الكتاب: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف: أحمد إبراهيم الشريف الناشر: دار الفكر العربي عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم أحمد إبراهيم الشريف الكتاب: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف: أحمد إبراهيم الشريف الناشر: دار الفكر العربي عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الكتاب يتناول هذا الكتاب فترة من أهم فترات تاريخ العرب والإسلام، بل هي -في نظرنا- أهم فترات هذا التاريخ، إذ تمثل القاعدة التي تقوم عليها دراسة التاريخ الإسلامي، وبدون دراستها دراسة علمية صحيحة لا يمكن الإلمام بأحداث التاريخ الإسلامي، وفهم تطوراته في الداخل والخارج فهمًا صحيحًا. وأحسب أن أحدًا لا يستطيع أن يزعم وصف عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتصوير البيئة التي نشأ فيها وقامت فيها النهضة العربية -أمر ليس له من الخطورة العظيمة في تاريخ العرب والإٍسلام ما يستحق الاهتمام الكبير: فبيئة ظهر فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام فيها برسالته، وتوطدت فيها الديانة الإسلامية، بما فيها من قواعد ونظم كان لها أعظم الأثر في حياة العالم. وبيئة قامت فيها النهضة العربية؛ واندفع منها العرب إلى العالم المتمدن، فاستطاعوا أن يقوضوا سلطان أكبر إمبراطوريتين كانتا تتحكمان في عالم يومئذ، وتسيطران على مقدراته. وبيئة خرج منها عباقرة القواد ونوابغ الساسة والإداريين والحكام والقضاة؛ هذه البيئة جديرة بأن تفرد لها البحوث وتخصص لدراستها المتخصصون. ومع الأهمية العظيمة لهذه الفترة -كقاعدة لدراسة التاريخ الإسلامي- فإنها لم تحظ بالعناية الكافية من المؤرخين القدماء والمحدثين على السواء، وظلت تدرس عل هامش الدراسات الإسلامية. فالذين كتبوا السيرة النبوية قديمًا لم يهتموا إلا بذكر ما له علاقة بالنبي -صلى الله عليه وسلم نفسه-: من نسب وأسرة وقبيلة، وولادة وكفالة، وأسفار وزواج قبل البعثة. وقلما تطرقوا إلى ذكر شيء مما كان عليه عصره وبيئته من حالات اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية، يستطيع المرء أن يقف منها على صورة وافية لما كانت عليه الحياة في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما كانت عليه الأحوال في مدينة مكة التي ولد فيها وقضى أكثر سني بعثته، والتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 كانت بدايتها مركز النواة من النهضة العربية التي أخذت تباشيرها تظهر في أواخر العصر الجاهلي، ثم توَّجها ظهور الإسلام. ومدينة يثرب التي هاجر إليها، وأقام فيها دولة وحَّدت العرب وقادت نهضتهم الكبرى. والتي كانت بذاتها مستعدة لتلقي هذا الحدث الخطير، ثم النهوض بذلك العبء الجليل. والنتف القليلة التي وردت في هذه الكتب القديمة عما كانت عليه الحالة قبل الإسلام، إنما كانت استطرادية من ناحية، وقد غلبت عليها مسحة التعميم والإطلاق من ناحية أخرى. كما أنه لا يخلو كثير منها من طابع الصنعة والوضع والتلفيق. وحتى أقدم هذه الكتب وأكثرها جدية وأمانة. وأشدها رغبة في التحفظ والتحوط، من أمثال سيرة ابن هشام، وهي أقدم ما حفظ لنا الزمن مما كتب في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتاريخ الطبري وهو مثل ابن شهام قدمًا وجدية وأمانة، وطبقات ابن سعد وهي كذلك من كتب السيرة القديمة المعتبرة، نجد في كثير مما روته من الروايات وسردته من الأخبار -ولاسيما فيما يتعلق بالفترة التي سبقت الإسلام- ذلك الطابع ظاهرًا من الصنعة والوضع والتلفيق، قد دونوها كما وصلت إليهم، أو نقلوها عمن سبقهم، منها ما أشاروا هم إليه، ومنها ما لم يشيروا إليه، ولكنه لا يخفي على نظر الباحث المدقق. هذا بالإضافة إلى أن كثيرًا مما ورد من روايات وأخبار عن حالة العرب في الجاهلية، يقف منها الباحث موقف التحفظ الشديد؛ إذ يلمس فيها القصد ظاهرًا في التقليل من شأن العصر الذي سبق البعثة النبوية؛ من حيث الحضارة المادية والأدبية والمدارك العقلية. والحقيقة أن المسلمين الأولين أخذوا بالنهضة الإسلامية وفتنوا بما جاء به الإسلام من مُثل، وما حققه للعرب من وحدة وحضارة، فضربوا صفحًا عن كل ما سبقه، وكأنهم حين تخلصوا من الوثنية وعفوا عن آثارها ألحقوا بها كل ما كان من نظم الحياة وشئونها قبل الإسلام، وكأنما الأمة العربية -عندهم- ولدت بظهور الإسلام ميلادًا جديدًا. وإلى جانب كتب السيرة توجد بعض الكتب والرسائل، وبعض الفصول والبحوث في الكتب العربية الأدبية والتاريخية والفنية عن حياة العرب قبل الإسلام وعاداتهم وتقاليدهم. غير أن هذه كلها قد كتبت بأسلوب عام مطلق، لم يتناول البيئة العربية التي نشأ فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقامت فيها رسالته بصورة خاصة من ناحية، وأن ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ورد فيها من روايات جاءت متفرقة غير مرتبة، وقد اختلط فيها الغث بالسمين، والباطل بالصحيح؛ بحيث لا يسع الباحث إلا أن يقرأها بتحفظ شديد، وإلا أن يتردد كثيرًا في أخذها كحقائق تاريخية؛ أو حتى كروايات موثوق بها، من ناحية أخرى؛ وذلك لأن هذه الروايات ظلت محفوظة في الصدور تتداولها الألسن، ولم تدون إلا في وقت متأخر، كانت الأهواء قد لعبت فيها دورًا كبيرًا؛ بما أصاب الوحدة الإسلامية من تفكك، بظهور الفرق والأحزاب السياسية. وقد استند أصحاب هذه الكتب والرسائل والبحوث إلى هذه الروايات وأخذوها كحقائق تاريخية بنوا عليها أبحاثهم وتقريراتهم دون تمحيص على الأغلب. وما وصل إلينا من الشعر المنسوب إلى الجاهليين -بغض النظر عن صحة نسبته إليهم أو عدم صحتها- لا يمكن أن نجد فيه مرآة صادقة للحياة العربية قبل الإسلام؛ وذلك لأن هذا الشعر إنما عَني بحياة البادية ولم يمس حياة الحضر إلا مسًّا رفيقًا هينًا، فوق أنه نحا نحوَ تمثيل الجانب المثالي في الخلق العربي من شجاعة وكرم ومروءة، وذلك لما طبعت عليه حياة الفخر والمباهاة من تمدح وتزيد، كما سلك جانب التطرف حين عدد المثالب والمذام. هذا إلى خلوه تقريبًا من تصوير الحياة العامة واقتصاره على الجانب الوجداني من حياة الأفراد. والمؤرخون المحدثون الذين تناولوا كِتابة السيرة النبوية أو تاريخ الصدر الأول للإسلام، وتطرقوا إلى وصف مظاهر الحياة العربية في الجاهلية؛ لم يصوروا ذلك العصر وتلك البيئة تصويرًا يمكن أن يقال إن فيه غناء؛ على الرغم مما امتازت به بعض كتبهم من سلامة المنهج وقوة البحث؛ وذلك لأن بعضهم تناول موضوعًا واسعًا، وبعضهم قصد إلى معالجة جانب خاص أو تناول تاريخ الرسالة النبوية وحدها دون العناية بالحياة العربية قبلها، مع أن دراسة تاريخ الرسالة النبوية لا يمكن أن يكون واضحًا ومفهومًا إلا بدراسة العصر نفسه. ولم يتناول أحد -بصورة علمية منهجية- دراسة تاريخ المدينتين الحجازيتين -مكة والمدينة- في بحث متخصص، على اعتبار أنهما حاضرتا الحجاز، وقاعدة البيئة العربية التي قامت فيها النهضة في الجاهلية والإسلام. وقد كتب كثير من المستشرقين عن ذلك العصر في سياق ما كتبوا عن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وظهور الإسلام. غير أن للمستشرقين طرائق في البحث والاستنباط قد تجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الكثيرين منهم يتحكمون تحكمًا في الآراء والنتائج، ويقعون في أوهام وأغلاط خطيرة، إما بسبب تعظيم خبر أو رواية قد لا تكون صحيحة في أصلها، أو تكون قد فهمت على غير وجهها الصحيح، أو رجحت دون مبرر صحيح للترجيح. وإما بسبب عدم القدرة على فهم روح اللغة العربية وأسرارها البلاغية. كما أن بعضهم في كثير من الأحيان يفترضون افتراضات تجعلهم يقيسون مع الفارق، ويسوغون ما لا يمكن تسويغه،؛ بسب عدم قدرتهم على فهم البيئة العربية فهمًا صحيحًا. فوق أنهم استندوا أصلًا إلى المصادر العربية القديمة وفيها من المآخذ ما أشرنا إليه، ولم تكن لهم القدرة اللغوية على تمحيص ما بها تمحيصًا صحيحًا. كما أن بعضهم قد كتب في تاريخ الإسلام لغرض معين، فكتب ما كتب بدافع الهوى، وأحيانًا بدافع الحقد. فلجئوا إلى كل شاردة من الروايات مهما كانت ضعيفة أو تافهة في سبيل تثبيت نظرية خاصة يريدون الإدلاء بها؛ فتورطوا في بحوثهم، وخرجوا بها عن جادة العلم والبحث والأمانة. لكل ما سبق كان أمرًا ضروريًّا أن يقوم أحد الباحثين بدراسة علمية لهذه الفترة، وبخاصة تاريخ المدينتين الحجازيتين -مكة والمدينة- في العصر الجاهلي وعهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى تسد هذه الثغرة الظاهرة في الدراسات العربية والإسلامية. وإذا كنا نريد أن ندرس الحياة الجاهلية دراسة موثقة صحيحة؛ فعلينا أن ندرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، على أن يكون مرآة صادقة لهذا العصر، وليس هناك مصدر ثابت لا سبيل إلى الشك فيه غير القرآن الكريم، فضلًا عن أنه أصدق مرآة للعصر الجاهلي ولحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والدعوة الإسلامية نفسها. وحين نقول: إن القرآن مرآة الحياة الجاهلية فإنما ذلك لأنه ليس من اليسير أن نفهم أن القرآن نزل ليتلى على ناس لا يفهمونه ولا يقفون على أسراره ودقائقه؛ فإن الذين تليت عليهم آياته أعجبوا به أشد الإعجاب، ولا يكون ذلك إلا أن تكون بينهم وبينه صلة، هي هذه الصلة بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه. كذلك فإن العرب قد آمن بعضهم بالقرآن وناهضه بعضهم الآخر، وجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه وقاومه، ولا يكون ذلك إلا لأن الناس فهموا القرآن ووقفوا على أسراره، وإلا لما آمن به مَن آمن وجادل فيه وناهضه من جادل وقاوم، وليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب، وإلا لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم وناهضه وجادل فيه آخرون. إنما كان القرآن جديدًا حقًّا في أسلوبه، وفيما يدعو إليه، وفيما شرع للناس من دين وقانون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقد عرض القرآن للحياة العربية من جوانبها المختلفة: الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. فأما من الناحية الدينية، فقد رد القرآن على الوثنيين، ورد على اليهود، ورد على النصارى، وعلى الصابئة، والمجوس. وهو لم يرد على يهود فلسطين، ولا نصارى الروم، ولا مجوس الفرس، ولا صابئة الجزيرة وحدهم، وإنما رد على فرق من عرب الجزيرة العربية كانت تمثلهم وتدين بهذه الديانات والنحل كلها؛ فهو يبطل منها ما يبطل، ويؤيد منها ما يؤيد، وهو يلقى من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من سلطان على نفوس الناس، وبمقدار ما لأصحابها من قيمة وخطر في الحياة السياسية والاجتماعية في بلاد العرب. ولا نجد هذا واضحًا في مصدر من مصادر البحث يمكن أن نرجع إليه غير القرآن الكريم. فالقرآن إذن أصدق تمثيلًا لحياة العرب الدينية من كل مصدر آخر، وهو إذ يصور لنا هذا الجانب من حياتهم إنما يصورهم أصحاب دين يجادلون عنه ويقاتلون في سبيله. والقرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها؛ وإنما يمثل حياة عقلية قوية عند العرب، فهو يمثلهم ذوي قدرة على الجدل والخصام، ويشهد لهم في هذا بقوة الجدل والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة، وهم لم يكونوا يجادلون في أمور بسيطة هينة من أمر الدين، وإنما كانوا يجادلون في مسائل عويصة معضلة أنفق الفلاسفة وينفقون فيها حياتهم دون أن يوفقوا لحلها: كانوا يجادلون في الخلق، والبعث والحساب، وفي إمكان اتصال الله تعالى بالناس، وفي الوحي والمعجزة وما إلى ذلك. والقرآن يصورهم أذكياء علماء، ولا يصفهم جهلاء ولا أغبياء، ولا يصفهم بالغلظة والخشونة كما يصفهم الواصفون. ولا نقول هذا على العرب على الإطلاق، وإنما كان العرب كغيرهم من الأمم القديمة، منقسمين إلى طبقتين: طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالجاه والمال والذكاء والعلم. وطبقة الذين لا يكادون يملكون حظًّا من هذا كله؛ وإنما كانوا تبعًا لسادتهم يسيرون حيث ساروا. وكذلك مثل القرآن العرب؛ فتحدث عن كبرائهم وما هم عليه من نعمة وما هم عليه من معرفة، كما تحدث عن جهالهم، وصور جفاء أعرابهم وغلظة أكبادهم وموت العاطفة عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والقرآن لا يمثل العرب أمة مدنية مستنيرة فحسب؛ بل ويمثلها أمة غير معتزلة لغيرها من الأمم، فهي ليست قابعة في صحاريها لا تعرف العالم ولا يعرفها العالم، وإنما كانت على صلة وثيقة بجيرانها من الأمم الأخرى، تشارك في نشاط العالم السياسي، وتهتم بسياسات الأمم الكبرى في ذلك الوقت من فرس وروم وأحباش، ولها مع هذه الأمم نشاط اقتصادي كبير؛ تحمل التجارة العالمية عبر صحرائها بين الشرق والغرب في رحلتي الشتاء والصيف. بل ويصورها القرآن عارفة بالبحر تتخذه طريقًا وتحصل منه على منافع كثيرة من الصيد والغوص، واحتفاء القرآن بالبحر وما يجري عليه من منشآت في البحر كالأعلام، ومَنُّهُ على العرب بالنعم التي يحصلون عليها من البحر كبير، يقطع بأن عرب الجزيرة العربية لم يكونوا يجهلون البحر، بل ولهم فيه نشاط ملحوظ وفائدة منه عظيمة. فالعرب إذن لم يكونوا على غير دين، ولم يكونوا جهالًا ولا غلاظًا، ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى غيرهم من الأمم. وكما عرض القرآن لحياة العرب الاقتصادية الخارجية، كذلك عرَض لحياتهم الداخلية. وقسمهم في هذه الناحية كذلك إلى: أغنياء مستأثرين بالثروة مسرفين في الربا، وفقراء معدمين ليس لهم من المال ما يقاومون به هؤلاء الأغنياء المرابين. وكما وقف القرآن يأخذ بيد الجهال ينير عقولهم ويرفع من كرامتهم، كذلك أخذ جانب الفقراء المستضعفين في صراحة وقوة وناضل عنهم وعن حقوقهم، وحارب المسرفين في ظلمهم. وسلك في ذلك مسالك مختلفة: من القوة والعنف حين حرم الربا وحمل على المرابين وأنذرهم بالحرب من الله ورسوله. ومن اللين والرفق حين أمر بالبر وحبب في الصداقة. ومن المزاوجة بين اللين والشدة حين فرض الزكاة وجعل للفقراء حقًّا في مال الأغنياء. كما أن القرآن عرض لتنظيم المعاملات ليحفظ الحقوق وليقيم العدالة بين المتعاملين. وبالجملة فقد عرض القرآن لكل الحياة العربية من كافة نواحيها، لذلك كان مرآة صادقة للحياة العربية في الجاهلية.1.   1 انظر طه حسين: في الأدب الجاهلي "القرآن مرآة الحياة الجاهلية" ص 70-80 طبع المعارف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وإذا كان القرآن مرآة للحياة الجاهلية، فهو مرآة أشد صفاء لحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأطوار الرسالة الإسلامية والأحداث التي مرت بها، ولا يمكن أن يكون كتاب أوفى من القرآن وأوضح في تصويره في هذه الفترة. والمصدر الثاني الذي يجب أن نعتمد عليه بعد القرآن هو الحديث الشريف، فإن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بما فيه من أوامر ونواه، قد تناولت الحياة التي كانت جارية في ذلك الوقت، وعرضت لكل ما كان قائمًا من نظم الحياة الدينية والفكرية والاجتماعية والسايسية والاقتصادية، فأقرت ما رأته صالحًا، وعدلت ما يستقيم بالتعديل، ونهت عما رأته ضارًّا أو فاحشًا من حياة الناس؛ فالحديث الشريف لذلك هو المصدر الذي يلي القرآن في الأهمية، على أن يرجع إليه في كتب الحديث الصحاح، وعلى أن يلم الباحث بما وضع علماء الحديث من قوانين التعديل والجرح لمعرفة أوثق الأحاديث. وإذا كنا قد أخذنا القرآن والحديث مصدرين أساسيين لبحث هذه الفترة من حياة الأمة العربية، فليس معنى هذا أننا نهمل المصادرالأخرى من شعر وتاريخ وتراجم وأنساب، وكل ما عرض له القدماء من ذكر للحياة العربية. بل نأخذ من كل منها ما يعطي من طاقة؛ لتكون الصورة التي نرسمها واضحة تامة، بشرط ألا يناقض ما نأخذ منها ما له ذكر في المصدرين الأساسيين. وأحسب أنني حين التزمت بالقيام بهذا البحث -الذي أقدمه للقراء في هذا الكتاب- قد بذلت ما في وسعي من طاقة، وأعطيته ما يتناسب مع أهمية الموضوع من جهد ووقت. وكل أملي أن أكون قد فتحت به بابًا لدراسة هذه الفترة العظيمة الأهمية من حياة العرب والإسلام. وحسبي هذا جزاء مكافئًا، والله وحده هو الذي يتولى الجزاء. ومنه الهدى وهو ولي التوفيق.. القاهرة في أول نوفمبر 1965 الدكتور أحمد إبراهيم الشريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 جغرافية الجزيرة العربية والتشكيل القبلي شبه جزيرة العرب * ... الفصل الأول: شبه جزيرة العرب هي أكبر شبه جزيرة في العالم، يبلغ متوسط عرضها سَبعمائة ميل، ومنتهى طولها ألف ومائتا ميل، ومساحتها تبلغ حوالي مليون مربع1. ويطلق العرب عليها -تجاوزًا- اسم جزيرة العرب2؛ يرون البحار والأنهار تكاد تحيط بها من جميع أقطارها وأطرافها، فالخليج العربي، والبحر العربي، والبحر الأحمر تحدها من الشرق والجنوب والغرب، ويكمل الفرات الحد الشرقي. كما يكمل النيل الحد الغربي؛ ليلتقيا بالحد الشمالي وهو البحر المتوسط. وهذا التحديد الذي يقول به الهمداني يدخل بلاد الشام كلها، والبادية التي بين العراق والشام، وبادية سيناء في جزيرة العرب3، وهو يتفق مع التحديد الذي قال به "هيرودوت" حيث اعتبر النيل الحد الغربي لقارة آسيا وجعل صحراء مصر الشرقية كما هي معروفة الآن جزءًا من الجزيرة العربية4، والفارق بين تحديد الهمداني وهيرودوت أن الأول لم يدخل صحراء مصر الشرقية في جزيرة العرب. وبتحديد الهمداني أخذ بعض الجغرافيين المحدثين5، ويختلف الجغرافيون في الحد الشمالي؛ فمنهم من يجعله صحراء النفود، وبذلك يخرجون بادية الشام من جزيرة العرب، غير أن طبيعة الأرض الجيولوجية تدخل بادية الشام وسيناء فيها، إذ إنها جزء لا يختلف من حيث طبيعته الصحراوية وخواصه عن سائر أنحاء بلاد العرب6.   1 حافظ وهبة: جزيرة العرب في القرن العشرين ص1. L.D. Stamp. Asia A Renional adn Economic Geogrophy. P. 133. 2 الهمداني: صفة جزيرة العرب 46- 47/ الآلوسي: بلوغ الأرب 1/ 187. ياقوت: معجم البلدان 1/ 100. 3 الهمداني: 47. 4 هيردوت Herodotas, Book 11-16-17 5 Stamp. of cit. p. 133 6 حتى: تاريخ العرب 17 جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام 1/ 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وعلى ذلك فحد جزيرة العرب من الشرق بحر عمان وخليج البصرة -خليج العرب- ونهر الفرات، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الغرب البحر الأحمر وبرزخ السويس -قناة السويس حاليًا- ومن الشمال البحر المتوسط. وتحتل جزيرة العرب موقعًا ممتازًا بين قارات العالم الثلاث القديمة، فهي تقع في الركن الجنوبي الغربي من قارة آسيا، كما تتصل بالقارة الأفريقية في ركنها الشمالي الشرقي حيث برزخ السويس قديمًا وقناة السويس في الوقت الحاضر، كما أنها تشرف بحدها الشمالي على شرق البحر المتوسط الذي يصلها بقارة أوربا. أما من ناحية الخريطة الحضارية للعالم قبيل الإسلام؛ فإنها تقع عند نقطة التقاء الحضارتين السائدتين يومئذ وهما حضارة الفرس وحضارة والروم. وإذا نظرنا نظرة عامة إلى خريطة بلاد العرب رأينا أنها أرَضون واسعة تنحدر تضاريسها من الغرب نحو الشرق، وهي مرتفعة في الغرب حيث جبال السراة1 الممتدة من سورية وفلسطين إلى اليمن. وهي توازي ساحل البحر الأحمر وتقترب منه في مواضع عديدة. ويتراوح ارتفاع هذه الجبال ما بين عشرة آلاف قدم وثلاثة آلاف قدم. فتبلغ قممها في الشمال -في مدين- وفي الجنوب -في اليمن وعسير- حوالي عشرة آلاف قدم، بينما تكون خلف مكة ثمانية آلاف قدم، وقرب المدينة تبلغ ثلاثة آلاف قدم2، وتحصر بينها وبين ساحل البحر الأحمر أرض سهلية ضيقة تعرف بتهامة، تشرف عليها هذه المرتفعات وتنحدر إليها انحدارًا شديدًا قصيرًا، وسواحلها المهيمنة على البحر يصعب رسو السفن فيها لخلوها من المرافئ الصالحة، ولوجود الشعب المرجانية التي تمتد في بعض المواضع بعيدًا في البحر 3. وتتألف الأراضي الوسطى من هضبة تسمى نجد، وتختلف في الارتفاع ما بين ستة آلاف قدم إلى أربعة آلاف قدم ما بين عسير والطائف، وإلى ألفين ومائتي قدم عند العلا4. وحد نجد الغرب واضح بجبال السراة. أما حدها الشرقي فهو غير واضح وربما امتد إلى قرب خليج العرب.   1 السراة: أعلى كل شيء. تاج العروس 10/ 174. البلدان 10/ 104- 205. . Stamp. P. 134 K, S. Twlchell, Saudi Arabia. P 10 3 جورج فضلو: العرب والملاحة في المحيط الهندي ص25. Twitchell. op. cit. p, 134 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وتمتد في الأقسام الجنوبية من شبه الجزيرة سلاسل من الجبال متفاوتة الارتفاع تشرف على المنخفضات الساحلية، وتكثر في الوديان التي تفصل بين هذه السلاسل الجبلية وتأخذ مختلف الاتجاهات، حيث تمثل اتجاهات المياه والسيول. ويبلغ ارتفاع الجبل الأخضر الذي يقع في الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة، أي في عمان، زهاء عشرة آلاف قدم1. وللحِرار أهمية خاصة في التشكيل الجغرافي للجزيرة العربية، وهي تكثر في شبه جزيرة العرب وخاصة في الأقسام الغربية. وتمتد حتى تتصل بالحرار التي في بلاد الشام في حوران ولا سيما في الصفاة2، كما توجد في المناطق الشرقية الجنوبية من نجد، وفي المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية، وقد ذكر علماء العرب من المؤرخين والجغرافيين أسماء عدد منها، كما عثر السياح الأجانب على عدد منها3. والحرة أرض بركانية وجمعها حرار، يقال لها اللابة واللوبة4 وقد تكونت من فعل البراكين، ويشاهد منها نوعان: نوع يتألف من فجوات البراكين نفسها، ونوع يتألف من حممها اللابة Lava التي كانت تقذفها فتسيل على جوانب الفتحة، ثم تبرد وتتفتت بفعل التقلبات الجوية، فتكون ركامًا من الأحجار البركانية التي تغطي الأرض بطبقات قد تكون رقيقة وقد تكون سميكة، وقد وصفها العلماء فقالوا: الحرة أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار5، ويكون ما تحتها أرضًا غليظة من قاع ليس بأسود، وإنما سودها كثرة حجارتها وتدانيها. وتكون الحرة مستديرة فإذا كان لها امتداد مستطيل ليس بواسع فذلك الكراع6.   1 جواد على: 1/ 87. Stamp: op. cit. p. 134 C,M. 42-417 vol.P.P.Daughty, Travels in Arabia Deserta. 3 جواد على: 1/ 89 Allics Musil, in The Arabian Dsert 4 البلدان 17/ 2. لسان العرب 2/ 242. الطبراني 3/ 221. 5 البلدان 17/ 3. المصباح المنير "طبع وزارة المعارف عام 1920" 1/ 1771. 6 الحرار: أنواء البراكين. اللابة أو اللوبة: المناطق التي غطتها حمم البراكين وسالت فوقها وجفت. الكراع: أعناق الحرار. انظر لسان العرب 2/ 242، 10/ 182. القاموس 3/ 78 المصباح المنير 2/ 729 "الكراع الأنف السائل من الحمة، وأكارع الأرض أطرافها، والواحد أيضًا كراع ومنه كراع الغميم أي طرفه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وقد اشتهر كثير من مناطق الحرار بالخصب والنماء، وبكثرة المياه فيها؛ ولا سيما حرار المدينة التي استغلت استغلالًا جيدًا، ومنها خبير فكثرت قراها وكثر سكانها. حتى قيل إنها خير قرى عربية، غير أن ظهور العيون فيها بكثرة، جعلها موطنًا من مواطن الحمى. اشتهر أمرها في الحجاز، حتى قيل حمى خيبر1. أما من الناحية الهدروجرافية فإن بلاد العرب في الوقت الحاضر في جملة البلاد التي تكاد تنعدم فيها الأنهار والبحيرات، ويندر سقوط الأمطار عليها؛ ولذلك صارت أكثر بقاعها صحراوية قليلة السكان. غير أنها كثيرة الأودية التي تسيل في بعضها المياه عند سقوط الأمطار، وبعضها طويل يسير في اتجاه ميل الأرض. كما أن بعضها الآخر وبخاصة التي تصب في البحر الأحمر قصير عميق المجرى شديد الانحدار، تنحدر فيه السيول بشدة إلى البحر فتضيع فيه، وربما كانت في بعض الأحيان خطرًا يهدد القوافل والمدن والأملاك، ويأتي على الناس بأفدح الخسائر 2. وليس في شبه جزيرة العرب نهر واحد بالمعنى المعروف من الأنهار 3، وما فيها من جداول غير صالح للملاحة4، فهي إما قصيرة سريعة الجريان شديدة الانحدار، أو ضحلة تجف في بعض المواسم. غير أن العلماء يستنتجون من اتجاه الأودية ومن وجود العاديات والخرائب وآثار السكنى على أطرافها، والترسبات التي تمثل قيعان الأنهار، أن هذه الأودية كانت في الحقيقة أنهارًا في يوم من الأيام، وأن جوانبها كانت مأهولة بالسكان زاخرة بالحياة، ويؤيد هذا الاستنتاج ما ورد في كتب اليونان والرومان من وجود أنهار طويلة في بلاد العرب، فقد ذكر هيرودوت اسم نهر دعاه كورس قال عنه: إنه من الأنهار العظيمة، وإنه يصب في البحر الأريتري 5. ويقصد به البحر الأحمر.   1 البلدان 8/ 410. كأن به إذ جئته خيبرية ... يعود عليه وردها وملالها قلت لحمى خيبر استعدي ... هالك عيالي فاجهدي وجدي وباكري بصالب وورد ... أعانك الله على ذا الجند 2 حتى ص 20 البتنوني الرحلة الحجازية ص 259 "عن السيول انظر البلاذري فتوح البلدان والطبري، والأزرقي في أخبار السيول". 3 الإصطخري: المسالك والممالك ص21. 4 حتى 31. جورج فضلو. العرب والملاحة ص 25. 5 جواد علي 1/ 18. Hcrodotus: vol. l. p. 214 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ويرى بعض العلماء أن المكان الذي ذكره هيرودوت هو وادي الحمض المار بشمالي قرح1. -على مسافة 43 كيلو مترًا من الحجر-. وقد كانت عامرة فيما مضى بالزروع والبساتين وهي المعروفة ببساتين قرح، ويوجد بالقرب منها سقيا يزيد، أو قصر عنتر، كما تسمى في الوقت الحاضر على بعد 98 ميلًا من شمال المدينة2. كما ذكر بطليموس اسم نهر عظيم سماه lar زعم أنه ينبع من منطقة نجران، أي من الجانب الشرقي من السلسلة الجبلية، ثم يسير نحو الجهة الشمالية الشرقية مخترقًا بلاد العرب حتى يصب في الخليج العربي3. ويرى بعض العلماء أن هذا النهر الذي يشير إليه بطليموس هو وادي الدواسر، والذي تمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول4. ومن آثار السدود والنواظم التي ترجع إلى ما قبل الإسلام يمكن الاستدلال على أن العرب كانوا على علم واسع بتنظيم أمور الإرواء، والاستفادة من مياه الأمطار والسيول والأنهار، كما تدل كثرة المصطلحات في اللهجات العربية الشمالية والجنوبية على معرفة العرب بأنواع الآبار، والسدود، والمساك، والنحايت وغير ذلك من الوسائل التي استخدمت للحصول على الماء 5. وإذا كانت البحار تحيط بجزيرة العرب؛ فإن الجو البحري لم يستطع أن يخفف من حدة الحرارة فيها أو يتغلب على جفافها، فإن الأبخرة المتصاعدة من البحر لا تكاد تصل إلى أواسط الجزيرة العربية، إذ إن الرياح السمائم الشديدة الحر تقاومها مقاومة شديدة، وتمنعها في الغالب من الوصول إلى أواسط شبه الجزيرة 6، على أن الأقسام   1 البلدان 15/.32- 321 "وكانت من أسواق العرب في الجاهلية وزعم بعضهم أن بها كان هلاك عاد قوم هود، ما يدل على أنها من المواضع القديمة في بلاد العرب". 2 "إصطبل عنتر" وهبة: 2- البلدان 10/ 228. 3 جواد علي 1/ 98. 4 وهبة 54. 5 بئر سك= ضيقة الخرق وقيل الضيقة المحفر من أولها إلى آخرها (لسان 40/ 44 والمسك، والمساك الموضع الذي يمسك الماء) (اللسان 12/ 378) . جواد علي: 1/ 101. 6 حتى 9. جواد علي 1/ 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الجنوبية كثيرة المطر، تجلبه إليها الرياح الموسمية. ولأهل اليمن عناية بتصريف المياه والانتفاع بها منذ زمن بعيد، وقد أشار القرآن الكريم إلى ما كان في اليمن من حضارة وعمران وخصب ورخاء فقال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ] . أما بقية بلاد العرب فتتكون من صحار، وسهول تغلب عليها الطبيعة الصحراوية. وتدل البحوث والدراسات التي قام بها السياح والعلماء عن بلاد العرب. على أن تغييرًا كبيرًا طرأ على جوها، وأن هذا الجفاف الذي نعهده الآن في هذه البلاد لم يكن على النحو الذي كانت عليه في العصور التي سبقت الإسلام، وأن ذلك الجفاف أثر تأثيرًا كبيرًا في شبه جزيرة العرب. فجعل أكثر بقاعها صحاري جرداء؛ كما أثر في حالة سكانها، فقاوم نشوء المجتمعات الكبرى وأثر تأثيرًا خطيرًا في تاريخ الأمة العربية، وفي حدوث الهجرات1. ويرى العلماء أن الرياح الغربية الباردة المشبعة بالرطوبة كانت تصل إلى أرض شبه الجزيرة العربية وتنزل المطر عليها، وأن هذه البقاع الصحراوية كانت خضراء آهلة بالسكان، فمثلًا المنطقة الواقعة بين العلا، ومُعان من المناطق الصحراوية الآن، وقد كانت من مناطق الغابات المكتظة بالأشجار المملوءة بالحيوانات المفترسة2. وكانت جبال الطائف تمون مكة بالأخشاب الصالحة للبناء والوقود؛ كذلك المنطقة الواقعة بين مكة وعرفة كانت حتى القرن السادس عشر الميلادي مغطاة بالأشجار وبالعوسج والسلم، وهي من الشجيرات الصحراوية، وقد عرف وادي القرى -الذي لا بد أن يكون قد سمي بذلك لكثرة القرى فيه -بكثرة بساتينه ومياهه وقراه، وهو طريق عالمي قديم تسلكه القوافل في طريقها بين الشام واليمن، أما اليوم فقد جفت ينابيعه وفقد أكثر قراه، واضطر أهله إلى الهجرة أو إلى المعيشة المتنقلة كما يفعل الأعراب3. كما أن المسافة بين اليمن والشام كانت عامرة بالقرى زاخرة بالحياة، حتى إن المسافر لم يكن في حاجة إلى التزود 4، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك في حديثه   1 جواد علي 1/ 97 وانظر عن تغيير المناخ 1. Hnzayyin, Aradia and the far East. P.P2-4 2 Op. Cit. P.5 3 البلدان 15/ 338. 4 الإصطخري 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 على السبئيين: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ] 1. وهناك أمثلة تاريخية كثيرة ذكرت عن أقوام هلكت كعاد وثمود وأصحاب الأيكة2، ومدن ذكرها الكتاب اليونانيون والرومان لم يبق لها أثر، وكتابات عثر عليها السياح في مواضع صحراوية مهجورة3. كل ذلك يدل على مدى التغيير الذي طرأ على بلاد العرب -سواء أكان من الناحية المناخية أم من الناحية الجيولوجية 4- فأدى إلى مقاومة الحضارة، ومنع نشوء المجتمعات الكبرى بها، وحول أراضيها إلى بقاع صحراوية، وطبع الحياة فيها بطابع الرحلة والانعزالية الاجتماعية والسياسية. ويميل كثير من السياح وعلماء طبقات الأرض الذين جابوا أنحاء شبه الجزيرة إلى تأييد القول بظهور الجفاف في الألف الثاني قبل الميلاد5.   1 تفسير النسفي 3/ 247. 2 القرآن الكريم: الفجر: 6- 9. الأعراف: 33-79. الشعراء: 141-159الشمس:11-15. 3 جواد علي: 1/ 115. 4 Huzyyin, oit. P.5 5 جواد علي: نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أقسام شبه الجزيرة العربية قسم العرب جزيرتهم تقسيمًا مسايرًا لطبيعتها الجغرافية إلى خمسة أقسام، وهي: تهامة، و الحجاز ، ونجد، والعروض، واليمن. وزاد الإصطخري وابن حوقل ثلاثة أصقاع هي بادية العراق، وبادية الجزيرة، وبادية الشام1. ويجمل الهمداني أقوال الجغرافيين العرب عن هذا التقسيم فيما يلي:- فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزولها وتوالدوا فيها على خمسة أقسام عند العرب في أشعارها وأخبارها: تهامة - الحجاز- نجد- العروض- اليمن. وذلك أن جبل السراة، وهو أعظم جبال العرب وأذكرها، أقبل من قعرة اليمن حتى بلغ أطراف الشام، فسمته العرب حجازًا؛ لأنه حجز بين الغور وتهامة وهو هابط، وبين نجد   1 الإصطخري: 20- 21. القلشقشندي: صبح الأعشى 4/ 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وهو ظاهر. فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه إلى أسياف البحر من بلاد الأشعريين وعك وكنانة وغيرها، ودونها إلى ذات عرق والجحفة وما صاقبها وغار من أرضها: الغور؛ غور تهامة، وتهامة تجمع ذلك كله. وصار ما دون ذلك الجبل من شرقيه من صحاري نجد إلى أطراف العراق والسماوة وما يليها: نجدًا، ونجد تجمع ذلك كله. وصار الجبل نفسه سراته، وهوالحجاز، وما احتجز به في شرقيه من الجبال وانحاز إلى ناحية فيد والجبلين إلى المدينة، وراجعًا إلى أرض مذحج من تثليث وما دونها: حجازًا، والحجاز يجمع ذلك كله. وصارت بلاد اليمامة والبحرين وما والاهما: العروض، وفيها نجد وغور لقربها من البحر، وانخفاض مواضع منها ومسايل أودية فيها، والعروض يجمع ذلك كله. وصار ما خلف تثليث وما قاربها إلى صنعاء، وما والاها من البلاد إلى حضرموت والشحر وعمان، وما يلي ذلك: اليمن، وفيها التهائم والنجد. واليمن تجمع ذلك كله. هذا إجمال تقسيم الجزيرة تقسيمًا طبيعيًّا كما يراه جغرافيو العرب. والقسم الذي يهمنا الحديث عنه في هذا البحث هو الحجاز؛ ولذلك نعرض له بشيء من التفصيل:   1 الهمداني: صفحة 47- 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الحجاز يقول الجغرافيون العرب: إن الحجاز هو الجبال الحاجزة بين الأرض العالية نجد وبين الساحل الواطئ تهامة، فهو إذن الجبال الممتدة من خليج العقبة إلى عسير. لكن اسم الحجاز في العرف يشمل تهامة أيضًا، وقد عد بعض العلماء تبوك وفلسطين من أرض الحجاز1. طول الحجاز من الشمال إلى الجنوب حوالي 700 ميل، وعرضه من الشرق إلى الغرب 350 ميلًا2. وتعد جبال السراة العمود الفقري لشبه جزيرة العرب. ويجعلها الجغرافيون العرب قاعدة لتقسيماتهم، كما أشرنا من قبل، وتتصل السلاسل بسلسلة جبال الشام المهيمنة على البادية، وبعض قمم هذه الجبال الحجازية   1 البلدان: 3/ 218 "مطبعة السعادة بالقاهرة". 2 وهبة: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 مرتفعة وقد تتساقط الثلوج عليها كجبل دباغ الذي يرتفع 2.300 م عن سطح البحر. وجبل وتر، وجبل شيبان. وتنخفض هذه السلاسل عن دنوها من مكة فتكون القمم في أوطأ ارتفاع لها، ثم تعود بعد ذلك للعلو، فتصل في اليمن إلى مستوى عال حيث تتساقط الثلوج على قممها1. ومن جبال الحجاز الجبال الواقعة في منطقة الطائف ومكة والمدينة، وجبال الطائف يبلغ علوها ستمائة متر، وجبل كَرَا في الطريق بين مكة والطائف ويبلغ علوه مائتي متر. وجبل رضوى بين المدينة وينبع ويرتفع إلى مائتي متر، وقد قال عنه ياقوت: إنه جبل منيف ذو شعاب وأودية، وإنه كثير المياه والأشجار2. وقد ذكر الشعراء جبل رضوى كثيرًا. واتخذه العرب مثلًا للعزة والرسوخ3. أما منطقة السهول الواقعة بين جبال السراة والبحر الأحمر فهي سهول ضيقة في الغالب، تعرف بتهامة، تتغير في الاتساع من الجنوب إلى الشمال، فتكون عند اليمن حوالي 40 ميلًا، ثم تأخذ في الضيق حتى تبلغ أقصى ضيق لها عند العقبة4، وهذه السواحل حارة رطبة في الغالب غير صحية في بعض الأماكن 5. ويطلق على أقسام التهائم الغور، أو السافلة لانخفاض بقاعها 6، ويقال القسم الشمالي من الحجاز أرض مدين وحَسْمى نسبة إلى سلسلة الجبال المسماة بهذا الاسم 7. وهو ما يلي أيلة إلى الجنوب، وتتخللها أودية محصورة بين التيه وأيلة من جهة، وأرض بني عذرة من ظهر حرة نهيل بقرب خيبر من جهة أخرى. وكانت تسكنها في الجاهلية قبائل جذام 8.   1 حتى: 21. الواسعي: تاريخ اليمن: 80. 2 البلدان: 9/ 51 الإصطخري: 25. 3 قال حسان: لنا حاضر نعم وماض كأنه شماريخ رضوى عزة وتكرما وقال أبو العلاء: وقد نطحت بالجيش رضوى فلم تنل ولزت برايات الخميس قباء 4 Twitchell. op. cit. P. 11 5 Ibid. p. 14 6 البلدان: 14/ 217، 5/ 63. 7 البلدان: 7/ 258- 259. 8 نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أودية الحجاز : وفي الحجاز أودية تسيل من الحرار صوب الشرق والغرب إلى نجد من ناحية. وتهامة فبحر القلزم -البحر الأحمر- من ناحية أخرى. وأعظم أودية الحجاز وادي إضم، ويسمى اليوم وادي الحمض الذي سبق الإشارة إليه؛ وهو يسيل من الجنوب الشرقي لحرة خيبر، ويسير نحو الجنوب الغربي حتى يقارب يثرب. حيث تتصل به أودية فرعية منها وادي العقيق، ويتصل به كذلك وادي القرى، وهو يستمد مياهه من السيول التي تنحدر إليه من العيون التي عند خيبر، ثم يتجه غربًا حيث يصب في البحر الأحمر جنوب قرية الوجه1. وعند هذا المصب بقايا قرية يونانية قديمة وبقايا معبد يعرف عند الأهالي باسم: كصر كريم2 وهي من بقايا المستعمرات اليونانية التي اتخذها التجار اليونانيون عند ساحل البحر لحماية سفنهم من القرصان وللاتجار مع الأعراب، ولتموين سفنهم بما تحتاج إليه من ماء وزاد. ويبلغ طول وادي الحمض زهاء 900 كيلو متر3. ويبدأ وادي الرُّمة بالحجاز عند حرة فدك من التقاء بضعة أودية، ثم يتجه نحو الشرق حتى يصل إلى القصيم. ويبلغ طوله أكثر من 950 كيلو مترًا 4. ومن أودية الحجاز وادي الصفراء، وهو واد كثير النخل والزرع في طريق الحاج سلكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير مرة، وبينه وبين بدر مرحلة، وعليه قرية الصفراء، وهي قرية كثيرة النخل والزرع وماؤها عيون تجري إلى ينبع، وهي لجهينة والأنصار ولبني فهر ونهد ورضوى 5. ووادي القرى واد مهم يقع بين تيماء وخيبر؛ ويمر به طريق القوافل القديم الذي كان شريانًا من شرايين الحركة التجارية في العالم القديم، ويقال له وادي الديدبان 6.   1 البلدان: 2/ 215، 7/ 305. وهبة: Twitchell. op. cit p.11 2 عن جواد علي: 1/ 100. Morits, S, 23 3 Ibid. 24. 4 البلدان: 9/ 72، ويقال له بطن الرمة. وهبة: 20. الهمداني: 144. 5 الهمداني: 144 البلدان: 12/ 412. وهبة: 15. 6.Daughty, op. oit.vol.l,P, 189 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكان عامرًا جدًّا تكثر فيه المياه، وتشاهد فيه إلى اليوم آثار المدن والقرى1، التي كانت متصلة على طول الطريق من سبأ إلى الشام2، وقدعثر فيه على كتابات كثيرة لِحيانية ومعينية وسبئية وغيرها3.   1 البلدان: 15/ 338، 19، 345. 2 انظر الآية 18 من سورة سبأ. 3 جواد علي: 1/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 مدن الحجاز : ويشتمل الحجاز على مدن وقرى كثيرة أهمها مصرًا بلاد العرب: مكة والمدينة أويثرب، كما توجد به الطائف وخيبر، ووادي القرى. والاعتبارات الجغرافية والاقتصادية هي التي ساعدت على نشوء هذه المدن الحجازية فالحجاز -كما قلنا- إقليم جبلي مساير للبحر الأحمر من الجنوب إلى الشمال، من اليمن إلى فلسطين، وكان يمر به أحد طريقي التجارة البريين الهاميين بين الشرق والغرب مبتدئًا من مواني اليمن مخترقًا تهامة والحجاز، مارًّا بمكة ويثرب. حتى يصل إلى أيلة على خليج العقبة، ثم مواني البحر المتوسط. والتجارة بين الشرق والغرب هامة جدًّا وضرورية، وذلك لاختلاف المناخ بين أقطار الشرق الهندي والغرب الأوربي، مما استتبع اختلاف الغلات وحاجة كل منهما إلى منتجات الآخر، وفي هذا نجد سر الأهمية الكبيرة التي اتفقت لِتَدْمُر المدينة القديمة الواقعة في البادية، فكانت تحمي القوافل وتضمن سلامة المواصلات1. وأصبح العرب، بعد أن خرب الرومان تدمر، سادة مطلقين لتلك الطرق بالتدريج، وقد أعانهم معرفتهم بالبادية ودروبها وتعودهم الحياة فيها، على أن يتصرفوا تصرف السادة في تلك البقاع بلا منازع، كما مكنتهم تربيتهم للإبل -وهي الحيوان الوحيد القادر على السير في الصحراء مدة طويلة- من نقل المتاجر والقيام على تنظيم القوافل؛ والإبل معروفة منذ أقدم الأزمنة التاريخية   1 جورج فضلو: الملاحة في المحيط الهندي: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 في الجزيرة العربية؛ فقد وجدت رسومها على النقوش1. وتحدثت عنها التوراة2. وتنظيم القوافل استتبع اتخاذ محطات ومنازل لإراحتها وتزويدها بما تحتاج إليه من ماء. ومن البديهي أنه عندما تريد قافلة أن تنزل لتريح دوابها، لابد أن تختار مكانًا مناسبًا يتوافر فيه الخصب والماء لتجد الإبل ما تطعمه ولتتزود القافلة بالماء، كذلك يتوفر فيه حصانة الموقع حتى تطمئن إلى حراسة الأموال والتجارة التي معها. وعلى مر الزمن صارت محطات هذه القوافل ومنازلها مدنًا شيئًا فشيئًا، وكانت أغلب هذه المدن في الحجاز، وأهمها:   1 انظر جواد علي ج1 النقش بين صفحتي 392- 393، ج20 بين ص 298- 299، 302- 303. 2 التوراة: سفر القضاء إصحاح: 5-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 مكة : وتقع في واد على شكل سهل منبسط محاط بجبال ذات شعاب1 تحيط بالوادي إحاطة كاملة. وقد أغنت على مر الزمن عن بناء سور لحماية المدينة. فمن الممكن للقافلة التي تنزل في هذه البقعة أن تتحصن في هذه الشعاب بواسطة حراسها، كما يوجد بها بئر يستقي منه المسافر وهو بئر زمزم. وبمكة وجد البيت الحرام الذي عاصر أولية هذه المدينة بل إنه -كما تقول الروايات- هو أول بناء فيها، وقد أكسبها حرمة وقدسية وجعلها مهوى أفئدة العرب جميعًا، الأمر الذي ضمن لها التفوق على غيرها من مدن الحجاز. وإذن فكل ما تتطلبه القافلة المسافرة في بلاد قاحلة متوافر فيها.   1 الإصطخري: 21. البلدان 18/ 181- 188. وهبة: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الطائف : وتقع على بعد خمسة وسبعين ميلًا إلى الجنوب الشرقي من مكة، على ربوة عالية يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر خمسة آلاف قدم، على ظهر جبل غزوان1. وتحف بها وديان كثيرة تسيل فيها المياه في موسم الأمطار، وحولها عيون وآبار كثيرة، وهي خصيبة تنبت الأشجار والفواكه والحبوب إلى الوقت الحاضر، كما أن جوها لطيف بالنسبة لعلوها، فاعتدال الجو وخصوبة التربة حببا إلى المسافر أن ينزل فيها وإلى المستعمر أن ينتجعها.   1 البلدان: 13/ 9 الإصطخري: 24 وهبة: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 يثرب : وتقع على بعد ثلاثمائة ميل إلى الشمال من مكة، كما تبعد ينبع عن مينائها على البحر الأحمر مائة وثلاثين ميلًا1. وهي في أرض بركانية بين حرتين، وقد اشتهرت بالخصب والنماء، وفي شمالها جبل أحد. ومن أوديتها وادي العقيق الذي تصب فيه مياه عذبة، كما أن المزارع تحيط بها من جميع الجهات ماعدا الجهة الغربية2 والمسافر يجد فيها كما يجد المقيم حاجته من زاد وأمن. ونحن لا نستطيع تحديد أولية هذه المدن فهي من أقدم العصور، ولا شك أن التجارة كان لها شأن كبير في إقامة هذه المدن وظهورها، وخاصة مكة التي تعتمد اعتمادًا كليًّا في حياتها على ما يجلب لها من الخارج لعدم وجود الزراعة بها، فموقع الحجاز بين الشام واليمن، وكونه ممرًّا واستراحة للقوافل، ساعد على أن تقوم به هذه المدن التجارية. وفي أجزاء كثيرة من العالم، في أوربا وأفريقيا وآسيا عرف التاريخ مدنًا قامت للتجارة، وكانت كل مدينة من هذه المدن ذات نظام سياسي مستقل، عرف في التاريخ باسم الدول المدينية. وأظهر مثل لهذه الدولة المدينية، المدن اليونانية في التاريخ القديم، والمدن الإيطالية في العصور الوسطى مثل: جنوه، والبندقية، وفلورنسة. وكانت مكة والمدينة -يثرب- من هذا النوع من المدن. وكانت مكة لموقعها المتوسط بين الشام واليمن3، وعلى طريق التجارة، مركزًا هامًّا جدًّا، بل إنها في القرن السادس الميلادي كانت أهم المراكز التجارية في شبه جزيرة العرب4، وأما المدينة -يثرب- فلا بد من أنها كانت منافسة لمكة لوقوعها على نفس الطريق، غير أن وحدة السكان في مكة ووجود البيت الحرام بها، جعلها أقدر من يثرب على التفوق التجاري والثقافي وأظهر في التنظيم الإداري -كما سوف نبين فيما بعد- وإن كانت   1 البلدان: 17/ 82- 88. الإصطخري: 23. وهبة: 16. ,Twitchsll op. cit, p.12 2 البتنوني: الرحلة الحجازية: 161. 3 البلدان: 18/ 187. 4 Husayyin, op. cit. p. 142- 143 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 يثرب تتفوق من الناحية الزراعية لوجود زراعات حولها تعتمد على العيون الكثيرة1، على أن المدينتين غير قادرتين بمواردهما الخاصة على إعاشة سكانهما؛ فهما يجلبان الميرة من المدينتين الواقعتين على ساحل البحر الأحمر والصالحتين لتكونا مرأفين لهما، وهما ينبع ميناء المدينة وجدة ميناء مكة.   1 البلاذري: فتوح البلدان: 1/ 12- 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 المناخ : وتختلف مناطق الحجاز من الناحية المناخية، كما تختلف من الناحية الطبيعية؛ فهناك مناطق جدباء شديدة الحرارة شحيحة المياه، محاطة بالجبال يعيش أهلها على ما يجلب إليها من الرزق جلبًا من الخارج، ومن هذه المناطق منطقة مكة التي تقوم في واد غير ذي زرع1 والتي كانت تعتمد في حياتها على ما يجلب إليها من الخارج، وكان أهلها يرون في حرمة البيت الحرام الذي يقوم فيها، وهوى أفئدة الناس إليهم، سبب معاشهم وأمنهم وحرمتهم؛ ولذلك لم يسرعوا إلى متابعة محمد -صلى الله عليه وسلم- لما بعث فيهم نبيًّا يدعو إلى الإسلام، مخافة حرمانهم من هذه الميزات التي يستمتعون بها {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص] . كما أنها كانت شديدة الحرارة يهرع أهلها إلى الظلال وإلى أكنان الجبال التي تحيط بها يحتمون بها من الحر2، وهذا ما أعطى أهمية كبرى لجبال مكة. كذلك كانت مكة شحيحة المياه، وهذا ما جعل مهمة السقاية، وهي توفير الماء للحجاج، فضيلة عظيمة في نظر أهلها3، وهذا يجعلنا ندرك الحفاوة البالغة التي أسبغت على رواية حفر بئر زمزم بها4.   1 انظر الآية 37 من سورة إبراهيم. 2 انظر الآية 81 من سورة النحل. 3 انظر الآية 19 من سورة التوبة. 4 ابن هشام: 1/ 121- 123، 145- 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 على أنه كانت هناك أجزاء أخرى تجود فيها التربة وتنزل الأمطار التي قد يبلغ من غزارتها أن تتوالى الصواعق وتتهدم البيوت1 وتخرب الطرق. وتنبت من كل زوج وصنف من الزروع والأشجار، وقد تحدث القرآن الكريم في آيات عديدة منوهًا بما ينزل الله من الأمطار ويفجر من العيون، وما ينبت من الزروع والأشجار من أعناب ونخيل ورومان وزيتون وحبوب وكلأ {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} 2 [الأنعام] وهذه الآيات يوجهها القرآن ويخاطب بها أهل الحجاز بل وأهل مكة في الدرجة الأولى، وهي تشير إلى ما كان في الحجاز نفسه، وفي الأنحاء المجاورة لمكة بنوع خاص، من مناطق تجود فيها التربة وتغزر الأمطار وينبت الزرع والأشجار، والآيات وإن لم تعين هذه المناطق كما عينت منطقة مكة بالبيت الحرام، فإنها معينة واقعيًا وهي الطائف وأرباضها، والوديان التي بين مكة وجدة، ويثرب3 وأرباضها، فهذه المناطق لا تزال تحتفظ إلى الآن بكثير من الينابيع4 والوديان وتتمتع بخضرة السهول وجنات النخيل والأعناب ومختلف الفواكه والزروع. إلا أن الجفاف الذي لحق بلاد العرب جميعًا -والحجاز منها- قد جعل أغلب أراضيها صحراء جرداء، وباعد بين مراكز الاستقرار بها. وقد أثر ذلك تأثيرًا كبيرًا على الحياة الاجتماعية، والسياسية في شبه الجزيرة العربية، وعاق نشر المجتمعات الكبرى بها، ومن ثم اعتمدت في حياتها السياسية والاجتماعية على النظام القبلي، سواء في البادية، أو في البلاد التي قامت بها ممالك وحكومات منظمة، أو في المدن السياسية City states التي نشأت على طرق التجارة مثل مكة والمدينة، وأصبحت القبيلة هي وحدة المجتمع العربي بوجه عام.   1 البخاري 4/ 195 الأغاني 2/ 323، 327. هيكل: في منزل الوحي: 413. 2 وانظر أيضًا: الأنعام: 141، والنحل 10، 11 والمؤمنون 18، 19، والروم 48- 51، ويس 33- 34، وق 7- 11، والواقعة 63- 70، وعبس 24- 32. وكل هذه الآيات مكية. 3 عن الطائف انظر البلدان 13/ 09 عن يثرب 17/ 72 وما بعدها. 4 البلاذري 1/ 16، 17 انظر عن خصب مكة: أسد الغابة1/ 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 القبيلة العربية مدخل ... الفصل الثاني: القبيلة العربية لم تكن بلاد العرب قبل ظهور الإسلام دولة عربية بالمعنى الذي نفهمه الآن من الدولة، فإن الدولة State من حيث هي نظام منفصل عن الجماعة ومستقل عنها في وظيفته؛ ومن حيث إن لهذا النظام سلطانًا يخضع له الناس، لم يكن موجودًا في بلاد العرب. وإنما كانت الدولة عندهم هي الجماعة في جملتها، ولم تكن هيئة لها نظامها الخاص ولا كانت لها أرض محددة، فليس هناك موظفون يدبرون شئون الجماعة بالمعنى الذي نعرفه في الدولة، بل كان هناك كيان اجتماعي طبيعي بالغ درجة النماء عرف باسم القبيلة يقوم فيه رؤساء العشائر والبطون برعاية شئون الجماعة، ويذكر الرحالة دوتي Daughly أنه رأى في أهل البادية في هذا القرن العشرين من لا يصور الدولة إلا على أنها قبيلة ويقيس قوتها بما تملك من الإبل1. وكذلك الحال بالنسبة للمدن، فلم تكن المدينة Polis هي الوحدة السياسية كما كان الحال عند اليونان. بل كانت القبيلة هي هذه الوحدة مثل قريش في مكة وثقيف في الطائف، وقد جرى عرف العرب على الانتساب إلى القبائل لا إلى المدن، بل لم يعرف الانتساب إلى المدن إلا في القرن الثاني للهجرة. أما مفهوم الأمة عندهم، فلم تكن تتميز عن الأسرة إلا أنها أكبر، وكانت اللُّحمة التي تؤلف بين أفرادها هي نفس اللحمة التي تربط بين أفراد الأسرة ونعني لُحمة الدم، فكانت وحدة الجماعة تقوم على تقديس الدم، وعلى تقديس هذه اللحمة تقديسًا تلقائيًّا دون حاجة إلى قوة من خارج تقهر الجماعة على التماسك، وكان الاشتراك في النسب،   1.Danghty, oppcit. Vol. I. P. 230 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أو الاعتقاد بهذا الاشتراك -وهما من حيث النتائج العملية شيء واحد- بمثابة الروح التي تجعل القبيلة كالجسد الحي1. وقد وجد نظام حضري تام في أطراف الجزيرة العربية. فقد قامت ممالك اليمن في الجنوب، كما قامت مملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة غسان في الشمال الغربي، لكن القبيلة كانت وحدة النظام السياسي والاجتماعي في هذه الممالك، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد كالشعب المصري أو الشعب الروماني مثلًا، وإنما ظلت القبائل وحدات قائمة متمسكة بكيانها. من كل ذلك نرى أن الفكرة القبلية هي جوهر الحياة السياسية والاجتماعية، ثم ضاعت منها القوة السياسية، وظلت وحدة المجتمع العربي في الإسلام. والقبيلة العربية مجموعة من الناس، كانت تؤمن بوجود رابطة تجمعهم تقوم على أساسين: من وحدة الدم، ووحدة الجماعة. وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقة بين الفرد والجماعة على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت القبيلة تتمسك به أشد التمسك في نظامها السياسي والاجتماعي على السواء.   1 انظر: فلهوزن: تاريخ الدولة العربية "ترجمة أبو ريدة" ص 3-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 النظام السياسي للقبيلة العربية مدخل ... النظام السياسي للقبيلة العربية: كانت الروح الديمقراطية تسود المجتمع القبلي، فكان لكل قبيلة رئيس يقال له السيد أو شيخ القبيلة، وأحيانًا يطلقون عليه -تجوزًا- الأمير أو الملك. وهذا السيد تنتخبه القبيلة، ولكنه لم يكن انتخابًا بالمعنى المفهوم لدينا الآن؛ وإنما كان اختيارًا تلقائيًّا، فكل رجل في القبيلة فاق الآخرين في الفضائل التي منها الشجاعة والجود والغيرة وسعة الثروة وسداد الرأي وكمال التجربة مع كبر السن، يمكنه بهذه الصفات الممتازة الكفيلة بتحقيق مصالح القبيلة، أن يكون سيد قبيلته، وأن يكون الواجب أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 يكون شيخ القبيلة من صريح نسبها، لنفور طباع العرب من أن يحكم في القبيلة أحد من غيرها1، وقد راعى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك حين كانت تأتيه وفود القبائل، فكان يسود على كل قبيلة رجلًا منها ويجعله عليها لامتناع طباعهم أن يسودهم غيرهم2. كما يجب أن يكون شيخ القبيلة من أقوى بطونها وأذكرها شرفًا وأكثرها عصبية، حتى يكون له من الانتصار بعصبيته والاعتزاز بهم ما يمكن له من الرياسة ومن إطاعة القبيلة له واحترامها لرأيه3. فإذا مات هذا السيد أو فقد بعض الصفات انتقلت السيادة إلى الآخر الذي تكتمل له، وهذا معنى القول بأن القبيلة تختار سيدها. وكما يتجلى المظهر الديمقراطي في اختيار شيخ القبيلة وهو رأس حكومتها، كذلك يتجلى في رقابة الجماعة على هذا الرئيس، وهذه الرقابة تتمثل فيما يسمونه مشيخة القبيلة، أو مجلسها الذي يجمع رجالها بفضائلهم الذاتية. ولقد كانت مشيخة القبيلة هي الركن السامي حقًّا في نظام القبيلة العربية. إذ إن سلطة رئيس القبيلة كانت محدودة بواسطة هذا المجلس الذي يمثل الرأي العام في القبيلة. وكانت مشيخة القبيلة تتألف من أصحاب الرأي فيها، وهنا نجد الكفاية والفضائل الذاتية هي المرجع، فشاعر القبيلة من أفراد هذا المجلس، بل هو في مقدمة رجاله، إذ إنه الذي يتغنى بمناقب القبيلة، ويرثي موتاها، ويهجو أعداءها، ويدفع عنها بلسانه، وسلاحه هذا أمضى من سلاح السيف وأفتك في الخصم من السهام4؛ ولذلك كانت القبيلة تفرح إذا نبغ فيها شاعر وتعتز به وتحفظ شعره، وكانوا يجعلون موهبة الشعر من صفات الكمال، فالرجل إذا كان شاعرًا شجاعًا كاتبًا سابحًا راميًا دعي الكامل لوجود   1 ابن الأثير: أسد الغابة 1/ 136. 2 نفسه: 1/ 183- 184. 3 ابن خلدون: المقدمة 148- 150. انظر الضبي: المفضليات: القصيدة 104 حيث يقول معاوية بن مالك سيد بني كلاب: إني امرؤ من عصبة مشهورة ... حشد لهم مجد أشد تليد ألفوا أباهم سيدًا وأعانهم ... كرم وأعمام لهم وجدود 4 انظر: أسد الغابة 2/ 4-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 هذه الخصال فيه1. وكذلك الخطيب، وهو لسان القبيلة في منافراتها ومناظراتها2. ثم حكامها الذين يفصلون في الأقضية بين الناس ويحكمون بينهم إذا تشاجروا في الفضل والنسب والمواريث والدماء، وكان لكل قبيلة حكم أو أكثر؛ لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف والصدق والأمانة والرياسة والسن والتجربة والمعرفة بالعرف، ثم كان من رجال المجلس الشجعان المشهورون بالفروسية. وبعض الأفراد من أصحاب المكانة كالكاهن والعراف والقصاص. هذا بالإضافة إلى شيوخ العشائر وكبار السن في القبيلة ممن اكتملت لهم تجارب الحياة. كل هؤلاء يمثلون مشيخة القبيلة، ومن اجتماعهم تكون السلطة التي يرجع إليها سيد القبيلة. ولهذه الهيئة أندية3 ومجامع للمداولة في شئون الحرب والسلم والفصل في الخصومات ودفع الديات وكل ما يهم القبيلة. وفي ذلك يقول مهلهل في رثاء كليب: نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس تكلموا في أمر كل عظيمة ... لو كنت حاضر جمعهم لم ينبسوا ولم يكن لمجلس القبيلة موعد معين يجتمع فيه، وإن كانت العادة أنهم يجتمعون مساء في المنازل التي يحل بها رئيس القبيلة للسمر، وكلما دعت الضرورة إلى الاجتماع. ولم يصلنا شيء يذكر -ويا للأسف- من المناقشات التي كانت تجري في هذه المجالس القبلية؛ لأنه لم يكن هناك مدونات تسجل فيها أحاديث القوم ومناقشاتهم؛ لأن طبيعة هذه المجالس لم تكن تحتمل هذا. وإن كانوا يتناقشون ويتحاورون في كل ما يهمهم، وكثيرًا ما كان يخطب الخطباء، أو ينشد الشعراء قصائدهم التي نظموها، وفي أثناء ذلك يدلي سادتهم بحكمهم وتجاربهم في الحياة، وهذا يجعلنا نتصور مقدار ما كان لهذه المجالس من وقار ومنزلة كبرى يقضي بها العرف. وإلى ذلك يشير زهير بن أبي سلمى إذ يقول في مدح هرم بن سنان4:   1 الأغاني 3/ 25. 2 اليعقوبي 1/ 214، 217. 3 النادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم: ابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 210، وانظر سورة مريم 73. النمل 29- 32. العنكبوت 29. 4 ديوان زهير "طبع دار الكتب" 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل وكانت قرارات هذه المجالس نافذة؛ فجميع أفراد القبيلة في الغالب يذعنون لها ولا يشذون عليها. كما أن القيد الثاني الذي يحد من سلطة رئيس القبيلة هو أن الرياسة لم تكن وراثية، وإنه لمن النادر أن تجد في قبيلة بقاء السيادة في ثلاثة أفراد متعاقبين، ويفلسف ابن خلدون هذا الوضع فيقول: إن الرياسة تأتي من قوة العصبية وشرف النسب والخلال الكريمة. وهذه خلال تضعف من الابن إلى الحفيد، حتى إذا كان الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر موجب لهم منذ النشأة بمجرد انتسابهم، فيربأ بنفسه عن أهل عصبته ويرى الفضل له عليهم، وثوقًا بما ربى فيه، وجهلًا بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم، فيحتقرهم بذلك؛ فينتقضون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب1. وإلى ذلك يشير عامر بن الطفيل أحد سادات العرب في الجاهلية2:- وإني إن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي وشيخ القبيلة هو الذي يقودها في حروبها، ويقسم غنائمها، ويستقبل وفود القبائل الأخرى، ويعقد الصلح والمحالفات، ويقيم الضيافات؛ ولذلك كان لا بد من أن تتوافر فيه صفات الشجاعة والكرم والنجدة وحفظ الجوار وإغاثة المعوز والضعيف، ولابد من أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة وما تدفعه من ديات، كما كان عليه أن يصلح ذات البين فيها ويلم شعثها ويعمل على حفظ وحدتها، مستعينًا في   1 ابن خلدون: المقدمة ص 153- 154. 2 المسعودي: مروج الذهب2/ 55 "طبع القاهرة 1918". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ذلك بشيوخها وأصحاب الشرف فيها، وجريًا على مبدأ ممارسة السلطان ممارسة جماعية، ودون أن تكون لديه هيئة إدارية أو تنفيذية أو قضائية. كما يجب أن يكون حليمًا متسامحًا. وهكذا نرى أن شيخ القبيلة ليس ملكًا متسلطًا عليها، بل هو أب أكبر لكل أفرادها. وإلى ذلك يشير معاوية بن مالك سيد بني كلاب 1: نعطي العشيرة حقها وحقيقها ... فيها، ونغفر ذنبها ونسود وإذا تحملنا العشيرة ثقلها ... قمنا به، وإذا تعود نعود وإذا نوافق جرأة أو نجدة ... كنا، سمي بها العدو نكيد بل لا نقول إذا تبوأ جيرة ... إن المحلة شعبها مكدود وللزعماء في هذه المجالس القبلية أثر خطير في الحياة، فبحنكتهم السياسية وبحكمتهم وكفايتهم تقرر الأمور، ورب كلمة من زعيم أو هفوة منه تثير حربًا أو تسبب كارثة له ولقبيلته أو للحلف الذي يتزعمه؛ ذلك أن أعصاب رجال البادية مرهفة حساسة تثيرها الكلمة ولا سيما إذا كانت تتعلق بالشرف والجاه. وشيخ القبيلة إذا كان ضعيفًا أثر ضعفه في قبيلته، وإذا كان قويًّا أثرت قوته في القبيلة، وقد تقوم الزعامة بما تعجز عنه الكثرة وبما ينوء به عدد القبيلة؛ ولهذا تكون مكانة القبيلة أو الحلف بمكانة الرئيس، ولهذا أيضًا نجد قبائل تظهر فجأة فتجتاح القبائل الأخرى وتتزعمها، ونجد قبيلة تتضاءل وتنهار فجأة فتتجزأ وتذوب أو تذبل؛ لأن زعيمها ضعيف الشخصية خائر القوى2. ولشيخ القبيلة حقوق أدبية ومادية، فأما الأدبية فأهمها توقيره واحترام شخصه ورأيه3، كما أنه له الإمرة العامة على الجند. أما حقوقه المادية، فقد كان له في كل غنيمة تغنمها القبيلة المرباع وهو ربع الغنيمة، والصفايا وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة، والنشيطة وهو ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء، وكذلك   1 المفضليات: القصيدة 104 ص155. 2 جواد علي: 4/ 215- 216. 3 ابن خلدون: المقدمة ص 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الفضول وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة. وقد أجمل ذلك عبد الله بن عنمة الضبي في رئاسة بسطام بن قيس سيد شيبان: لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول وهذه كلها حقوق الرياسة في الجاهلية1. كما كان العزيز منهم ينفرد بالحمى لنفسه كما فعل كليب بن ربيعة سيد بني تغلب2. على أن المظهر السياسي للقبيلة يظهر في الحرب أكثر من ظهوره في السلم؛ فالقبيلة تعيش متفرقة بمراعيها وحالتها الخاصة، إلى أن تشتبك مع قبيلة أخرى في حرب، وهنا يتجلى المظهر السياسي؛ فإن عشائرها وبطونها تتجمع كلها تحت لواء واحد، كما تجتهد في أن تجد لها حلفاء من القبائل الأخرى؛ لتتقوى بهم على عدوها، لذلك كانت الحرب هي مظهر الحياة السياسية بين القبائل لما تتطلبه من جهود خاصة وتبعيات تجعل كل أفراد القبيلة يشعرون بحاجتهم إلى التجمع والتضامن، ولما يلابسها من أحداث سياسية خاصة توجب اتصال القبيلة بغيرها من القبائل.   1 ابن الأثير: الكامل 1/ 375 وحاشيتها. العقد الفريد 5/ 213 الآلوسي 1/ 293. 2 العقد الفريد: 5/ 213- 214. الأغاني 5/ 34 - 64 الآلوسي 2/ 31- 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 التشكيل الاجتماعي للقبيلة العربية: كانت القبيلة العربية وحدة الحياة الاجتماعية كما كانت وحدة الحياة السياسية. وكانت كل قبيلة تؤمن بوجود رابطة تجمع بين أفرادها على أساس من وحدة الدم ووحدة الجماعة. وفي ظل هذه الرابطة وفي ظل القانون العرفي الذي نشأ على أساسها: انقسم المجتمع القبلي إلى طبقات اجتماعية ثلاث: 1- طبقة الأحرار أبناء القبيلة الصرحاء1: وهم الذين يجمع بينهم الدم الواحد والنسب المشترك. 2- طبقة الموالي: وهم من انضموا إلى القبيلة من العرب الأحرار من غير أبنائها عن طريق الجوار أو الحلف أو العتقاء من الأرقاء فيها.   1 العقد الفريد: 5/ 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 3- طبقة الأرقاء: وهم المجلوبون عن طريق الشراء، أو أسرى الحروب. ولكل من هذه الطبقات منزلته في السلم الاجتماعي، فنحن أمام مجتمع طبقي تفصل بين طبقاته حدود واضحة. طبقة الأحرار الصرحاء: وهي الطبقة التي يعتبر أفرادها بنية القبيلة: فهم أبناؤها الذين يجمعهم نسب واحد ودم مشترك لم تلحقه هجنة. وكانت هذه الطبقة تتمتع بحقوق مدنية كثيرة، يقابلها كثير من الواجبات، نظمها القانون العرفي على أساس من التضامن التام بين الفرد والجماعة، فالحر يتمتع بحماية القبيلة حيًّا وميتًا، فهي المسئولة عن أي جريرة يرتكبها أحد أبنائها، وعليها واجب الانتصار له مظلومًا، والوقوف إلى جانبه ظالمًا، وكان يكفي أن يستغيث فإذا السيوف مصلتة والرماح مشرعة، وإذا الدماء تتصبب لأقل الأسباب: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... للنائبات على ما قال برهانَا1 وهكذا تسبغ القبيلة حمايتها كاملة عليه حيًّا، أما حمايته ميتًا، فإنها تأخذ بثأره إذا قتل ولا تترك دمه يطل2: كما أن للحر أن يتصرف في بعض شئون القبيلة، وتقر القبيلة هذا التصرف، وكان أهم حق له في هذه الناحية هو حق الإجارة، وهو أبرز حقوق المواطنة في القبيلة العربية وأخطرها، إذ إنه يدخل في القبيلة أفرادًا ليسوا منها فيلحقهم بها ويحملها تبعاتهم، فكل حر في القبيلة أجار رجلًا آخر من قبيلة أخرى أو من قبيلته، يتعين على القبيلة أن تقر ذلك: ولو كان المجير صغيرًا أو كان امرأة ما دام من صميمها3. ويصبح لهذا الجار ما لأفراد القبيلة من حقوق، كما أن عليه ما عليهم من واجبات، وكانت حماية هذا الجار فرضًا على القبيلة كلها، تدافع عنه وتقاتل طلبًا لثأره كما تقاتل طلبًا لثأر الصريح منها، وكان يبلغ بها الأمر أن تُقيد من القاتل حتى وإن كان من صرحائها4، أو تأخذ منه الدية5، على أن الناس كانوا يعرفون   1 ديوان الحماسة 1/ 5. 2 نفسه 1/ 342. 3 ابن هشام 2/ 23- 24. العقد الفريد 5/ 172. 4 الأغاني: 3/ 49- 60. 5 البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 73- 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أقدارهم؛ فلا يجيرون إلا إذا كانوا قادرين، فإنهم يعلمون أنه قد يجر إلى إثقال كاهل القبيلة بمسئوليات ضخمة منها فقد المال والعرض والحياة1. كما أن العرب الأحرار في القبيلة كانوا يستطيعون الانتقال من قبائلهم إلى قبائل أخرى يجاورونها، بخلاف الرقيق الذي كان مملوكًا ليس له حرية التصرف في نفسه. وإزاء تلك الحقوق التي يتمتع بها الحر، فإن عليه أن يتضامن مع قبليته، ويعمل من أجلها، ولا يتصرف إلا في حدود النطاق الجماعي الذي يحفظ عليها وحدتها، فلا يخرج على إجماعها، ولا يحملها ما لا تطيق، وعليه من أجل ذلك أن يرفع من إحساسه بالرابطة الجماعية وأن يهدر في سبيلها كل نزعة فردية أو انفصالية من نفسه؛ فهو يضحي لها بنفسه كما يضحي بماله فهي حياته وكيانه، وهو مع اعتزازه بشخصيته وحريته، يعيش لها وتحت إطارها2، وخير مايصور ذلك قول دريد بن الصمة3: وهل أنا إلا من غزية، إن غوت ... غويت؛ وإن ترشد غزية أرشد فإذا حدث لسبب من الأسباب أن تصرف في انفصالية فردية خارج ذلك النطاق الجماعي، أو سلك سلوكًا معيبًا من شأنه أن يسيء إلى سمعة القبيلة بين القبائل، كان من حق القبيلة أن تتحلل من العقد الاجتماعي القائم بينه وبينها، فتهدر حقوقه عليها وتتخلي عن حمايته ونصرته، فتطرده من حماها، وتعلن بين القبائل أنها خلعته، أو بعبارة أخرى سحبت منه الجنسية القبلية -كما نقول بتعبيرنا الحديث- فلم تعد مسئولة عنه ولا سائلة أيضًا. وكان إعلان الخلع أمرًا خطيرًا بالنسبة للأفراد؛ فإن الخليع يخرج من حمى قبيلته ليجد نفسه في موقف ضيق ووضع شاذ، فلقد سحبت منه الجنسية القبلية وأصبح فردًا منفصلًا عن قبيلته في مجتمع لا يؤمن بالانفصالية الفردية. وفرص الحياة   1 ابن الأثير: الكامل 1/ 342 العقد الفريد 5/ 147. عن الجوار. انظر. الأغاني 2/ 126، 3/ 59، الآلوسي: بلوغ الأرب 3/ 133، 144. 2 يشعر الإنسان حين يقرأ الشعر الجاهلي، أن الشاعر في الغالب اندمجت شخصيته في قبيلته حتى كأنه لا يشعر لنفسه بوجود خاص، وخير مثل معلقة عمرو بن كثلوم. وقل أن نعثر على شعر جاهلي ظهرت فيه شخصية الشاعر ووصف فيه ما يشعر به وجدانه، وأظهر فيه أنه يحس لنفسه بوجود مستقل عن قبيلته. 3 ديوان الحماسة 1/ 337. الأصمعيات. "طبع المعارف" ص 113. العقد الفريد 5/ 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 في الصحراء محدودة، ومن المستحيل أن يعيش الفرد فيها إلا مرتبطًا بجماعة، ولا يرى الخليع في هذه الحالة أمامه إلا أحد طريقين: إما أن يلجأ إلى قبيلة أخرى يعيش في حماها جارًا لها أو مولى من مواليها، أو أن يلجأ إلى الصحراء ليتخذ من الغزو والسلب وقطع الطرق وسيلة للحياة وأسباب الرزق، معتمدًا على قوته الشخصية في فرض نفسه وإثبات وجوده في مجتمع قطع كل صلة بينه وبينه1. ومن أهم الواجبات التي تقع على أفراد القبيلة: الأخذ بالثأر ممن سولت له نفسه من القبائل الأخرى أن يعتدي على أحد أبنائها، مهما كلف ذلك من جهد ومال ودماء، ولم يكونوا بطبيعة الحال يفرقون بين القتل العمد والقتل الخطأ أو الضرب الذي يفضي إلى الموت، أي أنهم لم يعرفوا القصد الجنائي ولم يتبينوا النية الإجرامية، ولكنهم كانوا يعالجون القتل بالقتل، حتى صار الأخذ بالثأر عقيدة ثابتة، ولقد كانت مسألة الأخذ بالثأر من المسائل الهامة في حياة القبيلة العربية قبل الإسلام، والغرض منها حمياتها، فالقبيلة إذالم تأخذ بثأرها تسقط بين القبائل. ومن هنا نجد أن الحرص على الأخذ بالثأر لا يعدله حرص على شيء آخر، وهذا أمر طبيعي وضروري في مجتمع لا تحكمه حكومة منظمة تقيم الحدود وترعى القانون بسلطانها؛ وإنما كان المجتمع يعتمد في صيانة حقوقه على قوة الأفراد والجماعات، فمن لم يستطيع الانتصاف لنفسه؛ لم يجد قوة تنتصف له؛ ولذلك فإن الاحتفاظ بوحدة القبيلة والأخذ بالثأر كان أمرًا مقدسًا أشبه بأن يكون نظامًا دينيًّا من أن يكون نظامًا عاديًّا. وكان على الثائر أن يدرك ثأره أو يموت دونه، وفي هذه الحالة ينتقل واجب إدراك الثأر إلى ابنه أو حفيده2. ولقد كان العرف يجعل الثائر يلتزم باتخاذ شارات خاصة؛ فهو يبتعد عن كل ملذات الحياة؛ فلا يقرب النساء ولا يتطيب أو يتدهن3، ولا يشرب الخمر4،   1 انظر ابن الأثير 1/ 359، ابن هشام 1/ 102- 199، الروض الأنف 1/ 120-121، أنساب الأشراف 1/ 100- 101، الآلوسي- 3/ 27- 29. 2 الأغاني: 2/ 99، 3/ 604- 605. العقد الفريد 5/ 175. 3 العقد الفريد 5/ 176، 215، ابن هشام 2/ 422. 4 انظر قصيدة تأبط شرًّا، ديوان الحماسة 1/ 346 وحاشيتها: حلت الخمر وكانت حرامًا ... وبلأي ما ألمت تحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ولا يقول الشعر إلا في هجاء أو رثاء، ويظل على هذه الحال أيامًا وشهورًا وأحيانًا أعوامًا، فإذا أخذ ثأره حل له ما حرمه على نفسه، فنظام الثأر كان هامًّا جدًّا في حياة القبائل العربية قبل الإسلام، ولقد قاومه الإسلام مقاومة شديدة؛ ولكنه لم يمت، ولتأصله في نفوس العرب ظل يحيا في المجتمع العربي حتى يومنا هذا. وكان العرب يعتقدون أن المقتول إذا لم يدرك ثأره ينبعث على قبره طائر اسمه الهامة ينادي بثأره شاكيًا الظمأ، ولا يسكت حتى يُؤخذ ثأره: يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني 1 له هامة تدعو، إذا الليل جنها ... بني عامر، هل للهلالي ثائر؟ وكان الأمر ينتهي بالثائر إلى ثلاث حالات: إما أن يثار ولي الدم من القاتل أو من عشيرته، وإما أن يأخذ الدية، وإما أن يعفو. وعند أخذ الدية يلاحظ مكانة الرجل المقتول، فالرجل الحر الشريف غير المولى. ومتوسط الدية مائة من الإبل2. ودية الحليف نصف دية الصريح3. أما دية السادة فقد تصل إلى الخمسمائة وإلى الألف4. على أن هناك نوعًا من الدية يعرف بدية الخفارة، وهي أنه إذا أجار شخص شخصًا آخر فقتل جواره ولم يمنعه، كان عليه أن يدفع لوليه سبعين عُشراء -وهي الناقة التي مضي على حملها عشرة أشهر 5. وكانت العرب تعيب من يأخذ الدية ويرضى بها دون درك ثأره وشفاء غيظه، إذ إنها تعتبر الاكتفاء بالدية دليلًا على الجبن والخوف من القاتل؛ ولذلك لم تكن الدية تقبل إلا عند الشعور بالضعف، أو عند التفاني بين القبائل، أو إيثار السلم، كما فعلت قريش في حرب الفجار، فيقوم الصلح على أساس حساب القتلى، ودفع دية الزيادة.   1 الأغاني 3/ 105. 2 نفسه 63، 65. 3 نفسه 19، 40. 4 العقد الفريد 5/ 148. الآلوسي 3/ 22- 24. 5 الأغاني 4/ 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 طبقة الأرقاء: كان في المجتمع العربي طبقة كبيرة من الأرقاء، وكانت كل قبيلة لا تخلو من أفراد من الرقيق من الرجال والنساء، البيض والسود على السواء. والمصدر الأصلي للرقيق هو الحرب، فالقبيلة التي تنتصر على الأخرى تأخذ الأسرى وتستعبدهم، وإلى جانب الحرب وجد الاتجار بالرقيق، وكان هذا النوع من الاتجار شائعًا، فكان العرب يأتون من شواطئ أفريقيا ويبيعونهم في أسواق العرب بالمال، وإذا لاحظنا أنهم يؤخذون بالعنف، تبينا أن الحرب والغزو والقوة هي السبب الأول، كما كانت القبائل المنتصرة تتصرف في بعض الأحيان في أسراها بالبيع1. وقد يغيرون على القوافل المسافرة إلى العراق أو إلى الشام ويتغلبون عليها ويأسرون من فيها ويسترقونهم، وكان هذا هو أصل رق سلمان الفارسي إذ خرج من العراق إلى الشام فاسترق وبيع لبعض يهود المدينة2 وقد ألحقت القبائل بعض أبنائها بهؤلاء الأرقاء؛ فإن مقياس الشرف عند العربي ألا يجري في عروقه دم أجنبي، وأن يكون من أب عربي وأم عربية، ومن كان هنا حرصه على أن يحفظ لسلالته نقاء الدم وصفته وامتيازه، وفي سبيل هذا الحرص كان يرفض الاعتراف بأبنائه أو إلحاقهم بنسبه إذا جاءوا ثمرة لصلة غير متكافئة بينه وبين إمائه، ومن أجل ذلك أطلق المجتمع الجاهلي على أبناء الإماء من العرب الصرحاء اسم "الهجناء"، وكان أسوأ أبناء الإماء حظًّا في الحياة أبناء الإماء السود الذين سرى إليهم السواد من أمهاتهم وأطلق عليهم العرب اسم "الأغربة"3. وكانت طبقة العبيد من بيض وسود، ومن تجري في عروقهم شائبة من دمائهم من الهجناء والأغربة، في وضع اجتماعي سيئ، فقد سلبتهم الأرستقراطية العربية، المؤمنة إيمانًا عميقًا برابطة الدم، كل ما يمكن أن يكون لهم من حقوق، وفرضت عليهم من الواجبات ما أرهق كواهلهم وأهدر إنسانيتهم، وباعدت بينهم وبين الحياة الإنسانية الكريمة. وضيقت عليهم النطاق في حياة مهينة ذليلة على هامش المجتمع.   1 ابن هشام 3/ 234. 2 أنساب الأشراف 1/486- 487. 3 ديوان الحماسة 1/ 158 حاشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فلقد كانت هذه الطبقة محرومة مما نسميه الآن الحقوق المدنية، فليس لها حقوق الملكية والمقاضاة، وليس للعبد أن يتزوج إلا بإذن سيده على أن يتزوج رقيقًا مثله. كذلك كان أفراد هذه الطبقة يزاولون في المجتمع العربي المهن والصناعات التي يستنكفها العربي الصميم، ففي البادية يرعون الماشية، ويقومون بخدمة المنزل، وفي الحواضر يقومون بممارسة الصناعات الموجودة هناك كالحدادة والنجارة والحلاقة والحجامة وغيرها، إذ إن العرب كانوا يأنفون من أمثال هذه الصناعات. وكان وجود هذه الطبقة أمرًا عامًّا في المجتمع القديم كله يحتمه الوضع الاقتصادي في ذلك الوقت. على أن العبد كان يمكنه أن يسترد حريته، وذلك بأن يؤدي لسيده خدمة عظيمة، كأن ينقذه هو أو أهل بيته من هلاك محقق -وهذا في الغالب شرط الحرية- أو يظهر شجاعة نادرة في موقعة من المواقع، فتكون هذه الشجاعة شفيعة للتحرر، أو بأن يتفق مع سيده على أن يشتري حريته بالمال، وهذا ما يسمونه بالمكاتبة، والرقيق الذي يتحرر بهذا يقال له المكاتب1. أو بأن يوصي سيده بعتقه بعد وفاته تقربًا للآلهة، ويسمى هذا بالمدبر2. ولقد كان للوضع السيئ لهذه الطبقة أثر كبير في سرعة استجابتها للدعوة الإسلامية ونجاحها في أطوارها الأولى، إذ إن الأرقاء والموالي هم الذين سارعوا لتلبيتها؛ لأن الإسلام قام بثورة اجتماعية فسوى بين السيد والعبد لقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات] وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى". وقوله: "ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى". وقد أنعشت هذه المبادئ نفوس هؤلاء المستضعفين والمحرومين فلبوا الدعوة التي تنتشلهم من الوهدة التي كانوا فيها. طبقة الموالي: إن كلمة مولى كلمة مرنة في اللغة، إذ إنها تسع كل المتناقضات، فهي من باب المشترك اللفظي؛ ففي القاموس: الْوَلْيُ الدنو والقرب، والولاية: النصرة، واستولى   1 أنساب الأشراف 1/ 487. 2 المصباح المنير 1/ 256 "طبع وزارة المعارف" أسد الغابة 1/ 43- 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 عليه؛ غلب عليه وتمكن منه. والمولى الحليف. والمولى المعتق. والوليُّ المحب الصديق والنصير والملك. والمولى يطلق على المالك والعبد، والمعتق، والصاحب والجار والحليف، وأولياء الرجل عصبته من إخوته وبني عمه وعشيرته، وتولاه اتخذه وليًّا1، وقد ذكرت كلمة مولى في القرآن الكريم كثيرًا، وأريد بها النصير أو الحليف: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج] {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج] . هذا هو المعنى اللغوي للكلمة، ولكن الاصطلاح حدد معناها، ومع تحديد معناها نجدها شائعة وفيها شيء من الغموض؛ والمقصود من الموالي هم الجار والحليف المعتق. الجوار: إذا سلك فرد من قبيلة مسلكًا شائنًا يضر بسمعة قبيلته؛ فإن القبيلة تخلعه، أو أنه هو يخلع نفسه منها إذا خاف على نفسه أن يثأر منه إذا كان قد قتل من القبيلة، أو أن يكون قد ضاق بحياته فيها، وعندئذ لا يقربه أحد، ولما كان لا يستطيع أن يعيش منفردًا فإنه يلجأ إلى قبيلة أخرى يتصل بها ويعيش في حماها على أساس الموالاة بالجوار. كذلك قد يجد المرء نفسه غريبًا في أرض قبيلة ويخاف على نفسه فيلجأ إلى طلب الجوار من أحد أبناء هذه القبيلة، وكذلك قد يخرج لطلب ثأر من قبيلة أخرى ويجد في نفسه ضعفًا عن أن يبلغ غايته فيلجأ إلى جوار أحد يحميه حتى يأخذ بثأره2. وكما يجاور الأفراد تجاور القبائل أو البطون من ترى فيهم الحمية والعزة لحمايتها والاعتزاز بجوارها3. وقد ورد في القرآن معنى الجوار على أنه نتيجة للضعف طلبًا للحماية والعزة4. هذه هي الحالات التي تقوم فيها علاقة الجوار. أما كيف يتم عقد الجوار، إذا جاز لنا أن نطلق هذه التسمية على هذه العلاقة العرفية، فإن   1 المصباح المنير 2/ 972. 2 الأغاني 1/ 604- 605 ابن الأثير 1/ 342. 3 ابن الأثير: نفسه: 370. العقد الفريد: 5/ 170- 171. 4- الإسراء: 111. التحريم: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الجوار كان يتم بالطلب الصريح والإجابة، أو بإتيان عمل يفهم منه قيام هذه الرابطة، فالمؤاكلة ودخول البيت ولمس الخيمة أو مجاروتها يقيم رابطة الجوار، وقد توسعوا في هذا فاعتبروا علوق الدلو بالدلو في بئر يلزم حرمة الجوار والذمة1، وإلى هذا أشار أبو تمام يخاطب ابن الزيات2: لي حرمة بك لولا ما رعيت وما ... أوجبت من حقها ما خلتها تجب بلى، لقد سلفت في جاهليتهم ... للحق ليس كحقي نصره عجب أن تعلق الدلو بالدلو القريبة أو ... يلامس الطنب المستحصد الطنبُ وغالوا في الجوار حتى شمل الوحش والهوام3، حتى إنهم كانوا يسمون بذلك مجير الجراد- مجير الغزال- مجير الذئب، ومن الأمثال: أحمى من مجير الجراد، قالوا هو مدلج بن سويد الطائي، وقد يكون هذا نوعًا من العزة وتحريم الصيد في أرض القبيلة. كما كان الجوار أحيانًا يعبر عن نوع من الفروسية والمرءوة الإنسانية، كإجارة كل ظعينة تمر بأرض القبيلة، ومثال ذلك ربيعة بن مكدم الكناني الذي ضربوا به المثل فقالوا: أحمى من مجير الظعن4. وحقوق الجار المترتبة على قيام الجوار تتلخص في قول هانئ بن مسعود سيد بني شيبان حين أجار النعمان بن المنذر: قد لزمني ذمامك، وأنا مانعك مما أمنع منه نفسي وأهلي وولدي، ما بقي من عشيرتي الأدنين رجل5. وكان المجير يعلن إجارته على ملأ من الناس؛ ليكونوا على بينة من الأمر، وبذلك يصبح المستجير في ذمته وحماه كأنه فرد من ذوي قرابته، يتمتع بكل حماية عائلية أو قبلية، وتجيز القبيلة   1 الأغاني: 2/ 126، 3/ 59. 2 الآلوسي: 1/ 133. 3 العقد الفريد 5/ 224. 4 الآلوسي: 144. 5 الأغاني: 2/ 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ذلك إقرارًا لحق الفرد في الإجارة -كما أشرنا من قبل- ويصبح هذا الفرد واجب الحماية منهم جميعًا، فقد أصبح لهم جارًا، وحينئذ يتحاشى الناس الإساءة إليه حرمة لعصيبة مجيره، وقد كانت العرب تطلب بثأر الجار كما تطلب بثأر الصريح من أبنائها، وتقيد من القاتل حتى ولو كان من صرحائها، بل كانت تقاتل رعاية لحق الجار وحفاظًا على كرامته؛ وقد قتل كليب سيد ربيعة نتيجة لاعتدائه على حرمة الجوار، بأن قتل ناقة للبسوس جارة جساس بن مرة البكري1؛ وذلك لأنهم كانوا يرون في ذمة الجوار أمرًا خطيرًا فيه كرامتهم، بل وحياتهم ومماتهم2. وكما يحمي المجير جاره مادام في كنفه. فإن على الجار أن يلتزم حدود اللياقة في تصرفه فلا يسيء إلى سمعة القبيلة التي أجارته. ورابطة الجوار رابطة مؤقتة وليست دائمة، فهي تحل نتيجة لخروج الجار من أرض القبيلة التي يحتمي بها، أو حين يرد المستجير على صاحبه جواره، ويبرئ له ذمته على ملأ من الناس، وعندئذ لا يتحمل المجير تبعات ما يقع عليه من اعتداء3، أو إذا ارتكب الجار أمرًا مشينًا لسمعة القبيلة أو اعتدى على حرماتها4. فإذا أرادوا إلغاء الجوار أجلوا الجار ثلاثة أيام يخرج فيها من أرض القبيلة5، وقد ورد في القرآن الكريم آيات ذكر فيها الجوار بمفهومه عند العرب، وهو حماية الجار وإبلاغ المستجير مأمنه ومنع الاعتداء عليه6. فالجار إذن ليس من صلب القبيلة، وقد حدد العرف على النحو الذي بيناه حالات الجوار والمراسم التي تنظم قيام هذه العلاقة، وما يترتب عليها من التزامات بالنسبة للمجير والجار، وكيف تنتهي هذه العلاقة.   1 ابن الأثير 1/ 314. 2 نفسه 342. العقد الفريد 5/ 139- 150. 3 ابن هشام 1/ 391- 392،396. 4 ابن الأثير. نفسه 343. 5 النويري: نهاية الأرب 15/ 358. 6 انظر سورة التوبة 6، المؤمنون 88، الملك 28، الجن 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الحليف: هو جار بصفة لازمة، إذ إن صلته ليست مؤقتة كالجار؛ فالحلف جوار دائم، ولفظ الحلف فيه معنى القسم وكانت منزلة الحليف من حليفه كمنزلة القريب، حكمه حكم أفراد القبيلة إلا في حالة الدية، وهذا الحلف يسمى عند المسلمين ولاء الموالاة1. وكان في الجاهلية بين عربي وعربي، وهو في الإسلام بين عربي وغير عربي. والحليف رجل حر انضم إلى قبيلة غير قبيلته؛ فمركزه الاجتماعي في القبيلة التي ينتمي إليها يلي مركز الحر الصميم فيها، وعليه من التبعات العامة ما على أفراد القبيلة الصرحاء؛ فإذا كان الحلف بين فرد وفرد صار الحليف مولى للرجل الذي حالفه، وأصبح كفرد من ذوي رحمه وقبيلته بالولاء، ويسمى الشخص الملتحق مولى الشخص الملتحق به، وكان أحيانًا يتبنى الرجل مولاه فينتسب له2. وقد كان الرجلان يشهدان على أنفسهما ويعقدان الحلف بالمواثيق والأَيمان والعهود. وقد أورد الطبري في تفسيره مأثورًا عن الميثاق الذي يشهد عليه الملأ بين الملتحق والملتحق به: دمي دمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك2. وقد كان الحليف يرث حليفه إذا مات، بهذا الحلف في الجاهلية ثم استمر في الإسلام4. {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء] حتى نسخ بآيات الميراث {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال] . وكان قد جعل له السدس من جميع المال في أول الإسلام، ثم نسخ ونقل من الإرث إلى   1 المصباح المنير: 2/ 927. 2 البخاري 5/ 82. الأغاني 3/5- 41. الروض الأنف 1/ 39. 3 جامع البيان: 8/ 275- 276. 4 البخاري: 5/س 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الهبة وبقيت عليهم النصرة والنصيحة والرفادة والعقل والولاء والمشورة، ومن هنا ندرك عمق هذه الصلة وبلوغها حد النسب الصحيح، وكان الحليف كالصريح يخلع من القبيلة إذا أتى بعمل مشين. وكما يكون الحلف بين فرد وفرد، وبين فرد وقبيلة، كذلك كان يحدث كثيرًا أن يلتحق بطن أو عائلة من قبيلة بقبيلة أخرى، فيكون أفرادها موالي القبيلة الجديدة1، وتقطع تبعاتها إزاء وحدتها الأولى، وتنتقل إلى تبعات القبيلة الجديدة من حروب ودماء وعقل ومصالح مشتركة، ما عدا الميراث الذي كان يقوم عند الحلف الفردي. وفي كتب التاريخ والسير والتراجم أسماء كثيرين يذكرون، فيقال مثلًا: القرشي ولاء أو الثقفي ولاء، ويراد بذلك هذا الولاء الذي أشرنا إليه، وليس ولاء العبودية والرق. وكذلك كانت تقوم المحالفات بين القبائل، فتحالف قبيلة قبيلة أخرى أو عدة قبائل. وهذا التحالف يشبه المعاهدات السياسية في الوقت الحاضر؛ فإذا أحست قبيلة بضعفها أمام القبائل القوية انضمت إلى قبيلة قوية لتحميها، وقد تمر الأجيال وتنسى القبائل المتحالفة أسماءها وشخصياتها، وتنضم تحت اسم واحد. ويظن أن هذه المحالفات لعبت دورًا كبيرًا في تكوين القبائل العربية، إذ كانت تنضم العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة؛ لتحميها وترد العدوان عنها، ويقول البكري: فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضًا على البلاد والمعاش واستضعاف القوي الضعيف؛ انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم2. ومن القبائل التي تمثل ذلك خير تمثيل قبيلة تنوخ التي قامت على أساس حلف عقدته   1 الأغاني: 2/ 242، 243، 316 - 3 / 38. ابن الأثير 1/ 370. 2 البكري: معجم ما استعجم "طبعة السقا" 1/ 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بعض البطون الشمالية مع غيرها من قبائل الجنوب، واتخذت القبيلة اسمها من تنخ "تنأ" أي أقام واستقر، وكثر ماله، وذلك لاستقرارها في بادية العراق1. وبمجرد أن تدخل القبيلة في حلف يصبح لها على أحلافها كل الحقوق؛ فهم ينصرونها على أعدائها، ويلبون دعوتها إذا اعتدي عليها، وقد تنفصل بعض القبائل عن الحلف لتنضم إلى حلف آخر يحقق لها مصالحها، ومن ثم كنا نرى أحلافًا تضعف وتحل محلها أحلاف أخرى، وقد انتشر التحالف بين القبائل العربية بصورة واسعة قبيل الإسلام، ولم تبق إلا قبائل قليلة لم تدخل في أحلاف؛ اعتمادًا على قوتها الذاتية وعلى بطولة أفرادها، ولذلك سميت هذه القبائل جمرات العرب2 ولكنها كثيرًا ما كان يئول أمرها إلى أن تنهك في الحروب، أما القبائل المتحالفة فكانت تهاب فلا يعتدى عليها. وانتشار المحالفات بين القبائل العربية كان إحساسًا من القبيلة العربية بأنها لا تستطيع أن تعيش: في مجالها الضيق وأنها بحاجة إلى غيرها من القبائل تؤاخيها وتربط مصيرها بمصيرها، وكان هذا بدء نهضة قومية، استفاد منها الإسلام في توحيد العرب في أمة واحدة. وقيام علاقة الحلف تقترن عادة بمراسيم وطقوس خاصة تحرص القبائل على اتباعها نظرًا لأهمية النتائج المرتبة عليها؛ فقد اتخذت الأحلاف صبغة دينية وطقوسًا خاصة، إذ كانوا يغمسون أيديهم في طيب أو دم، وربما أوقدوا نارًا عند تحالفهم ودعوا الله على مَن ينكث العهد بالحرمان من منافعها. وكانوا يقولون: الدم الدم، والهدم الهدم، لا يزيد العهد طلوع الشمس إلا شدًّا، وطول الليل إلا مدًّا، ما بلَّ بحر صوفه، وأقام رضوى في مكانه إن كان رضوى جبلهم وإلإ ذكروا ما يجاورهم من الجبال3.   1 انظر عن أحلاف الأفراد والقبائل: الأغاني2/ 242- 243، 316، 3/ 38. القلقشندي: نهاية الأرب 189. فجر الإسلام4. الآلوسي 1/ 118. بروكلمان: تاريخ الأدب العربي 124. وانظر ابن الأثير ج1 عن أيام العرب وفيه كثير ذكر للمحالفات بين القبائل، دائرة المعارف الإسلامية عن تنوخ. المصباح المنير 1/ 107. 2 المحبر 134. جواد 4/ 316، العقد الفريد 3/ 336- 337، 367، المصباح المنير 1/ 149. شوقي ضيف: العصر الجاهلي 58. ابن خلدون القسم الثالث 3/ 64. 3 الجاحظ، الحيوان 4/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ومن الأحلاف التي ذكرها التاريخ في مكة حلف المطيبين وحلف الأحلاف وحلف الفضول1. ومن أحلاف العرب المشهورة حلف الرباب2 وهو بين خمس قبائل: ضبة وثور وعكل وتيم وعدي، وحلف عبس وعامر ضد بطن ذبيان وأحلافهم من تيم وأسد3. وحلف الحُمْس بين قريش وكنانة وخزاعة4 وكذلك حلف قريش والأحابيش، ثم إن الإسلام منع أن تقوم أحلاف جديدة، ولكنه أكد الأحلاف التي تمت في الجاهلية. قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا حلف في الإسلام، وكل حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة، وما يسرني أن لي حمر النعم، وأني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة" 5. العتق: هو النوع الثالث من الولاء وهو يلي الحلف في درجته الاجتماعية. والمعتق عبد عتقه سيده لسبب من الأسباب، فإذا أصبح العبد معتقًا صار حرًّا، ولكن تبقى هناك صلة بينه وبين معتقه، وهذه الصلة تسمى الولاء، ويظل المعتق ينسب إلى معتقه فيقولون: فلان مولى فلان كما كانوا يقولون: زيد بن حارثة مولى رسول الله أي عتيقه1، وإن كانت أمة فهي مولاته، والجمع موال. وكان المولى أحيانًا ينسب إلى قبيلة المعتق فيقولون مثلًا: مولى بني هاشم، وأحيانًا يعبرون عن ذلك بقولهم: الهاشمي بالولاء، وقد كانوا أحيانًا يبيعون الولاء2. وكان بين الحر المعتق وبين سيده واجبات وحقوق؛ فعلى المعتق أن يساعد مولاه إذا ألمت به كارثة، أو إذا اعتدى عليه أحد، كما أن على المعتق أن يقوم بنصرة سيده. وبينما نرى الحليف يرث حليفه فإن المعتَق لا يرث سيده، وللسيد الحق   1 ابن هشام: 1/ 143- 144. 2 ابن الأثير: 1/ 376. 3 العقد الفريد: 5/ 141. 4 ابن الأثير: 1/ 359. الآلوسي 1/ 242- 243 اليعقوبي 1/ 199- 200. 5 تفسير الطبري: 8/ 269- 288 "يعني حلف الفضول". 6 البخاري: 5/ 82. 7 الأغاني: 7/ 188. فجر الإسلام 88- 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 في أن يرث مولاه إذا مات من غير وارث. وكان يحدث في بعض الأحيان أن يتخذ المعتق مولاه ابنًا أي يتبناه، وفي هذه الحالة كانوا يطبقون ما يطبق بالنسب، بمعنى أنه لا يجوز لمعتق أن يتزوج من زوجة متبناه إذا طلقها أو مات عنها. وهذا هو الباب المفتوح لترقي طبقة العتقاء في السلم الاجتماعي. وقد ظلت هذه الحالة في الجاهلية حتى إذا جاء الإسلام ألغى نظام التبني هذا كله1، فرد المتبنين إلى آبائهم: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب] . ولقد كانت هذه العادة شديدة الاستحكام حتى احتاج أمر إبطالها إلى قوة نفسية خاصة مما جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم بذلك بنفسه ومع نفر من آل بيته، ومع ذلك فقد داخل النبي -صلى الله عليه وسلم- كثير من الإشفاق، وداخل زينب بنت جحش -وهي ابنة عمته التي زوجها لمتبناه زيد، ثم طلقها زيد فتزوجها محمد صلى الله عليه وسلم- وأهلها كثير من التردد حتى احتاج الأمر إلى نذير من القرآن: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب] وحتى عوتب النبي -صلى الله عليه وسلم- على إشفاقه: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} وحتى نزل القرآن ردًّا على الذين تحدثوا في هذا الأمر ونقدوه على النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب] .   1 البخاري 5/ 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 دستور القبيلة كان للقبائل العربية دستور عرفي عام، يشترك فيه كل أفراد القبيلة، وهذا الدستور ينحصر في كلمة واحدة هي: العصبية. وإذا كان الدستور هو القانون الأساسي؛ فإن قواعده كلها انبنت على العصبية، وهذه الكلمة مذكورة كثيرًا في كتب التاريخ والأدب، فما مدلولها؟ إذا بحثنا عن المعنى اللغوي لهذه الكلمة في معاجم اللغة نجد أن: العَصب هو الطي الشديد، وكل شيء استدار بشيء فقد عَصَبَ به، ويقال: عصب القوم بالرجل عصبًا أي أحاطوا به لقتال أو حماية، وعصب القوم بالنسب أحاطوا به، وعصبة الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بنوه الأقربون1. والعصبية أن يدعو إلى نصرة عصبته والوقوف إلى جانبه ظالمين أو مظلومين. هذا هو المعنى المفهوم من كلمة عصبية. ولقد كان شعار العصبية في الجاهلية: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا؛ فالعصبية تعبر عن غريزة الدفاع الكامنة في كل كائن مادي أو معنوي، بصرف النظر عن العدالة وعدمها. والعصبية في الفطرة بمنزلة القومية أو الوطنية في العصور الحديثة، وهذه الروح هي روح التضامن الشديد التي يعتز بها المجتمع القبلي، ولقد كانت قوية جدًّا في القبائل العربية على خلاف المعروف في المجتمعات الحضرية. وإذا بحثنا عن مصدر القوة الوطنية في أمة حية، نجده المصلحة العامة؛ لأنه لو ترك الأمر لكل فرد من أفراد الأمة في أن يعمل كما يرى في المسائل العامة؛ لانهدم النظام وانهارات الأمة، فالمصلحة العامة أساس هذا الروح الذي يجعل كل فرد من الأمة يسهم بنصيب وافر في طريق واحد لغاية واحدة يصبو إليها الجميع. لكننا نلاحظ -حتى في المجتمعات الحديثة- شيئًا آخر غير المصلحة العامة، والحقيقة أن المصلحة مقياس جاف، إذ إن الوطنية تقوم على شيء آخر يُذْكيها إلى جانب المصلحة، ذلك هو عامل الشعور؛ لأن عاطفة الوطنية إذا لم تغذ بالشعور تصبح فاترة. فالوطنية الملتهبة هي التي يذكيها ويحركها الشعور، وللشعراء والكتاب والأدباء نصيب كبير في إذكاء هذا الشعور، إذن فالمصلحة العامة والشعور هما قوام العصبية العربية كما أنهما أساس القومية الحديثة. ولقد كان من مصلحة القبيلة أن تكون يدًا واحدة في كل الأحوال؛ لأنها إذا انقسمت على نفسها في أمر ما تلاشت، فالمصلحة كانت -ومازالت- تقتضي وجود التضامن الشديد، إذ إن القبيلة محاطة بالأعداء، فانقسامها معناه ضعفها وتلاشيها. أما عن عامل الشعور فكان كل فرد في القبيلة يحس بأنه مدين في كل شيء عنده إلى قبيلته؛ فهي التي حمته وترعرع بين ظهرانيها حتى صار رجلًا، فكان لزامًا عليه أن يخلص لها ويتفانى في الدفاع عن شرفها، ومن يطالع الشعر الجاهلي يجد الشاعر قد أذاب شخصيته -أو كاد- في شخصية القبيلة، ففضائلها ومحامدها العامة هي فضائله   1 لسان العرب، مادة ع ص ب. المصباح المنير 564- 565. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ومحامده الذاتية1. وكان الشعور بالاندماج في القبيلة أقوى من مثيله في المجتمعات الحديثة، وذلك يرجع إلى تصورهم الخاص للقبيلة. فنحن إذا ذكرنا دولة من الدول فإنما نعني جمعًا من الناس ينزلون أرضًا واحدة، ويستظلون سماء واحدة ينتفعون بخيرات مشتركة، وقد يكون من هؤلاء المتجنسين بجنسية هذه الدولة المتمتعين بحقوق المواطنة فيها مَن هم في أنفسهم مِن أجناس أخرى ومنابت أخرى. بينما نجد الحال على عكس ذلك في المجتمع العربي، فقد كانت القبيلة صورة تامة بالمعنى الحرفي لكلمة أسرة. فإذا قيل بنو أسد مثلًا كان معنى ذلك أن رجلًا اسمه أسد عاش في الزمن القديم، وتوالدت عنه هذه الأسرة التي أصبحت قبيلة اتخذت اسم رئيسها الأول كنية لها، فكل هذه القبيلة إخوة بالمعنى الصحيح يتغلغل في عروقهم دم واحد هو دم أبيهم القديم. حقيقة كان في القبيلة من ينتمي إليها من غير أبنائها عن طريق الولاء، إلا أن صلب القبيلة كان من أبنائها الذين يردون نسبهم إلى أصلها، ثم إنه كان من ناحية أخرى النسب العربي العام الذي يرد العرب أنفسهم جميعًا إليه، فهؤلاء الموالي يجتمعون مع القبيلة في النسب العام وتربطهم بها المصلحة المشتركة. والحق أن الإنسان إذا شعر بأنه من أسرة فإن شعوره نحوها يكون أشد من شعوره إذا كان فردًا من أمة؛ لأن المسألة حينئذ تكون أبوة أو أخوة أو عمومة، ويكون موقفه هنا غير موقفه هناك2. فإذن مصدر قوة العصبية عند العرب هو شعورهم بأنهم أفراد أسرة واحدة. والعصبية كانت قوية شديدة الأثر في حفظ التوازن بين الجماعات القبلية التي يتألف منها المجتمع العربي، وفي دفع الناس بعضهم ببعض وصيانة حقوقهم وكرامتهم، بل وحياتهم. وبالرغم من أن الإسلام جاء بالقضاء على العصبية القبلية، وجعل المسلمين كلهم إخوة بغض النظر عن قبائلهم، فإن سلطان العصبية وشدة رسوخها ظل قويًّا، وكان لها أثر فعال في كثير من أحداث التاريخ الإسلامي وسيره وتطوره حتى القرن الثالث الهجري، أي حتى ضعف العنصر العربي، وإن ظل أثرها باقيًّا بعد ذلك في أقاليم   1 انظر معلقة عمرو بن كثلوم حيث لم يتحدث الشاعر عن نفسه إطلاقًا، وإنما اندمج في حديث عن قبيلته ومحامدها العامة، وهو بذلك كأنما يتحدث عن نفسه ويفخر بمحامده الشخصية، وهذه المعلقة تعبير صادق عن روح التفاني في الجماعة القبلية. "جمهرة أشعار العرب ص157 وما بعدها: الطبعة الأولى. مصر 133". 2 انظر: ابن خلدون، المقدمة 143- 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 المغرب الإسلامية، وذلك بالرغم من تندر القرآن بها وتحذيره منها استهدافًا لخلق مجتمع إسلامي أساسه إطار أعم من الأخوة الدينية العامة، والمصلحة المشتركة بين الذين يتألف منهم هذا المجتمع، وولاية المسلمين بعضهم بعضًا بغض النظر عن اختلاف البطون والقبائل والأجناس1. وإذن، فإن ملاك الكيان القبلي هو قرابة الدم، والإيمان بالقبيلة، وتقديس مصالحها.   1 انظر سورة آل عمران، 103. النساء، 144. المائدة، 55- 57. الأنفال، 62- 64، 71، 72، 75 التوبة، 23، 71. الحجرات، 9. الممتحنة، 1. المجادلة، 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 مستويات العصبية الاجتماعية للعصبية مظاهر تبدو ما فيها نستطيع الوصول إليه من قراءة الأخبار التي وردت في أيام العرب، ومن خلال أشعارهم، ومن الآيات القرآنية التي وردت فيها. وهذه المظاهر هي: 1- عصبية العشيرة وذوى الأرحام: كان أفراد العائلة الواحدة أو الفخذ أو البطن، أي أفراد الوحدة الاجتماعية الصغرى، الذين تجمع بينهم الأرحام القريبة يتضامنون في الدفاع عن بعضهم، والاستنصار لبعضهم في مختلف المواقف: فهم أفرادًا وجماعة، مطالبون بالتضامن في الدفاع عن سمعة الوحدة وشرفها ومصلحتها المشتركة؛ وحفظها من العدوان عليها في داخل القبيلة أو خارجها، كما أنهم جميعًا مطالبون بجريرتها، حتى ولو كانوا متنافرين في العقيدة والميول، فهي عندهم أقوى من الإيمان الديني، ولقد ظهر هذا النوع من العصبية واضحًا جدًّا في أول ظهور الإسلام، وكان له أثر كبير في الأحداث التي وقعت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلقد وقف بنو هاشم يحمون النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة ضد بقية بطون قريش استجابة لعصبية الرحم والقربى، بالرغم من بقائهم على دين آبائهم: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام] 1 حتى لقد قاطعتهم قريش من أجل ذلك وحصرتهم في أحد شِعاب مكة ثلاث سنوات2. وحتى أبو لهب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان قد شذ ومالأ قريشًا، فإنه   1 تفسير الطبري 11/ 312- 314. 2 ابن هشام 1/ 371 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 لما مات أبو طالب ذهب إلى محمد يقول له: "يا محمد, امضِ لما أردت وما كنت صانعًا إذا كان أبو طالب حيًّا فاصنعه، ولا واللات لا يوصل إليك حتى أموت"1. ولقد أبقى الإسلام على رابطة العشيرة والأرحام فلم يمحُها بل جعلها داخل النطاق العام، فقد بقيت على العشائر النفقات التي ليست ذات صبغة خاصة محضة وخصوصًا دفع الدية وفداء الأسرى، كذلك أبقى للعشيرة مسألة الولاء2. كذلك أراد الإسلام الانتفاع بسلطان هذه العصبية العشيرية في تقريب الناس للإسلام بدعوة المخالفين إلى مهادنة المسلمين. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء] 3 فهو يهتف بهم أن يتقوا الأرحام التي يتساءلون بها ويعز عليهم أمرها ويتأثرون بها في حياتهم المادية والمعنوية، ثم إنه كان يذكر قريشًا بالرحم التي بينها وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبأنه لا يحرص على إيمانهم وهداهم إلا استجابة لعاطفة الرحم التي تدعوه إلى الحرص على خيرهم، كما يجب أن تدعوهم لتصديقه واتباعه، فهو غير متهم في مصلحة أهله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى] كما أنه دائمًا كان يذكي روح المسلمين، ويعير المنافقين والمتخاذلين بأنهم إنما يقطعون أرحامهم بجبنهم عن نصرة إخوانهم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد] . ومع أن رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت شاملة عامة، إلا أنه كلف أول ما كلف بأن ينذر عشيرته الأقربين {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين} [الشعراء] حتى إذا آمنوا انتصروا له فكانوا درعًا يحول دون أذَى الناس له، ولقد جرى الإسلام في هذا على مفهوم الوضع الاجتماعي في المجتمع العربي على أن موقف أقاربه من عدم تصديقه كان له أثر كبير في مقابلة أهل مكة الدعوة بالفتور والاستخفاف، إذ قد جرت العادة أن يتابع الشخص أقرباءه بدافع العصبية فهم ينتصرون له ويتفاخرون به ويفاخرون به غيرهم. ولقد واجه المسلمون كثيرًا من الحرج والمشاكل نتيجةً لعصبية الأرحام خاصة، فقد كان يحدث أن يكون الابن أو الأخ أو الأب في صفوف المسلمين، والأب أو الأخ   1 ابن سعد: الطبقات: 1/ 195. 2 انظر الصحيفة التي كتبها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة. ابن هشام، 2/ 121- 123. 3 تفسير الطبري 7/ 518- 520. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أو الابن في صفوف المشركين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيحدث الحرج, وتبدو الميول العصبية؛ مما اقتضى نزول القرآن بالزجر الشديد عن متابعة هذه الميول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة] . والروايات المتواترة تذكر مواقف لبعض المسلمين دفعتهم إليها عصبية الرحم، فتذكر كيف ظهر القنوط والأسف على وجه أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة حينما رأى مصرع أبيه في معركة بدر1. وكذلك موقف حاطب بن أبي بلتعة حينما كتب لقريش ينبئها باستعداد النبي -صلى الله عليه وسلم- لغزو مكة مصانعةً لها على أهل له وولد بين قريش2. وتظهر شخصية العشيرة في بعض المواقف مثل: ولاية الدم: كان من المعروف في التقاليد العربية أن للقتيل وليًّا أو صاحب دم يطالب به. ويكون حقه في هذا الطلب معترفًا به من الجميع من القبيلة أو من غيرها. بحيث يكون له بذلك سلطان. أي حق واجب يجب نصره للحصول عليه {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء] والولي أو صاحب الدم إنما يكون من عصبة القتيل القريبة، ليس من الضروري أن يكون ابن القتيل أو أباه أو أخاه- وإن كان هؤلاء هم أصحاب الحق الأول- بل يكون رئيس العشيرة باعتباره ممثلًا للعائلة التي يعد القتيل قتيلها والدم دمها. وهذا التقليد هو الذي حدا بمعاوية بن أبي سفيان، دون أبناء عثمان، أن يقوم مطالبًا بدم الخليفة المقتول على اعتبار أنه ولي الدم بصفته رئيسًا للبيت الأموي3. العقل: وكما يتضامن ذوو القربى والأرحام في الأخذ بالثأر، كذلك يتضامنون في العقل -والعقل هو توزيع وجمع الدية عن قتيل- إذا تم صلح أو حكم قاضٍ بدفع الدية   1 ابن هشام 2/ 282- 283. ابن الأثير 2/ 90. 2 ابن هشام 4/ 16- 17. ابن الأثير 2/ 163. 3 ابن كثير، البداية والنهاية 7/ 227، 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 والكف عن الثأر بالدم -فيجمع ذوو القربى والأرحام هذه الدية، التي تدفع كذلك إلى أهل القتيل الذين هم ذوو رحمه وقرباه، والذين تجعلهم تقاليد عصبية الأرحام القريبة أصحاب الحق بدمه، فتوزع الدية عليهم، كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء] 1 وهذه الآية تلهم وجود هذا التقليد على الوجه الذي أشرنا إليه، وبخاصة وهي توجب تسليم الدية إلى أهل القتيل. وهو تعبير يمكن أن يكون أوسع نطاقًا من أب أو أم أو أخ أو ابن. 2- عصبية القبيلة: كان أفراد القبيلة ببطونها وعشائرها يتضامنون تجاه القبائل الأخرى في الحروب والدماء، والدفاع عن المصالح والتبعات المشتركة، ويتناصرون حسب الشعار القبلي "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" ويتعاونون على المغارم، فكل فرد في القبيلة يرى أن الاعتداء على فرد منها إنما هو اعتداء واقع عليه، وأن من واجبه أن ينتصر له ويدفع عنه، أو يأخذ بثأره إذا قتل ممن اعتدى عليه أو من أي فرد من أفراد قبيلته، وإذا نشبت حرب يين قبيلتين تضامن أفراد كل قبيلة في الدفاع والهجوم مهما كان الباعث على هذه الحرب، حتى ولو كانت ميولهم وعواطفهم متباينة. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة يمكن أن نستخلص منها ما كان للعصبية القبلية من شأن كبير في المجتمع العربي، ظهر أثره في الصراع بين مكة والمدينة في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كان في المدينة منافقون ومشركون لم يمنعهم أن يشاركوا المسلمين في القتلال أنهم كانوا يخالفونهم في الدين وفي الميول، وذلك بدافع العصبية القبلية. وتشير الآية {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران] إلى أن بعض المسلمين قد ذكر المنافقين بأنه لا يجوز لهم أن يخذلوا قومهم، وأنهم إن لم يقاتلوا في سبيل الله ففي سبيل الدفاع استجابة لداعي العصبية القبلية، وكان   1 أسد الغابة 1/ 99 "حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: إن عمر كان يقول: الدية على العاقلة لا ترث المرأة من دية زوجها، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 جوابهم أنهم لو تأكدوا من وجود القتال لتضامنوا معهم1 كذلك تذكر الروايات أن رجلًا يدعى "قزمان" قاتل يوم أحد قتالًا شديدًا وقتل عددًا من المشركين، حتى إذا خلصت إليه الجراح وسقط حُمل إلى أحد الدور، وعاده بعض المسلمين وقال له أحدهم: "أبشرْ يا قزمان فأجابه: بماذا أبشَّر! فوالله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي"2. وقد كانت بعض بطون من القبائل الضاربة حول المدينة تريد مسالمة المسلمين والدخول في عهدهم، ولكنها كانت يصيبها الحَرج، فتشترط حسن الصلة مع المسلمين على ألا تتضامن مهم ضد قومها أو ضد حلفاء قومها، وإلى هذا تشير الآية القرآنية {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء] 3. فالعشيرة كانت تدين بالولاء للقبيلة ولا تخرج عليها لظروف قاهرة، كما أن القبيلة كانت ملتزمةً بتأييد عشائرها، فإذا حدث خلاف فإنه كان من الممكن أن توقع القبيلة جزاءً على العشيرة فتخرجها أو تقاطعها، كما حدث في مقاطعة قريش لبني هاشم، وقد تعلن القبيلة هذا القرار بالنسبة للعشيرة كما كانت تعلن قرار الخلع بالنسبة للأفراد، وقد يحدث أن تكتب بذلك صحيفة. وقد سقنا هذه الأمثلة عن الحالة قُبيل ظهور الإسلام لأن ذلك أوضح وأثبت، مع أنه يمكن الإتيان بأمثلة كثيرة من أيام العرب وما كان يحدث بين بطونها من منافساتٍ وخلافاتٍ تجعل البطن أو العشيرة يخرج من القبيلة أو أن القبيلة تخرجه. كل هذا يدل على قوة العصبية القبلية وأنها كانت راسخةً قويةً، واحتاج المسلمون للقضاء عليها إلى تحذير شديد من جانب القرآن وإلى تكرار الآيات التي تنتهي عنها، ومع ذلك ظلّت آثارها زمنًا طويلًا أثّرت تأثيرًا خطيرًا في حياة الدولة الإسلامية بعامة، والعنصر العربي فيها بنوع خاص. 3- عصبية الأحلاف القبلية أو الأحزاب: كثيرًا ما كانت تقوم بين القبائل مخالفاتٌ ومواثيق لتقف صفًّا واحدًا متساندًا أمام بعض الدواعي، فتنشأ الأحلاف بين القبائل لصيانة المصالح المشتركة أو لضرورة السلم   1 تفسير الطبري 7/ 378- 379. 2 ابن هشام 3/ 37- 38. 3 انظر أسد الغابة 1/ 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بين المتجاورين أو عن طريق المعاهدة بين رجالها؛ فتنشأ بذلك عصبية بين هذه القبائل المتحالفة تدفعها إلى التضامن في الحروب والتعاون في تبعات الدماء1. وكان الحلف بين القبائل قد يستمر جيلًا بعد جيل ولا ينقضي إلا بسبب أحداث جسيمة وعندئذٍ يصبح صلة لاحمة بين القبائل المتحالفة. وقد استمرّ هذا النوع من التحالف وتبعاته إلى ما بعد البعثة النبوية. وقد ورد في القرآن آيات كثيرة تتحدّث عن الأحزاب والمخالفات: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب] . وتعني هذه الآية قريشًا وحلفاءها من القبائل التي تحالفت معها على غزو المدينة في موقعة الخندق. كما أن اليهود في المدينة كانوا متحالفين مع العرب فيها قبل الإسلام، بعضهم حالف الأوس وبعضهم حالف الخزرج ووقف كل فريق مع حليفه في الحرب بالرغم من تعارض هذا مع أحكام التوراة، وقد ندّد القرآن بموقفهم هذا وعيّرهم بمخالفتهم للتوراة في قتالهم بعضهم جريًا وراء مصالحهم الذاتية التي يجلبها الحلف القبلي2 كما أن هذه المحالفات قد ظلّ أثرها بعد الهجرة، حيث ظل الأوس والخزرج متمسكين بحلفهم مع اليهود. وتشير بعض الآيات إلى هذا التمسك3، كما تشير إلى ثبات المنافقين من أهل المدينة في تحالفهم هذا ووعدهم اليهود بالمناصرة إذا قوتلوا وبالتضامن إذا أخرجوا {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر] . ولم يكن هذا مقصورًا على المنافقين بل ظلّ بعض المؤمنين متأثرين به بالرغم من موقف اليهود تجاه الإسلام، ولعل هذا سبب من أسباب صبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على اليهود بالرغم من لجاجهم معه وظهور العداوة منهم، وذلك لعوامل الحلف التي كانت تربط بينهم وبين الأوس والخزرج، حتى يستقرّ الإسلام في يثرب ويصبح سلطانه على النفوس أقوى من سلطان   1 انظر ابن الأثير 1/ 210 وما بعدها. العقد الفريد 5/ 133 وما بعدها "عن أيام العرب ويه ذكر لمحالفات القبائل" كذلك الأغاني 2/ 242- 243، 316، 3/ 38. 2 انظر سورة البقرة 84-85. 3 انظر سورة آل عمران 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الحلف، مما استدعى تشديد النهي عن موالاة اليهود في آيات متعددة1. كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عقد كثيرًا من المحالفات بينه وبين القبائل العربية الضاربة حول المدينة وبينهما وبين مكة، كما تحالف مع اليهود. ومما يلفت النظر في المعاهدات التي وقعها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان بعضها لمدة معينة كما يشير القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة] 2. ولعله لاحظ فيها تطور الدعوة الإسلامية وإمكانياتها المقبلة. على أن عصبية التحالف القبلي، ليست أصلية، إذ أنها حالة طارئة اقتضتها ظروف المصلحة المشتركة، وذلك على عكس عصبية الأرحام أو العصبية القبلية فإنها عصبية أصلية تستمد وجودها من القرابة والدم، والمصلحة المتحدة الطبيعية بين أبناء القبيلة الواحدة الذين يكونون في الغالب من أرحام وقربى وإن تباعدت في النسب، ثم بين أبناء العشيرة الواحدة الذين تجمعهم صلة الدم والرحم القريبة. وعلى هذا فالعصبية في قوة التأثر بها والاستجابة إليها من عصبية الأسرة، إلى عصبية العشيرة، إلى عصبية الفخذ، إلى عصبية البطن، إلى عصبية القبلية، إلى العصبية الناشئة عن الحلف3 وهذا التفاوت في قوة العصبية والتأثر بها والاستجابة لها متسق مع طبائع الأشياء، وقد جرى الإسلام حين جاء على هذا الأساس، فقد كلف النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتدرج في دعوته من عيشيرته الأقربين، وهم أمسّ به رحمًا والمظنون أن يكونوا أقرب استجابةً له، ثم لينذر أمّ القرى "مكة" ومن حولها "العرب" ثم الناس جميعًا. ونحن إذا نظرنا إلى القبائل من ناحية الترابط المتبادل بينها فإننا نخطئ إذا اتهمنا العرب بالفردية، والمجتمع العربي بالجمود والتشتت، فالواقع أن القبائل كانت متصلةً متداخلةً، وكذلك كانت متحركةً متقلقلةً، لا تكاد تتخذ شكلًا معينًا حتى يعرض لها من ضرورات الصلة والجوار ومؤالفة المجتمع ما يجعلها تندغم في غيرها، أو تدخل معها   1 انظر سورة آل عمران 28. انظر تفسير الطبري6/ 314. وسورة آل عمران 118- 119. وسورة النساء 114. وسورة المائدة 51. 2 وانظر سورة الأنفال 55، 56، 72. التوبة 1/ 74. ابن هشام 2/ 224، 236. 3 انظر ابن خلدون المقدمة، ص144، 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 في شكل معين من الحلف أو الجوار، فقد كانت هناك حركة نشيطة فيما بين أفراد القبائل، كما كانت حركة نشيطة فيما بين القبائل نفسها؛ تلتقي، وتتباعد، ويؤلف ببينهما الحلف أو الجوار، كما تفرقها العدوات والحروب. على أن تقليد التضامن الاجتماعي والعصبية كان ركنًا من أركان حياتهم الاجتماعية، بل أقوى أركانها. على أن العصبية الاجتماعية سواء منها عصبية الأرحام أو عصبية القبلية أو عصبية التحالف، حاجة طبيعية في حياة الأمة التي تعيش في طور البداوة بوجه عام؛ لأنه لا يمكن حفظ التوازن والحقوق والدماء في هذا الطور بدونها. ولقد أخذت عصبية التحالف في الازدياد قبيل البعثة النبوية أي في أواخر العصر الجاهلي، فقد أخذت القبائل تتكتل في مجاميعَ كبيرةٍ، وكان هذا إحساسًا من القبيلة العربية بأنها لا تستطيع أن تعيش في مجالها الضيق، وأنها بحاجة إلى غيرها من القبائل التي تؤاخيها وتربط مصيرها بمصيرها، وكان هذا الميل إلى التحالف والتجمع مسايرًا للنهضة العربية التي بدت تباشيرها في القرن الأول قبل البعثة وشملت الحالة السياسية والدينية والفكرية عند العرب، والتي مهدت لظهور النهضة الكبرى التي جاء بها الإسلام بعد ذلك. عصبية التقاليد: كان العرب يتعصبون لتقاليدهم وموروث عاداتهم تعصبًا شديدًا، يرون في ذلك فضيلة لا معدى عنها، وجزءًا لا ينفصل من حياة المجتمع، ولو أدّى إلى الحرب وإراقة الدماء والمواقف المهلكة، وقد بلغ من قوة العصبية للتقاليد، أن أصبحت عندهم دِينًا يرون الأخذ من أمر الله {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف] 1 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة] 2.   1 تفسير الطبري 12/ 379. 2 وانظر سورة لقمان 21. تفسير الطبري 3/ 317، 11/ 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وكانوا يعتبرون ماهم عليه من تقاليد دينية واجتماعية متنوعة هي من مشيئة الله ورضاه؛ ولذلك فهي الأهدى والأصلح، وقد توارثوها أبًا عن جد، ولم لم تكن كذلك لمنعهم الله عنها1. وهذا يفسر لنا الموقف الشديد الذي اتخذه أهل مكة ضد الدعوة الإسلامية وضد النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، فإن قوة العصبية للتقاليد التي كانت من العوامل المؤثرة في ذلك من غير شك، كما أنها حالت دون كثير من ذوي قربى النبي -صلى الله عليه وسلم- والدخول في الإسلام استجابةً لعصبية التقاليد، في الوقت الذي كانوا ينصرونه فيه ويقفون إلى جانبه ويحمونه استجابةً لعصبية الرحم، وعلى رأس هؤلاء عمّه أبو طالب الذي غلبته عصبية التقاليد على أمره2 بالرغم من معرفته لصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- وبالرغم من إعجابه وإعجاب بني هاشم به، وما كان لهم من الفخر بظهور نبيّ ورجل عظيم منهم؛ إلا أن سلطان عصبية التقاليد كان شديدًا لدرجة أنه تغلّب على سلطان عصبية الرحم في نفَس واحد من بين هاشم، هو أبو لهب الذي شذّ على عشيرته وانضم إلى مناوئيهم استجابةً لعصبيةِ التقاليد الموروثة. وهناك حالة تثبت قوّة عصبية التقاليد، وهي زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من زينب بنت جحش مطلقة متبنّاه زيد بن حارثة، وقد كان مثل هذا الزواج محرمًا في الجاهلية، إذ كان المتبنى يعامل كالابن بالنسب- وكان إلغاؤه من الأمور الجسيمة التي تحتاج إلى قوّة نفسية كبيرة حتى ليتولّى كسر هذا التقليد النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه ومع ناس من أهل بيته أولًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نقسه قد تحرّج من هذا الأمر وأشفق من الرأي العام حتى عوتب في القرآن، كذلك أشفقت زينب- وهي ابنة عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأشفق أخوها، واحتاج الأمر إلى شيء من الإنذار للمؤمنين بأن يخضعوا لأمر الله3. وكذلك اشتبه في وقوع قتال في الشهر الحرام في إحدى السرايا التي أرسلها النبي -صلى الله عيه وسلم- في آخر رجب من السنة الثانية من الهجرة إلى بطن نخلة بين الطائف ومكة لتتعرف أخبار قريش، فالتقت بعير لقريش فقتلت أحد حرّاسها واستولت عليها، وانتهزت قريش هذه الفرصة فشنّت حربًا من الدعاية ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين لتثير الرأي العام العربي لحرمة التقاليد، وقد   1 انظر سورة النحل 35. وسورة الأنعام 148. وتفسير الطبري 12/ 208. 2 انظر ابن هشام 2/ 27. 3 انظر سورة الأحزاب 36- 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أثّرت هذه الضحية التي أحدثتها قريش في المسلمين أنفسهم في المدينة، حتى احتاج الأمر إلى بيان من القرآن الكريم، يوضّح الموقف ويردّ على دعاية قريش1. ومن قوة التعصّب للتقاليد نستطيع أن ندرك الحكمة في الإبقاء على كثير من التقاليد التي كان عليها العرب قبل البعثة. وسواء ما كانت منها متصلًا بحياة الناس الاجتماعية والعائلية أو ما كان له صبغة دينية؛ فقد كانت التقاليد راسخة بحيث كان الناس يعتبرونها جزءًا من كيانهم الاجتماعي الديني. وكان إلغاؤها يمكن أن يحدث كثيرًا من العقبات في سبيل انتشار الدعوة الإسلامية، لذلك تدرّج التشريع الإسلامي فألغى ما لا بد من إلغائه مما يتعارض مع جوهر الدعوة وأهدافها، أو كان فيه فحش ينبو عن الذوق الحسن، أو كان متنافيًا مع المصلحة العامة كالزواج من زوجة الأب والجمع بين الأختين والزنا والتخادن والمسافحة، والطواف العاري بالكعبة والذبح للأنصاب، وحرمة صيد البحر عند الإحرام، واكتفى بتهذيب الباقي تهذيبًا يجعله مفيدًا ومنسجمًا مع أسس الدعوة الإسلامية وأهدافها، أو غير متناقص معها، وكذلك تدرّج في التحريم -مثل تحريم الخمر- حتى لا يصطدم التشريع بتقاليد الناس وراسخ عاداتهم اصطدامًا شديدًا، كذلك وضع من الأسس ما يسمح بالتصرف بما يكون هو الأصلح كالاكتفاء بزوجة واحدة لعدم استطاعة العدل بين الزوجات المتعددات. كذلك يجعل أمر الأسرى للسلطان يَمن عليهم أو يفاديهم، حتى يقضي على الرق في المستقبل. فنحن إذن أمام بيئة محافظة تحرص على التمسّك بعرفها القديم وتدافع عن وتستميت في هذا الدفاع حفاظًا على كيانها. أثر العصبية في المجتمع العربي من الناحية السياسية إذا كانت العصبية ذات أثر شديد من الناحية الاجتماعية في حفظ التوازن بين الجماعات القبلية التي يتألف منها المجتمع العربي وفي إقامة الروابط بينها، وفي دفع   1 انظر سورة البقرة 217- 218، وتفسير الطبري 4/ 199- 216. وابن هشام 2/ 240-242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الناس بعضهم ببعض، وصيانة حقوقهم وكرامتهم بل وحياتهم، فإن هذه العصبية الضيقة قد حالت دون تكوين مجتمع واحد كبير تصهر فيه جميع الوحدات القبلية، بل إنها على العكس من ذلك أوجدت مجتمعات صغيرة لكل منها كيانه السياسي الخاص؛ فغاية ما فكّر فيه العصبي الجاهلي من الناحية السياسية أنه إنسان ينتمي إلى قحطان أو عدنان، وذلك إذا تساهلنا وقلنا: إن مصطلحي "قحطاان وعدنان" ظهرا قبل الإسلام. بل حتى في صدر الإسلام كانت هذه النظرة الجاهلية الضيقة التي حاربها الإسلام لا تزال مستحوذةً على عقلية أكثر الناس، وقد عمل بها حتّى رجال الدولة الذين كان من واجبهم محاربتها ومقاومتها. وذلك لأغراض سياسية، وكان من نتائجها إضعاف القومية العربية واستغلال قحطان وعدنان لإسقاطهما على السواء. أما الأحلاف القبلية فلم تكن غايتهما قومية بعيدة وإنما كانت لمنافع ومصالح ذات أهداف ضيقة. وكذلك ساعدت العصبية الضيقة على عدم الاستقرار؛ لكثرة الأطراف وحتمية التنازع بينها نظرًا لظروف البيئة العربية من الناحية الطبيعية والاقتصادية، وقد أدى التنافس والخلافات بين القبائل إلى الانزلاق في كثير من الأحيان إلى مستوى المنافسات التافهة، الأمر الذ ي أدّى إلى الشعور بعدم الرضا، وأوجد الرغبة لدى العقلاء وأصحاب الرأي إلى ضرورة توجيه العصبية توجيهًا قوميًّا ودينيًّا. وقد أحسّ المجتمع العربيّ بهذه الضرورة إحساسًا واضحًا قبيل ظهور الإسلام، وما إقرار هدنة الأشهر الحرام ومنع القتال فيها وإقرار الأمن، وكذلك الاتجاه نحو كثرة المحالفات وقيام الكتل الكبرى، ومحاولة رد العرب أنسابهم إلى أصل واحد أو أصلين كبيرين، إلا ظاهرة من ظواهر هذا الإحساس الذي أحس به المجتمع العربي كضرورة اجتماعية وسياسية، وكان ظهور الإسلام آخر الأمر متوِّجًا لهذا الإحساس العربي. النسب إذا كانت القبيلة قد اتخذت العصبية دستور حياتها، فإن هذه العصبية إنما هي ثمرة للنسب، فالعصبية آتية من فكرة القرابة وصلة النسب الحقيقي أو ما يجر مجراه من حلف أو ولاء أو جوار. وهذا المعنى هو الذي نعقد لإبرازه هذا العنوان. وقد كتب ابن خلدون فصولًا إضافية عن العصبية واتخذ النسب وصلة الدم أو ما يقوم مقامه أساسًا لها. وقد أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أرحامكم" بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة، وما فوق ذلك مستغنى عنه1. ولقد كان أفراد القبيلة يعتقدون أنهم أفراد أسرة توالدت من أب واحد، بل ردّوا أصول القبائل كلها إلى أبٍ واحد وعنه نشأت هذه المجاميع الهائلة. ولكن بعض المؤرخين يشك كثيرًا في نسب القبائل؛ فإنه ليس من السهل معرفة الجد الأول لأسرة تتوالد منذ مئات السنين، وهم لم يخرجوا بعد عن عهد الفطرة، بل ذهب بعض المؤرخين إلى أكثر من ذلك، وتساءلوا هل ترجع العصبية حقيقيةً إلى أسرة أم إلى شيء آخر؟ وقد تناول هذا الموضوع المؤرخ الإنجليزي "روبرتسون سميث Robertson smith في كتابه: Kinship and Marriage in early Arabia" الذي يعد نموذجًا للبحث العلمي بالطريقة المستقصاة. وتتلخص نظريته في أن القبيلة ليست أسرةً، بل إنها خليط من الناس ككل الجماعات الأخرى، لا يربطها رابطة النسب، بل رابطة الصلة والتضامن، ثم رابطة الديانة الفطرية التي تسمى طوطمية Totemism وهذه الديانة عبارة عن مرحلة من مراحل الاعتقادات الفطرية توجد في المجتمعات الأولية "Primitive societies" ولا تزال موجودة عند القبائل التي لم تتحضر في أفريقيا وآسيا وأمريكا. وقد وجدت عند الأمم القديمة كاليونان والرومان واليهود وربما عند المصريين2. وكان هذا الطوطم "Totem" حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا، تعبده القبيلة تعتقد أنها تناسلت منه بشكل خفيّ غامض، وأن دمه يجري في عروقها، ويقول هذا المؤرخ سميث: إن هناك ثلاثة شروط أساسية لوجود الطوطمية Totemism:3 1- أن توجد قبائل ذات أسماء حيوانية أونباتية أو جمادية. 2- أن تعتقد هذه القبائل تناسلها من هذه الكائنات. 3- أن تعبد هذه الكائنات.   1 عن العصبية والنسب. انظر مقدمة ابن خلدون من 145- 152. 2 "انظر": Smith, P. 217- 251 3 Op. Cit.P.219 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ويقول: إن هذه الأدلة متوافرة في المجتمع العربي القديم: فبنو كلب وبنو نمر وبنو أسد أسماء حيوانية، وبنو حنظلة اسم نباتي، وبنو صخر وبنو جندل اسمان جماديان. أما الشرط الثاني الذي يدل على التناسل فهو الكنية الموجودة في اسم القبيلة "بني"؛ فقبيلة كلب وقبيلة أسد مثلًا تقول: إنهم بنو كلب وبنو أسد، وهذا راجع لاعتقادهم أن القبيلة من أصل واحد1. وأما الشرط الثالث فإنه وجد في المجتمع لاعتقادهم القديم قبائل كانت تقدس حيوانات أو نباتات، ومعنى التقديس هنا هو أن يحرموا ذبح ذلك الحيوان أو النبات ويمنعوا أكله، وإذا مات الحيوان؛ فإنّهم يحتفلون بدفنه عند موته. ومن معبودات العرب القدماء يغوث وكان على صورة أسد2 ونسر كان على صورة نسر3، كذلك كانوا يعتقدون في العزّى تحلّ في ثلاث شجرات، فلما ظهر الإسلام أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهدم معبد العزى وبقطع الشجرات. كذلك كانت القبيلة العربية تعتقد أن دمها مقدّس يجب المحافظة عليه، مما يدل على اعتقادها بأنها متناسلة من معبودها؛ ولذلك فإن أي قتل من القبيلة يعتبر اعتداء على القرابة الروحية التي تربط القبيلة بعضها ببعض، ومن هنا تتضح قوة الثأر عند العرب القدماء، كذلك كان لا يدخل في القبيلة أجنبي إلا بعد إجراءات وطقوس للعمل على امتزاج دم هذا الأجنبي بالقبيلة نفسها. وإذا ناقشنا نظرية سميث رأينا أنها لم تطبق تطبيقًا صحيحًا على المجتمع العربي؛ فإنه حقيقة توجد قبائل لها أسماء حيوان أو نبات أو جماد، لكن هذه الأسماء أسماء أشخاص وليست أسماء رموز أو طواطم، فإن القبائل التي تسمّت بهذه الأسماء لم تعتقد بانحدارها عن حيوان أو نبات أو جماد فبنو أسد مثلًا يعتقدون أنهم من نسل رجل يسمى "أسد" وليس من نسل الأسد الحيوان الرمز الإلهي "الطوطم" فقد ردّوا "أسد" نفسه إلى أب وإلى جد أعلى، ولم يعتبروه جدًا إلا لهذه القبيلة التي هي فرع من أصل كبير مردود إلى أب أعلى معروف بإنسانيته. وكذلك الحال في بني   1 op. cit. p. 223- 224 2، 3 ليس عند ابن الكلبي ما يشير إلى أن يغوث كان على صورة أسد أو أن نسرًا كان على صورة النسر، وودًا وسواعًا ويعوق، كانوا على صورة الناس "الأصنام 51" وأن يغوث كانت تعبده مذحج، ونسرًا كانت تعبده حمير "نفسه 25". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فهد وبني حنظل وبني صخر وغيرهم. وهذه الأسماء مشهورة متعددة عند العرب وليست أسماء آلهة، كما أن هذه القبائل التي لم تعبد آلهة بهذه الأسماء بل لا يوجد من الأصنام العربية من هو بهذه الأسماء، وإذا كان "سميث" قد أشار إلى يغوث على أنه كان على صورة الأسد أو إلى نسر على أنه كان على صورة النسر، فإن ابن الكلبي لا يصفها بهذه الصفات؛ وإنما وصفها بأنها على صورة الآدميين، كما أن بني أسد لم يعبدوا "يغوث" ولم يوجد من يسمى بنو نسر. هذا إلى أن تقديس العرب لبعض الأشجار أو الأصنام لم يستتبعه انتسابهم لها، كما أن عبادة الحيوان أو الطير لم تكن موجودة في بلاد العرب، ولم يقدس العرب حيوانًا أو طيرًا فيحمونه ويحتفلون بدفنه كما هو الحال عند غيرهم. أما رابطة العصبية؛ فقد دعت إليها ظروف المجتمع القبلي وحاجة الناس فيه إلى التضامن الشديد حفظًا لدمائهم وأموالهم، في مجتمع لا توجد فيه حكومة مركزية تقيم القانون وتحمي الحقوق. وغاية ما في الأمر أنه وجدت آثار تشبه ما لهذا النظام الطوطمي في بلاد العرب، وليس ببعيد أن يكون هذا النظام قد مرّ في طور من أطوار بعض القبائل، إلا أنه لم يرتبط بأنساب العرب إطلاقًا. وهناك مسألة أخرى تتصل بهذا الموضوع، وهي أنه كان في القبائل العربية ما يعرف بالخئولة والعمومة، والأولى هي القرابة من ناحية الأم، والثانية هي القرابة من ناحية الأب. ولقد كان للخئولة شأن جليل في العصر الجاهلي بخلاف ما كان لها في الإسلام. ومسألة الخئولة رابطة يردها "سميث" إلى الطوطمية فيقول: إن نظرية الطوطمية في المجتمعات العربية القديمة تحرم الزواج من داخل القبيلة نفسها، أي أن الإنسان لا يتزوج من قبيلته، بل يتزوج من خارجها. ولقد كانت المرأة تمكث في قبيلتها ولذلك نجد أن الطفل ينشأ فيجد نفسه بين أخواله ومن هنا كانت القبيلة تتعصب لزوج المرأة، والأولاد يتصعب لهم أخوالهم، ولما انتقلت الزوجة إلى قبيلة زوجها أصبح الأولاد يفخرون بأخوالهم عند اللزوم. ومع تقدم المجتمع انتقلت المرأة إلى قبيلة زوجها، وتخلفت عن ذلك ذكريات هي الأصل في الفخر بالخئولة والتعصب لها؛ إنما أخذت تظهر قوة العمومة نتيجة لوجود الزوجة بقبيلة زوجها. ولقد أدى ذلك إلى أنه بعد أن كان الزوج ضعيفًا بالنسبة لزوجته أصبح سيدًا عليها، وارتفع شأن العمومة لدى الأولاد الناشئين1.   1 Geralp de gaury, Rulers of Mecca, p. 25. smith, p. 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ولكن نظرة إلى أنساب العرب تنقض هذا القول فإن العرب ذكروا نسب المرء لأمّه كما ذكروه لأبيه، ونجد زواجًا كثيرًا وقع بين الأقارب والقريبات من بنات العم، وليس هذا في الجاهلية القريبة فحسب، وإنما هو موجود في الجاهلية البعيدة؛ الأمر الذي ينقض نظرية الطوطمية في هذا الموضوع. ثم إن العرب لم يكونوا يتجافون عن زواج القريبات تحت تأثير الفكرة الطوطمية وإنما كان ذلك تحت تأثير فكرة الوراثة التي تقول أن التزاوج بين الأقارب يورث الأولاد أضعف صفات النوع. قال الشاعر العربي: تجاوزت بنت العم وهي حبيبة ... مخافة أن تُضْوِي على وليدي على أن التصنيف المعروف للقبائل العربية هو حاصل عرف جرى عليه النسابون. ونحن لا نعرف تدوينًا للأنساب عند أهل الجاهلية، وإن عرفنا أناسًا اشتهروا بمعرفة النسب في الجاهلية وفي أول الإسلام من أمثال أبي بكر الصديق وغيره؛ وإنما نعرف أن أول تدوين رسمي هو التدوين الذي تم في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين وضع ديوان الجيش، وظهرت الحاجة إلى تسجيل القبائل فسجلت، ولم تصل إلينا -ويا للأسف- سجلات هذا الديوان، ولم يصرح أحد من النسابين أنه أخذ مادة أنسابه من تلك السجلات. وإنما الذي بين أيدينا هو خلاصة وجهة نظر النسابين في أنساب القبائل، وعلى هذا التقسيم اعتمد المعنيون بهذا الموضوع. على أن أمر تقدير النسب في حد ذاته أمر بالغ غاية الصعوبة، وذلك لما يعرض له من التداخل، نتيجة للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تحياها القبائل العربية. فلم يكن المجتمع العربي من التحاجز والتباعد بحيث تعيش كل قبيلة منفصلة عن غيرها في إطارها الخاص وفي جوها المتميز، ولا يكاد يكون بينها وبين غيرها إلا الغارات أو الحذر من الغارات؛ وإنما كان هناك حركة دائمة تسوق هذه القبائل وتقارب بينها، فإن القبائل كانت متصلة متداخلة وكانت كذلك متحركة متقلقلة لا تكاد تتخذ شكلًا معينًا حتى يعرض لها من ضرورات الصلة ومصالح الجوار ومؤالفة المجتمع ما يضطرها إلى أن تنصهر أو تندغم في قالب جديد، فكثيرًا ما كانت بطون من القبائل تضطرها الظروف الاجتماعية أو الاقتصادية إلى أن تفارق قبائلها وتتصل بقبائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أخرى عن طريق الحلف أو الجوار، ثم لا تلبث أن تندمج فيها وتنتسب إليها، ثم قد يطرأ لها ما يجعلها تخرج عنها إلى أخرى فتعدل نسبها إليها1، كذلك كان يحدث أن تهاجر بعض البطون من قبائل متعددة ثم تلتقي في مكان واحد فيجمعها الجوار وتربط بينها المصلحة المشتركة، وقد يكون بعضها من الشمال وبعضها من الجنوب، ثم يقع بينها الحلف فتصبح قبيلة واحدة، قد تتخذ اسمها من المكان أو الإقامة أو التجمع، كما تكونت قبيلة تنّوخ على أطراف العراق2. وقد يختلط الأمر على النسابين حين تتشابه أسماء القبائل وتتعدد هجراتها فينسبون إلى الشمال قبائل من الجنوب وينسبون إلى الجنوب قبائل من الشمال، ويقع لذلك بينهم كثير من الخلاف3. وكما كانت الحركة نشيطة بين القبائل كانت كذلك أشدّ نشاطًا بين الأفراد4، فلم تكن تبعية الأفراد للقبائل، في مثل الصرامة التي استقرت في الأذهان ولم تكن نسبة الفرد إلى قبيلته هذه النسبة الحادة التي لا تعرف التحول ولا تستطيع الإفلات؛ وإنما يبدو أنه كانت هناك حرية واسعة يستطيع معها الأفراد من قبيلة أن يغادورها إلى قبيلة أخرى، فينزلون عليها وينتمون إليها ويبنون بنساء منها وتكون لهم هذه القبيلة مجتمعًا جديدًا، ويختلط بنوهم بنسبها، وأكبر مَثَلٌ لذلك شأن قبيلة بجيلة حين ولّى عليهم الخليفة عمر "عرفجة بن هرثمة" فسألوه الإعفاء منه، وقالوا: هو فينا لصيق، أي دخيل، وطلبوا أن يولي عليهم جرير بن عبد الله5، فسأل عمر عن ذلك فقال عرفجة: "صدقوا يا أمير المؤمنين، أنا رجل من الأزد أصبت أدمًا في قومي ولحقت بهم" فانظر كيف اختلط عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتى رشح للرياسة عليهم لولا علم بعضهم بوشائجه، ولو غفلوا عن ذلك وامتد الزمن لتنوسي، وعدّ منهم بكل وجه ومذهب6، وكذلك الحال في أمر قيس بن مكشوح   1 الأغاني 4/ 367- 368. 2 بروكلمان، تاريخ الأدب العربي ص 124. 3 ابن هشام 1/ 5-12، الأغاني 4/ 303- 307. القلقشندي نهاية الأرب عن بجيلة ص 171 وعن خثعم ص 243. صبح الأعشى 1/ 329- 330. الروض الأنف 1/ 60. 4 ابن الأثير 1/ 339- 343. 5- الطبري 2/ 646. 6 ابن خلدون، المقدمة 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 المرادي، إنما هو حليف لمراد1 وكان الحطيئة الشاعر إذا غضب على بني عبس يقول: أنا من ذهل، وإذا غضب على ذهل قال: أنا من بني عبس2. ولقد كانت المرأة تطلَّق من زوجها، وهي حامل، أو يموت عنها فتتزوّج رجلًا آخر فتلد مولودها في بيته فيسمى به، وكثير من قبائل العرب انتسبوا إلى حاضنهم وإلى رابهم "زوج أمهم"3 وكان من تبنى رجلًا في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث ميراثه، حتى جاء الإسلام وأنزل الله تعالى قوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب] 4. وهكذا كان أمر تقرير الأنسباب وبخاصّة الأنساب البعيدة، أمرًا بالغ الصعوبة. على أن سلامة النسب وصراحته إنما تكون في القبائل المتبدية أكثر منها في القبائل التي تعيش في مناطق الحضارة وتجاور الأمم الأخرى، وذلك لبعد القبائل المتبدية عن الاختلاط والتصاهر والانصهار. واعتبر ذلك من مضر في قريش وكنانة وثقيف وأسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة؛ لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع، فكانت أنسابهم صريحة محفوظة ولم يدخلها اختلاط ولا عرف فيهم شوب5. وهكذا يقرر ابن خلدون. وإن كان الاختلاط موجودًا في مثل هذه الحالات بنسبة ضئيلة. على أنه مهما في الأنساب من الشك - فإنه إذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد؛ لأنه لا معنى لكون الفرد من هؤلاء أو من هؤلاء؛ إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه وكأنه التحم بهم6. وسواء أصحت الأنساب أم لم تصح فقد اعتنقها العرب، ولا سيما متأخروهم، وبنوا عليها عصبيتهم. وقد جاء الإسلام وكان قد تم اعتقاد العرب أنهم في أنسابهم يرجعون إلى أصول ثلاثة: مضر، وربيعة، واليمن7.   1 الروض الأنف 1/ 39. 2 الأغاني 2/ 158. 3 نفسه 5/ 2-4. 4 الروض الأنف 1/ 13، 16، البخاري 5/ 82. 5- المقدمة 145. 6 المقدمة 146. 7 فجر الإسلام ص 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 مهمة الدفاع لدى القبائل 1- نظام الجندية وطبيعة الأعراب: لقد طبعت حياة الصحراء العربي على الحرية المطلقة إلى أقصى حدّ، والنفرة من القيود، وأصبح من طبع البدوي الذي ينتقل مع الكلأ والماء أن ينفر من الحضر؛ لأنه بطبيعته صار يكره الاستقرار في مكان واحد ويمل منه، وبديهي أن يؤثر هذه الطبيعة في نظريته إلى السياسة، وفي طريقة حربه؛ فهو مع كبير مهارته في حروب العصابات المبنية على الكر والفر، والتي مرن عليها في حياة الصحراء التي طبعته بطابع الحذر والاستعداد دائمًا، والتي كانت الغارة والغزو السريع المفاجئ من طبيعة الحياة فيها؛ فإنه لم يكن يستطيع المكوث في الحرب صابرًا حتى تنجلي عن نتيجة، ولا يظهر تعاونه مع بقية المحاربين على ما تقتضيه قوانين الجندية ونظمها، ثم إنه لا يبالي بترك موقعه في المعركة متى شاء ومتى ظن أن النصر قد تحقّق، ولو كان ذلكم مُخالفًا للأوامر الصادرة إليه من القيادة، وما حدث في موقعة أحد خير شاهد على ذلك، فإن الرماة الذين وضعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- خلف جيش المسلمين ليحموا ظهره، وأمرهم ألا يبرحوا أماكنهم مهما كانت الظروف إلا بأمره، ما كادوا يرون تقهقر جيش العدو حتى ظنوا أنه النصر وتركوا أماكنهم بالرغم من شدة الأوامر إليهم، وسببوا بذلك هزيمة للجيش. ولما كان النظم العسكري يتطلب تدريبًا خاصًّا ومعيشة في ثكنة أو معسكرات وقتية للتدريب والتعليم أمدًا، والتثقيف في كيفية استعمال الأسلحة، وهي أمور لا يميل الأعرابي إليها، صار الأعرابي أقصر باعًا من الجندي النظاميّ في الحروب الكبيرة المنظمة وأقل حيلةً منه، كما أن عدم احتماله صبرَ الحرب، وعدم تقيّده بأوامر رؤسائه إليه، جعله يخسر بعد نصر ويفرّ بعد هجوم كما لم تدرك القيادات في الجاهلية معنى إحكام الحصار والصبر عليه، ولا معنى احتلال المدن بعد هزيمة الجيش المدافع، فلم يدرك أبو سفيان بن حرب وهو على قيادة جيش قريش يوم أحد قيمةَ نصره، فلم يدخلِ المدينة ويحتلها مع أن الفرصة كانت مواتيةً له بعد هزيمة المسلمين وتفكّك جيشهم، كما لم تستطع قريش وأحلافها الصبرَ على الحصار طويلًا في معركة الخندق، فتراجعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 دون أن تحقّق شيئًا. وكما أن البدوي يعمل فرديًّا، كذلك كانت البطون فرديةعند اشتباك القبائل؛ فقد يرتدّ بطن من المعركة أو قد يتركها قبل أن تتمّ. ولمحاربة هذه العادات عند العرب احتاج تدريبهم في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى استغلال العاطفة الدينية، فزخر القرآن بالآيات المنظمة للقتال، وتفضيل التراص في الحرب على الفردية {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف] . والمحذرة من عدم الصبر والهزيمة عند استمرار القتال، كما توعد المخالفين للأوامر والفارّين عند اللقاء بالعذاب الشديد، كما ندّد بدعاة الهزيمة والمتخاذلين الذين يعتذرون بشتىّ الأعذار عند رؤية العدو1. ولقد كانت الحروب التي وقعت في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حروب الردّة فرصة طيبة لتعويد العرب التنظيم الحربيّ وخوض المعارك الكبيرة، وتدريب القادة؛ حتى إذا ما اندفع العرب إلى المجال الخارجيّ أيام الفتوح بعد انتهاء حروب الردّة، كان الجنديّ العربي أكثر قدرة على القتال من عدوِّه الفارسيّ أو الروميّ؛ ذلك لأن خشونة البدو وروح المغامرة مع الحذر المتأصِّلة فيهم انضاف إليها التدريب والتنظيم، فكانوا قوةً ساحقةً لم تستطع جيوش فارس والروم الوقوف في وجهها. 2- الجيش عند القبائل: لم يكن لدى القبائل جنود نظاميون مدرّبون؛ وإنما كان كل فرد من رجال القبيلة متمكنًا وذا قدرة على القتال، جنديًا محاربًا عليه تلبية النداء حين يدعي إلى الدفاع عن قبيلته أو لغزو قبيلة أخرى وكانت العصبية تدعو العربي إلى الوقوف في صفوف عشيرته إذا كانت القبيلة تقاتل قبيلةً أخرى وفي صفوف قبيلته إذا كان هناك قتال تشترك فيه قبائل متعددة. هذا في القبائل المتبدية. أمّا في أماكن الحضارة والاستقرار كما هو الحال في اليمن أو في الحيرة أو عند الغساسنة -فقد كانت المشيخات أو الإمارات تعتمد في الدفاع أو الهجوم على قبائلها، كما كان على القبائل أن تقدّم للملك عددًا معينًا من الرجال للخدمة العسكرية، كما هو الحال في المنطقة الغربية الجنوبية.   1 انظر سورة آل عمران 139- 170، النساء 71- 72، 104، التوبة 35- 38، 41، 94، الأنفال 2-12، النحل 92، الفتح 16، الأحزاب 12- 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 "مملكة اليمن" أو في مملكة الحيرة، ومن هؤلاء يتألف الجيش النظامي للدولة وهو جيش دائم يُستخدم في السلم والحرب، أما في أيام الحروب فتشترك القبائل المتحالفة والمؤيدة للدولة كلها في الحرب، وقد حدث في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- كما حدث في حروب الردة، وكذلك في الفتوح الإسلامية، ولقد كانت القبائل تقاتل تحت رايتها متساندةً تحت إمرة رجال منهم يخضعون للقيادة العامة. على أن العرب قد عرفوا علم الحرب كما علمته دول الحضارة في عصور الجاهليةالعربية؛ فقد كانت غسان على مقربة من الروم وكانت تدخل معهم في الفِرق المتطوعة على حالي الدفاع والهجوم، وكذلك كان ملوك الحيرة على مقربة من الفرس يشاركون في تكوين جيوشهم وفي حروبهم، وكان لملك الحيرة فرقتان إحداهما هي الشهباء والأخرى عربية تحمل شعار الدولة الفارسية "الأسدان" وتسمى به "الدوسر"1. والعربيّ لا يحتاج إلى أكثر من هذه المقاربة وهذه القدوة لالتقاط الفنون التي يحتاج إليها في تعبئة الجيوش، وللفطنة إلى المخاوف التي يتقيها في مواجهة التعبئة النظامية من جانب دول الحضارة، وقد تبين هذا فعلًا في موقعة ذي قار التي تغلب العرب على الفرس فيها2. وقد كان العرب في هذه الموقعة أبرع قيادة وأخبر بفنون الزحف والتبعئة من قادة الجيوش النظامية، فلم يغفلوا قطّ عن حيطة واجبة أو حيلة نافعة قبل اشتباكهم بالجيوش الفارسية؛ بعثوا الطلائع وبثوا العيون وقسموا جموعهم إلى ميمنة يتولاها بنو عجل، وميسرة يتولاها بنو شيبان، وقلب تولته بطون من بكر بن وائل عليهم رئيسهم هانئ بن مسعود. وحاولوا إفساد الموقف على العدو بضمّ بعض القبائل الموالية له، وهي قبيلة إياد التي اتفقوا معها سرًّا على أن تنهزم عند اللقاء. ففرت في الميعاد المتفق عليه. كما كانوا يتشاورون في المواقف، وعرفوا كذلك نظام الكراديس والكمائن، ولم يغفلوا عن حمية الجند والفرسان يلهبونها للمجازفة بالحياة والأنفة من طلب النجاة، وهو ما نسميه بالروح المعنوية.   1 النويري 15/ 432. 2 ابن الأثير 1/ 189- 291، النويري 15/ 432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فالعرب قد برعوا في حرب العصابات بالمرانة الطويلة، ثم اقتبسوا ما لزمهم أن يقتبسوه من فنون الحرب عند الدول الكبرى على أيامهم، فلم يخسروا بذلك إحدى الطريقتين، بل جمعوا بينهما واستفادوا بما تفيده كل منهما في موضعها، فأضافوا سرعة العمل في طريقة العصابات إلى إحكام التنظيم في طريقه الجيوش، وكانوا يقاتلون بفنين متساندين يأخذون منهما ما يأخذون ويدعون ما يدعون. ومن المحقّق أن قبائل العرب التي أقامت في الحواضر كانت على مر الزمن تتلقى النصيب الأوفى من كلتا الطريقتين إما بالقدوة أو التلقين والتعليم المقصود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الوضع الاقتصادي يتميز المجتمع العربي إلى بدو وحضر. والبدو سكان البادية، وفي البادية يتميز نوعان من الأرض التي وإن كانت صحراوية رملية عديمة المطر في الصيف إلا أنها في الشتاء بعد فصل الأمطار القليلة كانت تغطى -وبخاصة في الوديان- بالأعشاب الخضراء التي تعتبر مجالًا طيبًا لرعي الماشية من الماعز والضأن وبخاصة الجمال التي كان البدو يعتمدون عليها في حياتهم؛ ينتقلون عليها ويشربون ألبانها ويتغذون بلحومها ويتنفعون بأوبارها وجلودها في نسج ملابسهم, وإقامة خيامهم. والأراضي الأكثر خصوبة والتي تتميز بوجود بعض الآبار والعيون بها حيث تنبت أشجار النخيل والشجيرات ذات الروائح العطرية، وكانت هذه الأراضي ملجأ أهل البادية في الصيف؛ حيث تجفّ الأعشاب، فيجدون فيها الماء والغذاء لجمالهم، والثمر لغذائهم. من أجل ذلك اتّسمت حياة البادية بالرحلة والتنقل، وكثر تشاحن القبائل للاستيلاء على قطعان الماشية وممتلكات الغير وأصبح جزءًا من مقومات الحياة البدوية. وأصبح السلب والنهب لا يعد جريمةً في نظر البدوي سواء كان ذلك غارة على واحة أو على قافلة، ومن هنا اتسمت حياة البادية سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية بالتقلقل الشديد، كما اتسمت بالقسوة وموت العاطفة عند الأعراب الفقراء حتى ليقتلون أولادهم خشية الإملاق، كما قلت: قيمة المرأة عن قيمة الرجل، وإن كانت تسهم في الحياة العامة، فتشارك الرجل في حمل أعباء الحياة المدنية من القيام على المنزل وأعمال النسج والحياكة وإعداد الطعام؛ إلا أنها أقل غناء في الحرب، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 هذا الجو المتغلغل اعتبرت عالة وتبرم بها الناس وبميلادها {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل] وقد بلغ الأمر ببعضهم فعلًا أن يدسها في التراب؛ فقد كان الجفاة من فقراء الأعراب يئدون بناتهم كراهية أن تشاركهم في طعامهم؛ لشدة الفقر أو كراهية أن تتعرض للسبي والمعرة في حالة الضعف. ثم الجهات الحضرية في الواحات التي تكثر فيها الينابيع والأودية وتنمو فيها أشجار الفاكهة والنخيل والحبوب، وفي المحطات التجارية التي كانت تقوم فيها القرى والمدن، وتستقر الحياة معتمدة على نتاج الأرض أو ما تجلبه التجارة من الرزق. ولفقر البادية وضآلة مواردها اضطر الأعرابي إلى التفتيش عن رزقه بالغزو؛ ولهذا لافت القرى والمواقع الخصبة خاصة عنتًا شديدًا من الأعراب، الذين أصبحوا ذوي بأس شديد لتعودهم على مثل هذه الغارات وتخصصهم في سرعة المباغتة والفرار، ولما لم تكن هناك حكومات كبيرة تدفع الأذى عن المتحضرين وتكبح جماح البدو، فقد اضطر هؤلاء إلى مصانعة القبائل البدوية بدفع الإتاوات لها مقابل عدم التحرش بهم, ولحماية قطعانهم ومساكنهم, ولتمرير قوافلهم آمنة من القبائل الطامعة في الربح السهل عن طريق الغزو. وقد كانت هذه الإتاوات مصدر دخل ثابت لكثير من البدو في كثير من الأحيان، كما كان رؤساء القبائل القوية يفرضون أحيانًا إتاوات على القبائل الصغيرة الخاضعة لهم، وكان هذا مصدرًا من مصادر التذمر والحروب إذا اشتط بعضهم في جمعها، وقد كانت القبائل تدفعها مكرهة, مقهورة حتى إذا وجدت فرصة أو ظروفًا مناسبة تساعدها على التخلص من ذلك انتهزتها ولو عن طريق الاغتيال والقتل، كما حدث لزهير بن جذيمة العبسي، فقد كانت هوازن تدفع له إتاوة، فلما عنف عليها في جمعها ووجدت فرصة مناسبة تمكنت فيها منه قتلته1. والمجتمع القبلي بوجه عام -من وجهة النظر الاقتصادية- مجتمع بسيط التكوين يتألف من طبقتين اقتصاديتين: طبقة أصحاب الأموال من التجار وأصحاب الإبل الذين تتركز في أيديهم الثروة وتتحكم أموالهم في الحياة الاقتصادية. وطبقة   1 ابن الأثير 1/ 337- 338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الفقراء الذين لم يستطعيوا المشاركة في النشاط التجاري الجارف في المدن، والذين أوصدت طبيعة الحياة الرعوية في مجتمع البادية أبواب الثراء في وجوههم. وقد كانت الملكية تنقسم إلى قسمين: ملكية ثابتة وهي الأراضي والدور. والأراضي في الواحات الزراعية يملكها الأفراد ملكية خاصة، أما أرض المراعي الصحراوية فملكيتها شائعة للقبيلة كلها، أو هي للأقوى وللأسبق عليها. وأما الدور فهي في المدن ملكية ثابتة تباع وتكرى وتوهب، وعند البدوي لا توجد المباني؛ وإنما تقوم الخيام، وكل يملك خيمته التي ينقلها معه في ترحاله، وملكية سائلة وهي إما حيونية من جمال وماشية وأغنام، أو عروض تجارة، أو رقيق من رجال ونساء. ويوجد في المدن من يتملك الأراضي والدور والماشية ومن له مال للتجارة ورقيق، وهؤلاء الأغنياء على درجات في الثروة، كما يوجد إلى جانبهم فقراء لا يملكون شيئًا. وفي البادية يوجد من يملك ألوف الإبل كما يوجد من لا يملك شيئًا إلا خيمته، وأحيانًا لا يمتلكها. وعلى ذلك وجدت في المجتمع العربي طبقتان اقتصاديتان، غنية وفقيرة، على درجات متفاوته بين أفرادها في كثرة الغنى وشدة الفقر. وكانت الهوة الاقتصادية بين هاتين الطبقتين بعيدة الغور إلى حدّ كبير مما أدّى إلى اختلال التوازن الاقتصادي بينهما اختلالًا شديدًا، وهذا الاختلال الاقتصادي وقف منه القرآن الكريم موقفًا حاسمًا حين حمل شعواء على طبقة المرابين المنشترين في المدينة التجارية الذين زادوا بجشعهم في عمق هذه الهوّة بين الناس، وحين توعد بالويل والعذاب أولئك التجّار الذين كانوا يلجئون إلى الغش في البيع والشراء، وسماهم المطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وحين نعي على الأعراب قسوتهم وتحجر نفوسهم حين ليئدون بناتهم ويقتلون أولادهم خشية الإملاق. كما حاول أن يضع حدًّا لهذا بما فرضه من الزكاة والصدقات والكفارات، وما قرّره من حقوق على الأغنياء للفقراء وبما نظمه من علاقات بين المتداينين. وبقدر ما كان الفرق الاقتصادي بعيدًا بين هاتين الطبقتين، كان الفرق النفسيّ بينهما قريبًا، فقد كانت الطبقات الفقيرة تؤمن في قرارة نفسها بأنّها لا تقل شيئًا عن الطبقات الغنية، وإذا كانت الحياة قد أغدقت على غيرهم وحرمتهم فتلك خطيئة المجتمع الذي يعيشون فيه وليست خطيئتهم، وماذا يمكلون لتغيير حظهم في الحياة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 في مجتمع صحراوي موارد الرزق فيه محدودة ومجال العمل فيه ضيق. إن تلك القوافل التجارية التي تسيل بها شعاب الصحراء، وهذه القطعان من الماشية التي يضيق بها حمى القبيلة، كان من الممكن أن يكون لهم فيها نصيب لو أن المجتمع سار على قواعد عادلة غير القواعد التي يسير عليها. على هذا النّحو كان بعض الفقراء المتمردين على وضعهم الاقتصادي يتصوّرون مشكلتهم التي لم يجدوا لها حلًّا إلا بالفرار من مجتمعهم القبلي إلى الصحراء، ليشقوا طريقهم في الحياة معتمدين على قوتهم. وفي أعماق الصحراء الغامضة، وعلى مرتفعاتها الواعرة التي تستعصي على المطاردين، على طول الطرق التجارية التي تسير بها القوافل المحمّلة بالأموال والأرزاق. وعلى مقربة من مواطن الخصب والثراء ومراكز النشاط التجاري في الجزيرة العربية، انتشرت عصابات الصعاليك ممن نفتهم ظروف الاقتصاد أو ظروف الاجتماع عن الحياة العامة من مخلوعي القبائل وشذّاذها ومن هجنائها وأغربتها ومن فقرائها المتمردين ليؤلفوا فيما بينهم، بعيدًا عن المتجتمع النظامي، مجتمعًا فوضويًّا متمردًا يتخذ من الغزو والغارة والفتك وسائل للحياة، ومن السلب والنهب وقطع الطريق وسائل للعيش، مؤمنًا بأن الحق للقوة وأن القوة تبرر الوسيلة. ومن الحقّ أن نسجّل أن هذا المجتمع الفوضويّ المتمرّد لم يكن من حيث وسائله إلا صورة من المجتمع القبليّ من حوله والذي كان يؤمن بالغزو وسيلة مشروعة من وسائل الحياة وأسلوبًا معترفًا به من أساليب العيش؛ غاية ما في الأمر أن هذه الحركة المتمردة "حركة الصعاليك" كانت حركة فردية. تتم خارج النطاق الجماعي الذي كانت القبائل تتصرّف في داخله، في حين كانت حركات القبائل حركات جماعية تتم في داخل هذا النطاق. وقد انتشرت هذه العصابات المتمرّدة في أرجائها وقد جمع بينها التشرد والفقر، والتمرد على النظام القبلي وما كان يؤمن به من وحدة الدم ووحدة الجماعة، والكفر بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تسيطر على مجتمعات القبائل من حولهم1، والإيمان بأن الأوضاع في حاجة إلى ثورة تغير منها.   1 عن الصعاليك، انظر شوقي العصر الجاهلي 375- 387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أسواق العرب لكل قبيلة فائض من الثروات تحتاج إلى الاتجار به أو استبداله بما هي في حاجة إليه، ويتم ذلك في الأسواق. وقد كان للعرب أسواق عامة يجتمعون فيها للبيع والشراء وتبادل المنافع، وكانت هذه الأسواق تقوم في أيام معينة من السنة، كما كانت تعقد في أماكن فسيحة يتوافر فيها الماء لسد حاجة المجتمعين، كما كانت تقوم بقرب المراكز الحضرية والتجارية، وكان الأعراب يفدون إلى هذه الأسواق يعرضون سلع البادية، وأحيانًا يعرضون ما وصلت إليه أيديهم عن طريق الغارة على القوافل أو على المسافرين، وليتزودوا من هذه الأسواق بما يلزمهم من مئونة وملابس وغيرها. وكان أهم هذه الأسواق في الحجاز سوق عكاظ، وكانت تقوم في سهل منبسط بين مكة والطائف، وهي أذكر سوق وأعرفها في الجزيرة العربية كلها، وكانت سوقًا عظيمة يغشاها العرب في كافة أنحاء الجزيرة العربية، وإن كانت قبائل مضر أكثر غشيانًا لها من غيرها لوقوعها في منطقتها1، وقد ساعد على نموّ هذه السوق قيامُها في الأشهر الحرم التي كان يحرم فيها القتال، ويأمن الناس فيها على أموالهم وأنفسهم2، وقد حتّمت الضرورات الاقتصادية أن تحاط الأسواق بما يضمن للناس الأمن فيها. وفي هذه السوق كان تباع مختلف التجارات والسلع الثمينة التي كانت تحملها قوافل التجارة من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وكان لتجار قريش فيها أكبر النصب، لقربها من مكة، ولسيطرة مكة وخصوصًا في الخمسين سنة التي سبقت ظهور الإسلام على قوافل التجارة: وحتى البضائع المسروقة كانت تباع في هذه السوق؛ ولذلك وفد إليها من سرق منهم أو انتهبوا للبحث عن بضائعهم المنهوبة أو المفقودة، وقد عثروا فعلًا على ما فقدوه يباع إلى الناس، وكثيرًا ما أدّى عثور أصحاب الأموال على بضائعهم المسروقة إلى نزاع وإلى حروب بسبب الدماء التي سبقت سرقة المال وسلب القتيل3.   1 انظر عبد الوهاب عزام: موقع عكاظ. 2 اليعقوبي 1/ 227. 3 الأغاني 19/ 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وكذلك كانت توجد في منطقة مكّة سوق مجنة وذي المجاز، ويقضي العرب في هذه الأسواق حوائجهم، ثم يرتحلون إلى مكة لحجهم1، كما كانت توجد أسواق أخرى في أنحاء شبه الجزيرة العربية منها دومة الجندل وصحار والشحر وعدن وصنعاء وعدة أسواق أخرى محلية تأتيها القبائل للامتيار2. وقد كانت عكاظ، كما قلنا، أعظم هذه الأسواق وأشهرها، وطالمَا خرجت السوق عن وظيفتها الأصلية التي يفهمها الإنسان من السوق، وهي البيع والشراء، إلى أمور أخرى لا علاقة لها بالسوق التجارية، وهي المفاخرات والمباهاة والمسابقات في قول الشعر، وافتداء الأسرى، وكثيرًا ما كانت تعتقد فيها مجالس الصلح والتحكيم بين القبائل فتحلّ المشاكل المعقّدة، والناس مطمئنون إلى حرمة الأشهر الحرم التي تنعقد فيها السوق. فهي مجتمعات سياسية ذات أهمية، ومؤتمرات تقرّر فيها كثير من الأمور التي لها صلة بسياسة القبائل وبصلاتها بعضها ببعض، كما كانت القبائل تعلن فيها تبرأها ممن تخلعهم لجرائم ارتكبوها وأعمال أتوها لم ترضَ عنها، ليعرف الناس ذلك فلا يؤاخذوها على جرائم يقترفها هؤلاء الخلعاء3. وفي عكاظ كانت تحمّل الديون والإتاوات إلى أصحابها، فيذكرون مثلًا أن هوزان تحمل إتاوتها إلى عكاظ لتدفعها إلى زهير بن جذيمة العبسي4، وأن حيًّا من الأزد كان يحمل إتاوته إلى عبد الله بن جعد 5 على أن العرب؛ وبخاصة الخلعاء والصعاليك، من لم يرعَ حرمة الأشهر الحرم، كان يغشى هذه الأسواق يلتمس الرزق السهل، بسلب الناس والاعتداء عليهم عند قدومهم إلى السوق أو ارتحالهم منها؛ ومنهم من كان يجرؤ على السلب والنهب حتى في عكاظ نفسها6 كما لم ينجُ موقع عكاظ من الحروب، فوقعت فيه عدة أيام أهمها حرب الفجار، ولا يمكن أن ينجو مثل هذا المكان من الفتن والمعارك وهو   1 اليعقوبي 1/ 227. 2 نفسه. جواد 4/ 226. 3 نفسه 4/ 223- 255. 4 الأغاني 10/ 11. ابن الأثير 1/ 337. العقد الفريد 1/ 135. 5- الأغاني 5/ 24. 6 اليعقوبي 1/ 217. جواد 4/ 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 محل يجتمع فيه الناس من مختلف القبائل والعشائر، ومنهم الخصوم والأعداء والقتلة والسفاكون. وكما كانت عكاظ مجالًا للنشاط الاقتصادي والاجتماعي، كذلك كانت مجالًا لتبادل الأفكار وتصفية اللغة وتوحيدها: فقد كان يأتي إلى هذه السوق الشعراء والخطباء والحكماء، يعرضون شعرهم ويخطبون ويتساجلون. ويلقي الحكماء بحكمهم. وكان كل صاحب رأي وفكرة يجد في مجالها فرصة لعرض رأيه أو الدعاية لفكرته. وكان بعض المبشرين يغشون هذه السوق وغيرها للدعاية لدياناتهم. فكانت في الحقيقة منتدى عامًّا يحوي كل نواحي الناشط الإنساني في الجزيرة العربية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية. وتدلّ كثرة هذه الأسواق، وتدل الحاجة إلى تنظيمها في كل مناطق الجزيرة العربية، ويدل النشاط المتنوّع الذي كانت تقوم به هذه الأسواق -على أن الثروات القبلية كانت قد استطاعت أن تنظم لنفسها نطاقًا أكبر من النطاق القبلي، بل سنرى فيما بعد أنها استطاعت أن تنظم نشاطها على نطاق دولي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 مدينة مكة مدخل: مكة قبل الإسلام مكة قبل الإسلام ... الباب الثاني: مدينة مكة تمهيد الفصل الأول: نشأة مكة الفصل الثاني: حكومة مكة وسياستها الداخلية الفصل الثالث: قوة قريش الحربية وعلاقتها بالقبائل الخارجية الفصل الرابع: علاقات مكة الخارجية الفصل الخامس: الحج وأثره الفصل السادس: الحالة الاقتصادية الفصل السابع: الحالة الاجتماعية الفصل الثامن: استعداد العرب للنقلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 تمهيد مكة قبل الإسلام في بداية القرن السادس الميلادي، كانت مكة مدينة ذات كيان مالي وتجاري مستقل، ومركز دينيّ مرموق أقيم حول الكعبة التي كانت محط أنظار كثير من الحجاج الذين كانوا يؤمونها لزيارة البيت الحرام والتقرب للأصنام المنصوبة هناك. وكان أهل مكة قد أجروا الترتيبات المفصلة التي كانت تتضمن سلامة طرق الحج المؤدية إلى مدينتهم، وبيع المؤن والتجهيزات للوافدين إليها, وتكفل حفظ النظام ومراعاة الآداب العامة أثناء تأدية الشعائر الدينية عند الكعبة. ولما كانت العناية بالحج وتصريف المعاملات التجارية هما المهنتين الرئيسيتين عند أهل مكة؛ فإن حياة البلد كانت تحت طبقة من المنتفذين الأكفاء، رجال لم يؤمنوا بالعنف، واعتمدوا على حل كل المشاكل بالطرق السلمية. وظلت مكة مدينة ذات كيان مالي وسياسي مستقل؛ لأن شبه الجزيرة العربية لم تقع في يوم ما -بصورة فعالة- تحت حكم سلطة مركزية, فإن تأثير البيئة الجغرافية كان يقف دائمًا في وجه نمو الإشراف المركزي في شبه الجزيرة العربية. وكانت الخصائص الأساسية لتلك البيئة، هي العلاقات المزعزعة بين مجتمع متوطن يسوده الاستقرار وآخر لا يزال بدويًّا رحالًا، والتغلغل المتداخل بين ذينك المجتمعين. فإن الجماعات التي تم استيطانها تتأثر -إلى حد كبير- بما يحدث لجيرانها من البدو الرحل، وقد انحدرت هذه الجماعات المستوطنة -عادة- من تلك القبائل الرحل التي رأت أن تستوطن يومًا ما وكانت بعد أن تستوطن بصفة تجار أو مزارعين تحاول فرض سيطرتها عن جيرانها من القبائل المتبدية- بالقوة أو الاستمالة- محاولة منها اتخاذ بعض الإجراءات لحفظ السلم والأمن, وربما نجحت في ذلك أحيانًا. ومن المهم أن نذكر أن البدو -وهم يستقرون ويستوطنون ويتخذون لهم نمطًا جديدًا من الحياة- كانوا يحتفظون بالكثير من عاداتهم القديمة ويتمسكون بها، ولم يفارقهم حنينهم إلى حياتهم الصحراوية الأولى، فتراهم يميلون إلى الخروج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الصحراء لممارسة الرياضة والترويح عن أنفسهم وأجسامهم، كما يرسلون أبناءهم إلى البادية ليشبوا في أحضانها وبين خيامها، صيانة لهم من أوضار حياة المدن، وكانت أحاديث الصحراء وأساطيرها تشغل أمسياتهم في روايتها والتلذذ بسماعها. ومكة مثل طيب لظاهرة التداخل هذه، ولكي نفهم مركز مكة في القرن السادس وعند ظهور الإسلام، وهو الوقت الذي بلغت فيه مكة ذروة مجدها، علينا ألا نأخذ بعين الاعتبار دور القبائل الرحّل وبطونها فحسب، بل ينبغي أن نلمّ بالعلاقات الخارجية للجزيرة العربية. فإن الجزيرة العربية كانت تزوِّد المناطق المجاورة لها بالمنتجات المرغوب فيها من حاصلات الجزيرة نفسها، كما كانت موانيها حلقات اتصال للتجارة الدولية. والحركة التجارية قائمة على قدم وساق وتروح وتغدو بين مناطق البحر المتوسط والشرق الهندي، وذلك عبر الطرق التجارية التي تتخلّل شبه الجزيرة العربية، والكثير منها يخترق مكة. ومكة نفسها وقعت في دائرة التنازع الدولي الذي كان قائمًا بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية، وقد بذلت محاولات من جانب الأحباش والروم للسيطرة عليها، لكن رجال مكة الحريصين على موقف الحياد، عارضوا كل تدخل في شئونهم، وكانوا يتعاملون مع رجال الدولة من الفرس ومن الروم على السواء، كما كانوا يحذقون التعامل مع الأعراب من أهل البادية. يشير العرف الإسلامي إلى العصر الذي ولد فيه النبي -صلى الله عليه سلم- ويدعوه "الجاهلية". وكلمة "جاهلية" لا تعني "عكس المعرفة"؛ بل إنها تعني بالأحرى "مخالفة القانون والتمرد" أو "الجهل بما هو أفضل" وهي كلمة إسلامية أطلقت على العصر الذي سبق الإسلام مباشرة والذي كانت تسوده حرية العصبية القبلية بما فيها من نزقٍ وطيشٍ وحمقٍ واستجابةٍ لداعي العصبية مهما تكن الأسباب والظروف، فهي كلمة مأخوذة من الحمية العصبية. قال الشاعر: ألا لا يجهلنّ أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا1 وهي لذلك كلمة تعبّر عن روح العصر بما كان فيه من وثنية وأخلاق قوامها الحميّة والأخذ بالثأر. وقد استعملت كثيرًا في القرآن الكريم بهذا المعنى {وَعِبَادُ   1 معلقة عمرو بن كلثوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان] . {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة] {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف] . وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي ذر الغفاري وقد عيّر رجلًا بسواد أمه: "إنك امرؤ فيك جاهلية" والكلمة بهذا المعنى تقابل المثل الإسلامي الذي يتلخّص في كلمة "التقوى". وعلى كلِّ من أراد أن ينظر إلى مهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من وجهتها الصححية أن يتفهّم بوضوح ما كانت عليه حالة مكة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ بينما كانت رسالته توكيدًا وتحديدًا لما أمر به من سبقه من الأنبياء ليبلغوه إلى مختلف الأمم، كانت من ناحية أخرى إحياءً لدين إبراهيم -عليه السلام- وكان لب رسالته -فوق كل شيء- خلق مجتمع يعبد الله ويسير في طريق الخير والصلاح. وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- يأمل بأن يرى قومه -قبيلة قريش- ينقلبون جماعة تعيد للكعبة طهارتها الأولى وصفاءها الفطريّ. ولكن ذلك لم يحدث إذ لم يتسجب أهل مكة لدعوته. وإنه لدليلٌ على قوّة تضامن ذوي القربى أن وقف الناس مع أقاربهم الذين غيّروا دينَهم وأسلموا، على الرّغم من عدم موافقتهم على ذلك. وأخيرًا لم يتوسم محمد -صلى الله عليه وسلم- أملًا في أن تستجيب قريش لدعوته، فهاجر إلى المدينة1.   1 الإسلام الصراط المستقيم "كتب فصوله مجموعة من الأساتذة" انظر الفصل الثاني "الآراء والحركات في التاريخ الإسلامي" للمرحوم شفيق غربال من ص 62- 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الفصل الأول: نشأة مكة قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة في منتصف الطريق المعبّد للقوافل بين اليمن والشام، تقوم مكة: في وادٍ منبسطٍ من أودية جبال السراة، تحيط به الجبال الجرداء من كل جانب1. وتكاد تحجبه إلا من ثلاثة منافذ، يصله أحدها بطريق اليمن، ويصله الثاني بطريق قريب من البحر الأحمر عند مرفأ جدّة، ويصله الثالث بالطّريق المؤدِّي إلى فلسطين2. ومكة مدينة قديمة ورد اسمها في المصادر اليونانية والرومانية القديمة، فذكرها بطليموس الإسكندري باسم "ماكورابا Macoraba 3" ولكنها لا بد أن تكون أقدم عهدًا من هذا الجغرافيّ الذي عاش في القرن الثاني بعد الميلاد4. فقد أشار المؤرّخون الكلاسيكيون إلى وجود مواضع عدة في القسم الغربيّ من الجزيرة العربية التي كانت ذات حرمة وقداسية في ِأنظار العرب. وكانوا يقصدونها من أماكنَ بعيدةٍ للتبرك بها؛ ومع أن هؤلاء الكتاب لم يذكروا أسماء هذه الأماكن؛ فإنه لا يستبعد أن تكون مكة في جملة هذه الأماكن التي قصدوها. وقد ذهب "أوغست ميلر Auguat Muller " إلى أن المعبد الذي قال عنه ديودور الصقلي إنه معبد مشهور بين العرب، وهو مكة5. ولما لم يعثر حتى الآن على كتابات جاهلية تفصح عن اسم هذه المدينة القديمة ولا عن تاريخها البعيد   1 ياقوت، معجم البلدان 18/ 187. 2 هيكل، حياة محمد 83. 3 ياقوت 18/ 181. بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية 1/ 33. Ptolemy, Georgra ph. Vi 7. 32. Gerald de Gauy, rlers of Mecca. p. 24 4 جواد على، تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 188. 5 عن جواد علي 4/ 504. Amuller. Du Islsm I.5.30 هيكل 91 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فإنه من العسير معرفةُ تاريخ قيامها وتحديد الزمن الذي أصبح فيه هذا المكان بلدًا، وأكثر الظنّ أنه يرجع إلى ألوف من السنين مضت، وإذا كان بدء سكنى هذا الوادي يرجع إلى أيام إبراهيم وإسماعيل، فإن ذلك يعني القرن التاسع عشر قبل الميلاد1. والثابت أن واديها اتّخذ من قبل أن تبنى موئلًا لراحة رجال القوافل القادمة من الشمال والجنوب، بسبب ما كان به من العيون، فعلى طول الطرق التجارية عبر الصحراء وجدت بضعة أماكن مبعثرة اتخذتها التجار المسافرون موئلًا لراحتهم، وبالتدريج أصبحت منازل الراحة هذه مستودعات للتجارة، وصار بعضها مقامًا للهياكل والمحاريب يتابع التاجر في حمايتها تجارته، ويلجأ الحاج إليها لالتماس العون منها، ووادي مكة إحدى هذه المحطات التي جعل منها رجال القوافل مضارب لخيامهم سواء منهم القادمون من اليمن إلى فلسطين أو القادمون من فلسطين إلى اليمن2. وإذا كان من الثابت -كما ورد في القرآن الكريم- أن إبراهيم وإسماعيل قد أقاما البيت الحرام في واديها، فإنه من الراجح أن إسماعيل هو أول من اتخذها مقامًا وسكنا، بعد أن كانت مجرد محلة للقوافل وسوقًا لتبادل التجارة بين الآتين من الشمال والآتين من الجنوب. وتجرى رواية الأخباريين إلى أن إبراهيم حمل زوجه هاجر وابنهما إسماعيل نحو الجنوب حتى وصل إلى هذا الوادي الذي كان مضرب خيام القوافل، ثم تركهما فيه وعاد من حيث أتى، بعد أن ترك لهما ما يتبلغان به من التمر والماء، واتخذت هاجر لها عريشا إلى جوار ربوة حمراء بهذا الوادي- لعلها كانت مقدسة يتبرك بها رجال القوافل3- آوت إليه هي وابنها، فلما نفد الماء وكادا يهلكان عطشًا ذهبت تبحث عنه، وفي خلال هذا البحث انفجرت عين زمزم، فأقامت عليها وابنها. ترد عليهما القوافل في رحلاتها فينالان من العيش ما يكفيهما. على أن زمزم التي تفجر ماؤها قد استهوت بعض القبائل للمقام على مقربة منها. وتجري بعض الروايات بأن قبيلة جرهم   1 جورجي زيدان، العرب قبل الإسلام 188. 2 هيكل، حياة محمد 84. 3 الأزرقي 1/ 6 اليعقوبي 3/ 16 ابن كثير 1/ 155. الطبري 1/ 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 اليمنة هي أولى القبائل التي أقامت، وأنها أقامت بعد أن تفجرت زمزم1. بينما تجري رواية أخرى بأنها كانت موجودة قبل ذلك وكان معها حول مكة قوم من العماليق2. ثم شبّ إسماعيل وتزوّج فتاةً جرهمية ولدت له أولاده. وفي هذا المكان أقام إبراهيم وابنه إسماعيل القواعدَ من البيت الحرام وجعله محجًّا للناس. وفي هذا المكان قامت مكة حول البيت ومنه أخذت اسمها. وقد فسّر المؤرخون واللغويون العربُ اسم مكة تفسيراتٍ كثيرةً لغويةً وغيرَ لغويةٍ استنبطوها من مكانة الكعبة وقدسيتها في نفوس العرب3 وهذه التفسيرات متأخرة بطبيعة الحال؛ واسم مكة سابق على هذه المفهومات. ولما كان قبائل الجنوب هي أول من استعمر هذا الوادي فالأرجح أن اسمها أخذ من لغة الجنوب4 مستندًا إلى البيت الحرام، فمكّة أو "مكرب" كما ذكرها بطليموس كلمة يمنية مكوّنة من مك ورب، ومك بمعنى بيت فتكون مكرب بمعنى "بيت الرب" أو بيت الإله، ومن هذه الكلمات أخذت مكة أو بكة بقلب الميم باء على عادة أهل الجنوب. ويقول المؤرخ بروكلمان: إنها مأخوذة من كلمة مقرب العربية الجنوبية ومعناها الهيكل، وفي التعليق على هذا الكلمة يقول صاحب الحاشية: "لقد سمّى القرآن مكة وبكة، وبكة هي الوادي ومكة لغة أخرى، ومنة "بعلبك" بمعنى وادي البعل، وهذا أدل على مركز مكة؛ لأن مكة في وادٍ غير ذي زرع. ثم إن "ما كورابا" -أو على الأصح "ماكارابا"- حسب اللهجة الآرامية الشرقية لا السريانية الغربية. يصحّ أن تعني الوادي العظيم أو وادي الربّ، ولعل بطليموس أخذ الاسم من طريق "الآراميين"5 ويرتاب سير وليم موير Sir W. muir في قصة ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز ويرى أنها من صنع اليهود ابتدعوها قبل الإسلام بأجيال ليربطوا بينهم وبين العرب برابطة قرابة، توجب على العرب حسن معاملة اليهود النازلين بينهم، وتيسر   1 ابن هشام 1/ 123- 124. 2 الطبري 1/ 179- 2/ 37. 3 ابن هشام 1/ 125- 126. الروض الأنف 1/ 81- 82. 4 Gerald de Gaury, ol. cit. p. 24 5 بروكلمان 1/ 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 لتجّار اليهود في شبه الجزيرة1 ويستند إلى أنّه لا صلةَ بين أوضاع العبادة في العرب وبين دين إبراهيم؛ لأنها وثنيةٌ مغرقةٌ في الوثنية وقد كان إبراهيمُ حنيفًا مسلمًا. وهو إذا ينفي قصّة ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز يقول بإمكان انتقال جماعة من أبنائهما بعد ذلك من فلسطين إلى بلاد العرب واتصالهم وإياهم بصلة النسب2. ويردّ الدكتور محمد حسين هيكل -رحمه الله- على رأي موير بأن ما يسوقه من دليلٍ لا يكفي لنفي واقعة تاريخية، وأن وثنية العرب بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرونٍ كثيرةٍ لا تدل على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز حين اشتراكا في بناء الكعبة؛ على أنه لو وجدت وثنية يومئذٍ لما أيد ذلك رأي سير وليم موير، فقد كان قوم إبراهيم وثنيين ولم ينجح في تحويلهم، فإذا لم ينجحْ في تحويل العرب فلا بدع ولا عجب. ويرى هيكل: أن المنطق يؤيد رواية التاريخ، فإبراهيم الذي خرج من العراق فارًّا بأهله إلى فلسطين ومصر، رجل قد ألف الارتحال واجتياز الصحاري، والطريق ما بين فلسطين ومكة كان مطروقًا من القوافل منذ أقدم العصور، فلا محلّ إذن للريبة في واقعة انعقد الإجماع على جملتها. وإذا جاز انتقال بعض أبناء إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز؛ فكيف لا يكون جائزًا في شأن الرجلين بالذات، بل كيف لا يكون ثابتًا جازمًا ورواية التاريخ تؤكِّده، وقد ذكر ذلك القرآن الكريم وتحدّثت به بعض الكتب السماوية3. على أن إبراهيم الذي خرج من العراق فارًّا بدينه ضاربًا في الأرض إلى فلسطين ومصر، ولم يجد استجابةً بين كل الأقوام الذين ارتحل إلى أرضهم- لا بد أنّه كان يعلم أمر هذا الطريق التجاري المطروق وأمر المحطّات التي تقوم عليه، ولا بد أن راودته فكرة التبشير بدينه بين القبائل الضاربة على جنبات هذا الطريق، بعيدًا عن مجال الحكومات القائمة وديانات شعوبها ومعابدها الوثنية العريقة، ولا بد أنه علم بأمر هذه المحطة التجارية المتوسطة والتي تلتقي عندها الطرق وتغشاها القوافل، ولا شك أن الآية القرآنية: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج] تشير في ثناياها إلى   1 W. Muir, I. life of Mahomet and History of Islam. V. I,p Cxci 2 Muir, Ol. CIt, p. Cx, ocit 3 هيكل 89- 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 هذا التفكير من إبراهيم، وإلى إلهامه فكرة بناء البيت في هذا المكان الذي من المحتمل أن يلقى فيه استجابة من المقيمين والغادين الرائحين. {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج] . على أن إبراهيم لم يكن ليحمل زوجه وابنه إلى مكان قفر لا زرع فيه إلا لسبب واضح لديه محدد عنده، وهو القيام بأمر العبادة عند هذا البيت الذي ينوي أن يقيمه لله، والتبشير بهذا الدين الذي بعث به. وتشير الآية القرآنية: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم] إلى ذلك في صراحة واضحة، كما تشير إلى ما يرتجيه إبراهيم لهذه المحلة التجارية من نمو وازدهار على مرِّ الأيام؛ نظرًا لموقعها المتوسط ولحصانتها بالنسبة للنازل والمقيم وإبراهيم الرّحّالة الخبير. لا شكّ كان عالمًا بقيمة المواقع وأهميتها لطول ما تمرّس به من الرحلات والأسفار. ولقد كرّر زيارته -كما تجري الروايات- إلى زوجة وولده في المكان، للاطمئنان على سلامة تقديره، وليرقب نموّ هذه النواة التي وضعها للإقامة في هذا الوادي الحصين، فلما اطمأنّ إلى أنها نبتت وامتدّت جذورها، تعاون هو وابنه على بناء البيت الحرام {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة] . ولما شهد إبراهيم قيام البلد الذي كان يرجو قيامَه حول البيت، واطمأنّ إلى أن عمله قد آتى ثماره، دعا ربه {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم] وهكذا يمكن أن نتصوّر قيام مكةَ في هذه البقعة على ما يمكن أن نستنتج من آيات القرآن وكما تجري به الروايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 استمرت جرهم تلي أمر البيت فترة من الزمن، وأبناء إسماعيل مع أخوالهم لا يرون أن ينازعوهم أمر البيت لخئولتهم وقرابتهم1، إلى أن قدمت قبيلة يمنية أخرى هاجرت من الجنوب في الهجرة التي تفرقت بها قبائل الأزد مهاجرة نحو الشمال، بعد اضمحلال حالة اليمن وتهدّم سد مآرب2، واستقرّ بطن من بطون الأزد حول مكّة وعرف بقبيلة خزاعة، واحتكت خزاعة بجرهم فتقاتلت القبيلتان وانتصرت خزاعة ووليت أمر البيت، وخرجت عن هذا الوادي جرهم، كما خرج أبناء إسماعيل حيث تفرقوا حول مكّة وفي تهامة3. وقد بدأت مكة تتطوّر أيام خزاعة، فقد عمل زعيم خزاعة "عمرو بن لحي" على تنشيط الحجّ إلى الكعبة، بعد أن كان أمر مكة قد تدهور، والحجّ إليها قد قلّ؛ بسبب بغي جرهم واعتدائها على القوافل والتجار والحجاج الذين يمرون بمكة أو يفدون إليها للمتاجرة والحج4، وبعد إهمال بئر زمزم التي يسرت المقام في هذا الوادي القفر، فأخذ عمرو بن لحي يقيم موائد الطعام في موسم الحج وييسر جلب الماء من الآبار المنبثّة حول مكة، ونال بذلك منزلةً كبيرةً بين قومهه وبين القبائل الضاربة حول مكة5. ولما كانت قبائل العرب البعيدة لا تعرف شيئًا عن الحنفية دين إبراهيم؛ فقد عمل عمرو بن لحيّ عن جلب الأصنام من الجهات الأخرى وإقامتها حول الكعبة؛ حتى يرغّب القبائل العربية، وبخاصة قبائل الشمال، في الحج إلى بيت مكة للتقرب لأصنامها، وقد طوّع لعمرو بن لحيّ أن يدخل على البيت هذه العبادة، ذلك المركز الذي أشرنا إليه، ويبدو أن الحنفية كان قد ضعف أمرها حتى بين أبناء إسماعيل   1 ابن هشام 1/ 521. 2 يشير القرآن الكريم إلى حادث السيول الجارفة التي اكتسحت السد في أيام سبأ، كما تشير النقوش إلى تهدم السد عدة مرات، منها في سنة 450 ميلادية "جواد 3/ 156- 157" ومرة سنة 245 "جواد 3/ 197- 199. والنقش المنشور بينهما". ولعل قبائل الأزد هاجرت في حوالي منتصف القرن الخامس أو ربما قبل ذلك. 3 الطبري 1/ 187. 4 ابن هشام 1/ 125. 5 ابن كثير 2/ 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة: وتجري الرواية بأن أم قصي تزوجت برجل من بني عذرة، بعد وفاة كلاب بن مرة والد قصي، وحملها العذري إلى قبيلته في بادية الشام، وأخذت معها ابنها الطفل زيد، الذي لقب: قصي؛ لبعده عن دار قومه، حيث تربى في حجر رابه حتى صار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة : وتجري الرواية بأن أم قصي تزوجت برجل من بني عذرة، بعد وفاة كلاب بن مرة والد قصي، وحملها العذري إلى قبيلته في بادية الشام، وأخذت معها ابنها الطفل زيد، الذي لقب: قصي؛ لبعده عن دار قومه، حيث تربى في حجر رابه حتى صار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 شابًّا، ولما علم بحقيقة نسبه عاد إلى قومه، واستقر بمكة، وفيها أظهر من النشاط والتفوق ما جعله يصهر إلى زعيم خزاعة: حليل بن حبشية، فيتزوج ابنته حبى1، ويكثر مال قصي وولده، ويعلو مركزه بمكة، ويقوى تبعًا لذلك طموحه، فيرتب للاستيلاء على الحكم وسدانة البيت في مكة. وقد رتب لخطته ترتيبًا يدل على قوة شخصية ودهاء. فإنه اتصل سرًّا بعشائر قريش وبطونها التي كانت متفرقة في تهامة وحول مكة، فوحد كلمتها وجمعها حوله، كما حالف بطون كنانة، ثم راسل أخاه لأمه رزاح بن ربيعة بن حرام العذري القضاعي؛ ليمده إذا لزم الأمر؛ فلما تم له ذلك انتهز فرصة موت صهره الذي كان بيده سدانة الكعبة، فاستولى على مفتاح البيت الحرام وأعلن أحقيته بولاتيه، وعارضت خزاعة أن يكون لغيرها منصب من المناصب المتصلة بالبيت الحرام، فاستنفر قصي قريشًا وكنانة، واستمد أخاه فقدم فيمن قدر عليه من قضاعة، واستطاع قصي بمن معه أن يهزم خزاعة وحلفاءها من بني بكر، وأن يجليها عن مكة2، كما استطاع أن يفرض سلطانه على بطون كنانة التي كانت تلي بعض طقوس الحج، وأنزل قريشًا مكة وقسمها بينهم، فأقر له القوم جميعًا بالملك عليهم، واجتمعت مناصب مكة كلها في يده3. ويذهب بعض الأخباريين إلى أن مكة لم يكن بها بناء غير الكعبة، إلى أن تولى قصي أمرها، ويعللون ذلك بأن جُرهم وخزاعة لم يريدوا أن يكون إلى جوار بيت الله غيره، وأنهم لم يكونوا يقيمون ليلهم بالحرم؛ وإنما كانوا يذهبون إلى الحِل4. فلما تم الأمر لقصي جمع قريشًا واستقر بها في الحرم وأمرها بألا تبرحه ليلًا، وأنه لكي لا يثير شعور القبائل ضده أقام الموائد ومد الطعام على أبواب الطرق الموصلة لمكة في موسم الحج؛ فلما تأكد من عدم الاعتراض على فعله؛ بنى داره بمكة واتخذها مقرًّا لندوة قريش فعرفت بدار الندوة، يجتمع فيها كبراء مكة تحت إمرته للتشاور في أمور بلدهم، وأمر قومه من قريش؛ فبنوا دورهم بعد أن قسم البلد بينهم، فنزلت قريش كلها بالأبطح   1 ابن هشام 1/ 130. 2 الطبري 2/ 15 ابن هشام 1/ 130- 136. 3 ابن هشام 1/ 137. 4 اليعقوبي 1/ 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وهو وادي مكة، خلا بني محارب والحارث ابني فهر وبني تميم بن غالب وهو الأدرم وبني عامر بن لؤي؛ فإنهم نزلوا الظواهر1، ومنذ ذلك التاريخ أخذت مكة في طور التحضر والاستقرار والتنظيم في شئون الحكم والاقتصاد، حتى أصبحت زعيمة الجزيرة العربية في نهاية القرن السادس. هذا مجمل ما ذكره المؤرخون العرب وأصحاب الروايات عن نشأة مكة وعن قيامها كمدينة على يد قصي بن كلاب القرشي. وكأنما يريد هؤلاء المؤرخون أن يقولوا: إن مكة ظلت على بداوتها إلى أن اجتمع أمرها لقصي في منتصف القرن الخامس الميلادي. على أن بعض المؤرخين الغربيين يتشككون في وجود قصي نفسه2، ويرون أنه شخصية خيالية ابتدعها خيال الأخباريين الإسلاميين؛ وعلتهم في ذلك أن ما يروون عنه يشبه ما يروى في الأساطير عن الأشخاص الذين ينسب إليهم إنشاء المدن، ويرفض البعض روايات المؤرخين العرب عن تجميع بطون قريش من تهامة وشعاب مكة، ويرون أن قبيلة قريش التي حكمت مكة واستطاعت أن تنقلها من حال البداوة إلى هذه الحال التي تتزعم فيها الجزيرة العربية، وتنشئ لها من التنظيم السياسي والديني والاقتصادي ما يكفل لها هذا التقدم، وما يدل على معرفة كبيرة بشئون الحكم والاستقرار؛ لا يمكن أن تكون إحدى هذه القبائل المتبدية في تهامة أو الحجاز، وأنها لذلك لا بد أن تكون قدمت من الشمال أو من بادية العراق بعد أن عرفت الاستقرار، ونالت قسطًا كبيرًا من التقدم والمعرفة بشئون الحكم، ولا يستبعد أن تكون من بقايا النبطيين الذين حكموا في الشمال، وكان لهم دولة مزدهرة كانت تقوم على التجارة، والذين تراجعوا نحو الجنوب بعد غزو الرومان لبلادهم 3. وبخاصة أن القرشيين قد برعوا في التجارة إلى حد كبير، كما أن   1 اليعقوبي 1/ 196- 198. 2 جواد علي 4/ 194- 195 M. Watt, Mohamad ot Mecca P.4. .Lammens, La Mecque a la velle de I, Hegire. p. 148 - 194 يقول لامانس عن قصي: إنه محارب أجنبي جاء من الشمال من السهوب المحيطة بسوريا. 3 شوقي ضيف: العصر الجاهلي 49 Lammens, op. oit. p. 149 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 لغتهم التي سادت وتفوقت على لهجات القبائل الأخرى كانت لهجتها أقرب إلى لهجات الشمال منها إلى لهجات الجنوب. وليس من الممكن الموافقة على ما يقول به المؤرخون العرب، من أن مكة بقيت على بداوتها حتى اجتمع أمرها لقصي بن كلاب، فهذا أمر عسير التصور أن تبقى بلد له ما لمكة وبيتها العتيق من القدسية، في حالة البادية، مع ما يثبته هؤلاء المؤرخون من أن البيت بقي بعد إسماعيل في يد جرهم أخوال بنيه أجيالًا متعاقبة أقاموها حوله، ثم انتقال أمرها بعد ذلك لخزاعة، وهي قبيلة يمنية قدمت من بلاد عرفت الحضارة والاستقرار وشئون الحكم، وهي حين وليت أمر مكة حاولت تنظيم الحج والتوسع فيه وإغراء القبائل العربية بالقدوم إلى مكة، ومع أن مكة كانت ملتقى طرق القوافل إلى اليمن وإلى الحيرة وإلى الشام، وأنها اتصلت بتجارة العالم عن هذا الطريق وعن طريق البحر الأحمر. كما يشير هؤلاء المؤرخون إلى احترام التبابعة لمكة، فيذكرون مثلًا أن التبع أسعد أبا كرب الحميري قدم مكة ووضع الكسوة على البيت الحرم1. عسير أن يتصور بقاء بلد له هذه المكانة من غير أن يدينه اتصاله بالعالم من مراتب الحضارة2. لذلك كان من الحق أن نقول: إن مكة وقد دعاه إبراهيم بلدًا ودعا الله أن يجعله آمنًا مطمئنًا، قد عرفت حياة الاستقرار أجيالًا طويلة قبل قصي. ولقد أطلق القرآن الكريم على مكة اسم أم القرى3 ومعنى هذا أنها كانت عاصمة للمنطقة التي كانت فيها. ولا ريب أن هذه التسمية كانت جارية مألوفة قبل نزول القرآن. ومن إطلاق أم القرى على مكة يمكن أن يستدل على أنها كانت مدينة كبيرة كما،أنها كانت تتمتع بمركز محترم وتوجيه عام من سائر الأنحاء حولها، ولا يمكن أن يتم ذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز المائة عام. على أن الطبري يشير إلى أن قصي حين قاتل خزاعة أخذتها العدسة حتى كادت تفنيهم؛ فلما رأت ذلك جلت عن مكة, فمنهم من وهب مسكنه ومنهم من باع ومنهم من أسكن، فولي قصي البيت وأمر مكة،   1 ابن هشام 1/ 20-21. الأزرقي 1/ 165. 2 هيكل: حياة محمد 92- 93. 3 انظر سورة الشورى 7. الأنعام 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 والحكم بها، وجمع قبائل قريش، فأنزلهم أبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورءوس الجبال فقسم منازلهم بينهم1. وهذه الرواية التي ذكرها الطبري تقطع مع ما ذكرنا بأن مكة كانت قائمة قبل مجيء قصي. ولعل ما دعا هؤلاء المؤرخين إلى هذا القول هو محاولتهم نسبة شرف إنشاء مدينة مكة إلى قصي القرشي الذي هو الجد الخامس للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولما وقر في الأذهان من تعظيم قريش والإشادة بفضلها، وبخاصة أن هؤلاء المؤرخين والأخباريين مسلمون نشئوا في ظل حكم قرشي. وهذا القول نفسه هو الذي حدا بالمؤرخين الغربيين إلى التشكك في روايات الأخباريين العرب وإلى التشكك في وجود قصي نفسه. على أنه ليس من الصواب المغالاة في هذا التشكك، فإن العهد بقصي ليس بعيدًا، وليس من الحق نفي وجود شخصية تاريخية قامت بدور كبير في حياة مكة. ومهما تكن المبالغة في تصوير هذا الدور؛ فإن مائة وخمسين سنة ليست عهدًا طويلًا بحيث تدخل حوادثها وأشخاصها في حيز الأساطير، وبخاصة إذا قدرنا قيمة الذاكرة العربية، ومقدار اهتمام الناس بأنسابهم وأعمال آبائهم في تلك الأيام، على أن معالم الآثار قد بقيت فترة طويلة في العصر الإسلامي؛ فقد بقيت دار الندوة -وهي دار قصي التي جعلها منتدى القبيلة- معروفة باسمها حتى اشتراها معاوية بن أبي سفيان من صاحبها بمائة ألف درهم. وجعلها دار الإمارة بمكة، ثم أمر الخليفة المعتضد بالله العباسي بهدمها وإدخالها في المسجد الحرام2. أما القول بنسبة قريش إلى الشمال؛ فإنه مهما بدا معقولًا من وجهة التدليل المنطقي، فإنه يفتقر إلى الدليل التاريخي؛ فلا يوجد في المصادر العربية القديمة ولا في غيرها، ما يشير إلى هذه الهجرة الشمالية إلى وادي مكة والإقامة حوله، في الوقت الذي تؤكد فيه هذه المصادر وجود بطون قريش حول مكة3. ونحن إذا تتبعنا جداول الأنساب؛ وجدنا أن أمهات أجداد قصي من قبائل كانت تعيش في منطقة مكة أو حولها، فأم كنانة من قيس عيلان، وأم مالك بن النضر من   1 الطبري 2/ 16. 2 عبد الحميد العبادي: صور من التاريخ الإسلامي "العصر العربي" ص12. ابن الأثير 2/ 14. 3 ابن هشام 1/ 103 وما بعدها. الطبري 2/ 39. ابن الأثير 2/ 15- 23. ابن كثير 2/ 187، 206، العبقري 1/ 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 قيس عيلان كذلك، وأم فهر بن مالك -الذي هو قريش- من جرهم، وأبناء فهر أمهم ليلى بنت سعد بن هذيل، وأم لؤى بن غالب بن فهر هي سلمى بنت عمرو الخزاعي، وأم مرة من كنانة، وأم كلاب والد قصي هي بنت سرير بن ثعلبة الكناني الذي كان أول من نسأ الشهر الحرام1، فهذا التزاوج المتصل لا يكون إلا بالمجاورة، والمخالطة، الأمر الذي يقطع بوجود بطون قريش في منطقة مكة ومخالطتهم للقبائل الضاربة حولها قبل قصي بأجيال طويلة؛ على أن قريشًا فرع من كنانة، وقبائل كنانة مقيمة حول مكة لم تفارقها. أما هذا التقدم الذي نالته مكة على يد قبيلة قريش، وأغرى المؤرخين بهذا الفرض؛ فإنه استمرار لحالة قد بدأت من قبل حكم قريش لمكة، فقد بينا أن مكة لا بد أن تكون قد أخذت بأسباب الاستقرار والتحضر قبل حكم قريش في عهد خزاعة على الأقل، وأن قريشًا قد وجدت بداية سارت عليها. على أن ما أقرته قريش من نوع الحكم والتنظيم في مكة إنما هو في جوهره تنظيم قبلي موجود في تشكيل القبيلة العربية2، ثم تطور تدريجيًا بحسب مقتضيات ظروف الاستقرار في مكة وبحسب اتصالات قريش الواسعة وقيامها على التجارة واحتكاكها بالعالم المتحضر؛ فافتراض أن قبيلة قريش قدمت من الشمال في عهد النبط افتراض لا يقوم على أي دليل تاريخي؛ أما عن الدليل اللغوي وهو أن لغة قريش لغة شمالية فإن الشمال هنا يحدد بالنسبة لكل ما يقع شمال اليمن، ولهجة الحجاز هي في نظرنا اللهجة الشمالية مهما امتدت شمالًا.   1 ابن هشام 1/ 101- 116، السهيلي 1/ 70-71، ابن الأثير 2/ 23، الطبري 2/ 19- 24. 2 انظر الباب الأول- الفصل الثاني من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 حكومة مكة وسياستها الداخلية مدخل ... الفصل الثاني: حكومة مكة وسياستها الداخلية تولى قصي حكم مكة طول حياته، وجعل مركز هذا الحكم دار الندوة التي أنشأها، واهتم بعمارة البيت الحرام وجعل وظيفة السدانة من أهم الوظائف، كما نظم سقاية الحاج إلى الكعبة في موسم الحج، وجعلها وظيفة ثابتة عرفت باسم السقاية، وقد بقيت هذه الوظيفة من أجلِّ الوظائف في مكة وذلك لطبيعة البلد وشح المياه بها، ولأن كفالة الماء في هذا البلد القفر الحار مما ييسر مهمة الحج ويجعل الإقبال عليه أمرًا ميسورًا. كما فرض على قريش خرجًا تدفعه له يصنع به طعامًا للحجاج في موسم الحج، وجعل هذا الفرض أمرًا مقررًا، وجعل له وظيفة ثابتة عرفت باسم الرفادة، كما كان له الرياسة العامة وله القيادة واللواء1. وقد جمع قصي هذه الوظائف كلها في يده، وظل طول حياته محترمًا مطاعًا يرى الناس أمره فيهم كالدين المتبع: ولما مات خلفه بنوه على هذه المناصب وزادوا فيها إرضاء للبطون القرشية حتى وصلت إلى ست عشرة وظيفة 2. أفكانت هذه المناصب كلها أو بعضها موجودة قبل قصي، أم هو الذي استحدثها؟ لا نستطيع الجري مع الأخباريين العرب في أن قصي هو الذي أنشأ مكة واستحدث لها هذه المناصب كلها. فالواقع أن القرية المكية انتظمت منذ عهد عمرو بن لحي زعيم خزاعة، وقد دخلت في طور النظام الاجتماعي بعد أن مرت بطور   1 ابن هشام 1/ 137، 141- 142، الطبري 2/ 18- 19. ابن كثير 2/ 27- 29. 2 ابن عبد ربه: العقد الفريد 3/ 313- 315. الآلوسي: بلوغ الأرب 1/ 149- 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الاضطراب والحروب والرحلات والغزوات والقتال على السيادة1، وكان أساس الحياة في هذا الودي يقوم على قبول الهجرة من القبائل القادمة من الجنوب. وقد استمر النظام الحكومي قبل قصي عدة قرون. وكانت الوظائف الاجتماعية موجودة، ولكنها كانت لا تزال في حالة أولية، وبقي على قصي أن يكمل التشريع الذي بدأه عمرو بن لحي وبنوه، ويخلق الوظائف الحكومية ويشيد دار الندوة، ويميز الحمس والدخيل والضيف واللاجئ. ومنذ كانت خزاعة حاكمة في مكة، كانت قريش في بني كنانة متفرقة2. على أن التنظيم الحكومي في مكة سواء في عهد خزاعة أو في عهد قصي إن هو إلا تنظيم قبلي في جوهره، وإن بدا نظامًا جمهوريًّا من حيث إنه لم يكن الزعيم أو المتنفذ يلقب بالملك، وبالرغم من أن الحكم كان شوريًّا يخضع لرأي الجماعة ورقابتها، فلا ينبغي أن نبالغ مبالغة الأب لامانس Lammens فظن أن مكة كانت جمهورية بالمعنى الكامل للجمهورية3، فالواقع أنه مع نمو العلاقات التجارية والاقتصادية في مكة فإن مجتمعها كان مجتمعًا قبليًّا، فهو لا يعدو أن يكون اتحاد عشائر ارتبط بعضها ببعض لغرض سدانة الكعبة من جهة، والقيام على تجارة القوافل من جهة أخرى، ولا سلطان لعشيرة على أخرى، بل كانت كل عشيرة تتمتع بالحرية التامة ولا طاعة مفروضة عليها لأحد، وكل ما في الأمر أن اشتراكهم جميعًا في مصلحة واحدة خفف غلواء هذه الحرية، ولكنه تخفيف لم يخرج بقريش عن النظام المعروف في الجاهلية، ووجود مجلس الملأ فيها لا ينقض هذه الحقيقة، فإن عمله لم يكن يعدو عمل مجالس القبائل، ولم يكن رأيه ملزمًا إلا حين توافق عليه العشائر كلها، ومع ذلك فإن العشائر كان يمكنها التخلص منه إذا رأت ذلك؛ فمثلًا بنو زهرة تراجعت ولم تشارك في معركة بدر برغم موافقتها وخروجها 4. وكذلك بنو عدي لم تخرج إلى القتال برغم الإجماع عليه5. كذلك كان الفرد يستطيع الخروج على هذه القرارات، ولم تكن هناك عقوبة تفرض على   1 ابن هشام 1/ 123- 129. الطبري 2/ 37- 28 ابن كثير 2/ 185- 190. 2 ابن هشام 1/ 130. 3 انظر: Lammens, La republique Marchande de La Mecque 4، 5 ابن هشام 2/ 285. الواقدي: مغازي رسول الله 30/ - 31 الطبري 2/ 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الخارجين عليها. وعلى حين كان التضامن القبلي قائمًا، كانت أحيانًا تبرز النزعات الفردية، فبرغم أن الحياة التجارية في مكة كانت تزيد من الترابط في القبيلة؛ فقد وجد من الأشخاص من يفضل مصلحته الذاتية على مصلحة القبيلة. وبرغم أن الأمن كان يتوقف على نظام العشيرة نجد أشخاصًا يعملون ضد مصلحة العشيرة، فأبو لهب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج على إجماع العشيرة وانضم إلى باقي بطون قريش حين أجمعت على مقاطعة بني هشام1، والعباس بن عبد المطلب برغم تضامنه مع عشيرته2؛ فإنه ظل على علاقته الودية مع باقي البطون القرشية حرصًا على تجارته وأمواله3 وإلى جانب مجلس الشيوخ -الملأ- كان للعشائر أنديتها التي تجتمع فيها حين تدعو الضرورة لمناقشة الأمور الخاصة بالعشيرة، وكان يمكنها أن تتخذ قرارًا يخالف رأي مجلس القبيلة، ومثال ذلك اجتماع بني هاشم والمطلب للتشاور والاتفاق على حماية محمد -صلى الله عليه وسلم- ومواجهة قريش4. وبالرغم من أن مجلس الشيوخ -الملأ- كان وسيلة الحكم في مكة، ينظم شئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فإنه لم يخضع لقانون مكتوب، وإنما كان ينظر في هذه الشئون حسب قوانين العرف والعادة، ولكنه لم يقض على حرية الأفراد، فكل فرد كان متمتعًا بحريته مع شعوره بحقوق الجماعة أو حقوق القبيلة، وهذا هو نفس النظام الذي كان سائدًا في القبيلة العربية في كافة أنحاء شبه الجزيرة. فللفرد حريته وللجماعة حقوقها التي لا تتناقص مع هذه الحرية. وعلى ذلك كانت القرارات الحاسمة -في الملأ- هي القرارات الجماعية، ويرجع الفضل الأول في قوة مكة إلى قوة زعمائها وقدرتهم على تكوين رأي عام، وحل المنافسات الداخلية التي تنشأ بين العشائر على أساس المصلحة العامة والمحافظة على وحدة القبيلة التي كانت تتطلبها ظروفها كقبيلة تجارية مستقرة في بلد يعتمد في حياته على التجارة وما تجلبه لأهله من وسائل الرزق، كما يعتمد على قدسية البيت الحرام الذي يقوم فيه ويجلب إليه الحجاج   1 ابن هشام 1/ 282. 2 الطبري 2/ 195. 3 ابن هشام 1/ 337. 4 نفسه 1/ 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 من كافة أطراف الجزيرة العربية، وما يترتب على ذلك من حصول القبيلة على مركز أدبي ممتاز بين القبائل، ومن تجارة داخلية واسعة تدر على سكان البلد الحرام الرزق والثروة، وكان أي تفكك في داخل المدينة يعرض مركز مكة للانهيار، ولذلك كان لا بد أن يضع له أهله من الأنظمة والقوانين ما ينظم حياته، ويقر الأمن فيه ويحفظ الحقوق، ويضمن حماية مَن يفد إليه من الأذى، لدوام مجيء الحجاج إليه. ولقد نجح ملأ قريش في المحافظة على تماسك القبيلة، فاستطاعوا حل الخلافات الداخلية حلًّا سلميًّا، مثال ذلك الخلاف بين المطيبين والأحلاف الذي أوشك أن يثير حربًا داخلية بين عشائر قريش1، كما استطاعوا أن يرضوا شعور العشائر ويحدوا من تنافسها على السلطة بأن توسعوا في قاعدة الحكم، فأنشئوا الوظائف وأسندوا لكل عشيرة وظيفة خاصة تمارسها في نطاق القبيلة، ومع أن بعض هذه الوظائف لم يكن ذا قيمة إلا أنه أرضى شعور العشائر وأشعرها بمشاركتها وحفظ تماسك القبيلة. ودار الندوة هي الدار التي بناها قصي بن كلاب، وكانت ملاصقة للمسجد الحرام من ناحية الجهة الشامية من الكعبة، وكانت فسيحة وسيعة، وفيها كانت قريش تقضي شئونها العامة وقد سميت الندوة؛ لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر ندوا إليها للتشاور2. والندوة الجماعة، ودار الندوة دار الجماعة3. وأهم خصائص دار الندوة أنها كانت دار مشورة قريش، فيها يجتمع ملؤها للتشاور في أمورها، ولم يكن يدخلها للمشورة من غير بني قصي إلا ابن أربعين سنة، في حين كان يدخلها بنو قصي وحلفاؤهم، على أنه كانت تقضى في دار الندوة أمور أخرى غير المشاروة، ففيها كانت قريش تعقد لواءها إذا خرجت للحرب، ومن دار الندوة كانت ترحل قوافلها للتجارة؛ وفي فنائها تحط هذه القوافل حمولتها إذا رجعت، وإذا بلغ غلام لقريش عذر أي ختن فيها. وإذا بلغت جارية لقريش جاء بها أهلها إلى دار الندوة فشق عليها قيم الدار درعها -أي قميصها- ثم درعها إياه، ثم انقلبت إلى أهلها فحجبوها، والظاهر أن   1 ابن هشام 1/ 142- 144. 2 الأغاني 4/ 384 "الحاشية". ياقوت 19- 279. 3 الآلوسي 1/ 284. ياقوت 8/ 423، 19/ 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الغرض من الأمرين الأخيرين مجرد تعريف بالبالغين من قريش الذكور والإناث1. ودار الندوة في مكة تشبه الإكليزيا Ekylesia في أثينا، إلا أن الملأ المكي كان أكثر تعقلًا وشعورًا بالمسئولية من الإكليزيا اليونانية، وأقل تأثيرًا بالانفعالات العاطفية، وذلك لأن الملأ كان يتكون من رؤساء العشائر وأولى الرأي والحكمة فيها، وعلى حين كان الأثينيون يقبلون في الإكليزيا كل رجل أمين مستقيم؛ كان أهل مكة حريصين على أن يكون للشخص مهارته العملية وقدرته على القيادة2. وإنشاء دار الندوة وتخصيصها لهذه الوظيفة يعتبر بداية لمرحلة جديدة تبلورت فيها النظم القبلية القديمة. أما أهم المناصب الأخرى في مكة بعد دار الندوة، فكانت السدانة، والسقاية، والرفادة، وكلها مناصب متصلة بالكعبة والحج إليها. والسدانة هي رعاية البيت والقيام على إعداده للزائرين، لقد كانت هذه الوظيفة هامة جدًّا نظرًا لمركز الكعبة عند العرب؛ ولأن البيت الحرام هو الذي أعطى مكة قدسيتها ومكانتها وجلب إليها الحجاج من كافة الأنحاء، وعلى الحجاج يقوم جزء كبير من حياة مكة الاقتصادية؛ فإن قريشًا تضرب في مشارق الأرض ومغاربها لتجلب التجارة التي تبيعها للحجاج في مكة وفي الأسواق التي تقوم حولها في موسم الحج وتجني من وراء ذلك ثروة كبيرة. من أجل ذلك اهتمت قريش برعاية البيت الحرام والدعاية له في كافة أنحاء شبه الجزيرة، وجلبت إليه أصنام القبائل فأقامتها حول الكعبة. ولما كانت الكعبة في نظر العرب هي في بيت الله الذي بناه إبراهيم الذي يردون أنسابهم إليه، وهي أول بيت وضع للناس؛ فإن وضع الأصنام به يعتبر تكريمًا للأصنام ومن ثم يعتبر تكريمًا للقبائل التي تتقرب إليها وتعبدها، وفي ذلك إغراء للعرب على الحج إلى الكعبة؛ حيث يطوفون بالبيت ويقربون لأصنامهم في نفس الوقت. ولم يستحدث قصي هذه الوظيفة وإنما هي وظيفة قديمة ترجع إلى بناء الكعبة نفسها، فإنه من الطبيعي أن يكون لكل معبد سادته. ووظيفة السقاية لا تقل أهمية، وهي مرتبطة بالكعبة والحج إليها؛ وتأتي أهميتها من أن مكة بلد شحيحة المياه، وأن الحاج إليها يلقى عنتًا شديدًا إذا تيسر له المياه   1 ابن هشام 1/ 137. الطبري 2/ 18. العبادي: العصر العربي 8-9. 2 Watt, Mohmmed at Mecca. p.9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وخصوصًا في موسم الحج، حيث يكثر الوافدون إلى مكة لأداء هذه الفريضة، وقد أصبحت مهمة السقاية بالغة الخطورة خصوصًا بعد أن طمرت بئر زمزم التي يسرت المقام في هذا الوادي القفر. نتيجة لإهمال جرهم لها، أو لأن زعيم جرهم قد طمرها، بعد أن هزم أمام قبيلة خزاعة واضطر للخروج عن مكة1. حتى يضايق خزاعة ويجعل مهمة الحج عسيرة. ومن المؤكد أن الزعماء الخزاعيين اهتموا بتوفير المياه لإرواء الحجاج في موسم الحج، وإن لم يفكروا في إعادة حفر زمزم التي تنوسي أمرها مع الزمن، وجهل الناس موضعها، وإن لم نسمع أنهم جعلوا من هذا الاهتمام وظيفة خاصة. وقد اهتم قصي بهذا الأمر حين ولي مكة اهتمامًا كبيرًا، نتيجة لاهتمامه بتنشيط الحج الذي يبدو أنه فتر في العهد الأخير من حكم خزاعة، وقام بحفر الآبار في وادي مكة، كما حفرت عشائر قريش آبارًا كثيرة بعد قصي2: وإن لم يفكر أحد في إعادة حفر بئر زمزم. حتى كانت أيام عبد المطلب بن هاشم الذي آلت إليه هذه الوظيفة الهامة. وأصبح يجد مشقة كبيرة في توفير المياه للعدد المتزايد من الحجاج نتيجة للاتجاه العام نحو مكة المستقلة، بعدما أصابت الدويلات العربية في الجنوب والشمال من تدهور سياسي وأدبي، وقد ألهمت الحاجة عبد المطلب التفكير في حفر بئر زمزم، بئر إسماعيل، التي لا بد كانت الأخبار لا تزال تروي عنها، والبحث عن مكانها حتى اهتدى إليها وأعاد حفرها3، ومن ثم أصبحت عملية إمداد الحجاج بالماء أقل مشقة. وقد عد المكيون وظيفة السدانة من أعظم الوظائف في مكة، وكانت قريش تفاخر بهما4، وقد تولت هاتين الوظفتين أعظم العشائر القرشية، وحين فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة ألغى كل المناصب بها ولم يبق إلا على هاتين الوظفيتين تقديرًا لأهميتهما5. والرفادة هي إطعام الحاج في أيام الحج، وقد فرض قصي على قريش خرجًا تخرجه من أموالها وتدفعه إليه؛ فيصنع به طعامًا يقدمه للحجاج في أيام عرفات ومنى،   1 ابن هشام 126. 2 نفسه 1/ 159- 163 "ذكر ابن هشام أسماء أكثر من عشرة آبار حفرتها بطون قريش بمكة". 3 ابن هشام 1/ 154 وما بعدها. 4 انظر سورة التوبة 19. 5 ابن هشام 4/ 32. الطبري 2/ 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 على اعتبار أن الحجاج هم ضيفان الله وأن أحق الضيف بالكرامة هم ضيف الله، وأن على قريش -وهي تسكن في حمى بيت الله وتقوم عليه- أن تقوم بهذا الواجب السامي1. وكان هذا العمل من قصي ينطوي على حكمة سياسية كبيرة؛ فإن إمداد الحاج بالطعام يدعو إلى الإقبال على القدوم إلى مكة، وخصوصًا إذا قدرنا بعد الشقة وصعوبة حمل المؤن والزاد مع السفر في الصحراء مسافات طويلة2، كما أن البادية كانت فقيرة وكان إطعام الطعام فضيلة من أكبر الفضائل التي يتمدح بها العرب وينال صاحبها عن طريقها الاحترام العام والمنزلة الرفيعة. كما أن المؤاكلة تعد عقد جوار عند العرب، فإذا أطعمت قريش القبائل القادمة إلى مكة في موسم الحج فإنها تنال بذلك احترامًا عامًّا، ومنزلة سامية في نظر هذه القبائل، كما تعتبر أنها تعاقدت معها برابطة الجوار والأمن نتيجة لهذه المؤاكلة، وبذلك يصبح في إمكان قريش أن تسير آمنة في أراضي هذه القبائل؛ ولذلك كانت الرفادة وظيفة سامية في مكة، وكانت توكل إلى العشائر العريقة من قريش. على أن هذه الوظيفة ليست مستحدثة كلية؛ فإن الأخباريين يروون أن عمرو بن لحي زعيم خزاعة كان يطعم الحاج، وقالوا: إنه ربما ذبح أيام الحج عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة في كل سنة، يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلت لهم السويق3؛ ولكن يبدو أن هذا التقليد لم يصبح وظيفة مقررة إلا في عصر قصي بن كلاب. هذه الوظائف الثلاث -السدانة والسقاية والرفادة- لم تكن وظائف قبلية؛ وإنما هي وظائف استلزمها وجود الكعبة بمكة وقيام الحج إليها والرغبة في تيسيره؛ حتى تجني مكة من وراء ذلك الفوائد المادية والأدبية التي كانت ضرورية لحياتها كبلد يعتمد على التجارة وعلى الاتصال بالقبائل من حوله. ولم تكن هذه المناصب تشكل إدارة محلية، وإنما كانت مزايا تعطي فرصًا للكسب المادي، والمنزلة الأدبية.   1 نفسه 1/ 141- 142. 2 البخاري 2/ 134 "وكان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس". 3 ابن كثير 2/ 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 والوظيفتان الرئيستان بعد ذلك في عهد قصي هما اللواء والقيادة، والأولى هي الراية تعقد فيجتمع إليها المحاربون، يسلمها قصي لمن يتولى القيادة العامة. والقيادة هي قيادة الجيش عند الحرب وقد يتولاها بنفسه أو ينيب عنه من يتولاها. وهاتان الوظيفتان كانتا موجودتين في تنظيم القبيلة العربية؛ فشيخ القبيلة هو الذي يعلن الحرب على القبائل الأخرى ويدعو المحاربين إلى الاجتماع، كما أنه يقود القبيلة في حروبها أو ينيب عنه من يقودها. وكل ما استحدثته قريش في هذه الناحية أنها وكلت أمر هذه الوظائف إلى عشائر معينة تتوارثها؛ وذلك لأنه لم يصبح لقريش بعد موت قصي زعيم عام ترجع إليه القبيلة؛ وإنما أصبح يحكمها الملأ وهم رؤساء العشائر الذين اعتبروا أنفهسم متساوين من حيث المبدأ، واقتسموا المناصب فيما بينهم. هذه هي المناصب الرئيسة الستة التي برزت في عهد قصي، والتي اقتسمها بعد ذلك أبناء عبد الدار، وأبناء عبد مناف ابني قصي. ولكن تطلع البطون القرشية إلى التقدم والمشاركة في شئون مكة, وحرص الملأ على وحدة القبيلة وإرضاء العشائر؛ أدى إلى أن يستحدثوا عشر وظائف أخرى هي: العمارة: وهي مراعاة الأدب والوقار في البيت الحرام، فلا يتكلم فيه بهجر ولا رفث ولا ترفع فيه الأصوات. والحجابة: وهي قفل البيت وفتحه للزائرين. والمشورة: وهي أنهم لا يجتمعون على أمر حتى يعرضوه على صاحبها. والأشناق: وهي جمع الأموال الخاصة بالديات والمغارم والقيام على أدائها. والقبة: وهي خيمة تجمع فيها أسلحة الجيش. والأعنة: وهي قيادة الخيل. والسفارة: وهي الاتصال بالقبائل الأخرى في المنافرات والمفاوضات. والأيسار: وهي الأزلام التي يضرب بها عند هبل كبير الأصنام في جوف الكعبة. والحكومة: وهي الفصل في المنافرات والخصومات. والأموال المحجرة: وهي الأموال المسماة للآلهة1. وحين ظهر الإسلام كان الشرف في قريش قد انتهى إلى عشرة رهط من عشرة أبطن وهم: 1- العباس من بطن هاشم، وإليه كانت السقاية وبقي له ذلك في الإسلام. 2- أبو سفيان من بطن أمية، وعنده العقاب راية قريش؛ فإذا اجتمعوا على أحد سلمها له وإلا فهو صاحبها، وهذه الوظيفة هي وظيفة القيادة.   1 العقد الفريد 2/ 313- 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 3- الحارث بن عامر من بطن نوفل، وكانت إليه الرفادة. 4- عثمان بن طلحة من بطن عبد الدار، وكانت إليه اللواء والسدانة مع الحجابة ويقال: إن الندوة أيضًا كانت في بني عبد الدار. 5- يزيد بن زمعة بن الأسود من بطن أسد، وكانت إليه المشورة. 6- أبو بكر الصديق من بطن تيم، وإليه كانت الأشناق في الجاهلية. 7- خالد بن الوليد من بطن مخزوم، وإليه كانت القبة والأعنة. 8- عمر بن الخطاب من بطن عدي، وإليه كانت السفارة في الجاهلية. 9- صفوان بن أمية من بطن جمح، وإليه كانت الأيسار. 10- الحارث بن قيس من بطن سهم، وإليه كانت الحكومة والأموال المحجرة. وقد استمرت هذه المناصب حتى فتح مكة حين ألغاها النبي -صلى الله عليه وسلم- جميعًا إلا سدانة البيت والسقاية1: وبعض هذه المناصب تفريع لبعض الوظائف السابقة، وبعضها ليست لها قيمة كبيرة، على أنها جميعًا من صميم التنظيم القبلي إلا ما كان منها متصلًا بالكعبة والبيت الحرام، ولم تكن المناصب توكل إلى الأفراد؛ وإنما كانت توكل إلى البطون، وكل بطن يرشح للوظيفة من تكتمل له صفات الرياسة، على ما كان يجري في النظام القبلي من أن الفضائل الشخصية هي الأساس في تولي مناصب الرياسة.   1 العقد الفريد 3/ 313- 315، الآلوسي 1/ 248- 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 النزاعات العشائرية ووحدة القبيلة في مكة ... النزعات العشائرية ووحدة القبيلة في مكة أنزل قصي بطون قريش بمكة، وقريش على أرجح الروايات هو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من تجمع إلى قصي هو بطون فهر1، وقد تميزت قريش إلى قسمين رئيسين. قسم نزل وادي مكة وهو   1 ابن حزم: جمهرة أنساب العرب 11. القلقشندي: نهاية الأرب 394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الأبطح واستقر به، وعرف بقريش البطاح، وقسم نزل بظهر مكة وعرف بقريش الظواهر. وقد كانت قريش البطاح هي عامة بطون قريش، أما قريش الظواهر فهم أربعة أبطن وهم: بنو بغيض بن عامر بن لؤي، وبنو الأدرم بن غالب، وبنو محارب بن فهر، وجماعة من بني الحارث بن فهر، وقد عاشت قريش الظواهر متبدية أوشبه مستقرة، ويبدو أن حالتها المالية لم تكن حسنة، فكانت لذلك تغير وتغزو. أما قريش البطاح؛ فلزمت الحرم واستقرت به وعرفت لذلك بقريش الضب1، واتخذت من التجارة ورعاية البيت الحرام موردًا تتعيش منه، وحصلت بذلك على مال عظيم. وقد كثرت بطون قريش البطاح وتعددت حتى كان عدد البيوت الظاهرة في نهاية القرن السادس الميلادي أحد عشر بطنًا. خمسة من ولد قصي، هم: هاشم بن عبد مناف ومعهم بنوالمطلب بن عبد مناف، وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، ونوفل بن عبد مناف، وعبد الدار بن قصي، وأسد بن عبد العزى بن قصي. والباقون من ولد كعب بن لؤي وهم: عدي بن كعب بن لؤي، وزهرة بن كلاب بن مرة بن كعب، وتيم بن مرة بن كعب، وسهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وجمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، ومخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب. وتحت لواء هذه البطون الظاهرة انضوت بقية العشائر الأخرى من قريش2. وبين هذه البطون انقسمت المناصب في مكة، وقد جاء الإسلام والأمر مستقر عليها. حكم قصي مكة بعد أن أجلى خزاعة عنها، وجمع في يده المناصب الستة التي أشرنا إليها، وأقرت له العرب بذلك، ودانت له قريش وعظمته وأصبح أمره كالدين المتبع فيهم3. فلما أسن قصي، عهد بالأمر من بعده لابنه الأكبر عبد الدار، وأسند إليه هذه المناصب كلها، ويعلل الأخباريون ذلك بأن عبد الدار كان بكر قصي، وكان أضعف إخوته الذين نبه ذكرهم وشرفوا في عهد أبيهم، فأراد قصي أن يرفع من قدر ابنه الأكبر ويلحقه بشرف إخوته، فعهد إليه هذا العهد، وخضع بنو قصي لهذا الأمر احترامًا لرأي أبيهم4. لكن هذا الذي يقول به الأخباريون يخالف القواعد التي جرى عليها العرف عند القبائل العربية، فإن الكفاية الشخصية كانت هي الأساس في تولي   1 ابن الأثير 2/ 13. 2 الطبري 2/ 40. 3 ابن هشام 1/ 137. الطبري 2/ 18. 4 ابن هشام 1/ 143- 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الرياسية في القبيلة العربية، ولا بد من وجود علة أخرى غير التي قال بها هؤلاء الأخباريون، وعندي أن قصيًا -الذي اتصف بالحكمة وبعد النظر- قد أراد أن يحتفظ بوحدة القبيلة القرشية ويبعد عنها أسباب التنافس والشقاق الذي أشفق من وقوعه، والقبيلة لا تزال حديثة عهد بحكم مكة، وأعداؤها من خزاعة وبني بكر لا يزالون يعيشون منفيين حول مكة، ومن المحتمل أن يعودوا لمناوأتها إذا دب خلاف بين صفوفها، ولقد قدرت بطون قريش هذه الحكمة من قصي وأدرك بنوه ما يرمي إليه -هذا إذا كان عبد الدار على ما وصفه به أصحاب الأخبار من الضعف، وهو أمر من المحتمل أن يكون هواهم قد مال بهم إليه؛ لتعظيمهم لبني عبد مناف الذين جاء النبي صلى الله عليه وسلم منهم؛ فلم ينازعوا عبد الدار طول حياته، ولكن الخلاف ما لبث أن ثار، ورأى بنو عبد مناف أنهم أحق بالأمر من بني عمهم عبد الدار، أو أنهم لا يقلون عنهم نباهة وشرفًا؛ لذلك نازعوهم الأمر، وانقسمت قريش تبعًا لذلك إلى معسكرين متعاديين، انقسمت بينهما بطون قريش؛ فانضم إلى معسكر بني عبد مناف: بنو أسد بن عد العزى، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر.. وانضم إلى معسكر بني عبد الدار: بنو مخزوم بن يقظة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص، وبنو جمح بن عمرو، وبنو عدي بن كعب، وخرجت عامر بن لؤي، ومحارب بن فهر من قريش الظواهر فلم يكونوا مع واحد من الفريقين. وعقد كل واحد من المعسكرين حلفًا توكيدًا لترابطهم وتضامنهم. فعقد بنو عبد مناف حلفًا سموه حلف المطيبين؛ لأنهم قدموا طيبًا في جفنة وضعوها في فناء الكعبة وغمسوا أيديهم فيها ومسحوها في جدار الكعبة توكيدًا لحلفهم. كما عقد بنو عبد الدار حلفًا سموه الأحلاف. وتعبت قبائل الحلفين لبعضها، وأوشكت الحرب الأهلية أن تقع في مكة. لكن الملأ من قريش أدركوا ما يتعرض له مركز القبيلة من خطر وما يعود عليها من أضرار لو نشب القتال وسالت الدماء؛ فإن وحدة القبيلة ستتمزق وحرمة مكة التي يحرصون عليها ويسعون لإقرارها في نفوس العرب ستضعف، ومن ثم تتعرض مكة للاعتداء عليها، وتهون قريش في نظر القبائل؛ لذلك سارعوا إلى القضاء على هذا الخطر بفض هذا النزاع، فأعطوا بني عبد مناف الرفادة والسقاية، وأبقوا المناصب الأخرى في يد بني عبد الدار. وبذلك رضي الطرفان وحسم النزاع، لكن الطرفين ثبت كل منهما على حلفه1، ولم تذهب آثار هذا النزاع من النفوس، كما أن هذا الأمر   1 ابن هشام1/ 143- 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فتح عيون البطون القرشية كلها على الرغبة في المشاركة في شئون الحكم في القبيلة القرشية داخل مكة، ولما كانت قرييش قد تميزت بوجود رجال أكفاء رأسوا عشائرها ووضعوا نصب أعينهم دائمًا المحافظة على وحدتها وحل مشاكلها؛ فقد اصطنعوا من الوظائف ما أرضوا به شعور البطون القرشية كلها، وبعد أن كانت وظائف مكة ستًّا توزعت بين بني عبد الدار وبني عبد مناف، بلغت في نهاية القرن السادس ست عشرة وظيفة توزعت على بطون قريش البطاح. ومن ثم احتفظت قريش بوحدتها، ونجت من التفكك الذي كان يصيب القبائل العربية، ويخلق منها في كثير من الأحيان بطونًا متعادية متحاربة، وقد دعم هذا الترابط مركز مكة، وضمن لها التفوق على المدن العربية الأخرى التي كانت تقع على طريق القوافل، وكان من شأنها أن تنافس مكة في التجارة. وكما حرص رجال قريش على وحدة القبيلة وتضامنها، كذلك حرصوا على إقرار الأمن في مكة، سواء لأهلها أو للقادمين عليها، ووقفوا في وجه كل من تحدثه نفسه من أهلها أو من غيرهم بالاعتداء على حرية الناس وأمنهم. أو ظلم القادمين إليها للمتجارة والمبادلة؛ وذلك أن مكة كانت تعتمد في حياتها على ما تجلبه إليها التجارة من الرزق سواء منها الخارجية أو الداخلية. وإذا كانت تجارة قريش الخارجية قد اتسعت بحيث ضمنت العشائر الغنية التي تشارك فيها ثروة كبيرة، فإن رجال قريش قد حرصوا على سلامة التجارة الداخلية؛ حتى تضمن العشائر التي لم تشارك بصورة قوية في التجارة الخارجية ما يضمن لها أسباب الرزق في التجارة الداخلية؛ لذلك وقفوا في وجه كل ما من شأنه أن يعطل هذه التجارة أو يحد من نشاطها، ومن أجل هذا قام حلف الفضول. وكان سببه المباشر أن العاص بن وائل السهمي اشترى بضاعة من رجل يمني قدم مكة، وأبى أن يدفع الثمن، ولجأ اليمني إلى بطون الأحلاف فلم تنصفه، فأدى هذا إلى رد فعل قوي بين البطون القرشية الأخرى التي كانت تعتمد على التجارة الداخلية، ورأت فيه محاولة من العشائر الغنية التي تهيمن على التجارة الخارجية نتيجة لثروتها الواسعة للهيمنة على التجارة الداخلية أيضًا بمضايقتها للتجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الخارجيين من غير قريش1. لذلك تنادى بنو هاشم وأسد وزهرة وتيم لعقد حلف للوقوف في وجه هذا الاتجاه، ومنع كل ظلم يقع في مكة سواء على أهلها أو على الغرباء، فاجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا في الأمر، ثم انتقلوا إلى دار عبد الله بن جدعان أحد أثرياء مكة من بني تيم الذي صنع لهم طعامًا، حيث عقدوا حلفًا سموه حلف الفضول، تعاهدوا فيه على أن يكونوا يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم؛ حتى يؤدي إليه حقه وعلى التأسي في المعاش2. وإن هذه الفقرة الأخيرة لتبين بوضوح أغراض الحلف وهو الوقوف في وجه الظلم الذي قد يجر إلى أن تحرم هذه البطون من أسباب معاشها. وقد حقق هذا الحلف نتيجته المباشرة؛ فقد دفع العاص بن وائل ثمن البضاعة التي أخذها، كما استقرت الحرية العامة في مكة، وقد بقيت آثار هذا الحلف إلى ما بعد الإسلام، وإن كان قد تعطل فترة من الزمن عند بدء ظهور الإسلام في أنثاء الدور المكي من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم، كما سنشير إليه فيما بعد- ويذهب بعض المؤرخين إلى أن حلف الفضول إن هو إلا امتداد لحلف المطيبين، على اعتبار أن الذين انضموا للحلف هم نفس البطون التي كانت في حلف المطيبين، باستثناء بعض عشائر عبد مناف وهم بنو نوفل وبنو عبد شمس الذين أصبحوا في ذلك الوقت من العشائر الغنية التي اتخذت جانب الفريق الآخر تحقيقًا لمصالحها3. ولكن لا يمكن التسليم بهذا الرأي، فإن حلف المطيبين عقد لظروف أخرى وهي التنازع على المناصب في مكة، وكان بنو عبد مناف يملكون ناصية الثروة وناصية التجارة الخارجية؛ فإن على يد هاشم بن عبد مناف وإخوته خرجت قريش إلى نطاق التجارة الخارجية، وإلى تنظيم القوافل لنقل التجارة بين الجنوب والشمال والشرق والغرب. وهم الذين أجروا   1 لدينا أمثلة أخرى على مضايقة أغنياء قريش للتجار الغرباء، منها ما ذكره ابن إسحاق من أن أبا جهل بن هشام اشترى إبلًا من رجل جاء إلى مكة يبيع إبلًا ومطله بأثمانها، حتى اضطر الرجل إلى أن طلب الإنصاف من رجال قريش "ابن هشام 1/ 416". وما رواه ابن كثير من محاولة نبيه بن الحجاج ظلم رجل خثعمي جاء مكة مما اضطر الرجل إلى طلب الإنصاف. "ابن كثير 2/ 292". 2 ابن هشام 1/ 144- 145. ابن كثير 2/ 292. ابن الأثير 2/ 26- 27. اليعقوبي 2/ 12- 13. 3.Watt, op. oit. p.6. 13- 14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الاتصالات الخارجية بالبيزنطيين والأحباش والفرس واليمن1. أما حلف الفضول فتختلف ظروفه ودواعيه كما تختلف ظروف القائمين عليه، وإن كانوا هم بعض نفس البطون التي اشتركت في الحلف الأول, وإذا كان الحلف الأول لتقسيم المناصب؛ فإن الحلف الثاني قام لإقرار العدل والأمن وتدعيم مصالح التجارة الداخلية في مكة ذاتها، وقد قدر الإسلام الأهداف السامية التي عقد من أجلها هذا الحلف وأقره, وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: "لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم؛ ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت" 2. وقد بقيت آثاره بعد الإسلام، حتى لقد نادى به الحسين بن علي حين وقعت بينه وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والى المدينة منازعة في مال كان بينهما، وقد تداعت أطراف الحلف لنصرة الحسين مما اضطر الوليد إلى إنصافه3. وأوشك خلاف آخر أن يدب بين صفوف القبيلة قبيل ظهور الإسلام حين هدمت قريش الكعبة، وتنافست البطون على من ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه من البناء، وقد تحزبت لذلك بنو عبد الدار وبنو عدي وعقدوا بينهم حلفًا على ألا يدعوا أحدًا يقوم بهذا غيرهم وقدموا جفنة فيها دم غمسوا أيديهم فيه توكيدًا لحلفهم فسموا لعقة الدم, لكن الخلاف ما لبث أن حسم بالتحكيم على يد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي لم يكن بعث نبيًّا بعد 4. وقد ذكر المؤرخون تنازعًا وقع بين عشيرة هاشم وعشيرة أمية بن عبد شمس وهما بيتان من بيوت بطن عبد مناف, وأفاضوا في ذكر هذا التنافس بين البيتين ورتبوا عليه نتائج كبيرة، اعتبروه أساسًا للنزاع بين بني هاشم وبني أمية بعد ظهور الإسلام، وقد احتل ذكر هذا التنازع جانبًا كبيرًا من اهتمام الكتاب والمؤرخين سواء منهم القدماء أو المحدثون وأفرد له بعضهم كتبا خاصة به. وأول ذكر لهذا التنازع ما ذكره ابن سعد في كتاب الطبقات الكبرى عند حديثه عن هاشم بن عبد مناف وابنه عبد المطلب بن هاشم, وعن ابن سعد أخذ من تلاه من المؤرخين القدماء ثم تبعهم المحدثون.   1 ابن هشام 1/ 147. اليعقوبي 1/ 201. 2 ابن هشام 1/ 145. ابن كثير 2/ 293. 3 ابن هشام 1/ 146. ابن كثير 2/ 293. ابن الأثير 2/ 37. 4 ابن كثير 2/ 303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 تحدث ابن سعد عن مركز هاشم بن عبد مناف بين قومه وما نالته قريش على يده من خير، ثم قال: أخبرني هشام بن محمد قال: حدثني معروف بن الخربوذ المكي، قال: حدثني رجل من آل عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف عن أبيه، قال: فحسده -يعني هاشمًا- أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وكان ذا مال، فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، فلم تدعه قريش وأحفظوه، قال: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية ذلك، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفر هاشمًا عليه فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضر، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية 1. ثم تحدث عن منافرة أخرى وقعت بين عبد المطلب بن هشام وحرب بن أمية قال: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: أخبرني رجل من بني كنانة يقال له ابن أبي صالح ورجل من أهل الرقة مولى لبني أسد وكان عالمًا، قالا: تنافر عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي، فأبى أن ينفر بينهما، فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب فقال لحرب: يا أبا عمرو, أتنافر رجلًا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة, وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدًا، وأجزل منك صفدًا، وأطول منك مذودًا. فنفره عليه فقال حرب: إن من انتكاث الزمان أن جعلناك حكمًا2 هذه رواية ابن سعد وتابعه عليها البلاذري3 والطبري4 وابن الأثير5، وكتب المقريزي كتابًا خاصًّا بهذا النزاع سماه النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم رد فيه أصل الخصومة التي قامت بين بني هاشم وبني أمية في عهد علي بن أبي   1 ابن سعد 1/ 55- 56. 2 نفسه 1/ 67- 68. 3 البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 60- 61، 72، 73. 4 الطبري 2/ 23. 5 ابن الأثير 2/ 9-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 طالب ومعاوية بن أبي سفيان وما تلاها من صراع بين البيتين إلى هاتين الحادثتين1، ثم سار على ذلك من تناولوا هذا الموضوع من المؤرخين والكتاب المحدثين2 ونحن لا نستطيع مجاراة هؤلاء المؤرخين ونرفض القصتين من أساسهما. وأول ما يطالعنا في هذا الشأن أن ابن إسحاق -وهو أقدم من تناول السيرة- لم يذكر شيئًا عن هاتين القصتين، بل لم يشر إلى أي نزاع وقع بين بني هاشم وبني أمية قبل الإسلام، وكذلك لم يشر إليهما أحد من كتاب السيرة المحققين، من أمثال ابن كثير وابن سيد الناس؛ بل إن ابن إسحاق يثبت الترابط بين بني عبد مناف في مواضع كثيرة، فهو حين يتحدث عن إعادة حفر زمزم على يد عبد المطلب بن هاشم يقول: إن بني عبد مناف افتخرت بها على قريش كلها وعلى سائر العرب، ويروي قصيدة لمسافر بن عمرو بن أمية بن عبد شمس وهو يفخر على قريش بما ولوا عليهم من السقاية والرفادة وما أقاموا للناس من ذلك, وبزمزم حين ظهرت لهم، وقد كانت هذه المناصب كلها في يد عبد المطلب بن هاشم، ويعلق ابن إسحاق على ذلك بقوله: وإنما كان بنو عبد مناف أهل بيت واحد, شرف بعضهم لبعض شرف، وفضل بعضهم لبعض فضل.3 وحين خاصمت قريش عبد المطلب على بئر زمزم وخرجوا ليحاكموه لدى كاهن بني سعد هزيم بأشراف الشام ركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف4 ثم إن عبد شمس بن عبد مناف كان صاحب أمر بني عبد مناف في خصومتهم ضد بني عبد الدار, وقد قبل عبد شمس أن توكل السقاية والرفادة إلى أخيه هاشم؛ لأن عبد شمس كان رجلًا سفارًا قلما يقيم بمكة، وكان مقلًّا ذا ولد5. ويستمر الترابط بين البيتين وتقوم الصداقات بين أفرادهما؛ فقد كان العباس صديقًا حميمًا لأبي سفيان بن حرب، وقد ظل صديقًا له حتى بعد ظهور الإسلام، بالرغم مما قامت به قريش   1 المقريزي: النزاع والتخاصم ص 2- 17. 2بودلي. محمد الرسول 143. العقاد. معاوية في الميزان. ص 31. وما بعدها, أبو الشهداء ص24 وما بعدها. مطلع النور ص 162 وما بعدها. الخربوطلي: المختار الثقفي ص 164- 165. إبراهيم الإبياري: معاوية ص9 وما بعدها. 3 ابن هشام 1/ 162. 4 نفسه 1/ 55. 5 نفسه 1/ 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 جميعًا ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم، والعباس هو الذي أخذ الأمان لأبي سفيان من النبي -صلى الله عليه وسلم- عند فتح مكة، وقد اشتد على عمر حين طلب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يضرب عنق أبي سفيان؛ فقال العباس: مهلًا يا عمر, فوالله أن لو كان من رجال بني عدي ما قلت هذا، ولكن عرفت أنه من رجال عبد مناف1. ولم يبد رجال بني عبد مناف حماسة شديدة للقتال حين خرجت قريش لقتال المسلمين في بدر، بل كانوا يسايرون إجماع القبيلة على الخروج, بل إن بعضهم حاول تخذيل قريش عن لقاء المسلمين، وكان أبرز من قام بهذا الدور عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، حتى اتهمه أبو جهل بالممالأة فقال: إن عتبة يشير عليكم بهذا -يعني الرجوع- لأن ابنه مع محمد، ومحمد ابن عمه، وهو يكره أن يقتل ابنه وابن عمه2. وهكذا يثبت ابن إسحاق والواقدي ومن أخذ عنهما أن الترابط كان موجودًا بين بني عبد مناف جميعًا، وأن قريشًا كانت تعتبر بني عبد مناف عصبية واحدة وحتى ليقول أبو جهل وقد سئل عن رأيه فيما يقول محمد -صلى الله عليه وسلم-: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا3, وهكذا نجد أنه ليس هناك ذكر لما ذهب إليه ابن سعد. والأمر الثاني الذي يطالعنا أن الرواية في كلتا الحادثتين رواية مفردة مقطوعة السند، وهي عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو غير منزَّه عن الشبهات؛ لأنه لا يحقق ما يصل إلى يده4. ثم إن من أخذوا بهذه الرواية من أمثال ابن الأثير الذي أخذها عن الطبري الذي أخذها بدوره عن ابن سعد، قد مهدوا لهذه الرواية بقصة أسطورية، فقد ذكر ابن الأثير أن هاشمًا وعبد شمس توأمان وأن أحدهما ولد قبل الآخر، وأصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه فنحيت، فسال الدم5، فقيل يكون بينهما دم، وذكر اليعقوبي حادث الولادة فقال: كانا توأمين فخرج هاشم وتلاه عبد   1 نفسه 4/ 21. 2 الواقدي: مغازي رسول الله ص 46. 3 ابن هشام 1/ 338. 4 ياقوت: معجم الأدباء 19/ 287- 288. 5 ابن الأثير 2/ 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 شمس وعقبة ملتصق بعقبه فقطع بينهما بموسى. فقيل ليخرجن بين ولد هذين من التقاطع ما لم يكن بين أحد1، ويزيد ابن الأثير والبلاذري الوضع غرابة؛ فإنهما يذكران أن هاشمًا مات بغزة وله من العمر عشرون سنة أو خمس وعشرون سنة2 فإذا كان عبد شمس والد أمية توأم هاشم، فكم يكون سن أمية حين نافر عمه؟ وفي تحكيم النجاشي بين عبد المطلب وحرب غرابة شديدة، إذ كيف ينتقل الخصمان إلى الحبشة وما مدى علم النجاشي بمواهب الرجلين ومنزلتهما وهو هنا موضوع المنافرة. على أن هؤلاء المؤرخين يثبتون مع ذلك استمرار الصداقة بين أولاد أمية وأولاد هاشم، فيذكرون صداقة عبد المطلب وحرب بن أمية، وكان حرب بن أمية على قريش وحلفائها في الفجار لمكانه من عبد مناف سنًّا ومنزلةً3. ويذكرون صداقة العباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن حرب. وإذا كان أبو سفيان قد عادى النبي وقاد قريشًا لحربه بعد معركة بدر سنة 2هـ إلى فتح مكة سنة 8هـ؛ فإن القبيلة كلها أجمعت على هذه الحرب إذ إن مكة كانت تقاتل دفاعًا عما تراه مصلحتها، وبنو هاشم أنفسهم خرجوا للقتال يوم بدر وأسر من رجالهم العباس, وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن عبد المطلب4 وكان أبو لهب بن عبد المطلب5 وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب من أشد الناس عداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللإسلام6، وهما من بني هاشم ومن أمس الناس قرابة بالرسول -صلى الله عليه وسلم. من كل ما تقدم يمكن القول بأن هذا التنازع الذي ذكره المؤرخون بين بني هاشم وبني أمية في الجاهلية لم يكن له وجود، وأنه لم يثر بين البيتين خلاف إلا بعد مقتل عثمان، وهذا العداء الذي قام بين علي ومعاوية واستمر بعد ذلك بين البيتين هو الذي سحبه المؤرخون على الماضي فحاولوا الرجوع بأصوله إلى أيام الجاهلية، وإلى أيام ظهور هاشم بن عبد مناف على مسرح الحياة في مكة.   1 اليعقوبي 1/ 200. 2 البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 33. ابن الأثير 2/ 10. 3 ابن الأثير 1/ 362. 4 ابن هشام 2/ 362. 5 نفسه 1/ 372. 6 نفسه 4/ 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 على أنه مهما تكن المنازعات العشائرية قد وجدت في قريش؛ فإن رجال قريش استطاعوا أن يحافظوا على وحدة القبيلة وتماسكها, ولم يقبلوا إطلاقًا أن يحدث تفكك في صفوفها، أو ينشب خلاف يؤدي إلى تعارك العشائر وهذه الرغبة في تماسك القبيلة هي التي جعلت قريشًا تنظر إلى رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- هذه النظرة القاسية، وتعامل المسلمين وبني هاشم تلك المعاملة الشديدة، كما أنها هي نفسها التي منعت وقوع الحوادث الدموية في الدور المكي من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصانت القبيلة من التفكك والحرب الداخلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قوة الزعامة في مكة وأثرها يرجع الفضل الأكبر في تقدم مكة وتفوقها في عهد قريش إلى قوة زعمائها وقدرتهم على حل المنافسات التي تنشأ بين الأفراد والعشائر للمصلحة العامة. وفي بلد تجاري مثل مكة كانت قوة العشيرة ونفوذها مرتبطةً إلى حد كبير بثروتها المادية. كما كانت أهمية الفرد في هذه البيئة تتوقف على ثروته وعلى نفوذ عشيرته وقوتها؛ لكن هذا لم يكن أمرًا مطلقًا، فالثروة والنفوذ العشائري لم يكن إلا بداية لظهور الفرد، فإن الثروة في بلد تجاري كانت عرضًا يمكن أن يزول بين عشية وضحاها في إحدى المضاربات التي كان يزاولها أهل مكة, ومن ثمَّ كان الأفراد -كما كانت العشائر- تتردد ما بين الغنى والفقر. أما العامل الرئيسي الذي يتوقف عليه تفوق الفرد ونفوذه فهو المواهب الشخصية والمزايا الذاتية، فذكاؤه التجاري والمالي ومهارته في معاملة العشائر والقبائل الأخرى، وقدرته على أن يحمل الآخرين في عشيرته وفي خارجها على أن يتقبلوا زعامته، كان المؤهل الحقيقي للزعامة في مكة. وأول زعيم في قريش هو قصي بن كلاب الذي جمع قريشًا وأقامها في مكة وثبت وظائف مكة في يدها، ولعمله الجليل الذي قام به كان موضع الإجلال والتقدير طوال حياته وبعد مماته, فكان شريف أهل مكة لا ينازع فيها، وكانت داره هي دار الندوة وفيها كان يبرم أمر مكة كله، وكانت قريش تتيمن برأيه وتتبع أمره كالدين المتبع لا يعمل بغيره في حياته ولا بعد موته. وفي يده تجمعت كل مناصب مكة وحكمها, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وفي عهده نمت مكة واتسع عمرانها واستقلت بها بطون قريش، فكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها1, كما عمل على تنشيط الحج إليها فاتسعت تجارتها الداخلية مع القبائل العربية الوافدة إليها وبدأت تعظم ثروتها. وحين أسن قصي عهد بالمناصب كلها إلى ابنه عبد الدار ولم تتحدث المصادر عن نشاط عبد الدار ولا عن أثره في مكة، ولا بد أنه سار على نهج أبيه، ولكن يبدو أنه لم يكن على جانب كبير من المقدرة لا هو ولا أحد من بنيه؛ الأمر الذي جعل بني عمهم عبد مناف ينازعونهم زعامة مكة ويرون أنهم أحق بها منهم لشرفهم وفضلهم2. وقد أدى هذا التنازع إلى قيام حلفي المطيبين والأحلاف وكادت الحرب تقع بين بطون قريش -كما أشرنا إلى ذلك من قبل- ثم اقتسمت المناصب؛ فآل لبني عبد مناف الرفادة والسقاية، وهما أهم وظيفتين في مكة لارتباطهما بالحج ووفود الحجاج إلى مكة من قبائل العرب المختلفة. الأمر الذي كانت مكة تعتمد عليه في حياتها الاقتصادية. وقد وكل أمر هاتين الوظيفتين إلى هاشم بن عبد مناف الذي يبدو أنه كان واسع الثروة جم النشاط3؛ فقد نالت مكة على يديه هو وإخوته تقدمًا كبيرًا، وبعد أن كانت تجارتها مقصورة على التجارة الداخلية مرتبطة بالحرم4؛ فتح لها هاشم وإخوته مجال التجارة الخارجية؛ فقد رحلوا إلى الشام وإلى اليمن وإلى الحبشة وإلى العراق، وقاموا باتصالات قوية مع حكام هذه المناطق أدت إلى عقد معاهدات تجارية، فقد أخذ من الروم عهدًا بالسماح لتجار قريش أن يدخلوا الشام وبلاد الدولة الرومية في سلام، وكذلك أخذ إخوته المطلب وعبد شمس ونوفل عهودًا مماثلة من الأكاسرة والنجاشي والحميريين. وبذلك بدأت قريش تسيطر شيئًا فشيئًا على التبادل التجاري بين الشمال والجنوب. وقد قام هاشم بتنظيم رحلات القوافل إلى الجنوب شتاء وإلى الشمال صيفًا. وقد عرف هذا النظام برحلتي الشتاء والصيف5, وإلى هاتين الرحلتين وأثرهما يشير القرآن الكريم: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ   1 ابن سعد 1/ 50. 2 ابن هشام 1/ 211. 3 ابن هشام 1/ 146-147. اليعقوبي 1/ 201- 202. 4 اليعقوبي 1/ 201. 5 ابن هشام 1/ 137. 118 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش] ، كما وضع هاشم نظامًا لتأمين مرور القوافل بين القبائل العربية، وذلك بإشراك زعماء القبائل في قوافله؛ فيحمل لهم بضائعهم دون أن يتحملوا في نقلها شيئًا1, وبذلك اتسعت تجارة قريش وعظمت ثروتها وأصبح هاشم بن عبد مناف زعيمًا لمكة كلها، وإن لم تجتمع له كل المناصب كما كان الحال عند جده قصي. لكن موته المبكر2 حرم مكة من جهود هذا الزعيم المفكر النشيط، وقام إخوته من بعده على تدعيم تجارة مكة الخارجية؛ لكنه لم يكن لأحدهم من المكانة ما كان لهاشم. وبدأت تظهر شخصيات أخرى في البطون القرشية لم تبلغ منزلة أحدهم مكانة الزعامة المطلقة، وترتب على ذلك أن برزت قوة الملأ في قريش، وهو مجلس القبيلة المكون من زعماء العشائر وأتيحت الفرصة لظهور رجال متعددين كانت تقوم العلاقة بينهم على أساس التكافؤ, وكانوا يشاركون جميعًا في إدارة شئون مكة. وكان أبرز هؤلاء الزعماء في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي هو عبد المطلب بن هاشم. ولم يكن عبد المطلب في منزلة أبيه؛ وإنما كان أحد هؤلاء الرجال النظراء الأكفاء الذين حفل بهم ملأ مكة في هذه الفترة، وكان أكبر عمل أظهر شخصية عبد المطلب هو إعادته حفر بئر زمزم التي كانت قد غاضت مياهها وطمست في أواخر أيام جرهم3, وقد يسر حفر زمزم مهمة السقاية التي كان يقوم عليها عبد المطلب, كما رفع من مكانته الأدبية لما يحيط بزمزم من تعظيم على أنها بئر إسماعيل المبارك الذي فجره الله له، وفي أيام عبد المطلب وقع الغزو الحبشي على مكة، وقد حاول عبد المطلب أن يرد الغزاة عن مكة عن طريق المفاوضة ولم يفلح 4، كما لم يفلح في تعبئة قريش لقتال الأحباش5؛ لأن قوة جيشهم وما أتوا به من عدة وسلاح وما كان معهم من الفيلة التي لا عهد للعرب بقتالها أفظعتهم فهبطت همتهم وبخاصة بعد ما علموا بما أصاب القبائل التي تصدت لهم من هزيمة6. وتقول الروايات: إن   1 ابن سعد 1/ 58. اليعقوبي 1/ 202. ودلي: الرسول ص 35- 38. 2 ابن الأثير 2/ 10. 3 ابن هشام 1/ 154- 158. اليعقوبي 127. 4 ابن هشام 1/ 51. 5 اليعقوبي 1/ 209-210. 6 ابن هشام 1/ 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 عبد المطلب لم يفارق الكعبة حين تفرقت قريش في شعاب مكة وجبالها خوف الغزاة، بل أخذ يستعد لمقاومة الغزو بمن أطاعه من قومه، وهو مع ذلك يدعو ربه ليرد كيد المغير عن بيته الحرام1. ولما تفشى المرض في جيش أبرهة وارتد عن مكة؛ علت مكانة عبد المطلب الأدبية والدينية بين قومه، حتى كانت قريش تقول: عبد المطلب إبراهيم الثاني 2، كما علت منزلة قريش كلها بين القبائل العربية وقال العرب عنهم: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مئونة عدوهم3, وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الحادث: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل] . وكانت لعبد المطلب وفادات على الجنوب، فكان ينزل على عظماء اليمن، وقد وفد على سيف بن ذي يزن مع وفد مكة لتهنئته بعد انتصاره على الأحباش، ففضله على من معه وآثره4. وأبرز شخصية من رجال الملأ ظهرت بعد عبد المطلب بن هاشم هو أبو سفيان بن حرب بن أمية, ولم يكن لبني أمية من مناصب مكة إلا منصب واحد هو العقاب وهو راية قريش، ولا يمكن تحديد الوقت والمناسبة التي أسندت إليها فيه هذه الوظيفة ولكن يبدو أنها أسندت إلى بني أمية في فترة متأخرة, ومن الراجح أن يكون ذلك بُعَيد ظهور الإسلام في مكة. ولم يكن أبو سفيان من رجال قريش المشهورين بالجود والكرم، إنما كان يغلب على طبيعته الشح5، وكل ما اشتهر به أنه كان تاجرًا قاد بعض قوافل قريش التجارية نحو الجنوب والشرق والشمال6. وقد تعرضت إحدى   1 نفسه 1/ 51. اليعقوبي 2/ 7. الطبري 1/ 551- 557. 2 اليعقوبي 2/ 7. 3 ابن هشام 1/ 59. 4 اليعقوبي 2/ 8. ابن سعد 1/ 67. 5 البخاري 3/ 79. أسد الغابة 5/ 562. 6 نفسه 1/ 4، 5، 4/ 36, 45. ابن الأثير 2/ 318- 319, الآلوسي 1/ 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 القوافل الكبرى التي كان يقودها إلى الشام لتصدي المسلمين لها بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب بسنتين؛ فاستطاع أبو سفيان بمهارته وحذره أن يتجنب الخطر وأن يعود بالقافلة سليمة إلى مكة، لكن هذا التصدي أدى إلى وقوع معركة بدر التي قتل فيها معظم زعماء قريش البارزين، ولم يبق إلا الزعماء الثانويون، وكان أبرزهم جميعًا أبا سفيان، الذي أبدى كثيرًا من ضروب المهارة في نجاة القافلة، وفي جمع شمل القبيلة بعد هذه المعركة، وتعبئة كل قوتها للأخذ بثأرها من المسلمين، ومن ثم كتبت له الزعامة العامة في قريش وأخذ على عاتقه تنظيم القبيلة، وقيادة جيوش مكة في حروبها ضد يثرب ست سنوات بعد ذلك انتهت بفتح مكة وتغيير الأوضاع كلها. على أن هؤلاء الرجال الأفذاذ، سواء منهم من نالوا زعامة عامة في القبيلة كلها أو من كانوا زعماء في عشائرهم، قد حرصوا دائمًا على مصلحة القبيلة وحفظوا على مكة وحدتها، وجنبوها ما كان يقع في القبائل والمدن الأخرى من حروب عشائرية؛ ووقفوا ضد كل طيش ونزق، وحرصوا -حتى في أحرج الظروف- على صيانة الدماء؛ فلم تقع أية ثارات بين بيوتاتها المختلفة، وحتى وقت ظهور الإسلام حرصوا طيلة ثلاث عشرة سنة قضاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة على ألا تسفك دماء القرشيين وألا تقع حرب بين بطون قريش بسبب دخول من دخلوا في الإسلام بالرغم من الموقف الشديد الذي وقفته القبيلة تجاه الدعوة الإسلامية ومن دخل فيها، ومحاولة فتنة المسلمين من قريش عن دينهم بكافة أنواع المقاومة دون القتل، وحتى حين أجمع الملأ من قريش على التخلص من محمد -صلى الله عليه وسلم- بالقتل، حرصوا على أن يكون تنفيذ القرار جماعيًّا حتى لا تحدث حرب أهلية في مكة. وقد عدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- مفرقًا لجماعة قريش مهددًا لمركز الكعبة الذي يتوقف عليه مركز مكة إلى حد كبير, وقد حاولوا إثناءه عن موقفه بكافة أنواع الترغيب والوعيد. كما حاولوا أن يرجعوه عن دعوته باللجوء إلى عشيرته؛ فقد أصر بنو هاشم على الوقوف إلى جانب محمد -صلى الله عليه وسلم- وحمايته، فأوقعوا عليه وعليهم عقوبات اقتصادية شديدة، ولكنها على كل حال دون القتل والقتال. ولم يتورطوا في أحلاف تجر إلى الحرب، كما لم يتورطوا في خوض الحرب إلا مرتين، مرة إلى جانب حلفائهم من بني بكر ضد هوازن وقيس فيما عرف بحرب الفجار. وقد جروا إلى هذه الحرب جرًّا دون أن تكون لهم يد في إشعالها. ومع ذلك فقد كانوا هم الداعون للصلح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فيها، وقدموا من أجل السلام كافة التسهيلات، حتى قدموا أربعين رجلًا رهنًا لتوفية دية القتلى. والمرة الثانية هي الحرب التي دخلوها ضد المسلمين في يثرب، وقد بدءوها حرصًا على مكانة مكة وصيانة مصالحها. وكما حفظوا على مكة وحدتها الداخلية؛ كذلك حافظوا على حسن الصلة بينها وبين القبائل الأخرى في أنحاء الجزيرة العربية، وبخاصة القبائل الضاربة حول مكة, وتلك التي تنتشر على جوانب طرق القوافل، الأمر الذي مكَّن قريشًا من القيام على تنظيم القوافل التجارية وتسييرها آمنةً بين هذه القبائل. كما حافظوا على خطة الحياد التي انتهجوها بالنسبة للصراع الدولي الذي قام بين الفرس والبيزنطيين، ودخل في دائرته أجزاء كثيرة من الجزيرة العربية كاليمن في الجنوب والمناذرة على أطراف العراق، والغساسنة على أطراف الشام. واستطاعوا بمهارة أن يسالموا الدول المتصارعة, وأن يفيدوا من هذا الموقف الحيادي في السيطرة على نقل التجارة بين الشرق والغرب. وجنوا من وراء ذلك ثروة كبيرة ومركزًا ممتازًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الفصل الثالث: قوة قريش الحربية وعلاقتها بالقبائل الخارجية لم يكن في مكة جيش نظامي ثابت، فهي مجتمع قبلي تستغني بالتشكيل الحربي القبلي عما تعرفه المجتمعات الكبيرة من الجيوش النظامية. وكان جيشها يتألف من رجال القبيلة أنفسهم ومن ينضم إليهم من رجال القبائل الأخرى التي ترتبط معهم برباط الحلف. ومكة كمدينة تجاريةلم يكن أهلها يميلون إلى استخدام وسائل العنف، وقد حرصوا دائمًا على حل مشاكلهم سلميًّا؛ إذ إن سلامة تجارتها تتوقف إلى حد كبير على حسن صلاتها مع القبائل المجاروة لها أو الضاربة على جانبي طرق التجارة التي كانت تسير فيها قوافلها بين الشمال والجنوب والشرق والغرب, كما كان من مصلحتها أن يسفر السلم في منطقتها حيث تعقد الأسواق التجارية، لتستطيع في جو السلم أن تصرف بضائعها، التي تجلبها من الجهات المختلفة، بين الوافدين إليها من سكان البادية، وللتبادل التجاري مع من يفد من رجال الشمال والجنوب لهذه الغاية. ولكنها في الوقت نفسه كانت محتاجة إلى قوة حربية, تشعر بقدرتها على الضرب إذا هدد أمنها أو حدث اعتداء على قوافلها. وبالرغم من أن رجال قريش -وبخاصة أصحاب الأموال منهم- كانوا دائمًا ضد استعمال القوة المسلحة وتسيير الحملات العسكرية؛ فإن ذلك لا يعني أنهم كانوا جبناء فقد أثبت كثير من رجال قريش شجاعة فائقة، وقاتلوا ببسالة كبيرة حينما اضطرتهم الظروف إلى القتال سواء في الجاهلية أو الإسلام، وقد نالت قريش نفوذًا كبيرًا بين القبائل العربية الغربية والوسطى, ولكن هذا المركز الممتاز الذي بلغ أوج قوته في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع، لم يكن يرجع إلى شجاعة محاربيها في المقام الأول؛ وإنما يرجع سر هذا النفوذ إلى القوة العسكرية التي كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 تستطيع أن تضرب بها، ونعني بذلك قوة الحلف الذي بنته على أساس ارتباطاتها التجارية، وقيامها في الوقت نفسه بأمر تنظيم الحج وسدانة الوقت، فقد كانت القوافل التي تسير إلى الشمال وإلى الجنوب في حاجة إلى خدمات البدو باعتبارهم أدلاء وحراسًا وحمالين، وكانت القوافل تدفع إتاوة لرؤساء القبائل على أن يدلوها أو يمدوها بالماء وبالتموينات الأخرى، ومن هنا فإن قبائل البدو كانت تشارك في تجارة مكة على نحو ما، وبذلك كانت القبائل الضاربة على جنبات الطرق التجارية ترى مصالحها مرتبطة بمصالح مكة، فرخاء مكة يعني رخاءها وخسارة مكة تعني خسارتها. وكذلك قوي الشعور بالتضامن مع مكة بالمحالفات القائمة على المصاهرة بين أبرز رجال مكة ومختلف القبائل العربية 1، كما أن زعماء القبائل كانوا يشاركون مشاركة مادية في قوافل مكة التجارية, ومن هنا كان في استطاعة أهل مكة أن يستأجروا المحاربين للدفاع عنهم 2, ولكن ليس معنى ذلك أن هؤلاء كانوا جنودًا مرتزقة بل إنهم كانوا حلفاء، دخلوا في محالفات قريش على أساس التكافؤ، وكان أبرز هؤلاء الحلفاء أولئك الذين عرفوا بالأحابيش. وقد ذهب لامنس3 Lemmens إلى أنهم كانوا زنوجًا من بلاد الحبشة، وأن رواة السيرة تعمدوا القول بأنهم عرب؛ أنفة من أن يقولوا: إن قريشًا كانت   1 انظر نسب قريش للمصعب الزبيري "تحقيق برنفسال" صهر عبد مناف إلى بني سليم وهوازن وزوج بناته في كنانة مما أدى إلى حلف الأحابيش "ص 14-15" وأصهر ابنه هاشم إلى الخزرج في يثرب وإلى بني المصطلق من خزاعة وإلى ثقيف "ص15-16" وأصهر عبد المطلب بن هاشم إلى النمر بن قاسط وإلى عامر بن صعصعة وإلى خزاعة "ص 18" كما أصهر عبد شمس إلى بني حنظلة من زيد مناة وإلى بني أسد "ص 98" وأصهر أمية الأكبر إلى بني عامر وإلى هوازن "ص99" وأصهر حرب بن أمية إلى بني تميم "123" وأصهر أبو سفيان إلى الأزد "ص 126" وأصهر خويلد بن أسد إلى بني مازن إخوة سليم "ص 229" وأصهر هشام بن المغيرة في بني نهشل بن دارم "ص 302" وأصهر أبو جهل بن هشام إلى بني هلال بن عامر وإلى بني تميم وإلى بني عبس "ص 311-312" والأمثلة إلى مصاهرات قريش مع القبائل كثيرة جدًّا بجدها كل من تتبع أنساب قريش. 2 ابن هشام 2/ 4-5،230, الواقدي 790 "يقول الواقدي عند الكلام عن الخندق: إن قريشًا جمعوا الجموع واستأجروا حيًّا من قبائل العرب، فسارت غطفان وأسد وسليم وقريش ومن دخل فيها فاجتمع منهم نفر جم" Oleary.Arabia Before Muhammad. P. 181 3 Lamoms. les Ahabis et lorganisotion Militaire de La Meoque (Journal asiatiqune. VII 1916 p.425- 482) Olcary. p. 185 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 في الجاهلية تستعين بالسودان في الدفاع عن حريتها. وهو قول مردود؛ فإن الأحابيش كانوا بطونًا من القبائل العربية الضاربة حول مكة من كنانة وخزيمة بن مدركة وخزاعة، تجمعوا وتحالفوا معًا، وأخذوا في الاندماج والتكتل في طريقهم إلى تكوين قبيلة عربية بواسطة الحلف الذي كان سببًا في تكوين كثير من القبائل العربية القديمة، ثم تحالفوا مع قريش في النصف الثاني من القرن السادس1 وقد ظلوا طوال عصر النبوة قوة عربية لها كل خصائص القبيلة؛ من سيد يتزعمها 2، وأرض تنزلها، وراية تحف بها عند الحرب, وأنها كانت من حيث علاقاتها السياسية مع قريش تنزل منها منزلة الحليف من الحليف والند من الند، وأنها كانت مسموعة الكلمة في الشئون العامة لقريش3. وقد استخدمت قريش قوة الأحابيش في الحرب التي خاضتها، وكانت قوة الأحابيش ذات أثر كبير في الحروب التي وقعت بين مكة ويثرب في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إن قريشًا حين خرجت بمفردها في موقعة بدر منيت بهزيمة شديدة. وقد عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يفل قوة الأحابيش التي كانت تعتز بها قريش؛ بأن اجتذب إلى جانبه القبائل التي كانت تنتمي إليها أحياء الأحابيش. كما غزا بعض هذه البطون4، وبذلك انكسرت شوكة الأحابيش وانتهى حلفهم نهائيًّا بعد فتح مكة5. كما كان لقريش عدد كبير من العبدان والموالي الذين يقاتلون في صفوفها6، ولم تكن قوة قرش الذاتية التي تستطيع أن توجهها إلى ميدان القتال لتزيد على ألف ونصف من المحاربين, ولكنها كانت تستطيع أن توجه إلى القتال أربعة آلاف مقاتل وقوة من الفرسان لا تزيد عن أربعمائة، إذا انضم إليها أحابيشها ومواليها وحلفاؤها من قبائل   1 انظر ابن الأثير 1/ 358، 365. العقد الفريد 3/ 340. نسب قريش ص 9. 2 ابن هشام 3/ 44، 360. 3 نفسه 3/ 360. ابن الأثير 1/ 362. 4 ابن هشام: "اجتذب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جانبه قبائل خزاعة، فيروي ابن إسحاق أن خزاعة كان مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أي موضع سره- بتهامة. صفَّهم معه-هواهم له- لا يخفون عنه شيئًا "3/ 53" كما أن غفارًا -وهي من كنانة، وأسلم وهي من خزاعة- أخذتا جانبه " 3/ 394، 4/ 26". وكذلك غزا بني المصطلق ثم صالحهم وضمهم إلى جانبه "3/ 373، 340". 5 انظر عن الأحابيش. العبادي: صور من التاريخ الإسلامي 1/ 13- 21. 6 البخاري 3/ 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كنانة وبعض بطون هذيل وخزاعة من قبائل تهامة. وأكبر قوة استطاعت قريش أن تجمعها في معركة من المعارك منها ومن كل أحلافها هي عشرة آلاف مقاتل، وهي التي حاصرت بها المدينة في غزو الخندق، وجمعت فيها كل حلفائها من القبائل العربية التي ارتبطت مصالحها بمصالح قريش، وهي قوة كبيرة لم تعتد مثلها الجزيرة العربية في العصر الجاهلي. كذلك كانت قريش حليفة قديمة لبني كنانة وبني بكر، ويرجع حلفها مع كنانة إلى أيام قصي بن كلاب، حينما جمع قريشًا وحالف كنانة لحرب خزاعة، وقد اضطرت قريش إلى القتال إلى جانب كنانة ضد قيس وهوازن في حرب الفجار استجابة لهذا الحلف، وقد أثبتت حرب الفجار مقدار تماسك قريش واتحاد بطونها ورجالها، وأنهم لم يكونوا متهورين تهور غيرهم في الحروب، بل كانوا يميلون إلى التعقل والتدبر قبل الإقدام على الحرب، وبالرغم من رجحان كفتها فإنها دعت إلى الصلح وأفلحت في إعادة حسن العلاقات بين الطرفين؛ لأن مصالحها التجارية كانت تستلزم هذه العلاقات الطيبة. وكذلك ظلت كنانة إلى جانب قريش عند ظهور الإسلام؛ فقد اشتركت مع قريش في الحلف ضد بني هاشم وحصرهم في أحد شعاب مكة1، وكذلك قاتلت إلى جانب قريش في حروبها ضد يثرب. كما كانت قريش على علاقات طيبة ودية مع القبائل الضاربة على جنبات الطريق التجاري مثل جهينة ومزينة وغطفان وأشجع وسليم وبني سعد وبني أسد، وكان لهم من هذه القبائل حلفاء يعيشون في مكة ويعتبرون أنفسهم من القبيلة جريًا على النظام القبلي2. وكذلك كانت قريش على صلات طيبة ببني عذرة من قضاعة على أطراف بادية الشام من أيام قصي بن كلاب، وقد أعان بنو عذرة القضاعيون: قصي في الوصول إلى حكم مكة، وكانت صلات مكة طيبة كذلك وقوية بالقبائل التي تعيش إلى جنوبها، مثل قبيلة خثعم التي كانت تعيش في الهضبة الممتدة من الطائف إلى نجران عند طريق القوافل الممتدة من اليمن3، وتتحدث الروايات عن صداقة عبد المطلب بن هاشم مع ذي نفر الحميري الذي تصدى لقتال   1 البخاري 2/ 148، 4/ 71. 2 الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/ 221- 223. 3 جواد علي 4/ 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أبرهة دفاعًا عن مكة، كما تصدى له نفيل بن حبيب الخثعمي بقبيلتي خثعم: شهران وناهس1. على أن الاحتفاظ بود القبائل البدوية والحلف معها أمر يحتاج إلى حنكة ومهارة، ودراية بنوازع نفوس البدو الحساسة، وأنفتها الشديدة التي قد تثيرها أمور بسيطة يعدها الحضري تافهة. ولكنها في نظر البدوي عظيمة قد تثير الحروب وتسفك من أجلها الدماء، فكلمة شديدة أو تصرف يبدو فيه بعض الإهانة قد يثير عواطف البدو فتسل السيوف وتسيل الدماء، وعند ذلك تقع الغارات، وتثور الأحقاد، وتتفانى القبائل. فلم يكن المال وحده كافيًا للحفاظ على حسن الصلات بهذه القبائل البدوية؛ وإنما هي السياسة الحكيمة الصبور التي اشتهرت بها قريش وضمنت بها ولاء القبائل لها، بل ضمنت بها تفوقها عليها واعترافها بسيادتها. وكما حالفت قريش قبائل البادية؛ فإنها كانت على علاقات طيبة مع المدن الأخرى الموجودة في الحجاز، فكانت صلاتها وثيقة بقبيلة ثقيف في الطائف. وقد كانت الطائف مصيف أهل مكة، ولا يوجد غني في مكة إلا وله في الطائف بستان، وكان تجار مكة يجلبون من الطائف الخمور والزبيب والأدم -الجلود المدبوغة- وكان أهل مكة يستهلكون كثيرًا من أعناب الطائف ورمانها، كما أن الثفيين كانوا يشاركون في قوافل مكة التجارية، كما كانت سوق عكاظ -وهي أكبر أسواق العرب- تقوم على مقربة من الطائف بينها وبين مكة. وتشير الآية القرآنية: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} [الزخرف] . إلى خطورة شأن رجال الطائف، وأنهم يماثلون أهل مكة قوة وجاهًا، وفي هذا إشارة لما كان بين مكة والطائف من ترابط، بحيث لو كان -كما زعموا- قد نزل القرآن على عظيم من أيهما لاتبعوه جميعًا. ولقد كان كثير من رجال الطائف حلفاء للقرشيين، وقد بلغ بعضهم مبلغ السيادة في البطون القرشية، كالأخنس بن شريق حليف بني زهرة الذي كان مسموع الكلمة فيهم مطاعًا2، كما كانت قريش تشرك رجال الطائف فيما يهمها من الأمور الكبيرة، وقد   1 ابن هشام 1/ 47- 48. الأغاني 2/ 242- 243، 316. 2 ابن هشام 2/ 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 كان عروة بن مسعود الثقفي أحد الرسل الذين بعثت بهم لمفاوضة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند نزوله بالحديبية1. كذلك كانت صلات قريش طيبة بمدينة يثرب، وقد أصهر هاشم بن عبد مناف إلى بني النجار الخزرجيين من أهل يثرب، وظل ابنه عبد المطلب على صلة وثيقة بأخواله هؤلاء. كما كان لغيره من زعماء مكة صداقات مع زعماء يثرب، فقد كان أمية بن خلف الجمحي صديقًا لسعد بن معاذ الأشهلي زعيم الأوس2، كما كان العاص بن وائل السهمي وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس وغيرهم على صلات طيبة ووثيقة بأهل يثرب3. ولكن على الرغم من هذه الصلة الوثيقة فإن قريشًالم تشأ أن تتورط في حلف مع اليثربيين قد يجر إلى أن تتدخل في الحرب الداخلية التي نشبت بين الأوس والخزرج قبيلتي يثرب. وقد ظلت علاقاتها طيبة برغم ما كان يمكن أن يحدث من تنافس بين المدينتين الواقعتين على طريق التجارة. ولم تحدث الجفوة والعداء بينهما إلا بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب وتكوين الدولة الإسلامية بها، وشعور قريش بالخطر الداهم على تجارتها. والذي أصبح يكمن في يثرب بهذا الوضع الجديد الذي أحدثته الهجرة، فقد عدَّ المكيون إيواء النبي -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين تحديًّا لهم وتهديدًا لمصاحلهم، ومن أجل ذلك وقع الصدام بين المدينتين4. وكانت صلات مكة باليهود جميعًا طيبة في يثرب وخيبر وتيماء، ووادي القرى. وكان القرشيون يحترمون اليهود ويرون أنهم أهل العلم والكتاب الأول5، كما كان اليهود يجلون القرشيين ويعتبرونهم سادة العرب وملوك الناس6، ولم يكن اليهود في   1 نفسه 3/ 361- 362. 2 البخاري 5/ 73. 3 الذهبي 1/ 303- 319. 4 البخاري 5/ 72. 5 ابن هشام 1/ 330 "بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفًا لهم صفته، وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء". 6 نفسه 2/ 431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 جزيرة العرب يحفلون كثيرًا بتعاليم التوراة التي تأمرهم بالبعد عن الوثنيين وتلزمهم عداءهم ومحاربتهم، وإنما كان يجرون وراء مصالحهم المادية. وجريًا وراء هذه المصالح تورطوا في الإثم حينما سألهم المكيون أدينهم خير، أم ما يدعو إليه محمد؟ فناصروا الوثنية على التوحيد الذي جاء به الإسلام، والذي حملوا هم لواءه آلاف السنين ولقوا في سبيله كثيرًا من الاضطهاد والعذاب1. ولقد نعى عليهم القرآن هذا التورط في الضلال ولعنهم فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء] . كذلك مالأ اليهود في يثرب القرشيين منذ بدأ الصراع بينهم وبين المسلمين. بالرغم من العهد الذي عقده النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم، وانبرى شعراؤهم يمدحون المكيين ويرثون قتلاهم ويؤلبون قريشًا والعرب لحرب المسلمين، وانتهى الأمر بأن عقدوا حلفًا مع القرشيين وجمعوا إليه قبائل العرب لحرب المسلمين في غزوة الخندق. بهذه الصلات الحسنة أمنت مكة عادية القبائل العربية، كما أمنت خصومات المدن الحجازية، ولما كانت قد استطاعت المحافظة على وحدة القبيلة الداخلية، وتوطيد السلام في مكة فقد نالت تفوقًا كبيرًا وحظيت باحترام عام من كافة أنحاء الجزيرة العربية، وأصبحت تنافس صنعاء في زعامة الجزيرة العربية، بل إنها تفوقت عليها في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، وأصبحت العاصمة العربية التي تتجه إليها نفوس العرب وعواطفهم القومية، وبخاصة بعد أن فقدت اليمن استقلالها، وكذلك تضعضعت مملكة الحيرة ومملكة غسان.   1 إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في جزيرة العرب 142- 143. التوراة: تثنية، إصحاح 7 آية 3- 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 علاقات مكة الخارجية مدخل ... الفصل الرابع: علاقات مكة الخارجية شهد القرن السادس الميلادي ذروة الصراع بين الإمبراطورية البيزنطية ومن لف في فلكها. كدولة الأحباش. وبين الإمبراطورية الفارسية، وكان ميدان هذا الصراع بلاد الشرق الأوسط، وهدفه بسط نفوذ الدولتين على ربوع هذا الشرق؛ بغية السيطرة على طرق التجارة العالمية التي تمر ببلاد هذا الشرق. وقد وصل هذا الصراع ِإلى ذروته العظمى في نهاية هذا القرن، وبلغ غايته بانتهاء الربع الأول من القرن السابع، حيث انتهى نهاية أبدية؛ وذلك لأن دولة جديدة فتية قامت في جزيرة العرب، وهي منطقة لم تشهد قيام دولة موحدة من قبل، ولم يخطر ببال أحد أن تقوم بها مثل هذه الدولة، فوضعت حدًّا أبديًّا لهذا النزاع؛ فإنها لم تلبث بعد أن قامت إلا قليلًًا حتى خرجت إلى المجال الخارجي، واصطدمت بالإمبراطوريتين الكبيرتين اللتين كانتا تتحكمان في مصير العالم وقتذاك؛ فالتهمت إحداهما وهي الإمبراطورية الفارسية، وطردت الأخرى عن هذه المنطقة؛ فلم تعد إليها مرة أخرى، بل ما لبثت أن تعقبتها في عقر دارها حتى سقطت على يد رجال يدينون بدين هذه الدولة الفتية ويخضعون خضوعًا معنويًّا لها، فقد سقطت القسطنطينية عاصمة بيزنطة في يد الترك العثمانيين المسلمين سنة 1453م. والصراع على الاستيلاء على تجارة الشرق بالسيطرة على طرقها صراع قديم سابق على ميلاد المسيح بقرون طويلة، ربما يرجع إلى عهد الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية 1580 ق. م التي سيرت أساطيلها في البحر الأحمر إلى أرض البخور على شاطئ البحر الأحمر في الجنوب1، ثم جاء العصر الإغريقي فحاول الإسكندر الأكبر حين فتح   1 أحمد بدوي: في موكب الشمس 2/ 377، 460- 462. جورجي زيدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 بلاد الشرق أن يمد نفوذه على بلاد الغرب حيث تمر طرق التجارة فلم يتم له ما أراد1.ثم نجح البطالمة خلفاء الإسكندر في مصر، فوصلت أساطليهم إلى الجنوب، واستطاعت أن تحول جانبًا كبيرًا من تجارة الشرق إلى طريق البحر الأحمر ثم مصر. ثم لم تلبث الأساطيل الرومانية -بعد البطالمة- أن مخرت عباب البحر الأحمر لنقل هذه التجارة2. ولكن الطريق البري ظل مفتوحًا. فأرسل الرومان حملة بقيادة أليوس جالوس سنة 24 ق. م في عهد القيصر أغسطس للاستيلاء على الطريق البري بالاستيلاء على رأسه الجنوبي -اليمن- بعد أن أصبح في أيديهم رأسه الشمالي -الشام- ولكن هذه الحملة باءت بالفشل3. ولما حل البيزنطيون محل الرومان، وقامت في المشرق دولة الفرس الساسانية، اشتبكت الدولتان في صراع امتد على الزمن وتعددت وسائله، فقد استخدمت فيه القوة المسلحة، كما استخدمت السياسة والدين4. وكانت بلاد الشرق الأوسط محور هذا النزاع وميدان التصارع بين الدولتين. وقد دخلت أطراف الجزيرة العربية الجنوبية والشمالية في مجال هذا الصراع؛ بل إن الاستيلاء عليها باعتبارها رؤوس طرق التجارة الشرقية كان هو الهدف من وراء هذا التطاحن بين الدولتين الكبيرتين، وشهد القسم الشمالي من الجزيرة العربية أعنف المعارك الحربية بينهما، كما شهد القسم الجنوبي أنواع الصراع السياسي والديني. أما د داخل شبه الجزيرة العربية فلم يدخل في دائرة الصراع إلا في القرن السادس الميلادي، إذ إن التجارة كانت في يد اليمنيين الذين قاموا على نقلها منذ زمن مبكر جداًّ، في عهد الدولة المعينية 1350 ق. م، ثم السبئية والحميرية، ولم يكن في فتح داخل شبه الجزيرة الصحراوي مطمع لفاتح، لقلة خيراتها وصعوبة تسيير الجيوش إليها، كما لم تكن مدن الحجاز لتزيد على كونها محطات تجارية تنزلها القوافل للراحة والتزود؛ ولذلك لم نسمع عن غزو وجه إلى داخلية شبه الجزيرة أو إلى مدنها الواقعة على طرق   1 جورجي زيدان نفسه 115. 2 جواد علي 3/ 19، 20 حتى تاريخ العرب 72. 3 حتى نفسه 70. 4 نفسه 67- 73- 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 التجارة، ومع أن حملة أليوس جالوس سنة 24 ق م اخترقت شبه الجزيرة ووصلت إلى منطقة مأرب1 فإنه لم يذكر أنها توقفت عند مكة أو عند يثرب أو الطائف، كذلك لم نسمع عن جيوش رومية أو فارسية قصدت هذه المنطقة؛ لبعد الشقة وصعوبة وصول الجيوش إليها، فظلت بعيدة عن متناول يد الدول الكبرى. وحتى في القرن السادس الميلادي لم تفكر بيزنطة في إرسال جيوشها عبر جزيرة العرب، حين طلب إلى القيصر أحد الفارين المسيحيين من نجران النجدة ضد الملك اليهودي الذي نكل بالمسيحيين فيها، فقد اعتذر له القيصر بأن بلاده بعيدة2، وظهر أن الروم لم ينسوا الدرس الذي تلقته حملة أليوس جالوس من قبل. كذلك تردد كسرى في إجابة ملتمس سيف بن ذي يزن حين طلب إليه تسيير جيوشه لتخليص اليمن من حكم الأحباش، برغم أن سيف عرض حكم بلاده على كسرى3. وقد تحالفت بيزنطة مع الحبشة القريبة من بلاد العرب واتخذت منها أداة لبسط نفوذها على بلاد اليمن، كما اتخذت الدولتان من الدين وسيلة لإضعاف هذه البلاد وبسط نفوذهما عليها، فحاولت بيزنطة نشر المسيحية بين أهل اليمن.. وردت فارس على هذا بأن شجعت الديانة اليهودية المعادية للمسيحية. وقد كان من نتيجة ذلك أن قامت الخلافات الداخلية؛ مما أدى إلى إضعاف دولة الحميريين، ثم أدى إلحاح الأحباش عليها بالغزو إلى سقوطها في أيديهم سنة 525 م، ثم سقوطها بعد ذلك تحت الحكم الفارسي سنة 575م 4. وبسقوط اليمن تحت الاحتلال الحبشي ثم الفارسي، وقيام الخلافات الداخلية فيها؛ فقدت قدرتها على النهوض بدورها الذي اضطلعت به قرونًا طويلة في نقل التجارة العالمية. ولما كان النزاع بين الفرس والروم قد أدى إلى قفل طريق التجارة الشرقي المار ببلاد العراق إلى الشام، وكان الطريق البحري عبر البحر الأحمر قد خلا من سفن الروم، ولم تقو البحرية الحبشية على سد الفراغ فيه، وأصبح ميدانًا لسفن القراصنة فوق صعوبة الملاحة نفسها في هذا البحر بسبب الرياح الشمالية التي تعاكس السفن في إبحارها نحو الشمال، ولوجود الشعب المرجانية وخلو شواطئه من المرافئ الصالحة   1 جواد 2/ 384- 386. 2 ابن هشام 1/ 36. 3 نفسه 1/ 66. 4 ابن هشام 1/ 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 لرسو السفن وحمايتها وقلة الماء والمؤن على جانبيه؛ فإن الطريق البري عبر تهامة والحجاز أصبح هو الطريق الوحيد المفتوح أمام التجارة، وكان لا بد بعد زوال النشاط اليمني أن يوجد مَن يسد الفراغ ويقوم بدور الوسيط المحادي بين المتنازعين لنقل هذه التجارة1. وقد وجد هذا الوسيط المحايد ممثلًا في مدينة مكة، التي حظيت بنوع من التنظيم والاستقرار على يد قبيلة قريش منذ منتصف القرن الخامس الميلادي، وقد حظيت بمكانة سامية بين عرب الشمال الذين بدت فيهم نهضة قومية في ذلك الحين، وأخذوا يتطلعون إلى زعامة عربية تتجه إليها عواطفهم، وبخاصة بعد أن وقعت أطراف الجزيرة العربية الجنوبية والشمالية، ممثلة في اليمن والحيرة والغساسنة تحت النفوذ الأجنبي. وبقيام مكة على نقل التجارة بدأت تطرق المجال الخارجي، وبدأت تتخذ لها علاقات مع الدول المحيطة بالجزيرة العربية والتي أصبحت هي الوسيط في نقل التجارة منها وإليها. وقد عمل رجال قريش على ألا يزجوا بأنفسهم في مجال هذا الصراع الدولي؛ بل حرصوا على الحيدة التامة بين المتنازعين، وقد أعانهم على اتخاذ موقف الحياد رغبة المعسكرين في وجود مثل هذا الوسيط المحايد من ناحية، وبُعد مكة وصعوبة الوصول إليها من ناحية أخرى، ومع ذلك فلم تسلم مكة من محاولة السيطرة عليها محاولات حربية وسياسة باءت بالفشل؛ بفعل عوامل خارجة عن قدرة المكيين مرة، وبإصرار رجال مكة على حيادهم واطمئنانهم إلى موقفهم مرة أخرى2.   1 HUsayyen. Arabia and the Ear East B, 142- 143 2، 3 حتى: نقوش أشار إليها 49، 50، 64جواد علي 1/ 381، 384، 392، 398. Gerald do Garury Rulers of Mecca P.24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 علاقة مكة بالجنوب : علاقة الحجاز باليمن قديمة جدًّا ترجع إلى أيام الدولة المعينية، ثم السبئية والحميرية 1350 ق م- 525م الذين امتد نفوذهم إلى شمال بلاد الحجاز، حيث أسسوا لهم مستعمرات على طول الطريق التجاري في معان والعلا كما تشهد بذلك النقوش التي وجدت في هذه المناقط1. وفي أيام هذه الدول لم تكن مكة أكثر من   1 حتى: نقوش أشار إليها 49، 50، 64جواد علي 1/ 381، 384، 392، 398. Gerald do Garury Rulers of Mecca P.24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 محطة تمر بها القوافل ويجد معبدها الاحترام وبخاصة من ملوك التبايعة، حيث تذكر الروايات أن التبع تبان أسعد أبا كرب الحميري كان أول من كسا البيت الحرام وعظمه وأوصى بتعظيمه وكسوته1. وقد كانت القبائل الجنوبية هي أول مَن سكن مكة، وكان لقبيلة خزاعة، التي هي فرع من الأزد دور في عمارة مكة، وتنشيط الحج إلى بيتها الحرام. وفي عهد قريش اتصل أحد رجال مكة وهو المطلب بن عبد مناف بأقيال اليمن الحميريين وعقد معهم اتفاقًا على أن تقوم قريش بالمتاجرة في أرضهم، وقد اتصلت تجارة قريش باليمن منذ ذلك الوقت -حوالي بداية القرن السادس- وسيطرت قوافلها التجارية تمامًا على نقل هذه التجارة. وقد تضاءل شأن تجار اليمن واكتفوا بالتجارة مع قريش، وكان قصاراهم أن يبيعوا بضائعهم لتجار مكة إذا قدموا إلى الشمال. وكما حظيت مكة وبيتها الحرام بنفوذ كبير بين عرب الشمال، كذلك أصبح لها مكانة عظيمة في نفوس عرب الجنوب الذين فقدوا استقلالهم، وتطلعوا بدافع القومية إلى هذا البلد العربي المستقل، حتى لقد غضبوا حين جهز أبرهة حاكم اليمن الحبشي حملة لغزو مكة. وتصدت له بعض القبائل اليمنية وقاتلته، وقد قامت علاقات صداقة ومودة بين زعماء مكة ورجالات اليمن؛ فتحدثنا الروايات عن صداقات عبد الملطب بن هاشم وبعض أقيال اليمن ووفاداته عليهم2. وقد قدم وفد مكة لتهنئة سيف بن ذي يزن بعد انتصاره على الأحباش. وربما كان قدوم هذا الوفد تعبيرًا عن الابتهاج بهزيمة الحبشة التي كانت قد غزت مكة من قبل، ولكنه كان على كل حال تعبيرًا عن الغبطة بانتصار رجل عربي على أعدائه، ودليلًا على حسن الصلة والمودة. وقد أكرم سيف الوفد وحباه، وحظي عبد المطلب زعيمه بعظيم عطفه وكرمه3. أما علاقة مكة بالحبشة فإنها بدأت منذ خرجت مكة بتجارتها إلى المجال الخارجي، فإنه في الوقت الذي اتصل فيه المطلب بن عبد مناف بأقيال اليمن، اتصل   1 ابن هشام 1/ 19- 21. 2 ابن كثير 171- 172 "كان عبد المطلب صديقًا لذي نفر الحميري، وهو الذي تصدى لحملة أبرهة عند خروجها متجهة إلى مكة وقاتلها، ولكنه هزم، وكان ذو نفر من أشراف أهل اليمن وملوكهم". 3 ابن كثير 2/ 329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أخوه عبد شمس بالنجاشي، وأبرم معه اتفاقًا مماثلًا، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الحبشة لقريش وجهًا ومتجرًا1. وكانت الحبشة مصدرًا هامًّا من مصادر التجارة الشرقية، فقد كانت تنتج البخور واللادن والأطياب وريش النعام والعاج والجلود والتوابل. كم كانت منطقتها المصدر الأول لتجارة الرقيق الأسود، وكانت قريش إذ تحصل منها على هذه السلع الهامة تحمل إليها ما تحتاج إليه من حاصلات الشام ومصنوعاته، ومن حاصلات الجزيرة العربية نفسها. ولما استولت الحبشة على اليمن، لم تستطع أن تقوم بدور كبير في التجارة التي أصبحت نقلها يتم على أيدي التجار المكيين، الذين أصبحوا الوسطاء المسيطرين على قوافل التجارة الخارجية، كما كفل قيام البيت الحرام وإقرار هدنة الأشهر الحرم، وقيام الأسواق في منطقة مكة -السيطرة على تجارة شبه الجزيرة العربية الداخلية. وقد فكر حاكم اليمن الحبشي أبرهة أن ينافس مكة في هذه المكانة؛ لعله ينتزع منها التجارة الداخلية، فأقام كنيسة في صنعاء، حرص على أن تكون غاية في الفخامة والروعة؛ ليجلب إليها العرب للحج والمتاجرة2، ولكن عمله هذا لم يأت بنتيجة؛ وذلك لأن الكتلة العظمى للقبائل العربية كانت وثنية، وقد كانت مكة مأوى أصنام العرب، ثم إن البيت الحرام كان محل تعظيم العرب جميعًا؛ لأنه البيت الذين بناه إبراهيم وإسماعيل اللذان يرد العرب أنسابهم إليهما، فكان اتجاههم إلى مكة يرضي عاطفتهم الدينية والقومية على السواء. وقد دعا الفشل واحتقار العرب للكنسية التي أقامها أبرهه إلى قيامه بحملة ضد مكة لتدمير بيتها الحرام فتسقط بذلك مكانتها الدينية، ومن ثم تذهب مكانتها بين العرب من ناحية، وليسيطر على هذه المحطة التجارية من ناحية أخرى؛ ليتم اتصال الحبشة عبر الطريق البري بحليفتها بيزنطة التي كانت تسيطر على بلاد الشام، والتي ربما كانت من وراء هذا الغزو الحبشي؛ ليصبح هذا الطريق الهام في يدها ويد حلفائها، وإن كانت لم تظهر على مسرح الحوادث في هذا الموضوع3. وقد فشلت   1 الأغاني 8/ 52. 2 حتى 76. 3 لا يستبعد أوليري oLEARY أن بعض التجار الروم في مكة كانوا يقومون بأعمال التجسس لحساب بلادهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 حملة أبرهة بظروف بعيدة عن عمل المكيين 1؛ فقد تفشَّى المرض في جيش أبرهة وهو على أبواب مكة بعد أن عجزت القبائل عن التصدي لهذا الجيش، كما عجزت مكة عن تهيئة قوة لحربه والوقوف في وجهه، وقد زاد هذا الحادث من مكانة مكة الأدبية، وأكد زعامتها السياسية والروحية. وعلى الرغم من هذا العمل العدواني من جانب الحبشة؛ فإن العلاقات ظلت قائمة بين البلدين؛ لحاجة كل منهما إلى الآخر، ولأن الحبشةلم تفكر بعد ذلك في تكرار هذا العمل العدواني، وبخاصة بعد أن تغيرت الظروف بطردها من اليمن؛ ولأن قريشًا اطمأنت لمركزها بعد تراجع الأحباش عنها وبعد خروجهم من الجزيرة العربية كلها بعد هزيمتهم أمام الفرس. ولم يصبح أمام الحبشة إلا هذا الوسيط العربي الذي يقوم على التجارة، فإنه لم يكن من المستطاع أن تخلق تجارة مع الفرس أعدائها وأعداء حلفائها الروم. وفي أيام البعثة النبوية كانت علاقة مكة مع الحبشة علاقة وطيدة، وكان تجار قريش على صلة دائمة وعلاقات طيبة مع هذه البلاد وعلى معرفة أحوالها؛ الأمر الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يفكر أول ما يفكر في الحبشة حين اضطر إلى أن يشير على أصحابه بالهجرة، فهاجروا إليها ووجدوا فيها ملجأ وحماية، وفي حسن استقبال هؤلاء المهاجرين ورعايتهم، وفي إرسال قريش سفارة قابلت النجاشي وفاوضته في رد هؤلاء المهاجرين 2 ما يدل على أن العلاقة كانت وطيدة بين البلدين. وقد ظلت العلاقات الطيبة قائمة بينهما بعد ذلك مدة طويلة. ولا بد أن صلة مكة التجارية بالجنوب قد ازدادت بعد قفل طريقها الشمالي إلى الشام بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب ودخوله في صراع مع قريش، فإن بلدًا مثل مكة لا يقوى على عدم المتاجرة وإلا أكل رءوس أمواله وهدد بالخراب.   1 انظر سورة الفيل. 2 ابن هشام 1/ 243، 356-361. Oleary, P. 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 علاقة مكة بالشمال : علاقة مكة بالشمال قديمة ترجع إلى أيام النبطيين الذين كانوا يقومون على التجارة في شمال بلاد العرب. والذين امتد سلطانهم إلى شمال الحجاز، وقد عمل الحجازيون على تعظيم شأن الحجاز بين النبطيين فوضعوا في الكعبة تماثيل أربابًا كان يعبدها النبطيون، يعد الرواة منها: هبل. كما استقدموا إلى منطقتها آلهة أخرى منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 اللات ومناة والعزى1، ولا شك أن قصة عمرو بن لحي الذي اتفقت الروايات على أنه نقل الأصنام من بلاد النبط إلى الكعبة إنما هي وسيلة من وسائلهم لتعظيم شأن الكعبة عند أهل الشمال، وإيناسهم بها كلما رحلوا إلى الحجاز، وتقريب ما بينهم وبين شعائر البيت الحرام. ولما قدم قصي إلى مكة وجمع قريشًا ونازع بها خزاعة للاستيلاء على مكة، استعان بقضاعة، وهي إحدى القبائل التي كانت تقيم في بادية الشام، وتخضع للغساسنة الذين كانوا تحت النفوذ البيزنطي. وحين ورثت بيزنطة سلطان الرومان في المشرق ورث معه البيزنطيون رغبة الرومان في الاستيلاء على طريق التجارة عبر الحجاز، إذ إن الطريق عبر العراق كان في يد خصومهم الفرس. وفي الوقت الذي حصلت فيه مكة على عهود من الحميريين والأحباش على غشيان بلادهم للمتاجرة في أرض الدولة البيزنطية2، ولكن البيزنطيين عملوا -من ناحية أخرى- على أن يضعوا أيديهم على الرأس الجنوبي لهذا الطريق والاتصال مباشرة بمنابع التجارة الشرقية، ولما لم يكن في الإمكان تسيير   1 ابن الكلبي: الأصنام 28. الأزرقي: تاريخ مكة 1/ 68 وما بعدها. ابن هشام 1/ 62- 63 هامش الروض. "كان الصنم مناة منصوبًا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين المدينة ومكة، وكان معظمًا خاصة عند الأوس والخزرج وكذلك كانت تعظمه القبائل الأخرى وفي جملتها قريش وهذيل وخزاعة وأزد شنوءة وسدنته المشهورة عند العرب وهو "آليلات" Alclat الإله الرئيس عند العرب في أيام المؤرخ هيرودوت, ويدل على ذلك أن عبادته كانت منتشرة عند العرب الشماليين وهو اللات في نصوص الحجر وصلخد وتدمر أي: في النصوص النبطية التي عثر عليها في هذه الجهات, وقد تسمى به "وهت اللات" ابن الزباء ملكة تدمر "انظر النقش المنقول بين صفحتي 92، 93 من الجزء الخامس- جواد علي" وقد عد النبط اللات أمًّا للآلهة والعزى صنم أنثى كذلك وهو أحدث عهدًا في نظر ابن الكلبي من اللات ومناة. وقد وضعت بوادٍ من نخلة الشامية يقال له حرض، وكانت قريش تتعبد للعزى وتخصها بالإعظام، وكان أهل الحيرة يتعبدون لها, ويعنون بالعزة كوكب الصباح, أما هبل فقد ذكر الرواة أنه كان أول صنم جاء به عمرو بن لحي من مؤاب من أعمال البلقاء أو من هيت بالعراق وقد ورد اسم هبل في الكتابات النبطية التي عثر عليها في الحجر" انظر: جواد على 5/ 89- 104. 2- الطبري 2/ 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 جيوشهم إليه فقد اتخذوا الحبشة حليفة لهم لتقوم بهذا الدور، واصطنعوا الدين وسيلة لذلك. وحين استطاعت الحبشة الاستيلاء على اليمن، عمل الحليفان على الاتصال عبر هذا الطريق، وبذلا محاولات للسيطرة عليه وإزالة ذلك الوسيط التجاري وهو مكة، ولا شك أن حملة أبرهة كانت إحدى المحاولات العسكرية1. كما بذل الروم محاولة سياسية أخرى لتمليك سيد من العرب على مكة يدين بالولاء لدولة الروم، فارتضى قيصر لملك مكة رجلًا من ساداتها هو عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى القرشي، وكان عثمان ممن تمردوا على الوثنية من حكماء مكة وبحثوا عن ديانة أخرى أفضل منها، وقد قدم عثمان على قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده2 وملك قيصر عثمان على مكة ومنحه براءة بذلك وكتب له كتبًا يبلغها قومه، فعاد بها, وجمع قومه إليه يرغبهم في حسن الجزاء من قيصر، وينذرهم بسوء العاقبة في الشام إذا هم عصوه وأهون ما هناك أن يغلق قيصر أبواب الشام في وجوههم وهم قد نظموا قوافلهم على الذهاب إليها والمتاجرة فيها في صيف كل عام. قال: يا قوم إن قيصر قد علمتم مكانكم ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم، وأنا ابن عمكم وأحدكم؛ وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والإهاب, فأجمع ذلك ثم أذهب إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه3 وقد يبدو الأمر غريبًا أن يملك قيصر رجلًا على مكة وليس للبيزنطيين نفوذ على هذه الجهات، فإن نفوذهم الفعلي لم يتجاوز في وقت من الأوقات أعالي الحجاز, ولكن ذلك لا يمنع من حصول عثمان أو غير عثمان على براءات وأوراق اعتراف من الروم بملك سيد على قبيلة أو أرض ليس للروم عليها سلطان، فقد كان حصول المشايخ والأمراء على أمثال هذه الأوراق وبراءات الاعتراف نوعًا من أنواع الإكرام والتقدير الأدبي يكسب حاملها قوة معنوية، ثم هي تجعله في جملة أصدقاء الروم وحلفائهم والحائزين لتقديرهم ومنحهم، وقد كان الروم يشجعون   1 جواد على 4/ 165. 2 الروض الأنف 1/ 149. ابن هشام 1/ 243. الأغاني 2/ 112. ابن كثير 2/ 243. المشرق "السنة الخامسة والثلاثون" 1937 ص 270. جواد على 6/ 204. Lammens , La Mecque p. 270 - 279. 366. 375 3 المحبر ص 171 Watt p. 15 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 علاقة مكة بالفرس والحيرة : في نفس الوقت الذي حصلت فيه مكة على عهود من الروم والحبشة واليمن للمتاجرة في بلادها حصل أحد رجال مكة وهو نوفل بن عبد مناف، على عهد مماثل من كسرى للمتاجرة في بلاد الدولة الفارسية1. وقد اتصلت تجارة مكة بالعراق2 ولكنها لم تكن بنفس القوة التي كانت عليها بالنسبة للجنوب أو للشمال؛ وذلك لأن الفرس كانوا يتصلون اتصالًا مباشرًا بطريق التجارة الهندية؛ فقد كان الطريق الشمالي يمر ببلادهم، وقد احتكر الفرس التجارة الشرقية المارة ببلادهم وبخاصة تجارة الحرير،   1 الطبري 2/ 12. 2 ابن هشام 1/ 150. المصعب الزبيري: نسب قريش ص 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وكانوا يحصلون عليها ضرائب باهظة، ولم يسمحوا بوصولها إلى يد الروم إلا بأثمان غالية جدًّا, وكان احتكار الفرس للتجارة الشرقية ومغالاتهم في قيمة الضرائب ورفع الأسعار من الأسباب التي روجت تجارة مكة وقوت مركزها لدى البيزنطيين، كما أن تجارة الفرس مع الجزيرة العربية كانت بيد الحيرة، التي كانت تتسلمها ثم تجيزها إلى أسواق العرب نظير جعل تدفعه لرؤساء القبائل لحماية هذه التجارة. كما أن ملوك اللخميين كانوا يرسلون متاجرهم إلى أسواق مكة كل عام في حماية بعض رؤساء القبائل العربية1. الأمر الذي جعل تجارة قريش قليلة مع هذه الجهات، ومع ذلك فقد كانت قوافل قريش تتصل بالحيرة. ويقال: إن قريشًا تعلمت الكتابة من الحيرة2. وقد ازداد نشاط التجارة القرشية نحو هذه البلاد بعد أن تضعضع ملوك الحيرة، وكثرت اعتداءات القبائل على تجارة الفرس المارة عن طريقهم، وعلى تجارة المناذرة أنفسهم، ثم ما تلا ذلك من سقوط سلطان الحيرة بعد مقتل النعمان بن المنذر وهزيمة الفرس أمام العرب في معركة ذي قار3، وقد حاولت قريش أن تحول نشاطها التجاري ناحية العراق بعد أن توقفت تجارتها نحو الشمال بعد موقعة بدر سنة 2هـ. فأرسلت قافلة بلغ ثمن ما بها من بضاعة مائة ألف 4. ولكن المسلمين تصدوا لها واستولوا على القافلة، فلم تستطع قريش أن تفلت من الحصار الذي ضربه عليها المسلمون من الشمال والشرق.   1 ابن الأثير 1/ 359- 360. النويري نهاية الأرب 15/ 425. فجر الإسلام 14. 2 ابن هشام 1/ 190. هامش الروض. الآلوسي 1/ 350: المصعب الزبيري: نسب قريش ص 136. 3 ابن الأثير 1/ 291. النويري 15/ 433. 4 ابن هشام 2/ 420- 530. ابن كثير 4/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الحج وأثره مدخل ... الفصل الخامس: الحج وأثره اتصلت نهضة مكة بقيام الكعبة فيها, فإن اهتمام العرب بالبيت الحرام وتعظيمهم له والحج إليه هو السبب الأساسي في قيام هذه المدينة وتقدمها، كما أن موقع مكة كان عاملًا قويًّا في ارتفاع شأن البيت الحرام نفسه. الكعبة البيت الحرام : وجد في بلاد العرب بيوت عرفت ببيوت الله أو البيوت الحرام يقصدها الحجيج في مواسم معلومة تشترك فيها القبائل من سكان البقاع العربية ويتعاهدون على المسالمة في جوارها، وكان أشهرها في الجزيرة العربية: بيت الأقيصر, وبيت ذي الخلصة, وبيت صنعاء، وبيت رضاء, وبيت نجران, وأذكرها جميعًا وأبقاها بيت مكة, عدا بعض البيوت الصغار التي تحج إليها القبائل القريبة ولا تقصد من مكان بعيد. وكان بيت الأقيصر في مشارف الشام مقصد القبائل من قضاعة ولخم وجذام وعاملة، يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده1. وبيت ذي الخصلة كان يسمى الكعبة اليمانية وهو بيت أصنام كان لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة - بين مكة واليمن - والذين كانوا يسمونه الكعبة اليمانية كانوا يسمون كعبة مكة الكعبة الشامية, وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم -جرير بن عبد الله البجلي بهدمه بعد فتح مكة, فهدمه بعد أن دافعت عنه خثعم دفاعًا شديدًا2.   1 ياقوت: معجم البلدان 2/ 238. 2 ياقوت: 7/ 383-384. الأغاني 3/ هـ ص 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وكان بصنعاء "بيت رثام" يحجون إليه وينحرون عنده ويكلمون منه، حتى هدم بعد انتشار اليهودية في اليمن1. ورضاء بيت كان لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وقد هدمه بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المستوغر بن ربيعة بن سعد 2. أما كعبة نجران فهي بيعة بنوها على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة لها، وسموها كعبة نجران، ويقول ابن الكلبي: إنها لم تكن بناء؛ وإنما كانت قبة من أدم من ثلاثمائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن أو طالب الحاجة قضيت حاجته أو المسترفد رفد. وكان فيها أساقفة معتمدون وهم الذين جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم للمباهلة3. وقد اجتمع لبيت مكة من بين هذه البيوت الحرام ما لم يجتمع لبيت آخر في أنحاء الجزيرة العربية؛ لأن مكة كانت ملتقى طرق القوافل بين الجنوب والشمال والشرق والغرب، وكان محطة لازمة لمن يحمل التجارة من الشمال إلى الجنوب. وكانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها. وقد رغب القبائل فيها أن مكة لم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو رحلاتها؛ فليست في مكة دولة كدولة التبابعة في اليمن أو مملكة المناذرة في الحيرة أو الغساسنة في الشام، وليس من وراء أصحاب الرياسة فيها سلطان كسلطان دولة الروم أو الفرس أو الحبشة وراء الإمارات المتفرقة على الشواطئ أو بين بوادي الصحراء، فهي مثابة عبادة وتجارة، وليست حوزة ملك يستبد بها صاحب العرش ولا يبالي من عداه، فلم تكن قيصرية, ولا كسروية, ولا نجاشية، وإنما كانت مكة عربية لجميع العرب ولهذا تمت لها الخصائص التي كانت لازمة لمن يقصدونها ويجدون فيها من يبادلهم ويبادلونه على حكم المنفعة المشتركة لا على حكم القهر والإكراه. والكعبة قديمة سابقة لأسفار العهد القديم في التوراة، وقد توارث العرب أن أول من رفع قواعدها هو إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وتلهم الآية القرآنية:   1 ياقوت 9/ 383- 384. الأغاني 3/ هـ ص172. 2 نفسه 9/ 50. 3 نفسه 9/ 50. ياقوت 19/ 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران] هذا المعنى؛ كما تلهم أنها نالت قدسية عامة منذ إنشائها. والآيات القرآنية: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج] {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة] تلهم أن هذه المنطقة كانت معروفة، وأن الكعبة ربما قامت على أنقاض معبد قديم1، وأنه ربما جرت عليه أحداث تاريخية وجغرافية غيرت من طبيعة المكان وأهمل هذا المعبد، حتى هيئ لإبراهيم أن يرفع قواعده من جديد. وقد ذكرت المصادر القديمة مكة كما تحدثت عن البيت الذي تعظمه العرب في العربية الغربية. لقد كانت الكعبة منذ القدم -كما هي معروفة في عهد قريش- مثابة للناس جميعًا وأمنًا، لا يمنع أحد من التعبد فيها، فقد كانت قريش تسمح لكل الناس على اختلاف نحلهم بالطواف حولها والتعبد فيها على اعتبار أنها بيت الله2. فالوثنيون على اختلاف أربابهم، واليهود والنصارى والصابئون كان يمكنهم زيارتها والتعبد فيها، تحكمهم في ذلك حكم القبائل البادية التي وجدت فيها محلًا لعبادة أوثانها في مواسم الحج والإحرام3. ولقد حاولت الدول الكبرى أن تهدم هذا البيت وتحول أنظار العرب عنه فلم تفلح4، وبقيت للكعبة مكانتها وقداستها كما كانت من أقدم عهودها. والأساس المهم الذي قامت عليه قداسة بيت مكة أن البيت بجملته هو المقصود بالقداسة، غير منظور إلى الأصنام والأوثان التي اشتمل عليها، وربما اشتمل البيت على الصنم أو الوثن تعظمه قبيلة وتزدريه أخرى. فلا ينتقص ذلك من قدر البيت عند المعظمين والمزدرين على السواء. وقد تختلف الدعاوى التي يدعيها كل فريق لصنمه أو   1 الطبري 1/ 128 "إن الله لما بوأ لإبراهيم مكان البيت ومعالم الحرم فخرج وخرج معه جبريل يقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: بهذه أمرت يا جبريل، فيقول جبريل: أَمضه حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة ثم تركهما -ابنه وزوجته- عند البيت". 2 البتنوني: الرحلة الحجازية ص150. 3 نفسه 114- 116 "كان للنصارى بها صور وتماثيل: منها تمثال إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام وصورة للعذراء والمسيح". 4 ابن هشام: 1/ 43 وما بعدها. الطبري 1/ 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وثنه وتختلف الطقوس والشعائر. ولكن لم تختلف شعائر البيت كما يتولاها سادنته المقيمون إلى جواره المتكلفون بخدمته، فكانت قداسة البيت هي القداسة التي لا خلاف عليها من أهل مكة وأهل البادية، وجاز عندهم أن يحكموا بالضلال على أتباع صنم معلوم، ولكنهم يعطون البيت حقه من الرعاية والتقدير1. وعلى هذا كان يتفق في موسم الحج أن يجتمع حول البيت أناس من العرب يأخذون بأشتات متفرقة من المجوسية واليهودية والمسيحية وعبادات الأمم المختلفة، وما من كلمة من كلمات الفرائض لم تعرف عند عرب الجاهلية بلفظها وجملة معناها، كالصلاة والصيام والزكاة والطهارة، ومناطها كلها أنها حسنة عند رب البيت أو عند الله. وجاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت أن أبا ذر الغفاري قال له: يا ابن أخي، صليت مرتين قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني الله، وجاء في البخاري أنهم كانوا يصومون يوم عاشوراء2، وكان صيامهم من الفجر إلى المغرب الشمس. وكانت لهم بقايا من العبادات التي عرفت بين أهل الكتاب، أو لم تكن معروفة على وتيرة واحدة بين أتباع دين من الأديان، وإنما يرغبهم فيها أنها أعمال ترضي الإله وأنهم يعرفون إلهًا أعظم من سائر الآلهة يتوجهون إليه بالدعاء، وهم حقيقة لا يعتورها الشك؛ لأنهم كانوا يسمون عبد الله ويلبون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، ولا يدعون أحدًا من الأصنام رب البيت، فإذا قالوا: رب البيت أرادوا به ربًّا فوق كل الأرباب، وهذه الحقيقة هي التي كتبت لبيت مكة التفوق على البيوت كلها في الجزيرة العربية فإنها بيوت أصنام، وكان بيت مكة بيتًا لله الذي يرى فيه العرب الإله الخالق المبدع، وإنما عبادة الأصنام تقربهم إلى الله زلفى3. وقد عملت قريش على الاستفادة من مكانة البيت الحرام في نفوس العرب، فاستغلت قيامها على أمر البيت لتقوي مركزها الأدبي لدى القبائل العربية، ولتنشيط   1 البتنوني 152- 156 "ورغمًا عن شيوع عبادة الأوثان في سواد قبائل العرب فإنه لم يرد عنهم أنهم عبدوا هيكل الكعبة، كما لم يسمع عنهم أنهم عبدوا الحجر الأسود مع احترامهم له ذلك الاحترام الذي لا يمكن تصويره". 2 البخاري 2/ 148. 3 انظر سورة الزمر 3. يونس 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 تجارتها الداخلية، فأجرت من الترتيبات ما يكفل لها ذلك، وابتدعت من النظم والتقاليد ما يحقق لها السيادة الأدبية والنفع المادي. وأول هذه الترتيبات ما نظمته من السقاية والرفادة؛ فمنطقة مكة حارة شحيحة المياه، وهي لكي تستقبل عددًا كبيرًا من الحجاج لا بد أن توفر فيها المياه بحالة منظمة؛ حتى لا يلقى الحاج من قلة الماء ما يضره إلى الخروج منها أو العزوف عن القدوم إليها؛ لذلك جعلت قريش من عملية توفير الماء للحجاج في موسم الحج وظيفة هامة، بل جعلتها أهم الوظائف في مكة ووكلتها إلى أعظم البيوت القرشية، وقلنا: إن هذه المهمة لا بد كانت موجودة قبل قريش، ولكنها نالت عناية كبيرة وصارت عملًا رسميًّا بعد استيلاء قريش على أمر مكة. فقد جعلها قصي بن كلاب وظيفة مقررة وتولاها بنفسه، وقام بحفر الآبار في منطقة مكة، كما عملت بطون قريش على الإكثار من حفر الآبار لتواجه الزيادة المطردة في عدد الحجيج الوافد على الكعبة1، وأصبحت السقاية من الوظائف التي تفاخر بها وتراها من أجل الأعمال، إلى جانب عمارة البيت الحرام والقيام على سدانته وتنظيفه وإعداده للزائرين، حتى لقد نوه القرآن الكريم بذلك فقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة] . كما جعل قصي استضافة الحاج وظيفة هامة أيضًا، وقرر على قريش خرجًا يخرجونه من أموالهم يدفعونه إليه -ثم يدفعونه إلى متولي هذه المهمة بعده- يصنع به طعامًا لفقراء الحجاج؛ استضافة لهم على أنهم ضيفان بيت الله الحرام، وهذا أمر هام في بيئة فقيرة كبيئة الصحراء، وكثير من الحجاج يقدم من بلاد بعيدة ويكابد سفرًا طويلًا يصعب معه حمل الزاد، وقد حافظت قريش على هذه الوظيفة ووكلتها إلى البطون القوية القادرة عليها؛ إذ إن صاحب الرفادة يتحمل جزءًا من ماله الخاص؛ لذلك كان يعهد بالقيام بها إلى الرجال الأغنياء2، ومهمة الرفادة جلبت لقريش كثيرًا من الفوائد الأدبية والمادية، فالمؤاكلة تعتبر عقد جوار وحلف عند العرب، فوق أن الضيافة وإطعام الطعام كان يعتبر أكبر المحامد في المجتمع العربي، وبإطعام الحاج من كافة قبائل أنحاء الجزيرة العربية تكون قريش كأنما عقدت جوارًا مع هذه القبائل، فوق أنها   1 ابن هشام 1/ 159- 162. 2 ابن هشام 1/ 140. ابن سعد 1/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 نالت احترامًا وفضلًا بينها، هذا مما سهل لما المرور بتجاراتها آمنة بين هذه القبائل التي تعتبر قد ارتبطت معها بهذا الرباط ما دامت قد أكلت من طعامها، وقد استغلت قريش هذه الوظيفة فيما بعد استغلالًا يكفل لها رواج تجارة داخلية هامة في موسم الحج، وهي بيع الطعام للحجاج من غير أهل الحرم، ضمن ما ابتدعت من سنن للاستفادة المادية. والأمر الهام الثاني الذي عملت قريش على إقراره هو توفير الأمن في منطقة مكة، وتوفير الأمن أمر ضروري في بيئة تغلي بالغارات وطلب الثأر، وتعتبر الغارة للحصول على المال وسيلة مشروعة من وسائل العيش مثل البيئة العربية؛ فقد حرصت على إقرار حرمة المنطقة المحيطة بالبيت كأمر لازم لحرمة البيت نفسه وجعله ملاذًا للناس جميعًا وأمنًا1، وقد توسعت قريش فمدت حدود الحرم حتى جعلتها تشمل منطقة مكة كلها، فأصبحت حرمًا آمنًا لا يجوز فيه سفك الدماء ولا طلب الثأر في أي يوم من أيام العام، وجعلت الأمن يشمل كل شيء حتى الوحش والطير والنبات2. وقد دانت لها العرب كلها بذلك وأقرتها عليه؛ لأن الناس كانوا محتاجين إلى مثل هذه المنطقة الحرام يغشونها لتأدية شعائرهم الدينية، وبخاصة بعد أن ضمت أصنام القبائل كلها إلى البيت الحرام، ولتبادل المنافع العامة من بيع وشراء؛ وخصوصًا بعد أن أصبحت مكة تقوم على أمر التجارة، وبعد أن أصبحت مستودعًا تجاريًّا كبيرًا لحاصلات شبه الجزيرة وللمجلوبات الخارجية، وليجد من تضيق به الحياة ويتعرض للطلب ملاذًا يجد فيه الأمن. كما سنت الأشهر الحرم في موسم الحج لتمكين العرب من القدوم على منطقة مكة للحج وللمتاجرة، وقد قامت في منطقة مكة أو حولها أكبر أسواق العرب في عكاظ ومجنة وذي المجاز. وكل هذه الأشياء كانت مرتبطة بالحج إلى بيت الله الحرام.   1 البخاري 3/ 14- 15. 2 البخاري 3/ 14. القلقشندي: صبح الأعشى 1/ 255 "يقال: إن أول من وضع علامات الحرم عدنان، ومقادير الحرم تتفاوت في القرب والبعد عن مكة، فهي من التنعيم على طريق سرف إلى مر الظهران خمسة أميال أو ستة، ومن طريق جدة عشرة أميال، ومن طريق اليمن ستة أميال، ودوره سبعمائة وثلاثة وثلاثون ميلًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 نالت احترامًا وفضلًا بينها، هذا مما سهل لما المرور بتجاراتها آمنة بين هذه القبائل التي تعتبر قد ارتبطت معها بهذا الرباط ما دامت قد أكلت من طعامها، وقد استغلت قريش هذه الوظيفة فيما بعد استغلالًا يكفل لها رواج تجارة داخلية هامة في موسم الحج، وهي بيع الطعام للحجاج من غير أهل الحرم، ضمن ما ابتدعت من سنن للاستفادة المادية. والأمر الهام الثاني الذي عملت قريش على إقراره هو توفير الأمن في منطقة مكة، وتوفير الأمن أمر ضروري في بيئة تغلي بالغارات وطلب الثأر، وتعتبر الغارة للحصول على المال وسيلة مشروعة من وسائل العيش مثل البيئة العربية؛ فقد حرصت على إقرار حرمة المنطقة المحيطة بالبيت كأمر لازم لحرمة البيت نفسه وجعله ملاذًا للناس جميعًا وأمنًا1، وقد توسعت قريش فمدت حدود الحرم حتى جعلتها تشمل منطقة مكة كلها، فأصبحت حرمًا آمنًا لا يجوز فيه سفك الدماء ولا طلب الثأر في أي يوم من أيام العام، وجعلت الأمن يشمل كل شيء حتى الوحش والطير والنبات2. وقد دانت لها العرب كلها بذلك وأقرتها عليه؛ لأن الناس كانوا محتاجين إلى مثل هذه المنطقة الحرام يغشونها لتأدية شعائرهم الدينية، وبخاصة بعد أن ضمت أصنام القبائل كلها إلى البيت الحرام، ولتبادل المنافع العامة من بيع وشراء؛ وخصوصًا بعد أن أصبحت مكة تقوم على أمر التجارة، وبعد أن أصبحت مستودعًا تجاريًّا كبيرًا لحاصلات شبه الجزيرة وللمجلوبات الخارجية، وليجد من تضيق به الحياة ويتعرض للطلب ملاذًا يجد فيه الأمن. كما سنت الأشهر الحرم في موسم الحج لتمكين العرب من القدوم على منطقة مكة للحج وللمتاجرة، وقد قامت في منطقة مكة أو حولها أكبر أسواق العرب في عكاظ ومجنة وذي المجاز. وكل هذه الأشياء كانت مرتبطة بالحج إلى بيت الله الحرام.   1 البخاري 3/ 14- 15. 2 البخاري 3/ 14. القلقشندي: صبح الأعشى 1/ 255 "يقال: إن أول من وضع علامات الحرم عدنان، ومقادير الحرم تتفاوت في القرب والبعد عن مكة، فهي من التنعيم على طريق سرف إلى مر الظهران خمسة أميال أو ستة، ومن طريق جدة عشرة أميال، ومن طريق اليمن ستة أميال، ودوره سبعمائة وثلاثة وثلاثون ميلًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الكعبة البيت الحرام : وجد في بلاد العرب بيوت عرفت ببيوت الله أو البيوت الحرام يقصدها الحج يج في مواسم معلومة تشترك فيها القبائل من سكان البقاع العربية ويتعاهدون على المسالمة في جوارها، وكان أشهرها في الجزيرة العربية: بيت الأقيصر, وبيت ذي الخلصة, وبيت صنعاء، وبيت رضاء, وبيت نجران, وأذكرها جميعًا وأبقاها بيت مكة, عدا بعض البيوت الصغار التي تحج إليها القبائل القريبة ولا تقصد من مكان بعيد. وكان بيت الأقيصر في مشارف الشام مقصد القبائل من قضاعة ولخم وجذام وعاملة، يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده1. وبيت ذي الخصلة كان يسمى الكعبة اليمانية وهو بيت أصنام كان لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة - بين مكة واليمن - والذين كانوا يسمونه الكعبة اليمانية كانوا يسمون كعبة مكة الكعبة الشامية, وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم -جرير بن عبد الله البجلي بهدمه بعد فتح مكة, فهدمه بعد أن دافعت عنه خثعم دفاعًا شديدًا2.   1 ياقوت: معجم البلدان 2/ 238. 2 ياقوت: 7/ 383-384. الأغاني 3/ هـ ص 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وكان بصنعاء "بيت رثام" يحجون إليه وينحرون عنده ويكلمون منه، حتى هدم بعد انتشار اليهودية في اليمن1. ورضاء بيت كان لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وقد هدمه بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المستوغر بن ربيعة بن سعد 2. أما كعبة نجران فهي بيعة بنوها على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة لها، وسموها كعبة نجران، ويقول ابن الكلبي: إنها لم تكن بناء؛ وإنما كانت قبة من أدم من ثلاثمائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن أو طالب الحاجة قضيت حاجته أو المسترفد رفد. وكان فيها أساقفة معتمدون وهم الذين جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم للمباهلة3. وقد اجتمع لبيت مكة من بين هذه البيوت الحرام ما لم يجتمع لبيت آخر في أنحاء الجزيرة العربية؛ لأن مكة كانت ملتقى طرق القوافل بين الجنوب والشمال والشرق والغرب، وكان محطة لازمة لمن يحمل التجارة من الشمال إلى الجنوب. وكانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها. وقد رغب القبائل فيها أن مكة لم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو رحلاتها؛ فليست في مكة دولة كدولة التبابعة في اليمن أو مملكة المناذرة في الحيرة أو الغساسنة في الشام، وليس من وراء أصحاب الرياسة فيها سلطان كسلطان دولة الروم أو الفرس أو الحبشة وراء الإمارات المتفرقة على الشواطئ أو بين بوادي الصحراء، فهي مثابة عبادة وتجارة، وليست حوزة ملك يستبد بها صاحب العرش ولا يبالي من عداه، فلم تكن قيصرية, ولا كسروية, ولا نجاشية، وإنما كانت مكة عربية لجميع العرب ولهذا تمت لها الخصائص التي كانت لازمة لمن يقصدونها ويجدون فيها من يبادلهم ويبادلونه على حكم المنفعة المشتركة لا على حكم القهر والإكراه. والكعبة قديمة سابقة لأسفار العهد القديم في التوراة، وقد توارث العرب أن أول من رفع قواعدها هو إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وتلهم الآية القرآنية:   1 ياقوت 9/ 383- 384. الأغاني 3/ هـ ص172. 2 نفسه 9/ 50. 3 نفسه 9/ 50. ياقوت 19/ 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران] هذا المعنى؛ كما تلهم أنها نالت قدسية عامة منذ إنشائها. والآيات القرآنية: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج] {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة] تلهم أن هذه المنطقة كانت معروفة، وأن الكعبة ربما قامت على أنقاض معبد قديم1، وأنه ربما جرت عليه أحداث تاريخية وجغرافية غيرت من طبيعة المكان وأهمل هذا المعبد، حتى هيئ لإبراهيم أن يرفع قواعده من جديد. وقد ذكرت المصادر القديمة مكة كما تحدثت عن البيت الذي تعظمه العرب في العربية الغربية. لقد كانت الكعبة منذ القدم -كما هي معروفة في عهد قريش- مثابة للناس جميعًا وأمنًا، لا يمنع أحد من التعبد فيها، فقد كانت قريش تسمح لكل الناس على اختلاف نحلهم بالطواف حولها والتعبد فيها على اعتبار أنها بيت الله2. فالوثنيون على اختلاف أربابهم، واليهود والنصارى والصابئون كان يمكنهم زيارتها والتعبد فيها، تحكمهم في ذلك حكم القبائل البادية التي وجدت فيها محلًا لعبادة أوثانها في مواسم الحج والإحرام3. ولقد حاولت الدول الكبرى أن تهدم هذا البيت وتحول أنظار العرب عنه فلم تفلح4، وبقيت للكعبة مكانتها وقداستها كما كانت من أقدم عهودها. والأساس المهم الذي قامت عليه قداسة بيت مكة أن البيت بجملته هو المقصود بالقداسة، غير منظور إلى الأصنام والأوثان التي اشتمل عليها، وربما اشتمل البيت على الصنم أو الوثن تعظمه قبيلة وتزدريه أخرى. فلا ينتقص ذلك من قدر البيت عند المعظمين والمزدرين على السواء. وقد تختلف الدعاوى التي يدعيها كل فريق لصنمه أو   1 الطبري 1/ 128 "إن الله لما بوأ لإبراهيم مكان البيت ومعالم الحرم فخرج وخرج معه جبريل يقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: بهذه أمرت يا جبريل، فيقول جبريل: أَمضه حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة ثم تركهما -ابنه وزوجته- عند البيت". 2 البتنوني: الرحلة الحجازية ص150. 3 نفسه 114- 116 "كان للنصارى بها صور وتماثيل: منها تمثال إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام وصورة للعذراء والمسيح". 4 ابن هشام: 1/ 43 وما بعدها. الطبري 1/ 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وثنه وتختلف الطقوس والشعائر. ولكن لم تختلف شعائر البيت كما يتولاها سادنته المقيمون إلى جواره المتكلفون بخدمته، فكانت قداسة البيت هي القداسة التي لا خلاف عليها من أهل مكة وأهل البادية، وجاز عندهم أن يحكموا بالضلال على أتباع صنم معلوم، ولكنهم يعطون البيت حقه من الرعاية والتقدير1. وعلى هذا كان يتفق في موسم الحج أن يجتمع حول البيت أناس من العرب يأخذون بأشتات متفرقة من المجوسية واليهودية والمسيحية وعبادات الأمم المختلفة، وما من كلمة من كلمات الفرائض لم تعرف عند عرب الجاهلية بلفظها وجملة معناها، كالصلاة والصيام والزكاة والطهارة، ومناطها كلها أنها حسنة عند رب البيت أو عند الله. وجاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت أن أبا ذر الغفاري قال له: يا ابن أخي، صليت مرتين قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني الله، وجاء في البخاري أنهم كانوا يصومون يوم عاشوراء2، وكان صيامهم من الفجر إلى المغرب الشمس. وكانت لهم بقايا من العبادات التي عرفت بين أهل الكتاب، أو لم تكن معروفة على وتيرة واحدة بين أتباع دين من الأديان، وإنما يرغبهم فيها أنها أعمال ترضي الإله وأنهم يعرفون إلهًا أعظم من سائر الآلهة يتوجهون إليه بالدعاء، وهم حقيقة لا يعتورها الشك؛ لأنهم كانوا يسمون عبد الله ويلبون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، ولا يدعون أحدًا من الأصنام رب البيت، فإذا قالوا: رب البيت أرادوا به ربًّا فوق كل الأرباب، وهذه الحقيقة هي التي كتبت لبيت مكة التفوق على البيوت كلها في الجزيرة العربية فإنها بيوت أصنام، وكان بيت مكة بيتًا لله الذي يرى فيه العرب الإله الخالق المبدع، وإنما عبادة الأصنام تقربهم إلى الله زلفى3. وقد عملت قريش على الاستفادة من مكانة البيت الحرام في نفوس العرب، فاستغلت قيامها على أمر البيت لتقوي مركزها الأدبي لدى القبائل العربية، ولتنشيط   1 البتنوني 152- 156 "ورغمًا عن شيوع عبادة الأوثان في سواد قبائل العرب فإنه لم يرد عنهم أنهم عبدوا هيكل الكعبة، كما لم يسمع عنهم أنهم عبدوا الحجر الأسود مع احترامهم له ذلك الاحترام الذي لا يمكن تصويره". 2 البخاري 2/ 148. 3 انظر سورة الزمر 3. يونس 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 تجارتها الداخلية، فأجرت من الترتيبات ما يكفل لها ذلك، وابتدعت من النظم والتقاليد ما يحقق لها السيادة الأدبية والنفع المادي. وأول هذه الترتيبات ما نظمته من السقاية والرفادة؛ فمنطقة مكة حارة شحيحة المياه، وهي لكي تستقبل عددًا كبيرًا من الحجاج لا بد أن توفر فيها المياه بحالة منظمة؛ حتى لا يلقى الحاج من قلة الماء ما يضره إلى الخروج منها أو العزوف عن القدوم إليها؛ لذلك جعلت قريش من عملية توفير الماء للحجاج في موسم الحج وظيفة هامة، بل جعلتها أهم الوظائف في مكة ووكلتها إلى أعظم البيوت القرشية، وقلنا: إن هذه المهمة لا بد كانت موجودة قبل قريش، ولكنها نالت عناية كبيرة وصارت عملًا رسميًّا بعد استيلاء قريش على أمر مكة. فقد جعلها قصي بن كلاب وظيفة مقررة وتولاها بنفسه، وقام بحفر الآبار في منطقة مكة، كما عملت بطون قريش على الإكثار من حفر الآبار لتواجه الزيادة المطردة في عدد الحجيج الوافد على الكعبة1، وأصبحت السقاية من الوظائف التي تفاخر بها وتراها من أجل الأعمال، إلى جانب عمارة البيت الحرام والقيام على سدانته وتنظيفه وإعداده للزائرين، حتى لقد نوه القرآن الكريم بذلك فقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة] . كما جعل قصي استضافة الحاج وظيفة هامة أيضًا، وقرر على قريش خرجًا يخرجونه من أموالهم يدفعونه إليه -ثم يدفعونه إلى متولي هذه المهمة بعده- يصنع به طعامًا لفقراء الحجاج؛ استضافة لهم على أنهم ضيفان بيت الله الحرام، وهذا أمر هام في بيئة فقيرة كبيئة الصحراء، وكثير من الحجاج يقدم من بلاد بعيدة ويكابد سفرًا طويلًا يصعب معه حمل الزاد، وقد حافظت قريش على هذه الوظيفة ووكلتها إلى البطون القوية القادرة عليها؛ إذ إن صاحب الرفادة يتحمل جزءًا من ماله الخاص؛ لذلك كان يعهد بالقيام بها إلى الرجال الأغنياء2، ومهمة الرفادة جلبت لقريش كثيرًا من الفوائد الأدبية والمادية، فالمؤاكلة تعتبر عقد جوار وحلف عند العرب، فوق أن الضيافة وإطعام الطعام كان يعتبر أكبر المحامد في المجتمع العربي، وبإطعام الحاج من كافة قبائل أنحاء الجزيرة العربية تكون قريش كأنما عقدت جوارًا مع هذه القبائل، فوق أنها   1 ابن هشام 1/ 159- 162. 2 ابن هشام 1/ 140. ابن سعد 1/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الحج للحج ارتباط كبير بالحياة الاجتماعية والاقتصادية عند العرب، فقد كان لكثير من تقاليده علاقة قوية بكيان العرب الاجتماعي، وكان له من أجل ذلك أثر كبير في حياتهم الاجتماعية، فقد كان شاملًا للعرب جميعًا على اختلاف عقائدهم وعباداتهم وبيئاتهم، وكانوا يتخذونه وسيلة من وسائلهم الاجتماعية، حيث يفدون إلى منطقة مكة -البيت الحرام- من كل صوب، فيلتقون في موسم الحج وأسواقه في ظل الأشهر الحرم، ويجتمعون فيتعارفون ويتبادلون المنافع من بيع وشراء ومبادلة. ويعقدون المجالس للمفاخرات، والمشاورات وحل المشاكل، وكان كل صاحب فكرة وكل صاحب دعوة يريد أن يعلن عنها يجد له في أسواق الحج مجالًا صالحًا، وحتى المبشرون من المسيحييين وغيرهم كانوا يأتون إلى هذه الأسواق يدعون لديانتهم. حتى لنستطيع أن نقول: إن هذه الأسواق كانت منبرًا عامًّا تلتقي فيه الأفكار من كل لون، وبذلك أصبحت هذه الأسواق مجالًا للنشاط العربي بكل مظاهره، فأتاحت للعرب وبخاصة قبيل البعثة فرصة لحركة أو نهضة قومية وسياسية واجتماعية وفكرية. والحج إلى الكعبة فرض إلهي قديم معترف به وممارس منذ زمن بعيد، يتداول العرب خبر اتصاله بإبراهيم وإسماعيل اللذين قاما ببناء البيت الحرام كما يتداولون خبر حرمته منذ بنائه1. وأن الله جعله مثابة للناس جميعًا وأمنًا. وفي القرآن آيات كثيرة تشير إلى الحج ومناسكه وتقاليده ومنافعه، والكعبة البيت الحرام وحرمتها وأمن منطقتها: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران] وتتضمن هذه الآيات قرينة قوية على أن الحج إلى البيت على المستطيع، هو استمرار لفرض إلهي قديم على الناس معترف به وممارس من بعضهم، فهو أول بيت وضع للناس فيه الهدى والبركة، وأنه من بناء إبراهيم بما فيه من علامات هي مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمنًا، ويلفت النظر كلمة الناس فإنها دلالة قوية على أن الحج كان عامًّا غير مخصص بطائفة معينة، وهذا يدل على أن الحج كان مفروضًا قبل الإسلام: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنِ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي   1 البقرة 125- 129 البخاري 3/ 14- 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج] . هذه الآيات تتضمن دلالة صريحة: -أولًا، على أن العرب جميعهم أو القسم الأكبر منهم، سواء منهم الدانون والقاصون كانوا يأتون إلى مكة ويمارسون مع أهلها طقوس الحج قبل البعثة، وثانيًا، أنهم كانوا يتداولون خبر اتصال الحج ومناسكه بإبراهيم، وقد نزلت هذه الآيات تحمل على المشركين بسبب صدهم عن البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس جميعًا مقيمهم وباديهم منذ بناه إبراهيم، فهم يأتون إليه من كل فج عميق مشاة وركبانًا، رجالًا ونساء؛ ليقوموا بمناسكه ويوفوا ما عليهم من نذور، ويطوفوا بالبيت العتيق، ويشهدوا منافعهم العظيمة في موسمه، والآية: وأذن في الناس بالحج تؤيد بقوة ما ذكرته الروايات من أن الذين كانوا يشهدون موسم الحج لم يكونوا مقصورين على أهل منطقة مكة أو القطر الحجازي، بل منهم من كان يأتي من اليمن ونجد ومشارف الشام ومشارف العراق، كما كان منهم -إلى جانب المشركين- الحنفاء أو الصابئون والنصارى واليهود 1. منهم من يأتي للاتجار ومنهم من يأتي للتبشير، ومنهم من كان يأتي للمفاخرة والخطابة وإنشاد الشعر، ومنهم من كان يأتي بسبب حل مشاكل لا يمكن حلها إلا في ظروف مثل ظروف الحج وموسمه وأمنه، الإضافة إلى   1 الواحدي. أسباب النزول 212، أسد الغابة 3/ 325. ابن هشام 1/ 349 السيرة الحلبية 251. أنساب الأشراف 1/ 72- 73. البخاري2/ 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 أن الأكثر كان يأتي لزيارة الكعبة وأداء مناسك الحج التي كانت من الحرمات العربية العامة. وقد ظل المشركون من العرب يؤمون المسجد الحرام ويقومون بتقاليد الحج إلى ما بعد فتح مكة استمرارًا لممارستهم السابقة1، وحتى حرم الإسلام الحج على المشركين سنة 9هـ وحوله إلى حج إسلامي خالص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة] 2.   1 ابن هشام 4/ 201. 2 انظر: ابن هشام 4/ 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 طقوس الحج وتقاليده للحج أشهر معلومات1 تبين بالأهلة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج} [البقرة] ولا يذكر القرآن صراحة أسماء هذه الشهور، غير أن الروايات المتواترة ذكرت أنها ثلاثة أشهر: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم2. وقد ذكر بعض المفسرين والمحدثين استنادًا إلى بعض الروايات أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة3. ولكننا نرجح الرأي الأول؛ لأن ذا القعدة وذا الحجة والمحرم هي من الأشهر الحرم. والعرب لم يكن يمكنهم أن يشدوا رحالهم من بلادهم حاجين إلى مكة آمنين مطمئنين إلا في هذه الأشهر الحرم. وقد جعلت أشهر الحج ثلاثة مع أن موسمه وأسواقه لا تستغرق أكثر من شهر وأيام؛ لأن المسافات الشاسعة التي يضطر الحاج إلى قطعها تحتاج إلى مدة كافية يذهب فيها ويعود في ظل الأشهر الحرم. والطواف بالكعبة كان أول تقاليد الحج, وهو ركن من أركان الإسلام. والآية القرآنية: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج] تخبر بشيء كان موجودًا ومتعارفًا عليه، مما يدل على أن هذا التقليد كان موجودًا قبل البعثة. والطواف هو أهم مراسم زيارة   1 البقرة: 197. 2 ابن سعد 3/ 237. السهيلي: الروض الأنف 2/ 60 اليعقوبي 2/ 91. ابن كثير 5/ 195 المقريزي: إمتاع الأسماع 1/ 531. المصباح 1/ 181 مادة حرم. 3 الطبري 4/ 117- 118. البخاري 2/ 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الكعبة أو تحتها, وزيارة الكعبة نوعان: زيارة عمرة، وزيارة حج. وقد كانت هاتان الزيارتان رسميتين قبل البعثة. وللحج موسمه المعروف أما العمرة فهي زيارة الكعبة في غير موسم الحج, وكانوا في الجاهلية لا يجمعون بينهما، ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور1، حتى جاء الإسلام فجوز الجمع بين الحج والعمرة2. ولعل قريشًا هي التي سنت منع الجمع بين الحج والعمرة؛ حتى تكثر الزيارة للكعبة فتجني من وراء ذلك فوائد مادية. على أن زيارة الكعبة كانت عملًا واجبًا على كل من يقدم مكة سواء في وقت الحج أو في غير وقته. والطواف في الإسلام هو سبعة أشواط على مدار بناء الكعبة، ويبدأ كل شوط من الركن الذي فيه الحجر الأسود، والطائف يستقبل هذا الركن ويستلم الحجر أو يقبله أو يشير إليه3.. وليس للحجر الأسود واستلامه أو تقبيله, أو للأشواط السبعة ذكر في القرآن، ولكن ذلك ثابت بالسنة المتواترة التي لم تنقطع. ومن المؤكد أن هذه المراسم قد انتقلت إلى الإسلام على حالها التي كانت عليها من قبل. والحجر الأسود كان مقدسًا قبل البعثة, فأبقيت له في الإسلام حرمته وأبقيت عادة استلامه وتقبيله والبدء بأشواط الطواف من الركن الذي هو فيه. وهو حجر صواني لامع أسود، ويتحدث العرب أنه أنزل من السماء هدية للكعبة. وقد أبقى الإسلام لهذا الحجر حرمته كما أبقى على تقاليد الحج -كما هي في الجاهلية- وذلك لشدة رسوخها واستحالة التخلص منها، وحتى لا تصدم مقدسات العرب فيكون ذلك عقبة في سبيل الدعوة الإسلامية، ثم حولت هذه المراسم إلى غرض أسمى وهو عبادة الله وتعظيمه بزيارة بيته الحرام، كما حول الحج إلى اجتماع إسلامي عام يعقد في كل عام؛ لتبادل الأفكار والمنافع والإحساس بالترابط العام بين المسلمين. والحقيقة أن الكعبة والحج إليها هي البقية الباقية من عبادة الله في الحجاز على الحنيفية دين إبراهيم، فالعرب كانوا يرون الكعبة بيتًا لله ويرون الحج عبادة لله لا تقربًا للأصنام؛ وإنما وضعت الأصنام في الكعبة تكريمًا للأصنام بوضعها في بيت الله الحرام لا تكريمًا للبيت بوضع الأصنام فيه.   1 البخاري 2/ 143. 2 انظر البقرة 196. 3 البخاري 2/ 149- 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ثياب الإحرام : والمسلمون يؤدون الزيارتين المذكورتين للكعبة في ثياب الإحرام، وهي ثياب غير مخيطة، وقد كان لهذا أصل قبل البعثة. فقد ذكرت كتب السيرة والتفسير في صدد تفسير الآية القرآنية: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد} [الأعراف] أن بعض الحجاج قبل الإسلام كانوا يطوفون حول الكعبة عراة رجالًا ونساء، والآية نزلت بسبيل التنديد بذلك وتقرير وجوب أخذ الناس زينتهم والظهور بمظهر الحشمة والوقار عند كل عبادة ومسجد، بارتداء الملابس التي هي مظهر الزينة والحشمة، وقد كان العرب يكرهون أن يطوفوا بالكعبة وعليهم ثيابهم الاعتيادية؛ حذر أن يكونوا قد اجترحوا من المآثم وهي عليهم، ويطوفون عراة؛ فإذا طافوا بها كانوا يلقونها ثم لا يأخذونها بعد ذلك أبدًا, ويتركونها لا يقربها أحد حتى تبلى. وقد سن لهم الأحماس خلعها والتستر بملابس أحمسية، وهي مآزر كان الأحماس يعدونها خصيصًا للحجاج ويسمونها المآزر الأحمسية، وكان الذين لا يجدون مآزر أحمسية أو لا يقدرون عليها ويضنون بثيابهم أن يفقدوها، يخلعونها قبل الطواف ويطوفون عراة رجالًا ونساء1. وقد ظلت عادة الطواف بالعري إلى ما بعد فتح مكة، حتى أبطل هذه العادة حين أبطل أمر الحمس، وحرم الحج على المشركين حين أعلن للناس بيان براءة في السنة التاسعة من الهجرة2. والسعي بين الصفا والمروة كان من الطقوس التي يقوم بها الحاج أو المعتمر في الجاهلية، والصفا والمروة هضبتان صخريتان قريبتان من الكعبة وتبعد إحداهما عن الأخرى نحو أربعمائة متر، وكان المشركون قد نصبوا عندهما بعض أصنامهم، وكانوا يقومون عندهما ببعض الطقوس ويقربون القرابين، ومن جملة هذه الطقوس الطواف بهما. وقد تحرج المسلمون من الطواف بهما كما كانوا يفعلون قبل إسلامهم، فنزلت الآية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ   1 تفسير الطبري 12/ 389- 395. 2 البخاري 2/ 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة] تزيل هذا التحرج وتذكر أن الصفا والمروة من شعائر الله. والطواف الإسلامي بهما سبعة أشواط يسمى السعي بين الصفا والمروة، ويبدأ الطواف من الصفا وينتهي إلى المروة1. وقد كان الحال كذلك في السعي بينهما قبل الإسلام2.   1 البخاري 2/ 158 مالك: الموطأ 1/ 186- 187. 2 البخاري 5/ 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الوقوف بعرفة : وأعظم أيام الحج هو يوم الوقوف بعرفات، وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، حيث يجتمع في هذا اليوم كل من أتى الحج في صعيد واحد هو صعيد عرفات. وعرفات منبسط فسيح من الأرض يتسع للألوف المؤلفة من الناس، وهو محاط بالجبال وفي بعض أطرافه صخور وهضاب، وبه سقايات وحياض للإرواء1، ولا يكون الحاج حاجًّا إلا إذا شهد وقوف عرفات2. وفي الحديث: "الحج عرفة" وقد عبر عنه القرآن بيوم الحج الأكبر: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة] ويستلهم من أسلوب الآية التقريري أن هذه التسمية كانت معروفة قبل الإسلام. وقد كان ليوم عرفات رئيس من بيت معين من بيوتات العرب لا يفيض الناس إلا بعد إفاضته -رجوعه-3. ولعل الزعماء وأصحاب الشأن من العرب كانوا يتخذون من هذا اليوم المشهود وسيلة لإعلان بعض الأمور وإبلاغها للناس، وكان الناس بعد الفراغ من حجهم يأتون صاحب النسيء ليسمعوا منه ما يعلن عليهم من تقديم أو تأخير في الأشهر الحرم4. وقد أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة التالية لفتح مكة أبا بكر الصديق أميرًا على الحج فأقام للناس حجهم، وقد ذكرت الرواية خبرًا هامًّا في بابه وهو أن الناس كانوا -تلك السنة- في منازلهم على الحج التي كانوا عليها في الجاهلية5، وقد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- فرصة هذا اليوم المشهود   1 ياقوت 13/ 104-105. 2 أسد الغابة 3/ 328. 3 ابن هشام 1/ 131- 133. 4 نفسه 1/ 45. 5 نفسه 4/ 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وسيلة لإعلان الناس براءة الله ورسوله من المشركين، فأعلن هذا للناس عن طريق أبي بكر في رواية، وعن طريق علي بن أبي طالب الذي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- خصيصًا لهذا الإعلان في رواية أخرى. ويستأنس من كل ذلك أن يوم عرفات هو يوم الحج الأكبر، وأن هذا اليوم كان يجتمع فيه الناس من كل جهة وكل قبيل، وأنه كان فرصة لقضاء أمور هامة وإعلانها، وأن ما جرى عليه الحج الإسلامي كان استمرارًا لما كان يجري عليه العرب من قبل. وحينما يعود الحجاج من عرفات يأتون إلى مكان يعرف اليوم بالمزدلفة, وكانوا يسمونه جمْعًا وهو المكان الذي سماه القرآن المشعر الحرام1, فيتوقفون عنده إلى الفجر ثم يفيضون منه إلى منى، فقد كانت هناك إفاضتان: إحداهما من عرفات والأخرى من المشعر الحرام، والإفاضة كانت تسمى إجازة، ومعناها أن يجيزهم الرئيس من مغادرة المكان إلى مكان آخر، وكان هناك بعض البطون هم أصحاب الحق في هذه الإجازة؛ بحيث لا يفيض الناس إلا إذا أفاض رئيس هذا البطن، وقد كان يقصد بتوقف الناس عند المشعر الحرام إشعارهم بأنهم قد انتهوا من الواجب الأساسي للحج، وأصبحوا بذلك حجاجًا، وأن لهم الحق في التعييد بعده، وفعلًا فإن الناس بمجرد إفاضتهم من المزدلفة إلى منى يصبحون معيدين عيد الأضحى. وكان للعرب تقليد آخر في منى، وهو عقد مجالس المفاخرة بعد أن يكونوا قد انتهوا من مناسك الحج، وقد ذكر المفسرون هذا التقليد في سياق تفسير الآية القرآنية: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة] وقالوا: إن الحجاج كانوا بعد قضاء مناسكهم يعقدون المجالس في منى ليتناشدوا الأشعار ويعددوا مفاخر الآباء والقبائل، والآية تلهم هذا الذي تناقلته الروايات، ولا سيما وأيام منى أيام عيد وأكل وشرب وراحة، فأمرت الآية بذكر الله والتحدث بنعمه بدلًا من المفاخرات الجاهلية التي تزيد من قوة العصبية الضيقة، التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بحكم دعوته يهدف إلى   1 انظر سورة البقرة الآية 198. تفسير الطبري 4/ 175- 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إضعافها والخروج من مجالها الضيق إلى مجال الوحدة العربية الشاملة، بل إلى مجال أوسع من ذلك وهو الوحدة الإنسانية1.   1 تفسير الطبري 4/ 196- 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الهدي والقلائد: الهدي هو الحيوان الذي يسوقه الحاج معه ليذبحه بعد أداء مناسكه قربان شكر لله، وكان من عادة العرب الحجاج تقليد الهدي بوضع قلادة في عنقه من سيور الجلد أو ألياف الشجر أو فتيل الخيط؛ إعلانًا بأنه هدي فيصبح بذلك محرمًا محترمًا، وكان من عادتهم إشعار البدن أي: جرحها جرحًا خفيفًا من شق سنامها، فيسيل دمها على ظهرها إشارة إلى كونها هديًا، ويسمون البدن المجروحة شعيرة1، ويشير القرآن الكريم إلى الهدي المقلد أو المجروح على أنه من شعائر الله، ومن واجبات الحاج، وأنه واجب الاحترام لا يحل الاعتداء عليه، ويذكر ما للهدي من أهمية عظيمة لما فيه من إقامة أود الناس ولا سيما الفقراء والمساكين والبائسين3، ومضامين الآيات وأساليبها تلهم بقوة وصراحة أنها كانت من تقاليد العرب قبل البعثة. وقد أقرها الإسلام لما فيها من فوائد عظيمة في ظروف الحج وفي بيئته قبل البعثة وبعدها. وكان العرب يحيطون هذا التقليد بالعناية والحرمة بل بالتقديس والرهبة، حتى ليترك الحاج هديه سائمًا فلا يتعرض له أحد بسوء؛ لأن التعرض له إنما هو تعرض لمال الله. وكان من عادتهم أن يلطخوا جدران الكعبة بدماء الهدي تقربًا إلى الله رب البيت، وقد أبطل الإسلام هذه العادة، ونبه إلى أن الله لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها ولكن الذي يريده من الناس هو التقوى4 والإخلاص. وكانوا يأثمون من أكل لحوم هديهم ويتركونها للفقراء والمساكين والسباع والجوارح، فأباح القرآن لأصحاب الهدي -إن شاءوا- أن يأكلوا منه وأن يطعموا البائس والفقير والقانع والمعتر، أي المحتاجين سألوا أم لم   1 أسد الغابة 3/ 228. الموطأ 1/ 159. 2 انظر كلًّا من سورة البقرة 196, المائدة 2، 97, الحج 28، 36, الفتح 25. 3 انظر سورة الحج 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 يسألوا1. كما كانوا يذبحون الهدي عند الأوثان والأنصاب في فناء الكعبة ويذكرونها في أثناء الذبح، فنهى القرآن عن هذا وأوجب ذكر الله وحده عند الذبح2. وعادة ذبح القرابين للمعبودات عادة قديمة اشترك فيها جميع البشر في بعض أدوارهم وأطوارهم ومختلف بيئاتهم، غير أن العرب كانوا يرجعون ذبح القرابين إلى إبراهيم الذي امتحن بذبح ولده إسماعيل قربانًا لله ففداه الله بذبح عظيم3 وكان هذا فيما يتداولونه من الروايات في اليوم العاشر من ذي الحجة. ونرجح أنهم كانوا يعرفون خبر هذه المحنة وينتاقلونها ويعللون ذبح الضحايا في هذا اليوم اقتداء بفداء إبراهيم الذي يردون أولية الحج إليه.   1 نفسه 36. 2 نفسه 30. 3 انظر سورة الصافات 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الحلق والتقصير : وقد جاء في القرآن ذكر الحلق والتقصير كعلامة للتحلل من الإحرام عقب أداء المناسك التي من جملتها ذبح الضحية، إلا من كان مريضًا أو به أذى من رأسه فإنه لا يحلق، ويقدم كفارة تعبدية كصدقة أو صيام أو قربان1. والحلق والتقصير كان قبل البعثة من علامات التحلل من الإحرام، وكان الحجاج لا يفعلون ذلك قبل تقديم قرابينهم وقد جرى الإسلام على هذا. وهكذا نرى أن الإسلام قد احتفظ بطقوس الحج وتقاليده، كما هي ولكنه حولها إلى طقوس وتقاليد إسلامية وعفَّى على ذكر الوثنية فيها بذكر الله.   1 انظر سورة البقرة 196. الفتح 27. تفسير الطبري 4/ 36، 4/ 56- 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 آثار الحج الاقتصادية والاجتماعية: كان للحج آثاره البعيدة المدى من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية بالنسبة للعرب بعامة ولمكة بخاصة؛ فقد كانت تقام في موسمه أسواق عامة أهمها عكاظ ومجنة وذو المجاز، وإقامة هذه الأسواق يعد تقليدًا من تقاليد الحج؛ لأنها كانت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أيام معلومة وأماكن مستقرة، وإذا كانت هذه الأسواق مجالًا لنشاط مكة التجاري؛ فقد كانت من جهة أخرى تقليدًا خطير الشأن جليل النفع، بالنسبة للعرب الذين كان لهم في موسم الحج وأشهره الحرم فرصة الغدو والرواح آمنين مطمئنين، فكانوا يفدون على موسم الحج وأسواقه من كل الجهات: من أطرف الشام والعراق ومن اليمن وتهامة والبحرين، على مختلف القبائل والبيئات والجهات والعقائد، فيلتقون في هذه الأسواق ويتبادلون السلع، ويقيمون أودهم، ويتزودون بما هم في حاجة إليه من العروض كما كانوا يجدون فيها فرصة لإقامة مجال المفاخرة وإنشاد الأشعار والمفاضلة بين الشعراء، ولعقد حلقات السمر, ومجالس القضاء لحل المشاكل والقضايا المعقدة، كما كانت فرصة لبث الأفكار وتسيير الأخبار، وتعارف الزعماء والشعراء والخطباء، كما كانت مجالًا لمزاولة أنواع الرياضة من فروسية وسباق ومصارعة ومناضلة. فهي تشبه "الجمنازيوم" عند الإغريق إلى حد كبير1. وقد استغل النبي -صلى الله عليه وسلم- فرصة هذه الأسواق للقاء وفود العرب وزعمائهم ونبهائهم؛ ليعرض عليهم رسالته ويقرأ عليهم القرآن، وقد تقابل مع وفد يثرب وتم بينهم الاتفاق؛ فكانت الهجرة بعد ذلك وما تلاها من أحداث غيرت وجه التاريخ العربي بل وجه التاريخ العام2. ونرجح أن الوافدين على هذه الأسواق لم يكونوا كلهم مشركي العرب، بل كان يفد عليها نصارى العرب ويهود يثرب؛ للتبشير والاتجار، ولعل منهم من كان يشترك في مناسك الحج وقد كان قس بن ساعدة الإيادي من نصارى العرب وخطبته في أحد مواسم الحج من الروايات العربية المشهورة3. كذلك كان للحج آثار اجتماعية وأدبية عظيمة؛ فالعرب يأتون من كل جهة، ثم يتفرقون وقد امتلأت جعباتهم بالأخبار وذاكراتهم بالأشعار والخطب والكلمات الممتازة, واكتظت أذهانهم بمختلف الصور والمشاهد، الأمر الذي ساعد على تقريب العرب بعضهم من بعض واستقرار معنى القومية المشتركة في أذهانهم، وتوحيد اللغة وتصفيتها، وبعث حركة نشيطة بدت تباشيرها وتطورها التقدمي قبل الإسلام, فيما كان   1 البتنوني: الرحلة الحجازية ص119- 120. 2 ابن سعد 1/ 201- 202. 3 ابن كثير 2/ 232- 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 من تطور من الوثنية إلى الشرك، ثم اعتبار الشركاء شفعاء عند الله، ومن استنكار العرب لما بين الكتابيين من نزاع وخلاف، وتنديدهم بهم، وتمنيهم أو توقعهم بعثة نبي منهم، وحلفهم الأيمان بأنهم إذا جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، ثم من ظهور طبقة الموحدين الذين أخذوا يشمئزون مما يعبد قومهم، ويطوفون الأرض وينشدون ملة إبراهيم ويتعبدون عليها أو على ما يظنون أنه هي1، ومن اقتباس العرب كثيرًا مما عند الكتابيين وغيرهم من معارف دينية وغير دينية. ونستطيع أن ندرك ما استفادته قريش من هذا الاحتكاك والاتصال بين العرب الوافدين من مختلف الجهات العربية ومنهم من عرف الفرس ومنهم من عرف الروم، ومنهم من كان من اليمن وعرف الأحباش، في تطوير نظمها والأخذ بأسباب التقدم الأدبي والمادي. وكان لأهل مكة خاصة ميزة ومركز يشعرانها بما عليهم من واجبات نحو الكعبة والحجاج؛ فقد كانوا يرون لأنفسهم حق الحرمة والميزة على العرب؛ بسبب اختصاصهم بكرامة البيت الحرام، ويعتبرون أنفسهم أهله وأولياءه2، كما كانوا يدركون مركز بلدهم وكرامتها وقدسيتها، وجعلها مثابة للناس وأمنًا لا يسفك فيها دم ولا يثار فيها نزاع ولا قتال؛ لذلك كانوا يتضامنون في القيام بواجبهم نحو وفود الحجاج من ترحيب وإكرام وقِرى؛ باعتبارهم ضيوف بيت الله في بلدتهم وهم سدنته الأقربون، وقد اختص بعضهم بسقاية الحاج واختص البعض بعمارة البيت3، والبعض بالقيام على رفادة الحجاج. ولما كانت مكة بلدًا في وادٍ غير ذي زرع، وأنها تعتمد في حياتها على ما يجلب إليها من الخارج، وما يستطيع أهلها أن يحققوه لأنفسهم من منافع عن طريق البيع والشراء، والتبادل مع الوافدين عليها والمارين بها في رحلات القوافل التجارية, أو القادمين إلى الأسواق التي تقام فيها وحولها، وما يقدمه الحاج إلى بيتها من هدايا   1 ابن هشام 1/ 242- 251, ابن كثير 2/ 238. 2 انظر سورة الأنفال 34. 3 انظر سورة التوبة 17- 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ونذور، فقد كان لا بد أن يضع أهله لهم وللقادمين إليه أنظمة وقوانين؛ لتنظيم الحياة, وتوفير الأمن وحفظ الحقوق وحماية من يفد إليه من الأذى. فالكعبة وهي بيت الله، أرض حرام لا يجوز البغي فيها ولا ارتكاب المعاصي واقتراف الآثام، والمدينة وهي في جوار بيت الله ذات حرمة وقدسية، وسكان البلد الحرام هم في حمى البيت وفي جواره؛ فلا بد من إنصافهم وإحقاق حقهم1. وهذا الإدراك قديم سابق على عهد قريش, فتذكر الروايات أن مضاضَ بن عمرو الجرهمي فكر في حماية التجارة والدفاع عن الأجانب جلبًا للغرباء والتجار، فقال في إحدى خطبه: وقروا حرم الله ولا تظلموا من دخله وجاء معظمًا لحرمته, وآخر جاء بائعًا لسلعته أو مرتغبًا في جواركم2، كما تروي أن عمروَ بن لحي زعيم خزاعة قد اتخذ من الإجراءات ما يرغب العرب في القدوم إلى مكة والحج إلى بيتها الحرام؛ فجلب الأصنام وأقامها في فناء الكعبة، كما كان يقيم موائد الطعام في موسم الحج حتى لقد قالوا: إنه كان يذبح عشر آلاف بدنة3. ولما صار الأمر إلى يد قريش بعد خزاعة نظم زعيمها قصي بن كلاب الوظائف المدنية والدينية بالمدينة المكية، وعمل على إنماء المدينة وتقرير كيانها، وتوسعت قريش فلم تكتف بتقرير حرمة المدينة في داخلها، بل جعلت لها مجالًا في خارجها، وجعلت هذا المجال حرمًا كحرمة المدينة نفسها، وأقامت له علامات يعرف بها, أي أنها حرمت المدينة وحفظت لها مجالًا فيما حولها. كما أقرت حقوق المواطنة لأهل هذا الحرم، وسمت المتمتعين بهذا الحق باسم الحمس. ولفظ الحمس جمع مفرده أحمس، ومعناه ابن البلد وابن الحرم والوطني المقيم, والذي ينتمي إلى الكعبة والحرم؛ فهو امتياز لأبناء الوطن وأهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنيها. فقال القرشيون: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقاطنو مكة وساكنوها؛ فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا4، ثم جعلوا للحمس علامة وهي ألا يعظم الأحمس   1 جواد علي 4/ 207- 208. 2 الأغاني 13/ 105 "طبعة مصر". 3 ابن كثير 2/ 187. 4 ابن هشام 1/ 216. تفسير الطبري 4/ 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 شيئًا من الحل -أي الأرض التي وراء الحرم- كما يعظم الحرم، وقالوا: إن فعلتم ذلك استخفت العرب1 بحرمكم؛ ولذلك ترك الحمس الوقوف بعرفة -لأنه خارج عن الحرم- والإفاضة منها مع إقرارهم بأنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر الناس أن يقفوا عليها ويفيضوا منها 2 إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم؛ فليس ينبغي أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها، نحن الحمس والحمس أهل الحرم3، فأظهروا بذلك شدة تعصبهم لبقعة من الأرض، وترفعوا أن يخرجوا عنها ولو كان في خروجهم إتمام لمشاعر الحج. أقرب قريش هذا التقليد، ويقول ابن إسحاق: إنه لا يدري أكان ذلك قبل الفيل أم بعده4، والراجح أنه كان قبل الفيل وربما كان في عهد قصي بن كلاب الذي أقر وظائف مكة، وكان له من المنزلة الكبيرة ومن المكانة ما يسمح له بوضع هذا القرار حتى كان أمره كالدين المتبع في حياته وبعد موته. وأدخلت فيه كنانة وخزاعة، ومنحوا هذا الحق لمن ولد من العرب في الحرم، كما منحوه لمن ولد منهم -وقد كانوا يشترطون على من يتزوج منهم أن ينتقل إليهم، يرون أن ذلك لا يحل لهم ولا يجوز لشرفهم حتى يدان إليهم وينقاد ويتبع مبدأهم5 -وذلك ليوطدوا صلاتهم بأصهارهم وحلفائهم؛ فاستحق الشرف بحق المولد كما استحقته قريش بحق الدم والأصل. وفي القوانين الدولية الخاصة الحديثة من يكتسب حق المواطنة بالدم، ففكرة الحمس إقرار لحق الوطنية بالانتساب للبقعة وامتياز لمن له هذا الحق. وليس معنى التحمس في الدين كما ورد في القاموس، فإن قريشًا تركت فرضًا هامًّا من فروض الحج تعصبًا للحرم مع أن هذا يتنافى مع دين إبراهيم. وإن الحمس قد ابتدعوا أمورًا من الدين تميزهم عن غيرهم، وتشير إلى ارتباطهم بالكعبة، وتؤكد تمسكهم بحرمة البيت الحرام وتعظيم الحج إليه؛ ليزيد ذلك في شرفهم وشرف البيت، وقالوا: لا   1 نفسه. 2 البخاري 1/ 163. 3 ابن هشام 1/ 216. 4 نفسه. 5 الأزرقي 1/ 115. العقد الفريد 3/ 320 وما بعدها. الآلوسي 1/ 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط ولا يسلئوا السمن، ولا يدخلوا بيتًا من الشعر ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا1. وهذه الأمور داخلية في باب التزهد؛ إلا أنهم اختصوا أنفسهم بالقباب الحمر تضرب لهم في الأشهر الحرم 2. وكانت القباب الحمر علامة الشرف والرياسة. وكانت فكرة الحمس صائبة؛ لأنها ترمي إلى إعزاز أهل الحرم، وتضمن سلامة القاصدين إليهم، وتحجز ما بين الأعداء وتشل أيدي المنتقمين والمتربصين فنشأ حق الالتجاء من حق الحمس، فكان الرجل لو جر جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب، وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام أو في الحرم لم يتعرض له، وكان الرجل إذا أراد البيت الحرام تقلد من شعر فأحمته أي جعلته حمًى لا يقرب. ثم إن الحمس فرضوا على العرب فروضًا حملوها عليها فدانت لهم بها وأخذت بما شرعوه لهم من ذلك، فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم إذا جاءوا حجاجًا أو عمارًا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس؛ فإن لم يجدوا طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب الحمس، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها، ولم يمسها وهو لا أحد غيره أبدًا، وكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقي3. ولكن في أخبار التاريخ ما يدل على أن الطواف مع العري كان مبالغة في التقديس والتطهر، فبنت قريش فرضها هذا الذي فرضته على العرب على تلك العادة القديمة. وما زال حق الحمس يتطور حتى صار دينًا متبعًا. كل هذا يعني أن قريشًا نظمت الحج والقدوم إلى مكة حسب ما تقتضيه مصلحتها الأدبية والمادية، وكانت تبتدع من الأمور ما يحقق لها الاحترام، ولبلدها القدسية عند العرب, وما يحقق لها الكسب المادي.   1 ابن هشام 1/ 219. 2 الآلوسي1/ 244. 3 ابن هشام: 1/ 219. البخاري 2/ 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والحج وأسواقه كانت حافزًا لنشاط قريش التجاري, إذ هم يضربون في الأرض شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا لحمل التجارة بين هذه الجهات، ولمزاولة التجارة الداخلية في أسواق العرب، وفي موسم الحج في مكة. وإن هذه السنن التي فرضوها على العرب جميعًا هي في الحقيقة متصلة بنشاطهم التجاري؛ فإن الناس يطرحون أزواد الحل قبل الدخول في الحرام، حتى يبتاعوا أزوادهم من أهل مكة. وكذلك عدم السماح لهم بالطواف بأثوابهم وإنما عليهم أن يلبسوا المآزر الأحمسية وذلك حتى يشتروا ما يلزمهم من ذلك من قريش، وبذلك كانت توجد سوق نشيطة في مكة في موسم الحج لبيع الملابس، وتخصص بعض التجار في بيع الأطعمة1. وإذا كانت تضيف الحجاج ثلاثة أيام بمنى فليس ذلك بكافٍ، ثم إن الأغنياء من الحجاج لم يكونوا يشاركون في هذه الموائد العامة التي تقيمها قريش، والكل مضطر لشراء طعامه بعد ذلك. وإذا كان من الناس من يستعير ثياب الحمس أو يهداها؛ فليس الجميع كذلك، وكذلك لم يكن الكثير قادرًا على الاستغناء عن ملابسه لتكون: لقي بعد طوافه، ولا كلهم يرضى بالطواف عريانًا وبخاصة وإن كان منهم من يفعل ذلك؛ على أن قريشًا كانت تأخذ إلى جانب ذلك كله ضريبة تسمى الحريم من كل من نزل عليها، تأخذ بعض ثيابه أو بعض بدنته2.   1 الذهبي سير أعلام النبلاء 2/ 29. 2 جواد علي 4/ 218. شوقي ضيف: العصر الجاهلي50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الأشهر الحرم وأهميتها في الآيات القرآنية ذكر كثير للأشهر الحرم، ويستدل منها ومن الروايات أنه كان لهذه الأشهر الحرم أثر عظيم في حياة العرب وبخاصة في بيئة مكة قبل البعثة؛ فبينما تكون الحروب مستعرة، والغارات قائمة والناس مندفعين وراء عصبياتهم وثاراتهم، ويقف كل هذا حين حلول هذه الأشهر تعظيمًا لها واحترامًا، ويصبح الناس في هدنة عامة شاملة، ويتلاقى الناس في منطقة الحرم وفي خارجها فلا يكون بينهم شر ولا قتال، بل قد وصل تأثمهم لدرجة الصيد أثناءها؛ لما في ذلك من سفك الدماء. والأشهر الحرم ليست معينة في القرآن بأسمائها، وكل ما ذكرته الآيات أنها أربعة أشهر1. غير أن الروايات المتواترة التي لم تنقطع قد عينتها بصورة يقينية وهي:   1 انظر سورة البقرة 197. التوبة 365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 رجب، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم1 والأشهر الثلاثة الأخيرة هي أشهر الحج -على الأقل فيما قبل الإسلام- أما شهر رجب فإنه كان يسمى رجب مضر، وهو الذي تسميه مضر الأصم2 وأنه مشتق من الترجيب أي التعظيم. وقد جاء في طبقات ابن سعد أن أهل مكة كانوا يحتفلون بعيد ديني لهم في رجب، فلا يبعد أن يكون هذا العيد في شهر رجب عيدًا خاصًّا بقبائل مضر أو قبائل الحجاز أو بعضها، وأن يكون هذا أصل حرمته؛ ليتمكنوا من الذهاب والإياب والقيام بمناسكهم في ظل هدنة دينية مقدسة. ولكن ما لبث رجب -في وقت لا يمكن تحديده- أن صار جزءًا لا يتجزأ من الأشهر الحرام3، وقد ذكرتها الآيات دون تفريق بينها في الحرمة والشمول، وأشارت إلى أربعة أشهر من أشهر السنة بصفة مطلقة وتعميمية، وقد كانت بلاد الحجاز قد صارت مهوى أفئدة العرب ومركز محورهم ومحجهم. وللأشهر الحرم أهيمة كبيرة فرضتها ضرورة البيئة العربية وبخاصة في الحجاز, حيث لم يكن هناك سلطان نافذ وازع، وكانت الغارات بين القبائل متواصلة متبادلة والعصبية على أنواع قوية شديدة، والأنفة والحمية متأصلتين، ولهم في ذات الوقت حاجات كثيرة: تجارة لا بد لها من مشترين ومستهلكين وزراع لا بد لهم من المبادلة على غلاتهم وثمارهم، وأعراب لا بد لهم من استيفاء حاجاتهم السنوية من ماعون وثياب وقوت، ولا بد لهم من بيع ما عندهم من أنعام وماشية وشعر ووبر وصوف، فماذا تكون حالتهم لو لم يكن هناك وقت يستطيعون فيه التحرك والاتصال والتبادل مطمئنين آمنين؟! وماذا تكون حالهم لو لم يتيسر لهم إقامة أسواقهم العامة وشهودها في ظل الأمن وعدم الخوف؟! من أجل ذلك كانت قيمة هذه الهدنة التي فرضتها الأشهر الحرم عظيمة الأهمية، عبر عنها القرآن الكريم هذا التعبير البليغ الموجز: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة] ، ومن أجل ذلك أسبغ العرب على هذه الهدنة صفة قدسية وصبغوها بصبغة دينية، وكانوا   1 البخاري 6/ 66. تفسير الطبري 4/ 299. ابن سعد 3/ 27. السهيلي 2/ 60. اليعقوبي 2/ 91. ابن كثير 5/ 195. المقريزي: إمتاع 1/ 531. المصباح 1/ 191. 2 تفسير الطبري 4/ 229. الخازن 2/ 230. 4 دروزة: عصر النبي 210- 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 يعتقدون بأن الإخلال بحرمتها وقداستها يجلب عليهم الشر والنحس، وكان الرأي العام العربي يثور لأي خرق لهذه الهدنة التي أصبحت جزءًا من حياة الناس ومن كيانهم الاقتصادي والاجتماعي والأدبي والديني. وليس من اليسير تحديد أولية الأشهر الحرم، وتشير آيات القرآن إلى أنها قديمة سابقة على عهد البعثة بزمن طويل1، والأرجح أن تكون هذه الحرمة قد تقررت بعد وجود موسم الحج وتقاليده وأسواقه، وبعد وجود الموسم الديني لمضر في الحجاز بالنسبة لشهر رجب. والغالب أن يكون ذلك بعد سيادة قريش على مكة وتنظيم موسم الحج بها وتيسيره، أي بعد حكم قصي بن كلاب لمكة في منتصف القرن الخامس الميلادي، ولا بد أن الحج كان قد تعطل قبل ذلك أو ضعف، وحدثت أحداث جعلت أمن الناس غير مكفول, وتحدثنا الروايات عن صراع بين القبائل في مكة أدى إلى دفن بئر زمزم بها2، كما تحدثنا عن البغي واستحلال الحرمات الذي وقع بمكة، مما أدى إلى ضعف الحج إليها نتيجة للتنافس بين القبائل فيها والضاربة حولها، ونستطيع أن ندرك أن هذه الهدنة؛ لم تكن مرعية قبل حكم قصي، فقد تقاتل قصي بقريش وكنانة مع خزاعة في أيام الحج وفي منطقة الحرم3، ولم يذكر هذا القتال بالاستفظاع والاستنكار كما ذكرت الحرب التي وقعت بعد ذلك بين قريش وكنانة ضد هوازن وقيس، وعرفت بحرب الفجار نسبة إلى الفجور؛ لوقوعها في الأشهر الحرم 4، وهذا مما يدل على أن هذه الهدنة لم تكن مرعية تمامًا قبل عهد قصي، وقد أدى صراع القبائل إلى اختلال الأمن وانقطاع وفود الحجيج أو ضعف قدوم هذه الوفود إلى مكة؛ وتعطلت مناسك الحج ومنافع الناس في موسمه وأسواقه، فحفز هذا ذوي السلطان والنفوذ من الزعماء والرؤساء إلى العناية بأمر الحج وتأمينه ففرضوا الأشهر الحرم، والأرجح أن فرض الأشهر الحرم كان من عمل الأحماس، الذين صار لهم بعض الامتيازات الدينية والتشريعية، والذين كان الناس يسيرون على ما يسنونه لهم ويعتبرونه   1 انظر سورة التوبة 36 البخاري 6/ 66. 2 ابن هشام 1/ 123 وما بعدها. 3 نفسه 1/ 135- 136. 4 ابن الأثير 1/ 359, الأغاني 3/ 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 سننًا دينية واجبة التنفيذ1، ويساعد على تصويب هذا الرأي ما كان لمكة من مركز ديني محترم في نظر سائر العرب، وما كان من اهتمام عظيم لتقرير حرمة الحرم وحرمة الأشهر الحرم عند زعماء مكة وما كانوا يقومون به من أعمال في سبيل رعايتها2. ويرجح أن السعي الأول كان منهم؛ لأن فوائد الحج تعود في المقام الأول على أهل مكة الذين يقوم البيت في بلدهم وتقوم الأسواق العامة في منطقتهم أو حولها، ثم إن حرمة البيت تكسبهم حرمة ومكانة ممتازة بين العرب، وهذه المكانة هي التي هيأت لقريش الزعامة الدينية والأدبية، كما أنها استغلت هذه المكانة في السيطرة على التجارة بين الشام واليمن، مما عاد عليهم بالثروة الكبيرة والمنزلة الرفيعة، وأصبحت زعامة قريش زعامة حقيقية لا شك فيها قبل الإسلام, وبخاصة بعد فشل الأحباش في غزو مكة وارتداد جيشهم عنها، فقال الناس عنهم: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مئونة عدوهم3. وأبرز مثل يوضح زعامة قريش، هو أنها حين وقفت موقف المعارضة للنبي -صلى الله عليه وسلم-لم يجد استجابة لدعوته بين العرب، فلما ألقت قريش لواء المعارضة بعد فتح مكة سنة 8هـ؛ لم يلبث العرب أن دخلوا في الإسلام طائعين, فلم تأت سنة 10هـ حتى كان الإسلام قد انتشر في جزيرة العرب كلها، وحتى كان عمال النبي -صلى الله عليه وسلم- وجباة الزكاة قد انتشروا في كافة أجزاء الجزيرة كلها. وإذا كانت الأشهر الحرم قد سنت للناس، وإذا كانت قريش والرؤساء الذين يعنيهم الأمر قد فكروا في فرض هذه الهدنة على العرب؛ فإنما كان ذلك لدوافع كبيرة وأحداث خطيرة؛ جعلت الرؤساء يستعدون لها ويتخذون الوسائل لدرء ما ينجم عنها من أخطار، ولعل ما أحاط بأطراف الجزيرة العربية من أحداث كتعرض اليمن للغزو الحبشي ثم سقوطها في يد الحبشة، وما تلا ذلك من محاولة الحبشة فرض سلطانها على منطقة الحجاز، ووقوع الأطراف الشمالية والشمالية الشرقية تحت نفوذ الروم والفرس، ونهضة عرب الشمال وقيامهم على التجارة وأخذهم مقاليد الزعامة العربية، كل هذا كان من البواعث والأخطار وأهمها.   1 دروزة: عصر النبي 211. 2 ابن هشام 1/ 144- 145. 3 نفسه 1/ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وكان من الضروري أن تفرض هدنة يوقف فيها القتال ويأمن الناس فيها على أنفسهم, وتتاح لهم فيها فرصة الانتقال والاجتماع والتعارف للمتاجرة والمعاملة والتبادل الأدبي والمادي، وحل المشكلات المعقدة التي تحتاج إلى أمن واطمئنان لحلها. وقد بدأت حركة تجمع وترابط بين القبائل قبيل الإسلام، وبدأت تتكون المجموعات الكبرى. وهذا التحالف بين القبائل نوع من التعبير عن إحساس القبائل بأنها لا تستطيع أن تعيش في مجالها الضيق، وأنها محتاجة إلى غيرها من القبائل؛ تتحالف معها وتؤاخيها وتربط مصيرها بمصيرها، وكذلك سئم العرب الحروب القبلية، وكانت هدنة الأشهر الحرم استجابة لهذه الرغبة التي بدت بين القبائل. وحالة الهدنة تقتضي تقليل فرصة القتال والتشاحن, وبالتالي إيجاد فرصة أوسع للتآلف والتجمع, وكلما ازدادت هذه الفرصة كان ذلك في مصلحة المجتمع العربي. والراجح أن بدعة النسيء التي ابتدعها العرب كانت لهذا الغرض وهو تطويل مدة السلام1، فإذا لاحظنا أن في أسماء الشهور العربية ما يوحي بأنها وضعت في وقت معين، فمثلًا رمضان أخذ اسمه من الرمضاء2 وهي الحجارة الحامية من حر الشمس، كان معنى ذلك أنه كان في الصيف, وأن شهري ربيع الأول والثاني ما يوحي بأنهما كانا من أشهر الربيع. وبلاد العرب بلاد حارة يصعب فيها الانتقال والقتال في أشهر الصيف 3، فإذا   1 انظر السهيلي 1/ 42 وهو يقدر المدة التي بدأ فيها النساء بحوالي 70 سنة قبل ظهور الإسلام -المسعودي: مروج الذهب 7/ 205. 2 المصباح مادة رم ض، ص 325, وروزة ص 213. 3 التوبة 81- 82 "وقالوا لا تنفروا في الحر". انظر ابن هشام 4/ 969، وما بعدها ابن سعد 3/ 218 عن غزوة تبوك وما لقي المسلمون فيها من شدة بسبب الحر وكيف تخلف بعضهم عن القتال وكيف تردد الناس, البتنوني: الرحلة الحجازية 197 "والعرب كانت تنسيء الشهور حتى توافق بين السنين القمرية والشمسية فكانوا يؤخرون سنتهم كل ثلاث سنين شهرًا، وكان السبب في ذلك جعل زمن الحج ثابتًا في فصل من فصول السنة كأحد الربيعين حتى يتيسر لهم القيام به في غير وقت الحر والبرد الشديدين، وخصوصًا في الزمن الذي تتوفر فيه مادتهم التي يتجرون بها من أصواف وأوبار وسمن ودهن. وهذا كله لا يتوفر على الدوام في شهر مخصوص من السنة القمرية" ومما يسند هذا الرأي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال حين حرم بدعة النسيء: "إن الزمان قد استدار كهيئته" وكان ذلك سنة 10 هـ , وفيها كانت شهور الحج أشهر الربيع "انظر التوفيقات الإلهامية سنة 10هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 كانت شهور الصيف مانعة للقتال بطبيعتها، وإذا كانت الأشهر الحرم مانعة للقتال كذلك، فإنه يمكن أن يؤلف من هذه الشهور سلسلة مؤلفة من سبعة أشهر يوقف فيها القتال، وإذا كان لا بد من قتال وطلب ثارات بسبب طبيعة الحياة البدوية وعصبيات العرب، ففي الأشهر الباقية من السنة كفاية للتنفيس عن ثورة الغضب والعصبية، على أن في انقطاع الناس عن القتال سبعة أشهر مجالًا طيبًا لحل ما يمكن حله من المشاكل المعقدة وبخاصة في موسم الحج وأسواقه ومجتمعاته. لكن الأشهر العربية القمرية تدور مع الزمن وتصبح أشهر الشتاء منها أشهر صيف، وأشهر الصيف أشهر شتاء، فابتدعت هذه البدعة لمسايرة مواسم السنة والتوفيق بين حساب السنة القمرية والسنة الشمسية حتى تظل أشهر الحج وأسواقه متصلة بأشهر الصيف وتظل الشهور التي يتوقف فيها القتال مستمرة مستقرة. وإذا كانت بعض الروايات ذكرت أن النسيء كان يجري أحيانًا بطلب من الناس ليتسنى لهم متابعة حروب بدءوها أو طلب ثارات 1 لهم، فإن ذلك لم يكن الأصل في الموضوع؛ فإن بدعة النسيء كانت مقررة وكان يتولاها بيوت من العرب معروفة يتوارثونها، وكانت لها من الأهمية والمكانة ما يوجب الفخر بها والاعتزاز بتوليها، وكانت تقليدًا متبعًا يعلن للناس في موسم الحج من كل عام 2، على أنه يجب ان نضع في الاعتبار أن حروب القبائل لم تكن حروبًا متصلة؛ وإنما كانت عبارة عن أيام بين القبائل تقع على فترات قد تكون متباعدة، فحرب البسوس بين بكر وتغلب التي قالوا: إنها استمرت أربعين سنة، لم تقع فيها المصادمات إلا في سبعة أيام متفرقة على طول هذه المدة3؛ ولذلك فإنه لا يمكن مسايرة هذه الروايات التي قيلت عن بدعة النسيء، وإنما يجب أن تكون قد وضعت لشيء أهم وأعم وأنفع للناس من مجرد الجري وراء العصبية والثارات. وإذا كان قد أسيء استعمال هذه البدعة مؤخرًا مما استدعى أن يهاجمها القرآن بسبب سوء استعمال الناس لها؛ حتى لا يتجرأ الناس على   1 ابن هشام 1/ 43- 45 "انظر الحاشية ص 44 وفيها تعليل مزدوج للنسيء أي أنه كان للقتال أحيانًا ولمسايرة المواسم أحيانًا". 2 ابن هشام 4/ 45- 46. 3 ابن الأثير 1/ 323. النويري 15/ 400- 405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 انتقاص الحرمات وخرق التقاليد النافعة، فإن الأصل في ابتداعها كان لتحقيق نفع أكبر وغرض أسمى. على أن القرآن لم يهاجم هذه البدعة إلا بعد أن قامت الدولة الإسلامية وأصبح هناك سلطان يردع الظالم ويكف يد المعتدي، وأصبح المجتمع يتجه إلى مثل أخرى غير المثل الجاهلية، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار بدعة تغير من أشهر الحج. وعلى كل حال فإن تقليد الأشهر الحرم كان تقليدًا خطيرًا له أثر كبير في حياة العرب الاجتماعية على تعدد وجوهها، وفيه دلالة كافية على قوة عقول الذين أنشئوها وسعة نفوذهم, وفيه دليل كذلك على نهضة قومية وفكرية أخذت تباشيرها تبدو في الجزيرة العربية بعد الأحداث الجسيمة التي مرت بها، وكان لمنطقة مكة ولقريش بوجه خاص الدور الأول، الأمر الذي هيأها لمركز الرياسة والذي هيأها فيما بعد للقيام بالدور الأول فيما جاء به الإسلام من نهضة عربية شاملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الفصل السادس: الحالة الاقتصادية في بداية القرن السادس الميلادي تبدو مكة ممسكة بزمام التجارة في بلاد العرب، تنعقد فيها وحولها أعظم أسواق العرب التجارية والأدبية في موسم الحج من كل عام، وقوافلها التجارية تجوب أطراف شبه الجزيرة العربية، تحمل التجارة بين الشرق والغرب، متجهة إلى اليمن وإلى الحبشة وإلى الشام وإلى العراق. وقد أتاح لها هذه الفرصة موقعها الممتاز في وسط طريق التجارة البري المار بالحجاز، وهو الطريق الوحيد الذي بقي آمنًا في ذلك الوقت1. وقيام البيت الحرام الذي انعقد إجماع العرب على تعظيمه والحج إليه، كما أنها بعدت عن منطقة التصارع الدولي لبعد موقعها؛ فنجت مما أصاب غيرها من أطراف الجزيرة العربية من الوقوع في مجال العراك القائم بين الشرق والغرب -الفرس والروم- في ذلك الوقت، ولبعد موقعها وصعوبة وصول الجيوش إليها احتفظت باستقلالها، كما احتفظت بطابعها العربي الأصيل، والحملة العسكرية الوحيدة التي وجهت إليها هي حملة الأحباش سنة 570م, وقد باءت بالفشل، فعزز فشلها مركز مكة عند العرب جميعًا، وأصبحت تتمتع في المجال العربي بتوجيه عام، بعدما أصاب الممالك القائمة في أطراف الجزيرة من انهيار، ووقوعها جميعًا تحت سلطان الدول الكبرى. وقد أتاح لها هذا -كما أتاح لها موقفها الحيادي- أن تمثل دور الوسيط المحايد في نقل التجارة التي كانت ضرورية لكل من الطرفين المتنازعين, وبذلك تمتعت بظروف اقتصادية طيبة من مزاولتها للتجارة بشقيها, الداخلية والخارجية, وقد أجرى رجال مكة الترتيبات المفصلة التي تكفل لهم الانتفاع بهذا الظرف على أكمل وجه، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير، وجنوا من وراء ذلك ثروة كبيرة عوضتهم عن فقر البيئة التي تحيط بمكة، وجعلتهم يحتلون مركز الزعامة في الجزيرة العربية كلها في بداية القرن السابع الميلادي.   1 Huzayyen , Arabia and the far East, p. 142- 143 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقد مرت مكة قبل استقرار أمرها في يد قبيلة قريش بطور من الاضطراب والحروب، والرحلات والغزوات القبلية، والقتال على السيادة، حتى استقر أمر مكة في آخر الأمر في يد قبيلة قريش في منتصف القرن الخامس الميلادي، وعلى يدها نالت كل هذا التوفيق الذي وصلت إليه. وتحدث المصادر عن أن قبيلة خزاعة التي سبقت قريشًا على حكم مكة، والتي كانت لا تزال موجودة حول مكة عند ظهور الإسلام؛ كانت قد قامت بنشاط كبير في الدعاية للحج إليه، واهتمت بتيسير الماء والطعام للوافدين، ومعنى هذا أنها اهتمت بخلق مورد اقتصادي لمكة عن طريق قدوم الحجاج إلى البيت. ولا ندري أكانت خزاعة تقيم أسواقًا لنوع من التبادل التجاري بين الوافدين, أم كانت تكتفي بالهدايا والنذور، وما تحصله من ضرائب على القوافل المارة بها، إلى جانب القيام على الرعي وتريبة الإبل في البادية، وإن كان البيع والشراء أمرًا ضروريًّا في مثل هذه الحال، ولا نستطيع أن نحدد متى نشأت الأسواق التجارية حول مكة، وإن كان من المؤكد أنها نشأت بالتدريج في المنطقة الواقعة بين مكة والطائف نتيجة لنمو المدينتين ونمو الحج إلى بيت مكة. والراجح أن ذلك حدث بالتدريج منذ بداية القرن الخامس الميلادي. ويظهر ذكر عكاظ ومجنة وذي المجاز كأسواق تجارية وأدبية بصورة واضحة في القرن السادس، حين بدأ نفوذ الجنوب ينحسر عن هذه المنطقة من الجزيرة العربية، بعد اضطراب الأحوال في اليمن وتعرضها للغزو الأجنبي1، وظهور قبائل الشمال كعنصر فعال مناهض لنفوذ الجنوب, حتى انتقلت زعامة الشمال إلى الشماليين, وأصبح أهل الجنوب تبعًا لهم كلما وفدوا على الشمال. وقد وافق ظهور هذه النهضة الشمالية قيام قبيلة قريش وسيطرتها على شئون مكة، واهتمامها بالبيت الحرام وتنشيط الحج إليه, وكان هذا عاملًا فعالًا في نهوض المدينة المكية ونهوض هذه المنطقة كلها تبعًا لذلك.   1 جواد علي 4/ 191. البتنوني 199 "اتخذ العرب عكاظ سوقًا بعد الفيل بخمس عشرة سنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 تجارة قريش الداخلية والخارجية * ... تجارة قريش: تاجرت قريش في كل ما تنتجه شبه الجزيرة العربية من عروض, كما كانت تتاجر كذلك في المجلوبات الخارجية من حاصلات الشرق والغرب. قد انتفعت مكة بموقعها الجغرافي في منتصف طريق التجارة, وبوجود البيت الحرام بها. ولما كانت بلدًا غير ذي زرع فقد اعتمدت على التجارة وما يجلب لها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الخارج، وقد كانت مكة قبل القرن السادس تقتصر على التجارة الداخلية حيث كان النشاط التجاري الخارجي في يد اليمن. وكان أهل مكة يتاجرون في حاصلات الجزيرة العربية, أو ما يصل إلى أيديهم من عروض التجارة الخارجية على يد تجار اليمن، ولم تكن مكة تجني من وراء ذلك أرباحًا كبيرة تمكن أهلها من إحراز ثروة كبيرة، إنما كانت تسمح لهم بالإعاشة. ولكن في بداية القرن السادس كانت حالة اليمن قد تدهورت نتيجة للصراع الداخلي بسبب الخلاف الديني نتيجة لانتشار اليهودية والمسيحية فيها والتنافس بين الدينين؛ ونتيجة لوقوعها في منطقة التصارع الدولي بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية, وقد استخدمت الأخيرة الحبشة حليفتها لإقرار النفوذ الرومي على جنوب بلاد العرب عن طريق غزو اليمن، وتكررت غزوات الحبشة على اليمن حتى سقطت في يدها في النصف الأول من القرن السادس, وقد استمر حكم الحبشة لليمن حتى أخرجهم منها الفرس في حوالي سنة 575م ولم تتحرر اليمن من الاحتلال الأجنبي إلا بعد ظهور الإسلام وانضمامها إلى الدولة العربية الإسلامية. وقد أدت كل هذه الظروف إلى أن تفقد اليمن مركزها التجاري. وقد صحب ذلك ظهور نهضة القبائل المضرية في الشمال, والتي ما لبثت أن تحررت من نفوذ الجنوب, بدأت تقوم بدور إيجابي في الجزيرة العربية. ولما كانت مكة في ذلك الوقت قد حظيت بنوع من الاستقرار والتنظيم على يد قبيلة قريش، التي نظمت الحج ونشطت القدوم إلى هذه البقعة المتوسطة، وأقرت حرمتها وحرمة الأشهر الحرم للقدوم إليها والتجمع في أسواقها؛ فقد أخذت قريش تحتل المكانة التجارية التي كانت تحتلها اليمن، وقد ساعدها على أن تنال هذا المركز النزاع الذي احتدم أواره بين الفرس والبيزنطيين في الشمال، وانشغال كل من هاتين الدولتين الكبيرتين بهذا النزاع الدموي، وكذلك ما لحق الممالك العربية على أطراف العراق والشام من تدهور نتيجة لاشتراك المناذرة -ملوك الحيرة- في هذا الصراع إلى جانب الفرس، واشتراك الغساسنة إلى جانب الروم، ثم تغير سياسة الدولتين الكبيرتين تجاه المملكتين العربيتين1 الأمر   1 حتى 100,95,94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الذي أدى: أولًا، إلى قفل طريق التجارة المار بالعراق فمدن الشام، وثانيًا، اضمحلال نفوذ هاتين المملكتين على القبائل البدوية، حتى لم تعد الحيرة قادرة على حماية التجارة الفارسية في بلاد العرب، إلا عن طريق إتاوات تدفعها لهذه القبائل1، لتمرير هذه التجارات وحمايتها، وحتى مع دفع هذه الإتاوات فإن القبائل كانت كثيرًا ما تعتدي على التجارة، وقد تجرأت فدخلت في حرب ضد الدولة الفارسية وهزمت جيوشها وجيوش الحيرة معها في موقعة ذي قار2 وهي الموقعة المشهورة عند العرب. كذلك اضطربت الأحوال بين الروم والغساسنة حتى لقد أخذت هذه المملكة تهاجم أطراف الدولة البيزنطية مع القبائل البدوية بعد أن كانت تحمي حدودها. وقد استفادت مكة من هذه الظروف كلها لتحتل مركز الوسيط المحايد، لنقل التجارة بين الشمال الجنوب، ولبعد موقعها عن نفوذ الدولتين ولحاجة الدول إلى هذه التجارة العالمية وبخاصة الروم؛ فقد قبلت أن يقوم رجال مكة بهذا الدور، فخرجت مكة عن عزلتها إلى المجال الخارجي، وأخذ رجالها عهودًا من الدول للمتاجرة في أراضيها في نهاية القرن الخامس الميلادي3 لتسمح لتجار قريش أن يدخلوا بلادها في سلام، وقد قام بهذا الدور أبناء عبد مناف: هاشم وإخوته الذين كانوا أصحاب النفوذ الأقوى في قبيلة قريش4. وقد كان هاشم رجلًا حكيمًا نشيطًا، واستطاع أن يقوم على ترتيب القوافل التجارية؛ فجعل لها رحلتين في السنة رحلة في أشهر الصيف إلى الشمال، ورحلة في أشهر الشتاء إلى الجنوب، وقد ذكر القرآن خبر هاتين الرحلتين في معرض تعداد فضل الله على قريش5، وقد عمل على تأمين طرق القوافل بما عقده من محالفات مع   1 ابن الأثير 1/ 378. 2 نفسه 1/ 291. 3 حتى 94 جواد علي 4/ 139- 140 "إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ولد في سنة 570 م، ومات جده عبد المطلب بعد ذلك بثماني سنوات وهو في سن الثمانين، فمعنى ذلك أن عبد المطلب ولد في حوالي سنة 498 م، ومات والده هاشم بعد ذلك بقليل، وكان قد أخذ عهدًا منن الروم للمتاجرة في الشام، فمعنى ذلك أن هاشمًا فعل ذلك في نهاية القرن الخامس تقريبًا" انظر ابن هشام 1/ 180 اليعقوبي 1/ 201، 10/ 2/2 الطبري 2/ 12/ 32. 4 الطبري 2/ 12- 13. ابن الأثير 1/ 10 اليعقوبي 1/ 201. 5 انظر سورة قريش، ابن هشام 1/ 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 رؤساء القبائل الضاربة على جنبات طرق التجارة، فكان يحمل لهم تجاراتهم دون أجر؛ وبذلك ربط هاشم مصالح القبائل الاقتصادية بمصلحة مكة، وكون بذلك شبكة تجارية تربط مكة بما حولها، وبذلك أخذت قريش تسيطر شيئًا فشيئًا على التبادل التجاري بين الشمال والجنوب، وعظمت قوافلها حتى لتبلغ القافلة الواحدة خمسمائة وألفي بعير تحمل عروض التجارة المختلفة. وقد بلغ قيمة ما تحمله قافلة عدد جمالها خمسمائة وألف بعير خمسين ألف دينار1، وهو مبلغ كبير إذا قِسناه بقيمة العملة في تلك الأيام. وكانت القوافل تحمل حاصلات الجنوب؛ فتحمل من حاصلات الهند المنتجات التي ترد إلى مواني الجنوب، وأهمها الذهب والقصدير والحجارة الكريمة والعاج وخشب الصندل والتوابل والأفاوية كالبهار والفلفل ونحوهما، والمنسوجات الحريرية والقطنية والكتانية والأرجوان والميعة والزعفران والآنية من الفضة والصُّفَّر والحديد. كما تحمل من حاصلات أفريقيا الشرقية العطور والأطياب وخشب الأبنوس وريش النعام والجلود والذهب والعاج والرقيق2. كما تحمل من حاصلات اليمن البخور واللبان والمر واللادن والعطور والحجارة الكريمة كاليشب والعقيق والجلود ذات الرائحة الطيبة3. ومن حاصلات جزيرة سقطرة العود والند، ومن البحرين اللؤلؤ. وتحمل من الشمال القمح والدقيق والزيت والخمر ومصنوعات فينيقيا4. هذا بالإضافة إلى ما تحمله من حاصلات بلاد العرب نفسها من الزيت والبلح والقرظ والصوف والوبر والشعر والجلود والسمن5. كان تجار مكة يحملون هذه البضائع إلى الشمال والجنوب في رحلات الصيف والشتاء. وكانت البضائع تفرغ في مكة، ثم تخرج منها في القوافل إلى الجهات الأخرى. وقد اعتمد الروم على تجارة مكة إلى حد كبير، وخصوصًا بعد أن احتدم الصراع بينهم وبين الفرس، وأصبح الفرس يسيطرون على التجارة الواردة عن طريق الشمال المار   1 اليعقوبي 1/ 202. بودلي 35- 38. 2 الطبري 2/ 181 جورج فضلو: العرب والملاحة 76. 3 الطبري 2/ 57 الواقدي 65. الأغاني 1/ 64- 65، جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام 151. 4 ابن هشام 1/ 147، أنساب الأشراف 1/ 58- 90 جورجي زيدان: نفسه 178- 179. 5 الطبري 2/ 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بخليج العرب ثم العراق، ويمنعونها من الوصول إلى أيدي أعدائهم أو يبيعونها لهم بأثمان باهظة، فكانت بيزنطة تعتمد على تجارة مكة وخاصة الحرير، حتى ليستظهر بعض المؤرخين الغربيين أنه كان في مكة بيوت تجارية رومية تزاول التجارة للروم، كما كان فيها أحباش يرعون مصالح قومهم1. وكانت القوافل التي تقصد الشام تتسوق من أسواق عينتها لها الحكومة البيزنطية؛ لتحصل منها على الضرائب ولتراقب الوافدين الأجانب إلى بلادها، فكانت تنزل أيلة -العقبة- ومنها إلى غزة حيث تتصل بتجار البحر المتوسط، ومن غزة يذهب بعض التجار إلى بُصرى وإلى بيت المقدس2. كما كان لمكة صلات قوية بالحبشة عن طريق البحر الأحمر، ولا بد أن أهل مكة كانوا يستعملون البحر في نقل متاجرهم إلى الحبشة عن طريق ميناء الشعيبة - وكانت الشعيبة ميناء مكة، إليها ترد السفن قبل جدة، ثم أخذت جدة موضعها في أيام الخليفة عثمان بن عفان3- أو بعض مواني اليمن القريبة، ويظهر من روايات الأخباريين أن أهل مكة كانوا يستعملون هذا المرفأ والمرافئ القريبة منهم؛ للاتصال بالحبشة والمواني الأفريقية المقابلة لهم، فلا يدفعون ضرائب المرور من أرضين تقع في اليمن وهي منافسة لهم، ولا يحتاجون إلى وضع حماية قوية على القوافل لمرورها بين قبائل عديدة إذا استعملوا مواني اليمن، فتكلفهم أسعارًا مرتفعة. ثم إن اليمن بعد زوال الأحباش عنها كانت في حكم حاكم فارسي، ولا بد أن تتأثر تجارة اليمن بالحبشة بهذا التغير في الحكم، ولا بد أن يؤثر ذلك في المواني اليمنية وهي أبواب التجارة مع أفريقيا4. أما أهل مكة فكانوا تجارًا محايدين علاقتهم حسنة مع الروم ومع الفرس، وكان من مصلحتهم الوقوف على الحياد، ولهذا كان من مصلحتهم الاستفادة من المواني القريبة منهم في التجارة مع الحبشة، ولا يستبعد استخدام أهل اليمن هذه المواني.   1 Olear , op. cit. pp 184 فجر الإسلام 15. 2 البخاري 1/ 4 ابن الأثير 2/ 10 فجر الإسلام 15. 3 ياقوت 11/ 351 الطبري 2/ 69، جواد علي 4/ 203، جورج فضلو: العرب والملاحة ص4. 4 جواد علي 4/ 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 كذلك لحيادها ولبعدها عن النزاع السياسي الذي كان بين الفرس وبين الحبشة وحلفائهم الروم. ولذلك لا تحدثنا الروايات كثيرًا عن قوافل الجنوب، بينما كانت قوافل قريش متصلة دائمًا نحو الشمال، كما تحدثنا عن رحلات بحرية إلى الحبشة التي كانت لقريش متجرًا ووجهًا1. ولعل من مؤيدات اتساع هذا الأفق التجاري البحري الهجرة التي قام بها المسملون إلى الحبشة2 وليس من المعقول أن يهاجر المكيون إلى بلدلم يكونوا يعرفونه، وهذه المعرفة تدل على أن هذه البلاد التي اتصل بها المكيون في أسفارهم التجارية3. وفي القرآن ذكر كثير لمصر ونهرها وما يتفرع منه من أنهار. وما يقوم فيها من أهرامات وقصور، وأرض زراعية وعمران4, وآيات القرآن تلهم أن أهل مكة كانت لهم صلاة بمصر. وأن أسفارهم التجارية قد وصلت إليها وأنها قد رأوها وشاهدوا نيلها وأرضها وآثارها، على أن صلة العرب بمصر قديمة؛ فإنهم كانوا يتاجرون فيها وينقلون إليها حاصلات الجنوب من البخور والمر الذي كان لازمًا لمعابدها، وقد عثر على نقش على تابوت في الجيزة مكتوب بالخط العربي الجنوبي وباللهجة المعينية، وهو مؤرخ بالسنة الثانية من حكم بطليموس بن بطليموس أي سنة 261 ق. م، ويدل النقش على أن معينيًّا كان يسمى زيد -إل بن زيد، كان يشتغل بالكهانة في أحد المعابد المصرية، كان يستورد المر والزرير -قصب الطيب- Calamus من بلاده للمعبد ويصدر إليها على السفينة التجارية التي يملكها أثوابًا جميلة من البز المصري5. ولا بد أن هذه التجارة في حاصلات الجنوب التي كانت لازمة لمصر كانت مستمرة بعد ذلك، وأنه بعد انتقال التجارة إلى يد قريش، كان تجار قريش يقومون بنقل قسط من هذه التجارة، وأن منهم من وصل إلى مصر وتاجر فيها، وقد عرف المكيون الأقشمة المصنوعة في مصر، وكانوا يسمونها القباطي.   1 الطبري 2/ 32، 69، 295 الأغاني 8/ 52. 2 انظر سورة النحل 41، 110، الطبري 2/ 68- 69. 3 أنساب الأشراف 1/ 380، حتى 128. 4 انظر كلًّا من سورة الفجر 10- 11 الزخرف 51 الحج 45 - 46 الروم 9. 5 العرب والملاحة البحرية ص 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 والآيات القرآنية التي تشير إلى البحر وعواصفه وما يجري فوقه وما يستخرج من جوفه1، والتي يمتاز بوضوحها وجلائها الرائع، ليست إلا صدى للنشاط التجاري والاتصالات البحرية بين الحجاز والحبشة وغيرهما. ومع ما في هذه الآيات من تعدد لنعم الله، إلا أنها بما تحمل من طابع الخطاب القريب تدل على أن الكلام موجه إلى المخاطبين القريبين وهم أهل احجاز وأهل مكة بنوع خاص، وتدل على ما كان لهؤلاء من صلة بالأعمال البحرية المتنوعة، وما كان يقوم في ثغور الحجاز وسواحله من حركة وملاحة، وصيد وغوص، وما كان لأهل الحجاز وبخاصة مدنه وتجاره من منافع عظيمة، وكثرة الآيات وتكرار التعداد وتنوع الأساليب، وهذه الحفاوة القرآنية في الإشارة إلى البحار وما فيها وما يجري فوقها وما يعود منها من المنافع العظيمة يمكن أن تدل على أن حركة الملاحة والصيد والغوص لم تكن ضعيفة2، وأنها كانت مما يعول عليه أهل الحجاز في معاشهم وحياتهم التجارية والاقتصادية تعويلًا غير يسير، وأنهم كانوا يعرفون البحر وركوبه ويستخدمونه في أغراضهم المختلفة. ولم تكن قريش حين سيطرت على التجارة تملك سفنًا في البحر الأحمر، ولكنها من غير شك كانت تنقل تجارتها من الحبشة وإليها عبر هذا البحر، ولا بد أن أهل مكة كانوا يستخدمون سفنًا تعمل لحسابهم3. أما صلات قرييش بالفرس فلم تكن على قدر كبير؛ لأن التجارة مع فارس كانت في يد عرب الحيرة الذين كانوا يدبرون أمر وصول هذه التجارة إلى أسواق العرب، وكانوا يحملون لهم من هذه الأسواق ما هم في حاجة إليه من حاصلات الجزيرة العربية، ومع ذلك فقد كانت تجارة قريش تدخل بلاد فارس عن طريق قوافل تخرج من مكة إليها، عبر الطريق الصحراوي المار بشرقي يثرب4 إلى العراق، وتحدثنا الروايات عن أشخاص من رجال مكة ماتوا في طريق عودتهم من العراق5.   1 انظر كلًّا من سورة الأنعام 97، التوبة 96، يونس 22، النحل 14، الإسراء 66، النور 43، فاطر 12، الشورى 31- 32، الرحمن 19 -24. 2 الأغاني 3/ 118. 3 الجاحظ، البيان والتبيين 1/ 207. 4 الطبري 2/ 181. 5 ابن الأثير 2/ 10، ياقوت 10/ 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وكانت التجارة التي تحمل من الجنوب أو من الشمال أو من الشرق تفرغ في مكة، حيث تستهلك البيئة المحلية منها ما تحتاج إليه؛ ثم يحمل الباقي إلى الأماكن المحتاجة إليه، فتحمل حاصلات الجنوب إلى الشمال، كما تحمل حاصلات الشمال إلى الجنوب، فوق ما يحمل معها من حاصلات البادية العربية، مما تجمعه قريش من تجارة أهل البادية والمدن الحجازية، مما يحمل إلى مكة أو إلى الأسواق القريبة منها في عكاظ ومجنة وذي المجاز في موسم الحج. وقد كانت صلات مكة التجارية كبيرة بالطائف التي كانت تنتج مقادير كبيرة من الزبيب والنبيذ الذي كانت تستهلك مكة منه كثيرًا، ومن الجلود المدبوغة، وكان المكيون يشركون أهل الطائف أحيانًا في قوافلهم التجارية1 كما كانت صلات مكة التجارية كبيرة بيثرب، حيث يمتار أهل مكة من تمرها ويشترون كثيرًا مما تنتجه من الحلي والسلاح التي كان اليهود يقومون على صناعتها2. وكانت في مكة سوق دائمة للتبادل التجاري وبخاصة مع القبائل القريبة منها، حيث تشتري مكة حيوانات الجزيرة ومنتجاتها من جمال وخيل وحمير وسمن وقرظ وجلود، وتبيعه لمن يحتاج إليه من الأعراب3، كما تبيعهم ما يحتاجون إليه من المجلوبات الخارجية، وكانت تجارة الملابس والأطعمة والشراب رائجة في مكة، وبخاصة في موسم الحج. وصارت مكة تعج بالتجار من كل ناحية وبخاصة من أهل الشام والروم والفرس، فساكنوا المكيين وتحالفوا مع أثريائهم، وقد اتخذوا فيها مستودعات لخزن بضائعهم وتصريفها، وكان تجار الشام خاصة يجلبون القمح والزيوت والخمر الجيدة إلى تجار مكة4، وقد ورد في كتب السيرة والرجال أسماء بعض هؤلاء ممن كانوا من بلاد الشام في الأصل، ثم سكنوا مكة ودخلوا في الإسلام من أمثال تميم الداري 5 وكيسان 6.   1 ابن كثير 3/ 221. 2 البخاري 3/ 60. 3 ابن الأثير 1/ 344، ابن كثير 3/ 45. 4 أسد الغابة 4/ 158. 5 نفسه 5/ 145. 6 نفسه 4/ 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وقد ذكر المستشرق أوليري oleary أن مكة أصبحت مركزًا للصيرفة يمكن أن يدفع فيها التجار أثمان السلع التي ترسل إلى بلاد بعيدة، كما كانت عملية الشحن والتفريغ لهذه التجارة الدولية تتم هناك، وكذلك كان يتم التأمين على المتاجر وهي تجتاز الطرق المحففوة بالمخاطر1، وقد كان يساعد قريشًا على تأمين تجارتها ما كانت تتمتع به من حرمة عند العرب، وما كان لها من ارتباطات مع القبائل الضاربة على طول طرق التجارة. ولم تكن قوافل مكة تجارة أفراد؛ وإنما كانت تجارة مدينة، وكانت قريش كلها تشارك فيها، وكان كبار التجار يقومون على هذه القوافل التي تضم أموالًا لأفراد متعددين، منهم من يسافر على تجارته، ومنهم من يستأجر آخرين، ومنهم من يقرض ماله للمتاجرة على النصف، وأحيانًا كانت القافلة تحمل أموالًا لأهل مكة جميعًا2. ولم تكن التجارة خاصة بالرجال دون النساء، فكان منهن ثريات اشتغلن بالأعمال التجارية، مثل خديجة بنت خويلد التي كانت تتجر بمكة، وكانت تستأجر الرجال للسفر بتجارتها إلى الشام3، ومثل الحنظلية أم أبي جهل التي كانت تتاجر في العطور تجلب لها من اليمن 4، وقد أشار القرآن إلى ذلك حيث قال: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء] وكانت المرأة لا تنكح إلا ولها مال5. وعلى ذلك فتجارة مكة الخارجية ليست تجارة أفراد، وإنما هي تجارة جماعية. وقد أدى نشاط بعض أسر مكة في التجارة إلى حصولها على ثروات طائلة، وقد أسهم رجل واحد من أهل مكة هو أبو أحيحة بن سعيد بن العاص بن أمية بثلاثين ألف دينار في القافلة التي كان يقودها أبو سفيان، وكانت السبب في موقعة بدر سنة 2هـ 6، ومبلغ مثل هذا ليس بالشيء القليل بالنسبة للوضع المالي في تلك الأيام. كذلك كان   1 O,lery, Arabia Befofore Mohammad, P. 182 2 الواقدي، المغازي 18. 3 أسد الغابة 1/ 16، ابن كثير 2/ 294- 295. 4 الأغاني 1/ 64- 65. 5 سير أعلام النبلاء 1/ 231. 6 الواقدي، المغازي 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 عبد الله بن جدعان التيمي والوليد بن المغيرة المخزومي من أثرياء مكة، وكان الأول يشرب في كأس من الذهب حتى سمي حاسي الذهب، وقد اشتهر بنو مخزوم بالثروة والمال حتى كان أحدهم -وهو عبد الله بن أبي ربيعة- يلقب بعدل قريش، وقد كان تاجرًا موسرًا، وكان متجره إلى اليمن1. كما كفن أحد الموتى وهو عبد المطلب بن هاشم في حُلل ألف مثقال من الذهب، وطرح عليه المسك حتى ستره.   1 الأغاني 1/ 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الربا : كان الربا مظهرًا من مظاهر الحركة الاقتصادية والتجارية، وكان أهل مكة -كما كان أهل الحجاز واليهود- يعولون عليه كثيرًا في تنمية ثرواتهم، وكان الربا أحيانًا يبلغ أضعاف القرض نفسه1، فتؤكل بذلك أموال المدين وتذهب حقوق الأفراد. وفي القرآن آيات كثيرة يستلهم منها أن الربا كان راسخًا رسوخًا شديدًا، وأنه كان جزءًا من الحياة الاقتصادية وبخاصة عند التجار وأهل المدن، وإذا كانت معظم الآيات التي نزلت بشأن الربا نزلت بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب وقيام الدولة الإسلامية بها2؛ إلا أن بعضها نزل بمكة أو بعد فتحها3 مما يدل على أنها كانت موجهة إلى المكيين، وأن الربا كان أمرًا شائعًا عامًّا4. وقد أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع سنة 10 هـ إسقاط ربا عمه العباس وكان من أغنياء مكة وتجارها، وتحمل آيتان من سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة] إنذارًا شديدًا لمن يزاولون الربا، مما يدل على رسوخ قدم الربا، وعلى أنه كان يشغل حيزًا كبيرًا من حياة المدن الحجازية الاقتصادية، وأنه لم يكن من السهل القضاء عليه، مما استلزم قوة الإنذار وإعلان الحرب من الله ورسوله.   1 اليعقوبي 2/ 10. 2 انظر سورة ِآل عمران 130، النساء 160- 161. 3 انظر سورة الروم 39. 4 انظر سورة البقرة 275، 278- 279، ابن هشام 2/ 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وإلى جانب الربا كانت المضاربات وبيع البضائع المتوهمة أو البضائع التي لم تصل مكة بعد؛ فلطالما باعوا البضائع قبل وصولها من اليمن أو الشام، وباعوا المحاصيل قبل حلول يوم الحصاد بوقت طويل، فأفلست بيوتات واغتنت أخرى بين عشية وضحاها، ونحا صغار التجار نحو كبارهم في المضاربات فيما بينهم، ولطالما عملوا على غش البدو السذج؛ فاحتقر البدوي الحضريَّ لهذه الصفة، وقد قال أهل البادية: إن قريشًا تصغير قرش وهو سمك القرش المفترس يعبرون بذلك عن افتراسها لغيرها1. وعلى الرغم من ذلك فقد كانوا مجبرين على أن يتعاملوا مع القرشيين لبيع إبلهم وأغنامهم وأصوافهم وحاصلاتهم من البادية2.   1 البخاري 3/ 60. 2 نفسه 3/ 71-72، بوهلي 36- 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 النقد : كان النقد المتداول هو الدينار والدرهم. والدينار عملة ذهبية والدرهم عملة فضية، وكان التعامل بهما دارجًا في الشام والعراق ومصر. وقد عرفهما أهل الحجاز وتعاملوا1 بهما، وكان أهل مكة يملكون ثروة كبيرة من هذه العملة2. ولم يكن هذان النقدان حجازيين، ولم يضربا في الحجاز اقتباسًا من الفرس والروم؛ فإنه لم يكن في الحجاز دولة لها سكة خاصة؛ وإنما كان المتعامل به هو الدينار والدرهم الأجنبيين، ولعل في هذا دلالة على صلة الحجازيين بعامة ومكة بخاصة بجيرانهم من الروم والفرس صلة تجارية كبيرة، وليس لدينا ما يثبت أن أهل مكة أو أهل الحجاز كانوا يستصنعون لحسابهم في دور الضرب العراقية أو الشامية الدراهم أو الدنانير. وبلاد العرب كانت تنتج معدن الذهب والفضة، وكانت غنية بهما في العصور القديمة. وقد كان يجري التعامل بهما وزنًا2، كما ذكر مرارًا في القرآن في معرض   1 انظر كلًّا من سورة آل عمران 75، يوسف 20، التوبة 34، الواقدي 22. 2 ابن هشام 1/ 240. 3 ابن هشام1/ 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 استعمالهما حليًّا وأواني في الدنيا والآخرة1، مما يدل على أن هذين المعدنين كان ينظر إليهما على أنهما مقياس الثروة، كما كان من الملك المحبب المحروص عليه عندهم، شأن البيئات المتحضرة المجاورة، وفي الروايات؛ ما يدل على أن أغنياء مكة استعملوا الذهب كآنية؛ فقد كان ثري مكة عبد الله بن جدعان يشرب في أكواب من الذهب حتى سمي حاسي الذهب2.   1 انظر كلًّا من الكهف 31، الزخرف 31، 71، الإنسان 15، 16، 21. 2 الجاحظ: البيان والتبيين 1/ 22 -23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الأعداد والحساب : في القرآن ذكر للأعداد ومضاعفاتها من آحاد وعشرات ومئات وألوف ومئات الألوف، كما ورد ذكر كسور الأعداد من نصف وثلث وربع وخمس وسدس وثمن وعشر1، الأمر الذي يدل على أن العرب بعامة وأهل المدن بنوع خاص كانوا على علم بالأعمال الحسابية من ضرب وقسمة وجمع وطرح وكسور، كما يدل على سعة الأفق والصلات وكثرة التعامل.   1 انظر كلًّا من البقرة 226، 227، 234، 259، 261، آل عمران 124، 125، النساء، 3، 11، 12 الأنفال 11، 41، 65، الكهف 22، الصافات 147، المعارج 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 المكاييل والموازين والمقاييس : والكيل والميزان والمقياس معروفة عند العرب، وقد ورد ذكرها في القرآن؛ ولكنها ذكرت دون تعيين إلا القنطار والذراع على غموض في مقدارهما1. وقد جاء ذكر الكيل والميزان والقسطاس في مناسبات أكثرها جاء في معرض الأمانة والحث على الاستقامة في الكيل والوزن، مما يدل على أنه كانت توجد مكاييل وموازين، وأن هذه المكاييل والموازين كان بعضها مضبوطًا وبعضها غير مضبوط، والآيات القرآنية تحث على استعمال المضبوط منها؛ مما يدل على أن حيل الغش فيها كانت فاشية، والتجار كانوا يستغلون جهل المتعاملين معهم وبخاصة أهل البادية، فيأخذون منهم وزنًا أوكيلًا   1 انظر سورة آل عمران 14، 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وافيًا ويبيعون لهم بمكاييل وموازين غير وافية1 ويمكن أن نستدل من آيات القارعة 6 - 9 أن الميزان المستعمل كان هو الميزان ذا الكفتين2. كما نعرف من المكاييل الصاع3. والمد هو ربع الصاع، وأن الصاع وحدة الكيل وأنه يساوي وزن خمسة أرطال وثلث4، كما كان الرطل مكيالًا أيضًا. كما كانوا يعرفون الأوقية والنش - وهو نصف الأوقية-5 وأن الأوقية كانت تساوي أربعة وعشرين درهمًا، وأنه كانت توزن بها المعادن كالذهب والفضة، وكذلك المثقال وهو درهم وثلاثة أرباع الدرهم.   1 انظر كلًّا من سورة الأنعام 152، الإسراء 35، الرحمن 9، المطففين 1-3. 2 البخاري 3/ 71- 72. 3 المصباح مادة صوع. 4 نفسه مادة رطل. 5 الواقدي 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 النشاط الزراعي والرعوي : إذاكانت منطقة مكة مجدبة غير صالحة للزراعة، فإن المناطق المجاورة لها -وبخاصة منطقة الطائف والوديان الموجودة بين مكة وجدة -كانت تنبت مختلف النباتات، ويلهم ما في القرآن من آيات كثيرة تحتوي أوصافًا للأعمال الزراعية ونتاجها من زروع وكروم ونخيل وزيتون ورمان وفاكهة، والزرع ذو الحب المتراكب كالقمح والشعير - أن هذه الزراعات كانت قائمة، وأن أهل هذه المناطق من الحجاز كانوا متقدمين شوطًا غير قصير في الأعمال الزراعية1. وأن هذه المناطق الزراعية كانت تمون مكة والقرى الأخرى التي لا تستطيع أن توفر حاجاتها الغذائية بنفسها بسبب جدب التربة وشح المياه، وأن أهل مكة أنفسهم كانوا يملكون مزارع وحدائق وآبارًا بالطائف، وتتحدث الروايات عن رجل من العراق اسمه عدَّاس كان خادمًا في بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة بالطائف2 وربما كان هذا الرجل خبيرًا زراعيًّا جُلب أو اشتري خصيصًا لهذا العمل.   1 انظر كلًّا من سورة البقرة 61، 261، 264- 266 الكهف 33- 34. 2 ابن هشام 2/ 30، الواقدي 23- 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 كما أن أهل مكة قد مارسوا تربية الماشية من إبل وغنم وأبقار، وأنهم كانوا يرعونها في الوديان والشعاب المجاورة لمنطقة مكة، والتي كانت تنبت الكلأ والشجيرات الرعوية التي تزدهر في مواسم معينة من السنة1، وقد ورد في كتب السيرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرعى الغنم في أجياد، وأن عمر بن الخطاب كان يرعى إبل أبيه بجوار مكة2. ومدينة تجارية مثل مكة كانت تقوم على تجارة القوافل لا بد أن تكون قد اهتمت بتربية الإبل، ولا يمكن أن تكون اعتمدت كلية على ما تستأجره من إبل الأعراب، بل إن أهلها كانوا يملكون ما يعتمدون عليه في نقل متاجرهم يربونه أو يشترونه من الأعراب 3، كما كانوا يملكون عددًا من الخيل لاستعمالها في ركوبهم وحروبهم، وربما كانوا يبيعون بعضها مبادلة على الإبل التي كانت حاجاتهم إليها أشد ونفعها لهم أكبر4.كما كانوا يملكون عددًا من الحمير والبغال. وكان لهذه الحيوانات كلها سوق نشيطة في مكة. الصيد: كان الصيد من مشاغل العرب ومعايشهم، بل كان من ضروريات حياتهم المعيشية، وقد ورد في القرآن آيات خاصة بالصيد، سواء منه صيد البر أو صيد البحر1. ويستفاد من هذه الآيات أن العرب في فترة البعثة المحمدية كانوا قد بلغوا شوطًا بعيدًا في فنون الصيد، فكانوا يستعينون عليه بالطيور الجارحة والحيوانات المعلمة كالبزاة والعقبان والصقور والكلاب2 وكانوا يعلمون هذه الطيور والحيوانات لتقوم بمهمتها   1 انظر وصف منطقة مكة في حالة خصبها. أسد الغابة 1/ 101 "روى ابن شهاب الزهري قال: قدم أصيل الغِفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل على عائشة -رضي الله عنها- فقالت له: يا أصيل، كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أَخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يلبث أن دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أصيل، كيف عهدت مكة؟ " قال: عهدتها والله قد أَخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأَعزق إذخرها, وأَسلب ثمامها، وأَمشر سلمها، فقال: "حسبك يا أصيل، لا تحزنَّا" أعزق: صارت له أفنان. أسلب ثمامها: أخوص وصار له خوص. أمشر: أورق واخضر. 2 ابن سعد 1/ 107- 108 الاستيعاب 3/ 157. 3 البخاري 3/ 62، ابن هشام 1/ 49. 4 ابن الأثير 1/ 344. 5 انظر سورة المائدة 1، 2، 4، 94، 96. 6 البخاري 1/ 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 على الوجه الأكمل. وقد تحرج المسلمون من أكل الصيد الذي استعين عليه بالجوارح المعلمة، فأحلَّ الله لهم ذلك على شريطة ذكر اسم الله عند الرمي، أو عند إرسال الجارح. كما أن العرب كانوا يستخدمون الرماح في الصيد كما كانوا يستخدمون النبل أو الشراك1. وكان العرب قبل الإسلام يحرمون الصيد بريًّا وبحريًّا في الأشهر الحرم تبعًا لما كانوا عليه من عادة تحريم سفك الدماء في هذه الأشهر؛ فرفع القرآن عنهم هذا الحرج بالنسبة لصيد البحر؛ وذلك لشدة الضرورة والحاجة المعيشية الماسَّة والخاصة للمسافر بحذاء البحر، وهذا يفيد أن صيد البحر كان مرتزقًا، وضرورة معيشية أوسع نطاقًا من صيد البر. وليس في القرآن تخصيص للذين كانوا يعملون بالصيد، مما يمكن أن يقال معه إن أهل المدن والبدو كانوا يشتغلون به؛ إلا أنه من المتبادر أن البادية أكثر اشتغالًا به، وأن أهل السواحل أكثر اشتغالًا بصيد البحر. وقد شارك أهل مكة في أعمال الصيد، ومنهم من كان يستفيد منه في معاشه وبخاصة قريش الظواهر، كما كان منهم من يتخذه رياضة من سادات مكة2.   1 انظر سورة المائدة 94. 2 ابن هشام 1/ 312، المبرد: الكامل 2/ 493 "تحقيق أحمد محمد شاكر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 النشاط الصناعي : ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة مكية ومدنية احتوت مسميات كثيرة ومتنوعة لمصنوعات هي من وسائل حياة أهل المدن. فقد ذكرت الآيات البيوت والغرف والحجرات والأبواب والسقوف والقواعد والمعارج1، والخيام التي تصنع من جلود الأنعام، كما ذكرت الأثاث الذي يصنع من الصوف والأوبار والأشعار2، والأسرَّة والأرائك والنمارق والزرابي والفرش وبطائنها3. والأواني المتنوعة من قدور وجفان وصحاف وأكواب وأباريق وكئوس4، ومصابيح ومشاك وزجاج5. والحلي والزينة   1 انظر سورة الطور 1-5، الحجرات 4، الزمر 20، النحل 29. 2 انظر سورة الرحمن 23، النحل 80. 3 انظر سورة الغاشية 12-16، الرحمن 54، الكهف 31. 4 انظر سورة الإنسان 16، الواقعة 15-18، الزخرف 71. 5 انظر سورة النور 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 بأنواعها1، والثياب من الحرير وغير الحرير2 والجلابيب والخُمر والسراببيل والقمصان والنعال3: والسلاح من رماح وسكاكين ودروع4. والسلاسل والأغلال5. وأدوات الكتابة من قرطاس وقلم ومداد ورقوق6 والشراب الذي يصنع من ثمرات النخيل والأعناب7. والمعادن من حديد ونحاس وذهب وفضة والصلصال والفخار8. وورود هذه الأعيان ومسمياتها وأوصافها ووجوه استعمالها في القرآن، ويدل على أن أهل مكة وأهل الحجاز ومدنه كانوا يستعملونها ويملكونها قبل نزول القرآن، حتى ولو جاء ذكرها في معرض الإخبار والتمثيل ووصف نعيم الجنة؛ لأن القرآن لا يمكن أن يخاطب الناس بما لا يفهمونه ولا يعرفونه. ويضاف إلى هذه الأشياء المكاييل والموازين التي كانت موجودة ومستعملة في البيع والشراء. وواضح أن وجود هذه الأدوات والحاجيات يتطلب وجود طبقة من العمال والصناع: في أعمال البناء ونحت الحجارة، وفي الحدادة والنجارة والتنجيد والصياغة والحياكة والنحاسة والسروجية، وغير ذلك مما تتطلبه حياة المدن مهما كانت درجتها من الحضارة9. وقد ورد ذكر لأناس كانوا في مكة يقومون بهذه الأعمال، منهم من يقوم بالحدادة أو الصياغة، ومنهم من كان يقوم بالنجارة10 أو النسيج أو الخياطة أو الحجامة11.   1 انظر سورة النور 31، 60. 2 انظر سورة الحج 25، الكهف 31، سبأ 13. 3 انظر سورة الأحزاب 50، طه 12، يوسف 18. 4 انظر سورة النحل 81، المائدة 97، يوسف 31، النساء 101. 5 انظر سورة الحاقة 32، غافر 71، سبأ 11. 6 انظر سورة لقمان 37، الأنعام 7. 7 انظر سورة النحل 67. 8 انظر سورة الحديد 25، الرحمن 14، 35، الحج 25، الكهف 31. 9 دروزة عصر النبي ص 69- 71. 10 أسد الغابة 1/ 43. 11 البخاري 3/ 60- 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ومهما تكن أسفار الحجازيين البرية أو البحرية، ومهما يكن ما يجلبونه من الخارج؛ فليس من المعقول أن يجلبوا كل ما يحتاجون إليه من هذه الأدوات والحاجيات مصنوعًا جاهزًا؛ بل لا بد أن يصنع بعضها إن لم يكن معظمها محليًّا؛ إذ لا يمكن أن يكونوا أو يظلوا عيالًا على الخارج في هذه المواد الكثيرة التي يستعمل كثير منها استعمالًا عامًّا ويوميًّا، ولا سيما وأن المواصلات بينهم وبين البلاد التي تقدمت عليهم في الحضارة، والتي يمكن أن يجلبوا منها احتياجاتهم -غير سهلة ولا قريبة-. كما أنه يوجد من الأشياء ما لا يمكن جلبه من الخارج، كأعمال البناء والنحت والنجارة؛ وإذن فلا بد من وجود طبقة من الصناع والعمال في المدن الحجازية يقومون بكثير من هذه الأعمال الصناعية، وأن أهل هذه المدن، وإن اعتادوا أن يجلبوا شيئًا مما يستعملونه من الخارج، فإن هذا الشيء كان مقصورًا على ما لا تستطيع البيئة المحلية إنتاجه، أو لا تستطيع إجادته، وخصوصًا حاجيات الترف الكمالية الدقيقة الصنع، من أدوات الزينة والزخارف والحرير والأواني الدقيقة وبعض أنواع الأسلحة والنسيج. ولقد كان في مكة وفي سائر المدن الحجازية جاليات أجنبية يهودية ونصرانية، سورية ومصرية وحبشية ورومية وعراقية. ومن الراجح أن هؤلاء الأجانب كانوا يقومون بكثير من هذه الأعمال الصناعية، وأنهم كانوا نواة ومعلمين لطبقات من الصناع المحليين، وأن منهم من كان يعمل لحسابه الخاص، كما كان الحال في يهود يثرب، ومنهم من كان يعمل لحساب سادته1. وقد أشار أصحاب السير إلى عامل رومي استخدم في بناء الكعبة عند تجديدها، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وجد في الكعبة صورًا ورسومًا للملائكة والأنبياء، لا بد أنها كانت من صنع أمثال هذا العامل الرومي ومن عمل معه من بني جنسه من النصارى، كما وجدَ بها تمثالًا لحمامة من الخشب؛ الأمر الذي يدل عل وجود صناع يتقنون هذه الأعمال في مكة، وأنهم لم يكونوا من العرب ولكنهم كانوا من الرقيق أو من الموالي الأجانب 2. كما كان بعض النساء يشتغلن بالأعمال الصناعية وبخاصة صناعة الغزل والنسيج3.   1 الأغاني 1/ 65. 2 الطبري 2/ 39- 40. 3 البخاري 3/ 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الحالة الاجتماعية مدخل ... الفصل السابع: الحالة الاجتماعية كان التشكيل الاجتماعي للسكان في مكة هو التشكيل القبلي شأنها في ذلك شأن باقي أجزاء الجزيرة العربية، وكانت القبيلة الأساسية بها منذ منتصف القرن الخامس الميلادي هي قبيلة قريش التي جمعها قصي بن كلاب، وأنزلها مكة بعد إجلائه خزاعة عنها1، وككل تشكيل قبلي، كان سكان مكة يتكونون من حيث التشكيل الاجتماعي من طبقات ثلاث:   1 سديو، تاريخ العرب العام ص 50 "يرجع سديو تاريخ بدء حكم قريش لمكة إلى سنة 440م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 1- طبقة الصرحاء : وهم أبناء القبيلة الأصليون، أي كل من ينتمي إلى قريش، وهو فهر بن مالك؛ فإن البطون القرشية التي نزلت مكة كلها تنتمي إليه، ومن مجموعها تكونت القبيلة التي عرفت بهذا الاسم -قريش-. وقد جعل القرشيون من أنفسهم أصل المجتمع المكي، وكل مَن عداهم من العرب الأحرار انضم إليهم عن طريق التبعية بالحلف أو بالجوار، فهم أصل المجتمع في مكة ومن عداهم من باقي السكان إما موالٍ لهم أو عبيد، وكان أبناء قريش يتمتعون بكل ما نظمه قانون العرف القبلي من حقوق كما كان عليهم كل ما فرضه من واجبات، على أساس من التضامن التام بين الفرد والجماعة في ظل رابطة الدم المشترك. وقد تميزت قبيلة قريش إلى قسمين رئيسيين حسب مساكنها في مكة: فالقسم الذي سكن الوادي بجوار البيت الحرام عرف بقريش البطاح، والقسم الذي سكن على أطراف مكة عرف بقريش الظواهر، وقد كانت قريش البطاح أكثر حضارة من قريش الظواهر التي عاشت شبه متبدية؛ ولذلك استأثرت قريش البطاح بشئون الحكم والرياسة، ووزعت المناصب الدينية والإدارية بين بطونها، ومن ثم فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 كانت صاحبة الكلمة العليا في مكة وكانت رأس المجتمع المكي. وإنه إن كان أبناء قريش على درجة واحدة من حيث الحقوق والواجبات القبلية العامة؛ إلا أن الاستقرار والثراء الذي أحرزته قريش البطاح، والقيام على شئون الحكم في مكة قد ميزها على غيرها من باقي البطون القرشية, فنالت منزلة اجتماعية أرفع. وقد حظيت قريش بنوع من الاستقرار والأمن لم يتوفر لغيرها من القبائل الأخرى، فقد ضمن لها وجودها بجوار البيت الحرام حرمة عامة في نظر القبائل العربية؛ فسلمت من الغارات القبلية عليها، كما أنه لم تحدث بين بطون قريش اشتباكات تؤدي إلى وقوع الدماء بينها بل حرصت القبيلة دائمًا على حل منازعتها العشائرية سلميًّا، ولكي تقضي على المنافسات العشائرية توسعت في قاعدة الحكم، وارتضت نوعًا من الحكومة نستطيع أن نسميه حكومة النظراء، وهي حكومة الملأ المكون من زعماء العشائر، وعلى ذلك سلمت قريش من التفكك الداخلي؛ فلم يحدث أن خرج عليها أو من دائرتها بطن أو عشيرة من عشائرها إلى دائرة قبيلة أخرى، كما كان يحدث كثيرًا بين القبائل العربية؛ ولذلك أحس أهل مكة بمرارة شديدة حين خرج منها بعض أفرادها فهاجروا إلى أماكن أخرى بعد ظهور الإسلام، وحاولت القبيلة جاهدة منعهم أو ردهم، واتهم القرشيون النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه فرق بين الناس. وكانت وحدة القبيلة القرشية مظهرًا رائعًا في نظر القبائل العربية التي جعلت من قريش موضع إجلالها وقدوتها1. وأصبح كثير من رجالها في مكان الحكام بين المتنازعين من قبائل العرب.   1 الأغاني 2/ 313 العقد الفريد 3/ 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 2- طبقة الموالي : كانت مكة لحرمتها ووحدة أهلها واستقرار أمورها ملجأ لكثيرين من العائدين المحتمين بحرمها، كما كان في حياتها التجارية مجال لطلاب الكسب، ممن وجدوا في أسواقها وقوافلها فرصة لاستثمار أموالهم في قوافل قريش والاتصال ببيوتها التجارية أو العمل في دوائر أعمالها1؛ ولذلك كثر الموالي في قريش عن طريق الجوار، أو من   1 "مثال ذلك، صهيب بن سنان المعروف بصهيب الرومي، الذي قدم مكة وحالف عبد الله بن جدعان أحد أثريائها الكبار، وعمل معه ونال من وراء ذلك ثروة اضطرته قريش إلى التخلي عنها حين أسلم وهاجر". أسد الغابة 2/ 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الحلفاء من كافة قبائل الجزيرة العربية ممن أقاموا في مكة إقامة دائمة وشاركوا في حياتها العامة مشاركة فعالة1. وقد أتاحت مكة لعدد منهم أن يقتني الثروات الكبيرة. وهيأت لهم الحياة الآمنة المطمئنة. وقد تمتع بعض الموالي بمركز كبير في المجتمع المكي، حتى أصبح مسموع الكلمة مطاعًا بين مواليه مثل الأخنس بن شريق الثقفي، الذي بلغ من أمره أن أثر على حلفائه بني زهرة، فأقنعهم بالرجوع وعدم المشاركة في موقعة بدر -مع إجماع القبيلة على الخروج- فرجعوا؛ فلم يشهدها زهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعًا2، كما كانت دار بديل بن ورقاء الخزاعي بمكة ملاذ الخزاعيين حين هاجمتهم بنو بكر وأعانها قريش3، وبديل نفسه كان أحد الثلاثة الذين خرجوا فاتصلوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدومه لفتح مكة وأعلنوا له تسليم البلد، وأخذوا منه لأهل مكة الأمان، وهم: أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء4. وقد أفسحت قريش صدرها لهؤلاء الموالي وأحلتهم هذه المنزلة الرفيعة؛ تبعًا لسياسة قريش العامة التي قامت على تنشيط التجارة، وإشراك القبائل العربية فيها والحرص على حسن الصلة معها، ورغبة في أن تبرز حرمة البلد الحرام، وأنه ملجأ العرب ومهوى نفوسهم، وهذا إلى الرغبة في الانتفاع بجهود هؤلاء الموالي وخبراتهم. فطبقة الموالي في مكة كانت أرفع شأنًا وأكثر فاعلية في المجتمع المكي من مثيلتها بين القبائل الأخرى، ولقد أخلص هؤلاء الموالي إخلاصًا شديدًا لقريش وقاتلوا في صفوفها، واعتمدت اعتمادًا كبيرًا عليهم في صراعها ضد يثرب بعد الهجرة النبوية، وإن نظرة إلى قائمة القتلى والأسرى من قريش في يوم بدر لتعطينا فكرة عن مقدار مشاركة هؤلاء الموالي لقريش في هذا الصراع، فإنهم قد تحملوا حوالي 40% من هذه الخسائر 5. ومن هذه القائمة -ومن قائمة المهاجرين- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب نستطيع   1 ابن حزم، جوامع السيرة 114- 123. 2 ابن هشام 2/ 258. 3 ابن هشام 4/ 5، ابن حزم 323. 4 ابن هشام 4/ 18. 5 ابن هشام 2/ 350-367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أن ندرك أن هذه الطبقة كانت كبيرة العدد في قبيلة قريش، وأنها كانت تكوِّن نسبة كبيرة من مجموع السكان، فقد بلغ عدد المهاجرين إلى يثرب بعد بيعة العقبة الكبرى ستة وثمانين، كان منهم من صليبة قريش واحد وأربعون، والباقون من الموالي، وكانت غالبية هؤلاء الموالي ممن ارتبطوا بقريش عن طريق الحلف1. أما من ارتبط بالقبيلة عن طريق الجوار؛ فمن المحتمل أن يكون عددهم كبيرًا، إلا أنهم لم يقوموا بدور فعال؛ نظرًا لأن الجوار بطبيعته صلة مؤقتة أدت إليها دوافع وقتية لا تربط صاحبها بالقبيلة ارتباطًا يحمله على المشاركة الشديدة فضلًا عن التضحية بالمال أو بالنفس؛ فإنما هو جاء يطلب الحماية والعون لا أن يبذلها لغيره.   1 ابن حزم، جوامع السيرة 114- 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 3- طبقة الأرقاء : كانت هذه الطبقة كبيرة العدد بمكة؛ نظرًا لأعمال أهل مكة التجارية الواسعة، وانشغالهم بها واحتياجهم إلى من يقوم على خدمتهم والاشتغال لصالحهم، سواء في التجارة أو في الرعي أو في الزراعة -حيث كانت لهم بساتين ومزروعات في الطائف- أو في الصناعة التي لا بد كانت موجودة في مكة لسد حاجة هذا المجتمع الذي أخذ بأسباب التحضر، ولما كان تجار مكة قد نالوا حظًّا وافرًا من الثروة، وعاش بعضهم عيشة رافهة بالنسة لغيرهم من المجتمعات القبلية الأخرى في الجزيرة العربية؛ فقد جلبوا كثيرًا من الرقيق للقيام على خدمتهم ولإرضاء نوازع شهواتهم، وقد أغرم المجتمع المكي بالشراب والسمر والمنادمة، ومثل هذا المجتمع يحتاج إلى أعداد من الغلمان والجواري السود والبيض على السواء للخدمة والتسلية وإرضاء الشهوات، وقد بلغ عدد الرقيق في مكة حدًّا كبيرًا، وقد كان أكثر هؤلاء العبيد من السود من أصل أفريقي اشتراهم أثرياء مكة؛ للعمل لهم في مختلف الأعمال ولخدمتهم1، ولعل مما يدل على كثرتهم المفرطة أن هندًا بنت عبد المطلب أعتقت في يوم واحد أربعين عبدًا من عبيدها، كما أعتق سعيد بن العاص مائة عبد، اشتراهم فأعتقهم جميعًا2. والرقيق في   1 الاغاني 1/ 65. 2 الجاحظ، المحاسن والأضداد 72. المبرد، الكامل 2، 96. شوقي ضيف، العصر الجاهلي ص 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 تلك الأزمنة كان بضاعة ضرورية لا بد منها لأهل المال تدر عليهم أرباحًا عظيمة، فهم آلات ذلك العصر ومصدر من مصادر الاستغلال للحصول على الثروة، كما أنهم سلاح يستخدم للدفاع عن السادة والأثرياء في أيام السلم الحرب. ومكة وهي بلد الأثرياء والتجار في إقليم الحجاز، لا بد لها من استيراد هذه الآلات البشرية للاستفادة منها في تمشية الأعمال، وفي توسيع التجارة وزيادة رءوس الأموال، وقد كان بنو مخزوم من قريش يملكون عددًا كبيرًا من العبيد السود، يستخدمونهم في مختلف الأعمال وفي الحروب، وبخاصة تلك التي خاضتها ضد يثرب1. وقامت بخدمة قريش طائفة أخرى ممن الرقيق، هي أدق عملًا، وأحسن خدمة وأرقى في الإنتاج، من الشمال في بلاد الشام والعراق، هي الأسرى البيض الذين كانوا يقعون في أيدي الفرس والروم أو القبائل المغيرة على الحدود، فيباعون في أسواق النخاسة ومنها ينقلون في أنحاء الجزيرة العربية للقيام بمختلف الأعمال، يضاف إلى هؤلاء الرقيق المستورد من أسواق أوربا لبيعه في أسواق الشرق. وكان هذا الرقيق أغلى ثمنًا من الرقيق الأسود نظرًا لأنه كان أكثر ثقافة وكان يحسن من الأعمال ما لا يحسنه العبيد السود. ومن جملة ما وكل إلى هذا الرقيق الأبيض من أعمال: إدارة المبيعات2، والقيام بالحرف التي تحتاج إلى خبرة ومهارة وفن، وهي من اختصاص أهل المدن المستقرين مثل أعمال البناء والنجارة الدقيقة، وقد أشار أصحاب السير إلى عامل رومي استخدم في بناء الكعبة حين قامت قريش على تجديدها قبل البعثة3، كما أشاروا إلى ما وجد بجوفها من صور ورسوم وتماثيل خشبية دقيقة4، لا بد أنها من عمل هذا العامل ومَن عمل معه من عمال على شاكلته. وكما كان في مكة كثير من الرجال الأرقاء سود وبيض، كذلك كان بها عدد كبير من الإماء: منهن السوداوات اللاتي كن يقمن على الخدمة في البيوت، ومنهن البيضاوات من الروم والفرس وغيرهن، كن يقمن على الخدمة والمنادمة وإرضاء نوازع   1 الأغاني 1/ 65. ابن هشام 7/ 12. جواد علي 4/ 198. 2 ابن هشام 1/ 420. 3 ابن هشام 1/ 209- 210. الطبري 2/ 39-40. 4 ابن هشام 4/ 31-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 النفس 1. وكانت عادة تسري الإماء فاشية، ولم يكن عدد الإماء اللاتي يتسراهن الرجل محدودًا، ينكحهن بدون عقد ولا مهر، وله أن يهب أو يبيع من ينكحها دون طلاق إذا لم تكن قد ولدت له. وكان الإماء مادة البغاء، فكن أكثر تعرضًا له وارتكاسًا فيه، وكان أمرًا مستساغًا بالنسبة لهن، وحين وضع الإسلام عقوبة الزنا جعل على الأَمة نصف عقوبة الحرة2، إذ إن ارتكاس الإماء في الفاحشة أكثر توقعًا منهن، وتعرضهن للبغاء أكثر احتمالًا، وعارُ ذلك أقل شدة. وقد كان الشباب والفساق وطلاب الشهوة يتعرضون للإماء في الطرقات؛ ولذلك فرض الإسلام على الحرائر أن يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين3، بأن يخلط بينهن وبين الإماء في المظهر فيتعرض لهن فينالهن الأذى. وقد ترك هؤلاء الرقيق في نفوس أهل مكة، وفي نفوس العرب الآخرين ممن كان لهم رقيق أثرًا ليس إلى إنكاره من سبيل، وإن المصطلحات الفارسية والرومية والحبشية التي كانت معروفة عند العرب قبل ظهور الإسلام، ولا سيما ما يتعلق منها بالصناعات والأعمال التي يأنف العربي من الاشتغال بها، إنما دخلت لغتهم وشاعت بينهم عن طريق هؤلاء4.   1 أسد الغابة 1/ 387، 4/ 1332، 5/ 94، 462. 2 انظر سورة النساء 5. 3 انظر سورة الأحزاب 59. 4 أسد الغابة 5/ 579 مسلم، الصحيح 2/ 189. جواد علي 4/ 194. الحوفي، الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 68، 80، 103- 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الجاليات الأجنبية : في كتب التاريخ والسير وأسماء الصحابة عدد غير قليل من الأجانب الذين كانوا في مكة في فترة البعثة النبوية، منهم من كان مملوكًا ومنهم من كان حرًّا؛ فإنه لمركز مكة ونشاطها التجاري وصلاتها الواسعة بالشمال والجنوب توافد عليها كثير من التجار من الخارج من بلاد الشام ومن الروم والفرس وغيرهم، ساكَنوا المكيين وتحالفوا مع أثريائهم، وقد دخل بعضهم في الإسلام من أمثال تميم الداري وكيسان1 كما كان   1 أسد الغابة 4/ 258- 259، 5/ 145. الأزرقي 1/ 358. وانظر: على هامش السيرة لطه حسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 منهم أصحاب صناعات وحرف كانوا يعملون لحساب أهل مكة أحيانًا ولحسابهم أحيانًا أخرى، ومنهم من كان ذا معرفة متميزة في ثقافته الدينية، ولا يستبعد أن يكون بينهم جماعة من المبشرين. وتشير الآيات القرآنية الكثيرة إلى وجود عدد من الأجانب في مكة وإلى ديانة هؤلاء الأجانب على أنهم من أهل الكتاب، وأهل الكتاب هم النصارى واليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أ- النصارى : وأكثر هؤلاء الأجانب كانوا من النصارى كما يستلهم من الآيات القرآنية، فإن إيراد قصة ولادة يحيى وعيسى وإنكار ألوهية عيسى مما يوحي بأن أكثر المخاطبين من أهل الكتاب كانوا نصارى1، ثم إن خبر انكسار الروم والبشرى بفوزهم مما يدل على أن الكتابيين في مكة كانوا نصارى، فضلًا عن أنه يدل على الصلات القوية بين المكيين والأحداث العالمية الجارية في ذلك الوقت2، ولقد كانت صلات مكة قوية بالشمال حيث كانت النصرانية هي ديانة أهل الشام، كما كانت منتشرة بين القبائل التي تعيش على تخوم الشام وعلى الطرف الشمالي للعراق3، كما كانت منتشرة في الحبشة واليمن، وبخاصة في نجران التي قدم منها وفد لمباحثة النبي -صلى الله عليه وسلم4، ومن هذه الجهات قدم عدد كبير إلى مكة إما بتشجيع بعض القرشيين ليكون عندهم من يقوم بما هم في حاجة إليه من الصناعات، أو بسبب اضطهاد وقع عليهم، فلقوا من زعماء مكة ترحيبًا وتشجيعًا؛ فقد كانت بلاد الشام مسرحًا لكثير من الثورات والاشتباكات والاضطهادات الدينية، ومن المحتمل أن يكون بينهم جماعة من المبشرين، فقد كان المبشرون يطوفون أنحاء الجزيرة العربية للدعوة إلى النصرانية، وقد شجعت حكومة الروم هذا التبشير لمآرب سياسية بعيدة الأهداف، فقد كانت تبغي من وراء ذلك كسب العرب إلى صفها ومحاربة أعدائها الفرس بسلاح الدين. وتشير كتب السيرة إلى أن   1 انظر سورة مريم 2-40. 2 انظر سورة الروم 3-6. 3 الواحدي، أسباب النزول ص 212. 4 ابن هشام 1/ 418- 419. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 شماسًا زار مكة في الجاهلية1، وكان يعيش في مَرّ الظهران راهب مسيحي2. كما كان في مكة نساء نصرانيات تزوجهن أهل مكة3. وتلهم الآيات القرآنية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اتصل بهؤلاء النصارى ودعاهم إلى التصديق برسالته4، وأن منهم من كان ذا سعة في المال يمكنه أن ينفق في عمل الخير5، وأن منهم من كان قوي الشخصية والنفس بحيث لا يبالي بلوم المشركين6، وعلى ذلك فهم ليسوا بأرقاء، وأن منهم من كان متميزًا في ثقافته الدينية، بحيث كان أهلًا للرجوع إليه والاستشهاد به في أمر الرسالة المحمدية7، وهذا الفريق لم يكن نكرة في أوساط مكة بل كان موضع ثقة ومرجع استفتاء في أمور الدين والدنيا، وأن منهم من كان مجادلًا حجاجًا بل متطرفًا في جداله. ولكنهم بوجه عام كانوا رقيقي العاطفة دمثي الأخلاق، جريئين في إظهار الحق، لا يبالون أهل مكة وزعماءها الأقوياء. وليس في الإمكان تحديد الزمن الذي نزح فيه هؤلاء إلى مكة واستقروا فيها، ولكن آية النحل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل] تلهم أن بعض هؤلاء كانوا حديثي عهد بمكة، ومن المحتمل أنهم جاءوا قبيل البعثة، فكانوا لا يزالون يتكلمون لغة عربية سقيمة، أو لا تزال لغتهم الأجنبية مستعملة عندهم. وقد كان أثر النصرانية في مكة   1 ابن هشام 1/ 349- أسد الغابة 375. 2 السيرة الحلبية 1/ 75 ابن كثير 2/ 272 "كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى عيصًا من أهل الشام، وكان متخفرًا بالعاص بن وائل، وكان الله قد آتاه علمًا كثيرًا، وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طب ورفق وعلم". 3 الأغاني 1/ 66- 67. 4 انظر سورة الأعراف 157، يونس 94، الحج 4. 5 انظر سورة القصص 52، 54. 6 انظر سورة سبأ 6، الإسراء 107، 109. 7 انظر سورة النحل 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أكثر من أثر اليهودية؛ فإن بعض رجال مكة الذين تبرموا بالوثنية وخرجوا عليها تنصروا، أمثال ورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث1.   1 ابن هشام 1/ 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ب- اليهود : وفي السور المكية كذلك آيات كثيرة تتحدث عن موسى وفرعون وأحداث بني إسرائيل، مما يدل على أن رسالة موسى كانت موضع جدل كبير بين مشركي مكة والنبي -صلى الله عليه وسلم- وفي الحفاوة البالغة بهذا ما يدل على وجود صلات قوية بين اليهود وبين المكيين، وكذلك تدل الآيات على وجود إسرائيليين في مكة، وآية الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف] {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء] . تقطعان بذلك إذ إن الأولى تحتوي شهادة واقعية من أحد بني إسرائيل بصحة ما يوحى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإيمانه به، كما تقطع الثانية بأن علماء بني إسرائيل يقرون بأن ما جاء به مماثل لما يعلمون. وقد ذكرت كتب السير والتراجم صلة بعض اليهود بالمكيين ومحالفتهم لهم وإقامتهم بمكة للاتجار1. إلا أنه من الراجح أنه لم تكن في مكة جالية يهودية كبيرة؛ حيث لم يذكر القرآن المكي احتكاكًا ولجاجًا بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- كما حدث في يثرب، ومن المحتمل أن المستقرين منهم بمكة كانوا أفرادًا قلائل. ومع وجود عدد كبير من الأجانب في مكة إلا أنهم لم يكونوا يؤلفون كيانًا مكتملًا ذا أثر إيجابي واسع في مكة، والراجح أن عدد الأحرار منهم لم يكن يتجاوز المئات القليلة، وأن تنوع جنسياتهم وحالتهم وظروف هجراتهم وحداثة بعضها لم تكن تساعد على تكوين هذا الكيان المكتمل2، بدليل أنه لم يكن لهم أثر في حياة مكة السياسية كما كان شأن الإسرائيليين في يثرب.   1 ابن سعد 1/ 144. أنساب الأشراف 1/ 73. ابن كثير 2/ 267. 2 دروزة، عصر النبي ص 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 استعداد العرب للنقلة مدخل ... الفصل الثامن: استعداد العرب للنقلة في نهاية القرن السادس الميلادي كانت مكة تتمتع بمركز رياسي في جزيرة العرب لا شك فيه، فقد كانت هي البلد العربي الوحيد الذي حظي بنوع من الاستقرار والتنظيم، والذي كان يتمتع باستقلاله فلم يخضع لحاكم أجنبي قط، في الوقت الذي كانت الممالك العربية الأخرى قد تدهورت ووقعت تحت الاحتلال أو النفوذ الأجنبي؛ فاليمن فقدت استقلالها منذ نهاية الربع الأول من القرن السادس وسقطت تحت حكم الأحباش ثم حكم الفرس1، وعمها الاضطراب الداخلي، وبذلك فقدت منزلتها، كما فقدت قدرتها على التحكم في التجارة بين الشرق والغرب التي كانت في أيديها منذ آماد بعيدة. وكذلك كانت مملكة الحيرة قد فقدت استقلالها بعد أن غيرت فارس سياستها نحوها بعد أن استنفدت كل طاقتها الحيوية، وجعلت منها إمارة فارسية يحكمها أمير فارسي2. ومملكة الغسانسة؛ فقدت قوتها كذلك بعد أن غير الروم سياستهم نحوها فاضطربت أحوالها وذهبت وأصبحت في شبه فوضى3. وقد وافق هذا الوقت بدء نهضة عربية بين قبائل الشمال التي بدأت تتحرر من نفوذ الجنوب، وبدأت تأخذ بيدها أمام حركة التحرر الجديدة التي بدت تباشيرها بالشعور بالذات والإحساس بالقومية العربية التي عبرت عن نفسها في نهاية القرن السادس حين اشتبك العرب مع الفرس في معركة ذي قار وانتصروا عليهم، وحين تمرد الغساسنة على طغيان الروم، وثار اليمنيون على سلطان الأحباش. وإذا كان العرب قد تمردوا على السيادة الأجنبية؛ فإنهم قد تطلعوا إلى منطقة عربية مستقلة تتولى زعامة هذه النهضة العربية وتقودها. ولم تكن هذه المنطقة سوى مكة التي كانت تتمتع باستقلالها والتي فشل الغزو الأجنبي أمام أبوابها؛ حين وجهت الحبشة إليها حملتها في سنة 570م. وكانت مكة هي البيئة العربية الخالصة التي   1 الحميمي: سيرة الحبشة ص24. ابن الأثير 1/ 253- 254، 265. 2 جواد علي 4/ 104. سديو: تاريخ العرب العام ص43. 3 جواد علي 4/ 140. سديو: 44- 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أتيحت لها فرصة التنظيم والاستقرار والتي كانت بعيدة عن مجال التصارع الدولي في ذلك الوقت، وكانت إلى ذلك بعيدة عن التأثر بالحضارات الأجنبية من غير أن تفقد الاتصال بها، فقد كانت مكة على صلة بدول ذلك الزمان من بيزنطيين وفرس وأحباش، وكانت تعرف من أمورها وحضارتها قدرًا يكفي للتعامل معها والاستفادة منها1، ولكنها كانت أبعد عن التأثر بالحضارات المجاورة من لخم وغسان واليمن، وهذه الميزة هي التي جعلت بيئة مكة عربية خالصة قادرة على خلق نهضة تعبر عن روح العروبة تعبيرًا دقيقًا قادرًا على جمع العرب، ولسنا نشترط في هذه البيئة الخالقة أن تكون مغلقة تمامًا أمام كل تأثير أجنبي, مثل هذا الانغلاق لا يتأتى للدول المجاورة للعالم المتحضر، فمكة كانت على اتصال بالبلاد المجاورة بحكم حياتها الاقتصادية, إلا أنهالم تكن تعرف هذه البلاد المعرفة التي تفقدها شخصيتها أو التي لا تترك لها إلا مجال التقليد، وهذا الاتصال المحدود بالعالم الخارجي ميزة جعلت البيئة الحجازية قادرة على الأصالة والحيوية, الأمر الذي لم يكن موجودًا في غيرها من أرجاء الجزيرة العربية؛ ولذلك كانت أصلح بيئة للنهضة بالعرب، وأصلح وسط يستطيع أن يخرج للناس نهضة جديدة ونظامًا جديدًا. وكذلك وجود البيت الحرام في مكة، وقيام قريش على رعايته وتنظيم الحج إليه، وإقامة الأسواق العامة في موسمه وأسواقه كان فرصة لتجمع العرب في بقعة واحدة يزاولون فيها مختلف النشاط الديني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكان فرصة لتبلور الأفكار وحل المشاكل، ومظهرًا من مظاهر الإحساس بالقومية والترابط. وكذلك أتاحت الظروف الداخلية والخارجية لقريش أن تجمع في يدها التجارة الخارجية، وتقوم على تنظيمها وإعداد القوافل لنقلها بين الجنوب والشمال, مستغلة فرصة التصارع الدولي وانشغال الفرس والروم بذلك الصراع الدموي بينهما، وكذلك مستغلة المركز الأدبي والديني الذي حظيت به بين القبائل العربية؛ الأمر الذي أعانها على القيام على أمر هذه التجارة والنجاح في ذلك، مما أكسب القرشيين ثروة كبيرة، فأصبحوا يتميزون بالثروة إلى جانب الميزة الدينية والأدبية، وبذلك حظيت مكة باحترام عربي عام، وحظيت قريش برياسة عامة بين القبائل العربية، وأصبحت في   1 فجر الإسلام 29 "الطبعة الثانية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 موقف الزعامة والتشريع لهذه القبائل. وهكذا أصبحت أهلًا لأن تكون موضع النواة في قيام نهضة قومية عربية. واطمأنت قريش إلى هذا المركز وعملت على تدعيمه وحرصت على دوامه. لكن مكة -بالوضع الذي كانت عليه قبل ظهور الإسلام- لم تكن تملك إلا أن تبلور الثقافة العربية الجاهلية وتبرزها, على حين كان الروح العربي يتطلع إلى مثل جديدة تساير نهضته الجديدة وتدعمها غير المثل القديمة التي بدءوا يبرمون بها، والتي بدأ التبرم بها يبدو واضحًا في مكة نفسها. والدليل على أن الجاهليين كانوا يتطلعون إلى نظام جديد، أنهم كانوا -حسب تفكيرهم- يتحدثون عن علامات ونذر تنبئ عن قرب ظهور نبي منهم1. وقد روى القدماء معجزاتٍ ونذرًا قالوا: إنها وقعت قبل ظهور الإسلام إرهاصًا به ومنبئة بقرب ظهوره، وتلك الروايات -إن صحت- كانت دليلًا على أن الجاهليين تطلعوا إلى الإصلاح وإلى ظهور مصلح من بينهم، وكان الإصلاح قديمًا لا يأتي إلا على أيدي الحكماء والأنبياء؛ وهذا التطلع الطبيعي في كل جماعة إحساس ضروري يسبق كل حركة إصلاحية ويمهد لها. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرر أن العرب في الجاهلية أحسوا بضرورة الإصلاح؛ وهذا الإحساس هو الذي هيأهم للانتقال من حال إلى حال. وكانت البيئة مستعدة لقبول النظام الجديد؛ لأنها بيئة لها وحدتها المتميزة من الناحية اللغوية ومن ناحية الجنس؛ فالجاهليون كانوا يفهمون لغة واحدة وإن اختلفت لهجاتهم، بدليل قصائد الشعراء الجاهليين التي كان يفهمها العرب جميعًا في الشمال والجنوب، وأما وحدة الجنس فظاهرة في حفظ العرب لأنسابهم وردها كلها إلى أصل واحد، فهم شعب يتصل أفراده بصلة الدم والقرابة أوثق ما يربط الناس من رباط، فالعرب برغم انقسامهم إلى مجموعات كبيرة -قحطانية ومضرية وربيعية- فإن شعورهم بالوحدة والقرابةلم يضعف، فهم كأبناء الأب الواحد اختلفت بيوتهم، وعلى هذين الأساسين القويين في كيان الأمم -اللغة والجنس- بنى الإسلام حين جاء الوحدة الجديدة. وقد عملت هذه الأسس شيئًا فشيئًا على أن يتم العرب وحدتهم؛ فأحسوا بأن المثل القديمةلم تعد معبرة عن أنفسهم، فأخذوا ينتقدونها, وأخذوا يتحولون عنها وينشدون مثلًا جديدة في النواحي الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.   1 ابن هشام 1/ 221- 242. ابن سعد 1/ 143- 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فأما من الناحية الدينية، فإن العرب كانوا وثنيين، فلما اتصلوا بالأمم ذات الأديان الراقية اكتشفوا ما في الوثنية من عجز عن إشباع الغريزة الدينية في الإنسان. والأديان السماوية قد دخلت جزيرة العرب منذ وقت مبكر، فكانت النصرانية منتشرة في شمال شبه الجزيرة وشمالها الشرقي1، وكذلك كانت منتشرة في اليمن، وكان لها مركز هام في نجران2 وقد اتسع نطاقها بعد الفتح الحبشي3. وكانت اليهودية معروفة في القسم الشمالي من الجزيرة؛ فيثرب وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى كانت يهودية، وكانت معروفة كذلك في اليمن، وكانت تصارع المسيحية هناك حتى الفتح الحبشي، وعند ظهور الإسلام كانت توجد في اليمن جالية يهودية كبيرة. وكان من المتوقع لو لم يظهر الإسلام أن يدخل العرب في أحد الدينين، لولا أنهم بدءوا نهضة قومية وكانوا ينظرون في الوثنية نظرة خاصة ويعتبرونها رمزًا لقوميتهم -وقد كان من عادة الأمم في تلك العصور أن تعتبر ملتها أو نحلتها موضع كبريائها ورمزًا لشخصيتها وعنوانًا على ثقافتها- وهم لذلك يريدون ديانة تعبر عن روح العروبة وتكون عنوانًا لها، ومن أجل ذلك بحث عقلاؤهم عن الحنيفية دين إبراهيم الذي كانوا يعدونه أبًا لهم4. هذا إلى ما لحق الديانات الأخرى من تفرق واختلاف بين طوائفها، ولا بد أن العرب كانوا على صلة بأهل هذه الديانات وعلى معرفة بالخلاف بين طوائفها؛ الأمر الذي جعلهم يتندرون بأصحابها وينعون عليهم اختلافهم، ويتطلعون إلى ظهور نبي منهم، ويقسمون أنهم لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم5. وقد ظهرت حركة التحنف قبل الإسلام مباشرة6, فكانت رمزًا إلى أن الروح العربي كان يتلمس يومئذٍ دينًا آخر غير الوثنية، والإسلام حين جاء كان معبرًا عن شعور   1 جواد علي:6/ 57-60. 2 انظر سورة البروج 4- 8, ابن هشام 1/ 35. 3 نفسه 1/ 43. 4 ابن هشام 1/ 242-250، أسد الغابة 2/ 236، المحبر 160، 170, الروض الأنف 1/ 146. 5 انظر سورة فاطر 42. 6 ابن هشام 1/ 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 العرب بالوحدة, ومعبرًا عن ميلهم الروحي. وكان دليلًا على نضوج ديني فلسفي استعد له العرب في القرون المتطاولة السابقة. وأما من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فإننا نجد الحجاز قبيل الإسلام يقوم بالتجارة التي كانت تقوم بها اليمن قديمًا، وأصبح الطريق المار بالحجاز هو الطريق البري الهام المأمون في ذلك الوقت. وقامت قريش على تنظيم القوافل بين الشمال والجنوب, واستطاع رجالها أن يكونوا شبكة تجارية تربط جميع قبائل الحجاز بهذه التجارة فجعلوا من الحجاز -بذلك- وحدة اقتصادية متماسكة، وحققوا من وراء ذلك ثروة لا بأس بها، والغنى شرط من شروط النهضات؛ لأن الجماعة لا تنهض إلا إذا كانت قوية سليمة، ومن مقومات السلامة الناحية الاقتصادية, فهذا الثراء كان طرفًا مناسبًا للنهضة العربية. غير أن الثروةلم تكن موزعة توزيعًا عادلًا، فقد كانت الهوة بين الأغنياء والفقراء كبيرة من الناحية الاقتصادية، إذ كان يوجد من يملك الألوف المؤلفة من الدنانير، أو الألوف من الإبل، ومن لا يملك شيئًا على الإطلاق، وبينما يعيش الأغنياء في ترف، كان الفقراء لا يجدون ما يسد حاجتهم الضرورية للحياة، ولم يخفف من هذه الحدة ما كان يفيضه الأغنياء من كرم وسخاء، فإن المروءة وحدها لا تكفي لإيجاد التكافل الاجتماعي وإن كانت تعين عليه، بل قد يزيد ذلك من شدة الشعور بالغبن في مثل هذه البيئة التي كان التعطش فيها شديدًا إلى بعد الصيت والنفور من الضعة، ثم إن التجارة وما كان يصحبها في ذلك الوقت من ضروب الغش والمضاربة والاستغلال والربا، كانت في حاجة إلى تنظيم يحد من جشع التجار، ويقرب بين الطبقات ويوجد التكافل الاجتماعي. ولقد كان التفاوت الطبقي موجودًا, على الرغم من الإحساس بالقرابة ووجود علاقات الحلف والولاء، وعلى الرغم من الإحساس النفسي العام بعدم المساواة، متمثلًا في الفروق الواضحة بين طبقة الصرحاء وطبقة الموالي، ومتمثلًا فيما كانت تكفله الثروة وشرف البيت لصاحبها من تأهيل للدخول في مراكز القيادة والزعامة, ولسنا نعني في هذه الناحية وجود نظام مقرر لتقسيم الطبقات من حيث الثروة كما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الحال عند الرومان 1؛ وإنما نعني أنه كان هناك شيء معترف به ومؤثر تقليدي من تمايز الناس بعضهم عن بضع, ووجود طبقات عليا وطبقات سفلى، وطبقات أشراف وطبقات سوقة وعوام. والآيتان من سورة الزخرف 31- 32 اللتان نزلتا في صدد استنكار نزول القرآن على محمد الذي كان فقيرًا على الرغم من علو مركزه من ناحية النسب وعدم نزوله على رجل آخر عظيم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّّا} [الزخرف] تساعدان على هذا الفهم، كما أن الآيات الأخرى تسنده وتؤيده2. وآية سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات] إنما نزلت لتعلن للناس أنهم سواء في أصل الخلق وفي حق الحياة والاستمتاع بالحرية فيها، وأن أكرم الناس المتقون الذين يؤدون واجباتهم الدينية والدنيوية مستشعرين عظمة الله؛ وليسوا هم الكبراء والعظماء وأبناء البيوت الشريفة وأصحاب الثروات الطائلة، بسبب هذا التقليد الطبقي الذي درجوا عليه والذي جاءت الآية لهدمه, وإقرار المساواة بين الناس. وطبيعي أنه لا يمكن أن يقال: إنها استهدفت هدم التفاوت العام الذي كان ولا يزال من سنن الاجتماع البشري، والذي يتمثل في فقر فريق وغنى فريق، وقوة فريق وضعف آخر.   1 انقسم الشعب الروماني في عصر الجمهورية إلى خمس طبقات، وفقًا للنظام الذي يعرف بالتيموقراطية Timocrcy وهو النظام الذي تتحد فيه مكانة الفرد السياسية، من حيث حقوقه وواجباته، على أساس ما يملك من الثروة، وقد قامت إحدى الجمعيات الشعبية الرومانية وهي الجمعية المئينية Comitia Centuriata التي غدت أهم المجامع الدستورية الرومانية في عصر الجمهورية المتأخرة, على هذا الأساس التيموقراطي، حيث كان لكل طبقة عدد بعينه من المئينات وكان لكل مئن من هذه المئينات صوت في هذه الجمعية. وقد كان الانتماء إلى إحدى الطبقات يكفل للفرد حقوقًا سياسية لا تكون لأفراد الطبقة الأقل، وكان من نتيجة ذلك أن نالت طبقة الأشراف حقوقًالم يحصل عليها العامة، إلا بعد كفاح مرير متصل: انظر: M.Cary, History of rome "new your 1960" pp. 110-111 2 انظر سورة البقرة 166, والأحزاب 67، وسبأ 33، وغافر 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وكان العرب يتطلعون إلى مثل جديدة في الأخلاق والاجتماع تساير الطبع العربي بما يحمل في طياته من نواة العدالة الاجتماعية، بما فيه من مروءة وكرم، وإحساس المساواة للفرد وللجماعة، وكانت المثل الجاهلية بما صارت إليه من عصبية ضيقة ومن حمية غير قادرة على إخراج هذه المثل الجديدة التي يتطلعون إليها. وكانوا يتطلبون من القبيلة صاحبة السيادة في ذلك الوقت أن تقودهم إلى هذه المثل الجديدة؛ لكن قريشًا -مع اكتمال الوضع لها- حولت اهتمامها إلى مصالحها الذاتية سواء في ناحية التشريع للحج، وهو المظهر الديني للعرب في ذلك الوقت أو في التشريع الاجتماعي والاقتصادي الذي كانت تقوم عليه. ومن ثم كانت هي في ذاتها في حاجة إلى إصلاح داخلي حتى يمكن أن تقود حركة الإصلاح التي يتطلبها المجتمع العربي في ذلك الوقت. أما من الناحية السياسية؛ فإن العرب برغم انقسامهم إلى مضريين وربعيين ويمانيين, كانوا يحسون أنهم شعب واحد وأنهم يرتفعون جميعًا إلى أب واحد، وهم لم يعودوا يتمسكون باستقلالهم القبلي تمسكًا مطلقًا, فالربعيون يتعصب بعضهم لبعض, وكذلك المضريون واليمنيون، وقد يتحالف فريق منهم مع فريق آخر، وهذا التحالف الذي اشتدت حركته في النصف الثاني من القرن السادس بين القبائل نوع من التعبير عن إحساس القبيلة بأنها لا تستطيع أن تعيش في مجالها الضيق، وأنها محتاجة إلى غيرها من القبائل تتحالف معها وتؤاخيها وتربط مصيرها بمصيرها. وكذلك سئم العرب الحروب القبلية فسنوا الأشهر الحرم ومنعوا فيها القتال، وجعلوا الكعبة ملجأ للخائف والعائذ. كل هذا يدل على أن العرب كانوا يحسون بأن انقسامهم السياسي والاجتماعي لا يتناسب مع حالهم الجديد ولا مع طريقة تفكيرهم وكذلك كانوا يحسون بأن عدم وجود دولة تجمعهم أمر فيه ذلة وعار على الشعب العربي, فكانوا لذلك يجدون أنفسهم ضئالًا إلى جانب دولتي الفرس والروم الذين أطلقوا عليهما اسم الأسدين. في هذه الظروف المواتية من الناحية الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ظهرت النهضة العربية، وكانت دينية، والدين كان عاملًا هامًّا من عوامل التطوير والتقدم في العصور القديمة، ولم يتنازل الدين بعض الشيء عن هذه الناحية إلا بانتشار العلوم ووجود العوامل التي تنافس في القيام بهذا الدور في العصر الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ظهور المصلح النبي في بداية القرن السابع الميلادي كانت بلاد العرب مستعدة لتلقي أكبر انقلاب في تاريخها, بل إنه حين حدث كان أعظم انقلاب في التاريخ الإنساني العام، بما ترتب عليه من تغيير شامل في النواحي الدينية والاجتماعية والسياسية على السواء، وقد كانت الظروف مواتية لهذا الانقلاب تمام المواتاة. فمنذ منتصف القرن السادس كان قد أخذ يمحى ما بين أقوام العرب من خصام؛ وما بين قبائلهم من تنافس، تجاه الخطر الذي كان يتهددهم في الداخل والخارج: فأما في الداخل فإن الصراع القبلي كان ينهك قوى القبائل ويقضي على أمنها, الأمر الذي حمل الزعماء وأصحاب النفوذ فيهم على العمل للحد من هذا التنازع؛ فكانت سنة الأشهر الحرم لتقليل فرص القتال -كما بينا من قبل- وما استتبع ذلك من تجمعات في الأسواق العامة وفي موسم الحج، مما أدى إلى حل كثير من المشاكل، وإلى تقريب النفوس وقيام التحالفات بين القبائل وأما في الخارج؛ فإن العرب كانوا يشعرون بضرورة الاتحاد، لما رأوا من تهديد الروم في الشمال، وتهديد الفرس في الشرق، وتهديد الأحباش في الجنوب، وكان من نتيجة الحوادث الأخيرة -التي أشرنا إليها- وهي زوال ملك الحيرة واضطراب أحوال الغساسنة وضياع استقلال اليمن، أن أخذت المبادئ القومية تنمو في نفوس العرب إلى حد كبير, وكان على زعمائهم أن ينظموا عناصر المقاومة تجاه هذا الضغط المضاعف، وقد نلمس هذه المقاومة في وقوف القبائل العربية المختلفة في وجه الحملة الحبشية على مكة، وقد يكون هذا عملًا تلقائيًّا، ولكنه يدل على الشعور بالارتباط العام بالإحساس بالمصير المشترك. وحين استطاع الحجاز أن يحبط الحملة الحبشية, كان أكبر قدوة, فاستردت مكة زعامتها التي أريد نزعها منها، وعلت منزلة قريش الأدبية علوًّا كبيرًا واتجهت إليها الأنظار، وعملت هي من جانبها على تدعيم هذا المركز وعلى ربط جميع القبائل حوله. ولم يكن ذهاب عبد المطلب بن هاشم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ظهور المصلح النبي في بداية القرن السابع الميلادي كانت بلاد العرب مستعدة لتلقي أكبر انقلاب في تاريخها, بل إنه حين حدث كان أعظم انقلاب في التاريخ الإنساني العام، بما ترتب عليه من تغيير شامل في النواحي الدينية والاجتماعية والسياسية على السواء، وقد كانت الظروف مواتية لهذا الانقلاب تمام المواتاة. فمنذ منتصف القرن السادس كان قد أخذ يمحى ما بين أقوام العرب من خصام؛ وما بين قبائلهم من تنافس، تجاه الخطر الذي كان يتهددهم في الداخل والخارج: فأما في الداخل فإن الصراع القبلي كان ينهك قوى القبائل ويقضي على أمنها, الأمر الذي حمل الزعماء وأصحاب النفوذ فيهم على العمل للحد من هذا التنازع؛ فكانت سنة الأشهر الحرم لتقليل فرص القتال -كما بينا من قبل- وما استتبع ذلك من تجمعات في الأسواق العامة وفي موسم الحج، مما أدى إلى حل كثير من المشاكل، وإلى تقريب النفوس وقيام التحالفات بين القبائل وأما في الخارج؛ فإن العرب كانوا يشعرون بضرورة الاتحاد، لما رأوا من تهديد الروم في الشمال، وتهديد الفرس في الشرق، وتهديد الأحباش في الجنوب، وكان من نتيجة الحوادث الأخيرة -التي أشرنا إليها- وهي زوال ملك الحيرة واضطراب أحوال الغساسنة وضياع استقلال اليمن، أن أخذت المبادئ القومية تنمو في نفوس العرب إلى حد كبير, وكان على زعمائهم أن ينظموا عناصر المقاومة تجاه هذا الضغط المضاعف، وقد نلمس هذه المقاومة في وقوف القبائل العربية المختلفة في وجه الحملة الحبشية على مكة، وقد يكون هذا عملًا تلقائيًّا، ولكنه يدل على الشعور بالارتباط العام بالإحساس بالمصير المشترك. وحين استطاع الحجاز أن يحبط الحملة الحبشية, كان أكبر قدوة, فاستردت مكة زعامتها التي أريد نزعها منها، وعلت منزلة قريش الأدبية علوًّا كبيرًا واتجهت إليها الأنظار، وعملت هي من جانبها على تدعيم هذا المركز وعلى ربط جميع القبائل حوله. ولم يكن ذهاب عبد المطلب بن هاشم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 مكة ومن قريش ظهر محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم نبيًّا يدعو إلى رسالة جديدة، جوهرها الإقرار بالألوهية لإله واحد، هو الله الخالق المبدع الذي تنزه عن المشاركة والمصاحبة وتفرد بالربوبية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] ونبذ ما عدا ذلك من أصنام وأوثان وكل ما يلقي ظلًّا من المشاركة مع الله. وأن الناس كلهم أبناء أب واحد وأم واحدة، لا فضل بينهم إلا بما يقدم أحدهم من عمل صالح يرضي الله ويعود على الإنسانية بالخير: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات] فالناس جميعًا سواء أمام الله مهما اختلفت أجناسهم أو لغاتهم أو مراكزهم الاجتماعية، ويجب لذلك أن يتساووا في الحقوق والواجبات بصفتهم إخوة في الإنسانية، وبصفتهم جميعًا عبادًا لرب واحد, وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء ليقر العدالة ويقر مكارم الأخلاق. ومحمد إذ بُعث نبيًّا؛ كانت له صفاته الشخصية التي هيأته للاضطلاع بدور الزعيم النبي -صلى الله عليه وسلم-. وإذا قرأنا كتب السيرة القديمة، وجدنا هذه المصادر تقدم لهذا الدور بنوع من التفسير لعبقرية النبي -صلى الله عليه وسلم- فهم يوردون أخبارًا تدل على اكتسابه نوعًا من الخبرة الني يكتسبها كل إنسان من تجاربه, ثم يوردون أخبارًا أخرى تدل على أن النبي نال من العناية الإلهية والفضل الرباني والعلم اللدني الذي يلقيه الله في نفس العبد بدون واسطة، وأن هذه النفحات الإلهية أتمت للنبي -صلى الله عليه وسلم- شخصيته وأكملت تجاربه. يذكر المؤرخون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شارك في الحياة العامة في مكة منذ طفولته مشاركة كان لها أثر كبير في حياته, فقد شارك في الحياة السياسية في المدينة المكية، فقد اشترك في حلف الفضول، وكان هدف هذا الحلف هدفًا ساميًا لم تألفه القبائل المعتزة بعصبيتها، هذا الهدف هو نصرة المظلوم بصرف النظر عن قرابته وقبيلته1. ومن قبل كان قد اشترك إلى جانب أعمامه من هاشم وقريش في حرب الفجار، وهي حرب وقعت في الأشهر الحرم فسميت بالفجار2، فاكتسب إلى جانب خبرته السياسية خبرة حربية، ثم إنه اشترك في تنظيم القوافل التي كانت تسيرها قريش إلى الشام، فسافر مع   1 ابن هشام 1/ 145، ابن سعد 1/ 110. 2 ابن هشام 1/ 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 عمه وهو صبي1، وسافر في تجارة لخديجة وهو شاب2، كما مارس التجارة في مالها بعد أن تزوجها؛ فاكتسب خبرة بالمعاملات التجارية ومعرفة بطبيعة الإنسان يقدر بها على تقدير قيمة الرجل الأدبية من فور. كما اكتسب خبرة بالبلاد وأحوال الناس، ثم إنه كان قد اشتغل بالرعي حين كان صبيًّا، فأكسبه ذلك صفة خلقية هي التواضع وتمجيد العمل أيًّا كان نوعه3. ثم إنه اشتهر بصفة خلقية هي الأمانة حتى سمي بين الناس قبل البعث بالأمين4, فكان له إلى جانب تجاربه، أخلاقه المرتضاة التي كانت تحببه إلى الناس قبل أن يعارض آراءهم. وثمة صفة أخرى اشتهر بها هي صفة القدرة على الحكم وسرعة البديهة في حسم الأمور، يشهد بذلك حكمه بين أهل مكة حين جددت قريش بناء الكعبة, واختلفت بطونها على من ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه من البناء، فأظهر من سرعة الخاطر وقوة البديهة ما حسم الموقف وأرضى المتنازعين, كما كشف هذا الموقف عن قيمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الحياة الاجتماعية في مكة بحيث ارتضاه رجال الملأ حكمًا ورضوا بحكمه5. ثم إنه كان إلى هذا كله يتيمًا فقيرًا ذا طبيعة دينية على ما يمكن أن نستنتج من ميله إلى التحنث -وهو التفكير والتأمل والتعبد- معتزلًا بكهف بالجبل شهرًا من كل عام 6؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- رجل اكتسب صفات على نحو ما يكتسبه الناس، وتلقى من الله توفيقات وإلهامات. فهو بشر ارتفع بنفسه على نحو ما يرتفع كبار الفلاسفة بأنفسهم عن مستوى تفكير عامة الناس، إلا أن النبي يرتفع بعقله وقلبه في آن واحد, على حين يرتفع الفيلسوف بعقله فقط. ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد بعد زواجه من خديجة بنت خويلد -وهي إحدى النساء الغنيات الشريفات في مكة 7- نوعًا من الراحة النفسية التي يجدها المرء إذا وفق إلى   1 ابن سعد 1/ 101. 2 نفسه 1/ 111. 3 ابن هشام 1/ 178. 4 نفسه 1/ 14. 5 ابن هشام 1/ 214. 6 نفسه 1/ 153، الطبري 2/ 47. 7 ابن هشام 1/ 252، الطبري 2/ 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 شريكة توافق ميوله. وقد كان هذا الزواج من العوامل التي جعلته يتخفف من بعض أعباء الحياة ومن بعض عناء السعي؛ فخديجة الغنية بمالها، والتي كانت امرأة نَصَفة قد فارقت عهد الشباب الأول، وكانت لها تجربة إدارة أموالها، كانت أقدر على حياة زوجية هادئة رصينة، هيأت لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أن يتخفف من أعباء الحياة لأفكاره الذاتية، ولحياته الداخلية القوية التي تشغل عزلته كلما أمعن في العزلة -والعزلة لا يطيقها إلا الذين حفلت نفوسهم بالأفكار الذاتية- ثم من ناحية أخرى تتصل بهذا، يشهد بها بعض الرواة نقلًا عن زوجته عائشة، وهي أن أول ما بدئ به النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يرى الرؤية واضحة كبلج الصبح1. ومعنى هذا أن حياته الداخلية كانت امتدادًا لحياته الخارجية؛ فهو في يقظته وفي نومه يجد نفسه مشغولًا بأمر واحد، وهو أمر الدين الذي يتهيأ لقبوله وتلقيه، والإنذار به والدعوة إليه.   1 ابن هشام 1/ 252، الطبري 2/ 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 المفاهيم الجديدة في الدعوة : بدأت الدعوة إلى الإسلام ذات صفة دينية في الدور المكي من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أما الصفة السياسية فلم تظهر إلا في الدور المدني. وهذا أمر طبيعي؛ إذ إنه لا بد من أن يبدأ بتقرير العقيدة ثم بث المثل العليا في النفوس، حتى إذا ما تهيأت لذلك أمكن تنظيم المجتمع على هذا الأساس. وقدمت هذه الدعوة للعرب مفاهيم جديدةلم يكونوا يعرفونها أولم يكونوا يؤمنون بها. وأول هذه المفاهيم هو المفهوم الجديد للوحدانية. وهذه الوحدانية تظهر للإنسان بالنظر العقلي في إثبات وجود الله ووحدانيته؛ ففي نظام الخلق، وترابط الوجود، وقوانين الطبيعة، وما يقوم على الأرض من إنسان وحيوان ونبات، وفي ذات الإنسان نفسه؛ في خلقه وفي عقله ووجدانه, ما يؤدي بالعاقل المتبصر المتفكر إلى إقرار وجود الله وإقرار وحدانيته، والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدعو العقل إلى النظر والتدبر ليصل إلى هذه النتيجة1. ومفهوم الوحدانية كما جاء بها الإسلام مفهوم جديد، لا على العرب وحدهم، ولكن على الناس جميعًا. حقيقة إن الأديان السماوية كلها قد دعت إلى الوحدانية،   1 على سبيل المثال، اقرأ كلًّا من سورة: هود7، الأحقاف3، العنكبوت19، 20، 61، 63، الرعد 5-16، الأنبياء 30- 31, الحج 5، لقمان 10، فصلت 9-12، القمر 49-50، الطلاق 12، النبأ 6-7، آل عمران 5- 6, 18، 190 البقرة 116، 117، 163، 165، الأنعام 21، 56، 94، 100، 103، يونس 31 - 36، الغاشية 17- 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ولا يمكن أن تكون قد جاءت بغير ذلك؛ إلا أن هذه الفكرة ما لبثت أن تغيرت وشابتها كثير من الشوائب غيرت من صفائها ووضوحها. بما أدخل على ديانات الرسل ودعواتهم من شوائب الوثنية التي كانت تقوم إلى جوارها، والتي كثيرًا ما كانت القوة المادية والسياسية إلى جانبها. فقد كان اليهود دعاة توحيد، لكن هذا التوحيد اليهودي لم يكن توحيدًا مطلقًا فالله عند اليهود هو إله إسرائيل اختارهم لنفسه واختاروه لأنفسهم دون الآلهة الأخرى، فربطوا بذلك ديانة موسى بجنسهم، وهم حين عبدوا إلهًا واحدًا اعترفوا للأمم الأخرى بآلهتها1. وهذا ما لا يقره الإسلام إطلاقًا؛ فالوحدانية الإسلامية وحدانية كاملة مطلقة ليس للوجود جميعًا غير رب واحد، وكل ما يلقي ظلًّا على هذه الناحية غير معترف به من الإسلام. أما المسيحية فإنها تنادي بالتثليث، أي أنها تجعل الإله الواحد ثلاثة أقانيم متساوية في وحدة هي الآب والابن والروح القدس، وهي تؤله المسيح نفسه 2. والإسلام لا يقر إلا وحدانية مطلقة، وذات الله لا تتعدد ولا تنفصل ولا تشبه الخلق، ولا يشاركه في ملكه أحد ولا يساويه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] . وقد توصل بعض الفلاسفة إلى فكرة الوحدانية، ولكن هذه الفكرة لم تكن واضحة التحديد، ثم إنها لم تجد اعترافًا من العقل الإنساني العام، ومن ثم بقيت فكرة فلسفية وعاش الناس من حولها يحيون حياتهم الدينية الوثنية. والديانات القديمة نادى بعضها بالوحدانية كديانة أخناتون في مصر، ولكن وحدانية أخناتون كانت مشوبة بالوثنية مصورة بمظاهر الطبيعة 3. ولذلك يمكن القول بأن الوحدانية كما جاء بها الإسلام كانت جديدة كل الجدة على العرب، وهي بمفهومها الإسلامي جديدة كذلك على العالم، ولأول مرة في حياة البشرية تقوم هذه الفكرة وتستقر وتصبح عقيدة عامة ثابتة.   1 انظر سورة البقرة 63، 66، 75، 92- 93، 101- 102, 114- 176، الأعراف 161- 177، المائدة 13- 18، 41، 68-70، 77، آل عمران 23، 24، 187، النساء 44-46، الجمعة 5-18. 2 انظر سورة التوبة 30-31، النساء 171، المائدة 17, 72، 73، 77، 116، يونس 68، مريم 35، 88، الأنبياء 26، المؤمنون 91. 3 أحمد بدوي، في موكب الشمس 2/ 568- 596. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 والمفهوم الثاني هو الخاص بفكرة الحساب وما يتصل بالحساب من معانٍ، فالله يعلم الجهر وما يخفى، والإنسان رهين بما كسب: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} [المدثر] 1 فإذا جاءت القيامة حوسب المرء على عمله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة] . {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} [الإسراء] . ثم إن الله حين وضع الحساب فرض على نفسه هداية الناس: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء] 2 فأرسل إليهم الرسل رسولًا إثر رسول؛ لأن الله لم يكن ليخلق الناس ويتركهم سدى بدون هداية. {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة] . وهذا الحساب يكون في يوم القيامة بعد البعث، وقد أنكر الجاهليون البعث كما أنكروا الحساب: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون] {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد] ، ويتساءلون في إنكار: {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة} [القيامة] . والمهم في فكرة الحساب أنها تجعل المرء من نفسه وازعًا يزعه فيتجه به إلى الخير ما أمكن؛ ففكرة الحساب أساس الأخلاق، وفكرة الحساب معروفة في الأديان الأخرى وحتى في بعض الأديان الوثنية كالديانة المصرية القديمة. ولكن مفهوم البعث والحساب لم يكن معروفًا بالصور التي أقرها الإسلام؛ فكل ما عرف من قبل أنه يوجد بعد الحياة الدنيا حياة أخرى يلقى فيها المرء خيرًا أو شرًّا، وقد لا يجديه العمل الصالح بغير شفاعة الشافعين ووساطة الوسطاء ورضاء الكهنوت. ولكن الإسلام قرر أن الحياة أطوار, من لدن أن يكون الإنسان ماءً دافقًا يخرج من بين الصلب والترائب، إلى أن يكون جنينًا، ثم وليدًا, ثم يجري في طور الحياة الظاهرة إلى أن يموت, فيحيا حياة الروح، ثم يبعث يوم القيامة وقد اكتملت فيه أطوار الحياة فيبعث بجسمه وروحه كما كان خلقه ثم ينال جزاءه حسب عمله. وعمله مسجل عليه في ظاهره وفي باطنه؛ فالإنسان محاسب على الأعمال وما وراء الأعمال من نية وقصد: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى". وكل ذلك مجموع له لا تشفع فيه شفاعة الشافعين، ولا   1 انظر سورة النحل: 111. 2 انظر سورة يونس 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 تقوم بين الإنسان وبين الله وساطة، ولا يؤخذ المرء بعمل غيره: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه} [الانفطار] {يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان] . والعدل المطلق هو الذي يحكم, وإلى جانب العدل كانت الرحمة. وأول ما يحاسب عليه الإنسان هو العقيدة؛ فالإيمان بالله أولًا، فإذا وجد جرى الحساب على الأعمال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء] ، وإن لم يوجد فإن الإنسان هالك في النار خالد فيها. وقد صور القرآن الحياة الأخرى تصويرًا ماديًّا واضحًا، فالمؤمنون المتقون يحيون في جنة حوت كل أنواع النعيم، والصورة التي رسمها القرآن للجنة صورة أخاذة رائعة تأخذ بمجامع النفوس وتغري بعمل الخير والسعي نحو الفضيلة. أما الكافرون فمصيرهم إلى نار حامية يلقون فيه ألوانًا من العذاب تقشعر لوصفه الأبدان وتهلع القلوب. وعلى غير هذا المفهوم كانت الديانة اليهودية، فإنها لا تميل إلى تصور العالم الآخر، بل عندهم الجزاء ثوابًا وعقابًا، في هذا العالم، وفيما كانوا يخافونه مما قد يسلطه الله عليهم من أنواع الخوف والجوع وما إلى ذلك من عذاب الدنيا. وفيما أورد القرآن من قصص العهد القديم أمثلة لنزعة الحضارة العبرية نحو مفهومات الجزاء الغيبي، من حيث ارتباطه بمصير المجتمع في حياته الحاضرة، ومن الممكن أن نتبين هذا إذا نظرنا مثلًا في قصة نوح أو قصة لوط وفي غيرها من قصص بني إسرائيل؛ فلم يكن تفكيرهم في اتجاهه العام يهتم بخلود الروح بعد الموت؛ وإنما كان تفكيرهم وثيق الصلة بهذه الحياة لا يكاد يحفل بما وراءها من ظواهر. والأديان الأخرى -إذ كانت تعد الموت انحلالًا جسميًّا خالصًا فكانت تفترض البعث للروح وحدها- لم تقل بأي شأن للحواس في الحياة الآخرة1. وغير هذا أمر الإسلام الذي يقول ببعث الإنسان بعنصريه من كل وجه، وهو إذ يصور نعيم الجنة نعيمًا ماديًّا يجعل أعلى درجات النعيم روحانيًّا؛ فأكرم المؤمنين عند الله من يمتعه الله بالنظر إلى وجهه تعالى غدوًّا وعشيًّا.   1 سيديو، تاريخ العرب 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 والمفهوم الثالث هو ما يختص بفكرة الكتاب المنزل، فالذي يوحى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاب منزل من عند الله وليس من قول البشر: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج] يتكفل الله ببقائه وصيانته وعدم نسيانه، وهو من كلام الله بحروفه ومعناه. لا يزيد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه شيئًا ولا ينقص، فهو كلام مقدس بنطقه ومعناه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة] والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع أن يتقول على الله شيئًا، وإلا نال من ربه عقابًا شديدًا: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة] . وقد وجدت الكتب السماوية من قبل القرآن، ولكن استقرار أن الكلام بنصه ولفظه من عند الله لم يكن موجودًا في غير القرآن، فالتوراة كتبت من بعد موسى وتضمنت فصولًا كتبت بعد وفاته، كما حوت تاريخًا ونبوءات من قبل موسى ومن بعده، كذلك تعددت ترجمتها والإضافات إليها. والإنجيل كتبه تلاميذ المسيح وضمنوه جملًا من كلام المسيح نفسه، فليس الإنجيل كله كلامًا منزلًا بنصه وحروفه من عند الله1، وحتى كلام المسيح نفسه لا يمكن أن يقال إنه بنصه وحروفه ولكن بمعناه، ولا يخرج الأمر في الإنجيل عن طريق الحديث عند المسلمين؛ ولذلك تعددت كتابة الإنجيل، بل وتعددت الأناجيل لدرجة كبيرة. ولم يجد المسيحيون ولا اليهود حرجًا من ذلك؛ لأن فكرة الكتاب المنسوب بلفظه ومعناه إلى الله لم تكن موجودة من قبل القرآن، وعلى مثل ذلك كانت الحال في الكتب الدينية الأخرى. أما الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد تقيد محمد -صلى الله عليه وسلم- نفسه فيه، بحيث إنه ليس في إمكانه أن يزيد فيه حرفًا أو ينقص حرفًا، وليس في إمكانه أن يأخذ فيه المعنى دون اللفظ، فالله يوحي قوله إلى جبريل، وجبريل يلقيه على محمد -صلى الله عليه وسلم- ومحمد يتلوه على الناس كلامًا مقدسًا كما سمعه. والآيات التي أشرنا إليها آنفًا تقر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ملزم بألا يستعجل فينطق بالوحي قبل أن يستقر بلفظه كما هو مستقر في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعناه، وتشهد بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس في إمكانه أن يتقول على الله شيئًا.   1 انظر الإصحاح الأول من إنجيل لوقا "إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتقنة عندنا كما سلمها إلينا حين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك يها العزيز توفليس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وقد كتب القرآن في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- حال نزوله- وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- كتبة مختصون بتسجيل الوحي1- ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعرض القرآن الذي أنزل عليه كل عام مرة2. وقد نزل القرآن آيات بحسب الحوادث، وكان الوحي يشير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بوضع كل آية في مكانها من السور، فحتى ترتيب الآيات والسور لم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، وإنما هو مكلف بذلك. وعلى هذا الأساس حفظ القرآن الكريم، وعلى هذا الأساس جمع في مصحف واحد هو المتداول في أيدي المسلمين حتى الآن لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف، ولم يدخل أي نوع من التغيير في ترتيب آياته وسوره3، واستقرت قدسيته على ذلك منذ تلاه محمد -صلى الله عليه وسلم- عن ربه حتى الآن وإلى أن تقوم الساعة. وعلى هذا الأساس نقرر أن مفهوم الكتاب المنزل مفهوم جديد على العالم، وهو بصورة أوضح على العرب؛ فنحن نعرف أن وثنية العرب لم يكن لها كتاب، وهم لم يتقبلوا فكرة الوحي والكتاب المنزل في سهولة، فقال: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء] وقالوا: {افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون} [الفرقان] وقالوا: وقد رد القرآن على ذلك: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل] {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء] وتحدى الناس جميعًا بأن يأتوا بمثله أو بمثل بعضه، ثم دمغهم بالعجز حين أنزل قوله تعالى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء] وهذه الآيات ترينا أن مفهوم الكتاب المنزل كان مفهومًا جديدًا يختلف على صورته التي نعرفها عند الأمم الأخرى، فلم يشهد الناس من قبل تقيدا باللفظ والمعنى كما هو الحال في القرآن، ومن هنا نجد الإنكار والمعارضة، ونجد حتى اليوم من غير المسلمين من يقول بان هذا الكلام من عند محمد، على الأقل بلفظه لأن مفهوم نزول الكتاب بلفظه ومعناه مفهوم جديد لم تعرفه الأمم من قبل الإسلام.   1 أنساب الأشراف1/ 531، البخاري 6/ 183- 184، الدلالات السمعية (مخطوط دار الكتاب) 134- 135. 2 ابن سعد 4/ 8- 9، 158. 3 البخاري 6/ 183- 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جانب هذه المفاهيم الجديدة التي جاء بها كان معلمًا للأخلاق، يريد أن يثني الناس عن عاداتهم المرذولة القديمة، ويريد أن يهديهم إلى أخلاق كريمة سميت فيما بعد بالأخلاق الإسلامية. وفي القرآن آيات كثيرة تدل على هذا الدور الأخلاقي الذي قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- اليتيم. فالناس قد ألهاهم التكاثر، يجمع أحدهم المال ويعده عدًّا، لا يكرمون ولا يحاضون على طعام المسكين، يأكلون التراث أكلًا لمًّا، ويحبون المال حبًّا جمًّا1. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يستنكر هذه المادية التي تقتل الروح وتميت نوازع الخير، ويدعوهم إلى البر والتقوى والإنصات إلى النفس اللوامة. ونستيطع أن نتصور المثل الأعلى الذي دعا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قرأنا الآيات من صدر سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون] . هذه هي المسائل الرئيسية التي دعا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس، فكانت غريبة عليهم حتى قالوا كما عبر القرآن {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص] 2. {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [ص] . هذا يؤكد لنا أن هذه الأفكار كانت جديدة غير معروفة في المجتمع العربي، وغير معروفة كذلك في الأديان الأخرى، ومن غير شك كان العرب يخالطون أصحاب الديانات الأخرى، بل منهم من دخل فيها، فمنهم تهود، ومنهم من تنصر، وكان أهل مكة يخالطون أهل الديانات في رحلاتهم التجارية نحو الشمال والجنوب ويتعاملون معهم، ومن غير شك عرف المكيون شيئًا عن مبادئ هذه الديانات3، بل منهم من قرأ الكتب وعلم أهل الكتاب، فلو كانت هذه الأفكار الإسلامية كما صورناها موجودة عند أهل الكتاب لما قال هؤلاء المكيون مقالتهم التي سجلها القرآن، ولو كانت مقالتهم تخالف الواقع لرد القرآن بتكذيبهم وبتأكيد وجود هذه الأفكار، الأمر الذي يقطع بما نتجه إليه4.   1 انظر سورة الفجر، التكاثر. 2 انظر سورة المؤمنون. 3 انظر سورة ص 7. 4 ابن كثير 3/ 88-89. ابن هشام 1/ 383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 على أن هذه المثل العليا في الإيمان وفي الأخلاق هي أفكار إنسانية لا تزال الإنسانية تنشدها وتعيش عليها منذ بدء الخليقة، ونعني بها الدعوة إلى الفضيلة والنزوع إلى الكمال الإنساني، ولم تفقد جدتها بعد، ولا يتهم صاحبها بأنه اقتبسها أو قلد بها غيره فهي تراث للإنسانية قديم جدًّا، والقول بهذا الاتهام وقوع في خطأ قديم ابتدأ به الوثنيون حيث قالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الدعوة إلى الإسلام ومسايرة التنظيم العربي كانت الدعوة سرية في أول الأمر، وظلت كذلك ثلاث سنين، ثم أصبحت بعد ذلك علنية، وكانت في أول أمرها مقصورة على عشيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- الأقربين1 {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين} [الشعراء] ثم اتجهت إلى الدعوة العامة. والحقيقة أنه لا يوجد فارق حقيقي بين الدعوة السرية والعلنية، فإن طبائع الأشياء لا تكاد تقبل هذا التصوير، فإن رسالة النبي انتشرت منذ البدء وبلغت أهله الأقربين ثم أصدقاءه، وظل الأصدقاء يكتسبون أصدقاءهم، واتسعت الدائرة شيئًا فشيئًا حتى أصبحت الدعوة عامة علنية. وكانت مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة هي إبلاغ القرآن وتعليمه وتحفيظه، وإمداد المؤمنين بالصبر والاحتفاظ باليقين والصمود للفتنة2 والسعي لنشر التعاليم الجديدة في المواسم عند اجتماع الناس، والدعوة لها 3، والقرآن الكريم الذي نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الفترة مليء بالدعوة لهذه المبادئ، متعدد النواحي في تبيانها، داعي العقول إلى التفكير فيها واستنباطها، ضارب الأمثلة لها، محذر من عاقبة جحودها والوقوف في وجهها، في أسلوب رائع أخاذ، يأخذ بمجامع القلوب وينفذ إلى أقصى أغوار النفس. وقد سايرت الرسالة في ظروف الدعوة إليها، ظروف التكوين العربي: فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو عشيرته الأقربين؛ لأنهم بحكم عصبية القرابة والرحم سيقفون إلى   1 الشعراء 214- 216، ابن هشام 1/ 274، الطبري 1/ 61. 2 ابن هشام 1/ 342، اليعقوبي 2/ 20. 3 ابن هشام 2/ 31-37، الطبري 2/ 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 جانبه ويؤازرونه ويكونون عونًا له وحماية في وجه العصبيات الأخرى، ثم أمر بعد ذلك أن يدعو مكة {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى] وحين نقول مكة نعني بذلك قبيلة قريش؛ فإنها كانت هي الأصل في أهل مكة ومن معها من الناس موال لها أو أتباع. فالانتقال من عصبية العشيرة إلى عصيبة القبيلة أمر جرى عليه التكوين الاجتماعي عند العرب، ثم أمر أن يدعو من حول مكة من قبائل، أي أن ينتقل إلى عصبية التحالف القبلي وعصبية الشعب، وكان من المنتظر أن تؤمن به العشيرة ثم القبيلة، لكن الذي حدث كان غير ذلك، فإن هذه العصبية الرحمية والقبلية قد وقفت في طريقها عصبية أخرى هي عصبية التقاليد والعادات القديمة، وكان الناس في ذلك الوقت يتعصبون تعصبًا شديدًا لموروث عاداتهم وتقاليد آبائهم، ويرونها دينًا من أمر الله {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف] فكانت هذه العصبية للعادات والتقاليد حائلًا بين الناس وبين متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحتى بني هاشم بالرغم من وقوفهم إلى جانب النبي -صلى الله عليه وسلم- وحمايته بدافع عصبية العشيرة لم يؤمنوا به وغلبتهم عصبية التقاليد على أنفسهم. وشيء آخر غير العصبية منع قريشًا من متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حرصها على منزلتها بين العرب، وكانت تخشى أن تذهب الرسالة الجديدة بمكانتها التي وصلت إليها طريق رياستها للدين الوثني ورعايتها للتقاليد العربية. ثم كان زعماء مكة حريصين على مبدأ التناظر بينهم كزعماء، فقد كان يحكم مكة رؤساء العشائر والبطون ويتكون منهم ما عرف بالملأ وهو مجلس الرياسة في قريش، وكان رجال الملأ حريصين على ألا يسودهم أحد ويرون التكافؤ بينهم، فالصفات العامة في أحدهم من الممكن أن ينالها كلهم، أما أن يكون واحد نبيًّا فهذا أمر ليس بمدرك لعامتهم وعند ذلك تكتب له الزعامة بلا منازع، ويرون أنفسهم مضطرين للخضوع له ومتابعته1، ومن أجل ذلك عارضوا محمدًا ونفسوا عليه مقام الزعامة الذي توصله له الرسالة. وكانت معارضة قريش مركزة في رجال الملأ وتابعهم عامة الناس.   1 الواقدي: مغازي رسول الله 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 لكن زعامة الملأ ونفوذه مهما بلغت قوته لم تكن تستطيع أن تحجر على عقول الناس، ولا على قلوبهم؛ فالمبدأ العام الذي جرى عليه العرب هو مبدأ حرية الرأي، ولم تكن هناك أية قوة تستطيع أن تمنع العربي عن الإفصاح عن رأيه أو التعبير عن إرادته؛ ولذلك عجز رجال الملأ عن أن يحولوا بين الرسالة وبين الوصول إلى قلوب الناس، ووجدت الروح الحائرة ضالتها، فآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- بعض أهل مكة ممن سمت نفوسهم ونضجت عندهم العاطفة الدينية، كذلك آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- عدد من الرقيق والموالي رجالًا ونساء، وجدوا في مبادئ الرسالة الجديدة حلًا لمشكلتهم وضمانًا لحريتهم. ولم يحفل زعماء مكة كثيرًا بالرسالة في أول ألامر، واعتبروا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- واحدًا من أولئك الباحثين عن دين إبراهيم، أو المتمردين على الوثنية من أمثال: ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعثمان بن الحويرث وغيرهم من متحنفي العرب، لا يلبث أن يخفت صوته ويضيع في ضجة الحياة القائمة في مكة وفيما حولها، والتي تموج بحركة المال وحركة الأدب والشعر في موسم الحج وفي أسواقه. لكن الرسالة مضت قدمًا تشق طريقها وإن كان ذلك في بطء ووجدت قريش نفسها أمام رجل آخر، ودعوة أخرى، وأمام جماعة أخذت تتكون في داخل مكة؛ فإن محمدًا لم يكتف بالتعبد والبحث عن الحنيفية، أو المدارسة الدينية كما يفعل غيره من المتحنفين والمتبرمين بالوثنية والساخطين على الأصنام، وإنما هو يدعو إلى دينه في حماس ومثابرة وإن كان في هدوء وأخذ بالحسنى، وهو يتلو كلامًا بليغًا ينفرد بأسلوب رائع لا يجده المكيون فيما ألفوا من أساليب الشعراء أو البلغاء أو سجع الكهان1، وهو يكتسب كل يوم أتباعًا يؤمنون بأنه رسول الله وأن كلامه ليس من قول بشر، وهو يدعو إلى مبادئ جديدة أخذت في الوضوح والظهور. ثم إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أخذ يهاجم الدين الوثني هجومًا شديدًا، ويسب الأصنام ويحقرها، ويتهم قريشًا في أحلامها ويسفهها، ويكفر آباءها ويخلدهم في النار، وقد رأت قريش أنه بهذا إنما يهدم مكانتها بين العرب؛ فإنها قد وصلت إلى ما وصلت إليه من الزعامة العربية، بما اشتهرت به من   1 ابن كثير 3/ 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الحلم الذي سادت به القبائل، وها هو محمد -صلى الله عليه وسلم- يسفه أحلامها ويحقر عقولها، ثم هو ينتقص من الدين الذي تقوم على رعايته ومنه أخذت زعامتها الروحية بين العرب، وعلى أساس هذه الزعامة يقوم مركزها الاقتصادي؛ لذلك رأت في الدعوة الجديدة خطرًا يتهدد مركز مكة الأدبي والمادي على السواء، ولم تستطع أن تقتنع بما يقوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنه جاءهم بخير ما يأتي به رجل قومه، وقالوا كما عبر القرآن: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص] وبالرغم من إحساسهم بأن ما جاء به حق فإنهم لم يطمئنوا إلى هذا الدين الجديد الذي يريد أن يشكل محمد -صلى الله عليه وسلم- المجتمع على أساسه. فالمصلحة المادية كانت عاملًا من العوامل التي دفعت قريشًا إلى الوقوف في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك الاستمساك بالقديم سبب آخر دعا قريشًا إلى المعارضة، وأيدها الرأي العام الوثني فجلت فيها. وبالرغم من وقوف العصبية العشائرية لحماية محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن به من قريش؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يستطيع أن يعتمد على العصبية في دعوته الدينية، لأسباب منها: أن دعوته إنسانية عامة تسمو على التعصب، ولأن التورط في مجال العصبية يجعله يدور في دائرة مقفلة يصعب عليه أن يخرج منها؛ بل هي تحصره في الدائرة القبلية التي كان يريد الخروج منها بطبيعة دعوته االدينية. ولقد لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن به عنتًا كبيرًا، وأوذوا في أنفسهم وأموالهم، ودفع بعضهم حياته ثمنًا لعقيدته، فقد عذبت قريش المستضعفين من المسلمين، وحتى من كان له عصبية تحميه وعشيرة يعتز بها لم يسلم من الأذى؛ لأن البطون القرشية كلها اشتركت في محاولة فتنة المسلمين، وأخذت كل عشيرة نفسها بتعذيب من أسلم منها، حتى اضطر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يفكر في مخرج لأصحابه من هذه الفتنة الشديدة، فأذن لهم بالهجرة إلى الحبشة1. وإذا كانت قريش قد حرصت على ألا تسفك دماء القرشيين حتى لا تقع ثارات فتجر إلى الحرب الداخلية في مكة؛ فإن بعض الموالي فقد حياته تحت التعذيب، فقد مات ياسر والد عمار بن ياسر تحت التعذيب، وقتلت زوجته سمية بطعنة من يد أبي جهل عمرو بن هشام أحد سادات قريش من بني مخزوم، ولقي عمار نفسه من العذاب ما كاد يقضي عليه2، وكذلك ذاق بلال بن رباح، وغيره من الرقيق الذي أسلم نساء   1 ابن هشام 1/ 342. 2 ابن هاشم 1/ 432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ورجالًا ألوانًا قاسية من العذاب، حتى دفعت الشفقة أبا بكر بن أبي قحافة الذي لقب بالصديق -وهو أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من رجال قريش وكان تاجرًا موسرًا- إلى أن يشتري بلالًَا وغيره ويعتقهم1. والحقيقة أن صبر المؤمنين وتمسكهم بدينهم واستهانتهم بالتعذيب والموت في سبيله ليعد من أروع مواقف البطولة والتضحية في سبيل المبدأ والعقيدة. والنبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه -برغم وقوف أهله إلى جانبه وتصديهم لحمايته- لم يسلم من الأذى حتى تعرضت حياته نفسها للموت. ولقد تحدث العالم الأوربي الدكتور ماركس دودز عن شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنه لخليق في هذه الفضيلة أن يسامي أوفر الأنبياء شجاعة وبطولة بين بني إسرائيل؛ لأنه جازف بحياته في سبيل الحق، وصبر على الإيذاء يومًا بعد يوم عدة سنين، وقابل النفي والحرمان والضغينة وفقد مودة الأصحاب بغير مبالاة، فصابر على الحملة قصارى ما يصير عليه إنسان دون الموت الذي نجا منه بالهجرة، ودأب مع هذا علي بث رسالته غير قادر على إسكاته وعد ولا وعيد ولا إغراء2، كما تحدث غيره من مؤرخي العرب مشيدين بشجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتضحياته وهو من آمن به من المسلمين الأولين3.   1 ابن هشام 1/ 340- 341. 2 عباس العقاد: عبقرية محمد ص262- 263. 3 بودلي الرسول "حياة محمد" ص81 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 أساليب قريش لمقاومة الدعوة ولقد اتخذت قريش أساليب مختلفة في مقاومة الدعوة الجديدة: بدأت المقاومة سلبية في أول أمرها، فقد أظهر رجال الملأ عدم الاكتراث بالدعوة الجديدة، ونظروا إليها نظرة استخفاف، فلم تعنهم كثيرًا، وظنوا صاحبها من أمثال ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، من الساخطين على الأصنام، الباحثين عن الحنيفية أو غيرها من الديانات الأخرى، وإن كان يختلف عنهم في أنه يخبر أنه يتلقى الوحي من السماء، وكان يحلوا لهم أن يشيروا إليه كما رأوه: هذا ابن عبد المطلب يكلم من السماء1.   1 ابن سعد1/ 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 لكنهم ما لبثوا أن أدركوا أن الأمر أخطر مما تصوروا؛ فإن محمدًا يكتسب كل يوم أصحابًا من رجالهم ومواليهم يتابعونه ويؤمنون به نبيًّا ورسولًا، وأن هؤلاء الأصحاب ينشطون معه للدعوة لدينه الجديد1 ثم يرونه يجمع عشيرته من بني هاشم، ويدعوهم إلى الإيمان بما يقول، ويحاول أن يجعل منهم كتلة حوله، ويرون عمه أبا طالب -زعيم البيت الهاشمي- وإن كان لم يتابعه على ما يدعو إليه، فهو يشجعه ويقف إلى جانبه2؛ ويرون محمدًا يكثر الاجتماع بأصحابه الذين آمنوا به وهم رجال من كل بطون القرشية وهو يتعرض للأصنام يسبها ولقريش يسفه أحلامها ويكفر آباءها. وإذن فهذا أمر يراد بقريش لا يصح السكوت عليه. ولما كان رجال الملأ يدركون قيمة العصبية ويخشون خطرها لو تعرضوا لمحمد بالسوء؛ فقد لجئوا إلى أبي طالب يطلبون إليه أن يتدخل لمنع بن أخيه من التعرض بالمهانة لمقدسات القبيلة وحرماتها، فهم إن صبروا على ما يقول به ويحول أبناءهم إليه، فهم لا يطيقون صبرًا على شتم الآلهة وتسفيه الأحلام وتضليل الآباء. ويلاين أبو طالب قومه ويردهم بالحسنى، ولكنه لا يمنع محمدًا، ولا يتوقف محمدًا عما أخذ فيه. ويعاود رجال الملأ الطلب ويشفعون طلبهم بالعروض، فهم يعرضون أن يتركوا محمدًا وما يدعو إليه على أن لا يتعرض لسب الآلهة وشتم الآباء، ثم يعرضون أن يقدموا رجلًا من خير أبنائهم بديلًا عن محمد -صلى الله عليه وسلم- يتبناه أبو طالب على أن يسلم إليهم محمدًا ليقتلوه إن كان قد عجز عن رده؛ فإنه يدمر وحدة القبيلة ويهدد مكانتها. ويستنكر أبو طالب هذا العرض المنكر؛ فما كان ليسلمهم ابنه ليقتلوه، ويأخذ ابنهم يغذوه3 لهم، ولكنه يدعو إليه محمدًا يعرض عليه ما طلبت قريش، ويطلب منه أن يبقي عليه وعلى نفسه، ولا يحمله من الأمر ما لا يطيق من عداوة القوم. وظن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن عمه قد بدا له فيه بداه، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه؛ فقال في إصرار وإباء: "يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". وهزت كلمة الابن نفس الشيخ الذي لم يسلم   1 نفسه 1/ 185. 2 نفسه 187- 188. 3 الطبري 22/ 67، اليعقوبي 2/ 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ووصلت من نفسه إلى مركز الإعجاب فلم يسعه إلا أن يقول: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا1، ومن ساعتها وقف الشيخ حياته على حماية ابن أخيه، فلم يثنه شيء عن الذود عنه. ولقد فكر رجال قريش بحسب ما يفهمون من مثل الحياة عندهم، وظنوها من محمد عملًا للوصول إلى غرض من أغراض الحياة، وحسبوا من وقوف بني هاشم إلى جانب محمد نزعة إلى الزعامة وغاية للرياسة، فاستجابو للاقتراح تقدم به عتبة بن ربيعة -أحد سادات قريش- حيث قال: ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، فقالوا: بلى يا أبا الويد، قم إليه فكلمه، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت: من السلطة في الشعيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل بعضها، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قل يا أبا الوليد أسمع" قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا في أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. وحيث أتم عتبة كلامه، لم يزد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن تلى عليه آيات من سورة من القرآن ما سمعها الرجل حتى انبهر، وقام وهو مدرك أنه لا سبيل إلى هذا الرجل غير متابعته، أومنابذته حتى يحكم الله بينه وبينهم2. يئست قريش من إغراء محمد -صلى الله عليه وسلم- فاتخذت طريق الجدال والإنكار والاستهزاء، والتعجيز بالأسئلة، والإلحاح في طلب المستحيل من الأعمال مع التصميم على الإنكار، لكن إيمان محمد -صلى الله عليه وسلم- برسالته وبما يوحى إليه كان أعظم من أن ينال من إنكار المنكرين واستهزاء المستهزئين. عند ذلك لجأت قريش إلى طريقة الاضطهاد والتعذيب للمسلمين حتى تخيفهم؛ فتردهم عن دينهم وتمنع غيرهم من متابعة محمد -صلى الله عليه وسلم- خوفًا   1 ابن هشام 1/ 278. 2 ابن هشام 1/ 313- 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 من المشقة والعذاب، فتواصت البطون القرشية بتعذيب من أسلم منها، وألحت على المستضعفين من الموالي والعبيد بالعذاب، كما ألحت على من أسلم من رجالها ونسائها بالأذى، وهي مع كل ذلك تقيم دعاية قوية ضد دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وتتهمه مرة بالسحر ومرة بالجنون ومرة بالافتراء، وتقف لكل وارد على مكة تحذره من ذلك الرجل الذي يملك من سحر البيان ما يفرق به بين المرء وزوجه والأخ وأخيه، وتتخذ مما يحدث في بيوتها مثلًا تضربه على ما تقول، ثم هي لا تني عن سؤال أهل الكتاب من اليهود والنصارى عما يدعيه محمد -صلى الله عليه وسلم- تريد بذلك أن تقيم حجة على ما تقول، ويقوم بعض رجالها بعقد مجالس يتحدثون فيها إلى الناس بغريب القصص وأساطير الأمم يعارضون بها مجالس محمد -صلى الله عليه وسلم- يريدون بذلك أن يصرفوا الناس عنه، وأن يفهموهم أنه إنما يأتي بمثل هذه الأساطير1. وقد تسرف في تصرفها مع الوافدين على مكة من رجال القبائل، فتتعدى التحذير إلى الإعنات، وقد تبطش بمن لا تؤثر فيه دعايتها ويصر على إعلان إيمانه من الوافدين، ولم يكن يردها عن الفتك به إلا حرصها على علاقتها الطيبة مع القبائل وخوفها على مصالحها التجارية، كما فعلت بأبي ذر الغفاري حين أسلم2.   1 ابن هشام 1/ 381. 2 أسد الغابة 5/ 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الهجرة في سبيل الدعوة : ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الأذى يشتد بأصحابه، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة: "فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه" فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام1. وفي هجرة المسلمين إلى الحبشة لا بد بعرض سؤال: لماذا فكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحبشة ولم يفكر في غيرها من أقاليم الجزيرة العربية؟ الواقع أن تفكير النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحبشة ينطوي على معرفة كبيرة بالظروف وإلمام تام بأحوال الجزيرة العربية، كما أن فيه لفتة سياسية من جانب النبي -صلى الله عليه وسلم- موجهة إلى قريش.   1 ابن هشام 1/ 343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 لم يلجأ المهاجرون إلى قوم من العرب في الجزيرة العربية؛ لأن القبائل العربية كانت مرتبطة بقريش ارتباطًا تجاريًّا ودينيًّا قويًّا، وكان لبعضها محالفات وعقود مع قريش؛ وهي لذلك حريصة على حسن العلاقة مع قريش حرصها على مصالحها المادية؛ فلم تكن لذلك تستطيع إيواء الخارجين عليها، ثم هي تؤمن بزعامة قريش وتخضع لتشريعها الديني، وقد تجلى موقف القبائل واضحًا بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب، فقد اتخذت جانب قريش في صراعها ضد يثرب وتحرشت بالمسلمين وحاربتهم في صفوف قريش. أما اليمن فكانت الأحوال فيها غير مستقرة، والخلافات الداخلية تمزقها إلى جانب خضوعها للنفوذ الفارسي، ووقوعها في المجال التصارع الدولي الذي تعدى السياسة إلى الدين، فكان التنافس شديدًا بين المسيحية واليهودية فيها، وهي بذلك غير صالحة لأن يجد فيها المهاجرون المأوى الأمين. وكذلك كانت الحال في مملكة الحيرة ومملكة غسان. كما لم تكن مدن الحجاز مهيأة في ذلك الوقت لقبول هجرة المسلمين إليها؛ فيثرب كانت تمزقها الخلافات الداخلية، ويقوم الصراع فيها على أشده بين قبائلها، هذا إلى علاقات قريش التجارية المتينة مع بطونها؛ سواء من اليهود أو من الأوس والخزرج. وخيبر كانت مدينة يهودية، وكانت صلات اليهود عامة طيبة مع قريش، فضلًا عن أن اليهود كانوا منصرفين إلى مصالحهم راغبين عن الدخول في عداء مع القبائل العربية. وإذن فقد كانت بلاد الحبشة هي أقرب إقليم هادئ إلى مكة يمكن أن يجد المهاجرون فيه الأمن على حياتهم، كما يمكن أن يحصلوا فيه على معاشهم فقد كانت الحبشة متجرًا لقريش ووجهًا، وكان القرشيون يغشونها للتجارة فهم على معرفة بها وعلى خبرة بمزاولة العمل فيها. كما كانت تكمن وراء الهجرة إليها حكمة سياسية؛ فإن الحبشة كانت تطمع منذ أجيال في فتح الأقاليم العربية، وكان ملوك الحبشة يراقبون من أجل ذلك أحوال الجزيرة مراقبة شديدة، وقد سبق للحبشة أن أرسلت حملة لفتح مكة، ومع أن الحملة باءت بالفشل، ومع أن الحبشة خرجت من الجزيرة العربية كلها إلى أن الصراع الدولي على امتلاك طرق التجارة لم ينته بعد. فالهجرة إلى الحبشة تؤدي إلى غرضين: الغرض الأول أن المهاجرين يلقون ترحيبًا من ملك الحبشة؛ أملًا في أن يتمكن بمساعدتهم من التدخل في شئون مكة الداخلية، وفعلًا لقي المهاجرون احتفاء وحسن معاملة من النجاشي1.   1. ابن سعد 1/ 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 والغرض الثاني هو لفت نظر قريش إلى أن عدوانها على المسلمين يضطرهم إلى الالتجاء إلى قوة خارجية ربما تتدخل لحمايتهم، فتتعرض مكة لغزو أجنبي أو تتعرض للإضرار بمصالحها الاقتصادية؛ ولذلك فإن مصلحتها أن تهادن المسلمين وتوقف عدوانها عليهم. وقد أوجست قريش خيفة من هذه الرحلة وحسبت لها حسابًا كبيرًا، فسارعت إلى إرسال بعثة إلى النجاشي تحمل الهدايا له ولرجاله وتطلب إليه رد هؤلاء المهاجرين، وربما لتحاول معرفة موقف الحبشة مع الوضع في مكة، مخافة أن تؤدي هذه الصلة الجديدة إلى أن تعاود الحبشة الكرة على مكة مرة أخرى. لكن البعثة فشلت مهمتها، وبقي المسلمون يتمتعون بالحرية والرعاية، فقد لفتت البعثة أنظار النجاشي نحو هؤلاء الفارين بدينهم إلى بلاده؛ فقدر تضحياتهم وعطف على موقفهم، فبذل العون لهم والرعاية1. في هذه الأثناء دخل في الإسلام عناصر قوية من القرشيين فقد أسلم رجلان اشتهرا بالبأس والقوة، هما حمزة بن عبد المطلب2 وعمر بن الخطاب3 وكان كلاهما رجلًا قويًّا مرهوب الجانب جريئًا في إظهار رأيه والوقوف في وجه مخالفيه، وكان من اليسير أن يشتبك مع مناوئي الإسلام، فتسيل الدماء وتقع الحرب الأهلية التي كان الملأ حريصًا على عدم وقوعها. ولم يتأن الرجلان عن تحدي قريش، فاشتد بهما ساعد المسلمين وقويت قلوبهم واضطرت قريش إلى أن تهادن بعض الوقت حتى تدبر موقفها إزاء هذا الوضع الجديد، وقد وصلت أخبار هذه المهادنة مسامع المسلمين في الحبشة مبالغًا فيها، حتى لقد قيل: إن قريشًا تابعت النبي -صلى الله عليه وسلم- فعاد بعضهم إلى مكة لكنهم ما كادوا يصلون إليها حتى كانت قريش قد اتخذت لنفسها خطة أشد تجاه المسلمين ومن ينصرهم، فدخل بعضهم مكة في جوار بعض رجال قريش، فقد اعتبرتهم القبيلة خارجين عليها قد خلعوا أنفسهم منها فلم يكن لهم من حماية قبلية إلا في جوار -وعاد بعضهم أدراجه ومعهم عدد آخر أكبر من العدد الأول4.   1 ابن هشام 1/ 356 -362 الطبري 2/ 73. 2 ابن هشام 1/ 412. 3 نفسه. 4 ابن سعد 1/ 190-192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أدركت قريش أن ما تقوم به من الأذى للمسلمين لن يحول دون إقبال الناس على الدين الجديد، كما رأت بني هاشم يقومون دون النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا تستطيع أن تبلغ به ما تريد؛ لذلك قررت أن توقع على هذا البطن القرشي عقوبة قاسية؛ لعلها تجبره على التخلي عن موقفه في حماية النبي -صلى الله عليه وسلم- وتضطره إلى تسليمه أو الكف عن نصرته، ورأت أن يكون عملها جماعيًّا ترتبط به كل البطون المكية وحلفاؤها، فبعد مشاورة عامة ائتمروا أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب: على أن لا ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئًا ولًا يبتاعوا منهم؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم1. وحصروا بني هاشم والمسلمين في شعب خارج مكة يسمى شعب أبي طالب، وقامت قريش على هذا الحصار الاقتصادي ثلاث سنين حتى أجهد المحاصرون أيما إجهاد، وكان يسمع صياح أطفالهم من شدة الجوع. ولكن أحدًا لم يضعف، وظل النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى دينه بين العرب. كما حفل القرآن بالآيات التي تشدد النكير على قريش2. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حلف الفضول الذي عقدته بعض بطون قريش وتعاهدت فيه على منع الظلم في مكة؛ قد تعطل، فلم يتنادى أصحابه بنصرة المظلومين ممن كان يقع عليهم العذاب، ويبدو أن الملأ من قريش كان يخشى أن يطالب بنو هاشم حلفاءهم من أصحاب الفضول بالوقوف إلى جانبهم، ومن أجل ذلك كان حرصهم على الإجماع وعلى التواثق على ذلك في صحيفة مكتوبة، وقد استجابت كل البطون القرشية -ماعدا بني هاشم وبني المطلب الذين وقفوا إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم بدافع عصبية العشيرة- لأنهم اعتبروا الدعوة الإسلامية ذات خطر على مكة يهدد الجميع بالخراب، لذلك اجتمعوا وتضامنوا على إيقاف هذا التيار. وكان هذا العمل العدواني فرصة لأن يتسامع العرب في كافة أنحاء الجزيرة العربية بأنباء هذا الدين الجديد، حتى أحست قريش بفشل هذا الحصار، وبأن يوشك أن يؤدي إلى أزمة داخلية في مكة؛ فقد تحركت عاطفة الرحم في بعض القرشيين، فأخذوا يمدون المحصورين ببعض الطعام، ولما حاول زعماء قريش إيقاف هذا المدد حدثت   1 ابن هشام 1/ 272. 2 انظر كلًا من سورة الأنبياء 98-100، الهمزة 1- 9، القلم10-15، الفرقان، 27، 29، الدخان 43-48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 مشاحنات واشتباكات كادت تؤدي إلى فتنة1، ثم تحزب بعض الرجال ضد الصحيفة وقاموا على نقضها، ورأى رجال الملأ أن الحصار قد فشل في إجبار المحصورين على التسليم، وأن الفتنة أوشكت أن تحدث في مكة، فاضطروا إلى تمزيق الصحيفة، وعاد بنو هاشم المسلمون إلى دورهم وإلى مزاولة حياتهم العادية2 في مكة، وإن كانت قريش قد استمرت في سياسة المقاومة والعدوان. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يلبث بعد نقض الصحيفة أن أصيب بصدمة شديدة كان لها وقع شديد الأثر في نفسه، كما كان لها أثر كبير في تغيير اتجاهه في سياسة الدعوة الإسلامية؛ فقد أصيب بفقد زوجته خديجة، تلك الزوجة الصالحة التي كانت ملاذه في شدته، وكانت بإيمانها ومواساتها ملجأه يجد في جوارها راحة نفسه. كما أصيب بموت عمه أبي طالب الذي كان بمثابة الستار الذي يحول بين محمد وبين مواجهة خصومه وجهًا لوجه. وبفقد زوجته فقد التأييد المعنوي النفسي القريب، كما فقد بموت عمه التأييد الأدبي والمادي، وكان فقدهما لذلك عظيم الوقع في نفسه حتى سمي عام موتهما بعام الحزن3. وبدت بيئة مكة -المتمسكة أشد التمسك بتقاليدها، الحريصة على مصالحها المادية -غير صالحة لنشر المبادئ الجديدة؛ لذلك اضطر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تخفيف نشاطه في الدعوة بين أهل مكة، وفكر تفكيرًا جديًّا في مكان آخر يكون أصلح للدعوة، وأخذ ينتهز بعد هذا العام كل فرصة من الفرص التي يجتمع فيها الناس في المواسم العامة التجارية والدينية ليعرض على رؤساء القبائل دعوته الجديدة ويدعوهم لقبولها، وليعرض عليهم الانتقال إلى أرضهم4. ولم يفد محمد -صلى الله عليه وسلم- من عرضه نفسه على القبائل شيئًا، إذ كانت هذه القبائل تحترم قريشًا وتحرص في الوقت نفسه على حسن العلاقة معها حرصًا على مصالحها المادية المرتبطة بتجارة قريش. على أن قريشًا لم تأل جهدًا في الدعاية ضد دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وكان رجالها يتبعونه في كل مكان، يعارضون دعوته ويحذرون القبائل من   ابن هشام 1/ 376. 2 نفسه 1/ 397- 400. 3 ابن هشام 2/ 25-26، ابن سعد 1/ 195، الطبري 2/ 80. 4 ابن هشام 2/ 31-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 متابعته، وكان لهذا أثره الشديد في منع القبائل من قبوله؛ إذ إنها ظنت أن لو كان فيه خير لتابعه أهله، ونال محمد -صلى الله عليهوسلم- أذى في نفسه وفي أصحابه، وقد تحرج مركزه في مكة حتى إنه حين رفضت قبيلة ثقيف بالطائف -وقد ذهب إليها يعرض عليهم دعوته والانتقال إليهم- لم يستطع حين عاد أن يدخل مكة إلا بجوار المطعم بن عدي زعيم بني نوفل من قريش؛ لأن القبيلة أصبحت تنظر إليه نظرتها إلى رجل ثار عليها وخلع نفسه منها1. ثم عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوته على رجال من أهل يثرب -من الأوس- قدموا مكة يلتمسون حلف قريش على قومهم من الخزرج؛ فلم يظفروا بالحلف، وكذلك لم يسلموا2، ولكنهم حين عادوا إلى بلدهم ذكروا أمر هذا الداعي الجديد، وكان لذكرهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقع ما لبث أن ظهر أثره في العام التالي؛ فإنه قدم الموسم نفر من الخزرج عددهم ستة رجال، لقيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فعرض عليهم الإسلام فما أبطئوا أن أسلموا، وكان لإسلامهم السريع دوافعه، فلقد كان عرب يثرب يساكنون اليهود، واليهود أهل الكتاب وكان العرب وثنيون فكان اليهود يعيرون العرب وثنيتهم، كما كان العرب ينازعون اليهود الغلب في يثرب ويصارعونهم، وقد عز العرب آخر الأمر، فكان اليهود يهدودنهم بقرب ظهور نبي قد أظل زمانه يتبعونه فيقتلونهم معه قتل عاد وإرم3. كما أن الخزرج كانوا حديثي عهد بهزيمة حلت بهم أمام الأوس وحلفائهم من قبائل اليهود في يوم بعاث؛ فلما ذكر رجال الأوس ظهور النبي ومحادثته لهم في مكة، خشي الخزرج أن يسبقهم اليهود أو يسبقهم الأوس إليه فيتحقق تهديد اليهود، فلما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء النفر من الخزرج حين لقيهم في مكة قال بعضهم لبضع: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه4. ولقد أوقف هؤلاء الخزرجيون النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحالة في بلدهم ووعدوه بالدعوة للإسلام في يثرب، كما بشروه بالفوز لو قدر له أن تجتمع قبائل يثرب عليه، فقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله   1 نفسه 2/ 72. 2 ابن هشام 1/ 416، 2/ 28- 31. 3 نفسه 3/ 77. 4 نفسه 2/ 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بك، فسنقوم عليه فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك1. وكانت الاستجابة في يثرب سريعة، حتى لم تبق دار من دورها إلا وفيها ذكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-2، ولم يكد العام ينصرم حتى وافى الموسم اثنا عشر رجلًا لم يكونوا كلهم من الخزرج بل كان منهم ثلاثة من الأوس، فقد كان التنافس قائمًا بين القبيلتين، وما كانت الأوس لتترك الخزرج تنفرد بالأمر دونها، وكل ذلك بطبيعة الحال في صالح النبي -صلى الله عليه وسلم. ولقي النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء النفر عند العقبة -وهي مكان بين منى ومكة، بينها وبين مكة نحو ميلين3- فعقد لهم بيعة عرفت بيعة العقبة الأولى، بايعوه على ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم. ولا يعصوه في معروف؛ فإن وفوا فلهم الجنة وإن غشوا من ذلك شيئًا فأمرهم إلى الله إن شاء غفر وإن شاء عذب4. لم يشترط عليهم عداء أحد ولا منابذته بحرب؛ وإنما كانت كلها شروطًا دينية خلقية، وقد سميت هذه البيعة فيما بعد بيعة النساء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بايع على نفس هذه الشروط نساء قريش حين أسلمن بعد فتح مكة، وقد وردت صيغة هذه الشروط في القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة] . ولما عاد هؤلاء الرجال إلى بلدهم أرسل معهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد أصحابه من السابقين إلى الإسلام وهو مصعب بن عمير -وهو فتى من بني عبد الدار، اشتهر بشدة الإخلاص للإسلام، ولقي من خلاف أهله أذى كبيرًا5- وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ، ويحدثنا ابن إسحاق أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه   1 نفسه. 2 نفسه ص 39. 3 ياقوت 14/ 134. 4 ابن هشام 2/ 41. 5 أسد الغابة 4/ 368- 369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بعض1، وهذا يعطينا فكرة عن مقدار الخلاف بين أهل يثرب، وأنهم كانوا في حاجة إلى عنصر خارجي يجتمعون عليه، وهذا ما يسر للنبي -صلى الله عليه وسلم- مهمته في المدينة. وفي المدينة أثبت مصعب بن عمير أنه جدير باختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فعلى نجاحها أو فشلها يتوقف مصير الإسلام في يثرب التي تموج بالخلافات وتضطرم فيها العصبية، فكان الداعي اللبق الفطن يدعو إلى سبييل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويأخذ الأمر بالأناة والصبر والرفق، وكان فتى اجتمعت فيه خصال قومه الحميدة وأهمها الحلم الذي سادت به قريش العرب. وبمثل هذه الأناة والصبر والموعظة الحسنة استطاع مصعب بن عمير أن ينشر الإسلام في يثرب، وأن يكتسب إلى جانبه أكبر زعيمين في قبيلة الأوس، وهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير اللذان كانا لإسلامهما أثر كبير في دخول بطون برمتها في حظيرة الإسلام، كما كانا بعد ذلك من أشد أنصار النبي -صلى الله عليه وسلم- إخلاصًا وتفانيًا في نصرة الدولة الإسلامية في يثرب2. وبذلك مهد مصعب السبيل في يثرب لدار يهاجر إليها المسلمون من مكة، ولتكون بعد ذلك دارًا يطمئن فيها الإسلام ويعتز فيه المسلمون، ثم تكون بعد ذلك قاعدة للدولة العربية الموحدة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم للدولة الإسلامية التي امتد لواؤها في مشارق الأرض ومغاربها في عهد الراشدين من بعده. وبعد عام عاد مصعب إلى مكة ووفد معه في موسم الحج جماعة من المسلمين كان عددهم ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين، التقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في إحدى الليالي سرًّا بالعقبة حيث بايعوه بيعة العقبة الثانية، ويحدثنا ابن إسحاق أنه قد حضرها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له3، وهذا يدلنا على شدة الرابطة بين بني هاشم والنبي -صلى الله عليه وسلم- بالرغم من دخولهم في الإسلام، هذه الرابطة التي ظلت بعد ذلك قوية وكان لها أثر واضح حين هاجر النبي ووقع الصراع بين مكة والمدينة، ومن أجل ذلك أطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- العباس على الأمر، ومن أجل ذلك حضر العباس ليلة العقبة ليستوثق لابن أخيه. وعند العقبة استوثق الطرفان كل لنفسه؛ فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد طلب أن يبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وأما أهل يثرب فقد سألوه: أتراه تاركهم   1 ابن هشام 2/ 42. 2 ابن هشام 2/ 42- 46. 3 نفسه 2/ 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وراجع إلى قومه إن هم فعلوا وأظهره الله، فطمأنهم بأن ذكر صيغة العهد الذي كانت تقولها العرب عند الحلف والجوار: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم"1. فلما تمت البيعة طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم أن يُخرجوا له من بينهم اثني عشر نقيبًا؛ ليكونوا على قومهم كفلاء، وهو كفيل على قومه، فأخرجوا له تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس2. وتسمى هذه البيعة بيعة العقبة الثانية أو بيعة العقبة الكبرى أو بيعة الحرب. وهذه البيعة حددت الوضع القانوني للنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أهل يثرب، فهي قد اعتبرت النبي واحدًا من أهل يثرب دمه كدمهم وحكمه كحكمهم، وقضت ضمنًا بخروجه من عداد أهل مكة، فانتقلت بذلك تبعية النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى يثرب، وهذا النوع من تغيير الجنسية في تعبيرنا الحديث، ولهذا أخفى المسلمون أمر هذه الببيعة وأمر هذا الشرط وبخاصة عند قريش؛ لأن الفترة الواقعة بين هذه البيعة وبين وصول النبي إلى يثرب فترة لا يستطيع فيها اليثربيون أن يحموا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه بعيد عنهم، وقد اشترطوا فعلًا أن تبدأ حمايتهم له بعد وصوله إلى يثرب لا قبل ذلك. وكان في استطاعة أهل مكة بعد أن نبذهم النبي - صلى الله عليه وسلم- وخرج من عدادهم أن ينالوه بأي أذى؛ لأنه خرج عليهم ولأنه أصبح بذلك محرومًا من كل حماية قبلية. وكان لقريش عيون أخبروها خبر البيعة، ولكن أهل يثرب ممن كانوا في موسم الحج ولم يعرفوا خبر العقبة، أكدوا لقريش عدم حدوث مثل هذا الأمر حين جاءت تستوثق مما بلغها، وبذلك استطاع المسلمون من أهل يثرب أن يعودوا إلى بلدهم آمنين؛ إلا أحد النقباء وهو سعد بن عبادة الخزرجي لحقته قريش؛ فقبضت عليه وكادت تبطش به لولا أن أجاره بعض أهل مكة ممن كان يجير لهم تجاراتهم في بلده. ثم تسلل المسلمون من مكة أفرادًا وجماعات مهاجرين إلى يثرب، يستخفي بهجرته من يخشى على نفسه، ويستعلن بها من يجد في نفسه القدرة على التحدي، وحاولت قريش أن ترد من استطاعت رده إلى مكة لتفتنه عن دينه أو لتعذبه وتنكل به، وبلغت من ذلك أنها كانت تحول بين الزوج وزوجه إن كانت المرأة من قريش فلا تدعها تسير معه، وأنها كانت تحبس من لم يطعها وتستطيع حبسه؛ لكنها لم تكن تقدر   1 ابن هشام 2/50. 2 نفسه 2/ 51-55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 على أكثر من ذلك حتى لا تكون حربًا أهلية بين مختلف بطونها إن هي همت بقتل واحد من هذه البطون، وإن كان بعض الموالي لقي حتفه في هذا السبيل. لكن الهجرة مع ذلك تمت وهاجر معظم المسلمين إلا من قدرت عليه قريش1. وبقي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدري أحد أيبقى هو كما حدث في الهجرة إلى الحبشة، أم يهاجر في هذه المرة مثل أصحابه؟ وهذا الاحتمال الأخير هو الذي أخاف قريشًا، فإنه يستطيع من مهاجره الجديد أن ينظم جماعته، أو ينظم يثرب التي فشا فيها الإسلام بصورة تنبئ عن أنها ستكون مدينة إسلامية بعد وقت وجيز، ولو تم ذلك لهددت مكانة قريش الأدبية والدينية، لقيام هذا الدين الجديد الذي يسعى لتحطيم الوثنية في بلاد العرب، ويقضي بذلك على زعامة قريش الروحية ولهددت تجارة مكة تهديدًا خطيرًا لو وقف منها محمد موقف العداء والمخاصمة، وهو لا بد واقف هذا الموقف إن عاجلًا أو آجلًا، لما ألحقته به وبأصحابه من أذى، ولأنه يسعى لإقرار مبادئ جديدة لا بد لإقرارها من تشكيل جماعي وسياسي جديد، ولا بد أن نمى إليهم أنه يستعد للخروج، إذ كيف يخفى على أهل مكة ذلك مع أن أهل يثرب كانوا يتوقعونه وكانوا -كما تحدث الروايات- يخرجون إلى ظاهر المدينة ينتظرونه حتى تغلبهم الشمس. لذلك مشى رجال قريش إلى بعضهم، وعقدوا اجتماعًا عامًّا في دار الندوة وتداولوا فيه الأمر، واستعرضوا كافة احتمالات الموقف ثم قر رأيهم على ضرورة التخلص من محمد شخصيًّا بالقتل، على أن يكون قتلًا جماعيًّا يشترك فيه كل بطن من بطون القبيلة بفتى يضربه مع الآخرين؛ حتى يتفرق دمه وتعجز عشيرته عن حرب كل البطون فترضى بالدية2، وتتتخلص قريش من محمد وتنجو مكة من الحرب الأهلية؛ ويعود إليها كل أبنائها المهاجرين وتعود لها وحدتها كما كانت، ثم تسير في تأكيد سيادتها وتحقيق مصالحها3. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من مكة قبل أن تستطيع القبيلة أن تحكم استعدادها، وأن تناله بما تريد، واستطاع بمهارة أن يفلت من مطاردة القوم، وكان موفقًا في خروجه توفيقًا كبيرًا، كانت عناية الله فيه من غير شك، فإن قريشًالم تترك وجهًا ولا مظنة اختباء إلا بحثت فيه؛ ولكنه نجا وهو منها قريب وإلى ذلك يشير القرآن الكريم {إِلاَّ تَنصُرُوهُ   1 ابن هشام 2- 26- 59. 2 ابن هشام 2/ 109. 3 نفسه 2/ 93-95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة] . وكان هذا هو الهجرة، وقد نزل القرآن بهذه المناسبة، ففرض على الناس أن يقاوموا الباطل بكل قوة، فإن لم يجدوا مخرجًا؛ فإنه يجب عليهم أن يهاجروا، وعليهم أن يتبعوا مثل النبي: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء] {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء] . فالهجرة بهذا أصحبت سنة إسلامية، وكان الناس يتداعون إلى الهجرة أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده، وكانت من نتيجة هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تكونت الدولة الإسلامية الأولى في يثرب، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الهجرة أساسًا لنيل حق الرعوية لهذه الدولة اليثربية، واستمر هذا الشرط إلى فتح مكة سنة 8هـ حتى انتهى شرط الهجرة وبقيت اختيارية، وهذا الشرط مذكور في آية قرآنية {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال] وبالهجرة بدأ دور جديد في تاريخ الدعوة الإسلامية عرف بالدور المدني، اختلف في ظروفه وآثاره عن الدور المكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 مدينة يثرب نشأة يثرب مدخل ... الباب الثالث: مدينة يثرب الفصل الأول: نشأة يثرب. الفصل الثاني: التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان. الفصل الثالث: قوة يثرب وعلاقاتها الخارجية. الفصل الرابع: الحالة الاقتصادية. الفصل الخامس: الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية في يثرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الفصل الأول: نشأة يثرب على بعد حوالي ثلاثمائة ميل في شمال مكة تقع يثرب، وهي واحة خصيبة التربة غزيرة المياه محصورة بين لابتين بركانيتين تعرفان بالحرتين، حرة واقم في الشرق، وحرة الوبرة في الغرب. وتكتنف الوديان الحرتين من الشرق ومن الغرب، وتحيط بالمدينة من جهاتها الأربع. ويقع جبل عير في الجنوب الغربي من يثرب1. والقادم من مكة إلى يثرب -في زمن الهجرة النبوية- كان يمكنه إذا قام بأعلى جبل عير أن يحدد صورة مكتملة لمنطقة يثرب، فوادي العقيق إلى يساره ممتد غربي المدينة فيما وراء حرة الوبرة إلى ما بعد بئر رومة في شمالها الغربي. والعريض وعوالي المدينة إلى يمينه من شرق حرة واقم. وهناك من أقصى الشمال يقوم جبل أحد ثم جبل سلع، وتقع قرية قباء في جنوب المدينة على ميلين منها2. وبين قباء والمدينة يسير وادي بطحان ووادي رانوناء حيث يتجهان شمالًا فيما بين حرة الوبرة والمدينة. فيتصلان بوادي قناة وهو واد يقع في جنوب أحد وينحدر غربًا بينه وبين جبل سلع حتى يتصل بوادي بطحان، وتلتقي هذه الوديان عند مجتمع الأسيال من رومة، كما يوجد واد مذينب ووادي مهزور في الجنوب الشرقي من المدينة، ويحصران بينهما عوالي المدينة التي كانت زاهرة عامرة، وتبدو أودية المدينة منحدرة من الجنوب إلى الشمال، تسير في انحدارها مياه الأمطار فتجعل منها جنات ذات زرع زاهي الخضرة وبساتين تنبت أشجار الفاكهة والنخيل.   1 ياقوت 41/ 172. 2 نفسه 18/ 82، الإصطخري، 32، البتنوني 256 "يقول البتنون: إن قباء على خمسة كيلو مترات من المدينة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 والمنطقة بين قباء والمدينة من أخصب مناطقها، بل لعلها أخصبها وهي التي تثمر جل فاكهتها وخضرها، ومن ثم كانت منتزه أهل يثرب ومصحتها في مختلف العصور، يخرج إليها الناس للتريض، ويقيم بها الناقهون استعادة النشاط والقوة. وحرة واقم التي تحد المدينة من الشرق كانت أكثر عمرانًا من الوبرة، وحين هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب سنة 622 م كانت حرة واقم مسكونة بأهم قبائل اليهود من بني النضير وقريظة، وعدد من عشائر اليهود الأخرى، كما كانت تسكنها أهم البطون الأوسية: بنو عبد الأشهل، وبنو ظفر، وبنو حارثة، وبنو معاوية، وفي منازل بني عبد الأشهل كان يقوم حصنهم واقم الذي سميت الحرة باسمه. وقد ترك أصحاب هذه المنازل من اليهود والأوس آثارًا في الحرة تدل على حضارة ونظام، وتركوا بها آثار مصانع وصهاريج مياه لم يبق منها إلا أطلال دوارس 1، ولا عجب، فقد كانت هذه الحرة ميدانًا حرب منذ استقر الإسلام بالمدينة؛ فقد حاصر النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهود من بني النضير حتى أجلاهم، ثم حاصر بني قريظة حتى قضى عليهم، وبها وقعت موقعة الحرة في عهد يزيد بن معاوية سنة 63هـ. وحرة الوبرة التي تحد المدينة من الغرب، تبدأ قبالة قباء من الجنوب عند ذي الحليفة ميقات الإحرام لأهل يثرب وأول الطريق إلى مكة. وبأقصى حرة الوبرة من ناحية الشمال بمجتمع أسيال المدينة تقع بئر رومة، وكانت مملوكة لرجل يهودي كان يبيع ماءها للمسلمين فاشتراها منه عثمان بن عفان استجابة لرغبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ودفع ثمنها عشرين ألف درهم2. وتفصل حرة الوبرة بين المدينة ووادي العقيق، وقد كان لهذا الوادي في أنباء التاريخ من الذكر ما جعله وادي النعمة وخفض العيش والترف، حتى إنه إذا ما ذكر العقيق من أودية المدينة نسي الناس كل واد للعقيق سواه، مع أنه توجد أودية كثيرة بهذا الاسم في جزيرة العرب. ولقد كان هذا الوادي الخصيب الدافق بجداول المياه وبالعيون والآبار خاليًا من البناء لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب، وعلى شفير العقيق   1 هيكل: في منزل الوحي ص 557. 2 أسد الغابة 3/ 280، البتنوني 257، هيكل: نفسه 579. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الغربي تقوم جماوات العقيق، وهي مرتفعات سود كبار دون الجبال وفوق الهضاب. وأقرب هذه الجماوات إلى المدينة جماء تضارع القريبة من بئر عورة، وتجاورها وتكاد تتصل بها من ناحية الشمال جماء أم خالد، وتبعد عن هذه إلى الشمال جماء عاقل. وفي شمال المدينة جبل أحد، يفصل بينها وبينه وادي قناة. وفي جنوب هذا الوادي إلى الشمال الغربي من المدينة يقع جبل سلع، وبه النتوء الذي يعرف بجبل عين، وعليه كان موقف الرماة من المسلمين يوم أحد1. وتاريخ يثرب القديم مجهول، فلا توجد مدونات يمكن الرجوع إليها، وكذلك لم تقم بها أبحاث أثرية يمكن الاستفادة منها، وقد أشار صاحب كتاب آثار المدينة المنورة إلى حدوث حفريات -جرت بغير قصد البحث العلمي- كشفت عن بعض أشياء يمكن أن يستدل منها على أن المدينة الحالية قائمة على أنقاض مدينة أخرى2؛ لكن الاهتمام العلمي لم يأخذ طريقه حتى الآن إلى مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولعله يأخذ طريقه إليها فيشكف لنا شيئًا يمكن الاعتماد عليه في كتابة تاريخها القديم، وكل ما لدينا من أخبار تاريخ يثرب القديم عبارة عن روايات ذكرها الإخباريون لا يمكن الاعتماد عليها اعتمادًا قاطعًا؛ لأنها لا تستند إلى دليل. ومن المؤكد أن هذه الواحة الخصيبة والتي تقع على طريق التجارة بين اليمن والشام، لا بد أن تكون قد سكنتها القبائل منذ زمن بعيد، إذ لا يعقل أن لا يجذب خصب هذه البقعة وكثرة المياه بها الناس إلى انتجاعها والإقامة فيها، وورود اسم يثرب في الكتابات المعينية يدل على قدمها3، وعلى أن المعنيين استعمروها فقد كانت لهم مستعمرات على طول الطريق التجاري حتى تخوم الشام، فليس من المحتمل أن يكونوا تجاوزوا يثرب دون أن ينتفعوا بموقعها وخصب أرضها وكثرة مياهها في اتخاذها مستعمرة لهم ومحطة لتجارتهم، وبخاصة أن مستعمراتهم متصلة إلى شماله على طول طريق وادي القرى.   1 عن وصف المدينة انظر: ياقوت 17-82- 88 السمهودي: وفاء الوفا 1/ 112- 152، البتنوني 252- 259- هيكل: في منزل الوحي 571- 581. 2 هيكل: في منزل الوحي 512- 514 عبد القدوس الأنصاري: آثار المدينة المنورة 122- 124. 3 جواد علي 3/ 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وإذا كان اسم يثرب قد ورد في الكتابات المعينة القديمة فلا بد أنها كانت من الموضع التي سكنتها جاليات من معين، ثم صارت إلى السبئيين بعد زوال مملكة معين، وقد ذكرها بطليموس في جغرافيته باسم Lathriph Lathrippc1 وهي أيضًا Lathrippa polis التي ذكرها اصطيفانوس البيزنطي2 وعرفت كذلك باسم المدينة من كلمة مدينتا Medinta التي تعني الحمى أي مدينة على رأي المستشرقين الذين يرون أن اليهود المتأثرين بالثقافة الآرمية أو بعض المتهودة من بني إرم الذين نزلوا إلى يثرب هم الذين دعوها مدينتا، ومنها جاءت المدينة. أما كلمة مدينة على أنها اختصار من مدينة الرسول فيرون أنه رأي متأخر قال به العلماء 3. ويسوق صاحب الرحلة الحجازية رأيًا آخر يعتمد فيه على الرواايت التي تقول بأن موسى حين خرج ببني إسرائيل من مصر، أرسل فرقة من جيشه لقتال العماليق وأن هؤلاء الجنود أقاموا بيثرب بعد أن قضوا على أعدائهم، وأنهم أطلقوا اسم يثرب على المدينة تحريفًا لها من الكلمة المصرية أوسربيس، كما أن اسم طيبة الذي استعمل اسمها للمدينة مأخوذ عن طيبة المصرية4. وللأخباريين -كعاداتهم- آراء في الاسم: قالوا إنها سميت بيثرب نسبة إلى يثرب بن قاين بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوص بن إزم بن سام بن نوح، وكان أول من نزلها فسميت باسمه 5. وقالوا: بل قيل لها يثرب من التثريب. وزعموا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما نزلها كره أن يدعوها يثرب كراهية للتثريب، فدعاها طيبة وطابة 6 وذكروا لها تسعة وعشرين اسمًا 7. غير أن هذه الأسماء التي أطلقوها على المدينة صفات أطلقها المتأخرون عليها بعد الهجرة النبوية، وبعد أن أصبحت عاصمة للدولة الإسلامية العربية.   1 F.Olemy, Vi731. 2 جواد علي 3/ 395، 4/ 281. 3 Oloary, P. 137 جواد علي 14/ 181. 4 البتنوني 25- 253. 5 المسعودي: مروج الذهب 2/ 148، ابن خلدون 2/ 286، السمهودي1/ 109- 110. 6 السهيلي 2/ 16. 7 ياقوت 17/ 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والاسم الذي كان متداولًا قبل الهجرة هو اسم يثرب وقد ورد في القرآن الكريم1، وعلى أنه كان هناك حي من أحياء المدينة يسمى يثرب يقع في الجنوب الغربي من أحد بين سلع ووادي قناة، ويقال: إن هذه المنطقة هي التي كانت عامرة بالناس قبل مجيء اليهود إلى الدينة، ولعل اسم يثرب أخذ من اسم المنطقة من المدينة كما يطلق اسم القاهرة الآن على كل مدينة القاهرة مع أن القاهرة القديمة لا تشمل كل المدينة كما ورد اسم المدينة كذلك في مناسبات عدة في القرآن توحي بأن اسم المدينة هو التسمية الإسلامية لها بعد الهجرة2. وقد طغت التسمية على الأسماء كلها، وأصبحت يثرب تدعى مدينة الرسول أو المدينة المنورة وهذا الاسم الأخير هو المستعمل اليوم. وتاريخ المدينة الذي يمكن الاعتماد عليه هو تاريخها منذ القرن الذي سبق الهجرة النبوية أي منذ بداية القرن السادس الميلادي، إذ إن هذه الفترة ليست بعيدة بحوادثها وآثارها عن هذه الهجرة وما ترتب عليها من أحداث كبيرة غيرت مجرى التاريخ العربي، بل مجرى التاريخ العام.   1 {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُم} [الأحزاب] . 2 المنافقون: 8، السهيلي، 2/ 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 سكان المدينة مدخل ... سكان المدينة كانت يثرب عند الهجرة النبوية منقسمة إلى عدة دوائر تسكنها بطون عربية ويهودية، وكل دائرة تابعة لبطن من البطون. وكانت الدائرة تنقسم إلى قسمين: يشتمل القسم الأول على الأراضي الزراعية بمنازلها وسكانها، ويشتمل القسم الثاني على الأطم أو الآطام، وكان البطن يملك أطمًا أو أكثر، وهذه الآطام كانت ملكًا خاصًّا بالأسر العريقة، ورئيس الأسرة هو صاحب السلطان في الأطم كما كان يعتبر زعيمًا من زعماء البطون2. وكانت الآطام عظيمة الأهمية في يثرب، يفزع إليها أفراد البطن عند هجوم العدو3، ويأوي إليها النساء والأطفال والعجزة حين يخرج الرجال للقتال4 وكانت الآطام تستعمل كمخازن تجمع فيها الغلال والثمار؛ لأنها كانت معرضة في أماكنها المكشوفة للنهب والسلب، وفي الأطم يخزن السلاح وتكنز الأموال5. وفي كل أطم كان يوجد بئر أو أكثر يستقي منه أهله إذا هاجمهم عدو واضطروا إلى الاحتماء بالأطم6. كما كانت أطم اليهود تشتمل على المعابد وبيوت المدارس يجتمع فيها الزعماء للبحث والمشاورة حيث يقسمون بالكتب المقدسة حين يهمون بإبرام العقود والاتفاقات7، على أنه قد وجدت في يثرب بطون لم تكن تملك الآطام، فكانت هذه البطون لذلك تقيم في الأحياء، حيث تحمي البطون الكبيرة مواليها من غارات البطون الأخرى، وكانت الأحياء متضامنة متلاصقًا بعضها ببعض، وإن كان كل حي يهتم بشئونه الخاصة.   1 الأطم: اسم مأخوذ من ائتطم إذا ارتفع وعلا "السهيلي2/ 529" أطلق اليهود على الحصن اسم الأطم؛ لأنه كان في إمكانهم أن يغلقوا أبوابه وأنه كانت له نوافذ تقفل من الخارج وتفتح من الداخل "ولفنسون 113". 2 انظر السمهودي 1/ 134- 152. 3 ابن هشام 3/ 192. 4 ابن هشام 3/ 134- 152. 5 نفسه 381- 389. 6 ابن هشام 3/ 235، ألأغاني 13/ 99 "طبعة مطبعة التقديم بمصر". 7 ابن هشام "هامش الروض"2/ 38. 40، ولفنسون 116- 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ومن هذه الأحياء وتلك الدوائر المحصنة كانت تتكون مدينة يثرب، فهي في الحقيقة مجموعة من القرى تقاربت وتجمعت فتكونت منها المدينة، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك1.   1 {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر] {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحجر] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 اليهود كان اليهود جاليات كبيرة العدد متعددة الفروع، منتشرة في أماكن كثيرة من منطقة يثرب والطريق المؤدية إلى الشام. وكانت كتل اليهود الكبرى -على ما يبدو- تتركز في يثرب بالذات، حيث كانت فيها ثلاث قبائل ربما بلغ عدد رجالها البالغين أكثر من ألفين وهي قينقاع، والنضير، وقريظة1، وإلى جانبها كانت توجد بطون وعشائر يهودية متفرقة، ذكر السمهودي أنها كانت أكثر من عشرين بطنًا، منها بنو القصيص، وبنو ناغصة، وبنو مريد، وبنو معاوية، وبنو ماسكة، وبنو محمم -محمر- وبنو زعورا، وبنو زيد اللات، وبنو حجر، وبنو ثعلبة، وبنو الشطبية، وبنو عكرمة، وبنو مراية، وبنو عوف، وبنو عدل -بهدل-2.هذا إلى أعداد أخرى من اليهود سكنوا في جهات مختلفة من يثرب. وقد عاشت قبائل اليهود الثلاثة الكبرى في مساكنها عيشة التكتل والأحياء الخاصة؛ بينما عاشت البطون الصغيرة منتشرة إلى جوارهم أو إلى جوار البطون العرب ية في ثرب. وقد ابتنى اليهود الحصون والقلاع والقرى المحصنة، وكانت من القوة والمناعة بحيث ظنوا أنها مانعتهم ممن يريدهم، وبحيث ظن العرب ذلك، ومما لا ريب فيه أن هذه الحصون والقلاع والقرى كانت وسيلة لتوطيد مركز اليهود وإقرارًا لهيبتهم في نفوس العرب. كما كانت دليلًا على ما كانوا عليه من قوة وقد ذكر السمهودي أن آطام اليهود في يثرب كانت تسعة وخمسين أطمًا3.   1 كان رجال قينقاع المحاربون سبعمائة كما كان رجال النضير في نحو هذا العدد عند جلائهم عن المدينة، وكان الرجال البالغون من قريظة عند قتلهم بعد الأحزاب ما بين السبمعائة والتسعمائة: ابن هشام 2/ 428، 259. 2 السمهودي: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1/ 112 وما بعدها، ولفنسون 14. 3 السمهودي 1/ 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وقد سكن اليهود الجهات الخصيبة الغنية في منطقة يثرب؛ فقد أقام بنو النضير بالعوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مذينب، وأقام بنو قريظة إلى شمالهم على وادي مهزور، أما بنو قينقاع فقد أقاموا عند منتهى جسر وادي بطحان مما يلي العالية، وكان لهم هناك سوق من أسواق المدينة عرفت بهم. أما بقية بطون اليهود فكانت منتشرة في أماكن أخرى متعددة من المناطق الغنية في يثرب، فبنو هذل وبنو عوف كانوا إلى جوار قريظة، ونزل بنو القصيص وبنو ناغصة بقباء، وكان بنو مربد وبنو معاوية وبنو ماسكة في شمال وادي مهزور، وبنو زعورا في منطقة العوالي عند المكان المعروف بمشربة أم إبراهيم، وكانوا بنو عكرمة -عكوة- وبنو مراية على طرف حرة واقم من ناحية الشمال في يماني وشمالي منازل بني حارثة الأوسيين؛ بينما كان بنو ثعلبة وجماعات غيرهم من اليهود بقرية زهرة بناحية العريض وكانت من أعظم قرى المدينة، كما كان يعيش في شمال المدينة بقرب أحد جماعات من اليهود1. وهكذا كان اليهود يعيشون في أخصب مناطق يثرب وأغناها. ويختلف المؤرخون في جنسية يهود يثرب، أهم عرب تهودوا أم هم إسرائيليون نزحوا إلى الأقاليم العربية؟ وعلى الرأي الأول المؤرخ اليعقوبي الذي يرى أن بني النضير وبني قريظة فرعان من قبيلة جذام العربية، تهودوا وسموا باسم المكان الذي نزلوا فيه، فبنوا النضير فخذ من جذام إلا أنهم تهودوا ونزلوا بجبل يقال له النضير فسموا به2. وبنو قريظة فخذ من جذام إخوة النضير يقال إن تهودهم كان في أيام السموأل، ثم نزلوا بجبل يقال له قريظة، فنسبوا إليه3. وعلى الرأي الثاني عامة المؤرخين العرب. ومن جهة أخرى تجتهد طائفة من المؤرخين الإفرنج في أن تجد لبعض أسماء القبائل اليهودية اشتقاقًا عبريًّا4. على أن الاستدلال ببحث لغوي على جنسية اليهود بما توحي إليه الأسماء التي يحملها اليهود قبائل وأفرادًا لا يمكن أن يعتد بها أو يعتمد عليه، سواء أكانت هذه الأسماء عربية أم عبرية، فمن الحق أن بعض أسماء القبائل اليهودية في بلاد العرب عربية محضة   1 السمهودي 1/ 112- 116. 2 اليعقوبي 2/ 36. 3 نفسه ص 39. 4 ولفنسون 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 كما يقول اليعقوبي، ولكنها لا تدل على أنها عربية الجنس، إذ يمكن أن تكون جموع اليهود التي هاجرت إلى بلاد العرب قد اتخذت أسماء الأمكنة التي بها أسماء لها، بل الواقع أن اليهود كانوا قد تركوا منذ أمد طويل الانتساب إلى قبائلهم وأصبحوا يعرفون بأسماء المدن والقرى والأقاليم التي جاءوا منها، فكان يقال فلان الأرشليمي أو فلان الحبروني وهكذا1. ثم إن الأفراد الذين تسموا بأسماء عربية كانت أسماء آبائهم عبرانية مثل: عبد الله بن صوريا، وكنانة بن صورياء، ووهب بن يهوذا، وزيد بن اللصيت، ونعمان بن آضا، وثعلبة بن شعيا، والزبير بن باطا، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وسلسلة بن برهام، هناك أسماء عبرية قرنت بآباء أسماؤهم عربية مثل: شمويل بن زيد، والنحام بن زيد، وكروم بن قيس. على أن هناك أسماء عبرية محضة مثل عزال بن شمويل. وهكذا 2. ويشير إسرائيل ولفنسون إلى آثار اللغة العبرية الظاهرة في أسماء الأماكن التي نزلها اليهود في الحجاز، فيقول: فمع أن أسماء البلدان والأماكن التي سكنها اليهود في الحجاز كانت عربية؛ فقد وجد لبعضها اتصال باللغة العبرية مثل: وادي بطحان، فإن معناه بالعبرية الاعتماد، ووادي مهزور أو محزور معناه مجرى الماء، وقال السمهودي: سمران جبل بخيبر صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على رأسه، والعامة تسميه مسمران، وضبطه بعضهم بالشين المعجمة؛ فإذا علمنا أن بفلسطين جبلًا يسمى شمران، أمكننا أن نستنتج أن شمران هذا؛ إنما هو لفظ عبري أطلقه اليهود على ذلك الجبل بعد نزولهم عنده. ثم بئر أريس نسبة إلى رجل يهودي اسمه أريس بلغة أهل الشام، ولكننا نعتقد أن هذا الاسم في الأصل غير علم، بل هو نكرة يطلق في اللغة العبرية والآرامية على الفلاح الحارث. وبئر روما اشتراها عثمان من يهودي ومعناها البئر العالية3.   1 ابن هشام 2/ 136-138، تفسير الطبري 10/ 303. 2 ولفنسون 15. 3 ابن هشام 2/ 136- 138، تفسير الطبري 10/ 303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ولكي نعرف جنسية اليهود في بلاد العرب؛ فإنه من الأفضل أن ننظر في الأخلاق والتقاليد واتجاه الأفكار والأعمال. ومن هذا السبيل نستطيع أن نحكم بأن يهود يثرب بخاصة وشمال الحجاز بعامة أقرب إلى العنصر اليهودي منهم إلى العنصر العربي. يحتوي القرآن الكريم معلومات وافية عن اليهود في المدينة ومناطقها، وذلك للموقف الجحودي والحجاجي الذي وقفوه من الدعوة الإسلامية؛ وقد وجه القرآن الخطاب لليهود بتعبير بني إسرائيل، ونعى عليهم موقف اليهود الأقدمين مع موسى والنبيين من بعده، وما كان منهم من إحراج وتعجيز وكفر وتكذيب وغدر ونقض للشرائع وتحريف للكلام عن مواضعه، وقد جعل اليهود المعاصرين والقدماء موضع خطاب وسياق وسلسلة واحدة في كثير من الآيات، حيث يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل أو إلى اليهود بصفة المخاطب القريب، فيقص ما كان من الأقدمين مقارنًا إياه بما يقع من المعاصرين، مما يرجح معه الصلة اللاحمة النسبية بين هؤلاء وأولئك مما جعلهم يصدرون عن جبلة واحدة وخصائص واحدة1. وتوجيه الخطاب إلى يهود يثرب بتعبير بني إسرائيل بهذا الإطلاق والشمول مع هذه الصلة اللاحمة التي يجعلها القرآن بين القدماء والمعاصرين منهم يجعلنا نجزم بأن اليهود في الحجاز كانوا طارئين وأنهم إسرائيليون، وأنهم ليسوا قبائل عربية اعتنقت اليهودية كما ذهب إليه بعض المؤرخين؛ بل وليس في الحجاز قبائل عربية يهودية الدين، وأن العرب الذين تهودوا في الحجاز لم يكونوا سوى أفراد، ولم يكونوا جماعة قبلية محسوسة. هذا إلى أن اليهود أنفسهم لم يكونوا يمليون إلى نشر ديانتهم بين الأمم، وفي ذلك يقول إسرائيل ولفنسون: ولا شك أنه كان في مقدرة اليهودية أن تزيد في بسط نفوذها الديني بين العرب حتى تبلغ منزلة أرقى مما كانت عليه لو توافرت عند اليهود النية على نشر الدعوة الدينية بطريقة مباشرة، ولكن الذي يعلم تاريخ اليهود يشهد بأن الأمة الإسرائيلية لم تمل بوجه عام إلى إرغام الأمم على اعتناق دينها، وأن نشر الدعوة الدينية من بعض الوجوه محظور على اليهود2.   1 انظر سورة البقرة40، 41، 47، 50، 72- 76، 83، 87، 211، النساء 53، المائدة 78- 81. 2 ولفنسون 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وقد كان اليهود يعتبرون أنفسم شعب الله المختار من بين شعوب الأرض ولا تسمح أنفسهم أن تكون هذه الميزات لشعب آخر ليس منهم1. ومما يؤيد هذا أنه كان إلى جوار اليهود بالمدينة بطون عربية صغيرة قبل مجيء الأوس والخزرج2، وقد بقيت هذه البطون العربية على أديان آبائها القديمة، ولم تعتنق اليهودية على الرغم من أنها عاشت زمنًا طويلًا مع اليهود وعلى الرغم من أن اليهود كانوا أصحاب الثروة والنفوذ في يثرب. وعند الهجرة النبوية كان المفهوم العام عند العرب واليهود على السواء أن اليهود إسرائيليون. ويشير السهيلي إلى نقطة جديرة بالاعتبار عند مناقشته لمعنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في مدح مخيرق أحد بني النضير الذي أسلم واشترك في موقعة أحد وقتل فيها: "مخيرق خير يهود". وقال: "مخيرق مسلم" ولا يجوز أن يقال في مسلم هو خير النصارى ولا خير اليهود؛ لأن أفعل من كذا إذا أضيف فهو بعض ما أضيف إليه، فإن قيل: وكيف جاز هذا؟ قلنا: لأنه قال: "خير يهود" ولم يقل خير اليهود، ويهود اسم علم كثمود، يقال: إنهم نسبوا إلى يهوذ بن يعقوب، ثم عربت الذال دالًا، فإذا قلت اليهود بالألف واللام احتمل وجهين: النسب، والدين الذي هو اليهودية، أما النسب فعلى حد قولهم التيم في التيميين، وأما الدين فعلى حد قولك النصارى والمجوس، أعني أنها صفة لا أنها نسب إلى أب. وفي القرآن لفظ ثالث لا يتصور فيه إلا معنى واحد وهو الدين دون النسب، وهو قوله سبحانه {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة] بحذف الياء، ولم يقل كونوا يهود؛ لأنه أراد التهود وهو التدين بدينهم، ولو قال كونوا يهودًا بالتدين لجاز أيضًا على أحد الوجهين المتقدمين، ولو قيل لقوم من العرب كونوا يهود بغير تنوين لكان محالًا؛ لأن تبديل النسب حقيقة محال. وقد قيل   1 العهد القديم: تثنية إصحاح 14، آية 1، وما بعدها. 2 من هذه البطون: بنو الحرمان حي من اليمن، بنو مرئد حي من بلى، وبنو نيف حي من بلى أيضًا، بنو معاوية حي من سليم، ثم من بني الحارث بن بهثة. بنو الشطية حي من غسان. انظر الأغاني 19/ 95 طبعة مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 هود جمع هائد وهو في معنى ما قلناه. فلتعرف الفرق بين قولك هودًا بغير ياء، ويهودًا بالياء والتنوين، ويهود بغير تنوين، فإنها تفرقة حسنة صحيحة 1. وإذا تتبعن المصادر في الأقوال التي يشار فيها إلى اليهود المعروفين بإسرائيليتهم؛ وجدنا كلمة يهود هي الكلمة المستعملة، مما يقطع بأن هذا الاصطلاح كان مفهومًا بمعناه المؤدي إلى النسب سواء لدى العرب أو اليهود على السواء2. هذا إلى أن النسابين العرب لم يذكروا إحدى قبائل اليهود في المدينة أو غيرها من أقاليم الحجاز ضمن الأنساب العربية3، واليهود أنفسهم لم يحاولوا نسبة أنفسهم إلى قبائل العرب، بل حرصوا على نسبة أنفسهم إلى الإسرائيليين؛ فقد كان بنو قينقاع يدعون أنهم من ذرية يوسف الصديق 4، وبنو النضير وقريظة يسمون الكاهنين5 وعلى العكس ذكر النسابون أنساب القبائل المتهودة في اليمن والقبائل المتنصرة في الشام، وهذه القبائل المتهودة أو المنتصرة لم تحاول أن تنسب نفسها إلى الإسرائيليين أو غيرهم من الأمم الأخرى؛ فقد كانت القبائل العربية شديدة المحافظة على أنسابها شديدة الأنفة من أن تدعي نفسها إلى غيرها، وتشير الآية القرآنية {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران] إلى أن اليهود كانوا يعتبرون ما دونهم من الأمم أممًا ثانوية ليس عليهم أي تبعة نحوها، ويبيحون لأنفسهم كل شيء معها.   1 السهيلي 2/ 26. 2 على سبيل المثال انظر: ابن هشام 2/ 135- 141، 147، 167، 173، 181، 426، أسد الغابة 1/ 70، الطبري 2/ 224، 225، ابن خلدون ج2، الكتاب الثاني ص 28، سير أعلام النبلاء 2/ 6، / 68، 72، 99. 3 الأغاني 3/ 116. 4 السمهودي 1/ 115. 5 ابن هشام 1/ 16، 3 260 "روى ابن أسحاق حديث حيي بن أخطب حين قدم للقتل يوم قريظة: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملمحة كتبها الله على بني إسرائيل" السمهودي 1/ 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وكلمة الأمين في الأصل كان يطلقها اليهود على الأمم الأخرى، وفي الحجاز أطلقوها على العرب، وتعني غير الكتابيين1، ومما يؤيد هذا أنه لم تكن لليهود في المدينة وفي أقاليم الحجاز عصبية قبلية بين العرب؛ وإنما كانت صلاتهم بالقبائل العربية صلة حلف ومصالح مشتركة؛ ولذلك لم يجدوا من قبائل العرب من يقف إلى جانبهم بدافع العصبية حين حاربهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وطرد بعضهم من المدينة وقضى على بعضهم الآخر؛ بل إنهم حين خرجوا من المدينة لم يلجئوا إلى قبائل العرب ينزلون عليها استنادًا إلى رابطة القربى؛ وإنما لجئوا إلى إخوانهم في خيبر وتيماء ووادي القرى، ثم رحلوا إلى الشام2. وقد ابتنى اليهود الحصون والقلاع والقرى المحصنة ليقيموا فيها ويتحصنوا بها في أوقات الحروب حين يغزوهم الأعراب الطامعون في أموالهم وحاصلاتهم الزراعية. ويرجح أن فكرة إقامة الحصون والآطام على قمم التلال في يثرب وفي شمال الجزيرة العربية إنما أتى به اليهود من فلسطين وطنهم الذي وفدوا منه والذي كثرت في جباله الحصون المنيعة، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يطمئنون كل الطمأنية في المجتمع العربي، فعمدوا إلى اتخاذ القرى والحصون ليقووا فيها على الدفاع عن أنفسهم؛ ولذلك كانوا في سكانهم منعزلين عن العرب يعيشون مع بعضهم عيشة التكتل والأحياء الخاصة على ما جرت عليه عاداتهم منذ القديم. كما يدل هذا أيضًا على أن أحداثًا خطيرة كانت تقع بين العرب واليهود من حين لآخر، اضطرتهم إلى إقامة الحصون، ثم إلى عقد المحالفات مع العرب والاندماج الظاهري في تقاليدهم العصبية الاجتماعية والقبلية. أما لغة اليهود في بلاد العرب فقد كانت العربية بطبيعة الحال؛ ولكنها لم تكن خالصة بل كانت تشوبها الرطانة العبرية3، لأنهم لم يتركوا استعمال اللغة العبرية تركًا تامًّا، بل كانوا يستعملونها في صلواتهم ودراستهم، فكان من الضروري أن يدخل في عربيتهم بعض العبرية4. وقد كان لهم في المدينة كيان طائفي وديني، وكان لهم   1 تفسير الطبري 2/ 257- 259، 6/ 281. 2 الواقدي 141، 390. 3 يقول المقريزي في مقتل أبي رافع اليهودي: "واستفتحوا على أبي رافع فقالت امرأته: ما شأنكم؟ فقال لها عبد الله بن عتيك -وكان يرطن باليهودية: جئت أبا رافع بهدية" إمتاع الأسماع 1/ 187. وقد أمر رسول الله زيد بن ثابت الأنصاري أن يتعلم كتاب يهود وقال: "لا آمن أن يبدلوا كتابي" نفسه. 4 ولفنسون 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 معابد ومدارس1، وأحبار وربانيون -وكلمة حبر عبرية الأصل معناها الرفيق، وقد كانت في عهد البعثة تطلق على كل متعلم من اليهود2- وكان لهؤلاء الربانيين والأحبار احترام عظيم وأثر كبير فيهم، وكان من أعمالهم أن يتولوا القضاء ويفصلوا للناس فيما شجر بينهم3، كما كانوا أصحاب الأمر والنهي في الشئون الدنيوية، كما يقول القرآن الكريم {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة] وقد نشر اليهود عن أنفسهم -على ما يظهر- علمًا واسعًا في الأديان والشرائع وأخبار الأمم وسنن الكون، وكانوا يزهون على العرب بهذا وبالدين السماوي، وكانوا يفخرون ويستفتحون، ويظهرون غرورًا وخيلاء ويزعمون أنهم أولياء الله وأحباؤه4. ومع ذلك فقد كان لليهود أخلاقهم التي وصفهم القرآن بها، وهي: الأنانية والجشع والبخل5، والدس والنفاق وإلقاء الشقوق في نفوس الآخرين قصد البلبة والتحكم6، وتبرير كل وسيلة للوصول إلى الغاية والمنفعة 7، واستحلال ما في أيدي الغير وعد أنفسهم غير مسئولين عن الأمانة لهم والوفاء بعهدهم 8 كما كان من خلقهم اللجاج والحجاج والمكابرة، وتلك أخلاق تجعل اللحمة متصلة بين المعاصرين منهم للرسول والقدماء في هذا الخلق. من كل ما سبق نستطيع الحكم بأن يهود الحجاز كانوا إسرائيليين طارئين على هذه الجهات، وإن كان ذلك لا يمنع من وجود عرب تهودوا ولكنهم كانوا قلة قليلة إلى جانب كتل اليهود الكبرى.   1 ابن هشام 2/ 179: 193، تفسير الطبري 2/ 381، 383، 384، 10/ 303، 306. 2 ولفنسون 70- 71. 3 {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة] . 4 انظر سورة البقرة 79- 80، 89، 91 آل عمران 78، 188، النساء 49، المائدة 18، الجمعة 6، تفسير الطبري 2/ 333، ابن هشام 2/ 190، ابن كثير 1/ 230. 5 انظر سورة النساء 53- 54، آل عمران 180- 181. 6 انظر سورة البقرة 76، آل عمران 72، 99، 103، المائدة 41. 7 انظر سورة النساء 44- 46- 50. 8 انظر سورة البقرة 100، آل عمران 75، 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أما متى وفد اليهود على يثرب وكيف، فأمر لا يمكن البت فيه برأي قاطع؛ فإن ما لدينا من معلومات هي مجموعة من روايات نقلها أصحاب الأخبار وسردتها المراجع العربية، وهذه الروايات ترجح وصول الإسرائيليين إلى يثرب واستعمارها لها إلى أيام النبي موسى بعد خروج بني إسرائيل من مصر، وخلاصتها أن المدينة كان يسكنها منذ زمن بعيد قوم من الأمم الماضية يقال لهم العماليق، وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل غزو وبغي شديد، وقد ملكوا الحجاز وكان ملكهم به يسمى الأرقم، وكانوا قد ملئوا المدينة، ولهم بها نخل كثير وزرع، وكان موسى بن عمران قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى يغزونهم؛ فبعث إلى العماليق جيشًا من بني إسرائيل وأمرهم أن يقتلوهم جميعًا ولا يستبقوا منهم أحدًا. وأن هذا الجيش بعد أن انتصر على أعدائه قتلهم جميعًا إلا ولدًا للأرقم كان وضيئًا فأشفقوا على شبابه؛ فحملوه معهم ليرى موسى فيه رأيه. وحين عاد الجيش إلى الشام كان موسى قد مات، وعد بنو إسرائيل إبقاء الجيش على الشاب العمليقي معصية، ورفضوا السماح للجيش بدخول الشام، فعاد على تعبئته إلى المدينة حيث أقام بها، وكان ذلك الجيش أول سكنى اليهود بالمدينة1. ويذكر السهيلي هذه الرواية، ويشك في صحتها لبعد عصر موسى -عليه السلام-2. كما يذكرها ابن خلدون ويضيف إليها أنه يشك في صحتها؛ لأن اليهود لا يعرفون هذه القصة3؛ ولكنه يحدثنا أن دواد لما خرج عليه ابنه وخلع بنو إسرائيل طاعته فر إلى خيبر وأقام بها إلى أن انتصر على ابنه فعاد إلى وطنه4. ومثل هذه الروايات لا يمكن الاعتماد عليها؛ لأنها لا تستند إلى دليل، ولأنه لا يوجد في أسفار العهد القديم ما يؤيدها، وفي ذلك يقول الأستاذ النجار: إن مؤرخي العرب لم تكن لديهم كتب لمتقدميهم في ذلك، وهم إنما يعولون على ما رأوا في سفر العدد من   1 الأغاني 3/ 116. 2 السهيلي 2/ 16. 3 ابن خلدون 2/ 88. 4 نفسه 2/ 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 حروب بني إسرائيل والمدنيين والأموريين وغيرهم، ويتوسعون في ذلك إلى أرض الحجاز، ويزيدون على ما عند الإسرائيليين بغير سلطان أتاهم1. ومن جهة أخرى تتحدث أسفار العهد القديم عن علاقات بني إسرائيل بسكان الجزيرة العربية: فتتحدث عن قوافل العرب التجارية التي كانت تأتي إلى أسواق مدن بني إسرائيل وكنعان2 وتتحدث عن تجارة اليهود الذين كانوا يرحلون إلى سبأ في عهد سليمان3. كما تحدثت عن حروب ملوك بني إسرائيل وانتصاراتهم على قبائل عربية وعماليقية غزوها، وأنهم واصلوا غزواتهم حتى وصلوا إلى الجزيرة 4، ومثل هذه الأخبار التي وردت في أسفار التوراة لا تعطينا شيئًا يمكن الاعتماد عليه في إثبات وصول جموع إسرائيلية إلى الجزيرة العربية، وكل ما يمكن أن يقال والحالة كذلك أن القدماء اعتقدوا أنه قد وجدت في جهات يثرب وخيبر بطون إسرائيلية قبل وصول جموع اليهود المعروفة إلى الأصقاع العربية5. أخذت جموع كثيرة من اليهود في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد تهاجر إلى الأقاليم العربية عمومًا وإلى ربوع الحجاز بنوع خاص. ويرد إسرائيل ولفنسون أسباب هذه الهجرة إلى الزيادة المطردة في اليهود حتى بلغ عددهم أكثر من أربعة ملايين، وهو عدد لا تتسع له بلاد ضيقة كفلسطين فاضطروا أن يهاجروا إلى ما حولهم من البلاد المجاورة كمصر والعراق والجزيرة العربية.   1 ولفنسون - حاشية ص 6، 7. 2 حزقيال: إصحاح 27، آية 21 "العرب وكل رؤساء تيدار هم تجار يديك يأتونك بالخرفان والكباش والأهندة، في هذا كانوا جارك". 3 الملوك الأول: إصحاح 9 آية 26 "وعمل الملك سليمان سفنًا في عصيون جابر التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في الأرض أدوم. فأرسل حيرام في السفن عبيده النواتي العارفين بالبحر مع عبيد سليمان فأتوا إلى أوفير وأخذوا من هناك ذهبًا". 4 صموئيل ج1 إصحاح 15. الأيام الثاني إصحاح 26آية 7. "وساعده الله على الفلسطنيين وعلى العرب الساكنين في جور بعل". 5 ولفنسون 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ثم حدث حوالي القرن الأول ق م أن هاجمت الدولة الرومانية بلاد فلسطين وقوضت أركان الدولة اليهودية المستقلة فيها، وقد استتبع ذلك ثورات متتالية من اليهود أخضعها الرومان بشدة وقسوة، فاضطرت أعداد من اليهود إلى الهجرة إلى جزيرة العربية التي كانت بعيدة عن متناول يد الرومان؛ نظرًا لطبيعتها الصحراوية التي تعوق سير القوات المنظمة وتمنع توغلها؛ فضلًا عن أن هذه البلاد كانت تسودها الأنظمة البدوية الحرة. وبعد حروب اليهود والرومان70 ميلاديًّا التي انتهت بتدمير بيت المقدس وتشتت اليهود في أصقاع العالم قصدت جموع يهودية كبيرة بلاد العرب للمزايا السابقة. وتؤيد المصادر العربية كل هذا فتذكر أنه لما ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعًا بالشام فوطئوهم ونكحوا نساءهم، خرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو هدل -بهدل- هاربين إلى ما بالحجاز من بني إسرائيل لما غلبتهم الروم على الشام، فلما فصلوا عنهم بأهليهم اتبعوا الروم فأعجزوهم وهلك جند الروم في المفاوز والصحاري الخالية من الماء1، وهذه الرويات مأخذوة عن يهود المدينة أنفسهم كما حكى ياقوت2. ثم أخذت جموع اليهود في الجزيرة العربية تزداد وتكثر بعد اضطهاد الرومان لهم، ثم قصد بنو النضير وقريظة منطقة يثرب، وارتادوا حتى تخيروا أخصب بقاعها فسكنوها. أفكانت يثرب وخيبر ووادي القرى خالية من السكان حين نزلها اليهود بحيث استعمروها بسهولة دون أن يجدوا من ينازعهم، أم أنها كانت مأهولة ببطون عربية نازعت اليهود ثم غلبت على أمرها؟ لاتعطينا المصادر شيئًا نعتمد عليه في هذا الموضوع. ويقول مؤرخ اليهود ولفنسون: إن هذه المناطق كانت غير آهلة بكثير من العرب، وإن جموع الأعراب كانت تنتجعها ثم ترحل عنها3. ولكننا لا نستطيع الموافقة على هذا القول. فهذه المناطق بطبيعتها أماكن استقرار دائم عامرة بالقرى، وكانت بها محطات تجارية منذ أيام المعينيين، ثم إنها مناطق خصبة كثيرة الوديان التي   1 الأغاني 19/ 95 طبعة مصر، السمهودي 2/ 112، الطبري 1/ 384. 2 ياقوت 17/ 84. 3 ولفنسون 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 تسيل بالمياه وتكثر فيها الآبار والعيون، ولا يعقل ألا يجذب خصبها السكان إليها والإقامة بها. وقد ذكرت المصادر أنه كان مع اليهود بالمدينة بطون عربية من اليمن ومن بلى ومن سليم ومن غسان، ثم إن قبائل عربية كبيرة كانت تعيش بجوار هذه الأماكن الخصيبة، حالفها اليهود واتخذوا منها حماة تدافع عنهم كحلف يهود خيبر مع غطفان. ولا تذكر المصادر شيئًا عن الصراع الذي حدث بين اليهود وبين القبائل العربية وهي بذلك تسكت عن تاريخ اليهود جملة ولا نراها تتعرض لشيء من تاريخهم إلا ما كان منه مرتبطًا بالأحداث التي اتصلت بالمسلمين، والأمر من ذلك معلوم وهو أن هذه المصادر أهملت تاريخ اليهود؛ نظرًا لموقفهم العدائي من الدعوة الإسلامية، وقد كرههم العرب فأغفلوا الحديث عنهم إلا من هو متصل بموقفهم العدائي هذا. ولكننا نستنتج من كثرة الحصون والآطام التي أقامها اليهود للاحتماء بها أنهم لم يكونوا مطمئنين إلى مقامهم وأنهم كانوا يخشون هجوم القبائل عليهم؛ الأمر الذي يجعلنا نشك في أن استعمار اليهود كان هينًا سهلًا، كما نشك في حدوث هجرات يهودية كبيرة دفعة واحدة، وترجح أن هجرات اليهود كانت بأعداد قليلة متتابعة، وأن عددهم ظل يكثر شيئًا فشيئًا حتى غلبوا على هذه المناطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 العرب كان العرب في وقت الهجرة النبوية أصحاب الكلمة العليا في يثرب وبيدهم كان توجيه الأمور بها، وجموع العرب بالمدينة - ما عدا بعض العشائر الصغيرة- تنتسب إلى قبيلتين كبيرتين هما الأوس والخزرج. ويقول أصحاب الأنساب: إن الأوس والخزرج أخوان، فهما أبناء ثعلبة بن عمرو بن مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد. فهم بذلك أحد فروع الأزد اليمنية 1: وأمهما قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقياء. ولذلك عرفوا ببني قيلة نسبة إلى أمهم التي تنتسب إلى الغساسنة ملوك عرب الشام2.   1 جمهرة أنساب العرب 112. 2 نفسه 351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وكانت من قبيلة من القبيلتين تنقسم إلى خمسة أبطن كبرى، انقسمت بدورها إلى بطون أصغر منها وإلى عشائر، حتى بلغت البطون المعروفة من القبيلتين أكثر من أربعين بطنًا، عدا من كان يعايشها من عشائر عربية أخرى اتصلت بها برابطة الولاء. وقد سكنت بطون الأوس المنطقة الجنوبية والشرقية وهي منطقة العوالي من يثرب؛ بينما سكنت بطون الخزرج المنطقة الوسطى الشمالية وهي سافلة المدينة وليس وراءهم شيء في الغرب إلا خلاء حرة الوبرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الأوس : وبطون الأوس الكبرى خمسة أبطن هي: عوف بن مالك، وعمرو بن مالك وهم النبيت، ومرة بن مالك، وجشم بن مالك، وامرؤ القيس بن مالك. وقد انقسم بنو عوف بن مالك بن الأوس إلى عدة أبطن أهمها: بنو تزيد الذين انقمسوا إلى ضبيعة، وأمية، وعبيد. ثم بنو معاوية، وبنو جحجبا، وبنو لوزان، هذا إلى عشائر أخرى أصغر منها، وقد سكنوا جميعًا منطقة قباء جنوبي المدينة، ما عدا بني معاوية الذين سكنوا شرقي البقيع، وبني أمية الذين سكنوا إلى جنوبهم. وانقسم النبيت إلى عدة أبطن أهمها: بنو ظفر، وبنو حارثة، وبنو عبد الأشهل، وبنو زعوراء، وكانت مساكن هذه البطون على الطرف الشرقي لحرة واقم، فكانت منازل بني ظفر في شمال منازل قريظة على وادي مهزور، وإلى شمالهم كانت منازل بني عبد الأشهل، وإلى أقصى الشمال منازل بني حارثة، وأما باقي عشار النبيت من بني زعوراء وعمرو والجريش فكانت عند راتج. وأهم بطون بني جشم بن مالك: بنو خطمة، وكانت منازلهم مجاورة لمنازل بن أمية. وأهم بطون امرئ القيس بن مالك: واقف والسلم، وكانت منازلهم بالعوالي مسجد القضيخ بين منازل بني قريظة وبني النضير، وقد كان السلم حلفاء بني عمرو بن عوف بن مالك؛ ولذلك كان إسلامهم مبكرًا قبيل الهجرة وبعدها. أما بطون مرة بن مالك فكانوا: بني أمية، وبني وائل، وبني عطية، وهؤلاء جميعًا يسمون الجعاذرة، سموا بذلك لقصر قامتهم، وكانت منازلهم بقرب قباء عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ملتقى بطحان ورانوناء، وبنو سعد بن مرة سكنوا راتج على طرف الحرة الشمالي، وقد سمي بذلك لقيام حصن لليهود بهذا الموضع يسمى راتج. والجعاذرة وواقف وخطمة كانوا يسمون أوس الله، وقد تأخر إسلام هذه البطون بعد الهجرة فلم تسلم إلا بعد الخندق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الخزرج : وبطون الخزرج الكبرى أيضًا خمسة أبطن هي: عمرو بن الخزرج، وعوف بن الخزرج، وجشم بن الخزرج، وكعب بن الخزرج، والحارث بن الخزرج. وقد انقسمت هذه البطون الكبرى بدورها إلى بطون متعددة أصغر منها وإلى عشائر. فانقسمت عمرو بن الخزرج إلى أربعة أبطن هي: مالك، وعدي، ومازن، ودينار. وكلها من بني النجار المعروف بتيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. وقد سكنت بطون بني النجار في المنطقة الوسطى التي حول مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فمساكن بني مالك كانت في منطقة المسجد، ومساكن بني عدي غربي المسجد، ومساكن بني مازن في قبلة المدينة، وإلى جنوبهم سكن بنو دينار خلف وادي بطحان. وانقسم بنو عوف بن الخزرج إلى بطون أهمها: سالم، وغنم، وعنز. وقد عرفوا بالقوافل؛ لأنهم كانوا إذا أجاروا شخصًا دفعوا إليه سهمًا وقالوا له: قوقل به حيث شئت أي تنقل به حيث شئت لا تخش أحدًا، وقد سكن القواقل على طرف الحرة الغربية غربي الوادي الذي به مسجد الجمعة. ومن بطون عوف بن الخزرج بنو الحبلى، الذين كان منهم عبد الله بن أبي بن سلول. وكانت منازلهم بين قباء والمنطقة الشرقية من وادي بطحان. وانقسم بنو جشم بن الخزرج إلى عدة أبطن أهمها: بنو بياضة، وبنو زريق، وبنو سلمة، وإلى جانبهم عشائر منهم دخلت فيهم. وقد سكن بنو سلمة في الشمال الغربي للمدينة بجوار مسجد القبلتين، وبنو سلمة تعددت فروعهم، فمنهم بنو حرام وبنو عدي وبنو عبيد، وكانت منطقتهم ممتدة من سلع إلى وادي العقيق، وسكن بنو زريق وبنو بياضة وبنو حبيب في جنوب المدينة شمال مساكن بني سالم بن عوف بن الخزرج على وادي بطحان. وانقسم بنو الحارث بن الخزرج إلى عدة أبطن أهمها: بنو مالك الأغر بن كعب بن الخزرج الأصغر بن الحارث، وبنو جشم بن الحارث، وبنو زيد مناة بن الحارث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وبنو خُدرة، وجِدارة ابنا عوف بن الحارث، وبنو صخر بن الحارث. وقد سكن بنو الحارث الذين عرفوا بلحارث بالعوالي شرقي وادي بطحان: ماعدا بني جشم وبني زيد مناة الذين سكنوا السنح على ميل من مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ناحية الشرق. وبني خدرة وجدارة الذين سكنوا مما يلي سوق المدينة. وأهم بطون كعب بن الخزرج بنو ساعدة الذين انقسموا بدورهم إلى بطنين هما طريف وعمرو، ومن طريف سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر. وقد سكن بنو ساعدة عند المكان المعروف بسقيفة بني ساعدة في شرقي سوق المدينة المعروف بسوق الغنم. مما يلي باب الشام وفي بئر بضاعة، كما كان لهم منازل عند وادي بطحان توازي مساكن بني دينار. ومما سبق نرى أن الأوس قد سكنوا المناطق الزراعية الغنية في المدينة، وأنهم جاوروا أهم قبائل اليهود وجموعهم، وأن الخزرج استوطنوا مناطق أقل خصبًا، وقد جاورهم قبيلة يهودية كبيرة واحدة هي قينقاع، وعشائر أخرى يهودية أقل عددًا هم اليهود الذين نزلوا في الشمال الغربي من المدينة عند المكان المعروف بيثرب شمال جبل سلع. وقد كان لهذا أثره الكبير في العلاقات بين العرب واليهود من ناحية وبين الأوس والخزرج من ناحية أخرى1. أما متى وكيف قدم الأوس والخزرج إلى يثرب فإن المصادر العربية ترجع سبب قدومهم إلى هجرة الأزد من اليمن نتيجة لتهدم سد مأرب؛ فيقول ابن هشام عن هجرة الأوس والخزرج إلى جهات يثرب: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن، أنه رأى جرذًا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أراضيهم، فعلم أنه لا بقاء للسد بعد ذلك، فاعتزم على النقلة من اليمن، فكاد قومه، فأمر أصغر ولده إذا أغلظ عليه ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ففعل ابنه ما أمره به،   1 عن أنساب الأوس والخزرج وبطونهم. انظر جمهرة أنساب العرب من ص312- 347 وعن توزيع مساكنهم انظر السمهودي 1365- 152، وابن هشام 2/ 112، وابن سيد الناس 1/ 194 وانظر أيضًا الخريطة التوضيحية الملحقة بهذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي، وعرض أمواله، فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو. فاشتروا منه أمواله، وانتقل في ولده، وولد ولده، وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد علك مجتازين يرتادون البلدان؛ فحاربتهم عك؛ فكانت حربهم سجالًا، ثم ارتحلوا عنهم، فتفرقوا في البلدان؛ فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مرًّا ... ثم أرسل الله تعالى على السد سيل العرم فهدمه1. ويتضح من قول ابن هشام أن نزوح الأوس والخزرج إلى جهات يثرب كان قبل سيل العرم؛ بينما يرى صاحب الأغاني أن خروج الأزد كان بعد سيل العرم. غير أن هذه الروايات لا تحدد متى كان تهدم السد، ولا تحدد الزمن الذي هاجرت فيه قبائل الأزد، على أن رواية ابن هشام لا يمكن الأخذ بها،؛ إذ إن ارتحال قبائل من مواطنها توقعًا لحادث لم يقع يعد أمرًا يصعب تصديقه. ثم إن السد تصدع وأصلح عدة مرات كما أثبتت النقوش التي عثر العلماء عليها2. ونحن إذا أخذنا نسب أحد الخزرج المعروفين عند الهجرة وهو سعد بن عبادة الخزرجي، وجعلناه مقياسًا للزمن الذي ربما تكون هاجرت فيه الأوس والخزرج إلى جهات يثرب، وجدنا أنها من المحتمل أن تكون هاجرت منذ حوالي أواخر القرن الرابع الميلادي؛ فنسب سعد كما يذكره النسابون هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج الأصغر بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر بن حارثة؛ فمن سعد إلى الخزرج الأكبر أحد عشر جيلًا، إذا افترضنا أن الفرق بين كل جيلين خمسة وعشرون عامًا كانت المدة ما بين الهجرة وسنة 622م وبين الخزرج الأكبر حوالي مائتين وخمسين وسبعين سنة. أي أن هجرة الأوس والخرزج من المحتمل أن تكون حدثت في أواخر القرن الرابع الميلادي3. وكان سببها لا يرجع   1 ابن هشام 1/ 9. 2 يقول سديو ص36: إن أول تصدع للسد كان سنة 120م ويقول نقش عثر عليه: إن شرحبيل بن أبي كرب أسعد الحميري أصلح السد سنة 450-451م. ويقول نقش آخر: إن أبرهة أصلحه سنة "450- 451" ويقول نقش آخر: إن أبرهة أصلحه سنة 542م. "جواد علي 3/ 156، 3/ 197-200" وقرر العالم جلاسر أن السيل حدث من سنة 447-450. عن ولفنسون ص 53. 3 يحدد سديو هجرة الأوس والخزرج إلى المدينة سنة 300م واستيلاءهم سنة 492م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 إلى تهدم السد وحده؛ وإنما يرجع إلى عوامل أخرى، كما أن قبول القول بهجرة قبائل الأزد جميعًا دفعة واحدة غير ممكن، إذ إن خزاعة وهي بطن من الأزد كانت تحكم مكة إلى سنة 450م، وقد استمرت مدة طويلة تلي أمر مكة حددها بعضهم بخمسمائة سنة وحددها بعضهم بثلاثمائة سنة1. ومعنى ذلك أنها هاجرت حوالي منتصف القرن الثاني أو بداية القرن الثالث 2. وإذن فإن هجرة القبائل الأزدية كانت متفرقة وأنها كانت لعوامل متعددة؛ منها اضطراب أحوال اليمن نتيجة للتنازع السياسي بين الأقيال، وإلحاح الأحباش عليها بالغزو منذ القرن الثالث، وإهمال أمر الإرواء مما نتج عنه تصدع السد مرات متكررة مما سبب العسر الاقتصادي لإهمال الزراعة، فأخذت القبائل تهاجر كلما ضاق بها الحال، وكانت الأوس والخزرج ضمن هذه القبائل المهاجرة وكانت هجرتها متأخرة عن غيرها من بطون الأزد، وعلى هذا فالأوس والخزرج أحدث عهدًا بالمدينة من اليهود. ويقول صاحب الأغاني: إن الأوس والخزرج توجهوا بعد هجرتهم إلى المدينة، وحين وردوها نزلوا في حرار، ثم تفرقوا وكان منهم من لجأ إلى عفاء من الأرض لا ساكن فيه، ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها، فكانوا من أهلها، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم التي نزلوها بالمدينة في جهد وضيق في المعاش ليسوا بأصحاب نخل وزرع، وليس للرجل منهم إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من أرض موات. والأموال لليهود، فلبثوا بذلك حينًا 3. ثم تطورت العلاقات بينهم وبين اليهود من الجوار إلى الحلف إلى الصراع.   1 ابن كثير 2/ 183. 2 يحدد سديو استيلاء خزاعة على مكة سنة 207م. 3 الأغاني 19/ 96 "طبعة مصر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان مدخل ... الفصل الثاني: التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان إذا كانت مدينة مكة قد تمتعت بالنظام المستقر وسادها جو من الهدوء والطمأنينة، نتيجة لوحدة السكان فيها، واجتماعهم على غاية واحدة هي رعاية الكعبة والقيام على تنظيم أمور التجارة الداخلية التي كانت أهم موارد الرزق في البلد الحرام؛ فإن مدينة يثرب لم تتوافر لها هذه الظروف التي ساعدت مكة على التنظيم والاستقرار، فإن سكان يثرب كانوا مختلفي الجنسية منهم العرب ومنهم اليهود، وكذلك لم تكن لهم غاية مشتركة يحرصون على الترابط بينهم من أجلها، فكانت حياتهم تقوم على تملك الأرض الزراعية واستثمارها. وفي مجتمع قبلي حيث لا توجد حكومة تقر القانون وتقهر الناس على التزامه، كانت القوة الذاتية سواء عن طريق الأفراد أو الجماعات هي الضمان الوحيد لحفظ الحقوق؛ ولذلك كان ما من شأنه أن يؤدي إلى الاستقرار، هو في ذاته عامل من عوامل التقلقل والنزاع. فحياة الزراعة من طبيعتها أن تربط الناس بالأرض وتفرض عليها الاستقرار، ولكنها في مثل هذا المجتمع القبلي كانت مثارًا للنزاع الدائم، فقد كان كل فريق يسعى إلى أن تكون في يده أخصب البقاع وأغناها، وهذا مما يؤدي إلى التطلع إلى ما في يد الغير محاولة الحصول عليه، ولما لم يكن هناك قانون غير القوة ينظم العلاقة بين الناس، كان السعي عن طريقها هو السبيل المألوف لتوسيع الأملاك والحصول على أفضل البقاع الزراعية. وإذا كانت القبائل التي تتالت في السيطرة على مكة قد استطاعت أن تجلي غيرها عنها وتنفرد بشئونها؛ فإن ذلك كان أمرًا ميسورًا إلى حد ما، لأنه لم تكن هناك أرض يرى الناس حياتهم ملتصقة بها، فالتاجر مع حبه للهدوء ورغبته في السلام وسعيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 إلى حسن العلاقة مع غيره ليقوم على تجارته في جو من الأمن والسلام، لا يرى ضرورة للاستماتة من أجل بقعة معينة لا يتوافر له فيها جو السلام، أما في بلد يعتمد سكانه على الزراعة فإن إجلاء الناس عن أرض يرون معاشهم متصلًا بها أمر بالغ الصعوبة تقوم من أجله الحروب وتسفك الدماء، ولا يقبله الناس إلا أمام قوة لا يرون سبيلًا إلى قهرها. لذلك اختلفت الخصائص العامة في مكة عنها في المدينة، وحيث حظيت الأولى بنوع من التماسك والنظام، وانقسمت الثانية إلى معسكرين متعاديين دائمًا، يترقب كل فريق الفرصة لقهر الآخر والحصول على ما في يده أو على خير ما في يده، على أن كلًا من المعسكرين لم يسلم من النزاع الداخلي لنفس هذه الغاية، ولم يربط بين الوحدات في المعسكر الواحد إلا ما كان يربطها من تقاليد العصبية القبلية، والشعور بأن الفرد وحده عاجز عن حماية نفسه ضد الآخرين، وحتى رابطة الدم نفسها فشلت في أن تكون رابطًا يؤلف بين الناس. ومن هنا أصبح القتل وسفك الدم شيئًا مألوفًا، ولم يكن أحد يجرؤ على الخروج من حيه دون أن يعرض نفسه للخطر1، وساد المدينة جو من عدم الأمن جعل الحياة فيها أمرًا عسيرًا. ومن أجل المحافظة على النفس والمال اتجه ميل السكان بصفة عامة إلى إقامة الحصون والآطام؛ للاحتماء بها عند الحاجة، حتى أصبحت المدينة ممتلئة بهذه الحصون إلى درجة لا تكاد توجد في مدينة أخرى؛ فقد ذكر بعض المؤرخين أنه كان لليهود وحدهم تسعة وخمسون أطمًا2 وأن العرب لم يكونوا أقل منهم رغبة في بناء الآطام حتى لقد ذكروا أنه كان لبطن واحد من بطونهم تسعة عشرة أطمًا3. ومع ذلك فقد ظلت الحياة القبلية تفرض نفسها بصورة واضحة في يثرب، فلم تكن حياة البطون اليثربية تتميز بشيء عن حياة القبائل البدوية في الجزيرة العربية إلا   1 يروي صاحب الأغاني أن الأوس والخزرج حين اصطلحوا بعد حرب سمير اصطلحوا بعهد وميثاق ألا يقتل رجل في داره ومعقله- والمعاقل: النخل- فإذا خرج رجل من داره أو معقله فلا دية ولا عقل، الأغاني 3/ 42. 2 السمهودي 1/ 116. 3 نفسه 1/ 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 بالاستقرار الذي فرضته عليه الحياة الزراعية وحتى اليهود الذين كانوا قد وصلوا في وطنهم الأصلي إلى درجة من المدنية وانمحى من بينهم نظام القبائل وانصهروا في أمة واحدة، لم يلبثوا في المدينة أن زالت منهم هذه الصفات وتغلبت عليهم العقلية البدوية، حتى صارت صاحبة السلطان على أفكارهم ونفسياتهم1، ومع ذلك فإن الروابط القبلية بما فيها من لحمة النسب والدم، فشلت في أن تقيم مجتمعًا أكبر من مجتمعات البطون، فانقسمت يثرب إلى عدة دوائر زراعية، وكل دائرة كانت تابعة لبطن من البطون. وكان كل بطن من البطون الكبيرة يضم طائفة من البطون الصغيرة تعد موالية، يشرف على مزارعها ومتاجرها ويرعى حقوقها، وإذا وقعت إغارة عدها واقعة على رعاياه فطلب بالثأر أو دفع الدية2. وكان البطن الصغير يلجأ إلى آطام البطن الكبير إذا هاجمهم عدو، وهو مضطر للدخول في الحرب إلى جانب البطن الكبير. ومع ذلك فقد حافظت البطون الصغيرة على شخصيتها ولم تسمح البطون الكبيرة أن تحد من حريتها، وكان من نتيجة ذلك أن تجنبت البطون الكبيرة كل ما من شأنه أن يهيج البطون الصغيرة3. ومن ثم فقد أصبح هناك شبه توازن في نظام الحكم بين البطون الكبيرة يثرب، فكانت البطون تثور إذا ما هم بطن كبير بالاستئثار بالنفوذ4، ومع ذلك فقد كانت بطون القبيلة تترابط إذا هددها هجوم عام تجمعت له بطون قبيلة أخرى، لكن كان يحدث في كثير من الأحيان أن ترى بعض البطون مصلحتها في أن تهادن الفريق الآخر، فتخرج على الإجماع وتقف على الحياد5. وقد حكم العلاقات بين السكان في يثرب عاملان: عامل الروابط القبلية، وعامل الحياة الاقتصادية، وقد امتزج العاملان معًا بحكم الضرورة، ولكن العامل الاقتصادي كان أقوى وأظهر في توجيه هذه العلاقات   1 ولفنسون ص12، 15. 2 السمهودي 1/ 152- 153، ابن الأثير 3/ 402- 418. 3 السمهودي 1/ 136، 137، 146- 147. 4 ولفنسون 118. 5 ابن الأثير 1/ 415، 417، 418، السمهودي 1/ 153- 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وسكان يثرب -كما قدمنا- كانوا من اليهود والعرب. واليهود أقدم عهدًا بها، وقد انفردوا بشئونها فترة من الزمن، ولم يكن يساكنهم إلا بطون عربية صغيرة لم تكن على جانب من القوة فعاشت موالي لليهود، وكان اليهود في هذه الفترة هم أصحاب الثروة والنفوذ، وكانوا عدة قبائل وبطون انتشرت في منطقة يثرب. ثم قدم عليهم الأوس والخزرج، فساكنوهم وحالفوهم، ثم ما لبثوا أن تغلبوا عليهم ونقلوا السلطة إلى أيديهم، ولكنهم ما كادوا يتغلبون على اليهود حتى دخلوا في دور من الصراع بينهم صراعًا شارك فيه كل سكان يثرب. ونحن إذا أردنا أن ندرس العلاقة بين السكان في المدينة؛ فإنه يجب علينا أن ننظر إليها من خلال هذه الفترات الثلاث؛ فتتحدث عن: العلاقات بين اليهود أنفسهم، ثم بينهم وبين الأوس والخزرج، ثم العلاقات بين الأوس والخزرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 1- العلاقات بين اليهود لم تحدثنا المصادر عن العلاقات التي كانت بين القبائل والبطون اليهودية بعد قدومها إلى يثرب واستقرارها بها؛ ولذلك فإنه ليس أمامنا إلا الاستنتاج نعتمد عليه من دراسة أحوالهم في الفترة التي سبقت الهجرة مباشرة وفي عهد الهجرة النبوية. وقد بينا -من قبل- كيف قدم اليهود إلى يثرب، وأنهم جاءوا في هجرات متتابعة نتيجة للظروف التي كانت تواجههم في موطنهم في فلسطين. وهم حين جاءوا إلى هذه المناطق من أرض الحجاز كانوا طارئين عليها، فكان من مصلحتهم أن يكونوا على علاقات طيبة فيما بينهم، وكان على السابق منهم أن يفسح مجالًا للاحق، بدافع الشعور بالمحنة المشتركة وحتى يكثر عددهم ويقووا على حماية أنفسهم في بيئتهم الجديدة. وقد شغلوا في فترتهم الأولى بتدبير أمر أنفسهم والتقوي على مواجهة جيرانهم من البطون العربية النازلة في يثرب، ومن القبائل التي تجاورم وترجح أن حياتهم الأولى لم تكن سهلة ميسرة، وأن أحداثًا وقعت بينهم وبين جيرانهم مما جعلهم يتوسعون في إقامة الحصون والآطام حتى يقووا على مواجهة أي هجوم عليهم؛ وهم مع ذلك يعملون لاستثمار الأراضي الخصيبة التي نزلوا فيها. وقد نجحوا في كلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الأمرين نجاحًا كبيرًا، فاستقروا، وتجمعت في أيديهم الثروة، وعلا شأنهم حتى أصبحوا أصحاب الكلمة العليا في يثرب. وحين استقرت أمورهم وتم لهم الغلب بدأ الدافع على التضامن يضعف لديهم. فلم يحافظوا على الروح الجامعة بينهم، بل انحدروا إلى الروح القبلية، وأخذت روح الانفصالية والتنافس تظهر بين جماعاتهم. ويبدو أن أحداثًا وحروبًا وقعت بين طوائفهم، كان من نتيجتها ذلك التفكك الذي بدا واضحًا بينهم حين وقع النزاع بينهم وبين الأوس والخزرج بعد ذلك، فإنهم لم يستطيعوا أن يجمعوا كلمتهم ويقفوا صفًّا واحدًا في وجه خصومهم، كما أنهم لم يحتفظوا بكيانهم فيما تلا ذلك من أحداث؛ فتفرقت بطونهم ودخل بعضها في محالفات مع الأوس ودخل بعضها في محالفات مع الخزرج، واشترك كل فريق في القتال إلى جانب حلفائه ضد الفريق الآخر1، وكانوا في القتال أقسى على بني جنسهم من العرب، فقد قسا بنو النضير وقريظة على بني قينقاع وأثخنوا فيهم ومزقوا شملهم في حرب بعاث بين الأوس والخزرج، مما جعل أحد شعراء اليهود من بني النضير يتألم لهذه الحالة2. ولا نستطيع أن نفهم سببًا لهذه القسوة إلا أن عداء كان قد استحكم بين بني قينقاع وبين بني النضير وقريظة، كما أنه لا بد من أن أحداثًا وقعت بينهم، جعلت بني قينقاع يتركون أرضهم وزرعهم ويقتصرون على الصناعة؛ فإنهم حين أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم- عن المدينة لم يكن لهم بها أرض ولا مزارع3، وليس من المحتمل أن يكون بطن كبير مثلهم قد رغب عن الأعمال الزراعية كلية. ومما يؤيد ما كان يقع بين اليهود من قتال وسفك دماء، وإخراج بعضهم بعضًا من ديارهم جريًّا وراء المصالح والمنافع الخاصة، ما ذكرته آيات القرآن الكريم في وصفهم والتنديد بأعمالهم هذه مع مخالفتها لشريعتهم {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ   1 الأغاني 3/ 24. 2 الأغاني 19/ 95 "طبعة مصر" ولفنسون 69. 3 الواقدي 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة] 1. وبعد الهجرة كانت قبائل اليهود وبطونهم في حالة واضحة من التفكك، وكان إحساسهم بالترابط منعدمًا؛ فلم يبد أي بطن من بطونهم أي إحساس بالعطف نحو الآخرين حين وقعوا في خلاف مع النبي -صلى الله عليه وسلم. كل ذلك يقطع بأن العلاقات بين اليهود في يثرب لم تكن حسنة في عصر الهجرة النبوية، وقد سيطرت عليهم المنفعة الشخصية وأهدروا في سبيلها كل مصلحة مشتركة.   1 تفسير الطبري 2/ 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 2- العلاقات بين العرب واليهود بدأت العلاقات بين الأوس والخزرج حين قدموا يثرب وبين اليهود، علاقات سلم وجوار، فقد قدم هؤلاء العرب على قوم مستقرين في ديارهم، وبيدهم الأموال والآطام والعدد والقوة، فكان طبيعيًّا أن يقنعوا منهم بالسماح لهم بمجاورتهم والإقامة معهم، ولعلهم لم يكونوا من كثرة العدد والقوة بحيث يخشى اليهود عاديتهم. ومن الجائز أنهم فكروا في الاستفادة من خبرتهم السابقة في الزراعة في مواطنهم باليمن، فاتخذوا منهم عمالًا ومساعدين لهم في دوائرهم الزراعية أو في أعمالهم التجارية. وقنع الأوس والخزرج بهذا من اليهود فنزلوا بينهم وحواليهم؛ ولما كانت الثروة والسلطان في أيدي اليهود ومواليهم من البطون العربية، فقد عاش الأوس والخزرج في جهد وضيق في المعاش؛ إذ لم يكن لهم نعم ولا شاء؛ لأن المدينة ليست بلاد مرعى، فعمل بعضهم مأجورًا في مزارع اليهود، ومن عمل لحسابه لم يكن له إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من أرض موت1. وأقام اليهود والعرب على ذلك مدة طويلة يسودهم الوئام والوفاق، ويتحدث السمهودي عن دور الوفاق بين الطرفين، فيقول: وأقامت الأوس والخزرج بالمدينة، ووجدوا الأموال والآطام والنخيل في أيدي اليهود، ووجدوا العدد والقوة معهم،   1 الأغاني 19/ 69 "طبعة مصر" ابن خلدون 2/ 287، السمهودي 1/ 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فمكث الأوس والخزرج ما شاء الله: ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم جوارًا وحلفًا يأمن به بعضهم من بعض ويمتنعون به ممن سواهم فتعاقدوا وتحالفوا، واشتركوا وتعاملوا؛ فلم يزالوا على ذلك زمانًا طويلًا، وأمرت الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد؛ فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي بينهم. وكانت قريظة والنضير أعد وأكثر، وكان يقال لهما الكاهنان وبنو الصريح، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، حتى نجم منهم مالك بن العجلان من بني سالم بن عوف بن الخزرج وسوده الحيان والأوس والخزرج1. ويؤخذ من هذه الرواية أن الأوس والخزرج قنعوا بوضعهم في أول الأمر؛ لأنهم إنما كان همهم أن يستقروا ويجدوا لهم معاشًا. ثم أخذوا بعد ذلك يعملون على تثبيت مركزهم؛ فسعوا إلى عقد الحلف بينهم وبين اليهود ليأمنوا على أنفسهم، وليستطيعوا توسعة دائرة أعمالهم، وقد أتاح لهم الحلف أن يشاركوا اليهود ويتعاملوا معهم، فازدادت ثروتهم وكثر عددهم وأخذوا في تنظيم أنفسهم. وتنبهت اليهود إلى ما طرأ على حلفائهم هؤلاء وأحسوا بخطورتهم وأدركوا أن الحلف إنما يسير إلى مصلحة جيرانهم، فخافوا أن يتطور الأمر إلى أن يغلبوهم على دورهم، فغيروا مسلكهم نحوهم وأساءوا معاملتهم وانتهوا إلى قطع الحلف معهم، عند ذلك ظهرت الفتن والعدوات بين الطرفين، ولما كانت اليهود أعد وأكثر فإن الأوس والخزرج أقاموا في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، ولم يكن أمامهم إلا أن يبحثوا لهم عن حليف ينصرهم إن ثارت الثائرة بينهم وبين اليهود. وكان طبيعيًّا أن يتجه تفكيرهم أول ما يتجه إلى قوم تربطهم بهم رابطة قرابة ونسب، ويكونوا لهم من القوة ما يمكنهم من الانتصار بهم على خصومهم، فاتجهوا إلى الغساسنة الذين كانوا مثلهم فرع من الأزد؛ فهم أبناء عمومة فضلًَا عن رابطة الخئولة، فقد كانت أم الأوس والخزرج قيلة من غسان كما يقرر النسابون، وكان الغساسنة قد علا أمرهم بالشام وكوّنوا لهم مملكة بها. ويتحدث المؤرخون عن اتصال مالك بن العجلان الخزرجي بالغساسنة، فيقولون: إن مالك بن العجلان رحل إلى أبي جبيلة الغساني، وهو يومئذ ملك غسان، فسأله عن قومه وعن منزلتهم فأخبره بحالهم وضيق معاشهم، فقال له أبو جبيلة: والله ما نزل قوم منا بلدًا   1 السمهودي 1/ 125- 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 إلا غلبوا أهله عليه، فما بالكم؟! ثم أمره بالمضي إلى قومه، وقال له: أعلمهم أني سائر إليهم، فرجع مالك بن العجلان فأخبرهم بأمر أبي جبيلة. ثم جيش أبو جبيلة جيشًا عظيمًا وأقبل كأنه يريد اليمن حتى قدم المدينة فنزل بذي حرض، وأرسل إلى أهل المدينة من الأوس والخزرج فأتوا إليه فوصلهم وأعطاهم. ثم أرسل إلى بني إسرائيل؛ يعني اليهود وقال: من أراد الحباء من الملك فليخرج إليه؛ وإنما فعل ذلك خيفة أن يتحصنوا في الحصون فلا يقدر عليهم، فخرج إليه أشراف بني إسرائيل بخواصهم وحشمهم، فأمر لهم بطعام، حتى اجتمعوا فقتلهم من عند آخرهم، وقال للأوس والخزرج: إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنكم. ثم رجع إلى الشام فلما فعل ذلك صار الأوس والخزرج أعز أهل المدينة فتفرقوا في عالية يثرب وسافلتها يتبوءون منها حيث شاءوا، واتخذوا الديار والأموال والآطام1. ثم أخذت اليهود تعترض الأوس والخزرج وتناوشهم، فرأى مالك بن العجلان أن الغلبة لم تكمل لهم بعد على اليهود، فكادهم كيدًا شبيهًا بكيد أبي جبيلة، ونجح في القضاء على عدد منهم، فذلوا وقل امتناعهم وخافوا خوفًا شديدًا، واضطرت بطونهم الصغيرة إلى الدخول في حلف مع جيرانهم من الأوس والخزرج، ولم يبق إلا بنو النضير وقريظة ويبدو أنهم كانوا أصحاب قوة وأن حصونهم كانت منيعة فاعتمدوا عليها ولم يحالفوا أحدًا منهم2، وجعل اليهود كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم إلى بعض كما كانوا يفعلون قبل ذلك، ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم فيقول: إنما نحن جيرانكم ومواليكم، فكان كل قوم من اليهود قد لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم. مما سبق يبدو أن العامل الاقتصادي كان هو المتحكم في العلاقات بين العرب واليهود. فالعرب قد قنعوا بوضعهم الاقتصادي السيئ أول الأمر مضطرين، ثم سعوا إلى تحسينه بالحلف مع اليهود ومشاركتهم، ثم لما اشتد أمرهم خشيهم اليهود على ما   1 الأغاني 19/ 56- 76 طبعة مصر، ابن خلدون 2/ 287- 289، ابن الأثير 1/ 402، السمهودي 1/ 127. 2 الأغاني 3/ 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 في أيديهم فقطعوا الحلف معهم وأساءوا معاملتهم. والعرب بدأوا فعلًا يتطلعون إلى وضع اقتصادي أفضل عن طريق مشاركة اليهود في تملك الأراضي الخصبة أو مغالبتهم عليها، ولدينا رواية أوردتها المصادر يؤيدها هذا الاتجاه العربي. قالوا: إن عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه بياضة: إن عامرًا قد أنزلكم منزل سوء بين سبخة ومفازة، وإنه والله لا يمس رأسي غسل حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير على عذب الماء وكريم النخل1. وهذا القول وإن كانت المصادر قد أوردته في ذكر حرب بعاث بين الأوس والخزرج ومن حالف الطرفين من اليهود، إلا أنه يعطينا فكرة عن اتجاه العلاقات العامة بين السكان في يثرب، وأنه كان يحكمها ويوجهها العامل الاقتصادي. ويحاول بعض المؤرخين أن يربط الحوادث التي وقعت بين العرب واليهود بالسياسة الدولية في ذلك الوقت وبالنضال الديني بين المسيحية واليهودية، ويقولون: إن النكبة الشديدة التي نزلت باليهود في بلاد حمير قد أنتجت نتائج سيئة لم يكن في الإمكان أن تحدث لولا هذه النوائب. وأهم هذه النتائج تحمس العناصر النصرانية التي كانت تعتمد على مؤازرة الدولة الرومانية ضد الديانة اليهودية، وتحركها لهدم كيانها والقضاء على أصولها ومبادئها في جميع أنحاء الجزيرة العربية، وتهييج طمع القبائل العربية في أموال اليهود ومستعمراتهم، ورغبتهم في الحصول عليها والاستئثار بها2. ويقر المؤرخ Gratez أن البطون الأوسية والخزرجية لم تصارح اليهود بالعداوة والمعصية إلا بعد النكبة التي حلت باليهود في اليمن، إذ لا يتصور أن يضطهد اليهود في الحجاز في العصر الذي كان فيه ملوك متهودون يسيطرون على اليمن ويتعصبون ليدنهم ويناهضون كل من يناهضهم أو يعتدي عليهم3. يسوق ولفنسون أقوال المؤرخين المحدثين هؤلاء ويعززها بما ذكره بعض مؤرخي العرب من أن الحجاز الشمالية كانت في شبه تبعية لليمن في عصر وجود حمير المتهودة   1 الأغاني 15/ 155- 159 "طبعة مصر" السمهودي 1/ 153 ابن الأثير 1/ 417. 2 ولفنسون 59. 3 عن ولفنسون 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وأن واحدًا من الأسرة المالكية في اليمن كان يشرف على شئون الطوائف المختلفة في شمال الحجاز1. ويقول: وقد بقيت البطون العربية عصورًا طويلة على موالاة ومناصرة لليهود دون أن يظهر عليهم شيء يدل على أنهم يتربصون لهم الغوائل، إلى أن أخذت دولة غسان تنصب لليهود المكائد وتحرض عليهم زعماء الأوس والخزرج ليفتكوا بهم. والظاهر أن دولة غسان لم تفعل هذا إلا بإيعاز من الدولة الرومانية الشرقية التي أرسلت أسطولها لمساعدة الحبشة في كفاحها ضد اليهود في اليمن، والتي كانت سياستها واضحة كل الوضوح في الجزيرة العربية أثناء القرن الخامس والسادس الميلاديين2. ولنا على هذه الأقوال اعتراضات: أولًا: ليس من اليسير تحديد الزمن الذي وقع فيه حادث استنجاد مالك بن العجلان بأبي جبيلة، وهل كان بعد انتصار الأحباش على الحميريين أم قبله؟ والذي نستطيع استنتاجه من أقوال المصادر أن هذا الحادث وقع قبل الغزو الحبشي لليمن وانتصارها على الحميريين سنة 525 م، ويحدد سديو سيادة الأوس والخزرج على يثرب بسنة 492م 3 وتسنده في ذلك المصادر العربية التي تقول: إن الحرب بين الأوس والخزرج استمرت مائة وعشرين سنة إلى الإسلام 4. ولما كانت الحرب بين القبيلتين العربيتين في يثرب لم تقع إلا بعد تغلبهم على اليهود كان الزمن الذي حدده سديو مقبولًا، وكان صراع العرب مع اليهود واستنجاد أولئك بأبي جبيلة قبل هزيمة الحميريين5.   1 ابن الأثير 3041 "كان سفهاء بكر قد غلبوا على عقلائهم وغلبوهم على الأمر، وأكل القوي الضعيف فنظر العقلاء في أمرهم ورأوا أن يملكوا عليهم ملكًا يأخذ للضعيف من القوي فنهاهم العرب، وعلموا أن هذا لا يستقيم بأن يكون الملك منهم؛ لأنه يطيعه قوم ويخالفه آخرون، فساروا إلى بعض تبابعة اليمن، وكانوا للعرب بمنزلة الخلفاء للمسلمين، وطلبوا منه أن يملك عليهم ملكًا". 2 ولفنسون 61. 3 سديو 51. 4 السمهودي1/ 152. 5 تذكر المصادر أن أول حرب وقعت بين الأوس والخزر كانت في عهد أحيحة بن الجلاح، وكان هذا زوجًا لسلمى بنت عمرو النجارية التي تزوجها هاشم بن عبد مناف بعد طلاقها من أحيحة، فكأن هذه الحرب كانت في عهد هاشم وبينه وبين الهجرة حوالي مائة وعشرين سنة ". انظر فصل الزعامة في مكة. وانظر أيضًا ابن الأثير 1/ 403، ابن هشام 1/ 148". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ثانيًا: أن أبا جبيلة لم يكن ملكًا من ملوك غسان بل كان عظيمًا عند ملك غسان. وينسبه النسابون إلى أحد بطون الخزرج الذين رحلوا إلى الشام وأقاموا مع الغساسنة1. ويورد السمهودي رواية هامة، وهي أن مالك بن العجلان بعث جماعة من قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم بحالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود2، وتدل هذه الرواية على أن استنصار الأوس والخزرج إنما كان بقوم يمتون إليهم بصلة القرابة على ما جرت عليه العصبية القبلية، على أن الأمر من ناحية عرب الشام كان استجابة لاستصراخ الأوس والخزرج لهم كما يذكر المؤرخون ولم يكن تحريضًا من الغساسنة لهم على اليهود. ولو كان الأمر هجومًا من الغساسنة على اليهود بدافع التعصب الديني؛ لكان أولى بهم أن يهاجموا الجماعات اليهودية في خيبر ووادي القرى، وهي منهم أقرب، ويؤيد هذا الرأي ولفنسون نفسه فهو يقول: والذي يمعن النظر في تاريخ بطون يثرب يرى أن الطوائف الضعيفة في المدينة كانت تعمل سرًّا على إيجاد محالفات مع قبائل عربية قريبة وبعيدة، فمن المحتمل أن تكون الأوس والخزرج قد حالفت بطون بني غسان لمحاربة اليهود في عصر أبي جبيلة 3. ثالثًا: أن الديانة المسيحية لم تكن عميقة التغلغل في نفوس القبائل العربية التي اعتنقتها بحيث تتعصب لها تعصبًا شديدًا، بدليل أنها لم تلبث أن دخلت الإسلام بعد اتصالها بجيوش الخلفاء الراشدين بلا كبير مقاومة. هذا إلى أن الصراع الذي كان قائمًا بين الدول في ذلك الوقت لم يكن صراعًا دينيًّا؛ وإنما كان صراعًا سياسيًّا اقتصاديًّا وإن استخدم الدين كوسيلة من وسائله، فلم تكن الدولة الرومانية الشرقية تعمل لقهر اليهودية كدين، ولا كان الفرس يشجعونها لغرض ديني. وإنما كان الغرض سياسيًّا عند كلتا الدولتين. على أن علاقة اليهود لم تكن سيئة ببلاد الشام، بل إنها على الأرجح كانت حسنة، فكان بعض اليهود يرسل قوافله التجارية إلى بلاد الغساسنة4، وبدليل أن اليهود حين أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يثرب هاجروا إلى بلاد الشام، ولو كانت العلاقات بينهم وبين الغساسنة أو الروم سيئة لاتجهوا إلى مكان آخر كالعراق الذي كانت   1 جمهرة 336- ابن خلدون، 20/ 289، ابن الأثير 1/ 402، السمهودي1/ 126. 2 السمهودي: نفسه 5. 3 ولفنسون 103. 4 تاريخ الخيس 2/ 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 به جاليات يهودية وكان تحت سيادة الدولة الفارسية التي كانت تشجع اليهودية في بلاد العرب. من كل ذلك نرى أن إقحام النزاع بين الأوس والخزرج وبين اليهود في المدينة في مجال العراك الدولي أو الصراع بين اليهودية والنصرانية أمر لا محل له. وأنه كان نزاعًا محليًّا أوجدته ظروف يثرب الاقتصادية واعتماد السكان فيها على استثمار الأراضي الزراعية، ويتضح ذلك من توزيع السكان في منطقة يثرب، ومن النزاع الذي وقع بين الأوس والخزرج أنفسهم بعد تغلبهم على اليهود واشتراك طوائف المدينة كلها فيه تبعًا لمصالحها الاقتصادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 3- العلاقات بين الأوس والخزرج لبث الأوس والخزرج بعد تغلبهم على اليهود زمنًا وكلمتهم واحدة وأمرهم جميع، ثم وقعت بينهم حروب كثيرة، ذكر أصحاب الأخبار عددًا من أيامهم فيها، منها حرب سمير، وحرب كعب بن عمرو المازني، ويوم السرارة، ويوم فارع، ويوم الفجار الأول والثاني، وحرب الحصين بن الأسلت، وحرب حاطب بن قيس، ثم حرب بعاث، وكان أولها حرب سمير وآخرها حرب بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات1. وقالوا في أسباب حرب سمير: إن رجلًا من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان يقال له كعب بن العجلان، نزل على مالك بن العجلان السالمي؛ فحالفه وأقام معه، فخرج كعب يومًا إلى سوق بني قينقاع، فرأى رجلًا من غطفان معه فرس، وهو يقول ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب، فقال كعب: مالك بن العجلان، وقال رجل: فلان، وقال آخر: أحيحة بن الجلاح الأوسي، وقال غيرهم: فلان بن فلان اليهودي، أفضل أهلها. فدفع الغطفاني الفرس إلى مالك بن العجلان. فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي مالكًا أفضلكم؟ فغضب من ذلك رجل من الأوس من بني عمرو بن عوف يقال له سمير، وشتمه وافترقا. وبقي كعب ما شاء الله. ثم قصد سوقًا لهم بقباء، فقصده سمير ولازمه حتى خلا السوق فقتله، وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى بني عمرو بن عوف يطلب قاتله، فأرسلوا: إنا لا ندري من قتله. وترددت الرسل   1 السمهودي 1/ 152. ابن الأثير 1/ 402- 418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 بينهم: وهو يطلب سميرًا، وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها، وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب منهم، فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، وامتنعوا من ذلك وقالوا: نعطي دية الحليف وهي النصف، ولج الأمر بينهم حتى أتى إلى المحاربة. فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، وافترقوا، ودخل فيها سائر بطون الأنصار، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل. وكان الظفر يومئذ للأوس، فلما افترقوا أرسلت الأوس إلى مالك بن العجلان يدعونه إلى أن يحكم بينهم المنذر بن حرام النجاري الخزرجي جد حسان بن ثابت بن المنذر فأجابهم إلى ذلك، فأتوا المنذر فحكم بينهم بأن يدوا كعبًا حليف مالك دية الصريح، ثم يعودون إلى سنتهم القديمة، فرضوا بذلك وحملوا الدية، وافترقوا وقد شبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم1. ثم كانت لهم بعد ذلك حروب استمرت أكثر من مائة سنة وكان آخرها يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات. وقالوا في حرب بعاث: وكان سببه أن الحروب المتقدمة كلها كان الظفر في أكثرها للخزرج على الأوس، حتى ذهبت الأوس لتحالف قريظة؛ فأرسلت إليهم الخزرج: لئن فعلتم فأذنوا بحرب، فتفرقوا وأرسلوا إلى الخزرج: إنا لا نحالفهم ولا ندخل بينكم. فقالت الخزرج لليهود: فأعطونا رهائن وإلا فلا نأمنكم. فأعطوهم أربعين غلامًا من بينهم، ففرقهم الخزرج في دورهم. فلما أيست الأوس من نصرة اليهود حالفت بطونًا منهم الخزرج. منهم بنو عمرو بن عوف، وقال سائرهم: والله لا تصالح حتى ندرك ثأرنا، فتقاتلوا وكثر القتل في الأوس لما خذلهم قومهم، وجرح سعد بن معاذ الأشهلي فأجاره عمرو بن الجموح الحرامي. فلما رأت الأوس أنهم إلى قل، عزموا على أن يكونوا حلفًا للخزرج في المدينة، ثم اشتوروا في أن يحالفوا قريشًا فأظهروا أنهم يريدون العمرة، وكان بينهم أن من أراد حجًّا أو عمرة لم يعرض له، فأجار أموالهم بعدهم البراء بن معرور الخزرجي، فأتوا مكة فحالفوا قريشًا. لكن الوليد بن المغيرة قال لقريش: والله ما نزل قوم قط على قوم إلا أخذوا شرفهم   1 الأغاني 3/ 19- 26، 41- 42، ابن الأثير 1/ 402- 403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وورثوا ديارهم، فأقطعوا حلف الأوس، فقال: بأي! قال: بأي شيء؟ قال: إن في القوم حمية، قولوا لهم إنا نسينا شيئًا لم نذكره لكم، إنا قوم إذا كان النساء بالبيت، فرأى الرجل امرأة تعجبه قبلها ولمسها بيده؛ فلما قالوا ذلك للأوس نفرت، وقالوا: اقطعوا الحلف بيننا وبينكم، فقطعوه، فلما لم يتم لهم الحلف ذهبت النبيت أو بعضهم إلى خيبر. فلما رأت الخزرج أن قد ظفرت بالأوس، افتخروا عليهم في أشعارهم، وقال عمرو بن النعمان البياضي: يا قوم إن بياضة بن عمرو قد أنزلكم منزل سوء بين سبخة ومفازة، والله لا يمس رأسي غسل حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير على عذب الماء وكريم النخل. ثم راسلهم: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم نسكنها أو نقتل رهنكم، فهموا أن يخرجوا من ديارهم. وبلغ من كان في المدينة من الأوس، فمشوا إلى كعب بن أسد القرظي فدعوه إلى المحالفة على الخزرج، ثم تحالفوا مع قريظة والنضير ثم أجمعوا أن ينزل كل أهل بيت من النبيت على بيت من قريظة والنضير، وأرسلوا إلى النبيت يأمرونهم بإتيانهم وتعاهدوا ألا يسلموهم أبدًا وأن يقاتلوا معهم حتى لا يبقى منهم أحد، فجاءتهم النبيت فنزلوا مع قريظة والنضير، فأخذت الخزرج في قتل الرهن، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: إنما هي ليلة ثم تسعة أشهر وقد جاء الخلف. ثم أرسل إلى سائر الأوس في الحرب والقيام معهم على الخزرج فأجابوهم إلى ذلك، فاجتمع الملأ منهم واستحكم أمرهم ودخلت بينهم قبائل من أهل المدينة. فلما سمعت بذلك الخزرج اجتمعوا وخرجوا حتى أتوا عبد الله بن أبي، فقالوا: مالك لا تقتل الرهن؟ فقال: لا أغدرهم أبدًا وأنتم البغاة، وقد بلغني أن الأوس تقول: منعونا الحياة فيمنعونا الموت؟ ووالله ما يموتون أو تهلكوا عامتكم. فقال عمرو بن النعمان: انتفخ والله سحرك. فقال: إني لا أحضركم ولا أحد أطاعني أبدًا, ولكأني أنظر إليك قتيلًا يحملك أربعة في كساء. فاجتمع الخزرج ورأسوا عمرو بن النعمان. ولبثت الأوس والخزرج ليلة يتصنعون للحرب، ويجمع بعضهم لبعض، ويرسلون إلى حلفائهم من قبائل العرب؛ فأرسلت الخزرج إلى جهينة وأشجع فأقبلوا إليهم، وأرسلت إلى الأوس إلى مزينة فجاءتهم، ثم ألتقت ببيعات -وبعاث من أموال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قريظة- فيها مرزعة يقال لها قورى1 فكان النصر أول النهار للخزرج، ثم ثبت حضير -رئيس الأوس- الكتائب فرجعوا، وكانت الدبرة على الخزرج، وقتل عمرو بن النعمان وجيء به تحمله أربعة كما قال له ابن أبي، ووضعت الأوس فيهم السلاح، وصاح صائح: يا معشر الأوس اسجحوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب، فتناهت الأوس وكفت عن سلبهم بعد إثخان فيهم، وسلبتهم قريظة والنضير. وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها، فخرج سعد بن معاذ الأشهلي حتى وقف على باب بني سلمة أجارهم وأموالهم، جزاء لهم بيوم الرعل وكان للخزرج على الأوس، وكان سعد بن معاذ حمل يومئذ جريحًا إلى عمرو بن الجموح فمن عليه وأجاره وأخاه يوم الرعل، وأجار أموالهم من القطع والحرق فكافأه سعد بمثل ذلك يوم بعاث. وحلفت اليهود لتهدمن حصن عبد الله بن أبي، فلما أحاطوا بالحصن، قال لهم عبد الله: أما أنا فلم أحضر معهم، وهؤلاء أولادكم عندي فإنني لم أقتل منهم أحدًا، ونهيت الخزرج فعصوني. وكان جل من عنده من الرهن من أولاد بني النضير، ففرحوا حين سمعوا بذلك فأجاروه من الأوس ومن قريظة، فأطلق أولادهم وحالفهم، ولم يزل حتى ردهم حلفاء للخرزج بحيل تحيلها. وكان يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين. وهو اليوم الذي تقول فيه عائشة -رضي الله عنها-: كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم، وجرحوا، قدمه الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في دخولهم الإسلام2. هذا خلاصة ما روته المصادر عن يوم بعاث بين الأوس والخزرج قد سقناها، مع خلاف بسيط فيها تجاوزنا عنه لعدم أهميته، ولما كانت حوادث هذا اليوم قد وقعت قبل الهجرة بخمس سنوات، وكان كثير من زعماء الأوس والخزرج واليهود الذين شاركوا   1 ياقوت 4/ 451. 2 السمهودي 1/ 152- 155. الأغاني 3/ 19- 42. ابن الأثير 1/ 415- 418 الطبري 2/ 85. ابن هشام 1/ 183. البخاري 5/ 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 في حوادثه وخاضوا غمار الوغى فيه، وقد أدركوا الإسلام وكان لهم أثر ظاهر في حوادث المدينة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولما كانت ذكريات هذا اليوم قد ظلت باقية في النفوس بين أهل يثرب، حتى لقد أوشك الحديث فيها يومًا أن يعيد العداوة بين الأوس والخزرج مرة أخرى1، فإنه مما لا شك فيه أنه يوم حقيقي وأن معظم ما وصلنا من أخباره صحيح. وقد سقنا أخبار هذا اليوم، كما سقنا أخبار اليوم الأول من حروب الأوس والخزرج، لنستطيع من ذلك أن ندرك الأسباب الحقيقية للنزاع الذي وقع بين الأوس والخزرج وشمل بطون المدينة كلها. رأينا -من قبل- كيف أن النزاع الاقتصادي بين العرب واليهود قد أدى إلى تغلب العرب وانتقال السطلة إلى أيديهم، وانتشارهم في منطقة يثرب يتبوءون منها حيث شاءوا؛ لكن نظرة إلى مساكن الأوس والخزرج في منطقة يثرب تجعلنا ندرك أن هذا الغلب الذي أحرزه العرب لا يمكن أن يؤدي إلى استقرار الأمور في المدينة، فلم تكن هناك خطة مرسومة سار عليها الأوس والخزرج في تملك الأراضي الزراعية، وإنما جاء الأمر -فيما يبدو- على غير تقدير مرسوم، فحدث أن احتل الأوس بقاعًا أخصب وأغنى من الجهات التي نزلها الخزرج، ولذلك كان حتمًا أن يقع الخلاف بينهم ويحصل التنازع على نفس الغاية التي حدث عليها بين العرب واليهود من قبل. ولما كان من مصلحة اليهود ألا تظل كلمة العرب واحدة، فيستمروا في الضغط عليهم حتى يجلوهم نهائيًّا عن منطقة يثرب، فإننا نرجح أنهم عملوا من جانبهم على الدس بينهم وتشجيع عوامل الفرقة وإذكاء روح التحاسد التي بدأت تظهر بين الأوس والخزرج حتى يشغلوهم بأنفسهم عنهم، وقد أدرك العرب منهم ذلك فلقبوهم الثعالب؛ لما عرفوا فيهم من مكر وحيلة وخديعة، وفضلوا جوار إخوانهم -على ما بينهم من تنازع- عن جوار هؤلاء الثعالب. ولدينا رواية ذكرها ابن إسحاق تؤيد ما نتجه إليه، قال: ومرشاس بن قيس، وكان شيخًا قد عشا عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم.   1 ابن هشام 1/ 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية: فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد: لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتًى شابًّا من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ... ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين..1، وهذه الرواية وإن ذكرها ابن إسحاق في حوادث ما بعد الهجرة، إلا أنها تعطينا فكرة عن الروح العامة لدى اليهود، وأنهم كانوا يرون في اجتماع كلمة الأوس والخزرج أمرًا مهددًا لكيانهم في المدينة فعملوا على تحطيم الاتحاد بين القبيلتين العربيتين، ونستطيع أن نقول: إن هذا الاتجاه هو الذي اتجه إليه اليهود بعد تغلب الأوس والخزرج عليهم في يثرب، وإن كانت الظروف قد اضطرتهم إلى أن تدخل بطونهم في أحلاف مع الأوس والخزرج كل بسبب ظروفه التي وجد فيها. وقد بدأ التنازع بين الأوس والخزرج -بحسب الروايات التي سقناها- تنافسًا قبليًّا على الرياسة وعلى احتلال مركز الصدارة في يثرب، ولما كان تفوق العرب وانتصارهم على اليهود قد جاء على يد رجل من الخزرج أصبح له الذكر والشرف عليهم2، كان طبيعيًّا أن يعمل الخزرج على الاحتفاظ بمركز الصدارة في المدينة، لكن حدث أن الأوس تملكوا أفضل البقاع الزراعية، وأصبح الوضع الاقتصادي في مصلحتهم لذلك لم يقبلوا أن تكون للخزرج هذه المنزلة عليهم، وساءهم أن يؤكد أحد الوافدين من رجال القبائل البدوية حول يثرب هذه المنزلة لزعيم الخزرج مالك بن العجلان، وأن يفاخر بذلك حليف لمالك على محفل من أهل المدينة، فترصده رجل من الأوس وقتله. وطالب مالك به، فعرضت عليه الدية بحسب الأصول القبلية المعروفة -وهي دية الحليف نصف دية الصريح- لكن مالكًا رأى أن يؤكد سيادته فأصر على ألا يقبل في حليفه إلا دية الصريح، ورفضت الأوس ذلك بطبيعة الحال، فاقتتل الفريقان، ثم تحاكموا فقضي لمالك بدية الصريح إرضاء له على أن يعود الأمر بعد ذلك إلى السنن المعروفة. لكن هذا الحل كان أمرًا موقوتًا، إذ إن دواعي الخلاف   1 ابن هشام 2/ 183- 184. 2 الأغاني: 3/ 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الحقيقة بقيت خفية في النفوس لم يجرؤ أحد على إظهارها، وزاد الأمر تعقيدًا وقوع الدماء بين الطرفين، فشبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم، فتتالت الوقائع بين الفريقين في مظهر من مظاهر التنافس القبلي، كان النصر في أكثرها للخزرج على الأوس، حتى أحست الأوس بالضعف وبعدم قدرتها على الصمود بنفسها أمام الخزرج الذين بدا واضحًا أن نياتهم تتجه إلى الحصول على ما في أيديهم من الأرض الخصبة. ولما كانت الأوس تجاور قبيلتين قويتين من قبائل اليهود وهما قريظة والنضير اللتان استطاعتا الاحتفاظ بما في أيديهما من أفضل الأراضي الخصيبة وكانتا من القوة بحيث لم تدخلا في حلف مع إحدى القبيلتين العربيتين؛ فإنها فكرت في إقناع هؤلاء اليهود بالدخول معها في حلف للوقوف في وجه أطماع الخزرج التي تهدد الطرفين على السواء. وحين أحست الخزرج بهذا الاتجاه الأوسي، أنذرت اليهود بالحرب إن هم انحازوا إلى جانب الأوس، ويبدو أن الخزرج كانت قد وصلت إلى درجة من القوة حتى أخافت اليهود، فخضعوا لهذا التهديد وقدموا رهنًا من أبنائهم ضمانًا لوفائهم بالتزام جانب الحياد، وحتى إن بطونًا من الأوس نفسها حالفت الخزرج ضمانًا لمصالحها. وبذلت البطون الأوسية الغنية محاولات للصمود في وجه الخزرج لكنها باءت بالهزيمة، وحين عجزت عن الصمود وأيست من نصرة اليهود واتجهت إلى عنصر خارجي، فأرسلت وفدًا إلى مكة لاستعداء قريش على الخزرج1. لكن قريشًا كانت دائمًا تبتعد عن كل ما من شأنه أن يورطها أو يجرها إلى حروب قد تضر بمصالحها التجارية، فرفضت هذا الحلف الذي يشتم منه رائحة الدماء. واضطرت الأوس أمام هذا الفشل إلى الخضوع، كما اضطرت بعض بطونها إلى الخروج عن مساكنها أمام ضغط الخزرج. غير أن الوضع ما لبث أن تغير فقد أسفر الخزرج عن نياتهم في الحصول على ما في أيدي قريظة والنضير من الأراضي والدور، وفعلًا أذنوهم بالحرب أو أن يسلموا   1 ابن هشام 2/ 36-37، أسد الغابة 1/ 124، 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ما بأيديهم. ولم يكن هذا العمل من زعماء الخزرج -في هذا الوقت- ينطوي على شيء من الحكمة فإن هذا الموقف وحد بين الأوس واليهود من قريظة والنضير، إذ وجد هؤلاء أن عليهم إن أرادوا البقاء في يثرب أن يخوضوا ضد الخزرج معركة فاصلة، ولم يكن الخزرج بأقل منهم رغبة في خوض هذه المعركة لتأكيد سيادتهم ولتغيير لوضع الاقتصادي تغييرًا نهائيًّا، ولما كانت المعركة معركة حياة أو موت فقد حشد لها الطرفان كل إمكانياتهما واستجلبا حلفاءهما من قبائل البادية. ولما كانت المعركة بالنسبة للأوس وحلفائهم هي معركة الحياة فقد استماتوا في القتال وألحقوا بخصومهم هزيمة كبيرة، ولم ينقذ الخزرج من الكارثة إلا خشية الأوس من أن يستعيد اليهود مركزهم السابق في يثرب، فيضطر الأوس لمواجهتهم على انفراد لو قضي على قوة الخزرج، وفعلًا بدت نيات اليهود واضحة في تحطيم الخزرج وإذلالهم؛ ولذلك فضلت الأوس الاكتفاء بالقضاء على روح التسلط في الخزرج دون القضاء عليهم، ورأت أن جوارهم خير من جوار الثعالب. وقد استغل أحد زعماء الخزرج -وهو عبد الله بن أبي- موقفه الحيادي الشخصي ولصالح قبيلته، فاستطاع أن يحمي أمواله من الاعتداء عليها، وأن يكسب لنفسه مركزًا أدبيًّا في هذا الجو المضطرب بين طوائف المدينة المختلفة، فاتجهت إليه أنظار الطرفين على السواء كرجل يمكن أن يكون واسطة التجميع وحل النزاع. كما أنه استطاع أن يضم إلى جانب قبيلته إحدى قبيلتي اليهود القويتين وهم بنو النضير، وبذلك حدث توازن بين المعسكرين المتخاصمين. من كل ذلك نرى أن العامل الاقتصادي كان هو العامل المتحكم في العلاقات العامة بين السكان في يثرب. وحتى بين بطون القبيلة الواحدة أو بين عشائر البطن الواحدلم تستطع لحمة الدم أن تتغلب على الدوافع الاقتصادية التي كثيرًا ما كانت تثير النزاع بينها، وإذا كانت بطون الأوس أو بطون الخزرج كانت تتجمع تحت راية قبيلته في النزاع العام بحكم رابطة الدم، فإن كثيرًا ما كانت بطون من الطرفين ترى أن مصلحتها الاقتصادية تقتضيها التزام جانب الحياد، كما أنها كثيرًا ما كانت تتنازع فيما بينها فيحاول بعضها أن يستولي على ما في يد الآخر من الأراضي والدور، كما حدث مثلًا بين بني حارثة وبني عبد الأشهل وهما بطنان من فرع واحد من الأوس وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 النبيت، كانا متجاورين في منازلهما، تقاتلا فأجلى بنو حارثة بني عبد الأشهل حتى ألحقوهم بأرض بني سليم، ثم عاد هؤلاء بحلفائهم من سليم فهزموا بني حارثة وأجلوهم إلى خيبر فأقاموا بها قريبًا من سنة حتى تم الصلح بينهما1. وكما حدث بين بني بياضة وبني زريق وهما بطنان من فرع واحد من الخزرج إذ اقتتلوا وأجلى الأولون الآخرين عن منازلهم 2. وهكذا أصبحت مدينة يثرب تغلي بالخلافات وتضارب المصالح والأهواء. لكن يوم بعاث أصاب الفريقين بأضرار كبيرة؛ فقد قتل عدد كبير من سروات القوم جميعًا ورؤسائهم، وأصيبت الممتلكات بأضرار فادحة نتيجة التقطيع والتحريق. الأمر الذي جعل الناس يفكرون في ضرورة وضع حد لهذه المنازعات.. فبدأت الأفكار تتجه إلى إيجاد جو من السلام ينصرف الناس فيه لأعمالهم ويتذوقون لذة الراحة وهناء العيش، وبخاصة البطون الصغيرة التي لم تكن لها مصالح في النزاع وكان همها أن تعيش في سلام؛ لذلك سعى كثير من الزعماء وذوي النفوذ من الطرفين لكف كل من تحدثه نفسه بمحاولة إثارة الفتنة وإيقاد نار العداوة. وعلى العموم فإن بعاث قد أضعف بطون يثرب كلها وأوجد فيها ميلًا إلى الاتحاد، حتى إنه ليقال إنها أرادت أن تملك عليها ملكًا من الخزرج، كما يحدثنا ابن إسحاق: وقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول العوفي لا يختلف عليه في شرقه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله -صلى الله عليه وسلم- وهم على ذلك. فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد استلبه ملكًا، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارهًا مصرًّا على نفاق وضغن3. فكأن قلوب أهل يثرب على اختلاف قبائلها وكثرة نزعاتها سئمت حالة الجفاء والعداوة، وأحست بالحاجة إلى من يخرجهم منها ويوجه نشاطهم إلى ما هو أجدى عليهم وأكثر نفعًا.   1 السمهودي 1/ 136. 2 نفسه 1/ 146. 3 ابن هشام 1/ 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الفصل الثالث: قوة يثرب وعلاقاتها الخارجية إن الخصائص العامة للصلة بين البيئات الزراعية وبين جيرانها من البدو الرحل هي العلاقات المزعزعة التي تتسم عادة بالحذر والتربص؛ فالبدو دائمًا يطمعون في خيرات هذه المناطق الخصيبة، وهم ينتهزون كل فرصة تسنح للإغارة عليها لسلب ما تقع عليه أيديهم من حاصلاتها ومواشيها؛ ولذلك كثيرًا ما كان أهل القرى يلقون عنتًا كبيرًا وتصاب زراعاتهم وممتلكاتهم بأضرار فادحة من جراء سطو هؤلاء البدو وغاراتهم الجريئة. وحتى الدول الكبرى ذات القوة كثيرًا ما كانت تتعرض حدودها المجاورة للقبائل البدوية لغارات رجال هذه القبائل المدمرة، فكات لذلك تتخذ من الإجراءات السليمة والحربية ما تكف به عادية هؤلاء الطامعين الجريئين: فهي في بعض الأحيان تصطنع وسائل الاستمالة عن طريق الحلف أو دفع إتاوات لرؤساء القبائل، ولكنها دائمًا تعد من وسائل القوة التي تخيفهم ويكبح جماحهم؛ فإن أي بادرة من الضعف تبدو في نظر هؤلاء البدو كانت تغريهم بالانقلاب على حلفائهم والإغارة عليهم، لذلك كانت تقيم المسالح والحصون وتراقب حركات البدو مراقبة دقيقة، وتعد حملات حربية لتأديبهم عند ظهور أي علامة على تمردهم وعدوانهم. وقد انطبعت علاقات المدينة مع جيرانها بهذا الطابع، وما الإكثار من إقامة الحصون والآطام في كل أنحاء منطقة يثرب إلا مظهر من مظاهر هذه العلاقات بين هذه المنطقة الزراعية وبين جيرانها من القبائل البدوية الضاربة حولها، وهو إجراء دفاعي ضد ما يقع على الممتلكات والحاصلات من غارات لا بد كانت تحدث على منطقة يثرب. وإذا كانت المصادر لم تحدثنا عن هذه الغارات فإن الروايات التي ذكرها المؤرخون عن الأحداث التي وقعت في عهد الإسلام لتشير إلى هذه الغارات إشارات ظاهرة، فيذكر المؤرخون حين يتحدثون عن المداولات التي جرت بين النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في يوم أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول الخرزجي قال: كنا نقاتل في الجاهلية فيها -المدينة- ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، وترمي المرأة والصبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك يا رسول الله، إن مدينتنا عذارء ما فضت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو قط إلا ما أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه ... يا رسول الله، أطعني في هذا الأمر، واعلم أني ورثت هذا الرأي عن أكابر قومي وأهل الرأي منهم فهم أهل الحرب والتجربة1، وقال إياس بن أوس بن عتيك الأوسي: لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون حصرنا محمدًا في صياصي يثرب وآطامها فتكون هذه مجرأة لقريش، وقد وطئوا سعفنا؛ فإذا لم نذب عن عرضنا لم يزرع، وقد كنا يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جاهليتنا والعرب يأتوننا فلا يطمعون بهذا منا حتى نخر إليهم بأسيافنا حتى نذبهم عنا2. وقال خيثمة أبو سعد بن خيثمة الأوسي: يا رسول الله، إن قريشًا مكثت حولًا تجمع الجموع وتستجلب العرب من بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا قادوا الخيل وامتطوا الإبل، حتى نزلوا بساحتنا، فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجريهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ويصيبوا أطرافنا ويضعوا العيون والأرصاد علينا مع ما قد صنعوا بحرثنا، وتجترئ علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم فنذبهم عن حرانا3. وحين فكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في أن يصالح غطفان على ثلث ثمار يثرب إن رجعوا قد كنا نحن وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، ووالله لا نعطيهم إلا السيف يحكم الله بيننا وبينهم4. من ذلك نستطيع القول بأن المدينة تتعرض من حين لآخر إلى غارات القبائل البدوية على منطقتها، وكان أهل المدينة يصدونها بقوة السلاح، وبالاعتماد   1 ابن هشام 3/ 7. الواقدي 164- 165. 2 الواقدي 166. 3 الواقدي 166. 4 ابن هشام 3/ 239، ابن سعد 3/ 111. إمتاع 1/ 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 على الحصون والآطام يجتمعون بها ويتخذونها مخازن لحفظ حاصلاتهم، وكانت الآطام هي عزهم ومنعهم وحصونهم التي يتحرزون فيها من عدوهم1. وكان أهل المدينة أهل قوة وجلد وبصر بالحرب، تمرسوا عليها فيما وقع بينهم من صراع وأيام، وفيما حدث بينهم وبين جيرانهم من احتكاك، كما كانوا أهل عدة ونجدة وسلاح، وقد عرفت لهم العرب أن مدينتهم دار منعة وهم قوم أهل حلقة وبأس2، وقد اعتدوا بأنفسهم حتى لا يبالون بعداوة من عاداهم، يشهد بذلك إقدامهم على مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوته للخروج إلى بلدهم، في الوقت الذي خشيت فيه كل قبائل العرب الإقدام على هذا الموقف إشفاقًا من عداوة قريش وما يترتب عليها، وقد بصرهم العباس بن عبد المطلب عند بيعة العقبة الكبرى بما يترتب على عملهم هذا من خطورة معاداة قبيلة تحالفها كل قبائل العرب وترتبط معها بمصالح قوية قال: فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر واستقلال بعداوة العرب ترميكم عن قوس واحدة فارتأوا رأيكم وأتمروا أمركم ولا تفترقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع3. وكان ردهم بعد هذا التبصير أن قال قائلهم: يا رسول الله، بايعنا فنحن أهل الحلقة ورثناها كابرًا عن كابر4. ولقد كانت يثرب تملك من القوة الحربية ما تستطيع به فعلًا أن تحمي نفسها وأن ترد عادية القبائل عنها، وليس لدينا إحصاء عن عدد رجال الأوس والخزرج، ولكنا نستطيع تحديد قوتهم الحربية من المعارك التي خاضوها بعد الهجرة، فقد بلغ عدد محاربيهم في يوم فتح مكة -وهو الوقت الذي كان أهل المدينة منهم قد دخلوا فيه كلهم في الإسلام- أربعة آلاف مقاتل5. أما عدد اليهود قد بلغ عد الرجال البالغين من قبائلهم الثلاث حوالي الألفين؛ هذا بالإضافة إلى أعداد البطون الصغيرة من اليهود، فكأن يثرب كانت تستطيع أن توجه إلى ميدان القتال عند الضرورة ستة آلاف محارب، وإن كان هذا العدد لم يتحقق في معركة من معاركها، وذلك للصراع الداخلي بين   1 الأغاني 13/ 118 طبعة مصر. 2 ابن سعد 1/ 210- 212. 3 نفسه 1/ 206. 4 نفسه 1/ 206. 5 إمتاع 1/ 364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 بطونها في الجاهلية، ولأن موقفها بالنسبة لجيرانها كان موقفًا دفاعيًّا، فلم تذكر المصادر أن أهل يثرب قاموا في الجاهلية بغزو خارجي لجيرانهم، ثم إن اليهود لم يشاركوا بقوتهم في معارك الإسلام؛ لذلك كان أكثر جيش حشدته يثرب أربعة آلاف من العرب من أهلها. وقد كان رجال يثرب مرهوبي القوة على جانب عظيم من الشجاعة وقوة البأس، تشهد بذلك مواقفهم في معارك الإسلام، كما يشهد بذلك تقدير قريش لبأسهم وخوف زعمائهم منهم يوم بدر على الرغم من قلة عددهم1. ولقد اكتسب أهل المدينة خبرة بالقتال من حروبهم الداخلية ومن استعدادهم دائمًا للدفاع عن أراضيهم وممتلكاتهم، وكان لديهم من عدة الحرب وسلاحها ما يستطيعون به تسليح قوة مرهوبة، فقد كانت المدينة موطنًا من مواطن صناعة الأسلحة من دروع اشتهر اليهود بصناعتها وروجوا لها بأنهم إنما ورثوا صناعتها عن داود النبي2. كما اشتهروا بصناعة السيوف، وكانت يثرب كذلك مشهورة بصناعة السهام حتى قالوا: إن أجود السهام سهام يثرب3. ومن قائمة الأسلحة التي غنمها المسلمون من بني قريظة -وهم لم يكونوا من أقوى البطون اليهودية بله البطون العربية- نستطيع أن نحكم على مقدار ما كانت تملكه بطون يثرب من أسلحة متنوعة، فقد كانت مخلفات قريظة ألفًا وخمسمائة سيف وألفي رمح وألفًا وخمسمائة ترس وجحفة وثلاثمائة درع4.   1 كان عدد المسلمين يوم بدر حوالي الثلاثمائة، وكان عدد قريش تسعمائة وخمسين، قال عمير بن وهب الجمحي -وقد ذهب يحرز عدد المسلمين-: "يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، ألا ترونهم خرسًا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي". الواقدي 44. الطبري 2/ 446. 2 ومن نسج داود موضونة ... ترى للقواضب فيها صليلا المفضليات 1/ 75. 3 منعت قياس الماسخية رأسه ... بسهام يثرب أو سهام بلام ديوان الأعشى 98. 4 ابن سعد 3/ 117/ إمتاع 1/ 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 كما كانت عدة الحرب عزيزة عند من يمتلكها لا يبيعها ولا يراها تفضل عنه1، لشدة حاجتهم إليها في الدفاع عن أنفسهم حتى ليرونها عديل الولد2. ولولا خلافات يثرب الداخلية التي مزقت وحدتها وشتت جهودها؛ لكان من الممكن أن يكون لها شأن خطير في الجاهلية، ولكان من الممكن أن تكون منافسًا خطيرًا لمركز مكة ولربما تغلبت عليها كما حدث بعد الهجرة. ولما كانت العلاقات بين يثرب وجيرانها من البدو علاقة حذر وتربص؛ فإن يثرب قد اطمأنت إلى قوتها، ولم تتوسع في علاقاتها مع القبائل العربية إلا بحسب ظروف الأخذ والعطاء من بيع وشراء مع القبائل المجاورة لها. وقد ذكرت المصادر محالفات للبطون اليثربية العربية مع بعض القبائل الضاربة حول يثرب، فحالفت بعض بطون الأوس قبائل سليم ومزينة التي كانت تعيش إلى شرقي يثرب، وحالفت بطون الخزرج قبائل جهنية التي كانت تعيش إلى غربي المدينة وأشجع التي كانت تعيش إلى شمالها الغربي3. لكن المحالفات القبلية حالات طارئة اقتضتها ظروف المصالح المشتركة؛ ولذلك كثيرًا ما كانت تنقض القبائل محالفاتها وتتجه بها إلى حيث تكون مصالحها. ومن هنا رأينا بعض هذه القبائل التي حالفت الأوس والخزرج خرجت على هذا الحلف في أيام الصراع بين مكة والمدينة بعد الهجرة، وقد اشتركت سليم وأشجع في الهجوم على المدينة في غزو الأحزاب4. لكنها عادت بعد ذلك فاشتركت بكل قواتها إلى جانب يثرب عند فتح مكة، وهي في كلتا الحالتين كانت تجري وراء مصالحها. ولم نر ليثرب محالفات واسعة مع القبائل العربية البعيدة عن المدينة، مما يدل على أن نشاط يثرب كان محدودًا في الجزيرة العربية، وأنها كانت مشغولة بظروفها الداخلية وبنشاطها الزراعي، فلم تتوسع في نشاطها الخارجي. ولم تكن ليهود يثرب محالفات خارجية، ويبدو أنهم لم يروا في هذه المحالفات منفعة لهم في صراعهم ضد الأوس والخزرج، إذ إنهم لو جلبوا قبائل أخرى إلى   1 الأغاني 13/ 120 طبعة مصر. 2 انظر ابن هشام 2/ 437 عن مفاوضة بعض الأنصار مع كعب بن الأشرف. 3 الأغاني 15/ 159 طبعة مصر. 4 إمتاع 1/ 218- 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 يثرب، لربما هيجوا أطماع هذه القبائل فيما عندهم ولكانت العاقبة تهديد العرب واليهود في يثرب على السواء، فلم يشاءوا أن يوسعوا دائرة النزاع، واطمأنوا إلى قوة عرب المدينة في الدفاع عنها ضد العدو الخارجي، ومن ثم اكتفوا بأن تكون علاقاتهم بالقبائل علاقة منفعة مادية يجدونها في البيع والشراء، ومزاولة الربا واستغلال حاجة الأعراب إلى حاصلات المدينة ومصنوعاتها ولتنمية ثرواتهم. وكانت علاقة أهل يثرب جميعًا طيبة مع مدن الحجاز؛ فكانت علاقتهم حسنة مع مكة والطائف وخيبر حيث كانوا يتبادلون المنافع؛ فيصرف اليهود صناعاتهم من حلي وسلاح، ويمتار أهل مكة ما يحتاجون إليه من تمر المدينة، كما يحصل أهل يثرب على ما يحتاجون إليه من المجلوبات الخارجية التي تتاجر فيها قريش، ومن حاصلات الطائف. أما علاقات يثرب بالممالك والدول على أطراف الجزيرة وخارجها فكانت محدودة؛ فلم تحدثنا المصادر بشيء عن علاقات قامت بين أهل يثرب وبين الفرس أو الروم، ويرجع ذلك إلى أن المدينة لم تشارك في التجارة الخارجية في الجزيرة العربية مشاركة ذات أثر، وإن كان لا يستبعد أن يكون بعض رجالها قد ذهبوا إلى البلاد التابعة للدولتين في بعض التجارات. أما علاقات يثرب بالغساسنة، فقد رأينا صورة منها في استنجاد الأوس والخزرج بعرب غسان ضد اليهود. لكننا لم نجد استمرارًا لهذه العلاقة بعد ذلك. فلم يذكر المؤرخون شيئًا عن اتصال الغساسنة بشئون يثرب الداخلية بعد ذلك، وإن كانت العلاقات الحسنة قد ظلت بين الطرفين، إذ تحدثنا المصادر عن وفادات شاعر المدينة حسان بن ثابت الخزرجي على ملوك غسان ومدحه لهم وصلاتهم له1. أما صلات المدينة باليمن فهي قديمة ترجع إلى أيام المعنيين، فقد كان يثرب إحدى المحطات على طريق التجارة المار بالحجاز، وحين قدم اليهود إليها كانت بها بطون عربية من اليمن. ثم إن الأوس والخزرج أنفهسم قدموا إليها من اليمن بعد تفرق قبائل الأزد اليمنية وهجراتها نحو الشمال، وترى المصادر أن التبع أبا كرب تبان أسعد   1 الأغاني 14/ 2- 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الحميري أقبل يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل، فمر بالمدينة، ووقع له مع أهلها خلاف جعله يجمع لحربها، فوقعت بينه وبين أهلها حروب انتهت برجوعه عنها، وقد أقنعه حبران يهوديان بالتهود فتهود ونقل اليهودية إلى اليمن 1. وبغض النظر عن صحة هذه الروايات أو عدم صحتها، فإنها تعيطنا فكرة عن علاقة الحجاز كله بالجنوب وأنه كان في شبه تبعية لليمن حتى نهاية القرن الخامس الميلادي. وإذا كانت قد قامت مثل هذه الصلة بين يثرب واليمن في وقت سيادة النفوذ الجنوبي في شبه الجزيرة العربية، فإن المصادرلم تحدثنا بشيء عن استمرار هذه الصلة بعد زوال النفوذ اليمني واحتلال عرب الشمال مركز الصدراة، ويرجع ذلك إلى انصراف أهل يثرب إلى خلافاتهم الداخلية؛ الأمر الذي حد كثيرًا من نشاطهم الخارجي، فلم يأخذوا منه بنصيب يتناسب مع موقع المدينة وظروفها الطبيعية.   1 ابن هشام 1/ 14- 17 الأغاني 13/ 115- 118 مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الفصل الرابع: الحالة الاقتصادية كانت الحالة الاقتصادية في يثرب متعددة الجوانب؛ فالمدينة تقع في منطقة خصيبة تسيل فيها الوديان بما يغذي هذه المنطقة بالمياه الكافية لقيام زراعة جيدة فيها، إلى جانب الآبار والعيون التي كثرت في منطقتها والتي حفرها السكان للانتفاع بمياهها للشرب وللسقي. ولذلك عمل أهلها بالزراعة، وكانت خصوبة التربة تغنيهم عن الضرب في الأرض ابتغاء الرزق بوجه الإجمال. وقد وردت آيات قرآنية كثيرة تشير إلى جانب النخيل والأعناب والزروع الأخرى ومن بينها الحبوب والبقول1، بما يمكن أن يقوم برهانًا على أن أهل المدينة كانوا على حظ غير يسير من الأعمال الزراعية المتنوعة؛ وأن هذه الزراعات كانت توفر الجزء الأكبر من حاجة السكان الغذائية، كما أن أهل البادية كانوا يمتارون منها ما هم في حاجة إليه من غذاء بخاصة التمر، وقد حفلت الآيات كثيرًا بذكر النخيل مما يوحي بأنه كان يسد كثيرًا من حاجة السكان الغذائية. كما أنه قد ورد كثيرًا من الآيات المدنية فيها بعض الأوامر والنواهي والتشريعات الخاصة بالتجارة والأعمال التجارية، مما يمكن أن يلهم بأنه كان في المدينة حركة تجارية غير ضعيفة. كما أن مجتمعًا مدنيًّا كمجتمع يثرب لا بد أن تقوم فيه صناعة لسد حاجة السكان بما يحتاجون إليه من صناعات هي من مستلزمات الحياة الزراعية ومستعملات السكان اليومية، وما يترفهون به ويتحلون وما يحتاجون إليه من سلاح كان ضروريًّا للدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم، ولا يعقل أن يجلبوا كل ما يحتاجون إليه من هذه الأدوات والحاجيات المتنوعة الكثيرة مصنوعًا من الخارج.   1 انظر سورة البقرة 261، 264، 266 الأنعام 99، 141. الكهف 33- 34. المؤمنون 19 يس 33- 34. ق 7 -11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 النشاط الزراعي كانت الحرفة الرئيسية لسكان يثرب هي الزراعة نظرًا لطبيعة المنطقة، فقد كانت أرضها بركانية التربة خصبة، وكانت تسيل بها وديان كثيرة تفيض بمياه السيول التي تتجمع في الحرات الشرقية والجنوبية في فترة مختلفة من السنة1، فتسيل إلى الغرب والشمال، حتى تتجمع آخر الأمر في شمال غرب المدينة عند مجتمع الأسيال حيث تنصب في وادي إضم الذي يسيل شمال غربي أحد2، وهذه الوديان كانت تتخلل منطقة المدينة كلها، فتروي أرضها وتسيل مياهها من شراج الحرة الشرقية في مياه قليلة عادة لا تصل إلى أكثر من ارتفاع الكعبين؛ ولكنها كانت أحيانًا تفيض حتى تصل إلى أنصاف النخل3، وكان الزراع يسقون نخيلهم وزروعهم من هذه المياه، فيسوقون الماء بينهم، بأن يحبس الماء صاحب الأرض العالية حتى تسقي نخله فتصل إلى جذوره بارتفاع الكعبين، ثم يرسلها إلى من هو أسفل منه فيسقي4. وفي الأوقات التي تشح فيها مياه الوديان أو تنقطع، وفي الأماكن التي لم تكن تصل إليها، كان الناس يستخدمون مياه الآبار في إرواء مزروعاتهم فيرفعونها من الآبار لري الأراضي القريبة من البئر، أو يحملونها على الجمال النواضح لري الجهات التي تبعد عنها5. وأهم مزروعات المدينة أشجار النخيل يزرعونها في مغارس كبيرة، وقد يحوطونها فتكون حدائق، وكانت أرض المدينة صالحة لزراعة النخيل حتى ليقال: إن ودّية النخل تثمر بعد عام من زرعها، وعلى إنتاج النخيل كان يعتمد السكان. فكان من   1 ياقوت 17/ 91، 8/ 234. 2 السمهودي 2/ 19. 3 نفسه 218- 219. 4 البخاري 3/ 111. 5 الأغاني 13/ 118 "مصر" البعير الناضح هو الذي يحمل الماء لسقي الزرع من البئر، القاموس مادة "ن ض ح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 التمر جل طعامهم، كما كان به التعامل بينهم، فتدفع منه الأجور وتسدد الديوان1، كما كان ينتفعون بكل شيء في النخلة: يأكلون جمَّارها2 ويستخدمون جريدها في سقوف منازلهم ويعملون من خوصها المكاتل والقفف3. ويستخدمون جذوعها أعمدة لبيوتهم وحمالات لسقوفها، ويستخدمون الشوك والكرانيف للوقود، كما كانوا يرضخون النوى بالمراضخ حتى يتكسر فيكون علفًا للإبل، فالنخلة من أكرم الأشجار عليهم حتى لقد شبه النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمن بالنخلة كل ما فيه خير. وتمر المدينة متعدد الأنواع منه الجيد ومنه غير الجيد4 ومن أشهر أنواعه: الصيحاني، وابن طاب، وعذق زيد، والعجوة، والصرفان وهو نوع من التمر أحمر هو أوزن التمر كله، والجنيب وهو من أجود أنواع التمر، وقد كان ليهود بني النضير نوع فاخر من التمر يقال له اللوز أصفر شديد الصفرة ترى النواة فيه من اللحمة5. والشعير هو الغلة الثانية بعد التمر، وكانوا يزرعونه في حقول؛ ولكنهم عادة كانوا يزرعونه تحت النخيل6 وكان عليه اعتمادهم بعد التمر. وليس لدينا إحصاء عن مقدار غلة المدينة من التمر ومن الشعير، ولكن الراجح أن محصول الشعير كان يساوي ربع محصول التمر7، وأن محصول التمر كان يكفي حاجة السكان ويسمح ببيع الفائض، بينما كان أهل يثرب يستوردون بعض الشعير لسد النقص في حاجتهم.   1 البخاري 3/ 63، 76، 70، 71، 117، 137، التراتيب الإدارية: 1/ 400- 403 السمهودي 2/ 155. 2 البخاري 3/ 78. "الجمار - شحم النخل وهو أعلى الساق تحت الجريد" القاموس مادة "ج م ر". 3 الدلالات السمعية 669. 4 البخاري 3/ 58. 5 البخاري 3/ 57، 67، 78، الواقدي 289. 6 إمتاع 1/ 182، 328. 7 "قياسًا على ما كانت تتجه خيبر وهي واحة شبيهة بالمدينة، فقد كانت تنتج أربعين ألفًا وسق من التمر وعشرة آلاف وسق من الشعير" إمتاع 1/ 328- 329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وإلى جانب هاتين الغلتين الرئيسيتين كان يزرع قليل من القمح والكروم، وبعض أنواع الفاكهة الأخرى من رومان وموز وليمون وبطيخ وقاوون، كما كانت تزرع بعض الخضروات والبقول كالقرع واللوبيا والسلق والبصل والثوم والقثاء1. وكان جل أهل المدينة يعملون بالزراعة، منهم من كان يملك الأراضي الواسعة يزرعها لحسابه أو يزارع عليها غيره أو يكريها -يؤجرها- ومنهم من كان يملك قدرًا يقوم على زراعته بنفسه، ومنهم من لم يكن له ملك خاص فيزرع في أرض غيره مزارعة أو كراء. وكانت لهم طرق في المزارعة والمؤاجرة 2، بحسب جودة الأرض، فقد كانوا يزارعون على الثلث أو على الربع وأحيانًا على النصف مما تنتجه الأرض3، أما المؤاجرة فلم تكن المعاملة فيها بالدنانير أو بالدراهم؛ وإنما كان لهم فيها أيضًا عدة طرق؛ إما أن يؤجر الشخص حقله على الربع من المحصول مع شيء من التبن أو شيء من المحصول يستثنيه صاحب الأرض، أو يؤجرها على عدد محدد من أوسق التمر والشعير. أو أن يسمى قسم من الحقل لصاحب الأرض وقسم للزارع، وكل منها يأخذ ما ينتجه قسمه قل أو كثر، وكان ربما يحدث أن يصاب أحد القسمين فيضعف محصوله أو لا ينتج أصلًا فلا يلتزم صاحب القسم الآخر تجاهه بشيء 4. وعلى الرغم من اشتغال معظم السكان بالزراعة فإن حاصلات المدينة الزراعية لم تكن كافية لتموين سكانها، فكانوا يستوردون ما يسد حاجتهم من الخارج من بلاد الشام، وكانت تبلغ بهم الحاجة إلى أن يسلفوا نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزبيب إلى أجل مسمى قد يبلغ السنة والسنتين5؛ حتى يضمنوا أن يحصلوا على   1 البخاري 3/ 52، 65، 109. الدلالات السمعية 656 البتنوني 258. 2 المزارعة أن يعهد شخص إلى آخر بالقيام بزراعة الأرض وسقيها وتعهدها وله نصيب من المحصول 1/ 328 حاشية "1". 3 البخاري 3/ 107. 4 البخاري 4/ 104- 109. 5 نفسه 3/ 85 -87: السلف: "نوع من البيوع يعجل فيه الثمن وتضبط السلعة بالوصف إلى أجل معلوم. القاموس مادة س ل ف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 حاجتهم منه. وكانت أخصب الأراضي وأكثرها غلة في أيدي سكان العوالي من منطقة المدينة من اليهود والعرب؛ ولذلك كان الأغنياء منهم وبخاصة اليهود يستغلون حاجة الفقراء أو أصحاب الأراضي القليلة والضعيفة والإنتاج إلى الاستدانة منهم نظير رهن يقدمونه1 أو يضطرون إلى بيع ثمار نخلهم وأعنابهم مزابنة، ومحاصيل شعيرهم وقمحهم محاقلة، فيزيد هؤلاء الأغنياء من ثرواتهم بينما يصاب الفقراء بالخسارة والخراب، وربما يضطر صاحب الأرض القليلة إلى التخلي عنها وفاء لديونه2، وقد كان هذا الأمر مما يشعر بالهوة بين الأغنياء من أصحاب الأراضي وبين الفقراء، ويؤدي إلى إثارة المطامع والأحقاد، وقيام التنازع بين البطون رغبة في تملك الأراضي الزراعية، وما كان يحدث بسببه من حروب، كان الخصم يتجه فيها إلى تدمير ثروة خصمه بقطع نخله وإتلاف مزروعاته، مما كان يؤدي إلى إضعاف قوة المدينة الاقتصادية نتيجة هذه الخسائر المادية. وكان اليهود أكثر غنًى من العرب بوجه عام؛ لذلك لم تكن حاصلات العرب تكفي لسد حاجتهم إلا بصعوبة، وكثيرًا ما كانوا يستدينون من اليهود3، وهذا يفسر لنا مقدار الجهد الذي تحمله عرب المدينة حين نزل عليهم المهاجرون من أهل مكة فأقاموا معهم في ضيافتهم ثم عملوا في أراضيهم مزارعة 4. وعلى الرغم من أن عدد المهاجرين لم يكن يتجاوز المائة أسرة؛ فإن هذا العدد القليل أثر على حياة الأنصار الاقتصادية، ولم تتحسن الأحوال إلا بعد إجلاء بعض القبائل اليهودية عن المدينة، وبعد أن استقر أمر المهاجرين وأخذوا يجدون لهم رزقًا في العمل بالتجارة5. لكن الزراعة بالمدينة انتعشت بعد استقرار أحوالها بعد الهجرة والقضاء على المنازعات الداخلية فيها، حتى استوعبت المدينة عددًا كبيرًا من المهاجرين إليها   1 البخاري 3/ 56، 57، 72، 77. 2 نفسه 3/ 73- 75 "المزابنة: بيع التمر في رءوس النخل بتمر كيلًا. والمحاقلة بيع الزرع في سنبله: الشعير بشعير كيلًا والقمح بقمح كيلًا. القاموس مادة "ز ب ن". و "ح ق ل". 3 البخاري 3/ 67. 4 نفسه 3/ 104، 155، 166. 5 ابن هشام 3/ 233- 234، البخاري 3/ 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 والوافدين عليها من قبائل العرب، وكثر عمرانها وبدأ الناس في استغلال الأراضي واستصلاح مواتها وإعدادها للزراعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 النشاط الرعوي لم تكن منطقة المدينة بلاد رعي؛ فقد كانت الأراضي الصالحة للزراعة تستغل في إنتاج الحاصلات الزراعية، وما وراء منطقة يثرب كان مجالًا لنشاط القبائل البدوية,. ومع ذلك فقد كان لأهل المدينة ثروة من الإبل والماشية والأغنام، يرعونها ما تنبت منطقة المدينة من أشجار وشجيرات رعوية1، كما كانت توجد إلى الشمال الغربي للمدينة منطقة رعوية هي منطقة زغابة والغابة تبدأ من مجتمع الأسيال على سبعة أميال من جبل سلع على طريق الشام، وبها أشجار ومراع يحتطب منها الناس ويرعون شجرها2، وإلى جنوب المدينة على طريق مكة توجد مراع بين المدينة والربذة حماها النبي -صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة لإبل الصدقة ترعاها 3 كما حما منطقة تسمى نقيع الخضمات في الناحية الجنوبية الغربية من المدينة لخيول المسلمين. وقد كان أهل المدينة يملكون عددًا من البقر لحرث الأرض، كما كانوا يستخدمون الإبل في ري الأراضي يحملون عليها الماء من الآبار، ويسمونها الإبل النواضح، وكان بعضهم يملك منها عددًا قد يصل إلى المائة يستخدمها لهذا الغرض5 كما كان البدو يجلبون إلى المدينة أغنامهم وإبلهم يبيعونها لأهلها6. لكن ما كان يملكه أهل يثرب من الإبل والدواب والخيول كان قليلًا بالقياس إلى ما كانت تملكه مكة أو تملكه القبائل البدوية منها7 لكنها زادت شيئًا فشيئًا بعد الهجرة   1 إمتاع 1/ 247. 2 ياقوت 10/ 141- 142، 14/ 182. 3 السمهودي 2/ 222. 4 ياقوت 2/ 404- 405. 5 "يروي صاحب الأغاني أن أحيحة بن الجلاح الأوسي كان يملك تسعة وتسعين بعيرًا كلها ينتضح عليها" الأغاني 13/ 118 "مصر". 6 البخاري 3/ 62، 80. 7 "كانت الإبل التي خرج عليها المسلمون يوم بدر سبعين بعيرًا يعتقبها ثلاثمائة رجل، بينما خرجت قريش ومعها سبعمائة بعير يعتقبها تسعمائة وخمسون رجلًا، وكانت خيول المسلمون فرسين، بينما كانت خيول أهل مكة مائة فرس" "ابن هشام 2/ 251. إمتاع 1/ 65". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 تبعًا لحاجة المسلمين إليها في حروبهم، فكثر جلب الخيل من البادية، يأتي بها الأعراب لبيعها، وقد صارت لها سوق خاصة بالمدينة؛ كان بنو سليم المشهورون باقتناء الخيل يجلبونها إليها، وأصبح يطلق على هذه السوق بقيع الخيل1، كما كانت تجلب إلى هذه السوق الإبل والغنم أيضًا. وقد ازدادت ثروة المدينة الحيوانية بالتدريج بعد الهجرة وقيام الدولة الإسلامية بها وكثرة الغزوات ضد القبائل العربية التي كانت تناوئ المدينة، بما كان يقع في أيدي المسلمين من غنائم من الإبل والأغنام2، وبما كان يشتريه المسلمون من الخيول لسد حاجتهم الحربية3، حتى لقد بلغ عدد الخيول في جيش المدينة عند فتح مكة سنة 8 هـ ألفي فرس، كان الأنصار يملكون منها خمسمائة فرس ويملك المهاجرون ثلاثين فرسًا والباقي تملكه القبائل التي والت المدينة، وانضمت إليها 4، وبلغ ما استطاع أن يمد به رجل واحد من المسلمين -هو عثمان بن عفان- جيش تبوك تسعمائة وخمسين بعيرًا وخمسين فرسًا5؛ الأمر الذي يقطع بنمو الثروة الحيوانية في يثرب نموًّا كبيرًا بعد الهجرة النبوية.   1 السمهودي 1/ 544. 2 "على سبيل المثال: غنم المسلمون في غزوة بني المصطلق ألفي بعير وخمسة آلاف شاة، وفي غزوة حنين أربعة وعشرين ألف بعير وأربعين ألف شاة". 3 ابن هشام 3/ 364. 4 إمتاع 1/ 364. 5 الدلالات السمعية 641. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الصيد : كان الصيد حرفة من الحرف التي يزاولها العرب سواء منهم أهل الحضر وأهل البادية، وكانت وسيلة من وسائل المعاش عند بعض الناس. ولقد زاول أفراد من أهل المدينة حرفة الصيد وبرعوا فيها، وكانت حيوانات الصحراء التي تصاد هي الحمر الوحشية والغزلان والأرانب والضباب يطاردونها بالخيل والرماح أو يرمونها بالسهام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 كما كانوا يستخدمون الكلاب المعلمة1 والبزاة للقبض على الصيد، أو تعطيل الحيوان حتى يصل إليه الصائد فيرميه بالسهم، أو يطعنه بالرمح، أو بالمعراض وهو خشبة محددة الطرف أويوضع في طرفها حديدة. كما كانوا يستخدمون الفخاخ والشباك والأشواك المنشورة، ومنها ما يدس تحت التراب من الحديد للبقر والحمير؛ فإذا تخطت فيه حطت أرجلها ولذعها فرمحت فيقطع أعصابها حتى لا يكون بها حراك ثم يدركها الصائد2. أما صيد البحر فقد كان مزاولًا يزاوله سكان السواحل، وقد يزاوله أهل الحاضرة، ولا يستبعد أن يكون بعض أهل المدينة قد زاولوه في أسفارهم ورحلاتهم، وقد ورد ذكر الصيد بنوعيه في القرآن الكريم مما يدل على أن الناس كانوا يزاولونه، وينتفعون به ويعولون عليه في حياتهم ومعاشهم3.   1 البخاري 1/ 42. 2 نفسه 2/ 11- 13: الدلالات السمعية 669- 770. 3 {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ، أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 النشاط التجاري من البديهي ألا تشذ يثرب عن حياة المدن والقرى الاستقرارية التي تتحمل الأعمال الدائمة وتتلازم مع الأعمال الزراعية والصناعية والتجارية. وإذا كان أهلها -في الأغلب- يعيشون على غلات الأرض والبساتين، وكانت خصوبة التربة تغنيهم عن الضرب في مناكب الأرض ابتغاء الرزق؛ فإن طبيعة كونها مدينة وحولها القرى والأعراب لا بد أن تجعل فيها حركة تجارية، وأن يكون كثير من أهلها قد تفرغوا لأعمال التجارة. ولقد وردت في القرآن الكرريم آيات مدنية كثيرة فيها بعض الأوامر والنواهي والتشريعات1، بما يمكن أن يلهم أنه كان في المدينة حركة تجارية غير   1 انظر سورة البقرة 383. النساء 29. التوبة 241. النور 16. الجمعة9- 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ضعيفة قبل الإسلام، ولا يرد هذا بأن تكون قوة هذه الحركة فيها قد وجدت بعد الهجرة النبوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 التجارة الداخلية : كانت التجارة الداخلية في يثرب نشيطة، والأخذ والعطاء والتعامل فيها كبيرًا، سواء بين أهلها أنفسهم، أو بينهم وبين جيرانهم من الأعراب الذين كانوا يفدون على المدنية للامتياز منها، ولتصريف منتجات البادية من إبل وغنم وخيل، وصوف ووبر وسمن وأقط وغير ذلك، كما كانت الصناعة في يثرب قائمة وبخاصة صناعة الصياغة حيث كانت تمون مدن الحجاز وبدوها بما يحتاجون إليه من حلي لنسائهم وبناتهم، وكذلك بالمصنوعات الحديدية من أسلحة ودروع وآلات زراعية وغيرها. وكان في المدينة عدة أسواق، والسوق فضاء واسع لا بناء فيه يضع فيه التجار بضائعهم، والمكان لمن سبق1، وكان الراكب ينزل بالسوق فيضع رحله، ثم يطوف بالسوق ورحله بعينه يبصره لا يغيبه عنه شيء. وأهم هذه الأسواق سوق بني قينقاع عند جسر وادي بطحان مجاورة لمنازلهم، وكانت سوقًا عظيمة، تكثر فيها الحركة، وتسمع منها ضجة البيع والشراء والتعامل2، وأهم ما كان يباع الحلي التي تخصص يهود بني قينقاع في صناعتها. ثم سوق أخرى بزبالة من الناحية التي تدعى يثرب في الشمال الغربي من المدينة، وقد اتسعت هذه السوق وعظم أمرها بعد الإسلام حيث اتخذها المسلمون سوقًا لهم بعد أن فسدت العلاقات بينهم وبين اليهود3. كما كانت توجد سوق بالعقبة وهي موضع من قباء 4، وسوق بمزاحم عند مساكن بني الحبلى عشيرة عبد الله بن أبي، وسوق قرب البقيع عرفت ببقيع الخيل، كانوا بنو سليم يجلبون إليها الخيل والإبل والغنم والسمن، وكان أكثر ما يباع في هذه السوق الحيوانات 5.   1 السمهودي 1/ 541. 2 الأغاني 21/ 62 "مصر". 3 السمهودي 1/ 540. 4 ياقوت 13/ 128. 5 السمهودي 1/ 544- 545.البخاري 3/ 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 كل هذه الأسواق كان يباع فيها كل ما تنتجه المدينة من تمر وشعير وطعام وخمر، وحتى الحطب الذي كان يباع فيها يجلبه الحطابون من أشجار المدينة أو من الغابة أو من البادية. كذلك كان يباع فيها ما يجلب إليها من الخارج من منتجات البادية من صوف وشعر ووبر وسمن وأقط. كذلك كانت الأشياء المصنوعة تباع فيها سواء كان ذلك من صناعة المدينة نفسها من حلي وسلاح، وآلات زراعية من مساح ومكاتل وكرازين، أو ما يجلب إليها من الخارج من نبيذ وزيت وحنطة ومنسوجات قطنية وحريرية، ونمارق ملونة مرسومة يبتاعها أهل النعمة واليسار، كما كان هناك عطارون يتاجرون في أنواع العطارة والمسك والروائح العطرية. وكان لكل طائفة من الباعة موضع معلوم في السوق1. وإلى جانب البيع والشراء في منتجات الأرض وفي المصنوعات والمجلوبات الخارجية، كان هناك أناس يعملون بالصيرفة ويعتبرونها نوعًا من التجارة؛ فكانوا يبيعون الذهب بالذهب والفضة بالفضة، كما كانوا يقومون باستبدال النقود وكسرها، ولكنهم كانوا يستغلون جهل الناس فلا يظهرونهم على مدى الجودة أو فارق الوزن في الدنانير والدراهم2. وكانت السمسرة حرفة يحترفها بعض الناس، فيتولون البيع نيابة عن أصحاب البضائع وبخاصة من أهل البادية، وكثيرًا ما كانوا يستغلون جهل هؤلاء البدو فيخسرونهم، أو يرفعون في السعر أو ينقصون مضاربة3. ولم تكن هناك رقابة مفروضة على البيع والشراء وتنظيم التعامل في هذه الأسواق، إذ لم تكن في المدينة هيئة حكومية؛ وإنما كانت المدينة تحيا حياة قبلية تامة؛ فلم تكن لذلك رقابة على ضبط المكاييل وتنظيم البيع والشراء، وحماية السذج من البدو من الوقوع في يد المحتالين والغشاشين ومع أن الكيل والوزن كان موجودًا؛ إلا أن البيع والشراء مجازفة كان أمرًا سائدًا4. كما كان من وسائلهم المناجشة في   1 انظر البخاري 3/ 63- 64. السمهودي 1/ 539- 552. الدلالات السمعية: 641- 643. 2 الدلالات السمعية 664. 3 البخاري 3/ 71-72 الدلالات السمعية 653. 4 البخاري 3/ 85-95 الدلالات السمعية 649. "بيع الشيء مجازفة: بيعه دون أن يعلم كيله ولا وزنه. القاموس مادة ج ز ف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 البيع وهي أن يزيد الشخص في السلعة أكثر من ثمنها، لا يشتريها ولكن ليغر غيره فيقع فيها1. كما كان التجار يتلقون الركبان خارج المدينة فيشترون منهم ما يحملون من طعام قبل أن يصلوا إلى السوق حتى لا يعرفوا ثمنه الحقيقي، ثم يجمعونه ليحتكروا بيعه في السوق، وأحيانًا يبيعونه في مكانه قبل أن يصلوا إلى السوق إذا تحقق لهم الربح الذي يريدونه2. كما كان الغش والمخادعة أمرًا جاريًا في الأسواق، فكانوا يبلون الحنطة والشعير ليكثركيلها، أو يخفون الرديء داخل الطيب، ويخلطون التمر الرديء بالجيد، ويحفلون -يصرون- الإبل والغنم والبقر فلا يحلبونها أيامًا حتى تبدو أنها كثيرة اللبن ثم يبيعونها 3. كما كان البيع بالنسيئة -تأجيل الثمن- وبالرهن وسيلة من وسائلهم، وهم بذلك يبغون تنشيط البيع من ناحية وتحقيق ربح أزيد من ناحية أخرى. وكما كان أهل المدينة يتبايعون في المعروضات، كذلك كان يتبايعون فيما بينهم في الممتلكات والمزروعات، فكانت الدور والأرض تباع في المدينة4. وكانوا يتصرفون في مزروعاتهم ببيعها قبل أن يبدو محصولها فيبيعون التمر على رءوس النخل قبل أن يزهو -يظهر لونه بحمار أو صفار- ويبيعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها، كما يبيعون الزرع في سنبله، وكان يحدث من جراء ذلك خسارة من كلا الوجهين؛ فقد تصاب الثمار بالدمان -المرض أو القشام: العاهات- فتحدث خسارة للمشتري، أو يستغل المشتري حاجة البائع فينقص في تقدير المحصول فتلحق الخسارة صاحب الزرع5. وقد كان الربا مظهرًا من مظاهر الحركة الاقتصادية والتجارية، ووسيلة من وسائل التعامل في المجتمع العربي بعامة وفي المدن بخاصة. وكان يزاول في المدينة مزاولة كبيرة6 بين أهلها أنفسهم وبينهم وبين الوافدين إليهم. وكان وسيلة من وسائل زيادة   1 البخاري 3/ 69 القاموس مادة "ن ج ش". 2 البخاري 3/ 71- 73. 3 السمهودي 1/ 546. البخاري 3/ 70-71. 4 البخاري 3/ 63- 64. 5 نفسه 3/ 76- 78. 6 نفسه 3/ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الثروات، إذ كان الربا أحيانًا كثيرة يربو على الدين نفسه، فيذهب بأموال الناس. وقد كان العرب واليهود يزاولونه على السواء؛ فقد ذكرت الروايات أن أحيحة بن الجلاح أحد زعماء الأوس كان يتعامل بالربا حتى مع قومه من الأوس حتى كاد يحيط بأموالهم1. وقد نزل القرآن يندد باليهود وينعى عليهم أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل2. وقد كان الربا شديد الرسوخ وكان يشغل حيزًا كبيرًا من حياة المدينة والمدن الحجازية بعامة، وكان القضاء عليه أمرًا شاقًّا حتى لقد تدرج القرآن في إبطال التعامل به؛ فبدأ بأن نهى عن الربا الفاحش: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران} ثم نزل بتحريمه تحريمًا كاملًا بعد أن بين أضراره: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة] . وحين قامت الدولة الإسلامية في يثرب بعد الهجرة كانت وسائل البيع والتعامل هذه سائدة في المدينة، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يعمل على تنظيمها، وقد ساق أصحاب الحديث أوامر كثيرة أصدرها النبي -صلى الله عليه وسلم- تأمر بعدم استخدام الوسائل غير الشريفة في البيع والشراء والمعاملات، فقد نهى أن يبيع حاضر لباد -أي لا يكون له سمسارًا- لما في ذلك من خداع3 كما نهى عن تلقي الركبان خارج المدينة، وعن بيع الطعام قبل أن يصل إلى السوق4. كما نهى عن الغش واعتبر الغاش خارجًا على الجماعة5. كما نهى عن أن يباع الثمر قبل أن يبدو صلاحه6. وأمر أن يكون الكيل والوزن هو الأساس في المبايعة   1 الأغاني 13/ 118 "مصر". 2 النساء: 161. 3 البخاري 3/ 72. 4 البخاري 3/ 73. 5 السمهودي1/ 546. 6 البخاري 3/ 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فمنع بيع المجازفة، وكان كل من روئي يبيع جزافًا يضرب في المدينة1. كما قضى برد كل بيع استعملت فيه المناجشة والخداع2، كما منع بيع المزابنة، والمحاقلة، والمخاضرة وهي بيع الزرع في سنبله3 وأمر بالدقة في المعاملة والصيرفة4: وبذلك وضعت التشريعات لتنظيم التجارة في المدينة وقامت الدولة على مراقبتها وتنظيمها. وقد أدى هذا إلى رواج التجارة الداخلية، وبدأت الثقة تأخذ طريقها إلى نفوس البدو الذين كانوا يفدون بما لديهم من سلع، وأخذت عرب المدينة بقسط كبير من مزاولة التجارة الداخلية، وبخاصة المهاجرين من قريش الذين انضافت خبرتهم التجارية إلى حركة التنظيم الجديدة؛ فسيطروا على السوق الداخلية وجنوا من وراء ذلك ثروة كبيرة، وبدت واضحة مع الأيام فيما كان من ثروات، أمثال عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم ممن اشتهروا بالتجارة، حتى لقد أسهم عثمان في تجهيز جيش تبوك بتسعمائة وخمسين جملًا وخمسين فرسًا وألف دينار5، وقد كان لتنظيم المعاملات في سوق المدينة أثر على اليهود الذين كانوا يستغلون فساد المعاملات لزيادة ثرواتهم6، الأمر الذي كان له أثره على العلاقات بين المسلمين واليهودكان سنوضح فيما بعد.   1 نفسه 3/ 68. 2 نفسه 3/ 69. 3 نفسه 3/ 74- 75. 4 نفسه. 5 ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1040. 6 السمهودي 1/ 450. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 التجارة الخارجية : كانت المدينة على طريق القوافل التجارية، ومن المستبعد أن يبقى تجارها في غفلة عن الأسفار التجارية كماكان يقوم بهأ اهل مكة، وكان فيها جالية كبيرة من اليهود ومنهم من كان يملك ثروة كبيرة، ومن المستبعد ألا يكونوا قد ضربوا بسهم وافر في النشاط التجاري في الحجاز بعامة وفي المدينة بخاصة، سواء كان ذلك بالرحلات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 التجارية الخارجية أو في الأسواق المحلية والموسمية1. وتحدثنا المصادر عن رجل يهودي كان يتاجر في الحجاز، وكان بارعًا في التجارة حتى لقد أحنق عليه القرشيين أنفسهم وهم على ما هم عليه من براعة وخبرة تجارية؛ فتخلصوا من منافسته بقتله2. كما تحدثنا عن أبي رافع الخيبري الذي كان يرسل تجارته إلى الشام بواسطة القوافل ويستورد منها الأقمشة المختلفة3. وإذا كان سكان المدينة من العرب واليهود قد عملوا بالزراعة وكانت موردهم الرئيسي، وإذا كانوا قد شغلوا بحروبهم وخلافاتهم الداخلية؛ فليس معنى ذلك أنهم أهملوا التجارة، وقد تحدثنا من قبل عن الحركة التجارية النشيطة في الداخل، وليس من المحتمل أنهم لم يزاولوا التجارة الخارجية، وإن لم يضربوا فيها بسهم وافر مثل أهل مكة الذين كانت المورد الأساسي للرزق عندهم. وإن كانت المصادر لم تحدثنا عن قوافل تجارية للمدينة اتجهت إلى الشام أو إلى اليمن، ولكن من المؤكد أن قوافل مكة كانت تمر بالمدينة في رحلاتها التجارية، وأن أهل المدينة يتعاملون مع هذه القوافل المكية4، كما كانوا يرحلون إلى الأسواق العربية في عكاظ ومجنة وذي المجاز في موسم الحج يبيعون فيها ويشترون5. كما كانوا يستوردون ما يلزمهم من أقمشة قطنية وحريرية ونمارق مرسومة ووسائل الترف، وما يحتاجون إليه من زيت وزبيب ونبيذ من الشام ومن اليمن، كما كانوا يستوردون العطور والمسك من دارين فرضة البحرين التي كان يحمل إليها المسك من الهند6. ثم هم كانوا في حاجة إلى تصريف ما لديهم من صناعات وبخاصة الحلي التي اشتهر يهود بني قينقاع بصناعتها في أسواق العرب أو في الأسواق الخراجية، ثم يستجلبون ما يلزمهم من خامات   1 دروزة 85. 2 أنساب الأشراف 1/ 73. 3 تاريخ الخميس 2/ 12. 4 ابن هشام 1/ 148، 179. 5 البخاري 3/ 62. 6 الدلات السمعية 643. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الذهب والحديد وغيره مما يلزم لصناعاتهم، ومن أحجار كريمة من هذه الجهات، وكان أنباط الشام يأتون إلى المدينة بقوافلهم تحمل الحنطة والزبيب والزيوت1، وكثيرًا ما كان أهل يثرب يدفعون إليهم مقدمًا ثمن البضائع ليضمنوا ورودها2. ولا يستبعد أن أهل يثرب أنفسهم كانوا يرحلون لجلب ما يلزمهم من الشمال أو من الجنوب؛ بل الأرجح أنهم كانوا يقومون بهذه الرحلات. وكما كانوا يسافرون بالبر كذلك كانوا يتاجرون عن طريق البحر3، والمدينة ليست على مسافة كبيرة من البحر الأحمر، ولها فرضتها التي كانت ترسو فيها السفن وهي الجار، وبينها وبين المدينة يوم وليلة، وبينها وبين أيلة نحو عشر مراحل، وهي فرضة ترفأ إليها السفن من أرض الحبشة وعدن والصين وسائر بلاد الهند، وكانت ميناء هامًّا حتى لقد سمي هذا الجزء من البحر الأحمر من جدة إلى أيلة الجار 4. فلا بد أن أهل المدينة انتفعوا بالتجارة عن طريق هذا المرفأ وتلقوا منه حظًّا من التجارة العالمية. وإذا كانت يثرب -نظرًا لظروفها الداخلية- لم تستطع منافسة مكة في مجال التجارة بوجه عام في الفترة التي سبقت الإسلام؛ فإنها لم تلبث أن أخذت تنافسها منافسة خطيرة بعد الهجرة النبوية وقيام الدولة الإسلامية بها؛ فلم يكد المسلمون يستقرون بالمدينة حتى اتجهوا إلى التجارة الخارجية مع مزاولتهم للتجارة الداخلية وتنظيمها، فقد بدأ رجال من المهاجرين من قريش من أمثال طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعيد بن زيد وغيرهم يرحلون إلى الشام يجلبون منها التجارة5. وفي الوقت الذي أخذت فيها قوات المدينة طريق الشمال على قوافل قريش، أخذت المدينة تحاول أن تخلفها في هذا المضمار، وشيئًا فشيئًا تحول الزمام إلى يثرب بعد أن صارت عاصمة الدولة العربية الموحدة   1 البخاري 3/ 55- 56. 2 نفسه 3/ 85- 87. 3 البخاري 3/ 56. 4 ياقوت 5/ 92- 93. 5 ابن قتيبة: المعارف 67. السمهودي 1/ 174 الدلالات السمعية 636- 638 ابن حزم: جوامع السيرة 119- 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 المكاييل والموازين : لما كانت حاصلات المدينة في الأغلب حاصلات زراعية؛ فإن المكاييل كانت أكثر استعمالًا فيها من الأوزان، ولذلك قالوا المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة1. وكانت المكاييل أنواعًا وحدتها "المد" وهو أربع حفنات بحفنة الرجل الأوسط. والصاع مكيال قدره أربع أمداد2 وهو خمسة أرطال، والفَرَق قدره سبعة عشرة رطلًا وثلاثة أرباع الرطل3 والوسق يساوي حمل بعير ويساوي ستين صاعًا أو ثلاثمائة وعشرين رطلًا4. أما الأوزان المستعملة فهي: الدرهم والمثقال والدانق والقيراط والنواة والرطل والقنطار، والقيراط نصف الدانق، ووزن الدرهم ستة دوانق، وكل عشرة دوانق تساوي سبعة مثاقيل، والأوقية تساوي اثني عشر درهمًا، والنش نصف أوقية، والنواة من الذهب تساوي وزن نواة التمر أو هي وزن معلوم عندهم، والقنطار مائة رطل5.   1 التراتيب الإدارية 1/ 438. 2 نفسه 1/ 428- 429. 3 القاموس مادة "ف ر ق". 4 انظر في هذا كله: التراتيب الإدارية 1/ 428 - 438 وكذلك انظر القاموس في مادة "م د د، ص وع، ف ر ق، وس ق". 5 انظر التراتيب الإدارية 1/ 413- 414- 415. وانظر القاموس في مادة "ث ف ل، د ل ق، ق ر ط، ن وى، ر ط ل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 العملة : كانت العملة هي الدرهم والدنانير، والأولى من الفضة والثانية من الذهب، وكانت أنواعًا من ضرب فارس والروم، ومنها ما لم يكن مضروبًا ولا منقوشًا من اليمن أو من المغرب، وكانوا يتعاملون أحيانًا بالوزن في الذهب والفضة على السواء. وكانت الدنانير في الغالب تحمل من بلاد الروم عليها صورة الملوك واسم الذي ضربت في أيامه مكتوبة بالرومية؛ ولذلك كانت العرب تسميها الهرقلية، وكانت غالبية الدراهم فارسية عليها صورة كسري واسمه مكتوب بالفارسية، ولم يكن للعرب في ذلك الوقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 دور للضرب، ولم نعرف أنهم ضربوا العملة لحسابهم في أي من بلاد الدولة الفارسية أو الرومية؛ ولذلك اعتمدوا على العملة الخارجية يؤتى بها من الخارج أو يجلبها الوافدون من التجار من أهل هذه البلاد حين يفدون إلى بلاد العرب يستبضعون منها؛ ولذلك كان العرب في كثير من الأحيان يستعملون الوزن في الذهب والفضة في معاملاتهم1.   1 التراتيب الإدارية 1/ 413- 416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 النشاط الصناعي كانت المدينة أظهر من مكة في النشاط الصناعي، فقد كانت تقوم بها صناعة معتمدة على الإنتاج الزراعي، كما كانت أيضًا ضرورية للأعمال الزراعية، ثم إنه كان بها صناع متخصصون احترفوا أنواعًا من الصناعات وبرعوا فيها وبخاصة صناعة الحلي والأسلحة؛ هذا إلى صناعات أخرى هي من مستلزمات حياة المدن ومن مستعملات الناس في حياتهم اليومية، وإذا كان بعض هذه المستلزمات قد جلب من الخارج مصنوعًا؛ إلا أنه ليس من المعقول أن يجلب الناس كل ما يحتاجون إليه جلبًا، وأن يعيشوا عالة على العامل الخارجي في كل شيء، بل لا بد من قيام طبقة من العمال تقوم بصناعة محلية، وبخاصة إذا توافرت المادة الخام لها، كما أن هناك أعمالًا لا يمكن جلبها من الخارج مثل النجارة والحياكة ونحت الحجارة وما يستلزم البناء من صناعة. ولقد قامت في المدينة صناعات معتمدة على الإنتاج الزراعي، وأهمها صناعة الخمر من التمر والبسر وكانوا يسمونها الفضيخ1، وكانوا يشربونها ويتاجرون فيها، وكان لديهم منها كميات كبيرة يختزنونها في الجرار سواء في ذلك العرب واليهود. كما   1 "الفضيخ شراب يتخذ من البسر وحده من غير أن تمسه النار" القاموس مادة "ف ض خ". "روي عن أنس بن مالك قال: "كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله مناديًّا ينادي: "ألا إن الخمر قد حرمت" قال: فقال أبو طلحة: اخرج فأَهرقها، فخرجت فأهرقتها، فجرت في سكك المدينة" البخاري 3/ 132 "ووجد المسلمون في مغانم قريظة خمرًا وجرار سُكْر كثيرة فأمر النبي بإهراقها" إمتاع 1/ 345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 كانت تقوم صناعة الخوص من سعف النحل، فيصنعون المكاتل -المقاطف- والقفف مما يستخدم في أعمال المنزل وفي أعمال الزراعة، وكذلك كانت تقوم أعمال النجارة اللازمة للبيوت من أبواب ونوافذ الأثاث، وكان أغنياء اليهود يملكون كثيرًا من الأثاث لبيوتهم 1 كما كان استعمال الكراسي أمرًا شائعًا يصنعونها من الخشب وأرجلها من الحديد2 وقد أعان على قيام الصناعة من الخشب وجود شجر الطرفاء والأثل في منطقة الغابة في شمال غربي المدينة3. كما كانت الحدادة إحدى الصناعات القائمة في المدينة والمرتبطة بالأعمال الزراعية؛ فالزراعة تحتاج إلى فئوس ومحاريث ومساح ومناجل للحصد، وغير ذلك مما يستعمله الزراع من آلات، وكانت هذه الآلات تصنع في المدينة يقوم بصناعتها بعض الناس من العرب ومن اليهود ومن الموالي على السواء، وإن كان الموالي والعبيد أكثر احترافًا لها4. وإلى جانب هذه الصناعات كانت تقوم صناعة الحلي، وقد تخصص فيها واشتهر بها بنو قينقاع من اليهود5، احترفوها ولم يحترفها أحد من العرب6، وكانوا يصنعون أنواعًا كثيرة من الحلي الذهب، منها الأساور والدمالج والخلاخيل والأقرطة والخواتم والفتخ -جمع فتخة وهي الدبلة- والعقود من الذهب أو الجوهر أو الزمرد أو من الجزع الظفاوي وهو خرز ثمين به ألوان بيضاء وسوداء، وكانوا يبيعون هذه الحلي في سوق عرفت بهم، كان يأتيها النساء من أهل المدينة يشترين ما يلزمهن منها7، ويقدم إليها الناس يأخذون ما يلزم لنسائهم وفتيانهم سواء في ذلك أهل المدينة وأهل البادية أو المدن الحجازية، وقد كانوا اليهود يمتكلون حليًّا كثيرة من هذه الحلى8.   1 إمتاع. نفسه. 2 الدلالات السمعية 115- 116. 3 أسد الغابة 1/ 43. البخاري 3/ 63. الدلالات السمعية 657- 658. 4 أسد الغابة 1/ 38- 39. البخاري 3/ 60 الاستيعاب 1/ 55. 5 البخراي 3/ 60، 14. الواقدي 140. 6 الواقدي 138- 139. 7- الدلالات السمعية 611 جوامع السيرة 154. 8 "طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- من كنانة بن الربيع أن يظهر كنز بني النضير بعد فتح خيبر، فجحد أن يكون عنده؛ لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرف مكانه، فلما أخرجه وجد جلد جمل وبه كثير من حلي الذهب: أساور وخلاخيل ودمالج وأقراط وخواتم وعقود" 3/ 388-389 إمتاع 1/ 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 كما كانت صناعة الأسلحة والدروع قائمة بالمدينة، يحترفها اليهود وقد روجوا لها ترويجًا كبيرًا حتى قالوا إنهم ورثوها عن داود النبي1 وكانت السيوف والنبال تصنع بالمدينة، ونبال يثرب مشهورة، وكان من الصناع من يتخصص في جلاء الأسلحة وصقل السيوف2. ثم كانت هناك أدوات الصيد يصنعونها من فخاخ وشباك وأشراك من الحديد وغير ذلك 3. وإلى جانب هذه الصناعات الهامة كانت تقوم صناعات النسيج يقوم عليها النساء4، كما كانت الخياطة والدباغة من الصناعات والحرف التي يحترفها بعض الناس5، كما كان يوجد بناءون وعمال يقومون على النحت وضرب الطوب6، وصناع يصنعون آنية المنازل وأدواتها من نحاس وفخار للأكل والشرب وما إلى ذلك من مصنوعات هي مستعملات الناس وحاجاتهم اليوم. وهكذا كانت الصناعة كثيرة في المدينة، وكان يقوم عليها أناس من أهلها من العرب ومن اليهود، ومن الموالي والعبيد ممن قدموا إلى المدينة وأقاموا فيها أو استقدمهم أهلها أو اشتروهم للعمل لهم، وقد كان في المدينة بعض من هؤلاء منهم فرس وروم وقبط وأحباش أقاموا بالمدينة وعملوا لأنفسهم أو لسادتهم بها. ولولا ظروف المدينة الداخلية التي عوقتها من نشاطها؛ لكانت مدينة ذات شأن خطير، ولربما تفوقت على مكة وسيطرت على منطقة الحجاز كلها. وقد أحسن أهلها فعلًا بمدى أثر هذه الخلافات المعوقة وسعوا إلى إصلاح شأنهم، ولما لم يكن من أهل المدينة من الزعماء من يستطيع أن يكسب رضاء كافة الأطراف؛ فقد رغبوا في إدخال عنصر أجنبي محايد لم يتورط في منازعات المدينة وخلافات عصبياتها، فكانت الهجرة النبوية التي تغير بها الوضع في المدينة تغيرًا كاملًا.   1 السمهودي 1/ 198. 2 الدلالات السمعية 401. 3 نفسه 676- 677. 4 / 212. الدلالات السمعية 654. البخاري 3/ 61. 5 الدلالات السمعية 656- 668. البخاري 3/ 61. 6 الدلالات السمعية 667-668. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الفصل الخامس: الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية في يثرب فئة قليلة هاجرت إلى يثرب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- تاركة ديارها، فأُقفلت بهجرتها دور كثيرة من دور مكة، وتألم كثير من المكيين لقفل هذه الدور وتحسروا عليها، ورموا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه فرق بين الناس1، كانوا فئة قليلة مشردة مطرودة، أُخرجت من ديارها وأموالها، وفي نفسها حنين إلى من تركوا من الأهل، فلم يستقبلوا حياتهم الجديدة، أو لم تستقبلهم حياتهم الجديدة بالترحاب؛ فقد كان جو المدينة وبيئًا رطبًا، فأصيب كثير من المهاجرين بالحمّى2، ثم إنهم كانوا محتاجين في هذا العهد الجديد إلى أن يدبروا أمر معاشهم بطريقة ما، بعد أن تخلوا عن أموالهم في مكة وهاجروا فَارِّين بدينهم وأنفسهم. هذه الفئة القليلة التي يعمل فيها الحنين والحمى، والتي تدبر أمر معاشها على نحوٍ ضئيل3، استطاعت أن تبلغ في يثرب ما لم تبلغه في مكة، ونالت توفيقًا لم تنل مثله من قبل، فلا بد أن توجد أسباب تعلل هذا التوفيق. وأول هذه الأسباب: هو أن اليهود كانوا قد هيَّئوا الناس لفكرة الديانة السماوية؛ فقد كانوا أهل كتاب. وكان الأوس والخزرج وثنيين، لكن الاتصال المستمر جعل الفريقين يعرفان أديان بعضهما. وقد كان اليهود يفاخرون الأوس والخزرج بدينهم وكتابهم ويعيرونهم بوثنيتهم، ويهددونهم بقرب ظهور نبي جديد يحطم الأصنام؛ فينضمون إليه ويقتلونهم قَتْلَ عادٍ وإرم؛ فالأوس والخزرج الوثنيون حين دعوا إلى   1 ابن هشام 2/ 79. ابن كثير 3/ 170- 171. 2 البخاري 3/ 23، 5/ 66- 67. ابن كثير 3/ 221- 224. 3 البخاري 3/ 53، 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الإسلام كانوا أكثر استعدادًا لتقبله وفهم معناه من وثنيي مكة، وكانوا أسرع إلى هذا النبي الذي كثيرًا ما كانت تهددهم به اليهود وأحرص على ألا يُسبقوا إليه1. ثم إن الأوس والخزرج كانوا -في هذا الوقت- أصحاب الكلمة العليا في يثرب، وكانوا قد أصبحوا سادة الموقف بها وأصبح اليهود يعتبرون موالي لهم؛ فإذا تحالف النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الأوس والخزرج ودخلوا في دينه كان له ألا يخشى اليهود، كما كان في مقدور الأوس والخزرج أن يُدْخِلوا في المدينة مَنْ شاءوا دون أن يخشوا اعتراض اليهود عليهم. وقد استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما بعد أن يرغم اليهود على الانضمام إلى الجماعة الجديدة، وأن يرغمهم بعد ذلك على أن يخرجوا من المدينة حين تبين منهم الخيانة، وأصبحوا خطرًا على الدولة الناشئة. والأمر الثالث الذي مهد للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو أن كثيرًا من زعماء الأوس والخزرج الذين كان الناس يرشحونهم للرياسة، والذين كانوا موضع التبجيل والاحترام، والذين كانوا أصحاب الكلمة النافذة في يثرب، وكان من الممكن أن تقف مطامعهم الشخصية في وجه النظام الجديد، مات أكثرهم في موقعة بُعاث بين الأوس والخزرج قبيل الهجرة؛ فلم يجد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا الرؤساء الثانويين، وكان هؤلاء أميل إلى الطاعة، أو كانوا على أي حال أسهل قيادًا2. وأمر رابع لا يقل أهمية وهو: أن فكرة الخير التي تمتلئ بها النفس ويقتنع بها العقل تجعل من قوة الفرد الضئيلة قوة ضخمة، كأن القوة الفردية تتضاعف بمقدار ما في النفس من إيمان بالفكرة؛ لأن هذا الإيمان وهذه العقيدة يورثان صاحبهما قوة تمكنه من أن يصل إلى غايته لا يستطيع صده عائق أو معوِّق. هذه هي الأسباب التي ساعدت الفئة القليلة الطريدة الطارئة على المدينة. وما كاد النبي -صلى الله عليه وسلم- يستقر بها حتى بدأ تنظيم أمر الدعوة الإسلامية تنظيمًا يختلف عن التنظيم المكي.   1 ابن هشام 2/ 38. 2 البخاري 5/ 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكَوِّن أمة إسلامية يدخلها الناس بصرف النظر عن قبائلهم وأجناسهم، وبهذا بدأ الدور الأساسي من الدعوة، واتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه شخصية سياسية إلى جانب شخصيته الدينية. وكان نظام الدولة التي أقامها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة من نوع أصيل جديد، إذ كان يجمع بين الشورى والحكم المطلق، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} [الشورى] . وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران] . وهذه الآية على قصرها تجمع بين الشورى والاستقلال بالرأي في الحكم في آنٍ واحد. كما كان في نفس الوقت يجمع بين حكم رجال الدين والاشتراكية. كان ذلك النظام في إطاره دينيًّا مطلقًا يرتكز على الأوامر والأحكام العامة المنَزَّلة، ولكنه في تفاصيله وتطبيق أحكامه اشتراكي شورى. وهذه الدولة فذة في تاريخ البشرية؛ لأنها -بالرغم من قيامها في الأصل على أسس دينية- أقرت مبدأين لا وجود لهما إلا في دولة غير دينية، وأول هذين المبدأين هو: حرية الأديان، وهي حرية لا تقرها الدولة الإسلامية وتسمح بها فحسب؛ بل إنها تتعهد برعايتها. وثانيهما هو: مبدأ تعريف فكرة الوطن والدولة في أوسع معانيها تسامحًا وإنسانية، وهو مبدأ يكفل المساواة في الحقوق والواجبات الوطنية بين جميع أفراد الدولة على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعقائدهم. وقد برزت عبقرية النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدور المدني، وظهرت المقدرة الفائقة في التنظيم والاحتياط للمستقبل، فقد كانت مهمته في مكة هي الدعوة إلى الدين الجديد، وإمداد المسلمين بالثبات والصبر واليقين، أما في المدينة فلم يكن عليه أن يكتفي بتبليغ الوحي الذي ينزل عليه، بل كان عليه أن ينظم الحياة في المدينة نفسها، فقد أصبح زعيم جماعة سياسية، وقد أدرك هو هذا الموقف من أول الأمر، وحتى قبل هجرته إلى المدينة1، وأخذ يعالج الأمور على هذا الأساس، فسكان المدينة الأصليون هم الأوس والخزرج -وهم قبيلتان قد وقع الشر بينهما كما رأينا من قبل- واليهود وهم أحياء تحالف بعضها مع الأوس وتحالف بعضها مع الخزرج. وهذه الجماعة الأصلية من أهل المدينة في حاجة إلى توفيق حتى يمكن أن تعيش معيشة   1 قال النفر من الخزرج الذين لقوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الموسم يصفون قومهم بأنهم في حالة فرقة وشر: " فإن يجمعهم الله عليه -الإسلام- فلا رجل أعز منك" "2/ 38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 منسجمة. وقد انضاف إليهم المهاجرون، وهؤلاء ولو أنهم استقبلوا من إخوانهم مسلمي يثرب استقبالًا حسنًا في أول الأمر؛ إلا أنه يجب أن يحتاط لإقامتهم في المدينة. ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خلَّف وراء ظهره عدوًّا لدودًا هو قريش، وهذا العدو قادر على العدوان، ولمقاومة عدوانه يلزم الاستعداد والحيطة، وبناء الجبهة الداخلية بناءً سليمًا لتواجه الخطر الخارجي، وقد واجه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الوضع من أول الأمر مواجهة تدل على فَهم سليم وإدراك قوي، وأَظْهَر من بُعْدِ النظر ودقة التنظيم ما كفل لهذه الجماعة الاستقرار والترابط، والقدرة على النمو ومواجهة الاحتمالات الخارجية كلها بنجاح كبير أدى إلى تكوين الدولة الإسلامية العظيمة. تكوين الدولة في يثرب أول شيء قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد استقراره في يثرب هو ضمان معيشة المهاجرين، وهم جماعة تجار، تركوا أموالهم في مكة، ولا أمل لهم في استردادها. وقد اعتمد النبي على حسن نية المسلمين من أهل يثرب -الذين عُرِفُوا بالأنصار- وقد أظهر هؤلاء روحًا عالية من المروءة والكرم، فأعطوا المهاجرين شيئًا من المال وسمحوا لهم بالتجارة1، كما عمل بعض المهاجرين في مزارع الأنصار مزارعة2، واستطاعوا بذلك أن ينظِّموا أمر معاشهم ولو على نحو ضئيل. ثم رأى من أول الأمر أن يتخذ مكانًا يكون بمنزلة نادٍ عام للجماعة الإسلامية، تقيم فيه شعائرها الدينية، وفي الوقت نفسه تبحث فيه شئونها العامة، فقام ببناء المسجد بعد أن استقر في المدينة بقليل3، فكان هذا المسجد هو المقر الذي اتخذته الرياسة الجديدة، وفيه كانت تُبْرَم كل الأمور، وفيه كان الاتصال بين المسلمين للتشاور في شئونهم العامة من سِلْمِ وحرب واستقبال وفود، وما إلى ذلك.   1 البخاري 3/ 52، 65، 109. 2 نفسه 3/ 104، 155، 116. ابن كثير 2/ 228، 229. 3 البخاري 3/2619. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وبجوار المسجد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- مساكنه، وقد جعلت متصلة بالمسجد بحيث يخرج من بيته إلى المسجد رأسًا1، وأصبح من السنة أن تبنى المساجد وتكون بيوت الولاة ودواوينهم مجاورة للمسجد. فالغرض من تأسيس المسجد كان دينيًّا لأداء الصلاة وسياسيًّا لإيجاد رابطة للجماعة الإسلامية. بعد ذلك عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- على إقامة الاستقرار بين الجماعة اليثربية، وإذا كانت لُحْمَة الدم قد فشلت -في المدينة- في أن تكون رباطًا يؤلف بين الناس، فقد أحل النبي -صلى الله عليه وسلم- محلها رابطة العقيدة؛ فأصبح أولًا بين الأوس والخزرج وحرص على إزالة كل ما من شأنه أن يذَكِّر بالعداء القديم بينهما، فجمعهما في اسم واحد هو: الأنصار. وإنا لنلمس هذا الغرض واضحًا في تسمية المسلمين من أهل يثرب بالأنصار فقد عرفوا جميعًا بهذا الاسم، وصار علمًا عليهم جميعًا، وفي هذا إبعاد لروح العصبية وإدماجها تحت هذا الاسم الواحد، يذكرهما دائمًا بالتآلُف لغرض أسمى وهو نصرة المبدأ الإسلامي، والاندماج في غرض أكبر من الأغراض القبلية. ثم عمد إلى التأليف بين هؤلاء الأنصار من الأوس والخزرج وبين المهاجرين من أهل مكة، وفي هذا التجأ إلى المؤاخاة. والمؤاخاة تسمية إسلامية للنظام العربي القديم، وهو نظام الحِلْفِ فقد جعل كل رجل من المهاجرين يؤاخي رجلًا من الأنصار، فيصير الرجلان أخوين بينهما من الروابط ما بين الأخوين من قرابة الدم. وقد أنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه القرابة الحكمية منزلة الأخوة الطبيعية. بأن جعل المتآخيين يرث أحدهما الآخر، فإذا مات المهاجر ورثه أخوه الأنصاري، وإذا مات الأنصاري ورثه أخوه المهاجر. وقد ظل المهاجرون والأنصار يتوارثون بهذا النظام إلى أن استقرت الدولة الإسلامية في يثرب ووضع نظام التوارث الإسلامي على أساس القرابة الطبيعية2. فهذا كان نظامًا مؤقتًا في حقيقته والغرض منه سياسي، وهو الربط والتأليف بين المهاجرين إلى المدينة وبين أهلها الأصليين، وقد نزلت آية الوراثة بإلغاء هذا النظام بعد ذلك: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب] . فصارت هذه الأخوة أخوة أدبية لا ينطبق عليها التوارث، ولكن آثارها الأدبية بقيت زمنًا طويلًا في الإسلام3.   1 ابن هشام 2/ 118. 2 ابن هشام 2/ 123، 124. 3 ابن هشام 2/ 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بعد ذلك وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- دستورًا لتنظيم الحياة العامة في المدينة، وتحديد العلاقات بينها وبين جيرانها، ويدل هذا الدستور على مقدرة فائقة من الناحية التشريعية، وعلى علم كبير بأحوال الناس وفهم لظروفهم، وقد عرف هذا الدستور بالصحيفة، ولا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هذه الدولة الإسلامية؛ فإنما تقوم الدول أولًا ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور. ولكن النبي ما كاد يستقر في المدينة وما كاد العام الأول من هجرته إليها ينتهي، حتى كَتَبَ هذه الصحيفة التي جعل طرفها الأول: المهاجرين، والطرف الثاني: الأنصار وهم الأوس والخزرج جميعًا، والطرف الثالث: اليهود من أهل يثرب. وهذه الصحيفة مهمة جدًّا؛ لأنها حددت شكل الدولة الإسلامية، وكذلك هي مهمة لفهم الحوادث التي نشأت بعدها. وقد بدأ كأنما ابتلعت الجماعة القائمة على أساس الدين، تلك الجماعات القديمة القائمة على أساس رابطة الدم، ولكن تلك الجماعات في الحقيقة بقيت كما هي، وإن كان الشأن الأول قد انتقل منها إلى الجماعة الكبرى، فدخلت الطوائف التي كانت موجودة في ذلك الحين، ونعني بها القبائل والبطون والعشائر في الجماعة الكبرى الجديدة، واحتفظ لها الدستور بشخصيتها، ولكنه نقل منها اختصاصاتها كوحدات قبلية إلى الدولة، وإن بقي لها كل ما من شأنه أن يحفظ على الناس الروابط فيما بينهم؛ وبذلك تكونت في المدينة جماعة موحدة من حيث إنها أمة الله، ولكن ذلك لم يكن دفعة واحدة؛ فقد ظل يتحقق بخطًى مستمرة ثابتة. الصحيفة قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وَادَعَ فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة واحدة من دون الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 المهاجرون من قريش على ربعتهم1 يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم2 بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم3 الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحرث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، لا يتركون مُفْرحًا4 بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة5 ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم. وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناسِ. وإنه من تبعنا من يهود فإنه له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وإن سلم المؤمنين واحدة: لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وإن المؤمنين يبيء6 بعضهم على بعض مما نال   1 على ربعتهم: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها، يعني على شأنهم الأول وعاداتهم من أحكام الديات والدماء. ابن هشام 2/ 119. 2 العاني: الأسير 3 معاقلهم: جمع معقلة، من العقل، وهو الدية. 4 مفرحًا: مثقلًا بالدين. 5 الدسيعة: العطية. 6- يبيء: يمنع ويكف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. وإنه لا يجير مشرك مالًا لقريش، ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن. وإنه من اعتبط1 مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول. وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولايؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ2 إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم3، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم. وإن الله على أبر من هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار4 يخاف فساده فإن مرده إلى   1 اعتبطه: قتله من غير ما شيء يوجب قتله. 2 يوتغ: يهلك. 3 إن البر دون الإثم: أي أن البر ينبغي أن يكون حاجزًا عن الإثم، والوفاء ينبغي أن يمنع من القدر. 4 الاشتجار: الاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الله -عز وجل- وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب1، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين: على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم: لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا لمن ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"2 هذا هو نص الصحيفة كما ذكره ابن إسحاق. وأول ما نلاحظه هنا أن ابن إسحاق انفرد بهذا النص ولم يذكر إسناده في روايته، كذلك لم يشر إلى المصدر الذي أخذه عنه فلم يذكر أنه وجده مكتوبًا أو أخذه من أحد كتبه، وإن يكن من غير المستبعد أن يكون أخذه من بعض من سبقوه ممن كتبوا في السيرة ولم تصل إلينا كتاباتهم3. على أن هذا لا يقلل من قيمة هذه الوثيقة التاريخية المهمة ولا يطعن في صحتها؛ وذلك لأن المصادر الأخرى أشارت إليها وإن لم تذكر نصها4، وقد ذكرتها المصادر المتأخرة5؛ ولأن أسلوب هذه الصحيفة يوافق تمامًا أسلوب العصر، كما يوافق روح التنظيم في المجتمع العربي من حيث الترابط القبلي والاعتراف بقوة العصبية وأثرها في المجتمع، وأنه ليس من السهل التخلص منها. وقد بدا واضحًا في الصحيفة أن البطون والعشائر أدخلت في النظام الجديد بشخصياتها القبلية لا بأفرادها، وهذا ما كان يجري عليه المجتمع العربي في تكوينه في   1 دهم يثرب: فاجأها. 2 ابن هشام 2/ 119- 123. 3 انظر مقدمة سيرة ابن هشام، بقلم محمد محيي الدين عبد الحميد 1/ 15- 17. 4 للواقدي 138، ابن سعد 3/ 68، الطبري 2/ 172، إمتاع 1/ 49. 5 ابن كثير 3/ 224، 225، ابن سيد الناس 1/ 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ذلك الوقت. ثم إنها توافق تشكيل المجتمع في المدينة من حيث أقسام القبائل وبطونها وارتباطاتها الحِلْفية، وكذلك حالة العرب في المدينة من حيث دخول بعضهم في الإسلام قبل كتابة الصحيفة وتأخر دخول بعضهم الآخر؛ فقد ذكرت أسماء البطون التي كانت قد دخلت الإسلام جميعها، وأدمجت البطون التي لم تكن قد دخلت في الإسلام في بندٍ عام مثل: بني الأوس مع أن هؤلاء كانوا بطونًا متعددة. ثم إن نصوص الصحيفة توافق القرآن الكريم في المبادئ من حيث: اعتبار المسلمين أمة واحدة من دون الناس1، ومن حيث التراحم والتعاون بينهم، ومعاونة بعضهم بعضًا فيما يفدح بعضهم ويثقل كاهله2. ومن حيث الاحتفاظ برابطة الولاء وما يترتب عليها من حقوق الموالاة3. ثم من حيث مراعاة حقوق القرابة والصحبة والجوار4 كذلك تحديد المسئولية الشخصية5، والبعد عن ثارات الجاهلية وحميتها6. كذلك وافقت الصحيفة القرآن في وجوب الرضوخ للقانون، ورد الأمر إلى الدولة بأجهزتها للتصرف في الأمور7. وفي شئون الحرب والسلم، وأن حرب الأفراد   1 {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال] {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال] . 2 {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة] {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة] . 3 {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [التوبة] . 4 {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء] . 5 {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء] ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت] . 6 {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف] . 7 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وسلمهم إنما تدخل في الاختصاص العام فلا تحدث فرديًّا1. كذلك معاونة الدولة في إقرار النظام والأخذ على يد الظالم وعدم نصر المحدث أو إيوائه2. ونلاحظ أن الصحيفة ذكرت البطون الخمسة الكبرى للخزرج، وهم بنو عوف، وبنو ساعدة، وبنو الحرث، وبنو جشم، وبنو النجار، ولم تذكر من بطون الأوس الكبرى إلا بطنين هما بنو عمرو بن عوف، وبنو النبيت، ثم أدمجت باقي البطون الأوسية الأخرى تحت اسم واحد وهو بنو الأوس. وهذا يوافق ما كانت عليه الحالة في يثرب من حيث انتشار الإسلام بها في الوقت الذي وضعت فيه الصحيفة، فإن بطون الخزرج كلها كانت قد دخلت في الإسلام وحتى من لم يكن منها مؤمنًا فقد دخل في الإسلام ظاهريًّا، وأما بطون الأوس فلم يدخل منها في الإسلام إلا بنو عمرو بن عوف وهم أهل قباء، وبنو النبيت. أما باقي البطون الأوسية؛ فقد تأخر إسلامها إلى ما بعد الخندق فذكرتها الصحيفة مدمجة باسمها العام، وقد كانت تسمى: أوس الله3. كذلك نلاحظ أن الصحيفة قد ذكرت اليهود الموالين للبطون العربية، وأهملت ذكر القبائل الكبرى من اليهود، فقد يتفق تمامًا مع ما كانت عليه الحالة السياسية في يثرب، فإن البطون اليهودية الصغرى كانت قد دخلت في أحلاف مع الأوس أو مع الخزرج وذلك به سيادة هؤلاء في يثرب. أما قبائل اليهود الكبرى الثلاثة فقد اعتزت بقوتها وبقيت محتفظة بشخصيتها، ثم إنها ناوأت الإسلام وأظهرت عداءها، ومع ذلك فقد وضعت الصحيفة بندًا عامًّا لدخول اليهود في الدولة احتمالًا لما قد يحدث من دخول هذه القبائل في النظام الجديد، وفعلًا ألحقت هذه القبائل بالدولة في محالفات ملحقة كما سنوضح فيما بعد. من كل ذلك يتبين أن الصحيفة التي ذكرها ابن إسحاق صحيحة وأنها وثيقة مهمة جدًّا لفهم تطورات الأمور في الدولة اليثربية.   1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة] ، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال] . 2 {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر] . 3 ابن هشام 2/ 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وقد بينت هذه الصحيفة الأسس الكبرى في القانون الذي ينظم الحياة العامة والسياسية والتي كان معمولًا بها في المدينة في أول الأمر، ويتجلى من هذا الكتاب إلى أي حد قد تغيرت الأحوال القديمة وإلى أي حد لم تتغير. وأول هذه الأسس أن هذه الصحيفة أعطت صفة للجماعة الإسلامية، فقد قررت أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس. وكلمة الأمة هنا ليست اسمًا للجماعة العربية القديمة التي تربطها رابطة النسب، بل هي تدل على الجماعة بالمعنى المطلق، وبهذا التقرير ألغى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحدود القبلية، أو على الأقل لم يجعل لها وجودًا رسميًّا بالنسبة للدولة، أو بلفظ آخر ارتفع هو عن المستوى القبلي المحدود، وبهذا أصبح الإسلام ملكًا لمن دخل فيه؛ فدخل بناء على هذه القاعدة شعوب كثيرة في الإسلام دون أن يضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمامها عقبات تحول بينها وبين الاشتراك في حياة العالم الإسلامي. وهذا المبدأ مرن جدًّا ومرونته هي التي كفت المسلمين في العصور الوسطى كثيرًا من الشرور وكفلت للإسلام دائمًا حيوية جديدة وسيوفًا تدافع عنه، وهذه الفكرة كانت جديدة بالنسبة للعالم اليوناني والروماني القديم. وللأمة في هذه الصحيفة صبغة دينية أيضًا فهي جماعة الله التي ترعى مبادئ السلام ومبادئ حماية الجار ونصرة المظلوم والله هو الشهيد الذي يشرف عليها، ومحمد يشرف عليها باسمه، فالإيمان هو رباط الاتحاد والمؤمنون هم ممثلو معناه، وهم لذلك أول من يجب عليهم الوفاء لهذا الاتحاد، وهم في الوقت نفسه أول من يتمتع بالحقوق التي يخولها لهم. والأمة لها منطقة من الأرض إجمالية، وهي منطقة المدينة وكل هذه المنطقة ينبغي أن تكون حرمًا وأرض سلام لا يعتدي فيها أحد على أحد. والأمة لذلك لا تشتمل على المؤمنين وحدهم بل هي تتألف من كل من يتبعهم ويحارب معهم أي من كل أهل المدينة، وكان بين الأنصار قوم لم يسلموا ولكنهم لم يستبعدوا من الأمة بل أدمجوا فيها بنص صريح، وكذلك اليهود شملتهم الأمة وإن كانوا لا ينتمون إليها انتماء وثيقًا كالمهاجرة والأنصار. ولذلك لم تكن تقع عليهم نفس الواجبات وليس لهم نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الحقوق، وقد ألحق بعضهم بنص صريح تمشيًا مع الروابط الحلفية بينهم وبين الأنصار، ووضع بند عام لكل من يتبع الأمة بعد ذلك منهم ثم عزز هذا البند بمحالفات خاصة بعد ذلك. وعلى هذا فدرجة الانتماء للأمة لم تكن واحدة بحيث بقي ما يشبه التمايز العربي القديم بين أصحاب الحق الكامل وبين غيرهم من تابع ونزيل. والأمة برغم أنها ضمت كل طوائف المدينة؛ فإنها لم تكن تتكون من أفراد؛ وإنما كانت تتكون من جماعات، فالفرد لا ينتمي إلى الأمة إلا عن طريق العشيرة والقبيلة، فقد جاء في الصحيفة أن تبقى القبائل كما هي وأن تدخل في الأمة كما هي، وبذلك بقي التشكيل الاجتماعي القبلي كما هو، ومع أن الإسلام أنكر نظريًّا فكرة امتيازات المجتمع الوثني في العصر الجاهلي؛ إلا أن نظام القبيلة بقوته الداخلية وأسلوبه في معاملة الغرباء كان أمرًا مفيدًا بحيث لم يكن بالإمكان نبذه أو الاستغناء عنه، وكذلك ترك رؤساء القبائل كما هم ولم يحل محلهم موظفون دينيون. أما فيما يتصل بالعلاقة بين الأمة والقبائل وبتحديد سلطة كل منهما وواجباتها؛ فقد بقيت على القبائل النفقات التي ليست ذات صبغة خاصة محضة وخصوصًا دفع الدية وفداء الأسرى. وذلك أنه لم تكن قد وجدت بعد خزينة للدولة. وكذلك بقى للعشيرة والقبيلة مسألة الولاء، فلا يجوز لأحد أن يحالف مولى دون مولاه، وكذلك بقي حق الإجارة لم يقيد، فلكل فرد الحق في أن يجير شخصًا غريبًا وهو لذلك يلزم الجماعة كلها، ولكن استثني من هذا إجارة قريش ومن نصرها؛ فإن ذلك كان محرمًا على كل المشتركين في هذه الصحيفة. وبمقتضى كل ذلك أصبح على القبائل أن تتنازل عن حق الأخذ بالثأر فيما بينها؛ لأن أول غاية للأمة هو منع نشوب حرب في الداخل فإذا قام نزاع؛ وجب أن يعرض على القضاء، وقد جاء في الصحيفة: "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فإذا تعكر السلام في الداخل بسبب القتل أو الفساد وجب لا على المجني عليه أو على قبيلته أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 على الجماعة كلها فحسب، بل على أقرباء الجاني نفسه أن يهبوا متكاتفين عليه وأن يسلموه لصاحب الثأر لكي يقتاد منه بالعدل. وعلى هذا لم يصبح الثأر أمرًا يتحول إلى ثأر يجر ثأرًا، كما كانت الحال في القبيلة العربية من قبل حيث لم تكن هناك سلطة لها قوة القهر، أما في المدينة فقد نفذ مبدأ العقاب بالمثل تنفيذًا صارمًا؛ لأن الله في المدينة فوق رابطة الدم، لكن العقاب بالمثل لم يكن قد صار عقابًا بالمعنى الحقيقي؛ لأن تنفيذه كان متروكًا للمجني عليه أو وليه، وكان له أن يثأر لنفسه أو يتنازل عن الثأر ويأخذ الدية أو يعفو، ولكن مع هذا فإن مبدأ العقاب بالمثل صار نقطة انتقال من مبدأ الأخذ بالثأر إلى مبدأ الأخذ بالعقاب؛ وذلك أنه بانتقال حق التأديب من الفساد إلى الجماعة حدثت خطوة مهمة في سبيل جعل الأخذ بالثأر شأنًا من شئون الدولة، وكانت الخطوة كافية لتفادي الترات الداخلية ولكي يسود السلام في منطقة المدينة ويكون شاملًا لا استثناء فيه، وعلى هذا لم تصبح هناك جماعات متعددة بتعدد القبائل تراعي السلام، الأمر الذي يجعل حمايتها غير كافية أو على الأقل غير فعالة على الوجه المرضي خارج حدود القبيلة، بل أصبح هناك سلام واحد شامل هو سلام الأمة. والغرض الثاني الذي أوضحته الصحيفة هو اتحاد القبائل لرد كل عدوان من الخارج، وعلى المؤمنين أن ينصر بعضهم بعضًا دون الناس، وهم يتعاقلون بينهم ويدهم على من سواهم، وهم على من بغى منهم. وليس واجب الثأر من الأعداء واقعًا على أقرباء المقتول بحكم رابطة الدم؛ وإنما هو واقع على كاهل المؤمن ليثأر للمؤمن، وبذلك خرجت الحرب من أن تكون داخلة ضمن الثأر للدم كما كانت من قبل هي والثأر للدم شيئًا واحدًا، وإنما صارت الحرب حربًا فحسب، وكذلك صار السلام مع قوم أجانب أمرًا يعم المؤمنين جميعًا شأنه شأن الحرب، بحيث لا يستطيع أحد منهم أن يعقد سلامًا منفردًا لا يكون سلامًا للجميع. وهكذا رسمت الصحيفة التخطيط العام للأمة، وإذا كانت هناك بعض الثغرات متمثلة في حق المجني عليه في الأخذ بالثأر أو العفو، وفي حق الإجارة الذي يجب أن يكون من حقوق سيادة الأمة ورئيسها، إلا أن نظام الأمة أخذ يكتمل شيئًا فشيئًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وكان المؤمنون وعلى رأسهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هم روح هذه الأمة والعنصر الناهض الذي كانت تصدر منه الحركة، وكلما كان الدين ينتشر؛ كانت أركان الأمة تقوى وتتوطد1. وكانت مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- السياسية بعد هذا تنحصر في الدفاع عن حدود دولته وضمان الأمن لها، ولم تخرج تصرفاته عن هذا الهدف طوال العصر المدني. والأساس التي نفسر به كل التصرفات السياسية هو أن المدينة ومن انضم إليها دولة واحدة غير متصلة بما عداها إلا بالشروط الجديدة التي وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا صلة بين يثرب وبين غيرها إلا عن طريق الإسلام وعن طريق الالتحاق بها والتبعية لها. ولتقوية جبهة المدينة اعتبرت الهجرة إلى المدينة أساسًا للحصول على حق الرعوية للدولة الجديدة؛ فعلى من يدخل الإسلام ويريد أن يكون مواطنًا في يثرب أن يهاجر إليها، وقد نزل القرآن بنص صريح من ذلك فقال: {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال] . ونستطيع أن نقول: إن حكومة المدينة ظلت مقصورة على المدينة نفسها وعلى ريفها إلى عام فتح مكة سنة 8هـ، فالطور الأول في شكل الحكومة المدينية هو طور: المدينة- الدولة. City - State وقد دام ثماني سنوات، فإذا استطاع أحد أن ينكر وجود مقومات الدولة المدينية في يثرب قبل الهجرة فهو لا يستطيع أن ينفي عن يثرب هذه الصفة بعد الهجرة. وكما حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يوجد في داخل المدينة أداة للحكم، وأن ينظم شئونها الداخلية، كذلك حرص عن طريق السرايا على أن ينضم إلى المدينة ما حولها من ريف وما حولها من قبائل، وأن يخطط لها مجالها ويقرر حدودها، ويعقد لها أحلافًا مع القبائل النازلة فيما حولها؛ لأن الحاضرة لا تستطيع أن تعيش بنفسها، ولا تستغني عن ريف يمدها بالمؤن ويكون مجالًا لنشاطها. ولهذا الغرض قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدة سرايا، ابتدأت من المدينة واتجهت إلى جميع الجهات. فأمنت هذا الريف، وعقدت   1 انظر فلهوزن: تاريخ الدولة العربية ص: 11- 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 في أثناء هذه السرايا أحلافًا مع القبائل المجاورة1؛ إذ إنه لا بد لسكان المدن التي تقوم في وسط جو بدوي أن تعمل حسابًا كبيرًا لغزوات البدو، ولا يكون ذلك إلا عن طريق محالفة البدو ومهادنتهم، وأحيانًا بدفع الإتاوات لهم، ثم كسر شوكتهم بالضرب على أيديهم عند اللزوم، وإشعارهم دائمًا بقوة المدينة وقدرتها على الضرب. والسرايا التي عرفت في السنتين الأوليين كانت عبارة عن حملات حربية صغيرة لا يقصد بها إلى الحرب، بل يقصد بها ما يقصد من أعمال الدوريات الحربية، وهي المحافظة على الحدود أو الاستكشاف، وأحيانًا إيقاع الضرر بأي عدو والانسحاب بسرعة، وقد بلغ عدد السرايا التي أرسلها النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل موقعة بدر ثماني سرايا اتجهت إلى كل الجهات، قاد بعضها بنفسه وعقد لبعض أصحابه على بعضها2. ويذكر المؤرخون هذه السرايا على أنها عمليات حربية مقصودة بذاتها3 وعلى أنها متصلة بالصراع بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكة، وهذا خطأ في نظرنا، والخطأ آتٍ من أن المصادر نفسها والمؤرخين المحدثين لم يفطنوا إلى أن هذه السرايا كانت عمليات حربية داخلية، يقصد بها تقوية الجبهة الداخلية، ويقصد بها كذلك ضمان الأمن ودفع الأذى الذي قد يأتي من الخارج. على أنه كان من مهمة هذه السرايا منع تجارة قريش من المرور في أراضي الدولة الجديدة، طبقًا لنص الصحيفة الذي يقول: إنه لا تجار قريش ولا أموالها وهذا داخل في نطاق أعمال السيادة للدولة اليثربية، وكان لا بد من إشعار قريش، ومن إشعار القبائل المجاورة أن حدود الدولة الجديدة محروسة، وأن سيادتها على أراضيها يجب أن تحترم وأنه من الخير الاتفاق معها والاعتراف بها. ولم يكن الأمر في حقيقته من جانب يثرب بالنسبة لقريش أمر إعنات وإحراج وحروب؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينظر إلى قريش نظرة خاصة، فهو يقدر الميزات التي تنطوي عليها مهادنة قريش واعترافها بالدولة الجديدة، كما كان يدرك قيمة قريش بين العرب وما يعود من وراء الاتفاق معها من   1 ابن هشام 2/ 224، 236. 2 ابن هشام 2/ 223- 242، الطبري 2/ 121، ابن كثير 3/ 248. 3 الطبري 2/ 120- 123، ابن كثير 3/ 246- 248، الواقدي 4 هيكل: حياة محمد 237- 242. Watt, Muhammad at Medina p.2- 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فوائد الدعوة الجديدة. كما كان يقدر ما تضم هذه القبيلة -التي هي قبيلته- من رجال تمرسوا بالحياة وخبروا الحكم وتسيير دفة الأمور سياسيًّا واقتصاديًّا عبر عن هذه في مناسبة بعد النصر في معركة بدر؛ إذ يقول أحد الشبان من الأنصار، وقد جاء الناس يهنئون النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنصر: "ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعًا كالبدن المعلقة فنحرناها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي ابن أخي، أولئك الملأ من قريش لو شهدت فعالهم احتقرت فعلك" 1. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحرص على مهادنة هذه القبيلة تقريرًا لميزاتها أكثر مما يحرص على حربها وعداوتها كما أنه كان يريد في الوقت نفسه أن يشعرها بقوة الدولة الجديدة وتصميمها على المحافظة على كيانها وسيادتها، وأنه لا يسمح مطلقًا بأن توطأ أرضها من عدو لا غازيًا ولا تاجرًا. كما أن السرايا حملت في الوقت نفسه تهديدًا لقريش بأن تجارتها مرهونة برضاء الدولة اليثربية، وعليها إذا كانت تريد أن تستمر في تسيير قوافلها نحو الشام أو نحو العراق أن تحسب حساب الوضع الجديد، ويجب أن تغير من سياستها المنطوية على العدوان بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في يثرب. وأن تترك الحرية للمسلمين الذين حبستهم في مكة، وتترك الدعوة الجديدة تأخذ مجالها الحر دون مناوأة ودون حرب؛ وإلا فإنها تعرض نفسها لقطع تجارتها والقضاء على مواردها الاقتصادية؛ بقفل طريق التجارة المار في أراضي الدولة اليثربية في وجه تجاراتها، لكن السرايا لم تحمل أكثر من هذا التهديد؛ فلم تشتبك في حرب مع قوافل قريش ولم تستول على شيء منها، إلا ما كان من سرية أرسلها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بطن نخلة بين مكة والطائف لتعرف أخبار قريش، ولم تكن هذه السرية من القوة بحيث تشتبك في حرب أو تصادر قافلة، ولكن أفرادها تصرفوا على مسئوليتهم الخاصة؛ فاستولوا على قافلة صغيرة لقريش وقتلوا أحد رجالها وأسروا رجلين، وقد لام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفعل رجال هذه السرية على تصرفهم الشخصي هذا2، ومن هنا يتبين أن مهمة السرايا لم تكن هجومية ولم يكن يقصد بها إلى   1 ابن هشام 2/ 286. 2 نفسه 2/ 238- 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 لو سلمنا بهذا الأساس استطعنا أن نقول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم بحرب هجومية إطلاقًا، حتى في أثناء المعارك الكبيرة التي وقعت بينه وبين قريش؛ فإن موقعة بدر التي حدثت في السنة الثانية الهجرية حدثت داخل حدود إقليم المدينة، وعلى أثر تحدي المكيين للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتسييرهم قوافلهم بأراضي المدينة ممتهنين بذلك حق السيادة اليثربية، فأبو سفيان حين مر بقافلته في المنطقة اليثربية كان يتحدى ويدل على أهل يثرب بقوته ويستضئل شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهذا خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه وأراد أن يصادر هذه القافلة أو أن يحاربها، وكان أمرها يشغله منذ خرجت إلى الشام حتى رأى في منامه قبل أن تعود رؤيا تبشره بأن إحدى الطائفتين ستكون لهم، والطائفة الأولى هي القافلة والطائفة الثانية المعنية هي قوات قريش التي كان من المحتمل أن تخرج لنجدتها، ومنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من مصادرتها1. ثم إن وقعة أحد سنة 3هـ وقعت في جوار المدينة مباشرة وعلى نحو ميلين منها، وكان المكيون فيها مُهَاجِمين مطالبين بثأر بدر2. ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج في السنة الرابعة إلى بدر لوعد بالحرب كان بينه وبين المكيين يوم أحد3، فلم يلق النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ حربًا. لكنه حين سار إلى بدر إنما سار إلى حدود إقليمه ولم يتجاوزها. فلما كان العام الخامس وهو العام الذي وقعت فيه موقعة الخندق كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مستقرًّا في يثرب وعدوه هو الذي جاء إليه متحديًا منتهكًا لحقه في السيادة كما كان الحال في عام أحد، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مهاجمًا، بل إنه أراد أن يبين نيته السلمية وأن يفهم الناس بطريقة مادية محسوسة أنه لا يريد حربًا، ولجأ في التعبير عن هذه النية إلى طريقة مستحدثة تأباها الفروسية العربية، وهي طريقة حفر خندق حول المدينة5. ثم   1 {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال] . 2 ابن هشام 2/ 3 وما بعدها. 3 ابن هشام 3/ 45. 4 نفسه 222. 5 ابن هشام 3/ 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ظهرت نية النبي -صلى الله عليه وسلم- السلمية بشكل واضح جدًّا لا يختلف عليه المؤرخون بعد عام الخندق، ونادى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلمة التقوى أو كلمة السلم واعتبرها مقابلة لما كان يتبعه الناس يومئذ من الاستجابة لحمية الجاهلية، فحمية الجاهلية تقابل كلمة السلم عند النبي -صلى الله عليه وسلم- والعبارتان رامزتان لمثلين مختلفين: المثل الإسلامية، والمثل العربية الجاهلية1. وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- حين فتح مكة أن يتفادى الاصطدام بالمكيين. وفعلًا تم فتح مكة سنة 8هـ، وكان فتحًا خلا من القتال بوجه عام. وهو من قبل هذا في عام الحديبية سنة 6هـ، قد مال إلى السلم برغم معارضة كثير من أصحابه، وعد الفوز بالسلم غنيمة كبرى وفتحًا مبينًا2، إذ استطاع عمليًّا أن يسود المبدأ الإسلامي ويتغلب نهائيًّا على مبدأ الجاهلية؛ ففي تسويد مبدأ السلم احتفاظ بقوى العرب سليمة، قوى يثرب وقوى مكة على السواء؛ استعدادًا لما كان يهدف إليه من توحيد العرب توحيدًا شاملًا، وما تتطلبه الوحدة من قوة مادية وأدبية: من رجال ومن خبرة وتجربة. هذا إلى أن في السلم إبعادًا لسخيمة النفوس وأحقادها مما قد يكون له من أثر سيئ على روح الأفراد، سواء إذا تم الأمر بالنصر أو بالصلح، على أن في تسويد السلم حرية للعقيدة أن تنتشر دون أن تقف في وجهها عقبات مادية أو نفسية تصدها عن الانتشار أو تعطيل من سيرها؛ ولذلك نزل القرآن الكريم بسورة الفتح بعد صلح الحديبية {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح] . والنبي - صلى الله عليه وسلم- لم يلجأ إلى حرب هوازن وثقيف يوم حنين إلا لأن هذه القبائل تحدته وتقدمت لحربه ورفضت الدخول فيما دخل فيه المكيون؛ وكانوا من قبل يسيرون حيث يسير أهل مكة، وكانت الطائف تعتبر من ريف مكة، ولا يوجد شريف من أهل مكة إلا وله في الطائف بستان. وكذلك حرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع القبائل العربية؛ فإنه لم يهاجم إلا القبائل التي استعدت لقتاله وتجمعت لذلك، وكذلك لم يهاجم اليهود إلا لخياناتهم وتجميعهم الجموع لحرب المدينة.   1 {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح] . 2 ابن هشام 3/ 355- 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وهكذا نرى النبي في كل هذه السنين لم يتجاوز الهدف الذي رسمه وهو الدفاع عن دولته، وضمان الأمن لها مع تغليب كلمة التقوى أو كلمة السلم، والسلم هو المثل الإسلامي الذي يتردد إلى اليوم على الألسنة في التحية عند المسلمين: السلام عليكم؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرد أن يفرض الدين بالحرب والإكراه في الدين، إذ الإكراه والاضطهاد من الأمور التي تثير التعصب في نفوس المضطهدين. ومع ذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرض على الجهاد، ونزل القرآن الكريم بآيات كثيرة ترفع من شأن المجاهدين، إلا أن الجهاد لم يكن يقصد به إلا الدفاع وإعزاز الدولة الإسلامية بحيث تعيش في أمن عام، وإتاحة الفرصة للمبادئ أن تسير حجة بحجة وبرهانًا ببرهان، دون أن تقف القوى المادية المسلمة في طريقها فتصدها أو تعنت أصحابها فتعطل من سيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وهكذا نرى النبي في كل هذه السنين لم يتجاوز الهدف الذي رسمه وهو الدفاع عن دولته، وضمان الأمن لها مع تغليب كلمة التقوى أو كلمة السلم، والسلم هو المثل الإسلامي الذي يتردد إلى اليوم على الألسنة في التحية عند المسلمين: السلام عليكم؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرد أن يفرض الدين بالحرب والإكراه في الدين، إذ الإكراه والاضطهاد من الأمور التي تثير التعصب في نفوس المضطهدين. ومع ذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرض على الجهاد، ونزل القرآن الكريم بآيات كثيرة ترفع من شأن المجاهدين، إلا أن الجهاد لم يكن يقصد به إلا الدفاع وإعزاز الدولة الإسلامية بحيث تعيش في أمن عام، وإتاحة الفرصة للمبادئ أن تسير حجة بحجة وبرهانًا ببرهان، دون أن تقف القوى المادية المسلمة في طريقها فتصدها أو تعنت أصحابها فتعطل من سيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 تكوين الدولة في يثرب أول شيء قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد استقراره في يثرب هو ضمان معيشة المهاجرين، وهم جماعة تجار، تركوا أموالهم في مكة، ولا أمل لهم في استردادها. وقد اعتمد النبي على حسن نية المسلمين من أهل يثرب -الذين عُرِفُوا بالأنصار- وقد أظهر هؤلاء روحًا عالية من المروءة والكرم، فأعطوا المهاجرين شيئًا من المال وسمحوا لهم بالتجارة1، كما عمل بعض المهاجرين في مزارع الأنصار مزارعة2، واستطاعوا بذلك أن ينظِّموا أمر معاشهم ولو على نحو ضئيل. ثم رأى من أول الأمر أن يتخذ مكانًا يكون بمنزلة نادٍ عام للجماعة الإسلامية، تقيم فيه شعائرها الدينية، وفي الوقت نفسه تبحث فيه شئونها العامة، فقام ببناء المسجد بعد أن استقر في المدينة بقليل3، فكان هذا المسجد هو المقر الذي اتخذته الرياسة الجديدة، وفيه كانت تُبْرَم كل الأمور، وفيه كان الاتصال بين المسلمين للتشاور في شئونهم العامة من سِلْمِ وحرب واستقبال وفود، وما إلى ذلك.   1 البخاري 3/ 52، 65، 109. 2 نفسه 3/ 104، 155، 116. ابن كثير 2/ 228، 229. 3 البخاري 3/2619. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وبجوار المسجد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- مساكنه، وقد جعلت متصلة بالمسجد بحيث يخرج من بيته إلى المسجد رأسًا1، وأصبح من السنة أن تبنى المساجد وتكون بيوت الولاة ودواوينهم مجاورة للمسجد. فالغرض من تأسيس المسجد كان دينيًّا لأداء الصلاة وسياسيًّا لإيجاد رابطة للجماعة الإسلامية. بعد ذلك عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- على إقامة الاستقرار بين الجماعة اليثربية، وإذا كانت لُحْمَة الدم قد فشلت -في المدينة- في أن تكون رباطًا يؤلف بين الناس، فقد أحل النبي -صلى الله عليه وسلم- محلها رابطة العقيدة؛ فأصبح أولًا بين الأوس والخزرج وحرص على إزالة كل ما من شأنه أن يذَكِّر بالعداء القديم بينهما، فجمعهما في اسم واحد هو: الأنصار. وإنا لنلمس هذا الغرض واضحًا في تسمية المسلمين من أهل يثرب بالأنصار فقد عرفوا جميعًا بهذا الاسم، وصار علمًا عليهم جميعًا، وفي هذا إبعاد لروح العصبية وإدماجها تحت هذا الاسم الواحد، يذكرهما دائمًا بالتآلُف لغرض أسمى وهو نصرة المبدأ الإسلامي، والاندماج في غرض أكبر من الأغراض القبلية. ثم عمد إلى التأليف بين هؤلاء الأنصار من الأوس والخزرج وبين المهاجرين من أهل مكة، وفي هذا التجأ إلى المؤاخاة. والمؤاخاة تسمية إسلامية للنظام العربي القديم، وهو نظام الحِلْفِ فقد جعل كل رجل من المهاجرين يؤاخي رجلًا من الأنصار، فيصير الرجلان أخوين بينهما من الروابط ما بين الأخوين من قرابة الدم. وقد أنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه القرابة الحكمية منزلة الأخوة الطبيعية. بأن جعل المتآخيين يرث أحدهما الآخر، فإذا مات المهاجر ورثه أخوه الأنصاري، وإذا مات الأنصاري ورثه أخوه المهاجر. وقد ظل المهاجرون والأنصار يتوارثون بهذا النظام إلى أن استقرت الدولة الإسلامية في يثرب ووضع نظام التوارث الإسلامي على أساس القرابة الطبيعية2. فهذا كان نظامًا مؤقتًا في حقيقته والغرض منه سياسي، وهو الربط والتأليف بين المهاجرين إلى المدينة وبين أهلها الأصليين، وقد نزلت آية الوراثة بإلغاء هذا النظام بعد ذلك: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب] . فصارت هذه الأخوة أخوة أدبية لا ينطبق عليها التوارث، ولكن آثارها الأدبية بقيت زمنًا طويلًا في الإسلام3.   1 ابن هشام 2/ 118. 2 ابن هشام 2/ 123، 124. 3 ابن هشام 2/ 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بعد ذلك وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- دستورًا لتنظيم الحياة العامة في المدينة، وتحديد العلاقات بينها وبين جيرانها، ويدل هذا الدستور على مقدرة فائقة من الناحية التشريعية، وعلى علم كبير بأحوال الناس وفهم لظروفهم، وقد عرف هذا الدستور بالصحيفة، ولا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هذه الدولة الإسلامية؛ فإنما تقوم الدول أولًا ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور. ولكن النبي ما كاد يستقر في المدينة وما كاد العام الأول من هجرته إليها ينتهي، حتى كَتَبَ هذه الصحيفة التي جعل طرفها الأول: المهاجرين، والطرف الثاني: الأنصار وهم الأوس والخزرج جميعًا، والطرف الثالث: اليهود من أهل يثرب. وهذه الصحيفة مهمة جدًّا؛ لأنها حددت شكل الدولة الإسلامية، وكذلك هي مهمة لفهم الحوادث التي نشأت بعدها. وقد بدأ كأنما ابتلعت الجماعة القائمة على أساس الدين، تلك الجماعات القديمة القائمة على أساس رابطة الدم، ولكن تلك الجماعات في الحقيقة بقيت كما هي، وإن كان الشأن الأول قد انتقل منها إلى الجماعة الكبرى، فدخلت الطوائف التي كانت موجودة في ذلك الحين، ونعني بها القبائل والبطون والعشائر في الجماعة الكبرى الجديدة، واحتفظ لها الدستور بشخصيتها، ولكنه نقل منها اختصاصاتها كوحدات قبلية إلى الدولة، وإن بقي لها كل ما من شأنه أن يحفظ على الناس الروابط فيما بينهم؛ وبذلك تكونت في المدينة جماعة موحدة من حيث إنها أمة الله، ولكن ذلك لم يكن دفعة واحدة؛ فقد ظل يتحقق بخطًى مستمرة ثابتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الصحيفة قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وَادَعَ فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة واحدة من دون الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 المهاجرون من قريش على ربعتهم1 يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم2 بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم3 الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحرث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، لا يتركون مُفْرحًا4 بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة5 ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم. وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناسِ. وإنه من تبعنا من يهود فإنه له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وإن سلم المؤمنين واحدة: لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وإن المؤمنين يبيء6 بعضهم على بعض مما نال   1 على ربعتهم: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها، يعني على شأنهم الأول وعاداتهم من أحكام الديات والدماء. ابن هشام 2/ 119. 2 العاني: الأسير 3 معاقلهم: جمع معقلة، من العقل، وهو الدية. 4 مفرحًا: مثقلًا بالدين. 5 الدسيعة: العطية. 6- يبيء: يمنع ويكف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. وإنه لا يجير مشرك مالًا لقريش، ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن. وإنه من اعتبط1 مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول. وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولايؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ2 إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم3، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم. وإن الله على أبر من هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار4 يخاف فساده فإن مرده إلى   1 اعتبطه: قتله من غير ما شيء يوجب قتله. 2 يوتغ: يهلك. 3 إن البر دون الإثم: أي أن البر ينبغي أن يكون حاجزًا عن الإثم، والوفاء ينبغي أن يمنع من القدر. 4 الاشتجار: الاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الله -عز وجل- وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب1، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين: على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم: لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا لمن ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"2 هذا هو نص الصحيفة كما ذكره ابن إسحاق. وأول ما نلاحظه هنا أن ابن إسحاق انفرد بهذا النص ولم يذكر إسناده في روايته، كذلك لم يشر إلى المصدر الذي أخذه عنه فلم يذكر أنه وجده مكتوبًا أو أخذه من أحد كتبه، وإن يكن من غير المستبعد أن يكون أخذه من بعض من سبقوه ممن كتبوا في السيرة ولم تصل إلينا كتاباتهم3. على أن هذا لا يقلل من قيمة هذه الوثيقة التاريخية المهمة ولا يطعن في صحتها؛ وذلك لأن المصادر الأخرى أشارت إليها وإن لم تذكر نصها4، وقد ذكرتها المصادر المتأخرة5؛ ولأن أسلوب هذه الصحيفة يوافق تمامًا أسلوب العصر، كما يوافق روح التنظيم في المجتمع العربي من حيث الترابط القبلي والاعتراف بقوة العصبية وأثرها في المجتمع، وأنه ليس من السهل التخلص منها. وقد بدا واضحًا في الصحيفة أن البطون والعشائر أدخلت في النظام الجديد بشخصياتها القبلية لا بأفرادها، وهذا ما كان يجري عليه المجتمع العربي في تكوينه في   1 دهم يثرب: فاجأها. 2 ابن هشام 2/ 119- 123. 3 انظر مقدمة سيرة ابن هشام، بقلم محمد محيي الدين عبد الحميد 1/ 15- 17. 4 للواقدي 138، ابن سعد 3/ 68، الطبري 2/ 172، إمتاع 1/ 49. 5 ابن كثير 3/ 224، 225، ابن سيد الناس 1/ 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ذلك الوقت. ثم إنها توافق تشكيل المجتمع في المدينة من حيث أقسام القبائل وبطونها وارتباطاتها الحِلْفية، وكذلك حالة العرب في المدينة من حيث دخول بعضهم في الإسلام قبل كتابة الصحيفة وتأخر دخول بعضهم الآخر؛ فقد ذكرت أسماء البطون التي كانت قد دخلت الإسلام جميعها، وأدمجت البطون التي لم تكن قد دخلت في الإسلام في بندٍ عام مثل: بني الأوس مع أن هؤلاء كانوا بطونًا متعددة. ثم إن نصوص الصحيفة توافق القرآن الكريم في المبادئ من حيث: اعتبار المسلمين أمة واحدة من دون الناس1، ومن حيث التراحم والتعاون بينهم، ومعاونة بعضهم بعضًا فيما يفدح بعضهم ويثقل كاهله2. ومن حيث الاحتفاظ برابطة الولاء وما يترتب عليها من حقوق الموالاة3. ثم من حيث مراعاة حقوق القرابة والصحبة والجوار4 كذلك تحديد المسئولية الشخصية5، والبعد عن ثارات الجاهلية وحميتها6. كذلك وافقت الصحيفة القرآن في وجوب الرضوخ للقانون، ورد الأمر إلى الدولة بأجهزتها للتصرف في الأمور7. وفي شئون الحرب والسلم، وأن حرب الأفراد   1 {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال] {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال] . 2 {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة] {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة] . 3 {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [التوبة] . 4 {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء] . 5 {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء] ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت] . 6 {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف] . 7 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وسلمهم إنما تدخل في الاختصاص العام فلا تحدث فرديًّا1. كذلك معاونة الدولة في إقرار النظام والأخذ على يد الظالم وعدم نصر المحدث أو إيوائه2. ونلاحظ أن الصحيفة ذكرت البطون الخمسة الكبرى للخزرج، وهم بنو عوف، وبنو ساعدة، وبنو الحرث، وبنو جشم، وبنو النجار، ولم تذكر من بطون الأوس الكبرى إلا بطنين هما بنو عمرو بن عوف، وبنو النبيت، ثم أدمجت باقي البطون الأوسية الأخرى تحت اسم واحد وهو بنو الأوس. وهذا يوافق ما كانت عليه الحالة في يثرب من حيث انتشار الإسلام بها في الوقت الذي وضعت فيه الصحيفة، فإن بطون الخزرج كلها كانت قد دخلت في الإسلام وحتى من لم يكن منها مؤمنًا فقد دخل في الإسلام ظاهريًّا، وأما بطون الأوس فلم يدخل منها في الإسلام إلا بنو عمرو بن عوف وهم أهل قباء، وبنو النبيت. أما باقي البطون الأوسية؛ فقد تأخر إسلامها إلى ما بعد الخندق فذكرتها الصحيفة مدمجة باسمها العام، وقد كانت تسمى: أوس الله3. كذلك نلاحظ أن الصحيفة قد ذكرت اليهود الموالين للبطون العربية، وأهملت ذكر القبائل الكبرى من اليهود، فقد يتفق تمامًا مع ما كانت عليه الحالة السياسية في يثرب، فإن البطون اليهودية الصغرى كانت قد دخلت في أحلاف مع الأوس أو مع الخزرج وذلك به سيادة هؤلاء في يثرب. أما قبائل اليهود الكبرى الثلاثة فقد اعتزت بقوتها وبقيت محتفظة بشخصيتها، ثم إنها ناوأت الإسلام وأظهرت عداءها، ومع ذلك فقد وضعت الصحيفة بندًا عامًّا لدخول اليهود في الدولة احتمالًا لما قد يحدث من دخول هذه القبائل في النظام الجديد، وفعلًا ألحقت هذه القبائل بالدولة في محالفات ملحقة كما سنوضح فيما بعد. من كل ذلك يتبين أن الصحيفة التي ذكرها ابن إسحاق صحيحة وأنها وثيقة مهمة جدًّا لفهم تطورات الأمور في الدولة اليثربية.   1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة] ، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال] . 2 {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر] . 3 ابن هشام 2/ 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وقد بينت هذه الصحيفة الأسس الكبرى في القانون الذي ينظم الحياة العامة والسياسية والتي كان معمولًا بها في المدينة في أول الأمر، ويتجلى من هذا الكتاب إلى أي حد قد تغيرت الأحوال القديمة وإلى أي حد لم تتغير. وأول هذه الأسس أن هذه الصحيفة أعطت صفة للجماعة الإسلامية، فقد قررت أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس. وكلمة الأمة هنا ليست اسمًا للجماعة العربية القديمة التي تربطها رابطة النسب، بل هي تدل على الجماعة بالمعنى المطلق، وبهذا التقرير ألغى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحدود القبلية، أو على الأقل لم يجعل لها وجودًا رسميًّا بالنسبة للدولة، أو بلفظ آخر ارتفع هو عن المستوى القبلي المحدود، وبهذا أصبح الإسلام ملكًا لمن دخل فيه؛ فدخل بناء على هذه القاعدة شعوب كثيرة في الإسلام دون أن يضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمامها عقبات تحول بينها وبين الاشتراك في حياة العالم الإسلامي. وهذا المبدأ مرن جدًّا ومرونته هي التي كفت المسلمين في العصور الوسطى كثيرًا من الشرور وكفلت للإسلام دائمًا حيوية جديدة وسيوفًا تدافع عنه، وهذه الفكرة كانت جديدة بالنسبة للعالم اليوناني والروماني القديم. وللأمة في هذه الصحيفة صبغة دينية أيضًا فهي جماعة الله التي ترعى مبادئ السلام ومبادئ حماية الجار ونصرة المظلوم والله هو الشهيد الذي يشرف عليها، ومحمد يشرف عليها باسمه، فالإيمان هو رباط الاتحاد والمؤمنون هم ممثلو معناه، وهم لذلك أول من يجب عليهم الوفاء لهذا الاتحاد، وهم في الوقت نفسه أول من يتمتع بالحقوق التي يخولها لهم. والأمة لها منطقة من الأرض إجمالية، وهي منطقة المدينة وكل هذه المنطقة ينبغي أن تكون حرمًا وأرض سلام لا يعتدي فيها أحد على أحد. والأمة لذلك لا تشتمل على المؤمنين وحدهم بل هي تتألف من كل من يتبعهم ويحارب معهم أي من كل أهل المدينة، وكان بين الأنصار قوم لم يسلموا ولكنهم لم يستبعدوا من الأمة بل أدمجوا فيها بنص صريح، وكذلك اليهود شملتهم الأمة وإن كانوا لا ينتمون إليها انتماء وثيقًا كالمهاجرة والأنصار. ولذلك لم تكن تقع عليهم نفس الواجبات وليس لهم نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الحقوق، وقد ألحق بعضهم بنص صريح تمشيًا مع الروابط الحلفية بينهم وبين الأنصار، ووضع بند عام لكل من يتبع الأمة بعد ذلك منهم ثم عزز هذا البند بمحالفات خاصة بعد ذلك. وعلى هذا فدرجة الانتماء للأمة لم تكن واحدة بحيث بقي ما يشبه التمايز العربي القديم بين أصحاب الحق الكامل وبين غيرهم من تابع ونزيل. والأمة برغم أنها ضمت كل طوائف المدينة؛ فإنها لم تكن تتكون من أفراد؛ وإنما كانت تتكون من جماعات، فالفرد لا ينتمي إلى الأمة إلا عن طريق العشيرة والقبيلة، فقد جاء في الصحيفة أن تبقى القبائل كما هي وأن تدخل في الأمة كما هي، وبذلك بقي التشكيل الاجتماعي القبلي كما هو، ومع أن الإسلام أنكر نظريًّا فكرة امتيازات المجتمع الوثني في العصر الجاهلي؛ إلا أن نظام القبيلة بقوته الداخلية وأسلوبه في معاملة الغرباء كان أمرًا مفيدًا بحيث لم يكن بالإمكان نبذه أو الاستغناء عنه، وكذلك ترك رؤساء القبائل كما هم ولم يحل محلهم موظفون دينيون. أما فيما يتصل بالعلاقة بين الأمة والقبائل وبتحديد سلطة كل منهما وواجباتها؛ فقد بقيت على القبائل النفقات التي ليست ذات صبغة خاصة محضة وخصوصًا دفع الدية وفداء الأسرى. وذلك أنه لم تكن قد وجدت بعد خزينة للدولة. وكذلك بقى للعشيرة والقبيلة مسألة الولاء، فلا يجوز لأحد أن يحالف مولى دون مولاه، وكذلك بقي حق الإجارة لم يقيد، فلكل فرد الحق في أن يجير شخصًا غريبًا وهو لذلك يلزم الجماعة كلها، ولكن استثني من هذا إجارة قريش ومن نصرها؛ فإن ذلك كان محرمًا على كل المشتركين في هذه الصحيفة. وبمقتضى كل ذلك أصبح على القبائل أن تتنازل عن حق الأخذ بالثأر فيما بينها؛ لأن أول غاية للأمة هو منع نشوب حرب في الداخل فإذا قام نزاع؛ وجب أن يعرض على القضاء، وقد جاء في الصحيفة: "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فإذا تعكر السلام في الداخل بسبب القتل أو الفساد وجب لا على المجني عليه أو على قبيلته أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 على الجماعة كلها فحسب، بل على أقرباء الجاني نفسه أن يهبوا متكاتفين عليه وأن يسلموه لصاحب الثأر لكي يقتاد منه بالعدل. وعلى هذا لم يصبح الثأر أمرًا يتحول إلى ثأر يجر ثأرًا، كما كانت الحال في القبيلة العربية من قبل حيث لم تكن هناك سلطة لها قوة القهر، أما في المدينة فقد نفذ مبدأ العقاب بالمثل تنفيذًا صارمًا؛ لأن الله في المدينة فوق رابطة الدم، لكن العقاب بالمثل لم يكن قد صار عقابًا بالمعنى الحقيقي؛ لأن تنفيذه كان متروكًا للمجني عليه أو وليه، وكان له أن يثأر لنفسه أو يتنازل عن الثأر ويأخذ الدية أو يعفو، ولكن مع هذا فإن مبدأ العقاب بالمثل صار نقطة انتقال من مبدأ الأخذ بالثأر إلى مبدأ الأخذ بالعقاب؛ وذلك أنه بانتقال حق التأديب من الفساد إلى الجماعة حدثت خطوة مهمة في سبيل جعل الأخذ بالثأر شأنًا من شئون الدولة، وكانت الخطوة كافية لتفادي الترات الداخلية ولكي يسود السلام في منطقة المدينة ويكون شاملًا لا استثناء فيه، وعلى هذا لم تصبح هناك جماعات متعددة بتعدد القبائل تراعي السلام، الأمر الذي يجعل حمايتها غير كافية أو على الأقل غير فعالة على الوجه المرضي خارج حدود القبيلة، بل أصبح هناك سلام واحد شامل هو سلام الأمة. والغرض الثاني الذي أوضحته الصحيفة هو اتحاد القبائل لرد كل عدوان من الخارج، وعلى المؤمنين أن ينصر بعضهم بعضًا دون الناس، وهم يتعاقلون بينهم ويدهم على من سواهم، وهم على من بغى منهم. وليس واجب الثأر من الأعداء واقعًا على أقرباء المقتول بحكم رابطة الدم؛ وإنما هو واقع على كاهل المؤمن ليثأر للمؤمن، وبذلك خرجت الحرب من أن تكون داخلة ضمن الثأر للدم كما كانت من قبل هي والثأر للدم شيئًا واحدًا، وإنما صارت الحرب حربًا فحسب، وكذلك صار السلام مع قوم أجانب أمرًا يعم المؤمنين جميعًا شأنه شأن الحرب، بحيث لا يستطيع أحد منهم أن يعقد سلامًا منفردًا لا يكون سلامًا للجميع. وهكذا رسمت الصحيفة التخطيط العام للأمة، وإذا كانت هناك بعض الثغرات متمثلة في حق المجني عليه في الأخذ بالثأر أو العفو، وفي حق الإجارة الذي يجب أن يكون من حقوق سيادة الأمة ورئيسها، إلا أن نظام الأمة أخذ يكتمل شيئًا فشيئًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وكان المؤمنون وعلى رأسهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هم روح هذه الأمة والعنصر الناهض الذي كانت تصدر منه الحركة، وكلما كان الدين ينتشر؛ كانت أركان الأمة تقوى وتتوطد1. وكانت مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- السياسية بعد هذا تنحصر في الدفاع عن حدود دولته وضمان الأمن لها، ولم تخرج تصرفاته عن هذا الهدف طوال العصر المدني. والأساس التي نفسر به كل التصرفات السياسية هو أن المدينة ومن انضم إليها دولة واحدة غير متصلة بما عداها إلا بالشروط الجديدة التي وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا صلة بين يثرب وبين غيرها إلا عن طريق الإسلام وعن طريق الالتحاق بها والتبعية لها. ولتقوية جبهة المدينة اعتبرت الهجرة إلى المدينة أساسًا للحصول على حق الرعوية للدولة الجديدة؛ فعلى من يدخل الإسلام ويريد أن يكون مواطنًا في يثرب أن يهاجر إليها، وقد نزل القرآن بنص صريح من ذلك فقال: {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال] . ونستطيع أن نقول: إن حكومة المدينة ظلت مقصورة على المدينة نفسها وعلى ريفها إلى عام فتح مكة سنة 8هـ، فالطور الأول في شكل الحكومة المدينية هو طور: المدينة- الدولة. City - State وقد دام ثماني سنوات، فإذا استطاع أحد أن ينكر وجود مقومات الدولة المدينية في يثرب قبل الهجرة فهو لا يستطيع أن ينفي عن يثرب هذه الصفة بعد الهجرة. وكما حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يوجد في داخل المدينة أداة للحكم، وأن ينظم شئونها الداخلية، كذلك حرص عن طريق السرايا على أن ينضم إلى المدينة ما حولها من ريف وما حولها من قبائل، وأن يخطط لها مجالها ويقرر حدودها، ويعقد لها أحلافًا مع القبائل النازلة فيما حولها؛ لأن الحاضرة لا تستطيع أن تعيش بنفسها، ولا تستغني عن ريف يمدها بالمؤن ويكون مجالًا لنشاطها. ولهذا الغرض قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدة سرايا، ابتدأت من المدينة واتجهت إلى جميع الجهات. فأمنت هذا الريف، وعقدت   1 انظر فلهوزن: تاريخ الدولة العربية ص: 11- 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 في أثناء هذه السرايا أحلافًا مع القبائل المجاورة1؛ إذ إنه لا بد لسكان المدن التي تقوم في وسط جو بدوي أن تعمل حسابًا كبيرًا لغزوات البدو، ولا يكون ذلك إلا عن طريق محالفة البدو ومهادنتهم، وأحيانًا بدفع الإتاوات لهم، ثم كسر شوكتهم بالضرب على أيديهم عند اللزوم، وإشعارهم دائمًا بقوة المدينة وقدرتها على الضرب. والسرايا التي عرفت في السنتين الأوليين كانت عبارة عن حملات حربية صغيرة لا يقصد بها إلى الحرب، بل يقصد بها ما يقصد من أعمال الدوريات الحربية، وهي المحافظة على الحدود أو الاستكشاف، وأحيانًا إيقاع الضرر بأي عدو والانسحاب بسرعة، وقد بلغ عدد السرايا التي أرسلها النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل موقعة بدر ثماني سرايا اتجهت إلى كل الجهات، قاد بعضها بنفسه وعقد لبعض أصحابه على بعضها2. ويذكر المؤرخون هذه السرايا على أنها عمليات حربية مقصودة بذاتها3 وعلى أنها متصلة بالصراع بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكة، وهذا خطأ في نظرنا، والخطأ آتٍ من أن المصادر نفسها والمؤرخين المحدثين لم يفطنوا إلى أن هذه السرايا كانت عمليات حربية داخلية، يقصد بها تقوية الجبهة الداخلية، ويقصد بها كذلك ضمان الأمن ودفع الأذى الذي قد يأتي من الخارج. على أنه كان من مهمة هذه السرايا منع تجارة قريش من المرور في أراضي الدولة الجديدة، طبقًا لنص الصحيفة الذي يقول: إنه لا تجار قريش ولا أموالها وهذا داخل في نطاق أعمال السيادة للدولة اليثربية، وكان لا بد من إشعار قريش، ومن إشعار القبائل المجاورة أن حدود الدولة الجديدة محروسة، وأن سيادتها على أراضيها يجب أن تحترم وأنه من الخير الاتفاق معها والاعتراف بها. ولم يكن الأمر في حقيقته من جانب يثرب بالنسبة لقريش أمر إعنات وإحراج وحروب؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينظر إلى قريش نظرة خاصة، فهو يقدر الميزات التي تنطوي عليها مهادنة قريش واعترافها بالدولة الجديدة، كما كان يدرك قيمة قريش بين العرب وما يعود من وراء الاتفاق معها من   1 ابن هشام 2/ 224، 236. 2 ابن هشام 2/ 223- 242، الطبري 2/ 121، ابن كثير 3/ 248. 3 الطبري 2/ 120- 123، ابن كثير 3/ 246- 248، الواقدي 4 هيكل: حياة محمد 237- 242. Watt, Muhammad at Medina p.2- 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فوائد الدعوة الجديدة. كما كان يقدر ما تضم هذه القبيلة -التي هي قبيلته- من رجال تمرسوا بالحياة وخبروا الحكم وتسيير دفة الأمور سياسيًّا واقتصاديًّا عبر عن هذه في مناسبة بعد النصر في معركة بدر؛ إذ يقول أحد الشبان من الأنصار، وقد جاء الناس يهنئون النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنصر: "ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعًا كالبدن المعلقة فنحرناها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي ابن أخي، أولئك الملأ من قريش لو شهدت فعالهم احتقرت فعلك" 1. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحرص على مهادنة هذه القبيلة تقريرًا لميزاتها أكثر مما يحرص على حربها وعداوتها كما أنه كان يريد في الوقت نفسه أن يشعرها بقوة الدولة الجديدة وتصميمها على المحافظة على كيانها وسيادتها، وأنه لا يسمح مطلقًا بأن توطأ أرضها من عدو لا غازيًا ولا تاجرًا. كما أن السرايا حملت في الوقت نفسه تهديدًا لقريش بأن تجارتها مرهونة برضاء الدولة اليثربية، وعليها إذا كانت تريد أن تستمر في تسيير قوافلها نحو الشام أو نحو العراق أن تحسب حساب الوضع الجديد، ويجب أن تغير من سياستها المنطوية على العدوان بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في يثرب. وأن تترك الحرية للمسلمين الذين حبستهم في مكة، وتترك الدعوة الجديدة تأخذ مجالها الحر دون مناوأة ودون حرب؛ وإلا فإنها تعرض نفسها لقطع تجارتها والقضاء على مواردها الاقتصادية؛ بقفل طريق التجارة المار في أراضي الدولة اليثربية في وجه تجاراتها، لكن السرايا لم تحمل أكثر من هذا التهديد؛ فلم تشتبك في حرب مع قوافل قريش ولم تستول على شيء منها، إلا ما كان من سرية أرسلها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بطن نخلة بين مكة والطائف لتعرف أخبار قريش، ولم تكن هذه السرية من القوة بحيث تشتبك في حرب أو تصادر قافلة، ولكن أفرادها تصرفوا على مسئوليتهم الخاصة؛ فاستولوا على قافلة صغيرة لقريش وقتلوا أحد رجالها وأسروا رجلين، وقد لام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفعل رجال هذه السرية على تصرفهم الشخصي هذا2، ومن هنا يتبين أن مهمة السرايا لم تكن هجومية ولم يكن يقصد بها إلى   1 ابن هشام 2/ 286. 2 نفسه 2/ 238- 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 لو سلمنا بهذا الأساس استطعنا أن نقول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم بحرب هجومية إطلاقًا، حتى في أثناء المعارك الكبيرة التي وقعت بينه وبين قريش؛ فإن موقعة بدر التي حدثت في السنة الثانية الهجرية حدثت داخل حدود إقليم المدينة، وعلى أثر تحدي المكيين للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتسييرهم قوافلهم بأراضي المدينة ممتهنين بذلك حق السيادة اليثربية، فأبو سفيان حين مر بقافلته في المنطقة اليثربية كان يتحدى ويدل على أهل يثرب بقوته ويستضئل شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهذا خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه وأراد أن يصادر هذه القافلة أو أن يحاربها، وكان أمرها يشغله منذ خرجت إلى الشام حتى رأى في منامه قبل أن تعود رؤيا تبشره بأن إحدى الطائفتين ستكون لهم، والطائفة الأولى هي القافلة والطائفة الثانية المعنية هي قوات قريش التي كان من المحتمل أن تخرج لنجدتها، ومنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من مصادرتها1. ثم إن وقعة أحد سنة 3هـ وقعت في جوار المدينة مباشرة وعلى نحو ميلين منها، وكان المكيون فيها مُهَاجِمين مطالبين بثأر بدر2. ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج في السنة الرابعة إلى بدر لوعد بالحرب كان بينه وبين المكيين يوم أحد3، فلم يلق النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ حربًا. لكنه حين سار إلى بدر إنما سار إلى حدود إقليمه ولم يتجاوزها. فلما كان العام الخامس وهو العام الذي وقعت فيه موقعة الخندق كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مستقرًّا في يثرب وعدوه هو الذي جاء إليه متحديًا منتهكًا لحقه في السيادة كما كان الحال في عام أحد، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مهاجمًا، بل إنه أراد أن يبين نيته السلمية وأن يفهم الناس بطريقة مادية محسوسة أنه لا يريد حربًا، ولجأ في التعبير عن هذه النية إلى طريقة مستحدثة تأباها الفروسية العربية، وهي طريقة حفر خندق حول المدينة5. ثم   1 {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال] . 2 ابن هشام 2/ 3 وما بعدها. 3 ابن هشام 3/ 45. 4 نفسه 222. 5 ابن هشام 3/ 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ظهرت نية النبي -صلى الله عليه وسلم- السلمية بشكل واضح جدًّا لا يختلف عليه المؤرخون بعد عام الخندق، ونادى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلمة التقوى أو كلمة السلم واعتبرها مقابلة لما كان يتبعه الناس يومئذ من الاستجابة لحمية الجاهلية، فحمية الجاهلية تقابل كلمة السلم عند النبي -صلى الله عليه وسلم- والعبارتان رامزتان لمثلين مختلفين: المثل الإسلامية، والمثل العربية الجاهلية1. وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- حين فتح مكة أن يتفادى الاصطدام بالمكيين. وفعلًا تم فتح مكة سنة 8هـ، وكان فتحًا خلا من القتال بوجه عام. وهو من قبل هذا في عام الحديبية سنة 6هـ، قد مال إلى السلم برغم معارضة كثير من أصحابه، وعد الفوز بالسلم غنيمة كبرى وفتحًا مبينًا2، إذ استطاع عمليًّا أن يسود المبدأ الإسلامي ويتغلب نهائيًّا على مبدأ الجاهلية؛ ففي تسويد مبدأ السلم احتفاظ بقوى العرب سليمة، قوى يثرب وقوى مكة على السواء؛ استعدادًا لما كان يهدف إليه من توحيد العرب توحيدًا شاملًا، وما تتطلبه الوحدة من قوة مادية وأدبية: من رجال ومن خبرة وتجربة. هذا إلى أن في السلم إبعادًا لسخيمة النفوس وأحقادها مما قد يكون له من أثر سيئ على روح الأفراد، سواء إذا تم الأمر بالنصر أو بالصلح، على أن في تسويد السلم حرية للعقيدة أن تنتشر دون أن تقف في وجهها عقبات مادية أو نفسية تصدها عن الانتشار أو تعطيل من سيرها؛ ولذلك نزل القرآن الكريم بسورة الفتح بعد صلح الحديبية {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح] . والنبي - صلى الله عليه وسلم- لم يلجأ إلى حرب هوازن وثقيف يوم حنين إلا لأن هذه القبائل تحدته وتقدمت لحربه ورفضت الدخول فيما دخل فيه المكيون؛ وكانوا من قبل يسيرون حيث يسير أهل مكة، وكانت الطائف تعتبر من ريف مكة، ولا يوجد شريف من أهل مكة إلا وله في الطائف بستان. وكذلك حرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع القبائل العربية؛ فإنه لم يهاجم إلا القبائل التي استعدت لقتاله وتجمعت لذلك، وكذلك لم يهاجم اليهود إلا لخياناتهم وتجميعهم الجموع لحرب المدينة.   1 {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح] . 2 ابن هشام 3/ 355- 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الصراع بين يثرب وخصومها مدخل ... ما كادت الدولة التي أنشأها النبي -صلى الله عليه وسلم- في يثرب تقوم، حتى بدأ بينها وبين خصومها صراع عنيف استعمل فيه اللسان كما استخدم فيه السيف، وقامت فيه الدبلوماسية بدورها إلى جانب القوة المسلحة، وظهرت فيه قوة الأحلاف القديمة بترابطها ومصالحها المشتركة. كما ظهرت آثار الخصومة القديمة بين القبائل والطوائف سواء في داخل المدينة أو خارجها. ولعب تشابك المصالح أو تعارضها دورًا مهمًا في توجيه الصراع وتقرير مصيره. ولقد ظهر للدولة اليثربية خصوم في داخلها وفي خارجها. ولم يمضِ وقت كبير حتى اتفقت مصلحة الخصوم في الداخل والخارج. وتضافرت جهودهم على سحق قوة المدينة والقضاء عليها، وخنق الدين الجديد الذي قامت الدولة على أساسه. ومحاولة القضاء على صاحب هذا الدين حتى تعود الحالة إلى ما كانت عليه من قبل. ولم يكن خطر الخصوم الداخليين بأقل أثرًا من خطر الخصوم الخارجيين؛ بل إنه أحيانًا يكون أشد على الدولة. فإنه يربك داخليتها ويفكك جبهتها ويجعلها عرضة للسقوط أمام أي هجوم خارجي. وقد تمثل هذا الخطر في طائفتين من طوائف يثرب. فأما الطائفة الأولى فهم اليهود الذين رحبوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أول الأمر ظنًّا منهم أنهم يستطيعون استمالته إلى جانبهم ليستفيدوا منه في تقوية مركزهم في يثرب وتدعيم مصالحهم بها؛ ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان صاحب هدف أكبر من الأغراض المحلية. ومن هنا بدأ تعارض المصالح واضحًا بين الطرفين، فأخذ اليهود يكيدون للدين الجديد وللوحدة الجديدة التي أقامها النبي -صلى الله عليه وسلم- بين عرب يثرب، ثم اتصلوا بالعدو الخارجي ونظموا معه قوة كبيرة لسحق المدينة. وأما الطائفة الثانية فكانوا جماعة من الأوس والخزرج دخلوا في الإسلام مراعاة لدخول عشائرهم، لكنهم كانوا مسلمين في الظاهر يستخفون بالكفر في باطنهم، وكان على رأس هذه الجماعة بعض الزعماء الذين فاتتهم مصالح عاجلة، وعجزوا عن مقاومة الوضع الجديد، وكان وجود هذه الجماعة غير المخلصة أمرًا بالغ الخطورة في كيان الدولة؛ لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- عالج الموقف بالحكمة والأناة، وَوَكَل أمر هذه الجماعة إلى عشائرها وقد ظل يتقي خطرها حتى ضعف أمرها شيئًا فشيئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وأما خصوم الدولة الخارجيون، فكانوا قريشًا ومن ارتبط بها من قبائل العرب على أساس المصلحة المشتركة. وقد عملت قريش منذ الهجرة على إحباط مشروعات النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة بالاتصال بالطوائف المناوئة في الداخل، كما عملت على كسر شوكة الدولة اليثربية بانتهاك حرمة أراضيها ثم بالهجوم عليها بغية سحقها وتدميرها. وقد شاركت القبائل الموالية لقريش في هذا العمل إما بمحاولة الإغارة على أطراف الدولة وإما بالمشاركة في جيوش قريش؛ لكن موقف القبائل كان دائمًا مرتبطًا بمصالحها وكان من الممكن تحويلها من جانب إلى آخر حسب مصالحها؛ ولذلك لم يكن موقف القبائل ثابتًا، وقد استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- تدريجيًّا أن يحولها إلى جانبه، حتى إذا ما مضت ثماني سنوات كان موقف القبائل قد تعدل نهائيًّا لصالح يثرب. وفي كل أدوار هذا الصراع استخدم الطرفان المتنازعان -ونعني بهما المدينة ومكة التي هي العدو الأول وحولها التف كل الخصوم- كل ما يملكان من قوة مادية وأدبية، وكان النصر معقودًا لمن يستطيع أن يتفوق على الآخر في توجيه الأمور توجيهًا سليمًا مبنيًّا على إدراك قوي للموقف الداخلي والخارجي في المدينتين، وعلى فهم طبائع النفوس وتوجيهها لمصلحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الفصل الأول: الصراع بين مكة والمدينة قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الصراع يحسن أن نلقي ضوءًا على الحالة الداخلية في كل من المدينتين، فإن الظروف الداخلية في كل منهما لعبت دورًا خطيرًا في هذا الصراع، وكان تنظيم الجبهة الداخلية من العوامل الحاسمة في تفوق إحداهما على الأخرى. ولم تكن الجبهة الداخلية في كل من المدينتين سليمة كل السلامة؛ بل كان في كل منهما نقطة ضعف خطيرة سببت لكل منهما متاعب كبيرة. وكان نجاح إحداهما في تسوية مشاكلها هو العامل الأكبر في تفوقها فيما قام بينهما من صراع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الحالة الداخلية في يثرب "المدينة" كان في المدينة عنصران من عناصر الضعف، وكان لهما من الخطورة ما كان من شأنه القضاء على هذه الدولة الناشئة، لولا اليقظة الشديدة والسياسة المرنة التي عالج بها النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر هذين العنصرين. فأما العنصر الأول من عناصر الضعف فهو وجود اليهود في المدينة. وقد كانوا عنصرًا كبيرًا وقوة خطيرة لا يستهان بها، وقد أجبرتهم الظروف على تقبل الوضع الجديد الذي نشأ بالهجرة، فحاولوا في أول الأمر التقرب إلى هذا الوافد الجديد لعلهم يستطيعون استمالته إلى جانبهم؛ فربما استطاعوا بمعاونته أن يحولوا الموقف الداخلي في يثرب لصالحهم، وقابل الرسول -صلى الله عليه وسلم- تقربهم هذا بتقرب مماثل، فاعترف بهم عنصرًا في الدولة الجديدة، وأقرهم على وضعهم وديانتهم، ووضع بنودًا في دستور المدينة -الصحيفة- حددت وضعهم كعنصر عامل مشارك في الحقوق والواجبات، وعقد مع قبائلهم الكبرى عقودًا ألحقتها بالدولة؛ لكن موقف اليهود في أنفسهم كان تربصًا وانتظارًا لما يتبلور عنه الوضع الجديد. فما لبثوا أن رأوا الأمور تسير إلى وجهة غير التي قدروها، رأوا النبي يدعو إلى التوحيد ولكن ليس هو التوحيد الذي يؤمن به اليهود، فلقد اتخذ اليهود من رسالة التوحيد التي جاء بها موسى دينًا، ولكنهم ربطوها بجنسهم، فالله الواحد هو إله إسرائيل الذي اختارهم لنفسه من دون الناس واختاروه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 لأنفسهم من دون الآلهة، وبذلك كانوا يرون لأنفسهم ميزة على الناس. وكانوا حين تلم بهم شدة أو يحيط بهم الضعف والذل ينتظرون مجيء رسول أو مسيح ينقذهم من البؤس والشقاء، وقد تحولت عندهم هذه الأمنية إلى عقيدة راسخة، ويقول المؤرخ اليهودي إسرائيل ولفنسون: ملأت هذه القصة صحفًا كثيرة من صحف الأدب الإسرائيلي القديم والحديث. ولا تزال هذه العقيدة إلى اليوم راسخة في نفوس الطبقات المتدينة من اليهود. وإذا قام شخص وادعى أنه المسيح المنتظر الذي يحنون إليه منذ أزمان طويلة أنكروا ادعاءه وسفهوا قوله ورفضوا الإذعان إلى ما يدعوهم إليه. وكأن الأمة الإسرائيلية كانت ترمي بهذه الفكرة إلى غاية معنوية لا يريدون تحقيقها بوجه من الوجوه 1. ولقد نزل القرآن الكريم يندد باليهود ويذكر تناقضهم في أنفسهم {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة] فكأن غاية اليهود من أمنيتهم أن يجدوا من يأتي بما يهوون من سيطرة ونفوذ، لا بما تتطلبه الدعوة من إصلاح وخير يعم الناس جميعًا، ومن أجل ذلك كذبوا أنبياءهم، وعارضوا المسيح وحاربوا دعوته وسعوا إلى قتله؛ فإذا جاء محمد فدعا إلى هذا الإله الواحد الناسَ جميعًا بغض النظر عن أجناسهم، فإنه بذلك يزيل عن بني إسرائيل هذه الميزة التي يستفتحون بها على الآخرين. وإذن فلا تهادن بينهم وبين محمد الذي يسعى إلى تحطيم تلك القواعد المقررة التي سار عليها يهود، فقامت بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- محاجات ومجادلات ما لبثت أن اتخذت من جانبهم موقف التحدي والمعاندة، بل لم تلبث أن ورطتهم فيما لا يصح أن يتورط فيه ناس لهم دين سماوي وعندهم كتاب؛ فلقد كفروا بكل مبادئ التوحيد نكاية في محمد، فأعلنوا لقريش حين سألتهم أدينها خير أم ما يدعو إليه هذا الرجل؟ أن دينهم خير وأن الحق في جانبهم2 وفي تورطهم في هذا الإثم الذي دفع إليه الحقد الأعمى بتفضلهم الأصنام على التوحيد، نزل القرآن يعيرهم ويندد بهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء] . وأمر آخر أثار حقد اليهود، وذلك هو أن محمدًا استطاع أن يؤلف بين الأوس والخزرج، وأن يجعل منهم كتلة قوية متماسكة تضاءل إلى جانبها وضع اليهود، ثم هو في كل يوم يدخل إلى المدينة من المهاجرين ممن جاءوا معه من مكة ومن يلحق بهم،   1 ولفنسون. 2 ابن هشام 3/ 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ومن يدخل في الإسلام من الأعراب ويهاجر ليقيم بالمدينة ما يزيد العرب بها قوة ويزيد اليهود بها ضعفًا، ويقضي على كل حلم يراود نفوسهم في استعادة مركزهم أو حتى الاحتفاظ بهذا المركز. ثم إن المهاجرين المكيين ما لبثوا أن اقتحموا الميدان الاقتصادي والتجاري منه بنوع خاص، ولهم من الخبرة بشئون التجارة ما تضاءلت معها خبرة اليهود، وليس أبرع من تاجر قرشي في ذلك الوقت، فما لبثوا أن نظموا سوق المدينة وأجروا فيها التعامل على أسس جديدة جاء بها الإسلام، فلا ربًا ولا إرهاقًا ولا طرقًا ملتوية تذهب بأموال الناس، وبذلك نجحوا نجاحًا كبيرًا وجنوا أرباحًا لا بأس بها، وسيطروا -أو كادوا- على سوق المدينة. والمال وجمعه عنصر حساس عند اليهود يبيحون لأنفسهم في سبيله ما لا يباح من دين أو شرف؛ لذلك ما لبثوا أن تنكروا لعهودهم وأخلفوا مواثيقهم، وسعوا إلى تحطيم هذا الوضع الجديد في الداخل والخارج. فأما في الداخل فقد عملوا على إثارة الفتن والأحقاد القديمة بين الأوس والخزرج1. ثم قاموا يجادلون ويشككون في الدين الجديد، ويصدون عنه من يريد الدخول فيه2. بل تطرقوا إلى المساس بالأشخاص والأغراض فأخذوا ينشرون قالة السوء، وانبري شعراؤهم ينظمون الشعر في هجاء محمد والمسلمين والتحريض على حربهم، ويشببون بنساء الأنصار3، بل ائتمروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه يريدون قتله4. وأما في الخارج فقد اتصلوا بأعداء الدولة وكانوا عيونًا لهم على المسلمين5 ثم تآمروا مع العدو وخانوا الدولة، وأوشكت مؤامراتهم وخيانتهم أن تقضي على المدينة قضاء تامًّا في غزوة الأحزاب6. ولقد عالج النبي -صلى الله عليه وسلم- موقف اليهود في براعة وقدرة، وتغلب على حساسية الموقف التي كانت قائمة بمحالفة اليهود مع بعض بطون الأوس والخزرج، وكانت هذه المحالفات لا يزال لها أثر في هذه البطون؛ فكان لا بد أن يعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- حسابًا لشعورها، فترى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصانع اليهود مرة، ويجادلهم أخرى، ويصبر عليهم حتى تحين فرصة فيقلم أظفارهم، ثم يرى نفسه مضطرًّا آخر الأمر إلى التخلص منهم نهائيًّا.   1 ابن هشام 2/ 183، 184. 2 نفسه 2/ 135، 170- 201. 3 نفسه 3/ 43- 436. 4 نفسه 2/ 191. 5 ابن هشام 2/ 423، 424. 6 نفسه 3/ 229-230، 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 أما العنصر الثاني من عناصر الضعف فقد كان ممثلًا في طائفة من عرب المدينة من الأوس والخزرج، ومن بعض المتهودة، ومن رجال بعض البطون اليهودية الصغيرة دخلوا في الإسلام ظاهريًّا، فعرفوا بالمنافقين1. وكان رأس هذه الطائفة رجل من زعماء الخزرج هو عبد الله بن أبي بن سلول من بني الحبلى. وقد رأى هذا الرجل أن هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد فوتت عليه مصلحة عاجلة كادت تصل إليه؛ ذلك أن الأوس والخزرج قد تصالحوا بعد يوم بعاث واتفقوا على أن يملكوا عليهم رجلًا منهم، وكان عبد الله هذا هو الزعيم الذي وقع عليه الاختيار، فإنه كان قد لزم الحياد في مراحل الصراع الأخير بين القبيلتين، وفعلًا استعد قومه لتوليته مقاليد الرياسة؛ فلما كانت الهجرة تغير الوضع وفات عبد الله ما كان يريد وينتظر، من أجل هذا ضغن على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى الوضع الجديد كله، والتف حوله طائفة ممن شايعه، كما التف حوله اليهود لاتفاق مصلحة الطرفين2. وقد عملت طائفة المنافقين على خلق المتاعب في المدينة، غير أن خصومة هؤلاء المنافقين تختلف عن خصومة اليهود وإن اتحدت مصلحة الطرفين في مناوأة النبي -صلى الله عليه وسلم- فالمنافقون من عرب يثرب يرتبطون بعشائرهم برابطة الدم والقرابة، وليس من السهل التخلص منهم بإخراجهم من يثرب كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- باليهود، كما أنه من الصعب التخلص منهم بالقتل وإلا تعرضت المدينة لحرب العصبية، وتعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن يقال: إنه يقتل أصحابه، وفي هذا إضعاف لمركز الدعوة الإسلامية بين القبائل، لو شن العدو دعاية من هذا النوع، فقد كان المنافقون يظهرون الإسلام، فهم في الظاهر مسلمون ومن أصحاب محمد، وقد استشعر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحرج حين أشار عليه عمر بن الخطاب بقتل عبد الله بن أُبَي بعد أن سعى بالفتنة بين المهاجرين والأنصار في غزوة بني المصطلق، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر: " فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"3، وقد استعان النبي -صلى الله عليه وسلم - على هذه الطائفة بعشائرها التي كانت تدرك موقف هؤلاء المنافقين وتقدر حلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم رعاية لخاطر عشائرهم، وقد جعلت هذه   1 نافق الرجل إذا أظهر الإسلام لأهله وأضمر غير الإسلام وأقام مع أهله. ومحل النفاق القلب. القاموس مادة: ن ف ق. 2 السمهودي 1/ 155. 3 ابن هشام 3/ 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 العشائر من نفسها وازعًا يرد فتن هؤلاء المنافقين ويكبح جماحهم. وقد نجحت سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه إلى حد كبير، وخير شاهد على ذلك ما أورده ابن إسحاق من استعداد عبد الله بن عبد الله بن أبي لقتل والده لو أمره النبي - صلى الله عليه وسلم- بذلك، وأن قومه كانوا هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه، وحين تذاكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمر موقف عبد الله بن أبي وتعنيف قومه له قال: "كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته"1. وموقف المنافقين كان شديد الخطورة على كيان الأمة الداخلي؛ لكنه لم يصل إلى الحد الذي وصل إليه موقف اليهود، فقد كان المنافقون حقًّا يخذلون الدولة في المواقف الحرجة، ولا يتعاونون تعاونًا صادقًا عند الخطر. كما حدث من عبد الله بن أُبي حين خذل جيش المدينة ورجع بالمنافقين من غزوة أحد2 وكما تخاذل المنافقون في غزوة الأحزاب3. لكن هذه المواقف لم تكن في خطورة الاتصال بالعدو وتمهيد الطريق له لدخول المدينة والقضاء على أهلها كما فعل اليهود؛ فقد كان المنافقون يعتبرون أنفسهم أهل البلد، وهم إن لم يدافعوا عنها حمية للدين قاتلوا من أجل أحسابهم وأعراضهم، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشيرهم حين يدهم المدينة داهم، فقد استشار عبد الله بن أبي في غزوة أحد، وقد أشار عبد الله برأي صحيح، إذ إن الموقف كان يمس وطنه4، كما قاتل بعض المنافقين قتالًا رائعًا في هذه الغزوة، وخير مثل لهم في هذا الموقف رجل يسمى: قزمان، أبلى بلاءً شديدًا وقتل وأشرف على الموت وجعل بعض المسلمين يبشره بالجنة قال: بماذا أبشر؟ فوالله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت5. وقد ظل خطر المنافقين على الدولة كبيرًا ما ظل اليهود في يثرب؛ إذ إنهم كانوا على صلة دائمة بهم، بل إن اليهود هم الذين أَزْكَوا النفاق في يثرب فلما تم تطهير يثرب من اليهود ضعف أمر النفاق، وأصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخشى خطر هذه الطائفة. هذه هي المتاعب التي واجهت النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبهته الداخلية، وقد تغلب عليها بمنتهى اليقظة والحزم، وزاوج في التغلب عليها -بين اللين والشدة حتى استقام له الأمر.   1 ابن هشام 3/ 337. 2 نفسه 3/ 8. 3 نفسه 231، 378. 4 الواقدي 164، 165. 5 ابن هشام 3/ 37، 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الحالة الداخلية في مكة أما الحالة الداخلية في مكة فكانت نقط الضعف فيها أشد وأعمق، وكان التغلب عليها أكثر صعوبة مما كان عليه الأمر في يثرب. وأول هذه الأمور، هو الهجرة وما ترتب عليها بالنسبة للوضع الداخلي في مكة؛ فقد هاجر كثير من المسلمين إلى الحبشة وإلى يثرب. ولم يكن كل من هاجر مغمورًا أو غير محسوس الأثر في قومه؛ وإنما كان كثير منهم صاحب نشاط وأثر محسوس في الحياة العامة، فحرمت مكة بخروجهم من عناصر طيبة كانت ذات قيمة كبيرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وأقفلت بالهجرة كثير من دور مكة وأظهر المكيون ألَمًا وحسرة على قفل هذه الدور. ثم إن كل بطن من البطون بل ربما كل أسرة من الأسر المكية قد تأثرت بهذه الهجرة التي قام بها المسلمون، فلم تبق أسرة إلا ومنها أب أو ابن أو أخ يعيش في غربته مهاجرًا، وليس أشد قسوة من فراق الأهل والأحبة، والشعور بما أصاب البيت من التفكك والتعادي. وخصوصًا في بيئة مثل البيئة العربية التي تقوم على الترابط القبلي وتحكمها نوازع العصبية، وفي مدينة مثل مكة تحرص أشد الحرص على وحدة القبيلة -قريش- فيها، وقد عمل ملأُ قريشٍ جاهدًا منذ أن صار أمر مكة إلى قريش على أن يحتفظ بوحدة القبيلة ويصونها من التفكك، ووقف بكل قوته في وجه كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إراقة الدماء أو الوقوع في الثارات بين البطون القرشية؛ لذلك اتهم أهل مكة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه سعى إلى تحطيم هذه الوحدة وفرق بين الناس، على أنه مهما يكن تعصب أهل مكة لوضعهم العام، فإن الشعور بالتأثم كان يملأ نفوس الأفراد؛ فإنه لا يفر الإنسان من وطنه وأهله إلا لظلم وقع به أو إرهاق عجز عن تحمله ولم يطق دفعه عن نفسه، وهكذا كان إحساس قريش بظلمها للمسلمين على الرغم من محاولتهم إلقاء التبعة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان هذا الشعور الداخلي من عوامل إضعاف الروح المعنوية، وقد أخذ يشتد مع الأيام. ثم إن هناك المستضعفين من المسلمين الذين لم يستطيعوا فرارًا وحبسوا في مكة هؤلاء كانوا من غير شك يثيرون العطف ويعذبون الضمير العام في مكة، وفي الوقت نفسه كانت عواطفهم وأمانيهم مع إخوانهم المسلمين، وكانوا يدافعون عن تصرفات المسلمين في المدينة تجاه قريش، ويكونون دعاية لهم بين أهل مكة1. بل منهم من استطاع الفرار وجعل من نفسه ومن على شاكلته من المسلمين الفارين حربًا على المكيين؛ يقطعون طريقهم ويستولون على ما تصل إليه أيديهم من متاجرهم ويقتلون من يقدرون على قتله منهم2.   1 ابن هشام 1/ 242. 2 نفسه 3/ 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ثم بنو هاشم في مكة وهم عشيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- الأقربون، وقد حموه ودافعوا عنه طول مدة إقامته في مكة بعد البعثة إلى أن هاجر، وتحملوا الشدة والمقاطعة في سبيل نصرته بدافع العصبية، وحين اعتزم عقد البيعة الكبرى مع أهل المدينة لم يُخْفِ أمرها عن عمه العباس؛ بل إن العباس حضر هذه البيعة ليستوثق لابن أخيه وليطمئن على موقف أهل المدينة منه، ولقد كان العباس عينًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- على أهل مكة يكتب له بكل تحركاتهم واستعداداتهم ضده، وكان من بمكة من المسلمين يلتقون به وكان لهم عونًا على إسلامهم، وكان يذيع بين أهل مكة أخبار انتصارات النبي -صلى الله عليه وسلم- على خصومه، وهو بذلك يضعف الروح المعنوية عند أهل مكة، ومن غير شك كان له دور كبير في تسليم أهل مكة في عام الفتح سنة 8هـ1. كما كان هوى بني هاشم من غير شك مع محمد وأمانيهم في نصره، وكانت قريش تعلم هذا فيهم2، ولكنها لم تكن تستطيع أن تفعل شيئًا. فلو فرضت عليهم الهجرة وأخرجتهم من مكة فإنها بذلك تزيد من عدد محمد وتكثر من عدد الحانقين عليها، وتحرم كذلك من رجال لهم نشاط اقتصادي كبير مثل العباس بن عبد المطلب، ومن رجال موالين لها منهم من أمثال أبي لهب بن عبد المطلب، وإن أبقت عليهم كانوا عينًا لمحمد عليها ولم تجد قريش حلًًّا لهذا الوضع فاحتملته على ما هو عليه. ثم إن مكة تعتمد في حياتها الاقتصادية على تسيير قوافلها وبخاصة نحو الشمال، وها هي دوريات يثرب ثم قواتها تهدد هذا الطريق وتتصدى للقوافل فتوقف نشاطها فتحدث في مكة الضائقة الاقتصادية؛ الأمر الذي يضعف قدرتها يومًا بعد يوم. كل هذه العوامل هزت الجبهة المكية في الداخل هزًّا شديدًا، ولم يجد زعماء قريش -على ما بذلوا من جهد- حلًّا لها وبقيت أسباب ضعف يزداد على الأيام. هذه هي الحالة الداخلية في كل من المدينتين المتعاديتين. أثناء الصراع الذي نشب بينهما واستمر ثماني سنوات، وكتب له أن ينتهي نهاية سعيدة بفتح مكة فتحًا سلميًّا والإبقاء على قوى العرب سليمة.   1 أسد الغابة 3/ 109، 110. 2 ابن هشام 2/ 245، 246، 257، 258، 296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بداية الصراع بين المدينتين حين أنشأ النبي -صلى الله عليه وسلم- دولته في يثرب، كان يدرك أن عدوه الأكبر هو قريش، وأنها سوف لا تتأخر عن مناوأته، وسوف لا تصبر طويلًا على هذه الدولة التي أنشئت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 على طريق تجارتها إلى الشام، ولقد قدرت قريش مقدار الخطر الذي يتهددها من وراء هجرة المسلمين إلى يثرب، ومبايعة أهل المدينة للنبي -صلى الله عليه وسلم- واستشعرت ما سيترتب على هذا الوضع من نتائج ستجر إلى الحرب بين البلدين بمجرد أن علمت ببيعة العقبة الكبرى؛ فقد ذهب رجال قريش إلى منازل أهل المدينة بمنى في صبيحة يوم البيعة يقولون لهم: "يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم"1، وقد تحرشوا فعلًا بأهل المدينة حين تأكد لهم الخبر وقبضوا على أحدهم وهو سعد بن عبادة الخزرجي، وكادوا يفتكون به لولا أن منعه بعض سادة قريش لجوار بينه وبينهم2. كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك هذا؛ ولذلك وضع نصًّا خاصًّا بقريش في الصحيفة واعتبرها عدو المدينة الأول، وحرم على أهل الصحيفة أن يجير مالًا لقريش ولا نفسًا، وكان يقصد من وراء هذا النص إلى إفهام قريش أن مكة لا تستطيع أن تمر بتجاراتها إلا إذا هادنت الدولة الجديدة واعترفت بالوضع الجديد. وقد بدأت سرايا المدينة فعلًا تتجه إلى الطرق الرئيسية التي تمر منها قريش بتجاراتها إلى الشام. وتواجه قوافل قريش بقصد إفهامها حقيقة الموقف، وإن كانت لم تصادر هذه القوافل أو تتحرش بها. كما أنها أخذت تتصل بالقبائل الضاربة على جنبات هذه الطرق وتعقد معها أحلافًا، وبذلك تحرم قريش من الاستعانة بهذه القبائل أو اللجوء بقوافلها إلى حمايتها إذا هددت بالاعتداء عليها أو مصادرتها. ولم يزد الأمر عن هذه المظاهرات العسكرية طوال عشرة أشهر من بدء تسيير دوريات المدينة وسراياها، وقد ردت قريش من جانبها بتعزيز الحراسة على قوافلها وتسيير دوريات بأعداد أكبر من قوة المسلمين، وكانت الدوريات تتقابل وتتواقف دون أن يحدث بينها قتال3. لكن سرية كان يقودها أحد المهاجرين هو عبد الله بن جَحْش خرجت على رأس سبعة عشر شهرًا من مهاجر النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب واتجهت إلى مكان يعرف ببطن نخلة بين مكة والطائف، وكانت مهمة هذه السرية استطلاع حال قريش والوقوف على أخبارها، ولم يكن من أغراضها القتال، إذ إن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجال السرية خلا من   1 ابن هشام 2/ 57. 2 نفسه 58/ 59. 3 ابن هشام 2/ 224، 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 كل إشارة إلى القتال، ثم إن عدد رجال هذه السرية كان قليلًا لا يتجاوز الثمانية، الأمر الذي يقطع بأن مهمتها كانت استطلاعية محضة، ولكنها لقيت قافلة صغيرة لقريش قادمة من الطائف تحمل بعض التجارة، فتصرف رجال السرية على مسئوليتهم، وهاجموا هذه القافلة وقتلوا رجلًا من رجالها وأسروا رجلين، وكان في آخر يوم من شهر رجب سنة 2هـ، وهو من الأشهر الحرم التي تحرم العرب فيها القتال. انتهزت قريش هذه الفرصة للتشهير بمحمد وبالمسلمين، وإظهارهم بمظهر المعتدي الذي لا يراعي الحرمات، فقامت بدعاية كبيرة لإثارة الرأي العام العربي. وقد كان لدعايتها صدى كبير وأثر ملموس حتى في المدينة نفسها، فقد كثر الجدل والنقاش بين المسلمين أنفسهم، وأنكروا على رجال السرية محاربتهم في الشهر الحرام، ودافع هؤلاء عن أنفسهم بأن ما حدث كان في أول يوم من شعبان. ووقف النبي -صلى الله عليه وسلم- العير والأسيرين وقال لرجاله: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" واشتد الموقف ودخلت اليهود تريد إشعال الفتنة2. وهنا نزل القرآن الكريم يرد على دعاية قريش: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] وسُري على المسلمين بنزول القرآن بهذا الأمر، وقبض النبي -صلى الله عليه وسلم- العير والأسيرين حتى فادتهما منه قريش3. كانت هذه السرية مفترق طرق في سياسة الإسلام؛ فإن القرآن الكريم يجيب المشركين على تساؤلهم عن القتال في الشهر الحرام، ويقرهم على أنه أمر كبير؛ لكن هناك ما هو أكبر منه، فالصد عن سبيل الله والكفر به أكبر من القتال في الشهر الحرام، والمسجد الحرام -الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا- وإخراج أهله منه أكبر من القتال في الشهر الحرام والقتل فيه، وفتنة المرء عن دينه بالوعد والوعيد والإغراء والتعذيب أكبر   1 ابن هشام 2/ 238- 240. 2 نفسه 341، الواقدي 8، الطبري 2/ 125، 126. 3 ابن هشام 2/ 241، 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 من القتل في الشهر الحرام وفي غير الشهر الحرام. وقريش والمشركون الذين ينعون على المسلمين هذا العمل في الشهر الحرام لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. فإذا كانت قريش تعد القتال في الشهر الحرام من الكبائر، فماذا تقول عن ارتكابها لهذه الكبائر كلها: تصد عن سبيل الله وتكفر به، وتخرج أهل المسجد الحرام منه وتفتنهم عن دينهم، وتحبس الضعفاء وتعذبهم؟ إنه لا جناح على من تقع عليه أوزارها وكبائرها هذه إن هو قاتلها في الشهر الحرام، وحق واجب على كل من يرى غيره يحاول فتنته عن دينه أو يصده عن سبيل الله أن يقاتل في سبيل الله. ومن هنا شرع الجهاد في الإسلام {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج] {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة] {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء] . وكانت هذه السرية كذلك مفترق طرق في سياسة المسلمين إزاء قريش؛ فقد بدأ المسلمون بعدها يفكرون تفكيرًا جديًّا في وقف قريش عند حدها، واتخاذ موقف الشدة الصريح معها، ذلك أن قريشًا حاولت إثارة شبه جزيرة العرب كلها على محمد وأصحابه، حتى أيقن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لم يبق في مصانعتها أو الاتفاق معها رجاء؛ لذلك اعتزم أن يقف من اعتداءاتها على حدود دولته، بتمرير تجارتها على أراضيها وإدلالها عليه بالقوة موقفًا صارمًا. فما لبث حين علم بخروج قافلة كبيرة من قوافلها إلى الشام بقيادة أبي سفيان- أن خرج لسد هذا الطريق ومصادرة هذه القافلة، فلم يلحق القافلة ولكنه اصطدم بقوات قريش التي جاءت لنجدتها، فكانت موقعة بدر على رأس تسعة عشر شهرًا من الهجرة. ونشير هنا إلى نقطة مهمة لم يلتفت إليها المؤرخون من قبل، وهي اشتراك الأنصار لأول مرة في هذه الغزوة، فإن السرايا الثمانية الأولى التي وقعت من قبل كانت كلها من المهاجرين1، ولم يبدأ اشتراك الأنصار إلا في غزوة بدر سنة 2 هـ. فما تفسير ذلك الموقف؟   1 ابن هشام 2/ 224، 238، 239، ابن سعد 3/ 45- 48، جوامع السيرة 101- 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 لقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحيفة وكان طرفها الأول المهاجرين، والطرف الثاني الأنصار، وكانت من بنودها ألا تُجَارَ قريش ولا أموالها. وكان على الطرفين الالتزام بنصوص هذه الصحيفة، والدفاع عن الدولة من الاعتداء عليها؛ لكن الأنصار حين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الكبرى اشترطوا على أنفسهم أن يحموه ما دام في المدينة1، ولم يشترطوا على أنفسهم أن يقاتلوا معه خارج حدود مدينتهم. وكان موقف الأنصار مختلفًا عن موقف المهاجرين بالنسبة لقريش؛ فإن المهاجرين كانوا في حالة حرب معلنة بينهم وبين أهل مكة بما عذبوهم وضيقوا عليهم، وبما أوقعوا عليهم من حصر اقتصادي حتى اضطروهم إلى الهجرة، وهم حين هاجروا استولت قريش على أموالهم، ثم إن بعضهم كان لا يزال محبوسًا في مكة يلاقي العذاب والإعنات. أما بالنسبة للأنصار فلم تكن هناك حرب معلنة بين الطرفين، ولم يكن هناك إلا ما تفرضه بنود الصحيفة من عدم إجارة قريش أو تجارتها، ومن أمر الدفاع عن الدولة الجديدة، ولم يكن الأمر قد تبلور في نفوس الأنصار إلى ما يوضح الاعتداء على حقوق السيادة للدولة وأن انتهاك حرمة أراضيها هو نوع من الاعتداء عليها؛ فقد كان القوم حديثي عهد بهذا النوع من التنظيم، ولم يعرفوا من قبل غير التنظيم القبلي أساسًا للحكم، فلم يدركوا بعد معنى سيادة الدولة ولا معنى الحدود السياسية لها، ولذلك وقفوا موقفًا سلبيًّا إزاء مرور تجارة قريش بأرض الدولة اليثربية وتمسكوا بشروط بيعة العقبة. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك هذا الوضع تمامًا. فلم يطلب من الأنصار الاشتراك في السرايا الأولى، حتى جاءت الحوادث فأدت بطبيعتها إلى اشتراك الأنصار في الوقوف في وجه قريش؛ ذلك أن قريشًا تحدت أهل المدينة ومنعتهم من زيارة الكعبة والدخول في مكة، فقد كان سعد بن معاذ سيد الأوس صديقًا لأحد سادات مكة وهو أمية بن خلف، وكان هذا ينزل على سعد عند مروره بالمدينة، كما كان سعد ينزل عليه إذا ذهب إلى مكة. وقد ذهب سعد إلى مكة معتمرًا ونزل على أمية ثم طلب إليه أن ينتهز فرصة يطوف فيها بالكعبة وعند الطواف لقيه أبو جهل بن هشام، فلما عرفه هدده بالقتل لولا جوار أمية له. وزاد سعد على تهديد أبي جهل بأن قال له: "أما والله لئن منعتني هذا   1 ابن هشام 2/ 253، 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك إلى الشام"1 وهكذا أدى تحدي قريش لأهل المدينة إلى أن يقفوا مع المهاجرين في منع قريش من المرور في حدود إقليمهم. بما أدى إلى موقعة بدر ثم ما تلاها بعد ذلك من مواقع.   1 البخاري 5/ 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 موقعة بدر سنة 2 هـ : صممت قريش على تحديها للدولة اليثربية بتمرير تجارتها في أراضيها منتهكة بذلك حق السيادة اليثربية. فكان لزامًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقف موقفًا حازمًا يحفظ على دولته حدودها ويصون كرامتها. وإلا تعرضت للمهانة في الخارج والداخل. فقد كان في خارجها وعلى حدودها قبائل لم توادع النبي -صلى لله عليه وسلم- وهي على علاقات طيبة مع قريش ترتبط بها وترى من مصلحتها تفوقها. إذ إنها تستفيد من رحلاتها التجارية. كما كان الوضع الداخلي في يثرب مضطربًا بوجود اليهود الذين رأوا أمر محمد يستقر ولواء الإسلام يرتفع فبدأوا يقلبون له ظهر المجن ويعملون على الوقيعة به. وطبيعي أنه لو ترك حبل اليهود على غاربهم في المدينة أن يستفحل أمرهم ويثيروا الفتن التي يسعون لإثارتها. وليس يكفي في عرف الدقة السياسية التحذير منهم والتنبيه لكيدهم؛ بل لا بد من إشعارهم أن للمسلمين من القوة ما يمكنهم من إخماد أية فتنة واجتثاث أصولها. خرج أبو سفيان في أوائل الخريف من السنة الثانية للهجرة في تجارة كبيرة لقريش يقصد الشام، وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع يسمى: العشيرة، لمصادرتها؛ لكن أبا سفيان فاته، فعزم على انتظارها في عودتها1 ولما تحين فرصة انصرافها من الشام بعث عيونه يقتصون خبرها ثم ندب المسلمين للخروج، وخرج على رأسهم من المدينة لثمان خلون من شهر رمضان سنة 2هـ، فبراير سنة 634م 2. وكانت عدة من خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الغزوة سبعة عشر وثلاثمائة رجل، منهم ستة وثمانون من المهاجرين وواحد وستون من الأوس والباقون من الخزرج3 وانطلقوا مسرعين خوف أن يفلت منهم أبو سفيان، وهم يحاولون حيثما مروا أن يقفوا على أخباره.   1 العشيرة: موضع من ناحية ينبع بين مكة والمدينة. ياقوت 13/ 127، ابن هشام 3/ 234- 236. 2 التوفيقات الإلهامية من 1 "في 20 فبراير سنة 624 حدثت موقعة بدر". 3 ابن هشام 2/ 332، 338، 354، ابن حزم: جوامع السيرة 114، 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 أما أبو سفيان، فكان قد اتصل به خروج النبي لاعتراض قافلته حين رحلتها إلى الشام، فخاف أن يعترضه المسلمون حين أوبته، فجعل من ناحيته يتجسس أخبارهم؛ فلما ترامى إليه خبر خروجهم. استأجر رجلًا من قبيلة غفار بعثه مسرعًا إلى مكة ليستنفر قريشًا لنجدة أموالها. ولم تكن قريش في حاجة إلى من يستنفرها؛ فقد كان لكل منها نصيب من هذه القافلة حتى قُوِّم ما فيها بخمسين ألف دينار. وهو مبلغ عظيم في ذلك الوقت1، ثم إنها كانت معتزمة إيقاف نشاط المسلمين وضربهم. على أن أمر قريش بمكة لم يكن جميعًا نحو سياسة العدوان التي اتخذتها نحو النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين؛ فقد كانت هناك طائفة تشعر بما ظلمت قريش المسلمين من أهلها حتى اضطرتهم إلى الهجرة، وكانت هذه الطائفة تتردد بين النفير والقعود، كما أن العصبية العشائرية كانت تفعل فعلها، فبنو هاشم في مكة كان هواهم مع محمد، وبنو عبد مناف جميعًا كانت العصبية العشائرية تقوم في نفوسهم، وهم وإن سايروا إجماع القبيلة كانوا يودون لو يترك أمر محمد للظروف العامة فإن انتصر على العرب كان ذلك فخرهم، وهم لذلك كانوا مترددين لم ينشطوا للخروج والاستعداد له نشاط باقي البطون القرشية2. وقد بدت روح العصبية العشائرية واضحة فيما كان من خلاف بين موقف عتبة بن ربيعة بن عبد شمس من بطن عبد مناف وأبي جهل بن هشام من بني مخزوم؛ إذ كان الأول يريد تجنب القتال، وكان الثاني يتهمه بممالأة ابن عمه محمد، وينفس على بني عبد مناف أن تكون فيهم نبوة ورياسة3. وهكذا لم تكن قريش تؤمن بسلامة موقفها إيمانًا يذكي روحها المعنوية ويشعرها بسلامة القضية التي تقاتل من أجلها؛ ومن أجل ذلك رجع بعض بطونها فلم يشهد القتال، وكان بين زعمائها من الخلاف والتحاسد ما جعل وحدتها مفككة أمام عدوها، ولكنها مع ذلك كانت معتدة بقوتها مزهوة بعدتها. أما المسلمون فقد انطلقوا حتى إذا كانوا قرب بدر جاءهم الخبر بأن قريشًا قد خرجوا من مكة ليمنعوا عيرهم؛ إذ ذاك تغير وجه المسألة فلم يبق هؤلاء المسلمون أمام أبي سفيان وغيره والثلاثين أو الأربعين رجلًا معه لا يملكون مقاومة محمد وأصحابه،   1 الواقدي 17، 18. 2 انظر الواقدي 29- 37. 3 نفسه 20، 30، 37، 45- 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وإنما هي مكة خرجت كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها، وإرغام المسلمين على الاعتراف بقوتها وقدرتها على تمرير هذه التجارة في أراضيهم على رغم أنوفهم. لقد أصبح الموقف بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- غاية في الحرج والدقة؛ فلقد خرج ليواجه تجارة وحامية قليلة فلم يأخذ للحرب أهبتها، ولم يتزود بما يكفي من عتاد وسلاح، وكذلك تخلف عنه كثير من أصحابه فلم يخرجوا ظنًّا منهم أنه لا يلقى حربًا. وكذلك لم يكن متثبتًا من موقف الأنصار بإزاء هذا الوضع الجديد. أيقاتلون أم يتمسكون بموقفهم السابق من عدم المجازفة بالاشتباك مع قريش؟ وهب أن المسلمين أدركوا أبا سفيان وتغلبوا على رجاله واستاقوا إبله وما عليها، فلن تلبث قريش أن تدركهم يحفزها حرصها على مالها وتؤازرها كثرة عديدها وعددها، وأن توقع بهم وأن تسترد الغنيمة أو تموت دونها، ولكن إذا عاد محمد إلى المدينة من حيث أتى طمعت قريش وطمع يهود المدينة فيه، واضطر إلى اتخاذ موقف المصانعة، واضطر أصحابه إلى احتمال أذى اليهود والمشتركين معهم بالمدينة مثلما احتملوا من أذى قريش في مكة. ثم ماذا عن الدولة الجديدة وسيادتها وحدودها؟ إنها سوف تهدد تهديدًا خطيرًا قد يذهب بحرمتها ويجعلها غرضًا للمعتدين؛ بل قد يقضي عليها نهائيًّا.. وهيهات إن هو وقف هذا الموقف أن تعلو كلمة الله. عند ذلك استشار أصحابه وأوضح لهم الموقف؛ فأدلى كبار المهاجرين برأيهم، وأظهروا طاعتهم واستعدادهم للتضحية مهما عظمت. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يريد رأي الأنصار؛ ولذلك ظل يكرر: "أشيروا علي أيها الناس" فأدرك سعد بن معاذ زعيم الأوس وحامل لواء الأنصار في هذه الغزوة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يريدهم، فقام يجيب عن الأنصار قال: "لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله" 1. فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد ونشطه ذلك، فقال: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم" 2.   1 ابن هشام 2/ 254. 2 نفسه 2/ 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وبهذه المشاورة وهذا التصريح من زعيم الأنصار اطمأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى موقفه وضمن اتحاد طرفي الصحيفة عن سياسة واحدة تجاه الأوضاع الخارجية أصبحت منذ ذلك اليوم تطبق تطبيقًا عمليًّا. ولم يعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في حاجة إلى التفكير في موقف أهل المدينة تجاه سياسته الخارجية وتدعم بذلك مركز الدولة إلى حد كبير. نشط المسلمون وتقدموا إلى وادي بدر، وهو وادٍ به آبار ومياه كان موسمًا للعرب، ومحطة تجارية تنزلها القوافل في ذهابها وعودتها إلى الشام، وكان المسلمون يتوقعون لقاء القافلة هناك. لكن الوضع ما لبث أن تغير، فقد عرف أبو سفيان خروج المسلمين ونزولهم على ماء بدر، فساحل بقافلته وأفلت1. وأصبح المسلمون وهم ينتظرون قدوم القافلة، فإذا الأخبار تصلهم أنها فاتتهم، وأن الذين على مقربة منهم هم مقاتلة قريش. فلم تعد الغنيمة إذن هي التي تنتظرهم وإنما هو القتال، والقتال الشديد غير المتكافئ، فقريش قد جاءت بعدتها وعتادها في ثلاثة أضعافهم من الرجال وما يفوقهم خمسين ضعفًا من الخيل2؛ ولذلك كان على المسلمين أن يوطنوا أنفسهم على الشدة وأن ينتظروا موقعة حامية الوطيس لا يكون النصر فيها إلا لمن ملأ الإيمان بالنصر قلبه، إلا أن بعض المسلمين قد تخوف القتال بعد أن ذهب الأمل في الغنيمة، فبدأ يجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- كي يعودوا إلى المدينة، ولا ضرورة للقاء مقاتلة قريش وهي أكثر منهم عدة وعددًا، وهذا البعض لم يدرك بطبيعة الحال معنى الدفاع عن الحدود؛ وإنما كانت نظرته سطحية قبلية؛ ولذلك نزل القرآن يوضح المسألة ويثبت المسلمين {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال] . وبذلك قضى على التردد واستعاد المسلمون روحهم المعنوية، ووضحت لديهم أغراض القتال. وقريش هي الأخرى ما حاجتها إلى القتال وقد نجت تجارتها؟ أليس خيرًا لها أن تترك المسلمين يرجعون من رحلتهم بخفي حنين؟ هكذا فكر أبو سفيان وبذلك أرسل إلى قريش يطلب إليهم الرجوع، وهو يتخوف على قومه من لقاء المسلمين، ويشاركه في هذا التخوف كثير من زعماء الجيش المكي، فلقد خرج سادات قريش جميعًا إلى القتال، فلو   1 نفسه 257. 2 الواقدي 26: "خرجوا بتِسْعمائة وخمسين مقاتلًا وقادوا مائة فرس بطرًا ورياء الناس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 أصابهم المسلمون فظفروا بهم قتلًا أو أسرى، فماذا يكون الحال في مكة؟ وإلى أي حد تبلغ المصيبة؟! إن قريشًا تقدم على قتال قوم في بلادهم بغيًا عليهم1، وعلى قتال قوم قد ظلموا وأوذوا في أنفسهم وأموالهم وأخرجوا من ديارهم بغير حق، وهم جميعًا يتحدثون عن الموت حديثهم عن الحياة الخالدة الناعمة. وإنهم لينظرون من ورائه جنة عالية ونعيمًا مقيمًا. فهم إذن قوم مستميتون مستقتلون، يحفزهم الإحساس بالظلم ويدعوهم النعيم الذي ينتظرهم، وليس أشد بأسًا في القتال من مؤمن مظلوم. وهكذا كانت الروح المعنوية في كل من الجيشين حين تقدما للقتال واستطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسبق عدوه إلى ميدان القتال، وبذلك اختار لرجاله أفضل المواقع، ثم عدل صفوفهم وبث فيهم الحمية وبشرهم بالنصر وبأن الملائكة ستشد أزرهم؛ وقد أظهر المسلمون منتهى النظام والطاعة والتفاني في محبة قائدهم، وبذلك عوضوا النقص في عددهم وعدتهم. أما قريش فلم تحسن اتخاذ مواقعها، كما كانت التفرقة تسود قوادها، ولم يستطعيوا جمع أمرهم على واحد يلزمهم طاعته، فما لبثوا حين اصطدموا بالمسلمين، أن بطش بهم هؤلاء بطشة شديدة، وتيمموا رؤساء قريش يقتلونهم ويأسرونهم، فارتبكت صفوف قريش وولوا منهزمين بعد أن تركوا في ميدان القتال سبعين قتيلًا كان منهم معظم زعماء مكة، كما تركوا في أيدي المسلمين سبعين أسيرًا، وتركوا كثيرًا من أمتعتهم وأموالهم ودوابهم وقعت غنيمة في أيدي المسلمين. وهكذا كانت هزيمة تامة ساحقة2. وتعد معركة بدر على صغرها وعلى قلة الجيوش المتقابلة فيها؛ من المعارك الحاسمة في التاريخ، فقد استقر بها أمر المسلمين في جزيرة العرب، وقد ثبتت دعائم الدولة اليثربية التي كانت مقدمة لوحدة شبه الجزيرة العربية. كما كانت مقدمة لإمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف هي من أعظم ما عرف التاريخ من إمبراطوريات. وأقرت حضارة في العالم لا تزال ذات أثر عميق في حياة الإنسانية. تركت بدر آثارًا عميقة بمكة والمدينة على السواء: فأما في مكة فقد عادت قريش مهزومة مخذولة، قد قتل سادتها وأسر كثير من رجالها وفيهم عدد من ذوي المكانة، وقد تركت الهزيمة في نفوس القرشيين حرصًا شديدًا على الثأر من محمد والمسلمين يوم تتهيأ لهم الفرصة لهذا الثأر، وقد حرصوا على أن تكون فرصة الثأر قريبة وأن تعد   1 الواقدي 37، 45. 2 انظر ابن هشام 2/ 366، 367، الواقدي 70- 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 لها قريش العدة قبل أن تخمد نارها في الصدور، فما كادت ترجع حتى اجتمع رجالها في دار الندوة فاتفقوا على التنازل عن أرباح قافلة أبي سفيان، ووقفها على إعداد جيش قوي لغزو محمد والثأر منه، وقد قدر هذا الربح بخمسين ألف دينار وهذا مبلغ كبير في تلك الأيام1. ثم إنها أخذت تعد أحابيشها وتتصل بحلفائها، كما تتصل بيهود المدينة ممن امتلأت نفوسهم حقدًا على محمد وامتلأت قلوبهم خوفًا من علو أمره. أما أثر بدر في المدينة؛ فقد كان أوضح وأكثر اتصالًا بحياة محمد والمسلمين معه، فقد شعر اليهود والمشركون والمنافقون بعد بدر بمزيد قوة المسلمين، ورأوا هذا الرجل الذي جاءهم فارًّا من مكة منذ عامين يزداد سلطانه ويكاد يكون صاحب الكلمة في أهل المدينة جميعًا. وكان اليهود قد بدأ تذمرهم من قبل بدر وبدأت مناوشتهم للمسلمين، ولم يحل دون انفجار العداوة بين الطرفين إلا عهد الموادعة الذي كان بين الفريقين. على أنه ما كان المسلمون يعودون منتصرين من بدر حتى جعلت طوائف المدينة الأخرى تتغامز وتأتمر، وحتى أخذت تغري بهم وترسل الأشعار في شتمهم والتحريض عليهم. وهكذا انتقل ميدان الثورة من مكة إلى المدينة؛ غير أنه لم تعد هنا دعوة محمد هي وحدها التي تحارب؛ وإنما هو سلطانه ونفوذ كلمته وعلو أمره الذي أصبح موضع الخوف وسبب الائتمار به والتفكير في اغتياله، وما كان محمد لتخفى عليه خافية من هذا كله، وجعلت النفوس من جانب المسلمين ومن جانب اليهود تمتلئ بالغل والضغينة شيئًا فشيئًا، وجعل كل فريق يتربص بالآخر. وكان المسلمون إلى يوم بدر يخشون مواطنيهم من أهل المدينة، فلا يستطيعون رد الاعتداء بالشدة على من يعتدي عليه منهم، فلما عادوا منتصرين امتلأت نفوسهم بالجرأة، ووجدوا أن مصلحتهم تقتضيهم رد العدوان وتأديب المعتدين، وإلقاء الرعب في قلوب من تحدثهم أنفسهم بإفساد أمور الدولة الإسلامية الناشئة في يثرب، فقتلوا بعض رجال من اليهود كانوا يحرضون على الدولة ويتصلون بالعدو2، وكذلك استطاعوا أن يخرجوا إحدى قبائل اليهود من المدينة وهم بنو قينقاع عندما تحدت المسلمين وأظهرت العداء3، وكانت هذه القبيلة اليهودية تساكن المسلمين بداخل المدينة، وكان وجودها يشكل خطرًا على كيان المدينة لو هددت بهجوم خارجي وحدثتهم نفوسهم الخيانة،   1 الواقدي 157، ابن هشام 3/ 4. 2 ابن هشام 2/ 440، 441، الواقدي 144- 151. 3 نفسه 426- 429، الواقدي: 13- 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وحين خلت المدينة في داخلها من هؤلاء اليهود، زال عنها وجود عنصرين متحاقدين في داخلها، وبذلك أصبحت أقدر على مواجهة احتمال الهجوم الذي كانت قريش تستعد له لتثأر ليوم بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 موقعة أحد سنة 3هـ: بدت الحالة الداخلية هادئة في المدينة بعد النصر الذي أحرزه المسلمون في بدر، وبعد إجلائهم بني قينقاع، وانكمشت الطوائف الأخرى من غير المسلمين، وخفتت أصوات المعارضة، بعد مقتل المحرضين على المسلمين من اليهود، وفزع اليهود وذلوا بعد أن أهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دماء كل من تحدثه نفسه بالفتنة منهم1. وكان من الممكن أن يستمر هذا الهدوء فترة طويلة لولا أن أبا سفيان بمكة لم يطق صبرًا على عار بدر. ولم يطق أن يظل قابعًا في مكة دون أن يعيد إلى أذهان العرب أن قريشًا لا تزال لها قدرتها على الضرب والغزو؛ لذلك ما لبث بعد شهر أن جمع مائتين من رجال مكة وخرج بهم مستخفين، حتى إذا ما وصلوا منطقة المدينة ليلًا نزل على بني النضير في حصن زعيمهم سلام بن مشكم حيث قراه وسقاه وبطن له من خبر الناس ثم خرج في عقب ليلته هذه، فأغاروا على ناحية العريض فحرقوا بها بيتين ونخلًا ووجدوا رجلًا من الأنصار وحليفًا له يعملان في حرث لهما فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين2. وندب النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فخرجوا في أثر أبي سفيان حتى بلغ قرقرة الكدر على نحو أربعة وعشرين ميلًا من المدينة 3، وأبو سفيان ومن معه جادون في الفرار يتزايد خوفهم فيلقون ما يحملون من زادهم من السويق، فإذا مر به المسلمون أخذوه، ولذلك سميت هذه الغزوة غزوة السويق4، وقد انقلب فرار أبي سفيان عليه بعد أن كان يحسب أن الغزوة ترفع من شأن قريش بعد مصاب بدر. أما القبائل المحيطة بالمدينة وبخاصة التي تنتشر على جانبي طريق التجارة فقد بدأت ترى ما يتهدد مصالحها من تزايد قوة المسلمين، ومن تعادل هذه القوة وقوة مكة تعادلًا تخشى نتائجه؛ فقد أصبح طريق الشاطئ وهو الطريق المعبد المعروف مهددًا،   1 ابن هشام 2/ 441. 2 قراه: ضيَّفه، بطن له من خبر الناس: أعلمه من سرهم، ابن هشام 2/ 422. 3 ياقوت 66/ 441. 4 ابن هشام 2/ 422، 423. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وأصبحت تجارة قريش إلى الشام معرضة للتوقف التام، فإذا حدث هذا فإن هذه القبائل تتعرض لخسارة اقتصادية شديدة، فأما القبائل التي تعيش قريبًا من الساحل فقد حالفت النبي -صلى الله عليه وسلم- فزاد بذلك تهديده للطريق التجاري، وأما القبائل الأخرى فقد ملأ الرعب قلوبها بعد بدر، وإن كانت قد حاولت التجمع للنيل من المدينة محاولات لم تصمد فيها، فإنها كانت ما تكاد تسمع بخروجه إليها حتى تنخلع قلوبها وتتفرق في رءوس الجبال، ومسالك الصحراء. وكان على قريش أن تحاول إيجاد وسيلة للتخلص من هذا الحصار وإلا تعرضت لشر ما تتعرض له مدينة مثل مكة تعيش على التجارة. وقف صفوان بن أمية يومًا في قريش يقول: "إن محمدًا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا نأكل رءوس أموالنا، ونحن في دارنا هذه ما لنا بها بقاء وإنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى أرض الحبشة1 فقرروا أن يسلكوا طريق العراق، وبعثوا قافلة تبلغ قيمتها مائة ألف درهم2، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كاد يعلم بأمرها حتى أرسل إليها سرية اعترضتها عند ماء من مياه نجد يسمى: القردة، ففر الرجال واستولى المسلمون على الأموال، وأسروا دليل القافلة الذي أسلم حين وصل إلى المدينة وأقام بها3. زاد هذا الحادث قريشًا حنقًا على محمد وطلبًا للثأر منه؛ فإنها إن لم تثأر لكرامتها من هزيمة بدر، وإن لم تفتح لنفسها طريق التجارة إلى الشام هوت مكانة مكة الاقتصادية ومكانتها الأدبية إلى حيث لا تقوم لها بعد ذلك قائمة؛ لذلك أخذت تعد نفسها وتتصل بالقبائل لتشاركها في الهجوم على المدينة، كما استنفرت معها من اتبعها من الأحابيش، وأصرت النسوة من قريش على أن يسرن مع الغزاة يحمسنهم ويحفزنهم ويذكرنهم قتلى بدر، وخرجت قريش معها عدد من نسائها وعلى رأسهن هند زوج أبي سفيان قائد الحملة، وهي أشدهن على الثأر حرقة أن قتل أبوها وأخوها وعمها يوم بدر، وكانت عدة الجيش ثلاثة آلاف مقاتل مزودين بأفضل ما قدروا عليه من عدة وسلاح، يمتطون ثلاثة آلاف بعير وقادوا مائتي فرس، ومن بين رجالهم سبعمائة دارع،   1 الواقدي 155. 2 نفسه 156. 3 ابن هشام 2/ 430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وقصدوا المدينة في ثلاثة ألوية عقدت في دار الندوة1. فلما أجمعوا المسير كتب العباس بن عبد المطلب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصف له جمعهم وخروجهم إليه، كذلك خرج وفد من خزاعة -وقد كانت خزاعة تميل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتخلص له- فأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- الخبر2 واقتربت قريش من المدينة وأطلقت خيولها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها، ثم قدمت فنزلت بجوار أحد. وعقد النبي -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا عامًّا دعا إليه أهل الرأي من المسلمين ومن المتظاهرين بالإسلام، وجعلوا يتشاورون كيف يلقون عدوهم، وكان رأي كبار الرجال من أهل التجربة أن يتحصنوا بالمدينة ويقاتلوا فيها. لكن الشباب من المسلمين أخذتهم الحماسة ورأوا في بقائهم بالمدينة أمرًا قد تعده قريش وتفهمه قبائل العرب نوعًا من الجبن عن لقاء العدو فيكون ذلك مجرئًا عليهم غيرهم، وأرادوا أن يحققوا نصرًا مثل الذي حققه المسلمون يوم بدر، وناصرهم على هذا الرأي رجال سمت روحهم الدينية فطلبوا الشهادة أو يجاهدوا في الله فيدحروا من كفر به. واشتد الجدال وظهرت الكثرة الواضحة في جانب الذين يقولون بالخروج إلى العدو وملاقاته، وقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إني أخاف عليكم الهزيمة" ومع ذلك أبوا إلا الخروج؛ فلم يكن له إلا أن ينزل على رأيهم، وكانت الشورى أساس نظامه في هذه الحياة إلا أن يكون وحيًا يوحى من عند الله. وحين دخل بيته يلبس سلاحه ويتخذ عدة الحرب، اشتد الجدل بين القائلين بالتحصن بالمدينة وبين القائلين بالخروج وقال لهم أولئك: "لقد رأيتم رسول الله يرى التحصن بالمدينة فقلتم ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج وهو له كاره، والأمر ينزل عليه من السماء فردوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوًى أو رأيًا فأطيعوه3". وتراجع الداعون للخروج عن إصرارهم، وحين خرج النبي في عدة حربه ألقوا الأمر إليه ليبقى إذا أراد البقاء، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، وما ينبغي لنبي إذا لبس لامته -عدة حربه- أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، انظروا ما آمركم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم" 4. وهكذا وضع محمد إلى جانب الشورى مبدأ النظام، فإذا تم للكثرة رأي بعد البحث والتفكير، لم يكن لها أن تنقضه لهوى أو لغاية، بل يجب أن ينفذ الأمر،   1 الواقدي 158، 159. 2 الواقدي 160. 3 الواقدي 167، ابن هشام 3/ 7. 4 الواقدي 167، 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 على أن يوكل التنفيذ إلى من يحسنه، ويوجهه إلى حيث يتحقق له النجاح، وعلى الجماعة أن تلتزم الطاعة والنظام. وتقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين متجهًا إلى أحد حيث عسكرت قريش، ورفض أن تنضم إليه كتيبة من اليهود كانوا حلفاء لعبد الله بن أبي بن سلول، حذر أن توقع الاضطرابات في نفوس الجيش، كما رفض أن يدعو الأنصار حلفاءهم من يهود1، وموقف اليهود مشكوك فيه بعد الذي ظهر من خيانتهم وبعد ما امتلأت به النفوس من حقد، وفي الطريق انخذل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وعاد إلى المدينة محتجًّا بأنه خالف رأيه واتبع رأي الغلمان ممن لم يحسنوا استخدام الرأي2، وكذلك همت طائفتان أخريان من الأنصار أن تتراجعا متأثرتين بتراجع عبد الله بن أبي لولا أن ذكرتا إيمانهما فصبرتا3، وبقي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سبعمائة من المسلمين ليقاتلوا ثلاثة آلاف من أهل مكة كلهم موتور وكلهم على ثأره حريص. وفي ساحة أحد اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجاله. موقعًا استراتيجيًّا قويًّا، فاحتمى بظهره إلى أحد، وجعل العدو في مواجهته، ووضع خمسين من الرماة على مرتفع يقال له: جبل عينين، ليسدوا الطريق على خيالة قريش فلا تستطيع الالتفاف بجيش المسلمين وشدد عليهم الأمر ألا يفارقوا مكانهم إن كانت للمسلمين أو عليهم، وإنما همهم أن ينضحوا الخيل بالنبل حتى لا تأتي الجيش من خلفه4. وفي تشديد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الرماة، وفي تراجع بعض الناس عنه، وفي المناقشات التي دارت قبل الخروج، ما يبرز أن الجبهة يوم أحد لم تكن متماسكة، فقد رأينا كيف أن المسلمين لم يكونوا موحدي الكلمة في الاستعداد لمقابلة العدو والتهيؤ لخوض غمار المعركة، لقد كانت كلمتهم موحدة في بدر، وكان أمرهم جميعًا، وكانوا مثال الطاعة والنظام، والحرص على تنفيذ أمر القيادة، كما كانوا يقدرون قوة العدو ويدركون تفوقه عليهم، ويعدون أنفسهم للصبر والشدة، وتمتلئ نفوسهم مع ذلك باليقين بالنصر، والثقة بموعود الله أن تكون إحدى الطائفتين واستعدادهم ليخوضوا وراء نبيهم إن هو استعرض بهم البحر.   1 الواقدي 168، ابن هشام 3/ 8. 2 الواقدي: نفسه. 3 انظر سورة آل عمران 123. 4 ابن هشام 3/ 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وها هم أولاء في يوم أحد تختلف كلمتهم، فمنهم من يرى البقاء بالمدينة والتحصن بها وهؤلاء الكبراء وأصحاب الرأي وعلى رأسهم النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، ومنهم من يرى الخروج ومناجزة العدو حيث هو بظاهر المدينة، وكان هؤلاء هم الأكثرية، وقد أنستهم حماستهم أن يقدروا قيمة العدو، ويعملوا حسابًا لتفوقه العددي، وأن يدركوا ما تضطرب به نفسه من الحقد والحرص على الثأر ليوم بدر، ولم يتفهموا تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم حين خاف عليهم نتيجة الاندفاع في الحماسة والاستخفاف بقوة العدو. ومع ذلك فقد وضح أن هذه الحماسة كانت فورة غمرت النفوس، ثم لم تثبت على محك الحوادث، ذلك أنهم ما كادوا يذكرون بأنه كان يجب عليهم أن يردوا الأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تراجعوا عن موقفهم المتشدد في الخروج، ولم يكن الموقف يحتمل التراجع من جانب القيادة؛ وإلا تعرضت الروح المعنوية العامة للانهيار نتيجة للتردد والتراجع في اتخاذ القرارات، وبرغم ما حرص عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من توحيد الصفوف على قرار واحد صدر عن الجماعة، وبرغم حرصه على المحافظة على الروح المعنوية عالية بين رجاله، وبرغم ما وعدهم به من النصر على العدو ما صبروا واستجابوا لروح الطاعة والنظام وحرصوا على تنفيذ أوامر القيادة، برغم كل ذلك؛ فإنه ما كاد الجيش يخرج إلى ظاهر المدينة للقاء العدو حتى تراجع عبد الله بن أبي بثلث الناس مستجيبًا لتحريض حلفائه من اليهود، وحتى بعض المخلصين من المؤمنين اهتزت نفوسهم وتسرب الخوف إلى قلوبهم، وهمت طائفتان منهم أن تتراجعا1، لقد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الضعف بين صفوفه فحرص على إمداد رجاله بالصبر واليقين والاعتصام بالإيمان، والثقة في نصر الله الذي آتاهم حين قاتلوا في بدر وكانوا أقل من ذلك عددًا وأضعف عدة، ونزل القرآن يثبت المسلمين ويصور موقفهم: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران] .   1 البخاري 5/ 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 من ذلك ندرك السر في تشديد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الرماة ألا يبرحوا أماكنهم مهما يكن الموقف من نصر أو هزيمة، وتكرار هذا التشديد مع توضيح الموقف لهم، ليدركوا أهمية محافظتهم على موقفهم بالنسبة لموقف الجيش كله، ثم إشهاده الله عليهم إثارة لإيمانهم لما يفرضه عليهم من طاعة تامة1. ثم إنه لم يدخر وسعًا في تنظيم رجاله تنظيمًا عسكريًّا بارعًا ليعوضهم عن قلتهم، فتخير لهم أفضل المواقف إستراتيجية في ميدان القتال، وسد الثغرات على العدو حتى لا ينفذ من خلفهم، ثم إنه عمل على إثارة حمية رجاله وتنبيه روح البطولة فيهم؛ فقد مد يده بسيف وقال: "من يأخذ هذا السيف بحقه؟ " وتسابق إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة الأنصاري، فقال: "وما حقه يا رسول الله؟ " فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن تضرب به العدو حتى ينحني". وكان أبو دجانة رجلًا شجاعًا له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل وأنه أخرج عصابة الموت، فأخذ السيف وأخرج عصابته فاعتصب بها، وجعل يتبختر بين الصفين على عادته إذ يختال عند الحرب، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- يتبختر قال: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن"2. هكذا كانت الجبهة اليثربية. أما الجبهة المكية فقد بدت في هذا اليوم أكثر تماسكًا. قيادتها موحدة وكلمتها جميع، وحرصها على الثأر من المسلمين شديد، وقد ظاهرها كثرة في العدد وقوة في التسليح، ولديها قوة كبيرة من الفرسان، وخلف الجيش النسوة يحفظن الرجال ويحمسنهم، وكل واحدة منهن قد وعدت مولى لها بالخير الكثير، إن أدرك لها الثأر من قتلة الأحبة. وهكذا وقفت في ميدان القتال قوتان غير متكافئتين لا في العدد ولا في العدة، يحرك القوة الكبرى ثأر لا يهدأ من يوم بدر في نفوس ثائرة، ومركز أدبي ومادي أوشك على الانهيار. ويحرك الصغرى عامل الدفاع عن الوطن أن تنتهك حرمته، وعامل الدفاع عن العقيدة ودين الله. فأما المطالبون بالثأر فقد كانت تؤيدهم الكثرة والعدة وتدفعهم الحفيظة، وأما المدافعون فقد بدأ بعض الخلل في صفوفهم، ولكن عوضته في   1 البخاري 5/ 94. ابن كثير 4/ 25. إمتاع 1/ 124، 125. 2 ابن هشام 2/ 11، 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أول المعركة مهارة القيادة ودقة التنظيم، وثورة الإيمان في نفوس بعض أبطال المسلمين ممن سمت نفوسهم حتى ليرون ألا تقف قوة أمام سيوفهم، وكان هذا قمينًا أن يتم عليهم النصر. لولا ذلك الخلل الذي وصل إلى بعض النفوس فأطمعها في الدنيا وأغراها بحب العاجلة، فذهلت عن أمر نبيها فأفسدت على الفئة المؤمنة موقفها. فقد حمل المسملون في أول المعركة حملة شديدة على العدو وتناولوا حملة لوائه بالقتل حتى قتلوا منهم تسعة على التوالي، فتراجعت قوات قريش وانكشفت حتى دخل المسلمون معسكرهم، وكادوا يذيقونهم هزيمة أشد من يوم بدر. لولا أن شغلوا بالغنيمة يجمعونها، وخالف الرماة الأوامر المشددة، فتركوا مواقفهم ونزلوا يشاركون في جمع الغنائم ظنًّا منهم أن الهزيمة قد تمت على العدو، وعند ذلك اهتبل الفرصة خالد بن الوليد قائد خيل قريش، فنفذ من الثغرة التي كان يسدها الرماة، ودار خلف جيش المسلمين وأوقع الخلل في صفوفه، وعاد المنهزمون من قريش حين رأوا خيلهم تقاتل بين المسلمين، فألحقوا بهم هزيمة شديدة وقتلوا منهم سبعين رجلًا منهم عدد من الأبطال من بينهم حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- بطل ذلك اليوم، ووصل العدو إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه بعد أن تفرق عنه رجاله منهزمين، وأصابه بجراحات شديدة، وتعرضت حياته للخطر لولا أن دافع عنه رجال من المهاجرين والأنصار فدوه بحياتهم. وفشلت كل محاولة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لرد هزيمة المنهزمين، وإعادة تسوية الصفوف فقد ابتلعت الكثرة من قريش هذا العدد القليل من المسلمين بعد أن فقدوا النظام واختلت صفوفهم، وفي تصوير هذا الموقف نزل القرآن الكريم: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ1 بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران] . {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران- 155] .   1 تحسونهم: تقتلونهم، تفسير الطبري 7/ 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أما قريش فقد طارت بنصرها فرحًا، وحسبت نفسها انتقمت أشد الانتقام ليوم بدر. حتى صاح أبو سفيان يخاطب المسلمين: يومٌ بيومِ بدرٍ والموعد العام المقبل. ولقد أسرفت قريش في نكايتها بالمسلمين وفي إظهار حقدها وتشفيها، فمثلت بالقتلى: جدعت الأنوف وصلمت الآذان وبقرت البطون، وبلغ الحقد بهند زوج أبي سفيان أن لاكت كبد حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بقرت بطنه وجدعت أنفه وصلمت أذنيه واتَّخَذَتْ من هذه وغيرها من قتلى المسلمين قلائد وأقراطًا ومسكًا -أساورَ1 وكثيرًا من الفظائع التي تبرأ أبو سفيان من تبعتها وأعلن أنه لم يأمر بها وبلغ من شناعة ما فعلت وفعل النسوة معها، بل ما فعل الرجال كذلك -وإن لم يسخط على من فعلها- فقال يخاطب المسلمين: "إنه كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت"2. وانصرفت قريش بعد أن دفنت قتلاها، ولم تشأ أن تهاجم المدينة فتحتلها وتقضي عليها، مكتفية بأن تنال من ثمار النصر أقربها وأيسرها على ما جرت عليه العادة عند القبائل العربية في حروبها. وانصرف المسلمون إلى المدينة وعلى رأسهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن دفنوا قتلاهم والحزن يثقل نفوسهم، لما أصابهم من هزيمة بعد نصر ومن مذلة وهوان بعد ظَفَر عزيز لا ظفر مثله؛ وذلك لاختلافهم ومخالفتهم أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- وانبعاثهم وراء عرض الدنيا في الوقت الذي يقاتلون فيه لإعلاء الحق وإقرار المثل العليا. وكان على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهزيمة أن يعالج الموقف من نواح متعددة: عليه أولًا أن يعالجه من الناحية النفسية عند المسلمين، وقد أوشكت الهزيمة أن تقتل الروح المعنوية فيهم، وأوشك الشعور بالإثم أن يذل نفوسهم، ويصغر أقدارهم في نظر أنفسهم؛ فلقد خالفوا رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- وكبار المسلمين، وأصروا على الخروج للقاء العدو وهم يتحرقون شوقًا للقائه وإلحاق الهزيمة به كما أذاقوه إياها يوم بدر، وها هم الآن يذوقون مرارة الهزيمة نتيجة عصيانهم وفشلهم، ولقد كانوا يتمنون الموت ويطلبون الشهادة قبل لقاء العدو، فلما عاينوا الموت فروا منه وازورت نفسهم عن الشهادة، بل إن بعضهم يقول: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} [آل عمران] ولقد كانوا   1 ابن هشام 3/ 41. 2 نفسه 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 يعتزون بأنهم جند الله يقاتلون لإعلاء كلمته وينتصرون بتأييده، فإذا الدينا تصرفهم بعرضها عن غايتهم العظمى فيخسرون النصر الذي أوشكوا أن ينالوه، وما أدراهم أن الله لم يغضب عليهم لعصيانهم وطمع نفوسهم فيخسرون الآخرة أيضًا. كان على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعالج هذه النفوس وإلا وصلت الهزيمة إلى قرارتها وأصبح من الصعب إقالتها من عثرتها، وكان عليه كذلك أن يعالج الموقف الداخلي في المدينة نفسها، فقد أخذت الطوائف الأخرى من أهل المدينة من اليهود والمنافقين والمشركين يظهرون السرور لما كان من هزيمته وأصحابه، وأظهر اليهود القول السيئ في النبي -صلى الله عليه وسلم- وراحوا يشككون في نُبوته، كما أخذ المنافقون يخذلون عنه أصحابه ويأمرونهم بالتفرق عنه1. ولو بقيت هزيمة أحد هي الكلمة الأخيرة بين المسلمين وقريش فإن أمر محمد وأصحابه ليشرف على الأُفُول، ولتضعضع سلطانه بيثرب بعد أن أصبح صاحب الكلمة العليا فيها بعد بدر. وماذا عن قريش؟ إنها لو رجعت بنصرها كما كسبته. لربما رجعت إلى المدينة فهاجمتها، والمسلمون مضعضعون من الهزيمة لم يستردوا نفوسهم من آثارها، ولو أنها لم ترجع واكتفت بما نالت لكان المسلمون عرضة لاستخفافها وإرسال دعاية السخرية والاستهزاء بهم في أنحاء الجزيرة كلها، ولئن حدث هذا لجاء في أثره اجتراء القبائل على المدينة والاستخفاف بها ومهاجمتها. كان على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعالج الموقف من جميع هذه النواحي: فأما من الناحية النفسية عند المسلمين؛ فإنه عفا عن كل مسيء في المعركة ولم يحمل أحدًا بعينه ممن حضرها نتائجها، بل جعل المسئولية عامة. ثم إن القرآن الكريم نزل مواسيًا للمسلمين معالجًا لجرح نفوسهم مذكيًا الروح المعنوية فيهم، مذكرًا إياهم بأن الحرب سجال والأيام دول. وأنهم لكي ينتصروا لا بد أن تكون لديهم القدرة على مواجهة الهزيمة، فإن القدرة على تقبل الهزيمة أقوى أنواع الانتصار. ثم يثير فيهم العظة المستفادة من هذه المعركة حتى يستعدوا لما بعدها من أيام {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا   1 إمتاع 1/ 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران] . {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران] . {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران] . وهكذا عاون القرآن الكريم في شفاء نفوس المسلمين حتى عادت إليها سلامتها. كما حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يرد إليها سريعًا شجاعتها ويشعرها ويشعر من حولها أنها لا تزال قادرة على الضرب والغلب ومواجهة العدو، وأن ما حدث في المعركة إن هو إلا حالة عارضة لم تؤثر بأي حال من الأحوال على جوهر نفوس المسلمين ولا على شجاعتهم، وأن قوتهم الضاربة لا تزال قادرة على خوض غمار الحرب واستئناف القتال من جديد في عزم وثقة بالنصر. لذلك، وليتحوط لرجوع قريش لضرب المدينة واحتلالها، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فأذن مؤذن في المسلمين بطلب العدو، في الغد من يوم أحد على ألا يخرج إلا من حضر القتال. وتحامل المسلمون على جراحاتهم، وقد استردوا روحهم المعنوية، فلم يتخلف منهم أحد، وحتى من أثقلته جراحه لم يرد أن يفوته من أمر القتال شيء، وأظهروا من الصبر والجلد وشجاعة النفس ما يعتبر مثلًا فذًّا في تاريخ الحروب1. بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- حمراء الأسد -على ثمانية أميال من المدينة- وكان أبو سفيان ورجاله قد وصلوا الروحاء -على سبعة وسبعين ميلًا- وقد صدق تقدير النبي -صلى الله عليه وسلم-   1 انظر ابن هشام 3/ 52، 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فإن قريشًا قد تلاومت على ترك الفرصة تفلت من يديها بعد أن أوقعت الهزيمة بالمسلمين فأجمعت على الرجعة، وقالوا: أصبنا حد أصحابه -محمد- وأشرافهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟ لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم1. وأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوهن نفوس المكيين ويضعف عزيمتهم، فأوحى إلى رجل من خزاعة -وكانت خزاعة مسلمها ومشركها هواها مع النبي صلى الله عليه وسلم، تناصحه وتود نصره- أن يخذِّلها عنه ويلقي إليها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين قد خرجوا لقتالها وقد رجع إليهم من تخلف عن القتال، واستعدوا استعدادًا كبيرًا وفعل الخزاعي ما كلف به، فخارت عزيمة أبي سفيان وأجمع على الرجوع إلى مكة؛ ولكنه كلف نفرًا من العرب كانوا يريدون المدينة أن يخذلوا المسلمين عن مطاردته، ثم رحل عائدًا إلى مكة. وبقي النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام يوقد النيران ليعلم قريشًا أنه ينتظرها، وليشعر القبائل بقوته وعزمه، ثم عاد إلى المدينة2 وقد استرد كثيرًا من مكانة المسلمين وأعاد إلى نفوسهم كثيرًا من شجاعتها واطمئنانها.   1 نفسه 3/ 54. 2 ابن هشام 3/ 54- 56، إمتاع 1/ 167- 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 آثار موقعة أحد : حين عاد المسلمون من حمراء الأسد إلى المدينة، وجدوها قد تنكر كثير من أمرها، وإن بقى سلطان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها السلطان الأعلى، فلقد رفع كثير من اليهود والمنافقين رءوسهم ضاحكين شامتين بالمسلمين، ثم تجرءوا فأخذوا يدبرون المكائد ويحيكون المؤمرات، حتى لقد تطور الأمر إلى حَبك مؤامرة لقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، وكان من نتيجتها أن حاصر النبي -صلى الله عليه وسلم- إحدى قبائل اليهود وهم بنو النضير وأخرجهم من المدينة. كذلك بدأت القبائل العربية تتحرش بالمسلمين وتكيد لهم، وتجرأت فاستدرجت بعض رجالهم وقتلتهم أو باعتهم لقريش. وأخذت بعض القبائل تتجمع للإغارة على المدينة، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان دائم الحذر يحرص دائمًا على أن يعرف من أخبار القبائل ما يمكنه من تدبير أمره، لإقرار هيبة الدولة في نفوس هؤلاء البدو، وكان لا يترك فرصة لهم للتجمع لغزوه ومهاجمته، بل كان يقظًا سريع الحركة، ما يكاد يسمع بتجمع أعدائه حتى يفجأهم قبل أن يستكملوا أمرهم، فيشتت شملهم ويلقي الرعب في قلوبهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فالهجوم عنده أقوى وسائل الدفاع، وتحطم قوة العدو قبل أن تكتمل أفضل من تركها تتجمع ثم الصمود لها. ولقد سار المسلمون على هذه السياسة التي رسمها النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعده، فلم يجعلوا أرض الإسلام ميدان قتالٍ أبدًا. بل كانوا دائمًا ينقلون خطوط القتال إلى أرض العدو نفسه حتى يشغلوه في نفسه عنهم، ولم تصبهم الهزائم إلا بعد أن تخلوا عن خطة اليقظة والنشاط واستكانوا للدعة والتواكل والانتظار. وقد أتاحت هذه الظروف للدولة اليثربية فرصة الاستقرار، كما أن إخراج بني النضير، واستيلاء المسلمين على أراضيهم ونخيلهم، أدى إلى تحسن حالة المسلمين الاقتصادية في يثرب؛ فقد وزعت الأراضي على المهاجرين فاستقلوا بأمر معاشهم واستغنوا عن معونة الأنصار فتحسنت حالة الطرفين جميعًا، كما ضعف أمر النفاق، وخفت قوة المعارضة الداخلية في المدينة، وكانت الفترة التي تلت خروج بني النضير فترة سكينة وطمأنينة استراح إليها المسلمون. واستطاعوا بعد أن استدار العام أن يخرجوا إلى بدر استجابة لوعد أبي سفيان يوم أحد، لكن قريشًا لم تكن في حالة من القوة تمكنها من الوفاء بوعدها، فلم تذهب إلى بدر واكتفت بأن تتظاهر بالخروج، وترسل تهدد المسلمين. وفي بدر استفاد المسلمون من تجارة الموسم فربحوا، كما جدد النبي -صلى الله عليه وسلم- عهوده مع القبائل التي وادعته من قبل، وكان من نتيجة تخلف قريش وخروج المسلمين أن انمحت آثار أحد واستقر سلطان المسلمين في هذه المنطقة وتدعمت هيبتهم، وامتد نفوذهم نحو الشمال حتى دومة الجندل التي كانت المسافة بينها وبين دمشق حوالي مائة ميل1. وآن لمحمد بعد كل ذلك أن يستقر بالمدينة عدة أشهر متتابعة وجد فيها فسحة ليقوم بإتمام التنظيم الاجتماعي لهذه الدولة الإسلامية الناشئة في دقة وحسن سياسة، ويوحي إليه ربه منه ما يوحي، ويقر هو ما يتفق وتعاليم الوحي وأمره، ويضع من تفاصيل ذلك ما كان موضع التقديس من أصحابه، وما أشربته نفوسهم لتحمله بعد ذلك للدنيا. فيكون منارها وهاديها عدة قرون متتالية تستقر به حضارة لم يعرفها العالم من قبل. ترى أكان أعداء محمد تاركيه آمنًا في جماعته يضع لها هذا التنظيم دون أن يدخلوا معه في جولة فاصلة يحشدون لها كل قوتهم وما يستطيع أن يصل إليه مكرهم وكيدهم، ليقروا مصيره ومصيرهم بعد هذا الصراع الدامي الذي أوشك أن يدمر كل   1 ابن هشام 160- 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 قوتهم المادية والمعنوية، والذي رأوا نتائجه تتجه إلى مصلحة محمد وتوشك أن تقر سلطان دولته في هذه المنطقة الحيوية من شبه جزيرة العرب إقرارًا نهائيًّا. وكان اليهود الذين أخرجهم محمد من المدينة أبصرَ خصومِ محمد بتعاليمه وبتقدير مصير دعوته. وكانوا أكثر تقديرًا لما يصيبهم من انتصاره واستقرار دولته، ولما كان خصوم محمد قد عجزوا عن القضاء عليه فرادى؛ فقد فكر اليهود من بني النضير وأهل خيبر في تكوين جبهة قوية يجتمع لها كل الخصوم، حتى تكون الجولة فاصلة مع هذا الرجل، وعلى هذا عقدوا العزم، وأخذوا على عاتقهم تدبير هذا الأمر وإعداده ليكون يوم الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 غزوة الأحزاب أو الخندق: اختمرت فكرة تأليب العرب على المسلمين في يثرب، في نفوس اليهود من بني النضير الذين لجأوا إلى خيبر بعد إجلائهم عن المدينة. وأرادوا لها أن تكون محاولة نهائية ومعركة حاسمة يخوضونها ضد محمد. وفي سبيل ذلك لم يدخروا جهدًا من حيلة أو مكر أو مال، وحتى تعاليم التوراة داسوها في سبيل هذا الغرض. وتنفيذًا لهذه الفكرة خرج نفر منهم، من بينهم حيي بن أخطب النضري وسلام بن أبي الحقيق وأخوه كنانة. ومعهم جماعة من يهود خيبر، حتى قدموا على قريش بمكة يحرضونها على قتال محمد، لكن قريشًا كانت قد بدأت تمل الحرب وبدأت جبهتها الداخلية تتضعضع وأخذ الحصار الاقتصادي يؤثر فيها تأثيرًا كبيرًا، جعلها تفكر في إعادة النظر في موقفها تجاه الدولة اليثربية التي أخذت عليها طريق تجارتها، وأثبتت حتى الآن أنها قادرة على الثبات والنمو؛ لذلك بدت مترددة غير واثقة من سلامة موقفها، ومن إحراز النصر على محمد، وظهر ذلك جليًّا من أسئلتها التي وجهتها لليهود، فقد سألتهم: أدينها خير أم دين محمد؟ وقد أجابها اليهود على ذلك بأن دينها خير من دينه وأنها أولى بالحق منه1. وبهذه الإجابة تنكر اليهود لمبادئ التوراة وكفروا بالوحدانية جريًا وراء حقدهم ومصالحهم، وقد نعى القرآن عليهم هذا الموقف ودمغهم بالكفر وأوجب عليهم اللعنة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء] . وفي موقف اليهود هذا وتفضيلهم الوثنية على التوحيد، يقول ولفنسون المؤرخ اليهودي: "وكان واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدى بهم   1 ابن هشام 3/ 229، 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الأمر إلى إجابة مطلبهم؛ لأن بني إسرائيل الذين كانوا منذ قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من الأدوار التاريخية. كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلًا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف معهم الخصومة"1 ثم أرادت قريش أن تستوثق من خطة اليهود فسألت حييًّا عن قومه من بني النضير، فقال: "تركتهم بين خيبر والمدينة يترددون حتى تأتوهم فتسيروا معهم إلى محمد وأصحابه. وسألوه عن قريظة فقال: "أقاموا بالمدينة مكرًا بمحمد حتى تأتوهم فيميلوا معكم2. ومازالوا بقريش يسهلون لها الأمر ويرغبونها حتى أخذوا وإياها موعدًا بعد أشهر يكونون قد جمعوا لها فيها الأحزاب من كل قبائل العرب. ثم خرج أولئك النفر من يهود من عند قريش ليتموا جولتهم في تأليب باقي قبائل العرب. خرجوا إلى غطفان، وبني مرة، وفزارة، وأشجع، وسليم، وبني سعد، وكل من له عند المسلمين ثأر يحرضونهم على الأخذ بثأرهم، ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد3 ويحمدون لهم وثنيتهم ويعدونهم النصر لا محالة. ولما جاء الموعد المضروب خرجت الأحزاب التي جمعها اليهود لحرب المسلمين، وقد بلغ جيشهم عشرة آلاف مقاتل مسلحين أفضل تسليح تملكه القبائل العربية في ذلك الوقت، ولديهم قوة كبيرة من الخيالة4 وكانت القيادة العليا لأبي سفيان. وبلغت أنباء هذا المسير محمدًا والمسلمين في المدينة ففزعوا له، إذ لم تكن المدينة تملك من القوة ما تستطيع به مواجهة هذا الحشد الكبير وبخاصة أن بطونًا منها لا تزال على شركها، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يطمئن تمامًا إلى بني قريظة وهم القبيلة الباقية   1 ولفنسون 143- 144. 2 الواقدي 290. 3 ابن هشام 3/ 230. الواقدي 790. الطبري 7/ 223. 4 ابن هشام 3/ 235. الطبري 2/ 246. إمتاع 1/ 210- 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 من اليهود، ولم يكن يكفي التحصن بالمدينة وحدها، ولا بد من اتخاذ خطة أحكم لمواجهة المواقف، وقد جاء الحل من اقتراح تقدَّم به سلمان الفارسي، فقد أشار بحفر خندق حول المدينة1. ووافق هذا الاقتراح هوىً في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- لسببين: الأول أنه يعوق تقدم العدو في هجوم عام، والثاني أنه يبرز نية النبي -صلى الله عليه وسلم- السلمية، فإنه لم يكن راغبًا في الحصول على مجد عسكري وإنما كانت الحرب عنده وسيلة لا غاية، فهو مع دقة تنظيمه ومهارته في القيادة يريد تسويد مبدأ السلم ما دام له عن القتال مندوحة، وكان تجمع كل هذه القبائل فرصة ليعلنهم جميعًا بنيته السلمية، ولكن في حيطة القائد وحذر المحارب، وَسَارَعَ فأمر بالبدء في حفر الخندق في شمال المدينة وهي الجهة التي يمكن أن تؤتى منها المدينة، أما باقي الجهات فهي حرات يصعب منها الهجوم ويسهل الدفاع، وعمل المسلمون بجد حتى أتموا حفر الخندق في ستة أيام، وحين أقبلت جموع العدو فوجئت بالخندق، فاستنكرت هذه الوسيلة التي لم تكن تعرفها من وسائل الدفاع واتهمت النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسملين بالجبن، وقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- بقواته من وراء الخندق، وكانت عدة من معه ثلاثة آلاف على قول بعض المصادر2 وتسعمائة على قول بعضها الآخر3. ولما لم تجد الأحزاب سبيلًا إلى اجتياز الخندق اكتفوا بتبادل الرمي بالنبال ريثما يفكرون في خطة لمعالجة هذا الموقف. واستطاع حيي بن أخطب أن يؤثر على بني قريظة، فأعلن هؤلاء قطع حلفهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- واستعدوا لمعاونة الأحزاب بفتح الطريق أمام جيوشهم أن تدخل المدينة من ناحية بني قريظة4 وهي جهة لم يشملها الخندق، ولكن النبي استطاع بمهارة أن يثبت الشك بين طوائف الأحزاب؛ فقد اتصل بغطفان وفاوضها على التراجع نظير ثلث ثمار المدينة، وإذا كان هذا الاتفاق لم يتم فإنه ثبط همم الغطفانيين، وألهب حماس الأنصار5، ثم بذر الشك بين اليهود والأحزاب6، وبذلك تفككت جبهة العدو،   1 الطبري 2/ 224. إمتاع 1/ 219، 220. 2 ابن هشام 3/ 230 الطبري 2/ 237. إمتاع 1/ 224. 3 جوامع السيرة 187. 4 ابن هشام 3/ 236- 238. 5 نفسه 3/ 239. 6 نفسه 3/ 247- 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 والواقع أن هذه الجبهة كانت تحمل في ثناياها عوامل التفكك، فقد كانت أغراض الحلفاء غير متفقة، فقريش تريد أن تقضي على الدولة اليثربية بالقضاء على محمد والمسلمين، وغطفان إنما قدمت مأجورة فقد وعدها اليهود ثمار سنة من خيبر1 والقبائل الأخرى جاءت مشايعة وليس لها غرض واضح، واليهود كانوا يبغون استعادة سلطانهم بالمدينة وليس من غرضهم أن تقع يثرب في يد قريش أو إحدى القبائل الكبيرة، وإلا جرُّوا على أنفسهم خصمًا جديدًا قد يطمع في الاستيلاء على هذه المنطقة الخصيبة، ومن هنا كان التفكك بين صفوف الأحزاب، فوق أن وحدة القيادة لم تكن تامة فكل زعيم على جماعته لا تخضع خضوعًا مطلقًا لقيادة أبي سفيان. فما كادت عوامل الشك والريبة تأخذ طريقها إلى قلوب الزعماء حتى انفض جمعهم، وأعانت الطبيعة على انهزامهم وتراجعهم، فقد كان الجو شتاء والبرد قارسًا، وهَبَّتْ عاصفة شديدة وهطلت أمطار لا عهد لهم بمثلها، فانجفلوا جميعًا راجعين لبلادهم2. وبذلك نجت المدينة من خطر شديد كان يتهددها، وكان تراجع الأحزاب هزيمة تمت بدون قتال، والهزيمة آتية لا عن طريق تحطيم الجيوش المعادية وإنما عن طريق تحطيم وحدتها وعن طريق بذر الشك بين رجالها، حتى لم يعد في الإمكان بعد هذا اليوم أن يتجمع خصوم المدينة على هذه الصورة، فقد أصبحت قريش تشك في ولاء القبائل العربية، كما أصبحت القبائل نفسها تشك في قدرة قريش وفي إمكانها التغلب على المسلمين، وقد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك تمام الإدراك حين قال: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا ونحن نسير إليهم" 3، كما أدرك رجاله هذا الموقف كذلك، ويتجلى ذلك في قول سعد بن معاذ زعيم الأوس الذي جرح في هذه المعركة: "اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخروجوه، اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرَّ عيني من بني قريظة"4، وحين رجعت الأحزاب حاصر النبي بني قريظة حتى استسلموا فأوقع بهم عقوبة الإعدام جزاء خيانتهم العظمى.   1 السمهودي 1/ 214. هيكل: حياة محمد: 136. ولفنسون 143. 2 ابن هشام 3/ 250، 251. 3 البخاري 5/ 110. 4 نفسه 112، 113. ابن هشام 3/ 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وبذلك خلصت المدينة للإسلام وتخلصت من أعدائها الداخليين؛ فقد ذل النفاق في المدينة وأصبح المنافقون يخشون رفع رءوسهم. ولم يعد النبي -صلى الله عليه وسلم- في حاجة كبيرة إلى التفكير فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 نتيجة الصراع أدى هذا الصراع المسلح بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وقريش إلى نتائج مهمة، فلقد ضعفت جبهة مكة ضعفًا ظاهرًا بعد أن استنفذت كل إمكانياتها الحربية والسياسية، وأصبحت تجارتها في حكم المتوقفة، فلحقتها لذلك أضرار مادية جسيمة، كما أن القبائل العربية بدأت تراجع موقفها بالنسبة لاستمرار تحالفها مع قريش أو التقرب للقوة الجديدة التي ظهرت في يثرب والتي استطاعت حتى الآن أن تصمد لخصومها، وأن توقع بهم الهزائم وتحول الموقف إلى جانبها. أما جبهة المدينة فقد ازدادت قوة وخصوصًا بعد أن أجلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قبائل اليهود أو قضى عليها، كما أن النفاق قد ضعف ولم يعد يسبب للنبي -صلى الله عليه وسلم- قلقًا، كذلك تحسنت الحالة الاقتصادية عند المسلمين بعد أن وضعوا أيديهم على أراضي اليهود في يثرب وبعد ما غنموه من غنائمَ ثم إن خطر العدو لم يعد مباشرًا بالنسبة للمدينة، فقد انحسرت القوة عن خصومها وقبعوا في معكسرين: أحدهما في الجنوب وهو معكسر قريش في مكة، والآخر في الشمال وهو معكسر اليهود في خيبر، ولم يعد من اليسير قيام الاتصال بين هذين المعسكرين والتعاون بينهما مرة أخرى بعد تراجع الأحزاب عن يثرب. غير أن هذا الصراع وإن كان قد أدى إلى تفوق يثرب وإضعاف قوة خصومها، إلا أنه شغل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التفرغ لنشر دعوته، كما أنه حال بينها وبين التغلغل في القبائل العربية، وبخاصة تلك التي شاركت في الصراع، فإن الحرب بطبيعتها تثير الحفيظة وتزكي التعصب في النفوس وتمنع من التفكير الهادئ السليم، وفي مثل جو الحرب لا تنشر المبادئ، ولذلك نزل القرآن يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- باللين والصبر واستعمال الحكمة والموعظة الحسنة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] والدعوة بالحسنى وتهيئة جو السلم والطمأنينة هو سبيل أصحاب الرسالات والدعوات والإصلاح في كل زمان ومكان وهذا الجو هو الذي سعي إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي التزمه طيلة الدور المكي من حياة الرسالة، وهو حين دخل الحرب بعد هجرته دخلها مضطرًّا، وألزم موقفها إلزامًا ومع ذلك فلم يفكر فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ولم يسعَ وراء مجد عسكري قط، وكان يقدم دعوة السلم قبل أن يدخل في القتال، حتى إذا ما استنفد وسائل السلم قاتل مكرهًا، ثم قاتل في أضيق الحدود، فلم يسرف على خصومه بعد نهاية المعركة. لم يجهز على جريح، ولم يقتل طفلًا ولا امرأة ولا شيخًا ولا معتزلًا لقتال، وفي المرات التي قسا فيها على بعض خصومة كانت القسوة ضرورة لا محيص عنها. فلما تحول الموقف بعد الأحزاب إلى صالح الدولة اليثربية وأصبح في إمكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ في يده موقف المبادأة، سعى إلى تهيئة جو السلم وتسويد مبدأ السلام، فمد يده إلى خصومه وأظهر منتهى المرونة والتسامح حتى تم بينه وبين قريش صلح الحديبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 صلح الحديبية في شهر شوال من سنة 6هـ، أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه أنه قد نوى زيارة البيت الحرام وأداء العمرة، ودعاهم للتأهب لتأدية هذه الزيارة مبشرًا إياهم بأنه رأى في المنام أنهم يدخلون المسجد الحرام محلِّقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون1، وفي الوقت نفسه بعث إلى الأعراب من حول المدينة ليشاركوا في هذه الزيارة2، وكانت حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوة الأعراب ممن ليسوا على الإسلام لمشاركة المسلمين في هذه الزيارة أن يؤكد لقريش أنه جاء معتمرًا ولم يجئ غازيًا بدليل أنه يوجد في صفوفه من العرب من ليس على دينه، وليؤكد لهم أن زيارة البيت الحرام فريضة عند المسلمين كما هي فريضة عند العرب، وأن المسلمين يعظمون البيت الحرام كما تعظمه العرب بل هم أشد له تعظيمًا وأكبر عندهم حرمة، وليؤكد لهم كذلك أن مكة سوف لا تفقد مكانتها التي تنالها من مقام البيت فيها، والتي تحرص قريش على بقائها وإلى جانب ذلك يكسب الرأي العربي إلى صفه، فهو يعظم الحرمات ويحرص على المقدسات، ولا يجانب الناس بل يسالمهم، وهو يحرص على الوحدة بين العرب ويعمل لها، وأن التَفَتُّت وجو الحرب ليس من صنعه بل هو من صنع خصومه الذين أرغموه عليه إرغامًا، بمحاربته وصده عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس جميعًا وأمنًا، وليكشف موقف قريش العدائي ليظهر خروجها عن المهمة التي كانت وكلت إليها. والتي تحصل من ورائها على مركزها بين العرب، وهي رعاية البيت الحرام وتهيئته للزائرين سواء منهم   1 {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح] ابن هشام 3/ 367. إمتاع 1/ 274. 2 ابن هشام 3/ 355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 العاكف والباد، إذ هي صدته وأصحابه عن زيارة البيت وأداء الفريضة التي هي حق للجميع. واستجاب المسلمون لنداء نبيهم، والفرحة تملأ قلوبهم، المهاجرون منهم والأنصار على السواء، أما المهاجرون فقد طردوا من وطنهم وحرموا من بلدهم ظلمًا وعدونًا ستة أعوام، حالت فيها قريش بينهم وبين زيارة هذا الوطن وألزمتهم جو العداوة والحرب، وأما الأنصار فقد حرموا من زيارة البيت الحرام الذي كان مهوى نفوس العرب جميعًا، كما تَحملوا جو الحرب بما فيه من إعنات ومن ضياع للأنفس والأموال، وها هي الفرصة تأتي ليعود المهاجرون إلى وطنهم زائرين وليعاودوا الاتصال ممن تركوا فيه من الأهل والإخوان، وليطفئ الأنصار حنينهم إلى بيت الله الحرام، وليخرجوا من جو الحرب إلى جو السلام. وأما الأعراب؛ فقد ظنوا أنها مغامرة يقوم بها المسلمون أن يزوروا مكة وأن قريشًا سوف تنتهزها فرصة للقضاء عليهم، ولن يصدها عن ذلك الشهر الحرام، ولا البيت الحرام، فقد لجت في الخصومة وبلغت بها إلى الشوط الأبعد الذي ليس بعده صلح ولا مسالمة، واعتبروا أن هذه سفرة بلا عودة، وعلى عادة الأعراب من الحذر أبطأوا فلم يستجيبوا لدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم1. وفي أول ذي القعدة -أول الأشهر الحرام- من سنة 6 هجرية2 خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في ألف وأربَعمائة3 من أصحابه متجهًا إلى مكة، يسوق أمامه الهدي سبعين بدنة وقد قلدها وأشعرها توكيدًا لنيته السلمية وقصده زيارة البيت4. ولم يحمل أحد من هؤلاء الرجال سلاحًا إلا ما يحمله المسافر من سيف في غمده 5. وعلمت قريش بمسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين إلى مكة فتشاور زعماؤها في الأمر، وعلى الرغم من مظهر السلم الذي سار به النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى الرغم من إعلانه نيته في العمرة وندائه بهذا بين العرب، فإن زعماء قريش أوجسوا خيفة من هذه الزيارة، فلربما تكون مكيدة أراد بها محمد أن يدخل مكة، وحتى إذا لم تكن مكيدة وكانت عمرة عادية فإن قريشًا قدرت ما يكون لو أن المسلمين اختلطوا بأهل مكة وحادثوهم وزال جو   1 ابن هشام 3/ 356. إمتاع 1/ 276. 2 ابن سعد 3/ 139. إمتاع 1/ 275. 3 ابن هشام: نفسه. ابن سعد: نفسه. 4 ابن هشام 3/ 356. ابن سعد 3/ 139. 5 ابن سعد: نفسه. إمتاع 1/ 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 التوتر بين الفريقين، واتصل المهاجرون بأهليهم والتقوا معهم؛ فإن الدماء عند ذلك تحن والأرحام تتقارب، ويحس السواد من أهل مكة بالحنين نحو أهليهم وذوي أرحامهم، ويحسون بمقدار الظلم الذي وقع عليهم بطردهم من وطنهم والتفرقة بينهم وبين أهليهم، وإذن لا بد أن يكسب محمد الجولة عليهم، ثم إن هناك عددًا من المسلمين حبسهم أهلهم بمكة وحالوا بينهم وبين الهجرة، وهم يعذبونهم بقصد فتنتهم، فماذا لو دخل المسلمون مكة فاتصلوا بهؤلاء المستضعفين وعملوا على تحريرهم من الظلم والإعنات الذي هم فيه. ووجد هؤلاء المعذبون ملجأ وملاذًا عند إخوانهم، إذن فستكون الحرب الأهلية في مكة، أو هي الفرقة والضعف، ورجال محمد في مكة يستطيعون أن ينتهزوا الفرصة للاستيلاء عليها. وإذن فمهما يكن غرض محمد ومظهره؛ فلا بد من الحيلولة بينه وبين دخوله مكة، مهما يكن الأمر ومهما يكن الثمن، حتى ولو كانت الحرب في الأشهر الحرام أعنف الحرب، على ذلك صمم زعماء قريش ومن أجل ذلك أعدوا جيشًا قويًّا بلغ عدد فرسانه مائتين، وقدموه للقاء محمد ومنعه من دخول مكة. وتقدمت فرسان قريش على رأسها خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى كراع الغميم على نحو عشرة أميال من مكة1. وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بمسيرة جيش قريش لمنعه، فأخذه الأسى لموقف قريش ولددها في الخصومة مع أن ما بينها وبينه من لحمة الدم والقرابة كان خليقًا أن يجعلها تقاربه وتنتصر له. بدل أن تخاصمه هذه الخصومة العنيفة التي أعمتها عن موقف الحكمة، وأبعدتها عن الحلم الذي اشتهرت به بين العرب، فقال: "يا ويح قريش!! لقد أهلكتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟! فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة" 2. وبينما كان محمد يفكر في أمر قريش ويستعرض موقفها، كان فرسانها منه على مرأى النظر، يدل منظرهم على أنه لا سبيل للمسلمين إلى دخول مكة إلا أن يقتحموا هذه الصفوف اقتحامًا، ولكن محمدًا ما جاء محاربًا؛ وإنما جاء لتقرير مبدأ السلم ولذلك مال بأصحابه وسلك طريقًا آخر تجنب به قوات قريش وأوصلهُ إلى الحديبية،   1 ابن هشام 3/ 356. إمتاع 1/ 378. ابن سعد 3/ 139. 2 ابن هشام 3/ 356، 357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وهي أقرب حدود الحرم إلى مكة1، وهناك نزل بأصحابه ينتظر ما يكون من قريش. وفكرت قريش أن ترسل إلى المسلمين من يستطلع حالهم من ناحية ومن يحاول صدهم عن دخول مكة بدون حرب من ناحية أخرى، وأرادت أن تشرك القبائل المجاورة لمكة وأن تشرك الأحابيش، حتى إذا ما كان الموقف يتطلب قتالًا وقفوا معها وأعانوها، وقدرت أن محمدًا قد يسيء إلى الرسل الذين ترسلهم إليه من رجالها ومن رجال القبائل ومن الأحابيش فيحفظهم هذا فيتحمسون لنصرة قريش. لكن محمدًا أحسن مقابلة الرسل الذين أرسلتهم قريش من خزاعة ومن ثقيف ومن الأحابيش2، واستطاع أن يقنعهم بالحجة مرة، وبالمظهر العملي مرة أخرى -كما فعل مع سيد الأحابيش؛ فإنه أطلق الهدي أمامه3- بنيته السلمية وبأنه جاء معتمرًا للبيت ولم يجئ غازيًا ولا معتديًا حتى لقد اشمأز بعض هؤلاء الرسل من تصرف قريش ومن عنتها، كما فعل الحليس سيد الأحابيش، فقد قال لقريش حين عاد من عند محمد: "يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاء معظمًا له؟! والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء به أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد"4. وبذلك كسب محمد هذه الجولة من قريش، وألزمها بأن تدخل معه في مفاوضات سلمية؛ وإلا ظهرت بمظهر المتعنت أمام حلفائها وأمام العرب. وبالرغم من مناوشات قريش ومن اعتداءات سفهائها على المسلمين، ومحاولتهم النيل منهم؛ فقد التزم المسلمون جانب السلم وسود النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمة التقوى5، وكان المسلمون أحق بها وأهلها، وكلمة التقوى تساوي كلمة السلم، وهو المبدأ الإسلامي الذي جاء يقابل مبدأ الجاهلية وهو الحمية التي تقابل العصبية -حمية الجاهلية-. ولما جاء رسول قريش وهو سهيل بن عمرو مفوضًا لعقد الصلح أظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا من المرونة والتساهل، ولم يحفل بالشكليات بل كان همه في المسألة جوهرها، حتى لقد أغضب موقفه اللين كثيرًا من رجاله وأثار اعتراضهم6، وحتى اندفع عمر بن   1 ابن هشام 3/ 357. امتاع 1/ 284. 2 ابن هشام 3/ 359- 362. إمتاع 1/ 286- 288. 3 ابن هشام 3/ 360. إمتاع 1/ 288. 4 نفسه 3/ 260. إمتاع 1/ 286. 5 ابن هشام 3/ 263. إمتاع 1/ 290. 6 ابن هشام 3/ 365- 367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الخطاب يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- معترضًا: "يا رسول الله، ألسنا بالمسلمين؟! ألسنا على الحق؟! فلِم نعطي الدنية في ديننا؟! 1". لم يحفل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشكليات التي تمسك بها رسول قريش، ولم يساير حماسة رجاله، وقدم كثيرًا من التسهيلات حتى تم عقد الصلح بين الطرفين، وكانت أهم شروطه2: 1- أن يرجع محمد والمسلمون عن دخول مكة هذا العام، على أن يعودوا في العام القادم فتخلي لهم قريش مكة ثلاثة أيام يؤدون فيها العمرة. 2- أن تعقد بين الطرفين هدنة مدتها عشر سنوات في قول، وسنتان -في قول آخر وهو ما نرجحه- يأمن كل من الطرفين صاحبه، ويكف بعضهم عن بعض، وأن بينهم عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال3. 3 - أنه من أراد من القبائل الدخول في حلف محمد دخل، ومن أراد الدخول في حلف قريش دخل، على أنه يسري على المُتَحَالِفِين ما يسري على المتعاقدين. 4- أنه من جاء محمدًا من أهل مكة بدون إذن وليه ردَّه إليهم ومن جاء إلى قريش من أصحاب محمد لم يردوه. والشرط الأخير هو الذي أثار اعتراض المسلمين وأغضبهم، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمضى العقد واعتبر الوصول إلى السلم هدفًا يصغر إلى جانبه كل شيء، وعدَّه فتحًا مبينًا، ونزل القرآن الكريم بهذا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح] . والحقيقة أن الحديبية كانت فتحًا مبينًا لا يقل في أثره وعظمته عن أكبر معارك الإسلام، وإذا كانت بدر قد ثبتت قواعد الدولة الناشئة؛ فإن الحديبية قد فتحت أمامها المجال لتصل إلى الهدف الذي كان النبي يرمي إليه، وهو توحيد العرب في دولة واحدة، تكون نواة لدولة إسلامية كبرى تشمل الإنسانية وتحقق رسالة العدالة والخير لبني الإنسان على الأرض، وانفتح بصلح الحديبية المجال أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتابع إبلاغ رسالته للناس جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها.   1، 2 نفسه. 3 عيبة مكفوفة: أن يكف بعضهم عن بعض، الإسلال: السرقة الخفية، الإعلال: الخيانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وقد أتاح صلح الحديبية للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوجه نظره إلى إكمال خطته في إقرار الأمن للمسلمين في جزيرة العرب، والقضاء على كل عناصر المقاومة التي تقف في سبيل توحيد الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام ثم الاتجاه بالدعوة إلى العالم الخارجي، إلى المجال الإنساني؛ فإن محمدًا لم يُرسَل للعرب وحدهم، وإنما أرسل بشيرًا ونذيرًا للناس كافة. وقد أظهر محمد من بُعد النظر ودقة التقدير ما تفوَّق به على خصومه، وما فاق به تفكير أصحابه على السواء، فإن شروط عهد الحديبية وإن بدت لأول وهلة في مصلحة قريش، فإن الأيام ما لبثت أن كشفت عن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ذهب فيها بالنصيب الأوفر، وحقق فيها وبواسطتها أهدافه الكبرى، فقد أتاح هذا العهد لمحمد والمسلمين أن يدخلوا مكة في العام القادم آمنين مطمئنين، وأخلت لهم قريش البلد الحرام1، وقد كان لهذا أثره الخطير في مكة نفسها. فإن أهلها رأوا من تضامن المسلمين وترابطهم وتعاونهم وتعاطفهم وحسن نظامهم والتفاهم بينهم واقتدائهم بنبيهم، ما جعلهم يدركون أن مثل هذه الجماعة لا يمكن الوقوف في وجهها، وليس من أمل في التغلب عليها، حتى لقد كانت عمرة القضاء قضاء تامًّا على روح العناد والمقاومة في قريش، وحتى لقد أدرك عقلاؤها أنه من الخير الانضمام إلى محمد، يتمثل ذلك في إسلام خالد بن الوليد، وخالد رجل له مكانته العظيمة في قريش فهو بطلها المعلم وفارسها في يوم أحد. وكان خالد قائدًا بصيرًا يدرك أين تكون الكفة الراجحة، ولقد أدرك خالد هذا في عمرة القضاء فلم يلبث أن أعلن إسلامه. وبعث بهداياه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-2 ولم يسلم خالد في صمت بل قال على ملأ من قريش: "لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بشاعر ولا ساحر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق على كل ذي لب أن يتبعه3. ولقد هم أبو سفيان أن يثور بخالد ويؤلب قريشًا لقتله، فقال عكرمة بن أبي جهل: "مهلًا يا أبا سفيان، أنتم تقتلون خالدًا على رأي رآه، وهذه قريش كلها قد بايعت عليه. والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم4.   1 ابن هشام 3/ 424- 427. 2 الواقدي 311. 3 نفسه. 4 ابن هشام 3/ 319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وهكذا كانت عمرة القضاء التي هي شرط من شروط صلح الحديبية فتحًا لقلوب أهل مكة وأبصارهم، وكما أسلم خالد أسلم رجلان آخران لهما أهمية ولهما خطورة وهما: عمرو بن العاص داهية قريش الذي لا يقل بصرًا بالأمور عن خالد، وعثمان بن طلحة حارس الكعبة1، وبإسلام هؤلاء الثلاثة أسلم عدد كبير من أهل مكة وأصبحت مكة في حكم البلد الذي فتح أبوابه للدعوة الإسلامية، ولم يبق إلا أن تفتح أبوابها وتسلم القيادة للمسلمين. كما أن هذا الصلح قد أتاح لبعض القبائل فرصة الدخول في عقد محمد وبالانضمام إلى صفوفه صراحة. وبخاصة قبيلة خزاعة التي كان جزء كبير من الأحابيش الذين كانت تعتمد عليهم من بطونها2، وبذلك ضم محمد جزءًا كبيرًا من هذه القوة إلى جانبه وأضعف بذلك مركز قريش الحربي إلى حد كبير. ثم إن الهدنة قد أتاحت لمحمد فرصة العمل بحرية وهو آمن، بعد أن أمن جناحه الجنوبي من ناحية قريش، فانصرف في اطمئنان ليقضي على القوة الأخرى المعادية التي كانت تقوم في جناحه الشمالي، وهي قوة اليهود الذين تركزوا في خيبر والذين أخذوا يَعُدون العدة ويعملون على تكوين حلف يهودي يضم يهود خيبر ووادي القرى وتيماء، لتكوين قوة كبيرة من اليهود لمهاجمة المدينة دون اعتماد على القبائل العربية التي فشلت في مهاجمة المدينة في موقعة الأحزاب. وقد استطاع أن يهاجم خيبر وينتصر عليها وعلى حصونها القوية، على الرغم مما بذله اليهود من مقاومة عنيفة مستميتة3، وبالقضاء على قوة اليهود في خيبر أمن النبي -صلى الله عليه وسلم- جناحه الشمالي، وبدأت القبائل التي كانت تناوئ المدينة تراجع موقفها وتسعى للانضمام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى لم يمض عامان إلا والإسلام قد انتشر انتشارًا سريعًا في هذه القبائل وحتى انضمت إليه انضمامًا كاملًا لدرجة أنه عند فتح مكة في عام 8هـ، كان رجال هذه القبائل يؤلفون القوة الكبرى في الجيش الذي تقدم لفتح مكة. فقد قدمت سليم ألف فارس، وقدمت مزينة ألف مقاتل، كما قدمت جهينة ثمانمائة، وقدمت بنو كعب وبنو ليث وأشجع وغفار أكثر من ألفي مقاتل، وهكذا بعدت القبائل عن قريش بالدرجة التي تقربت منها من النبي -صلى الله عليه وسلم-4، وكانت هذه الأعداد الضخمة من   1 إمتاع 1/ 341- 344. 2 ابن هشام 3/ 366. 3 ابن هشام 3/ 387 وما بعدها. 4 إمتاع 1/ 364- 373. جوامع السيرة 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الرجال دليلًا على مدى انتشار الإسلام بين هذه القبائل انتشارًا كبيرًا فاق كل عدد وصل إليه المسلمون في السنوات السابقة منذ البعثة إلى عهد الحديبية، ثم إن الشرط الأخير الذي أرضت به قريش غرورها والذي غضب من أجله المسلمون وعارضوه، ما لبث أن ظهر أنه في غير مصلحة قريش وأنه كان وبالًا عليها والرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قبله كان سياسيًّا بعيد النظر، وكان حكيمًا عالمًا بما يصلح الدولة في داخلها، فإنه ليس من مصلحة الدولة أن يكون بين صفوفها من لا يؤمن بمبادئها، ومن كان هواه مع أعدائها، وكانت قريش قصيرة النظر حين حبست بعض المسلمين في مكة ومنعتهم من الهجرة وعملت على فتنتهم عن دينهم بالقوة؛ فقد استمسك هؤلاء بدينهم برغم تعذيب قريش، وكانوا نقطة ضعف داخل الدولة المكية، كانوا طابورًا خامسًا -كما نعبر عنه في عصرنا الحديث- وكانوا إلى جانب ذلك يعذبون ضمير أهل مكة ويشعرونهم بالإثم دائمًا، وخصوصًا إذا قدرنا قوة عصبية الأرحام، وذوي القربى، وإذا كان الزعماء يرضون هذا لمصلحة الدولة كما ظنوا ويرغمون العامة على قبول عملهم وتساعدهم على ذلك حالة الحرب، فإن عواطف الناس كانت في غير هذا الصف، وخصوصًا بعد أن أشاع صلح الحديبية جوًّا من السلم وأتاح للعواطف أو الرأي أن تنفس عن نفسها، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى أن مصلحة دولته تقتضيه أن يتخلص من خصوم مبدئها أو على الأقل لا يتمسك بهم بين صفوفه؛ لذلك وافق على ألا يرجع إليه من يخرج من صفوفه إلى العدو. على أنه لم يخرج من صفوف المسلمين أحد إلى مكة، وخرج من صفوف قريش بعض المسلمين فارين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما ردهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة كانوا وبالًا عليها، وأصدق شاهد على ذلك قصة أبي بصير بن أسيد حليف بني زهرة، فإنه بعد صلح الحديبية فر إلى المدينة، فكتب أولياؤه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلبون رده، وأرسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلين يعودان به؛ فسلمه النبي للرجلين وفاء بشروط الصلح، فلما كان في بعض الطريق احتال على الرجلين حتى أخذ من أحدهما سيفه فقتله به، وفر الآخر إلى المدينة ولحق به أبو بصير، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، وفت ذمتك، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويل أمه، محش حرب لو كان معه رجال" فخرج أبو بصير حتى نزل بمكان يقال له العيص على ساحل البحر، وكان طريق قريش إلى الشام، فسمع به من كان بمكة من المسلمين فلحقوا به، حتى كان في عصبة من المسلمين قريب من ستين أو سبعين رجلًا وكانوا لا يظفرون برجل من قريش إلا قتلوه، ولا يمر بهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت فيهم قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 يسألونه بأرحامهم إلا آواهم، فلا حاجة لهم به، ففعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدموا عليه المدينة، وهكذا جر هذا الشرط وبالًا على قريش فقد تكونت ضدها عصابة خطيرة خرجت عن التبعية لها، وكذلك لم تدخل في تبعية المدينة فلم تكن تُسْأل عنها ولا عن أعمالها، فألحقت بقريش ضررًا فادحًا دعاهم إلى أن يرجوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يئوي هذه الجماعة وأن يقبل إلغاء هذا الشرط1. وهكذا أثبتت الحديبية بُعد نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلامة تقديره، وكانت آية من آيات السياسة الحكيمة والدبلوماسية الفذة، حتى اعتبرت فتحًا مبينًا فاق في كل نتائجه أعظم الفتوح الحربية؛ فإنه لم يفتح البلاد وحدها وإنما فتح العقول والقلوب للدين الجديد ومهد للفتح الأعظم بعد ذلك بسنتين، وهو فتح مكة فتحًا سلميًّا، وانضمامها إلى الدولة الإسلامية، وما أعقب ذلك من توحيد العرب، ودخول الناس في دين الله أفواجًا.   1 ابن هشام 3/ 373. إمتاع 3/ 304، 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الفصل الثاني: الصراع بين المسلمين واليهود لا شك أن اليهود في المدينة كانوا على علم بما تم بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين الأوس والخزرج من اتفاق في بيعة العقبة الكبرى، ولم يكن في مقدورهم أن يمنعوا هذا الاتفاق أو يقفوا ضده، فإن القوة في المدينة كانت في يد العرب، وكانوا يستطيعون أن يدخلوا في المدينة من شاءوا دون أن يخشوا اعتراض اليهود عليهم، وكانت حالة يثرب الداخلية تتطلب عنصرًا خارجيًّا يستطيع أن يوحد بين عناصرها المختلفة، ويقيم بينها نوعًا من التوازن يعيد إليها السلام الذي حرمته زمنًا طويلًا بتنازع طوائفها المختلفة وكان اليهود يرصدون الأحوال ويراقبون تطور الحوادث، ولم يدُرْ في خلدهم في أول الأمر أنه سيحدث ما يوجه الأمور ضد مصالحهم، بل لعلهم كانوا يعتقدون أن قدوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب في مصلحتهم؛ فقد ظنوا أن في مقدورهم استمالته إليهم وإدخاله في حلفهم، فإنه يدعو إلى ديانة تتفق في جوهرها مع عقائدهم، ولو أفلحوا في ضمه إليهم لربما استطاعوا أن يعيدوا إلى أنفسهم مركز التفوق في يثرب، وربما استطاعوا به بعد توحيد بطون المدينة وجعلها كتلة واحدة أن يجعلوا منها مدينة قوية، تستطيع أن تسيطر على الحركة الاقتصادية وتنافس مكة وتتغلب عليها، وربما تمكنوا من تأليب جزيرة العرب حتى تقف في وجه النصرانية التي تغلبت على اليهود وأجلتهم عن فلسطين. لعل هذه الآمال كلها كانت تجول في نفوس اليهود في يثرب حين قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها؛ ولذلك أحسنوا استقباله وبادر هو إلى رد تحيتهم بمثلها وإلى توثيق صلاته بهم، فتحدث إلى رؤسائهم وتقرب إلى كبرائهم، وربط بينه وبينهم برابطة المودة باعتبارهم أهل كتاب موحدين، وبلغ من ذلك أن كان يصوم يوم صومهم1، وكانت قبلته في الصلاة ما تزال إلى بيت المقدس قبلة أنظارهم ومثابة بني إسرائيل جميعًا2، وقامت علاقة طيبة بين أصحابه من المهاجرين وبين اليهود حتى ليغشون مجالسهم ويذهبون إلى بيوت مدارسهم يتحدثون إليهم، ويسألونهم ويسمعون منهم، ويرون التوارة تصدق القرآن والقرآن يصدق الترواة3. وما كانت الأيام لتزيد النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين باليهود أو لتزيد اليهود بهم إلا مودة وقربى، حتى وصل الأمر بينهم إلى عقد معاهدة صداقة   1 الموطأ 147، 148. 2 ابن هشام 2- 37 "هامش الروض". 3 تفسير الطبري 2/ 381، 382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وتحالف وتقرير لحرية الاعتقاد؛ ولئن لم يشترك في توقيع هذه المعاهدة بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع فإنهم لم يلبثوا أن وقعوا بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- صحفًا مثلها. وبهذه الصحيفة التي قررت حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة، استقرت الأحوال في يثرب وأصبحت حرمًا لأهلها، عليهم أن يدافعوا عنها، وأن يتكافلوا فيما بينهم لاحترام ما قررت هذه الوثيقة من الحقوق، وبدت المدينة وكأنما تسير إلى ما كان ينشده لها أهلها من هدوء وتقدم، وبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يمثل فيها روح النظام والاستقرار، وكان هو القدوة في حسن المعاملة والتواضع والعدل، وقد ترك ذلك في النفوس عميق الأثر، حتى لقد أقبل كثيرون على الإسلام، وزاد المسلمون في المدينة شوكة وقوة، وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى بناء دولته وضمان الأمن لها في الداخل والخارج، ونجحت السرايا التي أرسلها إلى ما حول المدينة في تأمين ريفها وعقد المحالفات لها مع القبائل الضاربة على جنباتها. هنالك بدأ اليهود يفكرون من جديد في موقفهم من محمد وأصحابه لقد عقدوا معه عهدًا، وكانوا يطمعون في ضمه إلى صفوفهم ليزدادوا به قوة؛ ولكنه أصبح هو أقوى منهم، وإنه ليتجه بقوته إلى المجال الخارجي، ويعمل على توسيع نطاق دعوته ونفوذه، أفيتركونه يمد سلطانه وينشر دعوته على هذا المدى الواسع، ويكتفون بالأمن في جواره أمنًا يمكِّن لمصالحهم المادية أن تتسع؟ لعلهم كانوا يقنعون بذلك لو أمنوا أن دعوته لا تمتد إلى اليهود ولا تفشو في عامتهم، على حين تقتضيهم تعاليمهم ألا يعترفوا بنبي من غير بني إسرائيل. لكن رجلًا من علمائهم وأحبارهم هو عبد الله بن سلام القينقاعي1 لم يلبث حين اتصل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أن أسلم هو وأهل بيته وجابَهَ اليهود بإسلامه ودعاهم إلى الإسلام2، وهنا أجمع اليهود أمرهم أن يكيدوا لمحمد وينكروا نبوته. وما أسرع أن اجتمع إليهم من بقي على الشرك من الأوس والخزرج، ومن دخل في الإسلام منهم بظاهره جريًا وراء مغنم أو إرضاء بصحبة لم يقوَ على مخالفتها. وهنا بدأت حروب جدل بين النبي -صلى الله عليه وسلم- واليهود كانت أكثر لددًا ومكرًا من حرب الجدل التي كانت بمكة بينه وبين قريش؛ فقد حشد اليهود لها ما استطاعوا من أنواع الدسيسة والنفاق، وما كان لديهم من علم بأخبار الأنبياء والمرسلين، يهاجمون بها محمدًا ورسالته وأصحابه من المهاجرين والأنصار. دسُّوا من أحبارهم من أظهر إسلامه وأخذ يجالس المسلمين ويظهر الورع والتقوى، ثم يلقي على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأسئلة ما يحسبه يثير الشكوك والريب ويزعزع في نفوس المسلمين عقيدتهم به   1 أسد الغابة: 3/ 176. 2 ابن هشام: 3/ 25 "هامش الروض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وبرسالته، ويتعنتون ويأتون باللبس، ليلبسوا الحق بالباطل وكان القرآن يجيبهم فيما يسألون عنه1. وانضم إليهم جماعة المنافقين من الأوس والخزرج ليسألوا ويشاركوا في الوقيعة بين المسلمين2 وكانوا يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم، وفطن المسلمون لأمر خصومهم وعرفوا غاية سعيهم؛ فلما رأوا جماعة منهم بالمسجد ذات يوم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم فأخرجوهم من المسجد إخراجًا عنيفًا3؛ لكن هذا لم يثن اليهود عن سعيهم ووقيعتهم بين المسلمين، وغاظهم أن يجتمع أمر الأوس والخزرج على الإسلام وتقوم الألفة بينهم عليه، فأرادوا أن يثيروا الأحقاد القديمة ليوقعوا بينهم العداوة والبغضاء. مر أحدهم -شاس بن قيس- على نفر من الأوس والخزرج من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم، وقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، وأمر فتى شابًّا من اليهود -كان معه- أن يجلس بينهم وأن ينتهز فرصة يذكر فيها يوم بعاث وما كان من الأوس والخزرج فيه. وتكلم الفتى فذكر القوم ذلك اليوم وتنازعوا وتفاخروا واختصموا، وكاد الشر يقع بينهم لولا أن سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه، فذكرهم بما ألف الإسلام بين قلوبهم وجعلهم إخوانًا متحابين، ومازال بهم حتى بكى القوم وعلموا أنها من نزغات الشيطان وكيد عدوهم4. وبلغ الجدل بين محمد واليهود مبلغًا من الشدة يشهد به ما نزل من القرآن فيه، فقد نزل إحدى وثمانون آية من سورة البقرة، كما نزل قسم كبير من سورة النساء، وكله يذكر هؤلاء اليهود، وإنكارهم ما في كتابهم، ويلعنهم لكفرهم وإنكارهم أشد اللعنة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة] 5.   1 ابن هشام 2/ 24، 35. 2 نفسه 27- 29. 3 نفسه 29. 4 ابن هشام 2/ 39، 40. 5 انظر تفسير الطبري 2/ 333، ابن هشام 2/ 190، ابن كثير 1/ 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وبلغ الجدل بين المسلمين واليهود حدًّا كان يصل أحيانًا إلى الاعتداء بالأيدي، وحسبك لتقدر هذا أن تعلم أن أبا بكر، على ما عرف عنه من دماثة الخلق ولين الطبع وطول الأناة، تحدث إلى يهودي يدعى: فنحاص، يدعوه إلى الإسلام، فرد فنحاص بقوله: "والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان غنيًّا عنا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان غنيًّا ما أعطانا الربا". وفنحاص يشير هنا إلى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] ولم يطِق أبوبكر صبرًا على هذا الجواب فغضب وضرب وجه فنحاص ضربًا شديدًا، وقال: "والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله". وشكا فنحاص أمره إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنكر ما قاله لأبي بكر فنزل قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران] 1. ولم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج، ولم يكفهم فتنة الناس عن دينهم ومحاولة ردهم إلى الشرك دون تهويدهم، وصدهم من يريد الإسلام من المشركين، بل حاولوا فتنة النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه؛ ذلك أن أحبارهم وأشرافهم وسادتهم ذهبوا إليه وقالوا: "يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم وإنا إن اتبعناك اتبعتك يهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة؛ أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك؟ " فأبي ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله فيهم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة] 2. ثم أخذوا في أسئلة منكرة، عن الساعة ومتى ميعادها؟ وعن وحدانية الله أهي حقيقة؟ وإذا كان الله قد خلق الخلق فمن خلق الله. ومن هذه الأسئلة التي يقصد بها التشكيك والتضليل بقصد الفتنة والبلبلة3.   1 ابن هشام 2/ 187. 2 ابن هشام 2/ 196، 197. المائدة 49، 50. 3 ابن هشام 2/ 198- 202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وحين ضاق اليهود ذرعًا بمحمد فكروا في أن يقنعوه بالجلاء عن المدينة كما أجلته قريش عن مكة، فذكروا له أن من سبقه من الرسل ذهبوا إلى بيت المقدس وكان مقامهم به، وأنه إن يكن رسولًا حقًّا فجدير به أن يصنع صنيعهم وأن يعتبر المدينة وسطًا في هجرته بين مكة وبيت المقدس، لكن محمدًا أدرك ما يرمون إليه، وأوحى الله إليه على رأس سبعة عشر شهرًا من مقامه بالمدينة أن يجعل قبلته المسجد الحرام بيت إبراهيم وإسماعيل {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة] . وأنكر اليهود ما فعل، وأدركوا أن هذا العمل ينطوي على موقف خطير. فإن اتخاذ القبلة إلى بيت الله الحرام بمكة فيه جذب كبير لقلوب العرب، فإن الكعبة محط أنظارهم وموضع تقديسهم وإكبارهم فإذا اتخذها محمد قبلته كان في ذلك إرضاء للروح العربية، وقد يؤدي هذا إلى انجذاب العرب نحو الدين الذي يتخذ قبلتهم قبلته، وفيه كذلك تقرب لمكة التي كانت في عداء مع محمد، وقد يؤدي هذا إلى تقارب وجهة النظر بين قريش والنبي -صلى الله عليه وسلم- فيلتئم شمل قريش ومن خلفها العرب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيضيع اليهود في غمرة هذا الاجتماع؛ لذلك أنكروا هذا وحاولوا فتنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى بقولهم: إنهم يتبعونه إن هو رجع إلى قبلته الأولى، فنزل القرآن الكريم: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة] . في هذا الوقت الذي اشتد فيه الجدل بين محمد واليهود، وفد على المدينة وفد من نصارى نجران عدتهم ستون راكبًا، فيهم أشرافهم ومن يئول إليه أمرهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، ولعل هذا الوفد إنما جاء إلى المدينة في هذا الوقت طمعًا في أن يزيد الخلاف شدة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- واليهود، حتى يبلغ به حد العداوة، فيريح النصرانية المتاخمة في الشام واليمن من دسائس اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وعدوان العرب على السواء، واجتمعت الأديان الثلاثة الكبرى بمجيء هذا الوفد وبجداله النبي -صلى الله عليه وسلم- وبقيام ملحمة كلامية عنيفة بين اليهودية والمسيحية والإسلام. فأما اليهود فكانوا ينكرون رسالة عيسى ومحمد إنكارًا فيه عنت وفيه مكابرة، ويزعمون أن عزيرًا ابن الله. وأما النصارى فيقولون بالتثليث وبألوهية عيسى، وأما محمد فيدعو إلى توحيد الله توحيدًا مطلقًا، وأن الرسالات جميعًا تمثل وحدة روحية واحدة من أزل الوجود إلى أبده، وكان اليهود والنصارى يسألونه عمن يؤمن بهم من الرسل فيقول كما نزل القرآن: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة] وينكر عليهم أشد الإنكار كل ما يلقي أية شبهة على وحدانية الله، ويذكر لهم أنهم حرفوا الكلم مما في كتبهم عن مواضعه، وأنهم غيروا مبادئ الرسل والنبيين الذين يقرون لهم بالنبوة، وأن ما جاء به موسى وعيسى ومن سبقهم لا يختلف في شيء عما جاء هو به؛ لأن ما جاءوا به جميعًا هو الحقيقة الخالدة التي تتكشف لكل من نزه نفسه عن الخضوع لغير الله، ونظر في الكون نظرة سامية فوق أهواء الدنيا مجردة عن الخضوع الأعمى للأوهام ولما وجد عليه آباءه وأجداده، ثم يلقي عليهم الصيغة التي أنزل الله عليه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنَ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران] . فماذا يمكن لليهود والنصارى أن يقولوا في هذه الدعوة؛ فأما النفس التي كرمت بالعقل، وأما الروح الخالصة الصادقة فلا تستطيع إلا أن تؤمن بهذا دون غيره، لكن للحياة البشرية جانبها المادي الذي يجعل الإنسان يضعف لإغراء المادة فيخضع لها، هذا الجانب المادي المصور في المال والجاه والسلطان وفي كاذب الألقاب هو الذي جعل أبا حارثة أكبر نصارى نجران علمًا ومعرفة يدلي إلى رفيق له بأنه مقتنع بما يقول محمد، فلما سأله رفيقه: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ كان جوابه: "ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى"1.   1 ابن هشام 2/ 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهود والنصارى إلى هذه الدعوة أو يلاعن النصارى، أما اليهود فقد كان بينه وبينهم عهد الموادعة؛ لكن النصارى خافوا عاقبة الملاعنة ورأوا ألا يلاعنوه، وأن يتركوه على دينه ويرجعوا على دينهم، لكنهم رأوا حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على العدل فطلبوا إليه أن يبعث معهم رجلًا يحكم بينهم في أشياء اختلفوا عليها من أقوالهم، وبعث معهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا عبيدة بن الجراح ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه1. وهكذا اشتد النفور بين المسلمين واليهود في المدينة وكثرت بينهم المخاصمات وبدت الكراهية والبغضاء، حتى نزل القرآن ينهى المسلمين عن الاختلاط باليهود واتخاذ بطانة لهم منهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران] 2. ونزل يحذرهم من القعود معهم والدخول في مجالات دينية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء] . فنجم عن ذلك أزمة بين المسلمين واليهود جعلت تشتد يومًا بعد يوم. ولم يمض أكثر من ثمانية عشر شهرًا من قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب حتى تلبد الجو بالغيوم الكثيفة بين الطرفين، وجعل كل فريق يتواصى بالحذر والنفور من الفريق الآخر. وقد استمرت هذه الأزمة الشديدة إلى يوم موقعة بدر. رأينا -من قبل- أن الصحيفة التي كتبها النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار على رأس سنة من قدومه إلى يثرب، ووادع فيها اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، قد ذكرت البطون اليهودية الصغيرة التي كانت في ذلك الوقت قد اندرجت في البطون العربية وصارت تعد منها بحسب العرف القبلي، ولذلك ذكرتها الصحيفة لا بأسمائها، ولكن بأسماء البطون العربية التي تتبعها، أما قبائل اليهود الثلاث الكبرى   1 نفسه 215. انظر هيكل: حياة محمد من ص: 218- 235. 2 ابن هشام 2/ 186، 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وهي: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، فلم يجئ لها ذكر في الصحيفة، وإن كان قد وُضِعَ بند عام يسمح بإلحاق هذه القبائل فيما بعد: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم" ثم وقعت بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين هذه القبائل عهود أشار إليها المؤرخون وإن لم يذكروا نصها1، ويبدو أن نصوصها لم تكن تختلف عن الجوهر العام لنص الصحيفة، والأرجح أن هذه القبائل اليهودية لم تعاقد النبي -صلى الله عليه وسلم- في وقت واحد، فقد ذكرت المصادر أن بني قينقاع حين أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد بدر كانوا هم أول من نقض العهد؛ ذكر الواقدي وابن سعد أن اليهود بعد مقتل كعب بن الأشرف وإهدار دم اليهود، فزعوا وجاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: "لقد طرق صاحبنا الليلة، وهو سيد من سادتنا، قتل غيلة بلا جرم، ولا حدث علمناه" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نالنا بالأذى وهجانا بالشعر، ولا يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف" ودعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يكتب بينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينهم وبينه كتابًا. وقد كان مقتل كعب بن الأشرف بعد جلاء بني قينقاع، وقبل موقعة أحد، ومن ذلك يتبين أن بني قينقاع كانوا هم أول من تعاقد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من القبائل اليهودية الكبرى، ولهذا ما يرجحه، فإن بني قينقاع كانوا حلفاء الخزرج، وكانت بطون الخزرج كلها قد دخلت في الإسلام، ثم إنهم كانوا يساكنون المسلمين في داخل المدينة، فكان الوضع لذلك يقتضيهم أن يتعاقدوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، أما بنو النضير وبنو قريظة فكانوا يسكنون في منطقة العوالي خارج المدينة وعلى طرف الحرة الشرقية، فكانت مساكنهم لذلك بعيدة، كما كانوا في منعة من حصونهم وآطامهم. ثم إن البطونَ التي كانت قريبة منهم من العرب بطونٌ أوسية، هي التي عرفت بأوس الله، وقد تأخر إسلام هذه البطون إلى ما بعد موقعة الخندق، فلم يكن هناك ما يحمل هؤلاء اليهود على الإسراع في معاقدة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان حادث كعب بن الأشرف وهو من زعماء بني النضير، وإهدار النبي -صلى الله عليه وسلم- دم اليهود، وجدوا أنفسهم مهددين من جانب المسلمين   1 ابن هشام 2/ 427، 3/ 226، 227. الواقدي 138، 150، 287، 292. ابن سعد 3/ 67، 73، 99، 109. 2 الواقدي: 150. ابن سعد: 2/ 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الذين اشتدت شوكتهم بعد انتصارهم في بدر؛ فاضطروا إلى الدخول في حلف مع النبي -صلى الله عليه وسلم. ولعل المعاهدات التي وقعها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذه القبائل لم تكن تشترط عليها أن تشارك معه في القتال، وهذا أمر طبيعي بعد أن فسدت الأمور بين المسلمين واليهود كما أشرنا إليه من قبل. فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يثق باليهود حتى يشترط عليهم أن يشاركوا معه في الحرب، والدليل على ذلك أن اليهود لم يشاركوا فعلًا في حروب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفض الاستعانة بهم حين عرض رجال الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود في يوم أحد1، ونحن لا نوافق على ما ذهب إليه ولفنسون وغيره من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غضب على بني النضير لعدم اشتراكهم معه في موقعة أحد2؛ لأن بني النضير كانت قد بدت الخيانة منهم وممالأة العدو من قَبْلِ أحد. فإن أبا سفيان بن حرب قد نزل على سلام بن مشكم سيد بني النضير في غزوة السويق بعد بدر فقراه وسقاه وبطن له خبر الناس -أعلمه سرهم-3. فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبل -والحالة هذه- أن يشتركوا في جيشه حتى لا يتعرض لخيانتها في ميدان القتال.   1 ابن هشام 3/ 8. الواقدي 168. 2 ولفنسون 121- 135. 3 ابن هشام 2/ 422- 424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 إجلاء بني قينقاع : كانت النيات قد فسدت بين المسلمين واليهود كما بينا، وكان اليهود قد بدءوا يناوشون المسلمين، ويحرضون عليهم ويدسون بينهم حتى فاضت النفوس بالعداوة، وجعل كل من الطرفين يتربص بالآخر. حتى إذا كانت غزوة بدر وانتصر المسلمون فيها انتصارًا كبيرًا على قريش، ساء اليهود هذا النصر فبدأت طوائفهم تتغامز بالمسلمين، وتغري بهم، وتحرض عليهم، حتى فاضت النفوس أي فيض، ولم ينقص الموقف إلا الشرارة التي تشعل الحريق، وكان بنو قينقاع يقيمون بداخل المدينة، وفي حيهم يقوم سوق عرف باسمهم، وكانوا صاغة يعملون في صناعة الحلي، ولإقامتهم بين المسلمين كانوا أكثر قبائل اليهود احتكاكًا، وكان وجودهم هذا مما يثير حفائظهم كما كان يشكل في الوقت نفسه خطرًا على كيان المدينة اليثربية أو فوجئت بهجوم خارجي وحدثتهم أنفسهم بالخيانة، ثم إنهم كانوا أشداء لعدم اعتمادهم على الحصون كبقية اليهود، فأغرتهم قوتهم بتحدي المسلمين فلما قدمت امرأة من الأنصار إلى سوقهم لتبيع بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 حليها، وجلست إلى صائغ منهم، عبث بها بعض رجالهم، فأخذت الغيرة رجلًا من المسلمين، فشد على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، واستعدوا لمنازلة المسلمين. فلما ذهب إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذرهم عاقبة هذا العمل منهم، ويطلب إليهم التزام العهد، قالوا: "لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس"1. عند ذلك لم يبق من سبيل لعدم مقاتلتهم، وإلا تعرض المسلمون وتعرض سلطانهم للخطر. عند ذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بحصارهم، فحاصرهم المسلمون خمسة عشرة يومًا، اضطروا بعدها إلى النزول على حكم محمد والتسليم بقضائه، وانتهت مشاورات النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بإجلائهم عن المدينة. وبخروج بني قينقاع خلت المدينة في داخلها من اليهود، وزال عنها خطر وجود عنصرين متحاقدين في داخلها، وبذلك أصبحت أقدر على مواجهة الاحتمالات الخارجية.   1 ابن هشام 2/ 426. 2 هشام 2/ 26 "هامش الروض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 إجلاء بني النضير كان بنو النضير أقوى القبائل اليهودية بالمدينة، وكانت حصونهم غاية في المناعة والقوة وكانوا يعتدون بها ويعتقدون أنها قادرة عل حمايتهم، وكان العرب من حولهم يرون أنها أمنع من أن تقتحم، كما كانوا يملكون أفضل الأراضي الزراعية وأفضل النخيل، وكان زعماؤهم قد أظهروا العداوة للنبي -صلى الله عليه وسلم- من يوم قدومه إلى المدينة، وظهر الحسد والبغضاء والإصرار على العداوة منهم1. فلما انتصر المسلمون يوم بدر انطلق شاعرهم كعب بن الأشرف يرسل الأشعار في هجاء المسلمين والتحريض عليهم، وذهب إلى مكة يرثي أصحاب القليب -قتلى قريش- ويحرض قريشًا على المسلمين، حتى فاضت نفوس المسلمين بالغيظ منه والحقد عليه؛ لذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتله. ثم إن زعيم بني النضير سلام بن مشكم آوى أبا سفيان في غزوة السويق وأطلعه على أسرار المسلمين، فكأن الخيانة في بني النضير قد ولدت مبكرة حتى إذا ما كانت معركة أحد وهزم فيها المسلمون، وبدأت القبائل العربية تتحرش بهم، حتى استدرجت عددًا منهم، وقتلتهم في الرجيع وبئر معونة -كما سنشير إليه فيما بعد - بدأ يهود بني النضير يدبرون مؤامرة خطيرة للتخلص من النبي -صلى الله عليه وسلم-   1 هشام 2/ 26 "هامش الروض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 والقضاء على الوضع القائم في يثرب كله، مستعينين في ذلك بتلك الجماعة المنافقة بزعامة عبد الله بن أبي، وقد بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يحس بهذا الموقف في المدينة، لذلك فكر تفكيرًا سياسيًّا بعيدًا عن مرامي الرأي، فرأى ألا شيء خير من أن يستدرجهم ليكشف عن نياتهم. حين قتل عامر بن الطفيل زعيم بني عامر رجال النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين ذهبوا إلى منطقة نجد للدعوة إلى الإسلام في بئر معونة -مكان بين حرة بني سليم وبلاد بني عامر شرقي المدينة- نجا منهم رجل هو عمرو بن أمية الضمري الذي قابل في طريقه رجلين من بني عامر فقتلهما ثأرًا بأصحابه، ولم يعلم أن معهما كتاب عهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقتضاه أن يدفع ديتهما. وذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى منازل بني النضير- وكانوا حلفاء لبني عامر- في عشرة من كبار أصحابه، وطلب إليهم أن يعاونوا في دفع دية القتيلين، وأظهر اليهود الغبطة لقدومه إليهم، والاستعداد للتعاون، ولكن حين تبسط معهم وجلس إلى جوار بيت من بيوتهم، ائتمروا بينهم أن يصعد أحدهم إلى أعلى الدار فيلقي على النبي -صلى الله عليه وسلم- صخرة تقتله، وأحس النبي بدقة ملاحظته روح التآمر فيهم، فقام يوهمهم أنه ذاهب لبعض حاجته وترك أصحابه وذهب توًّا إلى المدينة، وحين أبطأه أصحابه رجعوا إلى المدينة وقد أدرك اليهود أن تآمرهم قد اكتشف. وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصل إلى المدينة ويجتمع بأصحابه حتى أرسل اليهود أحد رجاله وهو محمد بن مسلمة الأوسي يقول لهم: "اخرجوا من بلادي. لقد نقضتم العهد الذي جعلت بينكم بما هممتم به من الغدر بي، لقد أجلتكم عشرًا فمن رؤي بعد ذلك ضربت عنقه" وأبلست بنو النضير فلم يجدوا لهذا الكلام دفعًا. لكن عبد الله بن أبي -رأس المنافقين وكبيرهم- أرسل إليهم يقول: "لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم فإن معي ألفين ممن أطاعني من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصونكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم". وهنا نقف على أبواب مؤامرة خطيرة يدبرها اليهود والمنافقون في المدينة. ها هم بنو النضير يأتمرون بالنبي -صلى الله عليه وسلم ليقتلوه غدرًا، فلما انكشفت خطتهم، أعلن المنافقون عن المؤامرة كاملة، فإذا جبهة متكاملة تعلن خروجها، وتستعد للحرب، وتعلن في صراحة أن لديها القوة الكافية من عشائرها ومن غيرها من العرب الآخرين، وأن لديها الحصون والقلاع تحتمي بها، وأنها على استعداد لخوض غمار الحرب حتى الفناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 إذن فقد كان تقدير النبي -صلى الله عليه وسلم- صادقًا وكانت شكوكه في محلها، أن المدينة مهددة بالحرب الأهلية يثيرها اليهود والمنافقون ومن ينضم إليهم من الأعراب القريبين، وإذن فهو الخطر الداهم الذي لو سكت عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- لكان في ذلك القضاء على دولته، فقد أصبح الأعداء يحيطون بها في الداخل والخارج، ولكي يتغلب على هذا الموقف فلا بد من العمل السريع الحاسم، ولا بد من شجاعة وشدة يتذرع بها المسلمون، فقد أخذت اليهود في التجهز للحرب، فرمت حصونها ونقلت إليها الحجارة وشحنتها بالمؤن والذخيرة، واطمأنت إلى قوتها وإلى القوة الخارجية التي يعدها عبد الله بن أبي. وأسرع النبي -صلى الله عليه وسلم- فحاصرهم، واشتبك معهم في القتال عشرين يومًا أظهر فيها اليهود كثيرًا من البسالة، واستماتوا في الدفاع عن حصونهم ودورهم، ولم ينسحبوا من دار إلا بعد أن ييأسوا من الدفاع عنها فيخربوها. وطال حصار الحصون حتى ظن المسلمون استحالة إخراجهم منها، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقطع نخيلهم وتحريقها حتى ييئسهم من فائدة المقاومة أو يضطرهم للخروج لقتال المسلمين في معركة مكشوفة. أما عبد الله بن أبي ومن معه، فقد استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحول بينهم وبين الاتصال باليهود، فقد أحكم الحصار، فلم يجرؤ عبد الله على التقدم لتنفيذ وعده لليهود، وأذهلته وأصحابه القوة التي واجه بها المسلمون الموقف، وملأ الرعب نفوسهم حينما رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يأخذ اليهود بالشدة فيحرق بيوتهم ويقطع نخيلهم وينكل بهم؛ لذلك جبنوا عن أن يتقدموا للمشاركة في القتال، بعد أن حيل بينهم وبين الوصول إلى حصون اليهود، ويئس اليهود من عونهم، فطلبوا مصالحة النبي -صلى الله عليه وسلم- فصالحهم على الخروج، لكل ثلاثة منهم بعير يحملون عليه ما شاءوا من مال وطعام وشراب ليس لهم غيره. وارتحل اليهود فمنهم من نزل بخيبر ومنهم من ارتحل إلى الشام وتركوا للمسلمين وراءهم مغانم كثيرة من غلال وسلاح، ولكن الأرض التي تركوها كانت أفضل ما غنم المسلمون وأنفع، فقد جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- للمهاجرين دون الأنصار الذين لم يجدوا في صدورهم حرجًا وآثروا بها المهاجرين، وبذلك استغنى المهاجرون عن معونة الأنصار فتحسنت الحالة الاقتصادية عند الطرفين. أما المنافقون، فقد ضعف أمرهم بعد أن انكشف أمرهم ودمغوا بالجبن والعار، ولم يعاقبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه لم يعد يفكر في أمرهم كثيرًا. وفي شأن بني النضير وتآمر المنافقين معهم نزلت سورة كاملة من سور القرآن هي سورة الحشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وبخروج بني النضير، ضعف شأن اليهود بالمدينة، ولكن بقيت لهم جولة أخرى يدبرها بنو النضير بتجميع الأحزاب1.   1 عن إجلاء بني النضير: انظر ابن هشام 3/ 191- 197. الواقدي 282- 290. ابن سعد 3/ 98- 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 القضاء على بني قريظة : استطاع رجال بني النضير الذين نزلوا في خيبر أن ينالوا منزلة كبيرة فيها، واستطاعوا أن يغزوا قريشًا بحرب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يجمعوا لها الأحزاب من القبائل العربية، حتى هاجموا المدينة بجيش قوي عدته عشرة آلاف به قوة كبيرة من الفرسان؛ لكن النبي استطاع أن يتجنب القتال المواجه، كما استطاع أن يوقف تقدم العدو بالخندق الذي حفره حول المنطقة التي تمكن منها اقتحام المدينة، وهي الناحية الشمالية والشمالية الغربية والشرقية، أما باقي الجهات فكان حرارًا يصعب منها الهجوم، وأعانت بنو قريظة بما قدمت للمسلمين من أدوات الحفر من مساح وكرازين ومكاتل، وتركت ناحية العوالي لم يخندق من ناحيتها اعتمادًا على الحصون اليهودية بها، إذ إن قريظة بقيت على ولائها ولم يبد منها ما يكشف عن نية سيئة، ولم تستطع جيوش الأحزاب اجتياز الخندق، ولم يكن الوقت يسمح بالحصار الطويل، إذ كان الوقت شتاء باردًا وليس للقبائل المهاجمة من الاستعداد ما تتقي به البرد للقيام على حصار طويل، لذلك تباحثوا في خطة للظفر السريع أو الانسحاب وخاف حيي بن أخطب النضري مجمِّع الأحزاب أن تفشل خطته، فعمد إلى بني قريظة يغريهم بفتح الطريق أمام جيوش الأحزاب ولم يقبل كعب بن أسد زعيم قريظة في أول الأمر أن ينقض عهده مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكن حييًّا ما زال به يقول له: "ويلك يا كعب! قد جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أُحد، قد عاهدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه"1. وقال كعب: "جئتني والله بذُل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء! ويحك يا حيي!! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقًا ووفاءً2. ولم يزل حيي به حتى نقض كعب عهده مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن بعد أن أعطاه حيي عهدًا وميثاقًا لئن رجعت الأحزاب ليدخلن معه حصنه فيصيبه ما أصابه.   1 ابن هشام 3/ 236. 2 نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 خافت قريظة، وبدأت تتحرش بالمسلمين وتتوسل رجالها لإخافتهم وتهديد حصونهم التي كان فيها نساؤهم وذراريهم حتى تشغلهم عن مواجهة العدو1. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- استطاع أن يبث بذور الشك بين رجال الأحزاب وأن يفرق بينهم، وحتى فسدت نفوسهم واضطروا إلى رفع الحصار عن المدينة. وما كاد النبي -صلى الله عليه وسلم- يتأكد من رجوع جيوش الأحزاب حتى أمر رجاله بحصار بني قريظة، واندفع المسلمون يحكمون الحصار عليهم ليوقعوا بهم الجزاء الطبيعي، لقومٍ نقضوا عهدهم واتصلوا بالعدو وعرضوا الدولة للزوال. واعتصم اليهود بحصونهم، فلم يستطيعوا أن يخرجوا منها ولو مرة واحدة للقاء المسلمين، وحاول كعب بن أسد أن يغريهم بقتال المسلمين ولكن نفوسهم كانت قد ضعفت وقلوبهم خلعت، فقد رأوا مصير من كان أقوى منهم من قبائل اليهود، وعرض عليهم أن يسلموا ويبايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم رفضوا وصمموا على النزول على حكم محمد ظنًّا منهم أن حلفاءهم من الأوس لن يسلموهم إن أراد بهم محمد شرًّا، وأنهم لن يكونوا أسوأ حظًّا من غيرهم من بني قينقاع أو بني النضير، وفاتهم أن جنايتهم أكبر من أن تغتفر وأنه لا عقوبة على الخيانة العظمى إلا الإعدام، كما فاتهم أنهم لم يقبلوا نصح الأوس حين ذهبوا إليهم يطلبون منهم التمسك بالعهد، وأنهم أهانوا زعيمهم سعد بن معاذ الذي بلغ به الحقد عليهم أن تمنى على الله ألا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة. وحين نزلوا على حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- رضوا بأن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وحين كلم الأوس سعدًا في أن يحسن في مواليه، كما فعل عبد الله بن أبي مع بني قينقاع، قال: "لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم"2. وأصدر سعد حكمه بأن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء3، ونفِّذ حكم سعد فقتل من الرجال كل من بلغ الحلم وسبيت الذراري وقسمت الأموال. وقتل مع القوم حيي بن أخطب الذي وفى لكعب بن أسد بما شرط على نفسه. إن تبعة دم بني قريظة تقع على رأس حيي وعليهم معه، فقد نقضوا العهد   1 ابن هشام 3/ 246. 2 ابن هشام 3/ 258. 3 نفسه 258، 259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وعرضوا الدولة للضياع، والمسلمين للفناء، وهو حكم داخل فيما نسميه الآن بالخيانة العظمى، فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاسيًا عليهم قسوة ليس ما يبررها، ولقد وفَّى لهم بعهدهم من قبل وأحسن إليهم ولو استمروا على الوفاء لما أصابهم ما أصابهم. وبالانتهاء من بني قريظة انتهت كل المشاكل الداخلية في المدينة وأصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- يعمل حر الإرادة مطمئنًا إلى سلامة جبهته الداخلية اطمئنانًا يكفل له أن يولي المجال الخارجي كل عنايته. وهكذا انتهى الموقف العصيب الذي واجهته المدينة بنجاح تام غير ميزان القوى تغيرًا تامًّا، وأتاح النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفكر في خطوات يقرر بها مبدأ السلم الذي يسعى إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فتح خيبر والقضاء على قوة اليهود في جزيرة العرب : لقد كان يعادي محمدٌ قوتين كبيرتين تلتف حولهما كل القوى في شبه جزيرة العرب، فأما القوة الأولى فهي قريش في مكة، بما لها من نفوذ أدبي ومادي، وأما القوة الثانية فهي قوة اليهود بما لها من نفوذ وذكاء وقدرة على الدس والوقيعة، وقد اتحدت مصالح القوتين على حربه والقضاء عليه. وقد استطاع محمد أن يثبت أمام القوتين وأن يخرج من حربه معهما -مجتمعينِ- قويًّا، حتى لقد أصبح زمام المبادأة في يده، وقد استطاع ببعد نظره، وحسن سياسته، وما أظهر من مرونة وكياسة أن يعقد مع قريش عهد الحديبية، فأمِن به قريشًا وأمن الجنوب كله؛ لكنه لم يأمن من ناحية الشمال، حيث تجمعت فلول اليهود في خيبر، وأخذت تسعى لتأليف كتلة يهودية منهم، ومن يهود وادي القرى وتيماء لغزو يثرب، وإذا كان اليهود قد استطاعوا تأليف الأحزاب حتى ساقوا لحرب المدينة عشرة آلاف مقاتل في غزوة الخندق؛ فليس ببعيد عليهم ولا ممتنع أن يستعينوا بقبائل الشمال، أو أن يستعينوا بقوى خارجية فارسية أورومية لضرب المسلمين ضربة ساحقة نهائية. واليهود أشد من قريش عداوة لمحمد؛ لأنهم أحرص على دينهم من قريش، ولأنهم أكثر منها مكرًا ودسيسة، وليس من اليسير أن يوادعهم محمد بصلح كصلح الحديبية ولا أن يطمئن إليهم، وقد سبقت بينهم خصومات لم ينتصروا في إحداها؛ فما أجدرهم أن يثأروا لأنفسهم إذا وجدوا فرصة مناسبة أو استطاعوا أن يستعينوا بقوى خارجية. وإذن فلا بد من القضاء على قوة اليهود قضاء أخيرًا حتى لا تقوم لهم من بعد قائمة ببلاد العرب، ولابد من أن يسارع محمد إلى ذلك، حتى لا يتاح لهم الوقت للاستعانة بغطفان أو بغيرها من القبائل المعادية لمحمد والموالية لهم. وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فَعَلَ، فإنه لم يقم بالمدينة بعد عودته من الحديبية إلا قليلا حتى أمر الناس بالتجهز لغزو خيبر على ألا يغزو معه إلا من شهد الحديبية إلا أن يكون غازيًا متطوعًا ليس له من الغنيمة شيء1. وقد حرص محمد على ذلك حتى لا يكون معه أحد غير مطمئن إلى قوة نفسه وسمو روحه، وبعد تفكيره عن الكسب المادي؛ فليس الغنيمة قصده، وأن ما ينتظر من قتال أمام حصون خيبر لا تثبت له إلا النفوس المطمئنة المؤمنة، التي تسامت عن المادة والرغبة فيها، فإن النفوس المتعلقة بالمادة لا تثبت أمام الامتحان العسير. ولقد كانت تجربة الأحزاب كافية ليدرك الناس أن النفوس لا تباع رخيصة أمام متاع الحياة، فإن غطفان وغيرها من الأعراب يوم الأحزاب لم يثبتوا على حصار يثرب، فقد كانوا يريدون غنيمة سهلة، فلما لم يستطيعوا تحقيقها، أو لما بدا لهم أن تحقيقها أمر يحتاج إلى الصبر وبذل النفس، تضعضعت قلوبهم، وتفرقت كلمتهم، ورضوا أن يعودوا من الغنيمة بالإياب، ومحمد لا يريد أن يضم إلى صفوفه مثل هؤلاء الناس من طلاب الغنيمة، وهو يتوقع الحصار الطويل، والقتال أمام خيبر أشد القتال. انطلق المسلمون في ألف وأربعمائة ومعهم مائتا فرس2 مسرعين نحو خيبر، فقطعوا الطريق بينها وبين المدينة في ثلاثة أيام، لم تكد خيبر تحس بهم أثناءها حتى باتوا أمام حصونها. على أن يهود خيبر كانوا يتوقعون من جانبهم أن يغزوهم محمد، ولذلك كانوا دائمي النشاط والتدبير، ولقد عرض بعضهم أن يسارعوا إلى تكوين كتلة يهودية منهم ومن يهود وادي القرى وتيماء، ويهاجموا المدينة مستميتين دون اعتماد على البطون العربية التي فشلت من قبل في اقتحامها، وعرض آخرون أن يدخلوا في حلف مع محمد لعل ذلك يمحو ما ثبت من كراهيتهم في نفوس المسلمين والأنصار منهم بنوع خاص بعد ما قام به حيي واليهود من تأليب العرب للقضاء على المدينة؛ لكن النفوس من الجانبين كانت ملأى، حتى لقد سبق المسلمون قبل الخروج لخيبر بقتل سلام بن أبي الحقيق واليسير بن رزام من زعماء خيبر تمهيدًا للغزو، وحرمانًا لليهود من زعيمين كبيرين لهما رأي وتدبير، ولذلك كان اليهود على اتصال دائم بغطفان، وكان هؤلاء حلفاء دائمين لهم كحلف قريش مع الأحابيش، ولذلك استعانوا بهم أول ما ترامى إليهم اعتزام محمد غزوهم، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان سريعًا إلى الحيلولة دون اتصال   1 الواقدي 312. ابن سعد 3/ 152. 2 إمتاع 1/ 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 غطفان باليهود، فقد سارعت جيوش المسلمين، فحالت بين غطفان وبين خيبر، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعد الغطفانيين بشيء من الغنائم إن تم له النصر على اليهود. على أن غطفان كانت قد بدأت تعيد النظر في موقفها من عداء محمد بعد الأحزاب، وبعد أن تأكد لديها أن الموقف قد تحول إلى جانبه وبخاصة بعد الحديبية حيث سالمته قريش، فلم يكن زعماء غطفان جادين في معاونة خيبر، ولم يعودوا حريصين على الارتباط بها، كذلك كانت القبائل العربية كلها في منطقة الحجاز ونجد قد بدأت تنظر إلى الموقف نظرة جديدة، وكان موقفها في غزوة خيبر موقف تربص وانتظار لما تسفر عنه نتيجة المعركة، فلقد انتصر محمد على قريش وثَبَتَ لها ولكل حلفائها، وأجبرها آخر الأمر على قبول الأمر الواقع وتوقيع صلح الحديبية. ومهما بدت قريش في ثوب من العزة بأن حالت بين محمد وبين دخول مكة؛ فإنها قد انكشفت حين اشترطت على نفسها أن تخلي له مكة من العام القادم ثلاثة أيام يطوف بالبيت فيها، ولم يبق من عدو شديد البأس غير خيبر ذات الحصون المنيعة. كانت جموع اليهود في خيبر من أقوى الطوائف الإسرائيلية بأسًا وأوفرها مالًا، وأكثرها سلاحًا، وأعظمها دربة على القتال، لذلك وقفت شبه الجزيرة العربية كلها متطلعة إلى هذه الغزوة، حتى لقد كان من قريش من يتراهنون على نتائجها، ولمن يتم الغلب فيها، وكان كثيرون يتوقون أن تدور الدائرة على المسلمين، لما عرف من قوة حصون خيبر وقيامها على الصخور والجبال، ولطول ممارسة أهلها للحرب والقتال، وكان المسلمون يدركون هذا الموقف تمام الإدراك، ويقدرون نتائجه حق التقدير، لذلك ذهبوا مستقتلين لا يعرف التردد سبيلًا إلى نفوسهم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك أنه لو فشل أمام خيبر فسيتغير ميزان القوى من جديد وربما حدثت نكسة أعادت لأعدائه قوتهم وحماستهم لقتاله والهجوم عليه، ثم إنه كان يدرك أنه ما بقيت لليهود شوكة في شبه جزيرة العرب فستظل المنافسة بين دين موسى والدين الجديد حائلًا دون تمام الغلب له، وحائلًا دون تمام الوحدة التي يعمل لها ويسعى لإقرارها، ومن أجل ذلك حرص على ألا يدخل في صفوفه رجل يخشى أن ينخذل أو يُشِيع الضعف في نفوس المسلمين، ومع أنه كان يستطيع أن يزيد عدد جيشه لو أباح لراغبي الغنيمة من الأعراب أن ينضموا إلى صفوفه، فقد كان فتح خيبر يبشر بمغنم كبير، لكنه ما كان يهتم بكثرة العدد الذي لا غناء فيه، وإنما كان يريد جيشًا مؤمنًا بأهدافه مقدرًا للظروف، وموطنًا النفس على الصبر والشدة، يريد سيوفًا تحركها قوة النفس وتمنعها عزة الإيمان أن تغمد أو تنتصر، ولا يريد سيوفًا يسلها جشع النفس، ثم يغمدها الحرص على الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وكان جيش محمد كما أراد، قليلًا بعدده، كثيرًا بإيمان رجاله وثبات نفوسهم وتصميمهم على الوصول لأهدافهم. وكانت خيبر مكونة من ثلاث مناطق حربية: منطقة الوطيح والسلالم وفيها أدخل اليهود أموالهم وعيالهم، ومنطقة الكتيبة وأدخلوا فيها ذخائرهم، ومنطقة النطاة وفيها دخل المقاتلة ورجال الحرب وحولهم دار القتال الأول. استبسل اليهود استبسالًا عظيمًا في القتال، ولم يرتدوا عن شبر من الأرض بعد قتال شديد عنيف، واستمر القتال أيامًا عديدة حتى قلَّت المئونة عند المسلمين وأجهدوا إجهادًا شديدًا، مما جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى الحصون التي بها الأموال والمؤن، وفي هجمات قوية استطاع أن يوفر لرجاله ما هم في حاجة شديدة إليه من التموين بفتح بعض الحصون مثل حصن الصعب بن معاذ، فقد وجدوا فيه كثيرًا من التموينات أغنت المسلمين ومكنتهم من مواصلة القتال. وبعد قتال عنيف سقطت حصون خيبر وسلمت منطقة الكتيبة منها دون قتال، ووقع كثير من السبي والغنائم في أيدي المسلمين. لم يُجْلِ النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر عنها بل أبقاهم للقيام على زراعة أرضها مناصفة؛ لأنه لم يكن لديه من العمال الزراعيين من يقوم على زراعة أرضها، وكانت منطقة غنية خصيبة، ولا شك أن اليهود أقدر على زراعتها والقيام على استثمارها، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في حاجة إلى رجاله؛ لأن الدولة مازالت تحوطها المخاطر وهي في أشد الحاجة إلى كل قادر على حمل السلاح. كما أنه لا يصح أن تترك مثل هذه الأرض الخصبة بدون استغلال، بينما الدولة في حاجة إلى المئونة والمال، ثم إن قوة اليهود قد قضى عليها بعد هذا النصر، ولم تعد لهم شوكة يخاف منها. فقد سالم يهود فدك، ويهود وادي القرى، على ما سالم عليه يهود خيبر، أما يهود تيماء فقد أذعنوا وقبلوا دفع الجزية بدون قتال، وبذلك دانت اليهود كلها لسلطان النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتهى كل ما كان لهم من سلطان في شبه الجزيرة1. وبانتهاء سلطان اليهود تغير الموقف تغيرًا نهائيًّا في جزيرة العرب لصالح المسلمين، وأتم النبي -صلى الله عليه وسلم- خطته لإحكام الحصار حول مكة، والحقيقة أن مكة بعد غزوة خيبر أصبحت كالثمرة الناضجة تستعد للسقوط.   1 انظر عن غزوة حنين: ابن هشام 3/ 378- 410. الواقدي 312- 320. ابن سعد 3/ 152- 163. إمتاع 1/ 310- 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الفصل الثالث: الصراع بين المدينة والقبائل العربية لم يبد من القبائل العربية أي نشاط ضد المدينة في السنتين الأوليين من الهجرة، وكان نشاط النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الفترة متجهًا نحو القبائل التي كانت تقيم إلى جنبات طريق التجارة المار بغربي المدينة، فاتجهت السرايا الأولى التي أرسلها النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قام هو على رأسها إلى هذه الجهات. وقد استطاع في خلال هذه المدة أن يعقد محالفات مع بعض هذه القبائل فوادعته بنو ضمرة وهم فرع من بني بكر بن عبد مناة1، وبنو مدلج وهم بطن من كنانة2 كانوا حلفاء لبني ضمرة3، كما وادع جهينة وكانت جهينة حليفة للخزرج من أهل المدينة في الجاهلية كما كانت حليفة لقريش، وقد استمرت جهينة على موادعتها للطرفين طوال مدة الصراع بين مكة والمدينة، وبقيت على الحياد4 حتى تحولت إلى جانب المسلمين نهائيًّا بعد موقعة الأحزاب، وبدخول هذه القبائل في حلف النبي أصبح عامة أهل الساحل في موادعة معه5. كما كانت خزاعة معه، وكانت عيبة لرسول الله مسلمها ومشركها لا تكتم عنه شيئًا من أمر عدوه، كما كانت دائمًا تكتب له بخبر قريش وما تبيت له، حتى إذا كان صلح الحديبية أعلنت انضمامها نهائيًّا، كما رأينا من قبل. لكن موقف القبائل تجاه المدينة قد بدأ يتغير بعد موقعة بدر وانتصار المسلمين فقد أحست القبائل بعد انتصار النبي -صلى الله عليه وسلم- على قريش وأخذه طريق التجارة إلى الشام وإلى العراق عليها، ومنع قوافلها من المرور، بأن مصالحها الاقتصادية معرضة للضرر، وكانت القبائل التي تعيش بين مكة والمدينة وعلى جنبات الطرق التجارية تستفيد من التعامل مع قوافل قريش، كما كانت تشارك فيها بنصيب، إذا عملت قريش على خلق شبكة اقتصادية منها ومن قبائل الحجاز ونجد وسيطرت بذلك على قوافل التجارة المارة بين الشمال والجنوب، كما أنها نظمت الأسواق التجارية حول مكة، وكانت القبائل تجد في هذه الأسواق مجالًا لتصريف حاصلاتها، كما كانت تتزود منها بما تحتاج إليه، كما   1 جمهرة أنساب العرب 175. 2 نهاية الأرب 416. 3 ابن سعد 3/ 46، 47. 4 نفسه 3/ 44. 5 الواقدي 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أوضحنا ذلك في فصل الحياة الاقتصادية في مكة. وكان توقف قوافل قريش يؤدي إلى الإضرار بمصالح هذه القبائل، كما تؤدي حالة الحرب بين مكة المدينة إلى إرباك قريش، وهذا يؤدي بدوره إلى إضعاف النشاط التجاري في الأسواق الموسمية حول مكة. من أجل ذلك وقفت القبائل العربية التي كانت تعيش إلى شمالي مكة في منطقة الحجاز ومنطقة نجد الغربية موقفًا عدائيًّا من الدولة اليثربية واعتبرت وجودها ضارًّا بمصالحها. وحتى القبائل التي كانت على صلات ودية بيثرب قبل الإسلام كسليم ومزينة وغطفان، تحولت إلى موقف العداء لها، وأخذت تناوئها وحاولت شن الغارات عليها. وحفلت الفترة ما بين بدر وأحد بتحرشات هذه القبائل ضد المدينة، ولذلك اتجهت سرايا النبي -صلى الله عليه وسلم- كلها في هذه الفترة إلى منطقة سليم وغطفان تضرب على أيدي هذه القبائل، وتفرق كل اجتماع منها لغزو المدينة أو النيل من أطرافها1. وبعد أُحد اشتد نشاط القبائل ضد المدينة واتسعت دائرته، وتنوعت وسائله، فقد تجرأت القبائل على حرب المدينة والنيل من المسلمين بعد هزيمتهم في أحد أمام قريش، وكانت بدر قد أوجدت العرب في قلوبهم، لكنهم بعد أحد بدءوا يستعيدون شجاعتهم ويكيدون للمدينة ويستعدون لضربها، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حذرًا دائمًا يبث عيونه في منطقة القبائل فتأتيه بأخبار تحركاتها وتجمعاتها، فيسرع في إرسال سراياه لضربها قبل أن تكمل استعدادها ويشتد جمعها، وعلى الرغم من قلة رجال السرايا التي كان يرسلها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنها كانت تفاجئ القبائل وتدهمها على غرة منها فتشتت تجمعاتها، وتستولي على إبلها وأغنامها وتوقع بمن تصل إليه من رجالها. وكان أول ما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد شهرين من أحد أن طليحة وسلمة بن خويلد وكانا على رأس بني أسد، يحرضان قومهما ومن أطاعهما يريدان مهاجمة المدينة؛ ليصيبوا من أطرافها؛ وليغنموا من نَعم المسلمين التي ترعى الزروع المحيطة بمدينتهم، وإنما شجعهم على ذلك اعتقادهم أن المسلمين لا يزالون مضعضعين من أثر أحد، فما كاد هذا الخبر يبلغ مسامع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى عقد لأحد رجاله -سلمة بن عبد الأسد- لواء سرية تبلغ عدتها مائة وخمسون رجلًا منهم كثير من كبار المسلمين وشجعانهم وأمرهم أن يسيروا ليلًا ويكمنوا نهارًا وأن يسلكوا طريقًا غير مطروق حتى لا يطلع أحد على   1 ابن هشام 2/ 421، 425، 429. ابن سعد 3/ 70- 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 خبرهم، فيفجئوا العدو بالإغارة على غرة منه، ونفذ رجال السرية هذه التعليمات وباغتوا الأعداء على حين غفلة فأوقعوا بهم هزيمة سريعة ألجأتهم إلى الفرار فطاردوهم وظفروا بما معهم غنيمة للمسلمين1. وكذلك اتصل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك أن خالد بن سفيان بن نبيح اللحياني الهذلي، زعيم لحيان من هذيل مقيم بنخلة أو بعرنة -من أرض هذيل- وأنه يجمع الجموع ليغزوه. فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه أحد رجاله -عبد الله بن أنيس- ممن اشتهروا بالفطنة والشجاعة، وبعثه يتجسس حتى يقف على جلية الخبر، وسار عبد الله حتى التقى بخالد، واستطاع أن يوهمه بأنه سمع تجمعه لمحمد، فجاء ينضم إليه. فلما تأكد من صحة ما علم المسلمون غافله حتى إذا وجد منهم غرة قتله. وعاد إلى المدينة فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهدأت بنو لحيان بعد موت زعيمها زمنًا، عادت بعده تفكر في الثأر عن طريق الحيلة والغدر. ثم دبروا أمر الثأر عن طريق رهط من عَضْل والقارة من بني الهون ابن خزيمة، وهي قبيلة تجاور بني لحيان، قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون له: إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يعلموننا شرائعه ويقرئوننا القرآن. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث من أصحابه كلما دعى إلى ذلك ليؤدوا هذه المهمة الدينية السامية، وليكونوا دعاة له، وفي الوقت نفسه يكونون عيونًا للدولة على خصومها؛ لذلك بعث ستة من كبار أصحابه خرجوا مع الرهط، حتى إذا بلغوا ماء لهذيل بناحية تُدعى الرجيع، غدروا بهم، واستصرخوا هذيلًا عليهم، ولم يرع هؤلاء الرجال الستة وهم في رحالهم إلا الرجال وبأيديهم السيوف قد غشوهم، ودافع المسلمون عن أنفسهم حتى قتل منهم ثلاثة واستأسر الثلاثة الآخرون. فأما أحدهم فتخلص من قيده ودافع عن نفسه حتى قتل. وأما الآخران فقد باعتهما هذيل إلى قريش غدرًا، وثأرًا بمن قتل من رجالها يوم بدر2. ولم يكن حزن المسلمين قد خفَّ على من قتل من أصحابهم يوم الرجيع ولم تكن أشعار حسان بن ثابت يرسلها في رثاء هؤلاء الرجال قد خفتت أنغامها الحزينة- حين فوجئ المسلمون بحادث هو أنكى عليهم من غدر هذيل، وأشد ألَمًا للمسلمين وإثارة لعواطفهم، ذلك هو غدر بني عامر بوفد آخر من المسلمين بلغت عدته أربعين رجلًا، وقتلهم في بئر معونة، وهي مكان على طرف حرة بني سليم بينهم وبين بلاد بني عامر.   1 الواقدي 264- 268. 2 ابن هشام 3/ 160- 183. ابن سعد 3/ 96- 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فقد قدم على المدينة أحد سادات بني عامر، وهو أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، فعرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، فلم يسلم، ولكنه لم يظهر للإسلام عداوة. وقال: "يا محمد، لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك. وخاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه من أهل نجد وخشى أن يغدروا بهم كما غدرت هذيل، لكن أبا براء قال: "أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا بأمرك". وكان أبو براء رجلًا مسموع الكلمة في قومه لا يخشى أحدٌ أجاره أن يعتدى عليه، ولم يعرف عنه الغدر ولا الخيانة ولا إخفار الذمة. وكان صادقًا في وعده، لكن سيدًا آخر من سادات بني عامر وهو عامر بن الطفيل ابن أخيه أخفر عمه، واستعدى على وفد المسلمين بطونًا من بني سليم، بعد أن رفضت بنو عامر إخفار عمه، فأحاطوا بالمسلمين وقتلوهم إلا رجلًا منهم هو عمرو بن أمية الضمري أسره عامر بن الطفيل ثم خلى عنه حين علم أنه من كنانة1. كان لهذين الحادثين وقع أليم في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاه إلى زيادة الحيطة والحذر في معاملة القبائل، واتخاذ الشدة معها، إذ إن مثل هذه الأمور لو تكررت، استخفت العرب بشأن المسلمين وتجرأت القبائل عليهم، وعند ذلك يرفع النفاق رأسه في المدينة، ويجد اليهود لهم مجالًا لإيقاع الفتنة والائتمار بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبالمسلمين، وربما جرَّ ذلك إلى تكتل أعدائهم عليهم في الخارج، نتيجة لروح الاستخفاف التي تثيرها أمثال هذه الجرأة على المسلمين، وقد كاد هذا يتم فعلًا، فقد تآمر المنافقون واليهود في المدينة على حياة الرسول وإثارة الحرب الداخلية في المدينة مما أدى إلى إجلاء بني النضير كما قدمنا. ولهذا فإنه حين ذهب بعد ذلك إلى وادي بدر تنفيذًا لوعد أبي سفيان بالحرب يوم أحد، ورأى من بني ضمرة شيئًا من التردد في الاستمرار في حلفهم معه، أظهر لهم الشدة والقوة، فقد جاءه مخشى بن عمرو الضمري -وهو الذي وادعه من قبل على بن ضمرة- وهو منتظر قدوم قريش فقال: "يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ " وأدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ما وراء هذا التساؤل فقال: " نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك". وأعاد هذا الرد إلى الرجل صوابه، ورأى ما في هذا الإنذار من تصميم من النبي -صلى الله عليه وسلم- على إقرار هيبة المسلمين. فقال: "لا والله يا محمد، ما لنا بذلك من حاجة"2.   1 ابن هشام 3/ 183. 2 ابن هشام 3/ 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 كذلك اتصل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد عودته إلى المدينة أن جماعة من غطفان يجمعون له يريدون حربه، فخرج بنفسه على رأس أربعمائة من أصحابه إلى محالهم بمكان يقال له: ذات الرقاع -وهو موضع في وادي القرى على طريق تبوك- ففر الأعراب من وجهه، فاستاق من وجد من أموالهم ونسائهم وعاد إلى المدينة1. وما كاد يستقر بالمدينة حتى علم أن القبائل الضاربة على تخوم الشام، تتحرك وأنها تتحرش بتجارة المسلمين التي أخذت تتجه نحو الشمال بعد أن أصبحت تجارة قريش نحو هذه الجهة في حكم المتوقفة؛ لذلك خرج في ألف من رجاله إلى دومة الجندل وهي واحة على الحدود بين الحجاز والشام، وتقع على الطريق بين البحر الأحمر والخليج العربي، وبينها وبين دمشق ثماني مراحل -حوالي مائة ميل- ولم يقاتل النبي -صلى الله عليه وسلم- القبائل التي خرج لقتالها؛ لأنها ما كادت تسمع باقترابه حتى فرت تاركة للمسلمين غنائم من أموالها حملها المسلمون إلى يثرب2. وبعد خمسة أشهر من خروجه لدومة الجندل، تجمع بنو المصطلق وهم حي من خزاعة كانوا حلفاء لبني مدلج وكانوا ينزلون على ماء لهم يقال له: المريسيع في ناحية قديد إلى الساحل3، وكانوا بطنًا من البطون التي تكون حلف الأحابيش مع قريش، فخرج إليهم النبي في قوة كبيرة من رجاله، واستطاع أن يحيط بهم، فلم يقاتلوا طويلًا حتى قتل منهم عشرة ووقع سائرهم في الأسر، وسبى النبي نساءهم وذراريهم وغنم أموالهم. لكنه رأى أن يصطنعهم ليوهن حلف الأحابيش ويحرم قريشًا من هذه القوة التي تستعين بها دائمًا في حروبها، فخلى عن أسراهم ورد لهم نساءهم وذراريهم، ثم أصهر إليهم بأن تزوج جويرية بنت زعيمهم الحارث بن أبي ضرار، بذلك ضمن ولاءهم له وحرمان قريش من عونهم4. من كل ذلك نرى مقدار ما وصل إليه نفوذ المسلمين، وما بلغ إليه سلطانهم وخوف القبائل إياهم، ونلاحظ هنا أن نفوذ الدولة امتد كثيرًا إلى الشمال حتى قارب تخوم الشام، كما نلاحظ أن قوات المسلمين التي كانت تتجه إلى هذه المنطقة كانت أكثر   1 ابن سعد 3/ 102، 103. 2 نفسه 3/ 103، 104. 3 ياقوت 17/ 118. 4 ابن سعد 3/ 105، 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 عددًا وأكبر من أن تكون سرايا عادية؛ وذلك لأن هذه القوات كانت تقترب من حدود بلاد تخضع لنفوذ دولة قوية هي دولة الروم، وأنه من المحتمل أن تشتبك مع قوات الغساسنة في بادية الشام. عجزت القبائل منفردة أن تنال شيئًا من المدينة ولم تستطع أن تواجه سراياها وقواتها التي كانت تخرج لقتالها، فقد كان المسلمون يقاتلون على نظام وتعبئة بينما كانت القبائل تقاتل على غير نظام، وكانت قوات المسلمين تملك ناصية المبادأة دائمًا فلم تترك لعدوها فرصة لتنظيم نفسه، لكن خصوم المدينة ما لبثوا أن اتحدوا جميعًا لسحقها، فتجمعت قوات الأحزاب من قريش وغطفان وأشجع وسليم وأسد وغيرها، فهاجمت المدينة في جولة نهائية، ولكنها ارتدت عنها، وقد ازدادت فرقة وازدادت إدراكًا بعدم إمكانها القضاء عليها، كما أوضحنا ذلك في غزوة الأحزاب، واضطرت مكة إلى توقيع صلح الحديبية بعد ذلك، فأتاح ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فرصة القضاء على قوة اليهود نهائيًّا في خيبر، وبذلك تغير الموقف نهائيًّا لصالح الدولة اليثربية، فبدأت القبائل تميل مع مصالحها، ولم يكد يمضي عام على فتح خيبر حتى كانت القبائل التي كانت تعادي المدينة، قد انضمت إليها، وبنفس الروح التي قاتلت بها يثرب، اتجهت إلى مكة، فكان جيش النبي -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة يضم أكثر من ثمانية آلاف مقاتل من رجال هذه القبائل. اطمأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن الموقف السياسي في جزيرة العرب قد تحول نهائيًّا إلى جانبه، بعد أن أمن جناح الدولة اليثربية الجنوبي بعقد صلح الحديبية مع قريش، وأمن جناحها الشمالي بالقضاء نهائيًّا على قوة اليهود في غزوة خيبر. وانفسح أمامه المجال ليعمل في هدوء واطمئنان؛ لتوسيع نشاط دعوته، والخروج بها إلى طورها العام بعد أن مرت بالطور الخاص في مكة ثم في المحيط العربي. والحق أن الدعوة الإسلامية كانت قد بلغت يومئذ من النضج ما يجعلها دين الناس كافة، فهي لم تقف عند التوحيد وما يقتضيه من عبادات، بل انفرج ميدانها وتناولت من صور النشاط الاجتماعي، ما يوازي بينها وبين سمو فكرة التوحيد، وما يجعل صاحبها أدنى إلى بلوغ مراتب الكمال الإنساني، وإلى تحقيق المثل الأعلى للحياة؛ فقد نزل كثير من الأحكام الاجتماعية، وبدأت تظهر واضحة صورة المجتمع الإنساني الذي يريده صاحب الرسالة، مجتمَعًا فاضلًا تقوم العلاقات فيه على أساس المساواة والعدالة والإخاء، فرسم التشريع في حدود هذه المثل العلاقات العامة والخاصة في الجماعة الإنسانية، فقدرت الحقوق والواجبات ونظمت الأسرة وحددت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 المسئوليات، وطبقت القواعد تطبيقًا عمليًّا، وظهرت شخصية المجتمع الجديد مشرقة بما أمر الإسلام من البر والرحمة، وما دعا إليه من عمل الخير، وما في عباداته من رياضة النفس والطبع وقتل غرور القلب، بما جعله الكمال الطبيعي للأديان التي سبقت وجعل الدعوة إليه للناس كافة. من أجل ذلك فكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في إرسال رسله إلى ملوك العالم المحيط بالجزيرة العربية يدعوهم وشعوبهم إلى رسالة الإسلام، وفي مقدمة هؤلاء الملوك هرقل قيصر الروم وكسرى ملك الفرس. أرسل رسله تحمل كتبه إلى كسرى، وإلى النجاشي وإلى ملك عمان وملك اليمامة وملك البحرين والحارث الحميري ملك اليمن، وإلى هرقل قيصر الروم، والحارث الغساني ملك تخوم الشام، والمقوقس حاكم مصر. وانطلق هؤلاء الرسل كل إلى وجهته، فأوصلوا هذه الكتب إلى من أرسلت إليهم، فمنهم من قبل الدعوة وأسلم كأمير البحرين، ومنهم من رد ردًّا حسنًا دون أن يسلم، وكان هؤلاء هم الأكثرية، ومنهم من غضب ومزق الكتاب مثل كسرى الذي أرسل باذان علمله على اليمن أن يأتيه بهذا الرجل الذي ظهر في الحجاز؛ لكن باذان ما كان يتصل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أسلم وأبقاه النبي -صلى الله عليه وسلم- على منصبه على أن يكون عامله على اليمن، وعاد رسل النبي جميعًا إليه سالمين إلا من أرسل إلى حاكم بصري فإن شرحبيل بن عمرو الجذامي عامل الروم على البلقاء عدا عليه فقتله1.   1 ابن سعد 2/ 22- 29، 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 غزوة مؤتة : كانت ناحية الشام وهذه الجهات الشمالية متجه أنظار النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أمن الجنوب بعهده مع قريش، وبإسلام باذان عامل الفرس على اليمن، وقد استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة خيبر وإخضاع يهود وادي القرى وتيماء أن يمد نفوذه نحو الشمال، وكان يرى أن هذه الجهة المتاخمة لحدود دولته هي المنفذ الطبيعي لانتشار الدعوة إلى الإسلام إذا أريد خروجها عن حدود الجزيرة العربية، فالارتباط بين هذه الجهة والجزيرة العربية ارتباط طبيعي وقديم، وبها من العرب ما يقتضي توحيد العرب جميعًا ضمهم إلى الدولة العربية, إدخالهم في نطاقها، والغساسنة أمراء العرب وإن كانوا قد قاتلوا في صفوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الروم، وإن كانوا قد خضعوا لهم؛ فإن هذا الخضوع ليس لمصلحة العرب وإنما هو لمصلحة الروم في المقام الأول، ولقد بدا ذلك واضحًا حين غير الروم سياستهم نحو هذه المملكة العربية حين لم يعودوا في حاجة شديدة إلى خدماتها، وإذا كان أمراء الغساسنة يصانعون الروم لمصلحتهم كأمراء فإنه يجب التفرقة بين مصالح الأمراء ومصالح الشعوب إذا فضل الأمراء مصالحهم، ولقد أظهر الحارث الغساني من الحماس ما لم يظهره هرقل نفسه حين أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابه إليه، كما أن الروم قتلوا الأمير الغساني الذي أسلم، وقتل شرحبيل بن عمرو حاكم البلقاء رسول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله إلى بصرى؛ لذلك رأى النبي -صلى الله عليه وسلم أن يؤدب من غدر بدعاته، وفي الوقت نفسه يشعر العرب في هذه الجهات بقوة المسلمين، قوة تحفزهم على الانضمام إليهم بدافع العروبة، فجهز حملة من ثلاثة آلاف مقاتل على رأسهم مولاه زيد بن حارثة، فإن قتل فالقيادة لجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة الأنصاري، وخرج في الجيش خالد بن الوليد متطوعًا، وسارت الحملة إلى غايتها على حدود الشام، وقد خرج الناس يودعون الجيش ومشى النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه معه حتى ظاهر المدينة، يوصي قواده ألا يقتلوا النساء ولا الشيوخ ولا الصبيان، وألا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الأشجار. وكانت خطة الجيش أن يأخذ الأعداء على غرة، لكن أنباء مسيره كانت قد سبقته، فقام عمال هرقل بجمع القبائل للتصدي للمسلمين، وأمدهم هرقل بقوات من عنده، وتذهب بعض الروايات إلى أنه تقدم بقواته التي يبلغ عددها مائة ألف من الروم حتى نزل مآب من أرض البلقاء؛ ليكون قريبًا من جيوش أمرائه؛ ليمدها بالمعونة إذا لزم الأمر. وتقدر المصادر العربية قوة الجيش التي اشتبكت مع المسلمين بمائة ألف، وهذا رقم كبير، لا يمكن الموافقة عليه، وكل ما يمكن تصوره أن قوة العدو كانت أكبر من قوة المسلمين أو أنها كانت أضعافها. فإن الحملة الإسلامية كانت مكونة من ثلاثة آلاف وأن أنباء مسيرها كانت معروفة، فلا يمكن أن يوجه إليها الروم مثل هذا العدد الحاشد من الجيوش، على أن هذه الأعداد الضخمة لم تستخدمها بيزنطة في قتالها مع الفرس وهم أقوى من العرب والصراع معهم كان صراعًا كبيرًا وخطيرًا، ولم يستخدم الروم هذه الأعداد إلا فيما بعد، عندما اشتبكوا مع الدولة الإسلامية اشتباكًا حقيقيًّا خطيرًا ثم إن عدد قتلى المسلمين كان قليلًا مما يظهر عدم كبر قوة العدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 على كل حال تقدم الجيش الإسلامي حتى بلغ معان، وهناك علم المسلمون بجموع العرب والروم لهم، فترددوا في الإقدام أو الانتظار حتى يكتبوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فإما أن يمدهم بالرجال وإما أن يأمرهم بأمره فيمضون له، وكاد هذا الرأي يسود لولا أن تقدم عبد الله بن رواحة، وكان إلى جانب شجاعته وفروسيته شاعرًا، قال: يا قوم!! والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة. وامتدت عدوى النخوة من الشاعر المؤمن الشجاع إلى الجيش كله، فقال الناس: صدق ابن رواحة، ومضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع العرب والروم بقرية يقال لها: مشارف، فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة؛ لأنهم رأوها خيرًا من مشارف لحصانتها، وعند مؤتة حدثت المعركة التي أبدى فيها المسلمون غاية الشجاعة. ما من شك في أن قوة العدو كانت أضخم كثيرًا من قوة الجيش الإسلامي، وإن لم تبلغ العدد الذي ذكره الأخباريون، وكان التكافؤ منعدمًا بين القوتين من حيث العدد ومن حيث عدة الحرب، ومع ذلك فقد أبدى المسلمون من الشجاعة وقوة الإيمان ما أذهل العدو نفسه وحال بينه وبين الالتفاف بالمسلمين وسحقهم، وإلا فأين يقع الآلاف الثلاثة من الجند من الخمسين ألفًا أو الستين أو حتى العشرين. حمل زيد براية النبي -صلى الله عليه وسلم- حملة صادقة واندفع في صدر العدو، وهو موقن بأن ليس من موته مفر، ولكنه موقن بأن الموت هو الشهادة في سبيل الله، وأن الشهادة هي الجنة، وليس الاستشهاد ودخول الجنة دون الظفر والنصر مكانًا، وحارب زيد حرب المستميت حتى مزقته رماح الأعداء، فتناول الراية جعفر بن أبي طالب وهو فتى الثالثة والثلاثين، تعدل وسامته وشجاعته واندفع في غمار العدو، حتى إذا أحيط به نزل عن فرسه فعقرها وقاتل راجلًا، ولكن للشجاعة مهما عظمت حدود بالنسبة للكثرة الساحقة، وخر جعفر بعد أن قطعت يداه وقدَّ نصفين دون أن يسلم الراية، فتناولها عبد الله بن رواحة ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 أقسمتُ يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنة ... مالي أراك تكرهين الجنة ثم نزل فتقدم فقاتل فقتل: ثم تناول الراية ثابت بن أرقم الأنصاري فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت! قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فأخذ الراية خالد، وكان الموقف يحتاج حقًّا إلى مواقف خالدية، لقد كان خالد قائدًا ماهرًا ومحركًا للجيوش لا نظيير له. أُلْهِم القيادة إلهامًا، فهو يستعين في مواقفها بكل ما عرفت الحرب من فن يستخدمه على السليقة وعلى البصيرة الملهمة فدار بالجيش دورة، ضم بها صفوفه، ثم قاتل به في غير اندفاع ومع ذلك في غير تراجع، وكان بذاته قدوة صالحة حتى لقد تكسر في يده تسعة سيوف، ومع ذلك لم يعرض رجاله لرماح العدو ولا لسيوفه تحيط بهم وتعمل فيهم، واستطاع أن يحتفظ بتوازن المعركة حتى جاء الليل، وفي الصباح عدَّل جيشه تعديلًا جديدًا، فجعل الميمنة ميسرة وجعل الميسرة ميمنة، وجعل المقدمة ساقة، والساقة مقدمة، ووضع في خلف الجيش عددًا من الرجال بالجمال والخيول يحدثون جلبة شديدة ويثيرون النقع ليوهم العدو أن مددًا قد جاءه، وأصبح الروم على تعبئتهم السابقة يرون وجوهًا غير الوجوه، ويرون خلف الجيش الإسلامي نفعًا ينبئ عن مدد جديد سوف يدخل المعركة. وإذا كان المسلمون على قلتهم قد فعلوا ما فعلوا بالأمس؛ فكيف هم اليوم وقد جاءهم المدد وازداد العدد. لقد أحجم الروم عن الهجوم، وكذلك لم يهاجمهم خالد فقد كان يريد أن يخرج من المعركة غير المتكافئة بجيشه سليمًا، ويرعب العدو حتى لا يلاحقه في تراجعه، فلما اطمأن أن نجاح خطته تراجع بقوته وبَعُدَ بها حتى صارت في مأمن ثم عاد بالجيش إلى المدينة1. استنكر المسلمون على الجيش أن يعود من غير أن ينتصر، وعيروا رجاله حتى أحرجوا بعضهم، وقالوا لهم: يا فرار. فررتم في سبيل الله؟ ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- القائد البصير الذي يدرك معنى النصر الحقيقي، واسى الجيش ورد تعيير المسلمين، وقال: "بل هم الكرار إن شاء الله". ومع ذلك فقد وجد على أصحابه أشد الوجد، وكان عليه أن   1 ابن هشام 3/ 439- 477. ابن سعد 3/ 172- 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 يعيد للمسلمين كرامتهم في هذه البلاد، فبعث عمرو بن العاص إلى قبائل الشمال يستنفرها إلى الشام، وذلك أن أمَّه كانت من قبائل تلك النواحي، فكان من اليسير عليه أن يتألفهم ثم أتبعه بالمدد فيه كبار المهاجرين عليهم أبو عبيدة ومعه أبو بكر وعمر، واستطاع عمرو أن يشتت جموع قبائل تخوم الشام ويرد للمسلمين هيبتهم في تلك الناحية1. أحدثت هذه الأعمال أثرها. فبدأت القبائل المجاورة للمدينة والتي في شمالها تبعث وفودها للنبي -صلى الله عليه وسلم- تعلن طاعتها وإذعانها، وإنه لكذلك إذا حدث ما كان مقدمة لفتح مكة، ولاستقرار الإسلام بها استقرارًا كان له أثر بالغ في إسلام العرب، وفيما أسبغ على مكة بعد ذلك من قدسية فاقت ما كان لها في الجاهلية وظلت خالدة على الزمان.   1 ابن سعد 3/ 177- 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الخاتمة : فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية عاد جيش المسلمين بعد موقعة مؤتة لا منتصرًا ولا منهزمًا، وترك انسحابه أثرًا مختلفًا عند المسلمين بالمدينة، وعند الروم، وعند قريش بمكة. فأما أثره بالمدينة؛ فقد كان المسلمون يرجون أن يحقق الجيش نصرًا كالانتصارات التي حققها من قبل، وساءهم أن ينسحب من أمام الروم دون أن يلحق بهم هزيمة، ولم يشفع لرجال الجيش عندهم أن كان العدو أضعافهم كثرة وسلاحًا، واتهموهم بالفرار في سبيل الله1 وبالغ شباب المسلمين المتحمِّس في هذا الاتهام حتى أرهقوا كبار رجال الجيش حتى ليلزم أحدهم بيته؛ كي لا يؤذيه صبيان المسلمين وشبابهم بتهمة الفرار، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو القائد البصير كان يدرك أن الانسحاب السليم أمام العدو المتفوق نصرٌ لا يقل قيمة عن دحر العدو في ميدان القتال، ولعله قُدِّر لخالد بن الوليد ضبطه نفسه وتغليبه الحكمة والحذر على الاندفاع والمغامرة في قتال قد يهلك الجيش ويؤدي إلى كارثة شديدة الأثر على موقف المسلمين، ولذلك رد على اتهام المسلمين بقوله: "بل هم الكرار إن شاء الله"2. ثم تلافى الموقف -كما ذكرنا من قبل- بما حفظ على المسلمين هيبتهم في الجبهة الشمالية وثبت سلطانهم. وأما أثر الانسحاب عند الروم، فرحوا بانسحاب المسلمين وحمدوا الله أن لم يطل القتال بينهم، مع أن جيش الروم كان أضعاف جيش المسلمين، وسواء أكان فرح الروم راجعًا إلى ما أبداه خالد من الاستماتة في الدفاع والقوة في الهجوم، أم كان راجعًا إلى مهارته في توزيع جنوده وإيهام الروم بأن مددًا جاءه من المدينة، سواء أكان هذا أم ذاك فإن القبائل العربية المتاخمة للشام نظرت إلى فعال المسلمين بإعجاب شديد. حتى لقد أعلن أحد زعماء القبائل وهو فروة بن عرم الجذامي3 -وكان قائدًا من جيش الروم- إسلامه فقبض عليه بتهمة الخيانة، وحوكم، ولم يقبل عند محاكمته أن يرجع عن إسلامه، فأعدم وكان لهذا أثره في ازدياد انتشار الإسلام بين قبائل نجد المتاخمة للعراق والشام، فدخل في الإسلام ألوف من سليم وأشجع وغطفان وعبس   1 ابن كثير 4/ 252. ابن هشام 3/ 439. 2 ابن كثير 4/ 203. ابن هشام 3/ 438. 3 ابن هشام 4/ 261، 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وذبيان وفزارة، فكأن غزوة مؤتة كانت بابًا دخل منه الإسلام في قلوب هؤلاء الذين كانوا من قبل يناصبون المسلمين العداء. أما أثر مؤتة في قريش فكان أن اعتبرها بعضهم هزيمة على سلطان المسلمين؛ ولذلك يجب أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل عهد الحديبية، ولتُعِدَّ قريش حربًا على المسلمين ومن في عهدهم دون أن تخشى قصاص محمد. وكانت خزاعة قد دخلت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر ثارات قديمة، سكنت بعد صلح الحديبية؛ فلما كانت مؤتة خُيِّل لقريش وحلفائها أن المسلمين قد قضي عليهم، ظن بنو بكر أن الفرصة سانحة ليصيبوا ثأرهم من خزاعة، وحرضهم على ذلك رجال من شباب قريش لم يقدروا الموقف تقديرًا صحيحًا، منهم عكرمة بن أبي جهل وبعض سادات قريش، وأمدوهم بالسلاح، وبيتت بنو بكر خزاعة ذات ليلة وهم على ماء لهم يسمى الوتير، فقتلوا منهم، وهزموهم حتى ألجأوهم إلى الحرم، وإلى دار بُديل بن ورقاء الخزاعي بمكة1. وخرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة حتى وقف على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالمسجد، فقص عليه نقض بني بكر وقريش العهد، وشكا إليه ما أصاب قومه، واستنصره بالعهد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" 2. ثم خرج بديل بن ورقاء في جماعة من خزاعة حتى قدموا المدينة فأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أصابهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم3، وعند ذلك رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ما قامت به قريش من نقض العهد، لا مقابل له إلا فتح مكة، وأنها فرصة لا يجب أن تفوت فقد كان فتح مكة هدفًا يعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- لتحقيقه منذ أمد بعيد، ويهيئ له في أناة وصبر، ولذلك أرسل إلى المسلمين في أنحاء الجزيرة ليكونوا على أهبة الإجابة لندائه من غير أن يعرفوا وجهته بعد هذا النداء. أما رجال الملأ من قريش فقد أدركوا ما عرضهم له عكرمة ومن معه من الشباب من خطر، فهذا صلح الحديبية قد نقض، وهذا سلطان محمد في شبه الجزيرة يزداد بأسًا وقوة، وقد انضمت إليه قبائل التي كانت تقاتل في صفوف قريش من قبل، وإنه إن فكر في الانتصار لخزاعة من أهل مكة تعرضت مكة لأشد الخطر؛ لذلك أوفدوا   1 ابن هشام 4/ 554. ابن كثير 4/ 278. 2 ابن هشام 4/ 10- 12. 3 نفسه 4/ 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 أبا سفيان بن حرب قائدهم وحكيمهم إلى المدينة ليثبت العقد وليزيد في المدة، ولعل المدة كانت سنتين، فكانوا يريدونها عشرًا، ولقي أبو سفيان بديل بن ورقاء في الطريق، وبالرغم من أن بديلًا أنكر أنه لقي محمدًا؛ فإن أبا سفيان عرف أنه كان بالمدينة، ومن أجل ذلك آثر ألا يكون محمد أول من يلقى، فجعل وجهته بيت ابنته أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم. ولم تستقبله ابنته استقبالًا حسنًا، ولما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وكلمه في العقد وإطالة مدته لم يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، ورفض كبار الصحابة من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي أن يساعدوه، بل لقد أغلظ له عمر الجواب وقال: "أنا أشفع لكم إلى رسول الله!! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به". فانصرف محنقًا يفيض أسى مما لقي من هوان، وعاد إلى مكة يحمل لقومه نتيجة سفارته الفاشلة1، وقد أدرك أن الموقف تحول نهائيًّا إلى غير صالح مكة، وأخذ رجال مكة يتناقشون في موقف أصبح ميئوسًا منه. أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم ير أن يترك لهم فرصة حتى يتجهزوا للقائه؛ لذلك أمر فنادى بالتجهز فاحتشد له جيش قوي لم تشهد الجزيرة مثله من قبل عدة ونظامًا، فلقد بلغت عدته أكثر من عشرة آلاف، وبلغت قوة الفرسان فيه أكثر من ألفين2، وإذا كان جيش الأحزاب في موقعة الخندق قد بلغ مثل هذا العدد أو نحوه فإنه كان مفكك القيادة متنازع الأهواء، أما هذا الجيش فكان تحت قيادة موحدة حازمة، وكان هدفه واضحًا محددًا، ولم تكن القبائل التي اشتركت فيه مدفوعة بالكسب المادي مأجورة كما كانت حال غطفان في يوم الخندق. ولما اكتملت عدة الجيش أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد، ودعا الله أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش حتى لا تقف عن سيرهم على نبأ3. وتحرك الجيش الكبير في عدته التي لم تشهدها الجزيرة من قبل عدة وسلاحًا ونظامًا وحسن طاعة، يملأ نفوس رجاله الإيمان بأن لا غالب لهم من دون الله، وسار محمد على رأس هذا الجيش وكل تفكيره أن يدخل البلد الحرام من غير أن يريق قطرة   1 ابن هشام 3/ 12- 14. ابن كثير 4/ 280، 281. 2 إمتاع 17/ 364، 373. 3 ابن هشام 4/ 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 دم واحدة وبلغ مر الظهران -على أربعة فراسخ من مكة- دون أن يحس أي استعداد من قريش للقائه، فهل عميت الأخبار على قريش حقيقة؟ أم أنها كانت غافلة غير متوقعة قدوم محمد لغزوها، أم تراها كانت في اضطراب لا تستطيع معه أن تحسم أمرها؟ إننا إذا تتبعنا الحوادث فربما يمكن الوصول إلى تقرير الأمر تقريرًا صحيحًا. وأول ما يطالعنا في هذا الشأن أن العباس بن عبد المطلب لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجحفة ومعه أهله قد خرج إلى المدينة1، وحين لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل أهله إلى المدينة وعاد مع جيش المسلمين، ثم إن الأمر لم يقف عند العباس وحده، وإنما خرج رجال من بني هاشم: منهم من كان يعادي الإسلام عداء شديدًا من أمثال أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فلقوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطريق وأخذوا منه الأمان لأنفسهم2. والأمر الثاني: هو أن أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد خرجوا من مكة والتقوا بالعباس الذي أوصل أبا سفيان للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أجاره، فأسلم أبو سفيان3، وأعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. والأمر الثالث: هو أن بعض رجال مكة قد استعدوا للقتال وجمعوا قوتهم في مدخل من مداخل مكة واشتبكوا مع قوات المسلمين، حتى هزموا وفروا4. ونحن إذا بحثنا هذه الأمور الثلاثة أمكننا أن نخرج برأي: فأما العباس بن عبد المطلب؛ فقد درج على أن يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- دائمًا يعلمه كل تحركات قريش ضده، فقد كتب له حين استعدت قريش لغزوه في موقعة أحد، وكتب بشأن استعدادها لغزوة الأحزاب، وتتحدث بعض المصادر أنه استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، بعد أُحُد وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بالبقاء في مكة، فإن بقاءه في مكة أكثر فائدة للمسلمين5. ثم ها هو يخرج للمدينة والجيش متجه إلى مكة لفتحها، مما يوحي بأن مهمته في البقاء بمكة قد انتهت، ثم إن العباس كان صديقًا شخصيًّا لأبي سفيان بن حرب وبينهما من الود ما يسمح بالتكاشف بين الرجلين إذا استقر رأي أبي سفيان على التسليم، وقد عرف عن العباس دائمًا البر بقومه والحرص على مصلحة قريش؛ ولذلك كان اهتمامه كبيرًا بأن يأخذ الأمان لقريش. ثم هل كان خروج بني هاشم إلى لقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- حين   1 ابن كثير 4/ 287. إمتاع 1/ 367. 2 ابن هشام 4/ 18. إمتاع 1/ 269. ابن كثير 4/ 287. 3 ابن هشام 4/ 18- 21. إمتاع 1/ 368- 371. 4 ابن هشام 4/ 26- 27. 5 أسد الغابة 3/ 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 قدومه محض صدفة؟ أم أنهم كانوا على علم بنوايا النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو مكة وخروجه لفتحها؟ وإذا كانوا على علم فهل خفي هذا الأمر على قريش؟ ثم خروج الزعماء الثلاثة إلى حيث لقوا العباس، هل كان صدفة كما تصوره الروايات؟! إننا إذا درسنا شخصيات هؤلاء الثلاثة نقطع بعدم الصدقة في هذا الخروج، فأبو سفيان كان قد أدرك الموقف حين ذهب إلى المدينة وفشلت سفارته في تأكيد العقد وزيادة المدة، وهو كقائد لقريش في صراعها قد أدرك أن الموقف في غير صالح مكة، ثم إن خروج قائد مثله للتجسس أمر فيه خطورة، إذ من المحتمل أن يقع في يد العدو ثم هي مغامرة لا مبرر لها إلا أن تكون لأمر مقصود، ولقاؤه مع العباس في مكان معين غادر العباس الجيش وذهب إليه في الليل أمر يوحي بتدبير متفق عليه، وحين لقي أبو سفيان العباس ركب معه مباشرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يلبث أن أسلم وقبل أن يكون داعية سلام. وحكيم بن حزام رجل اشتهر منذ معركة بدر بأنه ضد الحرب1 وكان حريصًا على ألا يقع الاشتباك الأول بين المسلمين وقريش، وهو من قبل كان يعطف على موقف بني هاشم حتى كان يمدهم بالطعام حين كانوا محصورين بالشعب في مكة، ثم كان ضمن العاملين على نقض صحيفة المقاطعة، ثم هو ابن أخي خديجة زوجة النبي، فهو يرتبط به برابطة الصهر فوق رابطة القرابة. ثم إن بديل بن ورقاء الخزاعي قد خرج يستنصر النبي -صلى الله عليه وسلم- على قريش وهو لا بد عالم بنية النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزو مكة، وأبو سفيان كان يعلم عنه خروجه إلى -النبي صلى الله عليه وسلم- فاستصحابه في هذه الليلة لا يمكن أن يكون للتجسس إذ كيف يتجسس بديل وقد طلب من النبي النصرة؟ وإذن فلا سبب لخروجه مع أبي سفيان غير تسهيل الاتصال بالنبي -صلى الله عليه وسلم. إذا تأملنا كل هذا؛ قطعنا بأن قريشًا كانت تتوقع الغزو، وأنها لم تستطع أن تعد قوة كافية لمواجهة المسلمين، وأنها كانت على خلاف من أمرها، بدليل أن بعض رجالها استعد للمقاومة، وقام بها فعلًا، ويعزز هذا ما روته المصادر من أن قريشًا بعثت أبا سفيان يتجسس الأخبار، وإن لقي محمدًا يأخذ لهم منه جوارًا، فإن رأى رقة من أصحابه آذنه بالحرب2.   1 الواقدي 45- 47. 2 إمتاع 1/ 368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وقد كان كبار الزعماء في قريش يرون التسليم دون قتال، وكان على رأيهم أكثرية قريش، والدليل على ذلك أن الذين اشتبكوا مع قوات المسلمين كانوا قلة وكان على رأسهم بعض الشباب وهم الذين أعانوا بني بكر من قبل، ولذلك فإن الثلاثة الذين خرجوا لا بد أنهم كانوا وفد التسليم وكانوا على اتفاق سابق مع العباس الذي خرج من مكة؛ ليمهد لهذا اللقاء، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- على علم بهذا الأمر، ولذلك قال لأصحابه وهو بالجحفة: "ذهب كلبهم وأقبل درهم، هم سائلوكم بأرحكامكم، وأنتم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه"1، الأمر الذي يقطع بأن العباس أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بنية أبي سفيان والاتفاق معه. ومع ذلك فقد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- لدخول مكة أهبته وأعد للنصر كل عدته فقسم قواته إلى عدة فرق وأمرها أن تدخل مكة من كل مداخلها، وأمر رجاله بعدم القتال إلا إذا أكرهوا وحين بدا من بعض القادة ميل إلى العنف من أمثال سعد بن عبادة الأنصاري عزله عن القيادة وأحل ابنه محله2. ودخلت قوات المسلمين مكة دون حرب، إلا ما كان من فرقة خالد بن الوليد التي تعرض لها من أجمعوا على القتال بقيادة عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمر الذين ما لبثوا أن تفرقوا بعد مناوشات بسيطة3، وبدخول جيش النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة سقط معقل المقاومة الأكبر وعفا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قريش عفوًا تامًّا4، وحتى الذين منع عنهم الأمان لشدة خصومتهم ولؤم نكايتهم ما لبث أن منحهم إياه حين أعلنوا بالطاعة. وهكذا استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكسب أكبر معركة في تاريخ الدعوة الإسلامية بغير حرب وبغير إراقة دماء. وكان لفتح مكة صدى بعيد الأثر في الجزيرة العربية وآثار بعيدة المدى من الناحيتين الدينية والسياسية على السواء. فأما من الناحية الدينية: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين تم له دخول البلد الحرام بدأ بالكعبة فطاف بها سبعًا، ثم أمر فحطمت الأصنام المقامة جميعًا. ثم دخل الكعبة فأزال ما بها من صور وتماثيل5. وبهذا قضى على الوثنية في معقلها الأكبر قضاءً رسميًّا. ثم إنه   1 نفسه. 2 ابن هشام 4/ 26. ابن كثير 4/ 292. إمتاع 1/ 375. 3 ابن هشام: نفسه. 4 نفسه 32. 5 ابن هشام 4/ 22- 27. إمتاع 1/ 383، 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 تتبع بيوت الأصنام في الحجاز وفي الجزيرة العربية كلها يرسل إليها من يحطمها ويعلن للقبائل جميعًا انتهاء عهد الوثنية1. ولم تقاوم القبائل هذا العمل وكان سكوتها يعني إقرار منها بزوال عهد الوثنية، بل إن كثيرًا من القبائل تولت أصنامها بنفسها. وقريش التي كانت في موضع الزعامة الدينية في الجزيرة العربية، لم تلبث أن اعتنقت الإسلام بعد دخول جيوش النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة. واستمسكت به ونصرته حين بدأت كثير من القبائل العربية ترتد عن الإسلام بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم. أما الآثار السياسية؛ فمنها القريب ومنها البعيد: فأما الآثار القريبة: فقد حدثت بسرعة كبيرة لا تزيد على الأسبوعين عدًّا، وذلك أن قبائل ثقيف وهوازن وهي القبائل التي تقيم قريبًا من مكة وتملك مدينة الطائف قد رأت في فتح مكة، ضربة موجهة لها واعتقدت أن دورها قريب، فقد كانت الطائف مرتبطة بمكة ارتباطًا شديدًا في الجاهلية، ومن أجل ذلك تجمعت قبائل الطائف وقبائل هوازن واستعدت لضرب المسلمين، ولم يستطيع رجال ثقيف وهوازن أن يدركوا أن مكة حين ألقت لواء المعارضة إنما ألقته بعد أن آمنت بأن معارضاتها قد استنفدت كل إمكانياتها، وأن أهل مكة قد فتحت نفوسهم للإسلام قبل أن تفتح مدينتهم أبوابها لجيوش المسلمين، وأن الفتح لم يكن حربيًّا إلا في ظاهره، ومن أجل ذلك خرجت قوات مكة إلى جانب قوات النبي -صلى الله عليه وسلم- للوقوف في وجه ثقيف وهوازن في معركة حنين2، ثم في حصار الطائف بعد هزيمتها في حنين3. أما الآثار البعيدة: فإن قريشًا بعد أن القت لواء المعارضة لم يكن يوجد بين قبائل العرب من يستطيع حمله؛ فإن مكة تمثل النظام القديم في نظر الناس في الجزيرة العربية كلها، وهذه الزعامة القرشية كانت زعامة حقيقية قبل الإسلام، فإن الأمم في هذه العصور القديمة كانت تركز جميع مشاعرها القومية في الدين، وتجعله رمزًا   1 ابن هشام 4/ 64، 198. 2 ابن هشام 4/ 68- 92. ابن كثير 4/ 322- 340. 3 ابن هشام 4/ 122- 131. ابن كثير 4/ 345- 352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 لشخصيتها وعنوانًا على ثقافتها العامة وتقاليدها، فالدين الوثني الذي كانت قريش تحميه كان عنوانًا للقومية العربية ورمزً لها، ولهذا كان تسليم قريش وتحولها إلى الإسلام أمرًا بالغ الأهمية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحس بهذا تمام الإحساس حين مال إلى السلم وتجنب أن يريق دماء المكيين مهاجمًا ومعتديًا؛ بل إنه حين انتصر على قريش لم يتبع معها ما يتبع عادة مع المغلوبين، بل قبل القرشيين في صفوفه دون شرط، وعفا عنهم وسماهم الطُّلَقَاءَ ومنحهم أعطيات من غنائم حنين وأراد بهذا أن يتألف قلوبهم فسموا: بالمؤلفة قلوبهم وهاتان التسميتان تدلان دلالة ظاهرة على سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم. فلما انضمت مكة في العام الثامن الهجري في معسكر النبي -صلى الله عليه وسلم- اقترن التسليم بتحطيم الأصنام كما قلنا وهذا التحطيم في ذاته عمل له معنى خطير، فهو تحطيم للدين القديم والنظام القديم، وتسامع الناس بهذا الفتح وهذا التحطيم وتحدثوا به، وكان لهذا نتائج بعيدة المدى، كانوا يتسامعون أن قريشًا مالت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصبحت من حزبه، وأصبح الحجاز كله بذلك لرجل واحد، وعرفت القبائل أن تغييرًا سياسيًا قد طرأ على النظام القديم، وتسامعت في نفس الوقت بأن هذا النبي الجديد قد حطم الآلهة ولم ينله أذى؛ فكان بقاؤه بعد تحطيم الأصنام يحمل في ذاته نوعًا من الدليل على صدق النبوة في نظر هؤلاء الوثنيين، ولهذا سارعت القبائل المختلفة إلى الاتصال السياسي بهذا النظام الجديد وسعى بعضها إلى الاتصال السياسي والديني في نفس الوقت بهذا الرجل الذي ظهر في الحجاز وخالوه ملكًا ظهر على صورة نبي فتوافدت الرسل ممثلة للقبائل على يثرب في العام الثامن والتاسع وبعض العاشر، حتى لم تبق قبيلة إلا أرسلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفدًا يعقد معه عهدًا1. هذه الوفود هي الصدى الملموس لنهاية الصراع بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكة على هذا النحو السعيد. ثم إن هذه الخطوة الجديدة التي تحققت بقدوم الوفود أتاحت للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتجه لتحقيق خطوة أخرى كبيرة، فقد بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى ما وراء الحجاز، إلى شبه الجزيرة العربية كلها، وكان هذا التحول مقرونًا بالصدى الهائل الذي تجاوب في جزيرة العرب بعد فتح مكة.   1 ابن سعد: 2/ 56- 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وبفتح مكة خرجت الدولة الإسلامية من نطاق المدينة -الدولة اليثربية- إلى نظام الدول الكبيرة الموحدة، فقد أصبحت الدولة الإسلامية العربية تتكون من المدينة ومكة والطائف وما بينها وحولها من قبائل، وأصبح هدف النبي -صلى الله عليه وسلم- في توحيد العرب أمرًا محققًا، وكان فتح مكة خطوة كبيرة نحو هذا الهدف، تلتها خطوة أخرى لإقرار هذا التوحيد وتثبيت دعائمه، وهي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصدر في نهاية العام التاسع بيانًا سمي: "بيان براءة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 بيان براءة : كان هدف النبي -صلى الله عليه وسلم- في صراعه مع مكة توحيد العرب في دولة واحدة تحت راية الإسلام، وكان فتح مكة خطوة نحو تحقيق هذا الهدف؛ فبعد أن ألقت مكة لواء المعارضة لم يكن في الجزيرة العربية قوة أخرى تستطيع حمل هذا اللواء، ذلك لأن قريشًا كانت قد وصلت إلى مركز الزعامة الحقيقية في الجزيرة العربية من الناحية الاجتماعية والأدبية والدينية، وكانت في مركز التشريع للعرب. فكان دخولها في الإسلام وانضمامها إلى معسكر النظام الجديد يعني نهاية عهد معين هو عهد الوثنية كما كان ابتداء لاتجاه نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ما وراء مكة إلى شبه الجزيرة العربية كلها، ولم يكد هذا الفصل من حياة الدعوة الإسلامية يتم حتى اتصلت القبائل كلها بهذه الحكومة اليثربية الحجازية، فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد تحول من مجال ضيق إلى مجال أوسع، وهذا التحول كان مقرونًا بالصدى الهائل الذي تجاوب في جزيرة العرب بعد فتح مكة هذا الصدى الذي أظهر العرب على أن الحكومة الجديدة صاحبة الدين الجديد قوة يجب الاتصال بها، فتتالت وفود القبائل في العام التاسع للهجرة، إلى أن رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر هذا العام الذي سمي بعام الوفود أن يقوم بعمل حاسم فيه استكمال لشيء ضروري للوضع الجديد، ذلك أنه وإن أرسلت القبائل وفودها تعلن إسلامها وخضوعها؛ إلا أنه بقيت أقلية لم تتصل بالمدينة، وبقي من بين رجال القبائل أناس لم يدخلوا في الإسلام وكان الوضع يقتضي أن تحدد هذه القبائل موقفها، فإما أن تدخل في النظام الجديد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وإما أن تعتبر منفصلة عنه، والنظام الجديد دين ودولة، أو هو دولة قائمة على أساس الدين، والدخول في هذا النظام له ناحيتان: بالنسبة للوثنيين من العرب يجب عليهم أن يعتنقوا الإسلام كمظهر لدخولهم في النظام الجديد وإقرارهم بالوحدة العربية. وبالنسبة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، يجب أن يعلنوا ارتباطهم بالدولة الجديدة عن طريق الخضوع لها ودفع الجزية، والجزية ضريبة مالية يدفعها الرجال البالغون القادرون على الكسب ويعفى منها النساء والأطفال على أن تقوم الدولة بكفالة الحماية لهؤلاء لناس وإعطائهم حقوق الرعية، وتنفيذ القانون عليهم، مع إعفائهم من الخدمة العسكرية، وقد استمر هذا النظام بعد ذلك بالنسبة للبلاد التي فتحها المسلمون والتي كان أهلها يدينون بدين كتابي. ولتحقيق ضم هذه الفئة القليلة التي أشرنا إليها وتحديد موقفها، أصدر النبي -صلى الله عليه وسلم- في نهاية العام التاسع للهجرة بيانًا عُرِف ببيان براءة، وكان هذا البيان وحيًا، ولم يكن من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه جاء من آيات قرآنية في صورة من سور القرآن الكريم وهي سورة التوبة، وقد بدئت بكلمة: براءة فسمي هذا البيان "بيان براءة" وقد أذاعه النبي -صلى الله عليه وسلم- في مناسبة عامة يحضرها العرب من كافة أنحاء الجزيرة العربية، وفي يوم مشهود هو يوم الحج الأكبر، حيث اجتمع الحجيج كلهم في صعيد واحد عند جبل عرفات، وكان على الحج في هذا العام أبو بكر الصديق، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل مندوبًا خاصًّا هو علي بن أبي طالب، وإرسال علي لهذا الغرض يعطي أهمية خاصة للموضوع، إذ إنه يعتبر مندوبًا خاصًّا لإذاعة حالة خاصة، ولم يُكَلَّف بذلك أبو بكر حتى لا يعتبر البيان مندرجًا في حالة عامة هي حالة الحج، ثم إن البيان كان نبذًا لعهود بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين بعض القبائل، وكان العرف يقضي بأن يقوم بنبذ صاحب العهد نفسه أو رجل من عصبته شديد القرابة به؛ ولذلك أرسل عليًّا لتلاوة هذا البيان وإعلان الناس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ، وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ، كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ، اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ، أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ، إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ، إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة] . أعلن البيان أن الله بريء من المشركين، وأنه لا عهود بينهم وبين الدولة الإسلامية وأن الذين سبقت لهم عهود محدودة بأجل معلوم؛ فلم ينقصوها شيئًا ولم يعينوا على المسلمين أحدًا، توفى إليهم عهودهم إلى مدتهم ثم لا تتجدد، ثم أجل المشركين فرصة أربعة أشهر ليفكروا في وضعهم، فإما أن يعلنوا إسلامهم وينضموا للدولة الجديدة، وإما يعتبروا خارجين عليها متمردين على نظامها. ووجود فئة لا تدين بمبادئ الدولة الإسلامية ولا تخضع لقوانينها -أمر بالغ الخطورة في كيان الدولة الداخلي، وكان لا بد أن يخضع هؤلاء الناس لنظام الدولة أو يحاربوا بمعنى أن يوضعوا في حكم الأعداء، ولكنهم أعداء داخليون يترتب على عداوتهم خطر كبير على كيان الدولة، ومن هنا لم يقبل الإسلام منهم إلا الدخول فيه والخضوع له، وليس للمشركين ديانة تحترم ولا مثل تفرض هذا الاحترام كأصحاب الديانات السماوية الأخرى، فالإسلام قد اعترف بالديانات السماوية واعتبر الدين وحدة واحدة، وأن رسالة الإسلام إنما جاءت لتأكيد هذه الوحدة وتطهيرها مما علق بها، وتأكيد وحدانية الله التي جاءت بها، لذلك اعتبر أهل الكتاب داخلين في وحدة الدولة إذا ما أعلنوا خضوعهم لها ووفوا بالتزاماتهم نحوها، وكان على هذه الفئة القليلة من المشركين وأهل الكتاب أن تحدد موقفها؛ فإما إسلام وخضوع للدولة وإما تعرض للحرب الشاملة. ثم أعلن البيان أن مكة بيتها وحرمها إسلاميًّا خالصًا لا يجوز أن يدخله مشرك، وأن الحج أصبح حجًّا إسلاميًّا بعد أن برئت الكعبة من الأصنام؛ ولذلك فيجب ألا يحج مشرك ولا يقرب المسجد الحرام، وإذا كانت الدولة قد حرصت على وحدتها بإعلان براءتها من المشركين، فهي كذلك لم تعد في حاجة إلى الذين دخلوا فيها من قبل بمظهرهم دون قلوبهم وهم الذين عرفوا بالمنافقين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- مضطرًا إلى مداراتهم حرصًا على الترابط الداخلي في دولته الناشئة؛ لأن سلطان العصبية كان قويًّا، فلو أنه قتلهم أو عاقبهم لربما جر ذلك إلى انتصار عشائرهم لهم، وبذلك يحدث تخلخل في صفوف الدولة، أما وقد رسخت أقدام الدولة واستقرت المبادئ في نفوس المسلمين وأصبحت بسلطانها أقوى من العصبية، فلم تعد هناك ضرورة للمداراة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ولذلك استمر البيان بعد ذلك يفضح المنافقين ويندد بهم تنديدًا شديدًا، وينذرهم بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، ويحذر المسلمين من مصانعتهم وودهم، ويعتبرهم عنصرًا ضارًّا في الدولة مفسدًا فيها، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وإذا كانوا في مظهرهم يبدون من المسلمين؛ لكنهم في حقيقتهم ليسوا منهم، وحتى لو أكدوا هذا وحلفوا عليه فإنما ذلك يكون منهم فرقًا حتى إذا ما وجدوا فرصة انتقضوا وكانوا عونًا على الدولة لا عونًا لها؛ ولذلك أنذرهم بأنهم إن أرادوا أن يكونوا مع المسلمين في توادهم وتراحمهم فعليهم أن يطهروا أنفسهم من النفاق وهو الكفر الباطن1. والبيان في هذا الشأن يشرك الشعب في تصفية المجتمع، فإن الدولة لا تستطيع بأجهزتها مهما بلغت من الدقة أن تكشف عن خفايا نفوس الناس وأن تعرفهم معرفة مباشرة، وإنما يعرف الأفراد بعضهم بعضًا بالمخالطة والمكاشفة، والمجتمع السليم هو الذي يوجد فيه أفراد يشاركون الدولة مسئوليتها في تطهير المجتمع من الفئات الضارة المنحرفة المتغلغة فيه؛ ولذلك استعدى البيان المسلمين المؤمنين على هذه الفئة المنافقة؛ ليشعرها بالعزل الاجتماعي حتى تندرج بكليتها في النظام الجديد، أو تحس بوحدتها وانعزالها. وقد آتى هذا البيان ثمرته فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حج في العام العاشر حِجَّتَه الأخيرة. وهي الحجة التي حجها على النظام الكامل، وحج معه فيها حوالي مائة ألف حاج من العرب2 لم يكن من بينهم مشرك واحد. ومعنى هذا أن البيان أحدث تأثيره المطلوب. وفي هذه الفترة التي تقع بين إعلان براءة ووفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- طبق الرسول -صلى الله عليه وسلم قانون براءة في حذر شديد وكياسة سياسية بارعة، وتجنب الاصطدام بالقبائل وإلا حرج كبرياءها وأثار عصبيتها؛ ولذلك كان يكتفي من وفودها بإعلان إسلامهم وإعلان انضمامهم إلى حكومته، ويرسل معهم عند عودتهم معلمين يعلمونهم الإسلام في بلادهم، وهؤلاء المعلمون هم أول صنف من الدعاة وأول صنف من الولاة والعمال في الدولة الإسلامية، وعلى أيديهم دخلت القبائل في الإسلام وجمعت الصدقات من كافة القبائل ووزعت على الفقراء توزيعًا محليًّا ولم يرسل إلى يثرب إلا الفائض3.   1 انظر سورة التوبة 42- 110. 2 إمتاع 1/ 512. 3 ابن هشام 4/ 271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وهؤلاء الولاة الجباة المعلمون الأولون لم يشلوا يد رؤساء القبائل حين وقفوا إلى جوارهم، بل كانوا يتعاونون تعاونًا تامًّا، وفي بعض الأحيان كانوا يضعون أنفسهم في حمايتهم. وبدخول القبائل في الإسلام على هذا النحو أصبحت الجزيرة العربية كلها تحت سلطان دولة واحدة ولأول مرة في تاريخ الجزيرة يتوحد العرب تحت سلطان دولة عربية واحدة ولم يخرج على نفوذ الدولة من قبائل العرب إلا ما كان منها تحت نفوذ الدول الكبرى على حدود الجزيرة في بادية العراق والشام، والحد الذي كان يشغل بال النبي هو الحد المتاخم لدولة الروم، وقد حدث من جانب عرب الغساسنة والقبائل الموالية للدولة الرومية ما استدعى من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوجه بعض الحملات الحربية؛ لتوطيد سلطان دولته وتأديب القبائل التي تهدد حدودها الشمالية، وقبل وفاته قام بحملة كبيرة اشتركت فيها معظم قبائل العرب وبلغت عدة رجالها ثلاثين ألفًا1، إذ قد وصل إلى سمعه إشاعة حشد الروم على حدود الدولة العربية، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين وصل إلى تبوك لم يجد هذه الحشود المزعومة، فوادع المدن والقبائل على الحدود، وكان أمر هذه الحدود يشغله طيلة الفترة الأخيرة من حياته حتى أعد بعثًا عسكريًّا إلى هذه الجهة لم ينفذ إلا بعد وفاته. وتوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول العام الحادي عشر بعد أن حج بنفسه في نهاية العام العاشر حجته الإسلامية الوحيدة التي سميت فيما بعد بحجة الوداع وفيها أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- المبادئ العليا، وبين للناس أن الإسلام كرسالة وكمبادئ قد اكتمل، وأن به قد أكمل الله على الناس دينهم وأتم عليهم نعمته: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] 2.   1 ابن هشام 4/ 169- 184. 2 ابن هشام 4/ 275- 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الخلافة الإسلامية وتثبيت دعائم الوحدة مدخل ... الخلافة الإسلامية وتثبيت دعائم الوحدة كان موت النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يترك وصية عن طريق الحكم بعده أمرًا آثار كثيرًا من الخلاف، فكانت مشكلة النظام الذي يجب أن يقوم بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- أول مشكلة واجهها المسلمون، والمشكلة الثانية متصلة بالأولى وهي هل يستمر النظام الجديد كما كان أيام النبي -صلى الله عليه وسلم؟ وهل يستمر العرب الذين انضموا إلى يثرب على الطاعة والحلف كما كانوا أم يعودون إلى ما كانوا عليه من قَبْل قبائل مستقة ومدنًا متفرقة على شكل دول قبلية ومدنية؟ وبحل هاتين المشكلتين تقررت الخلافة وتدعمت الوحدة واستقر النظام الجديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 مشكلة الخلافة : اختلف الناس عندما علموا بموت النبي -صلى الله عليه وسلم- واستسلموا إلى جميع الدوافع الغريزية التلقائية، فمنهم مكذب بموته، ومنهم هلع، ومنهم حريص على انتهاز الفرصة. أما من لم يصدق الخبر فهو عمر بن الخطاب حتى هم أن يقتل من كان يروي الخبر، وأما من هلع فهو علي بن أبي طالب وأهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- الأقربون، وأما المنتهزون للفرصة فهم الأنصار، حملتهم العصبية على أن سارعوا إلى الاجتماع في إحدى السقائف المسماة سقيفة بني ساعدة. وقد كان لكل بطن من بطون القبيلة مكان أو سقيفة يجتمعون عندها إلا أن سقيفة بني ساعدة اشتهرت لاجتماع الأنصار عندها في هذا اليوم، وشرع الأنصار يختارون واحدًا منهم، وانتشر الخبر بالمدينة حتى بلغ الصحابة؛ فسارع ثلاثة منهم هم: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح في عدد من الصحابة، وأرادوا أن يعالجوا هذا الموقف الذي خلقه الأنصار بتسرعهم وتصرفهم المفاجئ دون أن يتفاهموا مع الأطراف الأخرى بالمدينة، ولم يلجأ الصحابة إلا إلى الحجة، ونجحوا في الحيلولة بين الأنصار وبين انفرادهم بأمر تقرير النظام الجديد، ولو تم للأنصار ما أرادوا لتعرضت الجماعة كلها لفتنة كبرى، والواقع أن تسرع الأنصار يومئذ كان مريبًا، وكان جنوحًا إلى العصبية، وقد سهل الأمر على الصحابة الثلاثة أن الأنصار كانوا منقسمين إلى عصبيات مختلفة وأن هذه العصبيات عملت عملها في هذا الموقف الحاسم، أما هذا الثالوث من الصحابة فكان صفًّا واحدًا يتبع رأيًا واحدًا، ولهذا انتهى الأمر بمناقشة بين الأطراف المجتمعة حول نظام الحكم، وفي أثناء المناقشة عرضت آراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 كثيرة، فبعد أن كان الأنصار يريدون أن يولوا واحدًا منهم، اقترحوا أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، ولو تم هذا الاقتراح لكان من الواجب أن يتولى الخلافة اثنان، إلا أن الثلاثة رفضوا هذا الرأي في كياسة ذاكرين للأنصار فضلهم، واقترحوا رأيًا جديدًا وسارعوا بأخذ الأصوات عليه -وهذا التعبير حديث بل الأصح أن نقول: سارعوا إلى أخذ البيعة عليه- وسارع الناس إلى مد أيديهم وإلى مبايعة أبي بكر، وكان هذا الحل كما أرجف بعض الناس حلًّا جاء عفوًا دون تدبير وأنه جاء فلتة، وكان من الممكن أن يفضي إلى فتنة إلا أن الله وقى شرها، ومهما تختلف المذاهب الإسلامية في أمر هذه البيعة وفي الحكم على الثلاثة الذين تداركوا الموقف، وفي الأنصار الذين أرادوا أن يستبدوا بالأمر؛ فإن السقيفة قررت أمر الخلافة تقريرًا نهائيًّا وأصبحت سابقة قابلة للتطبيق، وحرص الناس على أتباعها ولو من الوجهة الشكلية إلى أن زالت الخلافة. وهذا الحل الذي سارع الناس إلى الرضاء به يدل على أنهم كانوا يسلمون ضمنًا بأن النظام الجديد واجب البقاء، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن مات فإنه خلف فيهم دينًا وكتابًا يسيرون على هديه، وأن من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فرضاء الناس يومئذ يعبر عن إرادة الاستمرار في ظل النظام الذي أنشأه النبي -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الردة : ولم يكد المسلمون ينتهون من هذه الأزمة حتى واجهوا أزمة أخرى أشد؛ فالأولى لم تكن تتطلب إلا شيئًا من الكياسة وحسن الرأي والوقوف على الحل الصحيح، أما الثانية وهي الردة فإنها كانت تتطلب إعداد الجيوش وتعبئة قوة المدينة الحربية والمعنوية، وفي أثناء هذه الأزمة ظهرت بطولة أبي بكر حتى كان ابنه محمد يقول مفاخرًا فيما بعد بأنه ابن فاقئ الردة وحتى قال بعض الناس: إنه لم ير أحدًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أملأ بالحرب من أبي بكر، والسبب المباشر في هذه الأزمة هو موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد سبق إلى ظن الناس أنه لن يقوم مقامه أحد، وأن الفراغ الذي تركه أكبر من أن يسد، وأن النظام الجديد لا يمكن أن يدوم بعده، وأن الخطوة الجبارة التي خطاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالعرب خطوةٌ كانت تحتاج إلى دوام صاحبها، ولهذا سارع العرب برغم إعجابها بالروح القومي الذي بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقلدت القبائل بعضها بعضًا، وانتشر الارتداد في كل مكان حتى لم تبق قبيلة إلا وفيها جماعة كبيرة مرتدة، وغالت بعض القبائل فأرادت أن يكون لها ما لقريش بمعنى أن يكون منها نبي كما كان من قريش نبي، وأن تجتمع إلى زعامتها كما اجتمعت إلى قريش، ولم يثبت على النظام الجديد إلا مثلث: المدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ومكة والطائف، غير أن المرتدين بطبيعة حركتهم ولحسن حظ يثرب لم يكونوا ليتضامنوا فيما بينهم، فالأزمة في الواقع ترجع إلى النزوع إلى الاستقلال وإلى رفض التضامن، وكانت الهزيمة التي أصابت المرتدين آخر الأمر دليلًا على أن النظام الجديد قد أصبح قويًّا جارفًا، وعلى أن حركة الردة برغم عنفها وشمولها لم تستطع أن تنال من النظام الجديد شيئًا، ولولا أن المدينة كانت تمثل فكرة جديدة وتمثل ما انطوت عليه في الحقيقة نفوس العرب، ولولا أنها كانت تمثل القومية التي كانت حائرة غامضة في الجاهلية، ولولا أن جيش المدينة كان أقوى من كل قبيلة أو قبيلتين على حدة؛ لكانت تلك الأزمة نهاية للنظام اليثربي النبوي. واستطاعت جيوش المدينة أن تظهر عزمها على تأييد النظام الجديد وأن ترد القبائل إلى الطاعة، بل إن جيوش المدينة قامت إلى جانب قمع المرتدين بعمل آخر إضافي في نفس الوقت، هو تطبيق قانون براءة تطبيقًا تامًّا، أو هو بحسب اللفظ الوارد في المصادر: استبراء رسمي من الدين الوثني، وكان الاستبراء هدفًا مهمًّا من الأهداف التي وضعتها جيوش الردة لنفسها، فالمدينة كانت تعلم أن جيوشًا لم تطأ من قبل من أقاليم الجزيرة إلا الحجاز، وأن نفوذها فيما وراء ذلك سطحي، وأن معظم القبائل لم تتصل بالمدينة،وإلا عن طريق المواثيق التي أبرمتها في عام الوفود وعن طريق عمال الصدقات الفقهاء الدعاة الجباة، فكانت الردة في الحقيقة فرصة لتطبيق الاستبراء تطبيقًا فعليًّا وإظهار قوة الجيش اليثربية، ولم تكن المدينة قد أوتيت تلك الفرصة من قبل، فقد كانت عاجزة عن مثل ذلك وإلا وقعت في حرج وظهرت بمظهر المعتدي وجرحت كبرياء القبائل. ونحن إذا قرأنا الكتب التي كتبها أبو بكر وزود بها جيوش الردة، وجدنا فيها نية الاستبراء ظاهرة ووجدنا فيها لفظ الاستبراء الدال على أن أبا بكر كان يريد أن يطبق إعلان براءة فلا يصح أن نهمل الصلة بين لفظ الاستبراء الوارد في كتب أبي بكر وبين لفظ براءة الوارد في سورة براءة، ثم إننا نجد بعض زعماء الردة يحتجون على المدينة حين حاربتهم بأنهم لم يكونوا دخلوا الإسلام من قبل حتى يعدوا مرتدين ويطلبون لذلك أن يطبق عليهم قانون الاستبراء لا قانون الردة؛ فإذا نظرنا إلى الردة من هذه الناحية عرفنا أنها كانت أزمة ضارة نافعة، ثم إن مهمة المدينة أثناءها كانت يسيرة إلى حد ما؛ لتفرق الأعداء وعدم تضامنهم إطلاقًا، ولوجود جماعة في كل قبيلة موالية للمدينة، فهذه الأزمة لم تكن تحتاج في الواقع إلا إلى قدر من الإيمان وكان أبو بكر كفؤًا لها من هذه الناحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وقد استغرقت الردة وقمعها نحو عام، فلما استهل العام الثاني عشر للهجرة كانت الوحدة العربية قد عادت أقوى مما كانت، وكان المجال في بدء هذا العام فسيحًا أمام النظام الجديد، وكانت القلوب يقظى قد استهوتها المبادئ الجديدة بما فيها من قومية ودين، وتكاد القومية تكون دافعًا أقوى من الدين على تحريك الشعوب وإنهائها، فمن الشعوب من غيَّر دينه أكثر من مرة وظل مع ذلك محتفظًا بقوميته، وكان إحساس العرب بوحدتهم وقوميتهم على يد الحكومة اليثربية أمرًا لم يُتَحْ لهم من قبل، وبهذا تمت الفكرة التي بدأها النبي -صلى الله عليه وسلم- وحققها، فتأيدت وتدعمت على يدي أبي بكر، وتحقق للعرب إلى وحدة اللغة وتجانس النسب ووحدة الدم وحدة الدين ووحدة الدولة وكان ذلك حدثًا خطيرًا وخطوة جبارة تكاد تكون معجزة أقوى من المعجزة التي تلتها وهي معجزة الفتوح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 الكشاف أولًا: فهرس الأعلام ثانيًا: الدول والقبائل والبطون والعشائر ثالثًا: المواضع رابعًا: الحروب والغزوات والوقائع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 أولًا: فهرس الأعلام: "أ" إبراهيم عليه السلام: 85، 88، 89، 90، 91، 96، 103، 145، 149، 150، 151، 161، 202، 219، 383، 384. أبرهة: 120، 127، 135، 136. أبو أحيحة سعيد بن العاص: 108. أبو براء عامر، ملاعب الأسنة: 400. أبو بصير بن أسيد: 376. أبو بكر الصديق: 107، 221، 382، 207، 418، 424، 426، 427. أبو تمام: 43. أبو جبيلة الغساني: 219، 270، 269، 270، 271، 272، 273. أبو جهل بن هشام: 111، 115، 220، 345، 347. أبو حارثة "النجراني": 384. أبو حذيفة بن عتبة: 54. أبو دجانة: 357. أبو ذر الغفاري: 85، 146. أبو رافع اليهودي: 251، 304. أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: 116، 412. أبو سفيان بن حرب: 69، 115، 116، 120، 124، 191، 328، 344، 346، 347، 349، 351، 352، 359، 361، 367، 374، 387، 388، 400، 411، 412. أبو طالب بن عبد المطلب: 222، 228. أبو عبيدة الجراح: 407، 424. أبو كرب الحميري "تبان أسعد": 96، 135، 288. أبو لهب بن عبد المطلب: 60، 341. ابن الأثير: 113، 115، 116. أحيحة بن الجلاح: 272، 274. أخناتون: 211. الأخنس بن شريق الثقفي: 127، 191. الأرقم "ملك العماليق": 253. إسحاق عليه السلام: 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 ابن إسحاق: 114، 115، 278، 282، 316، 319، 339. إسرائيل ولفنستون: 254، 255، 336، 364. إسطفانونس البيزنطي: 242. الإسكندر الأكبر: 131، 132. إسماعيل -عليه السلام: 88، 89، 90، 91، 92، 96، 104، 119، 136، 145، 383، 384. أسيد بن حضير: 231. الإصطخري: 21. أصيل الغفاري: 185. أغسطس "قيصر": 132. إلياس بن النضير: 93. أليوس جالوس: 133. أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم: 411. أمية بن أبي الصلت: 207. أمية بن خلف الجمحي: 128، 345. أمية بن عبد شمس: 113، 116، 124. أنس بن مالك: 307. أوجست ميلر: 87. أوليرى: 180. إياس بن أوس الأوسي: 214. "ب" باذان: 403. بديل بن ورقاء: 191، 410، 413. البراء بن معرور: 275. بروكلمان: 89.بسطام بن قيس: 35. بطليموس الجغرافي: 86، 89. البكري: 46. البلاذري: 113، 116. بلال بن رباح: 220. "ت" تميم الداري: 178، 194. توفيلس: 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 "ث" ثابت بن الأرقم الأنصاري: 406. "ج" جرير بن عبد الله البَّجَلي: 67. جساس بن مرة: 44. جعفر بن أبي طالب: 404، 405. جويرية بنت الحارث زوج النبي -صلى الله عليه وسلم: 53. "ح" الحارث بن أبي ضرار: 401. الحارث الحميري: 403. الحارث بن عامر: 107. الحارث الغساني: 404. الحارث بن قيس: 107. حاطب بن أبي بلتعة: 54. حرب بن أمية: 113، 116. حسان بن ثابت: 399. الحسين بن علي: 112. الحطيئة: 68. حكيم بن حزام: 412، 413. الحليس: 372. حمزة بن عبد المطلب: 359. الحنظة "أم أبي جهل": 180. ابن حوقل: 19. حيي بن أخطب: 364، 366، 391، 392. "خ" خالد بن سفيان بن نبيح اللحياني: 66. خالد بن الوليد: 107، 374، 406، 409. خديجة بنت خويلد زوج النبي -صلى الله عليه وسلم: 108، 413. ابن خلدون: 33، 68. خويلد بن أسد: 124. خيثمة أبو سعد الأوسي: 284. "د" داود -عليه السلام: 253، 308. دريد بن الصِّمة: 37. دوتي: 29. ديودور الصقلي: 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 "ذ" ذو نفر الحميري: 126. "ر" ربيعة بن مكدم: 43. رزاح بن ربيعة: 64. روبر تسون سميث: 63، 64. "ز" الزبير بن العوام: 305. زهير بن أبي سلمى: 32. زهير بن جذيمة العبسي 77. زيد بن حارثة: 404. زيد بن عمر بن نفيل: 207. زينب بنت جحش زوج النبي -صلى الله عليه وسلم: 60. ابن الزيات: 43. "س" ابن سعد: 113، 114، 115. سعد بن عبادة الخزرجي: 206. سعد بن معاذ: 127، 231، 275، 277، 284، 345، 348، 392. سعيد بن زيد: 305. سعيد بن العاص: 192. سلام بن أبي الحقيق: 364، 394. سلام بن مشكم: 387. سلمان الفارسي: 365. سلمة بن خويلد: 398. سلمة بن عبد الأسد: 398. سلمى بنت عمرو: 272. سليمان "عليه السلام": 254. السموأل: 246. سمية "أم عمار بن ياسر": 220. سهيل بن عمرو: 414. سواع "صنم": 64. سيف بن ذي يزن: 133، 135. ابن سيد الناس: 144. "ش" شاس بن قيس: 381. شرحبيل بن أبي كرب "أسعد الحميري": 260. شرحبيل بن عمرو الجذامي: 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 ابن شهاب الزهري: 185. شيبة بن ربيعة: 184. "ص" الصعب بن معاذ: 396. صفوان بن أمية: 107، 414. صهيب الرومي: 190. "ط" الطبري: 113، 115. طلحة بن عبيد الله:305. طليحة بن خويلد: 398. "ع" العاص بن وائل السهمي: 110، 111، 128. عامر بن الطفيل: 389، 399. عائشة "زوج النبي صلى الله عليه وسلم": 185. العباس بن عبد المطلب: 101، 106، 115، 116، 231، 412، 414. عبد الدار بن قصي: 107، 108، 109. عبد الرحمن بن عوف: 303. عبد شمس بن عبد مناف: 114، 116. عبد الله بن أبي بن سلول: 258، 276، 277، 281، 282، 284، 238، 339، 355، 389، 389، 392. عبد الله بن أنيس: 399. عبد الله بن جحش: 207. عبد الله بن جدعان: 111، 181، 183، 190. عبد الله بن جعد: 77. عبد الله بن ربيعة: 181. عبد الله بن رواحة الأنصاري: 404، 405. عبد الله بن سلام القينقاعي: 380. عبد الله بن الصامت: 146. عبد الله بن عبد الله بن أبي: 339. عبد الله بن عنمة الضبي: 35. عبد المطلب بن هاشم: 113، 114، 115، 116، 119، 120، 135، 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 عبد مناف بن قصي: 106، 116، 124. عتبة بن ربيعة: 115، 128، 223، 347. عثمان بن الحويرث: 139، 207، 223. عثمان بن طلحة: 107، 375. عثمان بن عفان: 116، 297، 303. عداس: 184. عرفجة بن هرثمة: 67. عروة بن مسعود الثقفي: 128. العزى "صنم": 138. عزير "عليه السلام": 384. علي بن أبي طالب: 113، 418. عقيل بن أبي طالب: 116. عكرمة بن أبي جهل: 374، 410، 414. عمار بن ياسر: 220. عمر بن الخطاب: 67، 107، 115، 185، 372. عمرو بن أمية الضمري: 389، 400. عمرو بن الجموح: 277. عمرو بن سالم الخزاعي: 410. عمرو بن العاص: 407. عمرو بن عامر: 259. عمرو بن لحي: 100، 105، 160. عمرو بن النعمان البياضي: 271، 286، 277. عيسى عليه السلام "المسيح": 211، 214، 381، 384. عيصا "راهب": 196. "ف" فروة بن عمرو الجذامي: 402. فنحاص: 382. فهر بن مالك بن النضر: 108. "ق" قزمان: 339. قس بن ساعدة: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قصي بن كلاب: 102، 103، 105، 106، 107، 108، 117، 119، 126، 138، 147، 160، 188. قيس بن المكشوح: 67. "ك" ابن كثير: 114. كعب بن أسد القرظي: 276، 391، 392. كعب بن الأشرف: 386، 388. كلاب بن مرة: 93. ابن الكلبي: 64، 115. كليب: 44. كنانة بن أبي الحقيق: 364. كيسان: 194. "ل" اللات "صنم": 138. لا مانس: 100، 124. "م" ماركس دودز: 221. مالك بن العجلان: 270، 274، 280. محمد بن مسلمة الأوسي: 389. مخشي بن عمرو الضمري: 400. مخيريق: 249. مدلج بن سويد الطائي: 43. مرشاس بن قيس: 278. مرة بن مالك: 257. المستوغر بن ربيعة: 144. مصعب بن عمير: 231. مضاض بن عمرو الجرهمي: 160. المطعم بن عدي: 229. المطلب بن عبد مناف: 135. معاوية بن أبي سفيان: 54، 97، 114. معاوية بن مالك: 34. المعتضد بالله العباسي: 97. معروف بن الخربوذ: 113. المقريزي: 113. المقوقس: 403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 مناة "صنم": 138. المنذر بن حرام النجاري: 275. مهلهل بن عدي: 32. موسى "عليه السلام": 197، 248، 253، 335، 381، 384. "ن" نبيه بن الحجاج: 111. نسر "صنم": 64. النعمان بن المنذر: 43. نفيل بن حبيب الخثعمي: 127. نفيل بن عبد العزى: 113. نوفل بن عبد المطلب: 116. نوفل بن عبد مناف: 140. "هـ" هاجر أم إسماعيل "عليه السلام": 88. هاشم بن عبد مناف: 12، 108، 113، 116، 128، 208. هاني بن مسعود: 43، 71. هبل "صنم": 137. هرم بن سنان: 32. ابن هشام: 260. هشام بن المغيرة: 124. الهمداني: 13، 20. هند "زوج أبي سفيان": 353، 359. هند بنت عبد المطلب: 192. هيرودوت: 13، 19، 138. هيكل "محمد حسين": 90. "و" الواقدي: 115، 386. ود "صنم": 64. ورقة بن نوفل: 207، 119، 197. الوليد بن عتبة: 112. الوليد بن المغيرة المخزومي: 181. وليم موير: 89، 90. وهب اللات: 137. "ي" ياسر "والد عمار": 220. ياقوت: 115. يحيى "عليه السلام": 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 يزيد بن زمعة: 107. يزيد بن معاوية: 240. اليسير بن رزام: 394. يعقوب "عليه السلام": 384. اليعقوبي: 246، 247. يعوق: 64. يغوث "صنم": 64، 65. يوسف "عليه السلام": 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ثانيًا: الدول والقبائل والبطون والعشائر الأحابيش: 48، 124، 125، 351، 353، 372، 375. الأدرم بن غالب "بنو": 108. الأزد: 67، 77، 92، 51، 135، 259، 261، 269، 288. أزد شنوءة: 138. أسد "بنو": 48، 51، 64، 124، 126، 402. أسد بن عبد العزى "بنو": 108، 109، 111. أشجع: 126، 287، 365، 402. الأموريون: 254. أمية: "بنو" 108، 112، 113، 116، 120. الأوس: 57، 128، 138، 225، 229، 230، 231، 240، 249، 256، 259، 260، 261، 268، 269، 270، 271، 272، 274، 275، 276، 279، 281، 282، 287، 288، 312، 313، 316، 318، 319، 321، 333، 337، 338، 345، 348، 380، 381، 392. أوس الله: 386. أياد: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 "ب" بكر بن عبد مناة "بنو": 109، 126، 246. بكر بن وائل "بنو": 71، 168. بلى 330. بنو إسرائيل: 197، 213، 242، 246، 248، 250، 253، 254. بيزنطة، البيزنطيون، الإمبراطورية البيزنطية: 84، 122، 131، 132، 133، 136، 140، 141، 173، 176. وانظر أيضًا: الروم "ت" تغلب "بنو": 168. تميم "بنو": 111، 124. تميم بن غالب "بنو": 95. تميم بن مرة "بنو": 108، 109، 111. تنوخ: 46، 67. تميم "بنو": 48. "ث" ثعلبة "بنو": 245، 276، 319. ثقيف: 29، 68. ثمود: 24. ثور: 60. "ج" جذام: 21، 142. جرهم: 88، 92، 96، 98. جثيم "بنو": 257. جفنة: 348. جمع بن عمرو "بنو": 108، 109. جهينة: 126. "ح" حارثة "بنو": 240، 257. الحارث "بنو": 107. الحبشة "الأحباش": 112، 119، 124، 125، 133، 135، 136، 138، 166، 170، 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ت. الحبشة "الأحباش": 176، 178، 199، 206، 220، 224، 225، 226، 172، 353. حبلى "بنو": 338. حجر "بنو": 316. الحرث "بنو": 318. الحمس "الأحماس": 153، 160، 161، 162. حمير- الحميريون: 132، 135، 138، 172. "خ" خثعم: 127، 143. خزاعة: 68، 92، 94، 96، 98، 99، 104، 105، 108، 125، 126، 135، 160، 165، 188، 362، 372. الخزرج: 225، 229، 230، 257، 258، 259، 260، 266، 268، 269، 270، 272، 273، 274، 278، 279، 280، 281، 287، 288، 311، 316، 321، 333، 342، 380، 381، 382، 386، 397. خزيمة بن مدركة: 107. "د" دوس: 143. دينار "بنو": 208. "ذ" ذبيان "بنو": 48. ذهل: "68". "ر" ربيعة: 87. ربيعة بن كعب "بنو": 144. الروم: 138، 139، 140، 159، 170، 174، 176، 179، 182، 193، 194، 195، 199. ت. الروم: 205، 206، 207، 306، 402، 403، 404، 405، 406، 409. انظر أيضًا: بيزنطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الرومان: 63، 95، 132، 138. "ز" زعوراء "بنو": 245، 257. زهرة "بنو": 109، 11، 127، 191. زيد اللات "بنو": 245. زيد مناة: 124. "س" ساعدة "بنو": 255، 318، 331. سبأ، الدولة السبئية، السبئيون: 18، 23، 132، 134. سعد "بنو": 126، 365. سعد بن مرة "بنو": 258. سعد هزيم "بنو": 114. سلمة "بنو": 277. سليم "بنو": 124، 126، 281، 288، 389، 298، 299، 402، 409. سهم بن عمرو: 109. "ش" الشطيبة "بنو": 318. شهران: 127. شيبان "بنو": 43. "ص" الصابئة: 145، 150. "ض" ضبة: 48. ضمرة "بنو": 397، 400. "ظ" ظفر "بنو": 240. "ع" عامر "بنو": 48، 389، 399. عامر بن صعصعة: 124. عامر بن لؤي "بنو": 95، 108، 109. عبد الأشهل "بنو": 240، 257. عبد الدار: "108، 110، 114، 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 عبد شمس "بنو": 111. عبد مناف "بنو": 109، 111، 112، 113، 114، 115، 118. عبس "بنو": 68. عجل "بنو": 71. عدي: 48. عدي "بنو": 100، 109، 112، 115. عذرة "بنو": 93، 126. عضل: 399. عطية "بنو": 257. عك: 20. عكل: 48. عكرمة "بنو": 316، 317. العماليق: 89، 253. عمر بن عوف: 257، 275. عوف "بنو": 245. "غ" الغساسنة، غسان: 30، 70، 122، 129، 134، 138، 144، 173، 174، 199، 206، 256، 269، 272، 273، 274، 366، 391، 393، 394، 398، 409. غفار: 375. "ف" الفرس، فارس، الإمبراطورية الفارسية: 71، 84، 112، 122، 138، 139، 140، 141، 144، 171، 173، 175، 176، 178، 179، 182، 193، 194، 199، 200، 206، 207، 273، 306، 393. فزارة: 365. فهر "بنو": 107. "ق" القارة: 399. قريظة "بنو": 245، 255، 257، 267، 269، 276، 277، 281، 366، 367، 380، 391، 392. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 القصيص "بنو": 245. قضاعة: 94، 136، 138، 143، 121، 126. قيس عيلان: 121، 126. قيلة "بنو": 381. قينقاع "بنو": 245، 267، 308، 380، 386، 387. "ك" كعب "بنو": 59. كعب بن لؤي "بنو": 108. كلاب "بنو": 40. كنانة "بنو": 47، 68، 87، 93، 94، 98، 125، 126. "ل" لحيان "بنو": 399. لخم، اللخميون: 142. ليث "بنو": 59. "م" مازن "بنو": 124، 257. ماسكة: 245. مالك "بنو": 257، 258. محارب "بنو": 95، 108. محمم محمر "بنو": 108، 193، 220. مدلج "بنو": 397، 401. مذحج: 20. مراد: 68. مراية "بنو": 245. مرة "بنو": 365. مريد "بنو": 245. مزينة: 126، 287، 375. المصطلق "بنو": 125. مضر: 68، 164. المطلب "بنو": 108، 227. معاوية "بنو": 239، 245، 257. المنادرة: 141، 144، 173. المعينون، الدولة المعينية: 132، 134، 241، 255. "ن" ناغصة "بنو": 245. ناهس: 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 النجار "بنو": 128، 318. النبط، الأنباط، النبطيون 137، 138. النبيت "بنو": 257. النضير "بنو": 245، 246، 267، 269، 276، 280، 281، 380، 386، 391، 388، 400. النمر بن قاسط 124. نهد "بنو": 22. نهشل "بنو": 124. نوفل "بنو": 108، 11، 229. "هـ" هاشم "بنو": 48، 56، 101، 113، 218، 121، 222، 227، 228، 341، 347، 412. هدل، بهدل "بنو": 245. هذيل 399. هلال "بنو": 124. هوازن 77، 121، 124، 329. الهون بن خزيمة "بنو": 399. "و" وائل "بنو": 257. "ي" اليونان 22، 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ثالثًا: المواضع "أ" الأبطح "وادي مكة": 94، 97، 108. أثينا: 103. أحد "جبل": 25، 239. أيلة 21، 23، 176. "ب": بادية الجزيرة: 19. بادية سيناء: 13. بادية الشام: 13، 19، 423. بادية العراق: 47، 95، 423. البحرين: 403. البحر الأحمر: 14، 16، 21، 22، 23، 26، 87، 132، 133، 178. البحر العربي: 403. بحر عمان: 14. البحر المتوسط: 14، 23. برزخ السويس: 14. بصرى: 176، 403، 404. بطن نخلة: 75، 327، 342. بعلبك: 89. البقيع: 299. البلقاء: 403، 404. البندقية: 25. بيت الأقيصر: 143. بيت ذي الخلصة: 143. بيت رضاء 143. بيت صنعاء "بيت رئام": 143. بيت المقدس: 383. بيت نجران: 143. "ت": تبالة: 143. تبوك: 406، 423. تثليث: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ندمو: 23. التنعيم: 148. تهامة: 21، 22، 23، 95، 134. تيماء: 22، 375، 393، 394، 403. "ج" الجبل الأخضر: 15. الجحفة: 412. جدة: 27، 87. جنوة: 25. "ح" الحجر: 17. الحديبية: 329، 369، 373، 374، 376، 377، 393، 394، 395، 397، 402. حرة نهيل: 21. حسمى: 21. حضر موت: 20. حوران: 15. الحيرة: 30، 70، 96، 129، 141، 173، 178، 206. "خ" الخليج العربي "خليج البصرة": 14، 15. خليج العقبة: 20، 176. خيبر: 16، 21، 22، 23، 249، 264، 273، 364، 365، 375، 391، 393، 394، 395، 402. "د": دار الندوة: 48، 97، 99، 102، 117، 351، 354. دباغ "جبل": 240. دمشق: 401. دومة الجندل: 401. "ذ": ذات عرق: 20. ذنب نقمى: 390. ذو حرض: 271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 ذو المجار: 77، 148، 172. "ر" راتج: 275. الرجيع: 399. رضوى "جبل": 20، 47. الروحاء: 361. رومة "بئر": 229. "ز" زمزم "بئر": 24، 26، 88، 92، 104، 114، 119. "س" السراة "جبال": 14، 19، 21. سرف: 190. سقطرة "جزيرة": 175. سقيا يزيد: 17. سقيفة بني ساعدة: 66. السلالم: 396. سلع "جبل": 239، 241، 243، 258. السماوة "بادية": 20. سمران "جبل": 247. سورية: 14. سيناء: 13. "ش" الشام: 13، 18، 20، 23، 25، 87، 96، 118، 122، 126، 132، 133، 136، 139. الشحر: 20. شيبان "جبل": 21. الشعيبة "ميناء": 176. "ص" الصفا: 153. الصفراء "قرية": 22. صلخد: 138. صنعاء: 77. "ط" الطائف: 23، 24، 27، 29، 76، 126، 127، 128، 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 "ظ" الظواهر "خارج مكة": 95. "ع" عدن: 98. العراق: 13، 90، 133، 138، 140. عرفة "عرفات": 18، 104، 154. عونة: 399. العروض: 20. عروة "بئر": 249. العريض: 352. عسير: 14، 20. العشيرة: 346. العقبة: 342 345، 379. عكاظ: 76، 77. العلا: 14، 18، 134. عمان: 2، 18، 134. العوالي: 386. عير "جبل": 24. العيص: 376. عينين "جبل": 355. "غ" غزوان "جبل": 24. غزة: 116. الغور: 20، 21. "ف" فدك: 22، 202. الفرات: 14. فلسطين: 20، 90. فلورنسا: 15. فيد: 20. فينيقيا: 37. "ق" القاهرة: 314. قباء: 239، 321، 346. قديد: 401. قرح: 17. القردة "ماء": 353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 قرقرة الكدر: 382. قصر عنتر: 17. القصيم: 22. القسطنطينية: 131. "ك" الكتيبة: 396. كرا "حبل": 21. كراع الغميم: 371. كصر كريم "معبد قديم": 22. كورس "نهر": 16. "ل" لار "نهر": 17. "م" مأرب: 259. مؤاب: 404. مجتمع الأسيال من رومة: 239، 391 محنة: 148، 157. مدين: 21. مر الظهران: 412. المروة: 153. المريسع "ماء": المزدلفة: 155. مشارف: 405. المشلل: 27. مصر: 254، 403. معان: 18، 405. معونة "بئر": 388، 399. منى: 155. مؤتة "قرية": 403، 405. "ن" نجد: 15، 19، 20، 397، 400. نجران: 17 نخلة: النطاة: 396. النفود "صحراء": 15. "هـ" الهند: 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 هيت: 139. وادي أضم: 22. وادي بطحان: 239، 258. وادي حواض: 139. وادي الحمض: 22. وادي الدواسر: 22. وادي الديدبان: 22. وادي رانوناء: 239، 258. وادي الرمة: 22. وادي الصفراء: 22. وادي العقيق: 22، 25. وادي القرى: 18، 23، 128، 241، 396، 401. وادي قناة: 239. وادي مذينب: 239. وادي مهزور: 239، 246، 257. الوجه: 22. واقم "حرة": 239. الوبرة "حرة": 239. وتر "جبل": 21. الوتير "ماء": 410. الوطيح: 396. "ي" اليمامة: 20. ينبع: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 رابعًا: الحروب والغزوات والوقائع "1" أحد غزوة: 56، 249، 284، 328، 352، 354، 365، 362، 386، 387، 388، 389. الأحزاب "غزوة" الخندق: 56، 284، 336، 367، 374، 402، 411. "ب" بدر غزوة: 115، 116، 121، 125، 182، 191، 286، 326، 328، 344، 349، 351، 352، 353، 356، 357، 359، 386، 387، 388، 389. البسوس "حرب": 55، 168. بعاث "يوم، حرب": 271، 275، 277، 279، 282، 312، 338. "ح" حمراء الأسد "غزوة": 361، 362. حنين "غزوة ":329، 415. "خ" الخندق "غزوة": انظر الأحزاب. "ذ" ذات الرقاع "غزوة": 401. ذي قار "واقعة": 71، 141. "س" سمير "يوم، حرب" 274. السويق "غزوة": 387. "ف" الفجار "حرب": 121، 126، 165، 208، 274. "م" مؤتة غزوة: 403، 410. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 المصادر والمراجع أولا: المراجع العربية ... المصادر والمراجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 أولًا: المراجع العربية: القرآن الكريم الكتاب المقدس "العهد القديم والعهد الجديد". كتب الحديث: البخاري: "أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه الجعفي"، صحيح البخاري، مطبعة بولاق، 1314هـ. مالك: "مالك بن أنس الأصبحي"، موطأ الإمام مالك، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، من مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1962. مسلم: "الإمام الحافظ أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم" بن كوشان النيسابوري"، صحيح مسلم، مطبعة مصر، سنة 1327هـ. كتب التفسير: الخازن: "علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الصوفي"، لباب التأويل في معاني التنزيل، مطبعة التقدم بمصر، 1331هـ. الطبري: "أبو جعفر محمد بن جرير"، تفسير الطبري -جامع البيان عن تأويل آي القرآن- تحقيق محمود محمد شاكر، دار المعارف بمصر. ابن كثير القرشي: "عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر"، تفسير القرآن العظيم، المطبعة التجارية بمصر، 1356هـ. النَّسَفي: "أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود"، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، المطبعة الحسينية المصرية، 1344هـ. الواحدي: "أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن محمد بن علي النيسابوري"، أسباب النزول، طبعة إبراهيم بن عمر الكعبري، القاهرة. إبراهيم الإبياري: "معاوية"، المؤسسة المصرية العامة للطباعة والنشر. ابن الأثير: "أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري الملقب بعز الدين": الكامل في التاريخ، المطبعة الأميرية، سنة 1348هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أُسْدُ الغابة في معرفة الصحابة، جمعية المعارف بمصر 1285 هـ. أحمد أمين: فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية. أحمد بدوي "دكتور": في موكب الشمس، الجزء الثاني، لجنة التأليف والترجمة والنشر. أحمد زكي صفوت: جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة، مطبعة الحلبي "1356هـ- 1937م". الأزرقي: "أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق الغساني"، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، المطبعة الماجدية بمكة. الإصطخري: "أبو القاسم إبراهيم بن محمد الفارسي، المعروف بالكرخي"، مسالك الممالك، طبعة القاهرة. الأصمعي: "أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك"، الأصمعيات، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف بمصر 1955م. الآلوسي: "السيد محمد شكري البغدادي"، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، الطبعة الثالثة، دار الكتاب العربي. البكري: "أبو عبد الله بن عبد العزيز بن أبي مصعب"، معجم ما استعجم، تحقيق مصطفى السقا، القاهرة، 1954م. البلاذري: "أحمد بن يحيى بن جابر البغدادي": فتوح البلدان، مطبوعات الموسوعات بمصر، 1901م. أنساب الأشراف، تحقيق محمد حميد الله، طبعة دار المعارف. بودلي: الرسول "حياة محمد"، ترجمة عبد الحميد جودة السحار، القاهرة، 1947م. أبو تمام: "حبيب بن أوس الطائي"، ديوان الحماسة، المكتبة الأزهرية، 1927م. الجاحظ: "عمرو بن بحر": البيان والتبيين، تحقيق السندوبي، القاهرة، 1926م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 الحيوان، القاهرة، 1357هـ- 1938م. المحاسن والأضداد، القاهرة، 1324هـ- 1906م. جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام، تعليق حسين مؤنس "دكتور"، دار الهلال. جماعة من الأساتذة: الإسلام الصراط المستقيم، بإشراف كينيث، ومورفان، وترجمة محمود عبد الله يعقوب، مؤسسة فرانكلين، 1961م. جواد علي "دكتور": تاريخ العرب قبل الإسلام، مطبوعات المجمع العلمي العراقي. جورج فضلو حوراني: العرب والملاحة في المحيط الهندي في العصور القديمة وأوائل العصور الوسطى، ترجمة السيد يعقوب بكر، مطبعة الأنجلو بمصر. حافظ وهبه: جزيرة العرب في القرن العشرين، القاهرة، سنة 1946م. حتى: "فيليب خوري"، تاريخ العرب، ترجمة محمد مبروك نافع، الطبعة الثالثة، سنة 1950م. حسن إبراهيم "دكتور": تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي، القاهرة، سنة 1948م. ابن حزم:"أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد": جوامع السيرة، تحقيق إحسان عباس وناصر الدين الأسد، دار المعارف. جمهرة أنساب العرب، تحقيق ليفي بروفنسال، دار المعارف. الحلبي: "علي بن برهان الدين"، السيرة الحلبية، طبعة القاهرة، 1349هـ. الحميمي: "الحسن بن أحمد"، سيرة الحبشة، تحقيق د. مراد كامل، المطبعة الأميرية، سنة 1958م. الخزاعي: "أبو الحسن علي بن ذي الوزارتين محمد بن أحمد بن موسى"، الدلالات السمعية على ما كان في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية، مخطوط بدار الكتب المصرية. تاريخ- تيمور 638. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ابن خلدون: "عبد الرحمن بن خلدون المغربي": المقدمة، المطبعة الشرقية، سنة 1327هـ. كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، مطبعة بولاق، سنة 1283هـ. دائرة المعارف الإسلامية: درمنجم: "إميل"، حياة محمد، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة، سنة 1945م. الديار بكري: "حسين بن محمد بن الحسن"، تاريخ الخميس، المطبعة الوهيبية، بالقاهرة. دواوين الشعر: ديوان الأعشى، مكتب الآداب، القاهرة 1950م. ديوان امرئ القيس، طبع المعارف، سنة 1958م. ديوان زهير، طبعة دار الكتب المصرية. ديوان طرفة بن العبد، طبعة بيروت، سنة 1953م. ديوان عورة بن الورد، طبعة بيروت، سنة 1953م. الذهبي: "شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان"، سير أعلام النبلاء، تحقيق صلاح المنجد، دار المعارف. الزوزني: "أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين"، شرح المعلقات السبع، مطبعة صبيح، القاهرة. سديو "ل. أ": تاريخ العرب العام، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة 1948م. ابن سعد: "أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع القرشي الهاشمي البصري البغدادي"، الطبقات الكبرى، لجنة نشر الثقافة الإسلامية، القاهرة، 1958م. السمهودي: "نور الدين علي بن جمال الدين أبو المحاسن عبد الله بن شهاب الدين"، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، مطبعة الآداب والمؤيد، القاهرة، سنة 1326م. السمهودي: "نور الدين علي جمال بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن الخثعمي"، كتاب الروض الأنف وبهامشه: السيرة النبوية لابن هشام، مطبعة الجمالية بمصر، 1332هـ، 1914م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ابن سيد الناس: "فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى الأندلسي الأشبيلي المصري"، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، نشر مكتبة القدسي، سنة 1356هـ. شكري فيصل: المجتمعات الإسلامية في القرن الأول، القاهرة، سنة 1952م. شوقي ضيف "دكتور": العصر الجاهلي، دار المعارف، سنة 1960م. الطبري: "أبو جعفر محمد بن جرير": تاريخ الأمم والملوك، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، 1357هـ- 1939. طه حسين "دكتور": على هامش السيرة، دار المعارف، القاهرة، سنة 1946م. عباس محمود العقاد: عبقرية محمد، مطبعة الاستقامة، القاهرة. مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية، دار الهلال بمصر. أبوالشهداء الحسين بن علي، دار الهلال بمصر. معاوية بن أبي سفيان في الميزان، دار الهلال بمصر. ذو النورين عثمان بن عفان، دار الهلال، بمصر. ابن عبد البر: "أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد"، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق علي محمد البجاوي، مكتبة نهضة مصر. عبد الحميد العبادي: صور من التاريخ الإسلامي، مكتبة الآداب بالإسكندرية، 1948م. ابن عبد ربه: "أبو عمر أحمد بن حمد الأندلسي"، العقد الفريد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، سنة 1940م. عبد القدوس الأنصاري: آثار المدينة المنورة، مطبعة الترقي بدمشق، سنة 1935م. عبد الوهاب عزام: موقع عكاظ، دار المعارف بمصر، سنة 1950م. على حسني الخربوطلي "دكتور": المختار الثقفي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الفارسي: "السيد عبد الحي بن عبد الكريم الحسني الكناني الإدريسي": التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التي كانت على عهد تأسيس المدينة الإسلامية في المدينة المنورة، مطبعة الرباط، سنة 1346هـ. أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، دار الكتب المصرية 1929م، ومطبعة التقدم بمصر. فلهوزن "يوليوس": تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية، ترجمة د. محمد عبد الوهاب أبو ريدة "دكتور" إدارة الثقافة، سنة 1958م. ابن قتيبة الدينوري: المعارف، القاهرة، سنة 1934م. القلقشندي: "أبو العباس أحمد": نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، تحقيق إبراهيم الإبياري، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1959م. صبح الأعشى، المطبعة الأميرية، القاهرة، سنة 1914م. كارل بركلمان: تاريخ الأدب العربي، ترجمة عبد الحليم النجار، دار المعارف. تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة نبيه فارس ومنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت. ابن كثير القرشي: "عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر": البداية والنهاية في التاريخ، مطبعة السعادة بمصر، 1351هـ- 1932م. الكلبي: "هشام بن محمد": الأصنام، تحقيق أحمد زكي، دار الكتب، سنة 1924م. المبرد: "أبو العباس محمد يزيد": الكامل، تعليق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة نهضة مصر. محمد بن حبيب: "أبو جعفر": المحبر، طبعة حيدر أباد، سنة 1932. محمد حسين هيكل "دكتور": حياة محمد، مطبعة دار الكتب المصرية، سنة 1354هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 في منزل الوحي، مطعبة دار الكتب المصرية، سنة 1356هـ. محمد الخضري: محاضرات في تاريخ الأمم والشعوب الإسلامية، المكتبة التجارية، القاهرة. محمد عزة دروزة: عصر النبي -عليه السلام- مطبعة اليقظة العربية، دمشق. سنة 1365. محمد لبيب البتنوني: الرحلة الحجازية، الطبعة الثانية، القاهرة، سنة 1329هـ. محمد مختار "باشا": التوفيقات الإلهامية. مطبعة بولاق، سنة 1311هـ. المصعب الزبيري: "أبو عبد الله المصعب بن عبد الله": نسب قريش، دار المعارف، سنة 1953م. المفضل الضِّبي: المفضليات، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، مطبعة المعارف، سنة 1361هـ. المقريزي: "تقي الدين أبو محمد أحمد بن علي": النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم، طبعة ليدن 1888م. إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والأتباع، تحقيق محمود شاكر، القاهرة سنة 1941م. النويري: "شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب": نهاية الأرب في فنون الأدب، دار الكتب، سنة 1943م. ابن هشام: "أبو هشام عبد الملك الجعافري الحميري البصري": سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- راجع أصولها وعلّق عليها محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة حجازي بالقاهرة. الهمداني: "أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يعقوب بن يوسف بن داود المعروف بابن الحائك": صفة جزيرة العرب: تصحيح محمد عبد الله النجدي، مطبعة السعادة، سنة 1953م. الواسعي: "عبد الواسع بن يحيى اليماني": تاريخ اليمن، القاهرة، سنة 1346هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 الواقدي: "أبو عبد الله محمد بن عمر": مغازي رسول الله، جماعة نشر الكتب القديمة، سنة 1948م. ولفنسون: "إسرائيل - أبو ذؤيب": تاريخ اليهود في بلاد العرب، مطبعة الاعتماد بمصر، سنة 1927م. ياقوت: "شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي": معجم البلدان، مطبعة بيروت، سنة 1957م. معجم الأدباء، مطبوعات دار المأمون، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 ثانيًا: المصادر والمراجع الأجنبية: - De Gaury, Gerald: Rulers of Mecca. London Geogrge G. Harrap& Co. lid. - Doughty, CH, M: Travels in Arabia Desert, 2 vols, London, 19. - Fishel< W. B.: The Middle East, London 1936. Herodotus: Book II (L.C.L) . Huzayyin, S.A.: (Arabia and the far East. Cairo 1942. Lammens: La Mecque a la veille de L' Hegire. Bayrouth 1924. La republique Marchand de la Mecque. Les Abeh et L' Organisation militaire de la Mecque au ecls/a de L' He gire J. A. 1916. P. 425- 482. - Muir, William: The life of Muhammad & History of Islam to the Era of the Hergira. London, 1858. - O' Leary, de lacy, D.D.: rabia before Muhammad, London 1927. - Ptoemy: Geography, (L.G.L) . - Smith, W. Robertson: Kinship& Marriage in Early Arabia. London, 1903. - Twitchell, K.S.: Saudi Arabia with an Account of Development of its Natural Resources, Princeton, 1953. - Watt. W. Montgomery: Muhammad at Mecca. Muhammad at Medina. Oxford, 1956. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 الموضوع الصفحة تقديم الكتاب 3- 10 الباب الأول: جغرافية الجزيرة العربية والتشكيل القبلي: الفصل الأول: شبه جزيرة العرب 13-28 أقسام شبه الجزيرة العربية- الحجاز- أودية الحجاز- مدن الحجاز- مكة- الطائف- يثرب. الفصل الثاني: القبيلة العربية النظام السياسي للقبيلة العربية- التشكيل الاجتماعي للقبيلة العربية: طبقة الأحرار الصرحاء- طبقة الأرقاء- طبقة الموالي: الجوار- الحلف- العتق. دستور القبيلة- مستويات العصبية الاجتماعية. 1- عصبية العشيرة وذوي الأرحام- ولاية الدم والعقل. 2- عصبية القبيلة 3- عصبية الأحلاف القبلية. 4- عصبية التقاليد. أثر العصبية في المجتمع العربي من الناحية السياسية- النسب مهمة الدفاع لدى القبائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الموضوع الصفحة 1- نظام الجندية وطبيعة الأعراب. 2- الجيش عند القبائل. الوضع الاقتصادي- أسواق العرب. الباب الثاني: مدينة مكة مكة قبل الإسلام 83- 86. الفصل الأول نشأة مكة - قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة 87- 98. الفصل الثاني: حكومة مكة وسياستها الداخلية 99- 122 - النزاعات العشائرية ووحدة القبيلة في مكة. - قوة الزعامة في مكة وأثرها. الفصل الثالث قوة قريش الحربية وعلاقتها بالقبائل الخارجية. 123- 130. الفصل الرابع: علاقات مكة الخارجية 131- 142. علاقة مكة بالجنوب- علاقة مكة بالشمال- علاقة مكة بالفرس والحيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الموضوع الصفحة الفصل الخامس: الحج وأثره. 143- 170 الكعبة البيت الحرام- الحج- طقوس الحج وتقاليده- ثياب الإحرام- الوقوف بعرفة- الهدي والقلائد- الحلق والتقصير- آثار الحج الاقتصادية والاجتماعية- الأشهر الحرم وأهميتها الفصل السادس: الحالة الاقتصادية 171- 188 تجارة قريش الداخلية والخارجية- الربا- النقد- الأعداد والحساب- المكاييل والموازين والمقاييس- النشاط الزراعي والرعوي- الصيد- النشاط الصناعي. الفصل السابع: الحالة الاجتماعية 189- 198 طبقة الصرحاء: طبقة الموالي- طبقة الأرقاء. الجاليات الأجنبية: النصارى- واليهود. الفصل الثامن: استعداد العرب للنقلة 199- 234 ظهور المصلح "النبي"- المفاهيم الجديدة في الدعوة- الدعوة إلى الإسلام ومسايرة التنظيم العربي- أساليب قريش لمقاومة الدعوة- الهجرة في سبيل الدعوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الموضوع الصفحة الباب الثالث: مدينة يثرب الفصل الأول: نشاط يثرب 239- 262 سكان المدينة: اليهود- العرب- الأوس- الخزرج. الفصل الثاني: التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان 263- 282 1- العلاقات بين اليهود. 2- العلاقات بين العرب واليهود. 3- العلاقات بين الأوس والخزرج. الفصل الثالث: قوة يثرب وعلاقاتها الخارجية 283- 290 الفصل الرابع: الحالة الاقتصادية. 291- 310 النشاط الزراعي- النشاط الرعوي- الصيد- النشاط التجاري- التجارة الداخلية- التجارة الخارجية. المكاييل والموازين- العملة- النشاط الصناعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الموضوع الصفحة الفصل الخامس الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية في يثرب 311- 330 تكوين الدولة في يثرب- الصحيفة الباب الرابع: الصراع بين يثرب وخصومها 331- 334 الفصل الأول: الصراع بين مكة والمدينة 335- 378 الحالة الداخلية في يثرب "المدينة"- الحالة الداخلية في مكة- بداية الصراع بين المدينتين- موقعة بدر سنة 2هـ، موقعة أحد سنة 3 هـ- آثار موقعة أحد، غزوة الأحزاب أو الخندق- نتيجة الصراع- صلح الحديبية. الفصل الثاني: الصراع بين المسلمين واليهود 379- 396 إجلاء بني قينقاع - إجلاء بني النضير- القضاء على بني قريظة- فتح خيبر والقضاء على قوة اليهود في جزيرة العرب. الفصل الثالث: الصراع بين المدينة والقبائل العربية 397- 408 غزوة مؤتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الموضوع الصفحة خاتمة: فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية 409- 428 فتح مكة- بيان براءة الخلافة الإسلامية وتثبيت دعائم الوحدة- مشكلة الخلافة والردة وتثبيت الوحدة. الفهرس الكشاف 429- 452 أولًا: فهرس الأعلام. ثانيًا: فهرس الدول والقبائل والبطون والعشائر. ثالثًا: فهرس المواضع. رابعًا: فهرس الحروب والغزوات والوقائع. ثبت المصادر والمراجع. 453- 463 فهرس الموضوعات. 465 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 فهرس الموضوعات ... الموضوع الصفحة تقديم الكتاب 3- 10 الباب الأول: جغرافية الجزيرة العربية والتشكيل القبلي: الفصل الأول: شبه جزيرة العرب 13-28 أقسام شبه الجزيرة العربية- الحجاز- أودية الحجاز- مدن الحجاز- مكة- الطائف- يثرب. الفصل الثاني: القبيلة العربية النظام السياسي للقبيلة العربية- التشكيل الاجتماعي للقبيلة العربية: طبقة الأحرار الصرحاء- طبقة الأرقاء- طبقة الموالي: الجوار- الحلف- العتق. دستور القبيلة- مستويات العصبية الاجتماعية. 1- عصبية العشيرة وذوي الأرحام- ولاية الدم والعقل. 2- عصبية القبيلة 3- عصبية الأحلاف القبلية. 4- عصبية التقاليد. أثر العصبية في المجتمع العربي من الناحية السياسية- النسب مهمة الدفاع لدى القبائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الموضوع الصفحة 1- نظام الجندية وطبيعة الأعراب. 2- الجيش عند القبائل. الوضع الاقتصادي- أسواق العرب. الباب الثاني: مدينة مكة مكة قبل الإسلام 83- 86. الفصل الأول نشأة مكة - قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة 87- 98. الفصل الثاني: حكومة مكة وسياستها الداخلية 99- 122 - النزاعات العشائرية ووحدة القبيلة في مكة. - قوة الزعامة في مكة وأثرها. الفصل الثالث قوة قريش الحربية وعلاقتها بالقبائل الخارجية. 123- 130. الفصل الرابع: علاقات مكة الخارجية 131- 142. علاقة مكة بالجنوب- علاقة مكة بالشمال- علاقة مكة بالفرس والحيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الموضوع الصفحة الفصل الخامس: الحج وأثره. 143- 170 الكعبة البيت الحرام- الحج- طقوس الحج وتقاليده- ثياب الإحرام- الوقوف بعرفة- الهدي والقلائد- الحلق والتقصير- آثار الحج الاقتصادية والاجتماعية- الأشهر الحرم وأهميتها الفصل السادس: الحالة الاقتصادية 171- 188 تجارة قريش الداخلية والخارجية- الربا- النقد- الأعداد والحساب- المكاييل والموازين والمقاييس- النشاط الزراعي والرعوي- الصيد- النشاط الصناعي. الفصل السابع: الحالة الاجتماعية 189- 198 طبقة الصرحاء: طبقة الموالي- طبقة الأرقاء. الجاليات الأجنبية: النصارى- واليهود. الفصل الثامن: استعداد العرب للنقلة 199- 234 ظهور المصلح "النبي"- المفاهيم الجديدة في الدعوة- الدعوة إلى الإسلام ومسايرة التنظيم العربي- أساليب قريش لمقاومة الدعوة- الهجرة في سبيل الدعوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الموضوع الصفحة الباب الثالث: مدينة يثرب الفصل الأول: نشاط يثرب 239- 262 سكان المدينة: اليهود- العرب- الأوس- الخزرج. الفصل الثاني: التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان 263- 282 1- العلاقات بين اليهود. 2- العلاقات بين العرب واليهود. 3- العلاقات بين الأوس والخزرج. الفصل الثالث: قوة يثرب وعلاقاتها الخارجية 283- 290 الفصل الرابع: الحالة الاقتصادية. 291- 310 النشاط الزراعي- النشاط الرعوي- الصيد- النشاط التجاري- التجارة الداخلية- التجارة الخارجية. المكاييل والموازين- العملة- النشاط الصناعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الموضوع الصفحة الفصل الخامس الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية في يثرب 311- 330 تكوين الدولة في يثرب- الصحيفة الباب الرابع: الصراع بين يثرب وخصومها 331- 334 الفصل الأول: الصراع بين مكة والمدينة 335- 378 الحالة الداخلية في يثرب "المدينة"- الحالة الداخلية في مكة- بداية الصراع بين المدينتين- موقعة بدر سنة 2هـ، موقعة أحد سنة 3 هـ- آثار موقعة أحد، غزوة الأحزاب أو الخندق- نتيجة الصراع- صلح الحديبية. الفصل الثاني: الصراع بين المسلمين واليهود 379- 396 إجلاء بني قينقاع - إجلاء بني النضير- القضاء على بني قريظة- فتح خيبر والقضاء على قوة اليهود في جزيرة العرب. الفصل الثالث: الصراع بين المدينة والقبائل العربية 397- 408 غزوة مؤتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الموضوع الصفحة خاتمة: فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية 409- 428 فتح مكة- بيان براءة الخلافة الإسلامية وتثبيت دعائم الوحدة- مشكلة الخلافة والردة وتثبيت الوحدة. الفهرس الكشاف 429- 452 أولًا: فهرس الأعلام. ثانيًا: فهرس الدول والقبائل والبطون والعشائر. ثالثًا: فهرس المواضع. رابعًا: فهرس الحروب والغزوات والوقائع. ثبت المصادر والمراجع. 453- 463 فهرس الموضوعات. 465 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470