الكتاب: فدائيون من عصر الرسول المؤلف: أحمد عبد اللطيف الجدع الناشر: دار الضياء للنشر والتوزيع - عمان، الاردن الطبعة: الخامسة، 1407هـ - 1987م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- فدائيون من عصر الرسول أحمد الجدع الكتاب: فدائيون من عصر الرسول المؤلف: أحمد عبد اللطيف الجدع الناشر: دار الضياء للنشر والتوزيع - عمان، الاردن الطبعة: الخامسة، 1407هـ - 1987م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[فدائيون من عصر الرسول]ـ المؤلف: أحمد الجدع الناشر: دار الضياء للنشر والتوزيع - عمان، الاردن الطبعة: الخامسة، 1407هـ - 1987م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الصفحة: 3 فدائيون من عصر الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 مقدمة الطبعة الرابعة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد عندما كتبت مقدمة الطبعة الأولى بعنوان " مدخل " سنة 1979، ذكرت فيها أموراً حول العمل الفدائي الذي تبناه جماعة من المسلمين واتبعوا فيه مبادىء مستوردة من أعدائهم، واتخذوا لهم قدوة من هم لهم أعداء، وحذرت يومها من مغبة السير في هذا الطريق، وحاولت أن أنبه إلى طريق الفداء الصحيح فكتبت عن حياة ثلاثة من الفدائيين الصحابة رضوان الله عليهم، وحاولت توجيه الأنظار إلى منهجهم في الفداء حتى يكون ذلك قدوة لمن أراد أن يسلك هذا الطريق. ومع مرور الأيام وتعاقب الأحداث تبين لكثير من الناس صدق المنهج الذي دعوت إليه، فقد وقعت الحركة الفدائية في شراك الأعداء فلم ينفعها من تسمت بأسمائهم أو سلكت مناهجهم أو اتخذتهم قدوة لها، فقد غاب كل هؤلاء عن الساحة عندما جد الجدّ ومسّت الحاجة إلى العون والمساعدة. . . وبان الصبح لذي عينين، فإن هذه الأمة التي نصرها الله بالإسلام وأعزها به لا يمكن أن تنتصر بغيره من المبادىء، وان الله الذي ينهانا أن نتخذ أعداءنا أولياء لا يمكن أن يقدر لنا النصر بهم، لهذا كان علينا أن نعيد الدعوة لهؤلاء الذين ضلوا السبيل لكي يعودوا إلى الطريق القويم، فبالاسلام انتصرنا من قبل، وبه سوف ننتصر من بعد، ولن ينفعنا زخرف المبادىء المستوردة أو بريق الدعوات المرقعة من الشرق أو الغرب، ولا يستطيع أولئك الذين آمنوا بمبادىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الأعداء الا أن يكونوا لهم أولياء، فكيف نعتمد عليهم في التحرير والفداء؟ لقد كان لهذا الكتاب صدى طيب، فتكررت طبعاته في فترات متقاربة، واستجابة لهذا القبول من القراء فقد اضفت له في طبعته الرابعة هذه فصولاً ثلاثة تحدثت فيها عن حياة ثلاثة آخرين من الصحابة الذين لهم في العمل الفدائي مساهمة وفي الدفاع عن الإسلام جولات محمودة، ليصبح في هذا الكتاب حديث عن ستة من الصحابة الابرار رضوان الله عليهم أجمعين. وقبل أن أختم مقدمتي هذه أحب أن أعود فأكرر ما قلته في مدخل الطبعة الأولى بأن الدائرة للاسلام على اعدائه، وان موعد النصر معقود بعودة المسلمين لدينهم، وقد كنت أوردت بعض الدلائل التي تشير إلى توجه المسلمين الى هذه العودة المنشودة، ويستطيع القارىء أن يعود إليها ليتأكد أنها اليوم أوضح منها عندما كتبت عنها قبل خمس سنين، وانها سوف تكون أشد وضوحا في المستقبل القريب ان شاء الله. أسأل الله تعالى - جلت قدرته - أن يثيبني على ما كتبت، وان يغفر لي ان كنت زللت، والحمد لله اولا وآخراً. عمان: في الثامن عشر من ذي القعدة عام 1404 هـ. المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 مدخل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: بوادر لبشائر: نحن على أبواب القرن الخامس عشر الهجري. . . ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " (1) واعتماداً على قول الهادي الأمين، فإن التفاؤل يملأ قلوبنا، ويحدونا أن نتطلع بيقين وشوق لمشرق جديد لأمة الإسلام. وقد بدت لنا إرهاصات هذا المشرق مع قرب إطلالة هذا القرن الجديد. .   (1) رواه أبو داوود وصححه الحاكم، ورواه البيهقي في المعرفة عن أبي هريرة مرفوعاً، قال الحافظ العرافي وغيره سنده صحيح، ولهذا أشار السيوطي لصحته في الجامع الصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 هناك حوادث نراها بقلب الإيمان إرهاصات، ويراها غيرنا نذر سوء. . فاشتداد الحملة على الإسلام والمسلمين نعدها من إرهاصات البعث الإسلامي الوشيك، ويراها غيرنا نذر سوء لا تبشر بخير ولا تبعث على الأمل. . ونرى، بحس المؤمنين، أن هذه الحملات الشرسة على الإسلام وأهله، ما كانت لتنبعث من أعداء الله بهذا العنف لولا شعورهم بضخامة الصحوة الإسلامية وبخطورتها عليهم. فصحوة الإسلام اليوم، بما نراه من بعث إسلامي في جميع مناحي الحياة، جديرة بأن تدفعنا لمزيد من التيقظ، ومزيد من العمل في سبيل الله. فالإسلام اليوم آخذ في وضع أقدامه بثبات في مجال الاقتصاد، وتجربة المصارف الاسلامية الناجحة علامة على هذا الطريق. وبدأ الإسلام يبرز وجهه المشرق في الحياة الاجتماعية، فالطلاب في مدارسهم وجامعاتهم أخذوا يتجمعون حول شعائر الإسلام وأهدافه وغاياته، والأسر الكريمة بدأت تأخذ بتعليمات الإسلام في لباسها وحياتها اليومية. . . وبدأ الإسلام مسيرته في مجال الصحافة المؤمنة، فانتشرت المجلات الإسلامية وأخذت تجاهر بمبادىء الإسلام، وتدعو لمثله، وتحض على تحكيمه في جميع مجالات الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وتحركت طلائع الأدب الإسلامي، شعره ونثره، وبدأ إنتاجه يملأ الأسواق، وبدأ تأثيره يؤتي أكله في أوساط المثقفين من شباب الإسلام. . . والاسلام المجاهد بدأت صيحاته تدوي في جميع الأقطار، وبدأ رجاله يحملون أرواحهم فوق أكفهم ويقذفون بها في ساحات الوغى، دفاعاً عن الإسلام، وجهاداً في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض، لتكون الحاكمية لله وحده. والجهاد بالسلاح لا بد أن يدعمه الجهاد بالكلمة، لأن الجهاد بالكلمه ينير أمام المجاهدين بالسلاح طريقهم ويوضح لهم أهدافهم. عهد الضياع: لقد مرت علينا أعوام حسب فيها كثير من أبناء المسلمين أن الفداء والقتال في ساحات الوغى مقصور على أعداء الإسلام، وأن الإبداع في مجال الحرب والنزال لا يكون إلا عند المشركين، وعندما حاول هؤلاء المخدوعون بهذه الأوهام أن يقاتلوا أخطأوا الطريق، إذ توهموا أن الانتصار لا يتحقق إلا إذا تشبهوا بأعداء الله، فسمعنا من سمى نفسه جيفارا وجياب وكاسترو، وسمعنا من تجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 تحت راية لينين وماوتسي تونغ وكارل ماركس، ورأينا من قبل بقيادة ميشيل وجورج وأنطون، ثم رأينا من حمل عقائد العلمانية والاشتراكية والقومية، ونزل يقاتل بها يظن أنها تعينه في حياته وتنصره في قتاله. ولاقت هذه الشعارات وتلك الأفكار هزائم متوالية، فبدلاً من أن تنصر الأمة على أعدائها أنزلت بها الهزيمة تلو الهزيمة والنكبة بعد النكبة، وألحقت بها العار تلو العار، حتى ظن الناس أن عدوهم لا يغلب وأن سلاحه لا يقهر. جهود الدعاة: وهب دعاة الإسلام في هذا الخضم المتلاطم من الهزائم والنكبات يتداركون الأمة ويوجهونها نحو الطريق القويم، طريق الجهاد في سبيل الله، الطريق الذي يؤدي -لا محالة -إلى النصر المبين، وهذا وعد رب العالمين. ومع هذه الصحوة المباركة للجهاد الإسلامي لا بد لنا أن نضع المعالم الهادية في طريق أولئك الأحبة المجاهدين، وهذه المعالم يجب أن تستقى من المناهل العذبة، مناهل الإسلام والرسول والصحابة الأطهار. هذا الكتاب: وحتى يثمر جهاد المسلمين اليوم، كما أثمر من قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 لا بد له أن يكون خالصاً من كل شائبة، متجرداً لله وحده، سالكاً سنن المجاهدين الأولين من صحابة رسول رب العالمين. فكان هذا دافعنا لأن نؤلف هذا الكتاب، وذلك لنضع بين يدي رجال الإسلام نماذج للرجال الذين نذروا أنفسهم لله وضحوا في سبيله، فكانوا رمزاً للفداء، وحققوا بجهادهم كل الأماني التي تتطلع إليها الإنسانية، فقد حققوا الحاكمية لله في الأرض، وبها تحققت سعادة البشرية بتأمين العدالة المطلقة للناس أجمعين. فكتابنا هذا " فدائيون من عصر الرسول " منارة هادية لمن أراد أن يسلك طريق الفداء الحق المؤدي إلى النصر المبين – بإذن الله –، وقد أوردنا فيه العمليات الفدائية التي قام بها ثلاثة من الصحابة الأبرار، وفصلناها، ثم رأينا أن نفصل كذلك حياة هؤلاء الأبطال من الميلاد إلى الموت، وسنرى أن حياتهم كلها فداء وجهاد في سبيل الله. وحتى يكون هذا الكتاب مؤدياً ما قصدناه من وضعه على الوجه الأكمل، وضعنا فيما يلي موجزاً لعالم الفداء والقتال عند المجاهدين على عهد الرسول، وذلك بالحديث عن هذا الفداء بشعاراته ونداءاته وأراجيزه وألقاب أبطاله، حتى تعم الساحة الإسلامية المجاهدة الصبغة الإلهية، وحتى تنبذ كل الشوائب التي علقت بالأهداف والمثل عند المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أثناء الغفلة التي سادتهم لفترة طويلة خلال القرن الهجري الذي نودعه. * * * شعارات الحرب عند المسلمين: كان للمسلمين شعاراتهم في المعارك الحربية التي خاضوا غمارها، وهي الكلمات التي يتعارفون بها أثناء احتدام القتال. ففي معركة بدر كان شعار المسلمين: أحَد أحَد. وفي معركة أحد كان شعارهم: أمِت أمِت. وفي معركة الخندق كان شعارهم: " حم لا ينصرون " آية من كتاب الله. وفي غزوة بني المصطلق وفي غزوة خيبر كان شعارهم: " يا منصور أمت أمت ". ويوم الفتح الأكبر، فتح مكة، كان الجيش الإسلامي ثلاث فئات، لكل فئة شعارها، فالمهاجرون كانوا كتيبة، شعارها: يا بني عبد الرحمن. والخزرج كتيبة، شعارها: يا بني عَبد الله. والأوس كتيبة، شعارها: يا بني عُبيد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 هتافات المسلمين في الحروب: وكان للمسلمين هتافاتهم المتميزة أثناء القتال: ففي كل المعارك كان يسود الهتاف الخالد: " الله أكبر. . الله أكبر ". وفي غوة خيبر هتف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متفائلاً عندما أطل الجيش الإسلامي على حصون خيبر: " الله أكبر خربت خيبر ". وهتف علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يحث المسلمين على القتال فقال: " يا كتيبة الإيمان ". وهتف الرسول – عليه السلام – في غزوة ذي قرد، يحث فرسان المسلمين على القتال فقال: " يا خيل الله اركبي " ثم أصبح هذا الهتاف متداولاً في كل المعارك التي تلت هذه الغزوة. وكان المسلمون يهتفون وهم يباشرون تحصين المدينة بحفر الخندق في غزوة الأحزاب: " نحن الذين بايعوا محمدا. . . على الجهاد ما بقينا أبدا " وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجيبهم ويقول: " اللهم إن الخير خير الآخرة. . . فارحم الأنصار والمهاجرة ". فما أروع هذه الصورة وما أعظمها، المسلمون المجاهدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 يعلنون التفافهم حول رسول الله ويعلنون إخلاصهم وولاءهم له ويعلنون انهم سيستمرون في الجهاد إلى آخر لحظة من حياتهم، يعلنون هذا وهم يمارسون الجهاد، فيتبعون القول بالعمل الجاد المخلص، ورسول الله – صلوات الله وسلامه عليه – يعجبه منهم هذا الموقف العظيم ويروقه منهم هذا الاخلاص العميق، فيدعو الله لهم بالرحمة وبخير الآخرة، لأن خير الآخرة هو الخير، ومن ظفر به فقد فاز بحظ عظيم. أما يوم الفتح الأكبر فقد ارتجت أرجاء مكة على هتاف المسلمين وراء رسول الله – عليه السلام – وهو يتلو: " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ". توديع المجاهدين واستقبالهم: وكان للمسلمين عباراتهم الخاصة في توديع المجاهدين وفي استقبالهم: فكان المسلمون يودعون الجيوش الغازية بقولهم: " صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين ". وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الجيوش الإسلامية أن تقول وهي عائدة من جهادها: " آيبون تائبون – إن شاء الله – لربنا حامدون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وعندما ودع الرسول – عليه السلام – الجماعة الفدائية الذاهبة لقتل كعب بن الأشرف اليهودي قال لهم: " انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم ". وعندما عادت هذه الجماعة وقد أنجزت مهمتها بنجاح استقبلهم رسول الله بقوله: " أفلحت الوجوه "، ورد عليه الفدائيون المنتصرون: " أفلح وجهك يا رسول الله ". وفي كل عملية فدائية ناجحة كان استقبال رسول الله للعائدين بهذه العبارة المشرقة: " أفلحت الوجوه "، وكان الرد دائماً: " أفلح وجهك يا رسول الله ". نعم، فما كانت هذه الوجوه لتفلح لولا رسول الله ودعوة التوحيد، ولن تفلح للمسلمين وجوه إلا بما أفلحت به على عهد رسول الله. أراجيز القتال عند المسلمين: وكان للمسلمين في معاركهم أراجيزهم الحماسية الدافقة التي تمتلىء إخلاصاً وتنفجر إيماناً: فهذا عمير بن الحمام ينطلق مقاتلاً يوم بدر وهو يرتجز: ركضاً الى الله بغير زاد إلا التُّقى وعمل المعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وهذا أبو دجانة (1) ينطلق بسيف رسول الله إلى حومة الوغى يوم أحد وهو يرتجز: أنا الذي بايعني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدهر في الكبول أضرب بسيف الله والرسول وهذا جعفر بن أبي طالب يعقر فرسه ويندفع مقاتلاً يوم مؤتة وهو يرتجز: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردة شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها وينزل عبد الله بن رواحة إلى قتال الروم بعد استشهاد جعفر وزيد وهو يرتجز: يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت إن تفلعي فعلهما هديت ولكي ندرك عظمة أولئك المجاهدين وعظمة الأهداف   (1) سماك بن خرشة الأنصاري، شهد بدراً مع رسول الله، وعرض رسول الله سيفه يوم أحد وقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقال أبو دجانة: أنا ". فما حقه يا رسول الله! قال: لا تقتل به مسلماً، ولا تقر به من كافر، فأخذه ونزل إلى المعركة وهو يرتجز بهذين البيتين، استشهد باليمامة في حروب الردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 التي ضحوا من أجلها علينا أن نعيد المقاطع التالية من الأراجيز السابقة، ونتمعن في معانيها مرة ومرة: ركضاً إلى الله بغير زاد. . . أضرب بسيف الله والرسول. . . يا حبذا الجنة واقترابها. . . يا نفس إلا تقتلي تموتي. . . الألقاب الحربية للصحابة: هذا الجهاد العظيم لصحابة رسول الله – رضوان الله عليهم – جعلهم يكتسبون ألقاباً حربية بقيت بعدهم مقترنة بأسمائهم، تشهد على جسامة ما قدموه من تضحية وفداء: فجعفر بن أبي طالب: ذو الجناحين وجعفر الطيار. وحمزة بن عبد المطلب: أسد الله وأسد رسوله. وخالد بن الوليد: سيف الله المسلول. والمنذر بن عمرو الساعدي: المعنق ليموت، سمي بذلك لإسراعه إلى الشهادة. وحنظلة بن أبي عامر: غسيل الملائكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وعاصم بن ثابت (1) : حمي الدّبر. ومحمد بن مسلمة الأنصاري: فارس نبي الله. وأبو قتادة بن ربعي الأنصاري: فارس رسول الله. * * * البشائر: وبعد، إن أعداء الله المتمثلين في اليهود والوثنيين والملحدين والنصارى والمنافقين من أتباعهم، حشدوا قواهم لحرب الإسلام وأهله، فعلى المسلمين أن يجاهدوهم بما علمهم الله ورسوله، وأن يعدوا للدفاع عن دينهم ما استطاعوا. وعندما ننطلق في حرب أعدائنا من منطلقات الإسلام فإن وعد الله بالنصر آت لا محالة، وقد بشرتنا أحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا النصر المبين.   (1) قتل عاصم يوم أحد أخوين، فنذرت أمهما سلافة بنت سعد أن تشرب في قحف رأس عاصم الخمر، وجعلت لمن جاء برأسه مشة ناقة، وعندما غدرت بنو لحيان بصحابة رسول الله يوم الرجيع استشهد عاصم، وحاولت بنو لحيان أخذ رأسه إلى سلافة، فبعث الله الدبر فحمته، فسمي حمي الدبر، والدبر جماعة النحل والزنابير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أما النصر على اليهود فقد وردت البشارة به في قوله عليه السلام: " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود " (1) أما البشرى العامة بسيادة الاسلام في كل بقاع الأرض فقد جاءت في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أول دينكم نبوة ورحمة، وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، تكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله،، ثم يكون ملكاً جبرياً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض، يرضى عنها ساكن السماء، وساكن الأرض، لا تدع السماء من مطر إلا صبته مدراراً،   (1) رواية الإمام مسلم نقلاً عن مشكلة المصابيح للتبريزي الحديث رقم 5414، والغرقد شجيرة طولها من متر إلى ثلاثة، ساقها وفروعها بيض، تشبه الموسج في أوراقها اللحمية وفروعها الشائكة وأزهارها الطويلة العنق، عبقة الريح بيضاء مخضرة وثمرتها مخروطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ولا تدع الأرض من نباتها ولا بركاتها شيئاً إلا أخرجته " (1) . اللهم عجل بزوال ما نحن فيه من حكم جبري حتى تنعم بالخلافة التي تسير على سنة نبيك. اللهم إننا نعلم أن هذه الخلافة لا تأتي إلا بالعمل الخالص لوجهك الكريم، وبالجهاد في سبيلك، فوفقنا اللهم لذلك، إنك إن أردت فعلت، وأنت أرحم الراحمين. اللهم اجعل عملنا هذا خالصاً لوجهك الكريم، وانفع به، والحمد لله أولاً وآخراً. المؤلف الدوحة في 22 شعبان 1399 هـ.   (1) حديث صحيح رواه الإمام أحمد والبزار والطيالسي، وقال الهيثمي: " ورجاله رجال الثقات " ورواه الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة، وذكره الألباني في الأحاديث الصحيحة. وألقى الإسلام بجرانه أي ثبت واستقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وكنت إذا هَمَّ النبي بكافر سبقت إليه باللسان وباليد عبد الله بن أنيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عبد الله بن أنيس في مجتمع يثرب: ماذا يفعل أطفال يثرب منذ أن تشرق شمسهم إلى أن تغيب؟ ما الذي يشغل فتيانها وشبابها على كرّ الليالي وتعاقب الأيام؟ بم يفكر رجال يثرب وشيوخها آناء الليل وأطراف النهار؟ لا أظن أن هناك ما يشغل الأطفال سوى مرحهم ولعبهم، وجريهم في أزقّة يثرب وبين نخيلها الذي يحيط بيوتها. أما الفتية الشباب، فلهم من فتوّتهم وشبابهم ما يدفعهم إلى مغامرات متنوعة بين أترابهم من الفتيات، أو في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ساحات الصيد، أو ميادين التدريب على فنون القتال، فلم يكن في جزيرة العرب شيء يشغل فتيانها غير هذه الأمور، فهم بين حب وحرب، أو حب وصيد! أما رجال يثرب وشيوخها فإنه يشغلهم شيء آخر، يشغلهم، بالإضافة إلى معاشهم وكسبهم، هذه الحرب التي لا تهدأ إلا لتعود جذعة (1) مرة أخرى، لقد ابتلاهم الله بمجاورة يهود، ويهود لا تعيش إلا في أجواء الدّس والوقيعة والغدر والربا! فأوقعت هؤلاء الإخوة من الأوس والخزرج في ضائقات اقتصادية وشرور حربية، جعلت حياتهم جحيماً مستمراً، يلجونه طائعين، بل فخورين! حتى إذا طالت عليهم هذه الحال، وأكلت شبابهم وشيوخهم وأموالهم، وكادوا أن يتفانوا، تداعوا إلى الصلح ونبذ الأحقاد، وطي ما مضى من عداء، وانتهى أمرهم إلى أن قرروا تنصيب واحد منهم ملكاً عليهم، يصلح من شأنهم، وينظم لهم أمورهم. هؤلاء هم الرجال الذين عاش بينهم عبد الله بن أنَيْس فتى يافعاً شب عن الطوق، وأخذ يحضر مجالس الرجال، يتعرف على ما يهم هذه البلدة التي آوته حليفاً لبني سلمة، محباً لهم، متخذاً له من بينهم أصدقاء يحبهم ويحبونه،   (1) جذعة: جديدة كما بدأت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فكان لا يُرى إلا مع صديقيه، معاذ بن جبل (1) وثعلبة ابن عنَمة، يروحون ويغدون بين مجالس الرجال، وقد تهيأوا ليكونوا أعضاء في مجتمع الرجولة بعد أن تجاوزوا سريعاً مرحلة الصبا. وعلى الرغم من افتخار عبد الله بن أنيس بقومه من بني وبرة من قضاعة، فإن إعجابه بشباب ورجال حلفائه من بني سلمة كان شديداً، مما جعله يؤثرهم، ويبقى معهم في يثرب، ويطيل البقاء، حتى أصبح واحداً من أهلها، يفرحه ما يفرحهم، ويسوؤه ما يسوؤهم. * * رحلة الحج: وحل موعد الحج إلى البيت العتيق في مكة قبل أن يفرغ الشقيقان المتخاصمان – الأوس والخزرج – من أمر تسويد عبد الله بن أبي بن سلول على الحيّين، ولم يكن العرب – وأهل يثرب منهم – ما يمكن أن يشغلهم عن   (1) معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة الكبرى مع السبعين من الأنصار، آخى رسول الله بينه وبين عبد الله بن مسعود، شهد المشاهد كلها مع رسول الله، استعمله رسول الله قاضياً على اليمن وقال عنه: " اعلم امتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل " مات في طاعون عمواس سنة 18 هـ وعمره أربعة وثلاثون عاماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الحج إلى مكة، فآثروا أن يؤجلوا اتخاذ القرار النهائي في هذا الأمر الجلل لحين عودتهم من مكة، وأسرعوا إلى مطيهم يحثونها في الطريق إلى البيت، وكان من عادتهم أن يخرجوا في جماعتين متباعدتين، فخرجوا هذا العام في جماعة واحدة، فامتلأ الوادي بهم، وسال بمطيهم، وحدا حاديهم فأطربهم ونشط إبلهم، فكانوا يشعرون بأن هذه الرحلة إلى البيت المقدس ليست كاللاتي سبقت في السنين الخوالي، وكانوا يعزون ما ينتابهم من انشراح ونشاط وسرور إلى هذه الألفة الجديدة التي وحدت جموعهم، وأزالت ما في صدورهم من غل، وانتزعت ما في نفوسهم من بغضاء. وكانت المشاعر المقدسة تموج بالقبائل العربية التي آتت اليها من كل فج عميق، وكانت هذه الجموع تموج بهذا الحديث العجيب عن فتى من قريش جاء بحدث عظيم، فكان حديثهم عن هذا الحدث هامساً تارة، معلناً عن نفسه تارة أخرى. وتناقل الناس حديث هذا الدين الجديد الذي يدعو إليه محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، كما سمعوا في دهشة واستغراب شديدين ما يقوله القرشيون عن محمد، وما يرمونه به من سحر وكهانة وشعر، وما يرمون به الدين الجديد، فيزعمون أنه يفرق بين الأخ وأخيه والابن وأبيه والرجل وزوجه، مما جعل القبائل تنفر من الدين، وتتجنب الاجتماع بالرسول الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وعلى الرغم من كل ما بذلت قريش لتصد عن سبيل الله، إلا أن نفراً من اليثربيين استمعوا للرسول، فما كان منهم إلا أن بادروا بالاسلام، فهم قد سمعوا من يهود عن نبي يرسل بالدين الحنيف، وكانوا يتوعدونهم به، فكان من همتهم وفطنتهم، ومما أكرمهم الله به، أن سبقوا إليه وآمنوا به، وبايعوا رسول الله، وواعدوه الموسم من العام المقبل، يلقونه فيه، وقد دعوا قومهم إلى الإيمان، وجاؤوا بغيرهم لمبايعة رسول الإسلام. * * الدخول في الإسلام: وعاد المؤمنون إلى يثرب، ونشطوا بالدعوة للدين الحنيف، ولاقوا من أهل يثرب الاستجابة الحسنة، وبادر الكثير من الشباب إلى الايمان بالإسلام، وكان من بين هؤلاء الشباب عبد الله بن أنيس. ونما المجتمع الإسلامي في يثرب نمواً سريعاً، وكان عبد الله بن أنيس واحداً ممن عملوا على نمو الجماعة المسلمة بما بذله من جهد وما أبداه من نشاط في الدعوة إلى الله، لقد خالطت بشاشة الاسلام قلبه، وملكت عليه لبه، فلم يعد في حياته غير هذا الدين وحبه، وغير هذا الرسول وربه، فمضى بشبابه الوثاب يبني لبنة في صرحه، ويساهم في إرساء أسسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ودار العام، وتهيأ المسلمون سراً لموسم الحج، ونظموا من بينهم جماعة لتلقى الرسول وتؤكد البيعة. وكم كانت فرحة ابن أنيس عندما اختاروه من بين أفراد الوفد، فهو لم ير الرسول بعد، وكم تمنى أن يراه ويسمعه، بل كم طاف به خياله، فانتقل به إلى مكة وحوم به حول الكعبة يبحث عن الرسول الحبيب، فكان هذا يزيده شوقاً إلى شوق ولهفة إلى لهفة! وفي العقبة من منى اجتمع الوفد برسول الله، وحاذروا أن يراهم أحد أو يشعر باجتماعهم أهل منى، فأعطوا الرسول العهد والميثاق، وأدوا البيعة على نصرة الله ورسوله، وأخذوا لأنفسهم من رسول الله ما يرضاه الله. وكان أهم ما فازوا به رسول الله يهاجر إلى مدينتهم، وينطلق منها بالدين الحق الى الناس أجمعين، يدعوهم ويبشرهم وينذرهم. وكم كانت هذه اللحظات عظيمة عند عبد الله بن أنيس، خاصة عندما امتدت يده فالتقت بيد الرسول مصافحة معاهدة مبايعة، ما كان أروعها من لحظة، وما كان أسعدها من مناسبة. وعاد الوفد إلى يثرب، وشمر عبد الله عن ساعد الجد، لقد انطوت صفحة الأمس بما فيها وفتحت صفحة جديدة مشرقة. وأخذ عبد الله يزور أهل يثرب، من عرف منهم ومن لم يعرف، يدعوهم ويبصّرهم وينصحهم، فيسره إيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 من يؤمن ويحزنه إعراض معرضهم. وكان أكثر ما يغيظه هذه الأصنام التي أقيمت من حجارة وطين، يسجد لها هذا الإنسان الذي كرمه رب العالمين! وانطلق إلى صديقيه معاذ بن جبل وثعلبة بن عنمة (1) وشكى لهما ما يضايقه من أمر الأصنام خاصة أصنام بني سلمة، فإنه يعز عليه أن لا يهتدي مواليه إلى الحق، فلقي من صاحبيه موافقة وتأييداً، واتفقوا على أن يقوموا بتكسير هذه الأصنام وتحطيمها. . . وأفاق بنو سلمة على أصنامهم فإذا هي جُذاذ (2) ، فهالهم الأمر، وتوقعوا شراً، وباتوا يحذرون أن يصيبهم بسببها مكروه يعجزون عن دفعه، ولكن الأيام مرت، ولم يزدهم كسرها إلا سلامة وسلاماً، وأمنة وأمنا، فرجعوا إلى أنفسهم، وراجعوا موقفهم، فأدخل الله على قلوبهم كراهية الأصنام وحب الإسلام. . . ويا لها من سعادة غمرت عبد الله وصحبه، لقد دخل مواليه في الإسلام، ومن بعدهم أقبل الأوس والخزرج على الدين زرافات ووحدانا، وأخذوا يستعدون للقاء الرسول الكريم، القادم   (1) ثعلبة بن عنمة الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة الكبرى مع السبعين من الأنصار، شهد بدراً وأحداً والخندق، وقتل في الخندق شهيداً، قتله هبيرة بن أبي وهب المخزومي. (2) جذاذ: مكسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 اليهم بالخير العميم، وبالعز المقيم، وبالشرف الرفيع. وبات الأنصار ينتظرون قدوم رسول الله، وكان عبد الله من أشدهم شوقاً ومن أكثرهم ترقباً، وعندما جاءهم البشير باقتراب الرسول، تدافعوا إلى ثنية الوداع يستجلون الطلعة النبوية الشريفة، وعندما أطل عليهم رسول الله، هتفوا من أعماقهم مرحبين، وكان عبد الله بين هذه الجموع يكاد يطير فرحاً وسروراً، فقد حل الرسول بيثرب، فأحالها إلى أنوار ساطعة، وقد نالت شرف نزوله بها، وهو شرف ما بعده شرف، لقد انتهى عهد كانت تسمى به يثرب، فهي اليوم كما سماها الرسول " طيبة " وهي كما سماها المسلمون " مدينة الرسول "، و" المدينة المنورة " به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. * * الحرص على الخير: وبدأ العمل لبناء المجتمع الإسلامي الأول، وعبد الله ابن أنيس يساهم في هذا البناء بكل ما أوتي من جهد وطاقة، لا يكل ولا يمل، فهو دائب الحركة، دائم العمل ولكن بُعدَ منزله من قلب المدينة كان يشق عليه، خاصة وأنه كان حريصاً على القرب من منبع الهداية والنور والخير، فقد تابع حضور مجالس الرسول نهاراً، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الذي كان يؤوده حضورها ليلاً، خاصة في رمضان الخير، وقد أحب أن يكون حاضراً ليلة القدر من كل رمضان ما دام لا يستطيع أن يحضر كل لياليه، فأتى الرسول وقال له: يا رسول الله، إني شاسع الدار، فمرني بليلة أنزل لها. فقال – عليه السلام –: انزل ليلة ثلاث وعشرين. فكان عبد الله حريصاً على هذه الليلة، لا يفوته النزول لها، ولا يشغله عن ذلك شيء مهما بلغ، وكان يرى أنها ليلة القدر. * * قتل سلام بن أبي الحقيق: وبدأ الصدام بين الدولة الإسلامية الناشئة وبين من وقفوا في وجهها، وجاهروها بالعداء، فكانت الوقائع مع قريش الكفر، وكانت الصدامات مع يهود، وكان عبد الله ابن أنيس حاضراً لهذه الأحداث، لا يغيب عنها، إلا ما كان من غيابه عن بدر لعذر عند رسول الله مقبول. وكشر يهود عن انيابهم، وسلوا سيوفهم في وجه الاسلام وأهله، وبذلوا أموالهم – وهم أضن الناس بها – للقضاء على الإسلام في المدينة، وكان من أشد الناس عداوة لله ورسوله والمؤمنين، ملك يهود في خيبر أبو رافع سلام بن أبي الحقيق فهو قد حرّض اخوانه يهود بني النضير على قتل الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 غيلة، وقد استمعوا اليه، وحاولوا، ولكن الله منع رسوله ونجّاه، وكان سلام – على حرصه وشحه – يبذل ماله للأعراب يحرضهم على غزو المدينة وانتهابها، وكان على رأس الوفد الذي أتى مكة مخططاً لغزو المدينة، ثم كان مندوب الأحزاب إلى قبائل غطفان يحرضهم ويدُعُّهم (1) إلى حرب الإسلام ممنياً إياهم بالنصر والغنم الكبير. وفي مجلس الرسول الكريم تذاكر المسلمون عداء سلام ابن أبي الحقيق لله ورسوله، ورأوا أنه لا يكف عن الكيد للإسلام والمسلمين حتى يكف قلبه عن الخفقان، وأن ما فعله بالمسلمين وما يكنه لهم من حسد وحقد جدير بأن ينفذ المسلمون به حكم الموت. وكان هذا ما قرره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانتدب من أصحابه لهذه المهمة من يجيدها فاختار عبد الله بن عتيك (2) لرئاسة المجموعة الفدائية وذلك لأنه كان متقناً للغة يهود واختار معه جماعة من أجرأ الرجال من بينهم عبد الله بن أنيس. اجتمعت هذه الجماعة ورتبت أموراه وأعدت خطتها ثم عرضتها على رسول الله فأقرها وزود الجماعة بتوجيهاته   (1) يدعهم: يدفعهم بقوة. (2) عبد الله بن عتيك الخزرجي الأنصاري، شهد أحداً وما بعدها، استشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر سنة 12 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وتوصياته، وأمرهم بالانطلاق على بركة الله. وفي ليلة النصف من جمادى الآخرة سنة ست من هجرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطلقت المجموعة إلى هدفها، وكانت حريصة على تنفيذ توصيات الرسول في كتمان أمرهم وتعمية خطتهم عن عدوهم. فكانوا يسيرون الليل ويكتمون النهار إلى أن وصلوا مشارف خيبر وأطلوا على حصونها المتعددة، فقصدوا واحداً منها هو بغيتهم ومقصدهم، حصن سلام ابن أبي الحقيق، عدو الله وعدو رسوله. وكمنت الجماعة في مكان قريب من الحصن وقدمت ابن عتيك ليدبر لهم طريقاً إليه، وانطلق القائد إلى هدفه ومكنته إجادته للغة يهود من دخول الحصن وأخذ يتفقده ويتعرض على مداخله ومخارجه، ثم تلبث حول البوابة الرئيسية يراقب حارسها، ويعد عليه حركاته وسكناته متصنعاً الانشغال بأمور عديدة وعينه لا تفارق الحارس وبوابته لعله يهتدي لطريقة يفتح بها الباب لأصحابه إذا جنّ عليهم الليل. وعلا صوت الحارس يستحث المتأخرين للدخول: لقد حان وقت اغلاق الحصن، سوف لن أفتح لأحد بعد أن أغلقه، ادخلوا سريعاً وإلا فسوف تنامون في العراء! وأسرع المتأخرون بالدخول، وأسرح الحارس فأغلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الباب. وانزوى عبد الله بن عتيك يراقبه، ها هو ذا يغلق الباب بالمفتاح الضخم وها هو ذا يعلقه في زاوية بجانب الحائط بعيدة عن الانظار. . وها هو ذا ينصرف إلى بيته، إنه موعد تناول العشاء، وسوف يعود بعدها إلى مكانه من الباب. . . سارع ابن عتيك إلى المفتاح فانتزعه من مكانه، وبخفة أداره في قفل الباب، ثم شقه شقاً خفيفاً، وأرسل إشارته إلى صحبه فأسرعوا بالدخول وأسرع هو إلى الباب فأغلقه، وأعاد المفتاح إلى مكانه! كانت الأصوات في الحصن تدل على أن أهله لا يزالون أيقاظاً، فاتخذ الفدائيون الصحابة ركناً من الحصن يتوارون فيه بانتظار رقدة القوم. ولبثوا في مكمنهم إلى منتصف الليل، ولما سكنت الأصوات واطمأنوا إلى هجعة القوم قاموا من مكمنهم وتقدموا إلى هدفهم، أبي رافع سلام ابن أبي الحقيق الذي يرقد في القصر الذي يقابلهم. كانت غرفته في علية بالقصر، يصعد إليها بدرج متعرج يمر على غرف متعددة. فحرص الفدائيون على أن لا يحدثوا نأمة (1) ، فتتابعوا يصعدون الدرج بخفة وسرعة، وعندما وصلوا غرفة الطاغية تنبهت امرأته فتقدم منها واحد من   (1) النأمة: الصوت الضعيف الخفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المجموعة ورفع عليها السيف، مهدداً متوعداً، ذاكراً وصية رسول الله أن لا يقتلوا سوى أبي رافع إن استطاعوا، فلاذت بالصمت وانكمشت في مكانها وهي ترتعد من الخوف، وتقدم الآخرون من فراش أبي رافع والظلمة الحالكة تلف المكان، فلا يكادون يتبينون موضعه، ولكنهم تناوشوا جسده بالسيوف، فكانت ضرباتهم بين ضربة طائشة وأخرى غير قاتلة. وتقدم عبد الله بن أنيس بثبات إلى الجسد المسجى أمامه وقد سالت دماؤه وارتفع صوته بالنجدة والغوث، فغرس فيه سيفه حتى أنفذه. ولم تتحمل امرأته ما رأت، فصرخت بأعلى صوتها، فنبهت من بالحصن فهرعوا إلى الصوت، وهرع الفدائيون إلى الدرج ينزلونه بسرعة وخفة فانزلق ابن عتيك فكسرت رجله، وصرخ بأصحابه مستنجداً: وارجلاه، وارجلاه. فعاد إليه عبد الله بن أنيس فحمله على كتفه حتى خرج به من الحصن. وافتقد عبد الله بن أنيس قوسه. . لقد سقطت منه داخل الحصن عندما احتمل ابن عتيك، فأصر على استعادتها رغم ما سمعه في الحصن من هرج واختلاط، فقد كان حديد القلب، شجاعاً لا يهاب الرجال. فعاد والحصن يموج بالرجال لا يدرون ما يفعلون وليس لهم إلا سؤال واحد: من قتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ابن أبي الحقيق؟ ! يسأل الرجل كل من يلقاه، عرفه أم لم يعرفه! . ودخل ابن أنيس بين القوم واختلط بهم وسأل سؤالهم، إلى أن وصل إلى قوسه فأخذها وانسل عائداً إلى صحبه. وانتظرت المجموعة في مكمنها تراقب الحصن لتتأكد من موت عدو الله، فلم تمر ساعة حتى نادى مناد: " لقد هلك سيد خيبر، لقد مات ملك يهود، أبو رافع سلام ابن أبي الحقيق ". لقد نزلت هذه الكلمات على صورهم نزول الماء على الأرض العطشى، فانطلقوا والفرحة تغمرهم عائدين إلى مدينة الرسول، يستحثون ركابهم وهم في شوق غامر لمقابلة الرسول لينهوا إليه النبأ ويزفوا البشرى، لقد انتهى عدو الله، سلام بن أبي الحقيق. واقترب الركب من مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعوا صوته يحدث الناس، فأسرعوا إليه فنظر إليهم وهم يقبلون اليه بوجوه تنطق بالسرور، فقال لهم مبتسماً: أفلحت الوجوه! فما أعظمها من كلمة تخرج من فم الرسول الذي لا ينطق عن الهوى: أفلحت الوجوه! وتسارع الجماعة فترد عليه بصوت واحد: أفلح وجهك يا رسول الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 نعم، أفلح وجهك يا رسول الله، فما كانت هذه الوجوه لتفلح لولا هديك وإرشادك. وتحلّق الناس حول العائدين بالفلاح يستمعون إلى حديث مصرع سلام بن أبي الحقيق، وإنه لحديث! وتنازع الفدائيون عند رسول الله فيمن قتل أبا رافع، وكل واحد يقول: لسيفي هو الذي قتله، وابتسم الرسول لأولئك الذين يتنازعون الشرف العظيم، وإنه لشرف يُتنازع عليه! وأشار الرسول بيده أن اسكتوا، ثم طلب من كل واحد منهم أن يعرض عليه سيفه، فاستعرضها، ثم التفت اليهم وقال: لسيف عبد الله بن أنيس هو الذي قتله، أرى فيه أثر الطعام. لقد ذهب عبد الله بن أنيس بهذا الشرف الكبير، وإن كان لا يغمط أصحابه ما ساهموا به في هذا العمل الجليل. * * اختيار زعيم جديد لليهود: لقد كان قتل سلام بن أبي الحقيق ملك يهود حدثاً عظيماً هز خيبر ويهود هزاً عنيفاً، فلم يعودوا آمنين في حصونهم وبين أهلهم، لقد أخذ المسلمون عليهم البلاد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وأحاطوهم بجدار من الرعب، فلم يعد أحدهم يأمن على نفسه في سربه وبين ذويه. وتنادت يهود لبحث ما جد من أمورها، فاجتمع القوم يبحثون في علاقاتهم مع المسلمين، هل تستمر على ما هي عليه من خصام وعداء، أم يجنحون إلى السلام ويفيئون إلى الوئام؟ ! قال قائلهم: يا معشر يهود، إن لنا عند محمد تارات يجب أن لا نتهاون فيها، إنها ترات قريظة والنضير، وكعب وسلام، كيف نسالم من سلبنا عزنا وشرفنا؟ كيف نهادن من استولى على أرضنا وأخرجنا من ديارنا؟ كيف نصافي من قتل أشرافنا وساداتنا؟ كيف نركن إلى السلام ونحن ذوو ألسنة لداد وقلوب شداد وسيوف حداد؟ أنختار السلام ولنا من أموالنا ما يكفي لشراء السلاح وإغراء الأعراب؟ فلنبذل أموالنا رخيصة ولا نمد أيدينا لمحمد بسلام! وأثارت هذه الكلمات جمهور الحاضرين، وعلت صيحاتهم بالانتقام، وتنادوا إلى امتشاق السلاح واعلان الحرب العوان. ووقف اليُسير بن رزام، وهو سيد من ساداتهم يحظى عندهم بالإجلال والاحترام، فأشار إليهم بالاستماع، ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 يا معشر يهود، يا حملة التوراة المقدسة، يا من فضلكم الله على العالمين، لقد وتركم محمد ما في ذلك شك ولا ريب، لقد سلبكم أرضكم، وطأطأ من شرفكم، وضيق عليكم في رزقكم، فلا نشك أنه العدو، وأن بغضه واجب علينا وفرض في ديننا! ولكن ألا ترون أن أمر محمد قد علا، وان قوته في ازدياد، وأن المواجهة العسكرية معه لا تجدي لأنه المنتصر لا محالة؟ فلنعالج الأمر بالحيلة والخديعة والوقيعة، فإذا كان محمد يستطيع أن يهزمنا بالسلاح، فأنى له أن يجارينا بالوقيعة والخداع، ونحن أهلها منذ كنا؟ ! فلنؤلب عليه الأعراب، ولنبذل في سبيل ذلك المال والسلاح، ولنبق كل ذلك سراً، فنأمن انتقامه، ونصطنع معه الموادعة والملاينة، وننتظر ما يحل به على أيدي الأعراب وأهل مكة! هذا هو الحزم عندي، وهذا هو الرأي الذي أرتضيه لكم، ولكن قبل أن تحزموا أمركم على شيء من هذا، لا بد لكم من ملك تملكونه أمركم، أو زعيم تسلمون إليه قيادكم، فالأمور لا تصلحها الفوضى، بل لا بد لها من قيادة حازمة واعية! وتعالت أصوات الحاضرين: لقد أشرت بالرأي، فلنختر لأنفسنا ملكاً. وتنادت أصوات: ليس لها غيرك يا بن رزام، إننا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ارتضيناك لنا منذ اليوم ملكاً وسيداً. ووافق الجميع، وتم الأمر، وأصبح اليسير خليفة سلام المصروع، وتسلم زعامة خيبر! وكان أول عمل بدأ به اليسير أن شد رحاله وتوجه إلى قبائل غطفان، وأخذ يؤلبها على محمد ويذكرها بيوم الأحزاب، وأنهم كانوا قاب قوسين من النصر لولا عارض الريح الذي جعلهم ينكصون عن القتال، وأخذ يحثهم ويجزل لهم العطاء، ويكثر فيهم البذل، ويمنيهم بالوعود ليكونوا معه إلباً على محمد وعلى المسلمين. نهاية اليسير: وترامت أخباره إلى المدينة، وعلم الرسول بما يدبره اليسير مع غطفان، وتذكر يوم الأحزاب وما لقيه المسلمون من يهود وكيدها وغطفان وعدوانها، فأراد أن يحسم الأمر ويقطع دابر المؤامرة، فاجتمع بنفر من الصحابة، وتدارسوا الأنباء، وعرفوا أن اليسير هو الذي يتولى كبر المؤامرة، وينفخ في نار الفتنة، فقرروا أن يعالجوا أمره بالسياسة والإقناع لعله يرعوي عن غيه ويكف من شره، فيجنب قومه الحرب وبلده الخراب! وفي محاولة لتلافي أخطار الحرب أرسل الرسول عليه السلام جماعة من الصحابة برئاسة عبد الله بن رواحة – رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الله عنه – ومن بينهم عبد الله بن أنيس، مهمتهم الأولى إقناع اليسير بالسلام، وأن يكف عن الغدر والخداع. وانطلق الركب إلى خيبر يحدوهم أمل بإقناع سيد يهود بما يحملونه له ولقومه من سلام وأمان، وفي الوقت نفسه يستعدون لما يتوقعونه من عناد يهود وإصرارهم على العداوة والبغضاء، غير غافلين عما يمكن أن يلاقوه منهم من غدر عرفوا به، فأصبح لهم سمة لا تريم عنهم ولا تزول! ووصلوا خيبر هذه المرة معلنين، وطلبوا مقابلة اليسير فاستقبلهم في مجلسه متجهم الوجه عابسه، يريهم من نفسه قوة وصلابة وجلداً، فجلسوا إليه وكلموا فيما جاءوا من أجله وذكروه نتائج الغدر وما جره على يهود من ذل وقتل وسباء، والرجل مطرق يستمع. وبعد أن انتهوا رفع رأسه وقال: ماذا تريدون مني؟ لقد قتلتم قومي، وشردتم أبناء ديني، واستوليتم على أموالنا وأرضنا ومتاعنا، وقد ندبني قومي للانتقام لما أصابهم، والانتصاف منكم! فقالوا له: لقد أصابكم ما أصابكم جزاء ما اقترفت أيديكم، فأنتم الذين غدرتم فعاد غدركم عليكم، وأنتم الذين نكثتم العهود والعقود، فكان ذلك وبالاً عليكم ودماراً، فهل تنوون أن تستمروا على ما أنتم عليه؟ فوالله إنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 للحالفة (1) هذه المرة، وقد أنذرناكم، وما نرى لك يا بن رزام إلا أن تأتي رسول الله وتأخذ منه لنفسك وقومك ما يجنبكم الفناء، وقد نصحنا لكم، فأنتم وما ترون. فقال اليسير: وما لي عند محمد إن أنا سالمت وهادنت؟ قالوا: إنك إن قدمت على رسول الله استعملك وأكرمك. قال: أمهلوني إلى غد لأرى رأيي وأستشير قومي. . واختار اليسير مجموعة من شباب يهود ليرافقوه في رحلته إلى المدينة، وعلى الرغم من تردده في الذهاب إلا أن أهل خيبر آثروا أن يذهب ليرى ما عند محمد، وبعد ذلك يقررون ماذا سيكون من أمرهم معه. وحرص المسلمون في عودتهم أن يأخذوا حذرهم، فيهود لا تكف عن الغدر، فهو يجري منها مجرى الدم، فوزعوا أنفسهم بين يهود حتى يكونوا مستعدين لكل طارىء، أما اليسير فقد أردفه عبد الله بن أنيس على بعيره، وكان عبد الله حذراً أشد ما يكون الحذر، متنبهاً أشد ما يكون التنبه   (1) الحالفة: المنية، والحالفة التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل (الدين) كما تستأصل الموس الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يراقب اليسير ويعد عليه حركاته وسكناته ويحصي عليه أنفاسه، لا يدع شيئاً من أمره يغيب عنه، وعبد الله رجل شديد العارضة ذكي الفؤاد، سريع البديهة لا يهاب الرجال. أما اليسير فقد كانت الافكار تتقاذفه، فهو طوراً يؤمل نفسه بملك مستقر وحياة مطمئنة بعد أن يصالح المسلمين وهو طوراً يعاتب نفسه ويلومها على ما هي مقدمة عليه من مفاوضة محمد عدو يهود الذي شتت شملهم وفرق جمعهم ويتّم أطفالهم وأفنى شبابهم وأذل كبرياءهم، تقول له نفسه: كيف أفعل ما أفعل؟ وحق التوراة ما أنا من يهود إن تم ما سولت به نفسي من مهادنة محمد! وحق يهود إنني لست لموسى بن عمران إن لم أفن العمر في قتال محمد ومن آمن بمحمد! بئست حياة يهود إن خضعوا لدين محمد! كيف أرضى أن يمتد بي العمر حتى أرى للإسلام دولة ولجنوده صولة؟ كيف أسمح لدين غير دين يهود أن يعلو ويسود؟ أهذا ما أوصت به الأحبار وأوصى به الآباء للأبناء؟ كلا، كلا يجب أن لا تمضي لما أنت فيه يا بن رزام وإلا فلست من يهود، ولا تصلح أن تكون لهم سيداً وعليهم ملكاً! وألحت هذه الأفكار على نفسه، فلم يعد يرى أمامه إلا عدواً يجب القضاء عليه، ولم يعد يشغل باله إلا التخلص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ممن معه من المسلمين، وسار الركب واليسير يجيل الأمر في نفسه ويدبر للخلاص من هذا المأزق الذي هو فيه قبل أن يبتعدوا عن خيبر. . . إنهم الآن على ستة أميال منها في مكان يقال له " القرقرة " واليسير على بعير واحد مع عبد الله بن أنيس. . ويتلفت اليسير إلى عبد الله وعينه تلحظ السيف الذي يتدلى إلى جنبه، وقرر أن يستل هذا السيف ويفتك بصاحبه ثم يولي على بعيره عائداً إلى خيبر. . أما أصحابه فليفعلوا فعله وهم لا شك فاعلون إن رأوه ابتدأهم بذلك. . أما عبد الله بن أنيس فإن عينه لم تغفل وقلبه لم ينم منذ فصلوا عن خيبر، فهو متيقظ أبداً لصاحبه، واليسير قد قرر، والركب يسير جاداً إلى هدفه يخيم على رجاله الصمت والحذر، وفجأة علا صوت اليسير: يا لثارات يهود وانقض على سيف عبد الله بن أنيس يريد أن يستله، وتدرك البديهة عبد الله فيقتحم بالجمل فلا يمكّن اليسير من السيف، بل يسله ويضرب به رجل عدو الله، فيسرع هذا إلى عمود من خشب كان معه فيضرب به رأس عبد الله فيشدخه، ولكن عبد الله يتمالك نفسه، ويكرّ على عدوه الغادر فيجز رأسه، فيقع مضرجاً بدم العار والخيانة. أما بقية يهود، فما إن سمعوا نداء سيدهم حتى بادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 كل منهم صاحبه من المسلمين يريد أن يفتك به، ولكن المسلمين كانوا على حذر، فأجهز كل منهم على عدوه، إلا ما كان من رجل منهم فر عائداً إلى خيبر يحمل لقومه خبر أصحابهم ونتائج غدرهم. وأما الركب المسلم فقد أفاق من مفاجأة الحادث الذي تتابعت فصوله بسرعة عجيبة، وانتهت أحداثه بسرعة أعجب، فتفقدوا أنفسهم وحمدوا ربهم على نجاتهم وتعجبوا من أولئك الذين لا يقرون بوعد ولا يفون بعهد، إنه الحقد الذي امتلأت به قلوبهم فلم يعد فيها متسع لشيء سواه! قال واحد من الركب المسلم: لقد أصبح حقد اليهود على الاسلام وأهله جبلة لهم لا تفارقهم أبد الدهر، فهم العدو لهذا الدين ما تعاقب الليل والنهار. قال آخر: بل إن صفة الغدر تأبى أن تغادر يهود، وإلا فما الذي دفع هؤلاء إلى ما فعلوا، وهم ذاهبون إلى رسول الله بالأمان الذي أعطينا؟ ! قال ثالث: الحمد لله إذ لم يصب أحد منا، وقد قضينا على رأس من رؤوسهم، ولا أظنهم الآن إلا والخوف يملأ قلوبهم، وإني لأتخيلهم وقد أغلقوا على أنفسهم حصونهم، والرعب يخيل اليهم أنهم في العراء، لا يقيهم حصن ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ينفعهم سلاح. . دعونا نواصل سيرنا حتى نأتي رسول الله بالخبر. * * الخطر الجديد: لم تكن الأحداث لتدع المسلمين يركنون إلى الراحة يوماً، فما إن ينتهوا من القضاء على خطر أو عدو حتى يواجههم خطر آخر ويبرز لهم عدو جديد. فقد وصلت أخبار إلى المدينة بأن واحداً من زعماء هذيل يدعى خالد بن سفيان الهذلي. . يجمع الجموع ويعد العدة لغزو المدينة، وأنه جعل من " نخلة " القريبة من المدينة مكاناً يجتمع فيه رجاله. وهذيل قبيلة كبيرة العدد، متعددة الأفخاذ والبطون، تسكن المنطقة الممتدة بين مكة والمدينة، وهي تعيش حياة الغزو والصعلكة. ويكثر فيها الرجال الذؤبان الذين يعتمدون في معاشهم على السلب والنهب. وكثيراً ما ألجأها شظف العيش وقسوة الحياة لأن يقاتل بعضها بعضاً، وهم بسبب من هذه الحياة يعيشون حياة اجتماعية فاسدة، وتنتشر بينهم العادات الرذيلة، وهم قد ألفوا هذه العادات حتى لم تعد تلاقي لدى أي منهم اعتراضاً أو استنكاراً أو استهجاناً، وقد بلغت بهم هذه العادات حداً من الألفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 جعلتهم يشترطون على رسول الله عندما أتوه مسلمين أن يحل لهم الفاحشة؟ وقد قذفهم حسان – رضي الله عنه – بنيران شعره عندما سمعهم يطلبون هذا المطلب الدنيء ووسمهم بميسم العار الذي تندى له الجباه، فقال فيهم: سالت هذيل رسول الله فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصب سالوا رسولهم ما ليس معطيهم حتى الممات، وكانوا سُبّه العرب هذه هي قبائل هذيل التي أخذت تتجمع تحت قيادة خالد بن سفيان لغزو المدينة ونهبها، وقد انضم إليها حثالة القبائل وأوباشها، وأغلب الظن أن هذيلا ومن انضم إليها لم يكن يهمهم أن يقضوا على الإسلام ودعوة التوحيد، ولم يكن يزعجهم أن تزول الأصنام، كما لم يكن يسعدهم أن تبقى، إنما جمعهم الرغبة في السلب والنهب، وقد رأوا المسلمين يخوضون المعارك تلو المعارك، فظنوا أن الحرب قد أنهكتهم وأنهم أصبحوا لقمة سائغة يستطيعون التهامها متى شاؤوا، فتنادوا للغزو ونزلوا " نخلة " استعداداً لليوم الموعود! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 المعالجة الحكيمة: وأهمت هذه الجموع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأى أن يحسم أمرها قبل أن يكتمل جمعها وقبل أن تتحرك إلى المدينة، ورأى عليه السلام أن هذه القبائل تتجمع حول خالد بن سفيان، فإذا قتل خالد تفرقت بدداً وانتهى أمرها، وزال خطرها. وفكر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن ينتدبه لهذه المهمة، فقتل زعيم كبير وسيد مطاع يتحلق حوله ألوف من أشداء الرجال يحتاج إلى رجل حديد القلب، ثابت الجنان ذي تجرية في مثل هذه الأمور. ومن غير عبد الله بن أنيس هذه المهمة؟ واستدعى رسول الله صاحبه عبد الله بن أنيس وأجلسه بجانبه، وأوجز له المهمة التي ينتدبه لها، فقال عليه السلام: إنه قد بلغني أن ابن سفيان يجمع لي الناس ليغزوني وهو بنخلة فأته فاقتله. إنها مهمة واضحة محددة بقدر ما هي كبيرة وخطيرة، إن الذي يجمع الناس لقتال الرسول هو ابن سفيان، ولولاه لما اجتمع الناس، والمكان الذي ينزله هذا العدو هو " نخلة " والمهمة التي أسندت للفدائي الصحابي هي القضاء على رأس الفتنة وموقد نارها: خالد بن سفيان الهذلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وعى الجندي أمر القائد، ولكن المهمة خطيرة فالعدو محاط بآلاف الرجال ولا بد من طريقة للوصول إليه، وليس هناك من سبيل غير أن يخدعه، ولا بد لكي تنجح الخدعة أن يتقول له، والإسلام حرم ذلك على المؤمنين فلا بد أن يستأذن الرسول بذلك لعله يسمح له به أو يشير بما هو أفضل منه. . فقال عبد الله: يا رسول الله لا بد لي في مهمتي هذه أن أقول! فأشار عليه الرسول أن يقول ما بدا له فالحرب خدعة. قتل الزعيم: وانطلق عبد الله إلى مهمته متوشحاً سيفه، ووصل " نخلة " عصراً وقد وجبت الصلاة، ونظر حوله فرأى جمعاً هائلاً وحركة كبيرة والتفت يبحث عن بغيته فرآه مع مجموعة من نسائه يرتاد لهم موضعاً ينصب فيه أخبيتهم فكانت فرصة قد لا تواتي مرة أخرى، وأجال عبد الله خطته في ذهنه وخشي أن تفوته الفرصة وخشي على صلاة العصر أن تفوته، إذ قد يشتبك مع عدوه في مصاولة ومبارزة، فصلى إيماء وهو يمشي نحو عدوه. وانتهى عبد الله إلى خالد، فلما رأه خالد قال له: من الرجل؟ قال عبد الله: رجل من العرب سمع بك وبحمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قال خالد: أجل إني لفي ذلك وما أظنه سيثبت لي ومعي هذا الحشد من الرجال، وإن هي إلا أيام وتكون المدينة وما فيها نهباً لرجالي، فأهلً بك معنا يا أخا العرب! وترك خالد نساءه ومشى يحدث عبد الله بما أجمع عليه وما يأمل الحصول عليه من ثمار المدينة وخيراتها، وسار ابن أنيس يزين له فعله ويحبب اليه مقصده، وكان عبد الله حسن الحديث لطيف العبارة، فأنس به خالد وأمنه على نفسه، وظل عبد الله يجاذبه الحديث وهو ينتظر فرصته فلما واتته اقتنصها فاستل سيفه وضرب به رأس عدو الله فأطاحه ووقع جسده على الأرض فأحدث ضجة نبهت نساءه فالتفتن نحوها فرأين رأس خالد يتدحرج بعيداً عن جسده، فصرخن صرخة الموت فاندفع عبد الله ينجو بنفسه واندفع نساء خالد ورجاله إليه، وأخذتهم المفاجأة وشغلهم هولها عن عبد الله وانصرفوا إلى صاحبهم يندبونه وعندما أفاق فريق منهم من هول المفاجأة وفكروا في اللحاق بالقاتل كان هذا قد أعجزهم وفاتهم منه ما يطلبون. وما إن انتهى القوم من مواراة قتيلهم التراب حتى بدأ جمعهم يتفكك، وما إن أصبح الصباح حتى كانت نخلة قد لفظتهم فلم يبق منهم أحد، وكفى الله رسوله والمؤمنين القتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أما الفدائي الصحابي عبد الله بن أنيس فقد امتلأ قلبه غبطة وسروراً، لقد أنجز المهمة كما أرادها رسول الله لقد خلص المسلمين من شر مستطير وخطر عقيم! أفلح الوجه: وسار عبد الله يقطع الطريق عدواً، يود لو أنها تطوى له، فهو في شوق للقاء رسول الله لينهي إليه خبر الخلاص من عدو الله. ووصل عبد الله إلى مسجد الرسول ودخل وعيناه تبحثان عن الرسول الكريم فوجده بين أصحابه، فلما أحس به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إليه مبتسماً وبادره بالكلمة الطيبة: أفلح الوجه. فقال عبد الله: أفلح وجهك يا رسول الله، لقد قتلته. فقال عليه السلام: صدقت. عندئذ انطلق عبد الله بن أنيس ينشد (1) : تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفري كل جيب مقدد تناولته والظعن خلفي وخلفه ... بأبيض من ماء الحديد المهند أقول له والسيف يعجم رأسه ... أنا ابن أنيس فارساً غير قعدد   (1) السيرة النبوية لابن هشام الأنصاري الجزء الرابع ص 197 – 198 نشر دار الجيل – بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف، على دين النبي محمد وكنت إذا هم النبي بكافر ... سبقت إليه باللسان وباليد * * المكافأة الكبرى: لقد شكر رسول الله لعبد الله بن أنيس جهاده في سبيل الله، وبلاءه في الدفاع عن الإسلام، فقام ممسكاً بيد عبد الله وأدخله بيته وتناول منه عصاً وقدمها إليه وقال له: أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس. وتناولها عبد الله من يد الرسول، وخرج بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ فقال: أعطانيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمرني أن أمسكها. قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله فتسأله عن ذلك؟ فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: لم تعطيني هذه العصا يا رسول الله؟ قال عليه السلام: آية بيني وبينك يوم القيامة. يا لها من هدية من يد كريمة، ويا لها من آية يلقى بها ربه يوم القيامة، إنها آية جهاده في سبيل الله وإنها آية الرضا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جهاده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ما أسعدك بهذه العصا يا بن أنيس! وما أعظم حظك عندما تقدمها بين يدي أعمالك يوم الدين! إنها آية بينة على حبك لله ورسوله وجهادك الميمون في سبيل دينك. وتناول عبد الله سيفه وقرن به عصا رسول الله ومشى بها سعيداً فخوراً. * * فراق الحبيب: ومرض رسول الله فوجفت قلوب المسلمين، واشتد به الوجع فهرولوا إلى مسجده وبيته يستطلعون الخبر، وماج المسجد بمن فيه وانتشر خبر وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكثر اللغظ وعلا وسُمع عمر وهو يتهدد الناس ويتوعدهم: من قال إن محمداً قد مات ضربت عنقه! ولم يهدأ القوم حتى سمعوا أبا بكر يتلو عليهم قول ربهم: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين " (1) . وقد استمعوا إليه في ذهول وهو يقول: " من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ".   (1) الآية 144 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ومادت الأرض بعبد الله بن أنيس، لقد مات رسول الله، لقد أفلت شمس النبوة، فماذا يفعل الناس بعد رسول الله؟ وماذا عن الجهاد في سبيل الله؟ لقد جعل الرسول الجهاد عند عبد الله كالحياة، يجري حبه في عروقه مجرى الدم. ودمعت عيناه، وحزن قلبه لفراق رسول الله، وعبر لسانه عما يجده لهذا الحادث الجلل: تطاول ليلي واعترتني القوارع ... وخطب جليل للبلية جامع (1) غداة نعى الناعي إلينا محمداً ... وتلك التي تستك منها المسامع فلو رد ميتاً قتل نفسي قتلتها ... ولكنه لا يدفع الموت دافع * * بعد النبي: وأهم عبد الله أمر المسلمين، واشتغل فكره في مصير الإسلام بعد رسول الله، ولم يذهب عنه همه إلا عندما فاء المسلمون إلى أبي بكر الصديق، فجعلوه إماماً بعد رسول الله، يخلفه في تدبير أمورهم، فيصرفها بما عرف عنه من حكمة وإخلاص. وقد اطمأن ابن أنيس لخلافة أبي بكر،   (1) الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد، الجزء الثاني القسم الثاني ص 90 طبعة ليدن. والقوارع: مفردها قارعة وهي النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم. استكت مسامعه: اصابها الصمم فلم تعد تسمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فقد كان أبو بكر أقرب أصحاب الرسول من الرسول، وأولهم إسلاماً، وثاني اثنين إذ هما في الغار. وثارت حروب الردة، فأسرع عبد الله إلى حسامه، وقارع المرتدين حتى عادوا إلى رشدهم، وعادت الجزيرة العربية مسلمة كلها بحمد الله. وانطلق ابن أنيس مع الجيوش الفاتحة، فشارك فيها جندياً ينشر الإسلام ويدعو إلى التوحيد، فشارك في فتوح مصر وإفريقية. وكانت نفس عبد الله مفعم بالسرور إذ نصر الله دينه ويسر له من سرعة القبول وسعة الانتشار ما جعل الناس يدخلون فيه أفواجاً أفواجاً. لقاء الأحبة: وعاد عبد الله إلى الشام بعد أن أدركته الشيخوخة وجلس إلى أهله وولده وأخذ يقص عليهم فصولاً من حياته وجهاده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن قبض إلى الرفيق الأعلى ومع أبي بكر إلى أن انتهت فتنة المرتدين، ومع الجيوش الفاتحة إلى أن وصلت شاطىء المحيط. . ولم يكن عبد الله يمل الحديث عن جهاده، ولم يكن أولاده ومن حضر مجالسه من المسلمين يملون ذلك، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 كانوا يستزيدونه ويطربون لحديثه، فقد كان – رضي الله عنه – حلو الحديث، أنيس المجلس، بليغ العبارة، صادق اللهجة. وحل العام الرابع والخمسون بعد هجرة الرسول وحلت ساعة اللقاء بمحمد وصحبه، فدعا أهله وولده وأوصاهم فيها أوصاهم به أن يدفنوا معه العصا التي كافأه بها رسول الله لتكون آية ما بينهما يوم القيامة. وانفضّ الناس عن قبر الصحابي الجليل، وساروا جماعات جماعات كل جماعة تتحدث عن بطولات هذا الصحابي الأنصاري وعن جهاده في سبيل الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 عن ضبيعة بن حصين التغلبي قال: كنا جلوساً مع حذيفة فقال: إني لأعلم رجلاً لا تنقصه الفتنة شيئاً. قلنا: من هو؟ قال: محمد بن مسلمة الأنصاري " الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 محمد بن مسلمة الأنصاري نفوس جديدة: اثنا عشر رجلاً عادوا إلى يثرب بعد أن بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعة العقبة الأولى. عادوا إلى يثرب بقلوب غير القلوب التي ذهبوا بها. عادوا بنفوس جديدة لم يكونوا يحملونها من قبل. عادوا وقد نفضوا عن ضمائرهم غبار الحقد ورواسب العداوة والبغضاء. عادوا وقد صمموا أن ينقلوا هذا الفيض النوراني الذي امتلأت به نفوسهم إلى إخوانهم الذين يغشيهم الحقد وتنهكهم الحروب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 عادوا برؤية جديدة للحياة، وبنظرة جديدة لمهمة الإنسان. إنهم يودون لو أنهم ملكوا قلوب اليثربيين، إذن لأسرعوا إلى غسلها من أدرانها ليغمروها بالنور الذي عرفوا وبالهداية التي نالوا. كانت نفوس هذا النفر من المسلمين الأوائل تتحرق شوقاً للعمل في سبيل الله، وكانت قلوبهم تتوثب حماساً لنشر الهداية الإلهية بين الناس جميعاً. * * رجل الخير: بوصول مصعب بن عمير – رضي الله عنه – إلى يثرب بدأ العمل وجد الجد، وشهد منزل سعد بن زرارة أول اجتماع لهذه الزمرة المؤمنة التي بدأت تستعرض شخصيات يثرب لتختار من بينها من تبدأ به فتدعوه للدين الجديد. قال قائل منهم: ألا تدعون محمد بن مسلمة؟ إنه رجل صدق وأمانة، وهو رجل يضيق بما يدور بين الأوس والخزرج من خلاف، ويكره ما ينشب بينهم من حروب، ويود لو ساد السلام والوئام بين الحيين. قال آخر: ولا تنس أن ضيقه بهذا الخلاف راجع أيضاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الى أن أباه رجل من الأوس وأمه امرأة من الخزرج. قال مصعب: دلوني على هذا الرجل لأدعوه لدين الحق لعل الله يكرمه فيهديه إلى الاسلام. قال رجل من الحاضرين: لقد مر بنا الرجل قبل قليل وحيانا بابتسامة مشرقة. قال مصعب: لقد مر بنا رجال كثيرون، وكلهم كان يحيينا بابتسام، فإنكم معشر الأوس والخزرج قوم بيض القلوب تكرهون الشر وتميلون إلى الخير لولا ما تلقون من كيد يهود ودسائسهم؛ فأي أولئك الرجال محمد بن مسلمة؟ قال الرجل: إنه ذلك الرجل الأسود الطويل، ذو الهامة العظيمة والرأس الأصلع. قال مصعب: وكم تقدر عمره؟ قال الرجل: إنه في بداية العقد الرابع. - وبماذا يكنى؟ - يكنى بأبي عبد الرحمن. ولكن لماذا كل هذه الأسئلة يا مصعب؟ - سوف أقابل هذا الرجل لأدعوه لدين الله، ومما يقرب الرجل من الداعية أن يكون الداعية عارفاً به محيطاً بأوصافه، يعرف اسمه وكنيته ولقبه حتى يدعوه بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وإن مما يقربك من النجاح في مهمتك أن تدعو الرجل بأحب الأسماء إليه. ما أعظم هذا القلب الذي يحمله محمد بن مسلمة بين جنبيه فما أن عرض عليه مصعب الإسلام وشرح له مبادئه حتى بادر إليه وشهد شهادة الحق وانضم إلى ركب الدعوة وأعلن نفسه جندياً من جنودها. صفات الرسول: وجلس أبو عبد الرحمن يستمع إلى مصعب بن عمير وهو يقرأ القرآن ويشرح الإسلام، وكان كلما ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدا في عينيه الشوق إليه والتلهف للقائه، وذات مرة التفت إلى مصعب وقال له: كم أنا مشوق لرؤية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمتى يدور العام ويأتي موسم الحج ونحظى بلقائه؟ ابتسم مصعب وقال: تحل بالصبر أبا عبد الرحمن، فسرعان ما تمر الأيام وينقضي العام. قال ابن مسلمة: كم أنا متلهف لأن تطوى الأيام. . ثم صمت قليلاً وقال: أخشى أن لا ألقى الرسول لسبب أو لآخر، ولكن ألا تصفه لنا؟ فإنك لازمته وسعدت بالتطلع إلى وجهه الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قال الحاضرون بصوت واحد: تكلمت بما في نفوسنا يا بن مسلمة، فصف لنا رسول الله يا بن عمير، اعتدل مصعب في جلسته وأطرق برأسه وأغمض عينيه كأنه يستحضر صورة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذهنه، ثم رفع رأسه وقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبيض اللون مشرب حمرة، أدعج العينين (1) مقرون الحاجبين، سبط الشعر (2) ، كثُّ اللحية، بعيد ما بين المنكبين، كأن عنقه إبريق فضة، شئن الكف والقدم (3) ، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب وإذا قام كأنما ينقلع من صخر، إذا التفت التفت جميعاً، كأن عرقه في وجهه اللؤلؤ، ليس بالقصير ولا بالطويل، بين كتفيه خاتم النبوة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه، أجود الناس كفاً وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة وأرقى الناس بذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة، لم أر قبله ولا بعده مثله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان الصمت مخيماً على هذه الثلة من المؤمنين وهم يستمعون إلى هذا الوصف الرائع لرسول الله، وما إن انتهى مصعب من وصفه حتى هتفوا بصوت واحد: صلى الله عليك وسلم يا رسول الله.   (1) دعجت العين: اشتد سوادها وبياضها، واتسعت. (2) سبط الشعر: مسترسل الشعر، ليس بجعد. (3) شئن الكف والققدم: غليظ الكف والقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 استقبال المهاجر: ما أطول سويعات الانتظار، وما أشدها على قلوب المحبين، فكم من مرة وقف فيها محمد بن مسلمة يتطلع نحو الأفق لعله يكون أول من يرى رسول الله قادماً من مكة، لقد آن أوان العمل والجد من أجل الإسلام ودعوته، لقد عاهد محمد بن مسلمة نفسه وربه على أن يلازم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في روحاته وغدواته، فيكفي ما فاته من لقائه يوم العقبة الثانية. وتطلع أبو عبد الرحمن نحو الأفق، إنه يرى موكباً، إنه يسمع مصعباً وهو يقول: هـ هذا موكب رسول الله سيد ولد آدم وخاتم رسل رب العالمين. ويتطلع أبو عبد الرحمن إلى الموكب، يا له من موكب بسيط في مظهره عظيم في جوهره، موكب من ثلاثة نفر يقترب من ثنية الوداع، لا فلنسمها اليوم ثنيّة الاستقبال ثنية الفرح والسرور، ثنية الفجر الجديد الذي أطل على يثرب وأهل يثرب. وارتفعت أصوات الناس تسأل: أيهم رسول الله؟ ويتطلع أبو عبد الرحمن نحو الركب، ويتذكر صفة رسول الله كما سمعها من مصعب بن عمير فيعرف رسول الله ويقبل عليه في موكب الأنصار، فما أعظم لحظات اللقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 * * المؤاخاة: بدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظم الدولة الناشئة في المدينة، فأراد أولاً أن يطمئن على أن المهاجرين يعيشون في استقرار في مهاجرهم في هذه المدينة الطيبة، فأخذ يؤاخي بين المهاجرين والأنصار وذلك حتى يندمج المهاجرون في مجتمع المدينة فلا يشعروا بالغربة. وجلس محمد بن مسلمة يتطلع إلى رسول الله وهو يؤاخي بين المهاجرين والأنصار وأخذ يسأل نفسه: من سيكون حظي من هؤلاء المهاجرين البررة؟ وراح يتطلع إلى وجوه المهاجرين فيرى وجوهاً تشع نوراً وتفيض إيماناً، فيقول لنفسه: أيما رجل حظيت به من بين هؤلاء فقد حظيت بحظ عظيم. وبينما كان ابن مسلمة غارقاً في تفكيره إذا برسول الله يعلن مؤاخاته لأبي عبيدة عامر بن الجراح، فيثب إليه ويأخذه بين ذراعيه، ثم يمسك بيده وينطلق به إلى بيته. * * حراسة المدينة: كانت المدينة محاطة بالأعداء من كل مكان، قريش تطارد المسلمين المهاجرين، ويهود يأكل قلوبهم الحسد وتغلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 صدورهم بالحقد، فيودون لو استطاعوا أن يقضوا على هذا الدين الجديد، والأعراب حول المدينة يغريهم بالإغارة للسلب والنهب ما يرون من ضعف المسلمين وجماعة من أهل المدينة لم يرقهم أن تنتزع السيادة من رجالهم فتصبح خالصة لمحمد، ولم يدركوا معنى النبوة حتى يسلموا بالقيادة لرسول الله، فأخذوا يكيدون للمسلمين ويحاولون اغراء قريش ويهود بمحمد وأتباع محمد. فكان مراد الرسول الأول أن يوفر الأمن للمدينة، قاعدة الدولة الإسلامية الناشئة، فعمد إلى اختيار جماعة من المسلمين الأشداء وأمرهم أن يتناوبوا حراسة المدينة، وجعل محمد بن مسلمة قائداً لهذه الجماعة، ثم أضيفت مهمة أخرى إلى هذه الجماعة وهي حراسة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: " والله يعصمك من الناس ". وتفانى محمد بن مسلمة في أداء هذه المهام التي أسندت إليه، فما كان يُرى إلا متفقداً لقواته، ساهراً معهم، لا يفتر عن مراقبة رسول الله والمترددين عليه حتى لا يخلص اليه عليه السلام شر من أحد من الناس. ولاحظ المسلمون هذا التفاني من محمد بن مسلمة فأطلقوا عليه " فارس نبي الله ". * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 موادعة اليهود: ثم التفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تنظيم العلاقة بين المسلمين وبين من جاورهم من يهود، وحضر زعماء يهود إلى مجلس رسول الله، وحادثهم وناقشهم ثم اتفق معهم على حسن الجوار، وكتب في ذلك وثيقة لهم، ومما جاء في هذه الوثيقة: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يرتغ (يُهلك) إلا نفسه وأهل بيته، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث واشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بهذه الوثيقة أعطى رسول الله يهود المدينة أفضل ما يعطي حليف وجار، وجعل لهم أمان الله، وعليهم ميثاقه على أن يكونوا يداً واحدة مع المسلمين على كل من أراد شراً بالمدينة وأهلها، وأن يكونوا هم أنفسهم سلماً للمسلمين لا يغدرون بهم ولا يعينون عليهم أحداً. لو عقلت يهود لعاشت في ظل المسلمين آمنة مطمئنة لا تخشى شيئاً، ولكن الحسد نهش قلوبها وأحرق الحقد أكبادها، فكيف يكون النبي الخاتم من غير بني إسرائيل؟ وكيف يسلمون له القيادة والسيادة ومن قبل كانت لهم على يثرب وأهلها القيادة والسيادة؟ لقد سيطرت على يهود الكبرياء المضلة، وأفقدهم توازنهم ما توارثوه عن أجدادهم من حب السيطرة على العالمين، وأدار عقولهم ما وقر فيها من اعتقاد بأنهم هم السادة وهم القادة وأن غيرهم لهم عبيد، وطمس على قلوبهم ما جبلوا عليه من احقار الناس فلم يعودوا يرون الحق حقاً والباطل باطلاً، ورأوا أن من حقهم نقض العهد وإخلاف المواثيق مع جميع الخلق من غير يهود! بهذه الأخلاق أرادت يهود أن يتعاملوا مع رسول الله، وبغير هذه الأخلاق جاءت رسالة الإسلام، فكان الصدام بين المسلمين ويهود أمراً محتوماً وشيئاً لا مفر منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 * * محاولة اليهود اغتيال الرسول: قتل صحابي رجلين من بني عامر خطأ، فجاء ذووهما إلى رسول الله يطالبون بحقهم، فوعدهم بالدية، وكان المسلمون في ضيق وشدة، فقرر الرسول أن يستعين بيهود تنفيذاً لبنود العهد الذي كتبه معهم، فذهب إلى بني النضير في جماعة من الصحابة وطلب منهم أن يعينوه في دية هذين الرجلين، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت. ذهبت يهود إلى بيت لهم يتناجون، وجلس الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جانب بيت ينتظرهم، فقال بعضهم لبعض: لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن! فمن رجل يظهر على البيت الذي يجلس إلى حائطه فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ قال عمر بن جحاش النضري: أنا أفعل ذلك! قال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وإني أخشى أن تكون يا عمرو بن جحاش أشقاها، فتجني على نفسك وقومك. قال عمرو: ومن أين له أن يعلم؟ قال سلام: والله إنكم لتعلمون أنه النبي الذبي بشرت به التوراة، وأن الناموس الذي كان يأتي موسى يأتيه، فإياكم والغدر، فقد حذرتكم وأعذرت! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وتهامس القوم، وكثر اللغط بينهم، وارتفعت أصوات تسفّه رأي سلام بن مشكم وتنعته بالجبن والخور، بل سمع من يقول: أخشى أن يكون سلام قد فارق دين موسى واتبع محمداً، فهو يدافع عنه ويصدكم عن الفتك به، يا أصحاب التوراة دونكم فرصتكم، ويا عمرو بن جحاش نفذ ما عزمت عليه! وجاء الوحي إلى رسول الله، وأعلمه بما عزمت عليه يهود، فنهض من مكانه مسرعاً واتخذ طريقه إلى المدينة، ولما رأى أصحابه ذلك اسرعوا خلفه واشتدوا يريدون اللحاق به فلم يدركوه إلا بالمدينة. قالوا: يا رسول الله، قمت ولم نشعر. قال: همت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك فقمت. * * إجلاء بني النضير: ثم دعا رسول الله محمد بن مسلمة وأرسله إليهم وأمره أن يبلغهم هذه الرسالة: يا بني النضير " اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشراً، فمن رُئي بعد ذلك ضربت عنقه ". قرار حاسم من رسول الله، فما دامت يهود لم تلتزم بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 عاهدت عليه وهمت بالغدر، وهو أبشع ما يتصف به قوم، فأقل جزاء لهم الجلاء. وانطلق محمد بن مسلمة بالرسالة إلى منازل بني النضير، فوجد قوماً انخلعت قلوبهم رعباً، لا يدرون ما الله صانع بهم، وكانوا يخشون أن يبيد الرسول خضراءهم جزاء غدرهم، فلما رأوا محمد بن مسلمة هرعوا إليه وتعلقوا به، وهتفوا بصوت واحد: ما وراءك يا بن مسلمة؟ ما الذي أغضب أبا القاسم فغادر ديارنا دون أن يكلمنا؟ نحن على استعداد لأن ندفع دية الرجلين العامريين وحدنا. ألا يرضيك يا أيا عبد الرحمن هذا؟ وهز محمد بن مسلمة رأسه وقال: ما كان أغناكم عما أنتم فيه لو لم تكونوا قوماً غُدراً. إن رسول الله يأمركم بالجلاء عن المدينة، ومن وُجد منكم بعد عشرة أيام ضربت عنقه. ولوى ابن مسلمة عنان فرسه وانطلق عائداً وانصرفت يهود تجهز نفسها للخروج، وما ظنوا أنهم قد نجوا من شر فعلتهم التي هموا بها. وبينا هم في غمرة استعداداتهم للخروج أتاهم رسول من رأس النفاق يقول لهم: يقول لكم عبد الله بن أبي: لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصنكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم وتمدكم قريظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وحلفاؤكم من غطفان. وفي كل مرة يثبت اليهود أنهم قوم لا يعقلون! لقد غرهم عرض رأس النفاق وحسبوا أنه سيبر بوعده ويدخل معهم حصنهم ويقاتل المسلمين، وما أدركوا أنه لو كان صادقاً لواجه النبي وهو بين قومه وفي مدينته، وما دروا أن الذي يظهر الإسلام خوفاً من محمد لا يمكن أن ينحاز إليهم فيحاربه معهم. إن قلب ابن أُبي قد انهزم سلفاً أمام الرسول فنافق، فلا يمكن أن يقاتل بعد ذلك مع أحد أبداً. ووقع اليهود في شر أعمالهم، وراحوا ضحية غرورهم وتفاهة تفكيرهم، فأرسلوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: " إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك "! فلما بلغت هذه الرسالة رسول الله، كبّر وقال: حاربت يهود، فكبر المسلمون لتكبير رسول الله، فارتجت جنبات المدينة بالهتاف الخالد: " الله أكبر، الله أكبر ". ووصلت أصوات التكبير إلى أسماع المنافقين، فارتعدت فرائصهم وخارت عزائمهم، ونكصوا عن نصرة بني النضير. أما بنو قريظة، فما إن سمعوا دوي التكبير حتى أغلقوا على أنفسهم حصونهم، وقالوا: بل نفي العهد الذي بيننا وبين محمد، فما لنا ولقوم جنوا على أنفسهم، ونكثوا عهودهم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وانتظر بنو النضير أن يأتيهم ما وُعدوا به من مدد، وطال بهم الانتظار، فعلموا أن ما أملوه خيال وأن الذي وُعدوه سراب، ولم يجدوا من بين ما قيل لهم حقاً سوى جيش رسول الله يحيط بحصنهم ويضيق الخناق عليهم، ثم يأمر بنخلهم أن يحرق، فلم يعد لهم أمل في البقاء فأرسلوا إلى رسول الله: نحن نخرج عن بلادك. فقال لهم رسول الله: " لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها ولكم دماؤهم وما حملت الإبل إلا الحلقة ". لقد كانوا بنجوة من هذا العقاب لو أنهم لم يغدروا، وقد كان بإمكانهم أن يخرجوا بأموالهم جميعها لو أنهم لم يستمعوا لتحريض المنافقين. ونادى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمد بن مسلمة، فأمره أن يتولى إخراجهم، فقام – رضي الله عنه – بهذه المهمة خير قيام. * * يهود تنقض العهد: من صفات يهود أنهم قوم لا يتعلمون ولا يتعظون، تعميهم العداوة ويضلهم الحقد، ولو لم يكونوا كذلك لأخذ بنو قريظة درساً من مصير بني النضير. إلا أن بني قريظة عندما رأوا قوة الأحزاب وضخامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 حشدهم يوم الخندق، ظنوا أن لا قبل للمسلمين بهم، وأن دولة الإسلام قد دالت، وأن أمر المسلمين قد انتهى. ولأن اليهود فقدوا ثقتهم بالله سبحانه، وما عادوا يؤمنون بقدرته على نصر القلة المؤمنة على الكثرة الباغية، رضوا أن ينضموا لمعسكر الأحزاب، وأعلنوا نقضهم للعهد الذي بينهم وبين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووصلت بهم الصفاقة إلى أن يقولوا لسعد بن معاذ عندما ناشدهم العهد الذي بينهم وبين رسول الله: ومن رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد! * * الجزاء العادل: وما إن انتهت غزوة الأحزاب حتى بادر المسلمون بالزحف على بني قريظة وحاصروهم، وكان محمد بن مسلمة – رضي الله عنه – على حرس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان الحصار محكماً لا يستطيع أحد الافلات منه، وعندما حاول عمرو بن سعدي القرظي أن يفلت من الحصار وقع في أسر الحرس النبوي، فجيء به إلى محمد بن مسلمة، وعندما عرفه قال: أعمرو بن سعدي؟ ثم نظر إلى أصحابه وقال: هذا رجل لم يوافق قومه على الغدر بنا، اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، اطلقوا الرجل ودعوه ينجو بنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 هكذا علّم الإسلام محمد بن مسلمة أن يعامل الناس وفاء بوفاء، وأن يقيل عثرات الكرام، فما أعظم ما يجنيه الناس من هذا الدين العظيم. واستسلمت بنو قريظة، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، فتذكر سعد غدرهم وخستهم واستحضر وقاحتهم حين قالوا له: ومن رسول الله، لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. . وتذكر ما كادوا ينزلونه بالمسلمين من إبادة لولا أن تداركهم الله برحمته، فحكم عليهم بالموت، وأقر الرسول هذا الحكم لأنه حكم العدالة الإلهية، فأمر عليه السلام أن يجمع رجالهم في ناحية، وأوكل أمر حراستهم إلى محمد بن مسلمة إلى أن نفذ فيهم حكم الله العادل. * * العدو الألد: جن جنون يهود، فلم يبق في عقولهم متسع للتفكير المتزن، ولم يبق في قلوبهم مجال لغير الحقد والحسد فراحوا يعملون بكل ما لديهم لحرب الله ورسوله، وقام زعماؤهم وأحبارهم بحملة شرسة ضد الاسلام وأهله، فهم لم يكتفوا بأن يقفوا دون إيمان عامة يهود بالدين الحق، بل أوغروا قلوبهم عليه وجندوهم لحربه، ثم راحوا يستعدون قريشاً وعامة القبائل لحرب المسلمين، وأخذ شعراؤهم في هجاء المسلمين والتشبيب بنسائهم. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وكان رأس كل هؤلاء كعب بن الأشرف، وهو رجل طويل جسيم جميل وشاعر مجيد، ذو مال وفير جعله يسود يهود الحجاز ويكون فيهم مطاعاً. وأظهر كعب عداءه للاسلام من أول يوم حل فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة المنورة، حسداً من عند نفسه، وانسجاماً مع جبلة يهود التي تأبى أن ترى السيادة مع غيرها. وبدأت حملة العداء التي تولى كبرها كعب عندما جاءه أحبار بني قينقاع وبني قريظة، كما هي عادتهم كل عام، ليأخذوا صلته! قال لهم كعب: أسمعتم بهذا الرجل القرشي الذي جاء يثرب يدعو إلى الدين الجديد؟ قالوا: نعم. قال: فما عندكم من أمره؟ قالوا: هو الذي كنا ننتظر، ما أنكرنا من نعوته شيئاً! قال كعب: حرمتم كثيراً من الخير! فارجعوا إلى أهلكم فإن الحقوق في مالي كثير! لم يكن أحبار يهود يتوقعون هذه الإجابة من كعب، ولو كانوا يعلمون بما يكنه من عداء للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجابوه بكلمة الحق، فالمال عندهم مقدم على كل حق فكيف يرتقون ما فتقوا ويصلحون ما أفسدوا، فإن الفساد كل الفساد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 شرعهم أن يحرموا المال ويمنعوه! فراجعوا أنفسهم وقارنوا بين المال والصدق وبين الدنيا والآخرة، وغلبت عليهم أخلاقهم المتأصلة في كيانهم، فاختاروا المال والدنيا على الصدق والآخرة، ونكسوا على رؤوسهم وعادوا إلى كعب أذلة خانعين وقالوا له: يا سيد يهود، إنا أعجلناك فيما خبرناك به، ولما استثبتنا علمنا أن غلطنا، وليس هو المنتظر! بهذا الموقف المتخاذل من أحبار السوء كسب كعب الجولة في عدائه للإسلام، فسارع إلى هؤلاء النفر من الأحبار فوصلهم وأغدق عليهم، وأعلن أن لكل من يتابعهم على رأيهم هذا من الأحبار خرجاً من ماله ومنزلة في سلطانه! وهكذا ضمن كعب يهود إلى جانبه، أما المشركون من قريش فهم معه على كل حال، ولكنه أراد أن يصل ما بينه وبينهم وينسق عمله معهم، فارتحل إلى مكة في سبعين راكباً من يهود، ونزلوا على أبي سفيان بن حرب فرحب بهم وأكرمهم، ورأى بمقدمهم فرصة مواتية ليثبت قريشاً على عدائها لمحمد ودين محمد، فعقد لليهود مجلساً في ملأ من قريش وأحلافهم، وقال لهم والناس تسمع: يا معشر يهود، إنكم أهل كتاب، ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم، فإن أردتم أن نحالفكم ونقاتل محمداً معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 واشرأبّت القلوب، وأنصتت الآذان، وأطرقت العيون، فما كان ليهود أن تسجد للأصنام وتؤمن بها وهي التي كانت تدعوهم لعبادة الله ونبذ هذه الأصنام. . أيمكن أن يحدث هذا؟ وما راع الناس إلا منظر سبعين يهودياً يعلنون إيمانهم بالأصنام ويسجدون لها! فعلها أبناء القردة وسلالة الخنازير، ولكنها لم تكن غريبة منهم ولا عجيبة، فقد سجدوا من قبل لعجل السامري، وإنما هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد! وهكذا عقد الحلف بين جاهلية الأصنام وجاهلية الأحبار، ومع أنه يبدو للناس بأن هذا الحلف قوي، إلا أنه والله سحاب هريق ماؤه وسراب ليس وراءه إلا الخيبة والضياع! وقوي ساعد كعب، أو هكذا ظن هو، فتمادى في عدائه للمسلمين، وأخذ يحرض عليهم بشعره، ويهجوهم به ويشنع عليهم. وقد كان للشعر عند العرب منزلة وأي منزلة، فكان أشد ما يؤلمهم بيت من الشعر يهجون به، وكان أشد ما سله عليهم كعب شعره هذا الذي يفتري فيه على الله وعلى رسوله وعلى المسلمين. وصبر المسلمون على ما أعلنه كعب من عداوتهم، فهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الآن في شغل عنه بتنظيم أمور المدينة، وبمراقبة قريش والأعراب الطامعين بغزو المدينة. ونشبت المناوشات بين قريش والمسلمين، وأفضت المناوشات إلى الصدام الكبير في بدر، وفيها أكد المسلمون قوتهم وتحسنت سمعتهم الحربية بين الأعراب، ورسخ مركزهم وثبتت أقدامهم كقوة في الجزيرة يحسب حسابها ويخشى جانبها، وتخلصوا في بدر من زعماء قريش الذين صرعتهم الأيدي المتوضئة والقلوب المؤمنة. وأرسل الرسول – عليه السلام – بين يدي عودته منتصراً من بدر بشيرين إلى المدينة يزفان أخبار النصر المؤزر في بدر. واجتمع حولهم سكان المدينة مسلمهم وكافرهم وانضم اليهم يهود، وكلهم يسأل عن أخبار بدر، فجعل البشيران عبد الله بن راوحة وزيد بن حارثة يقولان: قُتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وزمعة بن الأسود وأمية بن خلف وابو البختري بن هشام ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج. وعمت الفرحة قلوب المسلمين، وساد الوجوم أهل الشرك ويهود، فقد عدد البشيران زعماء قريش وسادة العرب وفرسان المعارك. كان كعب بن الأشرف يقف وسط هذه الجموع وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 تقاذفتها أفكار متضاربة، فهم بين فرح مسرور وحزين مقهور، ودارت الأرض تحت قدمي كعب وهمس لنفسه: أحق ما يقول هؤلاء؟ لا، لا إن هذا أمر أغرب من الخيال ولا بد أن البشيرين يحلمان! وأفاق كعب من سكرته، وهب صائحاً بأعلى صوته: أيها الناس، لا تصدقوا هذين، فإنهما لا يعلمان ما يقولان فهؤلاء الذين عدوا من بين القتلى هم أشراف العرب وملوك الناس، ووالله إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها! وانسحب الناس بين مصدق ومكذب، وانتظر المسلمون عودة رسول الله لتهنئته بالنصر المبين، فلما عاد – عليه السلام – وتيقن كعب الخبر، راح يبكي قتلى بدر ويُحرض قريشاً بشعره على المسلمين وأخذت الرسل تأتي وتذهب بينه وبين قريش الموتورة، وكان مما أرسل إليه أبو سفيان بن حرب يسأله: " إنك تقرأ الكتاب، ونحن أميون فأينا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ "، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما هو عليه! ! وتمادى كعب لما رآه من كف المسلمين أيديهم عنه، ولما يؤمله من قدوم قريش للثأر لقتلى بدر، وألح في هجاء المسلمين، وتطاول على رسول الله بلسانه القذر، وتعرض لنساء المسلمين فشبب بهن وذكرهن بالسوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 قتل كعب بن الأشرف: عند ذلك قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مجلس من أصحابه: " اللهم أكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار " ثم التفت إلى أصحابه وقال: " من لنا بابن الأشرف فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وآذى الله ورسوله وقوّى المشركين علينا ". فقال محمد بن مسلمة: " أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله ". فقال – عليه السلام –: " إفعل إن قدرت على ذلك ". وكان كعب بن الأشرف عزيزاً في قومه، ممتنعاً في حصنه، يحتاج الوصول إليه إلى خطة محكمة وعزم كالجبال. وأدرك الصحابي الجليل محمد بن مسلمة عظم المهمة وصعوبتها، فقضى ثلاث ليال لا يأكل ولا يشرب إلا ما يبقي على نفسه، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه، فلما حضر قال له: لم تركت الطعام والشراب؟ قال: " يا رسول الله، قلت قولاً لا أدري أفي به أم لا. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما عليك الجهد. قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا أن نقول ". قال عليه السلام: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حلٍ من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وأعطت هذه الكلمات محمد بن مسلمة روحاً متوثبة، ونفساً متأهبة، فذهب من فوره ليختار من يساعده على هذه المهمة، وكان لا بد من التروي في الاختيار، فالمهمة صعبة، والرجل ممتنع، وأمر رسول الله لا بد أن ينفذ. جلس محمد بن مسلمة يستعرض في ذهنه أصحاب رسول الله ممن يستطيع أن يعتمد عليهم في قتل ابن الأشرف. وبعد طول تفكر استقر رأيه على أربعة نفر: أبو نائلة سلكان بن سلامة وهو أخو كعب بن الأشرف من الرضاع، وعباد بن بشر، والحارث بن أوس من بني عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر أخو بني حارثة. لقد وافق محمد بن مسلمة في تكوين فرقته الفدائية، فهو ابن أخت كعب بن الأشرف وأبو نائلة أخو كعب من الرضاع، وهذا يساعد على كسب ثقة كعب، والثلاثة الباقون من أشجع الرجال ومن أشدهم إخلاصاً واندفاعاً لنصرة الإسلام. اجتمع الفدائيون وتداولوا الأمر وقلبوه على وجوهه، ثم اتفقوا على خطة أحكموا فصولها، وابتدأ أبو نائلة في تنفيذ دوره فيها، ذهب إلى كعب بن الأشرف زائراً، فجلس عنده ساعة وتناشدا الأشعار، ثم أطرق أبو نائلة إطراقة المهموم، فقال له كعب: ما لك يا أخي؟ قال أبو نائلة: ويحك يا بن الأشرف، اني قد جئتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم علي. قال كعب: أفعل. قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل (يعني النبي) بلاء علينا. عادتنا العرب، ورمونا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس. قال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما كنت أقول. قال أبو نائلة: إني قد أردت أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك. قال كعب: ترهنوني نساءكم؟ قال أبو نائلة: على رسلك يا كعب، فكيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك عليهن؟ قال كعب: ترهنوني أبناءكم. قال أبو نائلة: لقد أردت أن تفضحنا. إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة (السلاح) ما فيه لك وفاء. قال كعب: إن في الحلقة لوفاء. قال أبو نائلة: ومتى آتيك بهم؟ قال كعب: متى شئت، وليكن ليلاً حتى لا تثيروا ريبة محمد وأصحابه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وعاد أبو نائلة إلى أصحابه، وقد أدى دوره كما رسم له وأحكم الفصل الأول من الخطة المرسومة، فقد أفهم كعباً أن معه جماعة على رأيه حتى لا يرتاب بهم متى قدموا معه واتفق معه أن يرهنون سلاحهم مقابل بيعهم الزاد لأجل، وذلك حتى لا يرتاع إذا رآهم يحملون السلاح، لقد استطاع أبو نائلة أن يدخل إلى قلب هذا اليهودي من طريقين يعرفهما ممهدين عنده، عدائه لمحمد وحبه للمال والربا. وتواعدت الجماعة لتنفيذ الفصل الثاني من الخطة في الليلة التالية. وفي الموعد المحدد من الليلة التالية التأم جمع الفدائيين فانطلقوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحدثوه بما تم بين أبي نائلة وكعب، وما عزموا على تنفيذه الليلة، فمشى معهم رسول الله حتى بقيع الغرقد، وهناك ودعهم ودعا لهم قائلاً: " انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم ". * * كان كعب بن الأشرف حديث عهد بعرس، يسمر مع عروسه وقد أغرق جسمه وثيابه بالطيب، وطاب الحديث بين العروسين فامتد إلى ساعة متأخرة من الليل، وعندما ثقلت جفونهما واستعدا للنوم سمعا صوتاً ينادي: يا كعب بن الأشرف، يا كعب بن الأشرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فوثب كعب يلبي النداء، فهبت عروسه وتعلقت بطرف ثوبه وأخذت تناشده أن لا ينزل من حصنه، وتقول له: يا كعب، إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في مثل هذه الساعة. قال كعب: إنه أخي أبو نائلة، لو عرف أني نائم ما أيقظني. قالت، وهي لا تزال تتشبث بطرف ثوبه: والله إني لأسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم! قال: قلت لك إنه رضيعي أبو نائلة وابن أختي محمد بن مسلمة. قالت: والله إني لأشعر أن في صوته شراً. نظر إليها مبتسماً، ثم قال مدلاً بفتوته، معتزاً ببطولته دعيني، لو دعي الفتى لطعنة لأجاب. وسحب طرف ثوبه من يدها برفق، ثم نزل من حصنه، واستقبلته الجماعة بالترحاب، وساروا معاً يتجاذبون أطراف الحديث، ويذكرون ما أصابهم بعد مجيء محمد، ويسألونه أن يبيعهم. . . وكعب لا يفتأ يذم لهم النبي ومن آمن معه، ويذكر لهم ما جرّه على يثرب من بلاء، ويقول: حتى يثرب ما عادت تسمى باسمها القديم، فقد أخذ أصحابه يسمونها مدينة الرسول، وهو كما سمعت يسميها طيبة وطابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قال له أحدهم: سيعود اسمها القديم يا كعب، فاصبر حتى ندبر أمرنا. فيقول كعب: إن صبرت على هذا فكيف أصبر على ما حرمه على الناس من التعامل بالربا وكيف اصبر وقد باعد ما بيننا وبين إخواننا من الأوس والخزرج، وزعم أنهم ومن أتى معه أمة واحدة؟ وكيف تصبرون أنتم وقد جعل آلهتكم إلهاً واحداً؟ كان الحديث متصلاً، وكعب سادر في غيه وضلاله إلا أن وصلوا إلى مكان يقال له " شعب العجوز "، فوضع أبو نائلة يده على رأس كعب ثم شمها وقال: ما رأيت طيباً أعطر من هذا الطيب! قال كعب: كيف، وعندي أعطر نساء العرب وأجملهن؟ قال أبو نائلة: يا كعب، أدن مني رأسك أشمه وأمسح به وجهي. وبحركة سريعة وضع يده على رأسه واستمسك به وصاح بجماعته: اضربوا عدو الله! انهالت على كعب أسياف أربعة، فلم تغن في حلكة الليل، وصاح عدو الله صيحة أيقظت من بالحصون المحيطة وكلها حصون يهود، فلم يبق حصن إلا وعليه نار، وحاولت يهود أن تأخذ على الفدائيين الطريق، ولكنهم اعجزوهم، وكان الحارث بن أوس قد أصيب بأسياف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 إخوانه في عماية الليل، فاحتمله محمد بن مسلمة، وساروا يشتدون حتى وصلوا بقيع الغرقد، فكبروا: الله أكبر الله أكبر. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقضي ليله مصلياً منذ غادروه لمهمتهم، فما إن سمع تكبيرهم حتى كبر كما كبروا. وعلم أنهم قتلوه، وخرج إلى باب المسجد يستقبلهم، فلما أقبلوا عليه قال لهم عبارته المشهورة في مثل هذه المواقف: " أفلحت الوجوه ". قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله. وقادهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى داخل المسجد، وجلسوا متحلقين حوله. ثم أخذ قائد الجماعة محمد بن مسلمة يحدث عن صنيعهم، فقال: عندما رأيت أن أسيافنا لا تغني تذكرت خنجراً حاداً كان معي، فتناولته وطعنته في بطنه حتى انفذته، فعلمت اني قتلته. وفاضت وجوه الحاضرين بشراً وسروراً، وحمدوا لهذه الجماعة ما قامت به من عمل في سبيل الله، وتمنى كل واحد لو توكل إليه مهمة كهذه، ويوفقه الله لإتمامها، ليقوم مقام هؤلاء الصحابة أمام رسول الله، ويسمع ما سمعوا منه عند استقباله لهم امام المسجد: " أفلحت الوجوه "! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 * * عندما أصبح الناس واشرقت الشمس بنور ربها جاءت وفود يهود، وقد ملأهم الرعب واستحوذ عليهم الفزع، فقالوا: يا محمد قتل صاحبنا غيلة! فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكرهم بصنيعه من التحريض على المسلمين، وهجائهم والتشبيب بنسائهم. عندئذ علموا أن الرسول هو الذي أمر بقتله، وكانوا من قبل يشكون في ذلك، فازدادوا خوفاً ورعباً وعادوا إلى ديارهم، وحرصوا على إغلاق أبواب حصونهم مع غروب الشمس وما عادوا يفتحونها لأحد أبداً. ورأى رسول الله الفرصة مواتية لكسر شوكة يهود وإرهابهم، فقال لأصحابه: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه. وكان لهذا الأمر ما يبرره، فيهود لم تتوقف عن التآمر على المسلمين، ولم يفتر عداؤها للاسلام لحظة واحدة، ولم تنفع معها عهود أو عقود، فكان لزاماً وحقاً أن يقابلهم المسلمون عداء بعداء وقسوة بحزم. * * تأديب القبائل المعادية: كان للنشاط الذي ابداه محمد بن مسلمة في خدمة الإسلام والذود عن المسلمين أثره في نفس الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان رسول الله خير من يعرف الرجال وما يصلحون له، فقرب إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 محمد بن مسلمة، وأوكل إليه مهام حربية كثيرة، معظمها لو درسناها بععمق مهام فدائية، مثل تأديب القبائل المحيطة بالمدينة والتي كانت مصدر شغب على المسلمين، وكانت تساعد قريشاً وتمدها بالرجال. كانت القبائل النجدية القوة الرئيسية التي ساعدت الأحزاب يوم الخندق وكثرت عددهم. ومن بين هذه القبائل قبيلة بكر بن كلاب، فجرد عليها الرسول – عليه السلام – حملة من ثلاثين راكباً، أمّر عليهم محمد بن مسلمة، وأمره بالإغارة عليهم والتنكيل بهم حتى لا يفكروا بالعودة إلى إعانة أعداء الإسلام على المسلمين. خرج محمد بن مسلمة بفرقته الخفيفة، وسار يكمن النهار ويسير الليل ليفاجىء القوم. وفي عماية الصبح وقف المسلمون يحيطون بمضارب بني بكر، فوجدوا القوم في نومهم لم يعلموا بهم، فهتف محمد بن مسلمة: الله أكبر. وردد خلفه ثلاثون صوتاً: الله أكبر. الله أكبر، وانقضوا على القوم يفتكون بهم، وبنو بكر لا تدري ماذا تفعل. ولم يجدوا أمامهم سوى الفرار عن العيال والمال، فاستاق المسلمون ما خلفه البكريون غنائم وعادوا بها إلى المدينة. وفي طريق العودة بث محمد بن مسلمة، القائد النابه، رجاله حتى لا يفاجأ بكرة بني بكر عليهم، فاشتبه أحد رجال الحملة برجل يسير منفرداً في الصحراء، فأسره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وجاء به إلى القائد الذي حقق معه، فتبين له أن الرجل سيد من سادات بني حنيفة اسمه ثمامة بن أثال، جاء متنكراً لاغتيال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدم به محمد بن مسلمة على رسول الله صى الله عليه وسلم ليرى فيه رأيه. * * إلى خيبر: انضم كثير من يهود المدينة إلى يهود خيبر، وراحوا يكيدون للإسلام وأهله، وتمادوا في ضلالهم ومؤامراتهم رغم الطرق العديدة التي اتبعها معهم المسلمون في محاولات لردعهم وإسكاتهم. ولكن هيهات هيهات، فيهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ولا زالت عداوتهم تقودهم من تهلكة إلى تهلكة، وهم سادرون فيما هم فيه من غل وبغضاء، ولن يكفوا عن ضلالهم حتى يقودهم إلى البوار والفناء. وكان لا بد من غزو خيبر، فانتدب الرسول المسلمين لهذا الغزو، فلبوا النداء، فسار بهم الرسول إلى خيبر، وفي خيبر أعظم حصون يهود، وفي حصونها أشد رجالهم بأساً وأكثرهم شجاعة وإقداماً. وعندا أطل الجيش الإسلامي على خيبر، وقف الرسول ينظر إليها، ووقف المسلمون خلفه ينتظرون ما هو صانع، فإذا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صوته قائلاً: " الله أكبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 خربت خيبر، إنا اذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ". وكبّر المسلمون لتكبير رسول الله، وتجاوبت بالتكبير بطاح خيبر وحصونها وبساتينها، ونشط المسلمون للقتال، وتفاءلوا بالنصر المبين. أما يهود خيبر فما إن سمعوا هذا النداء الخالد حتى فزعوا وراحوا يهرعون إلى حصونهم، بل حجورهم، وهم يقولون: محمد والخميس! (1) محمد والخميس! قتل مرحب وكنانة: واحاط الجيش الاسلامي بالحصون والأسوار، واستعد للقتال، فبرز من خلال الحصون " مرحب " أشهر فرسان يهود واشدهم إقداماً، فبرز له رجال من المسلمين فقتلهم، وكان قبل خروجه من الحصن قد رمى حجراً من فوق أحد الأسوار فقتل به محمود بن مسلمة الأنصاري. وجال مرحب حول عسكر المسلمين وأخذ يرتجز: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب ثم وقف أمام الجيش وصاح: هل من مبارز؟ هل من مبارز؟ فقال رسول الله: من لهذا؟   (1) الخميس: الجيش الجرار، سمي بذلك لأنه خمس فرق، المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فنهض محمد بن مسلمة وتقدم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: أنا له يا رسول الله، انا والله الموتور الثائر. قتل أخي محمود. فقال له رسول الله: " قم اليه ". ثم دعا له قائلاً: اللهم أعنه عليه. ونزل محمد بن مسلمة إلى غريمه الذي قتل عدداً من المسلمين من قبل. نزل إليه ودعاه رسول الله يرن في أذنه: " اللهم اعنه عليه ". فمن كان الله في عونه لا يقدر عليه أحد. واندفع البطل بإيمان لا يتزعزع وبشجاعة يقر له بها كل من عرفه، وصاول مرحباً وجاوله، وكلما ظن أنه تمكن منه وجده قد راغ كما يروغ الثعلب. ودار كل من الفارسين حول صاحبه يريد أن يقتنص منه فرصة فيغتنمها. وكان المسلمون ينظرون إلى محمد بن مسلمة بإعجاب وثقة. وكانت يهود تضع كل أملها في فارسها الهمام، فلا تتوقع الهزيمة، ولا تعرف ماذا تصنع بعده! ولاحت الفرصة لمرحب فانقض على البطل المسلم وحمل عليه بسيفه وضربه به ضربة هائلة انحبست لها انفاس المسلمين جميعاً، ولكن محمد بن مسلمة تلقاها بالدرقة، فنفذ نصل السيف فيها، وعضت عليه، ودون أن تأخذ ابن مسلمة المفاجأة انقض على غريمه فضربه بسيف فصرعه (1) !   (1) في رواية أخرى يرجحها معظم المؤرخين أن الذي قتل مرحبا اليهودي هو الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه –. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وهتف المسلمون بصوت واحد: الله أكبر. وانسحبت يهود من ظهور أسوارها، وقد ملأها رعباً ويأساً مصرع فارسها مرحب. ودب الحماس والنشاط في جيش المسلمين، فشددوا من هجماتهم وغاراتهم على اسوار خيبر واستطاعوا أن يقتلوا عدداً من رجال يهود. وأسروا في هجمة من هجماتهم كنانة بن الربيع، وهو سيد من سادات يهود، فطلبه محمد بن مسلمة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقتله بأخيه محمود، فاستجاب له رسول الله، فأخذه إلى ناحية من عسكر المسلمين وضرب عنقه. * * هديه الرسول للمجاهد: قضى محمد بن مسلمة حياته إلى جانب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوه فيهرع إلى تلبية النداء، ينتدبه لأعماله فينفذها على أحسن الوجوه وأكملها، يؤمره فيجده نعم الأمير. وتقديراً من رسول الله لبطولات محمد بن مسلمة ناداه ذات يوماً وأهداه سيفاً وقال له: " يا محمد بن مسلمة، جاهد بهذا السيف في سبيل الله، فإذا رأيت المسلمين اقبل بعضهم على بعض فأت به أحداً فاضربه به حتى تكسره، ثم كف لسانك ويدك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وامتدت يد محمد بن مسلمة إلى يد رسول الله، وأمسكت بالسيف، ثم راح البطل العظيم يخطر بالسيف أمام المسلمين والفرحة تملأ فؤاده. وعندما جلس ابن مسلمة إلى نفسه تذكر كلمات رسول الله: " فإذا رأيت المسلمين اقبل بعضهم على بعض فاضرب به أحداً، وساءل نفسه: أأعيش إلى أن أرى هذا اليوم الأغبر؟ أيمكن أن يضرب المسلمون رقاب بعض؟ ويرد على تساؤلاته فيقول: لا، لا، لا يمكن أن يسلّ المسلم سيفه في وجه أخيه المسلم! ولكنه عندما يتذكر أنه سمع هذه الكلمات من رسول الله نفسه، يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أسألك العافية. * * محاورة: كان لمحمد بن مسلمة – رضي الله عنه – من البنين عشرة ومن البنات ست، اجتمعوا عنده ذات ليلة، وقد بلغ السبعين، وأخذوا يلحون عليه لكي يحدثهم بأخبار جهاده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبأخباره مع خلفائه من بعده. قال رضي الله عنه: إني لم أتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة قط إلا واحدة في تبوك، خلفني على المدينة. قال أحد أبنائه: هذا والله يا أبي شرف عظيم نتيه به على الدنيا، فهل تحدثنا عن سرايا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال: إنه ما من سرية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تخفى عليّ، إما أن أكون فيها أو أن أعلمها حين خرجت. قال آخر من أبنائه: إنا لنعلم يا أبي أنك كنت ملازماً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانك امرؤ كاتب، والكاتبون على عهدكم قليل، فهل كتبت شيئاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم يا أبنائي، لقد كنت ممن شهد على وثيقة صلح الحديبية، كما شهت على الكتاب الذي أرسله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوفد ثمالة والحدّان في عُمان، كما شهدت على كتاب الرسول الأمين إلى زُميل بن عمرو من بني عذرة كما كتبت كتاب رسول الله – عليه السلام – إلى مهري بن الأبيض من أهل مهرة. قال ولده: ما دمت حضرت الحديبية فإنا نحب أن نعرف ماذا فعلت فيها بالإضافة إلى شهادتك على كتاب الصلح؟ قال: عندما وصلنا الحديبية وصلت الأخبار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قريشاً تستعد للحرب، وأنتم تعلمون أننا كنا نقصد العمرة ولا نريد قتالاً، ولكنا كنا دائماً على استعداد للحرب، لا نغفل عن ذلك أبداً، فقد كانت هذه توصيات رسول الله لنا، فعندما علم الرسول استعداد قريش للحرب أعد ثلاث فرق للحراسة والاستطلاع حتى لا نفاجأ بالعدو، وقد شرفني الرسول الكريم بأن أكون قائداً لفرقة منها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وزاد في إكرامي وتشريفي أن أعطاني فرسه، فكنت اركبها أثناء قيادتي لفرقة الاستطلاع والحراسة. قال ولده: وهل حدث تصادم بينكم وبين كفار قريش؟ قال: اعدت قريش فرقة من خمسين رجلاً من أبطال قريش وفرسانها، وأرادت أن تفاجئنا، ولكني استطعت أن اعلم خبرهم من العيون التي بثثتها، فهيأت لهم كميناً استطعت به أن آخذهم جميعاً اسرى وجئت بهم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ولده: لقد علمنا أنك قتلت مرحباً فارس يهود في غزوة خيبر، وكذلك سيداً من ساداتهم، فهل كان لك أعمال أخرى في غزوة خيبر، فإنها كانت من أعظم غزوات الرسول عليه السلام؟ قال: كل المسلمين كانوا يضطلعون بأعمال كثيرة، فالرجل المسلم في تلك الأيام كان يقوم بما يقوم به العشرة بل المائة من رجال اليوم، وقد كنت في خيبر على حرس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا الذي ارتدت الموق الملائم لمقر قيادة الجيش الإسلامي. قال ولده: لقد كسوتنا يا والدي فخراً ابدياً لا يحول ولا يزول، ونحب أن نعلم إن كنت رافقت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمرة القضية. قال: نعم، لقد رافقت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 القضية، وعندما وصلنا إلى ذي الحليفة أمرني رسول الله أن اتقلد قيادة الفرسان، وكان معنا مائة فارس، ثم أمرني أن أتقدم الجيش بفرساني حتى نكون طليعة لهم. قال ولده: أريد يا والدي أن أسألك سؤالاً أرجو أن لا يكون محرجاً، ما موقفك يوم فر المسلمون يوم أحد؟ قال: أي بني، إني لا أحتمل أن أفارق رسول الله لحظة في سلم وفي حرب، فعندما رأيت الدائرة تدور على المسلمين في أحد، هرعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأكون بقربه أذبّ عنه وأدفع عنه الشر والأذى، أما أولئك الذين فروا من المعركة فقد ظنوا أن رسول الله – فداء نفسي وأهلي – قد قتل، وإلا لما فروا عنه أبداً، وأريدكم يا بني أن لا تصغوا إلى أقوال المتحذلقين الذي لا يجيدون سوى مضغ الكلام، فوالله لو كانوا معنا يوم أحد لمات واحدهم مكانه فزعاً وهلعاً. قال ولده: وماذا عن غزوة ذي القصّة؟ قال: أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سرية من عشرة من الصحابة لتأديب بني ثعلبة وبني عوال الذين كانوا يسكنون في ذي القصة، مكان يبعد عن المدينة أربعة عشر ميلاً، وحاولنا أن نحيط تحركاتنا بالسرية، ولكن القوم علموا بنا وكمنوا لنا بمائة من فرسانهم فأحاطوا بنا وأعملوا فينا سيوفهم، وقاومنا ما وسعتنا المقاومة، وقتل أصحابي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 العشرة، وأصبت أنا بجروح بليغة، فظن القوم أني مت فتركوني وانصرفوا، فقمت بعد انصرافهم ويسّر الله من حملني معه إلى المدينة. قال ولده: سألناك عن أعمالك الجانبية مع رسول الله أما أعمالك الأخرى معه فإنا نعلمها ونحفظها، فهل قمت بأعمال للخليفة العظيم عمر بن الخطاب؟ قال: نعم، فقد ولاني صدقات جهينة، وعندما وصلت شكاوى أهل الكوفة على سعد بن أبي وقاص كلفني بتحري صحتها، وأمرني بأمور فنفذتها كما أمرني بها. قال ولده: لقد أكثر أهل الكوفة من شكوى ولاتهم، واعجب لقوم يشكون خال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وماذا كانت شكاتهم من سعد؟ قال: اشتكوا بأنه بنى داراً بالكوفة، وأنه احتجب فيها عنهم. قال ولده: وبماذا امر عمر رضي الله عنه؟ قال: أمرني أن أعمد إلى باب الدار فأحرقه، ثم أبحث في شكاوى القوم. قال ولده: وهل فعلت ذلك؟ قال: نعم، فعندما وصلت الكوفة سألت عن دار سعد وعمدت إلى بابها فأحرقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 قال ولده: وهل حققت في شكاواهم؟ قال: وهل ذهبت إلا لذلك؟ لقد حققت فلم أجد إلا خيراً، وما كنت لأجد عند سعد إلا الخير والبر والتقوى. قال ولده: نريد أن نسمع قصتك مع عمرو بن العاص. قال: رأى عمر أن ابن العاص أثرى بمصر، فأحب أن يبرأ إلى الله، فأمرني أن أذهب إليه وأقاسمه ماله. قال ولده: وهل فعلت؟ قال: نعم قد فعلت. قال ولده: وماذا كان رد ابن العاص؟ قال: ما كان له أن يخالف أمر عمر. وما كان المال هم صحابة رسول الله عليه السلام. قال ولده: لقد أكثرنا عليه من السؤال يا والدي، ولكنا أحببنا أن لا يفوتنا شيء من أخبار جهادك مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن ذلك فخر لنا. قال: إنما الفخر أن تجاهدوا في سبيل الله كما جاهدنا، والفخر لكل من آمن بالإسلام هو العمل للإسلام والجهاد في سبيله، فهذا هو طريق الفلاح إلى يوم الدين. قال أولاده بصوت واحد: أطال الله عمرك يا والدنا، ونحن على عهد الإسلام ما حيينا. قال: بارك الله فيكم، لقد حان وقت النوم، فانصرفوا راشدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 * * الفتنة والاعتزال: ومضت أعوام تحركت خلالها الفتنة، وافترى قوم على ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقتلوه ظلماً وعدواناً، وافترق المسلمون بعده، وسل المسلمون سيوفهم في وجوه بعض. وتذكر محمد بن مسلمة وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمل سيفه واتجه نحو أُحد فضرب به الصخر حتى كسره، ثم عاد إلى بيته واتخذ لنفسه سيفاً من خشب، وكأنه يقول: ليت هذه السيوف التي يقتتل بها المسلمون تنقلب خشباً. واعتزل محمد بن مسلمة الناس إلى أن مات في المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، وذلك سنة ست وأربعين من الهجرة عن عمر يقارب السابعة والسبعين. رحم الله فارس نبي الله، وقائد الحرس النبوي، وجعل في المسلمين اليوم رجالاً كمحمد بن مسلمة، فما أحوجنا إلى أمثاله رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 كان عمرو بن أمية الضمري ساعي رسول الله الوافدي في كتابه " فتوح الشام " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 عمرو بن أمية الضمري الرجال الذؤبان: أسمعت بالرجال الذؤبان؟ إنهم صنف من الرجال عاشوا في الجاهلية، كان الرجل منهم كالذئب شجاعة وإقداماً وجرأة، وفيه من صفات الذئب أيضاً، المنعة والصدود، والفتك والرهبة، والخفة وسرعة العدو. كان هؤلاء الرجال محل احترام المجتمع الجاهلي، ذلك لأن مجتمع الجاهلية لم يكن يقدر الرجال ويحترمهم إلا لشجاعتهم وفتكهم أو لثرائهم وبذهم. ومن الرجال الذين جمعوا صفات الذؤبان، فملكوا الشجاعة والجرأة، ووصفوا بالفتك والعدو، حتى عُدّ من رجالات العرب وعدّائيهم، أبو أمية عمرو بن أمية الضمري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 * * فترة العداء: وعندما أهلت دعوة الحق، وجاء الله بالإسلام، وقف أبو أمية موقف الغالبية العظمى من رجالات الجاهلية فلم يؤمن، وساهم مع من ساهم في حرب الاسلام والمسلمين، ويبدو أن هذه المساهمة اقتصرت على الاشتراك في الجيوش التي حاربت المسلمين في بدر وأحد، فلم تذكر لنا المصادر على كثرتها، أي موقف آخر لأبي أمية في الصد عن الاسلام ومحاربته. التفكير السليم: ويبدو أن ابا أمية كان على قدر من العقل وحظ من التفكير، فلم يطل به العداء للاسلام، فما إن انصرف من معركة أحد حتى خلا بنفسه يفكر في موقفه ويزنه بميزان العقل الراجح والتفكير السليم: لماذا رفض محمد كل ما عرض عليه من أمور الدنيا، فقد عرضت عليه قريش المال والملك والسلطان فرفضها بحزم، وثبت على دعوته ثبوت الرواسي؟ ! ما الذي يجعل المستضعفين من أبناء قريش وعبيدها يقفون في وجه السادة ويتحملون عذابهم وظلمهم وقهرهم، حتى إن الواحد منهم ليموت دون هذا الاسلام الذي آمن به؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 كيف يصير أثرياء مكة الذين آمنوا بما جاء به محمد، على ازدراء قومهم لهم، وعلى ضياع المال وفنائه، ولا يلتفتون إلا لمحمد ودعوته؟ ! ما الذي جعل العشرات من رجال مكة ونسائها يهاجرون إلى الحبشة بحراً، وهي بلاد نائية ومسالكها وعرة، والعرب لا تعرف ركوب البحر وتخافه وتخشاه؟ ! ما الذي جعل أهل يثرب يتحدون العرب ويهود ويرحبون بمحمد؟ وما الذي جعلهم لا يعلنون إجارتهم لمحمد، على عادة العرب، ويعلنون استعدادهم للقتال دونه ودون هذا الدين الذي يدعو إليه؟ وكيف تنتصر قلة من الرجال بأسلحة بسيطة، على العدد الكبير والنفير العظيم والسلاح الوفير؟ لقد شهدت هذا بنفسي في بدر، وانهزمت أمامهم، ولا والله ما كنت يوماً جباناً افرّ من أمام الرجال. وحتى في أحد رأيتهم يهزموننا، وفينا أبطال الحروب وفرسان القتال، وعندما دارت دائرة الحرب عليهم وأحطنا بهم دافعوا عن نبيهم وترّس الرجل منهم عنه بجسمه حتى الموت! وأدار عمرو هذه التساؤلات في عقله ومحصها في وجدانه وقلّبها على وجهها، فوجد أن كل هذا لا يمكن أن يحدث إلا بمعجزة، وما المعجزة إلا هذا الدين الذي جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 به محمد، لقد كشف الستار، وبان الصبح لذي عينين، إن الرجل لنبي وإن هذا الدين لحق، فيكفي ما ضيعت من عمري في جانب الباطل، لم يبق لي مقام بين المشركين وما مقامي إلا بين الذين آمنوا بأن الله واحد وأن محمداً رسول الله. في بئر معونة: لم يكن قد مضى شهر على اسلام أبي أمية عندما وفد على رسول الله رجل مهيب تبدو عليه ملامح الشجاعة ومظاهر السيادة. قال رجل لصاحبه: من هذا الذي دخل لتوه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فأجابه: ألم تعرفه، إنه اشهر من نار على علم، إنه سيد بني عامر، وهو في الذروة شجاعة ونسباً، إنه أبو براء عامر بن مالك، تدعوه العرب " ملاعب الأسنة " لبراعته في فنون الحرب والنزال. قال الرجل: اذن هيا بنا نشهد حديثه مع رسولنا الكريم. استقبل الرسول أبا براء استقبالاً حسناً، وعرض عليه الإسلام. وكان في وجه أبي براء ملامح القبول وعلامات الرضا، ولكنه لم يبادر إلى إعلان إسلامه، وطلب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 رسول الله أن يمهله ليفكر فيما سمع منه. وقبل أن ينصرف قال لرسول الله: يا محمد، إن أمرك هذا حسن جميل، فلو بعثت رجالاً من اصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اني اخشى عليهم أهل نجد. قال أبو براء: أنا لهم جار أن يعرض لهم أحد، فابعثهم فليدعوا إلى أمرك. فبعث رسول الله سبعين رجلاً من خيار المسلمين فيهم عمرو بن أمية الضمري، وأمّر عليهم المنذر بن عمرو الساعدي (1) . وسار الركب المؤمن باتجاه نجد، فلما وصلوا مكاناً يقال " بئر معونة " عسكروا فيه وأرسلوا سرحهم مع عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن الجلاح، ثم أرسلوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عامر بن الطفيل، وانتظروا ليروا ماذا يكون رده. وصل الخبر الى عامر بن الطفيل أن رسولاً جاء إليه بكتاب النبي، فقطب ما بين عينيه، ثم سأل: أمعه أحد؟   (1) المنذر بن عمرو الساعدي الخزرجي الأنصاري، كان أحد النقباء في بيعة العقبة، شهد بدراً وأحداً، استشهد في بئر معونة فقال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعنق المنذر ليموت، أي أسرع إلى الموت وهو يعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 قالوا: معه سبعون رجلاً جلسوا ينتظرونه في " بئر معونة ". وقهقه عامر بصوت رددته الصحراء، وصفق بيديه جذلاً، ونادى خادمه وطلب منه أن يترع له الكأس خمراً. وارتاب أحد الحاضرين في نوايا عامر فقال له: يا عامر، إنهم في جوار أبي براء. فرد عامر: في جوار أبي براء! في جوار أبي براء! ثم شرب كأسه. وفي هذه اللحظات وصل الصحابي الجليل حرام بن ملحان ومد يده بكتاب رسول الله إلى عامر، وأخذ عامر الكتاب ودون أن يفضه ليعرف ما فيه من الخير امتدت يده الآثمة إلى سيفه ووثب إلى حرام وفاجأه بطعنة قاتلة! وتلقى حرام الطعنة الغادرة، فقال وهو يلفظ أنفاسه: الله أكبر، فزت ورب الكعبة! وفي هذه اللحظة التي سمع فيها الناس تكبير حرام، سمعوا أيضاً صوت عامر يدعوهم للوثوب على المسلمين في بئر معونة، ويقول: يا بني عامر أعينوني على هؤلاء المسلمين! لقد غرق بنو عامر في بحر من العجب، رجل يُقتل فيقول: فزت ورب الكعبة. وأين الفوز وهو يموت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ويفارق الحياة؟ ! ورجل يأتيه رسول بكتاب فيقتله قبل أن يعرف ما يحتوي عليه الكتاب ويعلم أن الرجل في جوار عمه، فلا يقيم للجوار وزناً ولا يعرف للقرابة حقاً! ويعيد عامر بن الطفيل دعوته مرة أخرى: ما لكم يا بني عامر لا تجيبون، ألا تعينوني على هؤلاء المسلمين؟ فيرد بنو عامر: يا عامر، لن نخفر جوار أبي براء. وترك عامر هذا الحي واسرع إلى أحياء بني سليم، ودعاهم لغزو كتيبة الإيمان في " بئر معونة " فأجابته قبائل عُصيّة ورعل وذكوان، وسارعوا إلى الشر، وشدوا بالخيل وراء عامر بن الطفيل. التفت المسلمون إلى عجاج الخيل فرأوا قوماً يريدون الشر، فأسرعوا إلى أسلحتهم، فما كادوا أن يتمكنوا منها حتى أحاط بهم عدوهم وشن عليهم الغارة فاستماتوا في القتال وأثخنوا في عدوهم، ولكن عدوهم فاجأهم، وكان أكثر منهم عدداً وأتم عدة، فاستشهد المسلمون ولم يبق منهم غير أميرهم المنذر بن عمرو الساعدي، فقال له عامر: ان شئت أمّناك! فما التفت إلى كلامهم وكر عليهم بسيفه فتكاثروا عليه وقتلوه، فلما وصل صنيع المنذر إلى رسول الله قال – عليه السلام –: " أعنق ليموت " فسمي المنذر يومئذ " المعنق ليموت ". وجاءت الطير فوق جثث الشهداء، فرآها عمرو بن أمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الضمري والمنذر بن محمد، وكانا في سرح القوم بعيدين عن أرض المعركة، فقالا: ان لهذه الطير لشأنا، وأسرعا إلى بئر معونة حيث خلّفا أصحابهما، فرأيا ويا لهول ما رأيا، أصحابهما صرعى وحولهم الخيل المغيرة بقيادة عامر بن الطفيل! قال المنذر: ماذا ترى يا أبا أمية؟ قال عمرو: أرى أن نلحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخبره الخبر ليرى رأيه. قال المنذر: لكني ما كنت أرغب عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال، وشد على القوم فقاتلهم حتى استشهد، وشد وراءه عمرو فأسر، ثم أطلقه عامر بن الطفيل فداء لنذر كان على أمه. وانطلق عمرو بن أمية عائداً وقد خلف وراءه سبعين شهيداً من خيرة المسلمين، فكان ثائر النفس يود لو تواتيه الفرصة ليثأر لهم من قاتليهم، وعندما وصل إلى " القرقرة " وجد رجلين من بني عامر، وهم قوم عامر بن الطفيل، فقال لنفسه: أدركت بعض ثأري فاحتال حتى تمكن منهما فقتلهما. ووصل عمرو إلى المدينة وقابل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره بغدر عامر بن الطفيل وقبائل سليم، فنظر إليه رسول الله وقال له: " أُبت من بينهم! " كأنه يعتب عليه، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أخبره عمر بما فعله بالعامريين، فقال رسول الله – عليه السلام –: " بئس ما صعنت! قد كان لهما مني أمان، لأدينّهما ". * * أبو سفيان يحاول اغتيال الرسول: كان أبو سفيان بن حرب من أكبر أعداء الإسلام، وله في حرب الإسلام وأهله مواقف كثيرة، منها أنه كان واحداً من أبرز زعماء قريش الذين حرضوا على الاسلام ورسوله في مكة قبل الهجرة، وحاول أن يفتري على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند قيصر الروم، وبعد معركة بدر الكبرى تولى القيادة السياسية والعسكرية لقيش، فجيش الجيوش لحرب الاسلام وحرض القبائل على قتال المسلمين، وعقد الأحلاف مع يهود لحرب الرسول – عليه السلام – وقاد معركة أحد ومثل فيها بشهداء المسلمين، وقاد معركة الخندق بعد أن حشد لحرب الإسلام عشرة آلاف مقاتل، ووقف موقفاً مزرياً عندما حرض على قتل أسرى المسلمين خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، ودبّر مؤامرة فاشلة لقتل الرسول غيلة، فقد روي أنه وقف في جمع من قريش وقال: يا معشر قريش ألا أحد يغتال ممحداً، فإنه يمشي في الأسواق؟ فقام رجل أعرابي فقال: لقد وجدت أجمع الرجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قلباً وأشده بطشاً وأسرعه شداً! فإن أنت أعنتني خرجت اليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النسر، أذهب إليه وحدي، فإني هاد بالطريق خرّبت! قال أبو سفيان: أنت صاحبنا. فأعطاه بعيراً ونفقة وقال له: اطوِ أمرك. وخرج الأعرابي يسير ليله ويكن نهاره حتى أتى المدينة، فسأل عن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدلوه على المسجد، فلما أقبل على رسول الله قال: " إن هذا ليريد غدراً ". فقام إليه أسيد بن الخضير فيجذبه جذبة أطاحت الخنجر من بين ثيابه، فصاح الرجل: دمي، دمي! فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اصدقني من أنت ". قال الأعرابي: وأنا آمن؟ قال عليه السلام: " نعم ". فأخبره أنه صنيعة أبي سفيان بن حرب وأنه أرسله لقتله وأعطاه على ذلك مالاً. فأبو سفيان بن حرب كان الزعيم الذي تطيعه قريش وتجتمع حوله القبائل، وله نشاط فعال في حرب الدعوة الاسلامية والتحريض عليها، وقد ولع في دماء المسلمين وتمادى في كل ذلك، فمن الحكمة أن يتخلص منه المسلمون لعل قريشاًً لا تجد من تجتمع عليه لحرب المسلمين بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 محاولة قتل أبي سفيان: أرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم، وأمرهما أن يذهبا إلى مكة لقتل أبي سفيان، وقال لهما: " إن أصبتما منه غرة فاقتلاه ". خرج الصحابيان الفدائيان من المدينة إلى هدفهما بمكة، ومعهما بعير واحد، وسارا يستخفيان حتى وصلا جبل يأجج بمكة، فحبسا بعيرهما في شعب الجبل، وانتظرا إلى أن خيم الليل بظلامه على الكون فقاما إلى هدفهما، وخطرت فكرة لسلمة فقال: يا أبا أمية، لقد وصلنا مكة، ألا نبدأ فنطوف بالكعب ونصلي ركعتين؟ قال عمرو: لقد جئنا في مهمة يجب أن نقدمها، وأنا أعرف أهل مكة، إنهم إذا تعشوا جلسوا بأفنيتهم فأخشى إن بدأنا بالطواف أن يرانا القوم، وكلهم يعرفني، فنفشل فيما جئنا له. وما زال سلمة بعمرو حتى وافقه، فدخلا مكة وطافا بالكعبة وصليا ركعتين، ثم انطلقا إلى هدفهما، أبي سفيان بن حرب. وبينما كان عمرو وصاحبه يمشيان في طرقات مكة نظر اليهما رجل من أهلها فعرف عمرو بن أمية، وقد كان فيها معروفاً، فصاح الرجل: من؟ عمرو بن أمية بمكة؟ والله إن قدمها إلا لشر! يا معشر قريش عليكم بالرجل قبل أن يفلت! . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ودبت الحركة في طرقات مكة، وتنادى القوم للحاق بالفدائيين، فقال عمرو لصاحبه: النجاه، النجاه. وخرجا يشتدان، وأهل مكة في أثرهما، ولكنهما فاتاهم بمسافة، فوصلا رأس الجبل، ودخلا كهفاً فيه، وسدّا مدخله بالحجارة. ولما رأى المكيون أن الصحابيين قد أفلتا وأن الليل قد أخفاهما، عادوا أدراجهم وهم يتحدثون عن جرأة عمرو ويتساءلون عن الهدف الذي قدم إلى مكة من أجله! وبات الصحابيان ليلتهما في الغار، فلما أصبحا وهمّا بالخروج شاهدا رجلاً من قريش على فرس له، فخشي عمرو أن يراهما فينذر أهل مكة، فخرج إليه خلسة واستل خنجره وأغمده في قلبه وعاد إلى الكهف، فصاح الرجل صيحة أسمعت من بمكة، فاشتدوا نحو الصوت، فوصلوا الرجل وبه رمق. فقالوا: من قتلك؟ قال: عمرو بن أمية. قالوا: وأين ذهب؟ فرفع الرجل رأسه قليلاً، وفتح شفتيه ليتكلم ولكنه لفظ أنفاسه قبل أن ينطق، فاحتمله القوم وعادوا به إلى مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 محاولة إنقاذ جثة خبيب: أما الفدائيان رضي الله عنهما، فكانا في الغار يومين حتى خف عنهما الطلب، فخرجا يريدان المدينة، فمرا بتنظر ذاب له قلباهما أسى ولوعة. . خبيب بن عدي – رضي الله عنه – مصلوب على خشبة وحوله رجال يوقدون نيرانهم ويسهرون على حراسته. فقال عمرو لسلمة: هل لك في أن نأخذ خبيباً ونعود به إلى المدينة؟ قال سلمة: نعم. قال عمرو: انتظر حتى أغافل القوم وأنتزع الجثة. وتسلل عمرو نحو الخشبة، وانتزع عنها جثة خبيب، واشتد مسرعاً، ,ولحق به سلمة يعينه، ولكن الحرس أحسوا بهما، فأسرعوا خلفهما بسيوفهم، ولما رأى عمرو أنهما أدركا، ألقى بالجثة وصاح بسلمة: النجاه النجاة حتى تأتي البعير فتركبه فإني سأشاغل القوم عنك ولا يشغلنك أمري، فإنهم لن يصلوا إلي. ومضى سلمة إلى البعير فركبه وانطلق به إلى المدينة. قتل رجل من بني بكر: ومضى عمرو يطوي الصحراء ماشياً لا يستريح إلا لحيظات ثم يستمر، إلى أن وصل إلى مكان يقال له " ضجنان " فأوى إلى كهف فيه، وألقى بجسمه المكدود وأغمض عينيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وقبل أن يستغرق في النوم سمع صوتاً بباب الكهف، فانحاز إلى جانبه المظلم يستخفي من القادم، فدخل عليه رجل أعور من بني بكر، فوثب عمرو ووقف خلف الرجل بقوسه وقال: من الرجل؟ قال: رجل من بني بكر. قال عمرو: وأنا من بني بكر، حسبتك عدواً. قال الرجل: لقد أفزعتني، حسبتك أول الأمر من أصحاب محمد. قال عمرو: وهل عندك شيء من محمد؟ قال الرجل: ليس إلا العداوة ما حييت وانطلق يحدو: ولست بمسلم ما دمت حياً ولست أدين دين المسلمينا. قال عمرو لنفسه: سنرى. واضطجع الرجل واستغرق في النوم، فقام اليه عمرو ووضع سية قوسه في عينه الصحيحة وتحامل عليه حتى بلغ العظم، فقتله شر قتلة. قتل جاسوس لقريش وأسر آخر: وخرج مسرعاً حتى لا يدركه أحد من قوم القتيل، وما زال يطوي الأرض حتى جاء " النقيع " فإذا رجلان من قريش جاءا يتجسسان على المسلمين، فكمن لهما حتى إذا مرا به أوتر قوسه وصاح بهما: استأسرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قالا: من؟ عمرو بن أمية؟ أنحن نستأسر لك؟ فلم يمهلهما حتى يستعدا، فوضع سهمه في أحدهما فقتله فاستأسر الآخر فأوثقه ثم أتى المدينة بسحبه وراءه! وهرع المسلمون إلى رسول الله يبشرونه بقدوم عمرو، ودخل عمرو عند رسول الله يجر معه أسيره، وحيا بتحية الإسلام وجلس، وجلس المسلمون حلقة حوله يستمعون إليه وهو يقص على رسول الله أخباره من يوم خروجه إلى حين عودته، وسُرّ عمرو لما يراه من تبسم رسول الله ومن أمارات الإعجاب التي تبدت على وجوه الحاضرين، ومما زاده سروراً أن النبي – عليه السلام – قال له خيراً ودعا له بخير. * * إنسانية فذة: في السنة الخامسة من الهجرة ضاقت على أهل مكة الأرض بما رحبت فقد حرمهم الله المطر فأجدبت الأرض وانقطع الثمر وانعدمت في مكة الأرزاق أو كادت، ولم يرحم القحط غنياً أو فقيراً، وهل ينفع الغني ماله إذا لم يجد ما يشتريه به؟ ! وتضوّر الناس جوعاً وضجت قريش مما أصابها. وترامى خبر ضائقة قريش إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل أفرحته هذه الأخبار لأنها نزلت بأعدائه؟ أم ذكرته بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فعلته قريش به وبالمسلمين عندما حاصرتهم في شعب أبي طالب وقاطعتهم مقاطعة شاملة حتى إن المسلم ليأكل ورق الشجر اليابس من شدة الجوع، وكفار قريش ينعمون بما لذ وطاب دون أن يثير الرحمة في أفئدتهم ما يسمعونه من صراخ أطفال المسلمين من شدة الجوع، وما يترامى إلى أسماعهم من وطأة الحال على المسلمين وكلهم يمنون لهم بصلة القرابة أو النسب أو الولاء! قد يكون الرسول تذكر هذا أو بعضه، ولكنه لم يثر فيه نوازع الانتقام أو التشفي، لأنه – عليه السلام – نبي الرحمة، بل أثار في نفسه كل العواطف الإنسانية ووجدها مناسبة يتألف بها قريشاً، فأوقر قافلة تمر عجوة وأمر عمرو بن أمية أن يوصلها إلى أبي سفيان بن حرب في مكة. وقبل أبو سفيان الهدية ووزعها في أحياء قريش وشكر لرسول الله ما صنع ولعمرو بن أمية ما تكلفه من جهد، وأهدى لرسول الله أدماً مما اشتهرت به مكة وأرسلها مع عمرو بن أمية. * * رسول إلى الحبشة: كان المهاجرون في الحبشة يتابعون أخبار إخوانهم الذين ثبتوا في مكة. ولما علموا بهجرتهم إلى يثرب جلسوا ينتظرون أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكي يلحقوا بهم، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 المدة طالت ورسول الله يؤجل ذلك حتى تستقر له الأمور في المدينة وما حولها، ومضت بدر وأحد والخندق، وسمع مهاجرو الحبشة بأخبارها، فتمنوا لو كانوا من جنودها، وازداد شوقهم لرسول الله ومن معه من المسلمين. وحدث ما أزعج مهاجري الحبشة، ذلك أن عبيد الله ابن جحش تنصر، وراود امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان على النصرانية فامتنعت وثبتت على إسلامها. ووصل خبر ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستدعى عمرو بن أمية الضمري وكتب رسالة إلى النجاشي يدعوه فيها إلى الإسلام ويطلب منه أن يزوجه أم حبيبة وأن يحمل من عنده من المسلمين ويرسلهم إلى المدينة، وطلب من عمرو أن ينطلق بالرسالة الى النجاشي. استقبل المسلمون في الحبشة عمرو بن أمية بالبهجة والسرور، وأمطروه بالأسئلة عن رسول الله والمسلمين: - كيف تركت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ - كيف تركت أبا بكر وعمر وعثمان و. . . و. . .؟ - حدثنا عن أمر بدر، وكيف نصر الله عبده رسول الله وأعز جنده المسلمين؟ - قل لنا كيف كان مبدأ أحد؟ وكيف دارت الدائرة على المسلمين؟ وكيف سولت لإخوتنا أنفسهم أن يخالفوا أمر رسول الله فيتركوا مواقعهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 - حدثنا عن أمر الخندق، ومن أشار به؟ وكيف واجهت قريش هذه المكيدة؟ وكيف هزمها الله؟ - لقد سمعنا بغدر يهود وبمصيرهم على أيدي المؤمنين، فكيف كان ذلك؟ ومتى؟ رجال ونساء وأطفال يحيطون بعمرو بن أمية، وكل منهم يريد جواباً على ما سأل، وعمرو تغمره السعادة وهو يجيب على هذا، ويصبّر ذاك حتى ينتهي من جواب أخيه. وأخيراً سأل أحدهم: هل أمر رسول الله بردنا إلى المدينة؟ قال عمرو: لبث قليلاً يأنك الخبر، استأذنوا لي على النجاشي كبير الحبشة. وفي اليوم الثاني كان عمرو في مجلس النجاشي، وتقبل النجاشي رسالة الرسول بالتجلة والاحترام، وسأله عنه وعن المسلمين. ولمس عمرو في حديث النجاشي حباً لرسول الله ولدين الإسلام، فاستبشر خيراً، وطمع بإسلامه. استدعى النجاشي وأعاد الرسالة إلى عمرو وقال له: ماذا يريد رسول الله؟ قال عمرو وهو ينظر في الرسالة: إنه يدعوك بدعوة الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين. واستمع النجاشي إلى المترجم باهتمام، فلما أتم ترجمته لكلام عمرو، هز رأسه وتمتم بكلمات، فانتظر عمرو المترجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فإذا هو يقول: نعم أشهد أنه رسول الله، ولو قدرت أن آتيه لأتيته، وماذا بعد؟ قال عمرو: إنه يطلب منك أن تزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان. قال النجاشي: حباً وكرامة، هذا شرف عظيم أولانيه الرسول الكريم، قد زوجته أم حبيبة وأصدقتها عنه أربعمائة دينار، وأمرت لها بكسوة وثياب، وسآمر أهل بيتي أن يأتوها ويهدوا إليها ما يصلح النساء ويسرهن. . وبعد يا عمرو؟ قال عمرو: بارك الله على الملك الصالح. إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلب منك أن تحمل المسلمين الذين في جوارك وتعيدهم معي إلى المدينة. قال النجاشي لمترجمه: إذهب من فورك وجهز سفينتين من أحسن سفننا واحمل بهما أصحاب رسول الله. . . والتفت إلى عمرو وقال: لقد أمرنا لك بكل ما تريد، وأقرىء رسول الله مني السلام. أي فرحة غامرة هذه التي امتلأ بها قلب عمرو، لقد حضر بنفسه إسلام النجاشي، ورأى بنفسه مدى إجلاله لرسول الله ومدى احترامه لأوامره. لقد كانت سفارته هذه خيراً له وللنجاشي وللمسلمين. وتلقى مهاجرو الحبشة عمرو بن أمية لدى خروجه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عند النجاشي وسألوه بلسان واحد: ماذا وراءك يا عمرو؟ قال عمرو: الخير كله، أسلم النجاشي، وزوج أم حبيبة من رسول الله وأصدقها عنه وأمر لكم بالسفن لتنقلكم إلى المدينة. وعمت البشرى بين المؤمنين، غداً نلقى رسول الله ونشارك المسلمين في جهادهم، فمرحباً بالجهاد في سبيل الله. ووصل المسلمون ورسول الله قد انتهى من فتح خيبر، آخر معاقل يهود في جزيرة العرب، بل جزيرة الإسلام، وأسرع عمرو إلى رسول الله يقضي إليه بنتائج سفارته، فبان البشر على وجه الرسول، واستقبل المسلمين واحداً واحداً، وعندما جاء جعفر بن أبي طالب قبّله – عليه السلام – بين عينيه واعتنقه وقال: " ما أدري بأيهما أنا أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر "؟ * * إلى ثقيف: حاصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني ثقيف في الطائف، ثم رأى أن يفك الحصار عنهم لعل الله يأتي بهم مسلمين. وأخذت ثقيف العزة الجاهلية، وأقامت على عنادها وضلالها، وكان رجال من ثقيف قد أسلموا وأخلصوا دينهم لله فعزّ عليهم أن يتأخر إسلام أهلهم، من هؤلاء الصحابي الجليل عروة بن مسعود الثقفي – رضي الله عنه –. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 جاء عروة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله دعني أذهب إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام، لعل الله يكرمني فيسلموا بدعوتي. قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنهم قاتلوك "! فقال: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من ابكارهم، فدعني أذهب إليهم. وذهب عروة إلى الطائف وصعد إلى علّيّة له وأشرف منها على قومه ودعاهم إلى الإسلام، فما استمعوا إليه وما التفتوا إلى ما يقول، بل رموه بسهامهم فقتلوه. كان عمرو بن أميه يستمع إلى خيبر مقتل عروة عندما فكر أن يغامر ويذهب بنفسه لدعوة ثقيف إلى الإسلام، واستأذن رسول الله بذلك ثم وجه راحلته نحو الطائف. ما الذي يدور في ذهن أبي أمية وهو يتوجه إلى قوم لم يخضعهم الحصار، ولم يقنعهم رجل من أحب الناس إلى قلوبهم، بل عمدوا إلى سهامهم فقتلوه بها؟ ماذا سيفعل عند قوم بينه وبين زعمائهم خصومات جاهلية ربما زادها عمقاً اتباعه دين الحق وبقاؤهم على دين الضلال والشرك؟ لقد فكر عمرو في أمر عروة، لا شك أنه أخطأ اذ قام يدعو إلى الاسلام في ملأ من الناس، وفيهم الرعاع والسفهاء وأوشاب الناس، فلم يتمالكوا أن اعتدوا عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ولو أنه دعا زعماءهم على انفراد لما قتل، لقد اعتمد عروة على حب ثقيف له، وما درى أن رعاع الناس قُلّب لا يثبتون على رأي، يفكرون بأسماعهم ويركبون رؤوسهم، ويسارعون إلى الشر، ولا يفكرون في العواقب! ولكن الله قدر لعروة الاستشهاد، وقدر لي أن أتعلم هذا الدرس الكبير. . . اذن فقد قرر عمرو أن يكلم سادتهم وذوي الألباب منهم، ولكن ألا يحول دون ذلك ما بينه وبينهم من خصومات واحقاد! كلا لقد قرر أبو أمية أن يأتيهم من هذا الباب فالعداوة والمباعدة قد تنقلب إلى حب ومقاربة إذا جاء الخصم إلى عدوه على غير انتظار وهو يحمل اليه النصح الخالص بقلب مفتوح. وجرياً وراء هذا الرأي اختار أبو أمية رجلاً ممن كان بينه وبينه خصومة ذهبت بهم إلى قطعية طويلة وعداء دفين فيمم منزل عبد يا ليل بن عمرو، ودخل فناءه، وطلب من خدمه أن يستدعوه له. قال واحد من الخدم تطوع أن يدعو سيده: ومن الذي يطلب سيدي؟ قال: عمرو بن أمية الضمري. دخل الخادم على سيده عبد يا ليل وقال له: سيدي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 إن عمرو بن أمية الضمري بفناء بيتك ويقول لك: اخرج إليّ أكلمك. أدهشت المفاجأة عبد يا ليل، وقال لخادمه: ويلك: أعمرو أرسل إلي؟ قال الخادم: نعم، وها هو ذا يقف في فناء دارك. قال عبد يا ليل: إن هذا الشيء ما كنت أظنه، لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك! نعم، لقد كان عمرو أمنع في نفسه من أن يأتيك يا عبد يا ليل لو كان الأمر متعلقاً بإحن الجاهلية وخصوماتها ولكنه يأتيك الآن من أجل الإسلام، ومن أجل هذا الدين وضع عمرو خصومات الجاهلية دُبر أذنه وتحت قدمه، وأتى إليك – يا عبد ليل – لخيرك ولخير ثقيف، ولخير نفسه أيضاً، فما أعظم أن يهدي الله على يديه قبيلة بأسرها! وهرع عبد يا ليل إلى عمرو بن أمية وغمره بالترحيب ونادى خادمه وعبيده وأخذ يلقي إليهم أوامره: اذبحوا، واطبخوا، واصنعوا، واجلبوا. وقاطعه أبو أمية: على رسلك يا عبد يا ليل. قال عبد يا ليل: إني أريد أن احتفل بانتهاء الخصومة بيننا. قال عمرو: يا عبد يا ليل، إنه نزل بنا أمر ليس معه هجرة (خصومة) . قال عبد يا ليل: وما هذا الأمر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قال عمرو: إنه كان من أمر هذا الرجل (رسول الله) ما قد رأيت، قد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم من طاقة، فانظروا في أمركم. وأطرق عبد يا ليل ملياً، ثم رفع رأسه وقال: لقد صدقت يا أبا أمية، ما لنا بحرب العرب من طاقة. قال عمرو: لقد انجلى الليل وبان الصبح لذي عينين، فوالله إن ما يدعو إليه النبي لحق، وما كنا عليه، وما أنتم عليه الآن لباطل. قال عبد يا ليل: هذا ما تبين لي منذ زمن، ولكني وأمثالي من سادة ثقيف نخشى مصيراً كمصير عروة، ولكن دعني أرى رأيي وأجمع قومي، وسوف أدعوهم إلى هذا الدين برفق ولين، وأزين لهم أمر الدخول فيه، وأخوفهم مغبة الاعراض والعناد. . كانت رحلة عمرو إلى ثقيف يحدوها الاخلاص والأمل وكانت دعوته لعبد يا ليل نابعة من القلب، فوقعت من عبد يا ليل موقعاً وصادفت لديه قبولا، فدعا بها قومه فآمنوا. وعاد عمرو بن أمية إلى رسول الله ومعه وفد من سادة ثقيف فوقفوا بين يدي رسول الله يشهدون بشهادة الحق، ويبشرون رسول الله بإسلام ثقيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 * * إلى مسيلمة الكذاب: ظن رجال من العرب أن النبوة أمنية يمكن أن يمني بها الإنسان نفسه، ثم يعمل على ادعائها، فينقلها من عالم الخيالات والأحلام إلى عالم الإحساس والواقع، وظنت قبائل من قبائل العرب أن النبوة ابتداع ابتدعته قريش لتباهي به القبائل وتفاخرهم بمجده وسؤدده، وعندما وجدت هذه القبائل من رجالها من ادعى النبوة بادرت تتلقف الفرصة وتنتهز المناسبة لتقابل قريشاً فخراً بفخر ونبوة بنبوة! هكذا ظن مسليمة الكذاب، وكذلك كان ظن قومه من بني حنيفة، وذهب بعض رجال هذه القبيلة في التعصب مذهباً جعلهم يعلنون أن كذاباً من بني حنيفة أحب إليهم من صادق من قريش! وأرسل رسول الله كتاباً إلى مسيلمة الكذاب مع عمرو بن أمية الضمري، يحبب فيه الإسلام إلى مسيلمة ويكره اليه الفتنة ويبغضه فيها وينهاه عن ركوبها. وانطلق عمرو إلى مسيلمة في اليمامة، وسلمه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأى عمرو من غرور مسيلمة ومن افتراءاته الشيء الكثير، وصبر على ما رأى انتظاراً منه لجواب كتاب رسول الله، وأملى مسيلمة كتابه وعمرو يسمع، فراودته نفسه أن يثب عليه فيفتك به لولا أنه لم يؤمر بذلك، ويرد إتمام ما أمره به الرسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ماذا كتب مسيلمة في رده على كتاب رسول الله؟ كتب يقول: " من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك. أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون ". وحمل عمرو هذه الرسالة وانطلق بها يقطع الصحراء، وانطلقت الأفكار تخطر على فؤاده. . كم هي سامية أهداف الرسالة السماوية التي حملها لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكم هي متهافتة ومتهالكة هذه الأهداف التي يسعى إليها مسيلمة. إن رسولنا الكريم يحلق بنا في أجواز الفضاء الرباني السامي، ويحاول مسيلمة بكذبه وافترائه أن يشد الناس إلى الأرض ويمرغهم بالتراب، إن رسولنا العظيم يدعو إلى وحدة الأنانية تحت لواء التوحيد، ومسيلمة لم يزل متمسكاً بنتن العصبية وأوضارها. . . ونظر عمرو إلى الرسالة التي بين يديه، وقال لنفسه: لولا ما حملت من الأمانة لما أوصلت مثل هذه الرسالة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولا ما أعرف من حكمة رسول الله وفضل رأيه وما يتنزل عليه من الوحي لتكفلت بهذا الدعي الكذاب. . ومدّ عمرو الرسالة إلى رسول الله، وطأطأ برأسه خجلاً مما فيها، فقرأها – عليه السلام – ثم أمر من يكتب إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 مسيلمة هذا الجواب: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد فالسلام على من اتبع الهدى، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين ". فيا لك من أحمق أيها الكذاب مسيلمة، تريد الأرض مناصفة بين قومك وبين قريش، وما علمت أن الأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده، وقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض، ولم يعد قريشاً أو سواها من القبائل لنسبها أو شرفها، فالله لا يعطي على الأنساب ولكنه يعطي على صالح الأعمال. . . * * في الشام ومصر: واستمر عمر بن أمية – رضي الله عنه – يعمل للاسلام، لا يفتر عن ذلك لحظة، شأنه شأن الصحابة جميعاً، وخرج مع الجيوش الاسلامية التي توجهت لغزو الروم، وكانت تحت امرة أبي عبيدة عامر بن الجراح عندما حاصر المسلمون انطاكية، وكان أبو عبيدة قد أرسل نفراً من المسلمين خفية فاختلطوا بالروم داخل اسوار انطاكية، ليكونوا عيوناً للمسلمين على الروم، ولكن الصلة انقطعت بهم لكثرة عيون الروم ولشدة مراقبتهم للأسوار ومداخلها، فأرسل أبو عبيدة إلى عمرو أن أمية وكلفه بأن يذهب خفية إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 أولئك المسلمين ليعلم أمرهم ويأتي بما عندهم، فاحتال عمرو لنفسه حتى دخل انطاكية واتصل بالمسلمين فيها، وعلم منها ما اراد، وعاد إلى أبي عبيدة بالأخبار. ويحلو للواقدي صاحب فتوح الشام أن يطلق على عمرو بن أمية لقب " ساعي رسول الله "، وذلك لما لاحظه من كثرة استخدام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمرو في توصيل رسائله إلى الملوك والأمراء وسائر العرب، وقد ذكر الواقدي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – استعمل أبا أمية في خلافته للغرض نفسه، فأرسله برسالة إلى عمرو بن العاص يحثه على المسير إلى مصر. . * * العودة إلى المدينة: وكما تحن الأم إلى أولادها كان الصحابة رضوان الله عليهم يحنون إلى المدينة لمقام رسول الله فيها ولذكرياتهم التي خلفوها هناك. وأحس عمرو بهذا الحنين، فارتحل من الشام واستقر بالمدينة، ولم ينشب أن مات فيها وعمره ستون سنة. رحمه الله، ورضي عنه، وجعل في المسلمين مثله رجالاً يمتلئون اخلاصاً وتضحية للدين الحنيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ما انت إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ الوليد بن الوليد المخزومي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الوليد بن الوليد المخزومي قبائل قريش: كانت قريش قبائل تنتمي إلى أب واحد، ولكنها لم تكن سواء في السيادة والشرف، فمنها ما كان متقدماً فيهما، ومنها ما كان متأخراً لا يكاد يذكر له شيء منهما، ومنها ما كان بين هذا وذاك، لا هي بالنابهة المتألفة فيهما ولا هي بالخاملة ميتة الذكر. . . وكانت المنافسة على السيادة والشرف تدور بين ثلاث من قبائل قريش، هاشم وأمية ومخزوم، وكانت هذه المنافسة تشتد أحياناً حتى تغدو قريبة من العداء المستحكم، ولكن التقدم كان دائما من نصيب بني هاشم وكانت القبيلتان الأخريان، أمية ومخزوم، تحاولان أن تصعدا سلم الشرف والسيادة لتلحقا بهاشم، ولكن هيهات هيهات. . فقد بقي بنو هاشم سادة قريش وبقيت أمية ومخزوم بعدهم تجريان وراءهم تحاولان أن تلحقا بهم وتنافساهم. لهذه المنافسة المتقدة على الشرف والسيادة برز من تلك القبيلتين رجال يذكرون إذا ما عدت رجال قريش، ويحضرون اذا ما عقدت مجالس قريش، تلك المجالس التي خصصت لها ندوة قريش التي لا يحضرها إلا راسخ في السيادة معرق في الشرف. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 بنو مخزوم والدعوة الى الإسلام: عندما عرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة الإسلام على قريش، تلقاها زعماء القبائل، ومنهم بنو مخزوم، على أنها مكرمة من مكارم السيادة والشرف تتنافس عليها القبائل ويتسابق اليها الرجال، فأبى هؤلاء الأشراف أن يقروا لبني هاشم بالنبوة، وناصبوا رسول الله العداء، أما العقلاء من شباب قريش فقد تلقوا دعوة الإسلام بالقبول، فأقبلوا على رسول الله مصدقين وعلى دعوة الإسلام مؤمنين. كان بنو مخزوم من أكثر القبائل القرشية عداء للرسول ودعوته، أبوا أن يكون النبي من قبيلة أخرى غيرهم وقد بالغوا في العداء ولجّوا فيه حتى ظهر من بينهم فرعون هذه الأمة، أبو جهل عمرو بن هشام، كما ظهر من بينهم واحد من زمرة المستهزئين بالدعوة: الوليد بن المغيرة. . . وعلى هذا العداء الشديد من زعماء بني مخزوم وسادتهم، فقد آمن من عقلاء شبابهم نفر آثروا الحق والصدق على التنافس على رموز الدنيا البالية الفانية، فقد كان من بين السابقين إلى الإسلام، سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة المخزوميان. . موقف الوليد بن المغيرة من الاسلام: كان الوليد بن المغيرة سيد بني مخزوم، وكانت له في قريش مكانة سامية واحترام عظيم، وكان هو في نفسه عظيماً، لا يرى لأحد عليه فضل، ولا يرى أحداً أحق منه بزعامة قريش وسيادتها، فقد كان القرشيون خاصة، والعرب عامة، يعتبرون العز والسيادة للكاثر مالا وولداً، وقد آتى الله الوليد مالاً وولداً، فكيف لا يرى نفسه سيد قريش وقد كان عنده من المال ما مكنه من كسوة الكعبة بمفرده سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وتكسوها قريش مجتمعة سنة أخرى حتى سُمي بينهم بالعِدْل. . أي أنه يعدل قريشاً كلها مالا. . . ثم كيف لا يرى نفسه سيد قريش وكبيرها وقد آتاه الله ولداً يصول بهم ويجول بين رجال قريش وقبائلها. . . فقد كان له من الأولاد: خالد بن الوليد، وعمارة بن الوليد، وابو قيس بن الوليد، وهشام بن الوليد، والوليد بن الوليد. وعندما عرض رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الاسلام على قريش فزع الناس إلى الوليد يسألونه الرأي، فما كان منه إلا أن قال لهم قبل أن يسمع للرسول وقبل أن يستمع إلى القرآن: أينزل الوحي على محمد واترك أنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود سيد ثقيف. . ونحن عظيما القريتين! وقد حكى لنا القرآن الكريم قصة الوليد هذه ورد عليها فقال: " وقالوا: لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، اهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخْرياً، ورحمه ربك خير مما يجمعون " (1) . كانت هذه ردة الفعل الأولى لدى الوليد بن المغيرة. . انه لا يقبل أن ينزل القرآن على فتى يتيم فقير في قريش ويترك هو كبير القوم واكثرهم مالاً وولداً. . . ولكن. . هل يتراجع الوليد عن هذا الموقف عندما يقابل الرسول ويستمع إليه؟ لقد كانت الفصاحة في قريش، وكان الوليد على درجة عالية من الفصاحة والتذوق للفصيح، ولكنه كان يتحاشى أن يستمع   (1) الآيتان 31 و32 من سورة الزخرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 للقرآن أو أن ينصت لحديث الرسول، ولكن هذا الموقف لم يستمر، فقد مر ذات يوم رسول الله وهو يقرأ القرآن، فقرعت آياته أذنيه، فوقف فأنصت، فأثرت آيات القرآن في قلبه، فانطلق حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال لهم: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن. . . والله إن له لحلاوة وان عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وان أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه. ثم انصرف إلى منزله مفكرا فيما سمع من محمد وفيما قال لقومه من بني مخزوم. قال بنو مخزوم: لقد صبأ والله الوليد، ولتصبأن قريش كلها. قال أبو جهل: أنا أكفيكموه. . وانطلق أبو جهل حتى دخل على الوليد وجلس إلى جانبه متصنعاً الحزن والأسى، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا بن أخي؟ قال أبو جهل: كيف لا أحزن وهذه قريش تجمع لك مالاً ليعينوك على كبر سنك، ويزعمون أنك زيّنت كلام محمد وصبأت لتصيب من فضل طعامه وتنال من ماله؟ فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش اني من أكثرهم مالاً وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام؟ ثم قال مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه يُخنق؟ قالوا: اللهم لا. قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟ قالوا: اللهم لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا. قال: تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط؟ قالوا: اللهم لا. ثم التفت الناس الوليد وقالوا: فما هو اذن؟ فروّى قليلاً يفكر في هذا الأمر ثم قال: ما هو إلا ساحر، اما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده، ما هذا الذي يقوله إلا سحر يؤثر. ونزل القرآن مرة ثانية يحكى موقف الوليد ويقرّعه ويتوعده، فقال – جل من قائل -: " ذرني ومن خقلت وحيدا، وجعلتُ له مالاً ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن ازيد، كلا انه كان لآياتنا عنيدا، سأرهقه صعودا، انه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم ادبر واستكبر، فقال ان هذا الا سحر يؤثر، ان هذا الا قول البشر، سأصليه سقر. . . " (1) . مصير أولاد الوليد: أما عمارة بن الوليد فقد كان أنهد فتى في قريش وأجمله، بلغ من إعجاب قريش بشبابه وجماله ان عرضوه على أبي طالب ليتخذه ولدا بدلاً من محمد – عليه السلام –، على أن يأخذوا محمداً فيقتلوه. قالوا: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش واجمله فخذه، فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً، فهو لك، وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة   (1) الآيات من 11 إلى 26 من سورة المدثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله. . . فإنما هو رجل برجل! قال أبو طالب: لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم اغذوه لكم، واعطيكم ابني تقتلونه؟ وخرج القوم من عند أبي طالب وقد اجمعوا على عداوته، وتشديد الوطأة على محمد ومن تبعه منهم. وأمر رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من أسلم بالهجرة الى الحبشة فراراً بدينهم من أذى قريش، فأرسلت قريش وراءهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد يغرون بهم النجاشي لعله يردهم عن دينهم أو يسلمهم الى قريش تسومهم سوء العذاب.. وكان مع عمرو بن العاص في رحلته الى النجاشي امرأته، فراودها عمارة عن نفسها، فأسرها عمرو حتى اغرى به النجاشي، فكاد له هذا حتى قتله طريداً شريداً في صحاري الحبشة. وأما أبو قيس بن الوليد فقد قُتل بمكة كافرا، ولم تذكر المصادر التي بأيدينا كيف كان قتله، وأغلب الظن أنه قتل في أثناء فتح مكة. وأما خالد بن الوليد، فهو سيف الله المسلول، وصاحب الفتوحات المجلّية في جبهتي فارس والروم. . . لم يزل معانداً لرسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حتى أسلم بعد الحديبية، فشارك في غزوة مؤتة، فأظهر من الكفاية الحربية والمهارة الادارية ما استحق عليه لقباً من ألقاب الإسلام الخالدة. . سيف الله. . رضى الله عنه وأرضاه. أما هشام بن الوليد فهو ذو الأعصاب المتوفزة والمزاج الحاد، قتل أبا أزيهر الدوسي على مرأى من الناس ومشهد، تلبية لوصية أبيه التي أقر فيها أنه متجنّ على الرجل، ومع ذلك أوصى بقتله عصبية جاهلية، فاستجاب هشام للوصية، وقال حين اقدم على قتله يصف نفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 لساني طويل فاحترس من شدائه عليك، وسيفي من لساني أطول! وبقي هشام على كفره إلى يوم الفتح. . فأسلم، وكان من طائفة المؤلفة قلوبهم. .. هشام وابن عمه عياش: أسلم عياش بن أبي ربيعة المخزومي قبل دخول رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دار الأرقم، فهو من السابقين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة مع زوجته، وفي الحبشة ولد له ولد أسماه عبد الله، ثم عاد من الحبشة مع من عاد منها من المسلمين المهاجرين، وأخذت وطأة قريش تزداد شدة وعنفاً على المسلمين، وقررت كل قبيلة أن تتكفل بمن آمن منها، فتكيل له العذاب، ولا ترفعه عنه حتى يرتد عن دينه. وجاء نفر من بني مخزوم الى هشام بن الوليد يستأذنونه في تعذيب ابن عمه عياش بن أبي ربيعة. . . قالوا له: إنا قد أردنا أن نعاقب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي احدثوا، وإنا نستأذنك في عياش، قال هشام: هذا عياش فعليكم به فعاتبوه، وإياكم ونفسه، وقال: ألا لا يقتلن أخي عُيَيْش فيبقى بيننا أبدا تلاحي احذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلاً. . . فعاد القوم من حيث أتوا، وقال بعضهم لبعض: اللهم العنه، فمن يغرر بهذا الخبيث، فوالله لو أصيب عياش في أيدينا لقتل أشرفنا رجلاً! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وانصرفوا عن عياش فلم يؤذوه. عياش يهاجر مع عمر بن الخطاب: عندما أذن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، اتّعد عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي أن يخرجوا من مكة فرادى وأن يلتقوا عند مكان في ظاهر مكة يقال له " التناصب " وقالوا: أيُّنا لم يصبح عندا فقد حُبس، فليمض صاحباه. فأصبح عند التناصب عمر وعياش، وحبس هشام، فمضيا حتى قدما المدينة ونزلا في بني عمرو بن عوف بقباء. أبو جهل يردّ عياشاً: وخرج أبو جهل واخوه الحارث بن هشام حتى أتيا قباء، وقالا لعياش – وكان ابن عمهما واخاهما لامهما -: إن أمك قد نذرت ان لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تعود. ورق لها عياش، وعزم على العودة معهما. . . فلما علم عمر بذلك أتاه مسرعاً وقال له: يا عياش، انه والله ان يريدك القوم الا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو أذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. قال عياش، أبرّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه. قال له عمر: والله انك لتعلم اني لمن اكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. فأبى عياش إلا أن يخرج معهما. . . فلما أبى إلا الخروج قال له عمر: أما إذا فعلت ما فعلت، فخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها. وخرج عياش راكباً ناقة عمر، وخرج معه أبو جهل والحارث بن هشام وقد بيتا له أمرا. . . وعندما ابتعدوا عن المدينة التفت أبو جهل إلى عياش وقال له: يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال عياش: بلى. . . واناخها ليتحول عنها لأبي جهل، فلما استوى على الأرض عدا عليه الرجلان فأوثقاه وربطاه. . . وساقا به إلى مكة على هذه الحال. وعندما دخل أيو جهل وأخوه الحارث مكة يسوقان بعياش موثقا، وأهل مكة من حولهم معجبون بفعلهم، قال لهم أبو جهل: يا أهل مكة؛ هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا! أبو جهل يحبس عياشاً: لم يستطع أبو جهل أن يعذب عياشاً لمقامه من هشام بن الوليد، فحبسه في السجن الذي حبس به سلمة بن هشام المخزومي من قبل. وكان سلمة بن هشام – رضي الله عنه – ممن أسلم مبكرا وممن هاجر إلى الحبشة، فلما عاد منها فيمن عاد من المسلمين عدا عليه أبو جهل – لعنه الله – وضربه وعذبه وحبسه ومنع عنه الطعام والشراب في محاولة لرده عن دينه، ولكن سلمة ثبت، فلما يئس منه أبو جهل حبسه في بيت من بيوت مكة وجعل عليه عيناً لا تفارقه. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 رسول الله يدعو للحبيسين: وتناقل الناس خبر الحبيسين وما يلقيانه من عنت في محبسهما وما يبديانه من جلد وصبر وثبات على الإيمان عظيم، فكان رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يدعو لهما في صلاة الصبح ويقول: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، اللهم انج المستضعفين من المؤمنين. . . ولما طال حبسهما أخذ رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يدعو لهما كلما فرغ من صلواته ويقول: اللهم انج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وضعفه المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. . الوليد بن الوليد بن المغيرة يقع في أسر المسلمين: ونشبت معركة بدر، ودارت الدائرة على أنصار الأصنام،. فانفرط عقدهم، وفروا في فوضى واضطراب، فلحق بهم المسلمون يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً، وكان ممن وقع في أيدي المسلمين أسيراً الوليد بن المغيرة المخزومي، فقد أسره عبد الله بن جحش – رضي الله عنه –. وعندما رأت قريش أن تفادي أسراها قدم إلى المدينة خالد بن الوليد وهشام بن الوليد يسعيان في فداء أخيهما الوليد وأخذ خالد وهشام في مساومة عبد الله بن جحش في فداء الوليد، فأبى عبد الله بن جحش إلا أربعة آلاف درهم وشكّة (1) أبيهم الوليد بن المغيرة. وتأبى خالد أن يطوع بهذا الفداء. . . وكان الوليد بن الوليد أخاه لأبيه. .   (1) شكة الوليد بن المغير هي عدته الحربية، وكانت درعاً فضفاضة وسيفاً وبيضة (البيضة: غطاء الرأس في الحرب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وطاع به هشام بن الوليد. . . وكان الوليد أخاه لأبيه وأمه. . . وتلاحى خالد وهشام. . . فقال هشام لخالد: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا أضعاف ذلك لقبلت عند ذلك سكت خالد سكوت المغلوب على أمره، ودفعت الدية الى عبد الله بن جحش. . . إسلام الوليد بن الوليد: وخرج هشام وخالد بأخيهما الوليد قاصدين مكة، ولما وصلا ذا الحليفة أفلت منهما وأتى رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وشهد بالشهادتين. وتبعه أخواه فما أدركاه إلا وهو يعلن إسلامه أمام رسول الله – عليه السلام –، فقال له خالد معاتباً: هلا كان هذا قبل أن تفتدى وتخرج مأثرة أبينا من أيدينا فاتبعت محمداً اذ كان هذا رأيك؟ قال الوليد: ما كنت لاسلم حتى أفتدى بمثل ما افتدي به قومي، وحتى لا تقول قريش انما اتبع محمداً فراراً من الفدى. وأمن الوليد من اذى اخويه عندما رأى ما رأى من لينهما معه، فعاد معهما إلى مكة اذ كان له هناك مال رجا أن يبيعه ثم يكر عائداً إلى المدينة. اخوال الوليد يحبسونه. وعندما وصل الوليد إلى مكة وسمع اخواله بإسلامه عدوا عليه فقيدوه وحبسوه، ويبدو ان ذلك كان عن رضاً من أخويه هشام وخالد، وإلا فما كان لاخواله ان يفعلوا به ذلك واخواه يأبيانه، فما كان لأحد أن يفتات عليهما وهما من هما عزة ومنعة وسيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الرسول يدعو للوليد: وعندما علم رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بحبس الوليد قرنه في الدعاء مع الأسيرين قبله، سلمة وعياش، فكان يقول في صلاة الفجر من كل يوم: اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف. نجاة الوليد من الأسر: ورقت أم الوليد لابنها، وما راقها أن يحبس أخوتها فلذة كبدها، فانسلت اليه في محبسه فحلّت وثاقه واطلقته، واخذت تحثه على اللحاق برسول الله والمسلمين وتقول: هاجر وليد وبع المساقة واشتر منها جملاً أو ناقة وارمِ بنفسٍ عنهم مشتاقة وانطلق الوليد عائداً إلى المدينة المنورة، وانضم إلى الفئة المؤمنة فيها، مشاركاً في جهادها لاعلاء كلمة الله في الأرض. الوليد يشكو للرسول من مرض به: كان الوليد يفزع في منامه، وربما كان ذلك مما لاقاه في أسر أخواله، فجاء إلى رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقال له: يا رسول الله، اني أجد وحشة في منامي. فقال له رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: إذا اضطجعت للنوم فقل: بسم الله، أعوذ بكلمات الله من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين، وأعوذ بك ربّ أن يحضرون. . . فإنه لا يضرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الوليد في عمل فدائي: التفت رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى الوليد بن الوليد وسأله عن عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، فقال الوليد: تركتهما في ضيق وشدة وعنت، وهما في وثاق؛ رجل احدهما مع رجل صاحبه. فأهم لك رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقال لمن حوله: من لي بعياش وسلمة؟ قال – عليه السلام – انا لك بهما يا رسول الله. قال – عليه السلام –: انطلق حتى تنزل بمكة على القين (1) ، فإنه قد أسلم، فتغيب عنده واطلب الوصول إلى عياش وسلمة. . . وانطلق الوليد مستخفيا، فدخل مكة، ونزل عند القين، وأخذ يتحسس أخبار الأسيرين ليعرف موضع حبسهما. وخرج ذات ليلة فالتقى امرأة تحمل طعاماً، فقال لها: أين تريدين يا امة الله؟ قالت: اريد هذين المحبوسين. فعرف الوليد أنها تعني صاحبيه، فانطلق خلفها وهي لا تشعر به، وما هو إلا أن رآها تدخل بيتاً فأدرك أنه المكان الذي فيه الأسيرين. نظر الوليد إلى محبس صاحبيه فرآه لا سقف له يقيهما حر الصيف أو برد الشتاء، فأدرك مدى الشدة التي وقعا فيها والمحنة التي يعانيان منها، فقرر أن يسرع في انقاذهما حتى يخلصهما مما هم فيه من بلاء وشدة. انقلب الوليد مسرعاً إلى حيث مخبأه في بيت القين، فقد حرص أن لا ترتاب به المرأة التي أوصلت الطعام إلى المحبوسين، وانتظر حتى تيقّن من انصرافها، ثم استبرأ الطريق المؤدي إلى محبس الأسيرين، ثم   (1) القين: الحداد، ويبدو أن حداداً كان بمكة، ليس بها حداد غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 انسل حتى أتى هذا البيت الذي لا سقف له، فتسوّره، ثم قفز إلى حيث الأسيرين، فوجدهما يرسفان في قيد من حديد، فأخذ مروة (حجراً صلداً) فوضعه تحت القيد، ثم اهوى على القيد بسيفه فقطعه. . . ومنذ ذلك الحين سمي سيفه بذي المروة. وما ان تحرر الأسيران من قيدهما حتى نهضا وعانقا اخاهما، ثم هرع الثلاثة الى الباب فحطموه، وانطلقوا جميعاً يسلكون طريقاً غير مطروق يضللون به أهل مكة. . . ونذر أهل مكة بالنبأ، فقد صاح فيهم صائح ممن كانوا يترددون على الاسيرين للتشفي والاستهزاء بهما: يا أهل مكة ادركوا سلمة وعياشاً فقد فرا من محبسهما. . . وما أسرع ما انطلق خالد بجماعة من فرسان مكة في محاولة لرد الأسيرين، ولكنه لم يدركهما، فانكفأ بمن معه الى مكة، وقد ارتسمت على وجوههم علامات الفشل والخيبة. . . ولما علمت أم سلمة بفرار ابنها وبالمحاولة التي حاولها أهل مكة لرده، قالت تدعو له بالنجاة: لأهم رب الكعبة المسلمة أظهر على كل عدو سلمة له يدان في الأمور المبهمة كف بها يعطي وكف منعمة ونجى الله عياشاً وسلمة والوليد، فانطلقوا يجدون في السير، يحدوهم شوق غامر للقاء الرسول وصحبه، وكلما اقتربوا من المدينة زاد شوقهم وسرورهم، فاشتدوا في السير، وبالغوا فيه، وودوا لو أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 استطاعوا أن يركبوا الريح أو أن تكون لهم اجنحة يطيرون بها الى الأحبة محمد وصحبه. وعثر الوليد في سيره فدميت اصبعه، فلم يبال بما أصابها، وقال: ما انت الا اصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت ووصل ركب الثلاثة إلى المدينة، ودخلوا مسجد الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وكان لقاء. الوليد وإسلام أخيه خالد: عندما اعتمر رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عمرة القضية ضاقت نفس خالد، فخرج من مكة حتى لا يرى مواكب المسلمين وهي تطوف حول الكعبة، وحتى لا يسمعها وهي ترفع أصواتها بالتهليل والتكبير. وعندما اجتمعت قوافل الإسلام حول الكعبة التفت رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الى الوليد بن الوليد أخي خالد وقال له: أين خالد؟ قال الوليد: يأتي به الله يا رسول الله. قال – عليه السلام –: ما مثل خالد من جُهّل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجدّه مع المسلمين على المشركين لكان خيراً له، ولقدمناه على غيره. وأسرع الوليد فكتب بما قاله رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى أخيه خالد، ورغّبه في الإسلام، ودعاه لمقابلة الرسول والاستماع إليه، فكان ذلك أول دخول الإسلام إلى قلب البطل المخزومي، وسرعان ما حزم امره وشد رحاله إلى مدينة الرسول وانضم إلى موكب النور الإلهي. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 مرض الوليد وموته: ومرض الوليد بن الوليد بن المغيرة مرضاً شديداً، وأحس بدبيب الموت يسري في جسده، وعاده رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال له الوليد: يا رسول الله، حُسِرت، وأنا ميت، فكفني في فضل ثوبك واجعله مما يلي جلدك. . ومات الوليد من ليلته، وكفنه رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في قميصه. ودخل رسول الله على أم المؤمنين أم سلمة، وهي ابنة عم الوليد، فنعاه إليها. قالت أم سلمة – رضي الله عنها –: جزعت حين مات الوليد بن الوليد جزعاً لم أجزعه على ميت، فقلت: لأبكين عليه بكاء تحدث به نساء الأوس والخزرج، وقلت: غريب توفي في بلاد غربة، فاستأذنت رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فأذن لي بالبكاء، فأنشأت أقول: يا عين فابكي للوليد بن الوليد بن المغيرة قد كان غيثاً في السنين، ورحمه فينا منيرة ضخم الدسيعة ماجداً، يسمو إلى طلب الوتيرة مثل الوليد بن الوليد ابي الوليد كفى العشيرة فلما سمعها رسول الله – عليه السلام – قال لها: لا تقولي هكذا يا أم سلمة، ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. وتجمعت نساء الأنصار في بيت أم سلمة، وأخذن في البكاء على الوليد، ولما ارتفعت أصواتهن ووصلت الى مسامع الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لمن حوله من الصحابة: ما اتخذوا الوليد الا حنانا. رضي الله عنه الوليد بن الوليد بن المغيرة ومن دخل الإسلام من ذويه بني مخزوم. . . " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب، فانظروا إلى عمير بن عدي " حديث شريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 عمير بن عدي الخطمي إيمان الأنصار عندما أكرم الله أهل يثرب بأن فتح قلوبهم للإيمان آمن بالدعوة نفر منهم فازوا بقصب السبق على من سواهم من قومهم، وكان المؤمنون من كل فخذ من افخاذ قبيلتي الأنصار؛ الأوس والخزرج، يجاهدون جهاد الأبطال في الدعوة الى الإسلام بين ذويهم، وكان بنو خطمة من اكبر أفخاذ الأوس، اسلم منها رجلان، اسبقهم إسلاماً عمير بن عدي ثم تبعه خزيمة بن ثابت، وأخذ هذان الصحابيان الجليلان على عاتقهما دعوة بني خطمة الى الإسلام. ذو الشهادتين! كان خزيمة بن ثابت مبصراً، أما عمير بن عدي فقد كان كفيف البصر، وكان لكلا الرجلين جهاده في الدعوة الى الله، وعلى الرغم مما ابتلي به عمير من كف البصر إلا أن هذا الابتلاء لم يمنعه عن القيام بواجبه نحو دينه. . وكان مما قام به في سبيل الله عملية فدائية نالت رضى رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – واعجاب اصحابه رضوان الله عليهم. أما اخوه في الدم والعقيدة خزيمة بن ثابت فقد حاز لقباً جليلاً فدعي بذي الشهادتين وذلك لأن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جعل شهادته بشهادة رجلين اثنين، أما كيف كان ذلك، فهذا تفصيل له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ابتاع رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فرساً من اعرابي، ولما ذهب ليعطيه ثمنه كان ناس قد ساوموه عليه فزادوا على سوم رسول الله – عليه السلام –، فلما جاء الرسول الأعرابي، قال الأعرابي: اذا كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلا بعته. فقال النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: ألست ابتعته منك؟ قال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه! فقال – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: بل قد ابتعتُه منك. فاجتمع الناس على رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وعلى الأعرابي وهما يتراجعان، وطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بعتك! فقال المسلمون للأعرابي: ويحك، أن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يكن ليقول الا حقا. وبقي الناس في أخذ ورد مع البدوي حتى جاء خزيمة بن ثابت واستمع إلى تراجع رسول الله والأعرابي، والأعرابي يقول لرسول الله: هلم شهيداً أني بايعتك. فقال خزيمة: أنا أشهد أنك بايعته يا رسول الله، صلى الله عليك. فقال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا خزيمة. بم تشهد ولم تكن معنا؟ قال خزيمة: يا رسول الله، انا أصدقك بخبر السماء ولا أصدقك بما تقول؟ وعندئذ جعل رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شهادته بشهادة رجلين، ودُعي من يومئذ بذي الشهادتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 تحطيم أصنام بني خطمة لم يستطع عمير بن عدي وخزيمة بن ثابت الخطميان أن يصبرا على رؤية قومهما وهم يسجدون للأصنام، فأخذا يغيران عليها سراً ويحطمانها لعل بصائر القوم تتفتح على الحقيقة، ولعلهم حين يدركون أن هذه الأصنام لا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضراً فضلاً عن أن تدفع عن غيرها كما يظنون تنجاب عن أعينهم الغشاوة فيهتدون للنور الذي ما زالوا عنه معرضين. . . ولكن قومهم تمادوا في غيهم، وأصروا على ضلالهم، وتمسكوا بأصنامهم، بل ان الاعتداء على الأصنام لم يزدهم إلا اعراضاً عن الاسلام، فكان هذا الحال الذي أصر عليه بنو خطمة يحزن عميرً وخزيمة اللذين كانا يحبان لقومهما الخير ويسعيان في تقريبهم منه.. وتمادى بنو خطمة في عدائهم لله ورسوله، وظهر فيهم رجال ونساء جاهروا بهذا العداء وذهبوا فيه كل مذهب. . . معركة بدر تخرج أضغان المشركين كانت معركة بدر حافزاً للمشركين ليكشفوا عن مشاعرهم ويخرجوا أضغانهم، فعندما وردت الأنباء بالنصر المبين لجبهة المسلمين نزلت بالمشركين النوازل، فباحوا بما في صدورهم من غل وحقد على الاسلام ونبيه واتباعه، وراحوا يسخرون من انتصار المسلمين واخذوا يهزؤون ببطولاتهم. وكان من أكثر الناس ضيقاً بهذا النصر الإلهي في بدر قوم عمير بن عدي بنو خطمة، وكان من أشد بني خطمة ضيقاً بهذا النصر امرأة رجل منهم يقال لها عصماء بنت مروان، فقد جاهرت في العداء، ولجت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 بالخصومة، وبالغت بالكيد للاسلام وأهله، وكان أخطر أسلحتها هذه الأشعار التي تنظمها في ذم المسلمين والتحريض عليهم، وكان الشعر في ذلك العهد من اخطر الأسلحة التي يشهرها الناس في وجوه خصومهم، وكانت هذه المرأة تنفث اشعارها فتثير الناس على المسلمين، وكان مما قالته في رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: أطلعتم أتاوي من غيركم ... فلا من كراد ولا ملحج ترجونه بعد قتل الرؤوس ... كما يرتجى مرق المنضج ألا أنف يبتغي غرة ... فيقطع من امل المُرْتجى ولما سمع عمير بن عدي هذا الشعر الذي تعرض فيه عصماء برسول الله وتحرض على قتله، أثاره أن يكون هذا التعريض وذلك التحريض من قومه، فقرر بينه وبين نفسه أن يخلص المسلمين من مشركة بني خطمة، وقال لنفسه: لئن رد الله ورسوله سالماً من بدر لاقتلنها. وعندما عاد رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من بدر، وسمع شعر عصماء، خشي مغبته على المسلمين، فالتفت الى اصحابه وقال لهم: ألا آخذ لي من ابنة مروان؟ وزادت كلمات رسول الله عزم عدي على قتلها، وصمم على المبادرة بذلك حتى لا يزداد اذاها للمسلمين، وحتى لا تنتشر اشعارها فتقوي من عزم المشركين. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 عمير يقتل عصماء: كان عمير كفيف البصر. . . ولكنه كان نافذ البصيرة، رتب أموره جيداً، فأتى بيت عصماء وقد هجع قومها وناموا، فدنا من البيت فاذا هي نائمة في الفناء وحولها بنوها، وكانوا ذوي عدد، فتحسسهم حتى عرفها من بينهم، فأغمد فيها سيفه حتى أنفذه من ظهرها، وخرج مسرعاً قبل أن يتنبه إليه بنوها فيلحقوا به. . . وأفاق ابناء عصماء فوجدوا أمهم سابحة في دمائها، فاضطربوا لهذا الذي رأوه، وساد البيت الهرج والمرج، ووصل الخبر إلى كل بيت من بيوت خطمة، فاجتمعوا حول بيتها، وكلهم يسأل: من قتل عصماء؟ وتسابق الجميع في اطلاق التهديد والوعيد، وتمنوا لو عرفوا قاتلها حتى يثأروا منه ويلحقوه بها. نصرت الله ورسوله يا عمير لم يغمض لعمير جفن بعد تنفيذه لعمليته الفدائية، فقد قتل امرأة عزيزة الجانب يحيط بها عدد من الأبناء الشجعان، كما يغضب لها قومها من بني خطمة وهم ذوو عَدَد وعُدة وذوو شجاعة ونجدة، وبقي ساهرا حتى ارتفع صوت بلال بالنداء للصلاة، فخف إلى مسجد الرسول ليبلغه ويبشره بالخلاص من مشركة بني خطمة التي كانت تؤلب على الاسلام ونبيه. وأدى عمير صلاة الصبح خلف سيد المرسلين، وعندما سلم الرسول من الصلاة، التفت إلى عمير وفاجأه بقوله: اقتلت ابنة مروان؟ قال عمير: نعم يا رسول الله. قال – عليه السلام –: نصرت الله ورسوله يا عمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 لا ينتطح فيها عنزان (1) اطمأن عمير على رضا رسول الله لما فعل، وأحب أن يعرف صدى ونتائج قتل هذه المرأة الضالة، فالتفت إلى رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقال: هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟ فقال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا ينتطح فيها عنزان. كان عمير يظن أن عصماء هذه ذات منعة وقوة في بنيها وقومها، وانهم لا بد ثائرون بقاتلها، ولم يكن يتصور أن قلوبهم هواء، وأنهم سوف يجبنون هذا الجين الذي يخزي ويذل، ولكنه الاسلام الذي ينزل الرعب بأفئدة من عاداه وينزل السكينة على قلوب من والاه، وادرك عمير أن امر عصماء بنت مروان تافه، ولن يكون له عواقب، فقد كان تعبير رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن ذلك من جوامع الكلم التي اختص بها – عليه السلام –. . . نعم لا ينتطح في أمر هذه المرأة المشركة عنزان! البصير. . ناصر الرسول تحلق المهاجرون والأنصار حول عمير بن عدي وكلهم يسأله: كيف قتلت عدوة الله؟ وعمير يشرح لهم كيف تمكن منها حتى خلص المسلمين من شرها. والتفت رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى أصحابه وقال لهم: اذا أحببتم أن تنظروا الى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي. وعندئذ شاع في الحاضرين جو من البهجة والسرور، فقد غدا أخوهم ناصر الله وناصر رسوله، وهذا شرف يتمنى كل منهم لو سمع رسول الله يصفه به، بل ان كثيرا من الصحابة تمنى لو تتاح له فرصة   (1) لا ينتطح فيها عنزان: أي أن شأن قتلها هين لا يكون فيه طلب ثأر ولا اختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 كالتي أتيحت لعمير حتى يكتسب شرفاً كهذا الذي فاز به عمير، وحتى يحصل على وسام من هذه الاوسمة التي يزين بها ابطال الاسلام تاريخهم ويخلدون بها اسماءهم. . ان اوسمة الرسول هي تلك الألقاب التي يطلقها على اصحابه كلما امتاز أحدهم بعمل يؤهله لها. وحاز عمير على اعجاب الصحابة مهاجريهم وانصارهم، وكان من أشد الصحابة اعجابا بعمير وعمله عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال لمن حوله: انظروا الى هذا الأعمى الذي تشرى في طاعة الله تعالى. فنظر الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عمر وقال له: لا تقل الأعمى. . ولكنه البصير. فكيدوني جميعاً ملأ قلب عمير شعور بالأمان، ألم يقل له رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى: لا ينتطح فيها عنزان؟ لذا فقد خرج من مسجد رسول الله وتوجه إلى منازل بني خطمة حيث يتجمع الخطميون للتشاور في أمر ابنة مروان، انهم يعلمون أن قاتلها منهم، فما كان لرجل من غيرهم أن يدخل عليهم ليلا دون أن يحس به أحد، اذن فالقاتل لا بد أن يكون واحدا من اثنين، عمير بن عدي وخزيمة بن ثابت، فهما اللذان خالفا بني خطمة ودخلا في دين محمد. . . وعندما طلع عليهم عمير بن عدي نظروا اليه بعيون الريبة وقالوا له: أنت قتلتها يا عمير؟ والتفت اليهم عمير باستخفاف وقال لهم بعزة وتحد: نعم أنا قتلتها، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون. وبُهت الذين كفروا، وداخلهم الرعب، فلم ينبسوا ببنت ششفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 عندئذ قال لهم عمير: يا بني خطمة، والذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو اقتلكم. وران الصمت على المكان. . ولم يجرؤ أحد أن يرد على عمير قوله. . . وانصرف عمير الى اخوانه من المسلمين، أما بنو خطمة فقد انصرفوا إلى قتيلتهم فحملوها الى حيث أهالوا عليها التراب. شاعر الرسول يمدح عميراً وطار حديث عمير وبطولته في الآفاق، وأصبح قتله لعدوة الإسلام حديث المجالس في يثرب، وغدا موقف بنيها وقومها مثار السخرية والهزء، وكان لحديث عمير مع عصماء في شعر حسان نصيب، فقال يتندر بأعداء الله ويمدح عميراً (1) : بنو وائل وبنو واقف وخطمة دون بني الخزرج متى ما دعت أختكم ويحها بصولتها والمنايا تجي فهزت فتى ماجداً عرقه كريم المداخل والمخرج فضرجها من نجيع الدما قبيل الصباح ولم يحرج (2) فأوردك الله برد الجنان جذلان في نعمة المولج دخول النور إلى قلوب بني خطمة لما رأى المترددون من بني خطمة عز الإسلام ومنعته، كفوا عن ترددهم، ودخلوا في دين الله، فأي بركة كانت لهذا البصير. . لقد   (1) مغازي الوافدي، الجزء الأول ص 174، نشر: عالم الكتب، بيروت. (2) ضرجها: لطخها، والنجيع من الدم: ما كان الى السواد، أو دم الجوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 خلصه الإسلام من عدوة حاقدة، وهدى بقتلها الى الإسلام جمعاً من قومه. . . وفشا الإسلام في بني خطمة حتى أصبح المسلمون اغلبهم، وحتى غدا المشركون منهم يتسترون بالنفاق! قارىء بني خطمة وإمامهم كان عمير حريصاً على حفظ القرآن، ندي الصوت بتلاوته، وكان قومه يحبون الاستماع إليه، فغدا قارئهم الذي يحفظون عنه آيات الكتاب الكريم، وجعله رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – امامهم للصلاة، يؤمهم في مسجدهم الذي أقاموه في حيهم. مرض عمير ووفاته مرض عمير على عهد رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – واشتد عليه المرض، فقال رسول الله لأصحابه: انطلقوا بنا الى البصير الذي في بني واقف نعوده. ونهض الصحابة مع رسول الله – عليه السلام – ودخلوا على عمير، فسر برسول الله وبهم، وارتاح فؤاده للعيادة الكريمة واطمأنت نفسه، فعيادة رسول الله له في بيته دليل على رضاه عنه. . . وانتقلت روح عمير بن عدي البصير. ناصر الله وناصر رسوله الى بارئها راضية مرضية، وبقي ذكر عمير بين الصحابة فوّاحاً العبير، واستمرت سيرته عبر القرون تنبينا عن رجل صدق الله إيمانه فرضى عنه وارضى عنه المسلمين جميعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 بسم الله الرحمن الرحيم (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) . الآيتان 91، 92 من سورة التوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 سالم بن عمير مؤمنون وكافرون عندما أشرقت شمس الإسلام بنورها على يثرب اضاءت قلوبا وغمرتها بالايمان وعشت عن نورها أعين فاسودت منها القلوب وأظلمت منها العقول فازورت عن الايمان وبرمت بالمؤمنين وناصبتهم العداء. وقد أصابت هذه الحال بعضاً من قبائل الأنصار، فكان منهم المؤمنون المخلصون في ايمانهم المضحّون في سبيل إسلامهم، وكان منهم الكافرون المتامدون في ضلالهم المبالغون في عدائهم. ومن قبائل الأنصار التي انقسمت بين الفريقين قبيلة من الأوس هم بنو عمرو بن عوف، فكان من مؤمنيهم الصادقين سالم بن عمير، وكان من كافريهم الحاقدين رجل من سراتهم يدعى أبو عفك. أبو عفك. . اليهودي كان أبو عفك عربيا من بني عمرو بن عوف تأثر بجوار اليهود للأوس في يثرب فآمن باليهودية ودان بها وتعصب لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وعندما وصل الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى يثرب ناصبه يهود العداء لأنهم رفضوا أن يكون النبي الخاتم من غيرهم، وهم من قبل رفضوا أن يؤمنوا بأي نبي من غير بني إسرائيل. كان عداء اليهود للنبي ودينه يتقلب بين السر والعلن، فهم تارة يُسرون بهذا العداء ويكتمونه، وتارة أخرى يجهرون به ويعلنونه، وكان من بينهم نفر أبوا أن يسروا عداءهم، فأعلنوه وجاهروا به وبالغوا فيه، وكان هؤلاء النفر من العرب الذين دانوا باليهودية وآمنوا بها، وعلى رأس هؤلاء كان أبو عفك ومثله كان كعب بن الأشرف، فأبو عفك أوسي وكعب بن الأشرف طائي! كان الموقف المنطقي لليهود أن يؤمنوا بالرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو مكتوب عندهم في التوراة. . وكان الموقف المنطقي لهم اذ لم يؤمنوا أن يكونوا للنبي حلفاء، فهم أهل كتاب والرسول صاحب كتاب. . . وكان الموقف المنطقي لهم، إذ لم يفعلوا هذا أو ذاك أن يحفظوا حق الجوار، فالرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جار لهم في المدينة، وكان عليه الصلاة والسلام خير من حفظ الجوار ورعاه. ولكن اليهود، كعادتهم، لم يكونوا منطقيين مع أنفسهم أو مع الأحداث التي تدور من حولهم، فقد انكروا رسالة الرسول، وحالفوا المشركين ضد الموحدين، واختاروا الوقوف إل جانب مشركي مكة، على بعد الشقة بينها وبين المدينة، ضد من جاورهم من المسلمين في يثرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 اشتعال الأحقاد بعد بدر وعندما انتصر المسلمون في بدر، ووصل البشير بأخبار النصر المبين إلى يثرب لم يصدق اليهود النبأ أو لم يريدوا أن يصدقوه، فقد كانوا يعتبرون انتصار الاسلام هزيمة لهم وإضعافا لمكانتهم في المدينة، لذا وقفوا من النصر مواقف متباينة كلها تدل على حقدهم الدفين للاسلام والمسلمين، فقد كانوا بين مشكك في النصر وبين هازيء به وبين مهدد بالانتقام لقتلى المشركين من قريش. وشرعوا في إيذاء المسلمين، ولم يكفوا عن الايذاء حتى بعد عودة الرسول الى المدينة يقود خلفه سبعين من الاسرى المقرنين بالحبال والأصفاد، بل ان ذلك زاد في احقادهم، فزادوا لذلك في ايذائهم. . . وتولى كبر المجاهرة بالعداء نفر من العرب المتهودين على رأسهم أبو عفك الأوسي. ولم يمنع ما بلغه أبو عفك من سنٍّ أربت على المائة، وقيل أنها بلغت مائة وعشرين، من التصدي للاسلام وأهله، فراح يذمهم في مجلسه، واجتهد في الصد عن الاسلام وبالغ في هذا الاجتهاد، وكان من أشد وسائله خطراً هذه القصائد التي أخذ يقولها في ذم الرسول ورسالته والمؤمنين ودعوتهم، وكان مما قاله في ذلك مخاطباً المسلمين من قومه الأوس: لقد عشتُ حيناً وما إن أرى ... من الناس داراً ولا مجمعا أجسم عقولاً وآتي الى ... منيب سراعاً إذا ما دعا فسلبهم أمرهم راكب ... حراماً حلالاً لشتى معا فلو كان بالملك صدقتم ... وبالنصر تابعتم تُبّعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 سالم بن عمير يقتل أبا عفك ساء سالم بن عمير ما كان يسمعه من أبي عفك من سب المسلمين والسخرية بهم، وساءه أكثر من ذلك ما سمعه من أشعار أبي عفك في ذم المسلمين ودعوة الناس للتخلي عن الاسلام والرسول، وخشي من تأثير أبي عفك على قومه، فقد كان فيهم سيدا وكان للشعر عليهم سلطان. . . وفكر سالم في طريقة يقطع بها لسان هذا الرجل الحاقد، وطاف فكره يبحث فيما فعله رسول الله في امثال هذا الرجل، فوجد أن رسول الله لم يكن يسكت عن هؤلاء الشعراء الذين يُشهرون بالدعوة وبالدعاة بشعرهم، وتذكر ما كان يطلبه رسول الله من أصحابه عندما يبلغه أذاهم بهذا الشعر الذي ينمقونه فيزينون به الكفر ويبغضون به الايمان الى الناس، فقد كان الرسول يلتفت إلى اصحابه ويقول لهم: من لي بفلان؟ فيفهم الصحابة ان الرسول يريد قتله فينتدب لذلك واحد من الصحابة وينزل بالمعتدي بشعره على الاسلام وأهله العقاب الذي قرره الرسول. . قطع لسانه يقطع عنقه إذن فالعقاب الذي يستحقه أبو عفك هو الموت وقرر سالم في نفسه أن يقترب الى الله بدم هذا الكافر، وقال: عليّ نذر أن اقتل ابا عفك أو أموت دونه. وتربص سالم بأبي عفك يريد أن يقتنص منه غره، فقد كان الرجل منيعاً في قومه لا يوصل إليه، وكان الجانب الضعيف فيه انه كان مغتراً بنفسه وبمنعته، يظن أن أحداً من المسلمين لا يجرؤ على الاقتراب منه فضلاً عن قتله، فساقه غروره هذا لأن ينام ذات ليلة صائفة بفناء منزله، وكانت هذه فرصة سالم فاقتنصها، لقد امهل عدو الله حتى استغرق في نومه، ثم تقدم منه حتى إذا كان على رأسه وضع السيف في كبده ثم اتكأ عليه حتى انفذه. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ودوّى صراخ عدو الله من ألم الطعنة وهول الصدمة. . . فانطلق سالم مبتعداً عنه بينما هرع إليه نفر من قومه منجدين، فما أدركوه الا جثة هامدة. . . والتف القوم حول الرجل الهالك، ونظر كل منهم الى الآخر كأنما يسأل ما العمل؟ وطال حديث العيون وصمت الألسنة الى أن قال واحد منهم: من قتل أبا عفك؟ ولما لم يتلق جواباً من أحد قال: والله لو نعلم من قتله لقتلناه به. . . وسمعت قالة الرجل المتوعد امرأة مسلمة كانت تقف معهم وتنظر الى عدو الله السابح بدمه، فردت على المتوعد ساخرة بوعيده. . . لقد كان يعلم أن قاتله من المسلمين ولكنه يجبن عنه وعن التصدي له، فقالت تخاطب المتوعد بمخاطبة القتيل: حباك حنيف آخر الليل طعنة أبا عفك، خذها على كبر السن! وعلم الناس أن سالم بن عمير قد قتل أبا عفك، فسر ذلك المسلمين وحفظوه له، وساء ذلك المشركين والمنافقين واليهود وودوا لو قتلوه به، ولكن الخوف من المسلمين كان قد تمكن من قلوبهم والهيبة منهم كانت قد ملأت عيونهم. . . فتركوه يمشي بينهم يزيد في غيظهم فتغلي أحقادهم في صدورهم. سالم المجاهد تمكن الايمان من قلب سالم بن عمير فأحب الجهاد في سبيل الله، وكذلك هو الايمان اذا تمكن من قلب حبب اليه الجهاد في سبيل الله، فكان حريصاً على أن يكون الى جانب رسول الله في كل غزاة بغزوها ومعركة يخوضها، فحضر بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 كان سالم بن عمير فقير المال غني القلب بالايمان، فكان مما يجلب الهم الى قبه كلما دعا الداعي لغزاة في سبيل الله خشيته أن لا يتمكن من تجهيز نفسه بالسلاح والركوبة، فقد كان المسلمون على عهد رسول الله يجهر الرجل نفسه بأدوات القتال، ولكنه في كل غزاة كان يتدبر أمره، فما من غزاة غزاها الرسول الا كان سالم من بين رجالها حتى كانت غزوة تبوك، فقد أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين بالتجهز لغزو الروم، وقد كانت هذه الغزاة في عام جدب وحر، كما كانت المسافة بين المدينة وتخوم الروم بعيدة تحتاج إلى إعداد وعدة في السلاح والزاد والركاب، واين لسالم بن عمير وفقراء المسلمين من مال يجهزون به انفسهم لهذه الغزاة؟ . وكبر الأمر على سالم، كيف يغزو رسول الله غزاة لا يشارك فيها؟ وحاول أن يتدبر امره فلم يستطع، وشكا أمره الى بعض المسلمين من امثاله فوجدهم مثله في هم كبير، فاستقر رأيهم على أن يذهبوا لرسول الله يطلبون منه العون في ذلك. . . سالم وصحبه البكاؤون وجاؤوا رسول الله يبكون. . . يا رسول الله لا نجد مالاً نجهز به أنفسنا، فاحملنا يا رسول الله على ركوبة من عندك. . . ولم يكن عند رسول الله ما يحملهم عليه، فردهم بما عرف عنه من لطف ولين وحنان، فانصرفوا من عنده باكين على ما سوف يفوتهم من فضل الجهاد في هذه الغزاة ... وسمع المسلمون بقصة هؤلاء النفر الذين بكوا بين يدي الرسول طالبين منه أن يعينهم ليتمكنوا من المشاركة في الجهاد، واعتذار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 رسول الله لهم لضيق ذات يده. . . فأسرع المحسنون منهم فأعانوهم. . . كانوا سبعة نفر، حمل اثنين منهم يامين بن عمير، وحمل اثنين آخرين العباس بن عبد المطلب، وحمل الثلاثة الباقين عثمان بن عفان. . . ولا تسل عن فرحة سالم بن عمير وعن غبطته وسروره، فقد يسر الله له طريقاً الى الجهاد، ولم تكن نفس عمير تسر لشيء سرورها للجهاد في سبيل الله. وخلد القرآن سالم بن عمير وصحبه في كتابه العزيز، فقال جل من قائل: " لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ " (1) وبتخليد القرآن الكريم لهؤلاء النفر من المسلمين المخلصين خلدهم اخوانهم من المسلمين، فأطلقوا عليهم لقب البكائين، وأصبحوا يعرفون به منذ ذلك الحين الى يومنا هذا وسوف يعرفون به الى يوم الدين.   (1) الآيتان: 91، 92 من سورة التوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 على الدرب. . . وانتقل الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الى الرفيق الأعلى، وانتقلت الخلافة الى الراشدين من بعده، واستمرت مسيرة الجهاد المباركة، فشارك فيها سالم بن عمير، ففتح المسلمون المشارق والمغارب، وسالم لا تفتر له همة في الجهاد في سبيل الله. . . وطال العمر بالمجاهد في سبيل الله، سالم بن عمير، حتى ادرك شطراً من خلافة معاوية، وبعد أن سطر صفحات بيضاء في كتاب الجهاد الاسلامي انتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170