محب أمّه معه طاقةٌ، فخرج عنها مع أمّه فأسرهما أنطياخوس وعذّبهما، واستصفى أموالهما، وشرع في هدم ما جدّدت أشمونيث من بناء حلب. فقيل له: إنّ الذي يفعله ليس من عادة الملوك، فكفّ عن هدمها وتوعّد من يسكن بحلب، فصار الناس إلى غيرها. وعاد إلى أنطاكية، فاستحدث بها أبنيةً لنفسه، فلذلك يزعم قومٌ أنّ أنطاكية من بنائه، وليس كذلك. وإنمّا له فيها مثل ما لبطليموس الأريب من التّتميم، ويقال: إنّ أشمونيث وهي حلب تجاوزت عمارتها ما رسمه الأريب، حتى صارت العمارة إلى جميع الجوانب. وقيل: إنّ أشمونيث نصبت حوليها مئة ألف نصبٍة من الزيتون من الأشجار الجبلية الشامية، ولم يبق بحلب موضعٌ ينسب إلى أشمونيث غير العين المعروفة بأشمونيث. وماتت أشمونيث وولدها في أسر أنطياخوس تحت العقاب. وقيل: هو الذي بنى قنّسرين، وأجرى الماء إليها في قناةٍ من عين المباركة، وقيل: بناها غيره. وعرف أنطياخوس ببطليموس الرابع، وقيل: إنّ أشمونيث حال محاربتها أنطياخوس أتتها نجدةٌ من مصر فهزمته، فصار إلى الشرق فمات. ثم ملك حلب بعد أشمونيث بطليموس أبيفانس وهو قائد العسكر. وفي زمانه اشترت اليهود منه موضع القلعة المعروفة اليوم بقلعة الشريف فتحصنّوا بها، وكانوا يعينون الملك في القتال، ويحملون له الأموال. ثم ملك بعده بطليموس فيلومطر وهلك أنطياخوس في أيامه. ثم ملك بعده جماعةٌ من ملوك اليونان، إلى أن صار الملك إلى القياصرة ملوك الروم، فملك منهم عدة ملوك إلى أن ملك أوغسطس قيصر بن ميويوخس فاستولى على الدنيا وقهر الملوك وقصد مصر ليستولي عليها. فلما بلغ حلب وكان أمره قد عظم قال: إنّ بطليموس الأريب لم يرض أن ينزل منزلاً لغيره، فسار إلى موضع مدينة قنّسرين فأمر القواد أن يأمروا من قبلهم بتحويط منازلهم، فبنى قنسرين وسماها مدينة العسكر، ونقل الأسواق من حلب إليها، ولم يبق بحلب إلا من لا حاجة للعسكر به، وكانت هذه أعظم ما فعل أنطياخوس وقيل: إنه أمر أن ينفق على القناة إليها، فأنفق نائبه مالاً على القناة، وأجرى الماء فيها من عين المباركة، وساقها بالقناطر إلى قنّسرين، وبنى بها ثلاث بركٍ على شكل المثلّث، وفائضها ينحدر إلى الأرضين التي تحتها. وصار الملك بعده إلى جماعة من القياصرة ملوك الروم. وصارت أنطاكية دار الملك، وبها مقام ملوك الروم، وكانوا يدعونها مدنية الله ومدينة الملك وأمّ المدن، لأنها أول بلد ظهر فيه دين النّصرانية. ومعظم سور مدينة حلب من بناء الروم. وملك منهم ملكٌ يقال له: فوقاس، فسفك الدماء، وتتبع حاشية كسرى فقتلهم فتوجه كسرى أو شروان إلى الشام، فافتتح حلب وأنطاكية ومنبج. ورمّ ما استهدم من سور حلب بالقرميد الكبار، وهو ظاهرٌ في سور المدينة الكبير فيما بين بابي اليهود والجنان. وجدّد كسرى بناء منبج، وسمّاها منبه، وهو بالفارسية أنا أجود فعرّبت فقيل: منبج. واستحسن أنطاكية، فلما عاد إلى العراق بنى مدنيةً على صورتها، وسمّاها زبد حسره، وهي التي تسمّى رومية، وأدخل إليها سبي أنطاكية، فقيل: إنهم لم ينكروا من منازلهم شيئاً، فانطلقوا إليها إلا رجلاً إسكافاً كان على باب داره بأنطاكية شجرة فرصادٍ فلم يرها على بابه ذلك. فتحيّر ساعةً، ثم دخل الدار فوجدها مثل داره. ولما عاد كسرى من الشام قام هرقل بن قوق بن مروقس وجمع بطارقة الروم، وأولي المراتب؛ وذكر لهم سوء آثار فوقاس ملك الروم، وغلبة الفرس على ملكهم بسوء تدبيره، وإقدامه على الدماء، ودعاهم إلى قتله فقتلوه. ووقع اختيارهم على هرقل فملكوه. في أول سنةٍ من ملكه كانت هجرة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة واستولى على حلب، وعلى جميع البلاد التي استولى عليها أنو شروان، وكان جلّ مقامه بأنطاكية. فلما افتتح المسلمون أجناد الشام، وكانت واقعة اليرموك، وقتل المسلمون فيها معظم الروم، وأمير المسلمين عليهم أبو عبيدة بن الجراح، انتقل هرقل من أنطاكية، وعبر نهر الفرات إلى الرّها، وجعل بقنّسرين ميناس الملك، وكان أكبر ملوك الروم بعد هرقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 فسار أبو عبيدة بعد فراغه من اليرموك إلى حمص ففتحها، ثم بعث خالد بن الوليد على مقدّمته إلى قنّسرين. فلما نزل بالحاضر زحف لهم الروم، وثار أهل الحاضر بخالد بن الوليد، وعليهم ميناس وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل ت فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتلةً لم يقتلوا مثلها. ومات الروم على دمه حتى لم يبق منهم أحدُ. وأمّا أهل الحاضر فكانوا من تنوخ، منذ أول ما تنخوا بالشام نزلوه، وهم في بيوت الشعر، ثم ابتنوا المنازل، فأرسلوا إلى خالد بن الوليد: إنّهم عربٌ وإنهم لم يكن من رأيهم حربه. فقتل منهم وترك الباقين. فدعاهم أبو عبيدة بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم بعضهم، وبقي البعض على النّصرانية، فصالحهم على الجزية. وكان أكثر من أقام على النصرانية بنو سليح بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة. ويقال: إنّ جماعة من أهل ذلك الحاضر أسلموا في خلافة المهدّي، فكتب على أيديهم بالخضرة قنسرين. ثم إن خالداً سار فنزل على قنّسرين، فقاتله أهل قنسرين، ثم لجؤوا إلى حصنهم، فتحصّنوا منه، فقال: إنّكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم، أو لأنزلكم إلينا. ثم نطروا في أمرهم، وذكروا ما لقي أهل حمص وطلبوا منه الصلح، فصالحوه على صلح حمص، فأبى إلا على خراب المدينة فأخربها. وكان صلح حمص على دينار وطعامٍ على كلّ جريبٍ أيسروا أو أعسروا. وغلب المسلمون على جميع أراضيها وقراها وذلك في سنة 16 من الهجرة. ثم إنّ خالداً سار إلى حلب، فتحصّن منه أهل حلب، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم فطلبوا من المسلمين الصلح والأمان. فقبل منهم أبو عبيدة وصالحهم وكتب لهم أماناً، ودخل المسلمون حلب من باب أنطاكية، وحفّوا حولهم بالتّراس داخل الباب، فبني على ذلك المكان مسجدٌ وهو المسجد المعروف بالغضائري داخل باب أنطاكية ويعرف الآن بمسجد شعيبٍ. ولما توجّه أبو عبيدة إلى حلب بلغه أنّ أهل قنّسرين قد نقضوا، فردّ إليهم السمط ابن الأسود الكنديّ فحصرهم ثم فتحها، فوجد فيها بقراً وغنماً، فقسم بعضها في من حضر، وجعل الباقي في الغنم. وكان حاضر قنّسرين قديماً نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حتى نزل الجبلين من نزل منهم. فلما ورد أبو عبيدة عليهم أسلم بعضهم، وصولح كثيرٌ منهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك بيسيرٍ، إلا من شذّ منهم. فتح حلب وكان بقرب مدينة حلب حاضر حلب يجمع أصنافاً من العرب من تنوخ وغيرهم، فصالحهم أبو عبيدة على الجزية. ثم إنّهم أسلموا بعد ذلك، وجرت بينهم وبين أهل حلب حربٌ أجلاهم فيها أهل حلب، فانتقلوا إلى قنّسرين وكانت قنّسرين وحلب إذ ذاك مضافتين إلى حمص. فأفردهما يزيد بن معاوية في أيامه. وقيل: أفردهما معاوية أبوه. ولما بلغ عمر بن الخطاب ما فعل خالدٌ في فتح قنّسرين وحلب، قال: أمّر خالدٌ نفسه! يرحم الله أبا بكر هو كان أمير المسلمين من جهة أبي بكر على الشام. فلما ولي عمر عزله، وولى أبا عبيدة. ثم ولاّه عمر على قنّسرين، فأدرب خالدٌ وعياض بن غنمٍ أول مدربة كانت في الإسلام، سنة 16 هـ. ورجع خالدٌ فأتته الإمارة من عمر على قنّسرين، فأقام خالدٌ أميراً من تحت يد أبي عبيدة عليها، إلى أن أغزى هرقل أهل مصر في البحر وخرج على أبي عبيدة بحمص بعد رجوعه من فتح حلب، فاستمدّ أبو عبيدة خالداً فأمدّه ممّن معه، ولم يخلف أحداً. فكفر أهل قنّسرين بعده، وبايعوا هرقل، وكان أكفر من هناك تنوخ. واشتور المسلمون فأجمعوا على الخندقة والكتاب إلى عمر بذلك. وأشار خالدٌ بالمناجزة فخالفوه وخندقوا، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه. وجاء الروم بمددهم، فنزلوا على المسلمين وحصروهم. وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفاً سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم. فنالوا من المسلمين كلّ منال. وكتب عمر إلى سعد ابن أبي وقاص يخبره بذلك، ويأمره أن يبثّ المسلمين في الجزيرة ليشغلهم عن أهل حمص وأمدّه عمر بالقعقاع بن عمرو فتوغّلوا في الجزيرة، فبلغ الروم فتقوّضوا عن حمص إلى مدائنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وندم أهل قنّسرين، وراسلوا خالداً، فأرسل إليهم: لو أنّ الأمر إليّ ما باليت بكم، كثرتم أم قللتم، لكنّي في سلطان غيري. قال: فإن كنتم صادقين فانفشوا كما نفش أهل الجزيرة. فساموا سائر تنوخ ذلك فأجابوا، وأرسلوا إلى خالد: إن ذلك إليك، إن شئت فعلنا وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم. فقال: بل أقيموا، فإذا خرجنا فانهزموا بهم. فلما علم أبو عبيدة والمسلمون بذلك. قالوا: اخرج بنا وخالد ساكت. فقال أبو عبيدة: مالك يا خالد لا تتكلم؟ فقال: قد عرفت الذي عليه رأيي، فلم تسمع من كلامي. قال: فتكلّم. فإني أسمع منك وأطيع، فأشار بلقائهم. فخرج المسلمون والتقوهم، فانهزم أهل قنسرين والروم معهم، فاحتوى المسلمون على الروم، فلم يفلت منهم أحدٌ. وما زال خالدٌ على إمارة قنسرين حتى أدرب خالدٌ وعياضٌ سنة 17. وبعد رجوعهما من الجابية رجع عمر إلى المدينة. فأصابا أموالاً عظيمةً، وقفل خالدٌ سالماً غانماً، وبلغ الناس ما أصابوا في تلك الصائفة، وقسم خالدٌ فيها ما أصاب لنفسه، فانتجعه رجال من أهل الآفاق وكان الأشعث ابن قيس ممّن انتجع خالداً بقنسرين، فأجازه بعشرة آلاف درهمٍ. وكان عمر لا يخفى عليه شيءٌ في عمله، فكتب إليه من العراق بخروج من خرج منها، ومن الشام بجائزة من أجيز فيها، فدعا البريد. وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيل خالداً ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته، حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث؛ أمن ماله؟ أم مما أصابه، فإن زعم أنّها ممّا أصابه فقد أقرّ بخيانةٍ، وإن زعم أنّها من ماله فقد أسرف واعزله على كلّ حال. وضمّ إليك عمله. فكتب أبو عيبدة إلى خالدٍ فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد أمن مالك أجزت بعشرة آلافٍ، أم مما أصبته؟ فلم يتكلم حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكتٌ لا يقول شيئاً، فقام بلالٌ إليه، فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا. ثم تناول عمامته، فنقضها، لا يمنعه سمعاً وطاعةً. ووضع قلنسوته، ثمّ أقامه فعقله بعمامته، ثم قال: ما تقول؟ أمن مالك؟ أم ممّا أصبته؟ قال: لا، بل من مالي. فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عمّمه بيده. ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخّم ونكرم موالينا. وأقام خالدٌ متحيراً، لا يدري أمعزولٌ أم غير معزولٍ. وجعل أبو عبيدة يكرمه ويدّه مفخماً ويخيّره، حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظنّ الذي قد كان. فكتب إليه بالوصول. فأتى خالد أبا عبيدة فقال: رحمك اله ما أردت بالذي صنعت كتمتني أمراً كنت أحبّ أن أعلمه قبل اليوم. فقال أبو عبيدة: إني والله ما كنت لأروعك، ما وجدت من ذلك بدّاً، وقد علمت أنّ ذلك عملٌ. وودّعهم، وقال خالدٌ: إنّ عمر ولاّني الشام حتى إذا ألقى بوانيه صار بثنيّةً وعسلا عزلني واستعمل غيري. وتحمّل وأقبل إلى حمص، فخطبهم وودعهم. وسار إلى المدينة حتى قدم على عمر فشكاه. وقال: لقد شكوتك للمسلمين، وبالله إنّك في أمري غير مجمل يا عمر. فقال عمر: من أين هذا الثّراء؟. فقال: من الأنفال والسّهمان. فقال: ما زاد على الستّين ألفاً فلك ثم شاطره على ما في يده، وقوّم عروضه، فخرجت عليه عشرون ألفاً فأدخلها بيت المال، ثم قال: يا خالد والله إنك لعليّ الكريم، وإنك إليّ الحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيءٍ. ثم إنّه عوّضه بعد ذلك عمّا أخذه منه. واستعمل أبو عبيدة على قنسرين حبيب بن مسلمة بن مالكٍ. وأمّا هرقل فإنّه تأخّر من الرّها إلى سميساط، ووصل منها إلى قسطنطينية. فلما وصل علا على شرفٍ، والتفت نحو سورية، وقال: عليك السلام يا سورية، سلامٌ لا اجتماع بعده. في سنة 90 وولّى مكانه أخاه مسلمة بن عبد الملك فدخل مسلمة حران. وكان محمد بن مروان يتعمّم للخطبة، فأتاه آتٍ، فقال: هذا مسلمة على المنبر يخطب!. فقال محمدٌ: هكذا تكون الساعة بغتةً!. وارتعدت يده، فسقطت المرآة من يده. فقام ابنه إلى السيف فقال: مه يا بنّي، ولاّني أخي، وولاّه أخوه. وكان أكثر مقام مسلمة بالنّاعورة، وبنى فيها قصراً بالحجر الأسود الصّلد، وحصناً بقي نه برجٌ إلى زماننا هذا. وكان عبد الملك بن مروان يقول للوليد: كأنّني بك لو قدمتّ قد عزلت أخي وولّيت أخاك. ومات الوليد بن عبد الملك في سنة 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وولي سليمان بن عبد الملك فسيّر أخاه مسلمة غازياً إلى قسطنطينية. واستخلف مسلمة على عمله خليفةً. ورابط فيها سليمان بمرج دابقٍ إلى أن مات سنة 99. ولي عمر بن عبد العزيز بن مروان، فكان أكثر مقامه بخناصرة الأحصّ. وولّى من قبله على قنّسرين هلال بن عبد الأعلى، وولّى أيضاً عليها الوليد بن هشام المعيطّي على الجند، والفرات بن مسلمٍ على خراجها. وتوفي عمر بدير سمعان من أراضي معرة النعمان، يوم الخميس لخمسٍ بقين من رجبٍ سنة 101. وولّي يزيد بن عبد الملك، والوليد على قنّسرينن وكان مرائياً يتزيّن عنده بذلك، فحطّ رزقه. وكتب إلى يزيد، وهو ولّي عهده: إنّ الوليد بن هشامٍ كتب إليّ كتاباً أكثر ظنّي أنه تزيّن بما ليس هو عليه، فأنا أقسم عليك إن حدث بي حدث وأفضي هذا الأمر إليك فسألك أن تردّ رزقه، وذكر أني نقصته، فلا يظفر منك بهذا. فلما استخلف يزيد كتب الوليد إليه: إن عمر نقصني، وظلمني فغضب يزيد، وعزله، وأغرمه كلّ رزقٍ جرى عليه في ولاية عمر ويزيد، فلم يل له عملاً حتى هلك. ومات يزيد بن عبد الملك بالبلقاء في سنة 105. وولّى على قنّسرين وعملها خال أخيه سليمان، وهو الوليد بن القعقاع بن خليد العبسي. وقيل: إنّه ولّى عبد الملك بن القعقاع على قنسرين، وإليهم ينسب حيار بني عبسٍ، وإلى أبيهم تنسب القعقاعية؛ قريةٌ من بلد الفايا. وتوفي هشامٌ سنة 125. وولي الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت بينه وبين بني القعقاع وحشةٌ، فهرب الوليد بن القعقاع وغيره من بني أبيه من الوليد، فعاذوا بقبر يزيد بن عبد الملك. فوّلى الوليد على قنّسرين يزيد بن عمر بن هبيرة، وبعث إلى الوليد بن القعقاع فأخذه من جوار قبر أبيه، ودفعه إلى يزيد بن عمر بن هبيرة، وهو على قنسرين، فعذّبه وأهله، فمات الوليد بن القعقاع في العذاب. وخرج يزيد بن الوليد على الوليد بن يزيد فقتله في البخراء في جمادى الآخرة سنة 126. ووثب على عامله بدمشق فأخذه. وسيّر أخاه مسرور ابن الوليد، وولاّه قنّسرين. وقيل بل ولّي قنسرين أخوه بشر بن الوليد. وبويع يزيد، ومات في ذي الحجة من سنته هذه. بويع إبراهيم بن الوليد، وخلع في شهر ربيع الأول سنة 127. فولي مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وكان بحرّان، فسار منها في سنة 127، ونزل بحلب، وقبض على مسرور بن الوليد الوالي بحلب وعلى أخيه بشر بعد أنّ لقيهما، فهزمهما، وقتلهما بحلب، وكان معهما إبراهيم بن عبد الحميد بن عبد الرحمن، فقتله أيضاً. وولّى على حلب وقنسرين عبد الملك بن الكوثر الغنويّ، بعد أن خلع إبراهيم ابن الوليد نفسه، وآمنه مروان، واستتبّ أمر مروان. وخرج على مروان سليمان ابن هشام بن عبد الملك، فالتقاه مروان بن محمدٍ بخساف فاستباح عسكره في سنة 128. وكان الحكم وعثمان ابنا الوليد بن يزيد حبسا بقلعة قنسرين. وكان يزيد ابن الوليد حبسهما، فنهض عبد العزيز بن الحجاج ويزيد بن خالدٍ القسريّ، فقتلاهما وقتلا معهما يوسف بن عمر الثقفيّ بقنسرين، وأخذا بعد ذلك فقتلهما مروان وصلبهما. وولّي أبو العباس السفاح في شهر ربيعٍ الآخر من شهور سنة 132 بالكوفة. فسيّر عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن العباس، في جمع عظيمٍ، للقاء مروان بن محمد. وكان مروان في جيوشٍ كثيفةٍ، فالتقيا بالزاب من أرض الموصل في جمادى الآخرة سنة 132. فهزم مروان، واستولى على عسكره. وسار مروان منهزماً حتى عبر الفرات من جسر منبج فأحرقه. فلما مرّ على قنسرين وثبت به طيّئٌ وتنوخ واقتطعوا مؤخر عسكره ونهبوه. وقد كان تعصّب عليهم، وجفاهم أيام دولته وقتل منهم جماعة. وتبعه عبد الله بن عليّ وسار خلفه حتى منبج فنزلها، وبعث إليه أهل حلب بالبيعة مع أبي أمية التّغلبيّ. وقدم عليه أخوه عبد الصمد معه إليها، فبايعه أبو الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابيّ وكان من أصحاب مروان، ودخل في ما دخل فيه الناس من الطاعة. وسار عبد الله إلى دمشق ثم بلغ خلفه إلى نهر أبي فطرس، وأتبعه بأخيه صالحٍ حتى بلغ الدّيار المصرية خلف مروان بن محمدٍ فأدركه ببوصير فقتله، ثم عاد إلى دمشق بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وذكر ابن الكلبيّ: وقدم بالس قائدٌ من قواد عبد الله بن عليٍّ في مئةٍ وخمسين فارساً فتقدّم إلى الناعورة، فبعث بولد مسلمة بن عبد الملك ونسائهم وكانوا مجاورين أبا الورد، بحصن مسلمة بالناعورة وببالس فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد الكلابي، فخرج من مزرعته خساف في عدةٍ من أهل بيته، وخالف وبيّض، وجاء إلى الناعورة، والقائد المذكور نازلٌ بحصن مسلمة بها، فقاتله حتى قتله ومن معه. وأظهر الخلع والتبييض، ودعا أهل حلب وقنسرين إلى ذلك فأجابوه. فبلغ ذلك عبد الله بن عليٍّ وهو بدمشق، فوجّه أخاه عبد الصمد بن عليٍّ في زهاء عشرة آلاف فارس، ومعه ذؤيب بن الأشعث على حرسه، والمخارق بن عفانٍ على شرطه. فسار أبو الورد إليه، وجعل مقدّم جيشه وصاحبه أبا محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأبو الورد مدبّر الجيش، ولقبهم فهزم عبد الصمد ومن معه. فلما قدم عبد الصمد على أخيه عبد الله، أقبل عبد الله بن عليٍّ بعسكره لقتال أبي محمد وأبي الورد، ومعه حميد بن قحطبة، فالتقوا في سنة 132 في آخر يومٍ من السنة، واقتتلوا بمرج الأخرم. وثبت لهم عبد الله بن عليٍّ وحميدٌ، فهزموهم وقتل أبو الورد، وآمن عبد الله بن عليٍّ أهل حلب وقنسرين، وسوّدوا، وبايعوا. ثم انصرف راجعاً إلى دمشق فأقام بها شهراً. فبلغه أنّ العباس بن محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان السفيانيّ قد لبس الحمرة وخالف، وأظهر المعصية بحلب، فارتحل نحوه حتى وصل إلى حمص. فبلغه أنّ أبا جعفرٍ المنصور وكان يومئذٍ يلي الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وجّه مقاتل بن الحكم العكّي من الرقّة في خليل عظيمةٍ لقتال السفيانيّ، وأنّ العكيّ قد نزل منبج، فسار عبد الله مسرعاً حتى نزل مرج الأخرم، فبلغه أنّ العكّي واقع السفيانيّ وهزمه، واستباح عسكره، وافتتح حلب عنوة، وجمع الغنائم وسار بها إلى أبي جعفر وهو بحران. فارتحل عبد الله إلى دابقٍ، وشتا بها، ثم سميساط وحصر فيها إسحاق بن مسلم العقيلي حتى سلّمها، ودخل في الطاعة. ثم قدم أبان بن معاوية بن هشام بن عبد الملك في أربعة آلافٍ من نخبة من كان مع إسحاق بن ملمٍ. فسيّر إليه حميد بن قحطبة. فهزم أباناً، ودخل سميساط فسار إليها عبد الله، ونازلها حتى افتتحها عنوةً. وكتب إليه العباس يأمره بالمسير إلى النّاعورة، وأن يترك القتال ويرفع السيف عن الناس، وذلك في النّصف من رمضان سنة 132. وهرب أبو محمد ومن كان معه من الكلبيّة إلى تدمر، ثم خرج إلى الحجاز فظفر به، وقتل. وكتب إليه السفاح أن يغزو بلاد الروم، فأتى دابق فعسكر بها وجمع، وتوجّه إلى بلاد الروم. فلما وصل دلوك يريد الإدراب كتب إليه عامله بحلب يخبره بوفاة السّفاح ومبايعة المنصور. فرجع من دلوك، وأتى حران ودعا إلى نفسه، وزعم أنّ السفاح جعله وليّ عهده، وغلب على حلب وقنسرين وديار ربيعة ومضر وسائر الشام، ولم يبايع المنصور. وبايعه حميد بن قحطبة وقواده الذين كانوا معه. وولى على حلب زفر بن عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي أبا عبد الله في سنة 137. فسيّر المنصور أبا مسلم الخراسانيّ صاحب الدعوة لقتال عبد الله بن عليّ. فسير عبد الله حميد بن قحطبة وكتب له كتاباً إلى زفر بن عاصم إلى حلب، وفيه: إذا ورد عليك حميدٌ فاضرب عنقه. فعلم حميدٌ بذلك، فهرب إلى أبي مسلمٍ الخراسانيّ خوفاً من عبد الله. ثم سار أبو مسلم إلى عبد الله بن عليٍّ، فالتقيا وانهزم عبد الله بن عليٍّ وعبد الصمد أخوه معه. فسار أبو مسلمٍ خلفه، فوصل إلى الرقّة، وأخذ منها أموال عبد الله، وتبعه إلى رصافة هشامٍ فانهزم عبد الله إلى البصرة، وتوارى عند أخيه سليمان بن عليٍّ، فأخذ له أماناً من المنصور وسيّره إليه، فحبسه إلى ان سقط عليه الحبس فمات. وقبض أبو مسلمٍ على عبد الصمد بن عليٍّ بالرّصافة، وأخذ أمواله، وسيّره إلى المنصور، فأمّنه وأطلقه. وورد كتاب المنصور على أبي مسلمٍ بولاية الشام جميعه وحلب وقنّسرين وأمره أن يقيم له في بلاده نوّاباً، ففعل أبو مسلم ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وسار إلى المنصور فالتقاه في الطرق يقطين بن موسى وقد بعثه المنصور إليه لإحصاء جميع ما وجدوا في عسكر عبد الله بن عليٍّ، فغضب أبو مسلمٍ وقال: أنكون أمناء في الدماء وخونةً في الأموال؟. ثم أقبل وهو مجمع على خلاف المنصور. فاستوحش المنصور منه، وقتله في سنة 139. ولما عاد أبو مسلمٍ من الشام ولّى المنصور حلب وقنسرين وحمص صالح بن عليٍّ بن عبد الله بن العباس سنة 137. فنزل حلب، وابتنى بها خارج المدينة قصر بقريةٍ يقال لها بطياس بالقرب من النّيرب، وآثاره باقيةٌ إلى الآن، ومعظم أولاده ولدوا ببطياس، وقد ذكرها البحتريّ وغيره في أشعارهم. وأغزى الصائفة مع ابنه الفضل في سنة 139 بأهل الشام، وهي أول صائفة غزيت في خلافة بني العباس، وكانت انقطعت الصوائف في أيام بني أمية قبل ذلك بسنين. وظهر في سنة 141 قومٌ يقال لهم الراوندية، خرجوا بحلب وحرّان، وكانوا يقولون قولاً عظيماً، وزعموا أنهم بمنزلة الملائكة. وصعدوا تلاً بحلب فيما قالوا، ولبسوا ثياباً من حرير، وطاروا منه فنكبوا وهلكوا. ودام صالحٌ في ولاية حلب إلى أن مات سنة 152. ورأيت فلوساً عتيقةً، فتتبّعت ما عليها مكتوبٌ، فإذا أحد الجانبين مكتوبٌ عليه: ضرب هذا الفلس بمدينة حلب سنة 146. وعلى الجانب الآخر: ممّا أمر به الأمير صالح بن عليٍّ أكرمه الله. ولما مات صالح بن عليٍّ تولّى حلب وقنسرين بعده ولده الفضل بن صالحٍ، واختار له العقبة بحلب، فسكنها، وأقام بحلب والياً مدّةً. ثم ولّى المنصور بعده موسى بن سليمان الخراسانيّ. ومات المنصور سنة 158 وموسى على قنسرين وحلب. ورأيت فلوساً عتيقةً فقرأت عليها: ضرب هذا الفلس بقنسرين سنة 157. وعلى الجانب الآخر: مما أمر به الأمير موسى مولى أمي المؤمنين. ولما ولي المهديّ خرج عبد السلام بن هشام الخارجي من الجزيرة وكثر أبتاعه، فلقيه من قواد المهديّ فهزمهم إلى قنسرين فلحقوه فقتلوه بها سنة 162 وكان مقدم جيشه شبيباً. وعزم المهديّ على الغزو، فخرج حتى وافى حلب في سنة 163. والتقاه العباس ابن محمدٍ إلى الجزيرة، وأقام له النزل في عمله، واجتاز معه على حصن مسلمٍ بالناعورة. فقال له العباس: يا أمير المؤمنين إنّ لمسلمة في أعناقنا منّةً. كان محمد بن عليٍّ مرّ به فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: يا بنّ عمّ، هذه ألفان لدينك، وألفان لمعونتك، فإذا نفدت فلا تحتشمنا. فقال المهديّ: أحضروا من ههنا من ولد مسلمة ومواليه. فأمر لهم بعشرين ألف دينارٍ، وأمر أن تجرى عليهم من الأرزاق. ثم قال: يا أبا الفضل كافأنا مسلمة، وقضينا حقّه؟. قال العباس: نعم، وزدتّ. ونزل المهديّ بقصر بطياس ظاهر حلب، وولّى المهديّ حين قدم قنسرين وحلب والجزيرة عليّ بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس حرباً وخراجاً وصلاةً. ثم إن المهديّ عرض العسكر بحلب، وأغزى ابنه بلاد الروم، وسيّر محتسب حلب عبد الجبار فأحضر له جماعةً من الزنادقة فقتلهم، وولّى حلب والشام جميعه ابنه هارون، وأمر كاتبه يحيى بن خالدٍ أن يتولّى ذلك كلّه بتدبيره. وكانت توليته في سنة 163. ولما بويع الهادي أقرّ أخاه ويحيى على حالهما. فلما أفضى الأمر إلى الرشيد ولّى حلب وقنّسرين عبد الملك بن صالح بن عليّ ابن عبد الله فأقام بمنبج وابتنى بها قصراً لنفسه وبستاناً إلى جانبه، ويعرف البستان يومنا هذا ببستان القصر. وكانت ولايته سنة 175 ثم صرف لأمرٍ عتب عليه فيه. ثم ولاّها الرشيد موسى بن عيسى سنة 176. ومرّ الرشيد على عبد الملك بمنبج، فأدخله منزله بها، فقال له الرشيد: هذا منزلك؟. قال:: هو لك، ولي بك. فقال: فكيف هو. قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل الناس. قال: كيف طيب منبج؟. قال: عذبة الماء، وعذبة الهواء، قليلة الأدواء. قال: فكيف ليلها؟. قال: سحرٌ كلّه. وهاجت الفتنة بالشام بين النّزارية واليمانية، فولى الرشيد موسى بن يحيى ابن خالد في هذه السنة الشام، فأقام به حتى أصلح بينهم. ثم ولاّها الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك سنة 178، وتوجّه إليها سنة 180، واستخلف عليها عيسى بن العكّيّ. ثم إنّ الرشيد ولّى حلب وقنسرين إسماعيل بن صالح بن عليٍّ لما عزله عن مصر سنة 182، وأقطعه ما كان بحلب في سوقها؛ وهي الحوانيت التي بين باب أنطاكية إلى رأس الدّلبة، وعزله وولاّه دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ثم ولّى الرشيد بعده عبد الملك بن صالح بن عليٍّ ثانيةً، فسعى به ابنه عبد الرحمن إلى الرشيد، وأوهمه أنه يطمع في الخلافة، فاستشعر منه، وقبض عليه في سنة 187. وولّى على حلب وقنسرين ابنه القاسم بن هارون، وأغزاه الروم، ووهبه لله تعالى في سنة 187. ورابط القاسم بدابق هذه السنة والتي بعدها، وقيل: إنّ أحمد بن إسحق بن إسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن العباس ولي قنّسرين للرشيد، وقد كان ولّي له مصر، وعزله عنها سنة 189. ولا أتحقق ولايته في أيّ سنةٍ كانت. وقد ذكر بعضهم أنّ عبد الله بن صالحٍ توفي في أيام المنصور. وقال بعضهم: إنّه توفي بسلمية سنة 186. فعلى هذا يكون الذي ولاّه الرشيد ابن ابنه عبد الله بن صالح بن عبد الله بن صالحٍ، والله أعلم. ثم إنّ الرشيد ولّى حلب وقنّسرين خزيمة بن خازم بن خزيمة من قبل ابنه القاسم بن الرشيد في سنة 193. ولم يزل القاسم بن الرشيد في ولاية حلب وقنسرين حتى مات أبوه الرشيد في سنة 193 في جمادى الآخرة. فأقرّه أخوه الأمين عليها، وجعل معه قمامة بن أبي زيدٍ، وولّى خزيمة بن خازم الجزيرة. ثم إنّ محمداً الأمين عزل أخاه القاسم بن الرشيد عن حلب وقنسرين والعواصم وسائر الأعمال التي ولاّه أبوه الرشيد سنة 194، وولاها خزيمة بن خازم في هذه السنة. ثم ولّى الأمين حلب وقنسرين والجزيرة عبد الملك بن صالح بن عليٍّ، فخرج إليها، واجتمعت إله العرب في سنة 196. وهذه الولاية الثالثة لعبد الملك، وان الأمين أخرجه من حبس أبيه حين مات سنة 193 في ذي القعدة. واستمرّ عبد الملك في هذه الولاية إلى أن مات سنة 196 بالرقة، ودفن في دارٍ من دور الإمارة. وكان يرى الأمين ما فعل به. فلما خلع الأيمن حلف عبد الملك إن مات الأمين لا يعطي المأمون طاعةً. فمات قبل الأمين، فبقيت في نفس المأمون، إلى أن خرج للغزاة، فوجد قبر عبد الملك في دار الإمارة، فأرسل إلى ابنٍ لعبد الملك: حوّل أباك من داري، فنبشت عظامه وحوّل. وولي خزيمة بن خويزمة حلب وقنسرين في سنة 197. وقيل: إنّ الوليد بن ظم طريفٍ ولي حلب وقنسرين بعد عبد الملك بن صالحٍ، وبعده ورقاء عبد عبد الملك، ثم بعده يزيد بن مزيد، ثم استأمن إلى طاهر بن الحسين. وجعل إليه حرب نصر بن شبثٍ فتحصّن بكيسوم، فقصده طاهرٌ فلم يظفر به، ولقيه فكسر طاهرٌ، وعاد مغلولاً وذلك في سنة 198. ثم أضاف إليه ولاية مصرٍ وإفريقيّة في سنة 204، ثم ولاّه خراسان سنة 206. وولّى ابنه عبد الله مصر والشام جميعه، وأمره بمحاربة نصر بن شبثٍ في سنة 206. ثم توفي طاهرٌ بخراسان سنة 207، فأضاف المأمون ولايته إلى ابنه عبد الله مع الشام، فسار عبد الله بن طاهر إلى الشام من الرقّة، واحتوى على الشام جميعه، وهدم سور معرة النعمان، وهدم معظم الحصون الصغار مثل حصن الكفر وحصن حناكٍ وغير ذلك. ونزل بكيسوم وبها نصر بن شبثٍ فحصره إلى أن ظفر به وخرج إليه بأمان، وخرّب كيسوم بعد وقائع كثيرة وحرب بينه وبين نصر بن شبثٍ، وسار إلى مصر وذلك كلّه في سنة 209. ولما فتح مصر في سنة 211 كتب المأمون إليه: أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه فما أحببت من أمرٍ ... فإني الدهر أهواه وما تكره من شيءٍ ... فإني لست أرضاه لك الله على ذاك ... لك الله لك الله ودامت ولاية عبد الله بن طاهر إلى سنة 213، ووجّهه المأمون إلى خراسان، وعزله عن الشام. وولّى ابنه العباس بن المأمون حلب وقنسرين والعواصم والثغور، وأمر له بخمس مئة ألف دينارٍ في سنة 213. ثم ولاها المأمون إسحاق بن إبراهيم بن مصعب بن زريقٍ وعزل ابنه العباس في سنة 214. ثم إنّ المأمون عزل إسحاق بن إبراهيم في سنة 214، وولاه مصر، وأعاد ابنه العباس إليها ثانية. ثم ولّى المأمون حلب وقنسرين ورقة الطريفيّ وأظنّه مع العباس، وكانت لورقة حركةٌ أيام الفتنة. فلما قدم المأمون للغزاة، ونزل بدابقٍ في سنة 215، لقيه عيسى بن عليٍّ بن صالح الهاشميّ، فقال له: يا أمير المؤمنين، أيلينا أعداؤنا في أيام الفتنة وفي أيامك؟. فقال: لا، ولا كرامة. فصرف ورقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وولّى عيسى بن عليّ بن صالحٍ نيابةً عن ولده العباس فيما أرى، فوجد عنده من الكفاية والضبط وحسن السيرة ما أراد، فقدّمه وكبر عنده وأحبّه. وكان المأمون كلّما غزا الصائفة لقيه عيسى بن عليٍّ بالرقة. ولا يزال معه حتّى يدخل الثغور، ثم يردّ عيسى إلى عمله. وولّى المأمون في سنة 215 قضاء حلب عبيد بن جناد بن أعين مولى بني كلابٍ فامتنع من ذلك، فهدّده على الامتناع فأجاب. ثم ولّى المأمون عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالحٍ لما غزا الصائفة في سنة 218 العواصم. وفيها مات المأمون. وإنما وليها عبيد الله عن العباس ابن المأمون في غالب ظنّي، فإن العباس ولي حلب قنسرين والجزيرة من سنة 214 إلى أن توفي أبوه المأمون بالبذندون من أرض طرسوس. وبويع أبو إسحاق المعتصم فأقرّ العباس بن المأمون على ولايته، وكان الجند قد شغبوا، وطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة. فأرسل المعتصم إليه، وأحضره، فبايعه، وخرج إلى الناس وقال لهم: ما هذا الحبّ البارد قد بايعت عمي، فسكنوا. وسار المعتصم إلى بغداد والعباس معه، فلما توجّه المعتصم إلى الغزاة، ومرّ بحلب في سنة 223، ودخل إلى بلاد الروم، اجتمع به بعض الجند ووبّخه على ما فعل من إعطاء المعتصم الخلافة، وحسّن له تدارك الأمر. فاستمال جماعةً من القواد، وعزموا أن يقبضوا على المعتصم وهو داخلٌ إلى الغزاة فلم يمكّنهم العباس وقال: لا أفسد على الناس غزاتهم. فنمي الخبر إلى المعتصم فقبض على العباس وعلى من ساعده على ذلك، وهو عائدٌ من الغزاة. فلما وصل إلى منبج سأل العباس الطعام وكان جائعاً فقدّم إليه طعامٌ كثيرٌ فأكل. فلما طلب الماء منع وأدرج في مسحٍ فما بمنبج في ذي العقدة سنة 223. وولّى المعتصم حلب وقنسرين حربها وخراجها وضياعها عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح بن عليٍّ الهاشميّ. ثم إنّه ولّى أشناس التركي الشام جميعه والجزيرة ومصر وتوجه وألبسه وشاحين بالجوهر في سنة 225. ونظر في صلات المعتصم لأشناس فوجد مبلغها أربعين ألف درهم، وأظن أنه بقي في ولايته إلى أن مات سنة 230 في أيام الواثق. وولى الواثق عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح الهاشمي حلب وقنسرين حربها وخراجها وضياعها، وأظنه كان متوالياً في ايام المعتصم من جهة أشناس، فأقره الواثق على ولايته. وولى الواثق قنسرين وحلب والعواصم بعد عبيد الله، محمد بن صالح بن عبد اله بن صالح، فكانت سيرته غير محمودةٍ، وكان أحمر أشقر فلقب سماقة لشدة حمرته ويقال: إنه أول من أظهر البرطيل بالشام، ووقع عليه هذا الاسم، وكان لا يعرف قبل ذلك الرشوة على غير إكراه، وكان أكثر الناس سكوتاً، وأطوعهم صمتاً، لا يكاد يسمع له كلام إلا في أمر يأمر به، أو قولٍ يجيب عنه. وكان قاضي حلب في أيامه أبا سعيد عبيد بن جنّاد الحلبي، وتوفي سنة 231، وكان المأمون ولاه قضاء حلب وله يقول عمرو بن هوبر الكلبي في قصيدة يغض منه؛ أولها: لا درّ درّ زمانك المتنكّس ... الجاعل الأذناب فوق الأرؤس ما أنت إلا نقمةٌ في نعمةٍ ... أو أصل شوكٍ في حديقة نرجس يا قبلة ذهبت ضياعاً في يدٍ ... ضرب الإله بنانها بالنقرس من سرّ أبطح مكةٍ آباؤه ... وجدوه وكأنّه من قبرس وهذا عمرو بن هوبر كان من معراثا البريدية من ضياع معرة النعمان وولي في أيام المتوكل معر تمصرين، وقتل بها. وكان الواثق قد ولى الثغور والعواصم دون حلب وأعمالها أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، وأمر بحضور الفداء مع خاقان وصاحب الروم ميخائيل، فأمضى الفداء سنة 231. ثم إنه غزا شاتياً، فأصاب الناس شدة، فوجد الواثق بسبب ذلك عليه وعزله وولاها نصر بن حمزة الخزاعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وولى الشارباميان في أول أيام المتوكل على حلب وقنسرين والعواصم، واليين أنا ذاكرهما وكان الشارباميان أحد قواد المتوكل وكان خصيصاً عنده فإما أن يكون المتوكل ولاه جند قنسرين والعواصم، أو أنه كان السلطان في أيام المتوكل فكان أمر الولاية إليه. فإنني قرأت في كتاب نسب بني صالح بن علي قال: وولى الشارباميان جند قنسرين والعواصم علي بن إسماعيل بن صالح بن عل أبا طالب، وإنما أراد أن يتزين به عند المتوكل فامتنع من قبول ولايته، فأعلمه إن لم يفعل كتب فيه إلى الخليفة، فقبلها وأقام على ولاية جند قنسرين والعواصم حتى مات، فكانت أيامه وسيرته أجمل سيرة. وكان علي بن إسماعيل إذا خرج إلى العواصم استخلف ابنه محمد بن علي على قنسرين وحلب، فلا يفقد الناس من أبيه شيئاً. قال: وولى الشارباميان جند قنسرين والعواصم عيسى بن عبيد الله بن الفضل بن صالح بن علي الهاشمي. قال: وولى المتوكل طاهر بن محمد بن إسماعيل بن صالح على المظالم بجند قنسرين والعواصم، والنظر في أمور العمال، وجاءته الولاية منه، فألفاه الرسول في مرضه الذي مات فيه. وجعل المتوكل ولاية عهده إلى ابنه محمد المنتصر، وولاه قنسرين، والعواصم، والثغور وديار مضر وديار ربيعة، والموصل، وغير ذلك في سنة 235، فاستمر في الولاية إلى أن قتل أباه، وكانت الولاة من قبله. وفي أيام ولايته حلب في سنة 242 وقع طائر أبيض، دون الرخمة وفوق الغراب، على دلبة بحلب لسبع مضين من رمضان. فصاح: يا معشر الناس، الله، الله حتى صاح أربعين صوتاً. وكتب صاحب البريد بذلك، وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه. ولا يبعد عندي أن تكون الدلبة التي ينسب إليها رأس الدلبة. وسمع في هذه السنة أصوات هائلة من السماء، وزلزلت نيسابور، وتقلعت جبال من أصولها، ونبع الماء من تحتها، ووصلت الزلزلة إلى الشام والثغور. وأظن أن نائب المنتصر في جند قنسرين في حياة المتوكل كان بغا الكبير، فلما قتل المتوكل قدم بغا عليه وسيّر المنتصر وصيفاً إلى الثغر الشامي، فأقام به إلى أن مات. وولى المستعين في سنة 250 قنسرين وحلب وحمص موسى بن بغا، وتوجه إليها حين عاث أهل حمص على الفضل بن قارن. ثم ولي حلب والعواصم أبو تمام ميمون بن سليمان حدقة بن عبد الملك بن صالح في أيام المستعين، وكانت له حركة وبأس في فتنة المستعين. وعصى أهل حلب وأقاموا على الوفاء للمستعين بيعتهم، فقدم عليهم أحمد المولد محاصراً لهم، فلم يجيبوه إلى ما أراد من البيعة للمعتز. وكان السفير بينه وبينهم الحسين بن محمد صالح بن عبد الله بن صالح أبا عبيد الله الهاشمي. فلما بايعوا بعد ذلك للمعتز، وانقضى أمر المستعين، ولاه أحمد المولد جند قنسرين وحلب في سنة 252 فأقام مدة يسيرة ثم انصرف إلى سلمية أعني الحسين بن محمد. وولي حلب وقنسرين والعواصم صالح بن عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل ابن صالح في فتنة المستعين وكان له سعي وتقدمة ورئاسة وولي بعده ثانية صالح بن عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح الهاشمي. وانقضت ولاية بني صالح الهاشمين. ثم ولي حلب وقنسرين في أيام المعتز أبو الساج ديوداد في شهر ربيع الأول 254، وبقي والياً إلى أن تغلب أحمد بن عيسى بن الشيخ على الشامات في أيام المهتدي. فلما مات وولي المتعمد سيّر إلى ابن شيخ بولاية أرمينية على أن ينصرف عن الشام آمناً، فأجاب إلى ذلك ورحل عنها في سنة 256. ووليها أحمد بن طولون مع أنطاكية وطرسوس وغيرها من البلاد وكان أحمد ابن طولون شهماً شجاعاً عاقلاً، وكان على مربطه أربعة آلاف حصان وكانت نفقته في كل يوم ألف دينار. فعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد الملقب بالموفق على حلب وقنسرين والعواصم في شهر ربيع الأول سنة 258. ثم ولاه بغداد واليمن وخراسان وولى الشام لابنه جعفر وجعل له ولاية العهد وهو صبي، وجعل الأمر بعده لأخيه أبي أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وولى أبو أحمد الموفق سيما الطويل، أحد قواد بني العباس ومواليهم حلب والعواصم، فابتنى بظاهر مدينة حلب داراً حسنة وعمل لها بستاناً وهو الذي يعرف الآن بستان الدار ظاهر باب أنطاكية وبهذه الدار سميت المحلة التي بباب أنطاكية الدارين إحدى الدارين هذه والدار الأخرى بناها قبله محمد ابن عبد الملك بن صالح فعرفت المحلة بالدارين لذلك. وإحدى الدارين تعرف بالسليمانية على حافة نهر قويق وحاضر السليمانية بها يعرف وهو حاضر حلب. وجدد سيما الطويل الجسر الذي على نهر قويق قريباً من داره. وركب عليه باباً أخذه من قصور بعض الهاشميين بحلب يقال له: قصر البنات. وأظن القصر يعرف بأم ولد كانت لعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح اسمها بنات وهي أم ولده داود. وسمى سيما الباب باب السلامة. وهو الباب الذي ذكره الواساني في قصيدته الميمية التي أولها: يا ساكني حلب العوا ... صم جادها صوب الغمامه وفي سيما الطويل يقول البحتري: فردت إلى سيما الطويل أمورنا ... وسيما الرضا في كل أمر يحاوله فعصى أحمد بن طولون على أبي أحمد الموفق وأظهر خلعه ونزل إلى الشام فانحاز سيما الطويل إلى أنطاكية فحصره أحمد بن طولون بها فألقت عليه امرأة حجراً وقيل قوفاً فقتله. وقيل بل قتله عسكر ابن طولون وكان ذلك في سنة 64 أو 265. واستولى أحمد بن طولون على حلب والشام جميعه منابذاً لأبي أحمد الموفق، وكان قاضي حلب في أيامه عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الله أبو بكر القاضي العمري ودام على قضائها إلى أن مات أحمد. وكان سيما ين صارت له حلب قد قصد جماعة من أشارف بني صالح بن علي بالأذى واستولى على أملاكهم وأودع بعضهم السجن. فلما ولي أحمد بن طولون قال صالح بن محمد بن إسماعيل بن صالح بن علي الهاشمي الحلبي يمدحه ويشكره، ويذكر ظفره بسيما بقصيدة يقول فيها: وقد لبستنا من قذى الجور حلةٌ ... ودار بنا كيد الأعادي فأحدقا وحكم فينا عاندٌ فجرت له ... أفاعيل عرٍّ تترك اللبّ أخلقا إلى أن أتيحت بابن طولون رحمةٌ ... أشار إلى معصوصبٍ فتفرّقا فدتك بنو العباس من ناصرٍ لها ... أنار به قصد السبيل وأشرقا بنيت لهم مجداً تليداً بناؤه ... فلم نر بنياناً أعزّ وأوثقا منحتهم صفو الوداد ولم يكن ... سواك ليعطي الود صفواً مزوقاً تجوّز منك العبد لما قصدته ... وأسكن أشراف الأقاوم مطبقا بلا ترةٍ أسدوا إليه وإنّما ... يجازي الفتى يوماً على ما تحقّقا وهيهات ما ينجيه لو أنّ دونه ... ثمانين سوراً في ثمانين خندقا ثم إن أحمد بن طولون توجه إلى مصر، وولى مملوكه لؤلؤ سنة 267، فخرج بكار الصالحي من ولد عبد الملك بن صالح، بنواحي حلب بينها وبين سلمية، ودعا إلى أبي أحمد الموفق في سنة 68 فحاربه ابن العباس الكلابي فهزم الكلابي ووجه إليه لؤلؤ قائداً يقال له أبو ذر فرجع وليس معه كبير أحد. ثم إن لؤلؤ ظفر به فقبض عليه. ثم إن لؤلؤ الطولوني خالف مولاه أحمد بحلب، وعصى عليه في سنة 269، وكاتب أبا أحمد الموفق يف المسير إليه، فأجابه إلى ذلك. وقطع لؤلؤ الدعاة لمولاه أحمد في مدنه جميعها: حلب وقنسرين وحمص وديار مضر. وترك أهل الثغور الدعاء لابن طولون، وأخرجوا نائبه منها وهموا بقبضه فهرب. فنزل أحمد بن طولون من مصر في مائة ألف فقبض على حرم لؤلؤ، وباع ولده، وأخذ ما قدر عليه مما كان له، وهرب لؤلؤ منه ولحق بأبي أحمد طلحة بن المتوكل وهو على محاربة العلوي البصري عميد الزنج. ولؤلؤ هو الذي قتل علوي البصرة في سنة 269. وبقي لؤلؤ ببغداد إلى أن قبض عليه الموفق وقيده في سنة 273. فوجد له أربع مائة ألف دينار، فذكر لؤلؤ الطولوني أنه لا يعرف لنفسه ذنباً إلا كثرة ماله وأثاثه. لما هرب لؤلؤ من مولاه إلى العراق في جمادى الأولى من السنة، اجتاز ببالس وبها محمد بن العباس بن سعيد الكلابي أبو موسى، وأخوه سعيد فأسرهما. ثم إن طولون وصل إلى الثغور فأغلقوها في وجهه فعاد إلى أنطاكية ومرض. فولى على حلب عبد الله بن الفتح وصعد إلى مصر مريضاً فمات في سنة 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وولي ابنه أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون فولى في حلب أبا موسى محمد بن العباس بن سعيد الكلابي في سنة 271. ونزل أبو الجيش من مصر إلى حلب وكاتب أبا أحمد بن المتوكل بأن يولي حلب ومصر وسائر البلاد التي في يده، ويدعى له على منابرها، فلم يجبه إلى ذلك، فاستوحش من الموفق. وولى في حلب القائد أحمد بن ذو غباش، وصعد إلى مصر فوصل إلى حلب إسحاق بن كنداج، وكان يلي ديار ربيعة، ومحمد بن أبي الساج وكان يلي مضر، فولاه الموفق حلب وأعمالها، وكتبا إلى العراق يطلبان نجدة تصل إليهما، فإن ابن جيعويه وغيره من قواد ابن طولون بشيزر. فسيّر الموفق ابنه أبا العباس أحمد بن طلحة، فكان قد جعل إليه ولاية عهده، فوصل إلى حلب في ربيع الآخر من سنة 271 وكان فيها محمد بن دويداد بن أبي الساج المعروف بالأفشين حينئذ والياً، وسار إلى قنسرين، وهي يومئذ لأخي الفصيص التنوخي وهي عامرة وحاضر طيئ لطيئ وعليها أيضاً سور، وقلعتها عامرة. وسار إلى شيزر، فكسر العسكر المقيم، وسار إلى أن تواقع المعتضد وخمارويه على الطواحين بقرب الرملة، وكانت الغلبة أولاً لأبي العباس المعتضد وهرب خمارويه بمن خلف معه إلى مصر، ونزل أبو العباس بخمية خمارويه وهو لا يشك في الظفر، فخرج كمين لخمارويه، فشدوا عليه وقاتلوهم فانهزموا وتفرق القوم. ورجع الأمير أبو العباس إلى أن انتهى إلى أنطاكية، وكان محمد بن دويداد المعروف بالأفشين بن أبي الساج قد فارق أبا العباس لكلام أغلظ له فيه أبو العباس، فجاء قبل وقعة الطّواحين واستولى على حلب ومعه إسحاق بن كنداج. وسار أبو العباس من أنطاكية إلى طرسوس فأغلقها أهلها دونه ومنعوهم من دخولها فسار إلى مرعش ثم إلى كيسوم ثم إلى سميساط، وعبر الفرات، ونكب عن حلب لاستيلاء الأفشين عليها وكان قد جرت بينهما وحشة. ونزل خمارويه إلى حلب فصالحه الأفشين وصار في جملته ودعا له على منابر أعماله، وحمل إليه خمارويه مائتي ألف دينار ونيفاً وعشرين ألف دينار لوجوه أصحابه، وعشرين ألف دينار لكاتبه وذلك في سنة 273. وأعطاه ابن أبي الساج ولده رهينة على الوفاء بعهده، فراسل خمارويه أبا أحمد الموفق وولاه مصر، وأجناد الشام، وقنسرين وحلب، والعواصم، والثغور. وصعد أبو الجيش إلى مصر، وكان أبو الجيش قد أعطى ابن أبي الساج يوم دفع ولده إليه ما مبلغه ثلاثون ألف دينار، فقال: خدعكم محمد بن دويداد إذ أعطاكم بولة يبول مثلها في طل ليلة مرات، وأخذ منكم ثلاثين ألف دينار. ثم أن ابن أبي الساج نكث عهده مع أبي الجيش، وعاث في نواحي الأعمال التي له في ذي القعدة سنة 274. فخرج إليه أبو الجيش، والتقيا بالثنيّة من أعمال دمشق، فانهزم ابن أبي الساج واستبيح عسكره قتلاً وأسراً، ففي ذلك يقول البحتري: وقد تلت جيوش النّصر منزلةً ... على جيوش أبي الجيش بن طولونا وكتب إلى ابن أبي الساج يوبخه، وقال له: أكان يجب يا قليل المروءة والأمانة، أن تصنع برهنك ما أوجبه غدرك! معاذ الله أن تزر وازرة وزر أخرى. ورجع أبو الجيش إلى مصر في سنة 275. فعاد محمد ابن دويداد، وعاث عليه في أطراف بلاده فقصده فانهزم بين يديه، فوصل ابن طولون خلفه إلى الفرات. وهرب ابن أبي الساج، ولحق بأبي أحمد الموفق فانضم إليه، فخلع عليه وأخرجه معه إلى الجبل، وذلك سنة 276. وولى أبو الجيش على حلب غلام أبيه طغج بن جف والد الإخشيد أبي بكر محمد بن طغج. ودعا يا زمار لخمارويه بطرسوس والثغور، وحمل إليه خمارويه خمسين ألف دينار، وحمل إليه قبل الدعاء له ثلاثين ألف دينار لينفقها في سبيل الله، ومائة وخمسين ثوباً ومائة وخمسين دابة وسلاحاً كثيراً، وذلك في سنة 277. ورجع أبو الجيش إلى مصر، ومات المعتمد بعد ذلك في سنة 279. فولي الخلافة أبو العباس أحمد بن طلحة المعتضد، فبايعه أبو الجيش بن طولون وخطب له في عمله. وسيّر إليه هدية سنية مع الحسين بن الجصاص وطلب منه أن يزوج ابنته من علي بن المعتضد، فقال المعتضد: بل أنا أتزوجها، فتزوجها المعتضد؛ وهي قطر الندى. وقيل: إنه دخل معها مائة هاون من ذهب في جهازها، وإن المعتضد دخل خزانتها وفيها من المنائر والأباريق والطاسات وغير ذلك من الآنية الذهب، فقال: يا أهل مصر ما أكثر صفركم فقال له بعض القوم: يا أمير المؤمنين إنما هو ذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وزفت إلى المعتضد مع صاحب أبيها الحسين بن عبد الله الجصاص فقال المعتضد لأصحابه: أكرموها بشمع العنبر! فوجد في خزانة الخليفة أربع شمعات من عنبر في أربعة أتوار فضة. فلما كان وقت العشاء جاءت إليه وقدّامها أربعمائة وصيفة وفي يد كل وصيفة منهن تور ذهب أو فضة، وفيه شمعة من عنبر فقال المعتضد لأصحابه أطفئوا شمعنا واسترونا. وكانت إذا جاءت إليه أكرمها بأن يطرح لها مخدة. فجاءت إليه يوماً فلم يفعل ما كان يفعله بها. فقالت: أعظم الله أجر أمير المؤمنين. قال: فيمن. قالت: في عبده خمارويه تعني أباها فقال لها: أو قد سمعت بموته. قالت: لا ولكني لما رأيتك قد تركت إكرامي علمت أنه قد مات أبي. وكان خبره قد وصل إلى المعتضد فكتمه عنها، فعاد إلى إكرامه لها بطرح المخدة في كل الأوقات. وقتل خمارويه بدمشق في سنة 280، وحلب في ولاية طغج بن جف ومن قبله. وأظن أن قاضي حلب بعد أيام أحمد بن طولون حفص بن عمر قاضي حلب. وولي مكان خمارويه ولده جيش بن خمارويه وطغج في حلب على حاله. وسيّر إلى المعتضد رسولاً يطلب منه أمراءه على عادة أبيه في البلاد التي كانت في ولايته، فلم يفعل. وسير رسولاً إلى هارون، فستنزله عن حلب وقنسرين والعواصم، وسلّم لهارون مصر وبقية الشام، واتفق الصلح مع المعتضد وهارون على ذلك في جمادى الأولى سنة 286. وكان هارون قد ولي قضاء حلب وقنسرين أبا زرعة محمد بن عثمان الدمشقي. فقلد المعتضد حلب وقنسرين ولده أبا محمد علي بن أحمد في هذه السنة. وولي بحلب من قبل ابنه الحسن بن علي المعروف بكورة الخراساني وإليه تنسب داركورة التي داخل باب الجنان بحلب والحمّام المجاورة لها. وقد خربت الآن. وكان كاتب علي بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني فقلده النظر في هذه النواحي. وسار المعتضد في سنة 287، خلف وصيف خادم ابن أبي الساج إلى الثغور إلى أن لحقه. فضم عمل الثغور أيضاً إلى كورة، وعاد إلى أنطاكية، ووصيف معه. ثم رحل إلى حلب فأقام بها يومين، ووجد لوصيف بعد أسره في بستان بحلب مال كان دفنه وهو بها مع مولاه مبلغ ستة وخمسين ألف دينار، فحمل إلى المعتضد، ثم رحل إلى بغداد، فمات في شهر ربيع الآخر سنة 289. وتلوى الخلافة أبو محمد، ولقب بالمكتفي، فصرف الحسن بن علي كورة عن ولايته، وولى حلب أحمد بن سهل النوشجاني في شهر جمادى الآخرة سنة 289. ثم صرف عنها سنة 290. وولى حلب في هذه السنة أبا الأغر خليفة بن المبارك السلمي ووجهه إليه لمحاربة القرمطي صاحب الخال فإنه كان قد عاث في البلاد، وغلب حمص وحماة ومعرة النعمان وسلمية، وقتل أهلها وسبى النساء والأطفال. فقدم أو الأغر حلب في عشرة آلاف فارس، فأنفذ القرمطي سريةً إلى حلب، فخرج أبو الأغر إلى وادي بطنان، فلما استقر وافاه جيش القرمطي، يقدمه المطوق غلامه وكبسهم، وقتل عامة أصحابه وخادماً جليلاً يقال له بدر القدامي. وسلم أبو الأغر في ألف رجل فصار إلى قريةٍ من قرى حلب، وخرج إليه ابنه في جماعة من الرّجالة والأولياء، فدخل إلى حلب وأقام القرامطة على مدينة حلب على سبيل المحاصرة. فلما كان يوم الجمعة سلخ شهر رمضان من سنة 290. فشرع أهل مدنية حلب إلى الخروج للقاء القرامطة فمنعوا من ذلك، فكسروا قفل الباب، وخرجوا إلى القرامطة، فوقعت الحرب بين الفئتين، ورزق الله الحلبيين النصر عليهم، وخرج أبو الأغر فأعانهم فقتل من القرامطة خلقٌ كثيرٌ. وخرج أبو الأغر يوم السبت يوم عيد الفطر إلى المصلى، وعيّد بأهل حلب، وخطب، وعادت الرعية على حال سلامة، وأشرف أبو الأغر على القرامطة، فلم يخرج منهم أحدٌ إليه، ثم إنهم رحلوا إلى صاحبهم في سنة 300. ثم إن المكتفي ولى حلب الحسين بن حمدان بن حمدون عم سيف الدولة، فعاثت عليه العرب من كلب واليمن وأسد وغيرهم فاجتمعوا بنواحي حلب، فخرج للقائهم في شهر رمضان من سنة 294 فهزموه حتى بلغوا به باب حلب، وجرى بينه وبين القرامطة في هذه السنة وقعة كسرهم فيها واستأصلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ثم إنه عزل عن حلب، وولي عيسى غلام النوشري؛ وكان المكتفي قد صار إلى الرقة في سنة 291. وكان وجه محمد بن سليمان صاحب الجيش إلى حلب والشام في عشرين ألف فاسٍ وراجل لمحاربة الطولونية والقرامطة، وفتح مصر. وقدم محمد بن سليمان حلب في آخر سنة 90، والوالي بها على الحرب عيسى غلام النوشري، فدخلها محمد في أحسن تعبئة وزي، وأقام بها أياماً، وطالب عمال الخراج بحمل المال، وقصده رؤساء بني تميم وبني كلاب. فأمر عيسى والي حلب أن يستخلف على عمله ويشخص معه إلى مصر، فامتثل أمره، واستخلف على حلب ولده، وانفق في جنده، ورحل في آخر شوال معه، فلما وافى معرة النعمان خلع عليه، وحمله، وولاّه بلاده إلى حدود حماة، ولقيهم القرامطة بين تل منّس وكفر طاب، في عشرة آلاف فارس، فنصره الله عليهم، وانهزموا وقتل الرجالة، وأسر الخيالة. وصار محمد بن سليمان إلى مصر، وفتحها من يد الطولونية. عند قتل هارون ابن خمارويه، واستولى على أموالها. ثم ضم إلى طغج بن جف الطولوني أربعة آلاف رجل، وولاه حلب، وأخرجه عن مصر. فلما صار إلى حلب وجد بها ابن الواثقي، وقد أنفذه السلطان إلى حلب لعرض جيوش الواردين من مصر وذلك في سنة 292 فعرض ابن الواثقي جيشه لما وصل إلى حلب، وامره بالنفوذ إلى بغداد، فرحل حتى وافى مدينة السلام. وكذلك ورد حلب جماعةٌ من القواد الطولونية، فعرضهم وتوجه إلى بغداد. ووافى وصيف البكتمري وابن عيسى النوشري صاحب حلب بغداد. يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة 292 ومعهما طغج وأخوه، وابن طغج، فخلع وطرق منهم البكتمري وابن عيسى النوشري. ثم شخص عيسى النوشري عن مصر إلى حلب، لأنه كان واليها. فلما كان بعد شخوصه إليها بأيام، ورد كتاب العباس بن الحسن الوزير بتولية عيسى النوشري مدينة مصر، ويؤمر محمد بن سليمان بالشخوص إلى طرسوس للغزو، فوجه محمد ابن سليمان من لحق عيسى بالرملة فرده، وورد إلى عيسى كتاب من السلطان بذلك فعاد والياً على مصر. وولى المكتفي في هذه السنة أبا الحسن ذكا بن عبد الله الأعور حلب، ودام بها إلى السنة 302، وكان كريماً يهب ويعطي وإليه تنسب دار ذكا. التي هي الآن دار الزكاة. وإلى جانبها دار حاجبه فيروز فانهدمت وصارت تلاً يعرف بتل فيروز، فنسفه السلطان الملك الظاهر في أيامه وظهر فيه بقايا من الذخائر مثل الزئبق وغيره، وهو موضع سوق الصاغة الآن، ولأبي بكر الصنوبري الشاعر فيه مدائح كثيرة. وعاد محمد بن سليمان إلى حلب ووافاه مبارك القمي بكتب يؤمر فيها بتسليم الأموال، وركب إليه ذكا الأعور صاحب حلب، وأبو الأغر وغيرهما. فاختلط بهم وسار معهم إلى المدينة، فأدخلوه إلى الدار المعروفة بكورة، بباب الجنان، ووكلوا به في الدار. وشخص ذكا عن حلب لمحاربة ابن الخلنج مع أبي الأغر إلى مصر ووجّه محمد ابن سليمان مقبوضاً إلى بغداد. وتوفي المكتفي سنة 295، وولي أخوه أبو الفضل المقتدر وعاثت بنو تميم في بلد حلب وأفسدت عظيماً، وحاصروا ذكا بحلب، فكتب المقتدر إلى الحسين بن حمدان في إنجاد ذكا بحلب، فأسرى من الرحبة حتى أناخ بخناصرة، وأسر منهم جماعة، وانصرف ولم يجتمع بذكا. ففي ذلك يقول شاعر من أهل الشام: أصلح ما بين تميمٍ وذكا أبلج يشكي بالرماح من شكا يدلّ بالجيش إذا ما سلكا كأنه سليكة بن السّلكا وكان وزير ذكا وكاتبه أبا الحسن محمد بن عمر بن يحيى النفّري الكاتب، وإليه ينسب حمام النفّري، وهي الآن داثرة، وداره هي المدرسة النورية، ومدحه الصنوبري. ثم إن المقتدر عزل ذكا عن حلب وولاه دمشق ثم مصر إلى أن مات. وقيل: إن المقتدر ولى حلب مولاه تكين الخادم أبا منصور ثم عزله عنها. والصحيح أنه ولي الشام ومصر مؤنس الخادم نيابة عن ابنه أبي العباس فقدم إلى حلب وصعد إلى مصر. وولي مؤنس ذكا الأعور دمشق ومصر وعزله عن حلب. وولي الأمير أبا العباس أحمد بن كيغلغ حلب سنة 302. وكان على قضاء حلب سنة 90 محمد بن محمد الجدوعي. ثم ولي القضاء بحلب وقنسرين محمد بن أبي موسى عيسى الضرير الفقيه ف سنة 297. وشخص إلى عمله لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ثم صرف محمد بن عيسى عن قضاء حلب وقنسرين في سنة 302 بأبي حفيص عمر بن الحسن بن نصر الحلبي. وكانت داره بسوق السّراجين. وعزل أبو الحفيص عن القضاء بحلب سنة 302 ووليها أبو عبد الله محمد بن عبده ابن حرب. وتوفي عمر بن حسن القاضي سنة 307، وكان محمد بن عبده بن حرب بن حرب قاضياً فيها سنة 305. ثم تولى قضاء حلب وحمص إبراهيم بن جعفر بن جابر أبو إسحاق الفقيه في سنة 306. وولي الخراج من قبل المكتفي بحلب الحسن بن الحسن بن رجاء ابن أبي الضّحاك. وتوفي بحلب في جمادى الأولى سنة 301 فجاءة. وولي الخراج بعده علي بن أحمد بن بسطام، والإنفاق عبد الله بن محمد بن سهل، ثم توفي سنة 306. وتولى مكانه محمد بن الحسن بن علي الناظري. وكان أبو العباس بن كيغلغ أديباً شارعاً جواداً وهو الذي مدحه المتنبي بقوله: كم قتيل كما قتلت شهيدٍ ومن شعر الأمير أحمد بن كيغلغ قوله: قلت والجفون قرحى ... قد أقرح الدمع ما يليها ما لي في لوعتي شبيهٌ ... قال: وأبصرت لي شبيها ثم ولى مؤنس المظفر حلب أبا قابوس محمود بن حبك الخراساني، وكان جباراً قاسياً منحرفاً عن أهل البيت. وقيل: هو محمود بن حمل، فدام والياً بها إلى سنة 312. وكان مؤنس المظفر بالشام، فاستدعي إلى بغداد لقتال القرمطي، فسار إليها، وولي حلب وصيف البكتمري الخادم سنة 312، ثم عزل عنها سنة 316. ووليها في هذه السنة هلال بن بدر أبو الفتح، غلام المعتضد وكان أمير دمشق قبل ذلك، ثم عزل عن حلب، وولي قطربّل وسامرا في سنة 319. ووليها في هذه السنة وصيف البكتمري ثانية. ومات بحلب على ولايته يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي الحجة سنة 317. وكان كاتبه عبد الله والد أبي العباس أحمد بن عبد الله الشاعر المعروف بابن الكاتب البكتمري، فوليها الأمير أحمد بن كيغلغ ثانية إلى سنة 318. ثم ولى مؤنس المظفر غلامه طريف بن عبد الله السبكري الخادم في سنة 319، وكان ظريفاً شهماً شجاعاً، وحاصر بني الفصيص في حصونهم باللاذقية وغيها، فحاربوه حرباً شديداً حتى نفذ جميع ما كان عندهم من القوت والماء، فنزلوا على الأمان فوفى لهم وأكرمهم، ودخلوا معه حلب مكرمين معظمين، فأضيفت إليه حمص مع حلب. ثم إن القاهر قبض على مولاه مؤنس المظفر وتولى طريف قبضه وأحضره إلى القاهر في سنة 321، فرأى له ذلك. وولى القاهر بشير الخادم دمشق وحلب، وسار إلى حلب ثم إلى حمص، فكسره ابن طغج وأسره، وخنقه، ووصل أبو العباس ابن كيغلغ إلى حلب فاتفق مع محمد بن طغج وحالفه. وولي الخليفة الراضي بعد القاهر. وكان الراضي قد خاف على بدر الخرشني من الحجرية أن يفتكوا به، فقلده حلب وأعمالها وهي بيد طريف سنة 324، وأمره بالمسير من يومه. فسار وبلغ طريف، وأنفذ صاحباً له إلى ابن مقلة، وبذل له عشرين ألف دينار ليجدد له العهد، وأن لا يصرف من حلب. ووصل الخرشني فدافعه طريف، رجاء أن يقضي ابن مقلة وطره، فرجع بدر الخرشني، والتقى طريف في أرض حلب، فانهزم طريف من بين يديه. وتسلم بدرٌ حلب، وأقام بها مدة يسرة ثم كوتب من الحضرة بالانصراف، فرجع إلى الحضرة، وقلّد طريف حلب مرة ثالثة، فقلد طريف السبكري من جهته حلب والعواصم فأقام بها إلى سنة 324. وكان قاضي حلب عبيد الله بن عبد الرحمن بن أخي الإمام. ثم ولي حلب أبو العباس أحمد بن سعيد بن العباس الكلابي ومدحه أبو بكر الصنوبري. وكان بها نائباً عن أبي بكر الإخشيد محمد بن طغج بن جف في غالب ظني فإن الإخشيد استولى على الشام إلى سنة 328. وفي ولاية أبي العباس، وردت بنو كلاب إلى الشام من أرض نجد، وأغارت على معرة النعمان، فخرج إليهم والي المعرة معاذ بن سعيد بجنده، وتبعهم إلى البراغيثي، فعطفوا عليه، وأسروه وأكثر جنده، وأقام فيهم مدة يعذّبونه، فخرج إليهم أبو العباس أحمد بن سعيد الكلابي والي حلب فخلصه مهم. وكان ورودهم في سنة 325. ثم إن الراضي قدم الموصل، وكان أبو بكر محمد بن الرائق ببغداد، وبينه وبي بجكم وحشة، فأنفذ الراضي أبا الحسين عمر بن محمد القاضي إلى أبي بكر محمد بن الرائق يخيره في أحد البلدين واسط أو حلب وأعمالها، فاختار حلب، وأراد بذلك البعد عن بجكم، فأجابه الراضي إلى ذلك، وخلع عليه أبو جعفر وأبو الفضل ابنا الراضي وعقدا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وجعل بجكم يحث الراضي على الوصول إلى بغداد، ويتأسف على خروج ابن الرائق منها ليشفي غيظه؛ فقال له الراضي: هذا الأصلح، رجل قد أمنّته، وقلّدته ناحية من النواحي، فسمع وأطاع وما أمكنك منه. فخرج أبو بكر بن الرائق في شهر ربيع الآخر من سنة 327. وقيل: دخل حلب في سنة 328، وسار عنها إلى قتال الإخشيد محمد بن طغج بن جف الفرغاني، وولى في حلب نيابة عنه خاصة محمد بن يزداذ. وجرت بين أبي بكر بن الرائق والإخشيد وقعة. وانهزم فيها الإخشيد، وسلّم دمشق إلى بن رائق، واقتصر على رملة ومصر. ثم وقع بينهما وقعة أخرى في الجفار أسر فيها أبو الفتح مزاحم بن محمد بن رائق، فرجع في عدة يسيرة حتى يخلّص ابنه، فقتل أبو نصر بن طغج، فكفّنه ابن رائق، وجعله في تابوت. وأنفذه إلى أخيه الإخشيد مع ابنه مزاحم، وقال: ما أردت قتل أخيك وهذا ولدي قد أنفذته إليك لتقيده به. فخلع الأخشيد عليه وأعطاه مالاً كثيراً في سنة 329. ثم إن أبا بكر محمد بن طغج الإخشيدي سير كافوراً الخادم من مصر ومعه عسكر وفي مقدمته أبو المظفر مساور بن محمد الرومي، أحد قواد الإخشيد، فوصل إلى حلب، فالتقى كافور ومحمد بن يزداذ الوالي بحلب من قبل ابن الرائق، فكسره كافور وأسره، وأخذ منه حلب، وولى بها مساور بن محمد الرومي، وعاد كافور إلى مصر. وهذا أبو المظفر مساور بن محمد الرومي مدحه المتنبي بقوله: أمساورٌ أم قرن شمسٍ هذا ... أم ليت عابٍ يقدم الأستاذا يريد بالأستاذ: كافور الخادم، وذكر فيها كسره ابن يزداذ. فقال: هبك ابن يزداذ حطمت وصحبه ... أترى الورى أضحوا بني يزداذا ومساور هو صاحب الدار المعروفة بدار الرومي بالزجاجين بحلب، وتعرف أيضاً بدار ابن مستفاد، وهي شرقي المدرسة العمادية، التي جددها سليمان ابن عبد الجبار بن أرتق بحلب، وهي المنسوبة إلى بني العجمي. وأظن أن قاضي حلب في هذا التاريخ كان أبا طاهر محمد بن محمد بن سفيان الدباس، أو قبل هذا التاريخ. ثم اتفق الإخشيد ومحمد بن الرائق بأن يخلي الإخشيد حمص وحلب ويحمل إليه مالاً، وزوج الإخشيد ابنته بمزاحم بن أبي بكر بن رائق. وقتل ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان أبا بكر بن رائق في رجب سنة 320، بين يدي المتقي يوم الاثنين لتسع بقين منه. وكان ابن رائق شهماً مقداماً سخياً جواداً، لكنه كان عظيم الكبر، مستبداً برأيه، منزوعاً من التوفيق والعصمة والتسديد. وكان أحمد بن علي بن مقاتل بحلب من جهة أبي بكر بن الرائق ومعه ابنه مزاحم ابن محمد بن رائق فقلد ناصر الدولة علي بن خلف ديرا مضر والشام، وأنفذ معه عسكراً، وكاتب يانس المؤنسي أن يعاضده. وكان يانس على ديرا مضر من قبل ناصر الدولة. فساد إلى جسر منبج وسار أحمد بن مقاتل ومزاحم إلى منبج، فالتقوا على شاطئ الفرات. وسيّر يانس كاتبه ونذيراً غلامه برسالةٍ إلى ابن مقاتل، فاعتقلهما، ووقعت الحرب بين الفئتين، ولحق يانس جراح كادت تتلفه فعدل به إلى قلعة نجم ليمدد ونظر نذير غلامه وهو معتقل في عسكر ابن مقاتل، على بغل إلى شاكريّ ليانس معه جنيبة من خيله، فأخذ سيف الشاكري، وركب الجنيبة، وصار إلى ابن مقاتل فقتله وانهزم عسكره. وأفاق يانس المؤنسي، فسار وعلي بن خلف متوجهين إلى حلب. وتلاوم قواد ابن مقاتل على هزيمتهم، فعادوا إلى القتال في وادي بطنان، فانهزموا ثانية، وملك علي بن خلف ويانس المؤنسي حلب في سنة 330. ثم إن علي بن خلف سار منها إلى الإخشيد محمد بن طغج، فاستوزره وعلا أمره معه، إلى أن رآه يوماً، وقد ركب في أكثر الجيش بالمطارد والزي، ومحمد جالس في متنزه له، فأمر بالقبض عليه، فلم يزل محبوساً إلى أن مات محمد ابن طغج فأطلق. وبقي يأنس المؤنسي والياً على حلب في سنة 331. وكان يانس هذا مولى مؤنس المظفر الخادم وتولى الموصل في أيام القاهر، وكان يلي ديار مضر من قبل ناصر الدولة إلى ان كان من أمره ما ذكرناه. فاستأمن إلى الإخشيد ودعا له على المنابر بعمله. واتفق ناصر الدولة بن حمدان وتوزون في سنة 332 على أن تكون الأعمال من مدينة الموصل إلى آخر أعمال الشام لناصر الدولة، وأعمال السّنّ إلى البصرة لتوزون، ومما يفتحه مما وراء ذلك، وألا يعرض أحد منهما لعمل الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فولى ناصر الدولة حلب وديار مضر والعواصم أبا بكر محمد بن علي بن مقاتل صاحب ابن رائق في شهر ربيع الأول سنة 332، ووافق ناصر الدولة أبا محمد بن حمدان على أن يؤدي إليه إذا دخل حلب ثلاثين ألف دينار. فتوجه أبو بكر من الموصل ومعه جماعة من القواد، ولم يصل إليها، فوقع ببين الأمير سيف الدولة بن حمدان وبين ابن عمه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان كلام بالموصل وأراد القبض عليه. فقلد ناصر الدولة أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان أخا الأمير أبي فراس، حلب وأعمالها وديرا مضر والعواصم وكل ما يفتحه من الشام، فتوجه في أول شهر رجب سنة 332 ودخل الرقة بالسيف لأن أهلها حاربوه مع أميرها محمد ابن حبيب البلزمي، فأسره وسلمه، وحرق قطعة من بلده وقبض على رؤساء أهلها، وصادرهم. وتوجه إلى حلب ومعه أبو بكر محمد بن علي من مقاتل، وبحلب يانس المؤنسي وأحمد بن عباس الكلابي، فهربا من يديه من حلب، وتبعهما إلى معرة النعمان ثم إلى حمص. فهرب أمير حمص إسحاق بن كيغلغ بين يديه، وملك هذه البلاد ودانت له العرب، ثم عاد إلى حلب، وأقام بها إلى أن وافى الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج بن جف الفرغاني. وإنما لقب بالإخشيد لأن ملك فرغانة تسمى بذلك، وكان أبوه من أهل فرغانة. وقدمها الإخشيد في ذي الحجة سنة 332. ولما دنا الإخشيد من حلب انصرف الحسين بن حمدان عنها لضعفه عن محاربته إلى الرقة. وكان ابن مقاتل مع ابن حمدان بحلب، فلما أحس بقرب الإخشيد منها وتعويل ابن حمدان على الانصراف استتر في منارة المسجد إلى أن انصرف ابن حمدان ودخل الإخشيد فظهر له ابن مقاتل، واستأمن إليه، وقلده الإخشيد أعمال الخراج والضياع بمصر. وأما الحسين بن سعيد، فإنه لما وصل إلى الرقة وجد المتقي لله بها هارباً من توزون التركي وقد تغلب على بغداد، وسيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان مع المتقي بالرقة، وقد فارق أخاه ناصر الدولة لكلام جرى بينهما. فلم يأذن المتقي لأب عبد الله الحسين في دخول الرقة، وأغلقتن أبوابها دونه، ووقعت المباينة بينه وبين ابن عمه سيف الدولة وسفر بينهما في الصلح، فتم. ومضى إلى حرّان، ومنها إلى الموصل. وقدم الإخشيد عند حصوله بحلب مقدمته إلى بلاس. وسار بعدها، فسير المتقي أبا الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقي يسأل الإخشيد أن يسير إليه ليجتمع معه بالرقة ويجدد العهد له، ويستعين به على نصرته، ويقتبس من رأيه. فلما وصل أب الحسن إلى حلب تلقاه الإخشيد وأكرمه وأظهر السرور والثقة بقر المتقي، وأنفذ من وقته مالاً مع أحمد بن سعيد الكلابي إلى المتقي، وسار فراسله المتقي بالخرقي، وبوزيره أبي الحسين بن مقلة، فعبر إليه يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 333. ووقف بين يدي المتقي لله. ثم ركب المتقي لله، فمشى بين يديه، وأمره يركب فلم يفعل، وحمل إليه هدايا ومالاً كثيراً، وحمل إلى الوزير أبي الحسين بن مقلة عشرين ألف دينار، ولم يدع أحداُ من أصحاب المتقي وحواشيه وكتابه إلا برّه ووصله. واجتهد بالمتقي لله أن يسير معه إلى الشام، فأبى فأشار عليه بالمقام مكانه، وضمن بأن يمده بالأموال فلم يفعل، إلى أن كاتبه توزون، وخدعه، وقبض عليه، وبايع المستكفي. وكتب المتقي عهداً للإخشيد بالشامات ومصر، على أن الولاية له ولأبي القاسم أنوجور ابنه إلى ثلاثين سنة. وكتب الإخشيد في هذه السفرة إلى عبده كافور الخادم إلى مصر وقال له: ومما يجب أن تقف عليه أطال الله بقاءك أنني لقيت أمير المؤمنين بشاطئ الفرات فأكرمني، وحباني، وقال: كيف أنت يا أبا بكر أعزك الله، فرحاً بأنه كناه والخليفة لا يكني أحداً. دخول سيف الدولة حلب وعاد الإخشيد من الرقة إلى حلب، وسار إلى مصر. وولي بحلب من قبله أبا الفتح عثمان بن سعيد بن العباس بن الوليد الكلابي، وولى أخاه أنطاكية. فحسد أبا الفتح إخوته الكلابيون، وراسلوا سيف الدولة بن حمدان أن يسلموا إليه حلب، وقد كان طلب سيف الدولة من أخيه ناصر الدولة ولاية، فقال له ناصر الدولة: الشام أمامك، وما فيه أحد يمنعك منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وعرف سيف الدولة اختلاف الكلابيين، وضعف أبي الفتح عن مقاومته فسار إلى حلب؛ فلما وصل على الفرات خرج إخوة أبي الفتح عثمان بن سعيد بأجمعهم للقاء سيف الدولة، فرأى أبو الفتح أنه مغلوب إن جلس عنهم، وعلم حسدهم له، فخرج معهم. فلما قطع سيف الدولة الفرات، أكرم أبا الفتح دون إخوته وأركبه معه في العماريّة، وجعل سيف الدولة يسأله عن كل قرية يجتاز بها: ما اسمها؟ فيقول أبو الفتح: هذه الفلانية، حتى عبروا بقرية يقال لها إبرم وهي قرية قريبة من الفايا. فقال سيف الدولة: ما اسم هذه القرية؟ قال أبو الفتح: إبرم. فظن سيف الدولة أنه قد أكرهه بالسؤال. فقال: إبرم من الإبرام. فسكت سيف الدولة عن سؤاله. فلما عبروا بقرية كبيرة. ولم يٍسأله عنها علم أبو الفتح بسكوت سيف الدولة. فقال أبو الفتح: يا سيدي يا سيف الدولة، وحق رأسك، إن القرية التي عبرنا عليها اسمها إبرم، واسأل عنها غيري. فعجب سيف الدولة بذكائه. فلما وصل حلب أجلسه معه على السرير. ودخل سيف الدولة حلب يوم الاثنين من شهر ربيع الأول سنة 333. وكان القاضي بها أحمد بن محمد بن ماثل، فعزله. وولي أبا حصين علي بن عبد الكريم بن بدر بن الهيثم الرقي، وكان ظالماً، فكان إذا مات إنسان أخذ تركته لسيف الدولة. وقال: كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك، وعلى أبي حصين الدّرك. ثم إن الإخشيد سيّر عسكراً إلى حلب مع كافور ويانس المؤنسي، وكان الأمير سيف الدولة غازياً بأرض الروم قد هتك بلد الصفصاف وعربسوس فغنم، ورجع فسار لطيته إلى الإخشيدية، فلقيهم بالرستن. فحمل سيف الدولة على كافور فانهزم وازدحم أصحابه في جسر الرستن، فوقع في النهر منهم جماعة. ورفع سيف الدولة السيف، فأمر غلمانه أن لا يقتلوا أحداُ منهم. وقال: الدم لي والمال لكم. فأسر منهم نحو أربعة آلاف من الأمراء وغيرهم، واحتوى على جميع سواده. ومضى كافور هارباً إلى حمص، وسار منها إلى دمشق، وكتب إلى الإخشيد يعلمه بهزيمته، وأطلق سيف الدولة الأسارى جميعهم، فمضوا وشكروا فعله. ورحل سيف الدولة بعد هزيمتهم إلى دمشق، ودخلها في شهر رمضان سنة 333. وأقام بها يكاتب الإخشيد، يلتمس منه الموادعة، والاقتصار على ما في يده. فلم يفعل. وخرج سيف الدولة إلى الأعراب، فلما عاد منعه أهل دمشق من دخولها، فبلغ الإخشيد ذلك، فسار من الرملة وتوجه يطلب سيف الدولة، فلما وصل طبرية عاد سيف الدولة إلى حلب بغير حرب، لأن أكثر أصحابه وعسكره استأمنوا إلى الإخشيد، فابتعه الإخشيد إلى أن نزل بمعرة النعمان. في جيش عظيم، فجمع سيف الدولة، ولقيه بأرض قنسرين في شوال سنة 333. وكان الإخشيد قد جعل مطارده، وبوقاته في المقدمة، وانتقى من عسكره نحو عشرة آلاف، وسماهم الصابرية فوقف بهم في الساقة. فحمل سيف الدولة على مقدمة الإخشيد فهزمها، وقصد قبته وخيمه وهو يظنه في المقدمة، فحمل الإخشيد ومع الصابرية فاستخلص سواده. ولم يقتل من العسكرين غير معاذ بن سعيد والي معرة النعمان، من قبل الإخشيد، فإنه حمل على سيف الدولة ليأسره، فضربه سيف الدولة بمستوفى كان معه فقتله. وهرب سيف الدولة فلم يتبعه أحد من عسكر الإخشيد وسار على حاله إلى الجزيرة فدخل الرقة. وقيل: إنه أراد دخول حلب فمنعه أهلها. ودخل الإخشيد حلب، وأفسد أصحابه في جميع النواحي، وقطعت الأشجار التي كانت في ظاهر حلب، وكانت عظيمة. وقيل: إنها كانت من أكثر المدن شجراً؛ وأشعار الصنوبري تدل على ذلك. ونزل عسكر الإخشيد على الناس بحلب؛ وبالغوا في أذى الناس لميلهم إلى سيف الدولة. وعاد الإخشيد إلى دمشق بعد أن ترددت الرسل بينه وبين سف الدولة، واستقر الأمر على أن أفرج الإخشيد له عن حلب وحمص وأنطاكية، وقرر عن دمشق مالاً يحمله إليه كل سنة. وتزوج سيف الدولة بابنة أخي الإخشيد عبيد الله بن طغج وانتظم هذا الأمر على يد الحسن بن طاهر العلوي وسفارته، في شهر ربيع الأول سنة 334. فسار الإخشيد إلى دمشق وعاد سيف الدولة إلى حلب، وتوفي الإخشيد بدمشق في ذي الحجة سنة 334، وقيل: في المحرم سنة 335. وملك بعده ابنه أبو القاسم أنوجور، واستولى على التدبير أبو المسك كافور الخادم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وكان سيف الدولة فيما ذكر؛ قد عمل على تخلية الشام، فلما مات الإخشيد سار كافور بعساكر مولاه إلى مصر من دمشق، وكان قد استولى على مصر رجل مغربي، فحاربه كافور، وظفر به. وخلت دمشق من العسكر، فطمع فيها سيف الدولة وسار إليها فملكها، واستأمن إليه أنس المؤنسي في قطعة من الجيش. وأقام سيف الدولة بدمشقٌ، يجبي خراجها، ثم أتته والدته نعم أم سيف الدولة إلى دمشق، وسار سيف الدولة إلى طبرية. وكان سيف الدولة في بعض الأيام يساير الشريف العقيقي بدمشق، في الغوطة بظاهر البلد، فقال سيف الدولة للعقيقي: ما تصلح هذه الغوطة تكون إلا لرجل واحد. فقال له الشريف العقيقي: هي لأقوام كثيرة. فقال له سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين ليتبرأنّ أهلها منها. فأسّرها الشريف في نفسه، وأعمل أهل دمشق بذلك. وجعل سيف الدولة يطالب أهل دمشق بودائع الإخشيد وأسبابه، فكاتبوا كافوراً فخرج في العساكر المصرية، ومعه أنوجور بن الإخشيد. فخرج سيف الدولة إلى اللجون، وأقام أياماً قريباً من عسكر الإخشيد ب إكسال، فتفرق عسكر سيف الدولة في الضياع لطلب العلوفة، فعلم به الإخشيد، فرجعوا إليه، وركب سيف الدولة يتشرف، فرآهم زاحفين في تعبئة، فعاد إلى عسكره فأخرجهم، ونشبت الحرب، فقتل من أصحابه خلق وأسر كذلك. وانهزم سيف الدولة إلى دمشق، فأخذ والدته ومن كان بها من أهله وأسبابه، وسار من حيث لم يعلم أهل دمشق بالواقعة، وان ذلك في جمادى الآخرة سنة 335. وجاء سيف الدولة إلى حمص وجمع جمعاً، لم يجتمع له قط مثله من بني عقيل وبني نمير وبني كلب وبني كلاب، وخرج من حمص، وخرجت عسكر ابن طغج من دمشق، فالتقوا بمرج عذراء وكانت الوقعة أولاً لسيف الدولة ثم آخرها عليه، فانهزم، وملكوا سواده، وتقطع أصحابه في ذلك البلد، فهلكوا، وتبعوه إلى حلب، فعبر إلى الرقة، وانحاز يانس المؤنسي من عسكر سيف الدولة إلى أنطاكية. ووصل ابن الإخشيد حلب في ذي الحجة سنة 335. فأقام بها سيف الدولة في الرقة فراسل أنوجور يانس المؤنسي وهو بأنطاكية، وضمن هو وكافور ليانس أن يجعلاه بحلب في مقابلة سيف الدولة، وضمن لهما يانس بأن يقوم في وجه سيف الدولة بحلب؛ وأن يعطيهم ولده رهينة على ذلك فأجابوه. وانصرف كافور وأنوجور بالعسكر عن حلب إلى القبلة وأتاها يانس فتسلمها. وقيل: إن الإخشيدية عادوا. وأقام سيف الدولة بحلب، فحالف عليه يانس والساجية، وأرادوا القبض عليه، فهرب هو وأصحابه إلى الرقة. وملك يانس حلب. ولم يقم يانس بحلب إلا شهراً، حتى أسرى إليه سيف الدولة إلى حلب، في شهر ربيع الأول سنة 336، فكسبه فانهزم يانس إلى سرمين يريد الإخشيدية. فانفذ سيف الدولة في طلبه سرية مع إبراهيم بن البارد العقيلي، فأدركته عند ذاذيخ فانهزم، وخلّى عياله وسواده وأولاده، فانهزم إلى أخيه بميّافارقين. وكان ابن البارد قد وصل إلى سيف الدولة سنة 335 وكان في خدمة أخيه ناصر الدولة، ففارقه، وقدم على سيف الدولة. ثم إن الرّسل ترددت بين سيف الدولة وابن الإخشيد وتجدد الصلح بينهما على القاعدة التي كانت بينه وبين أبيه، دون المال المحمول عن دمشق. وعمر سيف الدولة داره بالحلبة، وقلد أبا فراس ابن عمه منبج وما حولها من القلاع، واستقرت ولاية الدولة بحلب من سنة 336. وهذه هي الولاية الثالثة. وجرى بينه وبين الروم وقائع أكثرها له وبعضها عليه. فمنها: فتح حصن برزويه في سنة 337 من ابن أخت أبي الحجر الكردي. ووقع بينه وبين الروم وقعة فكانت الغلبة للروم وملكوا مرعش، ونهبوا طرسوس، وسار إلى ميارفاقين، واستخلف على حلب ابن أخيه محمد بن ناصر الدولة، وخرج لاون الدمشتق إلى بوقا من عمل أنطاكية. وخرج إليه محمد فكسره الدمشتق، وقتل عسكره خلقاً في سنة 338. ومنها: أنه غزا سنة 339، ومعه خلق عظيم، فظفر فيها وغنم غنيمة كثيرة. فلما رجع إلى درب الجوزات وفارقه أهل التغور، اجتمع الروم في الدرب على سيف الدولة، فقتل خلق عظيم من المسلمين، وأسر كذلك. وما سلم إلا سيف الدولة على ظهر فرسه، وعرفوه، فطلبوه، ولزّوه إلى جبل عظيم، وتحته وادٍ، فخاف أن يأسروه عن وقف أو رجع، فضر فرسه بالمهماز، وقبله الوادي، لكي يقتل نفسه ولا يأسروه، فوقع الفرس قائماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وخرج سيف الدولة سالماً. وسميت هذه الغزوة المصيبة، وأخذ له من الآلات والأموال، ما لا يحصى حتى إنه ذكر أنه هلك منه من عرض ما كان معه في صحبته خمسة آلاف ورقة بخط أبي عبد الله بن مقلة، وكان منقطعاً إلى بني حمدان، وكان قد بلغ سيف الدولة إلى سمندو وأحرق صارخة وخرشنة. ومنها: أن سيف الدولة بنى مرعش في سنة 341. وأتاه الدمستق بعسكر ليمنعه منها، فأوقع به سيف الدولة الواقعة العظيمة المشهورة. ومنها: أن سيف الدولة دخل بلاد الروم سنة 342 وأغار على زبطرة والتقاه قسطنطين بن بردس الدمستق على درب موزار وقتل من الفريقين خلق، ثم تم سيف الدولة إلى الفرات وعبره فقصد بطن هنزيط، ودخل سيف الدولة سميساط فخرج الدمستق إلى ناحية الشام، فرجع سيف الدولة، فلحقه وراء مرعش، فأوقع به وهزم جيشه، وحمّله الإبريق إلى بيت الماء، وكان أمرد، فخرج فوجده يبكي، ولم يزل عنده حتى مات من علة اعتلها. وكان الدمستق استتر في تلك الوقعة في القناة ودخل فترهب، وليس المسوح ففي تلك يقول المتنبي: فلو كان ينجي من علي ترهبٌ ... ترهّبت الأملاك مثنى وموحدا وقال أبو العباس أحمد بن محمدٍّ النّامي: لكنّه طلب التّرهّب خيفةً ... ممّن له تتقاصر الأعمار فمكان قائم سيفه عكّازه ... ومكان ما يتمنطق الزّنار وبنى سيف الدولة الحدث، وقصده الدمستق برادس، فاقتتلا سحابة يومهما. وكان النصر للمسلمين، وذلك في سنة 343، واسر صهر الدمستق على ابنته أعور جرم، بعد أن سلمها أهلها إلى الدمستق. ومنها: أن سيف الدولة غزا سنة 45 بطن هنزيط ونزل شاطئ أرسناس، وكبس يانس بن شمشقيق على تل بطريق فهزمه وفتحها. وقتل في هذه الوقعة رومانوس بن البلنطيس صهر ابن شمشقيق وأسر ابن قلموط، وانثنى فوجد كذوبن الدمستق، فأوقع به وهزمه. وخلف ابن عمه أبا العشائر الحسين بن علي على عمارة عرنداس، فقصده ليون ابن الدمستق فهزمه، وأسره، وحمله إلى قسطنطينة فمات بها. وغزا في هذه السنة في جمادى الآخرة مع أهل الثغور، وخرب مواضع من بلاد الروم مثل خرشنة وصارخة. وأسر الرست بن البلنطس، وأسر لاون بن الأسطر اطيغوس وابن غذال بطريق مقدونية، وهرب الدمستق وبركيل بطريق الخالديات، فلما قفل سيف الدولة فكّ قيود الأسارى وخلع عليهم، وأحسن إليهم. وفي جمادى الأولى من سنة 46 كاتب الروم جماعة من غلمان سيف الدولة بالقبض عليه، وحمله إلى الدمستق عند شخوصه لمحاربته، وبذل لهم مالاً عظيماً على ذلك. فخرج سيف الدولة عن حلب وقد عزموا على ذلك، فصار بعض الفراشين إلى ابن كيغلغ فأخبره بما عزموا عليه، فاعلم سيف الدولة، فجمع الأعراب والديلم، وأمرهم بالإيقاع بهم عند إعلامه إياهم بذلك، فأوقعوا بهم، وقتل منهم مائة وثمانين غلاماً، وقبض على زهاء مائتي غلام فقطّع أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وهرب بعضهم. وعاد إلى حلب وقتل من بها من الأسرى. وكانوا أربعمائة أسير، وضيق على ابن الدمستق، وزاد في قيده، وصبره في حجرة معه في داره وأحسن إلى ذلك الفرّاش وقلد ابن كيغلغ أعمالاً، وتنكّر على سائر غلمانه. ومنها: أن يانس بن شمشقيق خرج إلى ديار بكر ونزل على حصن اليماني، وعرف سيف الدولة خبره. فسير إليه الكاسكي في عشرة آلاف فارس، فالتقاه فانهزم نجا، وقتل من أصحابه خمسة آلاف فارس، واسر مقدار ثلاثة آلاف رجل، واستوى على سواد نجا كله. وسار ابن شمشقيق والبراكموس إلى حصن سمسياط وفتحاه. ثم سارا إلى رعبان وحصراها، وسار سيف الدولة إليهما، ولقيهما، فاستظهر الروم عليه استظهاراً كثيراً. وعاد سيف الدولة منهزماً، وتبعه الروم، وقتلوا، وسبوا من عشيرته وقواده ما يكثر عدده، وذلك في سنة 347. وفي هذه السنة قدم ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان أخو سيف الدولة. مستنجداً بأخيه سيف الدولة إلى حلب ومعه جميع أولاده عندما قصد معز الدولة للموصل. وتلقاه سيف الدولة على أربع فراسخ من حلب، ولما رآه ترجل له. وانفق سيف الدولة عليه وعلى حاشيته، وقدّم لهم من الثياب الفاخرة والجواهر ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وكان يجلس ناصر الدولة على سرير، ويجلس سيف الدولة دونه. ولما دخل دار سيف الدولة وجلس على السرير جاءه سيف الدولة لينزع خفه من رجليه، فمدهما إليه، فنزعهما بيده، وصعب على سيف الدولة لأنه قدر أنه إذا خفض له نفسه إلى ذلك رفعه عنه، فلم يفعل ذلك إظهاراً لمن حضر أنه وإن ارتفعت حاله، فهو كالولد والتبع وكان يعامله بأشياء نحو ذلك قبيحة كثيرة فيتحملها على دخن، وتحمل عنه سيف الدولة لمعز الدولة مائتي ألفاً من الدراهم حتى انصرف عنه. وفي هذه السنة مات قسطنطين بن لاوي ملك الروم، وصبر نقفور بن الفقاس دمستقاً على حرب المغرب، وأخاه ليون بن الفقاس دمستقاً على حرب المشرق، فتجهز ليون إلى نواحي طرسوس، وسبى، وقتل، وفتح الهارونيّة وسار إلى ديار بكر. وتوجه إليه سيف الدولة فرحل الدمستق راجعاً، إلى الشام، وقتل من أهله عدداً متوافراً، وأخرب حصوناً كثيرة من حصون المسلمين، وأسر محمد ابن ناصر الدولة. ومنها: غزاة مغارة الكحل: غزا سيف الدولة في سنة 348. وقيل: 349 بلاد الروم، فقتل، وسبى، وعاد غانماً يريد درب مغارة الكحل، فوجد ليون بن الفقاس الدّمستق قد سقه إليه، فتحاربوا، فغلب سيف الدولة. وارتجع الروم ما كان أخذه المسلمون، وأخذوا خزانة سيف الدولة وكراعه وقتل فيها خلق كثير. وأسر أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وترك بخرشنة، وأسر علي بن منقذ ابن نصر الكناني فلم يؤخذ له خبر. وأسر مطر بن البلدي، وقاضي حلب أبو حصين الرقي، وقتلا. وقيل أن أبا حصين قتل في المعركة فداسه سيف الدولة بحصانه وقال: لا رضي الله عنك، كنت تفتح لي أبواب الظلم. وقيل إنهم لما أخذوا الطرق على سيف الدولة وثب به حصانه عشرين ذراعاً وقيل: أربعين، فنجا في نفر قليل. وولي سيف الدولة بعد قتل أبي حصين أحمد بن محمد بن ماثل قضاء حلب، وكان قد عزله بأبي حصين حين ملك. وذلك أنه لما قدم حلب خرج للقائه أبو طاهر ابن ماثل فترجل له أهل البلد، ولم يترجل القاضي، فأغاظ سيف الدولة وعزله. وقدم سيف الدولة من بعض غزواته فترجل له ابن ماثل مع الناس. فقال له: ما الذي منعك أولاً، وحملك ثانياً؟، وقال له: تلك المرة لقيتك وأنا قاضي المسلمين، وهذه الدفعة لقيتك وأنا أحد رعاياك. فاستحسن منه ذلك. فلما قتل أبو الحصين أعاده إلى القضاء. وولي سيف الدولة أيضاً قضاء حلب أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن محمد بن يزيد الحلبي المعروف بالجرد، وكان حنفي المذهب. ونقل الملك رومانوس إلىحرب المشرق نقفور بن الفقاس الدمستق، فسار إليه رشيق النسيمي أمير طرسوس وخمسة عشر ألف من المسلمين، فبرز إليه نقفور فقاتله وانهزم رشيق وقتل من المسلمين زهاء تسعة آلاف رجل. وعاد نقفور وضايق عين زربة، وفتحها بالأمان، في ذي القعدة سنة 350، وهدم سورها، فانهزم أهلها، إلى طرطوس، وفتح حصن دلوك ومرعش ورعبان في سنة 351. ثم إن نقفور بن الفقاس الدمستق ويانس بن شمشقيق قصدا مدينة حلب في هذه السنة، وسيف الدولة بها، وكانت موافاتهما كالكبسة، وقيل إن عدة رجاله مائتا ألف فارس وثلاثون ألف راجل بالجواشن، وثلاثون ألف صانع للهدم وتطريق الثلج، وأربعة آلاف بغل عليها حسك حديد يطرحه عسكره ليلاً. ولم يشعر سيف الدولة بخبرهم حتى قربوا منه، فأنفذ إليهم سيف الدولة غلامه نجا في جمهور عسكره. بعد أن أشار عليه ثقاته ونصحاؤه بألا يفارق عسكره. فأبى عليهم ومضى نجا بالعسكر إلى الأثارب. ثم توجه منها داخلاً إلى أنطاكية فخالفه عسكر الروم ووصل إلى دلوك، ورحل منها إلى تل حامد. ثم إلى تبّل. واتصل خبره بسيف الدولة فعلم أنه لا يطيقه مع بعد جمهور العسكر عنه، فخرج إلى ظاهر حلب وجمع الحلبيين وقال لهم عسكر الروم تصل اليوم، وعسكري قد خالفها، والصواب: أن تغلقوا أبواب المدينة، وتحفظوها، وأمضي أنا ألتقي عسكري، وأعود إليكم وأكون من ظاهر البلد، وأنتم من باطنه، فلا يكون دون الظفر بالروم شيء. فأبى عامة الحلبيين وغوغاؤهم، فقالوا: لا ترحمنا أيها الأمير الجهاد، وقد كان فينا من يعجز عن المسير إلى بلاد الروم للغزو، وقد قربت علينا المسافة. فلما رأى امتناعهم، قال لهم: اثبتوا فإني معكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكان سيف الدولة على بانقوسا، ووردت عسكر الورم إلى الهزّازة، فالتقوا فانهزم الحلبيون، وقتل واسر منهم جماعة كثيرة. وقتل أبو طالب بن داود ابن حمدان، وأبو محمد الفياضي كاتب سيف الدولة، وبشرى الصغير غلام سيف الدولة، وكان أسند الحرب اليوم إليه وجعله تحت لوائه. ومات في باب المدينة المعروف بباب اليهود ناس كثير لفرط الزحمة. وكان سيف الدولة راكباً على فرس له تعرف بالفجي فانهزم مشرقاً حتى بعد عن حلب. ثم انحرف إلى قنسرين فبات بها. وأقام الروم على ظاهر البلدة أربعة أيام فخرج شيوخ حلب إلى نقفور يسألونه أن يهب لهم البلد، فقال لهم: تسلّمون إليّ ابن حمدان. فحلفوا أن ابن حمدان ما هو في البلد. فلما علم أن سيف الدولة غائب عنها طمع فيها وحاصرها. وقيل: إن نقفور خرج إليه شيوخ حلب باستدعاء منه لهم يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة من السنة. وكان نزوله على المدينة يوم السبت العشرين من ذي القعدة. وجرى بينه وبينهم خطاب آخره على أن يؤمنهم، ويحملوا إليه مالاً ويمكنوا عسكره ان يدخل من بابا ويخرج من آخر، وينصرف عنهم عن مقدرة، فقالوا له: تمهلنا الليلة حتى نتشاور ونخرج غداً بالجواب. ففعل. ومضوا. وتحدثوا. وخرجوا بكرة الثلاثاء إليه، فأجابوه إلى ما طلب. فقال لهم نقفور: أظنكم قد رتبتم مقاتلتكم في أماكن مختفين بالسلاح، حتى إذا دخل من أصحابي من يمكنكم أن تطبقوا عليه. وتقتلوه فعلتم ذلك. فحلف بعضهم من أهل الرأي الضعيف أنه ما بقي بالمدينة من يحمل سلاحاً، وفيه بطش، فكشفهم نقفور عند ذلك، فعند ذلك قال لهم: انصرفوا اليوم واخرجوا إليّ غداً. فانصرفوا. وقال نقفور لأصحابه: قد علمتم أنه ما بقي عندهم من يدفع، فطوفوا الليلة بالأسوار ومعكم الآلة، فأي موضع رأيتموه ممكناً فتسوروا إليه، فإنكم تملكون الموضع. فطافوا وكتموا أمرهم، وأبصروا، أقصر سور فيها ما يلي الميدان بباب قنسرين، فركبوه، وتجمعوا عليه، وكان وقت السحر وصاحوا ودخلوا المدينة. وقيل: إن أهل حلب قاتلوا وراء السور فقتل جماعة من الروم بالحجارة والمقاليع، وسقطت ثلمة من السور على قوم من أهل حلب فقتلهم. وطمع الروم فيها، فأكبوا عليها، ودفعهم الحلبيون عنها، فلما جنهم الليل اجتمع عليها المسلمون فبنوها فأصبحوا وقد فرغت، فعلوا عليها وكبّروا، فبعد الروم عن المدينة إلى جبل جوشن. فمضى رجالة الشرطة وعوام الناس إلى المنازل، وخانات التجار لينهبوها فاشتغل شيوخ البلد عن حيطان السور ولحقوا منازلهم، فرأى الروم السور خالياً فتجاسروا، ونصبوا السلالم على السور، وهدموا بعض الأبدان، ودخلوا المدينة من جهة برج الغنم، في شهر ذي القعدة سنة 51. وأخذ الدمستق منها خلقاً من النساء والأطفال، وقتل معظم الرجال، ولم يسلم منه إلا من اعتصم بالقلعة من العلويين والهاشميين والكتاب وأرباب الأموال. ولم يكن على القلعة يومئذ سور عامر، فإنها كانت قد تهدمت، وبقي رسومها فجعل المسلمون الأكف والبراذع بين أيديهم. وكان بها جماعة من الديلم الذين ينسب إليهم درب الديلم بحلب، فزحف إليها ابن أخت الملك، فرماه ديلمي فقتله فطلبه من الناس فرموه برأسه، فقتل عند ذلك من الأسرة اثني عشر ألف أسير. وقيل أكثر من ذلك وقيل أقل، والله أعلم. وأقام نقفور بحلب ثمانية أيام ينهب، ويقتل، ويسبي باطناً وظاهراً. وقيل: أخرب القصر الذي أنشأه سيف الدولة بالحلبة، وتناهى في حسنه، وعمل له أسواراً، وأجرى نهر قويق فيه من تحت الخناقية، يمر من الموضع المعروف بالسقايات حتى يدخل في القصر من جانب، ويخرج من آخر، فيصب في المكان المعروف بالفيض، وبنى حوله إصطبلاً ومسكناً لحاشيته. وقيل: إن ملك الروم وجد فيه لسيف الدولة ثلاثمائة وتسعين بدرة دراهم، ووجد له ألفاً وأربعمائة بغل فأخذها، ووجد له من خزائن السلاح ما لا يحصى كثيرة فقبض جميعها، وأحرق الدار فلم تعمر بعد ذلك، وآثارها إلى اليوم ظاهرة. ويقال: إن سيف الدولة رأى في المنام أن حية قد تطوقت على داره، فعظم عليه ذلك، فقال له بعض المفسرين: الحيّة في المنام ماء. فأمر بحفر يحفر بين داره وبين قويق حتى أدار الماء حول الدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وكان في حمص رجل ضرير من أهل العلم يفسر المنامات، فدخل سيف الدولة فقال له كلاماً معناه: أن الروم تحتوي على دارك. فأمر به فدفع، واخرج بعنف، فقضى الله سبحانه أنّ الروم خرجوا ففتحوا حلب واستولوا على دار سيف الدولة فذكر معبّر المنام أنه دخل على سيف الدولة بعدما كان من أمر الروم، فقال له ما كان من أمر ذلك المنام. وكان المعتصمون بالقلعة والروم بالمدينة تحت السماء ليس لهم ما يظلهم من الهواء والمطر، ويتسللون في الليل إلى منازلهم، فإن وجدوا شيئاً من قوت أو غيره، أخذوه وانصرفوا. ثم إن نقفور أحرق المسجد الجامع وأكثر الأسواق والدار التي لسيف الدولة، وأكثر دور المدينة، وخرج منها سائراً إلى القسطنطينية بعد أن ضرب أعناق الأساري من الرجال، حين قتل ابن أخت الملك؛ وكانوا ألفاً ومائتي رجل. وسار بما معه ولم يعرض لسواد حلب والقرى التي حولها. وقال: هذا البلد قد صار لنا، فلا تقصّروا في عمارته؛ فإنا بعد قليل نعود إليكم. وكان عدة من سبي من الصبيان والصبايا بضعة عشر ألف صبي وصبية، وأخذهم معه. وقيل: إن جامع حلب كان يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء وهي الفص المذهب إلى أن أحرقه الدمستق لعنه الله. وإن سليمان بن عبد الملك اعتنى به. كما اعتنى أخوه الوليد بجامع دمشق. وسار الدمستق عنها يوم الأربعاء مستهل ذي الحجة من سنة 351. واختلف في السبب الذي أوجب رحيل نقفور عن حلب. فقيل: إنه ورد إليه الخبر أن رومانوس الملك وقع من ظهر فرسه في الصيد بالقسطنطينية، وأنهم يطلبونه؛ ليملكوه عليهم. وقيل: سبب رحيله أن نجا عاد بجمهور العسكر إلى الأمير سيف الدولة فاجتمع به. وجعل يواصل الغارات على عسكر الروم، وتبلغ غاراته إلى السعدي، وأنه أخذ جماعة من متعلفة الروم، واستنجد سيف الدولة باهل الشام فسار نحوه ظالم بن السلال العقيلي في أهل دمشق، وكان يليها من قبل الإخشيدية، وكان ذلك سبب الرحيل عن حلب. وكان هذا نقفور بن الفقاس الدمستق، وقد دوّخ بلاد الإسلام، وانتزع من أيدي المسلمين جملة من المدن والحصون والمعاقل، فانتزع الهارونية، وعين زربة كما ذكرناه وكذلك دلوك وأذنة، وغير ذلك من الثغور. ونزل على أذنة في ذي الحجة من سنة 352 ولقيه نفير طرسوس فهزمهم وقتل منهم مقدار أربعة آلاف وانهزم الباقون إلى تل بالقرب من أذنة، فأحاط الروم بهم وقاتلوهم وقتلوهم بأسرهم. وهرب أهل أذنة إلى المصيّصة وحاصرها نقفور مدة فلم يقدر عليها بعد أن نقب في سورها نقوباً عدة. وقلّت الميرة عندهم فانصرف، بعد أن أحرق ما حولها. وورد في هذا الوقت إلى حب إنسان من أهل خراسان ومعه عسكر لغزو الروم، فاتفق مع سيف الدولة على ان يقصدا نقفور وكان سيف الدولة عليلاً فحمل في قبة، فألفياه وقد رحل عن المصيّصة وتفرقت جموع الخراسان بشدة الغلاء في هذه السنة بحلب والثغور، وعظم الغلاء والوباء في المصيّصة وطرسوس حتى أكلوا الميتة. وعاد نقفور إلى المصيّصة، وفتحها بالسيف في رجب سنة 354. وفتح أيضاً كفربيا في هذه السنة ومرعش. وفتح طرسوس من أيدي المسلمين في شعبان سنة 354. وكان المسلمون يخرجون في كل سنة ويزرعون الزرع فيأتي بعسكره فيفسده فضعفت، وتخلى ملوك الإسلام عن أهل الرباط بها، وكان فيها فيما ذكر أربعون ألف فارس، وفي عتبة بابها أثر الأسنة إلى اليوم. فلما رأى أهلها ذلك، راسلوا نقفو المذكور، فوصل إليهم، وأجابوه إلى التسليم. وقال لهم: إن كافوراً الخادم قد أرسل إليكم غلة عظيمة في المراكب، فإن اخترتم أن تأخذوها وانصرف عنكم في هذه السنة فعلت. فقالوا: لا. واشترطوا عليه أن يأخذوا أموالهم فأجابهم إلى ذلك، إلا السلاح. ونصب رمحين جعل على أحدهما مصحفاً، وعلى الآخر صليباً، ثم قال لهم: من اختار بلد الإسلام فليقف تحت المصحف؛ ومن اختار بلاد النصرانية فليقف تحت الصليب. فخرج المسلمون فحرزوا بمائة ألف ما بين رجل وامرأة وصبي، وانحازوا إلى أنطاكية. ودخل نقفور إلى طرسوس، وصعد منبرها، وقال لمن حوله: أين أنا. قالوا: على منبر طرسوس. فقال: لا ولكني على منبر بيت المقدس، وهذه كانت تمنعكم عن ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 واستولى بعد موت سيف الدولة في سنة 57 على كفر طاب، وشيزر، وحماة، وعرقة، وجبلة، ومعرة النعمان ومعرة مصرين، وتبزين، ثم فتح أنطاكية في سنة 358 على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. وصارت وقعاته للروم والنصارى كالنّزه والأعياد، وحكم يف البلاد حكم ملوك الروم. ولما رجع عن حلب سار إلى القسطنطينية مغذّاً، فدخلها في صفر سنة 52، فوجد رومانوس قد مات وجلس في الملك ولداه باسيل وقسطنطين وهما صبيان ووالدتهما تفانو تدبرهما. فلما وصل نقفور سلّموا الأمر إليه فدبّرهما مدة ثم رأى ان استيلاءه على الملك أصوب، وأبلغ في الهيبة، فلبس الخف الأحمر، ودعا لنفسه بالملك. وتحدث مع البطريق في ذلك، فأشار عليه أن يتزوج أم الصبييين، وأن يكون مشاركاً لهما في الملك، فاتفقوا على ذلك، وألبسوه التاج. ثم خافت على ولديها منه، فأعلمت الحيلة، ورتبت مع يانس بن شمشقيق أن تتزوج به، وبات نقفور في البلاط في موضعه الذي جرت عادته به. فلما ثقل نومه أدخلت يانس ومعه جماعة، وشكلت رجل نقفور. فلما دخل يانس قام نقفور من نومه ليأخذ السيف فلم يستطع فقتله. ولم يتزوج بها يانس خوفاً منها. ووعود إلى بقية أخبار سيف الدولة: فإنه لما رحل الروم عن حلب، عاد إليها ودخلها في ذي الحجة سنة 354 وعمر ما خرب منها، وجدّد عمارة المسجد الجامع، وأقام سيف الدولة إلى سنة 354. وسار إلى ديار بكر بالبطارقة الذين كانوا في أسره ليفادي بهم، فأخذهم نجا، وسار إلي ميّافارقين فاستولى عليها. فلما وصل سيف الدولة قال: أروني نجا، فأروه إياه على برج، فوقف تحته، وقال: يا نجا فقال: لبيك يا مولانا فقال: انزل. فنزل في الوقت، وخدمه على رسمه وخلع عليه، وسلم إليه البلد والبطارقة. وقتل نجا، قتله غلام لسيف الدولة اسمه قبجاج بحضرته، وكان سيف الدولة عليلاً فأمر به فقتل في الحال. وسار سيف الدولة بالبطارقة إلى الفداء، ففدى بهم أبا فراس ابن عمه وجماعة من أهله، وغلامه رقطاش ومن كان بقي شيوخ الحمصيين والحلبيين. ولما لم يبق معه من أسرى الروم اشترى بقية المسلمين من العدو، كل رجل باثنتين وسبعين ديناراً، حتى نفذ ما كان معه من المال. فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته الجوهر المعدومة المثل، وكاتبه أبا القاسم الحسين بن علي المغربي جد الوزير، وبقي في أيدي الروم إلى أن مات سيف الدوة، فحمل بقية المال وخلص ابن المغربي. ولما توجه سيف الدولة إلى الفداء ولى في حلب غلامه وحاجبه قرعويه الحاجب في سنة 354، فخرج على أعمال سيف الدولة مروان العقيلي، وكان من مستأمنة القرامطة. وكان مروان مع سيف الدولة حين توجه إلى آمد. وأقام سيف الدولة بكل ما يحتاج إليه عسكره، وأنفذ إليه ملك لروم هدية سنية، فقتل مروان القرمطي رجلاً من أصحاب الرسول، فتلافى سيف الدولة ذلك، وسيّر إلى ملك الروم هدية سنية، وأفرد دية المقتول، واعتذر أن مروان فعل ذلك على سكر، فرد الهدية والتمس إيفاد القاتل ليقيده به أو يصفح عنه، فلم يفعل، وانتقضت الهدنة، وكان ذلك في سنة 338. وولى بعد ذلك مروان السواحل. فلما توجه سيف الدولة إلى الفداء سار إلى ناحية حلب، فانفذ إليه قرعويه غلاماً له اسمه بدر، فالتقيا غربي كفر طاب. فأخذه مروان أسيراً، وقتله صبراً، وكسر العسكر وملك حلب، وكتب إلى سيف الدولة بأنه من قبله، فسكن إلى ذلك، وأخذ مروان في ظلم الناس بحلب، ومصادرتهم. فلم تطل مدته، وتوفي سنة 354 من ضربة ضربه بها بدر حين التقيا بلتّ في وجهه. وعاد الحاجب قرعويه إلى خلافة سيف الدولة. وكان بأنطاكية رجل يقال له الحسن بن الأهوازي يضمن المستغلات لسيف الدولة، فاجتمع برجل من وجوه أهل الثغر يقال له رشيق النسيمي وكان من القواد المقيمين بطرسوس فاندفع إلى أنطاكية حين آخذ الروم طرسوس، وتولى تدبير رشيق وأطعمه في ان سيف الدولة لا يعود إلى دمشق الشام. فطمع واتفق مع ملك الروم على أن يكون في حيزه، ويحمل إليه عن أنطاكية في كل سنة سبعمائة ألف درهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وكان بأنطاكية من قبل سيف الدولة تنج اليمكي أو الثملي فسار رشيق نحوه، فوثب أهل انطاكية على تنج، فأخرجوه، وسلموا البلد إلى رشيق. فأطمع ابن الأهوازي رشيقاً بملك حلب، لعلمه بضعف سيف الدولة، واشتغاله بالفداء. وعمل له ابن الأهوازي كتاباً ذكر أنه من الخليفة ببغداد، بتقليده أعمال سيف الدولة، فقرأ على منبر أنطاكية. واجتمع لابن الأهوازي جملة من مال المستغّل، وطالب قوماً بودائع ذكر أنها عندهم، واستخدم بتلك الأموال فرساناً ورجالة، واستأمن إليه دزبر بن أويتم الديلمي وجماعة من الديلم الذين كانوا مع الحاجب قرعويه بحلب. فحصل مع رشيق نحو من خمسة آلاف رجل، فسيّر إليه الحاجب غلامه يمن في عسكر. فخرج إليه رشيق من أنطاكية والتقوا بأرتاح، واستأمن يمن إلى رشيق، ومضى عسكره إلى حلب، وتوجه رشيق إلى حلب، ونازل حلب، وزحف على باب اليهود، فخرج إليه بشارة الخادم في جماعة، فقاتل إلى الظهر، وانهزم بشارة الخادم ودخل من باب اليهود، ودخلت خيل رشيق خلفه. واستولى رشيق على المدينة في اليوم الأول من ذي القعدة سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. ونادوا بالأمان للرعية، وقرؤوا كتاباً مختلقاً عن الخليفة بتقليد رشيق أعمال سيف الدولة، وأقام رشيق يقاتل القلعة ثلاثة اشهر وعشرة أيام. وفتح باب الفرج، ونزل غلمان الحاجب من القلعة فحملوا على أصحاب رشيق فهزموهم، وأخرجوهم من المدينة. فركب رشيق ودخل من باب أنطاكية، فبلغ إلى القلانسيين، وخرج من باب قنسرين، ومضى إلى باب العراق. فنزل غلمان الحاجب، وخرجوا من باب الفرج وهو الباب الصغير. ووقع القتال بينهم وبين أصحاب رشيق، فطعن ابن يزيد الشيبناني رشيقاً فرماه، وكان ممن استأمن من عسكر سيف الدولة إلى رشيق، وأخذ رأسه، ومضى به إلى الحاجب قرعويه. وعاد الحاجب إلى حالته من خلافة الأمير سيف الدولة، وعاد عسكر رشيق إلى أنطاكية، فرأسوا عليهم دزبر بن أوينم الديلمي وعقدوا له الإمارة، واستوزر أبا علي بن الأهوازي، وقبل كل من وصل إليه من العرب والعجم. وسار إليه الحاجب قرعويه إلى أنطاكية، فأوقع به دزبر، ونهب سواده، وانهزم قرعويه، وقد استأمن أكثر أصحابه إلى دزبر، فتحصن بقلعة حلب، وتبعه دزبر فملكها في جمادى الأولى سنة 355. وأقام بها وابن الأهوازي بعسكره في حاضر قنسرين وجمع إليه بني كلاب، وجبى الخارج في بلد حلب وحمص، وفوض إلى القضاة، والولاة، والشيوخ، والعمال الأعمال والولايات. وجاء سيف الدولة فدخل حلب وعسكره ضعيفٌ، فبات بها وخرج إلى دزبر وابن الأهوازي. وكان سيف الدولة قد فلج وبطل شقه الأيسر، فالتقوا شرقي حلب بسبعين. فغدرت بنو كلاب بدربز وابن الأهوازي حين نظروا إلى سيف الدولة، واستأمنوا إليه، فآمنهم، ووضع السيف في عسكر دزبر، فقتل جمعاً كثيراً، وأسر خلقاً، فقتلهم صبراً. وكان فيهم جماعة ممن اشتراه بماله من الروم، فسبقوه إلى الشام، وقبضوا الرزق من ابن الأهوازي، وجعلوا يقاتلونه، فما أبقى على أحد منهم، وحصل دزبر وابن الأهوازي في أسره؛ فأما دزبر فقتله ليومه وأما ابن الأهوازي فاستبقاه أياماً ثم قتله. ثم إن سيف الدولة قويت علته بالفالج، وكان بشيزر فوصل إلى حلب، فأقام بها يومين أو ثلاثة. وتوفي يوم الجمعة العاشر من صفر من سنة 356. وقبل توفي بعسر البول، وحمل تابوته إلى ميّافارقين فدفن بها في تربته. وكان على قضاء حلب إذ ذاك في غالب ظني أبو جعفر أحمد بن إسحاق ابن محمد بن يزيد الحنفي، بعد أحمد بن محمد بن ماثل. وينسب إلى سيف الدولة أشعارٌ كثيرةٌ، لا يصح منها له غير بيتين، ذكر أبو القاسم الحسين بن علي المغربي كاتبه وهو جد الوزير أبي القاسم المغربي أنهما لسيف الدولة. ولم يعرف له غيرهما. وكتب بهما إلى أخيه ناصر الدولة وقد مد يده إلى شيء من بلاده المجاورة له من ديار بكر، وكانت في يد أخيه: لست أجفو وغن جفيت ولا أت ... رك حقاً عليّ في كل حال إنما أنت والدٌ والأب الجا ... في حقاً بالصبر والإحتمال ووزر لسيف الدولة أبو إسحاق القراريطي، ثم صرفه وولى وزارته أبا عبد الله محمد بن سليمان بن فد، ثم غلب على أمره أبو الحسين علي بن الحسين المغربي أبو الوزير أبي القاسم ووزر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وقام بالأمر الحاجب قرعويه غلام سيف الدولة من قبل ابن سيف الدولة، فبقي فيها إلى أن مضى غلمان سيف الدولة إلى ميّافارقين فاحضروا ابنه سعد الدولة أبا المعالي شريف بن علي بن عبد الله بن حمدان، وكان مع والدته أم الحسن ابنة أبي العلاء سعيد بن حمدان بها. فدخل حلب يوم الاثنين لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة 356 وزيّنت له المدينة، وعقدت له القباب، وجلس على سرير أبيه، وجلس الحاجب قرعويه على كرسي، والمدبر لدولته وزيره أبو إسحاق محمد بن عبد الله بن شهرام كاتب أبيه. وقبض أبو تغلب بن ناصر الدولة بن عبد الله بن حمدان على أبيه ناصر الدولة في هذه السنة، فامتعض حمدان بن ناصر الدولة لذلك وعصى على أخيه بالرقة والرحبة. فسار أبو تغلب إليه إلى الرقة، وحصره فيها إلى أن صالحه على أن يقتصر على الرحبة، ويسلم إليه الرقة والرافقة وكتب لأبي تغلب توقيع بتقليده أعمالناصر الدولة وسيف الدولة من المطيع، وهو بالرقة. وكان قرعويه قد جاء إلى خدمته، وهو يحاصر أخاه، فلما صلاح أخاه قدم حلب جريدة، وزار ابن عمه سعد الدولة، وعاد إلى الموصل. وأقام سعد الدولة إلى أن تجدّد بينه وبين ابن عمه أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وهو خاله وحشة، وكان بحمص، فتوجه سعد الدولة إليه فانحاز إلى صدد، ونزل سعد الدولة سلمية، وجمع بني كلاب وغيرهم. وقدّم الحاجب قرعويه وبني كلاب على مقدّمته مع قطعة من غلمان أبيه، فتقدموا إلى صدد. فخرج إليهم أبو فراس وناوشهم، واستأمن أصحابه، واختلط أبو فراس بمن استأمن. فأمر قرعويه بعض غلمانه بالتركية بقتله، فضربه بلتّ مضرسٍ، فسقط ونزل فاحتز رأسه، وحمله إلى سعد الدولة. وبقيت جثته مطروحة بالبرية، حتى كفّنه من الأعراب وذلك في شهر ربيع من سنة 357 ولطمت أمه سخية حتى قلعت عينها عليه، وكانت أم ولد. وخرج في هذه السنة فاثور للروم في خمسة آلاف فارس وراجل، فصار إلى نواحي حلب، فواقعه قرعويه بعسكر حلب، فأسر قرعويه، ثم أفلت، وانهزم أصحابه، وأسر الروم جماعة من غلمان سيف الدولة. ثم إن نقفور ملك الروم خرج إلى معرة النعمان ففتحها وخرب جامعها وأكثر دورها، وكذلك فعل بمعرة مصرين، وكلنه أمن أهلها من القتل، كانوا ألفاً ومائتي نفس، وأسرهم وسيّرهم إلى بلد الروم. وسار إلى كفر طاب وشيزر، وأحرق جامعها. ثم إلى حماة ففعل كذلك، ثم إلى حمص، وأسر من كان صار إلى تلك الناحية من الجفلة. ووصل إلى عرقة ففتحها وأسر أهلها، ثم نفذ إلى طرابلس وكان أهلها قد أحرقوا ربضها، فانصرف إلى جبلة ففتحها، ومنها إلى اللاذقية، فانحدر إليه أبو الحسين علي بن إبراهيم بن يوسف الفصيص. فوافقه على ذهب يدفع إليه منها، وانتسب له فعرف نقفور سلفه، وجعله سردغوس، وسلم أهل اللاذقية. وانتهى إلى أنطاكية وفي يده من السبي مائة ألف رأس، ولم يكن يأخذ إلا الصبيان والصبايا والشباب، فأما الكهول والمشايخ والعجائز فمنهم من قتله ومنهم من تركه. وقيل: إنه فتح في هذه الخرجة ثمانية عشر منبراً. وأما القرى فلا يحصى عدد ما أخرب منها وأحرق. ونزل بالقرب من أنطاكية، فلم يقاتلهم، ولم يراسلهم بشي. وبنى صن بغراس مقابل أنطاكية، ورتب فيه ميخائيل البرجي وأمر أصحاب الأطارف بطاعته. وتحدث الناس أنه يريد أن ينازل أنطاكية طول الشتاء وينفذ إلى حلب أيضاً من ينازلها. فأشار الحاجب قرعويه على سعد الدولة أن يخرج من حلب، ولا يتحاصر فيها، فخرج منها إلى بالس، فسيّر إليه قرعويه، وقال له: امض إلى والدتك، فإن أهل حلب لا يريدونك، ولا يتركونك تعود إليهم. وحالف قرعويه أهل حلب على سعد الدولة، وتقرّب إليهم بعمارة القلعة وتحصينها، وعمارة أسوار البلدة وتقويتها، فيئس سعد الدولة من حلب، ومضى أصحابه إلى أبي تغلب بن ناصر الدولة. وقطع قرعويه الدعاء لسعد الدولة، فعمل على قصد حرّان والمقام بها، فمنعه أهلها، وراسلهم، وواعدهم بالجميل فلم يستجيبوا له، فسألهم أن يتزود منها يومين، فأذنوا له في ذلك. فمضى إلى والدته إلى ميّافارقين وحرّان شاغرة يدبرها أهلها، ويخطبون لأبي المعاني سعد الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ولما قرب أبو المعالي من ميّافارقين بلغ والدته أن غلمانه وكتّابه عملوا على القبض عليها وحملها إلى القلعة، كما فعل أبو تغلب بناصر الدولة، فطردت الكتّاب، وغلقت أبواب المدينة في وجه ابنها ثلاثة أيام حتى استوثقت منه، وفتحت له. وحين علم ملك الروم بتقوية قرعويه لحلب دخل بلاده. وأما قرعويه فاستولى على حلب في المحّرم سنة 358 وأمّر غلامه بكجور، وشاركه في الأمر، ودعي لهما على المنابر في عمله. وكتب اسم بكجور على السكّة. وكان يخاطب قرعويه بالحاجب، وغلامه بكجور بالأمير. وحصل زهير غلام سيف الدولة بمعرة النعمان، وكان واليها، وانضاف إليه جماعة من غلمان سيف الدولة. فأقاموا الدعوة في المعرة لسعد الدولة، وكاتبوا مولاهم سعد الدولة أبا المعالي واستدعوه إلى الشّام، فسار ونزل منبج، فاجتمعوا معه. ونزلوا على حلب في شهر رمضان من سنة 358، وحاصروا قرعويه وبكجور وجرت بينهم حروب يطول ذكرها. وكتب قرعويه إلى الروم، واستدعى بطريقاً كان في أطراف الروم لنجدته، وهو خادم كان لنقفور ويعرف بالطّربازي، فسار نحوه، ثم عدل إلى أنطاكية، وذلك أن ملك الروم لما نزل ببوقا ومعه السبي والغنائم على ما ذكرناه توافق هو وأهلها وكانوا نصارى في أن ينتقلوا إلى أنطاكية، ويظهروا أنهم إنما انتقلوا خوفاً من الروم، حتى إذا حصلوا بها وسار الروم إلى أنطاكية وافقوهم على فتحها. ففعلوا ذلك ووافقوا نصارى أنطاكية وكاتبوا الطّربازي حين خرج بان أنطاكية خالية وليس بها سلطان. وكان أهلها من المسلمين قد ضيعوا أسوارها، وأهملوا حراستها، فجاء الروم إليها مع الطّربازي ويانس بن شمشقيق في أربعين ألفاً، فأحاطوا بأنطاكية، وأهل بوقا على أعلى السور في جانب منه، فنزلوا وأخلوا السور، فصعد الروم وملكوا البلد وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 358. فدخل الروم فأحرقوا وأسروا وكانت ليلة الميلاد. فما طلع الروم على جبلها، جعلوا يأخذون الحارس فيقولون له: كبّر وهلّل. فمن لم يفعل قتلوه، فكان الحراس يهللون ويكبرون، والناس لا يعلمون بما هم فيه، حتى ملكوا جميع أبرجتها، وصاحوا صيحة واحدة، فمن طلب باب الجنان قتل أو أسر. واجتمع جماعة إلى باب البحر فبردوا القفل فسلموا، وخرجوا وبنوا قلعة في جبلها، وجعلوا الجامع صيرة للخنازير. ثم إن البطريك جعله بستاناً. ثم إن الطّربازي سار إلى حلب، منجداً قرعويه وبكجور وأبو المعالي محاصر لهما، فانحاز أبو المعالي شريف عن حلب إلى خناصرة، ثم إلى معرة النعمان. فطمع الروم في حلب فنازلوها، وهجموا المدينة من شمالها وحصروا القلعة. فهادنهم قرعويه على حمل الجزية، عن كل صغير وكبير من سكان المواضع التي وقعت الهدنة عليها دينار، قيمته ستّة عشر درهماً إسلاميّة، وان يحمل إليهم في كل سنة عن البلاد التي وقعت الهدنة عليها سبعمائة ألف درهم. والبلاد حمص، وجوسية، وسلمية، وحماة، وشيزر، وكفر طاب، وأفامية، ومعرة النعمان وحلب، وجبل السّماق، ومعرة مصرين، وقنسرين، والأثارب، إلى لطرف البلاط الذي يلي الأثارب وهو الرصيف، إلى أرحاب، إلى باسوفان إلى كيمار، إلى برصايا، إلى المرج الذي هو قريب أعزاز، ويمين الحد كله لحلب، والباقي للروم. ومن برصايا يميل الشرق، ويتصل بوادي أبي سليمان إلى فج سنياب، إلى نافوذا إلى تل حامد، إلى يمين الساجور إلى مسيل الماء إلى أن يمضي ويختلط بالفرات. وشرطوا أن الأمير على المسلمين قرعويه، والأمر بعد لبكجور، وبعدهما ينصّب ملك الروم أميراً يختاره من سكان حلب. وليس للمسلمين أن ينصّبوا أحداً، ولا يؤخذ من نصراني جزية في هذه الأعمال، إلا إذا كان له بها مسكن أو ضيعة. وإن ورد عسكر إسلاميّ يريد غزو الروم منعه قرعويه وقال له: امض من غير بلادنا، ولا تدخل بلاد الهدنة. فإن لم يسمع أمير ذلك الجيش قاتله، ومانعه، وإن عجز عن دفعه كاتب ملك الروم والطربازي لينفذ إليه من يدفعه. ومتى وقف المسلمون على حال عسكر كبير كتبوا إلى الملك وإلى رئيس العسكر، وأعملوها به لينظروا في أمرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وإن عزم الملك أو رئيس العسكر على الغزاة إلى بلد الإسلام تلقاه بكجور إلى المكان الذي يؤمر بتلقيه إليه، وأن يشيعه في أعمال الهدنة، ولا يهرب من في الضياع ليبتاع العسكر الرومي ما يحتاجون إليه سوى التبن، فإنه يؤخذ منهم على رسم العسكر بغير شيء. ويتقدم الأمير بخدمة العسكر الرومية إلى الحدّ، فإذا خرجت من الحدّ عاد الأمير إلى عمله، وإن غزا الروم غير ملّة الإسلام سار إليه الأمير بعسكره، وغزوا معه كما يأمر. وأي مسلم دخل في دين النصرانية فلا سبيل للمسلمين عليه، ومن دخل من النصارى في ملة الإسلام فلا سبيل للروم عليه. ومتى هرب عبدٌ مسلم أو نصراني، ذكراً كان أو أنثى، من غير الأعمال المذكورة إليها، لا يستره المسلمون، ويظهرونه ويعطى صاحبه ثمنه عن الرجل ستة وثلاثون ديناراً، وعن المرأة عشرون ديناراً رومية، وعن الصبي والصبية خمسة عشر ديناراً. فإن لم يكن له ما يشتريه أخذ الأمير من مولاه ثلاثة دنانير وسلمه إليه. فإن كان الهارب معمداً فليس للمسلمين أن يمسكوه، بل يأخذ الأمير حقّه من مولاه، ويسلّمه إليه. وإن سرق سارق من بلاد الروم، وأخفى هارباً أنفذه الأمير إلى رئيس العسكر الرومي ليؤدّبه. وإن دخل رومي إلى بلد الإسلام فلا يمنع من حاجة. وإن دخل من بلاد الإسلام جاسوسٌ إلى بلد الروم أخذ وحبس. ولا يخرب المسلمون حصناً ولا يحدثون حصناً، فإن خرب شيء أعادوه. ولا يقبل المسلمون أميراً مسلماً، ولا يكاتبوا أحداً غير الحاجب وبكجور. فإن توفّيا لم يكن لهم أن يقبلوا أميراً من بلاد الإسلام، ولا يلتمسوا من المسلمين معونةً، بل ينصب لهم من يختاره من بلاد الهدنة. وينصب لهم الملك بعد وفاة الحاجب وبكجور قاضياً منهم، يجري أحكامهم على رسمهم. وللروم أن يعمروا الكنائس الخربة في هذه الأعمال، ويسافر البطارقة والأساقفة إليها، ويكرمهم المسلمون. وإن العشر الذي يؤخذ من بلاد الروم، يجلس عشّار الملك مع عشّار قرعويه وبكجور، فمهما كان من التجارة من الذهب والفضة، والديباج الروميّ، والقّز غير معمول، والأحجار والجوهر واللؤلؤ، والسندس عشّره عشّار المكل. والثياب، والكتّان، والزبون، والبهائم، وغير ذلك من التجارات بعشّره عشّار الحاجب وبكجور بعده، وبعدهما بعشّر ذلك كلّه عشّار الملك. ومتى جاءت قافلةٌ من الّروم تقصد حلب، يكتب الزروار المقيم في طرف الأمير إلى الأمير، ويخبره بذلك لينفذ من يتسلّمها ويوصلها إلى حل. وإن قطع الطريق عليها بعد ذلك، فعلى الأمير أن يعطيهم ما ذهب. وكذلك إن قطع على القافلة أعراب أو مسلمون في بلد الأمير، فعلى الأمير غرامة ذلك. وحلف على ذلك جماعة من شيوخ البلد مع الحاجب وبكجور؛ وسلم إليهم رهينةً من أهل حلب: أبو الحسن بن أي أسامة وكسرى بن كسور، وابن أخت ابن أبي عيسى، وأخو أبي الحسن الخشّاب، وأبو الحسن بن أبي طالب، وأبو الطيب الهاشمي، وأبو الفرج العطّار، ويمن غلام قرعويه. وكن المتوسط في هذه الهدنة رجلاً هاشمياً من أهل حلب يقال له طاهر. وعادت الروم عن حلب، وبقي الحاجب قرعويه في ولايتها والتدبير إليه وإلى غلامه بكجور، وذلك في صفر من سنة 357. وأقام سعد الدولة أبو المعالي بمعرة النعمان ثلاث سنين وراسله الحاجب وبكجور ومشايخ حلب في سنة 358، على أن يؤدي إلى الروم قسطاً من مال الهدنة. وكان القيمّ بأمر أبي المعالي وعسكره رقطاش غلام سيف الدولة، وكان قد نزل إليه من حصن برزويه، وحمل إليه غلة عظيمة وعلوفة وطعاماً، ووسع على عسكره بعد الضّائقة ولم يؤدّ سعد الدولة ما هو مقرّر من مال الهدنة على البلاد التي في يده. فخرج الروم وهجموا حمص على غفلة. وقيل: إن سعد الدولة استولى على حلب في سنة 363. ووصله في شهر ربيع الأول رسول العزيز أبو القاسم أحمد بن إبراهيم الرسي من مصر، فأقام الدعوة له بحلب في هذه السنة، وأرسل معه إلى مصر جواب الرسالة قاضي حلب وأظنه ابن الخشّاب الهاشمي. ووصل إليه بكجور من حلب وهو بحمص، فخلع عليه أبو المعالي وولاه حلب، وأقيمت له الدعوة فيها وفي سائر عملها، فوافق بكجور غلمان سيف الدولة على القبض على مولاه قرعويه وقصد أبي المعالي، وقلعه من حمص، فقبض عليه. وسار أبو المعالي إلى حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وقيل: دام الأمر بحلب مردوداً إلى قرعويه وبكجور، فأحب الأمير أبو الفوارس بكجور الحاجبي الكاسكي التفرد بالأمر دون مولاه، وحدّث نفسه بالقبض عليه، فقبض عليه وغدر به، في ذي الحجة سنة 364. واستولى على حلب، وانفرد بالأمر، وجعل الحاجب محبوساً بقلعة حلب. وكان سعد الدولة إذ ذاك بحمص، فحين علم بذلك طمع بحلب فتوجّه إليه ومعه بنو كلاب، بعد أن أقطعهم بحمص الإقطاع المعروف بالحمصي، فنزل بهم على معرّة النعمان، وبها زهير الحمداني وقد استولى عليها، وعصى على مولاه، ففتح باب حناك، ودخلوا منه فقاتلهم زهير، وأخرجهم. ثم أحرقوا باب حمص، فخرج زهير مسلماً نفسه بعد أن حلف به كبار الحمدانية إنهم لا يمكنوا أبا المعالي منه. فلما حصل معه غدر به، فتغيّرت وجوه الحمدانيّة، فأمرهم بنهب الحصن فنهبوا ما فيه، وأنفذ زهيراً إلى حصن أفامية، فقتل هناك. وسار أبو المعالي، ونزل بهم على باب حلب، وحاصرها مدة، فاستنجد بكجور بالرّوم، وضمن لهم تسليم حلب وأموالاً كثيرة. فتخلوا عنه. وكان نقفور لعنه الله قد قتل على ما شرحناه. وجدّ سعد الدولة في حصارها والقتال، فسلّم إليه بعض أهل البلد المرتبّين في مراكز البلد برج باب الجنان ورميت أبواب الحديد، وفتحها بالسيف فلم يرق فيها دماً وأمن أهلها. وانهزم بكجور إلىالقلعة فاستعصى بها وذلك في رجب سنة 365. وأقام سعد الدولة يحاصر القلعة مدة حتى نفذ ما فيها من القوت، فسلمها بكجور إليه، في شهر ربيع الآخر سنة 367. وولي سعد الدولة بكجور حمص وجندها، وكان تقرير أمر بكجور بين سعد الدولة وبينه، على يد أبي الحسن علي بن الحسين المغربي الكاتب؛ والد الوزير أبي القاسم. واستقر أمر سعد الدّولة بحلب، وجدّد الحلبيون عمارة المسجد الجامع بحلب، وزادوا في عمارة الأسوار في سنة 367. وغيّر سعد الدّولة الآذان بحلب، وزاد فيه: حي على خير العمل محمد وعليّ خير البشر. وقيل: إنه فعل ذلك في سنة 369، وقيل: سنة 58، ثمان وخمسين وثلاثمائة. وسيّر سعد الدولة في سنة 367 الشريف أبا الحسن إسماعيل بن النّاصر الحسينيّ يهنّئ عضد الدولة بدخوله مدينة السلام، وانهزم بختيار بين يديه. فوجه إليه بتكنية الطائع، ووصلته خلعة منه، ولقل بسعد الدولة فلبس الخلعة. ووصل معها خلعٌ من عضد الدولة أيضاً، وخاطبته في كتابه ب: سيدي، ومولاي، وعدتي فمدحه أبو الحسن محمد بن عيسى النّامي بقصيدة أولها: هوى في القلب لاعجه دخيل وكان أبو صالح بن نانا الملقب بالشديد قد وزر لسعد الدّولة، فانفصل عنه في سنة 371، ومضى إلى بغداد فستوزر مكانه أبا الحسن بن المغربي. ونزل بردس الفقاس الدمستق على حلب، في شهر جمادى الأولى من سنة إحدى وسبعين، ووقع الحرب على باب اليهود في اليوم الثاني من نزوله. فطالب سعد الدّولة بمال الهدنة، وتردّدت المراسلة بينهما، واستقر الأمر على أن يحمل إلى الروم كل سنة أربعمائة ألف درهم فضة، ورحل في اليوم الخامس من وصوله. في يوم الخميس السابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، نزل بردس الدمستق على باب حلب في خمسمائة ألف ما بين فارس وراجل، وكان قد ضمن أن يفتح حلب، وينقض سورها حجراً حجراً، وأن يحمل سبيها إلى القسطنطينية. واحتفل جمعاً وحشد من المجانيق والعرّادات ما لا يحصى كثرةً. وأقام بالحدث أيّاماً، يرهّب الناس، ويهوّل عليهم وسعد الدولة بحلب غير محتفل به. ثم إنه أقبل وعلى مقدمته ملك الجزرية تريثاويل وعلى ميّمنته وميسرته البطارقة في الحديد السابغ، فارتاع النّاس لذلك، وبثّ سراياه، وسعد الدولة قد أمر غلمانه بلبس السلاح، فدام على هذا ثلاثة أيام، ثم صفّ لقتال البلد، وسعد الدولة لا يخرج إليه أحداُ حتى استحكم طعمه. ثم إنّه أمر غلمانه بالخروج إليهم في اليوم السابع، فحملوا حملة واحدة لم ير أشد منها، فقتلوا فيها ملك الجزرية تريثاويل، وكان عمدة عسكرهم، فعند ذلك اشتد القتال. وأمر سعد الدولة عسكره بالخروج إليه، فالتقوا في الميدان، فرجع عسكره أقبح رجوع، وعليهم الكآبة. وسيّر سعد الدولة جيشه خلفه غازياً حتى بلغت عسكره أنطاكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وكان الجيش مع وزيره أبي الحسن علي بن الحسين بن المغربي، فتفتتح في طريقه دير سمعان عنوة بالسيف، وخرّب دير سمعان، وكان بنية عظيمة وحصناً قوياً، وقد ذكر الواساني في بعض شعره. وقيل: إن الدمستق رأى في نومه المسيح وهو يقول له مهدداً لا تحاول أخذ هذه المدينة، وفيها ذلك الساجد على الترس. وأشار إلى موضعه في البرج الذي بين باب قنسرين، وبرج الغنم في المسجد المعروف بمشهد النور. فلما أصبح ملك الروم سأل عنه فوجده ابن أبي نمير عبد الرزاق بن عبد السلام العابد الحلبي، وكان ذلك سبب الرحيل عن حلب. وقيل: إنه صالح أهل حلب ورحل. وقيل: إن هذا كان في نزول أرومانوس على تبلّ. سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. وكان ابن أبي نمير من الأولياء الزهاد والمحدثين العلماء وتوفي في حلب في سنة 425، وقبره بباب قنسرين. ويحتمل أن يكون في سنة 372 حين نزل بردس على حلب ورحل عنها عن صلح، في سنة 372 فطلب من العزيز أن يوليه دمشق، وكاتب العزيز في إنفاذ عسكر ليأخذ له حلب، فأنفذ إليه عسكراً، فنزل على حلب إلى أن نزل الدمستق أنطاكية، فخاف أن يكبسه فرحل عنها. ولما يئس الدمستق من حلب، وخاف على نفسه أن يقتله ملك الروم، خرج إلى جهة حمص، فهرب بكجور من حمص إلى جوسية وكاتب الدمستق أهل حمص بالأمان، وأظهر لهم أنه يسير إلى دمشق، وأنه مهادن لجميع أعمال سعد الدولة، فاطمأنوا إلى ذلك. وأمرهم بإقامة الزاد والعلوفة. وهجم حمص في ربيع الآخر سنة 373، وأحرق الروم الجامع وكثيراً من البلد. وكان استوحش أبو المعالي من بكجور، فأمره أن يترك بلده ويمضي. وصعد بكجور إلى دمشق فوليها في هذه السنة أعني سنة ثلاث من قبل المصريين، وجار على أهل دمشق، فظلم، وجمع الأموال لنفسه، فجرد إليه عسكر من مصر مع مثبر الخادم في سنة 378. وكان بكجور يخاف من أهل دمشق لسوء سيرته، فبعث بعض عسكره، فأرسل إليه بكجور وبذل له تسليم دمشق والانصراف عنها، فأجابه إلى ذلك، فرحل عن دمشق متوجهاً إلى حوارين، في شهر من سنة 378. ووصلت خلع المنصور، في شعبان من هذه السنة فلبسها. ومات الأمير قرعويه بحلب في سنة 380. ثم عن بكجور قوي أمره واستفحل وأخذ إليه أبا الحسن علي بن الحسين المغربي، واستوزره لمباينة حصلت بينه وبين سعد الدولة. وعاث على أعمال سعد الدولة، وجمع إليه بني كلاب، واستغوى بني نمير، فبرز مضرب الأمير سعد الدولة، يوم السبت الثاني والعشرين من محرم سنة 81، إلى ظاهر باب الجنان. وسار يوم السبت سلخ المحرم، على أربع ساعات، وقد كان بكجور سار إلى بالس، وحاصر من كان بها فامتنعوا عليه، فقصده سعد الدولة، والتقوا على الناعورة، في سلخ المحرم من سنة 381. وهزم بكجور، وهرب، واختفى عند رحا القديمي على نهر قويق، وبث سعد الدولة الناس خلفه، وضمن لمن جاء به شيئاً وافراً، فظفر به بعض الأعراب، وأتى به إلى سعد الدولة، فضرب عنقه صبراً بين يديه، ببندر النّاعورة، وصلبه على سبع ساعات من يوم الأحد مستهل صفر. ورحل سعد الدولة يوم الثلاثاء إلى بالس فوجد بكجور قد خرب ربضها، فأقام بها أربعة أيام. ورحل حتى أتى الرقة، وبها حرم بكجور وأمواله وأولاده، فتلقاه أهل الرقة بنسائهم ورجالهم وصبيانهم، فأقام بها بقية يومه. ونزل أهل الرقة، فاحتاطوا بحرم بكجور وأولاده، فآمنهم سعد الدولة، في اليوم التّاسع من صفر، وتنجّزت أمورهم إلى يوم الخميس الثاني عشر منه. ورضي عن أولاده، واصطنعهم، ووهب لهم أموال بكجور، وحلف لهم على ذلك، فمدحه أبو السحن محمد بن عيسى النّامي بقصيدةٍ أوّلها: غزائر الجود طبعٌ غير مقصود ... ولست عن كرمٍ يرجى بمصدود ولما خرج أولاد بكجور بأموالهم وآلاتهم استكثرها سعد الدولة، فقال له وزيره أبو الهيثم بن أبي حصين: أنت حفلت لهم على مال بكجور، ومن أين لبكجور هذا المال؟ بل هذه أموالك. فغدر بهم، ونكث في يمينه، وقبض مال بكجور إيه، وكان مقداره ثمانمائة ألف دينار، وصادر نواب بكجور، واستأصل أموالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ثم عاد إلى حلب فأصابه الفالج في طريقه. وقيل: أصابه في طريقه قولنج، فدخل إلى حلب، وعولج فبرئ. ثم جامع جارية له فأصابه الفالج، واستدعى الطبيب وطلب يده ليجسّ نبضه. فناوله اليسرى فقال: اليمين. فقال: ما أبقت اليمين يميناً، يشير إلى غدره ونكثه في اليمين التي حلفها لأصحاب بكجور. وكان مبدأ علته لأربع بقين من جمادى الأولى، ومات ليلة الأحد لأربع بقين من شهر رمضان من سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وحمل في تابوت إلى الرقة ودفن بها. وكان قاضي حلب في أيامه أبا جعفر أحمد بن إسحاق قاضي أبيه، ثم ولي بعده قضاءها رجل هاشمي يقال له ابن الخشّاب، ثم ولي الشريف أبو علي الحسن بن محمد الحسيني والد الشريف أبي الغنائم النسّابة، وكان زاهداً عالماً ولاّه سعد الدّولة قضاء حلب وعزل ابن الخشّاب عنه في سنة 63، ودام في ولايته إلى سنة 379. وولي بعده أبو محمد عبد الله بن محمد. وكان العزيز أرسل إلى سعد الدولة يسأله إطلاق أولاد بكجور وتسييرهم إلى مصر، فأهان الرسول، وليم يقبل الشفاعة ورد عيه جواب متوعد متهدد. ثم إن غلمان سعد الدولة ملّكوا ابنه أبا الفضائل سعيداً ولقبوه سعيد الدولة، ونصبوه مكان أبيه في يوم الأحد. وصار المدير له وصاحب جيشه من الغلمان الأمير أبو محمد لؤلؤ الكبير السيفي، واستولى على الأمور، وزوج ابنته سعيد الدولة، فرفع المظالم والرسوم المقرّرة على الرعيّة من مال الهدنة، وردّ الخارج إلى رسمه الأوّل، وردّ على الحلبيين أملاكاً كان اغتصبها أبوه وجدّه. وطمع العزيز صاحب مصر في حلب. فاستصغر سعيد الدولة ابن سعد الدولة، فكتب إلى أمير الجيوش بنجوتكين التركي وكان أمير الجيوش والياً بدمشق من قبل العزيز وأمره بالمسير إلى حلب وفتحها، فنزل في جيوش عظيمة ومدبر الجيش أبو الفضائل صالح بن علي الرّوذباري. فنزل على حلب في سنة 382 وفتح حمص وحماة في طريقه، وحصر حلب مدة، فبذل له سعيد الدولة أموالاً كثيرة على أن يرحل عنه وعلى أن يكون في الطاعة. ويضرب السكة على اسم العزيز، ويكتب اسمه على البنود في سائر أعماله. فامتنع من قبول ذلك وقاتل حلب في ثلاثة وثلاثين يوماً. وضجر أهل حلب فقالوا لابن حمدان: إما أن تدبرّ أمر البلد وإلا سلّمناه. فقال: اصبروا عليّ ثلاثة أيام، فإنّ البرجي والي أنطاكية قد سار إلى نصرتي في سبع صلبان. فبلغ ذلك بنجوتيكن فاستخلف بعض أصحابه وهم: بشارة القلعي، وابن أبي رمادة ومعضاد بن ظالم في عسرك معهم كبير على باب حلب. وسار فالتقى البرجي عند جسر الحديد، وبنجوتكين في خمسة وثلاثين ألفاً والروم في سبعين ألفاً، فانهزم البرجي، وأخذ بنجوتكين سواده وقتل من أهله وأصحابه مقتلة عظيمة، وأسر خلقاً كثيراً. فانحاز ابن أخت البرجيّ إلى حصن عمّ، فسار بنجوتكين إلى عمّ فقالت حصنها، وفتحه بالسيف، وأسر منها ابن أخت البرجي، ووالي الحصن وثلاثمائة بطريق، وحصل عنده ألفا فارس، وغنم من عمّ مالاً كثيراً، وأحرقها وما حولها، ووجد ف عمّ عشرة آلاف أسير من المسلمين فخرجوا وقاتلوا بين يديه. وسار إلى أنطاكية فاستاق من بلدها عشرة آلاف جاموس ومن البقر والمواشي عدداً لا يحصى، وسار من ظاهر أنطاكية في بلاد الروم حتى بلغ مرعش، فقتل، وأسر، وغنم، وخرّب، وأحرق. وعاد إلى عسكره إلى باب حلب المعروف بباب اليهود، وقاتلها من جميع نواحيها، وكان هذا في جمادى الأولى وجمادى الآخرة، فأقام على حلب إلى انقضاء سنة 382، وعاد إلى دمشق. ثم إنّه عاد وخرج من دمشق في سنة 383 ومدبر الجيش أبو سهيل منشأ بن إبراهيم القزّاز، فنزلوا شيزر وقاتلوها وفتحوها، وأمنوا سوسن الغلام الحمداني وكان والياً بها وجميع من كان معه. وسار بنجوتكين إلى أفامية، فتسلمها من نائب سعيد الدولة، ثم سار أمير الجيوش بمن انتخبه من العسكر إلى أنطاكية، فغنموا بقراً وغنماً. ورماكاً وجواميس، وبلغوا نواحي بوقا، وقطعوا بغراس، وعاد العسكر إلى الرّوج ثم إلى أفامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وسار إلى دمشق، وسيّر العزيز أبا الحسن علي بن الحسين بن المغربي الكاتب، الذي كان وزيراً لسعد الدولة أبي المعالي مرة وفارقه عن وحشة وهو والد الوزير أبي القاسم بن المغربي في محرم من سنة 384، من مصر إلى بنجوتكين ليجعله مدبر جيشه والناظر في أعمال الشام إن فتحت، لخبرته، وسار معه عسكرٌ كثيرٌ فوصل إلى دمشق. وسار منها بنجوتكين وابن المغربي في ثلاثين ألف مقاتل، فوصلوا ظاهر حلب في شهر ربيع الآخر. وضيق عليها بالحصار، فاستنجد سعيد الدولة ولؤلؤ بالروم، وخرج البطريق البرجي والي أنطاكية بعسكر الروم، فنزل بالأرواج على المخاض، وبث سراياه، وربت قوماً يغيرون على أعمال حلب. وسار بنجوتكين فنزل مقابلهم، وسار عسكر حلب وفيهم الأمير رباح الحمداني وكبار الحمدانية، فنزلوا مع الرّوم على مخاضة أخرى، فقطع المغاربة بالماء وعبروا إليهم، وأنفذ بنجوتكين العرب مع قطعة من عسكره للقاء الحلبيين، فحين أشرفواً عليه انهزموا عن المخاضة، ونهبتهم العرب. فحين شاهد الروم ذلك انهزموا، وتخلّوا عن البرجي، واضطروا إلى الهزيمة؛ وتبعهم المغاربة مع بنجوتكين في يوم الجمعة لست خلت من شعبان سنة 384، فظفر بهم، وغنم الأموال والرجال والخيل التي لا تحصى، وقتلوا خلقاً كثيراً، وأسر خلقاً كثيراً من الروم وسار فنزل على عزار، فأخذها. ثم عاد إلى حصار حلب فبنى مدينة بإزارها وشتى بها، وآثار العمارة التي تظهر حول نهر قويق هي آثار تلك العمائر، ولم يزل على حلب، إلى أن انقضت سنة 384، وكان حصارهم حلب أحد عشر شهراً، وأكلوا الخيل والحمير. وأنفذ أبو الفضل سعيد الدولة ولؤلؤ أبا علي بن إدريس إلى باسيل ملك الروم بالقسطنطينية، يستنجدانه، وكانت له على حلب قطيعة تحمل إليه، وقالا له: ما نريد منك قتالاً إنما نريد أن تجفله. فخرج باسيل في ثلاثة عشر ألفاً، وعسكر بنجوتكين لا خبر معهم لباسيل، فسيّر جواسيس وقال لهم: امضوا إلى العسكر وأعلموهم بي. وكانت دواب أمير الجيوش بمرج أفامية في الربيع، فلما أخبر الجواسيس عسكر أمير الجيوش بوصول باسيل إلى العمق، ضرب جميع آلته بالنار، ورحل إلى قنسرين فصارت هزيمة. وجاء باسيل ملك الروم، فنزل موضعهم، فلم يمله، وكان قد خرج أبو الفضائل إلى ملك الروم، وشكره على ما فعل من رحيل بنجوتكين، ومعه هدية جليلة القدر فقبلها منه، ثم أعادها إلى حلب، ووهب له القطيعة التي كانت له على حلب في تلك السنة، فقال قسطنطين لأخيه الملك باسيل: خذ حلب والشام، فما يمتنع منك. فقال: ما تسمع الملوك أني خرجت أعين قوماً، فغدرت بهم. فقال له بعض أصحابه: ليست حلب غالية بغدرة. فقال الملك: ولو أنها الدنيا. وكان إذا خرج أبو الفضائل إلى ملك الروم أقام لؤلؤ بحلب، وإذا خرج لؤلؤ أقام أبو الفضائل. فتوجع لؤلؤ فركب إليه أبو الفضائل يعوده، فحجبه ساعة فشق عليه، وانصرف مغضباً، فلحقه لؤلؤ وقال هل: ما كنت عليلاً، وإنما أردت أن أعلمك أنك متى ما مضيت إلى غير هذا البلد إنك تحجب عليّ أبواب الناس، وقد شق عليك أني حجبتك وأنا عبدك، والبلد بلدك. فرجع إلى قول لؤلؤ. وعصى رباح السيفي بالمعرة على مولاه أبي الفضائل فخرج إليه مع لؤلؤ في سنة 386، وانحاز إلى المغاربة، فخرج أبو الفضائل ولؤلؤ وحصراه مدة، فورد بنجوتكين لنجدته فانهزما ودخلا حلب. وخرج باسيل إلى أفامية بعد وقعة جرت للروم مع المغاربة، فجمع عظام لقتلى من الروم وصلى عليهم، دفنهم، وسار إلى شيزر ففتحها، بالأمان من لمغاربة، وذلك في سنة 389. وسار ملك الروم إلى وادي حيران، فسبى منه خلقاً عظيماً من المسلمين، وخرج إليه أبو الفضائل من حلب إلى شيزر فأكرمه وقال له: قد وهبت لك حلب، ووهبت لأبي الفضائل في جملة ما وهبت سطل ذهب. وقال له: اشرب بهذا. ومات أبو الفضائل سعيد الدولة ليلة السبت النصف من صفر سنة 392، سقته جاريةٌ سماً، فمات. وقيل: إن لؤلؤ دسّ عليه ذلك وعلى ابنته زوجة أبي الفضائل فماتا جميعاً. وكان قاضي حلب في أيامه عبيد الله بن محمد بن أحمد القاضي أبا محمد. وملّك لؤلؤ السيفي ولديه أبا الحسن علياً وأبا المعالي شريفاً ابني سعيد الدولة، واستولى لؤلؤ على تدبير ملكهما وليس إليهما شيء. وخاف لؤلؤ على حصن كفر روما، وحصن عار، وحصن أروح، أن يقصد فيها، فهدمها جميعاً سنة 393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وأحب لؤلؤ التفرد بالملك، فسيّر أبا الحسن أبو المعالي ابن سعيد الدولة عن حلب إلى مصر مع حرم سعد الدولة، في سنة 394. وحصل الأمر له ولولده مرتضى الدولة أبي نصر منصور بن لؤلؤ. وقبض لؤلؤ على أحمد بن الحسين الأصفر بخديعة خدعه بها، وذلك أنه طلب أن يدخل إليه إلى حلب، وأهمه أن يصير من قبله، فلما حصل عنده قبض عليه، وجعله في القلعة مكرماً. لأنه كان يهوّل به إلى الروم. وكان هذا الأصفر قد عبر من الجزيرة إلى الشام، مظهراً غزو الروم، فتبعه خلق عظيم، وكان يكون في اليوم في ثلاثين ألفاً ثم يصير في يوم آخر في عشرة آلاف وأكثر وأقل. ونزل على شيزر وطال أمره، فاشتكاه باسيل ملك الروم إلى الحاكم، فسيّر إليه والي دمشق في عسكر عظيم، فطرده عنها، ودام معتقلاً في قلعة حلب إلى أن حصلت للمغاربة في سنة 406. وتوفي قاضي حلب أبو طاهر صالح بن جعفر بن عبد الوهاب بن احمد الصالحي الهاشمي؛ مؤلف كتاب الحنين إلى الأوطان في سنة 397. وكان فاضلاً، وأظن أن ولايته القضاء كانت بعد أيام سعيد الدولة، بعد القاضي أبي محمد عبيد الله بن محمد بن أحمد. وولّى لؤلؤ قضاء حلب في هذه السنة أبا الفضل عبد الواحد بن أحمد بن الفضل الهاشمي. وتوفي لؤلؤ الكبير بحلب في سلخ ذي الحجة من سنة 399. وقيل: ليلة الأحد مستهل المحرم سنة 400. ودفن بحلب، في مسجده المعروف به فيما بين باب اليهود وباب الجنان وكانت داره القصر باب الجنان، وله منها إلى المسجد سربٌ يدخل فيه إلى المسجد فيصلي فيه. وكان لؤلؤ يعرف بلؤلؤ الحجراني. ويعرف بذلك لأنه كان مولى حجراج، أحد غلمان سيف الدولة، فأخذه منه وسماه لؤلؤ الكبير، وكان عاقلاً محباً للعلماء والعدل، شهماً وظهرت منه في بعض غزوات سيف الدولة شهامة، فتقدم على جماعة رفقته من السيفية والسعدية. وتقرّرت إمارة حلب بعده لابنه أبي نصر منصور بن لؤلؤ ولقب مرتضى الدولة، وكان ظالماً عسوفاً، فأبغضه الحلبيون وهجوه هجواً كثيراً، فمما قيل فيه: لم تلقّب وإنّما قيل فألاً ... مرتضى الدّولة الّتي أنت فيها وسيّر مرتضى الدولة ولديه أبا الغنائم وأبا البركات إلى الحاكم وافدين عليه، فأعطاهما مالاً جسيماً، وأقطعهما سبع ضياع في بلد فلسطين، ولقب أباهما مرتضى الدولة، وكان ذلك قبل موت لؤلؤ بسنة. وكان لسعد الدولة بن سيف الدولة بحلب ولد يقال له أبو الهيجاء، وكان قد وصّى سعد الدولة لؤلؤاً لما مات به، فلما أن ملك لؤلؤ خاف منه، وضيّق عليه لؤلؤ ومرتضى الدولة، وكان قد صاهر ممهد الدولة أبا منصور أحمد بن مروان صاح ديار بكر على ابنته، وأظن ذلك كان في أيام أبيه. فخاف أبو الهيجاء من لؤلؤ وابنه مرتضى الدولة، فتحدث مع رجل نصراني يعرف بملكونا. كان تاجراً وبزّازاً لمرتضى الدولة فأخرجه من حلب هارباً، والتجأ إلى ملك الروم فلقبه الماخسطرس. فلما كثر ظلم منصور وعسفه رغب الرعية وبنو كلاب المتدبرون ببلد حلب في أبي الهيجاء بن سعد الدولة، وكاتبوا صهره ممهّد الدّولة بن مروان في مكاتبة باسيل ملك الروم في إنفاذه إليهم. وأنفذ إلى الملك يسأله تسيير أبي الهيجاء إليه ليتعاضدا على حلب، ويكون من قبله من حيث لا يكلفه إنجاده برجال ولا مال. فأذن باسيل لأبي الهيجاء في ذلك، فوصل إلى صهره بميّافارقين، فسيّر معه مائتي فارس وخزانه، وكاتب بني كلاب بالانضمام إليه. وسار قاصداً حلب في سنة 400. فخافه منصور، ورأى أن يستصلح بني كلاب، ويقطعهم عنه، لتضعف منّته، فراسلهم ووعدهم بإقطاعات سنية، وحلف لهم أن يساهمهم أعمال حلب البّرانيّة. واستنجد مرتضى الدولة بالحاكم، وشرط له أن يقيم بحلب والياً من قبله، فأنفذ إليه عسكر طرابلس مع القاضي علي بن عبد الواحد بن حيدرة قاضي طرابلس، وأبي سعادة القائد والي طرابلس، في عسكر كثيف، فالتقوا بالنقرة. وتقاعدت العرب عن أبي الهيجاء لما تقدّم من وعود مرتضى الدولة لهم، فانهزم أبو الهيجاء راجعاً إلى بلد الروم ونهبت خيامه وجميع ما كان معه. ثم دخل إلى القسطنطينية فأقام بها إلى أن مات. وكان الحاكم قد كتب لمنصور بن لؤلؤ في شهر رمضان من سنة 404 سجلاً، وقرئ في القصر بالقاهرة، بتمليكه حلب وأعمالها، ولقب فيه مرتضى الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وكان في قلعة عزاز غلام مرتضى الدولة فاتهمه في أمر أبي الهيجاء، فطلب مرتضى الدولة منه النزول فلم يفعل، وخاف منه، وقال: ما أسلمها إلا للقاضي حيدرة. فسلمها إليه. وكتب القاضي فيها كتاباً إلى الحاكم، وسلّمها إلى مرتضى الدولة، فنقم عليه، وقتله بعد ذلك. أما أبو الهيجاء فأقام بالروم إلى أن مات. وعاد قاضي طرابلس خائباً. وكان أبو المعالي بن سعيد الدولة بمصر، فسيّره الحاكم بعساكر المغاربة إلى حلب، فوصل معرة النعمان في سنة اثنتين وأربعمائة، وأرادت العرب الغدر به، وبيعه من مرتضى الدولة، فأخذه مضيء الدولة نصر الله بن نزّال ورده إلى العسكر، ورجع فمات بمصر. أما بنو كلاب فإنهم طلبوا من مرتضى الدولة ما شرطه لهم من الإقطاع، فدافعهم عنه، فتسلطوا على بلد حلب، وعاثوا فيه وأفسدوا، ورعوا الأشجار وقطعوها، وضيّقوا على مرتضى الدولة، فشرع في الاحتيال عليهم، وأظهر الرغبة في استقامة الحال بينهم وبينه، وطلبهم أن يدخلوا إليه ليحالفهم ويقطعهم ويحضروا طعامه، واتخذ لهم طعاماً. فلما حصلوا بحلب مدّ لهم السماط وأكلوا وغلفت أبواب المدينة، وقيّد الأمراء وفيهم صالح بن مرداس، وفيهم أبو حامد وجامع ابنا زائدة. وجعل كبار الأمراء بالقلعة، ومن دونهم بالهري. وقتل منهم أكثر من ألف رجل، وذلك لليلتين خلتا من ذي القعدة من سنة 402. فجمع مقلّد بن زائدة من كان من بني كلاب خارج حلب وأجفل البيوت، ونزل بهم كفر طاب فقاتلها، فرماه ديلمي اسمه بندار فقتله، في أوائل سنة 403. وكان مرتضى الدولة قد أخرج أخويه أبا حامد وجامعاً وغيرهما، وجعلهم في حجرة، وجعل فيها بسطاً، وأكرمهم لأجل مقلّد. فلما جاءه خبر قتله أنفذ إليهم يعزّيهم به، فقال بعضهم لبعض: اليوم حبسنا. وسيّر مرتضى الدّولة إلى صالح بن مرداس، وهو في الحبس وألزمه بطلاق زوجته طرود، وكانت من أجمل أهل عصرها، فطلقها، وتزوجها منصور، وهي أم عطية بن صالح، وإيلها ينسب مشهد طرود، خارج باب الجنان، في طرف الحلبة. وبه دفن عطية ابنها، ومات أكثر المحبّسين في القلعة في الضرّ والهوان والقلة والجوع. وكان مرتضى الدولة في بعض الأوقات إذا شرب يعزم على قتل صالح، لحقنه عليه من طول لسانه وشجاعته. فبلغ ذلك صالحاً فخاف على نفسه وركب الصعب في تخليصها، واحتال حتى وصل إليه في طعامه مبردٌ، فبرد حلقة قيده الواحدة وفكها وصعبت الأخرى عليه، فشد القيد في ساقه، ونقب حائط السجن، وخرج منه في الليل، وتدلى من القلعة إلى التل وألقى نفسه فوقع سالماً ليلة الجمعة مستهل المحرم سنة 405 واستتر في مغارة بجبل جوشن، وأكثر الطلب له والبحث عنه عند الصباح، فلم يوقف له على خبر، ولحق بالحلّة، واجتمعت إليه بنو كلاب، وقويت نفوسهم بخلاصه، وبعد ستة أيام ظفر صالح بغلام لمنصور وكان قد أعطاه سيف صالح، فاستعاده منه وأيقن بالظفر، وتفاءل بذلك. ولما كان في اليوم العاشر من صفر نزل صالح بتل حاصد من ضياع النقرة يريد قسمتها، بعد أن جمع العرب واستصرخهم، وكان يعلم صالح محبة مرتضى الدولة لتل حاصد. فحين علم منصور بنزول صالح على تل حاصد رأى أن يعاجله قبل وصول المدد إليه، فجمع جنده، وحشد جميع من بجلب من الأوباش والنصارى، واليهود، وألزمهم بالسير معه إلى قتال صالح، فخرجوا ليلة الخميس ثاني عشر صفر من سنة 405. وبلغني: أنّ مرتضى الدّولة لما وصل إلى جبرين تطيّر وقال: جبرنا، فلما وصل تل حاصد قال: حصدنا. وأصبح عليهم يومٌ شديد الحرّ، فماطلهم صالح باللقاء إلى أن عطش العوام ونالوا المرام، والحمد لله على التمام والكمال والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35