الكتاب: حوادث دمشق اليومية المؤلف: أحمد بن بدير، شهاب الدين الحلاق البديري (المتوفى: بعد 1175هـ) نقحها: محمد سعيد بن قاسم القاسمي (المتوفى: بعد 1317هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- حوادث دمشق اليومية البديري الحلاق الكتاب: حوادث دمشق اليومية المؤلف: أحمد بن بدير، شهاب الدين الحلاق البديري (المتوفى: بعد 1175هـ) نقحها: محمد سعيد بن قاسم القاسمي (المتوفى: بعد 1317هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم حمداً لمن تفرّد بالبقاء، وتوحّد بالربوبية والكبرياء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء، وعلى آله الأصفياء وأصحابه الأتقياء. أما بعد، فإن حوادث دمشق الشام اليومية التي صدر غالبها في أيام الوزيرين العظيمين: سليمان باشا وأسعد باشا اللذين هما من أعيان وزراء بني العظم العظام، جمعها الفاضل شهاب الدين أحمد بن بدير البديري الشهير بالحلاق، من سنة 1154 إلى سنة 1176 قد اشتملت على غرائب وعجائب وأهوال، ولبساطة مؤلفها كتبها بلسان عامي، ثم أطنب بزيادات الحوادث وأدعية مسجعة يملُّ سامعها ويسأم قارؤها، فحذفت القشر من هذه الحوادث ووضعت اللباب، وهذبتها على حسب الاستطاعة بالصواب، وإليه تعالى المرجع والمآب، آمين. سنة 1154 قال البديري رحمه الله ما معناه: وفي سنة 1154 كان والياً بالشام الحاج علي باشا من الأتراك وذلك بعد مضي إحدى عشرة سنة من جلوس مولانا السلطان محمود خان بن السلطان مصطفى خان، أيد الله عرش هذه الدولة إلى آخر الدوران. جرى على لسان العامة أنه سيحدث بدمشق الشام زلازل عظيمة تتهدم بسببها أماكن كثيرة، وأن الرجال ستقلب نساء، وأن أنهار الشام تجري طعاما. وتحدثوا في حوادث كثيرة من مثل هذه الخرافات، وصاروا يتداولونها فيما بينهم، ولم يحدث شيء فيما بعد من هذه السنة. وكانت هذه السنة سنة غلاء في الأقوات وغيرها، حتى بلغت أوقية السمن بخمس مصاري ونصف ورطل الأرز بستة عشر مصرية، ومد الشعير بثمان مصاري والخبز الأبيض باثني عشر مصرية ورطل الكعك بأربعة عشر مصرية والخبز الأسمر رطله بخمسة مصاري. وكان في العام الذي قبله الحاكم بدمشق الشام عثمان باشا المحصل، أخرج الأورطة التي للقبيقول من قلعة الشام. فمنهم من نفاه، ومنهم من قتله، والذي بقي كرّ له كور عمامته بعد شهادة جماعة من الناس بأنه غير زَرْبَه، ولا وقع منه فساد، وشتت شملهم في جميع البلاد، وكان ذلك إصلاحا. وقد قتل الشر من دمشق الشام واصطلحت أحوال الناس. وكان مجيء الجوخدار من الحج مبشراً في اليوم السابع والعشرين من شهر المحرم. ودخل الكَتّاب تلك السنة ليلة الأربعاء ثالث ليلة من شهر صفر. وكان الكَتّاب باكر بشة الحمامي ومعه جماعة. ودخول الحج إلى الشام كان نهار السبت ثاني يوم بعد مجيء الكَتّاب، ولم يزل ينجرّ وينسحب خمسة أيام حتى دخل المحمل. وذكر الحجاج أنهم داروا في هذه السنة دورتين بين الحرمين، وصار عليهم غلاء وبرد كثير، وقتل ابن مضيان شيخ العرب بين الحرمين بعد قتال وقع بينهم وبين والي الشام أمير الحج. ثم أقام مدة بعد مجيئه من الحج، والناس في أمن وأمان ثم عزل. ووجهت الدولة العلية على الشام سليمان باشا بن العظم، فأرسل سليمان باشا قبل دخوله للشام سلحداره زوج بنت الوفائي متسلماً وبقي نحو شهرين لم يدخل الشام، ثم أتى ونزل على البقاع، وأراد محاصرة جبل الدروز، فصالحوه بمال عظيم حتى أرضوه. ودخل الشام نهار الخميس ثاني عشر جمادى الثانية في هذه السنة المذكورة وهي سنة 1154. وبعد ثلاثة أيام من دخوله صلب ثلاثة أشقياء من العرب، وبعد ذلك أبقى كل شيء على حاله ولم يحرك ساكناً. وكانت السنة التي دخل فيها بمظهر اسمين من أسمائه تعالى: وهما قيوم حفيظ لسنة 1154، نظمها الشيخ عبد الرحمن البهلول أحد أدباء الشام ببيت، فقال: بهذا العام فيهم قد تجلى ... مع التاريخ قيوم حفيظ وفي هذه السنة كان صوم رمضان الجمعة، ثم ثبت في آخره أن الشهر كان أوله الخميس، وخرج المحمل الشريف مع الباشا في منتصف شوال نهار السبت، وثاني يوم جاء الحج الحلبي، ومعهم من العجم نحو الثلاث مئة. وبعد أربعة أيام خرج الحج، وبقيت شرذمة من الحاج لأجل دفتر دار السلطان محمود خان، فخرج ثاني يوم الخميس، وخروج الحاج كان في كانون الأول والبرد في غاية الشدة، وبقي الصقيع والجليد في الأرض نحواً من خمسة وعشرين يوماً، والشمس طالعة والجليد لا يذوب، حتى قيل إنه ما رؤي مثلها، فقد يبست الأشجار، وعدمت الثمار على الخصوص الليمون والكباد والنارنج، حتى بيع رطل الفحم بالشام بثلاثة مصاري. وأخبرت المزيرباتية بعد رجوعهم أنه بيع رطل الفحم كل ثلاثة أرطال بقرش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وفي هذه السنة خرجت الجردة نهار السبت السابع والعشرين من ذي القعدة، وصار عليها سردار يعقوب باشا المتولي على مدينة حلب، وقد ذكر له سيرة مرضية وعدل بالرعية. قال الشيخ أحمد البديري: وقد قلت في هذا العام، وهو عام 1154 هذا المواليا في حق من أظهر الكذب والأراجيف التي قدمنا ذكرها، حيث قلت: من كثر كذب الروافض دبّ فينا الشيب ... ما يعلموا الكذب أنه من شروط العيب من جهة الزلزلة قالوا كلام الريب ... هم الملاعين صاروا يعلموا بالغيب غيره: في ليلة السبت خامس عشر في محرم ... مالو لقول الروافض زور ومحرّم من جهة الزلزلة النوم تحرم ... من نام تحت السقوفة يا أخي بالليل شم الهوى بين أطرافه بيتحرم غيره يا ناس كذب الروافض شاع في الأقطار ... وصيّرونا نسا نقعد بوسط الدار ينزل عليهم غضب واحد أحد قهار ... روّعوا الخلق في هل زلزلة يا ناس همو حمير اليهود جوا سقر في النار غيره بثبوت إن الرافض يوم الحشر يا أخيار ... حمير للركب للخاخان والجوقار راموا دسيسة بجلّق عمت الأقطار ... في ليلة السبت قالوا الزلزلة بتصير هل يعلم الغيب إلا الواحد القهار غيره في ليلة السبت قالوا الزلزلة بتصير ... والطفل من عجبها بين الورى بتحير أسألك يا رب بمن جا للأنام بشير ... تمسح روافض أهل الشام يا معبود واحرق آباهم وغوّر كورهم والبير قد قالت الناس كذبة ما سمعناها ... أنهار الشام يا أخي ينقع ماءها تجري طعام بدال الماء مجراها ... فاختية ورز أصفر ولحم سمين قوموا انظروا للكبب والسمن غطّاها غيره سمعت واحد يقول يا أخي قساطلكم ... هي عاطلة تاقوم معكم أعاونكم لأن أدهان ها الألوان تساعدكم ... وتخبوها لأيام الغلا والقحط لا يحبسوها الكبب في دربها عنكم غيره في سنة أربع مع الخمسين يا سادات ... سمعت أخبار ما سمعت بها عادات زادوا بإسرافهم ما سمعوا الكلمات ... الكل لله والأعمال بالنيات غيره استغفر الله ربي باعث الأرزاق ... واحد مهيمن تجد كلها إطلاق وامدح المصطفى هو صفوة الخلاق ... يغفر لكم ومعكم أحمد الحلاق سنة 1155 ثم دخلت سنة 1155 وأولها يوم الخميس وهو أول المحرم. وبعد خمسة أيام كان أول آذار. وفي تلك الأيام ظهر كوكب وصار يطلع كل ليلة من جهة الشرق من نصف الليل إلى طلوع الفجر، وله ذنب طويل، ومكث أياماً ثم غاب. وقد عمل بعضهم تاريخاً يتضمن تاريخاً لدخول هذه السنة وهي: نحمد الله الذي أوهبنا ... حسن عام وحبانا بالكرم هلّ هذا العام يا قوم انظروا ... لفظة التاريخ فألاّ يغتنم فاضرعوا لله في إتمامه ... بنجاح إنكم خير أمم وابشروا يا أمة الهادي الذي ... خصه الله بفضل وحكم فضل ربي عمّنا تكرمة ... ليس يحصى شكر هاتيك النعم وكذا كل الورى قد عمهم ... لطفه سبحانه باري النسم وخصوصا عصبة الشام التي ... هي للأبدال مأوى ملتزم كيف والسادات قد حلّوا بها ... سرّهم عمّ لسهل وأكم فاشكروا الله على عام أتى ... أظهر التاريخ حفظاً ونعم وكان دخول جوقدار سليمان باشا الوزير ابن العظم سنة 1155 في يوم السبت الواقع في رابع وعشرين من شهر محرم من السنة المذكورة. وفي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من المحرم أقبل كتّاب الحج الشريف. وثارت في اليوم المذكور ريح شديد يومين وليلتين قلعت أشجاراً كثيرة وهدمت أماكن لا تحصى، ووقع فرع عظيم من شجرة الخرنوبة التي في الحضرة على رأس غلام مراهق فمات لوقته ورجلين آخرين فهشّمهم، وسكن الريح بوقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وفي يوم الاثنين ثالث صفر من السنة المذكورة دخل الحاج الشامي إلى دمشق، ودخل سليمان باشا العظم ثاني يوم. وكان صحبته يعقوب باشا سردار الجردة المنفصل عن حلب. وكان الحج في تلك السنة بأمن وأمان ورخاء ورخص، غير أن الباشا ذهب بين الحرمين من قبا وخرج من جبل عرفات من عند قبة النور، وآب راجعاً من الطريق الذي جاء منه علي باشا. قال البديري: وفي ذلك العام تأخر مجيء الفرمان المقرر على سليمان باشا عظم زاده فلغطت الأراذل والأسافل بالقول والفعل وأظهروا بدعاً كثيرة من محض الحرام، ولا زالوا على تلك الأحوال حتى جاء الفرمان، وكان دخوله صبيحة رابع جمادى الثانية من السنة المذكورة، وكان القاضي بالشام عبد الوهاب أفندي الملقب أبا زاده. وفي ذلك العام أمر فتحي أفندي ابن القلانسي الدفتري في تعمير طريق الصالحية، فقلب بلاطه وعمر صفته وأصلح حاله مع الناس. وفي غرة رجب المبارك من السنة وهي سنة 1155 جاءتنا جارية مباركة، وكنا قد اشترينا لنا منزلاً جديداً في محلة التعديل، وكنا في ضيق فقلنا: لعل بقدومها يحصل لنا الفتح والفاتحة، فسميناها صالحة، جعلها الله تعالى فالحة. وفي 22 من جمادى الثانية عمل حضرة سليمان باشا العظم ديوانا، وجمع فيه الأفندية والأغاوات، وأخرج خطاً شريفاً بالعدل والتفتيش على المفسدين في دمشق من الإنكشارية، وطلب رؤساء الميدان وهم الأغاوات للحضور، فأبوا وأرسلوا له يسألونه ما يريد، فأرسل يطلب منهم سنة عشر رجلاً من الأشقياء الذين يسمونهم باصطلاحهم زرباوات، فأرسلوا له يقولون له: نحن لا نقدر على إلقاء القبض عليهم فدونك وإياهم. فبالحال أزال عنهم كدكاتهم، ووجّهها على غيرهم وأعطى أسماءهم للدلاّل، وأمره أن ينادي في شوارع الشام أن هؤلاء الستة عشر دمهم مهدور ولا جناح على من قتلهم وغيرهم في أمن وأمان من سليمان باشا. ففرحت الناس أجمعين، لأنهم كانوا من أعظم المفسدين. وثاني يوم قتلت الدالاتية رجلاً إنكشارياً، فهربت الناس وسكّرت دمشق الشام. فسأل الباشا عن ذلك، فقيل له إن بعض الموصلية والبغّادة الذين كانوا قبقول وطردوا في زمن عثمان باشا المحصل حين قتلوا بعض الإنكشارية مرادهم الآن يعملوا فتن. فأمر منادياً ينادي أن لا يبقى بعد ثلاثة أيام أحد من الموصلية والبغادة والقبقول، وكل من بقي منهم يصلب وماله ينهب. وفي 24 من جمادى من هذه السنة دخل القاضي محمد أفندي الملقب بفندق زاده، ونزل في الصالحية، وكان الباقي من مدة القاضي القديم أربعة. وبعد إتمامهم باشر القاضي الجديد وظيفته في المحكمة. وفي عشية ليلة الثلاثاء ثالث رجب من هذه السنة ارتحل سليمان باشا طالباً قتال الظاهر عمر حاكم قلعة طبرية ومعه عسكر عظيم أكثره دالاتية، وأخذ معه القنابر واللغمجية والطوبجية الذين جاءوا من اصطنبول بطلب منه، ثم وصل إليها وحاصرها حصاراً شديداً، وأرسل حضرة سليمان باشا يطلب من أهل الشام سلالم. فأرسلوا له ما طلب، وبعد مدة أرسل يطلب فعّالة وبساتنية ويكون معهم مرور ومساحي ومجلاف، فأرسل جميع ما طلب إليه. ولم يزل محاصراً القلعة، وهو يضرب عليها بالمدافع والقنابر، ولم يؤثر فيها، وقد ساعدته الدروز وأهل نابلس ونائب القدس خليل آغا ابن أبو شنب وعرب بني صخر وعرب السقر مع قعدان بن ظاهر السلامة. وقد ضيقوا على أهل القلعة الحصار. لكن أخبر بعض أهل طبرية بأن المحصورين بالقلعة ما حصل لهم ضيق لأن مؤنهم كثيرة، وقيل إن باب القلعة يفتح في وقت مخصوص، وبعض الناس تغدو إليهم وتروح بما يطلبون. وقد قبض على ذخيرة مرسلة لهم، وذلك بأن أهل دير حنا وفيها أخو الظاهر عمر أرسل لأخيه كتاباً مع شخص، وأرسل ذخيرة بارود وخلافها مع أشخاص، فألقى رجل من عسكر سليمان باشا القبض على الشخص الذي معه المكتوب، وذلك بعد تفتيشه وجد الكتاب موضوعاً في نعله؛ فأخذ حضرة الباشا الكتاب وقرأه وقرّره فأقر بالنجدة والذخيرة المرسلة لأخي الظاهر عمر، فحالاً أمر سليمان باشا بقتله، وأرسل جماعة للقوم الذين معهم الذخيرة فأخذت منهم، وقتلوا غالبهم، وقطعت رؤوسهم، وأرسلها سليمان باشا إلى إسلامبول، وشدّد الحصار، وأرسل سليمان باشا لأخي الظاهر عمر الذي في دير حنا يقول له: إذا فرغنا من أخيك جئنا إن شاء الله إليك. وستأتي تتمة فتحها إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وكان هلال رمضان في هذه السنة نهار الاثنين وأثبت بعد العشاء، وأشعلت القناديل في سائر مآذن الشام، وضربت مدافع الإثبات في منتصف الليل، وحصل للناس زحمة في حركة السحور، حتى فتحت دكاكين الطعام ليلاً كالخبازين والسمّانين. وفي تاسع رمضان المذكور هطلت أمطار غزيرة على عامة البلاد ولله الحمد. وغرق مركب بساحل صيدا بتلك المدة، وكان قادماً من مصر وفيه أرزاق كثيرة، عوّض الله أصحابها خيراً، قيل إنه غرق في نوء قاسم كوى. وجاءت الصرة من إسلامبول يوم الجمعة، وجاءت الخزنة السلطانية من مصر يوم السبت ثالث عشر من رمضان، وقد تأخرت عن وقتها، وكان صنجقها عمر بك. وجاءت البلطجية من إسلامبول نهار الاثنين في الشهر المذكور ومع ذلك حضرة سليمان باشا العظم في حصار طبرية، وقد شدّد على أهلها كما يأتي. وفي يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من هذا الشهر شهر رمضان توفي الرجل الصالح الحاج أحمد الحلاق بن حشيش، كان رجلاً صالحاً رأى العجائب لأنه كثير السايحة، وكان حسن المعاشرة والوداد، وكان حلاقاً لفرد زمانه وقطب أوانه الشيخ عبد الغني النابلسي قدّس سره، وكان يحلق أيضاً للشيخ مراد أفندي النقشبندي الكسيح، ولعمدة مذهب السادة الشافعية شيخنا محمد العجلوني ولأمثالهم، وكان يحلق مجاناً للفقراء من طلبة العلم وغيرهم. ومن صلاحه وتقواه أنه ما وضع يده على مريض إذا رمد وقرأ ما تيسر إلا شفاه الله وعافاه. قال مؤرخها الحلاق الشيخ أحمد البديري: وكان صاحب الترجمة أستاذي ومعلمي في صنعة الحلاقة، ومنه حصل لي الفتوح والبركة، رحمه الله تعالى. وثاني يوم الأربعاء توفي الشيخ مصطفى المغربل، وكان رجلاً ديناً أخذ الطريق من الأستاذ الشيخ يوسف الطباخ. وفي تلك الأوقات اشتد الغلاء في سائر الأشياء سيما المأكولات، مع وجود الأغلال وغيرها، فمن عدم تفتيش الحكام صار البياعون يبيعون بما أرادوا غير أن الغنم كان قليلاً جداً فصار الجزارون يذبحون الجاموس والجمل والمعز، فصار يباع رطل اللحم الشامي بثلاثين مصرية، ورطل إلية الغنم بقرش وربع، والبيض كل ثنتين بمصرية، والسمن رطل وأوقتين بقرش، والثوم رطله بثلاثين مصرية، ورطل الخبز بأربع مصاري وبخمسة مصاري وبأكثر. وقد كان بثلاث مصاري ونصف. فبقدوم شهر رمضان المبارك غلت الأسعار حتى الخضر، فقد كان قبل رمضان الكوسا كل مائة بمصرية، فلما هلّ رمضان صار خمسة وأربعة بمصرية، والباذنجان كل رطلين بمصرية، فصار كل رطل بمصريتين، واللحم عدم، وكل ذلك من عدم تفتيش الحكام. وكان نهار عيد الفطر يوم الأربعاء، وقد صمناه ثلاثين يوماً بإكمال العدة، فدخل العيد، ولم يأت حضرة والي الشام سليمان باشا من الدورة، بل هو للآن مقيم على حصار قلعة طبرية. وفي يوم السبت رابع شوال جاء تبشير رسمي من حضرة سليمان باشا بفتوح قلعة طبرية، فضربت المدافع وعملوا الزينة ودقت الطبول والزمور. وثاني يوم الأحد دخل حضرة سليمان باشا العظم إلى دمشق، فسبق كخيته والعسكر، وترك على قلعة طبرية على أغابن الترجمان، وعنده بعض العسكر والفعالة، وأمره أن لا يقدم دمشق حتى يخرّبها بعد إخراج أهلها منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 قال المؤرخ: وبلغني أن سبب فتحها أنه لما اشتد الحصار على أهلها، وقد قلّ الزاد من عندهم ولم يتمكنوا من جلب قوت مما قد أحاط بهم من العساكر والعربان وأنه بعد ضرب المدافع والقنابر أمر حضرة سليمان باشا بحفر خنادق ولغم طوله مئتان وثمانون ذراعا، ولما بلغهم ذلك ضاقت عليهم الدنيا وازداد فزعهم، أرسل الظاهر عمر المحصور شيخ طبرية إلى عمر بك صنجق الخزنة المصرية التي تأتي للدولة العلية بهيئة وافرة ليتوسط بالصلح بينه وبين حضرة سليمان باشا، وكان ذلك قبل وصوله ووصول الخزنة لدمشق. فلما وصلت سار عمر بك، ودخل على حضرة سليمان باشا حاكماً بمصر. وكان عمر بك رجلاً وقوراً كبير السن، وقال له: يا حضرة الوزير، أنا رجل كبير السن بمنزلة والدك، وإن كنت من جملة خدمك، وداخل على جاهك في الصلح بينك وبين عبد نعمتك ودولتك الظاهر عمر شيخ طبرية والصفح من شيم الكرام، وأنتم الكرام لا سواكم. فأجابه حضرة الباشا بأنه يصير خير إن شاء الله تعالى. ولما كان ثاني أيام العيد، عيد الفطر اشتد على أهل طبرية الأمر، وزاد عليهم الحصر، خرجوا إلى أعلى الأسوار رافعين أصواتهم ينادون حضرة علي آغا الترجمان، ولما قرب منهم قالوا له: لك الأمان ادخل الباب فأخذ الإذن من الباشا ودخل الباب. وكان حضرة سليمان باشا قد أدركه السفر إلى الحاج، فدخل علي آغا إلى قلعة طبرية فتلقّوه كذا المشايخ ومعهم الظاهر عمر، فوقعوا على قدميه وصاروا يبكون حواليه، وعملوا له عشرة أكياس، ليدخل بينهم وبين حضرة سليمان باشا بالصلح، ثم خرجت النساء والأطفال والشيوخ يبكون وينتحبون فرقّ لهم، وسار طالباً حضرة الباشا، فلما وصل إليه وقع على قدميه، ووعظه بالحلم والإشفاق، وذكر له فضائل محاسن الأخلاق، فرقّ قلبه وأجاب سؤاله فلما علم المحصورون وتحققوا أن حضرة الباشا عفاعنهم وصفح خرجت النساء والرجال والأطفال، وفي رقابهم المحارم وعليهم الذل رافعين أكفّ الضراعة بالمسكنة، وضاجّين بالأدعية له وللسلطان الأعظم، ودفعوا لحضرته مئتا كذا كيس من المال بعدما أخذ ابن الظاهر عمر رهينة وأتى إليه إلى الشام، وأرسل جماعة لهدم القلعة وإبادتها. قال المؤرخ: هكذا حدّث بذلك علي آغا شاطر باشي، وقد نقلت لنا على غير هذا الوجه. والله أعلم بحقيقة الحال. وفي يوم الجمعة عاشر شوال من هذه السنة توفي الحسيب النسيب السيد عبد الله بن عجلان نقيب السادة الأشراف بالشام، ودفن بمدفنهم في سوق الغنم لضيق جامع المرادية، وكان يومئذ معزولاً عن النقابة وهي على ابن أخيه السيد علي أفندي. وفي ذلك اليوم عزل السيد علي أفندي عن النقابة، ووجهت على السيد محمد أفندي بن الشيخ عبد القادر الكيلاني، وفي ذلك اليوم أيضاً عزل حامد أفندي ابن العمادي عن وظيفة الإفتاء ووجهت إلى ابن عمه محمد أفندي ابن العمادي. قال المؤرخ رحمه الله: وفي ليلة السبت حادي عشر شوّال توفيت والدتي في الثلث الأول من الليل، رحمها الله وعفا عنها وبرّد مضجعها، وقد فارقت الدنيا وأنا بين رجليها نائم، وكانت من القانتات العابدات تصلّي نوافل الليل، ولها أوراد، إلى آخر ما قال. وفي ذلك الشهر من هذه السنة بعد صلاة الجمعة خرج المحمل الشريف مع الوزير الخطير سليمان باشا بن العظم. وثاني يوم السبت جاء الحج الحلبي ومعه ألف وسبع مئة عجمي. وفي عشرين شوال خرج الحج، من البلد شيئاً فشيئاً. وقبل سفر الوزير سليمان باشا عمل ديواناً وأحضر الأعيان، وأظهر الفرمان الذي فيه قتل الزرباوات أي المفسدين من الإنكشارية، وقال لمن حضر: هذا الفرمان الذي أمره مفوض لنا قد ألغيناه وعفونا عنهم، وعُدّ ذلك من حسناته. وكان أول يوم فصل الشتاء في هذه السنة من يوم الأربعاء تاسع وعشرين شوال وهو يوم دخول المزيرباتية، وأقام الباشا في المزيريب أربعة أيام ورحل في اليوم الخامس، وشال الحج عرب بني صخر وقد كان كل شيء رخيص من جميع البضائع ماعدا المعموك، والشعير المدّ بنصف وقرش، وقد رجع من الغلمان خلق كثير، وأمطرت السماء مطراً غزيراً يوم مجيء المزيرباتية بعد أن قنطوا، فاستبشرت عموم الخلق وحمدوا الباري على لطفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وفي عاشر ذي القعدة دخل مصطفى باشا متولي طرابلس الشام نهار الاثنين إلى دمشق، عينته الدولة العلية سرداراً على الجردة. والمذكور كان سفاكاً للدماء ظلوماً غشوماً أهرق دماء كثيرة حينما كان في طرابلس، وكان غالب قتله بالكلاب والشنكل، يترك الرجل حتى يموت جوعاً وعطشاً، فهربت غالب أهالي طرابلس من ظلمه وتفرقوا في البلاد، وأرسل أعوانه في طلب الهاربين، فالذي قبضوا عليه كان من الهالكين. وبعد مجيئه لدمشق وقعت فتنة بين الدالاتية التي للمتسلم وبين لاوند الأكراد، وقتل من الفريقين جماعة، وكانت تلك الفتنة في يوم الجمعة، حتى بطلت صلاة الجمعة في كثير من الجوامع. وفي غرة ذي الحجة ختام السنة المذكورة توفي الشيخ محمد الكيال وكان من رؤساء المؤذنين في جامع الأموي، وكان رجلاً صالحاً، وكان ينسخ كتباً وغيرها بخط مقبول، وكان ينام والقلم بيده ويفيق ويكتب من غير نظر للكتابة، وقد عُدّت له كرامة. وفي ذلك اليوم جاء خبر قتل متسلم دمشق، قتله عرب الزبيد وقتلوا من جنده جماعة كثيرة، وذلك لما كانت هذه العرب عاصية على الدولة خرج المتسلم المذكور ومعه جماعة من العسكر، فساروا حتى وصلوا للعرب المذكورة، ففاجأهم المتسلم وجنوده على حين غفلة بالقتل وغيره، وأرادوا أخذ أموالهم ومواشيهم، فردوا عليهم رد غيور صبور فقتلوا المتسلم المذكور وجماعة من عسكره، فحين بلغ هذا الأمر أكابر دمشق عملوا ديواناً ثم أمروا منادياً ينادي: من أراد طاعة الله والسلطان ممن له قدرة وقوة على الركوب فلا يتخلف، فالغارة الغارة على عرب الزبيد الذين قتلوا المتسلم وعسكره، فخرجت الإنكشارية والسباهية والزعماء، عينوا نائباً بدمشق حسين آغا بن القطيفاني، المتولي على وقف المرحوم سنان باشا، ثم ساروا للعرب، ورجعوا ومعهم جسد المتسلم المقتول، وهو في حالة عبرة لمن اعتبر، ثم غسلوه في سراية الحكم ودفنوه في باب الصغير. وكان اسمه إبراهيم، وهو مملوك سليمان باشا بن العظم حاكم الشام، وكان مع عدل مولاه، له ظلم وعدوان وجرأة على الخاص والعام، وكان يأمر بالقبض على كل من رآه بعد العشاء، ويأمر بتقييده في الحال بالحديد، إلى أن يأخذ منه مال كثير، وإذا أذنب أحد ذنباً، ولم يقدر على قبضه يقبض من يقدر عليه من أهله وقرابته، ويلزمه بمال عظيم، وإذا نهاه أحد عن تلك الأحوال يحرد، ويطلب الارتحال، ولا زال بظلمه وعتوه، إلى أن أخذه الله. وقيل سبب تدميره أنه جاءه شيخ الجبلة، الفحيلي، وقال له سراً: قم حتى أكسبك كثيراً من الغنائم، ولم يعلم أحد من كبراء الشام، سوى قومه الطغاة، فذهب هو وقومه حتى وصل إلى اللجاة، فلما وصل إلى تلك القبيلة ساق أموالهم والحريم، فارتدت عليه العرب، وأخذ عليه واحد منهم نيشاناً فضربه ولم يخطئه، وتركه ملقى قتيلاً وقتلوا جماعة من قومه، ذلك بما قدمت يداه. وفي نهار السبت منتصف ذي الحجة، توفي أبونا ووالدنا وأستاذنا ومربينا سليمان بن الحشيش الحكواتي رحمه لله. كان فريد عصره ووحيداً في أوانه. وكان يحكي سيرة الظاهر وعنترة وسيف، ونوادر غريبة في التركي والعربي، ومع ذلك فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب. وكان أشقر أبرص، شديد البياض إلاّ أنه بحر خضم لا يخاض رحمه الله. وفي يوم السبت خامس عشر ذي الحجة توفي المرحوم عبد العزيز أفندي السفرجلاني، وكان فقيهاً محباً للعلماء، مقبولاً عند الحكام مهاباً وقوراً، وأعطي جاهاً لن ينله أحد من بني السفرجلاني، محباً لفعل الخير، ولهذا حصل له القبول عند الخاص والعام. وفي أوائل الشتاء من آخر هذه السنة قلت الأمطار، ويئست الخلق ونهض الغلاء على قدم وساق، فأغاث الله عباده بالأمطار كالبحار، وذلك في ابتداء كانون الثاني، واستمر ليلاً مع نهار لا يفتر، وأثلجت الدنيا سبع مرات، واستمر ذلك خمسة وأربعين يوماً، وتهدمت أماكن كثيرة بحيث ما بقي محل ولا جهة في الشام إلا ووقع الهدم فيها، ثم بعد ذلك طلعت الشمس، وأحيا الله الأرض بعد موتها. سنة 1156 ثم دخلت سنة 1156، ألف ومئة وستة وخمسين نهار الاثنين غرة محرم، جعلها الله سنة خير ورحمة وبركة. وكان والياً بدمشق الشام سليمان باشا العظم، وهو في ركب الحج الشريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقد هلَّ هذا العام الجديد، ورطل الخبز الشامي بأربع مصاري وبخمسة، ورطل الأرز بثمانية مصاري، ورطل الدبس بثمانية مصاري، وأوقية السمن بستة مصاري ولا توجد، مع أنه كان من نحو شهر كل رطل وثمانية أواق بقرش، ولكن الخزان ما أبقى للفقراء قمصان، وأوقية العسل بخمسة مصاري، ورطل اللحم الضأن بثلاثين مصرية ورطل الثوم باثني عشر مصرية، ورطل لحم الجاموس ولحم البقر بعشرين مصرية، وأوقية الزيت بمصريتين وقطعة، وهذا الغلاء ما سمعنا بمثله أبداً وقد طال المطال، والناس منتظرة للفرج من الملك المتعال. قال المؤرخ: وفي أوائل هذه السنة الجديدة توفي الحسيب والنسيب السيد أحمد البابا، رئيس حرفة الدباغين، كان رحمه الله بهي المنظر ذا هيبة حسنة، ولنا معه صحبة. وفي رابع وعشرين محرم، كان دخول الجوخدار من الحاج الشريف، يبشر بالسلامة وحسن السيرة، ثم جاء الكتّاب ومعه المكاتيب، ثامن وعشرين محرم نهار الأحد من هذه السنة المذكورة. وفي سلخ محرم صار في دمشق سيل عرمرم، ما رؤي قط مثله من قديم الزمان، وعقبه نزل برد كبير استقام نزوله مقدار ساعتين، حتى علا على وجه الأرض مقدار ذراع ونصف. وفي أوائل شهر صفر الخير، جاء خبر عن الحج الشريف بأنه غرق في الحسا قريباً ممن القطرانة، وذهب على ما قيل مقدار نصف الحاج، من خيل وجمال وبغال، ونساء ورجال وأموال وأحمال وقد غرق لأحد التجار سبعة عشر حمل، كل حمل لا يقام بثمن، فاستغاثوا بحضرة سليمان باشا العظم والي الشام، وأمير الحاج، وقالوا: نحن نهب لك مالنا وخذه أنت ولا تتركه للعرب. فحالاً نهض وأخذ معه جماعة، وذهب نحو مرحلة، وقد خاطر هو وجماعته، ثم غاب يوماً وليلة بعدما جدّوا في طلبه، وإذا هو قادم ومعه الأحمال، لم تنقص ولا ذرة. ثم ناداهم وسلمهم إلى أصحابهم، ولم يدنس حجه بشيء. وقد عدوا هذه المنقبة لمثله، من الهمم العالية والمروءة السامية، وبوصولهم أيضاً للبلقة جاء أيضاً سيل عظيم، أخذ مقداراً عظيماً من الحج، وأراد أن يتمم على بقية الحج، لولا أن تداركه الله بلطفه. ولما حصل هذا الأمر، كتب حضرة أمير الحاج سليمان باشا توقيعاً، وأرسله إلى الشام وإلى من حواليه، بأن يأتوه بعلف وذخيرة، فنادى المنادي في شوارع دمشق: يا أمة محمد، من كان يحب الله ورسوله، وتمكن من الخروج فليخرج، ومعه ما يقدر عليه من مأكل ومشرب وملبس، فليخرج ليلاقي الحجاج فخرجت الخلق مثل الجراد. وفي يوم الأحد رابع صفر الخير دخل الحاج، وثاني يوم دخل المحمل الشريف مع حضرة سليمان باشا، وكانت سنة هائلة أخبر الحجاج أن مدّ العليق صار بقرشين، وفي بعض الأماكن بأربع قروش، وكل ثلاث تمرات بمصرية، وهذا شيء ما سمع من قديم الزمان، وبيع كعب البقسماط بثلث قرش. وكانت دمشق أشد غلاءً من غيرها، حتى مدّ الملح وصل ثمنه إلى ثلاثين مصرية، والدبس الأوقية بمصرية، واللبن في آذار رطله بسبعة مصاري، والخبز لا يوجد، والحكام يخزنون، وأهل البلد يفعلون كفعلهم، وإلى الله المصير. وفي يوم الاثنين ثالث عشر صفر الخير من هذا العام، توفي العالم العامل، الشيخ أمين أفندي ابن الخراط رحمه الله. وفي غرة ربيع الأول من هذه السنة شرع حضرة والي دمشق الشام، سليمان باشا ابن العظم في فرح، لأجل ختان ولده العزيز أحمد بك، وكان في الجنينة التي في محلة العمارة، وجمع فيه سائر الملاعب وأرباب الغناء واليهود والنصارى، واجتمع فيه الأعيان والأكابر من الأفندية والأغوات ما لا يحصى، وأطلق الحرية لأجل الملاعب يلعبون بما شاؤوا. من رقص وخلاعة وغير ذلك، ولا زالوا على هذا الحال سبعة أيام بلياليها. وبعد ذلك أمر بالزينة، فتزينت أسواق الشام كلها سبعة أيام، بإيقاد الشموع والقناديل، زينة ما سمع بمثلها، وعمل موكب ركب فيه الأغوات والشربجية، والأكابر والإنكشارية، وفيه الملاعب الغريبة من تمثيل شجعان العرب وغير ذلك. وثاني يوم طهّر ولده أحمد بك، وأمر من صدقاته أن يطهّر من أولاد الفقراء وغيرهم ممن أراد، فصارت تقبل الناس بأولادهم، وكلما طهّروا ولداً يعطوه بدلة وذهبين، وأنعم على الخاص والعام، والفقراء والمساكين بأطعمة وأكسية وغير ذلك، مما لم يفعل أحد بعض ما فعل، ولم نسمع أيضاً بمثل هذا الإكرام والإنعام، على الخاص والعام، فرحمه الله وجازاه أحسن الجزاء، آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وبعد هذا الفرح العظيم عمل فتحي أفندي الدفتري فرحاً عظيماً بهذا الشهر، أعني به ربيع الأول، زوج ابنته لأخيه، وكان فرحاً عظيماً ما عمل بدمشق نظيره، ولا بلغ أحد أنه عمل مثله، وكان سبعة أيام كل يوم خصّه بجماعة: فاليوم الأول خصّه بحضرة والي الشام سليمان باشا بن العظم، واليوم الثاني إلى الموالي والأمراء، واليوم الثالث إلى المشايخ والعلماء، واليوم الرابع التجار والمتسببين، واليوم الخامس إلى النصارى واليهود، واليوم السادس إلى الفلاحين، واليوم السابع إلى المغاني والمومسات، وهم بنات الخطا والهوى، وقد تكرم عليهم كرماً زائداً، ويعطيهم الذهب والفضة بلا حساب. وكان قبل الفرح عمل تهليلة، جمع بها جميع مشايخ الطرق. وفي السادس والعشرين من ربيع الأول بهذا العام توفي نقيب النقباء في دمشق، على الحرف والصنايع والطرق، الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد الحلاق القادري، صاحب الحلقة في الجامع الأموي. وفي يوم الخميس الثامن والعشرين من ربيع الثاني في هذه السنة المذكورة، توفي الشاب السعيد سلالة الطاهرين، وفخر الصديقين، أحمد أفندي البكري الصديقي، وكان من النجابة على جانب ودفن بتربة الشيخ رسلان رحمه الله. وفي يوم الأحد غرة جمادى الأولى من هذه السنة، شرع حضرة سليمان باشا ابن العظم، في تعمير وترميم نهر القنوات، وجعل جميع المصارف من ماله جزاه الله خيراً، واشتغل بها من الفعلة مائتا فاعل، فأمر بقطع بعض الصخر من طريقها، وبتشييد أركانها وإصلاح ما فسد منها، ورفع جدرانها، وبضبطها ضبطاً جيداً وبإصلاح فروض مستحقيها على الوجه الحق، وأن يأخذ كل ذي حق حقه. فكانت هذه العمارة والضبط ما سبقه إليه أحد من عهد إصلاحها من أيام التيمور لما أصلحت بعده، وقد تمت عمارته في برهة خمسة عشر يوماً في أول مربعانية الصيف. ولما تم أمر بإطلاق النهر، فكان إطلاقه على أهل دمشق فرجة من أبهج الفرج، ويوم مثل يوم الزحام. وقد أرّخ هذه العمارة شيخ الأدب في الشام الشيخ عبد الرحمن البهلول، مادحاً حضرة الوزير سليمان باشا ومشيراً لتاريخ تتميم البناء، فقال: جزى المولى أمير الشام خيرا ... سليمان الزمان ودام دهرا بما قد جدد القنوات صدقا ... بإخلاص زكا سرا وجهرا فيا طوبى له إذ نال أجرا ... على مرّ الليالي مستمرا له في كل مكرمة أياد ... بإحسان علت وهلم جرا فكم صنعت يداه وجوه بر ... بها أرخ سبيل الخير أجرا وفي نهار الثلاثاء سادس عشر جمادى الأولى توفي الشيخ الفقيه العالم الشيخ علي، مدرس جامع عز الدين في باب السريجة، وقد ناهز الثمانين، رحمه الله تعالى. وفي يوم السبت الثامن والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، قامت العامة وهجمت على المحكمة، وطردوا القاضي ونهبوا الأفران. وسبب ذلك كثرة الغلاء والازدحام على الأفران، وقلة التفتيش على صاحب القمح والطحان والخزان، فتلافى حضرة الوالي سليمان باشا هذا الأمر، وأرسل يشدد على الطحانة والخبازة، ويهددهم ويخوفهم فحالاً وجد الخبز، وتحسن وكسد، بعدما كانت غالب الناس تبات بلا خبز، فابتهلت الناس بالدعاء لحضرته. وفي سادس جمادى الثانية من هذه السنة، توفي الشيخ مصطفى ابن شيخنا وأستاذنا شافعيّ زمانه، وفاضل أوانه الشيخ محمد العجلوني، من افتخرت به محلة القنوات، رحمه الله. وبالأمر المقدور، توفيت زوجته أول يوم، ولحقها ثاني يوم، رحمهما الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وفي سابع جمادى الثانية من هذه السنة، خرج سليمان باشا قاصداً قتال الظاهر عمر، حاكم قلعة طبرية، واستصحب معه من العسكر نحو خمس مئة رجل، ألبسهم قلابق. وكانوا يشبهون الأرنؤوط وسماهم الأرانطة. وجاءه فرمان من الباب العالي بأن يخرج معه والي صيدا ووالي طرابلس والقدس وغزة والرملة وإربد، وقيل ركب معه من جبل الدروز عشرون ألفاً ويوم العاشر أرسل إلى أغاوات الإنكشارية، وأن يرسلوا له ثلاث مئة إنكشاري، وما بقي من العساكر يرسلونهم لمحافظة قرى حوران. وأرسل أيضاً إلى عامة قرى الشام بأن يخرجوا من كل قرية عشرة أنفار، ليحافظوا مع الإنكشارية أيضاً. ثم سار بتلك الجموع، وحطّ على مرج القَدَس بفتح القاف والدال في بلاد المتاولة، وأرسل طلب الأمير ملحم، فجاءه ومعه مئتا خيال. وبعد مدة جاء خبر لدمشق، بأنه وقع قتال بين الدروز والمتاولة، فقتل من المتاولة أكثر من ألف وحرقت الدروز بلادهم ونهبت أموالهم. ثم صالت المتاولة على الدروز فقتلت من الدروز نحو خمس مئة رجل، وكان معهم الأمير حيدر صاحب قلعة دير القمر، فنهاهم الباشا، فاعتذروا له فتركهم وشأنهم. ثم رحل حضرة سليمان باشا، طالباً قلعة دير حنا وأخذ معه شيخ المتاولة نصار ومعه نحو من أربع مئة إنسان، ورجع الدروز، ولم يرض معاونتهم، وكان في قلعة دير حنا أبو سعد أخو الظاهر عمر. قال البديري: وفي تلك الأيام جاء الخبر إلى دمشق، بأن القافلة التي سارت إلى بغداد أخذتها العرب، وكان بها من الأموال ما لا يحصى بقلم، ومن جملتها هدية وافية من حضرة سليمان باشا والي الشام، إلى أحمد باشا بن حسن باشا والي بغداد. وقد نقلت الرواة بأن العرب الذين أخذوا القافلة من أعوان الخارجي، الذي خرج من بلاد العراق، ويسمى طهماسب الذي تغلب على ملك العجم وأخذ بلاده، وعلى ملك الهند وأخذ بلاده، وقصد مدينة بغداد وحاصرها أشد الحصار. وفي سابع يوم من رجب، جاء خبر لدمشق بأن سليمان باشا ابن العظم قد مات، ودخل في خبر كان، فحالاً قام فتحي أفندي بن الفلاقنسيّ، دفتردار الشام، وختم على دوره وخزائنه وأملاكه. وأقام على ذلك حرساً بالليل والنهار، وقرر علي آغا المتسلم على حاله، وكتب بذلك عرضاً، وأرسله للدولة العلية. وفي ليلة الخميس ثامن رجب من هذه السنة، في وقت الفجر أدخلوا سليمان باشا في تخت، وأدخلوه لسراية الحكم، وغسّلوه بها ودفنوه ضحوة النهار في مدفنهم في باب الصغير، بجوار سيدنا بلال الحبشي، في القبر الذي فيه ولده إبراهيم بيك، بوصية منه رحمه الله تعالى رحمة واسعة. فقد كان وزيراً عادلاً، حليماً صاحب خيرات ومبرات، محباً للعلماء وأهل الصلاح. وقد أبطل مظالم كثيرة كانت على أهل الشام، مثل الشاشية والمشيخة والعرض، وهي أموال تفرض على الحرف والصنائع والحارات في الشام مرة أو مرتين في السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قال المؤرخ البديري: وقد أخبرني بعض من أثق به عن سبب موته، وهو أنه دخل إلى حمام عكة، وخرج منه محموماً، وأن الظاهر عمر حاكم طبرية أرسل له كتاباً، يطلب منه الصلح فأبى، وقال لا يمكن إلا برأسك. فأرسل الظاهر عمر يستغيث به، ويقول خذ من الأموال ما تشاء، ودع سفك الدماء والقتال، وارحم النساء والأطفال، فلم يقبل سليمان باشا إلى أن دخل الحمام وخرج محموماً، وعلم أنه ميت لا محالة، ثم إنه أوصى أن يرحل به إلى الشام ويدفن عند ولده، ثم قضى نحبه رحمه الله تعالى. فكتم الأمراء موته، ورحل ألاى بيك وأكابر الدولة كخية سليمان باشا من عكة، ومعهم العساكر والمدافع، وقربوا من طبرية، ثم ضربت المدافع، ونزلوا على طبرية، بعدما وضعوا الباشا في التخت وحوله الجوخدارية، والغلمان تروّح له بالمراوح يميناً وشمالاً، وأمروا الخدام أن تنادي بالعسكر وهم مارين: الله ينصرك يابو خرما يا سليمان باشا. ثم أمر أن تفرد البيارق وتصطف العساكر وتسير، ومرّوا على طبرية، ولم يدر أحد ما جرى. ولما وصلوا إلى جسر بنات يعقوب بلغهم أن خمسة آلاف من المتاولة كامنين لهم، فرحلوا أول الليل وجدّوا في السير، فلطف اللطيف، ووصلوا للشام طلوع الفجر. ويوم دخولهم قامت الإنكشارية وقتلوا جماعة من الدالاتية تعدياً بلا سبب. وأما فتحي جلبي الدفتردار فإنه أمر بسجن السلحدار والخزندار والسيد محمد بيك، ابن عم سليمان باشا ومحمد آغا الديري، وكيل الخرج والمتصرف بدمشق الشام. وكان سجنهم في باب الآغا، ورسم على من معهم من الجماعة، وأقام ينتظر الجواب. وفي نهار الأربعاء، رابع عشر شهر شعبان من هذه السنة، ورد خبر بأن أسعد باشا بن العظم، الحاكم في حماه، قد تقررت عليه ولاية دمشق الشام مع إمارة الحاج. فأبقوا متسلمها علي آغا المتقدم ذكره إلى حين حضور الباشا المذكور. وفي ذلك النهار جاء ثلاثة نجابة من المدينة المنورة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وأخبروا بأن المدينة محاصرة وأنها ثلاثة أحلاف: حلف مع غزة القلعة، وحلف مع الطواشي، وحلف مع أهل المدينة، وأنهم في قال عظيم، وأن شريف مكة أرسل إلى الطواشي خمسة عشر بيرقاً تساعده على ذلك، وأن النجابين المذكورين، قاصدين اصطنبول، ليخبروا حضرة السلطان بذلك الحال. وفي يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان المبارك الواقع في سنة 1156، كان دخول أسعد باشا ابن العظم لدمشق الشام والياً. وكان دخوله من مسجد الأقصاب، وهي المحلة المشتهرة عند أهل الشام بمز القصب. ودخل بموكب عظيم من الإنكشارية وأكابر دمشق وأمرائها وأعيانها. وفي ليلة السبت، حكم قاضي دمشق بإثبات هلال رمضان، وضربت المدافع قبيل العشاء، وصليت التراويح في جامع الأموي وفي سائر الجوامع. وفي ليلة الخميس خامس رمضان المذكور، سافر أسعد باشا بعسكره على الدورة، وترك على البلد المتسلم علي آغا المتقدم ذكره. وكان خروجه بزمن معتدل، والبلد بأمن وخير كثير، فرطل الخبز بخمسة مصاري، وأوقية السمن بستة مصاري، ورطل الأرز بتسعة مصاري، ورطل اللحم بثمانية عشر مصرية، وغرارة القمح بخمسة وعشرين قرشاً. والغلاء بهذه الدرجة، ولم يكن محل ولا جراد، ولا قلة مطر، ولكن من قلة التفتيش، والالتفات. وقد سافر حضرة أسعد باشا، وأبقى المتسلم المذكور آنفاً، وقد ترك كل شيء على حاله. وقد توسط فتحي أفندي الدفتري في الصلح بين الظاهر عمر حاكم طبرية، وبين حضرة أسعد باشا. فأرسل له الظاهر عمر أربعين حملاً محملة أرزاً وسكراً وجوخاً، وهذا ما عدا لفتحي الدفتري مما اختص به، فإنه كان هو السلطان في الشام، وصاحب نفوذ الكلام، وكلامه يقتضي الأشغال، والأمر المفوض لذي الجلال. وفي تلك الأيام وصلت الأخبار بأن الخارجي المسمى بطهماسب، وصل إلى أرض العراق، وأخذ مدينة كركوت، ومحاصر الموصل وبغداد، وقد باع الحريم والأولاد، نسأله الله تعالى اللطف بالعباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وفي تلك الأيام، رجعت الإفتاء إلى حامد أفندي ابن العمادي. وفي ليلة السبت خسف القمر، بعد نصف الليل خسوفاً فاحشاً، وبقي إلى أن طلع النهار. وفي رابع عشر شهر رمضان من هذا العام، ألقى رجل نفسه من أعلى منارة جامع الدقاق إلى الأرض؛ فهلك سريعاً، بعد أن تكسر جسمه؛ واسمه الشيخ حسن بن الشيخ يوسف الرفاعي. فسألنا عن سبب ذلك، فقيل لنا إن أخا زوجته أتى بامرأة إلى بيته، وكانت من الخطيئات، فنهاه عن ذلك، فنهره وضربه، فذهب فأخبر أكابر الحارة، فلم يلتفتوا إليه لأنهم فوق ذلك بالانغماس، فذهب إلى جامع الدقاق، وصلى الصبح مع الإمام، وصلى على نفسه صلاة الموت، وصعد المنارة ونادى: يا أمة الإسلام، الموت أهون، ولا التعريص مع دولة هذه الأيام، ثم ألقى نفسه إلى الأرض، عفا الله عنه. وفي ثامن عشر من هذا الشهر رمضان، وضع رجل يقال له المجرى، طبنجة في بطنه وقتل نفسه، فسألنا عن سبب ذلك، فقيل لنا هذا رجل عليه دين، فقتل نفسه من شدة كربه وقهره، مع أنهم أخبرونا أنهم وجدوا عنده نحواً من خمسة أكياس قمح مخزونة، فما سمحت نفسه أن يبيع شيئاً منها ويوفي دينه، فخسر دينه ودنياه. وفي يوم الثلاثاء في الخامس والعشرين من رمضان، في هذه السنة، أغلقت أهل الشام دكاكينها، وقامت الأشراف على بيت فتحي أفندي الدفتردار. وسبب ذلك أن تابعاً من أتباع فتحي أفندي، يقال له العفصة، شتم السيد علي أفندي النقيب، وسحب عليه السلاح، وعلى السيد علي أفندي بن الشيخ مراد الكسيح في جامع الأموي. فاجتمعت الأعيان، وعملوا ديوان كذا، وأخرجوا فتوى في قتله وإباحة دمه. فوقع التفتيش عليه، فتخبأ في بيت مصطفى آغا بن خضري الشربجي في الميدان، وكان هذا لعفصة قوّس السيد علي أفندي المرادي، وهو داخل إلى داره فلم تصبه، فانزعجت البلدة، واجتمعت الأكابر والأغاوات والقبجية والبلطجية وأمن الصرة عند القاضي في المحكمة، وعملوا عرض كذا في فتحي أفندي الدفتردار، بأنه من أعظم المفسدين هو وأتباعه، وأرادوا أن يرسلوه إلى الدولة العلية، ولكن انتظروا مجيء حضرة أسعد باشا من الدورة ليختمه، وثاني يوم بطلت همتهم، وكان كلامهم كما قيل: كلام الليل يمحوه النهار. وفي ليلة الجمعة ثامن والعشرين من رمضان، وجد في جامع الأموي، عند باب الكلاسة، رجل شحاذ مذبوح، وعلى صدره فلوس مبدورة، وما ظهر غريمه، وقيل ظنوا أنهم ذهب، فذبحوه لذلك فلما وجدوهم فلوساً بدورهم عليه بعد قتله. وفي يوم الخميس رابع شوال، قدم أسعد باشا من الدورة، وفي تاسع شوال توفي علي آغا بن الترجمان، وكان رجلاً ثناؤه بين الناس جميلاً. وكان قبل يومين، عمل أسعد باشا ديوان كذا وجمع فيه الأكابر والأعيان، وسعّروا الحنطة والخبز، فجعلوا غرارة الحنطة بخمسة وعشرين غرشاً، ورطل الخبز بخمسة مصاري. وهذا أمر التسعير لا يستقيم على الخصوص في الشام. وفي يوم الاثنين، خامس عشر شوال، رحل أسعد باشا أميراً للحاج بالمحمل الشريف، متوجهاً إلى مكة المشرفة، ونهار السبت في عشرين شوال رحل الحاج الشريف وكان الفصل فصل الشتاء، والسماء صاحية، وكان غلاء وبعض الطاعون. وبعد سفر الباشا بقي رطل الخبز بخمسة مصاري، ولكن صارت غرارة القمح بثلاثين قرشا. ثم ضجت العامة، ورجموا القاضي، وما أفاد شيء. قال المؤرخ البديري: وفي ذلك اليوم أفادنا أستاذنا شيخ قرّاء الشام، الشيخ إبراهيم الحافظ، ومن قال في حقه أستاذ الشام الشيخ عبد الغني النابلسي: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل، فليسمعه من فم الشيخ إبراهيم النابلسي، أفادنا بقراءة هذا الدعاء المبارك، وخاصيته لهجوم المخاوف في السفر والحضر، وهو هذا الدعاء: بسم الله الرحمن الرحيم. لقد جاءكم رسول من أنفسكم. عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. بسم الله الخالق، الطائل الأكبر، حرز لكل خائف، لا طاقة لمخلوق، مع الله عز وجلّ، اللهم إني في حماك وتحت لوائك، فارحم حماك وانشر علينا لواءك واكشف عنا بلاءك الخارج من أرضك، والنازل من سمائك مطشين، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وفي نهار الثلاثاء، الثالث والعشرين من شوال توفي الشيخ العالم الفقيه الواعظ الشيخ أحمد الخطيب. الواعظ والإمام في جامع الدقاق في محلة القبيبات قبلي دمشق الشام، وهي الميدان التحتاني عند باب الله. قال المؤرخ: وتلك المحلة بها مولدي، ومسقط رأسي وبها منزلنا، وبعد وفاة والدنا انتقلنا منها إلى محلة التعديل. وكان الشيخ أحمد المذكور رجلاً فاضلاً، فقد أحيا تلك المحلة بالعلوم والدين، وانتفع به كثير من المسلمين. وفي اليوم الثالث والعشرين من شوال من هذه السنة، قدم سلخور من جهة السلطان، بتحصيل مال سليمان باشا، وقدره اثنا عشر ألف كيس، ودخل الشام مثل شعلة النيران، وأخرج حرم سليمان باشا من ديارهم إخراجاً شنيعاً، وصاروا يفتشونهم كذا، واحدة واحدة، مع التفتيش في جيابهم وأعبابهم، وختم على جميع مخادع الدار، وأمر بالقبض على ابن عم المرحوم سليمان باشا، وهو السيد محمد، وعلى جماعة أخرى معه، وأمر بالترسيم الشديد عليهم، وسأل عن محمد آغا الديري، وكيل خرج سليمان باشا، فأخبروه أنه ذهب مع أسعد باشا إلى الحج، فأمر بجلبه، فجاؤوا به، وأمر بالترسيم عليه. قال المؤرخ البديري: ثم أحضر السلخور القاضي والأعيان، واستجلب حرم سليمان الباشا، وأحضر الجلاد وآلة العذاب، وشدّد على الحريم بالطلب، وأن يعلموه عن المال أين مخبأ، فلما رأوا التشديد خافوا من العذاب وأقروا له عن بعض مخابئ تحت الأرض، فأرسل خلف المعمارية الذين عمروا السرايا، وكانوا نصارى، وكان المعلم نصرانياً يقال له ابن سياج، فأمر القبجي بتعذيبهم، وقطع رؤوسهم وأيديهم، فلما تحققوا عذابهم قالوا: نحن ندلك على كل ما عمل ثم أنهم حفروا له تحت الدرج، فبان عن سرداب، فرفعوا عنه التراب، ونزلوا في درج، فظهر مكان واسع وفيه صندوق مقفول وعليه غالات وقفول، فأخرجوه وفتحوه، فرأوه ملآن من الدراهم والريالات. ثم أخرجهم النصراني إلى مخدع، فحفر في دوائره، فإذا فيه سبع براني مملوءة من الذهب المحبوب السلطاني، فلما رأى الحاضرون ذلك الحال زاغت منهم الأبصار، ثم عدوه وضبطوه، فوجدوه ثمان مئة كيس وخمسين كيساً. فلما بلغ الناس ما خرج عنده من هذا المال، وكان في أيام شدة الغلاء، مع سوء الحال، لهجوا بالذم والنكال، وقالوا قد جوّع النساء والرجال والبهائم والأطفال حتى جمع هذا المال من أصحاب العيال، ولم يراقب الله ذا الجلال. وقبلا جاء قبجي لضبط مال سليمان باشا، فضبط ألفين وخمسين كيساً، فلم يره بشيء كذا. وقد كان فتحي أفندي الدفتردار اشترى غالب متاعه والأغلال، فكان عنده من القمح ما بلغ ثمنه خمسة وعشرين كيساً، وبلغ الغرارة بخمسة وعشرين غرشا، والكيس بخمس مئة غرش، فانظر كم غرارة بخمسة وعشرين كيسا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وسيأتي الكلام على بطش الله، وغضبه بالدفتري المذكور، لأن الله تعالى يمهل ولا يهمل. ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون. وفي اليوم الرابع والعشرين، وهو يوم السبت من شهر ذي القعدة، توفي الشيخ محمد المكتبي، هو وابنه، في الطاعون المشتد في هذه الأوقات. وكان إماماً في الجامع القلعي، وشيخ كتاب في محلة الخراطين، فتوفي هو في أول النهار، وابنه في آخره. وكان مبدأ هذا الطاعون أول الخريف، في أواخر الصيف، واستمر حتى دخل الشتاء وزاد كثيراً، وقد قيل بدخول السنة الجديدة يذهب. وفي أوائل ذي الحجة، طلع نجم له ذنب، من جهة الغرب، ويستمر إلى ما بعد الشتاء بقليل واستقام إلى أن دخلت السنة الجديدة. سنة 1157 وكان دخولها غرة محرم الحرام يوم السبت سنة سبع وخمسين ومئة وألف، 1157 فبقي النجم الذي له ذنب يطلع من جهة الغرب، ثم صار يطلع من جهة الشرق، وذنبه إلى الغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وفي تلك الأيام قتل نفسه شيخ التكية. وفي تلك السنة كثرت بنات الخطا، ويتبهرجن بالليل والنهار، فخرج ليلة قاضي الشام بعد العصر إلى الصالحية، فصادف امرأة من بنات الخطا، تسمى سلمون، وهي تعربد في الطريق، وهي سكرى ومكشوفة الوجه، وبيدها سكين. فصاح جماعة القاضي عليها، أن ميلي عن الطريق، هذا القاضي مقبل، فضحكت وصاحت وهجمت على القاضي بالسكين، فأبعدوها كذا عنه أعوانه. ثم جمع القاضي الوالي والمتسلم، وذكر له ما وقع له مع هذه العاهرة، فقالوا له هذه من بنات الخطا واسمها سلمون، وافتتن بها غالب الناس، حتى صار ينسب إليها كل حاجة أو متاع، فيقولون هذا متاع سلموني، وهذا الثوب سلموني. فأخرج المفتي فتوى بقتلها، وإهدار دمها تسكيناً للفتنة، ففتشوا عليها وقتلوها. وأرسلوا منادياً ينادي في البلد، أن كل من رأى بنتاً من بنات الخطا والهوى، فليقتلها ودمها مهدور، فسافر عدد منهن وانزوى البقية. ومع ذلك فالطاعون مخيم في الشام وضواحيها، مع الغلاء ووقوف الأسعار. وفي نهار الأربعاء تاسع عشر محرم من هذه السنة، ورد من الدولة العلية خط شريف إلى القبجي، الذي جاء لضبط مال سليمان باشا، بأن يجمع أعيان البلد ويقرأ عليهم الفرمان، ومضمونه بأن يفتش ويفحص على خلفات الباشا المذكور، وأن يعذب الرجال والنساء بلا معارض حتى يقروا بالمال. فأجابوا بالسمع والطاعة، فأول من أتى به، ابن عم الباشا السيد محمد وهدده، فحلف بالطلاق، بأن ما عنده علم وقيل ضربه، فأقرّ على مكان، وقال احفروا هنا، فحفروا في دار الباشا حول الوجاق. فبان عن أربع زلع ذهب، فيهم ستة عشر ألف ذهب. ثم ضربوا الطواشي، فأقرّ بأنه مودع عند رجل يقال له حسن الطرابلسي، مخلاة ملآنة ريالات. فسارت إليه الأعيان، وأتوا به وبالمال، فأخرجوه فوجدوا داخل المخلاة بين المال جوهرة ليس لها قيمة، ورأوا المال ناقصاً عن ما قال الطواشي، فأمر القبجي بحبس الذي خرج من عنده المال، وحبس أولاده ومن يلوذ به. وأمر بحضور نساء الباشا وحريمه، وقد ذكرنا أولاً أنه أخرجهم كذا من الدار عنفاً وتركهم تحت الترسيم، والآن أمر بإحضارهم فأحضروهم وصار يقررهم فأنكروا وجحدوا، فأمر بحبسهم، فحبسوا في باب البريد وشدد عليهم. وكان لسليمان باشا سرية مقدمة على جميع محاظيه تسمى زهرا، كأنها البدر في أفق السماء، وكان قد تركها القبجي عند سليمان بيك وكيل سليمان باشا على أملاكه تحت الترسيم. فلما جاءه الفرمان بعقوبة الرجال والنساء أمر بإحضارها، وسألها عن المال، فأنكرت وادعت أنها ما رأت شيئاً ولم تعرف شيئاً، فأمر بضربها، فضربت على وجهها ويديها وأجنابها، حتى عدمت صوابها فلم تقرّ بشيء، وهي تحلف أن ليس لها علم ولا خير ولا أطلعها سيدها سليمان باشا على أمر، فتركها تحت الترسيم، لأنه جبار لئيم وشيطان رجيم ليس له شفقة على الحريم، عذّبه الله بنار الجحيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ثم بعد ذلك جمع القبجي جميع حريم الباشا الجوار والأحرار جملة واحدة، وأخذ جميع ما معهم كذا وما عندهم من ذهب وفضة ومتاع وحلي وألبسة وجميع ما تقتنيه النساء، وذلك بعد العذاب والإهانة والضرب الشديد. قاتله الله بجلود لا دباغ لها وعذبه بنار الخلود. ثم إن سليمان باشا كانت له زوجة هي بنت الشيخ ياسين القادري، لما رأت ما حلّ بصحيباتها من الإهانة سألها القبجي عن مال زوجها الباشا، وهددها بالعذاب، فخافت وأعطت له شكلاً من الذهب يساوي عشرة أكياس، وأعطته تمسكات، وهي سندات كانت على بعض التجار بنحو مئة وخمسين كيساً. وكان جميع ذلك المال إرثاً عن أبيها الشيخ ياسين القادري، رحمه الله وقدّس سرّه. وكل هذا الحال وأسعد باشا العظم في الحج. ولما جاء أسعد باشا من الحج عمل ديوانا، وحضر القبجي وأخرج خطاً شريفاً بأن أمره مفوض يفعل ما يشاء من تعذيب وقتل وحبس، ولا أحد يعترضه. وقد ظن الناس أن أسعد باشا يقوم ويقعد لذلك، فخرج الأمر بخلاف ذلك، وقام ولم يحرك ساكناً. وسيأتي قريباً أخذ ثأر سليمان من فتحي أفندي الدفتردار. ثم بعد مدة جاء فرمان بالعفو نامه، وجمعوا محمد آغا بن الديري والسيد محمد بن عم سليمان باشا والسيد سليمان، فباعوا القمح والأملاك وما بقي من الأمتعة والزردخانة إلى أسعد باشا بأربع مئة كيس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وفي نهار الخميس خامس جمادى الأولى، سافر إلى اصطنبول القبجي المذكور. وقد ظنت الناس أن أسعد باشا ابن أخي سليمان باشا يفعل أمراً في القبجي وفي فتحي الدفتردار فلم يقع منه شيء وسيأتي تدبيره في تدمير الدفتردار قريباً. وفي آخر جمادى الثانية جاء خبر من الدولة العلية في طلب فتحي أفندي الدفتردار، فسار صحبة القبجي الذي جاء في طلبه. وفي خامس يوم رجب تعصبت أعيان الشام، وعملوا عرضاً في فتحي أفندي بأنه من المفسدين، وما تم الأمر معهم لاختلاف كلمتهم. وفي ليلة الثالثة والعشرين من رجب بعد العشاء انشقت السماء ونزل منه آفة عظيمة، واشتهر ذلك بين الناس. قال المؤرخ: ولم أرها بعيني. وفي ثامن يوم من شعبان دخل قاضي الشام محمد أفندي زاده، وكان رجلاً عاقلاً، إلا أنه ما عنده سياسة ولا تدبير. وفي اليوم الرابع عشر من شهر رمضان بهذه السنة جاء فتحي أفندي الدفتردار من اصطنبول ودخل الشام بفرح وسرور، ولم ينله أدنى ضيم، وسبب ذلك ما بذل في الاصطنبول من المال الذي تميل به قلوب الرجال. وكان محسوباً على القظلار وجماعة من رؤساء الدولة كبار. وقيل إنه دخل اصطنبول سراً وفرق المال سراً وجهراً، وكان قد طلبه السلطان فزيّوا رجلاً بزيه، وأدخلوه على الملك، فقرعه بالكلام وبما وقع منه، وما أرسلت أهل الشام من الشكايات عليه، فكان كلما قال له حضرة الملك محمود خان كلاماً يشير له برأسه أن نعم، وكان قد أمره بذلك من أدخله، فحالاً أمر بقتله فقتل، وهو يظن أنه فتحي أفندي الدفتردار، ثم أمروا فتحي أن يلحق بالشام ليلاً. وفي آخر ذي الحجة بطلت الفلوس الذي كذا كانت ضرب الشام. سنة 1158 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومئة وألف نهار الثلاثاء. تفاقم الأمر من تعدي الزرباوات وهم الأشقياء، فاستطالوا في سب الدين وظلم الناس وغير ذلك. وحاكم الشام حضرة أسعد باشا لا يحرك ساكناً، ولم يفعل شيئاً، حتى صاروا يسمونه سعدية قاضين، نائمة مع النائمين، ونرى الأشقياء للعرض والمال مستحلين. لكن البلد من الحركات ساكنة ومن ظلم الحكام آمنة. وفي خمسة عشر من جمادى الثانية توفي الشيخ الفاضل معتقد أهل الشام على الإطلاق الشيخ يوسف الطباخ الخلوتي. قال المؤرخ: ومما منَّ الله عليّ أن حلقت رأسه واغتنمت دعاءه، رحمه الله ورضي عنه. وفي نهار الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الثانية من هذه السنة قامت العامة من قلة الخبز وغلو الأسعار وهجموا على السرايا، رافعين أعلى أصواتهم بالبكاء والتضرع، قائلين ما يحل من الله قلة الشفقة على العباد الذين تضرروا بالغلاء، وأنت حاكم الشام ومسؤول عند الله عنا وعن هذه الأحوال. فقال لهم أسعد باشا: اذهبوا إلى المحكمة، واشكو حالكم إلى القاضي. فأقبلوا نحو المحكمة، واصطرخوا فيها يشكون حالهم وما أصابهم وما هو واقع بهم. فخرجت جماعة القاضي بالعصي وطردوهم، وكان ذلك بأمر نائبه، فهجمت العامة ورجموهم بالحجارة، فأمر القاضي أعوانه أن يضربوا بالبارود فضربوهم، فقتلوا منهم رجلاً شريفاً وجرحوا منهم جماعة، فغارت العامة عليهم، وساعدهم بعض الإنكشارية، فهزموا القاضي وقتلوا باش جوقدار وبعض أعوانه، ونهبوا المحكمة وحرقوا بابها، وسكّرت الناس البلد، فركب بعض الأغاوات وردّ الناس. وأما القاضي فقد هرب من فوق الأسطحة هو ونائبه وجماعته، فأخذه بعض الأكابر وصار يأخذ بخاطره، فحلف القاضي لا يسكن هذا الشهر إلاّ بالقلعة. ثم جمعوا مال القاضي ومتاعه والذي نقص منه فرضوه على خزينة الوجاق وعلى بعض الأكابر والأعيان، وأرضوا القاضي وصالحوه وإلى المحكمة ردّوه. وفي نهار الثامن والعشرين من جمادى الثانية توفي الشيخ الزاهد صاحب الأحوال والكرامات الشيخ أحمد النحلاوي الأحمدي، ودفن بزاويته القاطن بها جوار ستي خاتون شاه أخت الملك العادل السلطان نور الدين الشهير بزقاق المحكمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ثم في هذه الأوقات زاد غلو الأسعار وقلت الأمطار وعظمت أمور السفهة والأشرار، حتى صار رطل الجبن بنصف قرش والبيضة بمصرية وأوقية السيرج بنصف الثلث، ومد الشعير بنصف قرش، ومد الحمّص بنصف قرش، ومد العدس بنصف قرش، وغرارة القمح بخمسة وأربعين قرشا، بعدما كانت بخمسة وعشرين غرشا، وأوقية الطحينة بأربعة مصاري، والدبس كل ثلاثة أرطال بقرش، ورطل العسل بقرش وربع، وكل شيء نهض ثمنه فوق العادة، حتى صار مدّ الملح بنصف قرش. وفي تلك الأيام هلك مصطفى آغا ابن القباني كيخية الإنكشارية بمرض أعيا الأطباء برؤه، وكان من الذين يدخرون القوت ويتمنون الغلاء لخلق الله، فجعل الله العذاب والعقاب، لقد بلغني عنه أنه لما أرادوا دفنه حفروا له قبراً فوجدوا فيه ثعباناً عظيماً، فحفروا غيره فوجدوا كذلك، حتى حفروا عدّة قبور وهم يجدون الثعبان، قلت: وقد سبق ذلك فيما سلف لبعض الظلمة. وقد وجدوا في تركته من السمسم مئة غرارة، على أن في البلد كلها لم يوجد مدّ سمسم، ووجدوا من القمح شيئاً كثيرا، وقد طلب منه أن يبيع غرارة القمح بخمسة وأربعين قرشاً فلم يقل، وحلف لا يبيعها إلاّ بخمسين، فهلك ولم يبع شيئاً، فبيعت في تركته، ورحم الله عباده بموته لأنه أرحم الراحمين. سنة 1159 ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومئة ألف، وكان أولها يوم الأحد. وقد دخل قاضيها مصطفى أفندي وقدامه أعوانه حاملين البندق والسلاح، حتى وصل إلى المحكمة، وهذا لم يقع لغيره، ثم جلس في المحكمة لا يحرك ساكناً، وفقه الله. وكان الحاكم في الشام والوالي بها حضرة الوزير الخطير أسعد باشا ابن العظم أيّده الله وأعزّ كلمته. وكان غائباً في الحاج، والمتسلم والكيخية موسى. ولكن الغلاء قائم على قدم وساق مع الكرب والخوف والشقاق. وفي ثالث صفر دخل الحاج دمشق نهار الخميس صحبه أميره المعظم والوزير المفخم حضرة الحاج أسعد باشا العظم، فهو والحجاج على غاية من الصحة والسلامة. ثم بعد ذلك أرسل يطلب الدالاتية طلباً حثيثاً، فلما رأت الإنكشارية ذلك ضاقت عليهم الأرض، وقالوا كأقوالهم السابقة في قلة أدبهم: الست سعدية تريد أن تغدر بنا، وهذا الأمر لا يخوفنا. ثم زادوا بحمل السلاح ونهب المال وسبي العرض وسب الدين، وغير ذلك من الفظائع. ولما زادوا عتوّاً وفتكاً، ولم يراقبوا حضرة الحق جل جلاله، أرسا الله تعالى من غضبه ريحاً شديدة على الشام ما رؤي مثلها في سالف الأيام، فقلعت الأشجار من أصولها وأرمت غالب الجدران، حتى ظنت الناس أن القيامة قد قامت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وفي يوم الاثنين ثاني عشرين صفر من هذه السنة المذكورة بينما الناس قبل الظهر في أشغالهم، وإذا بضجة عظيمة وضرب بارود، فقيل ما الخبر، قيل ملكت الدالاتية القلعة، فسكّرت البلد وزاد الفزع في كل أحد، ولما بلغ الخبر للإنكشارية قاموا على قدم وساق. وقالوا أخذت منا القلعة يا شباب، واجتمعوا في باب الجابية بالسلاح الكامل ينتظرون القتال. ولما وصل الخبر لحضرة أسعد باشا فرح واستبشر ونادى: اطلبوا سوق ساروجا وجدّوا في الطلب. وأمرهم أن يتركوا جهة القبلة، وكان ذلك منه حيلة وخدعة. ثم نادى في عسكره نداء شاع في البلد بأن مراد أحمد بن القلطقجي وعبد الله بن حمزة ومن لهم من الأتباع، وكانا من رؤساء وأمراء سوق ساروجة. هذا والجنك يلعب بسوق ساروجة، وكأنه لم يكن حاكم بالشام إلا هم، فأراد الله تدميرهم. ثم أمر حضرة الباشا أن يوجهوا المدافع على سوق ساروجا، فوجهوا ما عليهم وأمر بضربها بالكلل فضربت، فما كان بأقل من حصة يسيرة حتى احترقت الدور وتهدمت البيوت، واحترق بيت القلطقجي وعدم عن آخره، ونهبت العساكر كل ما فيه، ثم سرى النهب في بقية الدور، فنهبوا وقتلوا ومثلوا وبدعوا وذهب الصالح والطالح، حتى صارت محلة سوق ساروجا قاعاً صفصفاً. وأما ابن القلطقجي فإنه فرّ هارباً بعد ما بذل من الشجاعة هو وجماعته الغاية القصوى. ثم أمر حضرة الباشا أن تدار المدافع على جهة الميدان فوجهوها، وكان رأس المفسدين بها مصطفى آغا بن خضري جربجي، حتى سمى نفسه سلطان الشام، وعنده زمرة من الأشقياء يتقوّى بهم، وبها أيضاً أولاد الدرزي أحمد آغا وخليل آغا ولهم بها دولة وصولة فحين بلغ هؤلاء المفسدين بأن حضرة أسعد باشا وجّه عليهم المدافع بالعساكر أوقع الله الرعب في قلوبهم، وركنوا للهرب والفرار، وطلبوا البراري والقفار. وبانهزامهم وهربهم تقطعت قلوب بقية من كان من الشجعان من أهل الميدان، فمنهم من هرب ولحق بساداتهم، ومنهم من قبر في المغاير والقبور، ومنهم من غطس في النهور. ولما وصلت للميدان المدافع لم يجدوا فيها من يدافع فأول ما اشتغلت العساكر بهدم دار ابن خضري، بعد ما نهبوا جميع ما فيها من المتاع وغيره، وكذلك فعلوا بدار ابن حمزة وبغيرها من الدور، حتى نهبوا نحواً من خمس مئة دار، وبعد ذلك اشتغلوا بهدم الدور التي نهبوها. وأرسل حضرة أسعد باشا، أسعده الله وقوّاه، خبراً إلى مشايخ الحارات بها وأئمتهم بأن يقبضوا على بقية الأشقياء الموجودين، وإن لم يفعلوا يلزمهم بغرامة أموال عظيمة. فصاروا يتتبعون الأشقياء واحداً بعد واحد، ويقولون لحضرة الباشا: هذا الشقي فلان الفلاني، وهذا الآغا الفلاني، وهذا الشربجي الفلاني. وحضرة الباشا يأمر بضرب أعناقهم أمام باب السرايا وترك جسومهم تأكل منها الكلاب مدة طويلة، حتى صاروا عبرة لمن اعتبر. فسكنت بعد ذلك الشام، وصارت كقدح لبن، وصارت الناس في أمن وأمان، وسترت الأعراض. فملك الباشا البلد بنحو أرع مئة من العسكر الدالاتية. وقد أمنت البرية، فكان ذلك بهمته القوية بعد ما كانت تقول كبراء الميدان وأعوانهم: لو جاءنا عشر باشاوات ومنهم السلطان ما حسبنا لهم حساب، ولشرطنا ذنبهم بالطبنجيات. فانظر الآن، فقد صاروا أذل من الذباب وطعماً لأخس الكلاب. وأما أولاد ابن الدرزي فإنهم هربوا والتجأوا إلى عرب ابن كليب هم وأتباعهم، وأما ابن حمزة وأتباعه فإنهم فروا نحو طبريا والتجأوا بالظاهر عمر، وأولاد القلطقجي وأتباعهم فهربوا إلى جبل الدروز، والذي منهم وقع جعلوا جلده رقع، وكان أعظم مصيبة وخذلان لبيت حسن تركمان، قتل منهم خمسة رجال: حمزة بيك ومحمد آغا وحسن آغا وخليل آغا وسايسهم. وكانوا من المفسدين الظالمين المؤذين، مهتكين للحريم، سبابين للدين، عدا حمزة بيك فإنه كان بخلاف ذلك، فقد ذهب غلطاً وهدراً. وقد زينت البلد، والمدافع تضرب صباحاً ومساءً مدة شهرين، والنوبة مع الألعاب النارية. وكفى الله المؤمنين القتال، وقطع دابر القوم الذين ظلموا. والحمد لله رب العالمين. قال المؤرخ البديري: وقلت في وصفهم من المواليا: أين الزلاقة التي كانت شبيه السيف ... جزمات لا يشلحوها بالشتا والصيف إن شاف واحد صديقه لا يقله كيف ... ديك الزلاقة مضت يا حيفها يا حيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وفي آخر ربيع الثاني أرسل حضرة أسعد باشا العظم عسكراً عظيماً إلى مدينة بعلبك، لقتل واليها الأمير حسين، فلم يجدوا له أثراً، فدخلت الأعوان ونهبوا وسلبوا وفعلوا ما فعلوا، ثم أتوا بثمانية رجال من أعيان بعلبك، ومن جملتهم مفتيها لدمشق الشام، فشنق مفتيها المذكور وضربت أعناق الباقين. وفي تلك الأيام أرسل حضرة أسعد باشا جملة من العساكر إلى العرب، فجاؤوا برؤوس من العرب وجمال وأغنام وسلب وغير ذلك. وقد أرهب حضرة أسعد باشا المذكور الكبار والصغار، وعظم صيته حتى في البراري والقفار، وصاروا يضيفون لاسمه الحاج، ويقولون: الحاج أسعد باشا. وفي هذه الأيام جاء من الدولة العلية قبجي ومعه من حضرة السلطان هدية ملوكية لحضرة الحاج أسعد باشا وهي كرك عظيم مفتخر وسيف ملوكي وخلع وتشاريف. وذلك لم يسبق لغيره من الوزراء والحكام، إلا إلى الوزير الأعظم صاحب الختم، إذا كان في سفر حرب وصار على يده فتوح بلدان، فسبحان المعطي المانح. وكانت الدولة منذ أمد غير بعيد قد رفعت أرط القبوقول من الشام، ولم تر لفّات برمة. فأرسل حضرة أسعد باشا حفظه الله يطلب من الدولة أرطاً، فأرسلوا له أرطة أون طقوز، ودخلت بموكب عظيم، سرت أناساً وأكمدت أناسا. وأرادت بعض الأشقياء أن تقيم رؤسها، فأخبروا حضرة الباشا بذلك، فأرسل يقول للآغا: كل من أدخله من أولاد الشام من غير جنسك لا يرجع اللوم إلا على نفسك. فانتظم الحال، وقويت دولة القبو قول في دمشق الشام، وبرموا اللفّات، ورجعت دولتهم أحسن مما كانت. وفي جمادى الأولى من هذه السنة وصل الجراد للشام، وكان حولها سنين مخيم، فنزل على بساتينها، فأكل حتى لم يبق ولم يذر، فأرسل حضرة الباشا رجلين من أهل الخبرة يأتونه بماء السمرمر. ثم إن هذه السنة كانت كثيرة الأمطار والخيرات والفواكه والنبات. ومع ذلك فأهل الشام في شدة عظيمة من الغلاء، ونهض الأسعار في جميع البضائع. وكان حضرة أسعد باشا حفظه الله عمل ديواناً، وأرسل خلف بائعي القمح، وطلب منهم إحضار القمح وهددهم، فحلفوا له بأن ما عندهم شيء ولا يوجد. فقال لهم أنا عندي قمح كثير في حماة، فاطلبوه فأرسلوا يطلبون جميع ما يوجد من القمح خاصة حضرة الباشا وغيره، فجاءهم من حماه أحمال قمح بغير حساب، وباعوه في الشام على السعر الواقع. ومع ذلك فرطل الخبز بخمسة مصاري، وقد طالت هذه الشدّة. وفي نهار الأحد بعد العصر خامس عشر جمادى الثانية من هذه السنة ضربت مدافع، فسألت الناس عن الخبر، فقيل: إن سعد الدين باشا أخا أسعد باشا جاءته رتبة وزارة، وجاءه طوخ. فهرعت أكابر الشام لأجل تهنئة أخيه أسعد باشا. وكان أسبقهم لتهنئة الباشا فتحي أفندي دفتر دار الشام، فلما رآه الباشا قام ودخل لدهليز الخزنة، فتبعه وجلس عنده، فأخرج أسعد باشا صورة عرض وأراه إياه، فأخذه فتحي أفندي وقرأه، وإذا فيه الأمر بقتله. وقال له حضرة الباشا ما تقول في هذا. فقال سمعاً وطاعة. لكن أنا في جيرتك فخذ من المال ما أردت وأطلقني، فقال له الباشا: ويلك يا خائن، أنا لم أنس ما فعلت في نساء عمي. ثم أمر برفع شاشه وقطع رأسه، فوضع في رقبته حبل، وسحب إلى خارج السرايا وقطع رأسه، وأرسل للدولة. ثم أمر الباشا أن تطاف بجثته في سائر شوارع الشام وطرقها وأزقتها ثلاثة أيام، ففعل به ذلك، وطيف به عرياناً مكشوف البدن وتركوه للكلاب، ثم دفنت جثته في تربة الشيخ رسلان، وأمر الباشا بالإحاطة على داره وعلى ماله والقبض على أعوانه، فألقوا القبض على خزنداره عثمان وعلى ولده فأمر بحبسهما، ثم أتوا بأكبر أعوانه وكان يلقب بالعفصا فقطع رأسه حالاً. وزادوا على أعوانه بالتفتيش، فقتل بعض أعوانه وخدامه، ثم ضبط الوزير تركته وأموال أتباعه جميعاً للدولة العلية، فبلغت شيئاً كثيراً، وتفرق الباقون أيدي سبا، كأن لم يكونوا وانقضت دولة كأنها طيف خيال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 قال المؤرخ البديري: ذلك بما كسبت يداه، فقد كان ظلوماً غشوماً بغيضاً لأهل الشام، يريد لهم الجور والظلم، لا يراعي الكبار ولا الصغار، إلا ناس من الأشرار، وهم من حزب الشيطان، قد اتخذهم عدّة لكل عدوان. وتحقيق أمره وخبر قصة البطش به ألخصها، وأنا الفقير مهذب التاريخ ومحرر هذه الورقات، فأقول: ذكر المرادي في آخر ترجمة فتحي الدفتري المذكور ما ملخصه: كان المترجم يراجع في الأمور حتى من الوزراء والصدور، طالت دولته وعظمت عليه من الله نعمته، واشتهر صيته وعلا قدره ونشر ذكره، لكنه كان يتصدى للاستطالة في أقواله وأفعاله، وأتباعه متشاهرون بالفساد والفسوق وشرب الخمور وهتك الحرمات، وهو أيضاً متجاهر بالمظالم، لا يبالي من دعوة مظلوم، ولا يتجنب الأذى والتعدّي، ونسب إلى شرب الخمر أيضاً وغير ذلك. فلذلك كانت أقرانه وغيرهم يريدون وقوعه في المهالك، ولما توفي الوزير سليمان باشا العظم والي دمشق الشام وأمير الحاج، وجاء من قبل الدولة الأمر بضبط أمواله ومتروكاته، نسب المترجم إلى أمور. وفي خلال ذلك تولى دمشق حاكماً وأميراً للحاج ابن أخيه الوزير أسعد باشا العظم الذي كان حاكماً في حماة، فأكمد للمترجم فعله المنسوب إليه حين وفاة عمه، ولم يره إلاّ ما يسرّه. وكان المترجم منتمياً إلى أوجاق اليرلية. وكان الأوجاق في ذلك الحين قواه قائمة وجيوشه بالفساد متلاطمة، وهم عصبة وجموع يذل لهم أكبر قرم بالمذلة والخضوع، قد أبادوا أهل العرض وانتهكوا الحرمات وأباحوا المحرمات، ولم يزالوا في ازدياد حتى عمَّ فسادهم البلاد والعباد. وكانت رؤساؤهم زمرة ضالّة وفئة متمردة وصاحب الترجمة فتحي أفندي يوليهم مكرماته ويمنحهم إحسانه وإنعاماته، وهم لبابه وفود، قد اتخذوه ركناً وسنداً، وأرباب العقول في دمشق في همّ وكدر وخوف وحذر، كل منهم متحيّر في أمره ومتخوف من هذا الحال وعوقب شرّه. وأمير الحاج وقتئذ والي دمشق أسعد باشا المذكور ناظر لهذه الحال. متحيّر من تلك الأحوال؛ لأن الشقي منهم كان يجيء إلى حبس السرايا ويخرج من أراد من المحبوسين من غير إذن أحد علناً وقهراً. وإذا مرّ الوزير المذكور بهم وهم جالسون لا يلتفتون إليه ولا يقومون له من مجالسهم عند مروره بهم، بل يتكلمون في حقه بما لا يليق بمسمع منه، فيتحمل مكارههم ولا يسعه إلا السكوت. واستمرّ أمرهم على ذلك، إلى أن كتب في حقهم للدولة العلية، فورد الأمر بقتلهم وإبادتهم، فأخفاه الوزير مدّة، ثم بعد ذلك أظهره، وشرع في قتلهم وإبادتهم، وأعطاه الله تعالى النصر، وفرجت عن دمشق الشدائد. ثم بعد أشهر قليلة كتب الوزير المذكور إلى الدولة العلية بخصوص صاحب الترجمة وما هو عليه، وأرسل الأوراق التي في حقه مع علي بيك كول أحمد باشا، وكان ذلك بتدبير خليل أفندي الصديقي وأعيان دمشق. ثم صادف أن صاحب الدولة كان حسن باشا، وكان يبغض المترجم فتحي لكونه لما جاء قريب حسن باشا المذكور وهو أحمد آغا آغات أوجاق الينكجرية طرده، وصار أخيراً وزيراً، فأدخل للسلطان أحواله، وعرفه طبق مكاتبة أسعد باشا. وكان أسعد باشا ضمن للدولة تركته بألف كيس، فجاء الخبر بقتله. وكان قبل ذلك صار من أهل دمشق عرَض في خصوصه، فلم يفد وكان هو بإسلامبول، فأعطى العرض له، ولما جاء لدمشق صار يخرجه، وينتقم ممن اسمه مكتوب فيه. وكان السبب في ذلك وجود آغت دار السعادة بشير آغا، وكان المترجم منتمياً إليه، وكان للآغا المذكور نظر على المترجم وحماية، فصادف الأمر بالمقدور أن بشير آغا توفي وحان القضاء وآن وقته، فجاء الأمر بقتله، فقتل شر قتلة على الوجه الذي قدمناه، وبالتاريخ الذي ذكرناه. وقد عمل البديري صاحب الأصل في واقعة فتحي الدفتري المذكور هذه المواليا، فقال: يا ما فعل فتحي لما صار دفتردار ... غرّه زمانه وسعده حول داره دار دولاب عزه رقص يا ناس لما دار ... لم يعتبر أن هذا الدهر بو غدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ومع ماله من سيئات كان له حسنات ونفع في بعض الأوقات للأنام. فمن آثاره المدرسة التي في القيمرية، وأوقف جرايات وشوربة لطلبة العلم، وعمّر رصيف درب الصالحية، وعمّر الحمام في ميدان الحصا المسمى باسمه، والقهوة أيضاً. ومن أعظم آثاره تجديده لمنارتي تكية السليمانية التي في المرجة، وذلك بعد سقوطهما أيام الزلزلة، فأعيدتا أحسن مما كانتا، وله غير ذلك. غير أن سيئاته أكثر من حسناته. نسأله تعالى أن يتغمدنا بلطفه وعفوه، ويجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فإنه قريب مجيب آمين. وفي تلك الأيام جاؤوا بشيخ جيرود، وأخبر أسعد باشا بأنه قتل شخصاً، فسأله الباشا فأجابه، وقال إنه قد قتل أبي فقتلته، فأمر بقتله، فقتل حالاً. وفي يوم الأحد ثالث عشر رجب من السنة المذكورة توفي محمد آغا ابن الديري في داء الدوسنطارية، وقد كان مدركاً لأعمال أسعد باشا وأعمال أبيه إسماعيل باشا وعمه سليمان باشا، وكان وكيلاً للخرج، لكن عليه مدار كل الأعمال، وصاحب الكلمة النافذة عندهم، حتى قيل إنه صاحب كل حركة وقعت بالشام، وإنه مرتكب للفواحش من شرب خمر وغيره مع إيذائه للرعايا. وكان أيام الفتن يمشي قدام الدالاتية يسلب وينهب ويخرب بيوت الإنكشارية، وقد أتى بأحجار بيوتهم وأخشابهم وعمّر بها دارا، فما تمت العمارة حتى هلك مع الهالكين وضبط الباشا ماله ونواله، وذهب مع الذاهبين. وثاني يوم موته قتل الباشا عثمان آغا خزندار فتحي أفندي الدفتردار كما قدّمنا، وقتل معه أحمد آغا الشربجي خزندار فتحي الثاني، وضبط مالهما. وبهذا اليوم، وهو يوم الاثنين رابع عشر رجب، جاؤوا بماء السمرمر، وطلعت لملاقاته المشايخ وأهل الطرق بالأعلام والمزاهر وطبول الباز، ودخلوا بموكب عظيم بكت فيه خلق كثير، وعلقوه بمنارة الشيخ الأكبر في الصالحية، وفي منارة تكية المرجة، وفي منارات الجامع الأموي، وأبقوا في السرايا قِرَب من ماء السمرمر، وذكروا أن مرادهم أن يعلِّقوهم في أراضي حوران. هذا والغلاء قائم على قدم وساق، لم يقع مثله في قديم الزمان، فرطل الخبز وصل إلى سبع مصاري، والوسط بستة، والرديء الدون بخمسة مصاري، ورطل الكعك بخمسة عشر مصرية، ورطل الرز بعشرة مصاري، وأوقية السمن بخمسة مصاري في وقت جلبه وأوقية الطحينة بخمسة مصاري، وأوقية السيرج بخمسة مصاري، وأوقية القريشة بثلاث مصاري، وكذلك الجبن والدبس الرطل بثمانية عشر مصرية، ورطل العسل بقرش ونصف، ومدّ الملح وصل ثمنه للعشرين مصرية، ومد الحمص بثلاث أرباع المصرية، وكذلك العدس. وأغرب من ذلك مع كثرة الفاكهة رطل التين الطري بأربعة مصاري، والكوسا كل ثلاثة بمصرية، والباذنجان الرطل بثمانية مصاري، وكل يقطينة بأربعة مصاري، ورطل اللحم بنصف قرش والبطيخة بنصف ربع ريال، إن كانت صفراء أو خضراء، والخيار الرطل بمصريتين. وقد دام هذا الأمر سبع أو ثمان سنين، لكن في هذا العام قد زاد الحد، والحكام لم يفتشوا على الرعية، وهذا مع قلة البيع والشراء والكساد وكثرة الديون على العباد، وظلم بعضهم البعض، وقد ضاقت على العباد فسيح الأرض والحكم لله. وفي يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر رجب في هذه السنة تسع وخمسين ومئة وألف جمع حضرة أسعد باشا العظم أكابر الشام وأعيانها في المحكمة، ووقف جميع أملاكه على أولاده، ثم على أولاد أولاده على حسب ما اشترط في الوقفية، وفرّق على أولاد عمه ما كان لهم، وقد كان ضبط مال محمد آغا ابن الديري وعمل حسابه على عقله، فظهر لحضرة أسعد الباشا أنه قد تبقى له مع ابن الديري المذكور اثنا عشر كيساً. ثم جاءت الأصناف وأخبرت حضرة الباشا بأن لهم متبقى في ذمة ابن الديري من أيام أبيك إسماعيل باشا وعمك سليمان باشا. وفي أيام دولتك اثنا عشر ألف قرش ولجوا في طلبها. فقال: الحقوه وخذوهم منه، فأنا باقي لي معه اثنا عشر كيس ذهب، فليس لكم فائدة في هذا الطلب، فكل منهم ترك ماله عند الله وذهب. وفي ليلة الجمعة لخمسة وعشرين من شهر رجب خرج أسعد باشا إلى الدورة من هذه السنة. وفي ليلة الثلاثاء التاسعة والعشرين من شهر رجب من هذه السنة توفي مصطفى أفندي زاده قاضي الشام، وصار ولده نائباً عنه بمكانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وفي نهار الجمعة في الثاني والعشرين من شهر شعبان من هذه السنة قدم محمد آغا بن فروخ بمنصب دفترية الشام، مكان فتحي أفندي الفلاقنسي، وأقام في داره المشهورة بهم. وفي خلال هذه الأيام زاد الهم على الناس واشتد بهم وقوف الحال مع شدة الغلاء، والخبز بستة مصاري كما قدّمنا، حتى صار رأس الكرنب الذي قدر النارنجة بمصريتين، والباقي على هذا المنوال فالأمر لله الملك المتعال. وفي خلال هذه الأيام من هذه السنة جاء مقرر طرابلس الشام إلى حضرة سعد الدين باشا، وكان مع أخيه في الدورة، فرجع مع أخيه إلى دمشق، وأقام قليلاً، وسار طالباً منصبه، وفقه الله. وفي هذه السنة كان ثبوت رمضان ليلة الاثنين، والعيد الأربعاء والصوم تمام. وفي نهار الجمعة بعد الصلاة في سبعة شوال من هذه السنة خرج حضرة والي الشام وأمير الحاج أسعد باشا العظم قاصداً الحج الشريف، والحاج خرج يوم عشرين. ولما سافر حضرة الباشا ترك المتسلم بها وهو موسى كخية مكانه في الشام. فجاءه الخبر بأن الزرباوات وهم الأشقياء المطرودون مرادهم بأن يأتوا إلى الشام على حين غفلة من أهله، ويقتلوا جماعة من الذين تسببوا في طردهم، فاضطرب المتسلّم المذكور، وأرسل استجلب عبد الله الترك آغة الدالاتية المطرود وقوى شوكته وكثر جماعته. وصار محمود آغا آغة الدالاتية التفكجية يدور ويطوف ليلاً خارج دمشق، والدالاتية تحوم حول البلد، وقد أقلقوا الخلق وزاد النكد، ولا زال هذا الحال مدة غيبة الباشا والحاج. سنة 1160 ثم دخلت سنة ستين ومئة وألف، وكان غرة محرمها نهار الخميس، وفي نهار الاثنين خامس محرم الحرام من هذه السنة الموافق لأول كانون الثاني زادت المياه بسبب سيل عظيم، ودخوله للشام كان نصف الليل، فحصل طوفان لم يسمع له نظير من قديم الزمان، هجم الماء من نصف الليل إلى الشام، وأغرق جميع ما كان في طريقه من الدكاكين، وأتلف أموالاً كثيرة لا تعد ولا تحصى، حتى صار المرجة كالبحر، ومع ذلك الماء يخطف الطير، وله خرير ودويّ وهدير. وقد غطت هذه الزيادة حجر تاريخ القلعة، ومرت في الأسواق والدور وأخرجت شيئاً غير محصور، وقد صارت تحت القلعة وفي المناخ بالارتفاع طول قامة الإنسان. قال المؤرخ البديري: وقد دخلت إلى قهوة المناخلية بعد انصراف الماء فوجدت الماء في أعلى مساطبها أعلى من ذراع، وقد شاب من هولها الكبير والصغير. وقد غرق بها أناس غير محصورين، مع ما أتلف من البهائم والأموال وقد أضرت بجميع ما مرت عليه وانهدمت أماكن كثيرة لا تحصى وتركتها بلاقع. نسأله تعالى اللطف في المقدور آمين. وفي خامس صفر كان قدوم الحاج الشريف، وقد أخبرت الحجاج بأن هذه السنة من أجمل السنين وأحسنها، وجميعهم شاكرون وداعون لحضرة أسعد باشا بالدوام، من كثرة ما حصل لهم في الطريق من الراحة والخير والإنعام من حضرة الباشا لعموم الحجاج، فجزاه الله أحسن الجزاء آمين. وقدم مع أسعد باشا من الحجاز في هذه السنة باكير شاه والي جدة، وأقام في دار فتحي أفندي المتقدم نحو شهرين في الشام، ثم سار قاصداً حماه، ولم يعلم ما سبب مجيئه. وعاد أيضاً مع الركب الشامي شيخ الإسلام وأقام مدة في الشام، وسار طالباً إسلامبول. وكان رجلاً كبير السن وقوراً، ما حرّك ساكناً في الشام مدة إقامته. وبعد قدوم الحج خزنة مصر إلى الشام، وقد تأخرت عن ميعادها. وقد شدد الطلب حضرة أسعد باشا بعد مجيئه من الحج على الزرب الأشقياء، فقبضوا على أمين ابن الحديد وعلى عبده بن حمزة عنبر، فأمر بقتلهما فقتلا شر قتلة. وقد زادت الدالاتية الاعتداء والجور، وخربوا البلاد والقرى، فكثرت الشكاية منهم إلى والي الشام أسعد باشا، فكتب للدولة عليهم في شأنهم، فجاءه مرسوم بإبادتهم، فأمر منادياً أن ينادي كل من أقام من الدالاتية في الشام أكثر من ثلاثة أيام من أهل الفساد والعناد فدمه مهدور، ثم بعد أيام ظهرت الدالاتية ولم تتم القضية والحكم لله عالم الخفيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وفي يوم الأربعاء جاء خبر بأن عرب عنزة نهبت عرب الرشا، وأن الأكراد الذين كانوا مع عرب عنزة أخذوا جميع ما نهبوه وسلبوه من مال وجمال وغنم ونساء. وكانت الغنم كثيرة لا يحصي عددها إلا الله، وأن الواقعة كانت مهولة، وأنه قتل من الفريقين خلق كثير. والمساعد للعرب حضرة أسعد باشا على ما قيل. فجاؤوا بالأغنام إلى الشام. وقد كان أهل الشام في غلاء اللحم وأكل الذرة والشعير لهم سنين، فبيع رطل اللحم في هذه السنة بسبعة مصاري وثمانية إلى العشرة، مع علم الناس أنه سلب حرام، فمنهم من ترك أكله وهم أقل من القليل، والباقي وهم عموم الناس لم يبالوا. فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال المؤرخ البديري رحمه الله: وكان الجراد مفرزا من العام الماضي في الشام وأراضيها، فلما جاء الربيع صار يظهر شيئاً فشيئاً إلى أن ظهر مظهراً شنيعاً، وبدأ يزحف مثل النمل والذر، فبدأ يأكل الزرع ويتلف النبات، فوقعت الناس في كرب عظيم. فنبه حضرة أسعد باشا حفظه الله على الفلاحين عموماً بأن تجمعه وتأتي به. وقد فرض على الأراضي الخُمس كل أرض قنطارين، وكذلك القرى والضياع، كل ضيعة شيئاً معلوماً يجمعونه. فجيء به أحمالاً وأمر به أن يدفن، فدفن منه بعض في مغارة عند مقبرة البرامكة وردم عليه، ثم صاروا يحفرون حفاير في قبور النصارى واليهود ويضعونه فيها. ثم لم يزل يكثر وينتشر، فأمر حضرة أسعد باشا أثابه الله بأن تعاد الفريضة على كل قرية من قرى دمشق، مئتا قنطار، وأن من لم يأت بالمطلوب فعليه جزاء كذا، وأمر أيضاً حفظه الله بعض المأمورين أن تضبط عليهم، وأن يضعوه في جبل الصالحية في آبار ومغاير. قال المؤرخ البديري: وبلغني أنه في ثلاثة أيام وضعوا في الصالحية ألف وسبع مئة قنطار من الجراد، عدا ما وضع في المغاير والآبار في غير الصالحية. وفي يوم الاثنين سلخ ربيع الثاني من هذه السنة جاء خبر إلى دمشق بأن الطير المسمى بالسمرمر قد جاء ومرّ على قرية عدرا وضمير، وأتلف من الجراد شيئاً كثيراً، ففرحت أهل البلاد سيما أهل الشام. فخرجت أهل الصالحية ومعهم المشايخ والتغالبة والنساء والرجال والأطفال بالبكاء والعويل والتضرع إلى الله تعالى بدفع هذا البلاء ورفع الغلاء، ثم زينت أهل دمشق فرحاً بوصول السمرمر أحسن زينة. وفي هذه الأيام شاع خبر بدمشق بأن في الشام امرأة يقال لها السماوية تمسك الأولاد بالاحتيال والرجال أيضاً، لأجل أن تخرج السمّ منهم، فخافت الناس وكثر الفزع، وصارت الناس توصي بهم بعضاً منها. وبعد مدة أيام وقعت ضجة بين الناس، فقيل ما الخبر، قالوا: قبضوا على السماوية، وإذا هي امرأة عجوز قبضت عليها العامة، وخلفها الأولاد والرجال كالجراد، وهم يضربونها ضرباً وجيعاً، وذهبوا بها لعند القاضي، فسألها عن حالها ومن أين أتت. فقالت: والله يا سيدي أنا امرأة فقيرة الحال ولي أولاد وعيال، وهذا القول عني زور وبهتان. قال: فأمر القاضي بتفتيشها وتفتيش بيتها، ففتشوها فإذا معها لعب يلعب بها الأولاد والأطفال، وفي جيبتها طواقي كبار وصغار، ثم ذهبوا وفتشوا بيتها، فلم يجدوا فيه غير متاع عتيق وقطعة من الحصير، ثم شهد جيرانها بأنها امرأة فقيرة الحال، ولها زمان قاطنة في هذا المكان، ولم نعلم لها سوء حال، ثم أطلقوها فذهبت لحال سبيلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ثم في تلك الأيام كثر الجراد وأضرّ بالعباد، وكأن الناس لم يجمعوا منه شيء كذا، وهذا كله مع ازدياد الفجور والفسق والغرور والغلاء والشرور. فخرج الشيخ إبراهيم الجباوي ومعه التغالبة بالأعلام والطبول، وقصدوا زيارة السيدة زينب، واستغاثوا عندها بكشف البلاء عن العباد، ورجعوا آخر النهار، ثم داروا حول مدينة دمشق، ومروا أمام باب السرايا وعملوا دوسة، وصار حال عظيم وبكاء شديد، وشعلت قناديل الرجال أصحاب كذا، وهم يدعون بهلاك الجراد ورفع البلاء. وبعد يومين جاءت أهل الميدان بطبول وأعلام وحال وصريخ، وقصدوا جامع المصلى بالدعاء برفع الجراد وهلاكه. ويقولون: يا من له المراد في كل ما أراد، بالمصطفى الحبيب فرّج عن البلاد فلم يفد ذلك. فكيف يفيد ذلك وأكثر النساء قد باحت، وبنات الهوى وهم كذا الخاطئات دائرات ليلاً ونهاراً بالأزقة والأسواق، ومعهم الدالاتية والفسّاق، ولا أحد يتكلم بقيل وقال، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن المنكر، والصالح في همّ وكرب، والفاجر والطالح متقلب في لذيذ نعيم، اللهم فرّج آمين. وفي يوم الخميس ثامن جمادى الأولى من هذه السنة أمر حضرة الباشا على الإنكشارية في الشام والزعماء والسباهية وكل قرية عشرة أنفار بالمسير إلى جبل الدروز، وأمر أن تعمّر في البقاع أفران لأجل خبيز الخبز. وبلغنا أنه جاءه فرمان بأن يكون معه باشا صيدا وباشا طرابلس لمساعدته، وأمر المتاولة بأن تساعده على حربهم. وكان الزمن في شهر أيار، والزروع في الأرض باقية، ما حصد منها شيء، فخافت الخلق من تلك الأحوال، والغلاء واقع بالشام، ورطل الخبز من سبعة إلى ثمان مصاري. وفي ليلة الخميس خامس عشر جمادى الأولى من هذه السنة قتل أسعد باشا العظم السيد صالح بن إبراهيم بيك السوقية. فسألنا عن السبب، فقيل إن أباه اشتكى للباشا أن ولده صالح تكلم مع أبيه بكلام فاحش، وأراد أن يقوّسه، فأرسل حضرة الباشا وأمر أن يؤتى بولده مهانا، وعند المساء أمر بخنقه فخنق ورمي، والأمر لله. وفي يوم الجمعة بعد الصلاة برز حضرة أسعد باشا إلى المرجة وأمر بأن تعرض عليه عسكر الشام من الإنكشارية والزعماء، ثم رحل، وبعد ثلاث أيام من رحيله تبعته أوجاقات الشام. ولما وصل إلى البقاع خرّب بعض قرى للدروز وحرق ونهب وقتل، ثم أغار هناك على عرب يقال لهم الفريخات، وهاوشوه مدة أيام، ثم نجوا بطرشهم والعيال، وتركوا الخيام والمال، وذلك بعدما قتلوا جماعة من عسكر الباشا وجرحوا. وبلغنا أنهم كانوا طائعين. وأرسل يطرح بقرهم على الضيع والأصناف، وعمل عملاً يؤدي إلى الخلاف، ثم نزل في البقاع وأمر بحصد زرع الدروز، فحصدوا مغل البقاع. والغلاء متزايد، والجراد في أرض الشام زايد، لكن الله ملجمه رحمة بخلقه. وفي يوم الخميس ثامن جمادى الثانية قبل قدوم مربعانية الصيف بخمسة أيام صار رعد وبرق مخوف، وأرمت السماء بمطر كأفواه القرب، وقبل ذلك بأيام صار رعد كثير من غير مطر. فهذه الأحوال عبرة لمن اعتبر. وقد بلغني عن حضرة أسعد باشا حينما كان بجبل الدروز أنه جاءته شكاية من أهل قتيل سني على رجل درزي، أنه كان مشاركاً لرجل تركماني على نحو خمس مئة رأس غنم، وأن الدرزي اغتال شريكه التركماني فقتله، فأمر حضرة الباشا أن يفتش على الدرزي، فقبض عليه وأمر بقتله، فقتل، واستلب الغنم التي عنده وأرسلها إلى الشام، وبيعت طرحاً على لحامة الشام، كل رأس بثمانية غروش، والذين اشتكوا ما أعطاهم درهماً ولا ديناراً، ولله الأمر. وفي هذه الأيام ورد إلى دمشق الشام ثلاثة يهود من مدينة حلب، ولهم مهارة في ضرب الآلات بأحسن النغمات، فصاروا يشتغلون في قهاوي الشام، ويسمعهم الخاص والعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وفي منتصف جمادى الثانية بلغني أن بعض عسكر أسعد باشا قيل هم المغاربة تحرش بالدروز، وذلك حينما كان الباشا وعساكره مخيمين ببلادهم، وأطلقوا عليهم الرصاص، ووقعت المناوشة بالقتال، نهض حضرة الباشا على قدميه، وكان جالساً على الغداء، وأخذ بيده رمح كذا وقيل تدرّع، وطلب أمام عسكره القتال، وأخذ بين يديه إنكشارية الشام، وكان عليهم محمد آغا بن عبد الله آغا كمش أغلى. فصاح الآغا على جماعته وطلب الغارة وحده وتبعه الباشا وبقية العسكر، وجرّوا المدافع وجدّوا الغارة طالبين فم الجبل، والرصاص منهم وعليهم مثل المطر، فكان أول من انهزم عسكر الدالاتية أهل الكبر والجبروتية. ولم يصب أحد ولله الحمد من عسكر أوجاق الشام سوى رجل من إنكشارية بعلبك. ثم إن حضرة أسعد باشا عنّف عسكر الدالاتية بعد غضب منه شديد، وقال لهم: تباً لكم من أعوان، ولمن اتخذكم من أنصار، تأخذون العلايف والمال وتهربون من الحرب والقتال، والمتطوعون يقاتلون لله ورسوله، ويتسابقون للحرب، مع ما قد فعلت معهم من الفعال من قتل وسلب وخراب ديار، ولكن سوف أعرف لهم هذا الأمر وأزيل عنهم الشر والقهر. ثم إنه دعا أوجاق الشام وأوعدهم بالإحسان والإكرام. ثم بقي كذا الحرب في اشتعال بقية ذلك النهار، ثم أخذ حضرة الباشا المدافع إلى الجبل، وحلف الأيمان المعظمة أنه لا يرجع عن الجبل، حتى يرمي كل من فيه بالهلاك والتلف، ويجعلهم أحاديث. ثم كتب إلى حمص وحماه والمعرّة والشام بأن يجردوا له الرجال الأجلاد، وطلب من كل قرية خمسة عشر نفرا، وعمل على أهلها كل واحد أجرته نصف غرش، وأرسل فرض عليهم بعض أنفار، وأكثر عليهم من فرائض الأموال. وشدد الأمر على الناس حتى ضيّق منهم الأنفاس، وزاد عن القياس. وكان قد قتل من أهل الجبل أربعة أنفار من كبارهم مع من قتل ذلك النهار، ومع ذلك فقد طلبوا الصلح ووزنوا له المال، فأبى إلا القتل والسلب. وكان قبل الواقعة بأيام أمر حضرة الباشا بأن تحصد الغلال التي للدروز وغيرهم وأمر بضبطه، وكلما جمعوا شيئاً نهبوه، وقد كانت بركات كثيرة، لأن إقبال هذا العام شيء كثير ما سمع بمثله، وغالبه اندرس تحت الأقدام. وكان رطل الخبز بدمشق بستة مصاري. فلما جاء القمح الجديد باعوه بخمسة مصاري، وبعد يومين نادوا على الرطل بثلاثة مصاري. وقالوا: يا رعية قد أنعم عليكم رب البرية، رطل الخبز بثلاثة مصاري. وثاني يوم اشتغل البرطيل والرشوة للمتسلم موسى كخية وغيره من لأهل الظلم، فحالاً سمعوا منادياً ينادي لا أحد يبيع رطل الخبز بأقل من أربعة مصاري. وقيل كان ذلك من شيخ الطحّانة، وكان يُلقب بالتخان، عامله الله بما يستحقه آمين. وكانت الحركة المتقدمة التي أزعجت الباشا سببها من الله، والجزاء من جنس العمل، لأنه حضرة الباشا قد أخذ بيد التخان المذكور، وهو شيخ الطحانة، وقد أمره الباشا أن يبيع قمحه على سعر الغرارة بخمسة وثلاثين قرشاً. ثم بعد مسير الباشا وهو يوم الحركة كان قد نزل سعر القمح، فصار ثمن الغرارة خمسة وعشرين غرشاً، فلم يقدر أحد أن يبيع بهذا السعر إلا خفية. وقد ضاق الأمر على الفقراء والمساكين. وكان كل من تحرك من العامة ربطوه بحبل طويل، وجرّوه إما إلى العذاب وإما إلى القتل وسلب المال والعرض. والأمر لله العلي الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قال المؤرخ البديري: وقد بلغني عن أسعد باشا وهو نازل إلى جبل الدروز بلغه بأن ضيعة من ضيع البقاع إلى الدروز، فأمر بعسكره بنهبها وسلبها، فلما وصلوا إليهم تلقتهم أهلها بالبشر والفرح والسكون، وهم عمّا يراد بهم غافلون، ثم أنزلوهم وذبحوا لهم وضيفوهم، فنزلوا وأكلوا واكتفوا، ثم قاموا وجردوا عليهم السيوف، فصاحوا عليهم لا تفعلوا أنتم أصدقاؤنا ونعم الضيوف. فلم يسمعوا بل قتلوا منهم جماعة وجرحوا، فطلبوا الهزيمة حالاً وفروا من وجوههم، فنهبوا متاعهم ومصاغهم وأموالهم. ثم طلبوا النساء فانهزمن من بين أيديهم، ودخلوا بعض البساتين هناك، وكانوا يزيدون على ثلاث مئة امرأة وبنات أبكار، فهجم عليهم كذا ذلك العسكر، ومسك كل واحد منهم واحدة، وهم يصطرخون بالبكاء والعويل، فلم يجدن مساعداً حتى فعلوا بهن المنكر. وهذا نقله لي من اطلع على حقيقة هذا الخبر. وحرقوا القرية بعدما نهبوا جميع ما فيها وترك أهلها بالويل والتنكيل. وحسبنا الله ونعم الوكيل. وكان ذلك قبل الوقعة، وقيل هي سبب الفتنة. ولما جمع حضرة أسعد باشا الجموع وملأت البراري والربوع، فكان من جملة من قدم لعند الباشا محمد باشا صيدا، وكان رجلاً كبير السن، قد جرّب الدهر وأهله. فتلقاه أسعد باشا بالعز والإكرام وشكى إليه ما فعلته الفرقة الدرزية من الغدر والقتال، وسأله المعونة على هذا الحال. فلامه محمد باشا على ذلك، وأمره بالكف عن قتالهم، وقال له: هذا أمر يعود علينا وعليك بالتلف، ولا ترضى الدولة به لأنهم أي رجال الدولة يريدون العمار للبلاد ويكرهون الجور والفساد، قادرون على إرسال عشر وزراء بيوم واحد، ولا يقدرون أن يعمروا في عشر سنين قرية إذا خربت من هذه القرايا، ولأجل خاطري أيضاً صالحهم، وخذ مالك عليهم من المال المعلوم واترك أولادهم. وكان أولاد أمرائهم قد حبسهم أسعد باشا في القلعة، ولهم أكثر من سنتين، وهم صغار غير بالغين. ثم شدّد عليه بذلك. فأجابه لذلك حضرة أسعد باشا، لكن ظاهراً لا باطناً، لأن مقصود الباشا المذكور تدميرهم عن بكرة أبيهم، وهذا من قبيل المستحيل. فقال له حضرة أسعد باشا: أنت إذن دبّر هذا الأمر برأيك. فقال: دعنا نشترط عليهم ما تريد من الشروط. فحلف له أنه لا يشرط عليهم شرطاً ولا يأخذ مالاً ولا يفعل معهم شيئاً. ثم ودع محمد باشا باشة صيدا بعدما عظمه واحترمه، وأضمر خلاف ما أظهره. وبلغني أنه بالوقت أرسل خبراً إلى الدولة العلية يطلب لأخيه مصطفى بيك الوزارة بصيدا، حتى يفعل بالجبل ما أراد، ويشفي منهم الفؤاد. وقيل إن باشة صيدا أرسل يطلب من أهل الجبل إلى أسعد باشا جملة من المال، فحلفوا له أن لا يعطوه ولا عقال، ولكن إذا أرسل أولادنا أرسلنا له أربعين كيساً، الذي كذا هي علينا معتادة، وإلا دعه يفعل ما أراد، فوالله إن حرّك ساكناً لنهدمنّ عليه البلاد، فنحن ما الذي فعلناه حتى يقابلنا بهذه الأمور، أما كفاه أنه أهرق دماءنا وأباح مالنا ونساءنا، وقد أعدم لنا أكثر من مئتي كيساً من الحنطة والحبوب. هذا وأسعد باشا قد فرّق ما جمع، وعيونه من غيظه تدمع، وبقيت الأمور تحت الأوهام. وقد عادت الأوجاقات السباهية والإنكشارية إلى الشام، ولم تنتظم الأمور والأحوال، والحكم لله الملك المتعال. وفي شهر رجب من هذه السنة، وهي سنة ستين ومئة وألف وقع حرب بين بني صخر وعرب عنزة في بلاد حوران بسبب استيلاء أغنام بعض القبائل. وفي هذا الشهر أيضاً وصل خبر إلى دمشق بأن الدروز نزلوا من الجبل ونهبوا وسلبوا، وحرقوا ثمانية عشر قرية من بلاد البقاع، وحاصروا بعلبك وضيقوا عليها الحصار. وفي يوم الأربعاء ثامن رجب ورد من صيدا عبد الله باشا ابن الكبرلي، وكان مجيئه من جهة إسلامبول، وشاع عنه أنه يريد الحج ونزل بدار أبو شنب. وفي يوم الاثنين من هذا الشهر توفي الشيخ عبد الرحيم بن الإسطنبولية رحمه الله. وبهذا النهار ضربت مدافع، فسألت عن السبب، فقيل: إن صيدا جاءت إلى موسى كيخية متسلم دمشق من قبل أسعد باشا. وكان هذا الرجل أولاً كيخية عند إسماعيل باشا ابن العظم. وجاء مع القبجي فرمان بأن نشدّ الرحال لقتال الدروز، وأن يضيقوا عليهم وأن يدمروهم عن بكرة أبيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وفي يوم الاثنين سابع شعبان من هذه السنة أمر حضرة أسعد باشا الدالاتية والأطلية بأن تركب وتغير على أرض البقاع ومن فيها من الدروز، فيقتلوا ويأسروا وينهبوا ويفعلوا ما أرادوا. ثم بلغني أنهم أغاروا على جماعة من الدروز وهم على حين غفلة، فقتلوا منهم ومن مشايخهم، وقبضوا على الباقين منهم، ونهبوا الأموال والدواب والغنم والنساء والأولاد، وجاءوا برؤوسهم إلى دمشق. فكان يوم مجيئهم يوماً تقشعر منه الجلود مع الجلال. فنسأله تعالى أن يصلح الأحوال، ويرحم أهل الشام ويرخص لهم الأسعار. وفي يوم الخميس عاشر شعبان عمل الشيخ إبراهيم الجباوي متولي جامع الأموي فرح عرس إلى ابن ابنه، وأمر أن تزين الأسواق بالقناديل والشمع، وأمر أن تشعل منائر الجامع الأموي فشعلت وهذا شيء ما سمعناه أنه سبق لغيره. وفي ليلة السبت مات الشيخ الولي معتقد أهل الشام الشيخ عمران بن الشيخ إبراهيم إمام داء السعادة. كان رحمه الله من أرباب الأحوال، وكان له سنة أصابع في يده اليمنى، وكان يكتب خطاً حسناً بيده اليسرى ويقلد كل خط، وكان حسن الصوت بقراءة القرآن. ودفن بباب الصغير بجوار سيدنا بلال رضي الله عنه. وفي هذا العام جاءنا الخبر بوفاة أحمد باشا بن حسن باشا والي بغداد وقيل إن سبب موته أن الدولة أرسلت له فروة مسمومة فلبسها فدب السم في بدنه، فمات رحمه الله. كان رحمه الله شجاعاً مقداماً مدبراً للأمور أطاعته العباد ودانت له البلاد، وقد دفع عن بغداد كل جبار، ولقد قصده طهماسب الخارجي ومعه عسكر جرار، وحاصر بغداد أشهراً فلم يقدر على فتحها فرجع ذليلاً صاغراً، وطلب بلاد الهند والتتر، فسلط عليه ولده فقتله ودمره، وتولى ولده مكانه، ولم يخرج على الدولة وكان اسمه دبوس. ولما توفي أحمد باشا والي بغداد أرسلت الدولة إلى بغداد والياً كور محمد باشا، وكان صدراً أسبق، فلما استقر ببغداد، طلبت منه الإنكشارية العلايف أي المعاشات. فقال لهم: علايفكم عندي. قالوا: لا، فقد كان أحمد باشا الذي كان قبلك يعطينا إياها من ماله، ولما تأتي له من الدولة يأخذها. قال لهم: أنا لا أفعل. قالوا: لا بد من ذلك وشددوا عليه بالكلام، وكانوا مثل البحر الزخار. فقال: إن كان ولا بد من ذلك فأرسلوا إليّ من أكابركم من كل بلد ثلاثة رجال، حتى يستلموا المال ففعلوا، ولما حصلوا عنده أمر بقتلهم ورمي جثثهم. فلما رأوا إلى ذلك أسرعوا إلى القلعة ورموا عليها بالمدافع والبارود، حتى هدموا سرايته، وقتلوا آغة جماعته. فخرج الباشا من سرداب تحت الأرض ينفذ من خارج البلد وفرّ هارباً إلى بلاد العجم. ثم كاتبت أهل بغداد إلى الدولة العلية بأن يرسلوا والياً لبغداد عليهم سمّوه لها، كان عند مخدومه أحمد باشا المتقدم، وكان فيه استعداد تام، فأرسلوه لهم وقد رضوا به. وفي سابع وعشرين من شعبان قدم أسعد باشا من الدورة، وكان دخوله قبيل المغرب، وجاءت معه مغاربة كثيرة. وفي هذه السنة صار ثبوت رمضان الأربعاء، وضربت المدافع ليلتها في الساعة الخامسة، وبعض الأئمة صلى التراويح تلك الليلة. وقد صارت غرارة القمح بعشرين قرشاً، والله يعيننا على هذا الغلاء، الذي هو رطل الخبز بخمسة مصاري، والأرز بإحدى عشرة مصرية، والباذنجان بأربع مصاري. وفي ثامن رمضان جاء من اصطنبول شيخ الإسلام يقصد الحج إلى بيت الله الحرام، وخرجت لملاقاته أعيان الشام، ومكث اثنا عشر يوماً، وتوفي لرحمة الله تعالى وصار قبره بالشام، ودفن بباب الصغير قبلي سيدنا بلال رضي الله عنه. وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رمضان نبّه أسعد باشا بأن يكون الريال بقرشين إلا ثلث، وكان أولاً بقرش ونصف وأربع مصاري، وكان عيد الفطر في هذه السنة نهار الجمعة. وفي يوم السبت سادس عشر شوال خرج المحمل الشريف صحبة أمير الحاج أسعد باشا العظم حفظه الله، وأقام نائباً عنه بدمشق متسلماً موسى كيخية المتقدم ذكره. وقد جاء خط شريف بعد خروج الباشا إلى الحج بإخراج أولاد الدروز من القلعة، فأخرجهم المتسلم، وصار في الجبل فرح عظيم. ولو كان أسعد باشا في الشام لما أخرجهم، لأنه طالما جاءته أوامر بإخراجهم فلم يخرجهم. وفي هذه السنة المطر قليل والغلاء كثير، وكان غالب قوت أهل الشام خبز الذرة والشعير، والفقراء مالهم من دون الله معين ولا نصير. سنة 1161 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ثم دخلت سنة إحدى وستين بعد المئة والألف، وكان أولها محرم الثلاثاء، وقد خربت القرى من جور الدالاتية، ومن أعمالهم التي هي غير مرضية. قال المؤرخ البديري: وفي محرم توفي شيخنا ومحبنا الشيخ محمد المصري الأزهري الملقب بأبي السرور، ودفن بمرج الدحداح قريباً من النهر بقبر مبلط بشاهدتين. كان رحمه الله تعالى عالماً فاضلاً ديناً. ومن مناقبه أنه ما اجتمع به أحد إلا وحصل له سرور وفرح، ولو لم يتكلم، وهذا أكبر دليل على صلاح طويته. وفي نهار السبت سادس وعشرين محرم جاء جوقدار الحج، وبشّر بأن هذه السنة لا نظير لها في الرخص والرخاء. وفي خامس صفر جاء كتّاب الحج وأخبر أن الحج متأخر من كثرة الثلج والمطر. وفي ليلة الثلاثاء من صفر الخير دخل الحاج ليلاً، وثاني يوم الأحد دخل أمير الحج أسعد باشا وأخوه سعد الدين باشا أمير طرابلس الشام. وقد حصل للحجاج في هذه السنة كل خير، ولم يروا مكدراً سوى سيل جاءهم وهم في بدر، فأتلف وأغرق، وفي محلة العلا نزل ثلج ومطر وبدر، وصار للحج مشقة. لكن بها لطف عظيم. وفي غيبة الحاج جاء تقرير إبقاء لأسعد باشا في الشام. وفي يوم الخميس سابع عشر صفر أجازنا الشيخ أحمد بأن نقرأ كل يوم عقب صلاة الصبح بعد الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم يا عزيز سبعة وثمانين مرة، وأخبر أن خواصها عظيم، وأن يدعو المرء بعدها بما أحب، فإنها تجاب دعوته. وفي اثنين وعشرين صفر الخير وردت خزنة مصر إلى دمشق والغلاء مشتد في دمشق، حتى صار رطل اللحم بثلاثين مصرية، ورطل الأرز باثني عشر مصرية، والخبز رطله بخمسة مصاري وبستة وبسبعة وكل من يبيع برأيه. وفي آخر ربيع الأول من هذه السنة نادى حاكم الشام أسعد باشا على الفلوس كل تسعة بمصرية، والمصاري الفضة كل ستة وثلاثين بقرش. وفي يوم الأحد ثاني ربيع الثاني قتل محمد آغا ابن الزرخلي، وهو كاتب العربي في طرابلس، وكان مع سعد الدين باشا حاكم طرابلس في الجردة، فلما رجع ووصل إلى الشام أمر أسعد باشا أن يرفع للقلعة، وبعد أيام أمر بقتله، فقتل، ولم يعلم ذنبه. وفي نهار الثلاثاء آخر جمادى الثانية من هذه السنة وقعت الفتنة بين الأشراف والقبقول. وسبب ذلك أن رجلاً شريفاً اشترى من رجل شريف طبنجة وأراد أن يجربها، فأتى إلى الخندق ليجربها، فلما ضربها سمع صوتها آغة القبقول، وكان نائماً، فاستيقظ مرعوباً، وقال: ائتوني بمن يضرب بهذه البارودة، فجاءت أعوانه وقبضت عليه وعلى جماعة كانوا معه، وأخذوهم إلى أغاتهم، فأمر أن يضرب كل واحد منهم ثلاث مئة سوط، فضربوا ضرباً وجيعاً وتركوا كالأموات، ثم وضعوا شاشاتهم في لباسهم فبلغ نقيب الأشراف ما فعل بهم؛ فأرسل وأتى بهم إلى داره، وفي اليوم الثاني قامت الأشراف على قدم وساق، وهجمت على القبقول وتقاتلوا، فقتل من الأشراف ثلاثة، وجرح كثيرون وسكّرت البلد كلها. وفي اليوم الثالث صار ديوان عند أسعد باشا حاكم الشام، واجتمعت فيه الأعيان كالمفتي والنقيب والعلماء، ثم انقضى الديوان، وحكموا على القبقول بأن يعطوا دية الشهداء الأشراف لورثتهم. ثم أمر الباشا بأن تفتح الأسواق ويقصد الرزاق. وكان يوم الوقعة اثنان من الأشراف الأول يقال له السيد حسن شيخ شباب باب المصلى، والثاني السيد محمد بن الدهان من السنانية كان قد كرا بعصاهما وهجما على القبقول، وردوهم إلى القلعة خاسئين، وبعد يومين وهو نهار السبت بعد العصر بينما كان السيد محمد بن الدهان ماراً في القنوات، وإذا بشخص من جماعة القبقول ضربه طبنجة، فجاءت في بطنه. فقامت الأشراف وأهل البلد، وهجمت على أسعد باشا وأخبرته بالخبر، فقال لهم: إن مات قتلت غريمه، وإلا فأنا أدبره. فمات المضروب بعد الظهر، فذهبت الأشراف إلى الباشا، فأمر بإحضار الشهود لأجل الحكم على القاتل، فذهبوا للشهود، فلم يرض أن يشهد أحد على القاتل، وقالوا: من يشهد ليقتل، ويكون خصمه نحواً من خمسة آلاف بطل شقي. وحاصله ما أثبتوا الدعوى، وتركوا دم الأشراف يروح هدراً. والأمر لله العلي الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وهؤلاء القبقول قد جاء فيهم أمر سلطاني وخط شريف بإبطالهم من الشام، وأن من استخدمهم أو ردّهم ملعون بن ملعون. فالحاكم وقتئذ تيقّن أن البلد لا تصلح إلا بهم، فأقرهم وأبقاهم. وبعدها صارت تقول القبقول: إن قتلة الشريف قيمتها أخشاية فضة. والحكم لله والغيرة لله ولرسوله. وفي ثاني يوم الجمعة عمل أسعد باشا ديواناً، وجمع فيه علماء الشام وأعيانها، وقال لهم: أنا الليلة مسافر على الدورة، فتسلموا البلد ولا تتركوا أحداً يتعدى على أحد. فقالوا: يا أفندينا نحن أناس منا علماء ومنا فقراء ومنا مدرسون، وصنعتنا مطالعة الكتب وقراءتها. فقال لهم: هذا إقراركم، وكيف وأنتم الأعيان، فقالوا: حاشا لله إنما أعيان الشام القبقول. فقال لهم: هذا إقراركم، وقد تحققتم بأن أعيانها والمحافظون لها القبقول. فعند ذلك أرسل خلف رؤساء القبقول وسلّم البلد لهم. وكان ذلك منه دهاء. ثم سافر وترك الناس تتقلب في فرش القهر والكدر. وقد كان رجل من الأشراف من جملة من كان أيام فتنتهم قد فتح دكانه بعد أن هدأت الأمور، فبينما هو يفتح دكانه إذ قبضت عليه جماعة من القبقول ورفعوه إلى القلعة، بعد أن شدوا وثاقه وثقلوه بالقيود، حتى كأنه من اليهود أو من قوم عاد وثمود، ثم فتشوا على غيره ليقرنوه، فهربت غالب الأشراف. فانظروا يا مسلمين إلى هذا الإنصاف، وقولوا: يا خفيّ الألطاف نجنا مما نخاف. وفي تلك الأيام ازداد الفساد وظلمت العباد وكثرت بنات الهوى في الأسواق في الليل والنهار. ومما اتفق في حكم أسعد باشا في هذه الأيام أن واحدة من بنات الهوى عشقت غلاماً من الأتراك. فمرض، فنذرت على نفسها إن عوفي من مرضه لتقرأن له مولداً عند الشيخ أرسلان. وبعد أيام عوفي من مرضه، فجمعت شلكات البلد وهن المومسات، ومشين في أسواق الشام، وهن حاملات الشموع والقناديل والمباخر، وهن يغنين ويصفقن بالكفوف ويدققن بالدفوف، والناس وقوف صفوف تتفرج عليهن، وهن مكشوفات الوجوه سادلات الشعور، وما ثم ناكر لهذا المنكر، والصالحون يرفعون أصواتهم ويقولون: الله أكبر. ومما وقع في شهر رجب المبارك من هذه السنة أن رجلاً زوّج ابنه وعمل وليمة عرس، وعند المساء أخذ العريس بعراضة وشمع وطبول. فخرجت عليهم أعوان المتسلم موسى كيخية، وكان رأس أعوان الحاكم محمود بشة البغدادي، وكان مدعوّاً في الوليمة، فلما توسّطوا السوق بالعراضة كان أول من بطش بهم، فتهاربت الخلق كلهم فهذا طار قاووقه، وهذا ترك بابوجه، والآخر أخذت جبته. وفي ثاني يوم أمر الحاكم بالقبض على أبي الغلام ورفعه للقلعة، وقد طلب منه مالاً عظيماً، والأمر لله العلي الكبير. وفي هذه الأيام ذبح رجل في فراشه بقرية زبدين. وفي يوم السبت سابع عشر رجب ذُبح رجل شريف في حارة باب السلام في داره وما وجد عنده أحد. وكان قبل ذلك بأيام ضرب عمَّ هذا القتيل رجل في الدرويشية بطبنجة في رقبته، فذبحته ومات لوقته. قال المؤرخ وقد رأيته بعيني وهو مرمي في الطريق، ولم يثبتوا على القاتل شيئاً. وفي نهار الثلاثاء تاسع رجب دخل مغربي إلى بعض البساتين يريد فساداً، فكلّمه صاحب البستان في الحسنى، فسبّه المغربي وشتمه شتماً بليغاً، وكان صاحب البستان شجاعاً، فقام إلى المغربي وخلّصه عدّته وكتّفه، ثم خاف من غائلة هذا الأمر، فحلّ كابه، وأعطاه عدّته واعتذر إليه، فما كان من المغربي إلاّ أن غلب عليه لؤمه، فأخذ بارودته وضربه رصاصاً، فقتله حالاً، فجاء أخو صاحب البستان فضرب المغربي بطبنجة جاءت في يده، فأراد المغربي الهرب، فوقع الصياح من الرجال والنساء، فجاء غلام فضرب المغربي بنبّوت فرماه إلى الأرض، فكتّفوه وإلى الحاكم أخذوه، فأقرّ لدى الحاكم بالقتل، وفي ثاني يوم خنقوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وفي يوم الخميس الحادي والعشرين ممن رجب ضرب مغربي حماته فقتلها. وبعد ثلاثة أيام قتل نصرانيّاً في الشاغور. وهذا المغربي بوّاب مصطفى بيك بن العظم، أخو أسعد باشا باشا الشام. وفي التاسع والعشرين من رجب هذه السنة كسفت الشمس حتى أظلمت الشام. ورأت الناس النجوم كما تراها في الليل، ومكثت مكسوفة إحدى وعشرين درجة، وصلّت الناس صلاة الكسوف في الجامع الأموي. وكان الإمام بالناس الشيخ أحمد المنيني أحد خطباء الجامع الأموي. وبلغني أنه في وقت الكسوف شعل قنديل جارنا الولي صاحب الكرامات الشيخ عز الدين أبو حمرة، ومقامه بجامعه المعروف به في باب السريجة. وفي تلك الأيام غارت العرب على جمال كثيرة في قرية القدم، وأخذت ولم يرجع منها شيء، كما وأنه في هذه الأيام غارت الدروز على قرية الزبداني وغيرها، وأخذوا منها كثيراً من المواشي والأمتعة وغير ذلك. وفي ليلة الجمعة رابع عشر من شعبان من هذه السنة خسف القمر خسوفاً بليغاً، حتى لم يظهر منه شيء، وكان ذلك في الساعة السابعة من الليل. وفي يوم الثلاثاء خامس والعشرين من شهر شعبان قدم إلى دمشق السيد أبو بكر منلا خنكار قاصداً الحج إلى بيت الله الحرام، وهو أوّل من قدم من الحجاج البعيدين. وفي ليلة الاثنين عشرة شهر رمضان المبارك قدم حضرة والي الشام وحاكمها الوزير الخطير أسعد باشا لعظم من الدورة، وهو في غاية الصحة، ولم يحصل منه ولا أدنى مكدر. وفي يوم الحادي والعشرين من شهر رمضان قتل رجل في سوق ساروجا وقبضوا على قاتله. وفي يوم الاثنين ثالث والعشرين من شهر رمضان وجد رجل مشنوق في قصر السرايا في حارة السياس الذي فيها إقميم حمام الملكة، وبقي معلّقاً قبيل العصر، ولم يعلم قاتله، فأمر الباشا بدفنه، وذهب هدراً. وفي الخامس والعشرين وجد قتيل في تربة باب الصغير عند قبر يزيد، ولم يعلم قاتله. وفي هذه السنة صمنا رمضان ثلاثين يوماً، وكان عيد الفطر الثلاثاء. وفي يوم الأربعاء سادس عشر شوال جاء الحج الحلبي، وثاني يوم سابع عشر خرج موكب المحمل الشريف صحبة أميره وأمير الشام الحاج أسعد باشا، وفي تاسع عشر تبعه الركب الشامي. وفي ليلة الاثنين قبل نصف الليل أقبل أحمد بشه بن القلطقجي وحاشيته وعبد الله بن حمزة وجماعته وكمال خليل وعنبر بشه وأحمد بشه دقماق ومعهم جماعة من الدروز الذين كانوا هاربين، ومعهم ستين رجلاً من الدروز من جماعة ابن تلحوق ونزلوا في حارة الميدان، وحرقوا بوّابة بيت القباني، ودخلوا داره بالتراويد والشوباش، ونهبوا كل ما فيه من أمتعة وغيرها، ولم يروا أحداً من الرجال، ولم يقربوا الحريم، ونهبوا حاصلين حنطة وشعير، ونهبوا دار الحاج إسماعيل بن زعيتر، وكان شيخ الجمّالة، ولم يقربوا الحريم، وكان صاحب الدار في الحج. ونهبوا دار عبد الفتاح آغا باش شاويش، لأنه كان عليهم أكبر عواني، وبعد هروبهم كان يؤذي أهلهم، ثم قبضوا على ولده، وقالوا: إن لم تعلمنا بأبيك قتلناك، وإن دللتنا عليه فعليك الأمان، فمن خوفه أخرجه لهم وهو مخبأ في قليط، فقتلوه وقتلوا معه رجلاً من حاشية السرايا كان مارّاً عليهم وهم يقتلوه. ولما بلغ موسى كيخية متسلم الشام فعلهم أرسل خلف الوالي والمفتي والقاضي، وأمرهم أن يأخذوا معهم الصنجق، ونادوا عليهم خوارج، ومن كان يحب الله ورسوله والسلطان يخرج لمقاتلتهم. فخرج المتسلم موسى كيخية ومعه القبقول والدالاتية والتفكجية، ولما قربوا من سوق السويقة نادوا عليهم وطلبوهم، وكانوا نازلين في قهوة الميدان، ثم لما وصلوا إلى باب المصلّى هجموا عليهم من كافة أقطار الميدان، وقتلوا منهم جماعة وجرحوا كثيرين، وقوّسوا فرس المتسلم وفرس المفتي ورجعوا خائبين. وثاني يوم سار إليهم الشيخ إبراهيم الجباوي نفعنا الله به، فتلقوه وقبلوا يديه، وقال لهم: يا أولادي ما مرادكم؟ قالوا: يخرج لنا محابيس الدروز ومجيئنا لأجلهم. فقال لهم: غداً أردّ لكم الجواب. فأقاموا ذلك النهار بلا قتال. وثاني يوم جاء إليهم الشيخ إبراهيم، وقال لهم: يا أولادي، اصبروا حتى يأتي الباشا أو نرسل له حتى يأتي جوابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قال البديري: وقد جاء صبيحة ذلك اليوم رجل من الأتراك ومعه نفر من الدالاتية، وقد كانوا في صيدا، فأرسل حضرة أسعد باشا يطلبهم ليخدموا عند متسلمه في الشام. وهؤلاء كانوا أول من ضرب بالسيف ونهب وسلب في حركة الزرب في الشام، وكان قائدهم يسمى عبد الله الترك. ويوم الأربعاء صارت مقتلة عظيمة، ذهب فيها نحو من خمسين قتيلاً، كانوا من جماعة المتسلم والقبقول، وواحد من الدروز خرج وقتل غلامين. وصارت أهل الشام تبيت وتصبح في أشأم حال. ثم أرسل المتسلم وأتى بخمسين خيّالاً من بني صخر، وأرسل للقرى والفلاحين، حتى صار عنده عسكر عظيم. وبتلك الأيام لم تبطل طول الليل والنهار ضرب البندق والمدافع، وفتحوا عسكر الباشا دكاكين باب الجابية ونهبوا وأكلوا وشربوا وهدموا المصاطب وعملوها متاريس. وفي يوم الخميس بكّروا للقتال، وزحفوا إلى جهة السويقة، ومعهم الفعلة والمعامرية وحرقوا الدور والقصور، وبعد الظهر ضيّقوا على الزرب وهم الأشقياء، وحاصروهم وضربوا عليهم المدافع فولّوا الأدبار، فتبعوهم وقطعوا أربع رؤوس منهم، ومن جملتهم رأس موسى جربجي، وكان محسوباً من الزرب. وهو من جملة من هرب، وما قتل حتى حمل على عسكر المتسلم أربع مرات، والرصاص نازل عليه مثل المطر فأصابته رصاصة، فوقع فقطعوا رأسه وجاؤوا به إلى السرايا، وأما كور عثمان فإنه كان يقاتل خلف المتاريس، بلا سلاح بل بالأحجار، حتى أصابته رصاصة دخلت من يمين رأسه وخرجت من الشمال. فوقع وحملوه أصحابه ورجعوا مكسورين خائبين. فهجمت العساكر على الميدان، ولم يبق فيها مكان إلاّ ودخلوه، وأذن لهم المتسلم بالنهب والسلب من السويقة إلى آخر الميدان، فنهبوا وقتلوا فلم يبق دار ولا دكان إلاّ نهبوها وهدموها فسلبوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا الحريم وفضحوا نساءهم، ودام ذلك إلى وقت العصر. ثم جاءت جماعة من الزرب، ومعهم فرقة من الدروز وجماعة من أهل الميدان، فردّوهم عن بقية الميدان، ثم لما علمت هذه الجماعة الذين ردّوهم أنهم لا طاقة لهم بتلك الجموع فرّوا هاربين بالليل، ومعهم جماعة من أهل الميدان. ولما طلع النهار نادى الحاكم بالأمان، وأن تفتح الأسواق ولا أحد ينهب، وكل من ينهب أو يأخذ شيئاً فروحه وماله يسلب. ثم طلع آغة القبقول على الميدان، وخرجت الناس لتنظر ما جرى بها. قال المؤرخ أحمد البديري: وأنا سرت مع من سار، فوجدناها قاعاً صفصفاً، والقتلى بها مطروحة والأبواب مكسرة والدكاكين مخربة وجدرانها متهدمة. والحاصل حالها حال تقشعر منه الأبدان وتشيب منه الأطفال. قال تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبِما كسَبَتْ أيديكم، ويَعْفُو عن كثير " الشورى 30. وأصبح نهار الجمعة وأهل القبيبات وما بقي من دور الميدان وباب المصلى والسويقة ينقلون أمتعتهم وما بقي منها إلى داخل المدينة والقنوات وباب السريجة، ووقع الإرجاف والخوف والهمّ والغمّ في دمشق الشام. وقد خافت الأكابر والعوام، حتى أصحاب الدكاكين صاروا ينقلون ما عندهم ويضعونها داخل البيوت. وكانت الدور التي انتهبت في تلك الواقعة ألفاً وتسع مئة دار. وأما الدكاكين فلا تحصى بالعدد ولا بالحساب. وصارت القبقول يأخذون الناس ويأتون بهم إلى الحاكم ويقولون له: هذا كان يقاتل مع الزرب، وهذا مع الدروز، وهذا وهذا، فيقتلهم المتسلم من غير شرع ولا إثبات. وصار كل منهم يقصد من أعدائه أخذ الثارات. وأما بيت القباني فإنه وقع التنبيه من المتسلم أن من أخذ منه شيئاً من العامة يأتي به، فصارت العوام تأتي بكل ما أخذته من قمح ومتاع ودراهم، حتى إنهم جاؤوا بأكياس المال مختومة. قال المؤرخ: هكذا تكون الحظوظ وقد تشددت الأمور على أهل الشام وصاروا يسهرون بالليل والنهار، والناس في هم وغم وغلاء. وفي كل وقت يصير فزعة وتسكير دكاكين، حتى انتقلت غالب الدور التي كانت خارج المدينة إلى داخلها وإلى القلعة. وفي يوم الخميس دخل سعد الدين باشا أخو أسعد باشا العظم، ومعه عسكر كالبحر الزخار، وبلغه جميع ما صار، فغضب على المتسلم، وأضمر له التكدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وفي هذه الوقعة توفي الولي المجذوب الشيخ إبراهيم الملقب بالكيكي وكان رجلاً مباركاً، وأبوه رجل من الصلحاء من محلة القبيبات. وكان في غالب أوقاته يدق على يديه ويميل إلى ورائه وإلى قدامه، وينادي بأعلى صوته: ولك كيكي يا غوّاص، وتارة يبكي ويقول: بدّي امرأة حتى..، ويقول له الناس: أي شيء لك في المرأة؟ فقال: المرأة خبزة، وله وقائع وكرامات. ومن كراماته التي نقلوها عنه واشتهرت أنه رأى يوماً من الأيام رجلاً يبيع علب لبن، فصاح على صاحب اللبن وقال بدّي علبة، وصار يبكي ويدق بيديه، فاجتمعت الناس وأخرجوا له علبة، فقال الشيخ وهو يبكي لا أريد إلا هذه، وأشار إلى واحدة من علب اللبن، فأخرجوها له، فأخذها بيده وأفرغها على الأرض، وإذا قد نزل منها حية، فتركها وذهب، وله كرامات غيرها كثيرة. وسبب موته أنه أصابه قوّاس في رجله، فصار يبكي وينادي يا أبي يا غوّاص، قرصتني زلقطة، ومات بعد أيام، رحمه الله تعالى. وفي يوم الثلاثاء سادس ذي الحجة أرسل موسى كيخية متسلم دمشق الشام بيرقين دالاتية ومعهم بعض من جماعتهم، فجاؤوا له بإسماعيل آغا ابن الشاويش بالجنزير، وكان مقيماً في بعض القرى صوباصياً، ورفعه إلى القلعة، وكذلك جاؤوا له بأخيه سليمان آغا ابن الحملي وبأحمد آغا ابن عساكر فأوقفوهم، وذكر للمتسلم أنهم كانوا مساعدين للدروز والزرب. وفي يوم السبت كانت وقفة عيد الأضحى في دمشق الشام، ذلك العام. وقد كانت سنة كثيرة الأهوال والآلام. فقد صار فيها جدري كثير حتى أفنى وأمات أولاداً كثيرة فسبحان الباقي بعد فناء. سنة 1162 ثم دخلت سنة اثنين وستين ومئة بعد الألف، وكانت غرة محرمها يوم السبت. والمرجو من الله تبارك وتعالى أن تكون سنة مباركة علينا وعلى جميع إخواننا المسلمين. والآن الناس في شدة وحصر زائد من كثرة الغلاء والشدائد. ولكن استبشرت الناس بالخير بكثرة الأمطار التي هطلت بأول هذا العام. وقد عمل لهذه السنة تاريخاً حسناً وفألاً مستحسناً أديب الشام الشيخ عبد الرحمن، وأدرجه ضمن هذين البيتين. فقال: عام جديد نرتجي من ربنا ... فيه مزيد الخير والنعماء فعساه يغنينا بواسع فضله ... إذ عمنا أرّخت عام غناء وفي يوم الاثنين ثاني محرم هذه السنة توفي شيخنا محدث الديار الشامية، بل خاتمة المحدثين، من افتخرت به دمشق على سائر الدنيا الشيخ إسماعيل العجلوني المدرّس تحت قبة النسر بجامع بني أمية، ولم يبق أحد من أهل الشام من كبير وصغير إلا حضر جنازته. ودفن بتربة الشيخ أرسلان، رضي الله عنه. وعوّض الإسلام خيراً. وفي تلك الأيام توفي إبراهيم آغا آغة القبقول المنفصل عن منصبه أشهراً، وكان ديِّناً متواضعا ملازماً لصلاة الجماعة في الجامع الأموي رحمه الله تعالى. وفي السابع والعشرين من المحرم أقبل جوقدار الحج، وبعد ثلاثة أيام جاء كتّاب الحج. وفي ليلة الخميس دخل الحج الشريف خامس يوم من صفر الخير. وفي ليلة الجمعة توفي الشاب اللطيف ذو القدر المنيف والأصل الشريف سلاسة السادة السعدية والبضعة الصديقية الشيخ بكري بن الشيخ مصطفى بن سعد الدين، لأن أباه من بيت سعد الدين، وأمه من بيت البكري، رحمه الله وعوّضه الجنة آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وفي أوائل شهر صفر وقع بيت في حارة العقيبة على جماعة قتل منهم سبعة، ونجا رجل وزوجته، واسمه سعيد بن الشاكوش، وفي عاشر ربيع الأول صار برد شديد مؤلم، وصار يباع الفحم على الفروش، يحملونه على رؤوسهم، كل رطل بخمسة مصاري، ويدوروا به في الأسواق والحارات، وكان ذلك قبل دخول الحسوم بأيام، واستمر إلى أن دخلت الحسوم. وفي سابع عشر ربيع الأول قدم جوقدارية من إصطنبول ودخلوا على أمير الحاج ووالي الشام الحاج أسعد باشا العظم، وأظهر أنه جاءته بشارة من الجناب العالي، فأمر بعمل أعمال نارية التي تسمى شنك. فتراكضت القبقول والعسكر لنحو السرايا، فظنت أهل دمشق أن حادثة وقعت، فسكّرت البلد، فأخبروا الباشا بذلك، فقال: اضربوا مدافعاً واعملوا شنكاً آخر. ففعلوا، فهدأت الناس، وفتحت دكاكينهم. وفي تلك الأيام سكر بعض الأتراك من القبقول وجرح ثلاثة أشخاص من أهل البلد، وبعد أيام ماتوا من أثر جراحاتهم، ولم تقام لهم دعوة. وقد كثر الغلاء وزاد البلاء، فالخبز رطله بست مصاري وهو الدون، والوسط بثمانية مصاري، والمليح باثنا عشر مصرية. وأوقية السمن بسبع مصاري، وأوقية الزيت بمصريتين، واللحم رطله بست وثلاثين مصرية. وبنات الهوى دائرات بالليل والنهار. والناس في كرب عظيم. وفي شهر ربيع الأول وصل خبر لدمشق بأنه صار في طرابلس الشام غرقة أعظم من التي صارت بدمشق المتقدم ذكرها. وذلك بأن نهر طرابلس زاد كثيراً وطاف على أهلها حتى أغرق أكثر من خمس مئة إنسان، ماعدا الدّواب والأنعام والأموال. نعوذ بالله من غضب الجبّار. وفي تلك الأيام أغارت أعوان الظاهر عمر شيخ طبرية على جمال سائرة من الشام، ونهبوا أهلها وأخذوا مالها. وسبب ذلك أن في بلاده وأرضه عرب وتركمان، وكان قد أمر أسعد باشا أن يغيروا عليهم، فغاروا عليهم ونهبوهم، وأخذوا مالهم وأغنامهم، وقتلوا منهم جماعة، فأتوا بأغنامهم، ففرّقها الباشا على القرى ولحّامة الشام، والذي كان يساوي قرش طرحه غصباً بخمسة قروش وهكذا. وفي هذا الشهر صار رطل الخبز من ثمانية مصاري إلى اثني عشر مصرية، والمعروك بسبعة عشر مصرية، ورطل الثوم بأربعة وعشرين مصرية، وغرارة القمح باثنين وخمسين غرشاً، وغرارة الذرة بثمانية وأربعين، والبيض كل اثنتين بمصرية، ورطل الأرز بخمسة عشر مصرية، ورطل الفحم بستة مصاري. وكل شيء زاد عن حدّه، والحكم لله في عبده. وفي شهر ربيع الثاني قتل أسعد باشا ثلاثة أنفار من المتاولة وقتل البطحيش من جماعة الزرب الأشقياء الفارّين أيام الوقعة. وفي يوم الاثنين رابع جمادى الثانية من هذه السنة دخل قاضي الشام السيد محمد أفندي بشمقجي زاده. قال المؤرخ البديري: وبلغني أن حامد أفندي بن العمادي مفتي الشام كان قد خزّن القمح مثل الأكابر والأعيان الذين لا يخافون الرحيم الرحمن، وأن الكيّالة جاؤوا إليه وقالوا: نبيع الحنطة كل غرارة بخمسين قرشاً، فقال لهم: مهلاً فلعل الثمن يزيد. فإذا كان مفتي المسلمين ما عنده شفقة على خلق الله فلا تعتب على غيره. وفي هذه الأيام عملوا ديوان، وأخبروا أسعد باشا بكثرة المنكرات واجتماع النساء بنات الهوى في الأزقة والأسواق، وأنهم ينامون على الدكاكين وفي الأفران والقهاوي. وقال: دعنا نعمل لهم طريقاً إما بترحيلهم أو بوضعهم بمكان لا يتجاوزونه، أو نتبصر في أمرهم. فقال: إني لا أفعل شيئا من هذه الأحوال، ولا أدعهم يدعون عليّ في الليل والنهار، ثم انفضّ المجلس، ولم يحصل من اجتماعهم فائدة. وفي تلك الأيام زاد الغلاء في بلاد الشام، فبلغنا أن رطل الخبز في طرابلس بعشرة مصاري، وفي غزة والرملة بخمسة وعشرين مصرية، وفي الشام ليس واقف على سعر، وقد زاد الغلاء والبلاء والقهر. قال المؤرخ البديري: وفي هذه الأيام اشترى أسعد باشا والي دمشق الشام أملاكاً كثيرة من دور وبساتين وطواحين وغير ذلك، وهذا قبل بنائه لداره وقيساريته. وفي ثامن جمادى الثانية من هذه السنة نزل الشعير الجديد، فباعوا خبز شعير رطله بأربع مصاري، والأبيض بستة. ثم ثاني يوم خرج المنادي بأن يباع الخبز الحنطة بأربع مصاري والأبيض بستة مصاري. ولم تحصل للفقراء نتيجة، فكل يوم بسعر جديد، والله يفعل ما يريد. وفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى توفي العالم الفاضل الشيخ عبد الوهاب الدالاتي رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وفي يوم الأربعاء حادي عشر جمادى الثانية نزل القمح الجديد، وبيعت غرارة القمح بخمسة وأربعين قرشاً، وكانت قبل نزوله باثنين وخمسين، فصاحت العامة واستغاثت، ونهبوا بعض الأفران، ثم صاروا ينادوا في الأسواق رطل الخبز بثلاثة مصاري وبأربعة مصاري، فباعت أهل دمشق جميعاً بذلك الثمن، وفرحت أهل البلد كثيراً، فزيّنت البلد. وكان حضرة الوالي أسعد باشا في جنينة أبيه في مسجد الأقصاب قد عمل سيراناً ومعه أكابر الشام، فلما بلغه هذا الخبر غضب غضباً شديداً، وأمر الحاج محمود تفكجي باشا أن يأخذ أعوانه الفسّاق ويدور في البلد والأسواق، وأن ينبه على الخبازين أن لا يبيعوا رطل الخبز إلاّ بستة مصاري والأسود بأربعة، وكل من خالف يأكل علقة، والحذر ثم الحذر. فرجعوا للمنهج الأول، واسودّ الخبز وتغيّر، والله أكبر وأغير، وفي سادس عشر من جمادى الأولى صارت غرارة القمح بستة وعشرين غرشاً، فبيع رطل الخبز بثلاثة مصاري، وبدت تزول الشدة بإذن الله تعالى. وفي تلك الأيام وصل خبر إلى دمشق بأن عبد الله آغا بن حمزة وكمال خليل، وهما من رؤوس الزرباوات المنهزمين من دمشق قبض عليهم الظاهر عمر حاكم قلعة طبرية، وقطع رؤوسهم وأرسلهم إلى صيدا، وحاكم صيدا أرسلهم إلى الدولة، وأرسل يطلب فرمان شريف بأن أسعد باشا حاكم الشام لا يمرُّ في سفره بالدورة على أرض طبرية. وفي يوم الاثنين غرة رجب الفرد من هذه السنة نادى أسعد باشا حاكم الشام وأن كل من شرب بها شنق وصلب، ثم أمر برفعها، فرفعت من سائر قهاوي الشام وأسواقها. قال المؤرخ البديري: وقد صار شربها في الشام من أعظم المصائب، فصار يشربها الرجال والنساء حتى البنات، جزاه الله خيراً. وفي ثالث رجب نادت الخبازة والسوقية بأن رطل الخبز بأربع مصاري والخاص بخمسة مصاري، والذي خلط ذرة أو شعير بمصريتين، فمن كثرة فرح أهل الشام سيما الفقراء صاروا يبكون وينتحبون سروراً، حيث فرّج الله عنهم. وقد زينت غالب أسواق الشام. وفي ذلك اليوم بيعت غرارة القمح الجيد والشعير بثمانية قروش، وفرّج الله عن عباده بمنِّه وكرمه. وفي يوم الجمعة ثاني شعبان المبارك دخل خليل آغا وأحمد آغا أولاد ابن الدرزي، وواجهوا متسلم دمشق، فتلقاهم أحسن ملتقى وكان معهم بيردي من أسعد باشا، حيث واجهوه بواسطة الشيخ إبراهيم السعدي الجباوي، نفعنا الله به وبأجداده، وكانوا هاربين عند العرب، فأعطاهم الأمان، لما طلع أن ليس لهم ذنب بتلك الأعمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وكانت هلة رمضان هذه السنة، وقبل رمضان بيومين خرج قاضي الشام السيد محمد أفندي بشمقجي زاده، خرج إلى الصالحية مع حريمه، ثم رجع في وقت العصر من الصالحية وحريمه معه، وهو شاهر السلاح بيده طبنجة، وفي رجله الواحد بابوجة والثانية حافية بلا بابوج، وقد جرح من جماعته شخصاً. ولم يزل على هذه الحالة حتى وصل إلى المحكمة، ثم تبيّن أنّه كان سكراناً ... قال المؤرخ: قد فحصت عن سبب نزول القاضي بهذه الكيفية، فتبيّن الأمر بخلاف ما ذكرنا من كونه كان سكراناً، وإنَّما هو من حدّة مزاج وقع منه. والسبب في ذلك أنه كانت له سرية، وكان مغرماً بها، حتى طلق زوجته لأجلها، فأرادت زوجته أن تنكد عيشته، فيوماً من الأيام جاء بعض ضيوف لجاريته التي يحبها، فأرادت أن تضع أمام الضيوف طعام ودجاج وغيره من الذي هيّأه القاضي للغذاء في الصالحية، فمنعتها زوجة القاضي وكانت غير سخية، فلما جاء القاضي عرفته جاريته بذلك، وأنها لم تضع أمام ضيوفي طعاماً ولا غيره، ثم صارت تبكي، وكان القاضي يحبها فوق العادة، فقام على زوجته فطلَّقها، لما قيل إن ذلك كان سبب طلاقها، وقام على خدامه فجرد عليهم السلاح، وأمر الحريم بالنزول، وطلب هو المركوب، فأبطؤوا، ثم وجد فردة فنزل بها إلى الجسر، ثم ركب ونزل للمحكمة على تلك الحالة، فأظهرت أعداؤه أنه سكر والأمر بخلافه. ثم ما كفى زوجته التي طلَّقها هذا الفعل، حتى اشتكت عليه إلى الدولة العلية، فجاء الأمر بفرمان عزله وبنفيه إلى جزيرة قبرص وبضبط ماله جميعه لزوجته، فباعوا جميع متروكاته، واخذوا جميع ما عنده من المال، فبلغ ثمانية أكياس، فأعطوهم إلى زوجته المطلقة. وكان ذلك بأمر من الدولة، ثم تأسفت عليه غالب الناس، غير الذين لهم أغراض، لما كان عليه القاضي المذكور من الاستقامة والقناعة والتواضع والسخاء الكثير، حتى إنه في شهر رمضان كان يأكل قنطار من السمن ومن الأرز مثل ذلك، ومن اللحم كذلك، حتى إنه على الأقل يوجد عنده في رمضان نحو ثلاثين ماعدا الفقراء. ولما كان لا يأكل الرشوة ولا يميل في دعوى مالت أهل الشام عليه مع زوجته، حتى سمعوا بعزله كما هي عادتهم قديماً. وفي يوم الأحد منتصف شوال جاءت خزنة مصر إلى الشام. ويوم الاثنين سادس عشر شوال خرج المحمل الشريف بأميره الحاج أسعد باشا بن إسماعيل باشا العظم، وقد كانت هذه هي الحجة السابعة لحضرة أسعد باشا المذكور. وقد كان أبوه إسماعيل باشا حجَّ ستَّة. وهذه الحجّة بهذه السنة هي السابعة لأسعد باشا. وثاني يوم خروج المحمل شنق المتسلم اثنان من الأشقياء اللصوص، لهم وقوعات كثيرة، ثبت أخيراً أنهما نزلا داراً ليلاً، فسرقا جميع ما فيها من غالي الثمن، واسم أحدهما شيخ التكية. وبعد خروج الحاج الشامي بأربع أيام خرج السيد يونس شريك أسعد باشا بقافلة عظيمة ومعه جماعة كثيرة، ولحقوا الباشا والحاج إلى المزيريب. وفي هذه السنة جدَّد أسعد باشا في مدرسة أبيه إسماعيل باشا التي في سوق الخياطين الحجرات الفوقانية، وجعل في قبليها جامعاً وخطبة، ورتَّب أجزاء من القرآن وشوربة وزيتاً وغير ذلك. جزاه الله خيراً. وفي تاسع ذي القعدة سافر القاضي المتقدم ذكره لصيدا، يريد قبرص بنية النفي لها، وخرجت بعض الأكابر لتوديعه. وفي خامس عشر ذي القعدة جرَّصوا ثلاثة أشخاص ودوّرهم في كل البلد مسخمين الوجوه راكبين على حمير بالمقلوب. فسألنا عن السبب، فقيل إنهم يُسكوّن الفلوس الرملية، وهي غش فكان أحدهم كردي والثاني داغستاني. وفي ذلك اليوم أمر الحاكم بأن يخرجوا بنات الهوى، وهم الشلكات، من البلد إلى خارج البلد، وأظهر أنه يريد أن ينفيهن إلى بلاد أخرى، ونبّه على مشايخ الحارات أن من وجد في حارته ذو شبهة لا يلومن إلا نفسه، ثم نادى منادي إن النساء لا يسبلن على وجوهن مناديل، إلا حرم الباشا ونساء موسى كيخية. ثم شرع أعوان الحاكم بالتفتيش وشددوا، فانفرجت بعض الكربة، ثم ما بقي هذا التشديد غير جملة أيام، إلا وقد رأينا البنات المذكورات يمشين كعادتهن في الأزقة والأسواق وأزيد، ورجعن إلى البلد، ورتب الحاكم عليهن في كل شهر على كل واحدة عشرة غروش وجعل عليهم شوباصياً، بل قطع من الناس وسلب والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وفي يوم الثلاثاء دخل سعد الدين باشا أخو أسعد باشا بن العظم إلى الشام بموكب عظيم، لأنه سردار الجردة وأميرها وقد سار بها في السنة الماضية. سنة 1163 ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومئة وألف، وكان غرّة محرمها يوم الخميس. والبرد كثير والغلاء باقي لم يزل. وظل الخبز بخمسة مصاري، ورطل الأرز باثنتي عشر مصرية، ورطل اللحم بأربعة وعشرين مصرية، ورطل الفحم بثلاثة مصاري، ورطل الدبس بثمان مصاري، وأوقية السمن بخمسة مصاري. والجليد الذي صار في هذه السنة ما سمعنا بمثله. نسأله تعالى اللطف. وفي منتصف محرم من هذه السنة توفي العالم العامل الشيخ محمد الديري، وكان يدرس بالجامع الأموي رحمه الله تعالى. وبعده بيومين توفي الشيخ العالم الزاهد منلا عباس الكردي خليفة شيخه منلا إلياس الكردي، وفي مكانه بجامع العداس رحمه الله ودفن بسفح جبل قاسيون. وفي ثامن وعشرين من المحرم توفي الشيخ عيسى إمام صلاة الأولى بجامع بني أمية في محراب السادة الشافعية. كان رحمه الله رجلاً صالحاً حسن القراءة حسن الصوت، يلبس دائماً ثياباً بيضاء، وعمامته من صوف أبيض. وكانت جنازته حافلة لم يتخلف عنها إلا القليل، ودفن بتربة البرامكة قبلي المرجة، رحمه الله. وفي ذلك اليوم كسفت الشمس، وبقيت مكسوفة نحو ثلاث ساعات، وصلى الناس صلاة الكسوف بجامع الأموي. وكان دخول الحاج الشريف تلك السنة نهار الأربعاء خامس صفر. وثاني يوم الخميس دخل أمير الحاج أسعد باشا بموكب المحمل الشريف. وهذه السنة السابعة من حجاته المتواليات. وقد ذكرت الحجاج أن هذه السنة أيمن السنين وأحسنها وأرخصها ذهاباً وإيابا. ودخل حضرة سعد الدين باشا مع أخيه أسعد باشا وهما في غاية الصحة. وفي خمسة وعشرين محرم شنق متسلم الشام موسى كيخية خمسة أنفار من الدروز الأشقياء. وفي تلك الأيام مات قاضي مكة ودفن بباب الصغير. ويوم الأحد ثالث وعشرين صفر توفي الولي الزاهد الشيخ محمد بن عبد الهادي العمري، وصلوا عليه في الأموي، ودفن في مرج الدحداح، وكانت جنازته غاصة بالرجال والنساء، رحمه الله. وفي الخامس والعشرين من صفر شنق الباشا ثلاثة رجال، جاؤوا بهم أهل دوما إلى الوالي أسعد باشا، وأخبروه أنهم وجدوا معهم خرج كذا فيه متاع لقفطجي السلطان، فأمر بصلبهم. وفي يوم السبت سلخ صفر سافر سعد الدين باشا لمحل مأموريته التي هي في طرابلس. وفي تلك الأيام توفي الشيخ مصطفى الكردي الذي كان قاطناً بمدرسة سليمان باشا بن العظم، وكان فقيهاً ديّناً. ودفن في سفح قاسيون رحمه الله. وبهذه الأيام أيضاً توفي نجيب أفندي السفرجلاني، وكان من صدور أكابر دمشق، وصار له مشهد عظيم ودفن بمقبرة باب الصغير. وتوفي أيضاً بتلك الأيام في أوائل ربيع الأول من هذه السنة توفي الشيخ الصالح العالم الشيخ مصطفى بن الشيخ شعيب من محلة باب السريجة، وصار له مشهد عظيم بالأعلام، وخرجت بجنازته جميع مشايخ الطرق، ودفن بباب الصغير، رحمه الله. وفي تلك الأيام توفي أيضاً الولي الزاهد، من غلبت عليه الجذبة الإلهية، السيد مصطفى بن الشيخ مراد، وكانت الدولة والقبول في الشام وإسلامبول إلى ابن أخيه السيد علي أفندي، وخرجت جميع الأعيان بجنازته ودفن بباب الصغير رحمه الله. وفي ليلة الاثنين توفي الولي الكامل ذو الكرامات الظاهرة والأحوال الباهرة، من قد خلع العذار وتساوى عنده الليل والنهار، وشرب من خمر شراب الجبار، وأعطى درجة القبول عند الكبار والصغار الشيخ محمد جبري، وقد كان أحياناً يغيب وأحياناً يحضر، وأحياناً يسكر، وقد كان له جماعة وتلامذة، وكان في درجة الشيخ أحمد النحلاوي، وقد كان يتردد عليه أيام حياته، ولما توفي النحلاوي لازمه جماعة من فقراء الشيخ صاروا يدوروا معه ويباتوا معه أين ما بات. وكانت وفاته بباب السريجة، وصار له مشهد عظيم. وفي منتصف سعد الذابح جاء الثلج يومان وليلتان بلا انقطاع ولم يعقبه مطر، وبقي على الأساطيح وفي الأزقة أكثر من عشرين يوماً، حتى صار رطل الفحم بنصف قرش وبثلث، ورطل الخبز من أربعة مصاري إلى ثمانية، وأوقية السمن بخمسة مصاري، ورطل اللحم بثلاثين مصرية. والحاصل كل شيء غال، والخلق في تعب بال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وفي تلك الأيام قتل قبقولي رجلاً شريفاً بعد العشاء، فاشتكت والدة القتيل للوزير أسعد باشا ولازمته، فأمر بإحضاره فقبضوا عليه بعد ما هرب، فأمر الوزير بخنقه، فخنق بالقلعة. وفي تلك الأيام توفي الشاعر الأديب والفاضل اللبيب من لم ينسج في زمنه شاعر على منواله الشيخ عبد الرحمن البهلول رحمه الله تعالى، ودفن بباب الصغير قبالة بيوت النحّانة من جهة الشاغور. وهذا البهلول صاحب القبول هو صاحب القصيدة التي مدح بها الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي المحتوية على أكثر من مئة تاريخ في كل شطر منها تاريخ. ولما قدم القصيدة لأستاذه الممدوح ورأى حضرة الشيخ أنها فريدة في بابها بهذا النسق المدهش العجيب قال له: لقد استخرنا الله تعالى يا شيخ عبد الرحمن وعملناك شيخ الأدب في الشام. ونهار الاثنين خامس عشر ربيع الأول وقع سقف السوق الضيق خلف الجامع الأموي الذي فيه القهوة. وكان وقوعه بعد صلاة الحنفي. وكان تحته جماعة مات منهم أربعة أشخاص وهشّم جماعة. قال المؤرخ البديري: وفي يوم الخميس ثامن عشر ربيع الأول خرجنا إلى سيران بناحية الشرف المطل على المرجة مع بعض أحبابنا. وكان الوقت في مبادئ خروج الزهر، وجلسنا مطلين على المرجة والتكية السليمية، وإذا بالنساء أكثر من الرجال جالسين على شفير النهر، وهم على أكل وشرب وقهوة وتتن. كما تفعل الرجال، وهذا شيء ما سمعنا بأنه وقع نظيره حتى شاهدناه ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال المؤرخ: ثم لم نزل في سرور وانبساط، حتى أنشدت هذا المواليا فقلت: مضى لنا يوم مثله ما سبق يا خال ... في مرجة الشام ما تشوفون موضع خال ملا خميس مضى ما صادفه أرزال ... في ثامن عشر ربيع الآخر راح البرد يا هل الأدب أرّخوه الضيق عنكم زال وفي ذلك اليوم وقع رجل معماري من سطح سوق الخياطين ومات لوقته. وثاني يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الآخر مر الشيخ محمد بن جقيجقه في العمارة وحامل بيده قرنبيط إذ سقط على الأرض بلا روح، وحمل لداره ميتاً، رحمه الله. وفي تلك الأيام أخذ أسعد باشا دار معاوية رضي الله عنه وأخذ ما حولها من الخانات والدور والدكاكين وهدمهم كذا وشرع في عمارة داره السرايا المشهورة التي هي قبلى الجامع الأموي، وجدّ واجتهد في عمارتها ليلاً ونهارا، وقطع لها من جملة الخشب ألف خشب، وذلك ما عدا الذي أرسلوه له أكابر البلد والأعيان من الأخشاب وغيرها، ورسم على حمامات البلد أن لا يباع قصرمل لأحد، بل يرسل لعمارة السرايا، واشتغلت بها غالب معلمي البلد ونجاريها، وكذلك الدهانين، بل قل أن يوجد معلم متقن أو نجار أو دهان كذلك إلا والجميع مشتغلون بها، وجلب لها البلاط من غالب بيوت المدينة، أينما وجد بلاط أو رخام وغير ذلك، مثل عواميد وفساقي يرسل فيقلعهم القليل من ثمنهم. وكان في قرب تربة البرامكة قصر يقال له الزهرابية، قيل هو من عمارة الملك الظاهر وهو على ظهر بانياس مطل على المرجة، وكان مكان منتزه عظيم تهدم غالبه. وفي قربه مدفن وعليه قبة من حجر ورأس القبة مقلوع، وفيه وهدة قيل إنه كان في رأسها خبية قديمة فأخذت. قال المؤرخ: وقد بلغني عن سبب أخذها أنه كان مكتوباً على باب جدار القبة هذا المواليا: داري زمانك وصحبك ثم داريها ... وتجنب الناس عاليها وواطيها وإن سألوك عن عيوب الناس غطّيها ... العقل في الراس قاضيها وواليها وكان كل من يقرؤه يتخيل شيئاً، إلى أن جاء صاحب النصيب ليلاً وصعد إلى أعلى القبة وحفرها وأخذ ما فيها، ولم تزل بلا رأس إلى زماننا هذا، إلى أن أخبروا حضرة الوزير أسعد باشا العظم صاحب العمارة عن هذه القبة وعن المدفن الذي بجانبها، وأن الأراذل والأشقياء يجتمعون عندها هناك ليلاً ونهاراً على فسق وفساد وغير ذلك، فأمر بهدمها حالاً ونقل حجارتها إلى داره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وفي تلك الأيام بلغ حضرة الوزير أسعد باشا أن في دار ابن كيوان طاحونة قديمة، يقال لها طاحون الرهبان، قد تهدمت ولم يبق منها سوى رسوم أسفلها، وأنها مركبة على بانياس، فحالاً أمر حضرة الباشا بقطع نهر بانياس وأن يخرجوا جميع ما فيها من أعمدة وأحجار وينقلوهم إلى الدار. فاشتغلت الفعّالة والحجّارة والبساتنة، واستقاموا يقلعون الأحجار وينقلونها إلى دار الباشا اثنا عشر يوماً، والنهر مقطوع عن أصحابه. وفي يوم الخميس سادس وعشرين ربيع الثاني من هذه السنة عمل حسن أفندي السفرجلاني وليمة لحضرة أسعد باشا والي الشام بالصالحية في قاعة ابن قرنق. وكانت ضيافة عظيمة، قيل تكلف عليه نحو إحدى عشر مئة غرش. فنظر حضرة الباشا إلى سروات شاهقات في داره، فطلب من صاحبهم علي آغا بن قرنق قطعهم لأجل عمارة داره، وعرض أسعد باشا صاحب العمارة عليه شيئاً من المال، فأبى أن يأخذ من ثمنهم شيئاً، وقطع له ثلاث سروات ليس لهم نظير في الشام ولا في غيرها. ونقل من قرية بصرى أحجاراً وأعمدة من الرخام شيئاً كثيراً، وأخذ من مدرسة الملك الناصر التي في الصالحية أعمدة غلاظاً جيء بهم محملين على عربات تجر بالبقر وهدم سوق الزنوظية الذي فوق حارة العمارة، وكان كله أقبية معقودة فأمر بفكه ونقله إلى داره المشار إليها. ونقل إليها أيضاً أعمدة من جامع يلبغا، وأنه مهما سمع ببلاط بديع أو أعمدة أو أحجاراً من أي محل كان يأتي بها شراءً وغير شراء. قال المؤرخ أحمد البديري عفا الله عنه: وفي تلك الأيام قتل ابن خطاب الدالاتي في سوق البزورية وقت أذان العشاء، جاء ضرب سلاح على رأسه، أخذ نصف رقبته مع رأسه، فوقع قتيلاً كأنه ما كان. هذا ووزير الشام مشغول في عمارة داره، ولم يلتفت إلى رعاياه وأنصاره ويقول: ائتوني بحجارة المرمر والرخام والسرو، وتفننوا بالبناء والنقوش والتحلية بالذهب والفضة، وجلب عواميد الرخام على العجلات والبقر من بصرى، وخرب سوق مسجد الأقصاب، واستجلب جميع ما فيه من أحجار وأخشاب، وكل ما سمع بقطعة أو تحفة من رخام أو قيشاني أو غيرها يرسل فيأتي بها إن رضي صاحبها أو أبى. وإذا أراد الفقير أن يعمر أو يرمم لم يجد معمارياً ولا نجاراً ولا خشباً ولا مسماراً ولا تراباً ولا قصرمل ولا أحجار، وهذا مع غلاء الأسعار وحلول الأكدار. وقد أخذ حضرة الباشا قدراً وافياً من ماء قنوات، فما وصل إلى السرايا حتى تقطعت السبل ومياه غالب الجوامع والحمامات، وبقي مدة مقطوعاً حتى عن غالب البيوت. وفي تلك الأيام عمل علي أفندي المرادي ضيافة لحضرة أسعد باشا في قرية ببيلة في طريق قبر الست، وكانت ضيافة حافلة في الغداء والعشاء. وفي تلك الأيام أيضاً أمر حضرة الوزير أسعد باشا العظم متولي الجامع الأموي الشيخ إبراهيم الجباوي السعدي بأن يصلح أحوال الجامع المذكور ويتفقد مصالحه. فحالاً باشروا بترميم المئذنة الغربية، وأزالوا ما فيها من الأحجار العاطلة، وأزالوا ما به من الحصر والطنافس العتق، وفرشوه فرشاً جديداً بهمة حضرة الباشا. وفي يوم الاثنين سادس جمادى الأولى خرج الحاج أسعد باشا وعمل سيراناً في أرض الغوطة، ومعه أكابر دمشق وأعيانها. وفي يوم الجمعة عاشر يوم من جمادى الأولى والناس في صلاة الجمعة، ألقى رجل نفسه من قلعة دمشق إلى جهة قهوة المناخلية، فتكسرت يديه كذا ورجليه، وسبب حبسه أنه اتهم بافتضاض بنت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وفي تلك الأيام بشهر آذار الرومي ثار ريح شديد عاصف ما سمع بمثله، تزلزلت فيه أقطار الشام، حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت، وأعقبه برد ومطر شديد متراسل إلى آخر الليل. وفي تلك الأيام جاء رجل من الأتراك إلى دمشق، ومعه صحن من نحاس يضعه على عود ويفتله عليه، ويحذفه إلى أعلى قامتين، ويتلقاه على العود وهو يفتل، وينقله من إصبع وهو دائر يقتل، ويلمّ فلوساً من المتفرجين. ثم صارت أولاد الشام تفعل كفعله، فتعجب من ذلك وذكر أنه دار بلاداً كثيرة في الدنيا، وما قدر أحد أن يفعل كفعله، ثم سافر ولم ير بعد. وأغرب من ذلك أنه جاء رجل أيضاً من أبناء الترك قبل الذي ذكرناه يصفق بأصابعه، يضرب بالواحدة على الأخرى، ويدق برجله على الأرض دقاً محكماً، ويغني بالتركي والعربي، فتجمّع عليه الخلق ويعطونه فلوساً. فصارت أولاد الشام الصغار تفعل كفعله وأحسن. وذكر أنه دار في الدنيا مدناً كثيرة فلن يتعلم هذه الصنعة سوى أولاد دمشق، واندهش من ذكائهم. وفي جمادى الآخرة قُتل رجل في محلة العقيبة، فسألت عن السبب، فقيل إنه رجل يشتغل بالفرن، فمضى إلى فرنه آخر الليل وسكّر باب داره وترك زوجته نائمة، فلما وصل إلى فرنه واستقر برهة، جاءه نذير، وأخبره أنه رأى رجالاً دخلوا داره، فجاء يعدو بالحال، فوجد السكرة، مفتوحة، فجسّ الباب فوجده مدربساً، فصاح على زوجته فأجابته، فقال لها من مَن عندك، فصاحت: واعرضاه من يكون عندي، فقال لها افتحي الباب، فتعللت بعدم قدرتها على فتح الباب، فصاح بشدة، وإذا قد فتح الباب وخرج منه رجال، فضربه أحدهم بطبنجة جاءت في صدره فقتلته حالاً، فلما طلع النهار أخبروا حضرة وزير الشام أسعد باشا، فأحضر المرأة بين يديه، وسألها فأنكرت فأمر بحبسها، فحبست وذهب دم زوجها هدرا. وفي تلك الأيام أيضاً جيء لحضرة الوزير أسعد باشا بامرأة قتلت زوجها، فسألها عن السبب، فقالت له إنه تزوج عليّ، فلما كانت ليلتي نام وتركني، فقمت وقطعت ذكره، وقلت لا لي ولا لها، فمات من ذلك. فضحك حضرة الوزير، ولم يفعل بها شيئاً سوى أنه أمر بحبسها. وفي اليوم الحادي والعشرين من جمادى الثانية من هذه السنة ذهب والي الشام إلى الدورة، ومتسلمه موسى آغا كيخية. فثاني يوم من ذهاب الباشا شنق متسلمه المذكور اثنين، قيل إنهم متاولة كانا يقطعان الطريق، ثم نادى أن لا أحد بعد صلاة العشاء يخرج لا بضوء ولا بلا ضوء. وهذا شيء ما سبق قط. ثم صار بنفسه يدور بالليل، وكان من الجبابرة. وبهذه السنة ثبت أول رجب السبت وليلة نصف شعبان كانت ليلة الاثنين، وأول رمضان كان الثلاثاء. وفي سادس عشر رمضان دخل ركب الصرّة أميني؛ ودخلت أيضاً خزنة مصر إلى الشام. وفي الحادي والعشرين منه دخلت البلطجية. وفي ليلة الرابعة والعشرين بعد صلاة التراويح قتل كردي يقال له كرا مصطفى في الحدرا، ولم يُعلم غريمه، فاتهموا فيه رجلاً بغدادياً، فتسلحت الأكراد، ونزلت حتى وصلت إلى الدرويشية وباب الجابية لعلهم يصادفون أحداً من البغّادة ليقتلوه فلم يجدوا، وكانت الخلائق في الدرويشية صفوفاً وألوفاً، فبهجوم الأكراد تفرقوا وهربوا، ودخل الخوف والرعب في قلوب الناس، وإلى الله المصير. وبعد ثلاثة أيام حضر الباشا من الدورة، وكان دخوله مع أذان المغرب. وفي سلخ رمضان يوم الوقفة قتل الأكراد اثنين من البغّادة لأخذ ثأر القتيل الكردي الذي قدمنا ذكره، فتسلحت البغادة والموصلية وساعدتهم التفكجية والقبقول، وطلبوا خان الأكراد، فرمى الأكراد عليهم طلقاً من الرصاص، فقتلوا جماعة وجرحوا، فرجعوا على الأكراد ونهبوا بعض قهواتهم، وأرادوا أن يعملوا جمهورية كذا ويقيموا فتنة في البلد. فنهاهم حضرة الوزير حفظه الله عن ذلك، بقيت الأمور مطوية. وكان عيد الفطر يوم الأربعاء، وقد صمنا رمضان تماماً، بعدما كنا صمناه أعواماً ناقصاً. وبعد أيام رحلت خزنة مصر إلى اصطنبول. وفي سابع عشر شوال رحل أمير الحاج بالمحمل الشريف والموكب المنيف الحاج أسعد باشا العظم. وهذه السنة هي الثامنة من حجاته المتوالية. وثاني يوم جاء الحاج الحلبي. وفي الحادي والعشرين من شوال رحل الحاج الشامي والحلبي من الشام. وبعد خمسة أيام جاء حاج من العجم، وتبع الحاج إلى المزيريب من جهة اللجاة، ورحل الحاج من المزيريب يوم السابع والعشرين من شهر شوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وبعد رحيل الباشا نادى المتسلم على الفلوس الرملية كل إحدى وعشرين فلساً بمصرية، وأطلق البغدادي الذي اتهم بقتل القرا مصطفى الكردي، وكانوا قد رفعوه للقلعة، وبعد إطلاقه بأيام سكر وعربد وضرب حمّارين فقتلهما، فاختبطت البلدة، وأرسل المتسلم في طلبه، فهرب ولم يظهر له أثر، ولا وقفوا له على خبر، فقبضوا على مملوك له فخنقوه. وقبل خروج حضرة أسعد باشا إلى الحاج الشريف بثلاثة أيام انتهت عمارة دار الباشا، التي هي للحريم، وفرشت بأحسن المفروشات، ونقل حرمه إليها. وفي تلك الأيام حصلت وقعة عظيمة بين الدروز والمتاولة، ومع المتاولة أيضاً أولاد الظاهر عمر حاكم طبرية، وقُتل من الفريقين، وحصروا قتلى الدروز، فكانوا نحواً من تسع مئة قتيل، وهي فتنة كبيرة. وفي يوم السبت خامس ذي القعدة ضربت مدافع فسألنا عن الخبر، فقيل جاء من السلطنة مقرر إبقاء أسعد باشا العظم والي الشام. قال المؤرخ البديري: وفي ليلة الأربعاء لعشرين مضت من شهر ذي القعدة من هذه السنة توفي الشيخ إسماعيل بن شيخنا وأستاذنا الشيخ عبد الغني النابلسي، مات عن ثلاثين ولداً من بنيه وأولاد بنيه، وعمر سبعة وسبعين سنة، لأن مولده سنة خمس وثمانين بعد الألف ووالده الأستاذ مولده سنة خمسين بعد الألف ووفاته سنة ثلاث وأربعين ومئة بعد الألف فيكون عمر الأستاذ والده ثلاثاً وتسعين سنة، وكانت وفاته بالصالحية ودفن في دارهم التي في العنبرانية قبلى الجامع الأموي، وحُمل نعشه للصالحية، ودفن في دار أبيه بجانب ولده الشيخ طاهر، رحمهم الله تعالى ونفعنا ببركاتهم أجمعين. سنة 1164 ثم دخلت سنة أربعة وستين ومئة وألف، كانت هلّة المحرم نهار الثلاثاء، جعلها الله سنة خير وبركة علينا وعلى المسلمين. وفي ستة وعشرين من المحرم جاء جوقدار الحج الشريف، وبشّر عن الحج بكل خير من كثرة الرخص والمياه وغير ذلك ولله الحمد. غير أن الغلاء لم يفارق الشام، فقد دخلت هذه السنة ورطل الخبز بخمسة وبستة مصاري، ورطل الأرز بعشرة مصاري، ورطل اللحم بثمانية وعشرين مصرية، ورطل الدبس بتسع مصاري، وأوقية السمن بستة مصاري، والعملة مغشوشة، والفلوس غير منقوشة، والنساء باحت والرجال ساحت، والحدود طاحت، والأكابر مشغولة ومروءة الرجال مغلولة، إلى آخر ما قال المؤرخ. وفي تلك الأيام جاؤوا بأربع رؤوس من العرب قطاع الطريق، أتى بهم عيسى بشه الحبش، أحد الزرباوات الهاربين، فعُفي عنه لأجل ذلك. وفي تاسع وعشرين محرم جاء كَتّاب الحج، وذكر أن هذه السنة هي أريح وأجود السنين في أيام الحاج أسعد باشا والي الشام حفظه الله. غير أنهم جاءهم سيل عظيم في عسفان أوقعهم أياماً، ثم أمر الباشا بأن يجدوا في المسير حتى ترك من العشرة اثنين، هكذا ذكر لي بعض الحجاج. ودخل الحاج يوم الأربعاء ثاني صفر. وثاني يوم الخميس دخل المحمل الشريف، وأسعد باشا وأخوه سعد الدين باشا سردار الجردة بالموكب العظيم. وثامن صفر دخل قاضي الشام عبد الله أفندي سعيد زاده ليلاً وعليه جلالة وهيبة ولم يتكلم بقال وقيل. وبلغنا أن عثمان باشا المحصل حاكم جدة مات ودفن بها. وفي تلك الأيام من هذه السنة جاء منصب حلب إلى سعد الدين باشا أخو أسعد باشا، فتحوّل من طرابلس بعياله وذهب من دمشق إلى حلب، وقد أشاعوا أن سلفه حاكم حلب كان ظالماً غاشماً، وقد خرب قرايا كثيرة، وعمر عماير كثيرة، أخذ غالب مصارفها من أهل حلب، وبنى بها جامعاً يدهش الأبصار. وبعد مجيء الحاج أسعد باشا من الحج الشريف وجدنا داره قد تمّت عمارتها، فلما دخلها زاد فرحاً وابتهاجاً وسروراً، فذبح الذبائح وأعطى المنائح، وأقام بها بلذة عيش، وبلغه مجيء تقريره في الشام، فازداد شكراً لمولى الأنام. غير أن أهل الشام في أكدار من غلاء الأسعار، وبخل التجار وانفساد الأحرار وضعف الصغار، وعدم زحمة الكبار، والحكم لله الواحد القهار. فلقد صار رطل اللحم الشامي بقرش، ورطل السمن بقرش ونصف، ورطل لحم الجاموس بأربعة وعشرين مصرية، والسمك مثل ذلك، ورطل لحم الجمل بثمانية عشر مصرية، وأوقية الرز بمصرية، والعسل الأوقية بشاهية. ورطل الخبز بستة مصاري، والناس في أسوأ الأحوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وفي تلك الأيام وقع بيت بباب السريجة على امرأة وصبي صغير. في تلك الأيام أيضاً قتل كردي وزوجته في محلة سوق ساروجا. وسبب ذلك أنه كان حاجاً، ولما جاء وجدها متغيرة في أحوالها، ثم تبين أنها عابت في غيبته، وكان ذو كذا حسن وجمال فذبحها ولم يبال بأحد. وفي تلك الأيام أيضاً قتل رجل ابنته في محلة سوق ساروجا، وهي ابنة أربع سنين، فبلغ حضرة أسعد باشا أمرها وأن تلك البنت أمها مطلقة وخالتها امرأة أبيها غير محبة لها، فدست لأبيها عليها بعض الكلام، وكان أبوها من الحمق والجنون على جانب عظيم، فضربها بالعصا ضرباً مؤلماً، ثم ربطها بشجرة داره وبقيت طول الليل مربوطة إلى الصباح، فجاء ليحلّها فوجدها قد ماتت، وكانت ليلة ذات برد شديد، فأحضره أسعد باشا وأمر أن يضرب ضرباً شديداً، فضرب ثم وضع بالحديد بعدما أخذ منه أموالاً كثيرة. وفي يوم الأربعاء ثامن صفر الخير من هذه السنة توفي الشيخ محمد أبو قميص الكردي شيخ مدرسة المرادية. وسمي بأبي قميص لكونه إذا لبس قميصاً لا ينزعه حتى يتقطع، وهذا غاية في الزهد، وقد كان صائماً متهجداً، خرجت في جنازته الأكابر والأعيان لاعتقادهم في صلاحه، ودفن في تربة مرج الدحداح، ولما فُتحت حجرته وجدوا عنده عشرين ثوباً من الكتان جدداً وخمسة عشر نصف مقطع وسبعة قناطير حطب وعشرة أرطال أرز وقدرة سمن وقدرة عسل، وغير ذلك من المؤن. ووجدوا قدرة بها أرباع ريال ومثلها مصاري، وفيها ذهب وأمتعة وحوائج وبدراويتين ملآنتين قمصان، ووجدوا مقدار مئة كتاب قدّورهم بثمن عظيم. فانظر إلى زهد مثل هذا، فقد ذهب الصالح بالطالح. وفي يوم الجمعة عاشر صفر توفي الشيخ إبراهيم إمام القشماسية، وكان فقيهاً صالحاً، ودفن بتربة باب الصغير رحمه الله. وفي يوم الجمعة اثنين وعشرين من ربيع الأول توفي العالم النحرير الشيخ أحمد الحرستي أمين الفتوى في بيت العمادي رحمه الله. وفي تلك الأيام باع رجل جرة زيت إلى رجل آخر، فقبض ثمنها بعدما وزنها؛ ثم حملها إلى دار الرجل، وقال: أبقِ عندك هذه الجرة، فبعد ساعة آتيك وأفرغها لك، قال: لا بأس بل أنا أفرغها وأي وقت جئت تجد الجرة، ثم ذهب صاحب الزيت، وبعد ساعة فرغها المشتري، فوجد بها أربع أواقٍ من الزيت والباقي ماء صافياً، فطلب الرجل فلم يجده. وفي يوم السبت سلخ ربيع الأول قتل قبقولي رجلاً من الأشراف في مأذنة الشحم، ضربه بخنجر في صدره أخرجه من ظهره، وترك الخنجر مغروزاً فيه، حتى أخرجه قاضي كشف عليه ثم ألقوا القبض على القاتل، وقامت الأشراف، وثبت عليه القتل فحبسوه في القلعة، وفي تلك الليلة خنقوه. وفي يوم الأربعاء غرة جمادى الأولى توفي الشيخ محمد بن الشيخ شعيب الشهير بالشيخ جينة القاطن بحارة باب السريجة. كان رحمه الله ضحوك السن لطيفاً على غاية من الصلاح، ودفن بباب الصغير رحمه الله تعالى. وفي ثامن جمادى الأولى اغتيل رجل شقي من الصالحية يعرف بالفستقي، كان كما قيل داهية دهماء ومصيبة عظماء، شجاع يرد مئة شجاع بعصا، سارق ما سمع بمثله بين اللصوص المشتهرين بالحيل، فمن حيله وشطارته التي ما سمع بنظيرها أنه متى وضع يده على أعلى حائط فمتى علق ظفره به صار أعلاه، والمدهش أن يكون ظهره للحائط، وإذا وضع في أي مكان وأغلق عليه الباب وقفل، خرج منه مهما كان، وهذا كله ولم يجاوز العشرين سنة من عمره، ثم إنه بغى على أهل الصالحية خصوصاً وعلى غيرهم فأعياهم أمره، فجعلوا لشخص جُعلا على قتله، فاغتاله بعد ما عمل معه صحبة، وقتله وراح وكأنه ما كان. وفي يوم الثلاثاء جاء خبرٌ إلى دمشق بأن ليلة الاثنين قُتل حاكم بعلبك الأمير حسن، وقد كان خارجاً من الجامع، فاغتاله ثلاثة أشخاص، ورموه بثلاث بنادق وفروا هاربين وحمل إلى داره. وفي اليوم الثاني توفي، وقد قيل بأن القاتلين له إخوته، حيث أن له من الإخوة سبعة، والله أعلم. وفي تلك الأيام فرض والي الشام أسعد باشا على الزعماء والأكابر والتجار بأن يأتوا له من مدينة حماة بقمح، ويكون أجرته منهم، فذهب بعضهم وأتى بقمح كثير، فبيعت الغرارة بإحدى وثلاثين غرشا، ولم نستفد غير وجوده، وأما الغلاء فإنه باق بجميع الأصناف كما قدّمنا تسعيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وفي ليلة السبت توفي موسى كيخية أسعد باشا والي الشام ودفن بباب الصغير قريباً من تلة الشاغور، وصار له مشهد عظيم. كان رحمه الله هضيم النفس، طلب علما في أول أمره، عنده شفقة ورأفة ويحب المسألة ومصالحة الخصوم، حتى صارت الشام وما حولها حتى من العربان طوع يده، وخلف ثلاثة من الولد أحدهم صار حاكم القدس، والثاني حاكم غزة، والثالث صغير من امرأته الشامية، واستقام في الكخوتية من حكم سليمان باشا إلى سابع سنة من حكم ابن أخيه أسعد باشا. وفي يوم الاثنين ثاني وعشرين من جمادى الثانية قُتل اثنان من رعيان التركمان في أرض الغوطة في المحفرة، أحدهما عاش، فسئل عمن فعل بهما ذلك، فأخبر أن بعض المغاربة ظن أن معهما مال. فبعدما أوقعوا بهما ذلك الحال، وجدوا مع أحدهما ربع ريال، والثاني قليلاً من الفلوس، فرجعوا خاسرين الدنيا والآخرة. وفي تلك الأيام كبَّر أسعد باشا داره الجديدة الذي ما صار نظيرها ولا عمل مثلها ولا وجد في الكون لها مثيل. وبينما النجارين كذا يرفعون السقائل لأجل رفع الطوان وقع ثمانية أنفار من النجارين فتهشموا، ولم يقتل ولله الحمد منهم أحد، فأمر حضرة الباشا بأن يرسلوا إلى بيوتهم، وأعطى كل واحد منهم نصف ذهب. وفي ذلك العام اشترى أسعد باشا والي الشام من الصالحية ومن أرض العنابة ومن غيرها أراضي وبساتين. واشترى كذلك سوق الدق وما حوله من الدكاكين، ومراده أن يعملهم قيسارية ليس لها نظير في قيسارية الشام. وفي يوم الجمعة توفي بقية السلف الصالح معتقد أهل الشام على الإطلاق الشيخ عبد اللطيف بن عبد الهادي، وقرئ نسبه عند إقامة الصلاة عليه في مقصورة الجامع الأموي، فوجد بينه وبين سيدنا عمر بن الخطاب ثلاثون جدّاً. وصار له مشهد عظيم ودفن بمقبرة مرج الدحداح، رحمه الله تعالى. وفي يوم الاثنين سلخ جمادى الثانية دخلت أرطة القبقول يتمش إيكي، فخرجت لملتقاها كل من لف برمه مع مئتين تفكجي وجماعة من الدالاتية، كل ذلك بأمر الباشا، ودخلت بعراضة أي موكب ولا موكب الحج الشريف، وخرجت الناس للفرجة رجالاً ونساءاً كباراً وصغارا، وزينوا لهم حارة العمارة بالقناديل والمشاعل ودخلوا بكبر وجبر وعتوّ، نسأله تعالى العافية. وفي تلك الأيام أرسلت الدولة العلية تطلب من حضرة أسعد باشا منافح النوق وشرش جنزبيل، فحالاً حضرة الباشا استجلب من عرب الجبلة ثلاثة نوق لم يأكلوا إلا حليب أمهم، فذبحوا كذا واستخرجت منافحهم، وأرسلهم حضرة أسعد باشا مع شرش الجنزبيل مع ثلاث نياق حبالى حاملات يصحبهم ثلاثة طواشية. وفي تلك الأيام وصل خبر إلى دمشق الشام بأن سعد الدين باشا الذي هو أخو أسعد باشا جار على أهل حلب، فغلّى الأسعار، وطلب منهم مئتي كيس غرش، لكونه توجهت عليه سردارية جردة الحاج، فأبوا أن يعطوه، ووقع جدال عظيم، وبطلت صلاة الجمعة وقتل منهم جماعة. وثاني يوم كان رطل الخبز بعشرة مصاري، فنادى عليه بأربع مصاري، واللحم كان بثلاثين الرطل، نادى عليه باثني عشر مصرية، فأرسلت أعيان حلب عرض إلى الدولة العلية بما جرى. ولم ندر ماذا يكون بعده. وفي أوائل شعبان من هذه السنة وصل خبر إلى دمشق بأن ابن الحرفوش حاكم بعلبك المتوالي الرافضي المشهور قبض على المفتي وعلى أخيه وأحرقهم بالنار، وهدم دارهم وقطع كرومهم. وقد كانت هذه العائلة الخبيثة الحرفشية لعنها الله قبل أعوام قتلت أيضاً الشيخ يحيى مفتي بعلبك المشهور بالعلم والكرم. وفي تلك الأيام شنق رجل نفسه في جامع يلبغا بشجرة فيه ليلا، فأصبح الناس فوجدوه مشنوقا، ولم يعلم السبب. وفي تلك الأيام وقع باب بستان على رجل في الصالحية يقال له السيد إبراهيم الحلواني من حارة السويقة، فحملوه إلى داره، ومات في اليوم الثاني. وكان أول رمضان من هذه السنة نهار السبت، أثبت في الساعة السادسة ليلا. ونهار الاثنين ثالث رمضان قُتل آغة القبقول في القلعة بعد العصر، والذي قتله أحد جماعته بتدبير من أحد الآغتين المعزولتين، لأن بدمشق ثلاثة أغاوات للقبقول، أحدهما كذا الموظف المقتول والاثنان المعزولين تبرحا عليه حسدا، فاغتالاه وذهب دمه هدرا. وقتل أيضاً محمد بشه بن شمس في وادي القرن ولم يعلم قاتله. وسادس رمضان دخل الصرة أميني إلى الشام. وكان العيد الاثنين والصوم تماماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وفي هذه السنة جاءت حجاج كثيرون من العجم، وهم على ما نقلوا ألف وست مئة عجمي، ما عدا البغّادة والعرب، وصار جبر خاطر لعموم الناس في البيع والشراء. وجاء مع العجم ربيّات ذهب كل واحدة بثلاثة عشر غرشاً ولؤلؤ كبير وصغير وأحجار ومعادن وشال وغير ذلك. وخرج المحمل يوم الخميس ثامن عشر شوال، وخرج الحاج يوم الجمعة بعد المناداة مرارا بأن لا يبات أحد من الحجاج إلا خارج باب الله. وخرج المتسلم والبلطجية بعد العصر وأناس بالليل والباقي ضحوة السبت. وهذا شيء ما سبق على ما نعلم. وفي شوال بهذه الأيام صار حرٌّ شديد لا يطاق، حتى نشفت الأعين والآبار، فقد غارت قناة بيت راس التي هي قرية من ببيلة في طريق قبر الست ونشفت واندرست، حتى كأنها لم تكن. وعلى أثر جفاف الأعين وقلة المياه جاء زيادة ماء، حتى صارت الماء مثل الطحينة. ونهار الأربعاء ثامن ذي القعدة جرس رجل، قيل إنه يدق الزغل من المعاملة. وركب حمارا بالمقلوب وسخم وجهه بالسواد، وآلة العمل على صدره، وداروا به البدل كلها. ومع هذا فالغلاء واصل لحدّه: فرطل اللحم بستة وعشرين مصرية، والأرز بعشرة مصاري، والخبز بخمسة مصاري، إلى آخر ما قدمنا. وفي منتصف ذي القعدة ورد حاكم حلب سعد الدين باشا أخو أسعد باشا ابن العظم إلى دمشق، سردار إلى جردة الحج، ورحل بها نهار الخميس غرة ذو الحجة. سنة 1165 ثم دخلت سنة خمس وستين ومئة ألف نهار السبت فاستبشرت الناس بقدومها، حيث ليلة الهلّة هطل مطر غزير وفرحوا وزرعوا وفلحوا، وبدت ترخص الأسعار، غير أن ما فيه أن يفتش على الخلق بالرحمة والرأفة من الحكام والوجوه، والخزّانة كثيرون والأكابر ساكتون والحكام يأكلون، فإنا لله وإنّا إليه راجعون، وانظر غلاء الأسعار: فقد أقبلت هذه السنة بخيراتها وبركاتها، ورطل الخبز بأربع مصاري، والدبس أربع أرطال إلاّ ثلث بقرش، ورطل السمن بقرش ونصف، ورطل البصل بأربع مصاري، ورطل الثوم بسبعة مصاري، ورطل الفحم بأربع مصاري، وعلى هذا فقس. فالأغنياء منعّمون والفقراء صابرون. قال المؤرخ عفا الله عنه: وفي يوم الاثنين عاشر المحرم من هذه السنة ورد فرمان من الدولة العلية بأن حضرة خليل أفندي البكري صار قاضياً في دمشق الشام، وسجلوا الفرمان، وجلس مكانه ولده أسعد أفندي البكري إلى مجيء أبيه كما يأتي. ونهار الأحد ثاني وعشرين محرم ورد جوقدار الحج الشريف يبشر عن الحجاج بكل خير، وأن الحاج وقف بعرفات يوم الجمعة. وهذه السنة التاسعة من حجج حضرة أسعد باشا المتواليات. وهذا ما سبق لغيره، والحمد لله الذي أعطاه. وفي ثاني يوم دخلت خزنة مصر إلى دمشق. قال المؤرخ: ومعها نسيبنا شيخ السعدية في الديار المصرية الشيخ يحيى أفندي الجباوي، أخو الشيخ إبراهيم الجباوي الشاغوري من أبيه. وفي يوم الثلاثاء غرة صفر الخير كان دخول ركب الحج الشامي إلى دمشق، ولم يروا أدنى مكدر كما أخبروا، غير أنهم جاءهم في هدية برد كبير كل بردة وزنها ستون درهماً، ولم يحصل منه أذية. وفي تلك الأيام بلغنا أن أهل مصر طردوا كل غريب، والذي يجدونه بعد نهبوا ماله وعذبوه أشد التعذيب. وفي أوائل ربيع الأول دخل خليل أفندي البكري قاضياً لدمشق الشام، ففرحت ناس وغمت ناس، وظنوا أن معه أمور من تغيير وتبديل وتفتيش، فلم يقع شيء من ذلك. وفي ليلة الأربعاء سادس عشر ربيع الأول توفي العالم الجليل شيخ الشافعية في دمشق الشام، بل شيخ شيوخ الفضلاء من علمائها الأعلام، شيخنا وأستاذنا الشيخ على كزبر، وصلينا عليه صلاة الظهر في جامع الأموي، ودفن بتربة باب الصغير من قبلي أوس بن أوس الثقفي. وقبل وفاته عمل وصية. ومن جملة ما أوصى بخمسين قرشاً لتعمير القبور الذي حول قبره، فكانت منه كرامة، لأن ساعة دفنه تهدمت قبور كثيرة من تزاحم الخلق المحتاطين بجنازته. رحمه الله تعالى، وأعاد علينا من بركاته. وفي ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الأول وجد السيد محمد بن السيد أحمد خادم سيدي أبي الدرداء مذبوحاً بداره التي بداخل القلعة، وكان له عبد ومملوك فلم ير لهما أثر، قيل قتلاه، والله أعلم، وذهب كأنه ما كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وفي تلك الأيام توفي حسن أفندي بن حمزة نقيب الأشراف سابقاً، وحضر الصلاة عليه حضرة والينا حاكم الشام أسعد باشا العظم وقاضيها خليل أفندي البكري الصديقي ومفتيها حامد أفندي العمادي ونقيبها الحالي محمد أفندي العجلاني وعلي أفندي المرادي وأكابر الشام وخلق كثير، ودفن بمقبرة مرج الدحداح، رحمه الله تعالى. وفي اليوم الثاني توفي العالم الجليل إمام المحرابين اللذين للشافعية الشيخ المصري وهو الذي جاب ماء السمرمر، وكان يحب قضاء الحوائج لعباد الله، ودفن بمقبرة الدحداح، رحمه الله تعالى. وفي غرّة جمادى الثانية توفي حسن جلبي بن السفرجلاني، وكان من الصدور في الشام. وبهذا النهار مات ثلاث مشايخ حرف في الشام: الشيخ عبد القادر شيخ الحلوانية، وشيخ الحلاقين الأسطه محمد البوشي، وشيخ القواقجية الأسطه محمد. وفي يوم الخميس ثالث جمادى الثانية نزل برد بدمشق، وزنت واحدة جاءت سبعون درهماً. وهذه السنة كثيرة الأمطار والخيرات والبركات، وقد نبتت حبة الحنطة اثنين وعشرين قصلة سنبلة، حتى نقل لي بعضهم أن حبة قمح نبتت فوق سطح بيته، فوجدها بعد شتلها اثنين وعشرين قصلة أي سنبلة، مع ذلك فكل شيء غالي: فرطل السمن بأيام كثرته عشرة أواق بقرش، والدبس ثلاث أرطال بقرش، والبصل خمسة أرطال بقرش. وكل شيء على أسعار ما قدمناه، والحكم لله. وفي هذه المدّة عمّر حضرة الحاج أسعد باشا بن العظم والي الشام طريق الميدان من باب المصلّى إلى باب الله، ولم يظلم أحداً بذلك ولا أخذ من أحد شيئاً. وفي أوائل شهر رجب قدم الأمير ابن الظاهر عمر حاكم طبريا وعكا، فتلقّاه حضرة أسعد باشا بواسطة موسى كيخية وخلع عليه وأكرمه وطيّب خاطره من جهة أبيه، لأنه كان بينه وبين أبيه الظاهر عمر أمور، فأصلح الباشا بينهما. وفي تلك الأيام عمّر خليل أفندي البكري القاضي المتقدم ذكره المأذنة التي فوق المارستان. وفي هذه الأيام جاء قبجي من الدولة العلية بطلب السيد محمد أفندي المرادي ليتمثل بين حضرة السلطان الأعظم، وأن يجلب مكرماً، وأن يعطيه أربعين كيساً، فأعطي المبلغ المذكور وحمل بتخت روام، وقدمت له أعيان الشام وأكابرها الهدايا العظام من الدواب والأموال والملابس الفاخرة، وخرجت إلى وداعه الأعيان مع حضرة والي الشام الحاج أسعد باشا العظم، وكان خروجه من دمشق نهار الاثنين تاسع رجب الفرد من هذه السنة. وبهذه الأيام توفي أحمد أفندي ديوان أفندي الباشا وهو الذي عمّر القصر في حائط الأحمدية في سوق الأروام، فمات عن غير ولد ولا وارث. قيل بلغت تركته سبع مئة كيس أكثرها من النقود الذهب، فأخذهم حضرة الباشا، والله يفعل ما يشاء. وفي تلك الأيام تعطلت مياه حارة الشاغور، ففرض على أصحابها أموال كثيرة، فاشتكوا لحضرة أسعد باشا والي الشام حفظه الله، فأمر أن لا يأخذوا من أحد شيئاً، بل أمر أن يدفع من خزنته خمسة عشر مئة غرش لعمل الماء وإجراء السيل. قال المؤرخ البديري عفا الله تعالى عنه: خرجت لزيارة السيدة زينب ومعي ولدي مصطفى، نتلو كلام الله في طريقنا، إلى أن وصلنا إلى الست ودخلنا مزارها، وتفرجنا على العمارة التي عمّرها الحاج أسعد باشا العظم به في هذه السنة، فعمل بها داخل الحريم قصرين وإيوان ومشارق ومنافع، وغير ذلك مما خلد له الذكر بها، ووجدنا حضرة ابن عم الباشا مصطفى بيك حفظه الله قد زخرف حيطانها وسقوفها وحسّن بنيانها، وشرع في عمارة الحمام في هذا العام ونحن هناك. فجزاهما الله تعالى على هذا العمل الخيري أحسن الجزاء آمين. وفي أول ليلة شهر شعبان سافر حضرة الحاج أسعد باشا إلى الدورة. وثاني ليلة من سفره قُتِلَت امرأة في أوّل الليل بين حارة السويقة وحارة قبر عاتكة ولم يتحقق قاتلها. وقد ثبت رمضان الخميس، ونائب السياسة موسى كيخية، وقاضي البلد خليل أفندي البكري، وأسعار الخبز وغيره كما ترى: فرطل الخبز بثلاث مصاري وبأربعة وبخمسة، وغرارة القمح باثني عشر قرش، ورطل اللحم بعشرين مصرية، ورطل الرز بعشرة مصاري في أيام موسمه، والدبس ثلاث أرطال وثلث بقرش، والوقية بمصرية وقطعة، ورطل البصل بثمانية مصاري، والحطب الرطل بمصرية، والسنديان قنطاره بمئة مصرية وعشرة مصاري. ولا أحد يسأل ولا كبير يتكلم، والفساد كثير والمولى خبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وبهذا الشهر في جامع الأموي جلس رجل يعدّ ذهباً معه، جاء رجل وخطفهم أمام مئات من الناس، وأسرع في الجري فصاح صاحبهم، فأدركه بعض أعوان السياسة، فأعطاه شيئاً من الذهب فتركه. وبهذا الشهر أيضاً رجل حمل ولده وعلى رأسه شيء من الدنانير، فتبعه لص حتى دخل حامل الولد زقاقاً، فخطف الدنانير والطاقية وذهب. وفي ليلة السبت عاشر رمضان بعد ما سكّر بوّاب حرم الأموي الأبواب نام، فجاء المؤذنون وطرقوا باب الجامع، فقام ليفتح لهم فوجد ثيابه مفقودة، فأعلمهم بذلك، فدخلوا وسكّروا وفتّشوا الحرم جميعهم، فلم يجدوا أحداً والأغرب أن جميع الأبواب مسكّرة، ثم ذهبوا لجهة الضريح، فوجدوا ثمانية قناديل من فضة مفقودة وقنديل واحد من ذهب، ولم يعلم لهم غريم. وفي سابع رمضان المبارك جاء ركب الصرة أميني من إصطنبول. وفي يوم الخميس في نصف رمضان دخل حضرة الوزير أسعد باشا إلى الشام حين كان غائباً في الدورة، وهو والحمد لله في غاية الصحة والسلامة. وفي يوم السبت سابع عشر رمضان جاءت البلطجية من إسلامبول ومعها اثنان وعشرون تخت أروام ومعها أيضاً ابن الوزير الأعظم المنفصل عن الوزارة في هذه السنة ومعه الملكة وطواشي كبير، وأخبروا أن الدولة العلية متضعضعة. وفي يوم الجمعة كان يوم عيد الفطر، وصار في ذلك اليوم هزّة عظيمة، وهي فتنة صارت بين المغاربة وأولاد الشاغور، وسكنت ولله الحمد من غير قتل أحد. ونهار الاثنين رابع عيد الفطر غرق شاب في نقب الربوة وما ظهر له أثر. وفي ليلة الخميس خامس شوّال قُتِل إبراهيم آغا ابن قوسر، قوس في داره التي في قبر عاتكة، ولم يُعلَم قاتله. ونهار الأحد سابع عشر شوّال رحل أسعد باشا العظم حفظه الله بموكب المحمل الشريف. وكانت السنة العاشرة من حجاته المتواليات بالركب الشامي أميراً ولدمشق الشام وزيراً. وبذلك اليوم جاء الركب الحلبي، وقبله بيومين جاءت قافلة العجم، وهي قليلة بالنسبة للعام الذي قبله، وقد نزلوا في الخراب والسويقة. وفي تاسع عشر شوال سار ركب الحج الشامي من دمشق بالسلامة قاصداً بيت الله الحرام. وبعد أيام نادى حضرة محمد آغا المتسلم على اللحم الرطل بثمانية عشر مصرية، وسمر جماعة من اللحامة، ولم يقبل رشوة ولا برطيلاً، وعدل في حكمه وفّقه الله تعالى حتى صارت الفقراء تدعو له جهاراً. وبعد مدة سعّر جميع البضائع وشدّد، وصار يأخذ بيد كل من يشتكي له، جزاه الله خيراً. وفي ذلك العام خزن الفحم، ففتش المتسلم وسعّر، فلم يفد ذلك شيئاً، ولم يصل أحد للفحم إلاّ من كان قويّاً مثل القبقولي والدالاتي.، ولم يجد المتسلم له بهذا الخصوص مساعد. سنة 1166 ثم دخلت سنة ستة وستين ومئة وألف بنهار الثلاثاء أو الأربعاء جعلها الله سنة خير وبركة ورحمة علينا وعلى خلق الله أجمعين. وفي غرتها أي غرة محرم دخل قاضياً للشام من أبناء الترك واسمه صالح ملاّ، فنزل من دار علي آغا بن الترجمان قريباً من باب القلعة وبطل الحكم من المحكمة القديمة المسماة بالكبرى. وفي تلك الأيام وقع برج القلعة وأخذ البدن كله من بابها، وهكذا إلى آخر البرج من جهة القبلة، ولم يُقتل سوى رجل من القلعة. وفي تلك الأيام نزلت مطر كأفواه القرب ثلاثة أيام متوالية، أذهبت غالب مساطيح الزبيب وأتلفت البيادر. وبهذه الأيام في العشر الأول من المحرم شنق متسلم الشام ثلاثة أشخاص من اللصوص في شجرة الدالية التي في المرجة أمام باب التكية. في منتصف محرم جاءت بشارة لدمشق: وهي مقرر لحضرة الحاج أسعد باشا والي الشام. وفي ليلة الاثنين ليلة عشرين من المحرم شنق المتسلم لصّاً في السويقة وقطع يد رجل نشّال. وفي سلخ محرم جاء كتّاب الجوقدار، وأخبر أن الحج في هذه السنة ذهب وآب من طريق الفرعي، وخرجت عليهم عرب وقضوا مشقة عظيمة، وصارت مقتلة جسيمة، ووقع نقص بالحاج وبالعسكر خصوصاً في المغاربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ومات في تلك السنة قبوجى لر أغاصي وشيخ الزبداني، وشنق الباشا السيد حسن شيخ شباب باب المصلى، وقتل أيضاً جماعة من الأشقياء، ودخل الحاج الشريف يوم الثلاثاء خامس صفر. ودخل أمير الحاج أسعد باشا بموكب المحمل يوم الأربعاء، وفي منتصف ربيع الأول نبّه الحاكم على أن لا يروج الفلوس المكسور منهم والرصاص. وثاني يوم نادى المنادي على الفلوس الصحيحة كل اثني عشر بمصرية بعد ما كانت كل أربعة وعشرين بمصرية، وأن لا يروّج منها إلاّ القسطنطيني، فحصل للناس ضيق عظيم، وسكّرت غالب البلد، ثم نادى منادي الحاكم كل أربعة وعشرين بمصرية. وأرجعهم على حالتهم الأولى. ولكن لله الحمد والمنّة، الناس في أمن وأمان ورخص ورخاء في جميع البضائع ما عدا اللحم، فإن رطله بثمانية وعشرين مصرية، وأما غيره فرطل الخبز بثلاثة مصاري وبمصريتين ونصف، وغرارة القمح بخمسة عشر قرشاً أو أقلّ. وعلى هذا فالحمد لله فليقس. وفي ثالث ربيع الثاني توفي العبد الصالح الشيخ مصطفى الكردي من أبناء الترك والأغوان، فيتكلم بالتركي والكردي والأغواني، وكان على صلاح عجيب، وكان دائماً متسلّحاً بالسلاح الكامل متقلِّداً به ليلاً ونهاراً، ولا ينام إلاّ متقلِّداً به، وإذا دخل الحمّام دخل بالعدّة الكاملة، وكان قليل الكلام لا يتكلم مع أحد، وفي بعض الأوقات يتكلم ويسبّ بالتركي، ويوم وفاته صار له مشهد عظيم، ودفن بمرج الدحداح، رحمه الله تعالى. وفي تلك الأيام من هذه السنة شرع حضرة أسعد باشا في عمارة القيسارية التي في البزورية التي عزَّ نظيرها في الدنيا، وذلك بعد ما هدم قيساريتين ودور ودكاكين وجعلها قيسارية واحدة بهذه الصفة التي لا نظير لها، وفي يوم الأربعاء تاسع ربيع الثاني وقع حائط جامع الشيخ عارودك غربي الصالحية على إمام الجامع المذكور وعلى ثلاثة أشخاص معه، فماتوا جميعاً عفى الله عنهم. والعجب أن هؤلاء الأربعة كل واحد منهم اسمه محمد، وهو اتفاق عجيب، ودفنوا بيوم واحد. وفي سلخ ربيع الثاني ربط غلام مراهق رسن فرس في زنّاره، وجلس يتوضّأ على نهر قرية القدم عند قبة العسالي، فجفلت الفرس وصارت تعدو والغلام مربوط برسنها، وتكرّ وترفس الصبي حتى وصلت إلى باب الله، فمسكوا الفرس فوجدوا الغلام قد تهشّم وتطع ومات، والغلام ابن أحمد بشه السحار القبيباتي، والفرس لأبيه. فأعلموا حضرة أسعد باشا حفظه الله فأمر بدفنه، ولم يلحق بأحد ضرراً. وفي تلك الأيام جاءت خزنة مصر وبقيت أياماً ثم سافرت، وفي تلك الأيام نهبت اللصوص ضرايح الصحابة والأولياء، ففي غرة رجب قلعوا شباك سيدي بلال الحبشي، وأخذوا حديده وثوباً مقصباً كان على تابوته وشدقتين من حرير وسجادتين وغير ذلك. وأخذوا شباك الشيخ عبد الجبار ابن سيدي عبد القادر الجيلاني، مزاره غربي باب الصغير، وأخذ ثوب تابوت سيدي أبي بقبلي مقبرة الشيخ رسلان. وثاني رجب من هذه السنة توجّه حضرة الوزير الحاج أسعد باشا والي الشام يريد الغزو على عرب البلقاء، فأخذ معه من رجال القرى وهم الفلاحون ألف ومئة فلاح، واستجلب عساكر من حمص وحماة والمعرّة وجبل الدروز والمتاولة ومن نابلس والقدس وصفد ما عدا عرب السردية وغيرها. وخرج بمال عظيم. وسكّرت تلك الأيام الأسواق ومنعت النساء من الخروج وعظمت الأمور. ثم في أثناء هذا الشهر وردت الأخبار بأن حضرة الباشا سار بالعسكر إلى فوق البلقاء، ودخل بمكان يقال له الوكر، وهزم ابن عدوان هو وعربه ونهبوهم العسكر عن بكرة أبيهم. وذهب الباشا إلى الدورة من هناك. وبهذه السنة ثبت رمضان بالرؤيا، فصمنا الاثنين. وفي ليلة العاشر من رمضان جاء الباشا من الدورة، وجاء العسكر مع الكيخية بعد يومين. وفي هذا الشهر فُقد حاجي غريب في خان الحرمين بباب البريد، فاتهموا به رجل من أبناء الترك غلينجي، فقبضوه وعذّبوه وأخذوا ماله وأطلقوه. وبهذا الشهر ظهر قتلى كثيرة من رجال ونساء ولم يُسأل عنهم. وكل شيء موجود والغلاء يلعب في جميع البضائع، وقد شحنت الشام من سائر أصناف الخلق، وامتلأت غالب المواضع، وكان عيد الفطر يوم الأربعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وفي يوم الثلاثاء رابع عشر شوال خرج المحمل الشريف بالموكب المنيف وبالأمير الخطير الحاج أسعد باشا. وكانت الحجة الحادية عشر من حجاته المتواليات. وفي تلك الأيام جاء طوخان إلى مصطفى بيك بن إسماعيل باشا العظم أخي أسعد باشا، وأن يكون محافظاً للجردة مع أخيه سعد الدين باشا أميرين في سفر الجردة. وقبل خروجهم بيوم قامت قبقول دمشق قاطبةً بالأسلحة، وعملوا جمهوراً، وقامت اليمق على الأرطلية. وهذه الفتنة بسبب رجل صار قبقولي فما قبلوه ولا ارتضوه، وسكّرت الأسواق واشتغل ضرب الرصاص وجرحوا بعضهم بعضاً، وما صلح الأمر إلاّ بتبطيل الرجل من الوجاق، وعزل الأضباشي والأصطا. وكان عيد الأضحى هذه السنة يوم الأحد. وطلعت أخبار في تلك الأيام بتغيير السلطان ومجيء أحمد باشا ابن القلطقجي، فارتبكت وانخبطت القبقول، ثم بان بأن الأمر كذب لا أصل له، وحرقوا الخشبة وداروا في الأسواق. وفي يوم الجمعة والناس في صلاتها سلخ ذي الحجة كسفت الشمس. وفي تلك الأيام جاء خبر بأن محمد باشا حاكم صيدا مات وكان على ما نقلوا أنه ظالم غاشم مصادر الناس بأموالها، حتى هرب أهل صيدا إلى جميع البلاد. سنة 1167 ثم دخلت سنة سبع وستين ومئة وألف يوم السبت وبهذا اليوم سافر قاضي الشام صالح منلا طالباً إسلامبول. وفي سابع المحرم قدم القاضي الجديد، ونزل في محكمة النورية المسماة بمحكمة الباب. وفي ثامن عشر قتل أحمد آغا بن سنان في باب المصلى، وهو من قرية قريبة من قطنا. وفي ليلة الجمعة عشرين من المحرم توفي بقية العلماء الأعلام مفتي السادة الشافعية وأفصح من نطق بالعربية الشيخ محمد أفندي الغزي، ودفن بمرج الدحداح، رحمة الله عليه وعلى أموات المسلمين. ونهار الثلاثاء رابع وعشرين المحرم قدم جوقدار الحج الشريف مبشِّراً بكل خير عميم. وفي أثناء هذه الأيام جاء مقرَّر الشام لحضرة الحاج أسعد باشا والي الشام. وفي يوم الجمعة خامس صفر الخير دخل ركب الحاج الشامي بالصحة والسلامة أحسن من كل عام، وأخبرت الحجاج أنهم لم يحجّوا نظيرها من الرخاء الكثير والماء الغزير والأمن والأمان، ولم ينقص من الحجاج إلا الأفراد النادرة، وأن أمير الحاج خوزق أربع لصوص من أولاد الشام، وتوفي معهم تُرْبَدار، ومتولي جامع السلطان إبراهيم بن أدهم. وثاني يوم السبت دخل المحمل الشريف والموكب المنيف بالكواخي والبشاوات، فكان أولهم مصطفى باشا بن إسماعيل باشا العظم أخو الحاج أسعد باشا، وبعده أخوه سعد الدين باشا العظم، وبعده أخوهما الوزير الكبير الحاج أسعد باشا في ألاى حافل وعسكر وجحافل. وثالث يوم دخلت خزنة مصر، وكانت بثمانية أحمال، فتفرجت الناس ثلاث فرج بثلاثة أيام متتابعات: يوم دخول الحج ويوم دخول المحمل ويوم دخول خزنة مصر. وفي ذلك العام من شهر محرم الحرام تمت قيسارية أسعد باشا والي الشام الذي لم يعمل مثلها في سائر بلاد الإسلام، وقد تم بناؤها بعد سنة وشهرين. قال المؤرخ: وقد بلغني أنه صرف عليها في كل يوم من الآلات والأجر ألف ومئة غرش، ولكن كما قال القائل: جزى الله الوسعة كل خير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وفي ليلة الخميس تاسع عشر صفر الخير لثلاث أيام مضت من كانون الأول ثالث ساعة من الليل صارت زلزلة خفيفة في دمشق وقع بسببها بعض أماكن في سراية الحكم على جماعة، فقتل رجل مسلم ورجل نصراني. وكان ذلك الشهر مطره غزير جداً يعقبه إن شاء الله تَعالى خير كثير. وتوفي بهذا الشهر الشيخ محمد بن أحمد بن سوار شيخ المحيّا والشيخ خليل بن البكري في داره بباب توما وأعملوا له في الأموي. وفي ثامن عشر شهر صفر يوم الجمعة بعد العصر توفي لرحمة الله تَعالى الشيخ أحمد الجلبي إمام جامع السنانية للسادة الشافعية. قال المؤرخ: كان هذا الإمام إماماً في كل فن، ضحوك السن فاضلاً مباركاً قاطناً في جامع العداس عند الملاّ إلياس قُدّس سره، لا يفارق الملا لا ليلاً ولا نهارا، ودفن بباب الصغير قريباً من الملا إلياس، رحمهما الله تَعالى. وفي تلك الأيام أيضاً توفي الشيخ يحيى بن محاسن رحمه الله. وفي نهار الاثنين الثاني والعشرين من شهر صفر تشاجر سعد الدين المغربي خدام في بيت الخانم بنت سليمان باشا مع رجل من نفر الأرطة، فضرب الأرطلي فقتله، وجرح طواشي الخانم بعدما جرحه المغربي جرحين. فحين بلغ حضرة الوزير أسعد باشا أمر بقتله حالاً، فخنقوه في تلك الأيام من غير إثبات ولا دعوى. وفي منتصف مربعانية الشتاء وقعت صخرة بنهر القنوات، ووقوعها كان تجاه وادي كيوان، سدّت النهر وانقطع ثلاثة أيام بلياليها، فأخرجوا الصخرة قطعاً قطعاً، فوجدوها قبراً قديماً من قبور الحكماء. وفي شهر ربيع كذا أعاد الباشا السردرة على البلاد، فصاروا يمسكون من عرب الجبل ويقتلون ويأتون برؤوسهم إلى الشام. وفي شهر جمادى كذا جدَّد حضرة أسعد باشا الجامع الذي هو قدام قهوة الخريزاتية وحسّنه هيئة وفرشاً وعمّر بعض دكاكينه قنايا ماء قريباً من بيت السفرجلاني. وفي أواخر رجب جاء مقرَّر لسنة ثمانية وستين، وهو عن ثلاثة عشر سنة من حكمه، حفظه الله أمير الشام وأمير حاج الإسلام وقد عدل في الخاص والعام، وأحسن للعلماء والفقراء والأيتام بلا ظلم ولا عدوان، وعمَّر أماكن كثيرة داخل المدينة وخارجها ومدارس وجوامع وغير ذلك من وجوه الخير والصدقات، جزاه الله خيرا. وفي يوم الاثنين خامس رجب خرج حضرة أسعد باشا إلى الدورة، وترك موسى كيخية متسلماً بها. وكان نصف شعبان المبارك يوم الخميس، وثبت أول رمضان نهار السبت. والأسعار ناهضة جداً: فرطل اللحم بأربعة وعشرين مصرية، ورطل الخبز بأربعة وبخمسة مصاري، ورطل الأرز بعشرة مصاري، ورطل الكعك باثني عشر مصرية، ورطل الدبس بخمسة عشر مصرية، وأوقية السمن بستة مصاري في أيام الموسم، وأوقية الزيت بثلاث مصاري ونصف، وكذلك الصابون، وأوقية الجبن الأخضر بمصريتين، وأوقية القريشة بثلاثة مصاري، ورطل المشمش الحموي بستة مصاري مع أنه مقبل كثير، والمشمش البلدي بثلاثة مصاري ونصف مع إقباله. وحاصله كل شيء غالي حتى العلق التي تستعمله الناس لإخراج الدم، والقصرمل الذي يخرج من وقيد الحمام، والأمر لله. وفي ثاني عشر شوال سار حضرة الوزير الحاج أسعد باشا مع المحمل في الموكب العظيم للحج الشريف. وكانت هذه السنة هي الثالثة عشر من حججه المتوالية وإمارته التي لم تسبق لغيره. وبهذه السنة مروا على وادي الليمون في الطلعة، وكانت وقفتهم الجمعة، ورجعوا من الطريق السلطاني. وفي خامس وعشرين من المحرم دخل جوقدار الحج وبشَّر بالخير. وفي خامس صفر دخل الحج الشريف وهو على أحسن حال. وفي هذه الأيام توفي رجل من البله المجاذيب، وكان بطلاً من الأبطال تعتقده أهل الشام ويكاشف بكلامه، ويقع كما يقول واسمه الشيخ خليل البياض. وخرج بجنازته أكابر الشام حتى حاكمها المتسلم موسى كيخية ومشى وراءها، رحمه الله. سنة 1168 ثم دخلت سنة ثمانية وستين ومئة وألف. وكان غرة محرمها نهار الاثنين المبارك، جعلها الله سنة خير وبركة علينا وعلى سائر المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ونهار الجمعة، سلخ صفر قدم قبجي من إسلامبول، وأخبر بوفاة حضرة السلطان محمود خان بيوم الجمعة، والناس في الصلاة وجلس أخوه مكانه، وهو السلطان عثمان خان، والخطبة باسمه. فانهزّت الشام البلدة من هذا الخبر، وبقيت الناس مترددة في الاستقرار، إلى أن كان نهار الخميس عاشر ربيع الثاني جاء قبجي كبير من دار السلطنة ومعه منشور عظيم بأن صاحب الخطبة في سائر بلاد الإسلام السلطان عثمان خان، وأمر أن تزين دمشق ثلاثة أيام، فزينت زينة ما سمع بمثلها، أبقى الله تَعالى هذه الدولة العثمانية إلى آخر الدوران. آمين. وبهذه السنة انتشر مرض الجدري في عموم الناس، حتى في الشيوخ والعجائز، ومات فيه كثير من الأولاد. وفي أوائل جمادى الأولى ذبح بيرقدار التفكجية في الخان الصغير الذي هو قبالة حمام الملكة، ولم يُعلم ذابحه، ولم يؤخذ من ماله شيء. ووجد بهذه الأيام قتيل في النهر، وقتيل في التربة وفي غير ذلك أيضاً. نسأله تعالى حسن العاقبة. وفي منتصف جمادى الأولى جاء تقرير إلى مصطفى باشا أخي سعد الدين باشا بن العظم إلى صيدا، ولم يأت إلى أخيه أسعد باشا خبر شافي من جهة حكم الشام، وقد طال عليه المطال. والغلاء في كل شيء حتى التراب والقصرمل والأحجار والحديد والخشب، وغير ذلك من أدوات العمارة، وبالجهد الكلي حتى يحصل الإنسان على معلم أو نجار، وأجر الواحد بدينار ولا يوجد، والكلس واللبن لا يوجدان وهلم جرا. فقد ضاقت الأنفاس والأشياء زادت عن حد القياس، والباشا ومن حوله يجمعون المال في الأكياس، فنادى على اللحم فلم يوجد ونادى على الصابون فتبدّد، ونادى على الزيت، وكان له أغراض وأمور وأحكام تفتت الكبد، والمستعان بالله الفرد الصمد. وفي تاسع عشر جمادى الأولى ظهر خبر بأن امرأة قتلت زوجها مع جماعة من الأشقياء، بدعوى أنه ينام مع مملوكه ولا ينام معها، وبعد قتله دفنوه في دهليز البيت، والقتيل ينتسب إلى الأكراد، وله قهوة بسوق الخيل، واسمه درويش آغا، فقامت الأكراد على ساقها في سوق الخيل، فجاء ولد صغير كان حاضراً ومطلعاً على قتله ودفنه، فدلّهم على مقتله وداره، فذهبوا وألقوا القبض على الجميع، فوجدوا طبجي الباشا خليل آغا وأخو الزوجة ورجل آخر، فجاؤوا إلى الطبجي وقطعوه قطعاً، وقتلوا الرجل وأخا الزوجة، أما المرأة فإنهم أخذوها وغرقوها في مغرق البحصة في نهر بردى، ولم يسألوا عن الحكام، والحاكم لم يتعرض لهم فنسأله تعالى الفرج القريب. وفي تلك الأيام شرع حضرة أسعد باشا والي الشام بترميم الجامع الأموي، حتى بلغني أنه اشترى طنافساً أي فرشاً بأربعة أكياس. جزاه الله خيراً. وفي تاسع جمادى الأولى من نهار الثلاثاء نزل مطر عظيم وثلج جسيم، فزادت المياه حتى طاف نهر بردى، ووصلت الزيادة إلى تحت القلعة، ومشت إلى حارة العمارة، لكن ولله الحمد لم تضر بأحد ولا بالبنيان. وبتلك الأيام صارت فتن بين عرب الشام وعرب عنزة كذا. وفي شهر رجب أرسل أسعد باشا والي الشام عسكراً لعرب الفضل، فنهبوا مالهم وطرشهم وبعض عيالهم. وفي تلك الأيام شنق الباشا رجلاً حمّالاً من حارة البحصة، قيل إنه خنق رجلاً من جيرانه. وفي منتصف شهر رجب جاء مقرَّر حضرة أسعد باشا والي الشام، وكانت السنة الثالثة عشرة من حكمه وإمارته للحج. وبهذا الشهر خرج حضرة والي الشام المذكور إلى الدورة، وجعل مكانه متسلماً موسى كيخية لدمشق الشام. وثبت هلال رمضان هذه السنة ليلة الثلاثاء، وشعلت القناديل في المآذن، وصلوا التراويح قبل أن يضربوا المدافع، وما ضربت إلا بعد ساعتين. وفي هذه الأيام عزلت الحكومة الأمير حيدر بن حرفوش عن بلد بعلبك، فأبى الخروج منها وأمر جميع من فيها بالرحيل وكل من أقام بعد ثلاثة أيام ينهب ماله وعياله. فرحلوا بعدما حرق بيوتهم وكرومهم وطفشوا إلى البلاد والقرايا، وأقام بها هو عاصياً، ثم ضمن الأمير حسين بن حرفوش بعلبك، ورجعت غالب أهل بعلبك بلا أدنى حادث. سنة 1169 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثم دخلت سنة تسع وستين ومئة وألف نهار الأحد والغلاء قائم في الشام كما قدمنا. وجاء الجوقدار سابع وعشرين من المحرم، والكَتّاب جاء ثاني يوم من صفر، وسادس يوم منه دخل الحج الشريف. وأخبرت الحجاج أن هذه السنة كانت مخصبة ودار بهم أمير الحج من غير الطريق السلطاني، فحصل على الحج عطش شديد، حتى هلك في يوم واحد ألف وخمس مئة إنسان. وفي سلخ ربيع الثاني جاء مقرَّر إلى الحاج أسعد باشا في الشام وهي السنة الرابعة عشر من حكمه الشام وإمارة الحج الشريف المتوالية التي لم تسبق لغيره. وتلك الليلة نزل ثلج عظيم في الشام ما رؤي مثله من سنين. وبتلك الأيام جاء قبجي إلى حسين بيك بن مكي حاكم غزة ومعه فرمان بأن يكون باشا بالقدس ويعمِّر ماء القدس، وأن يلم مال الدورة بأمر الدولة. وكان صوم رمضان هذه السنة نهار الأحد. وفي جمادى الأولى نزل ثلج عظيم بدمشق وأقام أياما وهدم أماكن كثيرة. وفي تلك الأيام جاء قبجي برجوع القدس إلى أسعد باشا والي الشام. وفي ذلك الشهر جاء خبر بأن عرب الحجاز محاصرين مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلَّم، ولها نحو شهرين في المحاصرة، حتى هدموا ما حولها وقطعوا نخلها وضيّقوا على أهلها، وهم الآن في كرب وضيق ما سبق ولا سمع من عهد الجاهلية. فبلغ هذا الحال الدولة العلية أيّدها الله تَعالى، فأرسلت إلى حاكم الشام أسعد باشا العظم بأن يتأهب لقتالهم بالرجال والعسكر الجرّار، وإلى أخيه مصطفى باشا كذلك، وإلى أخيه سعد الدين باشا كذلك، وأن يكون حاكماً بجدة، وأن يأخذ معه عساكر وأن يساعد أخويه. وفي تلك السنة أمر حضرة الحاج أسعد باشا العظم بترميم وإصلاح جامع يلبغا، فعمل له وقفاً وجرايات بعد ما جدد فيه أخلية وغير ذلك، وأمر أيضاً بإصلاح جامع الياغوشية الذي تحت القلعة. وكان قد وقع منه جدار على امرأة ورجال، وألزم بعض أخصائه بتعميره من ماله لأنه ذو مال. وفي أول رجب تمت عمارة قهوة الشاغور التي هي مقابلة للشيخ السروجي رضي الله عنه. وبتلك الأيام عُمِّرت أيضاً قهوتين كذا بباب السريجة وقهوة أمام باب المصلى. وفي نهار الجمعة من شعبان توفي مصطفى بيك بن مردم بيك، وهو من أعيان الشام وذوي البيوت التي شهدت أهل الشام بصلاحه، لأنه كان يحب الخير ويعمله، ولا يقارب الحكام وليس له أذية لأحد، ودفن بمدفنهم عند جده لالا مصطفى باشا، في أسفل سوق السنانية. ثم جاء رمضان المبارك وأثبتوه الأحد وصمناه تماماً. وسار الحج قاصداً الحجاز ثامن عشر من شهر شوال. وفي ذلك اليوم توفي عبد الله أفندي زاده قاضي الشام، ودُفن بجوار سيدي بلال الحبشي رضي الله عنه. وبهذا النهار وجدوا صبياً مخنوقاً في نهر بردى، وبعده ظهر أبوه أنه خواجا في سوق السلاح. وفي يوم الأحد ثالث ذي الحجة دخل سعد الدين باشا والي طرابلس إلى سردارية الجردة بعد ورود عزله من طرابلس. ونهار السبت كان نهار وقفة عيد الأضحى بالشام. وفي سلخ ذي الحجة نهار الجمعة توفي خطيب الأموي محمد سعيد أفندي بن محاسن ودفن بباب الصغير. سنة 1170 ثم دخلت سنة سبعين ومئة وألف نهار السبت في طالع يمن وفرح وسرور إن شاء الله. ولكن الغلاء واقع في البضائع وغيرها كما أسلفنا، فلا عود ولا إعادة. وبهذه الأيام انفصل مصطفى باشا أخو أسعد باشا العظم من صيدا ووُجهت عليه ولاية أدَنة. وبتلك الأيام صار انقطاع نهر القنوات بعد عيد الزبيب. وبنصف محرم جاء من إسلامبول قاضي الشام محمد أفندي. وبهذه الأيام سمّروا خبازاً بباب الجابية. وفي سابع وعشرين محرم دخل جوقدار الحج الدالي علي باش ومعه جماعة، وبشَّر بالخبر وأن حضرة الباشا والحجاج سالمين. وفي يوم الثلاثاء جاء كتّاب حماة وحلب، ويوم الأربعاء جاء نصراني في بعض مكاتيب، وأخبر أن كتّاب الشام جرحوه العرب. وبتلك الأيام أتت السماء بمطر كأفواه القرب، حتى ظنت الناس أن الحج قد غرق، وكان بمنزلة الصنمين. وقد تأخر دخول الحج عن ميعاده نحو جمعة. ونهار الثلاثاء ثاني عشر صفر دخل الحج الشريف، وثاني يوم دخل أمير الحاج وحاكم الشام الحاج أسعد باشا العظم في موكب الحج والمحمل الشريف. وهذه السنة الرابعة عشر كما قدمنا من سنين حججه المتواليات التي ما عُهدت لغيره. أدام الله أيام وجوده آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وبهذه السنة أصلح حضرة أسعد باشا بين أهل المدينة الشريفة وبين العرب الذين حاصروها، وذلك بعدما أعطاهم نحو مئة كيس من المال، فشكرته جميع الحجاج على هذا الصنيع، جزاه الله تَعالى كل خير آمين. وبهذه السنة صار أيضاً نقص في الجمال والناس. فقد نقلوا أنه مات في محطة آبار الغنم أكثر من ألف وسبع مئة نفس في يوم واحد من اشتداد الشوب وهو الحر الشديد. وفي قناق آخر سبع مئة نفس، ما عدا الذين ماتوا شيئاً فشيئاً. وبهذه الأيام حصلت حميرة في الأولاد في دمشق الشام، فمات منهم كثير. وفي يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول أهدى حضرة السلطان إلى حضرة الأمير الحاج أسعد باشا مع قبجي باشي قفطان وسيف عظيم مع فرمان عظيم فيه تفخيم كثير لحضرة الوزير المشار إليه. وفي ليلة الجمعة توفي شيخنا الشيخ إبراهيم الجباوي السعدي الشاغوري شيخ سجادة الطريقة السعدية ومتولي الجامع الأموي وقد سار للإسلامبول، واجتمع بثلاثة سلاطين: السلطان أحمد والسلطان محمود والسلطان عثمان. وصار له خير وإنعام، بعدما ظهر له سر وبرهان. وخلف كثيراً من الخلفاء في الروم ومصر وحلب والشام، وبلغ جاهاً عظيماً مع تواضع كلي بحيث يجلس بالقهاوي ويسلِّم على الكبير والصغير، وكان يوم موته يوماً مشهوداً، ودُفن عند جده الشيخ حسن الجباوي رحمه الله. وفي سلخ ربيع الأول من هذه السنة وهي سنة سبعين ومائة وألف مات قاضي الشام ودفن بباب الصغير، وصار له مشهد عظيم. وفي سابع يوم مضى من تشرين الثاني هطلت أمطار كثيرة وأعقبها برد شديد وهواء يابس، حتى يبست المياه في البرك والبحرات ويبست الشجر وتشقق الصخر، واستمرت نحو بضع وعشرين يوماً، ويبس الليمون والكباد والنارنج وغيرهم من الأشجار واستمرت بضعاً وعشرين يوما، حتى تجدها في الطرقات كالصخور، ومات كثير من الوحوش والكلاب والطيور. وبلغني أن شخصاً كان له دجاج، فبيوم واحد مات له اثنين وعشرين دجاجة مع المحافظة عليهم. وأما في البراري فلا تسل عما صنع الجليد والبرد فيهم، فقد مات كثير من الطرش والغنم. ومات من أولاد العرب ونسائهم خلق كثير. وبلغني أن نواعير حماة وقفت والطواحين أيضاً والأسواق سكَّرت. فالحاصل سقعة مهولة وزميتة مزعجة وجليد مهول، ما سُمع ربما من مدة سنين. قال المؤرخ البديري عفا الله عنه: وفي يوم الخميس منتصف ربيع الثاني من هذه السنة وجهت دمشق الشام على راغب باشا المنفصل عن مدينة حلب. وفي ليلة الأربعاء سلخ ربيع الثاني جاء خبر مع نجّاب إلى حضرة الحاج أسعد باشا والي الشام بأنه عُزل وولي حلب. وثاني يوم من عزله أرسل خلف متسلمه موسى آغا ولبّسه فروةً ثمينة وأقامه متسلم دمشق الشام، وأظهر أنه جاء الخبر من الدولة بأن يكون كيخية راغب باشا، ليتعاطى أمور الحاج والدورة، وبأنه جاء بشارة أنه بعد فراغ السنة من الحاج أنه والي جدة وباشا بطوخين. فتسلم حكم الشام موسى كيخية. وأخرج حضرة أسعد باشا جميع من في الحبوس، وكان في الحبوس شيء كثير من أربع سنين وخمس سنين وعشر سنين. وأقام أسعد باشا في دمشق يتردد على سراية الحكم إلى يوم الجمعة خامس عشر جمادى الأولى، جاءه قبجي بفرمان الحكم في مدينة حلب وبشارة بطوخين إلى موسى كيخية، وأن راغب باشا المنفصل عن حلب قد نال الوزارة العظمى، وقد توجه للإسلامبول، وأن دمشق والشام توجهت على حسين باشا بن مكي القاطن في مدينة غزة. وأقام الحاج أسعد باشا إلى نهار الاثنين، ورحل بالسلامة متوجهاً إلى مدينة حلب، بعدما أمر بإصلاح الوجاقين وأن يجعلوا في كل مصلبة جماعة من الإنكشارية وجماعة من القبقول، وأن يجعلوا عليهم في كل قلق واحداً أنباشي. وقد شاع الخبر بأن الوالي المقبل على الشام سيئ الخلق ظالم غاشم. وقد خافت القبقول من الإنكشارية وجميع حواشي أسعد باشا، وصاروا يأخذون في القيل والقال، وقامت بعض السفهاء من أهل الحقلة والميدان فردّتهم أكابرهم، وصار في البلد خوف عظيم وأراجيف، حتى عزلت القبقول بيوتها، وعزّلت أصحاب الدكاكين دكاكينهم من سائر الأسواق. وكان أول حكم موسى كيخية المتسلم أن أمر جميع المنازيل التي في الحارات من عشرين ثلاثين سنة تعمرها أهل محلتها، فانخبطت البلد خبطة مزعجة. وفي ذلك اليوم شنق الباشا شاباً من أولاد السويقة يقال له ابن سمرتين، فقلّت الرواجف وأمنت الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وفي يوم الثلاثاء وليلة الأربعاء بعد المغرب شاع خبر حتى وصل إلى السرايا بأن أحمد القلطقجي الذي كان من رأس الزرباوات الذي هرب وعصى في جبل الدروز كما أسلفنا ذكره هاجم ليلة الأربعاء على الشام. فما أشأمها من ليلة على أهل الشام من كثرة ما دهمهم من الخوف والرعب والسهر وإخلاء البيوت والدكاكين وقد صفت المتاريس في جميع البوابات. وكانت ليلة من هولها كليلة القيامة، لم تذق أهل الشام بها نوماً قط، وهم ينتظرون طلوع الفجر، فلما لاح لهم لم يجدوا شيئاً مما توهموه، وكان الخبر كاذبا. وفي يوم الخميس خامس جمادى الثانية مع أذان الظهر كان دخول حسين باشا بن مكي إلى دمشق الشام، والمنفصل عن مدينة غزة التي هي وطنه. ودخل بموكب عظيم حافل بالأفندية وأعيان الشام وبالإنكشارية كلها خيالة، والقبقول كلها مشاة في العدد الكاملة والأسلحة المزخرفة والزينة الشاملة، ووقف العامة والخلق تدعو له، وتصيح وتستغيث من جور أعيان الشام والغلاء. وثاني يوم جاءت الأفندية والأعيان للسرايا لأجل السلام على الباشا، فوقفت الناس والعامة في طريقهم، فلما مروا عليهم ليدخلوا السرايا قامت العامة بالصراخ والضجيج، وصاحوا عليهم وقالوا: ارجعوا لا بارك الله فيكم، أنتم منافقون وتعينوا الحكام على ظلم الفقراء والمساكين، وأكثروا من سبّهم وشتمهم، ورجموهم بالأحجار وصارت حالة مزعجة. ففتح الباشا باب العدل والتفتيش على الرعية، حتى صار رطل الخبز بثلاث مصاري. ثم اشتغل بالظلم كأسلافه، فرجعت الأسعار إلى حالها الأول: كرطل الخبز بخمسة وبستة مصاري، حتى جاءت سقعة وهي شدة برد مؤلمة، فلم تبق ثمرة في شهر آذار إلا أحرقتها. وفي عاشر رجب حصلت سقعة ما سمع بنظيرها، فأتلفت ما بقي إن كان بقي شيء من الثمار. وفي سابع عشر رجب نهار الأربعاء توفي الشيخ الجليل العالم الفرضي الشيخ عبد الله البصروي الشافعي، علاّمة زمانه في كل فن خصوصاً في علم الفرايض، ودفن بتربة الشيخ أرسلان رحمه الله. وبهذا الشهر الشريف أيضاً قتل رجل في الميدان، ووجدوا ثلاثة أشخاص مذبوحين في تربة البرامكة. وبعشرين من رجب هاجمت المغاربة على الباشا، ثم قوّسوا على العوام، فقتلوا مقدار عشرة رجال وحرقوا أيضاً محلات. وبهذه الأيام وجدوا امرأتان مذبوحتان كذا في تلة باب الصغير. وبهذا الشهر أيضاً وقعت فتنة بين المغاربة واللواند الأكراد، وقتل من الفريقين مقدار خمسة عشر رجلاً وسكّرت الشام، ثم انقضت على الصلح. وفي السابع والعشرين من رجب شنق حسين باشا والي الشام رجلاً من الميدان اتُّهم بالحرام، وكان سابقاً قد قتل أمه ذبحاً. قال المؤرخ البديري رحمه الله تَعالى: وبهذه الأيام جاء خبر بأن الحاج أسعد باشا بن العظم والي حلب قد جاءه فرمان بأن يسير إلى مصر واليا، فعصت به أهل حلب، وقالوا لا نريد غيره، وكاتبوا الدولة العلية بذلك. ثم بعد أيام جاء مقرَّر حلب لأسعد باشا بن العظم، ولأخيه سعد الدين باشا منصب مرعش، ولأخيه مصطفى باشا منصب الموصل، فذهب كل واحد لمنصبه، وأرسل مصطفى باشا حريمه وأولاده إلى الشام. وفي أول شعبان خرج حضرة حسين باشا والي الشام إلى الدورة، وأقام متسلماً مكانه حسين آغا ألاي بيك السباهية، فعدل ولم يظلم ولم يتعدَّ على أحد. وقبل خروج الباشا أمر الوجاقين بالصلح وترك الفساد والعناد، وسلمهم البلاد والعباد، وأوقف مصطفى آغا الزعفرنجي اختيار وكبير القبقول تفكجي باشي بباب السرايا، بعد ما ضمن على نفسه إصلاح البلد. وقد دخل رمضان نهار الخميس، ودخل معه الغلاء الأكبر في الشام في جميع الأصناف، فوصلت غرارة القمح إلى الخمسين غرش، ورطل الخبز من سبع مصاري إلى اثني عشر مصرية، بعدما كان بثلاثة مصاري رطل أعلى خبز، ورطل الأرز بأربعة عشر مصرية، والدبس كذلك والبصل أيضاً، ومد العدس وكذلك الحمص والماش كذا واللوبيا والبرغل بثلاثين مصرية، ومد الشعير باثني عشر مصرية، وأوقية الثوم بمصريتين. والحاصل كل شيء غالي مع قلة الأسباب وقلة الحركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وفي ليلة الاثنين ثاني عشر رمضان صارت فتنة عظيمة بين أوجاق الإنكشارية ووجاق القبقول، لم تعهد منذ زمان، وساعدت القبقول الدالاتية والأكراد والمواصلة. وحاصرت كل حارة جماعة وكانت النصرة للإنكشارية، بعدما ضربوا عليهم المدافع من القلعة يومين وليلة، وقتل جماعة من العامة وقليل من الإنكشارية. لكن قتل من القبقول وأتباعهم خلق كثير، بعدما حاصروا حارة باب السريجة، وملكوها وخربوا بها بعض بيوت ودكاكين، وحاصروا أيضاً حارة الشاغور، حتى أنهم أشرفوا على أخذها، جاء النقيب حمزة أفندي وبعض مشايخ أصلحوا بينهم. ثم بعد اليوم الثالث اختلفوا. وفي عشرين من رمضان جاء حسين باشا والي الشام من الدورة فلم يحرك ساكنا. وكان عيد الفطر نهار الأربعاء. وفي العشر الأول من شوال قدم مصطفى آغا بن علي أفندي الدفتري من إسلامبول برتبة آغا على الإنكشارية، ودخل في عراضة أي موكب لم تُعهد في الدولة الشامية. وفي تاسع عشر شوال توجه حسين باشا بن مكي والي الإنكشارية أميراً على الحاج الشريف، وذلك بعد ما مشت معه جميع الإنكشارية والقبقول. وكان قبل خروجه للحج جمع أغوات الفريقين، وأصلح بينهما، وكتب حجة عليهم بحضور القاضي والمفتي وأعيان البلدة، مضمونها أن كل من تعدّى يكون عنده مئة كيس لمطبخ السلطان ودمه مهدور. فسكنت البلدة وصارت كقدح اللبن، ولم يحصل أدنى مكدر. وبقيت الراحة إلى يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة، جاء كردي اسمه ولي، وكان من جماعة أسعد باشا بن العظم والي مدينة حلب حالاً. وكان هذا الرجل الكردي له في الشام أسبقية ظلم وعدوان على أهل الشام، فقامت عليه الإنكشارية والعوام وقالوا اقتلوه، فهرب إلى القلعة واحتمى بالقبقول فحموه. وقبل خروج الباشا قامت أهل الشام بصوت واحد إننا لا نريد غريباً في بلدتنا، فأخرج لهم الباشا بيردى بذلك بأن لا يبقى في الشام غريب كيت. فخرج بعد خروج الباشا أناس وبقيت أناس. فلما قدم هذا الرجل تضررت منه العامة والأعيان، وأرسلوا له خبراً أن يرحل بنفسه ويحقن دمه. فأبى الخروج من الشام، وقد طمع بكونه احتمى بالقلعة عند القبقول. فحالاً سكّرت البلد وتجمعت أغوات الإنكشارية وتبعتهم العامة، وقاموا على قدم وساق، فاجتمعت العناتبية والأكراد والدالاتية، فنهضت القبقول وقام معها أهل العمارة، وأغاروا على الدرويشية، وتقاوسوا مع الإنكشارية إلى أن أقبل الليل، فهجموا على حواصل الإنكشارية الملآنة أخشاب وأحرقوها، وكانت تساوي عدة أكياس مال، فقامت الإنكشارية على أهل العمارة وشرّدت أهلها ونساءها وأولادها إلى جامع الأموي، ثم وضعت بها وبأسواقها النار، حتى صارت ساحة سماوية. واشتد الأمر على أهل العمارة من ظلم وعدوان الإنكشارية، وقد أعانهم بالحمية الجاهلية أولاد الحقلة من الميدان ومعهم بعض رجال من الدروز، وفتحوا أبواب المدينة، ولم يُعهد ذلك قبل الآن، وحضروا القبقول ورجعوا كارّين على الموصلية والبغادة والدالاتية وحصروهم، ووقع القتل بين الطائفتين. وفي ليلة رابع عشر من ذي الحجة خسف القمر خسفاً مهولاً. وفي اثنين وعشرين من ذي الحجة حصلت زلزلة في دمشق لم تُعهد من مدة أعوام، واستمرت عدة أيام بالليل والنهار، وذلك بعدما كُسفت الشمس، حتى رؤيت النجوم نهارا، ولا كانت هذه الأمة تعتبر اعتبارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ودامت هذه الفتنة أياماً بين صلح وقيل وقال، حتى صار الديوان عند الأغوات وأكابر الشام، وبُت القرار على إخراج غريب كيت من الشام، وأن يخرج ولي الذي كان سبب الفتنة. فأخرجوهم كذا الأغوات، ومعهم علي أفندي المرادي تطييباً لخاطر أهل البلد، ولم يزالوا خارجين بهم إلى خارج البلد، فرجعت الأغوات والأفندي المرادي وبقي الوجل على حاله، ثم صارت أهل كل حارة تسهر كل ليلة. وبقي الأمر على ذلك إلى أن وصل الخبر إلى الشام بأن الذين خرجوا نهبوا القرايا وقتلوا النفوس، وهتكوا الحريم. فأرسلت الحكومة أوراقاً إلى أهل البر والقرايا أن يقتلوهم أو يطردوهم، فتعصّبوا عليهم وطردوهم، ولكن بعدما قتلوا ونهبوا. ثم رأوا القبجي في طريقهم فشلحوه، وقتلوا بعض جماعته. وبقيت أهل الشام بين خوف وأهوال، إلى أن كان يوم الاثنين سابع والعشرين من ذي الحجة وصل خبر إلى الشام بأن موسى باشا باشة الجردة لما وصل إلى القطرانة خرجت عليه العرب شلحوه ونهبوا الجردة وكل ما فيها، حتى شلحوه لباسه وخاتمه من إصبعه، وأنزلوه من تخته، وركبوا مكانه في التخت، وأخذوا طبوله وأطواخه ومدافعه. وكان كبيرهم يقال له قعدان الفايز. ثم تفرقت الجماعة الذين كانوا في الجردة، فرجعت منهم أناس إلى الشام، ومنهم ناس انقطعوا في حوران، ومنهم ناس هربوا إلى غزة، وناس إلى القدس، وناس إلى معان مع ابن موسى باشا، لأنها قريبة من الموضع الذي نهبت فيه الجردة. وأما الباشا فإنه رجع إلى قرية داعل وأقام بها مدة أيام. فأرسلوا له تختاً ليحملوه به، فوجدوه قد مات، فحملوه وجاؤوا به إلى الشام. وكان دخلوه على البلد في أول الليل، وثاني يوم دفنوه في تربة سيدي خمار رضي الله عنه. سنة 1171 ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومئة وألف، ونحن على هذا الحال، نسأله تعالى أن يحوِّل حالنا إلى أحسن حال. وفي هذا الشهر المحرم الحرام توفي العالم العلامة خاتمة المحدثين وبقية السلف الصالحين الشيخ صالح الجنيني المحدث الكبير تحت قبة النسر في الجامع الأموي، وصار له مشهد عظيم، ودفن بباب الصغير، رحمه الله تَعالى. وفي تلك الأيام خرجت جردة ثانية دون الجردة الأولى. وفي سابع وعشرين محرم دخل جوقدار حسين باشا والي الشام وأمير الحاج، ومعه ثلاث هجانة مردفين، ومعهم أخو ابن مظيان شيخ عرب الحجاز، فتباشرت أهل الشام وزينوا الأسواق بالقناديل. فقامت القبقول وخرجوا وقوّسوا على الرعية، وصارت هزة قوية، وبقيت الفتنة في البلد بين الإنكشارية والقبقول والأشراف، فقتل القبقول من الأشراف نحو ثلاثين رجلاً وقوسوا على جامع الأموي، وقتلوا الشيخ عمر كبب مؤذن الجامع، وكان نازلاً من أذان الظهر، وقتل فيه بعض أولاد، وصار الهرج في أسواق المدينة مدة أيام، ثم دخلت الأغوات والأفندية بينهم بالصلح، فأبوا، فقالوا لهم: ارفعوا القتال واصبروا حتى يأتي حسين باشا من الحاج، ويفصل في هذه الأحكام، فرفعوا القتال. وبقيت القبقول في القلعة لا تحول ولا تزول، إلى أن كان يوم الاثنين سابع عشر صفر الخير، والناس مزعوجة من تأخير مجيء الحج ولم تدر ما السبب، جاء خبر إلى الشام بأن الحج قد شلحه العرب ونهبوه، والعرب سلبت النساء والرجال أموالهم وحوائجهم. فضجت العالم وتباكت الخلق وأظلمت الشام. وبلغ الناس بأنه جاء إلى المتسلم ست مكاتيب أن يخرج إلى الحاج نجدة فلم يظهرها، فقامت العامة وهجموا على المتسلم بالسرايا ورجموه بالأحجار، فاجتمعت الموالي والأغوات، ونادوا بإخراج دواب من البلد وأن يخرجوا حوائج وثياب مفصلة ومخيطة ونعال وزرابيل، وأن تخرج رجال لملاقاة الحاج. فخرج خلق كثير، وكان خروجهم يوم الجمعة في الحادي والعشرين من صفر الخير، وذلك بعدما كتبوا عرضاً للدولة يعلموهم بهذا الحال، وأرسلوا إلى حمص يطلبون حسن باشا بن الكبرلي لأجل أن يحافظ على الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وفي يوم الخميس خامس وعشرين من صفر الخير أقبلت بعض إنكشارية الشام من جهة الحج، ومعهم حجاج مركّيين كل اثنين ثلاثة على دابة، وهم في آخر درجة العدم، والمنادي معهم معه راية بيضاء ينادي هذه راية الإنكشارية، فضجت الناس بالبكاء والعويل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأخبروا أن خلفهم خلق كثير من الحجاج، ومعهم النساء والبنات مع الملكة حفايا عرايا. وبعد يومين أقبلت شرابجة الإنكشارية من المزيريب ومعهم المشطجي والقفطجي الجميع مشلحين. وفي ذلك اليوم رجعت الإنكشارية ومن بقي من الملاقية ومعهم الأغوات ومتسلم حسين آغا ألاي بيك، وأخبروا عن أحوال وأهوال التي حصلت للحجاج من النساء والرجال من شر كفار العرب ولا شك، حيث أن هذه الأفعال التي فعلت في الحجاج لا يفعلها عباد النيران: لأنهم أخبروا أنهم يشلحوا الرجل ويفتشوا تحت إبطيه ودبره وفمه وتحت خصيتيه، وإن وجدوا الرجل كبيراُ بطنه أو له قرّ أي قيلة شقوا بطنه وبقروا قرّه أي قيلته، ويدخلون أيديهم في دبر الرجال وفي فروج النساء، وقد كانت المرأة تضع الطين على قبلها ودبرها ستراً لعورتها فيكشفونه. وحاصله صدرت من العرب أمور ما سمعت من قديم الزمان ولا من عبّاد الأوثان والصلبان. ثم ما سلم من التشليح إلا الذين هربوا أمام الحج، وأن الباشا أمر من حوله بنهب خزنته فنهبوها، فناس سلموا وناس قتلوا، ومنهم من تشلح مرارا. ثم أقام الحجاج أربعة عشر أيام جوعا وعطشا لا ماء ولا زاداً، ومنهم من مات جوعاً وعطشاً وبرداً وحراً، وذلك بعد ما شرب بعضهم بول بعض. وما كفى جور العربان، بل زاد عليهم جور أهل معان، غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاب النيران. وفي تاسع ربيع الأول جاء الخبر بأن حسين باشا والي الشام وأمير الحاج هو في مدينة غزة، ويريد من الشام بغال وتفكجية ورجالا، فأبوا أن يرسلوا له شيئاً من ذلك، بل أرسلوا له بأن يأتي إلى منصبه لأن قبجي التقرير عندنا، وافعل ما ترى فيه المصلحة. وقبل ذلك بأيام كان قد قدِم أحمد بشه بن القلطقجي كبير زرباوات الشام، وكان هارباً له أربعة عشر عاما، فجاء مرة في غيبة أسعد باشا في الحج وفعل ما فعل كما قدمنا، وجاء مرة ثانية في أول حكم حسين باشا المذكور، فأكرمه وأعطاه، وخرج معه إلى المزيريب، ومن هناك غاب، ورجع هذه المرة الثالثة لما وقعت الفتنة في الشام، وعن تلك الأعمال نهاهم فلم تفد شيئاً كما تقدم. وفي يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول وصل خبر إلى دمشق الشام أن عمر المحاميد شيخ حوران وجد المحمل والصنجق عند العرب، وقد أرضاهم حتى فكّهما منهم، ووجد المحملجي وابن القبق دار وأربع خمس رجال عليهم المذلة والانكسار. وفي يوم الثلاثاء سادس عشرين ربيع الأول وصل المحمل ودخل إلى الشام، وهو محمول على جمل، وقد ستروه بثوبه الأخضر التحتاني، ومعه محمد بشه السقباوي وبعض فرسان دروز وبعض عربان، وذكروا أنهم فكوه من العرب بمئة وسبعين قرشاً. وقد جاء في منتصف ربيع تتر أخبر بوفاة السلطان عثمان، ولم يأت بالخطبة لمن هي، حتى خطبت الشام بلا اسم سلطان جمعتين، إلى أن كان يوم الاثنين غرة ربيع الثاني جاء قبجي بخطبة اسم السلطان مصطفى خان. أيّده الله وأيد دولة بني عثمان مدى الدوران. ثم صارت الحجاج تأتي زمراً زمراً، ثم جاءت البلطجية ومعهم قاضي المدينة وبعض نساء، وقد عُدت النساء الذين كانوا كذا في تلك السنة فبلغن خمس مئة امرأة، ما بان لهم أثر مع الملكة أخت السلطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وفي خامس ربيع الثاني خرجت القبقول من القلعة وقوّسوا على الإنكشارية، وحصلت فتنة قوية، ثم أصلح بينهم القبجي والموالي والأغوات، وبطل الحرب. وفي خامس وعشرين من ربيع الثاني توفي قاضي المدينة الذي جاء مع الحجاج، وصارت تموت الحجاج ناساً بعد ناس، حتى مات كثير ممن كان مع الجردة، لأن الذي جرى على الحاج وعلى الجردة في هذا العام شيء ما سمع، مما تقشعر منه الأبدان. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وبقيت دمشق بلا حاكم إلى آخر ربيع الثاني إلى أن تحقق الخبر بعد تردد الناس في أمر حكام الشام بتوجيه ولاية الشام لحضرة الوزير الكبير الحاج عبد الله باشا الشتجي. وكان دخوله مدينة دمشق الشام ضحوة نهار الأحد ثامن وعشرين ربيع الثاني، فخرجت لملاقاته وجوه الشام وأعيانها، ودخل في موكب لم يعهد لغيره، ودخل معه عسكر جرّار، فكان معه أربعين كذا بيرقاً من الدالاتية وخمسين بيرقاً من اللوند وعشرين بيرقاً من الأرنؤوط. ثم إنه ثاني يوم عمل ديواناً ولبّس المفتي والقاضي ونقيب الأشراف والسيد علي أفندي المرادي وأرسل الباشا يطلب جماعة من الإنكشارية فلم يجيبوا، فأرسل ينادي بأن أهل العرض ترحل من بين الإنكشارية، فلم تر إلا نقل أمتعة وإخلاء دور ودكاكين وأول دخول الباشا إلى الشام اجتمعت الإنكشارية فبلغوا نحو عشرين ألفاً وأكثر، وأظهروا الشجاعة وقلة الخوف منه، وقالوا: نحن لا نحسب حسابه، ولو كان عسكره أضعافنا. ولما كانت ليلة الأربعاء اجتمعت من الإنكشارية جماعة في حارة السويقة، وصاروا يقوّسوا كذا ويفزعوا الناس، إلى أن سكّرت أهل الشام البوابات، ولما ظهر النهار هجموا إلى باب الجابية وقوسوا إلى ناحية باب السرايا. فبلغ أمرهم حضرة الباشا والي الشام، فاغتاظ غيظاً شديداً. وجاءت الموالي وعمل ديواناً، ثم أرسل الباشا يطلب منهم الأشقياء الخارجين عن الطاعة، وصاحب العرض يبقى بحاله. فتغلظت أكباد الإنكشارية وتقوّوا، وظنوا أنهم هم المنصورون. ثم صاح الباشا في جنده وركب في نفسه، وطلب جهة الميدان فلم يقف بين يديه أحد، وهجم هو وعسكره عليهم، فلم يثبت منهم أحد. فلم يزل يضرب هو وعسكره بالسيف إلى أن وصلوا إلى خارج باب الله، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، والذي ما أرادوا قتله أخذوه ووضعوه في الجنزير. ونهبت العساكر الميدان، ولم يتركوا كبيراً أو صغيراً إلا قتيلاً أو أسيراً. ولم يتركوا بيتاً ولا دكاناً ولا امرأة ولا طفلاً إلا استعملوا النهب والسبي وهتك الأعراض من سلب النساء الحليّ وسلب البنات الأبكار، وغير ذلك مما يعمي الأبصار، وتمنوا الموت الدرّار، ولم يروا هذه الفظائع المهولة الكبار، وانتكبت أهل الشام نكبة في ذلك العام ما عهدت من أيام التيمور، ولله عاقبة الأمور. وثاني يوم الخميس قامت جماعة الباشا إلى النهب، فمنعهم وأمر بجمع المسلوبات من العساكر وغيرهم، وأن يوضعوا في بعض الجوامع. وأمر منادياً ينادي كل من له مالٌ منهوب فليأت وليعلمه ويأخذه، فأخذوا البعض وذهب الأكثر. وأما أتباع الباشا فإنهم صاروا كل من رأوه يقتلوه ويقطعوا رأسه، ويتركوه في الأسواق والأزقة والبيوت وقد ضبطوا الدور التي نهبت، فخرجت نحو أربعة وعشرين ألف دار، ومن الدكاكين أكثر من هذا المقدار، وأعظم من ذلك أن زاوية بيت الشيخ سعد الدين الجباوي التي في الميدان وضعوا بها الأمتعة الثمينة، ثم تفقدوها بعد ذلك فما وجدوا بها شيئاً أبداً، وصارت العساكر تلحق الإنكشارية للقرايا والضيع والبراري، فتقتل وتأسر حتى الأولاد والنساء، وكثر الجور في البلاد، وخافت العباد وكثر الفساد، وجمعوا رؤساء كثيرة من أشراف وعامة، وأرسلوها إلى الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وأمر الباشا بإحضار أئمة الحارات، وأمرهم أن يكتبوا أن جميع الذي نهب وسلب ردّه الباشا في الحال، ولم يهذب لأحد عقال وختّمهم بهذا العرض على هذا الشرط. وكانت هذه مكيدة منه ولم يقدروا أن يخالفوا أمره. وبقيت جماعة الباشا تنهب وتظلم، وتبغي وتتجبّر، ولا توقر كبيراً ولا صغيراً، ويقولون عن أهل الشام كلكم كفار ونصارى وأشرار. وكان لا يطعم جماعته إلا اللحم والأرز والخبز الطيب، حتى قلّ اللحم ولم يوجد خبز يؤكل، وعلى كل فرن مئات من الناس الجائعين، حتى افتقرت غالب أهل البلد، وصاروا يسألون الناس، وزاد النكد ونهضت الأسعار نهوض الماكر الجبار: فصار رطل الأرز بأربعة وعشرين مصرية، والخبز مثله، والدبس مثل ذلك، وأوقية السمن بثمانية مصاري، وأوقية الزيت بأربعة مصاري، وغرارة القمح بثلاثة وسبعين غرشاً، وغرارة الذرة بثمانية وأربعين، وغرارة الحمص بستين غرشاً، وغرارة العدس بخمسة وثلاثين، والشعير بخمسين، وأوقية السماق بأربعة مصاري، ورطل البصل بأربعة مصاري وعلى هذا فقس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبعد مدة أيام قطع الباشا خرج بعض العساكر والبيارق، فصاروا يغيرون على القرايا، وينهبون الأموال والأعراض والأولاد. ولا تسأل كذلك عن عسكر الباشا، فإنهم نهبوا البساتين وكسروا الشجر وشلحوا البشر. ومع ذلك فإن الباشا لم يرض بذلك، وطالما عاملهم بالتأديب والضرب الأليم، فلم يرجعوا حتى صار يقتل منهم. وأرادت أهل الشام أن تقاتلهم، لكن لم يجدوا أحداً يأخذ بيدهم، وأكابر الشام لم تتكلم بخير، والأمر لله. وبهذه الأيام نفى الباشا نقيب الأشراف حمزة أفندي إلى القدس. وبعد مدة جاء فرمان مع قبجي بأن عبد الله باشا الشنّجي والي الشام له الأمر المفوَّض يفعل ما يريد بلا مشاورة. ثم إنه تحرك لسفر الدورة، فأمر بإخراج المدفعين اللذين في باب القلعة، وكان لهم سنين وأعواماً لم يخرجوا، فعمل لهم عربات ومن الحديد حلقات، بلغ وزنهم مع الخشب ثلاثة وثلاثين قنطاراً، وخرج بهم طالباً سفر الدورة، وعمل شواهي مثل المدافع الصغار وركّبها على ظهور الجمال تدور يميناً وشمالاً ثم أمر العامة أن يجروا المدافع الكبار، فقتل منهم رجلان وتحطم منهم جماعة. وقد فرضت جماعته على الحارات والأسواق مال، فلمّوه باستعجال. ولما خرج الباشا إلى الدورة شنق متسلمه رجلاً، وجاء بعض أعوانه برجل شريف، وقالوا: هذا قوّس مع الإنكشارية، فحالاً أمر بخنقه ولم يشاور أحدا. وصار الآخر يظلم وهذا يجور، وزاد البلاء والغلاء، وجلس على كل حانوت من حوانيت الخبّازة واحد من أعوان الحاكم وذلك من كثرة ازدحام الخلائق وكثرة النساء والأولاد فتسمع لهم بكاء ونحيبا يقطع القلوب والأكباد. والأمر لله لأنه مراده. وفي تلك الأيام جاء الخبر بقتل أسعد باشا بن العظم والي الشام سابقاً. وبعد أيام جاء قبجي من جهة الدولة بختم سرايته وضبط ماله وختم بيوت جميع أتباعه وأعوانه وضبط مالهم ورفعهم إلى القلعة، وازدادت الشدة، وصارت أمور وأهوال في دمشق الشام ما وقعت في سالف الأزمان. ثم جاءت أتباع ابن العظم أسعد باشا، ودخل القبجي إلى السرايا، فأخرج الدفائن العظيمة من سرايته فإذا هي كالكنوز المودوعة فيها، فأخرجوا من الأرض ومن الحيطان والسقوف والأحواض حتى من الأدبات دراهم ودنانير وأمتعة نفيسة لا تقام بقيمة، ومجوهرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تَعالى والحكم لله العلي الكبير. وفي يوم الخميس رابع رمضان جاء الباشا من الدورة ودخل دمشق. وفي سابع عشر شوال خرج عبد الله باشا الشتجي للحج الشريف بموكب عظيم وعسكر جرّار. وبتلك السنة توفي الشيخ أحمد المنيني الحنفي خطيب الجامع الأموي رحمه الله تَعالى. وجاء سيل عظيم في مربعانية الصيف نزل في قرية جبة من قرب يبرود، وكان نزوله في أول الليل، فما كان إلا ساعة حتى أخذ قرية جبة عن بكرة أبيها، ثم مرّ على يبرود، فغطى جميع الكروم وهدم وقتل، ثم وصل إلى قرية النبك يهدر في جريه مثل الرعد، فأتلف بها كثيراً. نسأله تعالى اللطف بالمقدور. سنة 1172 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ثم دخلت سنة اثنين وسبعين ومئة وألف، وكان أول محرمها نهار الثلاثاء وكان المتسلم في الشام من قِبل عبد الله باشا سليمان آغا، وكان ظالماً غاشماً على ما نقلوا. وكان مجيء جوقدار الحج سلخ محرم الحرام. وكان سردار الجردة عبد الرحمن باشا باشة طرابلس وفي خامس صفر الخير كان دخول الحج الشريف إلى الشام. وكانت سنة راحة لكافة الحجاج، وذلك بسبب أن الباشا قد قتل من العرب بين الحرمين ما لا يحصى، حتى قُتل شيخ العرب وجاء تقرير الشام للباشا قبل وصوله إلى الشام. وكانت هلّة رمضان ليلة السبت، وضُربت المدافع في الثلث الأخير من الليل. والفلوس كل أربعة وعشرين بمصرية. وثبت عيد الفطر قبل ظهر يوم الأحد، وصلوا العيد قبل الظهر، وفطر الناس بعد أن كانوا صائمين. وفي سادس عشر شوال توجه الحاج عبد الله باشا الشتجي أميراً على الحاج، ورافقه في الركب الشامي سعد الدين باشا العظم والياً لجدة، وأخذوا معهما عساكر كثيرة، خيفة من العرب من قتل عبد الله باشا لشيخهم وجنوده. وفي سابع والعشرين من المحرم قدم جوقدار الحج الشريف وبشَّر بكل خير، وعزل عبد الله باشا الشتجي مساعد شريف مكة، وأقام أخاه جعفر مقامه. وكانت وقفة الحاج الجمعة، ونهار السبت سابع صفر دخل الحاج الشريف لدمشق الشام، وهو بغاية الصحة. ثم بعد دخول الحج أمر عبد الله باشا منادياً ينادي في الشام برفع الظلم والعدوان والعدل من الحكام والرعايا، وصار يتبدل ويختفي ويدور في شوارع الشام وأزقتها. فحصلت الراحة عموماً بإبطال الشرور وانعدام أهل الفجور. وكان الباشا قد قطع خرج غالب عسكره وأمر برحيلهم من الشام، وأن لا يبقى بها من لا شغل له ولا صنعة، فرحل خلق كثير، وأرسل جميع جماله إلى حماة. وكان ذلك من لطف الله بالشام وأهلها، والغلاء مطنب كما تقدم. وكان قاضي الشام رجلاً صالحاً، فعمل محتسباً وصار يدور بنفسه على السوقة ويعير الموازين والأرطال والأواق، فالذي يجد أواقه ناقصاً يضربه علقة على رجليه، والذي يجد أواقه تامة يعطيه مصرية من فضة. ودخل ربيع الثاني الموافق تشرين الثاني ولم ينزل من السماء قطرة ماء. وفي ليلة الثلاثاء ثامن ربيع الثاني من تشرين الثاني من هذه السنة في الثلث الأخير من الليل والمؤذنون في المآذن يشتغلون المراسلة كذا صارت زلزلة خفيفة، وتبعتها ثانية ثم ثالثة زُلزلت منها دمشق زلزالاً شديداً، حسبت أهل دمشق أن القيامة قد قامت، فتهدّمت رؤوس غالب مآذن الشام ودور كثيرة وجوامع وأماكن لا تحصى، حتى قبة النصر التي بأعلى جبل قاسيون زلزلتها وأرمت نصفها، وأما قرى الشام فكان فيها الهدم الكثير، والقتلى التي وجدت تحت الهدم لا تحصى عددا. وفي الليلة الثانية زلزلت أيضاً في الوقت الذي زلزلت فيه الأولى، ثم حصلت في وقت صلاة الصبح وبالنهار أيضاً، ولا زالت تتكرر مرارا لكنها أخف من الأولين. وقد زاد الخوف والبلاء، وهجرت الناس بيوتهم، ونامت في الأزقة والبساتين وفي المقابر والمرجة، وفي صحن الجامع الأموي. وفي هذه الزلزلة وقع خان القنيطرة على كل من كان فيه، فلم يسلم من الدواب والناس إلا القليل، وكذلك خان سعسع. وقد وردت الأخبار إلى دمشق الشام أن بعض البلاد والقرايا انهدمت على أهلها، فلم يسلم منها ولا من دوابها أحد. ثم في ليلة الثلاثاء الساعة العاشرة من الليل خامس ربيع الأول انشقت السماء وسُمع منها صريخ ودمدمة ودويٌّ وهول عظيم، حتى إن بعض أهل الكشف رأى أن السقوف ارتفعت، وظهرت النجوم وعادت السقوف كما كانت. ووردت أخبار أن في بعض البلاد انطبق جبلان على بعض القرى، فذهبت القرى ولم يظهر لها أثر. وفي ليلة الجمعة الثامن عشر من ربيع الأول في محل أذان العشاء خرَّ نجمٌ من السماء من جهة الغرب إلى جهة الشرق، فأضاءت منه الجبال والدور. ثم سقط فسُمع له صوت عظيم أعلى من صوت المدافع والصواعق. وفي الزلزلة الأولى وقعت صخرة عظيمة في نهر القنوات فسدّت النهر، وانقطع الماء عن البلد أحد عشر يوماً، وبقيت قُطّاع الأحجار يقطعون فيها أحد عشر يوماً، فصارت الناس في غمَّين: غمّ الزلزلة وغمّ قلة الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وفي ليلة الاثنين سادس ربيع الثاني في الساعة الخامسة صارت زلزلة عظيمة أعظم من الأولى بدرجات. وقد صارت معها رجّة مهولة أسقطت غالب بقية المآذن، وأرمت قبة الجامع الأموي الكبيرة والرواق الشمالي جميعه مع مدرسة الكلاسة وباب البريد وأبراج القلعة وغالب دور دمشق، والذي سلم من الوقوع تناثر من بعضه البعض وقُتل خلق كثير خصوصاً في القرايا، ورحلت الخلائق للبساتين وللجبال والتُّرب وإلى المرجة، ونصبوا بها وبالبراري الخيام وناموا بعيالهم وأولادهم، ومع ذلك فلم تبطل الزلزلة والرجفان لا ليلا ولا نهارا. ثم أمر عبد الله باشا الشتجي والي الشام وفقه الله تَعالى منادياً ينادي بالناس أن يصوموا ثلاثة أيام وأن يخرجوا في اليوم الرابع إلى جامع المصلّى، فإنه مشهور بإجابة الدعاء فيه. فخرجت الناس من كل فج عميق إلى المصلى، وخرج حضرة الوزير معهم وجميع الأعيان والمفتي والقاضي، وخرجت العلماء وأهل الطرق والصوفية والنساء والأولاد، ولازموا الدعاء في المصلّى ثلاثة أيام بضجيج وبكاء وخشوع كيوم عرفات، بل كموقف القيامة، فرحمهم أرحم الراحمين، وعاملهم باللطف والتخفيف، فصارت الأرض تختلج اختلاجاً خفيفاً، ولم تزل الناس في البساتين والبراري خائفة حتى نزل عليهم الثلج المطر وصار الجليد إلى أن خفّت الزلزلة ورجعت الناس خائفين. وفي أواسط جمادى الأولى قدم القاضي إلى دمشق الشام، واسمه رضا أفندي، ولم يحرّك ساكنا. وفي ثامن جمادى الثانية ظهر خبر بدمشق أن عبد الله باشا الشتجي والي الشام معزول. وفي ثالث عشر جمادى الثانية. وفي يوم الخميس ثاني وعشرين جمادى الثانية رحل الحاج عبد الله باشا الشتجي إلى منصب ديار بكر على ما قيل. وفي ليلة الاثنين الخامسة والعشرين من جمادى الثانية قُبيل السحر صارت في الشام أيضاً زلزلة خفيفة أخف من الزلازل المتقدمة. ثم شاع الخبر بين الناس أنه سيحدث زلزلة عظيمة، ففزعت الناس فزعاً شديداً، ورجعوا إلى ما كانوا عليه من الخوف والفزع والخروج للبساتين والمقابر، نسأله تعالى اللطف. وفي نهار الاثنين غرة رجب المبارك من هذه السنة دخل والي الشام محمد باشا الشالك بن بولاد باشا لدمشق بموكب عظيم ضحوة النهار، وخرجت لملاقاته الأكابر والأعيان والأفندية والأغاوات، وخرجت الإنكشارية بالخيل والعُدد المطلية والدروع الداوودية، وخرجت القبقول بالعدد الكاملة. وفي يوم السبت سابع رجب دخل نعمان باشا حاكم صيدا، فدخل في موكب عظيم، وخرج لملاقاته والي الشام محمد باشا الشالك ومعه الأفندية والأكابر والأغوات، وأنزله والي الشام عنده، وأنزل كل آغا من أغواته عند آغا من أغوات الباشا، ثم أقام في ضيافة والي الشام محمد باشا ثلاثة أيام وأربعة ليال، ورحل لمحل وظيفته ومنصبه بصيدا. وفي نصف شهر رجب جاء ريح عظيم استمر أربعة أيام ولياليها حتى هدم أماكن كثيرة، ولم يبق من الأشجار إلا القليل، وارتجاج من الزلازل لم تبطل لا ليلاً ولا نهاراً، مع وقوع الغلاء حتى في الخضراوات، فرطل الخبز بخمسة مصاري، ورطل الباذنجان بخمسة وعشرين مصرية، ورطل البصل بتسعة مصاري، ورطل اللحم بقرش وربع لم يوجد، ورطل السمن بقرش ونصف وربع. والبقية على نحو ما قدّمنا. قال المؤرخ البديري: والفقير لم يوجد معه ولا منقير، والهدم واقع من الزلازل في كل وقت وحين، والناس رحلت إلى أرض الفلاحين، والله تعالى هو المعين. وفي نهار السبت الثاني والعشرين من رجب جاء قبجي من طرف الدولة العلية واسمه سبانخ زادة لأجل الكشف على الجامع الأموي وعمارة قبّته وجهته الشمالية ومآذنه المهدومة في الزلازل، ومعه باش معماري وفعلة ورجال لأجل مباشرة تعمير الجامع المذكور. وفي عاشر شعبان سار والي الشام محمد باشا الشالك إلى الدورة وأخذ معه أحمد بشه بن القلطقجي ومعه محمد آغا بن دالي وابن بكماز اللذين كانا هاربين مع ابن القلطقجي. فلما وصل محمد باشا ومن معه إلى نابلس توفي أحمد بشه بن القلطقجي. ودُفن بها، وكان موته بالطاعون، لأن مبادي الطاعون وقع خفيفاً من شهر جمادى الثانية، ولم يزل يكثر في رجب وشعبان، كما وجود الغلاء كما يأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ثم دخل شهر رمضان المبارك نهار الخميس، وصار العيد يوم الجمعة، فصار عيداً للأموات والأحياء، لكنه للأموات أكثر. فقبل عيد الفطر بيومين وبعده بيومين يخرج من كل باب من أبواب دمشق ممن مات مطعونا في كل يوم نحواً من ألف جنازة والعياذ بالله. وهذا شيء ما سمع من عهد الطاعون عمواس، نسأله تعالى اللطف فيما جرت به المقادير. وصار النقص أيضاً في الفاكهة، حتى صارت أوقية الجانرك بمصريتين، والمشمش رطله بأربعة وعشرين مصرية، ورطل التوت بثمانية مصاري، ورطل التفاح بأربعة وعشرين مصرية، ورطل الأنجاص بثلاثين مصرية، ورطل الثوم بثلاثين مصرية، ورطل البصل بسبعة مصاري، واللحم والأرز وغيره على نحو ما قدمنا، وقد طال الأمر وكثر القهر وزال السرور، وزادت البغضاء والشرور، ولم يدر الإنسان أين يدور، من شدة البكاء والنفور، ولله عاقبة الأمور. وفي يوم الجمعة الخامس عشر من شوال سار محمد باشا الشالك بالركب الشامي إلى الحرمين الشريفين. وبعد يومين سار الحاج بمهماته وبعد أيام جاء عثمان باشا والي مدينة طرابلس سردار الجردة، وكان نزوله مدة إقامته في قرية من القرايا من غير أسف ولا ندم، وسار مسافراً في ذي الحجة مع كواخي صيدا ونابلس. وفي نصف ذي الحجة توفي الشيخ أحمد بن سوار شيخ المحيا، وكان علاّمة زمانه ووقته، وله شجاعة زائدة وبراعة في العلوم متزايدة، وصار له مشهد عظيم، ودفن في تربة قبر السيدة عاتكة. وبعده توفي ابن عمه الحسيب النسيب الشيخ سليمان، وكان يعمل المحيا في جامع الأموي وفي جامع البزوري الذي في محلتهم. وبهذا الشهر أيضاً توفي العالم العلامة مفتي السادة المالكية الشيخ يوسف أفندي، وصار له مشهد عظيم، ودفن بمرج الدحداح، رحمه الله تَعالى. سنة 1173 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومئة وألف، وكان غرة محرمها الثلاثاء، وكان دخولها في اشتداد الحر. وفي السابع والعشرين من المحرم قدم جوقدار الحج الشريف، وبعده دخل الكَتّاب، وأخبر أن هذه الحجة بغاية الراحة، وأن عثمان باشا سردار الجردة صنع من الخيرات في هديه أشياء ما صنعها غيره. وذلك أنهم لما التقوا بالجردة وجدوا عثمان باشا سردار الجردة قد سبقهم، وفي انتظارهم له إحدى عشر يوماً مقيم في هدية، وهذا ما سبق لأحد قبله. وقد أغاث الحجاج بالإكرام، فقد أطعم الجائع وسقى العطشان، وركب العيّان وكسا العريان. ثم لما وصلت أفعاله الحسنى إلى الدولة العلية صانها المولى من كل بلاء وبلية وجّهوا عليه إمارة الشام، ووجهوا لولده محمد باشا مدينة طرابلس. وفي نهار الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول جاء قبجي بعزل محمد باشا الشالك من الشام وبتوجيهها لعثمان باشا سردار الجردة. وفي هذه الأيام بوشر بعمارة جامع الأموي، فدخلته المعمارية والنجارون والدهانون والحجّارة، وبذلوا الهمة بتعمير القبة والجهة الشرقية وما سقط من المآذن وبتحسين جميعه، ولا يُفتح إلا في وقت الصلاة فقط. والعمارة أيضاً مشتغلة في القلعة وترميمها، وقد تمت عمارة القلعة في شهر رجب سنة تاريخه، وتم تعمير الجامع الأموي والجهة الشمالية والقبة وترميم المنائر وتحسينه في شهر رمضان من هذه السنة. وقبيل شهر رجب سار عثمان باشا إلى الدورة، وفتح فيها قلعة طرطورة، وكانت تلك القلعة في يد الظاهر عمر، وقتل كذا، ولما رجع عنها عثمان باشا أخذها الظاهر عمر بقوة جيشه بلا محاصرة. وفي هذه السنة المطر غزير والطاعون المفرط والوباء زائد الحدّ والفاكهة قليلة جداً، والغلاء مطنب كما أسلفنا: فالرمانة الواحدة بثمان مصاري وأوقية التفاح بسبع مصاري، ورطل الفحم بخمسة عشر مصرية، وأوقية السمن بسبع مصاري، وأوقية الزيت بثلاث مصاري، وبقية المقتاتات على هذا النمط كما أسلفنا، وأما القيمق فقد صار رطله بريال، وما بقي للفقراء حال. وفي اثنين وعشرين شعبان من هذه السنة جاء عثمان باشا من الدورة وأحواله مسرورة. ونهار الاثنين ثبت رمضان المبارك، وثالث ليلة منه والناس في صلاة التراويح صارت زلزلة مزعجة، فقطعت الناس صلاة التراويح، وتهاربت الناس، وداست بعضها بعضا، وانذهلت عقولهم وفُقدت نراجيلهم وبعض ثيابهم، وثاني ليلة حصلت أيضاً مع رجّات لا تُدرك. سنة 1174 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومئة وألف. وكان عثمان باشا والي الشام في الحج أميراً له. ولما جاء الحج أخبر أن هذه الحجة من أبرك الحجج برخاء ورخص وأمان. وفي تلك السنة جاء قبجي يأمر بالزينة العظمى، ونادى عثمان باشا أن من عنده لعبة ولو كانت من الطين والخشب أو عنده معرفة بأبواب السيما التي تسمى بالملاعيب فله عندي الإكرام الزايد، فبذل جانباً من المال وأعطى ومنح، ودارت العرايض بأنواع الملاعب وعملت جميع الصنائع والحرف، ومشت بمواكب عديدة مدهشة، منهم بالأسلحة والعدد والدروع الفاخرة، ومنهم الثياب المثمنة المنوعة. والحاصل حصلت زينة ما سمعنا ولا رأينا أنه صار نظيرها. وبتلك السنة ركب عثمان باشا والي الشام على قلعة صهيون وفتحها، فأمن الخايف وقلت الرواجف. وفي تلك السنة أيضاً جاء خبر إلى الشام بقتل عبد الله الشتجي، وضبطت الدولة ماله ونواله، وراح كأنه ما كان. سنة 1175 ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومئة وألف. وكان والي الشام عثمان باشا أميراً بالركب الشامي، وكانت حجة مريحة لم يحصل أدنى كدر للحجاج. وكانت وقفة عرفات يوم الجمعة. ومن الاتفاق العجيب أن عثمان باشا خرج بالركب يوم الجمعة، ووقف على عرفات مع الحج يوم الجمعة، ودخل الشام يوم الجمعة. وفي مدته لم يحصل في الشام أدنى مكدّر، فعدل في الرعية، وعاشت أهل الشام بمدته عيشة هنية. وكان كيخيته سليمان بك مملوك سليمان باشا بن العظم. وكان في موت بيت العظم قد قاسى أهوالاً، فنال بصبره آمالا. وفي تلك الأيام ورد الخبر إلى دمشق الشام بأن سعد الدين باشا بن العظم مات في ديار بكر، وجاء الأمر بضبط ماله، فضبطت الدولة على ماله واستولت على نواله، فقد نقل الثقات أنه خرج عنده مال عظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى ما ذكره البديري من هذا التاريخ، واختصر حوادث السنين الأخيرة جداً وزاد سنة سهواً. والصحيح ما نقلناه. فسبحان من ليس بغافل ولا ساه. انتهى ما حررناه بقلم محمد سعيد أبي جمال، أحسن الله له الحال والمآل. وذلك قبيل ظهر يوم الخميس الرابع والعشرين من رمضان سنة 1317. تمّ الكتاب على يد الفقير خادم العلم الشريف محمد بن المرحوم الشيخ عبد القادر المجذوب في ميدان الحصا في رجب الحرام سنة 1323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59