الكتاب: علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية المؤلف: زهير الخالد الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السابعة - العدد الثاني شوال 1394 هـ 1974 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية زهير الخالد الكتاب: علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية المؤلف: زهير الخالد الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السابعة - العدد الثاني شوال 1394 هـ 1974 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مدْخل ... علاقَة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي بِالْمُسْلِمين عبر التَّارِيخ ومنطلقاتها الأساسية بقلم: فَضِيلَة الشَّيْخ زُهَيْر الخالد الْمدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة إِن الْحَمد لله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا. من يهد الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ. وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أما بعد: لقد قَامَت - عبر التَّارِيخ - علاقَة بَين الْمُسلمين وَبَين المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي فعلى أَي أساس قَامَت هَذِه العلاقة؟ هَل قَامَت على أساس الْمحبَّة والإخاء فِي الإنسانية كَمَا يُقَال: وعَلى التعاون الْمُشْتَرك على مَا ينفع الطَّرفَيْنِ بِلَا أحقاد وَلَا أضغان وَلَا استغلال وَلَا استعمار، على اعْتِبَار أَن بَيْننَا وَبينهمْ صَعِيدا مُشْتَركا من الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَالدَّار الْآخِرَة - كَمَا يَقُولُونَ -؟ أم قَامَت على أساس العداء والكره والتعصب والأحقاد والحروب الدامية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَمَا هِيَ الْأَسْبَاب الجوهرية لتِلْك الحروب الدامية الَّتِي كَانَت بَيْننَا وَبينهمْ؟ وَهل هَذِه الْأَسْبَاب أصيلة أم عرضية يُرْجَى زَوَالهَا؟ أم قَامَت على هَذَا تَارَة وعَلى ذَاك تَارَة أُخْرَى؟ أم على غير ذَلِك كُله؟ ثمَّ مَا هِيَ الْحَال الَّتِي آلت إِلَيْهَا هَذِه العلاقة الْيَوْم؟ وَهل هِيَ متأثرة فِيمَا كَانَ بَيْننَا وَبينهمْ فِي الْمَاضِي؟ وَمَا هُوَ مدى تأثرها؟ أم أَنَّهَا بنت الْيَوْم لَا أثر للماضي فِيهَا وَلَا سُلْطَان لَهُ عَلَيْهَا؟ ثمَّ مَا هِيَ نظرة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي الْيَوْم لنا، وَمَا هِيَ منطلقاتها الأساسية؟ وَهل تستوي دوله وشعوبه وهيئاته ومؤسساته وكنائسه ورؤوسه فِي نظرتهم إِلَيْنَا أم يَخْتَلِفُونَ؟ وَإِذا اخْتلفُوا فَمَا هُوَ السِّرّ فِي ذَلِك؟ هَذَا مَا سأحاول الْإِجَابَة عَلَيْهِ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - فِي محاضرتي هَذِه موجزاً مَا أمكنني الإيجاز، وَإِن كَانَ من عادتي - وَللَّه الْحَمد - أَن لَا أتولى الْإِجَابَة بنفسي، وَإِنَّمَا أدع الْحَقَائِق الَّتِي استخلصها من أصدق المصادر الَّتِي لَا يتَطَرَّق إِلَيْهَا شكّ هِيَ الَّتِي تتولى الْإِجَابَة فِي مثل هَذِه الموضوعات الشائكة الَّتِي تشكل مجالاً كَبِيرا لاخْتِلَاف الاجتهادات والمذاهب، وَكَذَلِكَ الآراء الشخصية والرغبات الذاتية لَهَا أَثَرهَا الْوَاضِح وَحَتَّى الْأَهْوَاء والأغراض تتْرك عَلَيْهَا بصماتها.. مِمَّا يكون لهَذَا كُله أَثَره العميق فِي حجب الرُّؤْيَة الصَّحِيحَة وتشويش الصُّورَة الْحَقِيقِيَّة أَو طمس معالمها فِي الأذهان.. وَلَكِن أذهان من؟ إِنَّهَا أذهان الْمُسلمين وحدهم - وللأسف الشَّديد - إِلَّا من رحم رَبك وَقَلِيل مَا هم بِالنِّسْبَةِ لعامة الْمُسلمين وذراريهم.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 المصادر الَّتِي اعتمدها: لقد قلت إِنَّنِي لَا أُجِيب بنفسي وَإِنَّمَا أدع الْحَقَائِق الَّتِي أستخلصها من أصدق المصادر الَّتِي لَا يتَطَرَّق إِلَيْهَا شكّ هِيَ الَّتِي تتولى الْإِجَابَة، فَمَا هِيَ هَذِه المصادر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 إِنَّهَا مصدران اثْنَان، هما: الْوَحْي الإلهي فِي الْكتاب وَالسّنة ثمَّ الْوَاقِع التاريخي. الْمصدر الأول: الْوَحْي الإلهي فِي الْكتاب وَالسّنة: إِن وَحي الله - عز وَجل - سَوَاء كَانَ فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، أَو على لِسَان الرَّسُول الْكَرِيم، مُحَمَّد بن عبد الله - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - هُوَ أوثق المصادر على الْإِطْلَاق، فَهُوَ الَّذِي لَا يرقى إِلَيْهِ شكّ وَلَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه لِأَنَّهُ تَنْزِيل من حَكِيم حميد. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت: 42. وَمن ثمَّ فَإِن تقريراته منزّهة عَمَّا تتعرض لَهُ تقريرات الْبشر واستنباطاتهم من نتائج مَا فطروا عَلَيْهِ من جهل وقصور بشري، ورغبات فِي النَّفْع الذاتي ومحاباة لِذَوي السُّلْطَان والنفوذ وَالْمَال والجاه، أَو مجاراة للتيارات السائدة، وَالسَّعْي وَرَاء الْأَغْرَاض والأهواء، وَكَذَلِكَ مُرَاعَاة لجماهير الْأمة ومحاولات استرضائها والتقرب إِلَيْهَا.. وَمن ثمَّ فَالْقيمَة الْعُظْمَى والكبرى للتقريرات الربانية فِي الْكتاب وَالسّنة. الْمصدر الثَّانِي: الْوَاقِع التاريخي: وأعني بالواقع التاريخي: الْأَحْدَاث التاريخية كَمَا حدثت وَوَقعت بِالْفِعْلِ بأشخاصها ودوافعهم الْحَقِيقِيَّة، وأغراضهم وأهدافهم الْخَاصَّة والعامة. وَقد جَاءَ الْوَاقِع التاريخي مُصدقا ومترجماً للتقريرات الربانية، وَهَذَا أَمر بديهي بل أَكثر من البديهي إِن صَحَّ هَذَا التَّعْبِير لِأَن الْمُقَرّر هُوَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي يَسْتَوِي لعلمه الْحَاضِر الْمشَاهد والماضي السحيق، والمستقبل الْغَائِب. هَذَا الَّذِي أعنيه بالواقع التاريخي وَلَيْسَت كتب التَّارِيخ وَمَا كتب فِيهَا جملَة وحوته بَين صفحاتها..لِأَن هُنَاكَ فرقا كَبِيرا جدا وبونًا شاسعاً بَين الْوَاقِع التاريخي كَمَا وَقع وَحدث بِالْفِعْلِ وَبَين مَا كتب عَنهُ وسجل فِي كتب التَّارِيخ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 لَا سِيمَا الَّتِي بَين أَيدي أَبْنَائِنَا وَالَّتِي كتبت خصيصاً لأبناء الْمُسلمين فِيمَا أُعِيد كِتَابَته من تراثنا الإسلامي وبأيدي المستشرقين النَّصَارَى وَالْيَهُود أَو تَحت إشرافهم وبتوجيه دوائرهم حِين بدأوا غزونا الفكري وسأتعرض لهَذَا الْمَوْضُوع إِن شَاءَ الله - عز وَجل - فِي نِهَايَة هَذِه المحاضرة. إننا كثيرا مَا نجد فِي هَذَا النَّوْع المبثوث بَين أَيدي أَبْنَائِنَا من كتب التَّارِيخ لَا أصل لَهَا أَو حوادث أخذت يَد التَّغْيِير والتبديل تلعب فِيهَا وتدس عَلَيْهَا حَتَّى طمستها ومسخت حَقِيقَتهَا، وشوهت صورتهَا وأعطت عَنْهَا صُورَة أُخْرَى تغير حَقِيقَتهَا كل الْمُغَايرَة، كالافتراءات على الصَّحَابَة - رضوَان الله تعلى عَلَيْهِم - خير أجيال البشرية بعد أَنْبيَاء الله وَرُسُله عَلَيْهِم - الصَّلَاة وَالسَّلَام - الَّذين اخْتَارَهُمْ الله تَعَالَى لحمل أكمل دين أنزلهُ، ولصحبه خير نَبِي أرْسلهُ - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام -. كَمَا نجد فِيهَا بطولات مختلقة لَا أصل لَهَا تنتحل للطوائف غير الْمسلمَة فِي عَالم الْمُسلمين، فِي الْوَقْت الَّذِي نجد فِيهِ طمساً لبطولات الْمُسلمين تشويهاً لَهَا بِأَن يَجْعَل الْبَاعِث عَلَيْهَا هُوَ طلب الدُّنْيَا ومتاعها، أَو تستند لغير الْمُسلمين وبشكل خَبِيث وَمَا كرّ بِأَن يَجْعَل امْرَأَة أَو أحد أَفْرَاد الطوائف غير الْمسلمَة وَرَاء أبطال الْمُسلمين الَّذين يقومُونَ بهَا، كَمَا يفعل الْكَاتِب النَّصْرَانِي الحاقد جُرجي زَيْدَانَ، فِي رِوَايَات الْهلَال، وَغَيره كثير. كَمَا نشاهد أَن كتب التَّارِيخ الَّتِي قررت فِي مدارس الْمُسلمين وَفِي بِلَادهمْ قد أغفلت ذكر حوادث ووقائع تاريخية على الرغم من شهرتها ووضوحها وَذَلِكَ مُرَاعَاة لفئةٍ أَو طائفةٍ أَو خدمَة لغرضٍ فِي نفس الْمُؤلف أَو سواهُ. وَمن هَذَا الْقَبِيل إغفال ذكر كل صدام وَقع بَين الْمُسلمين وَبَين الطوائف غير الْمسلمَة وإغفال وقُوف الطوائف غير الْمسلمَة إِلَى جَانب الصليبيين والتتار الوثنيين ضد الْمُسلمين وَذَلِكَ إِلَى جَانب الإستعمار الأوربي فِي الْعَصْر الحَدِيث ثمَّ الزَّعْم بعد هَذَا أَنهم أَصْحَاب بطولات وطنية وَحرب على الاستعمار وهم الضالعون مَعَه. فَهَذَا شَاعِر نَصْرَانِيّ مثلا يُسَمِّي المستعمرين الفرنسيين بالفاتحين ويتحمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 لَهُم حِين يدْخلُونَ بعض الْبِلَاد الْعَرَبيَّة وَيطْلب أهل مِلَّته بالتعصب لَهُم فَيَقُول: وتعصبوا للفاتحين نكايةً ... بِالْمُسْلِمين الْعَرَب وَالْإِسْلَام! كَذَلِك نجد فِيهَا تفسيرات وتوجيهات للحوادث التاريخية، الَّتِي يَسْتَحِيل طمسها، بعد مسخها، كالحروب الصليبية فقد مسخت حَتَّى حصرت بحدود قرنين من الزَّمَان هما السَّادِس وَالسَّابِع الهجريان، وَلَيْسَ هَذَا فَحسب بل حصرت بعدة حملات صليبية جَاءَت على شريط ضيق على السَّاحِل السوري والمصري فَقَط، ثمَّ لما اطمأنوا إِلَى أَن عملية المسخ هَذِه انطلت على الْكثير من الْمُسلمين مسخوها كُلية فَقَالُوا: إِنَّهَا لَيست صليبية فِي حَقِيقَتهَا وَإِنَّمَا هِيَ حروب استعمارية اقتصادية وسياسية وَلكنهَا جَاءَت تَحت شعار الصَّلِيب وباسم الدّين، لِأَن العصور الْوُسْطَى هِيَ عصور دينية، وَبعد هَذَا المسخ المتواصل لَا تكَاد تَجِد لَهَا بحثا فِي هَذَا النَّوْع من كتب التَّارِيخ، وَإِنَّمَا مُجَرّد ذكر هُوَ للْإِشَارَة أقرب مِنْهُ للبحث. كَمَا نجد تفسيرات متعسفة وتوجيهات لأحداث تاريخية هَامة انتصاراً لفكرة فَاسِدَة وتأييداً لمَذْهَب بَاطِل..إِلَى آخر مَا هُنَالك من صور التشويه والدس على تَارِيخ الْمُسلمين مِمَّا لَا يُمكن حصره فِي هَذِه الْمُقدمَة لهَذِهِ المحاضرة..إِلَّا أَن الَّذِي أُرِيد أَن أقوله: إِن هَذَا النَّوْع المشوه من كتب التَّارِيخ قد كثر كَثْرَة فَاحِشَة فِي هَذِه الْأَيَّام، مِمَّا بَات مَعَه من الضَّرُورِيّ جدا أَن ينْهض الْمُسلمُونَ لكتابة تاريخهم من جَدِيد، فَإِن التَّارِيخ الإسلامي، لم يكْتب بعد كَمَا يجب أَن يكْتب، وَلم ينل الْعِنَايَة الكافية من أبنائه، بل لعلّي لَا أبالغ إِذا قلت أَن تاريخنا الإسلامي الْيَوْم لم ينل الْحَد الْأَدْنَى من الْعِنَايَة بِهِ من الْمُسلمين، وَمن ثمَّ لَا يُوجد أمامنا مِنْهُ سوى المؤلفات الضخمة الَّتِي وَضعهَا عُلَمَاؤُنَا الأفذاذ على طريقتهم الَّتِي لَا تصل إِلَّا للمختصين والباحثين، كَمَا سنشير بعد قَلِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَنَوع آخر من كتب التَّارِيخ وَهُوَ مَا عنيته بِالذكر مِمَّا كتبه المستشرقون أَو تَحت إشرافهم الْمُبَاشر أَو غير الْمُبَاشر وبتوجيه من دوائرهم بشتى طرق التَّوْجِيه الَّتِي أقلهَا أَلا يصبر المؤرخ الْمُحدث على المؤلفات الْقَدِيمَة أَو لَا يحسن الْبَحْث فِيهَا، فَلَا يجد مرجعاً لَهُ سوى مَا وَضعه المبشرون ومؤسساتهم فيعتمدها وَمن ثمَّ تتسرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 توجيهاتهم وأغراضهم إِلَى مَا يكْتب ويؤرخ، ويستنتج ويقرر، والأمثلة كَثِيرَة على هَذِه الْأَنْوَاع كلهَا.. أَمَام هَذِه الافتراءات على التَّارِيخ تَارَة، والتنكر لحوادثه والتغيير وَالْمَسْخ فِي حقائقه تَارَة أُخْرَى والتفسيرات المتعسفة لوقائعه وَالْعرض الماكر لأحداثه تَارَة ثَالِثَة نجد أَنْفُسنَا مضطرين للتمييز بَين الْوَاقِع التَّارِيخ كَمَا حدث وَوَقع بِالْفِعْلِ وَبَين مَا كتب عَنهُ وَسمي تَارِيخا!. إِلَّا أننا نجد أَنْفُسنَا أَمَام سُؤال يطْرَح نَفسه وَهُوَ: كَيفَ السَّبِيل للوصول إِلَى الْوَاقِع التاريخي كَمَا حدث وَوَقع بِالْفِعْلِ؟ إِن الْوُصُول للْوَاقِع التاريخي كَمَا حدث وَوَقع - بِالْفِعْلِ - أَيهَا الْأُخوة لَيْسَ مستحيلاً.. بل هُوَ مُمكن إِذا صحت الْعَزِيمَة وصدقت النِّيَّة وتوفرت الإمكانات، إِذْ أَن سَبيله قَائِمَة، وأولها: الْوَحْي الإلهي فِي الْكتاب وَالسّنة، كَمَا ذكرنَا حَيْثُ يشكل نورا يستضيء بِهِ المؤرخ الْمُسلم فِي بَحثه عَن الْوَاقِع التاريخي. وَثَانِيها: أُمَّهَات كتب التَّارِيخ الَّتِي ألفها عُلَمَاؤُنَا الأفذاذ كالطبري وَابْن كثير وَابْن الْأَثِير وَغَيرهم كثير، وَقد امتازت كتبهمْ بِذكر السَّنَد فِي الرِّوَايَة التاريخية مِمَّا يُمكن المؤرخ المتتبع الْيَوْم من تحري الْحَادِثَة التاريخية كَمَا وَقعت بدراسة سندها على طَريقَة عُلَمَاء الحَدِيث فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَكَذَلِكَ تمحيص متن الرِّوَايَة التاريخية على ضوء الْكتاب وَالسّنة لاسيما إِذا كَانَت تتَعَلَّق بالصحابة - رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم - وتتعرض لعدالة أحد مِنْهُم.. الخ. وَبِذَلِك يتَمَكَّن المؤرخ من تحري الْوَاقِعَة التاريخية، وإبعاد مَا تعرض لنسيان الرَّاوِي - زِيَادَة كَانَ أَو نقصا - أَو مَا تعرض مِنْهَا لتشيع الرَّاوِي أَو غير ذَلِك من الشوائب الَّتِي تنقص من قيمَة الْوَاقِعَة التاريخية. بل إِن بعض مؤرخينا الأفذاذ سَارُوا على هَذِه الطَّرِيقَة فِي تَجْرِيد بعض الرِّوَايَات وَترك الْأُخْرَى جَريا على عَادَتهم فِي جمع كل مَا يصلونَ إِلَيْهِ من رِوَايَات التَّارِيخ دون تمحيص تاركين لمن يَأْتِي بعدهمْ أَن يقوم بِهَذِهِ المهمة، بعد أَن مهدوا لَهُ الطَّرِيق بِذكر سَنَد الرِّوَايَة التاريخية. جزاهم الله تَعَالَى عَن الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين خيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 لَا شكّ أَن هَذَا عمل لَيْسَ من السهولة بِحَيْثُ يَسْتَطِيع الْقيام بِهِ رجل وَاحِد أَو رجلَانِ لَا سِيمَا إِذا كَانَ مَشْغُولًا بالسعي لطلب الرزق لَهُ وَلمن يعول. بل لَا بُد من توافر جهود المثير من الْمَعْنيين بدراسة التَّارِيخ مِمَّن عِنْدهم الاستعداد النَّفْسِيّ والوعي الفكري والثقافي، والنضج العلمي، وتفريغهم لهَذَا الْعَمَل الْهَام جدا، وَالَّذِي ستتعمق معرفتنا لأهميته كلما أدركنا مدى خطورته بِالنِّسْبَةِ لنا ولمستقبل أمتنَا..وَلَيْسَ من الضَّرُورِيّ طبعا أَن يجْتَمع الْعدَد الْمَطْلُوب فِي مَكَان وزمان وَاحِد، فَإِن حصل هَذَا فَذَلِك غَايَة النهى فِي هَذَا الْمطلب الْعَزِيز، وَإِن لم يتوفر فحسبنا أَن نشق الطَّرِيق أَو نمشي بضع خطوَات أَو نقطع مرحلة مِنْهُ تاركين لمن يَأْتِي بَعدنَا مُتَابعَة السّير فِي طَرِيق شقّ وبدئ السّير فِيهِ حَتَّى يصل الْمُسلمُونَ بِإِذن الله - تَعَالَى - إِلَى هَذِه الْغَايَة المرجوة من كِتَابَة تاريخهم الإسلامي وتاريخ الْعَالم كَمَا يجب أَن يكْتب بأيدي مسلمة أمينة وَاعِيَة. وأليس تقصيراً من الْمُسلمين يخْشَى أَن يَكُونُوا آثمين فِيهِ أَن ينْهض أعداؤهم لكتابة تاريخهم الإسلامي وصياغته وفْق أغراضهم، والمسلمون ينظرُونَ، أَو يقتفون آثَارهم وتنطبع فِي أذهان أبنائهم وأجيالهم وذراريهم الصُّور المشوهة الَّتِي أرادها أعداؤنا عَن سلفنا الصَّالح وعظمائنا، مِمَّا دفع الْكثير من أَبنَاء الْمُسلمين أَن يستحيوا من الانتساب إِلَى تاريخهم وسلفهم الصَّالح ويتجملوا بتقليد أعدائهم؟. إِن إِعَادَة كِتَابَة تاريخنا الإسلامي أَمر يحْتَاج إِلَى جهود ضخمة، هَذَا صَحِيح وَلَكِن أَي جهد صَادِق واع خلص لله - سُبْحَانَهُ - يبْذل فِيهِ لَا بُد أَن يُؤْتِي ثماره الطّيبَة بِإِذن الله تَعَالَى وَلَو بعد حِين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 مَاذَا نعني بمصطلح معسكر؟ إِن الدارس لأحوال النَّاس الدِّينِيَّة والاجتماعية والفكرية يلحظ ظَاهِرَة هَامة جدا فِي حَيَاة النَّاس وَهِي: أَن النَّاس يَجْتَمعُونَ بِنَاء على اتِّفَاقهم فِي الدّين والعقيدة والفكرة وَالْمذهب.. ويفترقون إِذا اخْتلفُوا فِيهَا.. وَلَيْسَت هَذِه الظَّاهِرَة إِلَّا تَرْجَمَة لما فطر عَلَيْهِ جنس الْإِنْسَان وَهُوَ الارتياح إِلَى من يشاركونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فِي الدّين والعقيدة، والفكرة وَالْمذهب والميل إِلَيْهِم وموالاتهم والاندفاع لمناصرة قضاياهم والتحمس لَهَا. وَبِالْعَكْسِ من ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يرتاح إِلَى من يخالفونه فِي ذَلِك ويشعر بغربة دينهم، وينفر مِنْهُم، بل ويحاربهم إِذا اقْتضى الْأَمر مهما تكن الروابط المادية بَينه وَبينهمْ، وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الآصرة الَّتِي يجْتَمع عَلَيْهَا النَّاس ويفترقون، هِيَ الدّين والعقيدة، أَو الفكرة وَالْمذهب وَلَيْسَت اتِّحَاد الْجِنْس وَالنّسب أَو الِاشْتِرَاك فِي الأَرْض وَالْحُدُود الجغرافية أَو السياسية وَلَيْسَت هِيَ الْمصَالح وَالْمَنَافِع الْقَرِيبَة.. فَهَذِهِ كلهَا أُمُور عرضية لَا علاقَة لَهَا بجوهر الْإِنْسَان الْكَرِيم.. أَلا ترى إِلَى الْيَهُودِيّ كَيفَ يتحمس لقضايا الْيَهُود فِي الْعَالم ويناصرها، ويوالي قيادتهم وَلَا يطمئن إِلَّا لِلْيَهُودِيِّ وَقد كشف الْقُرْآن الْكَرِيم لنا كَيفَ يُوصي بَعضهم بَعْضًا وَيَقُولُونَ: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (آل عمرَان: 73) وَكَذَلِكَ الماركسي (شيوعياً كَانَ أَو اشتراكياً) هَوَاهُ مَعَ الْعَالم الماركسي ودوله وأحزابه الشيوعية والاشتراكية، فيهتم لأخبارهم ويناصر قضاياهم ويدافع عَن موقفهم وقضاياهم ويبرر أخطاءهم حَتَّى وَلَو كَانَت ضد شعبه هُوَ أَو ضد بَلَده وقضاياه.. وَقل مثل ذَلِك عَن النَّصْرَانِي والوثني. أما شَأْن الْمُسلم فَهُوَ أَكثر وضوحاً فَهُوَ يهتم لأمر الْمُسلمين، فيحزن لما أَصَابَهُم ويفرح لما نالوه من خير فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، فَإِن لم يجد مثل هَذَا الشُّعُور فَهُوَ دَلِيل الْمَرَض فِي قلبه، والضعف فِي إيمَانه، وَمَا أصدق وأعمق دلَالَة هَذَا الْأَثر: "من لم يهتم بِأَمْر الْمُسلمين فَلَيْسَ مِنْهُم".. بل إِن الْمُسلم مَأْمُور بِنَصّ كتاب الله - تَعَالَى - وَسنة رَسُوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَن لَا يوالي بعد الله - سُبْحَانَهُ - وَرَسُوله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير الْمُسلمين الملتزمين بِإِسْلَامِهِمْ الَّذين لم يخلطوا مَعَه مبدءًا أَو مذهبا أَو شعاراً آخر لَيْسَ من الْإِسْلَام. قَالَ تعلى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .. الْآيَات. ثمَّ يَقُول تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (الْمَائِدَة: 51 - 52 - 55 - 56) . وَهَكَذَا وبسبب هَذِه الْفطْرَة وَكَون العقيدة هِيَ جَوْهَر الْإِنْسَان، فَإِن الْإِنْسَان يجد مَعَ الَّذين يشاركونه فِي الدّين والعقيدة، والفكرة وَالْمذهب، وحدة آمال وأهداف، وأفراح وأتراح وبواعث ومواقف، وَيشكل مَعَهم كتلة وَاحِدَة، وجبهة وَاحِدَة أَو معسكراً وَاحِدًا.. فالمعسكر إِذن هُوَ: أَتبَاع الدّين الْوَاحِد أَو العقيدة الْوَاحِدَة أَو الْمَذْهَب الْوَاحِد.. الخ. وَمَا ينشأ عَن هَذَا الْإِيمَان من مشاعر وعواطف وانفعالات ومواقف متشابهة أَو وَاحِدَة، وَكَذَلِكَ من عمل وسعي لمناصرة قضاياه وموالاة قياداته ورؤوسه. هَذَا وَإِن دراسة وَاعِيَة للتاريخ والحاضر تكشف لنا أَن أَتبَاع الدّين أَو الْمَذْهَب أَو الفكرة الْوَاحِدَة الَّذين يعْملُونَ لَهَا ويناصرون قضاياها ويتخذونها قضاياً لَهُم، ويجعلونها مُنْطَلقًا أساسياً لَهُم فِي موقفهم من غَيرهم ومعاملتهم.. يشكلون فِيمَا بَينهم معسكراً وَاحِدًا على اخْتِلَاف مستوياتهم ورقعة الأَرْض الَّتِي يسكنونها وَكَذَلِكَ - ولعلنا لَا نبالغ - إِذا قُلْنَا مَعَ اخْتِلَاف أزمانهم..فالواقع التاريخي إِذن يثبت هَذَا الَّذِي نَذْهَب إِلَيْهِ. وَبِنَاء على هَذَا فاليهود على اخْتِلَاف أجناسهم وهيئاتهم وجماعاتهم ومؤسساتهم يشكلون معسكرًا وَاحِد هُوَ المعسكر الْيَهُودِيّ الصهيوني.. وَكَذَلِكَ النَّصَارَى يشكلون معسكراً وَاحِدًا هُوَ المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي. والشيوعيون والاشتراكيون الماركسيون يشكلون المعسكر الماركسي الملحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 والوثنيون يشكلون المعسكر الوثني الْمُشرك.. وَهَذِه المعسكرات كلهَا تشكل فِيمَا بَينهَا وعَلى اختلافها حزباً وَاحِدًا هُوَ حزب الشَّيْطَان.. وَلما كَانَت هَذِه المعسكرات لَا تهتدي بِهَدي الله تَعَالَى وَلَا تحكم شَرِيعَته - سُبْحَانَهُ - وَلما كَانَت الْجَاهِلِيَّة هِيَ كل حَالَة أَو وضع لَا يَهْتَدِي بِهَدي الله تَعَالَى وَلَا يحكم شَرِيعَته - سُبْحَانَهُ - وَلَيْسَت فَتْرَة زمنية محدودة1، فوصف الْجَاهِلِيَّة يشملهم جَمِيعًا، فهم إِذن معسكرات جَاهِلِيَّة وأممهم أُمَم جَاهِلِيَّة، بل كَافِرَة ومشركة. وَقد نَص الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة المطهرة على كفرهم جَمِيعًا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين والملحدين. وَالْكفْر يشكل بَينهم عَاملا مُشْتَركا "الْكفْر مِلَّة وَاحِدَة". أما الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم يشكلون فِيمَا بَينهم وَمن دون النَّاس جَمِيعًا أمة وَاحِدَة هِيَ الْأمة الْمسلمَة أَو الإسلامية، ومعسكراً وَاحِدًا هُوَ المعسكر الإسلامي، وحزباً وَاحِدًا هُوَ حزب الله تَعَالَى مَا داموا مُتَمَسِّكِينَ بِكِتَاب الله تَعَالَى وَسنة - رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -. من هَذَا الْوَاقِع وَهُوَ كَون المعسكرات الْجَاهِلِيَّة كلهَا كَافِرَة، وَكَون الْمُسلمين يشكلون أمة من دون النَّاس، من هَذَا الْوَاقِع نشأت علاقَة غير الْمُسلمين بِالْمُسْلِمين وتحدد نوعها وَهُوَ العداء. عداؤهم لنا وَقد كشف الْقُرْآن الْكَرِيم عَنْهَا بقوله تَعَالَى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} (النِّسَاء:101) . وَفِي الْقُرْآن الْكَرِيم آيَات أُخْرَى وَردت كهذه الْآيَة الْكَرِيمَة، بصيغ نهائية قَطْعِيَّة   (1) انْظُر الْكتاب الْقيم: جَاهِلِيَّة الْقرن الْعشْرين للداعية الإسلامي الْمُجَاهِد الْأُسْتَاذ مُحَمَّد قطب حفظه الله تَعَالَى ورعاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 مِمَّا يُفِيد أَن عداوتهم لَيست عرضية زائلة بل هِيَ أصيلة طَوِيلَة الأمد لَا يُرْجَى لَهَا زَوَال مَا دَامَ على الأَرْض كفر وكفار. هَذَا وَقد نَشأ عَن هَذَا العداء الْأَصِيل للْمُسلمين من قبل غَيرهم حقيقتان تاريخيتان هما: الأولى: اسْتِحَالَة الْمصلحَة والتعايش بِسَلام دَائِم بَين الْمُسلمين وَأي من المعسكرات الْجَاهِلِيَّة سَوَاء كَانُوا الصهاينة أَو الصليبيين أَو الْمُلْحِدِينَ أَو الوثنيين، وَقد بيّن رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتِحَالَة هَذَا اللِّقَاء والتعايش واستحالة الْمُصَالحَة بَين الْمُؤمنِينَ والكافرين بقوله: "لَا ترَاءى ناراهما". وَإِذن لَا يُمكن أَن يتعايش الْمُؤْمِنُونَ الْمُسلمُونَ مَعَ الْكَافرين أياً كَانَ دينهم ومعسكرهم إِلَّا إِذا أمكن أَن يعِيش الْإِيمَان إِلَى جَانب الْكفْر فِي قلب رجل وَاحِد، وَهَذَا مُسْتَحِيل، نعم مُسْتَحِيل لِأَن المعركة قَائِمَة مُنْذُ بَدْء الْحَيَاة البشرية إِلَى مَا يَشَاء الله تَعَالَى بَين الْإِيمَان وَالْكفْر، وَبَين الْإِسْلَام والجاهلية بَين الْهدى والضلال بَين الْحق وَالْبَاطِل، بَين التَّوْحِيد والشرك.. وَمن ثمَّ فالمعركة قَائِمَة ومستمرة بَين الْمُؤمنِينَ الْمُسلمين أَتبَاع الْحق وَالْهدى، أهل التَّوْحِيد وَبَين الْكَافرين أَتبَاع الْبَاطِل والضلال أهل الشّرك والوثنيات.. أما سَبَب هَذِه المعركة الطَّوِيلَة الأمد وسرها فَهُوَ الْخلاف الْأَصِيل والمناقضة التَّامَّة بَين الْإِسْلَام وطبيعته وَمَا يهدف إِلَيْهِ فِي حَيَاة الْبشر، وَبَين الْكفْر وطبيعته وَمَا يهدف إِلَيْهِ فِي حَيَاة الْبشر.. الْإِسْلَام بِمَا فِي طَبِيعَته من حق يُرِيد تَحْرِير النَّاس من الْعُبُودِيَّة لغير الله - تبَارك وَتَعَالَى - أياً كَانَ شكل هَذِه الْعُبُودِيَّة وصورتُها، وَيُرِيد إخلاصها لله - تَعَالَى - وَحده، فَلَا يعبد غير الله - تَعَالَى - مَعَه أَو دونه. أما الْكفْر فبمَا فِي طَبِيعَته من بغي (ممثلاً بإبليس عَلَيْهِ لعنة الله - وجنده وأوليائه) فيريد فتْنَة النَّاس عَن دين الله - تبَارك وَتَعَالَى - وتعبيدهم لغير الله - سُبْحَانَهُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الْأَعْرَاف 16 - 17) . {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (الْقَصَص: 38) وهدّد فِرْعَوْن مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَائِلا: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (الشُّعَرَاء: 29) . فَهُوَ لَا ترضيه السيطرة على أوضاع النَّاس بل يطغى للسيطرة على عُقُولهمْ وَقُلُوبهمْ فَلَا تَنْشَرِح لشَيْء إِلَّا بعد اسْتِئْذَانه وَلَو كَانَ الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى. قَالَ فِرْعَوْن لسحرته حِين أَسْلمُوا وَلم يستأذنوه بانشراح صُدُورهمْ للْإيمَان بِاللَّه تَعَالَى وتغيير معتقدهم الْبَاطِل، وتصديق مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (طه 71) . إِنَّهَا بِنَظَر الْكفْر هِيَ الجريمة الْكُبْرَى الَّتِي يسْتَحقُّونَ عَلَيْهَا الْقَتْل والصلب وتقطيع الْأَيْدِي والأرجل من خلاف فهددهم قَائِلا: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} . وَالْإِسْلَام بِمَا فِي طَبِيعَته من طهر ونظافة يُرِيد تَطْهِير النَّاس وضمائرهم وَبُيُوتهمْ وواقعهم من لوثات الْكفْر وَالْفِسْق والعصيان. وَلَكِن الْكفْر بِمَا فِي طَبِيعَته من انحراف وفجور ورجس: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (بَرَاءَة 28) يكره هَذَا الَّذِي يُريدهُ الْإِسْلَام للنَّاس وينقم عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُرِيد لَهُم الانحراف وَاتِّبَاع الشَّهَوَات. قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} (النِّسَاء26) . وَالْإِسْلَام بِمَا فِي طَبِيعَته من حيوية وحركة وجد ينْطَلق يُجَاهد الْكفْر أنّى وُجد ويطارده من الْقُلُوب والعقول، وَمن وَاقع النَّاس وأنظمتهم.. وَقد ظهر إِصْرَار الْإِسْلَام، على مطاردة الْكفْر، فِي انطلاقه خطْوَة بعد خطْوَة، وغزوة بعد غَزْوَة، ومرحلة بعد مرحلة، يطارد الْكفْر ويحطم قواه الَّتِي بهَا يصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ويجول، ويزيل أنظمته وأوضاعه الْجَاهِلِيَّة الَّتِي يعبد بهَا النَّاس لغير رَبهم - سُبْحَانَهُ - ويفتنهم عَن دين الله تَعَالَى وهداه.1 وَأما الْكفْر فَهُوَ الآخر بِمَا فِي طَبِيعَته من طغيان يعْمل على محاربة الْإِسْلَام وملاحقته والصد عَنهُ مَا واتته الفرصة من ليل أَو نَهَار، وَقد ظهر إِصْرَار الْكفْر على محاربة الْإِسْلَام ومحاولات رد الْمُسلمين عَن دينهم فِي ظاهرتين اثْنَتَيْنِ: الظَّاهِرَة الأولى: مسارعة رُؤُوس الْكفْر وأئمة الضلال فِي قوم كل نَبِي يُرْسِلهُ الله - تَعَالَى - للوقوف فِي وَجه نَبِيّهم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - والصد عَن دين الله - تَعَالَى - وفتنة الْمُؤمنِينَ بِهِ. الظَّاهِرَة الثَّانِيَة: مسارعة المعسكرات الْجَاهِلِيَّة لنقض عهودها مَعَ الْمُسلمين حالما تلوح لَهُم فرْصَة ضعف الْمُسلمين وعجزهم عَن تَأْدِيب ناقضي الْعَهْد مَعَهم. وَهَكَذَا نجد أَن كلا من الْإِسْلَام وَالْكفْر يعْمل بإصرار على إِزَالَة الآخر من الْعُقُول والضمائر والقلوب وَمن حَيَاة النَّاس وأوضاعهم وأنظمتهم، لِأَنَّهُ لَا يُوجد أَحدهمَا إِلَّا حَيْثُ يخسر الآخر وينسحب، وَلَا وجود لأَحَدهمَا إِلَّا على حِسَاب الآخر، وَأَن بداية أَحدهمَا فِي عقل أَو ضمير أَو قلب، أَو وضع أَو نظام أَو مَكَان هِيَ بداية النِّهَايَة للْآخر.. قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الْأَنْفَال:39) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التَّوْبَة: 36) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (الْبَقَرَة: 217) .   1 - انْظُر سُورَة بَرَاءَة فِي الْكتاب الْقيم (فِي ظلال الْقُرْآن) للْعَالم الشَّهِيد سيد قطب - رَحمَه الله تَعَالَى -. الحديث: 1 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 2 - أما الْحَقِيقَة التاريخية الثَّانِيَة فَهِيَ تعاون القوى الْكَافِرَة ومعسكراتها ضد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين.. وَهَذَا مَا كشف عَنهُ الْكتاب وَالسّنة أَيْضا فِي أَكثر من آيَة وَحَدِيث.. وبأكثر من أسلوب تَصْرِيحًا وتلميحاً.. من ذَلِك جمع الْكفَّار كلهم فِي سِيَاق آيَة وَاحِدَة، والْحَدِيث عَن مُرَادهم فِي الْمُسلمين وموقفهم مِنْهُ مِمَّا يدل على وحدة بواعثهم وأهدافهم تجاه الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، وَكَذَلِكَ وحدة مواقفهم كَقَوْلِه تَعَالَى - على سَبِيل الْمِثَال لَا الْحصْر: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (الْبَقَرَة: 105) 1. أما الْوَاقِع التاريخي فقد ترْجم هَذِه الْحَقِيقَة وأظهرها خلال الْأَرْبَعَة عشر قرنا من الزَّمَان {لمن كَانَ لَهُ قلب أَو القي السّمع وَهُوَ شَهِيد} وَمَا يزَال يظهرها الْيَوْم ويبينها أجلى مَا يكون بَيَانا.. وَهَذِه الْحَقِيقَة التاريخية وسابقتها تحْتَاج إِلَى محاضرة مُسْتَقلَّة إِن لم يكن أَكثر من محاضرة، وَأَرْجُو أَن أوفق لذَلِك فِي الْمُسْتَقْبل بِإِذن الله تَعَالَى. وَهَذِه إشارات خاطفة على سَبِيل الْمِثَال لَا الْحصْر: أَيهَا الْأُخوة: كلنا يعلم الحروب الطَّوِيلَة الأمد الَّتِي كَانَت بَين الْفرس وَالروم، وَأَن هَذِه الحروب توقفت فَجْأَة بِظُهُور الْإِسْلَام وتحولت القوتان المتخاصمتان دهراً طَويلا إِلَى قوتين متعاونتين ضد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين..فحارب الْمُسلمُونَ على الجبهتين الفارسية والرومية فِي وَقت وَاحِد ونصرهم الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا.. كَذَلِك إِن الَّذِي يدرس تَارِيخ الحروب الصليبية وغزو التتار لبلاد الْمُسلمين يعلم السفارات الَّتِي كَانَت تتبادل بَين دوَل المعسكر الصليبي وإماراته ورؤوسه وَبَين التتار فِي بِلَادهمْ قبل بدئهم بغزو الْعَالم الإسلامي، وَلما جَاءُوا إِلَى بِلَاد 1 - وَكَقَوْلِه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -: "يُوشك أَن تداعى عَلَيْكُم الْأُمَم كَمَا تداعى الْأكلَة إِلَى قصعتها".. الحَدِيث.. الحديث: 2 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الْإِسْلَام انْضَمَّ إِلَيْهِم غير الْمُسلمين من الطوائف الْأُخْرَى فِي بَغْدَاد وبلاد الشَّام وَغَيرهمَا وتعاونوا مَعَهم، بل إِن النَّصَارَى هللوا وَاسْتَبْشَرُوا بقدوم التتار الوثنيين واعتبروا غزوهم لبلاد الْمُسلمين حَملَة صليبية جَدِيدَة جَاءَت من الشرق بَدَلا من أَن تَأتي من الغرب، وَقد رَأينَا كَيفَ أَنه لم ينج من مذبحتهم الرهيبة فِي بَغْدَاد إِلَّا هَؤُلَاءِ الَّذين تعاونوا مَعَهم من الطوائف غير الْمسلمَة، ومنحهم الْغُزَاة قُصُور الْمُسلمين وأمرائهم الَّذين ذَبَحُوا مِنْهُم من ذَبَحُوا، وفر مِنْهُم من اسْتَطَاعَ الْفِرَار، واختفى الْبَاقُونَ فِي الأقنية والسراديب، فَلَمَّا خَرجُوا لقوا حتفهم بِسَبَب الْمَرَض الَّذِي فتك بهم. أما تعاون القوى الْكَافِرَة والمعسكرات الْجَاهِلِيَّة فِيمَا بَينهَا الْيَوْم ضد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وقضاياهم فَهِيَ أوضح من أَن تحْتَاج إِلَى بَيَان فِي فلسطين وباكستان الشرقية والفلبين والحبشة بل فِي إفريقيا كلهَا وَفِي كل قَضِيَّة يكون الْمُسلمُونَ طرفا فِيهَا.. أَيهَا الْأُخوة: إِن إدراكنا لهَذَا الْوَاقِع، وَهُوَ كَون الْمُسلمين أمة من دون النَّاس، وَكَون الْكفْر عَاملا مُشْتَركا بَين سَائِر المعسكرات الْجَاهِلِيَّة "الْكفْر مِلَّة وَاحِدَة".. وَإِن إدراكنا لسر الصراع الطَّوِيل الأمد بَين الْحق وجنده، وَبَين الْبَاطِل وجنده.. إِن هَذَا يمكننا من إِدْرَاك عدَّة أُمُور هَامة جدا فِي حياتنا الْيَوْم، يجب أَن تبحث وتفصل حَتَّى يعرفهَا شبابنا وأبناؤنا ليكونوا على بَصِيرَة بعصرهم هَذَا الَّذِي أَقبلت فِيهِ الْفِتَن كَقطع اللَّيْل المظلم، وَركب بَعْضهَا بَعْضًا، وَأخذ بَعْضهَا برقاب بعض، بِحَيْثُ تدع الْحَلِيم حيراناً، فَمَا بالك بِغَيْر الْحَلِيم؟! ‍‍‍‍‍.. وَمن هَذِه الْأُمُور: انه يمكننا من فهم طبيعة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله - تَعَالَى - وبواعث الْمُجَاهدين من سلفنا الصَّالح ولماذا كَانُوا لَا يقتلُون إِلَّا المقاتلين الَّذين لَا يرْمونَ السِّلَاح وَهُوَ يمكننا من فهم أَسبَاب الحروب الطَّوِيلَة الَّتِي شنتها المعسكرات الْجَاهِلِيَّة على الْمُسلمين فِي كل مَكَان غلب فِيهِ الْمُسلمُونَ على أَمرهم، وَكَذَلِكَ لماذا كَانَت حروبهم مَعنا وَلنَا حَرْب إبادة واستئصال؟ ‍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَهُوَ يمكننا من فهم أسرار الطغيان وعمليات السحق الوحشية لشباب الْمُسلمين والفتك بعلمائهم وقادة فكرهم على أَيدي الأنظمة الْجَاهِلِيَّة وأوضاعها، ومطاردتهم وتشريدهم؟ ‍‍‍‍‍! وَهُوَ يمكننا كَذَلِك من فهم الصمت المطبق فِي وَسَائِل الْإِعْلَام العالمية حِين تكون الضحية مسلمة والقضية إسلامية، والضجة الْكُبْرَى حِين يُوَجه إِيذَاء لغير الْمُسلمين أَو يمْنَعُونَ من ممارسة شعائرهم أَو نشاطاتهم؟ 1 كَمَا أَنه يمكننا من إِدْرَاك حَقِيقَة العلاقة الَّتِي قَامَت عبر التَّارِيخ وَتقوم الْآن بَيْننَا وَبَين المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي هُوَ أحد معسكرات الْكفْر، وَمن ثمَّ فعلاقته بِنَا إِذن تنبثق من العداء الْأَصِيل بَين الْحق وَأَهله وَبَين الْبَاطِل وَأَهله، وَأَن كل مَا بَين الْإِسْلَام وَالْكفْر من عداء وإصرار كل مِنْهُمَا على ملاحقة الآخر وَتعقب آثاره لتصفيته من دنيا النَّاس وواقعهم وَقُلُوبهمْ وضمائرهم هُوَ قَائِم بَين الْمُؤمنِينَ الْمُسلمين وَبَين المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي. قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التَّوْبَة: 29) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (الْبَقَرَة: 120) وَهَذَا مَا تَرْجمهُ الْوَاقِع التاريخي طوال الْأَرْبَعَة عشر قرنا من الزَّمَان.. أَيهَا الْأُخوة: لقد قُلْنَا: من وَاقع كَون الْمُسلمين أمة من دون النَّاس جَمِيعًا، وَكَون المعسكرات الْجَاهِلِيَّة كلهَا كَافِرَة نشأت علاقَة غير الْمُسلمين بِالْمُسْلِمين 1 - انْظُر الْكتاب الْقيم (فِي ظلال الْقُرْآن) للْعَالم الشَّهِيد سيد قطب رَحمَه الله تَعَالَى. ج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وتحدد نوعها وَهُوَ عداؤهم لنا عداء أصيلاً مستمراً لَا يُرْجَى لَهُ زَوَال مَا دَامَ على الأَرْض كفر وكفار أَو يتَحَوَّل الْمُسلمُونَ عَن دينهم إِلَى الْكفْر - وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى -، وَأَن الْقُرْآن الْكَرِيم كشف عَن هَذَا بقوله تَعَالَى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} هَذَا من جِهَة، وَمن جِهَة أُخْرَى: فَإِن الْإِسْلَام بِمَا فِيهِ من حق وطهر وحيوية وحركة لَا بُد وَأَن ينْطَلق يحرر النَّاس ويطارد الْكفْر بشتى صوره، ويحطم قواه الَّتِي يصول بهَا ويجول ويزيل أنظمته الْجَاهِلِيَّة وأوضاعه الَّتِي يفتن بهَا النَّاس عَن دين الله - تَعَالَى - ويصدهم عَنهُ.. وَكَانَ بديهياً ومنتظراً أَن يصطدم بالمعسكر النَّصْرَانِي الصليبي القابع فِي شمال الجزيرة الْعَرَبيَّة - بِاعْتِبَارِهِ أحد معسكرات الْكفْر - وَالَّذِي بَدَأَ يَتَحَرَّك ويتحفز للانقضاض على الْمُسلمين مُنْذُ أَن أصبح لَهُم دولة وَقُوَّة فِي هَذِه الْمَدِينَة المنورة، ويترجم بذلك خوف الْكفْر وحذره من انطلاق الْإِسْلَام وإصراره على حَرْب الْإِسْلَام ومحاولات الْقَضَاء عَلَيْهِ، ومدفوعاً بطغيان الْكفْر وبغيه وَكَرِهَهُ لِلْإِسْلَامِ.. فَكَانَت غَزْوَة مُؤْتَة وَكَانَت غَزْوَة تَبُوك، وَغَيرهمَا.. هَذَا بعض مَا كَانَ مِنْهُ، أَو بَدَأَ بِهِ، أما مَا كَانَ من الْإِسْلَام.. فَإِن الْإِسْلَام مَا أَن أخضع الجزيرة الْعَرَبيَّة واستخلصها لنَفسِهِ قَاعِدَة لَهُ لَا يُشَارِكهُ فِيهَا دين آخر " لَا يجْتَمع فِي جَزِيرَة الْعَرَب دينان" حَتَّى بَدَأَ بالزحف على المعسكر النَّصْرَانِي فِي انطلاقه الْعَام لتحرير النَّاس كلهم وتعبيدهم لخالقهم وَحده، فَكَانَت اليرموك وَكَانَ غَيرهَا..وَاسْتمرّ الصراع حَتَّى الْيَوْم، لم يهدأ، وَلم يفتر، بل كثرت ألوانه وأساليبه، وَترك بصماته قَوِيَّة على مكانة الْعَالم النَّصْرَانِي العالمية، وأحدث تغييراً كَبِيرا فِي خارطته وأوضاع الشعوب الَّتِي كَانَت تخضع لَهُ، مِمَّا كَانَ لَهُ تَأْثِيره العميق على تفكيره ونفسيته، واتصالاته بِنَا وتجاربه الَّتِي خرج بهَا خلال هَذِه الْقُرُون الْأَرْبَعَة عشر، فَنَشَأَتْ من ذَلِك أُمُور أخذت مَعَ الزَّمن تترسم فِي أذهان قادته ورؤوسه من ملوكه وأمرائه وَرِجَال كنيسته وتترسخ فِي قُلُوبهم ومشاعرهم وتشكل منطلقات أساسية لنظرتهم إِلَيْنَا وعلاقتهم بِنَا، لَا يَسْتَطِيعُونَ فكاكاً مِنْهَا، وَلَا تخلصاً من ضغطها بل التحمت بلحمهم وعظمهم، وسرت روحاً فِي كيانهم لَا تفارقهم لَحْظَة من ليل أَو نَهَار.. وَقد كَانَت أولى هَذِه الْأُمُور: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 روحاً صليبية حاقدة..فَمَا هِيَ الرّوح؟ وَكَيف تشكلت عبر التَّارِيخ؟ وَمَا هُوَ مدى تأثيرها على نظرتهم إِلَيْنَا وعلاقتهم بِنَا؟ هَذَا مَا أبدأ الْإِجَابَة عَلَيْهِ (بِإِذن الله تعلى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الرّوح الصليبية ونشأتها: 1 - لقد كَانَ عِيسَى بن مَرْيَم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - آخر الرُّسُل قبل سيدهم وخاتمهم مُحَمَّد بن عبد الله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ. وَمن ثمَّ كَانَ حواريوه من بعده هم أساتذة الْعَالم ومرشدي الْأُمَم.. لَكِن المسيحية أَصَابَهَا انحراف كَبِير وخطير نقلهَا من ديانَة توحيدية سهلة إِلَى ديانَة وثنية معقدة وَذَلِكَ فِي عهدها الباكر، وَفِي منتصف الْقرن المسيحي الأول على يَد الْيَهُودِيّ الماكر (بولس) . إِلَّا أَن النَّصَارَى ممثلين بِرِجَال كنيستهم ظلوا يمنحون أنفسهم وكنيستهم ذَلِك الِاعْتِبَار الَّذِي كَانَ لحواريي عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - وحواريوه - رَحِمهم الله تَعَالَى - وعَلى الرغم من إمعانهم فِي تَحْرِيف مَا ورثوه من هَذِه النَّصْرَانِيَّة المحرفة وحشوها بالخرافات والأضاليل الكنسية، حَتَّى ظُهُور الْإِسْلَام، وَحَتَّى يَوْمنَا هَذَا.. فَلَمَّا ظهر الْإِسْلَام بتوحيده الصافي وَحقه الْمُبين، كشف انحراف النَّصْرَانِيَّة وَبطلَان مَا آلت إِلَيْهِ وَأظْهر ضلال رجال كنيستها وأتباعها وأقصاهم عَمَّا زعموه لأَنْفُسِهِمْ من أستاذية الْعَالم وهدايته، وآلت الصدارة لِلْإِسْلَامِ وَغدا الْمُسلمُونَ هم أساتذة الْعَالم وَهُدَاة البشرية وقادة الْأُمَم ومرشدي النَّاس إِلَى الْحق وَالْهدى، وانتزعوا تِلْكَ المكانة من النَّصَارَى (كَمَا انتزعوها من الْيَهُود فِي هَذِه الْمَدِينَة المنورة بعد الْهِجْرَة إِلَيْهَا) . وَقضى الْمُسلمُونَ على مَا كَانَ لرجال الْكَنِيسَة من سلطة ومصالح، وَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 زعموه لأَنْفُسِهِمْ من وصاية على الْبشر وأوضاعهم وعَلى عُقُولهمْ وأرواحهم، وَمَا فرضوه عَلَيْهِم من حق السخرة وَمَا ابتزوه من أَمْوَالهم ضريبة يؤدونها إِلَى رجال الْكَنِيسَة دون تلكؤ أَو تردد أَو مُرَاجعَة أَو استفسار.. وَهَذَا كُله عدا تعبيدهم لَهُم من دون الله - تبَارك وَتَعَالَى -.. قَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "إِنَّهُم حرمُوا عَلَيْهِم الْحَلَال، وَأَحلُّوا لَهُم الْحَرَام، فاتبعوهم، فَذَلِك عِبَادَتهم إيَّاهُم". فَكَانَت ذَلِك سَببا أصيلاً وعميقاً فِي كَرَاهِيَة النَّصَارَى - لاسيما رجال كنيستهم - لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين، وَكَانَ وَرَاء ذَلِك محاولاتهم المستمرة للصد عَن الْإِسْلَام ورد الْمُسلمين عَن دينهم أَو الْقَضَاء عَلَيْهِم وعَلى إسْلَامهمْ.. قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (الْبَقَرَة: 120) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ} (الْبَقَرَة: 109) . 2 - ثمَّ نَشأ سَبَب آخر زَاد فِي عمق وتأصيل كَرَاهِيَة النَّصَارَى - لَا سِيمَا رؤوسهم من رجال كنيستهم وملوكهم - لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين، والجهد فِي حَرْب المعسكر الإسلامي.. هَذَا السَّبَب هُوَ: انطلاق الْإِسْلَام فِي الأَرْض لتحرير النَّاس من الْعُبُودِيَّة لله تعلى وَحده ولإخراجهم من ضيق الدُّنْيَا إِلَى سَعَة الْآخِرَة وَمن جور الْأَدْيَان إِلَى عدل الْإِسْلَام.. واصطدامه بالمعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وتحطيمه جيوشه وأنظمته.. والفتوحات الَّتِي أحرزها فِي الْعَالم النَّصْرَانِي نَفسه، وانتزاعه مِنْهُ بِلَاد الشَّام ومصر وشمال إفريقيا، ووثبته على الأندلس وتوغله فِي أوربا من الغرب حَتَّى شَاءَ الله - تَعَالَى - أَن يقف الْمُسلمُونَ فِي تِلْكَ الجولة قَرِيبا من (باريس) عَاصِمَة فرنسا، ثمَّ دُخُوله أوروبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 مرّة أُخْرَى من الشرق وانتزاعه مِنْهُ الأناضول والبلقان، وقضاؤه على الإمبراطورية البيزنطية وفتحه عاصمتها الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَتَحْوِيلهَا إِلَى عَاصِمَة الْإِسْلَام (إِسْلَام بَوْل) وتوغله بعْدهَا فِي قلب أوروبا حَتَّى شَاءَ الله - عز وَجل - أَن يقف فِي هَذِه الجولة عِنْد أسوار فيينا عَاصِمَة النمسا. وَكَذَلِكَ صُعُوده على أوروبا من الْجنُوب من إيطاليا حَتَّى دق أَبْوَاب روما وهدد دولة الفاتيكان. ثمَّ صُعُوده على روسيا القيصرية وانتزاعه مِنْهَا أطرافها الجنوبية والشرقية.. وجد المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي نَفسه أَمَام عملاق قوي خرج من هَذِه الْمَدِينَة المنورة، فحطم لَهُ قواه وجيوشه الَّتِي كَانَ بهَا يصول ويجول وَيحكم بهَا نصف الْعَالم، وطارده حَتَّى حصره فِي أوروبا وَحدهَا بل فِي جُزْء مِنْهَا وطوقه من الشرق والغرب بذراعين قويتين يهدده بهما صباح مسَاء.. فَكَانَ هَذَا، أَيْضا، سَببا فِي تأصيل كَرَاهِيَة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وعدائه لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين وتعميق هَذِه الْعَدَاوَة والكراهية وامتزاجها بلحنه وَدَمه وعظمه وعصبه، وغدوها جُزْءا من تركيبه وتحولها إِلَى روح خبيثة من الحقد الدفين الَّذِي أُترع بِهِ قلبه، وامتلأ بهَا صَدره وأكلت كبده، فظهرت على أَلْسِنَة رؤوسه وَرِجَاله {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمرَان: 119) . هَذِه الرّوح الحاقدة على الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين هِيَ الرّوح الصليبية.. فالروح الصليبية إِذن: هِيَ روح العداء والحقد والكراهية لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين فِي نفوس رُؤُوس المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي، من رجال كنيسته وملوكه، وَمن والاهم وأطاع أوامرهم وخضع لَهُم وَعمل بتوجيهاتهم واقتفى أَثَرهم فِي كره الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وحربهم والحقد عَلَيْهِم.. لقد سرت هَذِه الرّوح فِي جسم المعسكر الصليبي - بِفعل رؤوسه - حَتَّى كَادَت تَشْمَل كيانه وتتغلغل فِي أَجْزَائِهِ وتشمل شعوبه وجماعاته وطوائفه وأفراده لَوْلَا وجود مجموعات أَو طوائف بَدَت مِنْهُم الْمَوَدَّة لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين، بِسَبَب بقائهم أَو قربهم من التَّوْحِيد الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَلذَا بقيت بمنأى عَن التلوث بِهَذِهِ الرّوح الخبيثة، الَّتِي دأب رجال الْكَنِيسَة وسواهم من رُؤُوس المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي على غرسها وإحيائها فِي شعوبهم وأتباعهم تضليلاً لَهُم وحقداً على الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، وَمن ثمَّ دخلت مجموعات من هَذِه الطوائف فِي الْإِسْلَام حِين وَصلهَا وعرفته، كَمَا فعلت طَائِفَة مِنْهُم كَانَت فِي إقليم (البوسنة) تدعى (طَائِفَة البوغوميل) (رفضوا عبَادَة السيدة مَرْيَم، وأبوا نظام التعميد، وأنكروا الصَّلِيب رمزاً دينياً، واعتبروا الانحناء أَمَام الصُّور الدِّينِيَّة والتماثيل إِنَّمَا هُوَ ضرب من عبَادَة الْأَصْنَام، وكرهوا نواقيس الْكَنَائِس وأطلقوا عَلَيْهَا أبواق الشَّيَاطِين، وَكَانَت دور صلَاتهم على دَرَجَة كَبِيرَة من البساطة والبعد عَن الزِّينَة والزخارف على عكس الْكَنَائِس الكاثوليكية الَّتِي كَانَت تتَمَيَّز بالزخارف الزاهية.. وَفَوق هَذَا كُله كَانَ أَفْرَاد هَذِه الطَّائِفَة يَعْتَقِدُونَ أَن الْمَسِيح نَفسه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يصلب وَلَكِن حل مَحَله شبح آخر، وهم يتفقون مَعَ الْآيَة الْكَرِيمَة الَّتِي جَاءَ فِيهَا {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النِّسَاء: 157) وَكَانُوا يحرمُونَ على أنفسهم شرب الْخمر ويحرصون على أَن يكون سلوكهم الْخَارِجِي وعلاقاتهم الاجتماعية مبرأة من الْعُيُوب الَّتِي حفلت بهَا المجتمعات المسيحية فِي أوروبا فِي ذَلِك الْوَقْت. "وَكَانَ من الطبيعي أَن تنظر الْكَنِيسَة شذراً إِلَى هَذِه الطَّائِفَة ودعت البابوية إِلَى شن حملات صليبية عَلَيْهِم، وَقد تعرضوا لموجات من الاضطهاد العنيف على يَد مُلُوك البوسنة الَّذين كَانُوا يستجيبون إِلَى توجيهات البابوية فِي روما. واستغاثت أَفْرَاد هَذِه الطَّائِفَة بالأتراك العثمانيين فِي الْقرن الْخَامِس عشر لتخليصهم مِمَّا هم فِيهِ من اضطهاد وبؤس وشقاء. وَلما غزا السُّلْطَان مُحَمَّد الفاتح البوسنة فِي سنة 1464م انضمت طَائِفَة البوغوميل إِلَى الفاتحين، وَاسْتولى الْجَيْش العثماني فِي خلال أُسْبُوع وَاحِد على مُعظم مدن البوسنة، وعَلى إِثْر الْفَتْح العثماني دخل البوغوميل فِي الْإِسْلَام أَفْوَاجًا بمحض إرادتهم، إِذْ وجدوا الفروق ضئيلة جدا بَين مَذْهَبهم وَبَين تعاليم الْإِسْلَام. أما الْبَقِيَّة الْبَاقِيَة من أَفْرَاد هَذِه الطَّائِفَة فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 أَسْلمُوا تدريجياً. وَبَقِي الكاثوليك من أهالي البوسنة على ديانتهم وآثروا الْهِجْرَة إِلَى النمسا والمجر "1. وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى (طَائِفَة البوغوميل وأمثالهم) كأولئك الَّذين وجدوا فِي عصر الدعْوَة الإسلامية الأول وَلم يَجدوا فِي نُفُوسهم مَا وجد غَيرهم من الْكبر الَّذِي يصدهم عَن الْإِسْلَام فأسلموا.. لَعَلَّ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ هم المعنيون بقول الله تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (الْمَائِدَة: 82 - 86) . وَهَكَذَا نجد أَن الرّوح الصليبية نشأت مُنْذُ وجد لِلْإِسْلَامِ كيان ودولة فِي هَذِه الْمَدِينَة المنورة وانتزع من النَّصَارَى مَا زعموه لأَنْفُسِهِمْ من مكانة دينية، ثمَّ تَفَجَّرَتْ وغلى مرجلها بعد الصدام المسلح الَّذِي وَقع بَين الْمُسلمين والدولة البيزنطية لَا سِيمَا بعد معركة اليرموك الظافرة الَّتِي لقِيت فِيهَا جيوشهم هزيمَة نكراء تحطمت فِيهَا قواهم وَخرج بعْدهَا رَأْسهمْ هِرقل إمبراطور الدولة الرومانية من بِلَاد الشَّام هَارِبا والأسى والحزن يعصر قلبه عصراً، وَقد عبر عَن ذَلِك حِين ركب الْبَحْر واستقل السَّفِينَة وَألقى نظرات الْوَدَاع الْأَخِيرَة على شواطئ سورية الجميلة فَلم يملك نَفسه أَن أطلق صرخة أودعها كل مَا عِنْده من أسى وحزن وكمد فصاح قَائِلا: الْوَدَاع، الْوَدَاع، إِلَى الْأَبَد يَا سورية، وداعاً لَا لِقَاء بعده. وَقد كَانَ كَذَلِك وَللَّه الْحَمد …   1 - من كتاب أوروبا فِي مطلع العصور الحديثة. ص657 - 659 من الْجُزْء الأول للدكتور عبد الْعَزِيز مُحَمَّد الشناوي. أستاذ كرْسِي التَّارِيخ الحَدِيث بجامعة الْأَزْهَر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 لقد نشأت هَذِه الرّوح مُنْذُ ذَلِك الْحِين ثمَّ مَا زادتها الْأَيَّام والأحداث إِلَّا اشتعالاً واتقاداً وتفجراً وغلياناً، إِذْ دأب رجال الْكَنِيسَة إِلَى إبْقَاء جذوتها متقدة متوهجة، منتهزين كل انتصار يحرزه الْمُسلمُونَ ليسهل عَلَيْهِم تسخيرها فِي أَي وَقت لدفع الكتل البشرية النَّصْرَانِيَّة فِي موجات تخريبية من الْغَزْو الصليبي المدمر، والفتك بِالْمُسْلِمين كلما قدرُوا عَلَيْهِم.. وَلَيْسَ هَذَا فَحسب بل أَرَادَ رُؤُوس المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي أَن يجْعَلُوا هَذِه الرّوح الحاقدة تقليداً لأتباعهم وشعوبهم وطقساً من طقوسهم يشيب عَلَيْهَا الْكَبِير، وينشأ عَلَيْهَا الصَّغِير، ويرضعها الْوَلِيد مَعَ لبن أمه.. وَذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي التَّخَلُّص من الْإِسْلَام ورد الْمُسلمين عَنهُ أَو إبادتهم هُوَ الشّغل الشاغل لكل نَصْرَانِيّ على وَجه الأَرْض وَلَيْسَ فَقَط لرؤوس المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي.. وَهَكَذَا نجد أَن الرّوح الصليبية ذَات تَأْثِير عميق جدا على نظرة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي إِلَيْنَا وَمن ثمَّ علاقتهم بِنَا، إِلَى دَرَجَة أَنَّهَا تشكل شطر منطلق على نظرة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي إِلَيْنَا أما الشّطْر الآخر لهَذَا المنطلق فقد نَشأ من نفس الظروف والأحداث الَّتِي نشأت عَنْهَا الرّوح الصليبية.. هَذَا الشّطْر الآخر: هُوَ الثأر الْقَدِيم الَّذِي يشْعر بِهِ المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي تجاه الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الثأر الْقَدِيم: أَيهَا الْأُخوة: فقد قُلْنَا إِن المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وجد نَفسه أَمَام عملاق خرج من هَذِه الْمَدِينَة المنورة فَانْتزع مِنْهُ مكانة الأستاذية والإرشاد فِي الْعَالم، وَمَا زَعمه لنَفسِهِ من مكانة دينية فِي غَفلَة من النَّاس وبعدهم عَن دين الله تَعَالَى.. وانتزع مِنْهُ شعوباً وأمماً كَانَت تخضع لَهُ وَتَدين لملوكه وكنيسته بِالطَّاعَةِ فَأَصْبَحت من جند الْإِسْلَام المخلصين تحمله وتفتح بِهِ الْبِلَاد وتهدي الْعباد بِإِذن الله تَعَالَى.. وانتزع مِنْهُ أَيْضا أراضٍ واسعةٍ وبلاداً شَتَّى كَانَ ينْفَرد وَحده باستغلال خيراتها لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أحد من النَّاس.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وانتزع كَذَلِك أَربع مدن رئيسية من أعز خمس مدن عَلَيْهِ فِي الْعَالم وَهِي: (الْقُدس، وإنطاكية، ونيقيه، والقسطنطينية) وَبَات يهدد الْخَامِسَة بِالْفَتْح وَهِي (روما) . وَفَوق هَذَا كُله فقد قضى على إمبراطوريته البيزنطية الَّتِي كَانَ يعْتَبر إمبراطورها رَأْسا للْعَالم النَّصْرَانِي، ونائباً عَن الله - تبَارك وَتَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا. وَهَكَذَا وجد المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي نَفسه أَمَام عَدو طعنه طعنات نجلاء، وجرحه جروحاً غائرة لَا تندمل، وَلَا يُمكن أَن تندمل حَتَّى يثأر لنَفسِهِ مِنْهُ، وَيسْتَرد - بِزَعْمِهِ وتصوره - مكانته وَسَائِر مَا انتزعه الْإِسْلَام مِنْهُ من الْبِلَاد والعباد، وهداها الله تَعَالَى بِهِ.. إِلَّا أَن أَشد مَا أثار المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وأقامه وَلنْ يقعده هُوَ فتح الْإِسْلَام لبلاد الشَّام وفيهَا (الْقُدس) وَقد رَأينَا حسرته ولوعته الَّتِي بَدَت بصرخة رَأس من رؤوسه وَهُوَ هِرقل حِين خرج مِنْهَا وَهُوَ يَقُول: "الْوَدَاع. الْوَدَاع يَا سورية. وداعاً لَا لِقَاء بعده". وَكَذَلِكَ فتح الْإِسْلَام للقسطنطينية وَتَحْوِيلهَا إِلَى دَار إِسْلَام (إِسْلَام بَوْل) . إِن اهتمام المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي بالقدس والقسطنطينية جعله يجْهد بدأب واستمرار وعَلى كَافَّة المستويات مُنْذُ فتحهما الله تَعَالَى على يَد الْمُسلمين وَحَتَّى اللحظة الْحَاضِرَة لانتزاعهما من أَيدي الْمُسلمين وإعادتهما مركزين أوليين من مراكز الصَّلِيب.. وَإِن أَيَّة دراسة وَاعِيَة للحروب الصليبية تكشف لنا أَن انتزاع (الْقُدس) من أَيدي الْمُسلمين هُوَ فِي رَأس الْقَائِمَة1 قَائِمَة   1 - وَكَذَلِكَ وضعت الْقُسْطَنْطِينِيَّة مُنْذُ فتحهَا فِي رَأس قَائِمَة أهدافهم ونشاطاتهم، وَقد تحلى ذَلِك فِي أَكثر من مُنَاسبَة لَا سِيمَا فِي الْحَرْب العالمية الأولى حِين دَخَلتهَا جيوش الحلفاء (المعسكر النَّصْرَانِي الصليبية) وخيل إِلَيْهِم أَن يَوْم الثأر وانتزاعها من الْمُسلمين قد حَان فثار المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي بمؤسساته وهيئاته وصحفه.. الخ. ثورة عارمة ونشط رجال الْكَنِيسَة الشرقية والغربية نشاطاً غَرِيبا يستحثون حكوماتهم من أجل انتزاعها من أَيدي الْمُسلمين. وَقد شعر الْمُسلمُونَ بذلك ورأوه بأعينهم وسمعوه بآذانهم. وَقد بيّنت ذَلِك فِي محاضرة لي بعنوان (الحروب الصليبية طبيعتها ومداها فِي الزَّمَان وَالْمَكَان) . وبينت فِيهَا إِلَى جَانب ذَلِك كَمَا يُشِير العنوان طبيعة الحروب الصليبية وحقيقتها والزمن الَّذِي استغرقته وَهِي الْأَرْبَعَة عشر قرنا، وَكَذَلِكَ الْمَكَان الَّذِي دارت عَلَيْهِ خلال هَذِه الفترة الطَّوِيلَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أهدافهم ونشاطاتهم وحروبهم الَّتِي يَعْتَقِدُونَ بقدسيتها وَالَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا لَا تَنْتَهِي وَلنْ تَنْتَهِي مَا دَامَت الْقُدس بأيدي الْمُسلمين، كَمَا صرح بذلك الجنرال الإنكليزي (أللنبي) حِين دخل الْقُدس فِي الْحَرْب العالمية الأولى وَظن أَنهم انتزعوها من أَيدي الْمُسلمين فَقَالَ: (الْآن انْتَهَت الحروب الصليبية) .. فَلَمَّا عَادَتْ للْمُسلمين رجعت المحاولات تبذل من جَدِيد وَلم يتَغَيَّر فِيهَا إِلَّا الشكل وَالِاسْم.. كَانَت من قبل صَرِيحَة وَاضِحَة هَكَذَا.. يُرِيدُونَ انتزاع الْقُدس من أَيدي الْمُسلمين الَّذين يسمونهم كفرة. قَالَ رَأس من رؤوسهم وَهُوَ البابا أوروبا الثَّانِي منفذ فكرة الحروب الصليبية المقدسة الْمَعْرُوفَة بِهَذَا الِاسْم وَالَّذِي بَدَأَ بِدفع الكتل البشرية الأوروبية إِلَى بِلَاد الشَّام ومصر ثمَّ استمرت بعده طوال قرنين من الزَّمَان.. قَالَ: "..فاتخذوا محجة الْقَبْر الْمُقَدّس، وخلصوا الْأَرَاضِي المقدسة من أَيدي المختلسين الْكفَّار (يقْصد الْمُسلمين) … "1 أما الْيَوْم   2 - انْظُر المحاضرة الْمَذْكُورَة فقد بيّنت فِيهَا بعض المحاولات الْكُبْرَى الَّتِي قَامَ بهَا المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي عبر هَذَا التَّارِيخ لانتزاع مَدِينَة الْقُدس وَلَا سِيمَا محاولة الإمبراطورين نقفور فوقاس وحنا شمشقيق فِي منتصف الْقرن الرَّابِع الهجري، وَكَذَلِكَ محاولات أوروبا خلال القرنين السَّادِس وَالسَّابِع الهجريين وَالَّتِي أول من وَضعهَا مَوضِع التَّنْفِيذ البابا أوربان الثَّانِي كَمَا أَشَرنَا أَعْلَاهُ. ثمَّ المحاولات الْأَخِيرَة فِي الْقرن الرَّابِع عشر الهجري وَالَّتِي بدأت قبيل سُقُوط الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية حَتَّى االلحظة الْحَاضِرَة.. بالتعاون مَعَ المعسكرات الْجَاهِلِيَّة الْأُخْرَى كَمَا لَا يخفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الصَّلِيب والاستعمار الصليبي.. هَذَا هُوَ الْغَرَض الَّذِي يَرْمِي إِلَيْهِ كل من يُنَادي بالتدويل.. أَيهَا الْأُخوة: نخرج من هَذَا الْعرض الموجز أَن المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي يشْعر بِأَن لَهُ فِينَا ثأر قديم ينْتَظر أَيَّة فرْصَة وبادرة كي يثأر لنَفسِهِ وينتقم منا وَهَذَا الثأر من الرّوح الصليبية يشكلان مُنْطَلقًا جوهرياً وأساسياً لنظرته إِلَيْنَا ومعاملته لنا، وعلاقته بِنَا.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الْمصَالح الْآنِية: أَيهَا الْإِخْوَة: لقد كَانَ للمعسكر النَّصْرَانِي فِي صراعه مَعَ الْمُسلمين لَا سِيمَا فِي الحَدِيث جولات اجتاح فِيهَا الْعَالم الإسلامي بجيوشه من عسكريين ومبشرين وفنيين وخبراء وَسوى ذَلِك، وَقد أجْرى خلال ذَلِك - وَمَا زَالَ يجْرِي دراسات هَامة ودقيقة عَن الْعَالم الإسلامي، وطبيعة أرضه وشعوبه وثرواته، خدمَة لأغراضه هُوَ ومصالحه قبل غَيره، ولتمديد فَتْرَة وجوده وبقائه فِيهِ، واستعماره لَهُ، واستغلاله لخيراته أطول فَتْرَة مُمكنَة، وَذَلِكَ فِي حَال عَجزه عَن رد الْمُسلمين عَن دينهم أَو إبادتهم وتصفيته تصفية جسدية، وَقد خرج من هَذِه الدراسات بنتائج جد هَامة. 1 - وجد أَن الْعَالم الإسلامي يَمْتَد على رقْعَة من الأَرْض كَبِيرَة جدا تمتد من أواسط أوروبا حَتَّى أواسط روسيا فأواسط الصين، ثمَّ ينحدر نَحْو الْجنُوب الشَّرْقِي ليشْمل جنوب شَرْقي آسيا حَتَّى أستراليا ثمَّ يتَّجه نَحْو الْجنُوب ليشْمل إفريقيا كلهَا تَقْرِيبًا حَتَّى أسبانيا (الأندلس الفردوس الْمَفْقُود) . وَوجد أَن هَذَا الْعَالم الإسلامي المترامي الْأَطْرَاف يضم جوانحه على أهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الْبحار الَّتِي تجْرِي على سطحها مُعظم تِجَارَة الْعَالم، وَأَنه يملك مُعظم سواحلها ومداخلها، كالمحيط الْهِنْدِيّ وَالْبَحْر الْأَحْمَر والأبيض، وَالْأسود، والساحل الشَّرْقِي للمحيط الأطلسي من رَأس الرَّجَاء الصَّالح حَتَّى مضيق جبل طَارق، وَأَنه إِذا كَانَت بعض دوَل المعسكرات الْجَاهِلِيَّة الْأُخْرَى تشاركه فِي السيطرة على الْقَلِيل من سواحل هَذِه الْبحار، فَإِنَّهُ ينْفَرد دونهَا بامتلاك مداخلها والسيطرة عَلَيْهَا..فمثلاً: الْمُحِيط الْهِنْدِيّ: مدخله من الشرق: مضيق مالقا بَين جَزِيرَة سومطرة مشبه جَزِيرَة الملايو من إندونيسيا الْمسلمَة. وَأما مدخله من الشمَال الغربي فَهُوَ مضيق بَاب المندب، بَين الجزيرة الْعَرَبيَّة والصومال الْمسلمَة. الْبَحْر الْأَحْمَر: مدخله الجنوبي: هُوَ مضيق بَاب المندب الْمَذْكُور آنِفا، أما مدخله الشمالي فقناة السويس (الشريان الحيوي لرفاهية أوروبا وأمريكا) . الْبَحْر الْأَبْيَض الْمُتَوَسّط: مدخله من الْجنُوب قناة السويس. وَمن الشمَال البوسفور والدردنيل فِي أَرض مسلمة (تركيا) . الْبَحْر الْأسود: مدخله الوحيد هُوَ من الْجنُوب وَهُوَ من الْجنُوب مضيقا البوسفور والدردنيل الْمَذْكُورين. فَمَاذَا يَعْنِي هَذَا الْموقع الاستراتيجي للْعَالم الإسلامي؟ إِنَّه يَعْنِي أَن الْأمة الْمسلمَة عملاق كَبِير يجلس على رقْعَة كَبِيرَة من الكرة الأرضية وتمر من تَحْتَهُ كل قوافل التِّجَارَة العالمية وكل وَسَائِل الرفاه الدولي، وَإِن المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي لَا يَسْتَطِيع الِاسْتِغْنَاء عَن هَذِه الطّرق البحرية، وَمعنى ذَلِك أَن تِجَارَته العالمية ورفاهية شعوبه متعمدة اعْتِمَادًا كَبِيرا على الْعَالم الإسلامي.. هَذِه وَاحِدَة.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 2 - والنتيجة الثَّانِيَة الَّتِي وجدهَا المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي عقب دراسته الْمشَار إِلَيْهَا: أَن الله سُبْحَانَهُ قد حبا الْعَالم خيرات كَثِيرَة هائلة وكنوزاً ضخمة ظَاهِرَة وباطنة، تشكل عصب الْحَيَاة لصناعاته وحياته.. فالعالم الإسلامي يملك نِسْبَة عالية من الثروات العالمية المعدنية والنباتية والحيوانية.. فمثلاً: ينْتج الْعَالم الإسلامي 31 ... من جملَة الإنتاج العالمي للبترول، وَيملك فِي جَوْفه3 ,69 ... من احتياطي البترول العالمي، وينتج أَكثر من 28 ... من جملَة الإنتاج العالمي للكروم و 23 ... من الانتاج العالمي من الفوسفات، وَنسبَة كَبِيرَة من اليورانيوم والنوريوم، وَهَذَا كُله سوى الْحَدِيد وَالذَّهَب وَالْفِضَّة والنحاس، وَكَذَلِكَ الثروات النباتية كالأخشاب والقطن والمطاط وَأَيْضًا الثروات الحيوانية.. هَذِه الإحصائيات هِيَ مَا يَقُوله خبراء الْعَالم فَمَاذَا يَعْنِي هَذَا؟ إِنَّه يَعْنِي أَن الْعَالم يَأْتِي إِلَيْنَا ليستجدي منا لقْمَة الْعَيْش وكفاف الْحَيَاة1. وَهَذَا يَعْنِي أَيْضا: أَن صناعات المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي تقوم على مَا ينتجه الْعَالم الإسلامي ويملكه الْمُسلمُونَ من مواد أولية..هَذَا من جِهَة.. وَمن جِهَة أُخْرَى تقوم صناعاته أَيْضا على أسواق تصريفها فِي الْعَالم الإسلامي، لِأَن المصنوعات إِذا لم تَجِد لَهَا أسواقاً فَإِنَّهَا تقف.. فالعالم الإسلامي إِذن هُوَ مصدر أَو نبع للمواد الخام الَّتِي يحتاجها المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي2 لصناعاته، وَهُوَ - أَي الْعَالم الإسلامي - سوق لتصريف صناعات المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي3. أَيهَا الْإِخْوَة: إِن هَذَا الْموقع الممتاز للْعَالم الإسلامي وسيطرته على طرق التِّجَارَة البحرية ومدخلها وَهَذِه الثروات الضخمة الَّتِي يملكهَا الْمُسلمُونَ …   1 - انْظُر مجلة الْبَلَاغ الكويتية عدد 186 تَارِيخ 26/12/92 هـ ص35 - 36 عَن كتاب: الْإِسْلَام خلاصنا للأستاذ هادي المدرسي. 2 - 3 وَكَذَلِكَ المعسكرات الْأُخْرَى إِلَّا أَن حديثنا هُنَا عَن المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 واعتماد المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي على هَذَا الْموقع وَهَذِه الثروات لَهُ دلَالَته عَنْهُم.. وَهِي: أَن مَصَالِحه الحيوية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعالم الإسلامي، وَلَكِن هَذَا المعسكر بدافع الرّوح الصليبية الحاقدة، والثأر الْقَدِيم، لَا يُرِيد أَن يُعَامل الْمُسلمين مُعَاملَة كَرِيمَة لائقة أَو مُعَاملَة الْمثل بِالْمثلِ على الْأَقَل، وَإِنَّمَا يُرِيد استعمارهم واستعبادهم وإذلالهم والانفراد بخيرات بِلَادهمْ دونهم! وَمن ثمَّ فَهُوَ يدْرك أَنه لن يصل إِلَى مَا يُريدهُ من استعمار الْمُسلمين بخيرات أَرضهم دونهم إِلَّا فِي غَفلَة مِنْهُم وَفِي حَال بعدهمْ عَن مصدر قوتهم وَهُوَ إسْلَامهمْ الْعَظِيم، وَمن ثمَّ يعْمل جاهداً للإبقاء على الْمُسلمين فِي حَالَة نوم عميق وغفلة طَوِيلَة.. ويحذر حذرا شَدِيدا أَيَّة صحوة لَهُم، ويحارب بِلَا هوادة كل شخص أَو حَرَكَة تُرِيدُ تَنْبِيه الْمُسلمين عملاق مَتى مَا صَحا وعادت إِلَيْهِ قوته بعودته إِلَى دينه ووحدته سيطرة وبقوة على التِّجَارَة العالمية وتحكم فِي صناعات الْعَالم، وَأمْسك بلقمة عيشهم وَفرض هيبته وسلطانه وأخضع كَافَّة المعسكرات الْجَاهِلِيَّة لإرادته وَسَهل عَلَيْهِ بعد ذَلِك نشر دينه بَين شعوبها، وَهَذَا مَا تحذره وتخافه أَشد الْخَوْف والحذر - كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَعنا فِي الْفَقْرَة الثَّالِثَة والأخيرة - … وَيضمن لَهُ استعمار الْعَالم الإسلامي واستعباد شعوبه والانفراد دونهم بخيراتهم هُوَ نشر النَّصْرَانِيَّة وأفكارها بَين الْمُسلمين وتغريبهم (أَي نشر الأفكار الغربية بَينهم) 1 وكل مَا من شَأْنه أَن يضعف صلَة الْمُسلمين بِإِسْلَامِهِمْ ويردهم عَنهُ..وَمن هُنَا كَانَ الاهتمام الْكَبِير من الحكومات والمؤسسات الاقتصادية والهيئات السياسية فِي المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي بالتبشير والأعمال التبشيرية فِي الْعَالم الإسلامي، والإنفاق بسخاء على المبشرين الَّذين يعْملُونَ بَين الْمُسلمين، وينشرون الْفساد والإنحلال فِي مجتمعاتهم. ورد فِي كتاب الْغَارة على الْعَالم الإسلامي مَا يَلِي:   1 - انْظُر خطاب القسيس زويمر فِي نِهَايَة هَذِه المحاضرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 " وَلما انْتَهَت اللجنة من أَعمالهَا قَالَ اللورد بلفور1، رَئِيس الشّرف: إِن المبشرين ساعد لكل الحكومات فِي أُمُور هَامة، ولولاها لتعذر عَلَيْهَا أَن تقاوم كثيرا من العقبات، وعَلى هَذَا فَنحْن فِي حَاجَة إِلَى لجنة دائمة يناط بهَا التَّوَسُّط وَالْعَمَل لما فِيهِ مصلحَة المبشرين. "فَأُجِيب اللورد بلفور إِلَى اقتراحه وتشكلت لجنة مختلطة ولجنة لمواصلة الْعَمَل وَقَالَ: م. ن. اكسنفلد عَن المؤتمر الاستعماري الألماني: "إِن المؤتمر الاستعماري امتاز بميزتين: الأولى: أَنه بحث فِي الشؤون الصناعية والاقتصادية. وَالثَّانيَِة: إجماعه على وجوب ضم الْمَقَاصِد السياسية والاقتصادية إِلَى الْأَعْمَال الأخلاقية والدينية فِي سياسة الاستعمار الألماني. ثمَّ اسْتشْهد بقول (شنكال) رَئِيس غرفَة التِّجَارَة فِي همبرغ: إِن نمو ثروة الاستعمار مُتَوَقف على أهمية الرِّجَال الَّذين يذهبون إِلَى المستعمرات، وأهم وَسِيلَة للحصول على هَذِه الأمنية إِدْخَال الدّين المسيحي فِي الْبِلَاد المستعمرة، لِأَن هَذَا هُوَ الشَّرْط الْجَوْهَرِي للحصول على هَذِه الأمنية المنشودة حَتَّى من الوجهة الاقتصادية ". ثمَّ قَالَ: " وتوسعوا فِي القَوْل حَتَّى خيّل للْجَمِيع أَن المؤتمر الاستعماري تحول إِلَى مؤتمر تبشيري..". وَورد فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَيْضا وَهُوَ (الْغَارة على الْعَالم الإسلامي) ذكر لبَعض الإحصائيات الَّتِي تبين مدى الاهتمام والمساعدات الْكَبِيرَة الَّتِي يلقاها المبشرون الأمريكان من أَغْنِيَاء أمتهم ومتمولي بِلَادهمْ الَّذين يمدونهم بالأموال الطائلة لأَدَاء مهمتهم التبشيرية فِي الْعَالم الإسلامي..   1 - اللورد بلفور هُوَ نَفسه صَاحب الْوَعْد المشؤوم للْيَهُود بإنشاء كيان لَهُم فِي فلسطين الْمسلمَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَالَّذِي ننتهي إِلَيْهِ من هَذِه النماذج الَّتِي لَا تمثل إِلَّا قَطْرَة من بَحر، هُوَ أَن المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي لَهُ مصَالح هَامة فِي بِلَادنَا، وَهُوَ يرى أَن الضَّمَان الوحيد لمصالحه هُوَ رد الْمُسلمين عَن دينهم سَوَاء بنشر النَّصْرَانِيَّة وَهَذَا أهم شَيْء وأضمنه بِالنِّسْبَةِ لَهُم إِذْ يخضع المنتصرون بعْدهَا لأوامر وتوجيهات رؤوسه مُبَاشرَة أَو نشر الأفكار الغربية الْأُخْرَى الَّتِي تبعد الْمُسلم عَن دينه وترده عَنهُ فِي حَال عجزهم عَن تنصير الْمُسلمين.. قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (الْبَقَرَة: 120) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (الْبَقَرَة: 109) . وَهَكَذَا نجد أَن مصَالح المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي فِي بِلَادنَا، والكيفية الَّتِي يُرِيد الْحفاظ بهَا عَلَيْهَا، تضغط على أعصابه وتستحوذ على تفكيره وتؤثر تَأْثِيرا عميقاً على علاقته بِنَا، وَمن ثمَّ فَهِيَ تشكل مُنْطَلقًا آخر من منطلقات علاقته بِنَا وعاملاً من العوامل الموجهة لمعاملته لنا، يُضَاف إِلَى العوامل الْأُخْرَى الَّتِي سلف بحثها وَهِي العداء بَين الْإِسْلَام وَالْكفْر، وَالروح الصليبية الحاقدة، والثارات الْقَدِيمَة.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 مخاوف مُسْتَقْبلَة: وَلَكِن فِي الْوَاقِع إِن الَّذِي يدرس أَحْوَال المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي يجد أَن هَذِه العوامل لَيست هِيَ كل العوامل الَّتِي تُؤثر على مُعَامَلَته لنا وعلاقته بِنَا، وتوجهها وجهة مُعينَة، بل إِنَّه يعثر على عَامل آخر يَبْدُو من نظراته للْمُسلمين ومعاملته لَهُم. وَقد كَانَ نتيجة الدُّرُوس الَّتِي خرج بهَا: أَن الْمُسلمين إِذا حلت بهم هزيمَة - نتيجة ضعفهم وتمزقهم وبعدهم عَن دينهم - إِن هَذِه الْهَزِيمَة لم تكن دائمة وَلَو طَال أمدها، بل كَانَت هزيمَة مُؤَقَّتَة لَا تلبث أَن تتعقبها صحوة لهَذَا العملاق الْمُسلم فينقض على أعدائه يطاردهم حَتَّى فِي عقر دَارهم فَيفتح بلاداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 جَدِيدَة، ينشر فِيهَا الْإِسْلَام وينتزعها من أعدائه الَّذين غلبوه فِي سَاعَة غفلته وانقسامه وَضَعفه.. وَأَن هَذِه الْبِلَاد الَّتِي يفتحها يستأثر بهَا إِلَى الْأَبَد ويحول أَهلهَا إِلَى مُسلمين.. لقد حدث هَذَا أَكثر من مرّة وتكرر عبر التَّارِيخ، وَمن ثمَّ فالمعسكر النَّصْرَانِي الصليبي مَا زَالَ يخْشَى حُدُوثه الْيَوْم ويخشى أَن يُعِيد التَّارِيخ نَفسه.. يروي الْحَاج أَمِين الْحُسَيْنِي فِي بعض مذكراته: أَن دوَل المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي تعَارض وحدة أيٍّ من الأقطار الإسلامية فِي دولة وَاحِدَة خشيَة أَن تعود لَهُم قوتهم بوحدتهم، وَمن ذَلِك معارضتهم اسْتِقْلَال دوَل الْمغرب الْعَرَبِيّ ووحدتها، فِي حَدِيث كَانَ بَينه وَبَين (بروفر) وَكيل وزارة الخارجية الألمانية للشؤون الشرقية فِي حُكُومَة هتلر النازية1. وَيَقُول الْحَاج أَمِين حِين ألمح لبروفر: " أَن مُعَارضَة دوَل المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي لاستقلال دوَل الْمُسلمين قد تدفعنا للتعاون مَعَ دوَل المعسكر الشيوعي وَمن ثمَّ تحولها للشيوعية الَّتِي تخَاف مِنْهَا أوروبا". قَالَ: فَأَجَابَنِي بروفر قَائِلا: " إِن هَذِه الدول الاستعمارية ترى أَن الْإِسْلَام أَشد خطراً من الشيوعية، لِأَن الشيوعية تمكن معالجتها ودرء أخطارها بِرَفْع مستوى الْمَعيشَة عِنْد الشعوب وتعميم الْعدْل الاجتماعين وَغير ذَلِك من الْوَسَائِل". "وَلكنهَا ترى فِي الْإِسْلَام عقيدة زاحفة يخْشَى خطرها على أوروبا الَّتِي نخرت المدنية الْفَاسِدَة عظامها. وأضعفت قيمها الخلقية والروحية والعسكرية، وهم يَخْشونَ إِذا تألفت هَذِه الدول المغربية المتحدة أَن يكون لَهَا شَأْن عَظِيم ويتوهمون أَنَّهَا لَا تلبث أَن تقفز على أوروبا مرّة أُخْرَى، وَيُعِيد التَّارِيخ نَفسه".2.   1 - يَقُول عَنهُ الْحَاج أَمِين: " إِن بروفر من كبار الساسة الألمان الواقفين على شؤون الأقطار الْعَرَبيَّة والإسلامية حَتَّى إِن حُكُومَة الْهِنْد استعانت بِهِ بَعْدَمَا انْتَهَت الْحَرْب، وظل يعْمل لَدَيْهَا بضع سِنِين، وَهُوَ يتَكَلَّم اللُّغَات الْعَرَبيَّة والتركية والفارسية وَكَانَ سفيراً لألمانيا فِي الْقَاهِرَة. 2 - مذكرات الْحَاج أَمِين الْحُسَيْنِي نشرتها بعض المجلات فِي الْبِلَاد الْعَرَبيَّة خلال الْعَام الهجري 1392هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فهم إِذن يعيشون فِي خوف دَائِم قلق مُسْتَمر من عودة الْمُسلمين إِلَى دينهم ووحدتهم خوفًا من أَن يُعِيد التَّارِيخ نَفسه، وهم يرَوْنَ أَن الْإِسْلَام هُوَ الْخطر الْحَقِيقِيّ عَلَيْهِم، وَهُوَ الْجِدَار الوحيد فِي وَجه استعمارهم لبلاد الْمُسلمين وانفرادهم بخيراتها كَمَا يودون. يَقُول جورج براون فِي كتاب لَهُ صدر عَام 1364هـ مَا يَلِي معبراً عَن مخاوف المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي من الْإِسْلَام، فَقَالَ: " كُنَّا نخوف بشعوب مُخْتَلفَة وَلَكنَّا بعد اختبار لَهُم لم نجد مبرراً لمثل هَذَا الْخَوْف. لقد كُنَّا نخوف من قبل بالخطر الْيَهُودِيّ، والخطر الْأَصْفَر، والخطر البلشفي..إِلَّا أَن هَذَا التخويف لم يتَّفق كَمَا تخيلناه.. إننا وجدنَا الْيَهُود أصدقاء لنا، وعَلى هَذَا يكون كل مضطهد لَهُم عدونا الألد! 1. ثمَّ رَأينَا البلاشفة حلفاء لنا.. أما الشعوب الصَّفْرَاء فهناك دوَل ديمقراطية كبرى تقاومها.. وَلَكِن الْخطر الْحَقِيقِيّ كامن فِي نظام الْإِسْلَام، وَفِي قوته على التَّوَسُّع والإخضاع وَفِي حيويته.. إِنَّه الْجِدَار الوحيد فِي وَجه الاستعمار الأوروبي. " هَذَا الَّذِي يخيفهم فَقَط، إِنَّه الْإِسْلَام ويقظة الْمُسلمين وعودتهم إِلَيْهِ. وخوفهم من الْإِسْلَام ويقظة الْمُسلمين لَيْسَ على مصالحهم فِي الْعَالم الإسلامي فَحسب، بل حَتَّى وجودهم فِي بِلَادهمْ. وَمن ثمَّ فهم يحذرون كل تحرّك للْمُسلمين ويرقبونه ويرصدونه كل حَرَكَة أَو دَعْوَة إسلامية ترمي لإيقاظ هَذَا العملاق النَّائِم لتوحيد أَعْضَائِهِ وربطها بِقَلْبِه ويتتبعون أَخْبَارهَا وَلَيْسَ هَذَا فَقَط، بل يهتمون ويغتمون لقِيَام كل شخصية أَو دَاعِيَة إسلامي يَصِيح فِي الْمُسلمين ليستيقظوا من غفلتهم ويعودوا إِلَى رَبهم - سُبْحَانَهُ - ويتمسكوا بِكِتَاب رَبهم 1 - صدق الله تَعَالَى: {بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 - سُبْحَانَهُ - وَسنة نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - ويرجعوا إِلَى وحداتهم، وَمن ثمَّ فهم يبذلون جهوداً ضخمة للتخلص مِنْهُ وَمن دَعوته بشتى الْوَسَائِل والأساليب، وَإِن كَانُوا الْيَوْم وَبعد تجارب كَثِيرَة يفضلون أَن يكون التَّخَلُّص مِنْهُ على أَيدي أَبنَاء الْمُسلمين حَتَّى لَا يشكل ذَلِك ردة فعل عِنْد الْمُسلمين وَيحدث الَّذِي يخشونه من عودة الْمُسلمين إِلَى كتاب رَبهم - سُبْحَانَهُ - وَسنة نَبِيّهم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - وَلذَلِك نجدهم يخططون لهَذَا ويعبرون عَن ذَلِك بقَوْلهمْ "علينا أَن نخرج من الْمُسلمين من يتَوَلَّى حَرْب الْإِسْلَام، لِأَن الشَّجَرَة يجب أَن يقطعهَا أحد فروعها". وَمن هُنَا وجدنَا كَيفَ أوعزت الدَّوَائِر الاستعمارية الصليبية لربيب نعمتها مُحَمَّد عَليّ باشا (الَّذِي يسمونه بالكبير) أَن يزحف على الدرعية بِالسِّلَاحِ الَّذِي زودته بِهِ أوروبا وبالتدريب العسكري الَّذِي دربت جُنُوده عَلَيْهِ. وَلَكِن هَذَا كُله تمّ باسم الْبَاب العالي أَو قل باسم خَليفَة الْمُسلمين، وبصرف النّظر عَن الملابسات الْأُخْرَى، لَكِن المهم هُوَ أَنهم مَا أَن عرفُوا حَقِيقَة دَعْوَة مُجَدد الْإِسْلَام الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب - رَحمَه الله تَعَالَى - حَتَّى أقامهم ذَلِك وأقعدهم وملأ قُلُوبهم رعْبًا، وراحوا يسعون سعياً حثيثاً لإجهاض هَذِه الْحَرَكَة الإسلامية الْعَظِيمَة الَّتِي تروم العودة بِالْمُسْلِمين إِلَى الْكتاب وَالسّنة مِمَّا كَانَ لَهَا آثارها الْعَظِيمَة وَللَّه الْحَمد فِي إِعَادَة الْمُسلمين إِلَى كتاب رَبهم - سُبْحَانَهُ - وَسنة نَبِيّهم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - وتطهيرهم من الخرافات والبدع والشركيات والضلالات. والعجيب من أَمر الْمُسلمين أَنه بَيْنَمَا يعوم المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وَيقْعد لأنباء الحركات والدعوات والشخصيات الإسلامية وترتعد فرائصه لقيامها، ويموج فَرحا بشعوبه ومؤسساته لوأدها وَقتل رجالها وقادتها، يبْقى الْمُسلمُونَ - إِلَّا من رحم رَبك - فِي غَفلَة عَن ذَلِك كُله وَكَأن الْأَمر لَا يعنيهم وَهَذَا فِي أحسن أَحْوَالهم، وَهَذَا إِذا لم يستخدموا كَمَا يستخدم الْمعول فِي الْهدم، أَو يصفقوا ببلاهة وسذاجة للهدامين.. يَقُول الْعَالم الشَّهِيد - سيد قطب - رَحمَه الله تَعَالَى - عَن هياج المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي لقتل إِحْدَى هَذِه الشخصيات الإسلامية الَّتِي خلفت الإِمَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المجدد مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب - رَحمَه الله تَعَالَى - فِي إيقاظ الْمُسلمين وَالْعَمَل على توحيدهم - يَقُول: " كنت يَوْمهَا فِي أمريكا - أَي يَوْم قتل الشَّهِيد حسن الْبَنَّا - رَحمَه الله تَعَالَى - وَلم أكن أعْط الْحَرَكَة الإسلامية وَلَا مرشدها من اهتمامي - مَا هُوَ جدير بِهِ - وَلم أكن أتصور أَنَّهَا تشكل فِي بؤرة الشُّعُور الغربي شَيْئا يذكر حَتَّى صدمني الْوَاقِع من حَولي فِي أمريكا وهزني هزاً فتح أعيني فتحا مَا لم أفطن إِلَيْهِ من قبل". "لقد شهِدت مظَاهر الابتهاج والفرح بل والشماتة فِي كل شَيْء من حَولي فِي الصحافة، وَفِي جَمِيع أجهزة الْإِعْلَام، ووفي كَافَّة المنتديات، كلهَا تهلل وتهنئ بَعْضهَا بَعْضًا بالتخلص من أخطر رجل فِي الشرق فعجبت من هَذَا الاهتمام بِهِ والتقييم لحركته والتتبع الواعي لَهَا إِلَى هَذَا الْحَد الَّذِي لَا وجود لمثله فِي بِلَادنَا نَفسهَا، وَعلمت أَن فِي الْأَمر سرا أكبر يغيب عني يكمن فِي طبيعة دَعْوَة هَذَا الرجل، وَفِي شخصه الْعَظِيم الَّذِي لم أحظ بمعرفته على الْوَجْه الْأَكْمَل، وَأَنا أعيش مَعَه فِي وَطن وَاحِد، الْأَمر الَّذِي لم أستوِ فِيهِ حَتَّى مَعَ المستعمرين، وصممت بعد عودتي من أمريكا أَن أُعِيد بحث الْأَمر من جَدِيد.."1 وَهَكَذَا نجد أَن المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي يعِيش فِي خوف دَائِم، وحذر شَدِيد من يقظة الْمُسلمين وعودتهم لإسلامهم، وتسودّ الدُّنْيَا فِي عَيْنَيْهِ حِين يرى شخصية إسلامية يَصِيح فِي الْمُسلمين لتوقظهم أَو توَحد كلمتهم فترتعد فرائص رؤوسه ويقومون يقابلون دَعوته هَذِه باجتماعات يتداعون لَهَا، وأحلاف يعقدونها كَمَا رَأينَا مِنْهُم عبر التَّارِيخ، وكما نرى الْيَوْم.. كل ذَلِك خوفًا من أَن يَسْتَيْقِظ هَذَا العملاق الْمُسلم النَّائِم الَّذِي بَدَأَ يَتَحَرَّك ويصحوا وينتبه من غفلته ونومه الطَّوِيل، وخوفاً من أَن يُعِيد التَّارِيخ نَفسه..   1 - مجلة الْمُجْتَمع الكويتية عدد (115) تَارِيخ 19/7/1392هـ ص10 - 11 بِشَيْء من التَّصَرُّف الْيَسِير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَهَكَذَا نجد أَن المخاوف من الْمُسْتَقْبل تضغط هِيَ الْأُخْرَى على أعصابهم وتسيطر على تفكيرهم ونظرتهم لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين فَلَا تبرحهم لَحْظَة من ليل أَو نَهَار، وَمن ثمَّ تشكل مُنْطَلقًا أساسياً آخر من منطلقات نظرتم إِلَيْنَا ومعاملتهم لنا يَنْضَم إِلَى المنطلقات الْأُخْرَى السالفة الذّكر، وَهِي الْمصَالح الْآنِية، والثارات الْقَدِيمَة، وَالروح الصليبية.. الَّتِي تنبع كلهَا من الصراع الطَّوِيل الأمد بَين الْإِسْلَام وَالْكفْر..وَالَّتِي تعْمل كلهَا مجتمعة فِي عقله وَقَلبه وَفِي (بؤرة شعوره) وتسيطر على تفكيره وضميره، وكيانه كُله، وَالَّتِي كَانَت وَمَا تزَال تَدْفَعهُ دفعا لِحَرْب الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين بشتى الْوَسَائِل وعَلى كَافَّة المستويات00وَلَا تَدعه يرتاح ويطمئن مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا إِسْلَام ومسلمون.. فَهُوَ إِن نسي ثاراته، وخبت روحه الصليبية - مثلا وجدلاً - ذكرته مَصَالِحه الْآنِية، فَإِذا نسي مَصَالِحه أقلقه مخاوفه الْمُسْتَقْبلَة من صحوة الْمُسلمين وعودتهم إِلَى دينهم، فَهُوَ إِذن من أَمر الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين فِي شغل شاغل وَعمل دائب مُسْتَمر - وَلَقَد عمل للتخلص من الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين مُنْذُ زمن بعيد، وَمَا تِلْكَ الحروب الَّتِي شنها فِي الْمَاضِي الْبعيد والقريب (ويشنها الْيَوْم فِي الفلبين والحبشة وسواهما على الْمُسلمين إِلَّا لوناً من ألوان جهوده للتخلص من الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين.. وَلكنه الْيَوْم وَفِي الْعَصْر الْحَاضِر يعْمل وَهُوَ مزود بتجاربه ودروسه الَّتِي استفادها من صراعه مَعَ الْمُسلمين.. لقد عرف المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي أَن الْمُسلم لَا يُمكن أَن يواجه فِي معركة مكشوفة يكْشف فِيهَا عدوه عَن حَقِيقَة أهدافه وَهِي رده عَن الْإِسْلَام أَو قَتله، فَإِن هَذَا الْكَشْف كَفِيل بِأَن يُوجد لَدَى الْمُسلم ردة فعل ترجعه إِلَى إِسْلَامه فيتمسك بِكِتَاب ربه - تَعَالَى - وَسنة نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - وَفِي ذَلِك قوته الَّتِي لَا يقهرها كفر بِإِذن الله تَعَالَى وَنَصره. وَعرف كَذَلِك أَن الْمُسلم يتمتع برصيد عالٍ من الاستعداد الإيماني حَتَّى والهزيمة تحل بِهِ فَهُوَ دَائِما وأبداً يشْعر أَنه أَعلَى من عدوه الَّذِي خدمته ظروف المعركة ولوقت مَا، وَمن ثمَّ كَانَ الْمُسلم يعْتَبر أَن هَذِه الْهَزِيمَة مُؤَقَّتَة وَلَو طَال أمدها، يعود بعْدهَا وينتصر على عدوه.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 لقد أدْرك المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي هَذَا السِّرّ فِي الْمُسلم فَعمل وبدأب واستمرار وبشتى الْوَسَائِل لتحطيم هَذَا الاستعلاء الإيماني ووأد روح المقاومة عِنْده، هَذَا من جِهَة، وَمن جِهَة أُخْرَى جَاءَ يتسلل تسللاً يُخَادع الْمُسلمين وَيرْفَع لَهُم فَوق حروبه مَعَهم شعارات مُتعَدِّدَة تخفي طَابع غَزوه الديني، وتستر حَقِيقَة مقْصده وَهِي التَّخَلُّص من الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين بردهمْ أَو إبادتهم.. وَالْحق أَن الظروف ساعدت المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي لتحقيق قدر كَبِير من أهدافه، وأشير الْآن إشارات خاطفة لبَعض أَعماله.. 1 - لقد عرف المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي أَن مصدر قُوَّة الْمُسلم هُوَ الْكتاب وَالسّنة فَعمل على الْفَصْل بَينه وَبَينهمَا، فشجع على نشر الخرافات والبدع والضلالات والصوفيات1، وَكلما تحمل على الْفَصْل بَين الْمُسلم وَكتاب ربه - عز وَجل وَسنة نبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. 2 - وَلكنه وجد أَنه إِن اسْتَطَاعَ الْفَصْل بَين الْمُسلم وَكتاب ربه - تَعَالَى - وَسنة نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فهناك التراث الإسلامي فِي الْفِكر والتاريخ وَسوى ذَلِك، فَإِن هَذَا التراث كَفِيل لَو رَجَعَ إِلَيْهِ الْمُسلم، وَلَا بُد أَن يرجع   1 - قد لَا يرتاح الْبَعْض أَو يعترضون على إِدْخَال الصوفيات بَين الْبدع والضلالات الَّتِي يشجعها الاستعمار فِي عَالم الْمُسلمين، وَيَقُولُونَ لَيست كل الصوفيات ضَالَّة..الخ، وَأَقُول: نَحن نفرق بَين الزّهْد الْحَقِيقِيّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سلف هَذِه الْأمة الصَّالح وَبَين الزندقة الَّتِي دخلت باسم الصُّوفِيَّة على الْمُسلمين.. لَكِن الْوَاقِع الْمشَاهد هُوَ أَن مَا تحويه كتب الصُّوفِيَّة الْيَوْم هُوَ خليط من هَذَا وَذَاكَ أَو على الْأَقَل لَا يَخْلُو من الدس والشرك والبدع00 هَذِه وَاحِدَة.. وَأمر آخر وَلَعَلَّه أَشد خطراً وَهُوَ: أَن صالحي الصوفيين يؤولون الْكفْر والزندقة والخرافات فِيهَا إِن لم يقبلوها بِقبُول حسن.. وَمن ثمَّ يتسرب الشّرك والبدع والزندقة للْمُسلمين من كتب الصُّوفِيَّة، وصالحوهم يساهمون بِلَا قصد أَو يسكتون.. ثمَّ إننا نلاحظ السلبية القاتلة على عَامَّة الصوفيين، القاتلة لامكاناتهم وروح الْجِهَاد فيهم، وَهَذَا مَا يَطْلُبهُ الاستعمار ومعسكراته.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 إِلَيْهِ وَأَن يُنَبه الْمُسلم الغافل، وَمن ثمَّ عَمَدت دوائره الاستشراقية إِلَى دراسة هَذَا التراث الْأَصِيل وإعادة كِتَابَته مَا أمكن كِتَابَته مِنْهُ وباللون الَّذِي يُريدهُ المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي، ويخدم أغراضه من قتل روح الاستعلاء عِنْد الْمُسلم واستبدالها بِروح التّبعِيَّة للغرب، كَمَا أَشَرنَا لذَلِك فِي بداية هَذِه المحاضرة على صنيعهم فِي التَّارِيخ. 3 - ثمَّ قَامَت وسائله الإعلامية بتسليط أضواء قَوِيَّة على الْفِكر الغربي وإنتاجه والثقافة الغربية، وبالمقابل اسدال ستار كثيف على التراث الإسلامي الْأَصِيل، وَذَلِكَ حَتَّى يبهر الْمُسلم بالغرب وثقافته، وبقدر مَا يبهر بالغرب يستحيي من الانتماء لِلْإِسْلَامِ وَكتابه وَسنة نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - وتاريخه وتراثه الْأَصِيل. 4 - ثمَّ عمل على وأد روح الإبداع عِنْد الْمُسلم، فسيطر على مناهج التَّعْلِيم وَوضع لَهَا سياسة مُعينَة هدفها توسيع عملية التَّعْلِيم كَمَا يُقَال: أفقياً بِحَيْثُ يزْدَاد حَملَة الشَّهَادَات (الَّتِي لَا تشهد لحاملها بِالْعلمِ بل تشهد لَهُ بالضحالة العلمية) . ويقل بِسَبَب ذَلِك الْعلمَاء والخبراء.. أَو بتعبير آخر: كَانَ هدف هاتيك السياسات التعليمية هُوَ: لَيْسَ تَخْرِيج عُلَمَاء ومخترعين وبحاثين وَإِنَّمَا تَخْرِيج موظفين وكتبة، وَحسب، بِحَيْثُ لَا يصلحون إِلَّا لهَذَا النَّوْع من الْعَمَل، وَفِي نفس الْوَقْت لَا يكون لَهُم سوى تَحْصِيل الرِّبْح المادي الوفير والاسترزاق بشهاداته الَّتِي يحملهَا، فَهُوَ عبء على شهاداته، وَهُوَ أَيْضا عبء على دولته وَعَالَة على أمته لإطعامه وَكسوته وَمَا إِلَى ذَلِك دون أَن يقدم لَهَا هُوَ شَيْئا يذكر سوى هَذَا الْعَمَل الَّذِي يُمكن أَن تقوم بِهِ آلَة حاسبة أَو كاتبة مثلا، وَذَلِكَ لِأَن روح الْمُتَابَعَة والتحصيل العلمي والفكري والإنتاج والإبداع قد قتلت فِي نَفسه، قتلتها سياسات التَّعْلِيم ومناهجها الَّتِي وَضَعتهَا لَهُ الدَّوَائِر الاستعمارية الصليبية وَغَيرهَا.1 وَكَانَت النتيجة هِيَ أَن الْكمّ بَدَأَ يتغلب على الكيف وَالنَّوْع..   1 - حمداً لله تَعَالَى واعترافاً بنعمته فقد وفْق سُبْحَانَهُ لوضع سياسة تعليمية مُسْتَقلَّة إسلامية لهَذِهِ المملكة، وَقد قَامَ بوضعها عُلَمَاء مُسلمُونَ مختصون فطاحل جزاهم الله تَعَالَى خيرا. الحديث: 3 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَفِي نِهَايَة كل سنة دراسية كَانَ - وَمَا يزَال - فِي عالمنا الإسلامي يدْخل الْحَيَاة الْعَامَّة جيل من هَذَا النَّوْع من حَملَة الشَّهَادَات، وَيحمل مَعَه الضحالة فِي الْعلم والسطحية فِي التفكير، وَالرَّغْبَة الجامحة فِي الْحُصُول على أَعلَى نِسْبَة مُمكنَة من الرِّبْح المادي مِمَّا شغله عَن الاهتمام بتعميق وعيه وإدراكه ومتابعة الحركات العلمية والأدبية، فتحولت الْكَثْرَة الْغَالِبَة من هَذِه الأجيال إِلَى فئات من المرتزقة بالشهادات الَّتِي تحملهَا. "والمؤسف حَقًا أَن هَذِه الفئات هِيَ الَّتِي بدأت مُنْذُ منتصف الْقرن الْحَاضِر تملأ الشواغر فِي الأجهزة العلمية والإعلامية والتربوية حَتَّى أَصْبَحْنَا الْيَوْم نرى أَن الأمية الفكرية هِيَ الصبغة الْغَالِبَة على جيوش المثقفين"1. وَقد تمّ هَذَا كُله دون أَن تشعر الأجيال الجديدة من الْمُسلمين بخطورة هَذَا الاتجاه وآثاره على مستويات الثقافة، وَذَلِكَ لِأَن قدرتها على التَّمْيِيز وَالِاخْتِيَار تضعف بِالْقدرِ الَّذِي تهبط فِيهِ مستويات التَّعْلِيم.. بل إِن أجيالنا أَصبَحت لَا تستمرئ وَلَا ترْضى إِلَّا هَذَا النَّوْع المنخفض من التَّعْلِيم، فتحرص عَلَيْهِ بدافع حب الرَّاحَة والكسل. وَإِذا رَأَتْ مثلا - وعَلى سَبِيل الْمِثَال فَقَط - مدرساً يتوسع فِي مادته أَو مذكرته لَهُم، ويطالبهم بِالرُّجُوعِ إِلَى المصادر الأصيلة والبحث فِيهَا، علت أَصْوَاتهم بالاحتجاج، لأَنهم يُرِيدُونَ النجاح وَالشَّهَادَة وَحسب. أما الْعلم فَهُوَ من شَأْن طلابه.. هَذَا بعض مَا فعله بِنَا أعداؤنا، هُنَاكَ أُمُور أُخْرَى ومستويات حاربونا عَلَيْهَا لَا مجَال لذكرها الْآن، لضيق الْوَقْت عَنْهَا وأكتفي بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا بِذكر خطاب القسيس (زويمر) الَّذِي يُوضح سياسة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي فِينَا، وَهُوَ الْخطاب الَّذِي أَلْقَاهُ فِي مؤتمر المبشرين المنعقد فِي جبل الزَّيْتُون بالقدس فِي عَام 1327هـ. وَقد كَانَ ردا على خطاب أَلْقَاهُ مُقَرر المؤتمر الَّذِي قَالَ فِيهِ:   1 - محلّة الْبَلَاغ الكويتية عدد 138 ص24 - 25. وَانْظُر بالتفصيل الْكتاب الْقيم (هَل نَحن مُسلمُونَ) للأستاذ الْكَبِير مُحَمَّد قطب، حفظه الله تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 "إِن جهود المبشرين فشلت فشلاً ذريعاً فِي الْعَالم الإسلامي لِأَنَّهُ لم ينْتَقل من الْإِسْلَام إِلَى المسيحية إِلَّا وَاحِدًا من اثْنَيْنِ إِمَّا قَاصِر خضع بوسائل الإغراء أَو بِالْإِكْرَاهِ أَو معدم تقطعت بِهِ أَسبَاب الرزق فجاءنا مكْرها ليعيش". فَرد عَلَيْهِ زويمر قَائِلا، كاشفاً عَن خطة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي فِي الْعَالم الإسلامي: قَالَ: " كلا، إِن هَذَا الْكَلَام يدل على أَن المبشرين لَا يعْرفُونَ حَقِيقَة مهمتهم فِي الْعَالم الإسلامي، إِنَّه لَيْسَ من مهمتنا أَن نخرج الْمُسلمين من الْإِسْلَام إِلَى المسيحية، كلا. إِنَّمَا كل مهمتنا أَن نخرجهم من الْإِسْلَام فَحسب، وَأَن نجعلهم ذلولين لتعاليمنا ونفوذنا وأفكارنا.. وَلَقَد نجحنا فِي هَذَا نجاحاً كَامِلا، فَكل من تخرج من هَذِه الْمدَارِس لَا مدارس الإرساليات التبشيرية فَحسب، وَلَكِن الْمدَارِس الْحُكُومَة والأهلية الَّتِي تتبع المناهج الَّتِي وضعناها بِأَيْدِينَا وأيدي من رَبَّيْنَاهُمْ من رجال التَّعْلِيم.. كل من تخرج من هَذِه الْمدَارِس خرج من الْإِسْلَام بِالْفِعْلِ وَإِن لم يخرج بِالِاسْمِ، وَأصْبح عوناً لنا فِي سياستنا دون أَن يشْعر، أَو أصبح مَأْمُونا علينا.. وَلَا خطر علينا مِنْهُ..لقد نجحنا نجاحاً مُنْقَطع النظير..". ثمَّ قَالَ: " … إِنَّمَا مهمتكم أَن تخْرجُوا الْمُسلم من الْإِسْلَام ليُصبح مخلوقاً لَا صلَة لَهُ بِاللَّه، وبالتالي لَا صلَة تربطه بالأخلاق الَّتِي تعتمد عَلَيْهَا الْأُمَم فِي حَيَاتهَا، وَبِذَلِك تَكُونُونَ أَنْتُم بعملكم هَذَا طَلِيعَة الْفَتْح الاستعماري فِي الممالك الإسلامية، وَهَذَا مَا قُمْتُم بِهِ خلال المئة السالفة خير قيام، وَهَذَا مَا أهنئكم عَلَيْهِ وتهنئكم دوَل المسيحية والمسيحيون جَمِيعًا كل التهنئة". "لقد قبضنا أَيهَا الإخوان فِي هَذِه الحقبة من الدَّهْر من ثلث الْقرن التَّاسِع عشر إِلَى يَوْمنَا هَذَا على جَمِيع برامج التَّعْلِيم فِي الممالك الإسلامية، ونشرها فِي تِلْكَ الربوع مكامن التبشير وَالْكَنَائِس والجمعيات والمدارس المسيحية الْكَثِيرَة الَّتِي تهيمن عَلَيْهَا الدول الأوروبية والأمريكية وَالْفضل إِلَيْكُم وحدكم أَيهَا الزملاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 إِنَّكُم أعددتم بوسائلكم جَمِيع الْعُقُول فِي الممالك الإسلامية إِلَى قبُول السّير فِي الطَّرِيق الَّذِي مهدتم لَهُ كل التَّمْهِيد.. إِنَّكُم أعددتم نَشأ (فِي ديار الْمُسلمين) لَا يعرف الصِّلَة بِاللَّه وَلَا يُرِيد أَن يعرفهَا، وأخرجتم الْمُسلم من إِسْلَامه وَلم تدخلوه فِي المسيحية. وبالتالي جَاءَ النشء الإسلامي طبقًا لما أَرَادَهُ الاستعمار المسيحي لَا يهتم بعظائم الْأُمُور، وَيُحب الرَّاحَة والكسل وَلَا يصرف همه فِي دُنْيَاهُ إِلَّا فِي الشَّهَوَات، فَإِذا تعلم فللشهوات، وَإِذا جمع المَال فللشهوات، وَإِذا تبوأ أسمى المراكز فَفِي سَبِيل الشَّهَوَات يجود بِكُل شَيْء". "إِن مهمتكم تمت على أكمل الْوُجُوه وانتهيتم إِلَى خير النتائج وباركتكم المسيحية وَرَضي عَنْكُم الاستعمار فاستمروا فِي أَدَاء رسالتكم فقد أَصْبَحْتُم بِفضل جهادكم الْمُبَارك مَوضِع بَرَكَات الرب".1. هَذَا مَا يُريدهُ بِنَا المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي، وَهَذِه نظرته ومعاملته لنا، وَهَذِه منطلقاته الأساسية، روح صليبية حاقدة، ثَارَاتِ عديمة، مصَالح آنِية، مخاوف مستقبله، فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار. أَيهَا الْأُخوة: لَعَلَّ أسئلة ترد سَائِلَة عَن سَبِيل الْخَلَاص وَالْوُقُوف فِي وَجه هَذَا المعسكر الحاقد وَغَيره من المعسكرات الْجَاهِلِيَّة الْأُخْرَى. وَهِي بِكَلِمَات موجزة: 1 - عودة صَادِقَة جادة إِلَى الله سُبْحَانَهُ. وَكتابه وَسنة نبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وتربية لنفوسنا وأبنائنا على مَا كَانَ عَلَيْهِ سلفنا الصَّالح، من عقيدة سليمَة وإيثار للآخرة على الدُّنْيَا، ولرضوان الله تَعَالَى على كل شَيْء.. وصبر على الطَّاعَة بصورها وتكاليفها كلهَا.. وصبر عَن الْمعاصِي كلهَا بأنواعها ومغرياتها كلهَا.. وتخليص لتراثنا الْأَصِيل مِمَّا علق بِهِ أَو دس عَلَيْهِ.   1 - عَن محاضرة الحروب الصليبية طبيعتها ومداها فِي الزَّمَان وَالْمَكَان ص32 - 34 للمحاضر نَفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وإحياء لروح الاستعلاء الإيماني فِي ناشئتنا وأجيالنا.. وتمتين للمحبة والإخاء بَينهم، وَالْعَمَل على تَوْحِيد صُفُوف الْمُسلمين، وتنبيه للغافلين مِنْهُم وتوعيتهم لقضايا دينهم فِي عصرهم هَذَا.. وبكلمة موجزة: عودة كَامِلَة شَامِلَة إِلَى الْحَيَاة الإسلامية كَمَا كَانَ سلفنا الصَّالح رَحِمهم الله تَعَالَى، وَرَضي عَنْهُم.. مُسلما إِن ترد حَيَاة فهيّا ... مَا بِغَيْر الْإِسْلَام تُؤْتى الْحَيَاة.. وَكلمَة ختامية لَا بُد مِنْهَا: إِن هَذَا هُوَ طَرِيق الْخَلَاص وَلَكِن لَا بُد لَهُ من قدوة حَسَنَة تتمثله تمثلاً كَامِلا وتنطلق بِهِ. فالقدوة أمرهَا هام وعظيم.. وَمن أولى من الْعلمَاء والقادة بِهَذِهِ الْقدْوَة..ونماذج من هَؤُلَاءِ الْعلمَاء والقادة موجودون بِحَمْد الله تَعَالَى، لَكِن الَّذِي نرجو أَن يلتفّ الْمُسلمُونَ حول هَذَا النموذج الصَّادِق الْعَامِل من الْعلمَاء والقادة وَأَن يكثر عَددهمْ فِي عالمنا الإسلامي حَتَّى يتمكنوا من قيادته وإنقاذه وَالْوُقُوف بِوَجْه أعدائه والانتصار عَلَيْهِم بِإِذن الله تَعَالَى وتوفيقه. وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120