الكتاب: نقض أصول العقلانيين المؤلف: سليمان بن صالح الخراشي الناشر: دار علوم السنة   [الكتاب مرقم آليا] ---------- نقض أصول العقلانيين سليمان الخراشي الكتاب: نقض أصول العقلانيين المؤلف: سليمان بن صالح الخراشي الناشر: دار علوم السنة   [الكتاب مرقم آليا] بسم الله الرحمن الرحيم نقض أصول العقلانيين ما هو العقل؟ أين مكانه؟ ما موقف الإسلام منه؟ كيف نرد على من يعظمه على حساب النصوص الشرعية؟ إعداد سليمان بن صالح الخراشي دار علوم السنة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فهذه عدة مباحث حول موضوع ((العقل)) و ((العقلانية)) أحببت أن أشارك بها في الحديث عن هذا الموضوع المتجدد الذي يخطف الشباب المسلم ببريقه، لا سيما في هذا الزمن الذي تعاظم فيه دور هذا العقل المخلوق، وتنوعت إنجازاته، فأصبح الحديث عنه وعن نظرة الإسلام له من المهمات للباحث المسلم. فسبب كتابة هذه المباحث هو أنني رأيت الفتنة بهذا العقل (المخلوق) قد طغت عند طائفة من الشباب الذين كانوا يسلكون درب الهدى والاعتدال، ثم انحرفوا مع هذه الفتنة الطارئة على بلادنا، معتقدين في عقولهم الاعتقادات الخاطئة ومضخمين لدورها في سَوْقهم نحو الجادة والطريق القويم على حساب النصوص الشرعية. ومما حفزني كثيراً للكتابة -أيضاً-: النظرة القاصرة التي ينظر بها أولئك الشباب -اتباعاً لرؤس العقلانيين- إلى متبعي النصوص الشرعية، معتقدين أنهم يبخسون العقل حقّه، فلا يستخدمونه في أيٍ من نواحي الحياة أو الشريعة، وفي هذا تشويه لأصحاب المنهج السلفي الذي كانوا وسطاً في نظرتهم إلى العقل، فلم يُلغوا دوره كما فعل غيرهم من الجامدين، ولم يغلوا فيه ويقحموه في مجالات مغيّبة لم يكن أهلاً لها. إنما استخدموه فيما أذن به الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ألجموه بلجام النصوص الشرعية لكي لا يطغى عليها. وليُعلم أنني في هذا المبحث عالةً على من هم أعلم مني وأجلد على البحث والنظر من أهل السنة، فكنت معتمداً -بعد الله- على المصادر والمراجع التي سبقتني في الحديث عن هذا الموضوع، لا سيما كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ((درء تعارض العقل والنقل)) الذي حاولت تلخيصه في مبحث: الرد على العقلانيين. ... وأسال الله أن ينفع بهذه الرسالة من قرأها، وأن يجعلها سلاحاً بيد أهل السنة في صولاتهم المتكررة مع العقلانيين وأذنابهم في هذا الزمان. ... وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم كتبه / سليمان بن صالح الخراشي في الرياض عام 1421هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 ما هو العقل؟ : قال صاحب اللسان (1) ((العقل الحجر والنهي. ضد الحمق والجمع عقول)) وقال ابن الأنباري ((رجل عاقل وهو الجامع لأمره ورأيه)) ((وقيل العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها أخذ من قوله قد اعتقل لسانه إذا حبس ومنع الكلام)) . ((والعقل التثبت في الأمور. والعقل القلب. والقلب العقل. وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك. أي يحبسه. وقيل العقل هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان)) . قلت: والألفاظ المرادفة للعقل هي: اللب، الحِجْر، والنُهى، الحلم، الحجى. العقل في القرآن : ليس لإسم العقل وجود في كتاب الله العزيز وإنما يوجد ما تصرف منه نحو: عقلوه: وردت في موضع واحد من القرآن. تعقلون: وردت في أربعة وعشرين موضعاً من القرآن. نعقل: وردت في موضع واحد من القرآن. يعقلها: وردت في موضع واحد من القرآن. يعقلون: وردت في اثنتين وعشرين موضعاً من القرآن.   (1) مادة (عقل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 العقل في الحديث النبوي : لا يكاد يوجد لفظ العقل المصدر في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح إلا في مثل الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: ((يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار)) فقلنا: وبم يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) . قلنا: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ فقال: ((أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟)) قلنا: بلى. قال: ((هذا من نقصان عقلها)) . قال: ((وإذا حاضت لم تصل ولم تصم)) . قلنا: بلى. قال: ((فهذا من نقصان دينها)) (1) . وبالنظر في الأحاديث الوارد فيها ذكر (العقل) نجدها ثلاثة أنواع: قسم ورد فيه العقل بمعنى الدية وهذا لا يدخل في بحثنا. قسم ورد فيه لفظ العقل بصيغة الفعل ومثال ذلك ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن المعتوه - أو قال المجنون - حتى يعقل وعن الصغير حتى يشب (2) . قسم ورد فيه لفظ العقل بصيغة المصدر وهو المقصود هنا كما في حديث أبي سعيد السابق. وأما غيره من الأحاديث فقد ضعفها العلماء كما سيأتي   (1) البخاري (1/116) ومسلم (1/86) . (2) صحيح أبي داود (3701) بعدة ألفاظ. وانظر الإرواء (2/5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 العقل عند العلماء : قال القاضي أبو يعلى ((العقل ضرب من العلوم الضرورية وهو مثل العلم باستحالة اجتماع الضدين وكون الجسم في مكانين ونقصان الواحد عن الاثنين)) ثم ذكر تعريفات بعض العلماء له فقال: ((وقال أبو الحسن التميمي.. العقل ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر وإنما هو نور فهو كالعلم. وقال أبو محمد البربهاري: وليس العقل باكتساب وإنما هو فضل من الله)) ((وقال بعضهم: قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات. وقال أبو بكر بن فورك: هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح. وقال بعضهم ما حسن معه التكليف)) ثم قال أبو يعلى ((ومعنى ذلك كله متقارب ولكن ما ذكرناه أولى لأنه مفسر وهو قول الجمهور من المتكلمين)) . ... وعن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: ((العقل غريزة)) قال القاضي ((ومعنى قوله غريزة أنه خلق لله تعالى ابتداءً وليس باكتساب للعبد خلافاً لما حكي عن بعض الفلاسفة أنه اكتساب)) (1) . ... وقال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله ((اختلف الناس في العقل ما هو فقيل هو العلم وقيل بعض العلوم الضرورية وقيل قوة يميز بها بين حقائق المعلومات)) (2) . ... وقال الإمام أبو القاسم الأصبهاني ((وقال بعضهم العقل على ثلاثة أوجه عقل مولود مطبوع وهو عقل ابن آدم الذي به فضل على أهل الأرض وهو محل التكليف والأمر والنهي وبه يكون التدبير والتمييز. ... والعقل الثاني: ((عقل التأييد الذي يكون مع الإيمان معاً. وهو عقل الأنبياء والصديقين وذلك تفضل من الله تعالى. والعقل الثالث: هو عقل التجارب والعبر وذلك ما يأخذه الناس بعضهم من بعض)) (3) . ... قلت: والشاهد من قوله: العقل الأول.   (1) العدة في أصول الفقه (1/83-86) ... وانظر: الأحياء 1/117 وكشاف الاصطلاحات 4/1027 والحدود للباجي 31 والتعريفات 157 والمسودة 556 وغيرها وكلها لا تخرج عما ذكرت. (2) شرح النووي على مسلم (2/68) . (3) الحجة في بيان المحجة (1/320) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 .. وقال ابن الجوزي ((إن أعظم النعم على الإنسان العقل. لأنه الآلة في معرفة الإله سبحانه والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل)) (1) . ... وقال النسفي ((هو قوة للنفس بها تستعد للعلوم والادراكات)) (2) . ... وقال شيخ الإسلام ((العقل في لغة العرب يتناول العلم والعمل بالعلم جميعاً ومن أهل الكلام من يجعله اسماً لنوع من العلم فقط فيقول هو نوع من العلوم الضرورية ومن الناس من يريد به العمل بالعلم كما ذكره أبو البركات. وقد يراد بالعقل القوة التي في الإنسان وهي الغريزة التي بها يحصل له ذلك العلم والعمل به ولهذا كان في كلام السلف كأحمد والحارث المحاسبي وغيرهما اسم العقل يتناول هذه الغريزة)) (3) . ... وقال في موضع آخر ((العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً وهو أيضاً غريزة في الإنسان فمسماه من باب الأعراض)) (4) . وقال ((العقل قد يراد به القوة الغريزية في الإنسان التي بها يفعل وقد يراد به نفس أن يعقل ويعي ويعلم فالأول قول الإمام أحمد وغيره من السلف: العقل غريزة والحكمة فطنة. والثاني قول طوائف من أصحابنا وغيرهم: العقل ضرب من العلوم الضرورية. وكلاهما صحيح فإن العقل في القلب مثل البصر في العين يراد به الإدراك تارة ويراد به القوة التي جعلها الله في العين يحصل بها الإدراك. فإن كل واحد من علم العبد وإدراكه، ومن علمه وحركته حول. ولكل منهما قوة ولا قوة إلا بالله)) (5) .   (1) تلبيس إبليس (3) . (2) نقلاً عن: العقل في مجرى التاريخ (30) . (3) الصفدية (2/257) . (4) الرد على المنطقيين (196) . (5) الاستقامة (2/161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 .. قلت: هذه بعض تعريفات العقل عند علماء المسلمين تُفيد في مجملها بأن العقل غريزة قد وهبها الله سبحانه وتعالى لمخلوقه (الإنسان) ليتميز بها عن غيره من المخلوقات في إدراك عالمه الذي يحيط به أو إن شئت فقل ((هو ملكة في النفس تستعد بها للعلوم والإدراكات)) (1) مستعيناً بمجموعة من الحواس التي تشكل نافذة له على هذا العالم الرحيب ومعتمداً في أعماله على عدة ملكات وهبها الله للإنسان ليستقيم بها عمل العقل، حصرها بعض العلماء في خمس ملكات هي: ملكة الإرادة. ملكة الإدراك. ملكة الاستنتاج. ملكة الحافظة. ملكة الذاكرة (2) . محل العقل : أما محل العقل فقد قال القاضي أبو يعلى ((محل العقل القلب ذكره أبو الحسن التميمي في كتاب العقل فقال: الذي نقول به أن العقل في القلب يعلو نوره إلى الدماغ فيفيض منه إلى الحواس ما جرى في العقل. ومن الناس من قال هو في الدماغ. وقد نص أحمد رحمه الله على مثل هذا القول فيما ذكره أبو حفص ابن شاهين في الجزء الثاني من أخبار أحمد بإسناده عن فضيل بن زياد وقد سأله رجل عن العقل أين منتهاه من البدن؟ فقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: العقل في الرأس أما سمعت إلى قولهم: وافر الدماغ والعقل واحتج هذا القائل بأن الرأس إذا ضرب زال العقل. ولأن الناس يقولون: فلان خفيف الرأس وخفيف الدماغ ويريدون به العقل. وهذا غير صحيح لقوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) وأراد به العقل فدل على أن القلب محله. لأن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاوراً له أو كان بسبب منه.   (1) العقل في مجرى التاريخ (10) . (2) العقل والنفس والروح – الوائلي (115) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 واحتج أبو الحسن التميمي بقوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وقال تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) واحتج أيضاً بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المدائني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والكبد رحمة والقلب ملك والقلب مسكن العقل)) . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دخل عليه ابن عباس قال: (جاءكم الفتى الكهول له لسان قؤول وقلب عقول) فنسب العقل إلى القلب. وروى عياض بن خليفة عن علي رضي الله عنه أنه سمعه يوم صفين يقول: (إن العقل في القلب والرحمة في الكبد والرأفة في الطحال وإن النفس في الرئة) . وعن أبي هريرة وكعب أنهما قالا (العقل في القلب) وأيضاً فإن العقل ضرب من العلوم الضرورية ومحل العلم القلب. وما ذكروه من زوال العقل بضرب الرأس فلا يدل على أنه محله كما أن عصر الخصية يزيل العقل والحياة. ولا يدل على أنها محله. وقول الناس: إنه خفيف الرأس وخفيف الدماغ فهو أن يبس الدماغ يؤثر في العقل وإن كان في غير محله كما يؤثر في البصر وإن كان في غير محله)) (1) .   (1) العدة (1/89-94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وقال النووي في شرحه لحديث ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) قال ((واحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس وفيه خلاف مشهور مذهب أصحابنا وجماهير المتكلمين أنه في القلب وقال أبو حنيفة هو في الدماغ وقد يقال في الرأس وحكوا الأول أيضاً عن الفلاسفة والثاني عن الأطباء. قال المازري واحتج القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وقوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) وبهذا الحديث فإنه - صلى الله عليه وسلم - جعل صلاح الجسد وفساده تابعاً للقلب مع أن الدماغ من جملة الجسد فيكون صلاحه وفساده تابعاً للقلب فعلم أنه ليس محلاً للعقل. واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم. ولا حجة لهم في ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه ولا امتناع من ذلك. قال المازري لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكاً والله أعلم)) (1) .   (1) شرح مسلم (11/29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وقال شيخ الإسلام ((العقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل. وأما من البدن فهو متعلق بقلبه كما قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وقيل لابن عباس بماذا نلت العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول. لكن لفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن التي جوفها علقة سوداء كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد)) وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقاً فإن قلب الشيء باطنه كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك. وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضاً. ولهذا قيل إن العقل في الدماغ كما يقوله كثير من الأطباء. ونقل ذلك عن الإمام أحمد. ويقول طائفة من أصحابه إن أصل العقل في القلب فإذا كمل انتهى إلى الدماغ. والتحقيق أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ ومبدأ الإرادة في القلب والعقل يراد به العلم ويراد به العمل فالعلم الاختياري أصله الإرادة وأصل الإرادة في القلب والمريد لا يكون مريداً إلا بعد تصور المراد. فلابد أن يكون القلب متصوراً فيكون منه هذا وهذا ويبتدئ ذلك من الدماغ وآثاره صاعدة إلى الدماغ فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء وكلا القولين له وجه صحيح)) (1) .   (1) الفتاوى (9/303) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قلت: علق الشيخ ابن عثيمين حفظه الله على قول شيخ الإسلام (قد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقاً … ) فقال ((يعني به أنه إذا أريد بالقلب باطن الإنسان صار العقل متعلقاً بالقلب وبالدماغ لأن قوة التصور والإدراك في الدماغ وهي قوة باطنية ولكن هذا لا يعني أنه بالقلب باطن الإنسان في كل موطن حتى يقال إن العقل مشترك في تعلقه بين القلب الذي في الصدر والدماغ ولذلك لا يصح أن يراد بالقلب الدماغ في قوله تعالى: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) (1) وكان قد أجاب حفظه الله قبل هذا الكلام على سؤال (أين محل العقل؟) فقال: ((الجواب عليه: أن الناس قد اختلفوا قديماً وحديثاً أين محل العقل؟ فقال بعضهم محله القلب. وقال بعضهم محله الدماغ ونقل عن الإمام أحمد. وقال آخرون محله القلب وله اتصال بالدماغ، فالقلب كالمولد للطاقة، والدماغ كالشمعة يضئ ويكشف الحقائق ولو احترقت لم نستفد من المولد شيئاً. وهذا القول جامع بين الدليل الشرعي والدليل الحسي. فإن الدليل الشرعي –الكتاب والسنة- دل على أن محل العقل والتحكم في تصرفات الإنسان هو القلب، قال الله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) فتأمل قوله سبحانه قلوب يعقلون بها، حيث جعل القلوب آلة العقل ثم أكد أن المراد به القلب الحقيقي الموجود في الصدور بقوله: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) فدل هذا على أن القلب هو الذي يبصر المعاني ويميز بينها ويعقلها. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) فجعل مدار تصرف الجسد كله على القلب.   (1) الجواب المختار (71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وكم من آية وحديث يدل على مجازاة العبد على ما في قلبه، كقوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور) . وأما الدليل الحسي فقد قام الدليل على أن للدماغ تأثيراً كبيراً في إحساس الإنسان وتصوراته وأنه إذا اختل الدماغ اختل التصور والإحساس. وأما قول من زعم أن العلم الحديث دل على أن المخ هو الذي يتحكم في تصرف الإنسان فيقال فيه: إن العقل قوة معنوية لا يمكن أن يدرك بواسطة الحس، فمن الجائز من حيث التصور أن يكون الله أودعه –أعني العقل- في أي جزء أو عضو من البدن، ونحن لا نشعر إلا عن طريق الوحي. والوحي قد دل على أن محله القلب فوجب اتباعه في ذلك. ويقال فيه أيضاً: العلم الحديث علم مخلوق بُني على استنتاجات قد تخطئ وقد تصيب، وعلم الوحي عِلمُ خالق يعلم ما خلق، وأين يقع علم المخلوق من علم الخالق؟ قال الله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) وتأمل قوله تعالى: (وهو اللطيف الخبير) حيث يدل على الخبرة وهي العلم ببواطن الأمور وعلى اللطافة وهي العلم بدقائق الأمور فالدقيق الخفي والباطن المستور كله مما يخفى على المخلوق، قال الله تعالى: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) وقال تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) . ولنضرب مثلاً – ولله المثل الأعلى- بصانع صمم جهازاً وصار يتحدث عن تركيبه ووظائف جزئياته، فهل يكون أعلم أم المهندس الذي لم يفهم من هذا الجهاز وجزئياته إلا ما يدركه بعد اختبار الجهاز والتخرص في وظائف جزئياته؟ إن من المعلوم أن صانعه الذي صممه أدرى الناس به وأعلمهم بوظائف جزئياته. وأما احتجاج من زعم أن العقل في المخ بأن المخ إذا اختل فقد عقله، وإن كان قلبه سليماً وأن القلب قد يمرض ويبقى عقله سليماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فيقال في الرد عليه: لا شك أن للمخ تأثيراً على تصور الإنسان ووعيه، لقوة الصلة بينه وبين القلب كما مثله بعضهم بالشمعة والقلب بالمولد، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون المخ هو محل العقل والتصرف في البدن والتحكم فيه. وأما كون القلب يمرض ويبقى العقل سليماً فالعقل قوة معنوية وليس قوة حسية، حتى يؤثر فيه المرض الحسي، فالقوة المعنوية تبقى سليمة وإن مرض محلها مرضاً حسياً. على أنه يمكن أن يقال إن المخ هو جهاز التصور والإدراك، فهو يتصور الأشياء ويدركها ثم يبعث بها إلى القلب والقلب يتصرف ويتحكم، كما نقول في حاسة السمع والبصر تدرك المسموع والمرئي وتبعث بها إلى القلب فيحكم ويتصرف وهذا جمع آخر بين الوحي وما يقال من العلم الحديث، ويؤيده أن الله تعالى نفى العقل عن الكفار مع أن لهم تصوراً وإدراكاً لكن لفساد تصرفهم صاروا كمفقودي العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فعلى هذا يكون محل تصور المعاني والمعقولات الدماغ، أما الذي يحكم البدن ويتصرف فيه فهو القلب، ومعلوم أنه إذا اختل محل التصور لم يمكن العقل لأن محل التصور هو الجسر الذي يعبر منه إلى القلب فإذا اختل لم يصل إلى القلب شيء فيختل العقل.)) إلى أن قال ((وأما قولك ولأجل أن لا يتعارض العلم مع القرآن (1) ألا يجوز أن نقول إن موضع التفكير هو المخ وإن القلب عضو كاليد والرجل وإنما نسب الله التفكير إلى القلب من باب مخاطبة الناس في ذلك بما يفهمون فجوابه: لا يجوز أن نقول ذلك فيما نرى لأن القرآن صريح في أن محل العقل القلب أو كالصريح في ذلك والسنة بينت ذلك أيضاً وما كان هكذا فلا يمكن تأويله لكن سبق أن ذكرنا أنه يمكن أن يكون أصل التفكير والتصور والإدراك في المخ ثم يبعث به إلى القلب والقلب يعقله ويدبر كما قلنا في حاستي السمع والبصر تدركان المسموع والمرئي ثم تبعثان به إلى القلب ليحكم بحسنه أو قبحه ثم يتصرف على ضوء ذلك)) إلى أن قال ((الذي ترجح عندي الآن أن التصور والإدراك للمعاني محله الدماغ ثم يبعث بذلك إلى القلب والقلب يأمر ويدبر فيبعث بأوامره إلى الدماغ والدماغ يحرك الأعضاء)) (2) . قلت: هذا ما كان يقوله شيوخ الإسلام الذين اتبعوا نصوص الكتاب والسنة وعظموها، وقدموها على غيرها من المعقولات التي يظن الجهلة أنها تخالفها، ثم جاء العلم الحديث شاهداً لما قالوه مؤيداً لما رجحوه، فلله الحمد والمنة. فقد اكتشف العلماء حديثاً أن قلب الإنسان يحتوي على عقلٍ آخر! مصداقاً لما أخبر الله به في قوله: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها) فأثبت سبحانه أن القلب يعقل.   (1) سيأتي قريباً –إن شاء الله- أن العلم لم يعارض القرآن في هذا، فلله الحمد. (2) الجواب المختار (66-71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فقد جاء في مجلة اليمامة (العدد 1607) تحقيق طبي عن آخر اكتشافات العلم الحديث حول وجود عقل في القلب اقتطف منه ما يلي لعله يكون عبرة لنا، فلا نبادر بمعارضة نصوص الكتاب والسنة بالمعقولات الساذجة فنكون ممن قال تعالى فيهم (بل كذبوا بما لم يُحيطوا بعلمه ولمَّا يأتهم تأويله) . يقول الدكتور فهد العريفي: " سبحان الله القائل في محكم التنزيل: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وصدق رسوله الكريم القائل ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب)) . كان للقرآن الكريم السبق في التدليل على أهمية هذه العضلة في تحديد شخصية الإنسان، بدءاً من دينه وانتهاءً بمعاملاته. وقد ساد عند كثير من العلماء فهماً مفاده أن القلب عبارة عن مضخة ميكانيكية للدم وأن مصدر العاطفة والمشاعر هو العقل ولمراد به المخ وليس القلب. فكل الأفكار والتصرفات والسلوك مصدرها المخ وأوّل بعض المفسرين دلالة القلب الواردة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن المراد هو العقل. وأخيراً جاء العلم الحديث ليؤكد على أن القلب هو العقل الثاني المتحكم في المشاعر والسلوك". قال الدكتور: "منذ قرون خالت، وعندما لم يكن متاحاً عن علم الأعصاب سوى النزر اليسير، فتن الغموض الذي أحاط بالقلب والعقل وكيفية عملهما الداخلي ولكن خلال العامين والنصف الماضيين ازدادت المعرفة حول علم الأعصاب، مما أدى إلى اكتشاف المزيد من التفسيرات عن الحافز للإنسان، إخلاصه وولائه، الثقة، الالتزام، التغير السلوكي، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية ولتوضيح هذه الاكتشافات دعونا نأخذ مثالاً بسيطاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 كلما كان لدينا خبرة مباشرة كمقابلة شخص لأول مرة مثلاً أو مواجهة تحد، أو مشكلة أو عندما تلوح لنا فرصة فهي تأتينا من خلال حواسنا الخمس وتنتقل عبر الجهاز العصبي حسب النموذج القديم الشبيه بدائرة كهربائية مباشرة إلى المخ فنفكر فيها ثم نستجيب بسلوك معين. وقد ثبت أن هذا الافتراض خاطئ بمعنى أننا نفكر في النهاية وليس في البداية. وفيما يلي بعض الآراء التي ثبتت الآن صحتها، فعندما نقابل شخصاً لأول مرة أو نواجه تحدياً أو مشكلة أو عندما تلوح لنا فرصة، فإن الموقف سواءً تجربة أو خبرة لا تذهب مباشرة إلى المخ لكي نفكر فيها بل بدلاً عن ذلك تأتي الخبرة عن كل حواسنا بما فيها مجموعة من الحواس المادية وتذهب في البدء إلى الشبكة العصبية في القلب وليس المخ. وهو ما يسمى حديثاً عند علماء الفسيلوجيا العصبية بالمخ الآخر. تشير بعض البحوث الرائدة التي أجراها بعض العلماء إلى أنه يوجد (مخ آخر) داخل الأمعاء والقلب يعرف بالجهاز العصبي الداخلي وهو مستقل عن المخ بيد أنه يتصل به في الجمجمة وذلك حسب رأي (مايكل فيرشون) رئيس قسم التشريح وعلم الأحياء الخلوية بكولمبيا. إن المكان الذي تذهب إليه كل تجربة أو خبرة هو القلب لا المخ. في التسعينات اكتشف علماء (علم القلب العصبي) الحقل الجديد الآخذ في الظهور، اكتشفوا عقلاً في القلب يتكون من 400.000 خلية عصبية من مختلف الأنواع إضافة إلى شبكة معقدة من المرسلات العصبية، البروتينات، الخلايا المساعدة وتؤدي عملاً مستقلاً عن الدماغ أو العقل. وهذا (المخ القلبي) كبير ومتسع تماماً كما اتساع المناطق الرئيسية في المخ (الدماغ المفكر) ومعقد بالقدر الذي يجعله كالمخ تماماً. وشبكة الاستقبال في القلب هي جهاز عصبي مستقل ولها طريق ذو اتجاهين يوصلها بالمخ. وهناك اكتشاف مدهش آخر هو أن دقات القلب ليست نبضات ميكانيكية لمضخة، بل لديها لغة ذكية تؤثر عن كيفية فهمنا وتفاعلنا مع العالم الخارجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إن الدراسات الحديثة في علم الأعصاب توضح أن كل خفقة للقلب تحدث هناك. فمع كل خفقة للقلب يتدفق شلال عصبي يطلق خلايا عصبية من القلب لترسل فوراً إلى المخ عبر العصب الشوكي. إن الإشارات العصبية الخارجة من القلب ذات تأثير وأثر على ضبط العديد من إشارات الجهاز العصبي، الأوعية الدموية، العضلات، الغدد والأعضاء المحيطة بالقلب كما أن الرسائل العصبية من القلب تؤثر أيضاً على قشرة المخ الجزء المختص بعمليات التفكير والاستنتاج كما تؤثر إشارات القلب العصبية على مواقع الإدراك والأفعال ومناطق العاطفة. يتصل القلب بالمخ بطريقة أخرى، من خلال رسول كيمائي في النظام الهرموني للجسد وهذا ما يرمز له بهرمون التوازن "ANF" ولهرمون التوازن تأثير مهم على الجسد، والأوعية الدموية، ومناطق ضبط وتحكم متعددة في المخ. ويعتبر هذا الهرمون من خلال الدراسات الحديثة بأنه الباعث الأساسي للسلوك التحريضي، كالإخلاص والولاء والقبول. مع كل نبضة قلب هنالك شكل آخر من أشكال الاتصال الفوري مع كل الجسم، وهي عبارة عن موجة تنتقل عبر الشرايين بسرعة تفوق بمرات كثيرة سرعة تدفق الدم. يخلق نوعاً من لغة الاتصال بين القلب والمخ لأن عينات موجة الضغط الدموي عينات قلبية إيقاعية معقدة وبهذه الطريقة تؤثر على مجمل الجسم وكذلك المخ. ظهرت دراسات حديثة تبين أن الحقل الكهرومغناطيسي للقلب يعد تقريباً الأقوى بين الحقول الكهرومغناطيسية التي ينتجها الجسم وفي الواقع إنه يفوق الحقل الكهرومغناطيسي للمخ بخمسة آلاف (5000) مرة وطبقاً لأبحاث نُشرت في مجلة (طب القلب) الأمريكية فإن التغيرات الكهربائية في الإحساس التي يرسلها القلب البشري يمكن أن تُحس وتقاس على بعد 5 أقدام على الأقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 والحقل الكهرومغناطيسي للقلب ليس محصوراً على الجسم في التأثير ولكن أيضاً لديه إشعاع خارجي، وفي الأبحاث الحديثة يمكن قياس هذا الإشعاع من على بعد 2 إلى 3 أمتار بواسطة جهاز كشف حساس يسمى الماغنيتوميتر. وهذا أيضاً ما أكدته دراسات أجراها مجموعة من العلماء في جامعة أريزونا في الولايات المتحدة والتي قدمت دلائل على اتصال طاقة بين الحقلين الكهرومغناطيسيين للقلب والمخ. لذلك ليس غريباً أننا نستند في صدق علاقاتنا على شعورنا الفطري نحو الآخرين أكثر من اعتمادنا على الأفكار التي يتلفظون بها أو الكلمات التي يعتقدونها. وهذا ما يجعلنا نشعر أن شخصاً ما يبطن مشاعر الحب أو الكراهية وهذا ما يطلق عليه العامة عدم صفاء القلب تجاه الآخر. لكي نستمر في المثال حول نموذج ما يحدث خلال كل تجربة أو خبرة في العمل إنه تنقل من خلال نبضات عصبية هي ما تسمى المديولا-me dulla تقع في قاعدة المخ ومن هذه المنطقة فصاعداً إلى أعلى منطقة في المخ تحدث مراحل التفكير الرئيسية: جهاز تنشيط شبكي: توجد في قاعدة المخ نقطة توصيل تسمى بجهاز التنشيط الشبكي "ARS" متصل بالأعصاب الرئيسية من الحبل الشوكي والمخ، وتقوم بالبحث والفحص لحوالي 100 مليون نبضة تهاجم المخ في كل ثانية، فلا تسمح سوى للنبضات الهامة بالدخول لتنبه المخ فعلى سبيل المثال (جميع أجزاء الجسم تتلامس مع أشياء كالثوب والساعة والأشياء من حولنا جميعها ترسل إلى تلك المنطقة التي نقوم بتضبطها لعدم الأهمية مقارنة بمنظر أو مشهد أو صوت لشخص مهم) وهذا الجزء من الخ يقع بين منطقة رأس الحبل الشوكي وقاعدة ساق المخ وقد نمّى مع مرور الزمن نزعة موروثة على تضخيم الرسائل الورادة السالبة (كتصرف أو موقف أو كلمة من شخص) وتقليل الرسائل الإيجابية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فعندما يصيح شخص صيحة تحذيرية تقفز إلى أعلى، بغض النظر عن المتعة التي نكون منغمسين فيها، والتي نتركها لنهرب أو نستجيب لذلك الصوت، وفي عالم العمل اليومي يميل رد العقل المتأصل هذا إلى تعقيد الأمور، فكلمات نقد قليلة توجه إلينا، تُضخم وترسل من جهاز التنشيط الشبكي إلى مراكز المخ العليا الرئيسة كفيل بجعلنا نقف منزعجين وننبري للدفاع عن أنفسا. لماذا في نهاية يوم عمل روتيني سارت فيه جميع الأمور بصورة طيبة عدا أمر واحد لم يكن كذلك نظل منشغلين بذلك الأمر؟ هذه غريزة جهاز التنشيط الشبكي. بعد جهاز التنشيط الشبكي تكون المحطة التالية للأفكار وهي المنطقة الوسطى وتسمى "Limbic system" في المخ وهي منطقة المشاعر والإدراك وردود الفعل وكذلك تفسير العواطف في المخ. وهو يعمل 80.000 مرة أسرع من قشرة المخ حيث مكمن وموضع التفكير في المخ. وفي النهاية يصل الشلال العصبي (الأفكار) لانطباعاتنا عن التجربة التي مررنا بها أو الخبرة التي حصلنا علينا إلى منطقة التفكير في المخ والتي تسمى قشرة المخ. أي أن كل تجربة أو خبرة قد أحسسناها قد فسرها القلب ومناطق أخرى كالأمعاء وأسفل منطقة المخ قبل أن تصل إلى قشرة المخ التي تحصل على التحليل النهائي. بمعنى آخر إننا نفكر في النهاية وليس في البداية. لذلك نحن نثق في الآخرين بالعاطفة أو العواطف ونبدع ونحلق بالعواطف! ومحاولة الاعتماد على القشرة المخية لوحدها قد يعود إلى شلل في القدرة على التحليل. هذه هي المحطات التي تقطعها الأفكار والتجارب قبل أن تصل إلى قشرة المخ التي يتم فيها التحليل النهائي. وهذا القلب الذي منه وعبره تنطلق هذه التجارب والمشاعر. في ختام هذه الرحلة عبر أعضاء الإنسان يتبين عظمة الخالق وعظمة الإبداع (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وصدق العامة عند رفضهم لقبول شخص بأنه لم يدخل القلب، فهذه المشاعر مصدرها القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 العقل عند الفلاسفة (1) : فأما الفلاسفة فقد كثر اضطرابهم في ذلك كحالهم في كل قضية يناقشونها فالعقل عندهم يطلق على عدة معاني منها: العقل جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها (2) . وهذا الجوهر ليس مركباً من قوة قابلة للفساد، وإنما هو مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله. العقل قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني، وتأليف القضايا، فهو قوة تجديد تنتزع الصور من المادة، وتدرك المعاني الكلية ولهذه القوة عندهم مراتب: مرتبة العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، ونسب إلى الهيولي لأن النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولي الأولى الخالية في حد ذاتها من الصور كلها والعقل الهيولاني مرادف للعقل بالقوة، وهو العقل الذي يشبه الصفحة البيضاء التي لم ينقش عليها شيء بالفعل. مرتبة العقل بالملكة، وهو العلم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات. مرتبة العقل بالفعل: وهو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد لكنها لا تشاهدها بالفعل. مرتبة العقل المستفاد: وهو أن تكون النظريات حاضرة عند العقل لا تغيب عنه (3) .   (1) استفدت كثيراً مما جاء في هذا المبحث من مقدمة الدكتور: موسى الدويش لكتاب شيخ الإسلام (بغية المرتاد) مع ما تيسر من إضافات. (2) رسالة في حدود الأشياء للكندي، تحقيق يوحنا مخيمر ص 33 دار المشرق بيروت. (3) انظر المعجم الفلسفي د- جميل صليبا 2/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وعند هذا العقل الأخير يتم النوع الإنساني، وكل عقل من هذه العقول قد يكون عقلاً بالقوة بالنسبة إلى ما فوقه، وعقلاً بالفعل بالنسبة إلى ما تحته، ولا يتم له الانتقال من القوة إلى الفعل إلا بواسطة عقل مفارق هو دائماً بالفعل، وهو العقل الفعال (1) ، ومنزلته فوق العقل الإنساني تفيض عنه الصور على عالم الكون والفساد فتكون موجودة فيه من حيث هي فاعلة، أما في عالم الكون والفساد فهي لا توجد إلا من جهة الانفعال،، وإذا أصبح العقل الإنساني شديد الاتصال بالعقل الفعال كأنه يعرف كل شيء من نفسه سمي بالعقل القدسي. وهذا كله مأخوذ من قول أرسطو (2) (إن العقل الفاعل هو العقل الذي يجرد المعاني أو الصور الكلية من لواحقها الحسية الجزئية على حين أن العقل المنفعل هو الذي تنطبع فيه هذه الصور) . وقد اختلف شراح أرسطو في هذا العقل الفاعل، أو الفعال المفارق للمادة. فذهب الاسكندر الأفروديسي إلى أن هذا العقل الفعال هو الله، لأن الله عقل محض مفارق للمادة عند أرسطو، وكذلك هذا العقل، وهو التأويل الذي اختارته المدرسة الأوغسطينية عامة في العصور الوسطى. وذهب متفلسفة الإسلام إلى أن هذا العقل هو أحد العقول أو الجواهر المفارقة التي تحرك الأجرام السماوية وبناء عليه أسندوا إليه ثلاث وظائف كبرى: تحريك عالم ما تحت القمر، إفاضة الصور العقلية على النفس، فإفاضة الصور الجوهرية على الموجودات مطلقين عليه من جراء ذلك اسم ((واهب الصور)) . وذهب فريق ثالث، وعلى رأسهم ثامسطيوس (317-388م) والقديس توما الاكويني (1225-1274م) إلى أنه قوة من قوى النفس (3) .   (1) تاريخ الفلسفة العربية: د- جميل صليبا 255. (2) المعجم الفلسفي د- جميل صليبا ص 86، شروح على أرسطو ص 31 وما بعدها تحقيق د- عبد الرحمن بدوي. (3) أرسطو المعلم الأول، لماجد فخري 73-74 ط الثانية 1977م الأهلية للنشر والتوزيع بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وذهب يوسف كرم إلى أن عبارة العقل الفعال من كلام الشراح وابتداعهم بسبب غموض كلام أرسطو في هذا المجال (1) . ومهما يكن فالخلاف حاصل بينهم لا محالة لأنهم يمشون على غير هدى من الله. وينتهي أرسطو إلى القول بأن هناك علة أولى أو المبدأ الأول ويصفه بأنه عقل محض وعاقل ومعقول. وقد عجز في نهاية الأمر عن بيان كيفية الاتصال بين العالم الحسي والعقل الإلهي الذي تصوره، وهذا شأن الفلاسفة كلهم فهم يبنون أفكارهم على خيالات ذهنية لأنهم اعتمدوا على عقولهم وتركوا دعوة الرسل جانباً. ولهذا نرى من جاء بعد أرسطو من الاسكندرانيين وعلى رأسهم أفلوطين وجدوا هذا التناقض العظيم بين الفلاسفة فكل منهم يخطئ الآخر، فحاولوا إصلاح تلك الفلسفة الفاسدة، وانتهى أمرهم إلى الإخفاق مثل غيرهم، وكان من ضمن محاولات أفلوطين للجمع بين رأي أفلاطون وأرسطو، القول بنظرية الفيض، وهي النظرية التي تبناها الفارابي فيما بعد ثم ابن سينا، حتى شاعت بين فلاسفة التصوف أمثال ابن عربي وابن سبعين. ونظرية الفيض: عبارة عن تصوير صدور الموجودات عن الله أو صدور الكثرة عن الواحد. ويرى هؤلاء (2) . أن إحداث الأشياء ما هو إلا انتشار ما في العلة الأولى من القدرة على التعقل والتأثير مع بقاء ذاتها على ما كانت عليه من السكون والكمال المتعالي عن كل نوع من التغيير والحركة، فإذا قيل: وما الباعث الذي حمل تلك العلة على إحداث العالم؟ الجواب: أنها لم تكن محتاجة إلى العالم، بل كان ذلك لما فيها من الجود وإفراط القدرة. ثم قال أفلوطين (3) : لو لم يكن للعالم وجود، لما وجد في ذات المبدأ فرق.   (1) تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم ص 213. (2) انظر كتاب الوجد الإلهي بين انتصار العقل وتهافت المادة – ص 163 لسانتلانا. (3) المصدر نفسه 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فهو إذاً غير محتاج إلى العالم، مع شدة احتياج العالم إليه، غير أنه لا يتصور في القدرة إذا بلغت أشدها وأدركت من الكمال غايته أن تبقى في نفسها منحازة معطلة، بل لا تأثير لها ولا فعل، وهذا حال العلة الأولى فإنها لما لها من الكمال لا تبقى معطلة بل لابد أن تفيض قوتها فيضان الماء من العين الغزيرة وانتشار النور من الشمس. فالوجود عند أفلوطين وشيعته ينحصر في أصل واحد هو: العقل الفائض من العلة الأولى، وما يفيض من العقل من مراتب الموجودات، فالكل أنوار عقلية أي: قوى إلهية انعكست ببعضها عن بعض يتناقص نورها شيئاً فشيئاً بقدر ما تباعدت عن المنبع الأولى إلى أن ينتهي هبوطها إلى رتبة يكاد أن ينعدم فيها النور بالكلية وهي المادة، وتلك عبارة عن الظلام وهو العدم، أي سلب التعيين وفقدان الوجود، فما العالم إلا إبراز ما كان مكنوناً من القوى في العلة الأولى، لا زال معلقاً بها كالظل بالشخص، وكالنور بالشمس، والإله محيط به من جميع أكنافه، حال في جميع أجزائه كما يقع نور الشمس على الأرض. ويقول أفلوطين أيضاً: ينبغي أن نعلم أن الأشياء الطبيعية متعلق بعضها ببعض، فإذا فسد بعضها صار إلى صاحبه علو إلى أن يأتي الأجرام السماوية، ثم النفس، ثم العقل، فالأشياء كلها ثابتة في العقل، والعقل ثابت بالعلة الأولى، والعلة الأولى بدء لجميع الأشياء ومنتهاها (1) . تلك هي نظرة هؤلاء الفلاسفة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي نظرة تخالف عقيدة التوحيد وتناقضها ولا تلتقي معها أبداً، فهم قد جردوا الإله عن أسمائه الحسنى وصفاته العلى وخاصة صفة الخلق وجعلوا وجوده مجرد وجود في الذهن فقط.   (1) الوجود الإلهي، سانتلانا 121-122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقد أخذ متفلسفة الإسلام تلك الآراء الفلسفية وهذبوها وشرحوها وحاولوا مزجها بالشريعة الإسلامية، ومن ذلك نظرية الفيض أو الصدور التي قال بها أفلوطين وشيعته من الاسكندرانيين، وأخذها عنهم هؤلاء المتفلسفة ممن حاول الجمع بين الشريعة والفلسفة وجعلوا الفيض أو الصدور الذي عناه هؤلاء الفلاسفة هو معنى صفة الخلق لله التي نزل بها القرآن، ومن هؤلاء الفارابي، وابن سينا. يرى ابن سينا أن الإله عقل محض، يعقل ذاته، ففعله الأول أنه يعقل نظام الخير في الوجود وكيف ينبغي أن يكون، لا عقلاً خارجاً من القوة إلى الفعل، ولا عقلاً متنقلاً من معقول إلى معقول بل عقلاً واحداً معاً، ولما كان التعقل علة للوجود كان من الضروري أن يصدر عن تعقل الإله لذاته معلول أول هو أيضاً عقل، وهذا العقل الأول واجب بالإله ممكن بذاته وهو أيضاً يعقل الإله ويعقل ذاته، فإذا عقل الإله لزم عنه بما يعقله وجود عقل ثان تحته، وإذا عقل ذاته صدر عن تعقله لها وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها وهي النفس، ووجود جرمية الفلك الأقصى، فالنفس تصدر عن تعقله لذاته واجبة الوجود بالإله، والجسم يصدر عن طبيعة إمكان الوجود المتدرجة من تعقله لذاته، فهناك إذن ثلاثة أشياء تفيض عن العقل الأول، العقل الثاني، وجرم الفلك الأقصى، وصورته التي هي النفس، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود. والعقول المفارقة كثيرة العدة، إلا أنها ليست موجودة معاً عن الإله بل يجب أن يكون أعلاها العقل الأول، ثم يتلوه عقل ثان وثالث، ولا يزال هذا التعقل ينتج عقولاً، ونفوساً، وأفلاكاً، حتى ينتهي الإبداع عند العقل العاشر، وهو العقل الفعال المدبر لعالم الكون والفساد. فالأمور السماوية تؤلف إذن سلسلة، كل حلقة منها تتضمن ثلاثة أشياء: العقل، والنفس، والفلك. والإله لا يبدع إلا العقل الأول، وهذا العقل الأول يلزم عنه ثلاثة أشياء: العقل الثاني، والفلك الأقصى، ونفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 والعقل الثاني يلزم عنه ثلاثة أشياء: العقل الثالث، وفلك الكواكب الثابتة وصورته التي هي النفس وهكذا إلى أن ينتهي الفيض إلى فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض (1) . فابن سينا كغيره من الفلاسفة يرى أن الموجودات صدرت عن الله لا على سبيل القصد والاختيار بل ضرورة. ولا شك أن كل عاقل يدرك بطلان تلك النظرية وفسادها ومنافاتها للفطرة السليمة التي لم تتلوث بالآراء الفلسفية، وقد قوبلت تلك النظرية وغيرها بالاستخفاف والاستهزاء من جانب العلماء فنجد مثلاً ابن خلدون يقول (2) : (إن هذا الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه، فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول، واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب، فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك، ويخلق ما لا تعلمون) .   (1) انظر النجاة لابن سينا 454؛ وانظر أيضاً من أفلاطون إلى ابن سينا مجموعة محاضرات للدكتور جميل صليبا ص88-89. (2) مقدمة ابن خلدون ص 516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ونجد الغزالي مع أخذه بالفلسفة أحياناً، يستنكر تلك النظرية فيقول (1) : (ما ذكرتموه تحكمات، وهو على التحقيق ظلمات فوق ظلمات لو حكاه الإنسان في نومه عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه) . والحق أن تلك الآراء ما هي إلا امتداد للوثنية القديمة التي ترى أن الكواكب أجسام سماوية، وأن لها نفوساً تحركها وأن لحركاتها تأثيراً في نفوسنا وأجسامنا، وكل كوكب يعتبر إلهاً عندهم، فالمريخ مثلاً إله الغضب، والشمس إله الحرارة، والقمر إله الرطوبة، وقد حكى القرآن ذلك عن قوم إبراهيم قال تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون* أئفكاً ألهة دون الله تريدون* فما ظنكم برب العالمين* فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم) . قلت: والذي عليه علماء المسلمين من أقوالهم –أي الفلاسفة- أن العقل جوهر مجرد قائم بنفسه. قال شيخ الإسلام عنهم ((ولفظ العقل والمادة ونحوهما في كلامهم غير معناه في لغة العرب فإنهم يعنون بالعقل جوهراً مجرداً قائماً بنفسه. والعقل في لغة العرب عَرَض هو علم أو عمل بالعلم وغريزة تقتضي ذلك)) (2) .   (1) تهافت الفلاسفة للغزالي ص 29، وانتقدها من العلماء أيضاً ابن رشد في كتابه التهافت، وفخر الدين الرازي في كتابيه ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) ، و ((الأربعين في أصول الدين)) والشهرستاني في كتابه ((نهاية الاقدام في علم الكلام)) وأبي البركات البغدادي في كتابه ((المعتبر في الحكمة)) وانتقدها من المحدثين: البيرنصري نادر، في مقدمته لتحقيق كتاب الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، وسليمان دنيا في مقدمته للجزء الأول من الإشارات لابن سينا، وحمودة غرابة في كتابه ((ابن سينا بين الدين والفلسفة)) وغيرهم، انظر كتاب دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي ص 149-156 للدكتور حسام الألوسي وقد استوفى غالب الأقوال التي انتقدت تلك النظرية. (2) درء التعارض (10/302) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وهذا القول الذي امتاز به فلاسفة اليونان في العقل دعاهم إليه دعوى تنزيه الإله أو الخالق عن أن تصدر عنه الكثرة المشاهدة في المحسوسات فاخترعوا لأجل ذلك قضية توالد العقول وتعاقبها والتي منها هذا العقل المزعوم الذي يشترك فيه الناس. ثم جاء فلاسفتنا فزادوا طينة هذا القول المضحك بلّة فتعسفوا التأويلات واحتجوا بالمأثورات الشاذة والموضوعة ليدللوا على أقوال أولئك الفلاسفة الوثنيين بدعوى الجمع بين الدين والفلسفة لئلا يعارض أحدهما الآخر فالأصل عندهم هو أقوال البشر من الفلاسفة فهي الأقوال المقدمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فينبغي حمل ما تيسر من النصوص الإسلامية وقسرها كرهاً على أن تدل على تلك الأقوال ذراً للرماد في أعين عامة المسلمين أن لا يتهمونا بشيء من المروق والإلحاد إن نحن أعرضنا عن نصوصهم ومأثوراتهم كلية! قال الدكتور موسى الدويش ((حيث أن هؤلاء المتفلسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد ومن هو على شاكلتهم مؤمنون بالفلسفة إيماناً كاملاً وكأنها وحي منزل لذا قاموا بإبراز أفكار من سبقهم من الفلاسفة وخاصة أرسطو وأتباعه أصحاب الفلسفة المشائية، ولما كانت تلك الآراء الفلسفية تناقض الحقائق الدينية ولا تلتقي معها أبداً حاول هؤلاء المتفلسفة التوفيق بينهما وذلك بإخضاع النصوص الشرعية وتأويلها وتحريفها حسب أهوائهم ومحاولة تطبيق الاصطلاحات الفلسفية على المسميات النبوية وكان أفضل طريق يحقق هدفهم هذا هو سلوكهم طريق الباطنية في تحريف النصوص فجمع هؤلاء بين التفلسف والقرمطة)) (1) .   (1) بغية المرتاد (المقدمة 58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وقال أيضاً ((إن محاولة الجمع أو التوفيق بين الدين والفلسفة محاولة قديمة فهناك فئة من الناس اغترت بعقولها فذهبت تشرع للناس الشرائع في كل فن حتى وإن خالف شرع الله الذي جاءت به الرسل. وعندما اصطدمت تلك الآراء البشرية بشرع الله المنزل ظهرت فكرة الجمع بين الدين وتلك الآراء البشرية ومن هؤلاء فلاسفة اليونان قديماً. ثم جاء فيلون اليهودي (1) فجعل شريعة نبي الله موسى أساس الفلسفة. فذكر أن الكائنات بادئة من الله ونازلة إلى المادة وتتحد في الكلمة الإلهية ((لوجوس)) التي عنها فاضت الكائنات (2) . وفي النصرانية جاء كليمنتس (3) فذكر أن الفلسفة في ذاتها ليست شراً فالمعرفة معرفتان: إحداهما: عن طريق الوحي، بدأت في العهد القديم، واكتملت في العهد الجديد.   (1) أحد فلاسفة اليهود وهو من الاسكندرية عاش فيما بين سنة 20 قبل الميلاد وتوفي سنة 50م فهو من معاصري المسيح عليه السلام، افتتن بالفلسفة اليونانية وجعل هدفه في الحياة هو التوفيق بين الكتاب المقدس وعادات اليهود من جهة والآراء اليونانية وبخاصة فلسفة أفلاطون من جهة أخرى. انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 247، قصة الحضارة 11/103 ول ديورانت. (2) انظر الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 250-251؛ تاريخ الفلسفة العربية 1/106-107- حنا الفاخوري، د- خليل الجر؛ تاريخ الفلسفة العربية ص 456 د- جميل صليبا. (3) هو كليمنتس الاسكندري عاش فيما بين سنة 150-207م ولد في الاسكندرية وقيل في أثينا، وجال في شبابه أنحاء فلسطين وسوريا واليونان وإيطاليا يتفرج على البلاد ويدرس على مشاهير المعلمين فعرف الأسرار الوثنية، والمذاهب وانتهى بتفضيل الأفلاطونية ولكنه لم يتحقق له فيها شيء من أمانيه الروحية فاعتنق المسيحية، رحل في آخر حياته إلى آسيا الصغرى هرباً من الاضطهاد وهناك توفي. انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص269 ليوسف كرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والثانية: عن طريق العقل الطبيعي، وهي التي جاء بها فلاسفة اليونان. وذكر أيضاً: أن تاريخ المعرفة الإنسانية يشبه مجرى نهرين عظيمين: الناموس اليهودي، والفلسفة اليونانية، وقد تفجرت المسيحية عند ملتقى هذين النهرين. فالناموس لليهود. والفلسفة لليونان. والناموس والفلسفة والإيمان للنصارى. والفلسفة ليست متنافرة مع الإيمان، لأن لكل إنسان مزية تفرق بينه وبين الحيوانات العجم، وهذه المزية هي: الحكمة، وهي تدعي فكراً من حيث أنها تعرف المبادئ الأولى، وتدعي علماً ومعرفة من حيث أنها تستند إلى هذه المبادئ لتتوصل إلى المعرفة البرهانية، وهي تصبح ((تقنة)) إذا عالجت القضايا العلمية، وتصبح إيماناً عندما تنفتح على التقوى، وتؤمن بالكلمة وتقودنا نحو الخضوع لوصاياه تعالى، وهي في جميع مظاهرها هذه تظل واحدة لا تتعدد (1) . وجاء أوريجنس (2) فحاول أن يؤيد العقيدة المسيحية ببيان اتفاقها مع الفلسفة اليونانية فكان بذلك واضع الأساس لفلسفة العصور الوسطى (3) . إن محاولات الجمع بين الشرائع السماوية السابقة وبين الفلسفة من جانب هؤلاء أدى إلى تحريف الدين والعقيدة الصحيحة التي جاءت بها الرسل، ولهذا دخل التحريف على التوراة والإنجيل وأصبح لكل فرقة كتاب يخصهم وعمت الفوضى الفكرية تلك الديانات وتسرّب الإلحاد إليها بسبب تلك المحاولات وغيرها.   (1) انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 270-271 يوسف كرم، تاريخ الفلسفة العربية 1/104-105 حنا الفاخوري، وخليل الجر. (2) هو تلميذ كليمنتس عاش فيما بين 185-254م وهو أول مسيحي حاول أن يرسم الحدود بين العقل والوحي. كانت أسرته وثنية ثم تنصرت، درس في المدرسة الوثنية على يد أمونيوس ما كاس أحد مؤسسي الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، توفي في مدينة صور. انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية ص 274-275 يوسف كرم. (3) انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 275، تاريخ الفلسفة العربية ص 456 د- جميل صليبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أما عملية التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة فقد بدأت مع حركة النقل والترجمة للكتب الفلسفية، وقد ترجمت كتب كثيرة من المنطق والفلسفة من السريانية واليونانية والفارسية، وكان أكثرها لأرسطو، وكان لترجمتها إلى اللغة العربية الأثر الكبير في زعزعة عقائد بعض أهل البدع لأن تلك البحوث ترتكز على الوثنية اليونانية، وتصور وثنيتهم القومية التي ترجموها في لغتهم الفلسفية وأضفوا عليها صبغة من الفن، وما العقول والأفلاك إلا رموز للوثنية الإغريقية القديمة، وما أفعالها وحركاتها وتصرفاتها إلا عقائد توارثتها الأجيال عندهم، وهي وثنية تعارض التوحيد. وتشتمل هذه الفلسفة –التي بهرت البعض وتسلطت على عقولهم من غير حق – على ظنون وتخمينات وطلاسم لفظية لا حقيقة لها ولا معنى ولا وجود لها في الخارج، وقد أقبلوا عليها في شيء من التمجيد والتقديس)) (1) . وقال الدكتور موسى –أيضاً-: ((أول من قام بعملية التوفيق من الفلاسفة الكندي (2) ، فقد أخذ يجمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات محاولاً أن يقيم الدليل على عدم وجود تعارض بينهما، بل يغالي في الفلسفة فيعرفها بأنها (3) ((علم الأشياء بحقائقها)) ويدخل في ذلك بحسب رأيه علم الربوبية والوحدانية وكل علم.   (1) مقدمة الدكتور موسى الدويش لكتاب ((بغية المرتاد)) (62/65) . (2) هو يعقوب بن إسحاق الكندي أبو يوسف فيلسوف، طبيب، رياضي، منطقي نشأ في البصرة وانتقل إلى بغداد وصار من جلساء المأمون والمعتصم، ولما جاء المتوكل ضربه وأبعده لكونه من المعتزلة، توفي ببغداد سنة 252هـ من تصانيفه كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات، رسالة في الحساب الهندي، الطب البقراطي وأسرار تقدمه وغيرها، انظر: الفهرست لابن النديم ص255، لسان الميزان 6/205؛ رسائل الكندي الفلسفية ص1-7 تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريده؛ معجم المؤلفين 13/244. (3) رسائل الكندي الفلسفية ص 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ويذكر أيضاً: أن الدين علم الحق، وفي رسالته إلى أحمد بن المعتصم توضيح ذلك إذ يقول (1) : (ولعمري أن قول الصادق محمد صلوات الله عليه وما أدى عن الله عز وجل لموجود جميعاً بالمقاييس العقلية التي لا يدفعها إلا من حرم صورة العقل واتحد بصورة الجهل من جميع الناس) . وللمعرفة عند الكندي طريقان: أحدهما: طريق العقل. والثاني: طريق الوحي، وهذان الطريقان يوصلان إلى حقيقة واحدة حسب رأيه (2) . ثم جاء إخوان الصفا (3) فقام مذهبهم على أساس التوفيق بين الدين والفلسفة، وألّفوا لهذا الغرض رسائلهم، فهم يرون أن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية الحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية. فقامت لهذا الغرض مؤكدة أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال (4) . وهم يفسرون الشريعة الإلهية –أو الوحي- بشرح أفلوطيني فيقولون (5) : (واعلم أن الشريعة الإلهية هي جبلة روحانية تبدو من نفس جزئية في جسد بشري بقوة عقلية تفيض عليها من النفس الكلية، بإذن الله تعالى في دور من الأدوار والقرانات، وفي وقت من الأوقات، لتجذب بها النفوس الجزئية وتخلصها من أجساد بشرية متفرقة ليفصل بينها يوم القيامة) .   (1) رسائل الكندي الفلسفية ص 244، والنص المذكور جزء من رسالة بعث بها الكندي إلى تلميذه أحمد بن المعتصم في الإبانة عن سجود الجرم الأقصى وطاعته لله عز وجل، وقد طلب منه أحمد بن المعتصم شرح الآية (والنجم والشجر يسجدان) فأوضح الكندي معنى السجود وشرحه شرحاً فلسفياً بعيداً عن المعنى الصحيح الذي ذكره أهل التفسير. (2) انظر تاريخ الفلسفة العربية د- جميل صليبا ص 129-130. (3) انظر الكلام عن جماعة إخوان الصفا ص180، من بغية المرتاد. (4) انظر: رسائل إخوان الصفا 1/6 دار صادر بيروت. (5) رسائل إخوان الصفا 4/129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ثم يوردون آيات من القرآن لتأييد مطلبهم، وكل هذا محاولة منهم للجمع بين الشريعة والفلسفة، فنراهم قد ربطوا بين الله والنفس الكلية من جهة، والعقل الإنساني المفاض عليه من جهة أخرى، كما ربطت الأفلاطونية الحديثة بين الله والنفس الكلية من جانب آخر، وجعلوا الخلاص من هذا العالم المادي غاية الإنسان. ولتأكيد هذه المحاولة نرى إخوان الصفا عندما يريدون تقرير أمر من الأمور فإنهم يجمعون بين النصوص الشرعية والآراء الفلسفية كاستشهادهم على تجرد النفس واشتياقها إلى عالم الأفلاك –بعد الموت- فإن كانت صافية صعدت هناك، وإن كانت عكس ذلك بقيت تحت فلك القمر حسب زعمهم، وهم يستدلون بأقوال الفلاسفة والأنبياء كي يقرروا هذا الرأي الفلسفي ويصبغوه بصبغة شرعية فيقولون (1) : ((يقال أن بطليموس (2) كان يعشق علم النجوم، وجعل علم الهندسة سلماً صعد به إلى الفلك. فمسح الأفلاك وأبعادها والكواكب وأعظامها، ثم دوّنه في المجسطي، وإنما كان ذلك الصعود بالنفس لا بالجسد وهكذا. ويحكى عن هرمس (3) المثلث بالحكمة، وهو إدريس النبي عليه السلام أنه صعد إلى فلك زحل ودار معه ثلاثين سنة، حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم.   (1) رسائل إخوان الصفا 1/138. (2) هو أفلاديوس بطليموس نشأ في القرن الثاني للميلاد، ألف كتاب ((المجسطي)) بكسر الميم والجيم وتخفيف الياء، وهو أول كتاب دون فيه علم الفلك، نقل هذا الكتاب إلى العربية –انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 243 يوسف كرم؛ إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي ص 63. (3) عن هرمس انظر ص 413-414. من بغية المرتاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وقال أرسطاطاليس (1) في كتاب ((الثالوجيا)) شبه الرمز: إني ربما خلوت بنفسي وخلعت بدني، وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن فأكون داخلاً في ذاتي، خارجاً عن جميع الأشياء، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجباً باهتاً، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الفاضل الشريف. وقال فيثاغورس (2) في الوصية الذهبية: إذا فعلت ما قلت لك يا ديوجانس (3) وفارقت هذا البدن حتى تصير نحلا في الجوّ، فتكون حينئذٍ سائحاً غير عائد إلى الإنسانية ولا قابل للموت. ... وقال المسيح عليه السلام للحواريين في وصية له: إذا فارقت هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمنة عرش ربي، وأنا معكم حيثما ذهبتم فلا تخالفوني حتى تكونوا معي في ملكوت السماء غداً. ... وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في خطبة له طويلة: ((أنا واقف لكم على الصراط وإنكم ستردون على الحوض غداً فأقربكم مني منزلاً يوم القيامة من خرج من الدنيا على هيئة ما تركته، ألا لا تغيروا بعدي، ألا لا تبدلوا بعدي)) .   (1) أي أرسطو. (2) فيثاغورس ولد في ساموس، وعاش بين سنة 572-497 قبل الميلاد وهو فيلسوف يوناني ذاع صيته لمعلوماته العلمية والرياضية، حيث كان رياضياً بارعاً ولقد برهن على أن قوة الأصوات تابعة لطول الموجات الصوتية، انظر: الوجود الإلهي بين انتصار العقل وتهافت المادة لسانتلانا ص28، تاريخ الفلسفة اليونانية يوسف كرم ص20-21، إخبار العلماء بأخبار الحكماء ص170. (3) ديوجانس فيلسوف يوناني عاش فيما بين 413-327 قبل الميلاد وهو من أنصار المدرسة الكلبية، يرى أن الرياضة البدنية والنفسية وسيلة الخلاص وسبب الفلاح من رق الأهواء، وكان يحتقر العرف ويرى أن الفرد غير مربوط بجماعة على عكس أفلاطون وأرسطو اللذين كانا يجعلان المدينة شرط الفضيلة، أنظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 212-213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 .. وهكذا فإن إخوان الصفا قد استدلوا بالسنة وقول عيسى بن مريم –عليه السلام- كما استدلوا بقول فيثاغورس وأرسطو على ما أرادوا تقريره من بقاء النفوس –وهي باقية- بعد مفارقة الأجسام، وهذا هو ما سلكوه في رسائلهم فعندما يستدلون على قول يجمعون بين أقوال الأنبياء والفلاسفة، وقد وضع إخوان الصفا الأساس لمن جاء بعدهم من الفلاسفة وفلاسفة التصوف حيث نهجوا نهجهم بل زادوا عليهم)) (1) . ... وقال شيخ الإسلام إن ((ابن سينا وأمثاله خلطوا كلامهم في الإلهيات بكلام كثير من متكلمي أهل الملل فصار للقوم كلام في الإلهيات وصار ابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما يقربون أصول هؤلاء إلى طريقة الأنبياء ويظهرون أن أصولهم لا تخالف الشرائع النبوية)) (2) . وقال سيد قطب رحمه الله ((إن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي كانت تنّم عن سذاجة كبيرة وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية وعناصرها الوثنية العميقة وعدم استقامتها على نظام فكري واحد. وأساس منهجي واحد. مما يخالف النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة. فالفلسفة الإغريقية نشأت في وسط وثني مشحون بالأساطير ولم تخل من العناصر الوثنية الأسطورية قط. فمن السذاجة والعبث –كان- محاولة التوفيق بينها وبين التصور الإسلامي القائم على أساس التوحيد المطلق العميق التجريد.. ولكن المشتغلين بالفلسفة والجدل من المسلمين، فهموا –خطأ- تحت تأثير ما نقل إليهم من الشروح المتأخرة المتأثرة بالمسيحية أن الحكماء – وهم فلاسفة الإغريق- لا يمكن أن يكونوا وثنيين ولا يمكن أن يحيدوا عن التوحيد! ومن ثم التزموا عملية توفيق متعسفة بين كلام الحكماء وبين العقيدة الإسلامية ومن هذه المحاولة كان ما يسمى الفلسفة الإسلامية!)) (3) .   (1) بغية المرتاد (المقدمة 66-69) . (2) الصفدية (1/237) . (3) خصائص التصور الإسلامي (12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 .. إذن ((إن محاولة الجمع بين الشريعة والفلسفة واحدة من المحاولات التي قام بها أعداء الدين من متفلسفة وقرامطة وصوفية وغيرهم من ذوي الأطماع والعصبية الحادة ضد تلك العقيدة الصافية وقد كانت تلك المحاولة من أخطر المحاولات التي مرت على الفكر الإسلامي. فقد أدت إلى خلق بلبلة وفوضى فكرية نتج عنها جمود في أمتنا الإسلامية وطغيان أهل البدع)) (1) . ومن هذا الجمع المتهافت بين الإسلام والفلسفة ما نحن فيه من قضية (العقل) وما هيته فقد قام فلاسفتنا (2) بتتبع المأثورات الشاذة والضعيفة وحملها على أقوال الفلاسفة وتم لهم ذلك في قضية (العقل) بوجود مقدار لا بأس به من الأحاديث الموضوعة في فضل العقل، كان منها حديث العقل المشهور الذي أصبح عمدتهم الأولى في هذه القضية يُدللون به على صحة قول الفلاسفة في تعريفهم له. وأعني به الحديث الذي يقول متنه ((أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل فقال له: أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب)) (3) . وهذا الحديث موضوع وكذب عند أهل العلم بالحديث. قال شيخ الإسلام عنه ((اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ضعيف بل هو موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر الحافظ أبو حاتم البستي وأبو الحسن الدارقطني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم أن الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العقل لا أصل لشيء منها. وليس في رواتها ثقة يعتمد)) (4) .   (1) بغية المرتاد (المقدمة 78) . (2) قال ابن تيمية ((ليس الفلاسفة من المسلمين كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام. فقال: ليس في الإسلام فلاسفة)) (الرد على المنطقيين 199) . ... قلت: وأنا أطلق عليهم فلاسفتنا أحياناً مجاراة للمشهور لا مدحةً لهم. (3) الصفدية (1/238) . (4) بغية المرتاد (171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 .. قلت: وذكر ابن الجوزي في الموضوعات (1/171) والسيوطي في الآلي المصنوعة (1/129) عدة روايات لهذا الحديث وبينا اتفاق العلماء على أنها موضوعة. ... قال ابن الجوزي ((رويت في العقول أحاديث كثيرة ليس فيها شيء يثبت)) (1/171) . وقال ابن القيم في المنار (66) ((ومنها –أي الأحاديث الموضوعة- أحاديث العقل كلها كذب)) وقال الدارقطني إن ((كتاب العقل وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه ثم سرقه منه داود بن المحبّر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة وسرقه عبد العزيز ابن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر)) (1) . وقال المحدث ناصر الدين الألباني –رحمه الله- ((مما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء وهي تدور بين الضعف والوضع وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه: العقل وفضله فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء فالعجب من مصححه الشيخ محمد زاهد الكوثري كيف سكت عنها؟!)) (2) . ... قلت: ولم يكتف شيخ الإسلام ببطلان هذا الحديث المكذوب سنداً بل أبطل معناه ومتنه من عدة أوجه ليهدم أساس فلاسفتنا الموفقين بين الإسلام والفلسفة ويغلق عليهم منافذ التحريف والتأويل فقال رحمه الله: ... ((الأول: أن كلام ابن الجوزي على حديث العقل قد تقدم حيث بدأنا بالحديث وذكرنا ما قال فيه أئمة العلم وانقضى)) .   (1) تاريخ بغداد (8/360) . (2) السلسلة الضعيفة (1/13) وانظر الصفدية (1/238) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 .. الثاني: ((أن من تدبر الكتب المصنفة في العقل لأهل الآثار تبين له تحريف هؤلاء مع ضعف الأصل، ومن أشهرها كتاب العقل لداود بن المحبر وهو قديم في أوائل المائة الثالثة روى عنه الحارث بن أبي أسامة ونحوه، وكذلك مصنفات غيره رووا فيها عن ابن عباس أنه دخل على أم المؤمنين عائشة فقال: ((يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقلّ قيامه ويكثر رقاده وآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إلى الله)) قالت: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما سألني عنه فقال: ((أحسنهما عقلاً)) فقلت: يا رسول الله إنما أسألك عن عبادتهما، فقال: ((يا عائشة إنهما لا يسألان عن عبادتهما إنما يسألان عن عقولهما، فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة)) (1) . ... ورووا فيها عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لكل إنسان سبيل مطية وثيقة ومحجة واضحة وأوثق الناس مطية وأحسنهم دلالة ومعرفة بالحجة الواضحة أفضلهم عقلاً)) (2) . ... ورووا فيها عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد فما يجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله)) (3) فهل يشك من سمع هذه الأحاديث أن المراد بذلك الإنسان؟ ليس المراد ما هو أعظم المخلوقات الموجودات بعد الباري عندهم وهو عندهم أبدع كل ما سواه، وأن الاستدلال بهذا الحديث ونحوه على إرادة هذا المعنى من أعظم الضلال وأبعد الباطل والمحال، هذا لعمري لو كان ذلك ثابتاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال أبو حاتم بن حبان البستي ((لست أحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبراً صحيحاً في العقل)) .   (1) الموضوعات (1/176) . (2) ذم الهوى (7) تحقيق مصطفى عبد الواحد. الطبعة الأولى 1380هـ- تنزيه الشريعة (1/215) . (3) المجروحين (3/40) – الموضوعات (1/172) - تنزيه الشريعة (1/214) - الفوائد المجموعة (475) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 .. الثالث: ((أن العقل في لغة المسلمين كلهم أولهم عن آخرهم ليس ملكاً من الملائكة ولا جوهراً قائماً بنفسه بل هو العقل الذي في الإنسان ولم يسم أحد من المسلمين قط أحداً من الملائكة عقلاً ولا نفس الإنسان الناطقة عقلاً بل هذه من لغة اليونان، ومن المعلوم أن حمل كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كلام الله تعالى على ما لا يوجد في لغته التي خاطب بها أمته ولا في لغة أمته –وإنما توجد في لغة أمة لم يخاطبهم بلغتهم ولم تتخاطب أمته بلغتهم- فهذا يبين أن الذين وضعوا الأحاديث التي رويت في ذلك ليس المراد بها عند واضعيها ما أثبته الفلاسفة من الجوهر القائم بنفسه، فهؤلاء المستدلون بهذه الأحاديث على قول المتفلسفة لم يفهموا كلام الكاذبين الواضعين للحديث بل حرفوا معناها كما حرفوا لفظها. فإذا كان هذا حالهم في الحديث الذي استدلوا به فكيف في غيره؟ فتبين أن استدلالهم باطل قطعاً)) . ... الرابع: ((أن العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يراد به جوهر قائم بنفسه باتفاق المسلمين وإنما يراد به العقل الذي في الإنسان الذي هو عند من يتكلم في الجوهر والعرض من قبيل الأعراض لا من قبيل الجواهر. وهذا العقل في الأصل مصدر عقل يعقل عقلاً كما يجئ في القرآن (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 .. وهذا كثير، وهذا مثل لفظ السمع فإنه في الأصل مصدر سمع يسمع سمعاً وكذلك البصر فإنه مثل الأبصار ثم يعبر بهذه الألفاظ عن القوى التي يحصل بها الإدراك فيقال للقوة التي في العين بصر والقوة التي يكون بها السمع وبهذين الوجهين يفسر المسلمون العقل. ومنهم من يقول العقل هو من جنس العلم كما يقوله القاضي أبو بكر ابن الباقلاني وأبو الطيب الطبري وأبو يعلى بن الفراء ومنهم من يقول هو الغريزة التي بها يتهيأ العلم كما نقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي ويدخل ذلك في العقل العلمي وهو العمل بمقتضى العلم. وأما تسمية الشخص العاقل عقلاً أو الروح عقلاً فهذا وإن كان يسوغ نظيره في اللغة فقد يسمون الفاعل الشخصي بالمصدر فيسمى عدلاً وصوماً وفطراً فليس هذا من الأمور المطردة في كلامهم فلا يسمون الآكل والشارب أكلاً وشرباً ولو كان ذلك مما يسوغ في القياس بحيث يسوغ أن يسمى كل فاعل باسم مصدره فهذا إنما يسوغ في الاستعمال لا في الاستدلال، فليس لأحد أن يضع هو مجازاً لنفسه يحمل عليه كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام من تكلم قبله، إذ المقصود بالكلام هو فهم مراد المتكلم سواء كان لفظه يدل على المعنى وهو الحقيقة أو لا يدل إلا مع القرينة وهو المجاز. فليس لأحد أن يسمي الجوهر القائم بنفسه عقلاً ثم يحمل عليه كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومعلوم بالاضطرار لمن يعرف لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين الذين يتكلمون بلغته أن هذا ليس هو مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في اسم العقل فليس هذا مراد المسلمين باسم العقل ولا يوجد ذلك في استعمال المسلمين وخطابهم. وإذا كان كذلك لم يجز أن يتمسكوا بشيء من كلام الرسول الذي فيه لفظ العقل –لو كان ثابتاً- على إثبات الجوهر الذي يسمونه عقلاً. ومن تدبر ما يوجد في كلام المسلمين عامتهم وخاصتهم سلفهم وأئمتهم وفقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم ومفسريهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ونحاتهم ومتكلميهم لم يجد في كلام أحد منهم لفظ العقل منقولاً على ما يزعمه هؤلاء من المتفلسفة)) . ... الخامس: ((مما يبين كذب هذا الحديث المروي كما رووه أن العقل إذا كان في لغة المسلمين هو عرض قائم بغيره لم يكن مما يخلق منفرداً عن العاقل. وإنما يخلق بعد خلق العقلاء. وأيضاً فإن مثل هذا لا يخاطب ولا يقبل ولا يدبر. وأيضاً فقوله (ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك) لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى فإنه من المعلوم أن الأنبياء والملائكة أكرم على الله منه إذ كان في بعض صفاتهم. ولو قدر أن العقل في لغتهم يكون جوهراً أو ملكاً وقدر أن هذا اللفظ قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجز أن يراد به ما يقوله الفلاسفة ومن سلك سبيلهم لما بينا أنه يدل على أنه خلق قبله خلقاً آخر. وأيضاً فقوله: ((بك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب)) خصه بهذه الأعراض وعندهم هو المبدع لكل ما سواه من العقول والنفوس والأفلاك والنفوس البشرية والعناصر والمولدات فكيف يخصه بأربعة أعراض؟ وأيضاً فقوله: ((لما خلقه قال له أقبل فأقبل)) يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه وعندهم يمتنع أن يكون خلقه في زمان بل يمتنع أن يكون مخلوقاً عندهم كما تقدم)) (1) . ... السادس ((أن قوله ((أول ما خلق الله العقل قال له)) يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه لا أنه أول المخلوقات كما تقول أول ما لقيت زيداً سلمت عليه وتقدير الكلام أول خلق الله قال له فأول مضاف إلى المصدر والمصدر يجعل ظرف زمان كما تقول كان هذا خفوق النجم وخلافة عبد الملك ومنه قوله تعالى: (وإدبار النجوم) مصدر أدبر يدبر إدباراً)) (2) . ... السابع: ((أن هذا يقتضي أنه خلق قبل العقل غيره لقوله: ((ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك)) وعندهم هو أول المبدعات)) (3) .   (1) بغية المرتاد (217-243-251-274) . (2) الصفدية (1/239) . (3) الصفدية (1/239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 .. وقال القاضي أبو يعلى تعليقاً على قولهم ((وهذا فاسد لأن الدليل على أن الجواهر كلها من جنس واحد خلافاً للملحدة في قولهم هي مختلفة لأن معنى المثلين ما سد أحدهما مسد صاحبه وناب منابه والجواهر على هذا لأن كل واحد منها متحرك وساكن وعالم فلو كان العقل جوهراً لكان من جنس العاقل ولاستغنى العاقل بوجود نفسه في كونه عاقلاً عن وجود مثله وما هو من جنسه، وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه فمحال أن يكون عاقلاً بجوهر من جنسه، ولأنه لو كان جوهراً لصح قيامه بذاته ووجوده لا بعاقل، ولصح أن يعقل ويكلف لأن ذلك مما يجوز على الجواهر، وفي امتناع ذلك دليل على أنه ليس بجوهر، فثبت أنه عَرَض)) (1) . ... قلت: وبعد بيان بطلان هذا الحديث وجميع الأحاديث التي في العقل -سنداً ومتناً-، يتضح لنا مدى جهل وافتراء من زعم أن تضعيف المحدثين لمثل هذه الأحاديث كان بسبب موقفهم من المعتزلة والفلاسفة الذي غلوا في العقل! أو كما يقول أحدهم: ((نتيجة للملاحقة السنية العمياء التي حاولت النيل من كل من اشتغل بأمور العقل والكلام)) (2) ! ، أو كما يقول غيره: ((لجمود المحدثين الذي اتصف به كثيرٌ منهم)) (3) ! وأن أحاديث العقل تتفق في جوهرها مع الإسلام (4) . ... ((والذي يظهر أنهم ظنوا أن رد هذه الأحاديث فيه تهوين من شأن العقل، وإجحاف بحقه، وهذا غير وارد، حتى مع رد تلك الأحاديث، فللعقل مقام كبير ومنزلة سامية في الإسلام جاء بها قرآنه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي)) (5) .   (1) العدة (1/87) . (2) العقل وفهم القرآن - تحقيق حسين القوتلي (ص 127) (3) الإسلام والعقل، لصلاح المنجد (ص 41) . (4) العقل وفهم القرآن (ص 125 وما بعدها) . (5) العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام، للشيخ الدكتور عبد الرحمن الزنيدي (ص 54) رسالة ماجستير بجامعة الإمام، والنقولات السابقة منه - حفظه الله -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ظهور المدرسة العقلية عند الغرب : قال الشيخ محمد قطب: ((العقلانية - بمعنى التفسير العقلاني لكل شيء في الوجود، أو تمرير كل شيء في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه- مذهب قديم في البشرية، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة، ويمثله أشد ما يمثله سقراط وأرسطو. ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الإغريقية - التي تمثل العقلانية قسماً بارزاً منها - تسيطر على الفكر الأوروبي، حتى جاءت المسيحية الكنسية فغيرت مجرى ذلك الفكر في انعطافه حادة تكاد تكون مضادة لمجراه الأول الذي استغرق من تاريخ الفكر الأوروبي عدة قرون. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي - كما تقدمه الكنيسة - وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ومحاولة تقديمه في ثوب ((معقول)) !. يقول الدكتور محمد البهي في كتابه ((الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي)) : ((كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائداً في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة. وكان يقصد بالدين ((المسيحية)) وكان يراد من المسيحية (الكثلكة)) وكانت الكثلكة تعبر عن ((البابوية)) والبابوية نظام كنسي ركز ((السلطة العليا)) باسم الله في يد البابا، وقصر حق تفسير ((الكتاب المقدس)) على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وإفهام الكنيسة الكاثوليكية … )) (1) .   (1) ص 279 من الطبعة الثامنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوربية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات التي لم تنشأ – كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة- من إهمال الفلسفة والعلوم الإغريقية والالتجاء إلى الفكر ((الديني)) . فلم يكن ((الفكر الديني)) من حيث المبدأ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطى في أوروبا، إنما كان الخلل كامناً في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي، بعد تحريفها ما حرفت منه، وإضافتها ما أضافت إليه، ومزج ذلك كله بعضه إلى بعض وتقديمه باسم الوحي. والفلسفة الإغريقية التي ظنت أوروبا في عصر النهضة أن ضلالها في العصور الوسطى كان بسبب إهمالها، وأن العلاج هو الرجوع إليها والاستمداد منها، لم تكن هي في ذاتها بريئة من الخلل ولا سليمة من العيوب، ولا كانت في صورتها التي قدمها فلاسفة الإغريق القدامى زاداً صالحاً لحياة إنسانية مستقيمة راشدة، على الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها.. وإنما ظل الفكر الأوروبي في الحقيقة ينتقل من جاهلية إلى جاهلية حتى عصره الحاضر. فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلى جاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطى، إلى جاهلية عصر الإحياء، إلى جاهلية عصر ((التنوير)) إلى جاهلية الفلسفة الوضعية.. إلى الجاهلية المعاصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 كانت العقلانية الإغريقية لوناً من عبادة العقل وتأليهه، وإعطائه حجماً مزيفاً أكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجود كله إلى ((قضايا)) تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته، بحركته الموارة الدائمة، بمقدار ما يختلف ((القانون)) الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها، وبمقدار ما تختلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه.. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله، ويتمشى معه أو يخالفه!. وكان أشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة ((لقضية)) الألوهية و ((قضية)) الكون المادي وما بينهما من علاقة. ويتشعب هذا الانحراف شعباً كثيرة في وقت واحد. فأول انحراف هو محاولة إقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلاً عن أن يحيط بكنهه في قضية الذات الإلهية. والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلى قضايا فلسفية ذهنية بحتة، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل، ويثبت ما يثبت منها وينفى ما ينفى بالعقل، فلا تمس الوجدان البشري، ولا تؤثر في سلوك الإنسان العملي، فتفقد قيمتها … وأما الانحراف الثالث الناشئ من التناول العقلاني لقضية الألوهية، وعدم الرجوع فيها إلى المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم مع ما يقوله الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ولا عجب في ذلك، فما دام ((العقل)) هو الحكم في هذه القضية، فعقل من؟! إن العقل المطلق أو العقل المثالي تجريد لا وجود له في عالم الواقع! إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر. ولكل منهم طريقته الخاصة في ((تعقل)) الأمور، ولكل منهم ((نوازعه)) الخاصة التي يحسبها بعيدة عن التأثير في عقله وهو واهم في حسابه، ولكل منهم اهتماماته الخاصة التي تجعله يركز على أمور ويغفل غيرها من الأمور … ومن ثم لا تصبح تلك الفلسفة في هذه القضية بالذات أداة هداية وإنما أداة تشتيت وأداة تضليل. من هذه الجاهلية انتقل الفكر الأوروبي إلى عصر ((سيادة الدين)) . وكان المفروض أن يخرج ذلك الفكر إذن من الجاهلية إلى النور. ولكنه في الحقيقة دخل إلى ظلمات حالكة ليس فيها حتى ذلك ((البريق)) الذي تميزت به الفلسفة الإغريقية في كثير من المواضع بصرف النظر عن القيمة الحقيقية لذلك البريق، وعن كونه بريقاً هادياً أم مضللاً عن الطريق! . كان المفروض وقد التزم العقل بالوحي، واستمد منه اليقين والهدى- في المسائل التي لا يهتدي فيها وحده ولا يستيقن فيها بمفرده- أن ينطلق الفكر في ميادينه الأصيلة يبدع وينتج، ويمد ((الإنسان)) بما يحتاج إليه في شؤون ((الخلافة)) وعمارة الأرض. ولكن الكنيسة الأوروبية أفسدت ذلك كله بما أدخلته من التحريف على الوحي الرباني المنزل من السماء لهداية البشرية على الأرض، وتخبطت في قضية الألوهية تخطباً من نوع جديد، حين قالت إن الله ثلاثة أقانيم، وإن المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الأقانيم الثلاثة، وإنه ابن الله وفي الوقت ذاته إله، وشريك لله في تدبير شؤون الكون. وفضلاً عن ذلك – أو ربما بسبب ذلك – حُجِرَ على العقل البشري أن يعمل وأن يفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فإن هذه الألغاز التي ابتدعتها المجامع المقدسة في شأن الألوهية لم تكن ((معقولة)) ولا مستساغة. فما يمكن للعقل البشري أن يتصور ثلاثة أشياء هي ثلاثة وهي واحد في ذات الوقت. وما يمكن أن يتصور أن الله سبحانه وتعالى ظل متفرداً بالألوهية وتدبير شأن هذا الكون ما لا يحصى من الزمان، ثم إذا هو –فجأة- يوجد كائناً آخر ليكون شريكاً له في الألوهية ومعيناً له في تدبير الكون!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن أجل كون هذا العبث ((المقدس!)) الذي ابتدعته المجامع ((المقدسة!)) غير معقول ولا مستساغ فقد سخرت الكنيسة ((العقل)) في محاولة إخراج هذا المزيج المتنافر المتناقض في صورة ((فلسفية)) مستساغة (أو هم قالوا عنها إنها مستساغة!) وفي الوقت ذاته حجرت على العقل أن يناقشها، لئلا تجر المناقشة إلى القول بأنها غير معقولة على الرغم من كل الصناعة ((العقلية)) وضعت فيها!. ومن ثم نشأت في الفكر الأوروبي تلك ((المسلمات)) أو العقائد المفروضة فرضاً التي لا يجوز مناقشتها لا لأنها – في حقيقتها – من الأمور التي ينبغي للعقل أن يسلم بها دون مناقشة، ولكن لأنها مناقضة للعقل، ومفروضة عليه فرضاً من قبل رجال الدين، الذين زعموا لأنفسهم حق صياغة العقائد وفرضها على الناس بالقوة دون أن يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين. يجوز فيهم كل شيء حتى إهدار الدم وإزهاق الأرواح – كما مر بنا من شأن محاكم التفتيش التي قال عنها ((ويلز)) في كتابه ((معالم تاريخ الإنسانية (ص 902-903 من الترجمة العربية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ((فأصبح قساوستها وأساقفتها على التدريج رجالاً مكيفين وفق مذاهب واعتقاديات حتمية وإجراءات مكررة وثابتة.. ونظراً لأن كثيراً منهم كانوا على الأرجح يسرون الريبة في سلامة بنيان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة لم يسمحوا بأية مناقشة فيه. كانوا لا يحتملون أسئلة ولا يتسامحون في مخالفة، لا لأنهم على ثقة من عقيدتهم، بل لأنهم كانوا غير واثقين فيها. ((وقد تجلى في الكنيسة عندما وافى القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التي تنخر بناء مدعياتها بأكمله، وقد تجعله أثراً بعد عين. فلم تكن تستشعر أي اطمئنان نفسي، وكانت تتصيد الهراطقة في كل مكان كما تبحث العجائز الخائفات –فيما يقال- عن اللصوص تحت الأسرة وفي الدواليب قبل الهجوع في فراشهن)) . ومن الأدلة التاريخية التي تثبت أن النصارى – على الرغم من تشبثهم الشديد بمقررات المجامع المقدسة بشأن قضية الألوهية – لم يكونوا يؤمنون بها في دخيلة أنفسهم إلى درجة اليقين، ما حدث من وفد نصارى نجران مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم – بأمر ربه – إلى المباهلة: (قل: تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) . فقد امتنعوا عن المباهلة وانصرفوا رغم جدالهم الشديد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حول نبوة عيسى لله وألوهيته مع الله.. ولو كانوا على يقين حاسم ما امتنعوا! وأياً كان الأمر فقد استخدمت الكنيسة كل طغيانها الروحي للحجر على العقل.. وصنعت ذلك باسم ((الدين)) !. والدين الصحيح ليس في حاجة إلى شيء من ذلك الذي صنعته الكنيسة.. حقيقة إن في الدين الصحيح ((مسلمات)) لا تناقش، تعتبر من أصول الإيمان كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 جاء في حديث جبريل عليه السلام: ((قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) . (1) وبعض هذه الأمور ليس للعقل سبيل إليها من ذات نفسه، إنما يتعرف عليها عن طريق الوحي، ويسلم بها تسليماً، كالإيمان بالملائكة واليوم الآخر وما يشتمل عليه من بعث ونشور وحساب وجزاء وجنة ونار.. وكان هذا كله وراداً في ((مسلمات)) الدين الكنسي، ولا اعتراض عليه. ولكن هناك فارقاً أساسياً بين ((مسلمات)) الدين الصحيح والمسلمات الكنسية الأخرى التي كانت تجبر الناس عليها إجباراً وتمنعهم من مناقشتها في أمر صحتها، وتتهمهم بالمروق عن الدين إن خالفوها أو هموا مجرد هم بمناقشتها!.   (1) رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (نووي 1/157) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 فالمدخل إلى هذه المسلمات في الدين الصحيح هو الإيمان بالله والتعرف على صفاته التي لا يشاركه فيها أحد، وفي مقدمتها أنه هو الخالق وأنه على كل شيء قدير، والإيمان بالرسول المرسل - صلى الله عليه وسلم - وصدقه وأمانته (1) ، والإيمان بأن ما يخبر به عن ربه وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وكل هذه يدعى العقل دعوة صريحة إلى التفكير فيها، والتأكد منها قبل الإيمان بها، وخذ مثالاً على ذلك ما جاء في كتاب الله من خطاب للقوم المدعوين للإسلام: (أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون؟) (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات. إيتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه. بل الظالمون في ضلال مبين) (قل إنما أعظكم بواحدة. أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جنة) (لو كان فيهما آلهة إلا لفسدتا..) (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله. إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض. سبحان الله عما يصفون) (أفلا يتدبرون القرآن. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) . فإذا آمن الإنسان – وهو مدعو للتفكر والتدبر وإعمال العقل ليؤمن- بأن الله هو الخالق وهو على كل شيء قدير، وآمن بصدق الرسول المرسل - صلى الله عليه وسلم -، وآمن بأن ما يخبر به الرسول عن ربه وحي لا شبهة فيه، فقد أخبره الوحي بأمور لا سبيل للعقل أن يصل إليها من تلقاء نفسه لأنها ليست مما يقع في محيط رؤيته ولا تجربته، وطلب منه التسليم بها لأنها آتية من المصدر الحق الذي آمن بصدقه وصدق كل ما يجئ من عنده. وهي في الوقت نفسه لا يملك العقل دليلاً حقيقياً ينفيها.. فوجب عليه أن يسلم بها وقد آمن بمقدماتها التي توصله إلى التسليم بها.   (1) وهو بالنسبة للنصارى المسيح عيسى ابن مريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 هذا شأن المسلمات في الدين الصحيح: أمور لا يملك العقل أن يستدل عليها من تلقاء نفسه، ولا يملك في الوقت ذاته دليلاً حقيقياً ينفيها، ثم إنه لا يدعى إلى التسليم بها قبل أن يسلم بالمقدمات التي توصل إليها عن طريق التفكر والتدبر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض. أما المسلمات التي فرضتها الكنيسة فرضاً وأرهبت الناس من مناقشتها فهي غير ذلك تماماً. فحيث يتجه العقل والتدبر والتأمل إلى الإيمان بأن الله واحد أحد، وأنه لو كان في السماوات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا.. تقول له الكنيسة إن الله ثلاثة، ثم تزيد الأمر تعقيداً فتقول له إن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، ثم تمنعه من المناقشة عن طريق الإرهاب.. وحيث يتجه العقل – بوسائل تفكيره- إلى الإيمان بأن الله الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً هو غني عن كل شريك لأنه ((بيده ملكوت كل شيء)) ولأنه يقول للشيء ((كن فيكون)) ومن ثم فهو الجدير بالعبادة وحده.. تقول له الكنيسة إن هناك شريكاً لله هو المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، هو إله مع الله، ومعبود كذلك مع الله، ثم تمنعه من المناقشة وتتهمه بالمروق إن خالف.. وحيث يتجه العقل –بمنطقه الذاتي- إلى الإيمان بأن الله ليس في حاجة إلى اتخاذ الولد- والخلق كلهم خلقه خلقهم بمشيئته وهم عباد له- وليس من شأنه سبحانه أن يتخذ مالا حاجة له إلى اتخاذه، وهو المهيمن الذي يدبر أمر الوجود كله بمفرده، بلا كلفة عليه سبحانه ولا جهد ولا حاجة إلى معين.. تقول له الكنيسة إن لله ولداً خلقه بمشيئته كما يخلق كل شيء بمشيئته ثم تبناه- سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً- ليضعه بعد ذلك على الصليب، ويجرعه آلام الصلب، ليكفر بذلك عن خطيئة لم يرتكبها ذلك الابن إنما ارتكبها آدم وحواء قبل ذلك بزمن لا يحصيه إلا الله! ثم تفرض عليه ذلك فرضاً وتقول له هذه هي العقيدة.. ومن لم يعتقدها فقد حلت عليه لعنة السماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 تلك هي المسلمات التي لا يمكن التسليم بها لأن العقل يملك كل دليل ينفيها، ولأنها لا تستند إلى شيء إلا قرارات المجامع المقدسة التي تبتدعها من عند نفسها وتزعم مجرد زعم أنها من عند الله، بينما الناس يرون رجال الدين في تلك المجامع يتناقشون وتحاورون، ويختلفون فيما بينهم أشد الاختلاف، ثم يصدرون القرار من تفكيرهم الذاتي – ولو كان وحياً سماوياً لالتزموا به عقيدة ولم يجز لهم الاختلاف فيه- ثم يرون أسوأ من هذا أن الأقلية تصدر القرار أو تفرضه فرضاً على الأكثرية ثم تطرد الأكثرية بالقوة كما حدث في مجمع خلقدونية.. ولا تطردهم من المجمع فحسب، بل تزعم كذلك أنها تطردهم من رحمة الله! . ومن أجل أن هذه المسلمات المزعومة لا يمكن للعقل التسليم بها فقد حظرت الكنيسة على العقل أن يفكر فيها أو يناقشها، وزعمت للناس أن التفكير فيها مناف للإيمان، وأن الموقف الصحيح للمؤمن هو التسليم بها بغير جدال، وتفويض الأمر فيها لا –لله! - بل ((لقداسة)) البابا ومن حوله من ((كبار)) رجال الدين!. وفي ظل الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة انكمش نشاط العقل الأوروبي وانحصر في التسليم بما تمليه الكنيسة والمجامع المقدسة، ومحاولة التوفيق بينه وبين مقتضيات التفكير السليم، في مغالطات ((فلسفية)) هي أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق!. ومن ناحية أخرى انصرف الفكر الأوروبي عن النظر في هذا العالم وفي الحياة الدنيا بتأثير آخر من تأثيرات الدين الكنسي المحرف. فقد أوحت المسيحية المحرفة إلى الناس بأن هذه الدنيا لا سبيل إلى إصلاحها أو تقويم معوجها لأنها ناقصة بطبيعتها، وأن الطبيعة الإنسانية ناقصة كذلك، ولا سبيل إلى إصلاحها إلا بصرفها عن الاهتمام بالحياة الدنيا جملة، وصرف اهتمامها إلى اليوم الآخر … … … وأنه بقدر ما ينصرف الإنسان عن هذا العالم والتفكير فيه –بالرهبانية- يكون أقرب إلى الصلاح، وأقرب إلى الفوز بملكوت الرب في العالم الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 هذا اللون من التفكير صرف الفكر الأوروبي عن النظر في شئون العالم الأرضي والكون المادي في أضيق نطاق مستطاع. ففي أمور الحياة رضي الناس عامة – والمتدينون خاصة- بعيش الكفاف (1) ، ولم يتطلعوا إلى زيادة الإنتاج أو تحسينه لأن ذلك يخالف روح الدين. ومن ثم لم يسعوا إلى زيادة في العلم تمكنهم من زيادة الإنتاج أو تحسينه. كذلك لم يهتموا بزيادة معلوماتهم عن الكون المادي من حولهم من فلك أو رياضيات أو كيمياء أو فيزياء.. إلخ، لأن الأمر – في حسهم – لا يستحق الاهتمام من ناحية، ولأن المعلومات التي تقدمها المصادر ((الدينية)) عن هذا الكون فيها كفاية لهم من ناحية أخرى. ولم تكن تلك المعلومات تعدو أن الله خلق الأشياء على صورتها لحكمة هو يعلمها، ولغاية هو يريدها، وأن كل شيء يجري على النحو الذي أراده الله منذ الأزل بلا تغيير، وهذا في ذاته حق ولا شك، ولكنه لا يعطي التفسير التفصيلي لظواهر الكون المادي المحيط بالإنسان! ولا ما يحدث من التحول الدائم في الكون والحياة والإنسان!.. على هذا النحو الضيق المغلق المحصور كان الفكر الأوروبي فيما يسمى – هناك – بالعصور الوسطى المظلمة، التي استمرت زهاء عشرة قرون، خيم فيها على أوروبا ظلام الجهل والانحصار، في ظل الطغيان الكنسي المتعدد الألوان المتشعب الأطراف.   (1) ما عدا الإقطاعيين بطبيعة الحال! ومع ذلك فقد كانت الكنيسة تساندهم – بكل جشعهم وظلمهم- لأنها هي ذاتها كانت قد أصبحت من ذوات الإقطاع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 فلما بدأت أوروبا تفيق في عصر النهضة نتيجة احتكاكها بالمسلمين في الحروب الصليبية من ناحية، والاتصال السلمي بمراكز العلم والثقافة في الأندلس والشمال الأفريقي وصقلية وغيرها، كان العقل الأوروبي في حالة تشوق عنيف لاسترداد حريته في العمل، أي حرية التفكير. ولكن، كما اتسمت فترة العصور الوسطى المظلمة بالتطرف في إلغاء دور العقل والحجر على حرية الفكر، كذلك اتسمت فترة النهضة وما بعدها بالتطرف في الجانب الآخر، جانب إعمال الفكر في كل شيء، سواء كان داخلاً في مجال العقل أو غير داخل فيه، وإعماله ((بحرية)) لا تقبل القيد، سواء كان القيد مشروعاً أو غير مشروع!. كان عصر ((الإحياء)) هو عصر العودة إلى الجاهلية الإغريقية بكل انحرافاتها.. مع زيادة انحراف جديد.. هو النفور من الدين. ومحاولة إبعاده عن كل مجال من مجالات الحياة والحقيقة أن الحياة الأوروبية في تلك الفترة تستلزم نظرة فاحصة تقف على التيارات والعوامل المختلفة التي كانت تمور في كيانها. والتي تمخضت فيما بعد عن الصورة الحالية ((للحضارة)) الغربية. لقد أخذت أوربا في نهضتها شيئاً كثيراً من الإسلام والمسلمين، ورفضت في الوقت ذاته أن تعتمد الإسلام ديناً وعقيدة ومنهج حياة. وكان من جراء ذلك آثار بعيدة المدى في الحياة الأوربية إلى وقتنا الحاضر.. فقد صحت أوربا من غفوتها الطويلة بالاحتكاك الحربي والسلمي بالمسلمين في الشرق والغرب. وتزعم أوربا أنها لم تأخذ عن المسلمين إلا التراث الإغريقي الذي كانت قد أضاعته في عصورها المظلمة، فوجدته محفوظاً عند المسلمين فاستردته، وأقامت نهضتها على أساسه. وفي هذا الزعم شيء قليل من الحق وشيء كثير من المغالطة التي لم ينج منها إلا عدد قليل من كتاب أوربا المنصفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 فأما أن التراث الإغريقي الذي فقدته أوربا في عصورها المظلمة كان محفوظاً عند المسلمين فيما يسمى ((الفلسفة الإسلامية)) وفي التراجم التي كان المسلمون قد ترجموها عن الإغريقية، وأن أوربا استردته عن طريق التعلم في مدارس المسلمين وأقامت جانباً من نهضتها عليه.. فهذا صحيح. ولكن هذا التراث الإغريقي، على كل اعتزاز أوربا به وتعصبها له، لم يكن صالحاً –وحده- لإقامة النهضة الأوربية، ولا أي نهضة على الإطلاق، باعتباره مجموعة من (الأفكار)) التجريدية الذهنية المنقطعة عن واقع الحياة. وهو –بكل لمعانه الفكري- لم يستطع أن يلائم الحياة في بيئته الأصلية التي أنبتته، فضلاً عن أن يكون – وحدة- باعث نهضة جديدة على اتساع أوربا كلها، وعلى اتساع العالم كله في العصر الحديث!. نعم، يوجد في هذه الأفكار قيم ومبادئ يمكن أن تكون زاداً لقوم ((يرغبون)) في الحياة، ويرغبون في إقامة نهضة شاملة. ولكنها –وحدها- لا تبعث فيهم هذه الرغبة ولا تلك. إنما الرغبة في الحياة والرغبة في إقامة نهضة شاملة، كانت هي الأثر الذي أخذته أوربا من احتكاكها بالمسلمين، وملامستها للحياة الموارة في العالم الإسلامي، وللنهضة الشاملة فيه.. وليس هذا فقط.. فإن أوربا لم تغنم من احتكاكها بالمسلمين تلك الرغبة في الحياة والحركة وإقامة النهضة الشاملة فحسب، بل وجدت كذلك ((مقومات)) تلك النهضة بكاملها موجودة عند المسلمين، فأخذت منها كل ما وسعها أخذه، والعنصر الذي رفضت أخذه –وهو الإسلام- كان هو العنصر الوحيد القمين بترشيد تلك النهضة وإقالة أوربا من عثرتها.. ولكنها رفضت –بدافع من العصبية الصليبية – فخسرت العنصر الجوهري، وأقامت نهضة عرجاء.. هي التي يعاني منها اليوم كل سكان الأرض!. نعم، لم تكن رغبة الحياة ورغبة النهوض وحدها هي كل ما أخذته أوربا عن المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 لقد كانت أوربا في جهالة تامة من كل علم إلا ما تملكه الكنيسة ورجال دينها من معلومات سطحية معظمها محشو بالأخطاء. وعند المسلمين وجدوا ((العلم)) .. في كل مجالات العلم.. في الطب والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء إلى جانب العلوم الدينية الإسلامية التي كانت تدرس – جنباً إلى جنب- في الجامعات الإسلامية. وقد قال ((روجر بيكون)) : ((من أراد أن يتعلم، فليتعلم العربية، فإنها هي لغة العلم)) . ونضيف هنا قولة ((ألفارو القرطبي)) قبل ذلك بقرون في الأندلس: ((يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين تجد اليوم علمانياً يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ وا أسفاه! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم. فواحر قلباه! لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية، فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم)) (1) . ولم يكن العلم وحده هو الذي أخذته أوربا عن المسلمين بجانب الرغبة في الحياة والرغبة في النهوض؛ إنما أخذت كذلك المنهج الذي تقيم عليه العلم، وهو المنهج التجريبي.   (1) حضارة الإسلام، جرونيباوم، ص 81-82 من الترجمة العربية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 يقول بريفولت في كتاب ((بناء الإنسانية)) ((فالعالم القديم –كما رأينا- لم يكن للعلم فيه وجود. وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوماً أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجاً كلياً بالثقافة اليونانية. وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات. ولكن أساليب البحث في دأب وأناة، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريباً تماماً عن المزاج اليوناني. أما ما ندعوه ((العلم)) فقد ظهر في أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، من طرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان.. وهذه الروح، وتلك المناهج العلمية، أدخلها العرب إلى العالم الأوربي)) (1) .   (1) عن كتاب ((تجديد الفكر الديني)) تأليف محمد إقبال، ترجمة عباس محمود، ص 250 من الترجمة العربية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 كذلك لم يكن العلم وحده ولا المنهج التجريبي وحده.. يقول.. بريفولت: ((لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية (يقصد الإسلامية) على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج.. إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا، لم تنهض في عنفوانها إلا بعد وقت طويل من اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام. ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد أوربا إلى الحياة. بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية. فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون، في نشأة تلك الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره: أي في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي)) (1) . ويطول بنا الاستطراد لو رحنا نحصي بالتفصيل ما أخذته أوربا في بدء نهضتها من الإسلام والمسلمين، ولكنا نعود إلى موضوعنا الأصيل فنقول إن أوربا أخذت ما أخذت ولكنها رفضت أن تأخذ الإسلام ذاته عقيدة ومنهج حياة، وعادت إلى الجاهلية الإغريقية والرومانية تستمد منهما بدلاً من الدين الكنسي الذي لفظته، والدين الصحيح الذي رفضت بدافع العصبية أن تدخل فيه. ومن ثم عادت – كما قلنا – إلى العقلانية اليونانية بزيادة انحراف جديد هو النفور من الدين والسعي إلى إخراجه من مجالات الفكر والحياة. لقد كانت الجاهلية الإغريقية جاهلية وثنية خالصة في واقع حياتها، ولكن ((المفكرين)) و ((الفلاسفة)) فكروا في الله سبحانه وتعالى، وحاولوا تصوره على قدر ما اجتهدت عقولهم، فاهتدوا إلى وحدانيته وكماله وجلاله، ولكن تشعبت بهم الظنون في متاهات لا قرار لها حين أخذوا يصفون كنة هذا الكمال وهذا الجلال، كما مر بنا من تصور أرسطو.   (1) المصدر السابق، ص 149. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 أما جاهلية عصر الإحياء وعصر النهضة فقد سخرت ((عقلها)) في كيفية الاستغناء عن الله، وإخراج موضوع الألوهية من ميادين الفكر والحياة واحداً إثر الآخر. كان ((التفكير الحر)) معناه الإلحاد! ذلك أن التفكير الديني معناه الخضوع للقيد الذي قيدت الكنيسة به العقل وحجرت عليه أن يفكر. فمعنى الحرية الفكرية هو تحطيم ذلك القيد الذي يغل العقل من التفكير. ولم يكن أمام أوربا بعد أن رفضت الإسلام إلا ذلك السبيل الواحد إلى الحرية الفكرية.. وهو الخروج على الدين! . يقول برنتون في كتاب ((منشأ الفكر الحديث)) (ص 103 من الترجمة العربية – ترجمة عبد الرحمن مراد) : ((فالمذهب العقلي يتجه نحو إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون.. فإن نمو المعرفة العلمية وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلي نحو الكون..)) . ويقول عن قانون السببية الذي كشفه نيوتن: ((إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة (يقصد المعتقدات الدينية) في هذا العالم)) (ص 151 من المرجع السابق) . ويقول: ((الإله في عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة ولكن صانع هذه الساعة الكونية ونعني بها الكون، لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد. ((أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها. وإنه ليبدو أن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية، الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في عمله)) !! . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 ولنا وقفة عند هذه النصوص.. إن الاتجاه الفكري النافر من الدين، المتجه إلى الإلحاد، لم يكن رد فعل لخطأ واحد من أخطاء الكنيسة وهو الحجر على العقل خوفاً من مناقشة ((المسلمات)) المفروضة، إنما كان في الحقيقة رد فعل أو نتيجة لأخطاء متعددة في وقت واحد.. فالجهالة العلمية التي عانتها أوربا عدة قرون في ظل السيطرة الكنسية جعلت للعلم –حين بدأت أوربا تتعلم- فتنة ليست من طبيعته في الأحوال العادية وفي النفوس السوية، فضلاً عن أن حرب الكنيسة للعلم والعلماء في عهد النهضة – باسم الدين – جعلت طريق البحث العلمي هو طريق معاداة الدين. إن الدين والعلم ليسا ندين متنافرين متعاديين كل منهما يسعى للسيطرة على حساب الآخر ورغماً عنه! فنزعة العبادة ونزعة المعرفة كلتاهما نزعة فطرية، والفطرة – في النفس السوية- لا يتنافر بعضها مع بعض، إنما تتعارض جوانبها المختلفة لبناء الشخصية السوية المتوازنة. وقد تختل الشخصية لزيادة أو نقص في أحد الجوانب بالقياس إلى حده المفروض، وبالقياس إلى الجوانب الأخرى في النفس، ولكنها لا تختل قط من اجتماع جوانب الفطرة كلها في النفس، فهذا هو الأمر الطبيعي الذي لا تستقيم النفس بدونه، بل العكس هو الصحيح. تختل النفس خللاً مؤكداً حين يزاح جانب من جوانب الفطرة أو يضمر ليحل محله جانب آخر. وفي العالم الإسلامي الذي استقت أوربا العلم منه، كان هذا هو الأمر الواقع: كان الدين والعلم يعيشان معاً متساندين متعاونين بلا تنازع ولا تنافر ولا خصام. بل كان العلم في حقيقة الأمر نابعاً من العقيدة منبثقاً عنها، يعمل في خدمتها، ومع ذلك كان له ذلك المجال الواسع كله الذي يعمل فيه، والحرية التي يمارسها في البحث وتحصيل النتائج وتدوينها، والثمار العملية المفيدة التي تقوم عليها نهضة علمية زاهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 ولم يكن للعلم في نفوس المسلمين فتنة! لا هو فتنهم عن الدين، ولا صار في حسهم إلهاً مكان الله! لأنهم كانوا يتناولونه كما تتناوله الفطرة السوية، التي تأخذ حظها من العبادة كما تأخذ حظها من المعرفة العلمية، وتطلب هذه وتلك بلا تنافر بينهما ولا صدام!. وقد كان العالم الواحد – في كثير من الأحيان – عالماً في الطب أو الفلك أو الرياضيات.. الخ، وعالماً بالعلوم الدينية في نفس الوقت، متبحراً في هذه وتلك، متوازناً في ذات الوقت، لا يصرفه الدين عن العلم ولا يصرفه العلم عن الدين. وكان الحسن بن الهيثم – على سبيل المثال – الذي ظلت أوربا تدرس نظرياته في علم الضوء (البصريات) إلى بداية القرن التاسع عشر لتفوقها وتقدمها الباهر، والذي أثبت ملاحظة كانت بالقياس إلى وقته من أعجب العجب، وهي انحناء الشعاع الضوئي عند ملامسته جسماً منحنياً وعدم سيره في خط مستقيم (1) - كان على كل عبقريته العلمية تلك يقدم إنتاجه العلمي باسم الله، ويحمده ويثني عليه ويشكره على فيض نعمه عليه!. كلا! لم يكن العلم عند المسلمين مثاراً للفتنة، لأنهم صاحبوه عدة قرون على رزانة وروية فلم يفاجئوا به كما فوجئت أوربا في عصر النهضة، ولأنه نبع في حياتهم من نبع الدين فلم يثر بينه وبين الدين ذلك الخصام الذي ثار بين الدين والعلم في أوربا، ولأن المعرفة كلها في حس المسلم نفحة ربانية يفتح بها على عباده، فيكون جزاؤها في حسه مزيداً من التقرب إلى الله، لا بعداً عنه وازورارا عن عبادته. كذلك كان اكتشاف قانون السببية بالذات باعثاً من بواعث الإلحاد.   (1) وفسر بذلك أننا نرى الشمس قبل ظهورها الحقيقي بدقائق، ونظل نراها بعد غروبها بدقائق! وفي القرن العشرين اكتشف أنشتين أن الضوء في الكون الواسع لا يتخذ مساراً مستقيماً بل ينحني حول الأجرام السماوية بفعل الجاذبية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 والمسؤول في ذلك أيضاً هو الكنيسة! لقد ظلت الكنيسة تصرف الناس عن العلم عدة قرون، وتوحي إليهم بالاكتفاء بما عندها هي من العلم، الذي لم يكن يتجاوز –كما قلنا – أن الله خلق الأشياء على صورتها لحكمة يعلمها ولغاية يريدها.. أي إرجاع الأمور كلها والظواهر كلها إلى إرادة الله ومشيئته. ومن شأن الدين أن يركز دائماً على هذا المعنى. انظر إلى بعض ما جاء في القرآن الكريم في هذا الشأن: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) (وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر. والنجوم مسخرات بأمره. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه. إن في ذلك لآية لقوم يذكرون. وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها. وترى الفلك مواخر فيه. ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم. وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم هم يهتدون. أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. إن الله لغفور رحيم) . وحكمة ذلك واضحة.. ((فالدين)) يذكر الإنسان دائماً بالله لكي يظل قلبه معلقاً بالله في جميع حالاته، فيحبه ويخشاه، ويتطلع إليه في كل أمر من أموره. وبهذا وحده تصلح نفس الإنسان وتستقيم.. ولأن الإنسان عرضة دائماً أن ينسى فإن الدين الصحيح يلح في تذكيره حتى لا تدركه الغفلة التي ينشأ عنها كل شر في حياة البشر على الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 ولكن هذا التركيز الشديد في الدين الصحيح على رد الأمور كلها إلى مشيئة الله، لم يمنع المسلمين من البحث عن ((الأسباب الظاهرة)) في الكون المادي وفي الحياة البشرية، بلا تعارض في حسهم بين هذا وذاك. وذلك أن الدين الصحيح –وقد رد كل شيء بحق إلى مشيئة الله وقدره (1) -نبه البشر إلى أن هناك سنناً كونية تعمل إرادة الله من خلالها في الكون المادي، كما أن هناك سنناً أخرى تعمل تلك الإرادة من خلالها في الحياة البشرية، ودعاهم إلى التعرف على هذه وتلك، الأولى ليقوموا بتعمير الأرض – وهو جزء من مهمة ((الخلافة)) التي خلق الإنسان من أجلها – والأخرى لتكون هذه الخلافة راشدة حين يتم تعمير الأرض بمقتضى المنهج الرباني.   (1) يقول تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) سورة القمر: 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 لقد ظل القرآن يلفت نظر الناس إلى آيات الله في الكون وانتظامها ورتابتها ودقتها وانضباطها: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً. ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً. ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً) (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون. وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم. أفلا يشكرون. سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها. ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) (وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وفهم المسلمون من هذه التوجيهات المتكررة أن الله يدعوهم إلى التأمل في هذا الكون من حولهم، ليتعرفوا على قدرة الله القادرة التي لا يعجزها شيء، وليتعرفوا كذلك على السنن الربانية التي أودعها في هذا الكون، والطاقات التي سخرها لهم فيه ليقوموا بعمارة الأرض، ويبتغوا من فضل الله: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً) (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر هل ترى من فطور) ومن ثم انطلقوا ((يدرسون)) هذا الكون ويتعرفون على أسراه.. فتقدم العلم على أيديهم تقدماً ضخماً، في الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب وغيرها من العلوم النظرية والتجريبية.. واكتشفوا – من بين ما اكتشفوا – أن هناك سبباً لكل شيء يحدث في الكون المادي، من نور وظلام، وكسوف وخسوف، ورياح ومطر، وجدب وخصب وزيادة ونقص.. الخ.. الخ. ولكن اكتشاف ((السبب الظاهر)) لم يكن فتنة لهم كما كان بالنسبة لنيوتن ومن بعده من ((العلماء)) ! . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 فلم يجعلوه بديلاً من السبب الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، ولم يستغنوا به عن الله، ولم يتصوروا أن له حتمية تقيد مشيئة الله الطليقة بحيث يعجز سبحانه عن التصرف في الكون بما يشاء، كما توهم نيوتن ومن بعده. إنما عرفوا أن هذا ((السبب الظاهر)) هو ((السنة الجارية)) التي تجري شئون الكون المادي من خلالها، ومن ثم فهي ليست بديلاً من الله سبحانه وتعالى، وهي جزء من مشيئته، ولا تعارض بين تفسير أي أمر من أمور هذا الكون بسببه الظاهر وتفسيره بأنه راجع إلى مشيئة الله، ما دام السبب الظاهر أو ((السنة الجارية)) من مشيئة الله، ومن ثم فلا تعارض بين ما سموه ((الطبيعة)) وما سموه ((ما وراء الطبيعة)) بحيث يمتنع عليك الإيمان بهذه وتلك في آن واحد كما توهمت عقلانية ما بعد النهضة في أوربا، نتيجة أن ما وراء الطبيعة في ظل السيطرة الكنسية والحجر على العقل كان ينفي الأسباب الظاهرة أو لا يعول عليها في تفسير أمر من أمور الكون، وأن اكتشاف ((السبب الظاهر)) جاء في جو من العداء للدين والكنيسة، فوضع – من ثم – مناهضاً ومعادياً لما وراء الطبيعة، بالإضافة إلى أن القوم هناك ظلوا – في ظل الإيمان بما وراء الطبيعة على الطريقة الكنسية – في جهل مطبق بكثير مما يحيط بهم في هذا الكون، بينما جاء اكتشاف السبب الظاهر في وسط معلومات عن هذا الكون، وكما لم تكن معرفة المسلمين المبكرة بالأسباب الظاهرة وثبوت السنة الجارية مانعاً لهم من الإيمان بالمعجزات التي جاءت في الكتب المنزلة، كذلك لم يكن إيمانهم بالمعجزات داعياً إلى الخرافة، ولا الاعتقاد بأن الكون فوضى لا يضبطه ضابط ولا يربطه نظام. و ((العلم)) الذي أخرجوه هو البرهان على ذلك. فقد كان هذا العلم من الدقة والانضباط –بحسب المتاح في وقته من الأدوات- لدرجة شهد لها كل منصف في التاريخ. ولكه شاهد بأن المسلمين كانوا يتعاملون مع هذا الكون على أساس أن هناك نظاماً دقيقاً يربطه. نظاماً من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 ((الأسباب)) و ((النتائج)) معجز بدقته، رائع بانضباطه: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر هل ترى من فطور) ؟ . إنما كانوا على ((التوازن)) الذي علمهم إياه الإسلام.. أما ((عقلانية)) النهضة وما بعدها فقد خرجت على الناس بأمور، غير معقولة ((على الإطلاق.. من نفي لوجود الله تارة، ومن إثبات له تارة أخرى مع نفي قدرته على التصرف، ومن جعل السبب الظاهر بديلاً من السبب الحقيقي، ومن جعل ثبوت الأسباب الظاهرة حتميات (1) تفرض نفسها على مشيئة الله!. ودار الزمن دورة أخرى فانتقلت أوربا – فيما يقال – من سيادة العقل إلى سيادة الطبيعة، حين كشف العلم مزيداً من أسرار الكون واقتنع ((المفكرون)) أن الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه هو ((الطبيعة)) لأنها هي التي تنقش في العقل ما يتولد فيه من أفكار. فليس مصدر المعرفة إذاً هو الوحي الرباني –وقد نبذوه وراءهم ظهرياً سواء منه ما كان حقيقياً بلا تحريف، وما اخترعته الكنيسة من عندها، وقالت إنه من وحي الله – ولا هو العقل، الذي لا ينشئ – ولا ينبغي له أن ينشئ – شيئاً من عنده، إنما هو الطبيعة: هو عالم الحس.. هو الحقيقة الموضوعية.. يقول الدكتور محمد البهي في تلخيصه الجيد الذي نقلناه من قبل عن الفلسفة الوضعية وتقديرها للطبيعة: ((ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو أن الطبيعة – في نظرها – هي التي تنقش الحقيقة في ذهن الإنسان وهي التي توحي بها وترسم معالمها الواضحة. هي التي تكون عقل الإنسان، والإنسان –لهذا- لا يملى عليه من خارج الطبيعة، أي لا يملى عليه مما وراءها، كما يملى عليه من ذاته الخاصة، إذ ما يأتي من ما وراء الطبيعة خداع للحقيقة وليست (هي) حقيقة أيضاً! .   (1) ثاب العلم أخيراً إلى أنه لا توجد ((حتميات)) فيما سموه ((قوانين الطبيعة)) إنما هي ((احتمالات)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وبناء على ذلك يكون ((الدين)) – وهو وحي (أي ما بعد الطبيعة) - خداعاً! وهو وحي ذلك الموجود الذي لا يحده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة. هو وحي الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية.. وكذلك (المثالية العقلية)) وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي. إذ هي تصورات الإنسان من (عند) نفسه، من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة التي يعيش فيها وتدور حوله. إن عقل الإنسان في منطق هذه الفلسفة – أي ما فيه من معرفة- وليد الطبيعة التي تتمثل في الوراثة والبيئة والحياة الاقتصادية والاجتماعية. إنه مخلوق، ولكن خالقه الوجود الحسي)) (1) . ولقد يفهم من هذا لأول وهلة أن العقلانية التي تتبعنا أطوارها في عصر النهضة وما بعدها قد انتهت وحل محلها طور جديد لا يمت لها بصلة.. ولكن هذا غير الواقع. لقد تغير الإله المعبود عندهم بالفعل فلم يعد هو العقل، وإنما صار هو الطبيعة التي قال عنها دارون ((الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق)) . ولكن الإله الجديد لم يقتل الإله الأول، ولم يخرجه من الساحة ليحل محله. إنما قيده فقط بقيوده وأخضعه لشروطه، وإنما كان قد شد على يديه في حرارة مؤيداً ومؤازراً في نقطة واحدة معينة هي نفي الإله الحقيقي – سبحانه وتعالى – وإخراجه نهائياً من الساحة (نستغفر الله) ، وإن اختلفت زوايا الرصد واختلف ((المنطق)) المستخدم فالإله الأول –العقل- ينبذه بحجة أنه ((غير معقول)) !! والإله الثاني –الطبيعة- ينبذه لأنه لا يدرك بالحس ولا يخضع للتجربة في المعمل!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً..   (1) 298-299 من كتاب ((الفكر الإسلامي الحديث)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 إن المنهج التجريبي الذي تعلمته أوربا من المسلمين لم يؤت ثماره الظاهرة في ميدان العلم إلا في القرن التاسع عشر على وجه التقريب، ولكنه تحول عندهم إلى فتنة طاغية.. لأن أوربا أخذته دون أن تأخذ القاعدة الإيمانية التي كان يقوم عليها عند المسلمين، وهي قاعدته الأصلية. فكأنه نبات انتزع من بيئته انتزاعاً وغرس في بيئة أخرى لا تناسب الأولى، ولا تشبهها في مكوناتها ومقوماتها، فطال وارتفع، ولكنه أثمر ثماراً شيطانية غير الثمار الطيبة التي كان يؤتيها من قبل. ولم يشعر المسلمون أن تفكرهم في آيات الله في الكون من أجل إخلاص العبادة له، مانع لهم من البحث عن السنن الكونية الربانية من أجل عمارة الأرض، ولم يشعروا كذلك أن البحث عن هذه السنن من أجل عمارة الأرض مانع لهم من إخلاص العبادة لله. لأنه لا تعارض في الحقيقة. والله يقول لهم: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) . ولا نستطيع أن نختم الحديث عن عقلانية الجاهلية، والعقلانية المعاصرة بصفة خاصة، قبل أن نشير إلى قولة عجيبة وردت في كتاب من كتب سارتر، الكاتب الوجودي المعروف، ذات صلة بالموضوع ودلالة لا تحتاج إلى تعليق! وسارتر يهودي وإن كان كثير من الناس لا يعلمون ذلك! يقول في كتاب (تأملات في المشكلة اليهودية: إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبرى، هي عبادة الذهب، وتعرية الجسم البشري، ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني، ويقول إن التهم كلها صحيحة! ثم يروح يقدم لكل منها ما يقدر عليه من المعاذير. قال عن عبادة الذهب إن اليهود مضطهدون في كل الأرض وكل التاريخ، وإنهم لابد أن يسعوا إلى امتلاك القوة ليقاوموا هذا الاضطهاد. والوسيلة التي لجئوا إليها هي السعي إلى امتلاك الذهب وتجميعه ليكون لهم عدة وقوة! . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وقال عن تعرية الجسم البشري إن اليهود متهمون بقبح أجسامهم وعدم استقامتها؟ فأرادوا أن يثبتوا للبشرية أن القبح كامن في الجسم البشري ذاته لا في أجسام اليهود وحدهم! فعملوا على تعرية الجسم البشري ليستيقن البشر من هذه الحقيقة! (أرأيت إلى مدى السخف والتهافت..؟!) . أما نشر العقلانية المضادة للإلهام الديني (كما ورد في الترجمة الإنجليزية) فقد كشف فيه الغطاء دون مواربة! قال: إنه طالما كان البشر يؤمنون بالدين، فسيظل يقع على اليهود تمييز مجحف على اعتبار أنهم يهود، أما إذا زال الدين من الأرض، وتعامل البشر بعقولهم، فعقل اليهودي كعقل غير اليهودي، ويومئذ لن يتميز اليهود بكونهم يهوداً، ولن يقع عليهم التمييز المجحف، وسيعيشون في سلام مع غير اليهود)) (أي بعد أن يغطوا حقيقتهم ويندسوا في وسط البشرية مبهمين بين الجموع!!) . ومهما يكن في هذا الكلام من المغالطات المكشوفة التي قصد بها التغطية على الأهداف الحقيقية لليهود من وراء هذه الأفعال (وهي نشر الفساد في صفوف الأميين لإفساد عقائدهم وأخلاقهم بالإضافة إلى سلب أموالهم، لتيسير استعبادهم للشعب الشرير) . فإن ثبوت التهمة بشهادة شاهد من أهلها أمر غني عن التعليق (1) .) (2) انتهى كلام الأستاذ محمد قطب حفظه الله، وهو كلام - بطوله - نفيس بيّن لنا فيه مراحل تطور العقلانية عند الغربيين إلى أن وصل بهم الحال إلى إقامته -أي العقل- مقام الإله فهو المرجع وإليه المآب.   (1) مما يلفت النظر في هذا الكتاب أيضاً قول سارتر إن تقسيم فلسطين إلى دولة عربية يهودية لن يحل المشكلة اليهودية. إنما الحل هو نشر الشيوعية العالمية. وهو أيضاً قول لا يحتاج إلى تعليق. (2) مذاهب معاصرة (500-531) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 العقل عند المعتزلة : أما عند أصحابنا من علماء الكلام (وأعني بهم المعتزلة خاصة) فكيف تطورت أحوالهم حتى ضاهوا الشرع بعقولهم وجعلوه حاكماً على النصوص لا محكوماً لها؟ فأقول: ((لما ظلمت الأرض وبعد عهد أهلها بنور الوحي وتفرقوا في الباطل فرقاً وأحزاباً لا يجمعهم جامع ولا يحصيهم إلا الذي خلقهم فإنهم فقدوا نور النبوة ورجعوا إلى مجرد العقول فكانوا كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه أنه قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) (1) . فكان أهل العقول كلهم في مقته إلا بقايا متمسكين بالوحي فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان أو الصلبان أو النيران أو الكواكب والشمس والقمر أو الحيرة والشك أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به فاستفادوا بها مقت الرب سبحانه لهم وإعراضه عنهم فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلم سراجاً منيراً وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكوراً فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا بآرائهم يرونه فكانوا كما قال الله تعالى: (الله ولي الذي آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) وقال: (آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) وقال: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلنه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا) وقال: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) فمضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ولم تلتبس به ظلم الآراء وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم وأن لا يخرجوا عن طريقتهم)) (2)   (1) رواه مسلم (1598) وهذا الحديث دليل على دم العرب ما لم يكن معهم إسلام. (2) الصواعق المرسلة لابن القيم (3/1068) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 فكان من شأن الصحابة أنهم لم يقدموا عقولهم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بل كان دليل أحدهم إذا استدل إنما هو آية من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه لما سمع بمقالة ابن عباس رضي الله عنهما الأولى في الربا – قبل أن يرجع عنها – وهي حديث (إنما الربا في النسيئة) قال أبو سعيد له ((أرأيت هذا الذي تقول شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو وجدته في كتاب الله عز وجل؟)) . فهاتان هما الحجتان الملزمتان للناس عند الصحابة: كتاب من الله أو سنة من رسوله - صلى الله عليه وسلم - مصداقاً لقوله تعالى: (يا أيها الذي آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وكان أحدهم رضي الله عنهم يغضب إذا عورض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول غيره من البشر ولو كان من حكماء اليونان! فقد جاء في صحيح مسلم أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر لأصحابه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) فقال أحدهم وهو بشير بن كعب ((أنه مكتوب في الحكمة أن منه وقاراً ومنه سكينة)) فقال عمران ((أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثني عن صحفك)) ! وفي رواية: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال ((ألا أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه)) قال فأعاد عمران الحديث. قال فأعاد بشير. فغضب عمران قال فمازلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به)) (1) قال النووي ((وقولهم إنه منا لا بأس به معناه ليس هو ممن يتهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة)) .   (1) مسلم بشرح النووي (2/7) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 إذن فالصحابة لم يعارضوا ولم يرضوا بمعارضة حديث رسول - صلى الله عليه وسلم - بغيره من المعقولات، وإذا أشكل عليهم شيء من ذلك كانوا ((يوردون إشكالاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجيبهم عنها وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض، ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولاً يعارض النص البتة، ولا عرف فيهم أحد –وهم أكمل الأمم عقولاً – عارض نصاً بعقله يوماً من الدهر، وإنما حكى الله سبحانه ذلك عن الكفار، كما تقدم، وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من نوقش الحساب عذب)) ، فقالت عائشة: يا رسول الله، أليس الله يقول: (فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً) . فقال: ((بلى ولكن ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب)) (1) ، فأشكل عليها الجمع بين النصين حتى بين لها صلوات الله وسلامه عليه أنه لا تعارض بينهما وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لابد أن يبين الله فيه لكل عامل عمله، كما قال تعالى: (يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية) . حتى إذا ظن أنه لن ينجو نجاه الله تعالى بعفوه ومغفرته ورحمته فإذا ناقشه الحساب عذبه ولابد.   (1) رواه البخاري (فتح الباري 1/196،197) ، ومسلم (4/2204) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 ولما قال: - صلى الله عليه وسلم - ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)) قالت له حفصة: أليس الله يقول: (وإن منكم إلا واردها) قال: ((ألم تسمعي قوله تعالى (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً)) ) فأشكل عليها الجمع بين النصين وظنت الورود دخولها كما يقال ورد المدينة إذا دخلها فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ورود المتقين غير ورود الظالمين فإن المتقين يردونها وروداً ينجون به من عذابها والظالمين يردونها وروداً يصيرون جثياً فيها به. فليس الورود كالورود)) (1) إلى غير ذلك من مراجعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج، والقدرية والمرجئة، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأئمة، ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية، بل كانوا للنصوص معظمين، وبها مستدلين، ولها على العقول والآراء مقدمين، ولم يَدَّع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها، والاستبداد بما ظهر لهم منها، دون من قبلهم، ورأوا أنهم إن اقتفوا أثرهم كانوا مقلدين لهم فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر، ورموهم بالعظائم، وتبرءوا منهم، وحذروا من سبيلهم أشد التحذير، ولا يرون السلام عليهم ولا مجالستهم، وكلامهم فيهم معروف في كتب السنة، وهو أكثر من أن يذكر هاهنا، فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي، ومع هذا كانوا قليلين أولاً مقموعين مذمومين عند الأئمة، وأولهم شيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفق عند الناس بعض الشيء لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه ولهذا كان مروان يسمى مروان الجعدي وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة وشتتهم في البلاد ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة، فلما اشتهر أمره في المسلمين، طلبه خالد بن عبد الله القسري، وكان أميراً على العراق، حتى ظفر به،   (1) الصواعق (3/1052) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فخطب الناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، … … ثم طفئت تلك البدعة فكانت كأنها حصاة رمي بها، والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليماً وتجلى للجبل فجعله دكاً هشيماً إلى أن جاء أول المائة الثالثة، وولي على الناس عبد الله المأمون، وكان يحب أنواع العلوم، وكان مجلسه عامراً بأنواع المتكلمين في العلوم، فغلب عليه حب المعقولات، فأمر بتعريب كتب يونان، وأقدم لها المترجمين من البلاد، فعربت له، واشتغل بها الناس، والملك سوق ما سوق فيه جلب إليه، فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية ممن كان أبوه الرشيد قد أقصاهم وتتبعهم بالحبس والقتل فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه فقبلها، واستحسنها، ودعا الناس إليها، وعاقبهم عليها)) (1) . ومنذ ذلك الحين تميزت فرقة أهل الاعتزال بمغالاتها في العقل ومقاييسه وتقديمه على ما يظن مخالفاً له من النصوص الشرعية وعرفت بذلك بين فرق الإسلام المختلفة. والذي دعاهم إلى هذا الالتفاف حول العقل في ظني أمور كثيرة –والعلم عند الله تعالى- منها:   (1) الصواعق (3/1069) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 أولاً: أخذهم من تراث الأولين من فلاسفة اليونان ممّن لم ينعموا بمصاحبة وحي إلهي يقود مسيرتهم فصاروا يقضون في شؤونهم كلها بهذا العقل الذي زادوا من سلطانه وانفراده فكانت مصنفات أولئك الفلاسفة تضم المقاييس العقلية في شكل منطق يتحاكم إليه في القضايا العقلية. فتابعهم في ذلك المتكلمون والمعتزلة من أهل الإسلام وأعجبوا بصنيعهم ذلك. وكل هذا بفضل جهود الترجمة التي قام بها بعض الخلفاء فأوقعوا الأمة في هذه المصائب المتتالية من حيث ظنوا أنهم يحسنون صنعاً بها. ويشهد لذلك: أن المعتزلة لم يعلُ صيتهم وتظهر عقلانيتهم واضحة إلا في عهد الخليفة المأمون الذي مهّد السبيل للاقتباس من كتب اليونان وأعانهم عليها (1) . حتى أحدثت الفلسفة – كما يقول زهدي حسين – ((في حياتهم انقلاباً خطيراً وفي تفكيرهم ثورة عنيفة لأنهم بعد أن وقفوا على مواضيعها وتعمقوا فيها أحبوها لذاتها وتعلقوا بها فنتج عن ذلك أمران: أنهم صاروا يعظمون الفلاسفة اليونان وينظرون إليهم نظرة أسمى وأقدس من نظرتنا إليهم اليوم ويضعونهم في مرتبة تقرب من عتبة النبوة. ثم آمنوا بأقوالهم واعتبروها كما يقول أوليري مكملة لتعاليم دينهم. وانهمكوا لذلك في إظهار الاتفاق الجوهري بينها فبدأ عمل المعتزلة الآخر المهم ألا وهو التوفيق بين الدين الإسلامي وبين الفلسفة اليونانية.. ذلك العمل الذي تركوه لمن خلفهم من الفلاسفة المسلمين كابن رشد والفارابي والكندي الذين قاموا بنصيبهم فيه وكانوا لا يقلون عنهم عناية به وتحمساً له.   (1) نقل السيوطي عن شيخ الإسلام أنه ((كان يقول: ما أظن الله يغفل عن المأمون ولابد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخاله هذه العلوم الفلسفية بين أهلها أو كما قال)) (صون المنطق 9) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أن المعتزلة أخذوا يبتعدون عن أهدافهم الدينية ويهملون تدريجياً عقائدهم اللاهوتية ويزدادون انصرافاً إلى المسائل الفلسفية حتى جاء وقت كادت جهودهم فيه تقتصر على البحث في مواضيع الفلسفة البحتة كالحركة والسكون والجوهر والعرض والموجود والمعدوم والجزء الذي لا يتجزأ … إن اشتغال المعتزلة بالتوفيق بين الدين والفلسفة وشغفهم بالأبحاث الفلسفية وتعمقهم فيها جعلهم يتأثرون بالفلسفة كثيراً ويصبغون بها معظم أقوالهم. ولهذا قال شتينز: إن الاعتزال في تطوراته الأخيرة كان أكثره متأثراً بالفلسفة اليونانية)) (1) . فإن قيل بأنهم قد سبقوا هذه الترجمة. فنقول إن ترجمة تراث الأقدمين ليست مقصورة على الخليفة المأمون ولكنه هو الذي تولى كِبْرها. فقد بدأت الترجمة كما يُذكر في عهد الخليفة المنصور الذي أوعز إلى ابن المقفع بترجمة بعض كتب المنطق ككتاب (المقولات) ((وبعد مضي عصر المنصور أتى عصر المهدي وانتهى ومر عصر الهادي بعد عصر المهدي دون أن تُؤثر عنهما أو عن واحد من الأشخاص البارزة في وقتهما شيء يتعلق بالترجمة في عمومها فضلاً عن ترجمة الفلسفة بمعناها الخاص)) (2) . أما الرشيد فقد أمر بإعادة ترجمة الكتب التي سبقت ترجمتها في العهود التي قبله أكثر من تشجيعه على ترجمة كتب جديدة. ثم جاء عصر المأمون وهو العصر الذهبي للترجمة كما يقال.   (1) المعتزلة (49) . (2) الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي – محمد البهي (169) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 قال ابن صاعد في طبقات الأمم ((لما أفضت الخلافة إلى المأمون تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم من مواطنه واستخراجه من معادنه بفضل همته الشريفة! وقوة نفسه الفاضلة! فداخل ملوك الروم وأتحفهم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وبقراط … وغيرهم من الفلاسفة فاختار لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما يمكن ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها)) (1) . قلت: والذي دعاه إلى هذه الهمة في الترجمة تشربه بمبدأ الاعتزال القائم على العقل ومقاييسه واستصغاره لنصوص الوحي – لا سيما الحديث – أن تفي بحاجات الأمة. إضافة إلى جلساء السوء من رموز الاعتزال وما يُذكر عنه من حبه للاطلاع والاستزادة من ثقافات الآخرين. وأما اقتباس المعتزلة من تراث الديانة اليهودية والمسيحية فليس هذا مكانه لأن الحديث عن العقل والعقلانية التي تميزت بها الثقافة اليونانية دون غيرها فلهذا قصرت القول على كيفية استفادتهم منها. ثانياً: ومما جعلهم ينحون هذا الاتجاه العقلاني هو ضعفهم في مجال الرواية وجهلهم لعلم الحديث النبوي واقتصارهم على آيات القرآن وبعض الأحاديث التي رأوا أنها تؤيد أقوالهم. فهذا الضعف في علم الحديث قد ألجأهم إلى المعقولات ليعوضوا بها ما عندهم من نقص ويسدوا به ثغرات مذهبهم. وهذا مصداق ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ((إن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم فلم يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا علم لنا فعارضوا السنة برأيهم إياك وإياهم)) (2) .   (1) الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي – محمد البهي (169) . (2) الحجة (1/205) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ومما صد كثيراً منهم عن طلب الحديث والسعي وراء حلقاته ما رأوه من كثرة الوضع وانتشار الأحاديث الضعيفة بين رواة الحديث واختلاطها بالصحيح منه وكان من تلك الأحاديث ما يعارض المعقول فظنوا لجهلهم أن لا ضابط يفرق بين الصحيح والسقيم منها. وإن زعم ذلك أهل الحديث. فرأوا أن الرأي الصائب أن يدعوا صحيحها وسقيمها وأن يقتصروا على ما يوافق بدعهم وآراءهم منها. ولا يخفى على دارس أن الأحاديث قد دُسَّ في جملتها –لأغراض شتى- الموضوعات والمكذوبات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى راجت على بعض العلماء فاحتجوا بها لا في الفقه وحده بل في أمور العقيدة. خاصة مسائل الصفات ولذا أنكر بعض المحققين كابن قدامة تلك الأحاديث الضعيفة والموضوعة وروايتها ضمن عقائد السلف. قال ابن قدامة (ينبغي أن يُعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها. وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلةٍ فيها فلا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها بل وجودها كعدمها. وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح واطراح ما سواه ومن كان عامياً ففرضه تقليد العلماء وسؤالهم لقول الله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وإن أشكل عليه علم ذلك ولم يجد من يسأله فليقف وليقل: آمنت بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يثبت بها شيئاً، فإن كان هذا مما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد آمن به وإن لم يكن منه فما آمن به)) (1) .   (1) ذم التأويل (47) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية منكراً على أبي يعلى روايته لبعض تلك الأحاديث الضعيفة في الصفات ((والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتاً عن الرسول لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج)) (1) . لكن لا يعني رواج تلك الأحاديث على قلة من العلماء –غير المحدّثين- اجتهدوا في إدخالها ضمن عقائد السلف أن ندع الحديث جملة ونفر منه إلى غيره. فهل هذا إلا تولية للأدبار عن الدين كله؟ بل كان الأولى بهؤلاء أن يجتهدوا في معرفة الأحاديث الصحيحة التي لا تعارض المعقول أبداً ويميزوا بينها وبين ضعيف الحديث كما فعل جهابذة الحديث ونقاده الذي اصطفاهم الله لذلك. واعلم أن هذا الاختلاط في الأحاديث كان لِحكَم لا يحصيها إلا الله سبحانه: منها أن يظل كلامه تعالى متميزاً عن غيره من كلام البشر ولو كان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنها أن تكون فتنة للجهلة وأصحاب القلوب المريضة وامتحاناً يميز الله فيه الخبيث من الطيب، ومنها أن تظهر براعة علماء الحديث. ومنها أن يأجرهم الله تعالى على صبرهم واجتهادهم في تمييز الأحاديث، ومنها أن يتنافس العلماء في الصالحات، ومنها أن تكثر العلوم الإسلامية وتتنوع وينتشر لأجل ذلك طلب العلم والسعي فيه، ومنها أن يظهر فضل هذه الأمة في حفظ دين نبيها وأقواله والحرص على جمعها وتهذيبها بخلاف غيرها من الأمم ممن حرف وبدل، ومنها أن يغتاظ الشيطان وحزبه إذا رأوا هذا الجد من الأمة في حفظ سنة نبيها - صلى الله عليه وسلم -، وحكم أخرى غيرها.   (1) درء التعارض (5/239) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 ثم اعلم أنه برغم هذا الاختلاط الظاهر في الأحاديث فإن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تظل محفوظة من قبل الله لا يشك مسلم في ذلك لأنه تعالى تكفل بحفظها في قوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقوله: (وأنزلنا إليك الكتاب لتبين للناس ما نزل إليهم من ربهم) وقوله: (أطيعوا الرسول) فإذا اعتُقِد أن بعضاً من تلك الأحاديث قد فقدت أو اختلطت بغيرها حتى لم تعد تعرف فكيف يطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أمر به تعالى؟ وكيف يُرَدُّ إلى حُكمه عند الاختلاف؟ فهل هذا إلا تكليف ما لا يطاق؟ وهل هذا إلا إيذانٌ بعدم كمال الدين واستمراره إلى يوم القيامة؟ وأيضاً فهذه الأحاديث ((ما اختلطت إلا على الجاهلين بها فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير فيميزون زيوفها ويأخذون جيادها ولئن دخل في غمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث ورتوت (1) العلماء حتى إنهم عدو أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون بل تراهم يعدون على كل رجل منهم في كم حديث غلط وفي كم حرف حرّف وماذا صحف؟ فإذا لم يرج عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون والحروف فكيف يروج وضع الزنادقة وتوليدهم الأحاديث)) (2) . ثالثاً: مما صرفهم عن المأثورات إلى تلك المعقولات هو حب التمايز على الآخرين وشهوة الانفراد بشيء غير معروف عند عامة الناس ليذكروا به ولا يكونوا كغيرهم من جملة أهل الحديث. وهذا السبب لم يزل في الناس قديماً وحديثاً فلو تدبرت حال كثير من أهل البدع لوجدت النشأة الأولى لهم هذه الشهوة الخفية.   (1) قال ابن الأعرابي: الرت: رئيس البلد جمعها (رتوت) (الصحاح 249) . (2) الحجة (2/134) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 قال الإمام أبو القاسم الأصبهاني واصفاً حال هؤلاء العقلانيين ((إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسوّل لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن، يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر السنّة، واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة، وعدّ واحداً من الجمهور والكافة، فحرّكهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع بمخالفة السنّة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمّن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، واختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا في حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين علم، ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسننه المأثورة عنه، وردّوها على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنّة، وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين وروح القلوب، ولكثرت البركة وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)) (1) . هذه الأسباب الثلاثة: تأثرهم بالعلم الوافد وضعفهم في علم الحديث وشهوة التفاضل على الغير. هي في نظري أهم الأسباب التي أدارت وجوه القوم إلى العقل والعقلانية وألجأتهم إليها.   (1) الحجة (1/372) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 إذن … هذا هو حال العقلانيين الأوائل في هذه الأمة. فرقة سادت قليلاً ثم بادت. قال الدكتور مصطفى الشكعة ((أما المعتزلة فقد اندثر حزبهم كمذهب قائم بذاته فلم نعد في عصرنا الحديث نسمع عن الواصلية أو الهذيلية أو النظامية أو الجاحظية أو البشرية أوا لجبائية إلى غير ذلك من المدارس الاعتزالية الفرعية. وإنما ذاب المذهب في تعاليم الشيعة الإمامية والشيعة الزيدية بحيث أخذ المذهبان أطيب ما عند المعتزلة من أفكار! واطرحا ما قد توسط فيه علماء الاعتزال من تطرف واندفاع)) (1) . قلت: ولكن بقيت من أصولها الفكرية الأصل الذي يغالي في دور العقل في أمور الشريعة وأصبح مناراً يهدي العقلانيين إلى سبيل الرشاد! ويدفعهم عن طريق الفساد!. ثم جاء بعد المعتزلة آحاد الفلاسفة الإسلاميين المفترقين مكاناً وزماناً فزادوا في الميل إلى تلك المعقولات فكانت هي رأس مالهم. ولقد كانوا كما قال أحمد أمين ((فلاسفة أولاً ودينيين آخراً. لا ينظرون إلى الدين إلا عند ما تتعارض نظرية فلسفية مع الدين فيجدوا للتوفيق بينهما)) (2) . فلذا لم يؤثروا في حياة المسلمين كتأثير المعتزلة الذي خلطوا الدين بالكلام وموًّهواً على المسلمين بنصرة دينهم. وإنما اندثرت أفكارهم النظرية بموتهم فلم تبن مجتمعاً ولم تُقم على سلطة ولكنهم تلازموا وإياهم في تعظيم (العقل) لأنه كما قلت بضاعتهم الوحيدة، فهذا الرازي يتحدث كثيراً عن العقل في كتبه. ويأتي بعده ابن سيناء فيغلو في العقل إلى أن أطلقه على الله تبارك وتعالى. وأقربهم مودة إلى العقلانيين فيلسوف المغرب ابن رشد.   (1) إسلام بلا مذاهب (619) . (2) ضحى الإسلام (3/204) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 إذن بعد موت المعتزلة لم تقم فرقة واحدة تدعو إلى إعلاء العقل على حساب غيره وإنما لم تخل الأمة من أفراد يرفعون أصواتهم بين الحين والآخر مطالبين بتلك الفكرة لأسباب متنوعة. ويحضرني منهم فيلسوف المعرة – كما يُسَمّى- الشاعر أبا العلاء المعري. وهو من ملاحدة الشعراء في كثرة اعتراضه على الشرع بل على الديانات كلها. وتمجيده للعقل والإيمان الإلهي المجرد يقول عنه طه حسين ((لا يؤمن إلا للعقل وحده فخالف بهذا أهل السنة لأنهم يقدسون الشرع على العقل وإن آمنوا به وخالف مذهب المعتزلة لأنهم على تقديسهم للعقل يتخذون الشرع لنظرهم أصلاً ودليلاً يعتزون به ويلجئون إليه)) (1) . ويقول الدكتور عمر فروخ ((يعتقد المعري أن من اتسع عقله لم يضل هذا إذا كان له عقل! أما إذا لم يكن له عقل فهو يعمل أعماله بالتقاليد أو يساق إليها كالعجماوات. ولم يكتف المعري بأن يحكم العقل في الأمور التي جرت العادة بتحكيمه فيها بل أراد أن يكون العقل والفكر في أكثر الأغراض التي تناولها المعري في لزومياته حتى في العبادات وهو في كل ذلك يزدري شيئين ازدراءً شديداً التقليد والأخبار المروية. ولذلك تراه يتلقى كل خبر مروي أو كل عادة شائعة بميزان العقل)) (2) . قلت: وهذا مصدق لما نبهتك عليه سابقاً من أن انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة كان صارفاً لبعض الجهلة في الحديث – كالمعري مثلاً – إلى إعظام دور العقل. فهو يقول ناصحاً للأمة: خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه ... ولا يرجون غير المهيمن راج ولا تطفئوا نور المليك فإنه ... ممتع كل من حجا بسراج (3) ويقف متحيراً أمام بعض الأحاديث الضعيفة التي تخالف العقل فيقول: جاءت أحاديث إن صحت فإن لها ... شأناً ولكن فيها ضعف إسناد   (1) تجديد ذكرى أبي العلاء (239) . (2) تاريخ الفكر العربي (448) . (3) لزوم ما لا يلزم (1/366) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فشاور العقل واترك غيره هدراً ... فالعقل خير مشير ضمه النادي (1) أي لا تتعب نفسك بدراسة علم الحديث ومصطلحه وإنما انبذ ذلك كله وشاور عقلك!. ويقول: عليك العقل وافعل ما رآه ... جميلاً فهو مشتار الشوار (2) وهو الإمام والقائد للإنسان كذب الظن لا إمام سوى ... العقل مقيماً في صبحه والمساء (3) ويبلغ الغلو في تمجيد العقل عند هذا الملحد إلى أن ينزله منازل الأنبياء! كما صنع المعتزلة بالنصوص فهو يقول: أيها الغِر إن خُصصت بعقل ... فاسألنه فكل عقل نبي! (4) لم يكن أبو العلاء معتزلياً … كما ذكر طه حسين، فهو عندما أشاد بالعقل وقدسه قد ذم المعتزلة في شعره كثيراً وأعلن البراءة من مقولاتهم. خاصة قولهم بالقدر فهو يقول: جنوا كبائر آثام وقد زعموا ... أن الصغائر تجني الخلد في النار (5) وينصح سامعه بأن لا يكون منهم: لا تعش مجبراً ولا قدرياً ... واجتهد في توسطٍ بين بينا (6) ويخبر عن نفسه أنه بمعزل عنهم: ارجوا واعتزلوا فإني ... عن مقالتكم بمعزل (7) أي كونوا مرجئة أو معتزلة فلست معكم.   (1) المصدر السابق (1/500) . (2) المصدر السابق (2/756) . (3) المصدر السابق (1/61) . (4) المصدر السابق (3/1716) . (5) المصدر السابق (2/736) . (6) المصدر السابق (3/1579) . (7) المصدر السابق (3/1357) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 يقول الدكتور عمر فروخ ((قد يعجب أحدنا فيقول إن المعري يهاجم المعتزلة مع أنهم يفضلون العقل على النقل كما يفعل هو. أجل إنه ليس معتزلياً وإن كان يرى رأي المعتزلة في تفضيل العقل على ما روي في الدين من أخبار وإنما هو يهاجم من المعتزلة أولئك الذين يضيعون أوقاتهم وأوقات غيرهم بالجدل العقيم لا الذين يحلون العقل مرتبة سامية)) (1) . فهو يلتقي معهم في العقلانية دون أصولهم الأخرى. ودعاه إلى ذلك ما دعاهم – كما سبق – فإن النفوس والأهواء واحدة. ثم تمضي الأيام وتتعاقب الليالي فيظهر في هذه الأمة عقلاني آخر اشتهر بشعره الفلسفي كالمعري. هو الشاعر العراقي جميل الزهاوي الذي كان أبوه مفتياً لبغداد! ومن نسل خالد بن الوليد! وهذا الشاعر قد اشتهر عند الجمهور إضافة إلى عقلانيته بعداوته الشديدة للحجاب الإسلامي فهو صاحب القصيدة المشهورة. مزقي يا ابنة العراق الحجابا ... واسفري فالحياة تبغي انقلاباً مزقيه واحرقيه بلا ريث ... فقد كان حارساً كذاباً مزقيه وبعد ذلك أيضاً ... مزقيه حتى يكون هباباً وانزعيه بقوة وطئيه ... واجعلي في فم الحنيق تراباً وهي قصيدة طويلة وجريئة يستحق لأجلها على كل بيت من أبياتها أن يستتاب أو يعزر. هذا في الحجاب (2) … . وأما العقل فقد عرف هذا الملحد بمحاكاته لسلفه المعري في التعويل على العقل وتقديمه على النصوص الشرعية. وإليك شيئاً من أشعاره:   (1) تاريخ الفكر (448) ويرى طه حسين أن المعري كان جبرياً لأن ((حياته المادية وشعره في اللزوميات ينطقان بذلك)) ، تجديد ذكرى أبي العلاء (262) . (2) وللزهاوي أيضاً كتاب في الرد على (الوهابية) ! حيث زعم أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مجسّم! ويكفر المسلمين جميعهم. ... انظر: الزهاوي وديوانه المفقود – هلال ناجي (33) (56) . والطريف أنه بعد سنوات مدح الملك عبد العزيز! وهذا من التناقض الذي اشتهر به كالمعري.. رحم الله المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 على العقل في كل الأمور المعول ... ولولاه لم ينحل للمرء مشكل وما العقل في الإنسان إلا ابن رأيه ... تولد فيه آخر وهو أول وللعقل أنوار بها يهتدي الفتى ... وأبهج بأنوار لها العقل يرسل (1) ويقول: خضعت لعقلي في حياتي كلها ... وما كنت يوماً خاضعاً لعواطفي (2) وأيضاً: دع المحال وكلم ... بلهجة المستدل ما كنت أقبل إلا ... ما ليس يأباه عقلي (3) وأيضاً: قالوا اترك العقل لا تعمل به ... حتى يؤيد حكمه المنقول قلت اترك المنقول لا تعمل به ... حتى يؤيد حكمه المعقول (4) المدرسة العقلية الحديثة : وفي عصر الزهاوي بدأت تتكامل ملامح مدرسة التجديد الديني التي غرس بذرها جمال الدين الأفغاني وتلاميذه في مصر. وهي المدرسة الوحيدة التي استطاعت مع بعض الاختلافات الطفيفة أن تشكل تياراً عقلانياً كتيار المعتزلة، فهو القاسم المشترك بين أعضائها وإن اختلفت وجهات كل واحد منهم في الأصول الدينية الأخرى. والحديث عن هذه المدرسة العقلانية الحديثة –أعني مدرسة الأفغاني ومحمد عبده وتلاميذهما- مما يطول مداه وتكثر كلماته، حيث أن هذه المدرسة بحق قد خرَّجت كثيراً من العقلانيين المعاصرين الذي تتلمذوا على شيوخها مباشرة، أو عن طريق تراثهم، فأصبحوا يشكلون تياراً ضخماً في فترة من الفترات، فكان لهم رجالهم في السياسة وفي المجتمع وفي علوم الشريعة.. وهكذا في خليط عجيب لا يجمعهم سوى الالتقاء على مبادئ هذه العقلانية الجديدة التي زاحمت النصوص الشرعية وردت أو تأولت كثيراً منها بدعوى معارضتها للعقل أو للحضارة المادية المعاصرة. فكان منهم: سعد زغلول وقاسم أمين وعبد العزيز جاويش وأحمد أمين ومحمود شلتوت … .. الخ. ثم تبع آثارهم من بعدهم كالغزالي والقرضاوي ومحمد عمارة وحسين أحمد أمين.   (1) الزهاوي وديوانه المفقود – هلال ناجي (83) . (2) المصدر السابق (84) . (3) المصدر السابق (84) . (4) المصدر السابق (84) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 ثم من بعدهم كفهمي هويدي … . وهكذا في سلسلة يطول الحديث عنها. وفي ظني أن هذه المدرسة لم تحظ إلى الآن بدراسة شاملة عن أفكارها وأفرادها المنتمين إليها.. إنما هي أشتات دراسات (1) . فلعل نابتها يقوم بهذه المهمة المفيدة (لتستبين سبيل) هذه المدرسة الغامضة التي احتفى بها الغرب كثيراً. بعد هذه المدرسة القريبة العهد بنا، أصبحنا نسمع ونرى بين الحين والآخر رجالاً قد طالتهم أيدي هذا التيار فتمذهبوا بمذهبه في الرفع من شأن العقل والعقلانية على تفاوت في جرعات العقل فيما بينهم. فاسمع لأحدهم يقول ((أكاد واقطع بأننا لو سرنا في طريق التقليد مئات السنوات وانحرفنا عن نهر العقل فلن نستطيع التقدم خطوة واحدة في سبيل إرساء دعائم فلسفتنا العربية وكشف ما فيها من مواطن القوة والضعف)) (2) . ويعني بالتقليد … اتباع النصوص الشرعية! لا التقليد المتعارف عليه عند الفقهاء وأهل الأصول. لأنه جاهل لا شك بذلك!. لا تثريب على فلاسفة اليونان وفلاسفة الغرب أن يقدسوا عقولهم ويرجعوا إليها في كل شاردة وواردة من أمور الغيب ونظم الحياة لأنهم قد ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. فقد حرموا نعمة الوحي الإلهي الذي يكشف للإنسان عن تلك العوالم المجهولة التي تخفى عليه ولا تطولها حواسه ولا عقله مهما عَظُم أو كبر وتكشف له قبل ذلك عن صفات الإله المعبود وذاته المقدسة وتريحه من عناء البحث المضني في ذلك والذي لن يأتِ بأي نتيجة لهذا الإنسان تكشف له عن أشياء كثيرة غائبة بل وحاضرة ولكن تخفى حكمتها عليه.   (1) من أهمها دراسة الدكتور فهد الرومي عن منهج هذه المدرسة في التفسير – كما سبق -، (2) ثورة العقل في الفلسفة العربية – د. محمد العراقي (13) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 لا تثريب على فلاسفة اليونان والغرب! الذين ضلوا مع قوة عقولهم وذكائهم، ولكن كما قال الإمام الذهبي ((لعن الله الذكاء بلا إيمان ورضي الله عن البلادة مع التقوى)) (1) . ولكن اللوم والأسى على من أنار الله بصيرته بالإسلام وشرح صدره بالقرآن من فلاسفتنا ومتكلمينا فنبذ كل ذلك وراء ظهره وآثر الضلال بعد الهدى والعمى بعد البصيرة جانحاً إلى فلاسفة اليونان الوثنيين وعقولهم يزاحم بها نصوص الكتاب والسنة. قال الحافظ ابن حجر ((قد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرهاً ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف)) (2) . الرد على العقلانيين : بعد هذا الطواف مع العقل وتعريفه ومكانه وموقف المعظِّمين له، يأتي دور الرد على أصولهم العقلية التي فُتنوا بها طويلاً وظنوها يقينيات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها! وثق كثيراً أن هذه الأصول التي وضع معظمها أسلاف هؤلاء العقلانيين الذين نراهم في كل عصر وآن هي المتكأ الوحيد لكل عقلاني جاء بعد أولئك القوم، مصداقاً لمن قال: لكل قومٍ وارث. ولعل من تدبر كتابات القوم ومقالاتهم يضيف على هذه الأوجه التي سأذكرها ما يُكملها ويجعلها على هذه الأوجه التي سأذكرها ما يُكملها ويجعلها تحيط بجميع شبهاتهم. فأقول مستعيناً بالله-:   (1) سير أعلام النبلاء (14/62) . (2) فتح الباري (13/267) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الوجه الأول : أن يقال أن حجتكم وعمدتكم الأولى في تقديم العقل على النقل أن النقل لم يثبت إلا بالعقل وبعبارة أحدهم: ((فالعقل هو أول الأدلة وليس ذلك فقط بل هو أصلها الذي به يعرف صدقها وبواسطته يكتسب الكتاب والسنة والإجماع قيمة الدليل وحجيته. لأن حجية القرآن متوقفة على حجية الرسالة وهما متوقفتان على التصديق بالألوهية لأنها مصدرها فوجب أن يكون لإثبات الألوهية طريق سابق عليهما وهذا الطريق هو برهان العقل!)) (1) . وهذه حجة ضعيفة بل مضطربة شرحها أنه إذا كان الإله سبحانه وتعالى يُسْتدل على وجوده وإدراكه بالأدلة العقلية، فإذا ثبت وجوده بها التزمنا ما بعده وهو ثبوت الكتاب والسنة لأن الإله سبحانه أصلها وقد ثبت وجوده بالعقل فيلزم تقديم العقل على النقل. وهذه الحجة لا تقال إلا لكافر! لا تقال لمؤمن قد ثبت يقينه بوجود الله سبحانه وتعالى وبصفاته وأسمائه أو كما قال ابن القيم ((إن الرجل إما أن يكون مقراً بالرسل أو جاحداً لرسالتهم، فإن كان منكراً فالكلام معه في تثبيت النبوة، فلا وجه للكلام معه في تعارض العقل والنقل فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحد منهما لو تجرد عن المعارض، فمن لم يقر بالدليل العقلي لم يخاطب في تعارض الدليل العقلي والشرعي وكذلك من لم يقر بالدليل الشرعي لم يخاطب في هذا التعارض، فمن لم يقر بالأنبياء لم يستفد من خبرهم دليلاً شرعياً فهذا يتكلم معه في إثبات النبوات أولاً. وإن كان مقراً بالرسالة فالكلام معه في مقامات: أحدها: صدق الرسول فيما أخبر به. الثاني: وهو هل يقر بأنه أخبر بهذا أو لا يقر به؟ الثالث: وهو أنه هل أراد ما دل عليه كلامه ولفظه أو أراد خلافه؟ الرابع: وهو أن هذا المراد حق في نفسه أم باطل؟   (1) تيارات الفكر الإسلامي، لمحمد عمارة (ص70) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الخامس: وهو أنه هل كان يمكنه التعبير والإفصاح عن الحق أو لم يكن ذلك ممكنا له؟)) (1) . ثم وهو الأهم إذا ثبت وجود الإله سبحانه وتعالى بالعقل وأدلته فيجب أن يقف العقل إلى هذه النقطة ولا يتجاوزها إلى غيرها فهو قائد أمين إلى إثبات وجود الله ودالّ عليه ثم يعود إلى مستقره الطبيعي الذي خلقه الله لأجله ولا يستلزم من إثباته لوجود الله تعالى أن يتجاوز به مقداره فيصبح سلطاناً على الكتاب والسنة، فما دمت أيها العقل قد أوصلتنا إلى معبودنا الذي أرسل إلينا الرسل بوحيه وأمرهم بتبيين ذلك للناس فالتزم ما أمرا به ونهيا عنه ولا تتقدم عليهما. قال ابن القيم ((قال بعض أهل الإيمان: يكفيك من العقل أن يعرفك صدق الرسول ومعاني كلامه ثم يخلي بينك وبينه. وقال آخر: العقل سلطان وَلَّي الرسول ثم عزل نفسه)) (2) .   (1) الصواعق (3/866) . (2) الصواعق (3/807) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 الوجه الثاني : أن يقال إن العقل الإنساني برغم تعظيمكم من شأنه محدود وضعيف لمن تأمل في طاقاته وخبرها؛ لأنه مقيد بحواس الإنسان وتابع لها في أحكامه ويمكن أن يقع في الخطأ والخلل، وكما قال ابن القيم ((لا ريب أن البصر يعرض له الغلط ورؤية بعض الأشياء بخلاف ما هي عليه ويتخيل ما لا وجود له في الخارج فإذا حكم عليه العقل تبين غلطه)) (1) . ثم هو أيضاً مرتبط في أحكامه بحالات الإنسان النفسية والاجتماعية، يقول ألكسيس كارليل ((من الواضح أن النشاط العقلي يتوقف على وجوه النشاط الفسيولوجي فقد لوحظ أن التعديلات العضوية تتصل بتعاقب حالات الشعور وعلى العكس من ذلك فإن حالات وظيفية معينة للأعضاء هي التي تقرر الظواهر السيكولوجية ويعدل الكل المكون من الجسم والشعور بالعوامل العضوية والعقلية أيضاً، فالعقل والجسم يشتركان معاً في الإنسان مثلما يشترك الشكل والرخام في التمثال فالإنسان لا يستطيع أن يغير شكل التمثال دون أن يحطم الرخام)) (2) . قلت: وفي نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - للقاضي أن يحكم وهو غضبان خير دليل على تأثر العقل بالحالات النفسية للإنسان فهو في تلك الحالة سيقضي بما يجانب الصواب مما يؤكد قصور العقل عن أداء مهمته في مطلق الأحوال وقد اعترف بقصور العقل ومحدوديته كثير من علماء المسلمين وغير المسلمين وأنا ذاكر لك شيئاً من أقوالهم بادئاً بالغربيين منهم لأنهم عمدة عند العقلانيين! . 1- قال الفيلسوف كانت ((يجب على العقل أن يقف في تصوره عند حد التجربة الحسية إذ لا يمكن لأفكارنا أن تمتد إلى كنه الأشياء ولبابها إلى الأشياء في أنفسها. فإذا ما حاولنا أن نعرفها بنفس الوسائل التي تعرف بها الظواهر –أي الزمان والمكان والسببية وغيرها– تورطنا في التناقض والخطأ)) (3) .   (1) بدائع الفوائد (3/200) . (2) الإنسان ذلك المجهول (165) . (3) قصة الفلسفة الحديثة (1/291) أحمد أمين والعبارة له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 2- قال الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ((إن كل فكرة توجد في العقل إنما يكون أساسها راجعاً إلى الحواس ومن تعطلت حواسه جميعاً أو إحداهما فلا يمكن أن تتكون في ذهنه أية فكرة عن محسوسها وبذلك فلن يكون هناك شيء في عقل الإنسان ما لم يكن من قبل في حواسه إذ أن العقل عبارة عن صفحة بيضاء ليس عليها أي انطباع أو أي شيء سابق على خبرة الحواس)) (1) . 3- قال أحمد أمين عن الفيلسوف برجسون ((هاجم العقل وأرادنا أن نأخذ بحكم البصيرة لأنها أصدق نظراً)) ((لقد كان جميلاً من برجسون أن يصرخ هذه الصرخة العالية ليقف تطرف المذهب العقلي الذي يعتد بالعقل اعتداداً كبيراً ولكنه لم يصب حين دعا إلى اتخاذ البصيرة وحدها بدل العقل لأن ذلك كمن يصحح خيال الصبا بخرافات الطفولة)) (2) . قلت: وما دعاه إلى مهاجمة العقل إلا لأنه رأى ضعفه وقصوره عن إدراك جميع الحقائق. 4- يقول الأستاذ الباقوي ((إن العقل مهما بلغ من القوة والذكاء ليس إلا حاسة من الحواس التي تربطنا بعالمنا المحدود، فكما يكون للعين مدى تنتهي عنده مقدرتها على الإبصار فلا تدرك ما وراء هذا المدى من مرئيات إلا أشباحاً باهتة وصوراً شائهة لا تغني من الحق شيئاً.. وكذلك الشأن في كل حاسة من حواسنا   (1) العقل والإيمان في الإسلام. د. صابر طعيمة (28) . (2) قصة الفلسفة الحديثة (2/575) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 لكل مجال تعمل فيه، وتؤدي وظيفتها كاملة في حدوده، فإذا أريد بها الخروج عن هذا المجال ضلت وأضلت. وكذلك شأن العقل وهو حاسة الإدراك له مجاله المحدود الذي يعمل فيه ويدرك حقائق الأشياء في محيطه، فإن أبى إلا أن يركب متن الشطط ويستوي على ظهر الغرور، انزلق إلى ظلمات الضلال وتقطعت به إلى الحقيقة الأسباب. ولسنا نريد بهذا أن نمسك العقل عن التفكير والبحث في التعرف إلى الله، فهو الطريق الطبيعي إليه، وإنما نريد أن ينهج العقل نهجاً قاصداً في البحث عن الله فلا يندفع وراء الخيالات والفروض، ولا يشتط في التطلع إلى ما فوق طاقته، وليعترف بقصوره عن إدراك الحقيقة وعجزه عن تناولها، وليرجع إلى القلب يطلب عنده الاطمئنان والسكينة)) (1) . 5- يقول الشيخ سيد سابق ((إن العقل البشري مهما كان مبلغه من الذكاء وقوة الإدراك قاصر غاية القصور وعاجز غاية العجز عن معرفة حقائق الأشياء. فهو عاجز عن معرفة النفس الإنسانية ومعرفة النفس لا تزال من أعقد مسائل العلم والفلسفة. وهو عاجز عن معرفة حقيقة الضوء، والضوء من أظهر الأشياء وأوضحها. وعاجز عن معرفة حقيقة المادة، وحقيقة الذرات التي تتألف منها، والمادة ألصق شيء بالإنسان. ولا يزال العلم يقف عاجزاً أمام كثير من حقائق الكون والطبيعة، لا يستطيع أن يقول فيها الكلمة الأخيرة.   (1) العلم يدعو إلى الإيمان (25) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 قال العلامة الفلكي المشهور (كاميل فلامَرْيون) في كتابه (القوى الطبيعية المجهولة) : ((نرانا نفكر، ولكن ما هو الفكر؟ لا يستطيع أحد أن يجيب على هذا السؤال. ونرانا نمشي، ولكن ما هو العمل العضلي؟ لا يعرف أحد ذلك، أرى أن إرادتي قوة غير مادية، وأن جميع خصائص نفسي غير مادية أيضاً، ومع ذلك فمتى أردت أن أرفع ذراعي، أرى أن إرادتي تحرك مادتي، فكيف يحدث ذلك، وما هو الوسيط الذي يتوسط للقوى العقلية في إنتاج نتيجة مادية؟ لا يوجد من يستطيع أن يجيبني عن هذا أيضاً، بل قل لي: كيف ينقل العصب البصري صور الأشياء إلى العقل؟ . وقل لي كيف يدرك العقل هذا؟ وأين مستقره؟ . وما هي طبيعة العمل المخي؟ . قولوا لي أيها السادة (يريد الملحدين) … ولكن كفى كفى! فإني أستطيع أن أسألكم عشر سنين، ولا يستطيع أكبر رأس فيكم أن يجيب على أحقر أسئلتي)) . فإذا كان موقف العقل هكذا حيال النفس والضوء والمادة، وما في الكون المنظور وغير المنظور من أشياء، فكيف يتطلع إلى معرفة ذات الباري جل شأنه، ويحاول إدراك كنهه!)) . (1)   (1) العقائد الإسلامية (37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 6- يقول الأستاذ خالد الرفاعي ((إن العقل يعتمد على ما تمده به الحواس من مادة أولية وعلى ما أودع فيه من قوة فطرية لتمييز الأشياء عن بعضها البعض.. معتمداً على مبادئ أطلقنا عليها اسم المبادئ الأولية، ومن ذلك نستنتج أن مجال عمل العقل محصور في المادة وصفاتها فقط، أو بكلمة أوضح بما يصله من إحساسات خارجية تمده بها الحواس، لأن الحواس لا تعطيه أحكام العقل حيث أن ما يعتمد عليه ليس إلا ظواهر بسيطة من الكون وأن الحواس نفسها قد تخطئ في ما تصل إليه أو أن الطبيعة كثيراً ما تصور للحواس ما هو خلاف الواقع. فمثلاً إن من أصيب بعمى الألوان لا يفرق بين الألوان ولا يرى إلا اللون الأحمر)) ((ولذلك فإننا نستطيع أن نجزم أن ما يبنى على المحدود فهو محدود دوماً، وما يبنى على الناقص فهو ناقص، فمعرفة العقل لا تعطينا إلا نتائج ضمن المادة، بل ضمن ظواهرها فحسب، نتائج قد تكون أحياناً خاطئة وغير دقيقة وناقصة)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 ((إن العقل يقف في سلسلة من الأسئلة الغائبة عنه إلى حد لا يستطيع أن يتجاوزه … وإلى مجال من الكون لن يخترقه، وذلك لأن حواسه تتركه عند حد تعجز بعده من مرافقته في سيره الطويل لمعرفة كل شيء.. وللإحاطة التامة به … فأنا أستطيع أن أعرف كيف يشتعل عود من الحطب، فأرى لون النار وأشم رائحتها … وأسمع حسيسها، وأستطيع أن أدرك أسباباً بسيطة لذلك.. ولكنني أصل إلى حد من الأسئلة ليس لها عندي جواب مقنع إلا التسليم والعجز، هذا التسليم الذي يظهر واضحاً في أن ذلك من صفة الشيء دون أن أستطيع معرفة لم كان ذلك من صفة هذا الشيء ولم يكن من صفة غيره؟ … .لم كانت نتائج الاحتراق الحرارة.. ولم تكن البرودة؟؟! ولم اشتعل الحطب في الدرجة المعينة له ولم يشتعل القصدير في تلك الدرجة؟ … ولم كانت الرائحة من نتيجة الاحتراق؟ كل ذلك وغيره لا يجاب عنه إلا بما قال الله تعالى لنا: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) فمن هذا نعلم أن مجال عمل العقل هو المادة وصفاتها وكل عمل للعقل فيما وراء ذلك إنما هو فيما وراء الحس مباشرة، لأنه عند ذلك يخترق مجاله الطبيعي ويفقد المادة الأولية التي يعتمد عليها في بحثه ذلك، ولذلك فإن القرآن الكريم كان يوجه النظر دائماً إلى ما يحس في الكون، سمائه وأرضه، إنسانه وحيوانه، ولم تر آية واحدة وجهت النظر لما هو وراء الحس.. فيقول تعالى: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) .. (فلينظر الإنسان إلى طعامه) . (فلينظر الإنسان ممَّ خُلق) الخ)) . ((إن العقل محدود بالمادة وقوانينها وصفاتها ويمكننا أن نلخص حدود العقل بالأمور التالية: بالزمان: لأن الزمان إنما هو صورة عن تغير المادة. بالمكان: لأن المكان صفة المادة في تحيزها. وبالحجم والوزن: لأن المادة لا تظهر لنا إلا بهذه الصفات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 ولكن هذه الحدود كلها رغم سيطرتها على الإنسان فإنه لا يمتنع عقلاً أن يكون وراء هذه الحدود قوانين أخرى تغاير ما تعودنا عليه)) (1) . 7- يقول الأستاذ أنور الجندي: ((لقد أُعطي الإنسان أمانة الحياة، وأُعطي العقل والقلب، ولم يكن عقله إلا جهازاً في وظيفته في حدود المعطيات والقوى المختلفة، ولم يعط هذا العقل القدرة الكاملة على كشف كل شيء، أو الوصول إلى كنه الوجود وأعماق الغيب. ولكنه أعطي مفاتيح الحقائق عن طريق الوحي أو العلم، فأصبح له طريقه الواضح من خلال هذه المعطيات المتاحة فإذا مضى في هذا الطريق، أضاء وأعطى، أما إذا أراد أن يمضي بالعقل وحده ليكشف كل شيء، لم يجد الطريق واضحاً، وعجز عن أن يصل إلى الحقيقة. ومن هنا كان خطر القول بقداسة العقل، أو سلطان العلم، هذه الدعوى التي حملتها الفلسفات، ورفع لواءها الفكر البشري في محاولة للاستقلال أو التجرد عن (مفاتيح) المعرفة الأصيلة التي ألقاها الحق تبارك وتعالى لخلقه عن طريق رسالات الأنبياء والكتب المنزلة)) (2) . 8- يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني ((العقل مقيد بعالم الحس لا عمل له في الحكم على عالم الغيب (المتيافيزيك) . ذلك لأن القوة العاقلة فينا التي تجمع بين الصورة والذاكرة والمخيلة والذكاء تقوم بعملها الجبار في التحليل والتركيب، والجمع والتفريق، واستنتاج القواعد العامة والكليات، وقياس الأشباه والنظائر على بعضها، بعد أن تنقل الحواس المختلفة إلى المصورة أشرطة مشاهداتها في الكون: شريطَ المرئيات، وشريطَ المسموعات، وشريط المذوقات، وشريط المشمومات، وشريط الملموسات، وشريط الوجدانيات الداخلة في الإنسان، ثم تكون أحكامها مقيدة بحدود هذه الأشياء التي جاءتها عن طريق الحس.   (1) وجود الله (10-16) . (2) شبهات التغريب (185) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وهذه القوة العاقلة فينا لا تستطيع أبدأ أن تصدر أحكامها على مغيبات لم يعرض أمامها شريط مسجل عنها، لأن كل حكم تحكم به إنما تقوله متأثرةً بواقع أشرطة الحواس التي جاءتها، وقد يختلف عالم الغيب عن عالم الحس كل الاختلاف فلا يمكن الحكم عليهما بالتشابه، والقاعدة الثابتة عند العلماء: (أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره) . فعالم الغيب لا تستطيع عقولنا أن تحكم على شيء فيه بإثبات أو نفي استقلالاً ذاتياً، إلا أن يأتيها خبر يشهد العقل بإمكان وجوده ويصدق ناقله، وعند ذلك تسلم بمضمونه تسليماً تاماً دون مناقشة أو اعتراض)) (1) . 9- يقول الأستاذ محمد حسين ((قد أثبتت العلوم الحديثة – وعلم الفلك خاصة- عجز العقل البشري الذي لا مفر منه إلا إلى الله ولا ملجأ إلا إليه سبحانه وتعالى وأصبح تمسح المشككين والملاحدة بالعلم ضرباً من الجهل أو المكابرة)) (2) . 10- ويقول الشاطبي ((إن الله جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه. ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب. ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون. إذ لو كان كيف كان يكون؟ فمعلومات الله لا تتناهى. ومعلومات العبد متناهية. والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى. وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلاً. وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلاً. فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه، بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه، وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تُخرّجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه)) (3) .   (1) العقيدة الإسلامية (195) . (2) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/291) . (3) الاعتصام (2/318) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 11- قال أبو الحسن الندوي ((إن العقل وحده عاجز عن أداء وظيفته الطبيعية بل هو مضطر إلى الاستعانة بأشياء هي أقل منه قيمة، ففي إدراك ما لم يدركه العقل من قبل، يحتاج إلى استخدام المعلومات التي حصلت له مسبقاً، ولا تكون هذه المقدمات إلا المحسوسات فلو حللت المعقولات كلها تحليلاً دقيقاً، وسمعت قصة رحلة العقل الطريفة والطويلة المدى، عرفت أن وسيلة العقل في اكتشاف العوالم الجدد والغوص في البحار المجهولة، إنما هي هذه المحسوسات التي تبدو تافهة حقيرة، والمعلومات البدائية التي لولاها ولولا ترتيبها ترتيباً خاصاً، لما وصل العقل إلى هذه النتائج الخطيرة ذات القيمة الكبيرة، فحيث تشلُّ الحواس البشرية، وحيث لا تكون لدى الإنسان ذخيرة من معلومات، وإذا كان في أمر على جهل تام بمباديه، فهناك يعجز عقله عن شق الطريق إلى الأمام، والوصول إلى نتيجة في هذا الموضوع كما يعجز أحدنا عن أن يعبر البحر من غير سفينة، وأن يطير في الجو من غير طائرة. فإن شئت جربت ولا تخطئك التجربة، هب أن رجلاً ذكياً فطناً ليست له معرفة بمبادئ العلوم الرياضية الأولية، حتى أنه لا يعرف العدد، لا يستطيع مثل هذا الرجل أن يحل معضلة من المعضلات الرياضية، ولو كان على جانب كبير من الذكاء والألمعية كذلك من لم يكن عنده معرفة بالأصول الموضوعة في علم الأقليدس لن يسعه أن يثبت شكلاً من الأشكال، ولو كان هذا الرجل على قمّة من الذكاء والفطانة، كذلك إذا كان الرجل يجهل حروف لغة من اللغات وخطها، لم يستطع أن يقرأ سطراً من السطور التي كتبت في هذه اللغة، ولو صبّ ذكاءه وأمعن في القياس، فالذي لا يعرف مفردات لغة لا يستطيع أن يفهم عبارة من عبارات هذه اللغة بمجرد ذكائه أو بقوة قياسه، وعلى ذلك تقاس مبادئ كل فن وعلم)) (1) .   (1) بين الدين والمدنية (15) . وانظر كتاب (الإسلام والعقل) لعبد الحليم محمود، ففيه يشن حملة شديدة على العقل. قلت: فإذا كان العقل البشري كما رأيت من الضعف والقصور فكيف يقول عاقل بتقدمه على كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا إلا من تقديم الناقص على الكامل، والمفضول على الفاضل؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الوجه الثالث : أن يقال إذا ثبت ضعف العقل البشري وقصوره عن إدراك كثير من الحقائق الثابتة فاعلم أنه لا مجال له في إدراك ذات الباري وصفاته وأسمائه وحِكَم أفعاله وأوامره ونواهيه وإنما يُتَلقى ذلك من الوحي وأما العقل فلا يقوده اجتهاده إلا لإثبات خالق لهذا الكون دون معرفة مفصلة له. قال شيخ الإسلام ((ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى بذلك واستأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر، وقد اعترف عامة الروؤس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية وإنما ينال بها الظن والحسبان)) (1) . وقال الإمام أبو يعلى ((إن العقل لا يعلم به فرض شيء ولا إباحته ولا تحليل شيء ولا تحريمه)) (2) . وقال الشيخ ابن عثيمين ((السمعيات كل ما ثبت بالسمع أي طريق الشرع ولم يكن للعقل فيها مدخل وكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخبار فهي حق يجب تصديقه سواء شاهدناه بحواسنا أو غاب عنا وسواء أدركناه بعقولنا أم لم ندركه لقوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) (3) .   (1) الصارم المسلول (249) . (2) الأحكام السلطانية (19) . (3) شرح لمعة الاعتقاد (59) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وقال سيد قطب: ((إن هنالك مجالاً للعقل البشري معيناً في ارتياد آفاق المجهول: والإسلام يدفعه إلى هذا دفعاً.. ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده، لأنه لا حاجة به إلى ارتياده. وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه، ولا حكمة في إعانته عليه. لأنه ليس من شأنه، ولا داخلاً في حدود اختصاصه. والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله، قد تكفل الله سبحانه ببيانه له، لأنه أكبر من طاقته. وبالقدر الذي يدخل في طاقته. ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير.. فأما الذين اهتدوا بهدى الله، فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه الله لهم في كتبه وعلى لسان رسله. وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق، وحكمته في الخلق، والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح. وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم. واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها، على هدى من الله، متجهين إليه، مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وأما الذين لم يهتدوا بهدى الله فانقسموا فرقتين كبيرتين: فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى: والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة. وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلاً شاهقاً لا غاية لقمته، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء! وكانت لهم تصورات مضحكة – وهم كبار فلاسفة – مضحكة حقاً حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن. مضحكة بعثراتها. ومضحكة بمفارقاتها. ومضحكة بتخلخلها. ومضحكة بقزامتها بالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها.. لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار، ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير. ولا فلاسفة العصر الحديث! وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود. فهذه فرقة. فأما الفرقة الأخرى، فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة. فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي. ضاربة صفحاً عن المجهول.، الذي ليس إليه سبيل. وغير مهتدية فيه بهدى الله. لأنها لا تستطيع أن تدرك الله! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح، على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع ((مجهول الكنه)) ويكاد يكون مجهول القانون! وبقي الإسلام ثابتاً على صخرة اليقين. يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير. ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض. ويهيئ لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن. ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول!)) (1) .   (1) في ظلال القرآن (6/3731) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 الوجه الرابع : ويكشف مجال العقل ودوره في الإسلام فيقال: ((إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ، ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة. وليس دور العقل أن يكون حاكماً على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض –بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها: أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص – ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها- بعد إدراك مدلولها، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له – ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان.. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها.. إن هذه الرسالة تخاطب العقل.. بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج النظر الصحيح.. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفاً له أو غريباً عليه.. إن دور العقل – في هذا الصدد – هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص. وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره.. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل. فهذا النص من عند الله، والعقل ليس إلهاً يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير.. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة.. أو ممن يريدون إلغاء العقل، ونفي دوره في الإيمان والهدى.. والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا.. من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات، وفي شؤون الحياة كلها. فإذا أدرك مقرراتها – أي إذا فهم ماذا يعني النص – لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ.. فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها. وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات، وفق مفهوم نصوصها.. مناقشتها ليقبلها أو يرفضها. ليحكم بصحتها أو خطئها.. وقد علم أنها جاءته من عند الله. الذي لا يقص إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير. والمنهج الصحيح في التلقي عن الله، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة – بعد أن يدرك المقصود بها – بمقررات له سابقة عليها، كونها لنفسه من مقولاته ((المنطقية)) ! أو من ملاحظاته المحدودة، أو من تجاربه الناقصة.. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي- قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة – ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين- متى صح عنده أنها من الله- إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص!.. إن العقل ليس إلهاً، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله)) (1) .   (1) ظلال القرآن (2/806) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 قال الشيخ محمد قطب: ((يمنح الإسلام العقل مجالاً واسعاً للعمل هو أوسع مجال سليم للعقل منحه إياه نظام من النظم أو عقيدة من العقائد وفي الوقت نفسه يمنعه من مجالات بعينها ويحظر عليه التفكير فيها أو ينكر عليه حق التفكير. وهي أمور ثلاثة: التفكير في ذات الله والتفكير في القَدَر والتشريع من دون الله)) ((وإذا جاوزنا هذه الأمور الثلاثة التي نصح العقل ألا يتناولها كقضية الذات الإلهية وقضية القدر أو منع منعاً جازماً منها كقضية التشريع فكل المجالات الأخرى مباحة للعقل ومتاحة له بل هو – في الإسلام – مدعو إليها دعوة صريحة ويعتبر مقصراً إذا لم يقم بها. وهناك خمسة مجالات رئيسية يدعى العقل للعمل فيها في ظل الإسلام. أولاً: في قضية الإيمان يخاطب الإسلام الإنسان كله، بكل جانب من جوانبه، ويركز على الجانب الوجداني لأن العقيدة دائماً تخاطب الوجدان وتحيى فيه وتتحرك به، ولكنه يخاطب العقل كذلك في ذات الوقت، ويستنهضه للتفكر والتدبر والتأمل، لتتآزر جوانب الإنسان كلها للوصول إلى الحقيقة، حقيقة الألوهية، وما يترتب على معرفتها من التزامات في كل مجالات الحياة والشعور والفكر والسلوك. يخاطبه ليتدبر في آيات الخلق.. خلق الكون وخلق الإنسان.. هل من خالق غير الله؟ (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خلقوا السماوات والأرض. بل لا يوقنون) (خلق السموات بغير عمدٍ ترونها. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم. وبث فيها من كل دابة. وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه. بل الظالمون في ضلال مبين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وما زال هذا التحدي قائماً.. وسيظل قائماً إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.. وكل محاولات الجاهلية المعاصرة أن تزيغ عن مجابهة التحدي، بالقول بالمصادفة تارة، وبالخلق الذاتي تارة، وبأي كلام تارة أخرى إنما هي محاولات متهافتة لا يقبلها ((العقل)) لو تجرد للتفكر بغير ضغوط وبغير شهوات! والإسلام يخاطب العقل ليتجرد في تفكره، وليصل إلى النتيجة الموضوعية العلمية التي يدل عليها كل ما في السماوات والأرض من شيء، ويتخلى عن الهوى الذي يعمي وعن الكبر الذي يضل.. فيجد الحقيقة بارزة تملأ اليقين. (أفمن يخلق كمن لا يخلق. أفلا تذكرون) (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض..) وكما يخاطبه ليستيقن –بطرق استدلالاته الخاصة من استقراء واستنباط وقياس ومنطق.. الخ – من حقيقة الألوهية وتفرد الله بالخلق والتدبير.. يخاطبه ليرتب على يقينه ذلك ما يستتبعه من تبعات.. فإذا كان الله متصفاً بتلك الصفات التي استدل عليها وتيقن منها فمن الجدير بالعبادة غيره، ومن الجدير بالطاعة غيره؟ . كذلك يخاطبه ليستيقن من الحق الذي خلقت به السماوات والأرض، وما يستتبع هذا الحق من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً. ذلك ظن الذي كفروا..) (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم. ويتفكرون في خلق السموات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته. وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا. وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 إن الله الذي صفاته هي تلك التي عرفها العقل واستيقن منها لا يمكن عقلاً أن يخلق شيئاً عبثاً، أو أن يخلق شيئاً باطلاً، إنما يخلق كل شيء بالحق، والحق يقتضي أن يكون هناك يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الحياة الدنيا، لأنه لا يتم الجزاء الحق في الحياة الدنيا كما يرى الإنسان بنفسه.. فكم من ظالم ظل يظلم حتى مات، وكم من مظلوم ظل مظلوماً حتى مات. فلو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف فأين الحق؟ إنما يحق الحق حين يبعث الناس فيحاسبون على السيئة والحسنة، ويأخذ كل إنسان جزاءه بالحق.. وإذا كان الأمر على هذه الصورة فإن ((العقل)) يقتضي أن يحسب الإنسان لهذا اليوم حسابه، وأن يعمل من الأعمال ما يقربه من الجنة ويبعده عن النار.. وألا تفتنه اللذة العاجلة عن النعيم المقيم. (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة. فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) . وهذه الأمور كلها يخاطب فيها الوجدان – مع العقل – لتترتب عليها حركة سلوكية واقعية، ولكن العقل فيها واضح لا يحتاج إلى تأكيد. ثانياً: يوجه العقل بعد ذلك إلى تدبر آيات الله في الكون للتعرف على أسراره. للتعرف على خواص ذلك الكون، لإمكان تسخيرها لعمارة الأرض. والتسخير قائم من عند الله ابتداء، (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) ولكن تحقيق هذا التسخير في عالم الواقع لا يتم بمجرد رغبة الإنسان في ذلك، فهو ليس إلهاً يقول للشيء كن فيكون. إنما يتحقق هذا التسخير بجهد معين يبذله الإنسان. جهد عقلي يتعرف به الإنسان على أسرار الكون وخواصه، وجهد عضلي يطبق به الإنسان ثمار معرفته في صورة عمل منتج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وكل ذلك يوجه العقل لأدائه. بل هو ميدانه الأصيل الذي تتجلى فيه كل عبقريته، والذي لا يشاركه فيه غيره. وليس معنى ذلك أنه في هذا الميدان لا يخطئ ولا يتوهم، فكثيراً ما يقع في الخطأ والوهم كما بين تاريخ العلوم، ولكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلى الحقيقة فيما قدر الله أن يكشف له من أمور هذا الكون. ولكنه يوجه إلى ذلك بعد أن يوجه إلى التعرف على الخالق، وعلى كل قضايا العقيدة. ولذلك حكمة واضحة. فالعقل البشري ما لم يعوقه معوق- كما كان من أمر الكنيسة الأوروبية وحجرها على العقل أن يفكر – مفطور بطبعه على التفكير فيما حوله، واستنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجاته، ثم تحسينها ومحاولة الوصول بها إلى أقصى حد من الإتقان والفاعلية، من أجل الحصول على القدر من ((المتاع)) الذي قدره الله للإنسان في الأرض. (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) . ولكن العبرة في حياة ((الإنسان)) ليست بمجرد العمارة المادية للأرض، ولا مجرد الحصول على المتاع من أي لون ومن أي طريق، إنما ((الإنسان)) خلق لشيء أرفع من ذلك وأسمى.. خلق لحمل ((الأمانة)) التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها. وحملها الإنسان..) وحمل الأمانة لا يتم بمجرد العمارة المادية ولا المتاع الحسي.. إنما يتم بإقامة ذلك كله على أساس من ((القيم)) .. والقيم الحقيقية هي التي حواها المنهج الرباني للحياة. ومن ثم كان لابد من توجيه العقل أولاً –والكيان الإنساني كله في الحقيقة – للتعرف على الله والإيمان به وطاعته، حتى إذا جاء العقل يتعرف على الكون، ويعمل على تسخير طاقاته في عمارة الأرض، كان مهتدياً بالهدى الرباني، فأقام عمارة الأرض على أساس المنهج الرباني الذي به وحده تصلح الحياة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وقد مر بنا في هذا الفصل وما قبله كيف صارت الأرض حين قامت عمارتها المادية على ((قيم)) أخرى غير القيم التي قررها الله وأمر بإقامتها في الأرض. وحاضر الجاهلية المعاصرة غني عن الإشارة وغني عن التعليق. فتوجيه العقل – في الإسلام- إلى التعرف على السنن الكونية من أجل عمارة الأرض بعد توجيهه إلى الإيمان بالله، هو المنهج الصحيح لتنشئة ((الإنسان الصالح)) الذي تسعى البشرية –نظرياً- إلى تنشئته، ولكنها تخفق دائماً حين تتنكب المنهج الرباني، وتنشئ من عندها مناهج تؤدي إلى البوار. وإن كان لنا من شيء نذكر به أو نعيد التذكير به في هذا المجال، فهو أن الأمة المسلمة –بتوجيه الإسلام- هي التي أنشأت المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي قامت عليه كل نهضة أوروبا العلمية فيما بعد، ولكنها تفردت في التاريخ بأنها هي التي أنشأت حضارة ((إنسانية)) حقيقية، تمثل ((الإنسان)) كله لا جانباً واحداً من جوانبه وتمثله متوازناً كما ينبغي للإنسان، لا العمل في الدنيا يشغله عن الآخرة، ولا المتاع الحسي يشغله عن المتاع الروحي المتمثل في العبادة، وفي الجهاد لإقامة الحق والعدل في الأرض. ولا رؤية الأسباب الظاهرة تفتنه عن السبب الحقيقي، ولا العلم يفتنه عن الدين.. إلى آخر تلك الانحرافات التي وقعت فيها الجاهلية الأوروبية حيث رفضت الهدى الرباني وجعلت ((عقلها)) يرسم لها الطريق!. ثالثاً: يوجه العقل في الإسلام إلى تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه. ومن أجل الاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد. وحقيقة إن هذا في الإسلام فرض كفاية لا فرض عين، لأنه لا يتيسر لكل الناس –وإن كانوا مؤمنين – أن يتفقهوا في أحكام الدين. إنما الفقهاء لهم استعداد خاص، ويحتاجون إلى دربة خاصة لا تتاح لكل إنسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 ولكن فرض الكفاية معناه أن يتخصص له فريق من الأمة –ممن يحملون الاستعداد وينالون الدربة – فيسقط التكليف عن الآخرين. فإن لم ينتدب له أحد من أفراد الأمة فهي كلها آثمة حتى تهيئ من يقوم عنها بهذا الأمر. (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) وإعمال العقل لتدبر حكمة التشريع أمر واضح الضرورة وواضح الحكمة. فالتشريع أولاً لا ينطبق انطباقاً آلياً على كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر. إنما يحتاج الأمر إلى إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم، ولمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه. ثم إن هذه الشريعة التي نزلت لتواكب حياة البشرية كلها منذ نزولها إلى قيام الساعة، قد روعي فيها أن تواجه الثابت والمتغير حياة الناس. فأما الثابت –الذي لا يتغير، أو لا ينبغي أن يتغير لأن تغييره يحدث فساداً في الأرض- فقد أتت فيه الشريعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتفصيلات وافية تشمل الأصول والفروع والكليات والجزئيات. وأما المتغير – الذي يجد في حياة الناس بحكم التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي وما ينشأ عن ذلك من علوم وتطبيقات وتحويرات في أنماط الحياة، والذي أذن الله فيه بالتغيير لأن ثباته يجمد الحياة ويوقف نموها- هذا المتغير لم تتناوله الشريعة بالتفصيل –بحكم تغيره الدائم- إنما وضعت له الأسس التي ينمو نمواً سليماً في داخل إطارها، وتركت للعقل المؤمن المهتدي بالهدى الرباني، المتفقة في أمور الدين، أن يستنبط له من الأسس الثابتة ما يناسبه في كل طور من أطواره. لذلك كان الفقه عملاً دائم النمو لا يتوقف، ولا يجوز له أن يتوقف.. لأنه إذا توقف فليس لذلك من نتيجة إلا أن تجمد الحياة أو تخرج من إطار الشريعة الربانية الحكيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 ولقد قام العقل الإسلامي في ميدان الفقه في فترة نشاط هذه الأمة وحيويتها بجهد رائع، ما زال يُعد تراثاً إنسانياً ثميناً إلى هذه اللحظة، رغم ما أصاب الأجيال المتأخرة من الجمود، وما أصاب الأجيال الأخيرة من الإعراض!. والذي يطلع على هذا الفكر يدرك مدى شمول هذه الشريعة وحيويتها وقدرتها على مواكبة النمو البشري من جهة، ويدرك من جهة أخرى ما قام به العقل الإسلامي المفكر من فتوحات في هذا الباب، كانت كلها وليدة توجيهات الإسلام. رابعاً: ترد في كتاب الله مجموعة من السنن التي يجري الله بها قدره في حياة البشر. وترد الإشارة المكررة بأن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، ولا تتوقف محاباة لأحد من الخلق. ويوجه العقل إلى تدبر هذه السنن من أجل إقامة المجتمع الصالح الذي يتمشى مع مقتضياتها ولا يصادمها. فالحياة البشرية ابتداء ليست فوضى بلا ضابط. إنما يضبطها نظام رباني دقيق، يسير بحسب سنن ثابتة، ترتب نتائج محددة على السلوك البشرى في جميع أحواله. ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتبين السلوك الصائب الذي ينبغي أن يسلكه، كما يتبين النتائج المتوقعة من سلوكه، لا رجماً بالغيب، ولكن تحقيقاً لسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير. وهذه السنن تتناول حياة الجماعة، فهي سنن اجتماعية في غالبها، أما ما يرد بشأن الفرد فغالباً ما يكون متعلقاً بالجزاء الذي يجزاه في الآخرة لقاء عمله في الدنيا، وإن كان بعض السنن يأتي فيه ذكر المفرد كقوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 خامساً: يوجه العقل إلى دراسة التاريخ: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها. وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) . وواضح أن دراسة التاريخ المطلوبة هي للعبرة لا للتسلية وتزجية الفراغ، ولكن ينبغي أن نعرف مواطن العبرة من دراسة التاريخ.. إن السنن الربانية التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، والتي يجري قدر الله بمقتضاها في حياة البشرية، والتي قلنا إن العقل البشري مدعو إلى تدبرها والتفكر فيها من أجل إقامة المجتمع الصالح القائم على المنهج الرباني.. هذه السنن – بطبيعتها –نادراً ما تتحقق بتمامها في داخل عمر الفرد المحدود، لأن السنن الاجتماعية بطبيعتها تستغرق أجيالاً متوالية حتى يتم التحول الاجتماعي سواء إلى الخير أو إلى الشر (فيما عدا القلة النادرة التي تقتضي حكمة الله فيها تحقيق سنة بكاملها في أمد قصير، تأييداً لنبي أو تمكيناً لجماعة مؤمنة، كما حدث مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبناء هذه الأمة الشامخة في سنوات قصار) . وانظر مثلاً إلى هذه السنة: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 فالجزء الأول من هذه السنة يمثل الواقع الأوربي في وقته الحاضر.. نسوا ما ذكروا به، وكفروا وجحدوا، ففتح الله عليهم أبواب كل شيء، من قوة سياسية وقوة عسكرية وقوة عملية وقوة تكنولوجية وقوة اقتصادية.. وكل ما يمكن أن يدخل في ((أبواب كل شيء)) . وهذا الجزء وحده من هذه السنة قد استغرق قرنين كاملين من الزمان، ولد فيه أفراد –بل أجيال- قضوا أعمارهم في هذه الحياة ورحلوا، ولما تتحقق بقية السنة المذكورة في الآية، (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) ! بل توهم أناس في وقت من الأوقات أن هذه الأبواب المفتوحة ستظل مفتوحة إلى الأبد لا تغلق ولا تتهدم على أصحابها مهما ارتكبوا من آثام!. واليوم بدأ مفكرو الغرب أنفسهم يدركون أن ((حضارتهم)) آيلة إلى الانهيار.. وبدءوا ينذرون قومهم إذا استمروا في البعد عن ((القيم الروحية)) كما يسمونها (1) أن يصيبهم الدمار الذي أصاب أمماً من قبلهم.. ولكن كم يستغرق ذلك من الزمان؟ جيلاً أو أجيالاً كما استغرق تحقيق الجزء الأول من سنة الله!. لذلك يوجه الله ((العقل)) أن يتدبر التاريخ! فالتاريخ هو المجال الواسع الذي تتحقق فيه السنن الربانية بأكملها، سواء منها ما يتحقق في عمر الفرد وما يتحقق في عمر الأجيال، والأغلب هو الأخير!.   (1) لأنهم مازالوا في جاهليتهم يكرهون أن يذكروا الدين باسمه الصريح! . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 تدبر التاريخ إذن هو في الواقع تدبر السنن الربانية في واقعها التاريخي الذي يمتد خلال القرون، وبرؤية الطريقة الواقعية التي تتحقق بها تلك السنن في حياة الأمم والأفراد، لتتحقق العبرة الكاملة في نفوس الناس، فيسايروا هذه السنن ولا يصادموها، ولا يقول قائل لنفسه –على سبيل المثال- ها أنذا قد عشت في المجتمع الفاسد عمري كله وشاركته الفساد فلا أنا أصابني الدمار ولا المجتمع الذي عشت فيه! ولا يقول قائل لنفسه لماذا أجهد نفسي في تقويم المجتمع من انحرافه الخلقي أو الفكري أو الروحي.. ما دام هذا المجتمع يملك القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الاقتصادية التي تسنده وتمنعه من الدمار! ولا يقول قائل لنفسه: ما قيمة ((القيم)) ؟ وما فائدة ((الدين)) ؟ وما معنى ((الأخلاق)) ؟ إذا كان يمكن للمجتمع أن يعيش متماسكاً قوياً بغير ذلك كله عدة قرون؟!. تلك عبرة دراسة التاريخ)) (1) . ويقول الدكتور فهد الرومي: ((ليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني وتعتز به وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية، وليس ثمة كتاب أطلق سراح العقل وغالى بقيمته وكرامته كالقرآن الكريم كتاب الإسلام بل إن القرآن ليكثر من استثارة العقل ليؤدي دوره الذي خلقه الله له. ولذلك نجد عبارات (لعلكم تعقلون) و (لقومٍ يتفكرون) و (لقومٍ يفقهون) ونحوها تتكرر عشرات المرات في السياق القرآني لتؤكد النهج القرآني الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل. ولقد أبرز الإسلام مظاهر تكريمه للعقل واهتمامه به في مواضع عدة نذكر منها:- أولاً: قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي: فلم يطلب الإسلام من الإنسان أن يطفئ مصباح عقله ويعتقد بل دعاه إلى إعمال ذهنه وتشغيل طاقته العقلية في سبيل وصولها إلى أمور مقنعة في شؤون حياتها، وقد وجه الإسلام هذه الطاقة بتوجيهات عدة لتصل إلى ذلك:   (1) مذاهب معاصرة (533-551) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 فوجهها إلى التفكر والتدبر. في كتابه. (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) . ثم يستثير العقل الإنساني ويتحداه أن يأتي بمثل هذا القرآن حتى إذا ما أدرك عجزه عرف أنه من عند الله (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين) . وفي مخلوقاته: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون) (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) . ثم يتحدى العقل بحواسه أن يجد خللا في شيء منها ليزداد بعد عجزه إيماناً وتسليماً (الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) وفي تشريعاته: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) . فأمر بالتفكر في تلك التشريعات لتحري الحكمة فيها لأن الحياة لا تسير آلية بحيث تنطبق عليها القاعدة التشريعية انطباقاً آلياً، وإنما هناك مئات من الحالات للقاعدة الواحدة، وما لم يكن الإنسان مدركاُ للحكمة الكامنة وراء التشريع وفاهماً لترابط التشريعات في مجموعها فلن يتمكن من تطبيقها في تلك الحالات المختلفة التي تعرض للبشر في حياتهم الواقعية وقد عني الإسلام بإيقاظ العقل لتدبر هذه التشريعات ليستطيع تطبيقها على خير وجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وفي أحوال الأمم الماضية وما أدت بهم المعاصي إليه: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين) . هـ- وفي الدنيا ونعيمها الزائل: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً) . وهذا التأمل والتدبر ليس هو المقصود لذاته وإنما ليؤدي ثمرة نافعة لا أعني بها فلسفة يتشدق بها الفلاسفة ويتبارون في إغماض الكلام فيها وإبهامه ثم لا ينتهون إلى شيء، وإنما أعني بها الإصلاح … إصلاح القلب.. إصلاح العقيدة … إصلاح الحياة في الأرض على منهج الدين الصحيح. 2- ووجه الإسلام الطاقة العقلية لمراقبة نظام الحياة الاجتماعية مراقبة توجيه وإصلاح لتسير الأمور على منهج صحيح (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) . وحمل المسؤولية كل فرد من أفراد المجتمع وهدده بالعقاب إذا علم ولم يصلح ولو كان صالحاً في نفسه (واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) . وقال - صلى الله عليه وسلم - ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 ثانياً: ولم يقصر الإسلام بعد هذا العقل على الإيمان وإنما ترك له الخيار بين الإيمان والكفر (لا إكراه في الدين) (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر) فلم يكره الإسلام العقل على الإيمان (1) .   (1) ولا يقصد بلا إكراه في الدين- التقليل من شأن الجهاد كما حصره بعضهم بأن المراد به الدفاع وعللوا كل حركة بأنها للدفاع بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق فأسقطوا – وهم مشتطون في حماسة الدفاع عن الإسلام ضد من اتهموه بأنه دين السيف – إن للإسلام بوصفه المنهج الأخير للبشرية حقه الأصيل في أن يقيم ((نظامه)) الخاص في الأرض. فـ (لا إكراه في الدين) من ناحية العقيدة أما من ناحية إقامة ((النظام الإسلامي)) ليظلل البشرية كلها مسلمين وغير مسلمين فتوجب الجهاد لإنشائه وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة ولا يتم هذا إلا بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام خير يحسب حسابه كل من يفكر في الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد في الأرض)) أهـ. ... ((بتلخيص من خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)) لسيد قطب ص 18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 ثالثاً: وحرص على قيام العلاقة بين العبد وربه على الوضوح العقلي في العقيدة والشريعة وعدم تقييده له بعد اقتناعه وإيمانه بالرهبانية فلا رهبانية في الإسلام (1) لما فيها من تقييد للعقل (2) فضلاً عن الغرائز والحواس ولما فيها من تعطيل للطاقة والقوى البشرية والمخالفة لنظام الحياة مخالفة تقضي بالفناء على البشر فيما لو اعتنق الناس الترهب والانعزال ديناً. رابعاً: ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل نعيه على المقلدين الذين لا يُعملون أذهانهم وحذر من التقليد الأعمى والتعصب الأصم لنظريات واهية وآراء زائفة ناشئة عن الخرافات والأهواء (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) (فلا تكُ في مريةٍ مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) .   (1) لما روى أحمد في مسنده 6/226 (( … .فقال يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا أفمالك فيَّ أسوة.. الحديث ولما روى الدارمي في سننه ك النكاح ب3 من حديث سعد بن أبي وقاص قال (( … يا عثمان إني لم أؤمر بالرهبانية أرغبت عن سنتي)) وعثمان هذا هو ابن مظعون رضي الله عنه. (2) ولا يصح القول بأن الرهبانية تفتح آفاق العقل وتضمن له الصفاء للتفكير بل النزول إلى معترك الحياة هو الذي يزيد العقل اشتعالاً ويوري زناده ويفتح له أبواب التفكير عكس الرهبانية التي تخبو فيها نار العقل لانطواء صاحبها على نفسه واعتزاله المجتمع، فتؤدي إلى خمود الذهن وعدم الاطلاع على المعارك الضارية بين الخير والشر وبين الإيمان والكفر وعلى كيد الملحدين ومكر الماكرين والرد على ذلك والنزول إلى معتركهم وحلبتهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وأمر بالتثبت في كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) . خامساً: ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل أمره بالتعلم والحث على ذلك فكما أن نمو الجسم بالطعام فإن نمو العقل بالعلم إذ بهذا يكون الإيمان عن إدراك أوسع وفهم أعمق وإقناع أتم، بل قرن سبحانه ذكر أولي العلم بذكره عز وجل وذكر ملائكته (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ) . وجعل العلم مشاعاً لأنه غذاء العقل الذي به ينمو (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) . لذا لم يعرف الإسلام ((رجل الدين)) الذي يحتكر علومه ويعطي صكوك الغفران ويملك التحليل والتحريم ولكنه يعرف فكرة ((عالم الدين)) الذي يرجع إليه لمعرفة حكم الله فيما اشتبه على الناس من أمور دينهم مستنداً إلى دليل معتبر شرعاً من غير إلزام إلا بحجة قطعية من كتاب أو سنة أو إجماع مسلم به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 سادساً: ومن ذلك إسناده استنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع إلى العقل وما حديث معاذ عنا ببعيد حين بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قاضياً قال: ((كيف تقضي يا معاذ؟)) قال: بكتاب الله قال: ((فإن لم تجد)) قال: سنة رسول الله. قال: ((فإن لم تجد)) قال: أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)) (1) فجعل من اجتهاد العقل أساساً للحكم وقاعدة للقضاء عند فقدان النص. سابعاً: ومنها الأمر بتكريمه والمحافظة عليه والنهي عن كل ما يؤثر في سيره أو يغطيه فضلاً عما يزيله. فحرم لذلك شرب الخمر (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من علم الشيطان فاجتنبوه) وحرم كل مسكر ((كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)) (2) وامتد التحريم إلى الكمية التي لا تسكر منها ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) (3) كل هذا حفاظاً على العقل وعلى بقائه.   (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي، وضعفه الألباني في (السلسلة الضعيفة 2/274) لإرساله وجهالة بعض رواته في بحث طويل له. (2) رواه مسلم. (3) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حسن غريب وابن حبان. ... وصححه وقال الحافظ بن حجر رجاله ثقات (صحيح أبي داود 3128) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وجعل الدية كاملة على من تسبب في إزالته عن آخر، قال ابن قدامة (لا نعلم في هذا خلافاً وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء وفي كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم ((وفي العقل الدية)) ولأنه أكبر المعاني قدراً وأعظم الحواس نفعاً فإن به يتميز من البهيمة ويعرف حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس) (1) . ولكن الإسلام بعد هذا التكريم كله وذلك الاهتمام قد حدد للعقل مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل. وفي هذا تكريم له أيضاً لأنه محدود الطاقات والملكات فلا يستطيع أن يدرك كل الحقائق مهما أوتي من قدرة وطاقة على الاستيعاب والإدراك، لذا فإنه سيظل بعيداً عن متناول كثير من الحقائق وإذا ما حاول الخوص فيها التبست عليه الأمور وتخبط في الظلمات وفي هذا مدعاة لوقوعه في كثير من الأخطاء وركوية متن العديد من الأخطار. فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والامتثال للأمر الشرعي الصريح حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك، وقد كانت أول معصية لله ارتكبت بسبب عدم هذا الامتثال فحينما أمر الله سبحانه وتعالى إبليس بالسجود لآدم عليه السلام استكبر وعصى واستبد برأيه فقارن بين خلقه وخلق آدم عليه السلام (قال أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين) فلم يمتثل للأمر طلباً للسبب الذي يسجد لأجله الفاضل للمفضول حسب رأيه، فلما لم يدرك عقله السبب رفض الامتثال فكانت المعصية وكانت العقوبة.   (1) المغني لابن قدامة (8/37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 لذا منع الإسلام العقل من الخوض فيما لا يدركه ولا يكون في متناول إدراكه كالذات الإلهية والأرواح في ماهيتها ونحو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)) (1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله ورسله)) (2) . وعن الروح قال تعالى: (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) فصرف الجواب عن ماهيتها لأنه ليس من شؤون العقل السؤال عنها ولا من مداركه وكذلك الجنة ونعيمها والنار وجحيمها وكيفية ذلك وغيرها من المغيبات التي ليست في متناول العقل ومداركه)) (3) . ويقول الشيخ ناصر العقل –حفظه الله-: ((قيمة العقل في الإسلام)) : قد يتبادر لأذهان البعض، عند ما يقرأ مثل هذا البحث، في ذم الاتجاهات العقلية – أن الإسلام، يمقت العقل والفكر، أو يستنقص منهما ويهضمهما قيمتهما، وأننا إنما نذم أصحاب الاتجاهات والفرق العقلية لمجرد أنهم استعملوا عقولهم، التي وهبهم الله.   (1) رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص 159 وأسانيدها ضعيفة لكن اجتماعها يكتسب قوة والمعنى صحيح. والحديث صححه الألباني –رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (1788) . (2) رواه البخاري ومسلم. (3) منهج المدرسة العقلية (29-39) وكتاب الدكتور الرومي هذا من أجود الكتب التي درست منهج المدرسة العقلية في التفسير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 والحق: أن الأمر ليس كذلك، لأن الإسلام بحق قد رفع قيمة العقل وأعلى من شأنه، وجعل التعقل والتفكير فريضة إسلامية، يلزم كل مسلم أن يؤديها حقها، وجعل العقل هو مناط التكليف، ونعى على أولئك الذي لم يستعملوا عقولهم في معرفة الحق والهداية، فهلكوا. (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير) (1) . وإذا كان العقل هو وسيلة النظر، ووسيلة التفكير والتدبر، فقد جعل الله ذلك كله واجباً، مفروضاً على كل إنسان ومن تركه فهو آثم لا محالة قال تعالى: (فسيروا في الأرض فانظروا) (2) . وقد وردت في مواضع كثيرة. وقال تعالى في ذم الذين لا يعقلون: (وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون) (3) . وقد ورد هذا التوبيخ (أفلا تعقلون) في القرآن أكثر من أربع عشرة مرة. وقال تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (4) . وقد وردت في القرآن (لعلكم تعقلون) أكثر من سبع مرات. وقال تعالى: (ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون) (5) . وقال تعالى: (كذلك نفصل الآيات لقومٍ يعقلون) (6) . وإذا كان العقل وسيلة النظر والاعتبار فقد قال تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) (7) . وقال تعالى: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) (8) . وكذلك الأمر بالتفكر، قال تعالى: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) (9) . (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) (10) . (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنّة) (11) . (أولم يتفكروا في أنفسهم) (12) .   (1) 10-11) الملك. (2) 36 النحل) . (3) 80 المؤمنون) . (4) 2، يوسف) . (5) 62، يس) . (6) 28، الروم) . (7) 2، الحشر) . (8) 101، يونس) . (9) 219، البقرة) . (10) 50، الأنعام) . (11) 184، الأعراف) . (12) 8، الروم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وقد ذكر التفكر في القرآن في أكثر من سبعة عشر موضعاً. وقد ذم الله أولئك الذين يتابعون آباءهم دون تعقل ولا تفكير. فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) (1) . وقال تعالى: (إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يُهرعون) (2) . والإسلام إنما كرّم الإنسان وفضله على سائر المخلوقات بل جعله سيد الكون بالعقل، وبالعقل سخّر له ما في السماوات وما في الأرض وجعله خليفة فيها يعمرها. فهل يبقى بعد ذلك شك عند أحد في أن الإسلام يحترم العقل ويقدره كل التقدير؟ ثم إن الإسلام عندما حظر على العقل التفكر في ذات الله تعالى، والخوض في أمور الغيب، وألزمه بالتسليم والتوقف عند كل ما ورد عن الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم -، مما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، وما يتعلق بالغيب كله- إنما فعل ذلك إشفاقاً على هذا العقل الكريم من العماية في متاهات المجهول. ثم إن الإسلام في الوقت نفسه فتح للعقل البشري مجالات الانطلاق الواسع في حدود الواقع في حياته هو والمخلوقات من حوله، بل وفي الأرض كلها والسماء، وهذا الكون الرحب الواسع الفسيح. فللعقل البشري أن يبدع، وأن ينظر ويحكم، وأن يتفكر ويعتبر ما وسعه الإبداع والنظر والتفكر والاعتبار، عليه أن يفعل ذلك كله، وله مع ذلك عليه الأجر والمثوبة إذا هو امتثل أمر الله. أما الغيب والتفكر في ذات الله، بأكثر مما ورد عن الله، فإنه ليس بمقدور العقل، وليس من وظيفته أن يفعل ذلك، وإن فعل ذلك خرج عن نطاق الواجب عليه، ولن يعود عليه فعله إلا بالحرج والعنت العقلي والنفسي، والخروج عن نطاق مصلحة الإنسان في معاشه ومعاده.   (1) 170، البقرة) . (2) 69، 70 الصافات) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 والعقلية الحديثة، هي التي دعت أتباعها إلى الخوص في أمور الغيب ومعارضة أمر الله، ولم تسلّم بما جاء عن الله تعالى، مما هو خارج عن نطاق العقل، وأقحمته فيما لا طاقة له به، ونحن نذمها من هذا الوجه. فإن مُقْتَضى الإيمان بالغيب:- التسليم لله فيه، بما ورد في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والإنسان في هذا العصر أكثر العصور تقدماً في الكشوف والاختراعات- أعلن عجزه وقصوره عن إدراك أكثر حقائق الكون وكُنْهِ طاقاته، حتى تلك الأشياء التي يمارسها ويعيشها ويومياً، إن العقل يجهل نفسه، ويجهل الروح التي تُمدّه بالحياة بأمر الله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) (1) . (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) (2) . فإكراماً لهذا الإنسان، وإشفاقاً عليه، وعلى عقله المحدود، من التشرد والتبدد والتيه، وإشفاقاً عليه بعد ذلك من الضلال والهلاك، وسوء العاقبة، أراحه الله من الخوض في الغيب بعقله؛ فجاءه الوحي يخبره عما فيه صلاحه من أصول العقيدة السليمة، ومسائل الغيب، ورسم له سبيل الخير والسعادة في الدنيا، وأطلق لعقله فيما عدا ذلك الحرية كل الحرية. فقد فتح الإسلام للعقل من مجالات البحث والفكر والتأمل والنظر في ملكوت السماء والأرض، ما يكفي لانشغال العقل، وإشباع رغبة التطلع والإنتاج المفطورة فيه)) (3) . ويقول الشيخ عبد الرحمن الزنيدي – حفظه الله -:   (1) 21، الذاريات) . (2) 85، الإسراء) . (3) المدرسة العقلية الحديثة في ضوء العقيدة الإسلامية، بحث مرقوم على الآلة الكاتبة لنيل درجة الماجستير من جامعة الإمام. (ص18-22) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ((لعل من أبرز السمات التي امتاز بها الدين الإسلامي عن سائر المذاهب والأديان الأخرى، هو ذلك المقام السامي الذي وضع الإسلام العقل الإنساني فيه والدور الجليل الذي أناطه به، والآفاق الواسعة التي فتحها أمامه، بشكل لم تصل المذاهب البشرية إليه حتى تلك المذاهب التي تنادي بأنها حررت العقل البشري، وأطلقته من آساره، واحتكمت إليه، هي في الحقيقة التي سخرت منه، واستهانت به: فمن جانب دفعته إلى الإيغال في مجالات ليست من اختصاصه فتاه فيها وضل. ومن جانب آخر تجد هذه المجتمعات العلمانية – التي تدعى أنها تحكم العقل في أمورها- قد نبذته وراءها ظهرياً، فأحكامه وتقريراته في جانب وواقعها في جانب آخر، فالعقل يحكم بأن الخمر والزنا ضار ومفسد للجنس البشري والواقع يبيحها، بل ويحببها، والعقل يقول إن المرأة تختلف عن الرجل والواقع يقول يجب أن نجعلها كالرجل تماماً … ، فأي إهانة للعقل بعد هذا، ونعود لنقول إن أبعاد تلك المنزلة التي جعلها الإسلام للعقل تتلخص فيما يأتي: تعظيم الإسلام لعمل العقل في سبيل الوصول إلى الحقائق بطرق شتى منها: الثناء على أصحاب العقل الذين يستعملونه في الحكم على الأشياء والتعامل معها: فالله سبحانه يخاطب أصحاب العقول حينما يذكر أحكامه لأنهم هم الذين يفهمون أنها أحكام عدل وحق (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) (1) . وكذلك حينما يأمر بشيء فإنه يخصهم بالخطاب لأنهم يسارعون إلى امتثال أمر الله، والنهوض به، يقول سبحانه (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) (2) ،فقد خص أولي الألباب بعد حث جميع العباد على التقوى (3) .   (1) البقرة – 179. (2) البقرة، 197. (3) فتح القدير 1/201. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 ومدحهم بأنهم هم الذين يتذكرون موجبات الهدى، ودلائله، وينتفعون بها خلاف اللاهين الغافلين، يقول سبحانه (وما يذكر إلا أولوا الألباب) (1) ، وأثنى عليهم بأنهم هم الذين يعتبرون بقصص التاريخ وحوادث الحياة فيتخذون منها عبرة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) (2) ، وقال سبحانه بعد قصة لوط وقومه (ولقد تركنا منها آية لقوم يعقلون) (3) . جعله مدخلاً تأسيسياً لإثبات أخطر قضايا الدين وهي العقيدة: فقد جعل القرآن هذا العقل إذا تجرد عن الهوى والمصلحة والتأثر بالمحيط الخارجي الفاسد هو الطريق الموصل إلى الحق، وإثبات صحة العقيدة، وصدق النبوة يقول سبحانه (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بِصاحبكم من جِنّة، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) (4) . وإنها لدعوة جليلة إلى إعمال الذهن، وتشغيل الطاقة العقلية، لتقتنع بالحق فتأخذ به، وتعرف الزيف فترفضه، لا دعوة إلى إطفاء مصباح العقل، والاعتقاد على عمى فيما لا يقبله العقل كما في المسيحية الكنسية. ذم المقلدين الذين ألغو عقولهم: أزرى القرآن الكريم بمن عطلوا تفكيرهم وأغلقوا منافذ الهداية والمعرفة، وأخذوا أمور حياتهم عن طريق التقليد، والتبعية، والوراثة لآبائهم، ولما وجدوا عليه مجتمعاتهم، قال سبحانه (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (5) .   (1) البقرة 269، آل عمران 7. (2) يوسف آخر آية. (3) العنكبوت 35. (4) سبأ 46. (5) البقرة 170-171. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 فالله يشبههم بالأنعام التي تسمع صوت المنادي، ولا تفقه ما يقول، كل هذا بسبب جمودهم على ما هم عليه، وتعطيل عقولهم عن التفكر لتبحث عن الحق فتتبعه، فكان نتيجة اهدارهم هذه النعمة التي تميزوا بها عن البهائم أن أصبحوا مثلها، بل أحط منزلة (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) (1) . بيان عظيم ثمرات استخدام العقل: وقد بين القرآن أن من أبرز النتائج التي يحصل عليها العقل المتجرد إذا تفكر وتدبر: التوصل إلى الإيمان بوحدانية الله، والشعور بعظمته سبحانه، ومعرفة الحق الذي خلقت به السموات والأرض، يقول سبحانه (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذي يذكرون الله قياماُ وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) (2) . ولذلك يعقب سبحانه كثيراً بعد ذكر آياته في الأنفس والآفاق بقوله (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) – وكفى بهذه النتيجة نفعاً وعظمة. الثبات على الحق الذي توصل إليه، والاطمئنان القلبي الذي يصاحبه، خلافاً للذي انعدمت بصيرته فهو في أمر مريج، لا يستقر على حال، ولا يطمئن إلى وجهة معينة، فهو مشتت تتنازعه الأهواء، يقول سبحانه (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب) (3) . هـ- حثه على العلم والمعرفة التي تقود الإنسان في حياته العملية خلافاً لما عليه الجهلة: ولقد أثنى الله سبحانه على العلماء ورفع مقامهم، فقرنهم سبحانه بذكره حينما قال (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (4) . وقال سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) (5) .   (1) الأنفال 22. (2) آل عمران 190-191. (3) الرعد 19. (4) آل عمران 18. (5) فاطر من آية 28. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وقال سبحانه (يرفع الله الذي آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (1) . وحث العلماء على إشاعة المعرفة بين الناس، وتعليمهم الحق (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) (2) . الحث على تحريك العقل، واستثارة طاقاته في كل وقت، وعلى كل حالة بشتى الأساليب: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) (3) (أولم يتفكروا في أنفسهم) (4) (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء … ) (5) الآية. موافقة الإسلام للفطرة وإقناعه للعقل: خلق الله الإنسان على هيئة خاصة به لا يشترك فيها معه شيء من مخلوقات الله – (فجاء فذاً في هذا الكون، إن في تكوينه العضوي، أو في خاصيته الجوهرية- التي هي التفكير العقلي) (6) . ومن مميزات فردية هذا الإنسان أن الهيئة التي فطر عليها معجزة حيرت العلم القديم والحديث " حيث تمتزج الفرديات العقلية، والتركيبية والأخلاطية بطريقة غير معروفة للإنسان" (7) . كذلك فإن مما لاحظه علم الإنسان أن هذا المخلوق يشتمل على عوالم متفردة متعددة بتعدد أفراده، فكل فرد له خاصية لا يشاركه فيها غيره من بني البشر "كل فرد يدرك أنه فريد، وهذه الوحدانية حقيقية" (8) . ولقد قرر القرآن الكريم من قبل هذه الحقيقة، حقيقة تفرد الإنسان في خلقه وطبيعته ووظيفته: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (9) .   (1) المجادلة من آية 11. (2) البقرة 159-160. (3) يونس من 101. (4) الروم من 8. (5) الأعراف من 185. (6) الإنسان في العالم الحديث – جوليان هكسلي نقلاً عن الإسلام ومشكلات الحضارة – سيد قطب / (39) . (7) الإنسان ذلك المجهول (287) . (8) المصدر السابق (289) . (9) البقرة من آية 30. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً) (1) . (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (2) . والإنسان بهذه الطبيعة الخاصة التي فطر عليها، والسنن التي قام عليها وجوده يحتاج إلى نظام حياة خاص به يتسق مع ما فطر عليه، ويراعي هذه السنن فلا يصطدم معها. وهنا تبدو ميزة كبرى للإسلام عن غيره من المذاهب باتساقه مع فطرة الإنسان وتكوينه العقلي، يقول سبحانه (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (3) . قال العلماء "الفطرة هي الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل، التي هي معدة، ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه ويؤمن به" (4) . والله سبحانه هو الذي خلق هذا الإنسان، وهو أعلم بالسنن، والأسرار التي خلقه عليها، وقد أنزل له نظاماً شاملاً لجوانب حياته، ومطابقاً لهذه الفطرة وهو الإسلام" إذ هو في سننه وفروضه وأحكامه ومبادئه يشمل الفطرة كلها ويطابقها تمام المطابقة" (5) .   (1) الإسراء 70. (2) التين 4. (3) آية 30 الروم. (4) الجامع لأحكام القرآن (7/29) . (5) الإسلام في عصر العلم للغمراوي (23) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 فالإنسان أي إنسان يحس بجوع روحي عارم، ولم تستطع فلسفة أو منهج بشري أن يسد هذا الجوع، أما الإسلام فقد أشبع هذه الروح وسد هذه الجوعة وهذه حقيقة أقر بها حتى غير المسلمين، تقول الباحثة فاجليري (إن الناس ليشعرون بالحاجة إلى الدين، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون منه أن يكون ديناً يفي بحاجاتهم، قريباً من مشاعرهم، يقدم الأمن والراحة للحياة الدنيا كما يقدمها للآخرة، ويلبي الإسلام هذه الحاجات بدقة لأنه عقيدة وفلسفة للحياة، فهو يعلم التفكير الصحيح، والتصرف السليم، والكلام الأمين، ولذا يجد طريقه في غير صعوبة إلى كل من العقل والقلب الإنساني) (1) . ولعل من أبرز الجوانب التي جاء الإسلام بالقول الفصل فيها، وقد تاهت البشرية فيها، ولا تزال تائهة ضالة جانب تصور الكون المشهود وما وراءه. ذلك أن هذا الكون من حولنا ينطوي في تضاعيفه على أسرار كبيرة في بدئه ومصيره، والهدف من ورائه، والعقل البشري طلعة يقف أمام المجهول ليستبين منه ما استطاع غير قانع بالعالم المحس ومظاهره الواضحة، ولقد جاء الإسلام يحل هذه الألغاز فأعطى تصوراً عن الكون والحياة وخالقهما – يلبي فطرة الإنسان، ويجد فيه العقل ما يشبع نهمته -. وقد توهم البعض أن العلم المادي الذي قفز قفزاته الكبيرة إبان نهضة الغرب المعاصرة، سيجهز على الدين تماماً، ذلك أنه سيحل ألغاز الكون كلها وسيكتشف مجهولاته جميعها، فعند ذاك ينطفئ ذلك الشوق العقلي إلى ما وراء المجهول، وبذا تزول غريزة التدين.   (1) تفسير الإسلام لفاجليري (51) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 ولكن العلم أثبت – واقعا- عكس هذه النتيجة، إذ كلما زاد ما يكتشفه العلم من دلائل عظمة الكون وامتداده كلما انفتح معه أفق أوسع للسؤال عما يكتنفه من أسرار وغوامض " وأقرب مثال لذلك الذرة التي كانت إلى عهد قريب متماثلة الأجزاء، فظهر أنها مركبة من نوعين من الكهرباء – سالب وموجب- وأنه من الممكن تحطيمها وفصل أجزائها، فتعود قوة مجردة – طاقة – تحتاج إلى بحث عن مصدرها خارج هيكل الذرة المحطم (1) . وهكذا يعود الإنسان بعد تطوافه في الكون أكثر تساؤلاً عما يحيط به من رموز وأسرار، ويبقى "الإسلام" الذي أنزله خالق الكون والحياة والعليم بهما هو الذي يقدم الحل الناجع لهذه المشكلة، فيقنع العقل ويريحه من القلق والشقاء الذي يساوره أثناء وقوفه أمام هذه المجهولات. محاربة الإسلام للخرافات والعوامل التي تحطم العقل: جاء الإسلام والمجتمعات البشرية –خاصة العربية- تعج بأنواع الخرافات، والشعوذة، والأوهام التي استعبدت عقول الناس، وتلاعبت بها، من كهانة، وعيافة، وعرافة، وسحر، واعتقاد بتصرف بعض المخلوقات في أجزاء من هذا الكون، كالجن، والشياطين (2) . فحارب الإسلام هذه الخرافات، وحرر العقل البشري من سيطرتها، وتلاعبها به، جاء في صحيح مسلم ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) (3) . قال العلماء: هو من يذهب إلى من يدعي معرفة الأمور الغيبية، فيسأله على وجه التصديق لما يقول (4) .   (1) الدين لدراز (119) . (2) ليس هذا خاصاً بالمجتمعات القديمة، فحتى مجتمعات القرن العشرين –البعيدة عن هدى الله- ما تزال مرتعاً خصباً لهذه الخرافات مع بلوغها هذا الشأو البعيد في العلم المادي. (3) صحيح مسلم، كتاب السلام، حديث رقم 2230 جـ 4. (4) انظر مجموعة التوحيد 119 (قرة عيون الموحدين شرح كتاب التوحيد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وقال - صلى الله عليه وسلم - ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صَفَر وفر من المجذوم فرارك من الأسد)) (1) . فقوله: لا عدوى: نهي لهم عن الاعتقاد بأن المُعدي يخلق العدوى بالصحيح كما كان سائداً عندهم. ونهاهم عن التشاؤم بالطير، حيث كانوا ينصرفون عن المضي في مقاصدهم بسبب اتجاه الطير إلى الجهة المخالفة لاتجاههم، أو بسبب نوع الطير الذي يقابلهم فور خروجهم. والهامة: البومة: وكانوا يتصورون أن من وقعت على داره، فإنها تنذره بموت أحد أفراد عائلته- أو أن المقصود ما كانوا يتصورونه من أن روح المقتول- تخرج من القبر وتصيح مطالبة بأخذ الثأر من القاتل. وصَفَر: هو الشهر المعروف، وكانوا يعتقدون أنه شهر دماء، وقتل، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وقت كسائر الأوقات لا يقتضي بذاته شؤماً ولا ضرراً إلا ما يفعله الإنسان. وفي حديث آخر عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الرقى والتمائم والِتَولة شرك)) (2) . التميمة: شيء يعلق على الأولاد يعتقدون أنه يدفع عنهم الشياطين. والتولة: شيء يصنع، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها. عدا عن هذا فإن القرآن والسنة حينما يعرضان حوادث الطبيعة والكون فإنهما يبعدان الخرافات، ويربطان بين الحوادث ربطاً موضوعياً- بين المقدمات والنتائج، وبين الأسباب والمسببات -كما في قوله سبحانه (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله) (3) .   (1) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الجذام. (2) رواه أبو داود في كتاب الطب باب تعليق التمائم 4/112، وابن ماجه في نفس الكتاب والباب 7/1167. (3) الروم من آية 48. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وعندما كسفت الشمس في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك في اليوم الذي مات فيه (إبراهيم) ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظن الناس أن كسوف الشمس كان بسبب موت إبراهيم، ووصل هذا التعليل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)) (1) .   (1) صحيح البخاري، كتاب الكسوف، الباب رقم 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وحارب النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقاد أن الأفلاك والكواكب تتصرف بإنزال المطر إذا رضيت على من تشاء.. وجعله شركاً ممن اعتقده (1) . 4) حفظ الإسلام للعقل ومنع الاعتداء عليه: جاءت الشريعة الإسلامية لتحفظ على الإنسان تلك الأسس التي تقوم عليها حياته، وهي ما يسميها الفقهاء " الكليات الخمس": الدين، والعقل، والنفس، والمال، والنسل (2) . أما العقل –مدار حديثنا – فقد شدد الشرع في العقوبة على من تعدى عليه: فحرم شرب الخمر لأنه يزيل العقل، قال سبحانه (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (3) وحرم كل مسكر: أي كل ما يذهب بالعقل مهما تغيرت أشكاله، وتعددت أسماؤه ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)) (4) . وورد عن أنس رضي الله عنه ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر أربعين بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين)) (5) .   (1) انظر مجموعة التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب (197) ، والإسلام والفكر العلمي (34) . (2) انظر الموافقات للشاطبي (3/47) . (3) المائدة من 90. (4) رواه مسلم – كتاب الأشربة – حديث رقم 1587. جـ4. (5) متفق عليه – انظر كتاب الحدود في كل من البخاري باب رقم 4 ومسلم حديث 1331 جـ3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 أما من جنى على العقل فأزاله، فإن الشرع يلزمه بالدية كاملة، يقول ابن قدامة -رحمه الله- في المغني (لا نعلم في هذا خلافاً، وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما، وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء، وفي كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزام (وفي العقل الدية) ، ولأنه أكبر المعاني قدراً، وأعظم الحواس نفعاً، فإن به يتميز من البهيمة، ويعرف حقائق المعلومات، ويهتدي إلى مصالحه، وينفي ما يضره، ويدخل به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولاية، وصحة التصرفات، وأداء العبادات، فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس (1)) ) (2) الوجه الخامس : (3) قولكم (إذا تعارض العقل مع النقل قدم العقل أو أُوِّل النقل) إما يراد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ. وإما أن يراد به الظنيين فالمقدم هو الراجح مطلقاً. وإما أن يراد به ما أحدهما قطعي فالقطعي هو المقدم مطلقاً وإذا قُدَّر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعياً لا لكونه عقلياً. فعلم أن تقديم العقل مطلقاً خطأ. كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً خطأ.   (1) المغني لابن قدامة 8/37. (2) العقل مجاله وآثاره في ضوء الإسلام، بحث مرقوم على الآلة الكاتبة مقدم لنيل درجة الماجستير من جامعة الإمام. (ص 55 - 65) . (3) بهذا الوجه: تبدأ الأوجه التي استقيتها من كلام شيخ الإسلام في كتابه (درء التعارض) وابن القيم في كتابه (الصواعق) وسيكون النقل منهما بتصرف يسير مني واختصار ليوافق هدف هذه الرسالة. مع التنبيه إلى أنني قد أذكر الهوامش المفيدة للدكتور محمد رشاد سالم -رحمه الله- التي تساعد على توضيح الكلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 الوجه السادس : أن يقال: لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكر من الأقسام الأربعة إذ من الممكن أن يقال: يقدم العقلي تارة والسمعي أخرى فأيهما كان قطعياً قدم وإن كانا جميعاً قطعيين فيمتنع التعارض وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم. فدعوى المدعي أنه لابد من تقديم العقلي مطلقاً أو السمعي مطلقاً أو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين دعوى باطلة بل هنا قسم ليس من هذه الأقسام كما ذكرناه بل هو الحق الذي لا ريب فيه. الوجه السابع : قولهم: إن قدمنا النقل كان ذلك طعناً في أصله الذي هو العقل فيكون طعناً فيه. غير مسلم وذلك لأن قولهم: إن العقل أصل للنقل إما أن يُراد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر أو أصل في علمنا بصحته. والأول لا يقوله عاقل فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو غيره هو ثابت سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علماً بالعدم وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها. فما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه. ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فالله أمر به وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة في نفسها وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر: ليس موقوفاً على وجودنا، فضلاً عن أن يكون موقوفاً على عقولنا، أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا، وهذا كما أن وجود الرب تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه. فتبين بذلك أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطياً له صفة لم تكن له، ولا مفيداً له صفة كمال، إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثراً فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 فإن العلم نوعان: أحدهما العملي، وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به محتاج إليه. والثاني العلم الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالى وأسمائه وصفاته وصدق رسله وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإن الشرع المنزّل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالماً به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكان جاهلاً ناقصاً. وأما إن أردوا أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا على صحته –وهذا هو الذي أردته- فيُقال: أتعنون بالعقل هنا الغريزة التي فينا، أم العلوم التي استفدناها بتلك الغريزة؟ . أما الأول فلم تريدوه، ويمتنع أن تريدوه، لأن تلك الغريزة ليست علماً يتصور أن يعارض النقل، وهي شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة، وما كان شرطاً في الشيء امتنع أن يكون منافياً له؛ فالحياة والغريزة شرط في كل العلوم سمعيّها وعقليها، فامتنع أن تكون منافية لها، وهي أيضاً شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال، وإن لم تكن علماً، فيمتنع أن تكون منافية له ومعارضة له. وإن أرادوا بالعقل الذي هو دليل السمع وأصله المعرفة الحاصلة بالعقل؛ فيقال: من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلاً للسمع ودليلاً على صحته، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر، والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يُعلم صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالى أرسله، مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات، وأمثال ذلك. وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلاً للنقل، لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها، ولا بمعنى الدلالة على صحته، ولا بغير ذلك. وحينئذٍ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه، لم يكن القدح فيه قدحاً في أصل السمع، وهذا بيّن واضح، وليس القدح في بعض العقليات قدحاً في جميعها، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحاً في جميعها، ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها، كما لا يلزم من صحة بعض لسمعيات صحة جميعها. وحينئذٍ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبنى عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات، ولا من فساد هذه فساد تلك، فضلاً عن صحة العقليات الناقضة للسمع. فكيف يقال: إنه يلزم من صحة المعقولات التي هي ملازمة للسمع صحة المعقولات المناقضة للسمع؟ فإن ما يعلم السمع، ولا يعلم السمع إلا به، لازم للعلم بالسمع، لا يوجد العلم بالسمع بدونه، وهو ملزوم له، والعلم به يستلزم العلم بالسمع، والمعارض للسمع مناقض له مناف له. فهل يقول عاقل: إنه يلزم من ثبوت ملازم الشيء ثبوت مناقضه ومعارضه!؟ . ولكن صاحب هذا القول جعل العقليات كلها نوعاً واحداً متماثلاً في الصحة أو الفساد، ومعلوم أن السمع إنما يستلزم صحة بعضها الملازم له، لا صحة البعض المنافي له. والناس متفقون على أن ما يسمى عقليات منه حق، ومنه باطل، وما كان شرطاً في العلم بالسمع وموجباً فهو لازم للعلم به، بخلاف المنافي المناقض له، فإنه يمتنع أن يكون هو بعينه شرطاً في صحته ملازماً لثبوته، فإن الملازم لا يكون مناقضاً، فثبت أنه لا يلزم من تقديم السمع على ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 الوجه الثامن : أن يقال: العقل إما أن يكون عالماً بصدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، وإما أن لا يكون عالماً بذلك. فإن لم يكن عالماً امتنع التعارض عنده إذا كان المعقول معلوماً له، لأن المعلوم لا يعارضه المجهول، وإن لم يكن المعقول معلوماً له لم يتعارض مجهولان. وإن كان عالماً بصدق الرسول امتنع –مع هذا- أن لا يعلم ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر. غايته أن يقول: هذا لم يخبر به، والكلام ليس هو فيما لم يخبر به، بل إذا علم أن الرسول أخبر بكذا، فهل يمكنه –مع علمه بصدقه فيما أخبر وعلمه أنه أخبر بكذا- أن يدفع عن نفسه علمه بثبوت المخبر، أم يكون علمه بثبوت مخبره لازماً له لزوماً ضرورياً، كما تلزم سائر العلوم لزوماً ضرورياً لمقدماتها؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 وإذا كان كذلك فإذا قيل له في مثل هذا: لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أنه صادق؛ كان حقيقة الكلام: لا تصدقه في هذا الخبر لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه، فيقول: وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور، فإذا قيل: لا تصدقه لئلا يلزم أن لا تصدقه، كان كما لو قيل: كذبه لئلا يلزم أن تكذبه. فيكون المنهي عنه هو المخوف المحذور من فعل المنهي عنه، والمأمور به هو المحذور من ترك المأمور به. فيكون واقعاً في المنهي عنه، سواء أطاع أو عصى، ويكون تاركاً للمأمور به سواء أطاع أو عصى، ويكون وقوعه في المخوف المحذور على تقدير الطاعة لهذا الآمر الذي أمره بتكذيب ما تيقن أن الرسول أخبر به أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية، والمنهي عنه على التقدير هو التصديق، والمأمور به هو التكذيب، وحينئذ فلا يجوز النهي عنه، سواء كان محذوراً أو لم يكن، فإنه إن لم يكن محذوراً لم يجز أن ينهى عنه، وإن كان محذوراً فلابد منه على التقديرين، فلا فائدة في النهي عنه، بل إذا كان عدم التصديق هو المحذور كان طلبه ابتداء أقبح من طلب غيره لئلا يُفضي إليه، فإن من أمر بالزنا كان أمره به أقبح من أن يأمر بالخلوة المفضية إلى الزنا. فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علموا أنه أخبر به، بعد علمهم أنه رسول الله؛ لئلا يفضي تصديقهم له إلى عدم تصديقهم له، بل إذا قيل له: لا تصدقه في هذا، كان هذا أمراً له بما يناقض ما علم به صدقه، فكان أمراً له بما يوجب أن لا يثق بشيء من خبره، فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز تلك في غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 ولهذا آل الأمر بمن سلك هذا الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئاً من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله تعالى وأفعاله، بل وباليوم الآخر عند بعضهم، لاعتقادهم أن هذه فيها ما يُردّ بتكذيب أو تأويل وما لا يرد، وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة، بل هذا يقول: ما أثبته عقلك فأثبته، وإلا فلا، وهذا يقول: ما أثبته كشفك فأثبته، وإلا فلا، فصار وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية، بل وجوده – على قولهم – أضر من عدمه، لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئاً، واحتاجوا إلى أن يدفعوا ما جاء به: إما بتكذيب، وإما بتفويض، وإما بتأويل. الوجه التاسع : أنه إذا علم صحة السمع وأن ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو حق فإما أن يعلم أنه أخبر بمحل النزاع أو يظن أنه أخبر به أو لا يعلم ولا يظن، فإن علم أنه أخبر به امتنع أن يكون في العقل ما ينافي المعلوم بسمع أو غيره فإن ما علم ثبوته أو انتفاؤه لا يجوز أن يقوم دليل يناقض ذلك. وإن كان مظنوناً أمكن أن يكون في العقل علم ينفيه وحينئذٍ فيجب تقديم العلم على الظن لا لكونه معقولاً أو مسموعاً بل لكونه علماً، كما يجب تقديم ما علم بالسمع على ما ظن بالعقل وإن كان الذي عارضه من العقل ظنياً. فإن تكافئا وقف الأمر، وإلا قدّم الراجح، وإن لم يكن في السمع علم ولا ظن فلا معارضة حينئذٍ، فتبين أن الجزم بتقديم العقل مطلقاً خطأ وضلال. الوجه العاشر : أن يقال: إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أُخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 ومعلوم أن هذا إذا قيل أوجه من قولهم، كما قال بعضهم: يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسول ومعاني كلامه. وقال بعضهم: العقل متول، وَلَّي الرسول ثم عزل نفسه، لأن العقل دل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر. والعقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة. وهذا كما أن العامي إذا علم عين المفتي ودل غيره وبين له أنه عالم مفتٍ، ثم اختلف العامي الدال والمفتي وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض قدحت في الأصل الذي به علمت أنه مفت، قال له المستفتي: أنت لما شهدت بأنه مفت، ودللت على ذلك، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم أني أوافقك في العلم بأعيان المسائل، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد واستدلال، ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده واتباع قوله، وإن لم تكن مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه عالم مفت يجب عليك تقليده. هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فتقديمه قول المعصوم على ما يخالفه من استدلاله العقلي أولى من تقديم العامي قول المفتي على قوله الذي يخالفه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 وكذلك أيضاً إذا علم الناس وشهدوا أن فلاناً خبير بالطب أو بالقيافة أو الخرص أو تقويم السلع ونحو ذلك، وثبت عند الحاكم أنه عالم بذلك دونهم، أو أنه أعلم منهم بذلك، ثم نازع الشهود الشاهدون لأهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم أهل العلم بذلك. وجب تقديم قول أهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم على قول الشهود الذين شهدوا لهم، وإن قالوا: نحن زكينا هؤلاء، وبأقوالنا ثبتت أهليتهم، فالرجوع في محل النزاع إليهم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولهم. كما قال بعض الناس: إن العقل مزكي الشرع ومعدله، فإذا قدم الشرع عليه كان قدحاً فيمن زكاه وعدله، فيكون قدحاً فيه. قيل لهم: أنتم شهدتهم بما علمتم من أنه من أهل العلم بالطب أو التقويم أو الخرص أو القيافة ونحو ذلك، وأن قوله في ذلك مقبول دون قولكم، فلو قدمنا قولكم عليه في هذه المسائل لكان ذلك قدحاً في شهادتكم وعلمكم بأنه أعلم منكم بهذه الأمور، وإخباركم بذلك لا ينافي قبول قوله دون أقوالكم في ذلك، إذ يمكن إصابتكم في قولكم: هو أعلم منا، وخطؤكم في قولكم: نحن أعلم ممن هو أعلم منا فيما ينازعنا فيه من المسائل التي هو أعلم بها منا، بل خطؤكم في هذا أظهر. والإنسان قد يعلم أن هذا أعلم منه بالصناعات كالحراثة والنساجة والبناء والخياطة وغير ذلك من الصناعات، وإن لم يكن عالماً بتفصيل تلك الصناعة، فإذا تنازع هو وذلك الذي هو أعلم منه لم يكن تقديم قول الأعلم منه في موارد النزاع قدحاً فيما علم به أنه أعلم منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 ومن المعلوم أن ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لذوي العقول أعظم من مباينة أهل العلم بالصناعات العلمية والعملية والعلوم العقلية الاجتهادية كالطب والقيافة والخرص والتقويم لسائر الناس، فإن من الناس من يمكنه أن يصير عالماً بتلك الصناعات العلمية والعملية كعلم أربابها بها، ولا يمكن من لم يجعله الله رسولاً إلى الناس أن يصير بمنزلة من جعله الله تعالى رسولاً إلى الناس، فإن النبوة لا تنال بالاجتهاد، كما هو مذهب أهل الملل، وعلى قول من يجعلها مكتسبة من أهل الإلحاد من المتفلسفة وغيرهم فإنها عندهم أصعب الأمور، فالوصول إليها أصعب بكثير من الوصول إلى العلم بالصناعات والعلوم العقلية. وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره – كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب. فإذا كان عقله يوجب أن ينقاد لطبيب يهودي فيما أخبره به من مقدرات من الأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات، واستعمالها على وجه مخصوص، مع ما في ذلك من الكلفة والألم، لظنه أن هذا أعلم بهذا مني، وأني إذا صدقته كان ذلك أقرب إلى حصول الشفاء لي، مع علمه بأن الطبيب يخطئ كثيراً، وأن كثيراً من الناس لا يشفى بما يصفه الطبيب، بل قد يكون استعماله لما يصفه سبباً في هلاكه، ومع هذا فهو يقبل قوله ويقلده، وإن كان ظنه واجتهاده يخالف وصفه، فكيف حال الخلق مع الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ !. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 والرسل صادقون مصدوقون لا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به قط، والذين يعارضون أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، فكيف يجوز أن يعارض ما لم يخطئ قط بما لم يصب في معارضته له قط؟ . الوجه الحادي عشر: أن يقال: تقديم المعقول على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض، وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكن مؤتلف، فوجب الثاني دون الأول، وذلك لأن كون الشيء معلوماً بالعقل، أو غير معلوم بالعقل، ليس هو صفة لازمة لشيء من الأشياء، بل هو من الأمور النسبية الإضافية، فإن زيداً قد يعلم بعقله مالا يعلمه بكر بعقله، وقد يعلم الإنسان في حال يعقله ما يجهله في وقت آخر. والمسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع جميعها مما اضطرب فيه العقلاء، ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا، بل كل من العقلاء يقول: إن العقل أثبت، أو أوجب، أو سوغ ما يقول الآخر: إن العقل نفاه، أو أحاله، أو منع منه، بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية، فيقول هذا: نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر: إنه غير معلوم بالضرورة العقلية. كما يقول أكثر العقلاء: نحن نعلم بالضرورة العقلية امتناع رؤية مرئي من غير معاينة ومقابلة، ويقول طائفة من العقلاء: إن ذلك ممكن. ويقول أكثر العقلاء: إن كون الموصوف عالماً بلا علم قادراً بلا قدرة حياً بلا حياة ممتنع في ضرورة العقل، وآخرون ينازعون في ذلك. ويقول أكثر العقلاء: إن كون الشيء الواحد أمراً نهياً خبراً ممتنع في ضرورة العقل، وآخرون ينازعون في ذلك. ويقول أكثر العقلاء: إن كون العقل والعاقل والمعقول، والعشق والعاشق والمعشوق، الوجود والموجود والوجوب والعناية أمراً واحداً، هو ممتنع في ضرورة العقل، وآخرون ينازعون في ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 ويقول جمهور العقلاء: إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث، وإن لفظ الوجود يعمهما ويتناولهما، وإن هذا معلوم بضرورة العقل، ومن الناس من ينازع في ذلك. ويقول جمهور العقلاء: إن حدوث الأصوات المسموعة من العباد بالقرآن أمر معلوم بضرورة العقل، ومن الناس من ينازع في ذلك. وجمهور العقلاء يعلمون أن كون نفس الإنسان هي العالمة بالأمور العامة الكلية، والأمور الخاصة الجزئية معلوم بضرورة العقل، ومن الناس من نازع في ذلك، وهذا باب واسع. فلو قيل بتقديم العقل على الشرع، وليست العقول شيئاً واحداً بيناً بنفسه، ولا عليه دليل معلوم للناس، بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب؛ لوجب أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته، ولا اتفاق للناس عليه. وأما الشرع فهو في نفسه قول الصادق، وهذه صفة لازمة له، لا تختلف باختلاف أحوال الناس، والعلم بذلك ممكن، ورد الناس إليه ممكن، ولهذا جاء التنزيل برد الناس عند التنازع إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً) فأمر الله تعالى المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، وهذا يوجب تقديم السمع، وهذا هو الواجب، إذ لو ردوا إلى غير ذلك من عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم وبراهينهم لم يزدهم هذا الرد إلا اختلافاً واضطراباً، وشكاً وارتياباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 ولذلك قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين منذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) فأنزل الله الكتاب حاكماً بين الناس فيما اختلفوا فيه، إذ لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزّل من السماء، ولا ريب أن بعض الناس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره، وإن لم يمكنه بيان ذلك لغيره، ولكن ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبته، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. الوجه الثاني عشر: أن يقال: المسائل التي يقال: إنه قد تعارض فيها العقل والسمع ليست من المسائل البينة المعروفة بصريح العقل، كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات الظاهرة والإلهيات البينة ونحو ذلك، بل لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من هذا الجنس، ولا في القرآن شيء من هذا الجنس؛ ولا يوجد ذلك إلا في حديث مكذوب موضوع يعلم أهل النقل أنه كذب، أو في دلالة ضعيفة غلط المستدل بها على الشرع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 فالأول: مثل حديث عرق الخيل الذي كذبه بعض الناس على أصحاب حمّاد بن سلمة، قالوا: إنه كذبه بعض أهل البدع، واتهموا بوضعه محمد بن شجاع الثلجي (1) ، وقالوا: إنه وضعه ورمى به بعض أهل الحديث، ليقال عنهم أنهم يروون مثل هذا، وهو الذي يقال في متنه: ((إنه خلق خيلاً فأجراها، فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق)) (2) تعالى الله عن فرية المفترين وإلحاد الملحدين؛ وكذلك حديث نزوله عشية عرفة إلى الموقف على جمل أورق، ومصافحته للركبان، ومعانقته للمشاة، وأمثال ذلك: هي أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل العلم، فلا يجوز لأحد أن يدخل هذا وأمثاله في الأدلة   (1) هو محمد بن شجاع الثلجي البغدادي أبو عبد الله، فقيه العراق في وقته من أصحاب أبي حنيفة، وكان فيه ميل إلى الاعتزال، واحتج لفقه أبي حنيفة بالحديث وقواه به، وله مؤلفات منها: ((النوادر)) و ((المضاربة)) و ((الرد على المشبهة)) ولرجال الحديث فيه مطاعن كما نقل الفتني عن ابن عدي أنه كان يضع أحاديث في التشبيه ينسبها إلى المحدثين، انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ 2/184؛ تهذيب التهذيب 9/220؛ الجواهر المضيئة 2/60،438؛ ميزان الاعتدال 3/71؛ تاريخ بغداد 5/350؛ الوافي بالوفيات 3/147-148؛ الفهرست لابن النديم، ص206-207، تذكرة الموضوعات، ص291، لسان الميزان 6/692، الأعلام 7/28. (2) أورد السيوطي هذا الحديث ضمن الأحاديث الموضوعة في اللآلئ المصنوعة 1/3 عن الحاكم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله مم ربنا؟ قال: ((من ماء مرور لا من أرض ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق)) ، ثم ذكر السيوطي قول الحاكم بأنه موضوع، واتهم بوضعه محمد بن شجاع الثلجي، قال الحاكم: ولا يضع مثل هذا مسلم، زاد السيوطي: ((ولا عاقل)) ، ثم نقل كلام الذهبي عن ابن شجاع. وذكر ابن عراق هذا الحديث في تنزيه الشريعة 1/143، وذكره محمد بن طاهر الهندي الفتني في تذكرة الموضوعات، ص 291. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 الشرعية. والثاني: مثل الحديث الذي في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يقول الله تعالى: عبدي مرضتُ فلم تعدني، فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي جُعْتُ فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي)) (1) . فإنه لا يجوز لعاقل أن يقول: إن دلالة هذا الحديث مخالفة لعقل ولا سمع، إلا من يظن أنه قد دل على جواز المرض والجوع على الخالق سبحانه وتعالى، ومن قال هذا فقد كذب على الحديث. ومن قال إن هذا ظاهر الحديث أو مدلوله أو مفهومه فقد كذب، فإن الحديث قد فسره المتكلم به، وبيّن مراده بياناً زالت به كل شبهة، وبيّن فيه أن العبد هو الذي جاع وأكل ومرض وعاده العوّاد، وأن الله سبحانه لم يأكل ولم يُعَد.   (1) ورد هذا الحديث في صحيح مسلم بألفاظ مختلفة 4/990. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 بل غير هذا الباب من الأحاديث، كالأحاديث المروية في فضائل الأعمال على وجه المجازفة، كما يروى مرفوعاً: ((أنه من صلى ركعتين في يوم عاشوراء يقرأ فيها بكذا وكذا كُتب له ثواب سبعين نبياً)) (1) ونحو ذلك، هو عند أهل الحديث من الأحاديث الموضوعة، فلا يعلم حديث واحد يخالف العقل أو السمع الصحيح إلا وهو عند أهل العلم ضعيف، بل موضوع، بل لا يعلم حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر والنهي أجمع المسلمون على تركه، إلا أن يكون له حديث صحيح يدل على أنه منسوخ، ولا يعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح أجمع المسلمون على نقيضه، فضلاً عن أن يكون نقيضه معلوماً بالعقل الصريح البيّن لعامة العقلاء، فإن ما يُعلم بالعقل الصريح البيّن أظهر مما لا يعلم إلا بالإجماع ونحوه من الأدلة السمعية. فإذا لم يوجد في الأحاديث الصحيحة ما يعلم نقيضه بالأدلة الخفية كالإجماع ونحوه، فأن لا يكون فيها ما يعلم نقيضه بالعقل الصريح الظاهر أولى وأحرى، ولكن عامة موارد التعارض هي من الأمور الخفية المشتبهة التي يحار فيها كثير من العقلاء، كمسائل أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما بعد الموت من الثواب والعقاب والجنة والنار والعرش والكرسي، وعامة ذلك من أنباء الغيب التي تقصر عقول أكثر العقلاء عن تحقيق معرفتها بمجرد رأيهم، ولهذا كان عامة الخائضين فيها بمجّرد رأيهم إما متنازعين مختلفين، وإما حيارى منهوكين، وغالبهم يرى أن إمامة أحذق في ذلك منه.   (1) ذكر محمد بن طاهر الهندي في تذكرة الموضوعات ص 43 الحديث التالي ((من صلى يوم عاشوراء أربعين ركعة بعد الظهر يقرأ في كل ركعة آية الكرسي عشر مرات، والإخلاص إحدى عشرة مرة، والمعوذتين خمس مرات)) . وقال: إنه موضوع. وفي الآلئ: ((فضل أربع ركعات بالفاتحة والإخلاص خمسين مرة يوم عاشوراء)) . وقال إنه موضوع. وانظر: الفوائد المجموعة، ص 47. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل، فنجد أتباع أرسطو طاليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات مع أن كثيراً منهم قد يرى بعقله ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه، مع أنه يعلم أهل العقل المتصفون بصريح العقل أن في المنطق من الخطأ البيّن ما لا ريب فيه. وأما كلامه وكلام أتباعه: كالإسكندر الأفروديسي (1) ، وبرقلس (2) ، وناسطيوس (3)   (1) من أعظم شراح أرسطو، ولد في أفروديسيا من أعمال آسيا الصغرى، وتولى تدريس الفلسفة الأرسطية في أثينا ما بين سنتي 198، 211م. ... انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم، ص32، ط. القاهرة، 1958. وانظر ترجمته ومصنفاته في: طبقات الأطباء 1/105-107؛ الفهرست لابن النديم، ص252-253؛ الملل والنحل 2/1037-1040 وقد نشر له الدكتور عبد الرحمن بدوي بعض مقالاته في كتابه ((أرسطو عند العرب)) . (2) هو آخر وأشهر ممثلي الأفلاطونية الجديدة، ولد بالقسطنطينية سنة 412م. وتلقى الفسلفة في الإسكندرية ثم في أثينا حيث صار زعيم مدرستها الفلسفية، وقد كان برقلس من القائلين بقدم العالم، توفي سنة 485م. ترجم له ابن النديم في الفهرست (ص 252) وذكر مصنفاته، وأورد الشهرستاني في الملل والنحل 2/1025-1032 أدلته على قدم العالم. وقد نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي رسالة له في قدم العالم (مع رسائل أخرى) في كتابه ((الأفلاطونية المحدثة عند العرب)) القاهرة، 1955. (3) من شراح أرسطو مع أنه كان أفلاطونياً محدثاً. ولد سنة 317م. وعاش في القسطنطينية وأيد الإمبراطور جوليان في العمل على بعث الوثيقة وتوفي سنة 388م. ... انظر: يوسف كرم، المرجع السابق 303. وانظر ترجمته والكلام عن آرائه ومصنفاته في: الفهرست لابن النديم، ص253، ابن القفطي، ص107؛ الملل والنحل 2/1033-1036. وقد نشر له الدكتور عبد الرحمن بدوي مقالة وشطرا من شرحه لمقالة (اللام) في كتابه ((أرسطو عند العرب)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 ، والفارابي، وابن سينا، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وأمثالهم في الإلهيات، فما فيه من الخطأ الكثير والتقصير العظيم ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم، بل في كلامهم من التناقض مالا يكاد يُستقصى. وكذلك أتباع رؤوس المقالات التي ذهب إليها من ذهب من أهل القبلة، وإن كان فيها ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ففيها أيضاً من مخالفة العقل الصريح ما لا يعلمه إلا الله، كأتباع أبي الهذيل العلاّف، وأبي إسحاق النّظام، وأبي القاسم الكعبي، وأبي علي وأبي هاشم، وأبي الحسين البصري، وأمثالهم. وكذلك أتباع من هو أقرب إلى السنة من هؤلاء، كأتباع حسين النّجار، وضرار بن عمرو، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي ناظر أحمد بن حنبل، ومثل حفص الفرد الذي كان يناظر الشافعي، وكذلك أتباع متكلمي أهل الإثبات كأتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاب، وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن كرام، وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وغيرهم. بل هذا موجود في أتباع أئمة الفقهاء وأئمة شيوخ العبادة، كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، تجد أحدهم دائماً يجد في كلامهم ما يراه هو باطلاً، وهو يتوقف في رد ذلك، لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلاً وعلماً وديناً، هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم، وأن الخطأ جائز عليه، ولا تجد أحداً من هؤلاء يقول: إذا تعارض قولي وقول متبوعي قدّست قولي مطلقاً، لكنه إذا تبيّن له أحياناً الحق في نقيض قول متبوعه، أو أن نقيضه أرجح منه قدّمه، لاعتقاده أن الخطأ جائز عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 فكيف يجوز أن يقال: إن في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عنه ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل؟ وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - قدّم رأيه على نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أنباء الغيب التي ضلّ فيها عامة من دخل فيها لمجرد رأيه، بدون الاستهداء بهدي الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه من أصحابه وغير أصحابه من الاضطراب؟. ففي الجملة: النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بَيّن قط، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب، وما علم أنه حق، لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق. بل نقول قولاً عاماً كلياً: إن النصوص الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعارضها قط صريح معقول، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات، مبناها على معان متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية، لا براهين عقلية. ومما يوضح هذا: الوجه الثالث عشر: وهو أن يقال: القول بتقديم الإنسان لمعقوله على النصوص النبوية قول لا ينضبط، وذلك لأن أهل الكلام، والفلسفة الخائضين المتنازعين فيما يسمُّونه عقليات، كل منهم يقول: إنه يعلم بضرورة العقل أو بنظره ما يدعي الآخر أن المعلوم بضرورة العقل أو بنظره نقيضه. وهذا من حيث الجملة معلوم؛ فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقولون: إن أصلهم المتضمن نفي الصفات والتكذيب بالقدر –الذي يسمونه التوحيد والعدل- معلوم بالأدلة العقلية القطعية، ومخالفوهم من أهل الإثبات يقولون: إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 بل الطائفتان ومن ضاهاها يقولون: إن علم الكلام المحض هو ما أمكن علمه بالعقل المجرد بدون السمع، كمسألة الرؤية والكلام وخلق الأفعال، وهذا هو الذي يجعلونه قطعياً، ويؤثمون المخالف فيه. وكلٌ من طائفتي النفي والإثبات فيهم من الذكاء والعقل والمعرفة ما هم متميزون به على كثير من الناس؛ وهذا يقول: إن العقل الصريح دل على النفي، والآخر يقول: العقل الصريح دل على الإثبات. وهم متنازعون في المسائل التي دلت عليها النصوص، كمسائل الصفات والقدر. وأما المسائل المولدة كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض وغير ذلك ففيها من النزاع بينهم ما يطول استقصاؤه، وكل منهم يدعي فيها القطع العقلي. ثم كل من كان عن السنة أبعد كان التنازع والاختلاف بينهم في معقولاتهم أعظم، فالمعتزلة أكثر اختلافاً من متكلمة أهل الإثبات، وبين البصريين والبغداديين منهم من النزاع ما يطول ذكره. والبصريون أقرب إلى السنة والإثبات من البغداديين، ولهذا كان البصريون يثبتون كون البارئ سميعاً بصيراً مع كونه حياً عليماً قديراً، ويثبتون له الإرادة، ولا يوجبون الأصلح في الدنيا، ويثبتون خبر الواحد والقياس، ولا يؤثمون المجتهدين، وغير ذلك. ثم بين المشايخية (1) والحسينية – أتباع أبي الحسين البصري- من التنازع ما هو معروف. وأما الشيعة فأعظم تفرقاً واختلافاً من المعتزلة، لكونهم أبعد عن السنة منهم، حتى قيل: إنهم يبلغون اثنتين وسبعين فرقة.   (1) قال الأستاذ رشاد سالم –رحمه الله-: لم أجد فرقة من الفرق تدعى المشايخية، ويبدو أن ابن تيمية يشير إلى مشايخ المعتزلة البغداديين الذين خالفهم أبو الحسين البصري. وانظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي، ص 45؛ الملل والنحل 1/1078. وانظر أيضاً: المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري (ط. دمشق، 1384/1964) الفهرست: مادة شيوخكم (المعتزلة) ، شيوخنا البغداديون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافاً من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى. والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم، وبينه وبين سلفه من النزاع والاختلاف ما يطول وصفه، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه. وأما سائر طوائف الفلاسفة، فلو حكي اختلافهم في علم الهيئة وحده لكان أعظم من اختلاف كل طائفة من طوائف أهل القبلة، والهيئة علم رياضي حسابي هو من أصح علومهم، فإذا كان هذا اختلافهم فيه فكيف باختلافهم في الطبيعيات أو المنطق؟ فكيف بالإلهيات؟ . واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية والطبيعية، كما نقله الأشعري عنهم في كتابه في ((مقالات غير الإسلاميين)) . فكلامهم في العلم الرياضي – الذي هو أصح علومهم العقلية – قد اختلفوا فيه اختلافاً لا يكاد يحصى، ونفس الكتاب الذي اتفق عليه جمهورهم- وهو كتاب ((المجسطي)) لبطليموس (1) – فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليل صحيح، وفيه قضايا ينازعه غيره فيها، وفيه قضايا مبنية على أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب. وكذلك كلامهم في الطبيعيات في الجسم، وهل هو مركب من المادة والصورة، أو الأجزاء التي لا تنقسم، أو ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا؟.   (1) بطليموس القلوذي العالم المشهور صاحب كتاب المججسطي في الفلك إمام في الرياضة، كان في أيام اندرياسيوس وفي أيام أنطمبوس من ملوك الروم وبعد أيرقس بمائتين وثمانين سنة. فأما كتاب المجسطي فهو ثلاث عشرة مقالة. وأول من عني بتفسيره وإخراجه إلى العربية يحيى بن خالد بن برمك. ... انظر عنه: تاريخ الحكماء ص 95-98، طبقات الأطباء ص 35-38؛ الفهرست لابن النديم، ص267-268؛ خطط المقريزي 1/154. وانظر منهاج السنة 1/127. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 وكثير من حذاق النظار حار في هذه المسائل، حتى أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله بن الخطيب – حاروا في مسألة الجوهر الفرد، فتوقفوا فيها تارة، وإن كانوا قد يجزمون بها أخرى، فإن الواحد من هؤلاء تارة يجزم بالقولين المتناقضين في كتابين أو كتاب واحد، وتارة يحار فيها، مع دعواهم أن القول الذي يقولونه قطعي برهاني عقلي لا يحتمل النقيض! وهذا كثير في مسائل الهيئة ونحوها من الرياضيات، وفي أحكام الجسم وغيره من الطبيعيات، فما الظن بالعلم الإلهي؟ وأساطين الفلسفة يزعمون أنهم لا يصلون فيه إلى اليقين، وإنما يتكلمون فيه بالأولى والأحرى والأخلق. الوجه الرابع عشر: أن يعارض دليلهم بنظير ما قالوه، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه. وهذا بين واضح؛ فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لخبره، فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم؛ فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، والقدح في دلالته يقدح في معارضته، كان تقديمه عند المعارضة مبطلاً للمعارضة، فامتنع تقديمه على النقل، وهو المطلوب. وأما تقديم النقل عليه فلا يستلزم فساد النقل في نفسه. ومما يوضح هذا أن يقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 معارضة العقل لما دل العقل على أنه حق دليل على تناقض دلالته، وذلك يوجب فسادها، وأما السمع فلم يعلم فساد دلالته ولا تعارضها في نفسها، وإن لم يعلم صحتها. وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم ما لم يعلم فساده، أقرب إلى الصواب من تقديم ما يعلم فساده كالشاهد الذي علم أنه يصدق ويكذب، والشاهد المجهول الذي لم يعلم كذبه، فإن تقديم قول الفاسق المعلوم كذبه على قول المجهول الذي لم يعلم كذبه لا يجوز، فكيف إذا كان الشاهد هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته؟! والعقل إذا صدق السمع في كل ما يخبر به ثم قال: إنه أخبر بخلاف الحق، كان هو قد شهد للسمع بأنه يجب قبوله، وشهد له بأنه لا يجب قبوله، وشهد بأن الأدلة السمعية حق، وأن ما أخبر به السمع فهو حق، وشهد بأن ما أخبر به السمع فليس بحق، فكان مثله مثل من شهد لرجلٍ بأنه صادق لا يكذب، وشهد له بأنه قد كذب، فكان هذا قدحاً في شهادته مطلقاً وتزكيته، فلا يجب قبول شهادته الأولى ولا الثانية، فلا يصلح أن يكون معارضاً للسمع بحال. ولهذا تجد هؤلاء الذي تتعارض عندهم دلالة العقل والسمع في حيرةٍ وشك واضطراب، إذ ليس عندهم معقول صريح سالم عن معارض مقاوم، كما أنهم أيضاً في نفس المعقول الذي يعارضون به السمع في اختلاف وريب واضطراب وذلك كله مما يبين أنه ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدماً على ما جاءت به الرسل، وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل، وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق، وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب، لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ، كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق، لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي. فمتى علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزماً قاطعاً أنه حق، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمنع أن يعارضه دليل قطعي، لا عقلي ولا سمعي، وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة، وشبه من جنس شبه السوفسطائية. وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك، وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح، كان هذا العقل شاهداً بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل، فيكون هذا العقل والسمع جميعاً شهد ببطلان العقل المخالف للسمع. فإن قيل: فهذا يوجب القدح في شهادة العقل، حيث شهد بصدق الرسول، وشهد بصدق العقل المناقض لخبره. قيل له: عن هذا جوابان: أحدهما: إنا نحن يمتنع عندنا أن يتعارض العقل والسمع القطعيان، فلا تبطل دلالة العقل، وإنما ذكرنا هذا على سبيل المعارضة، فمن قدّم دلالة العقل على السمع يلزمه أن يقدّم دلالة العقل الشاهد بتصديق السمع، وأنه إذا قدم دلالة العقل لزم تناقضها وفسادها، وإذا قدم دلالة السمع لم يلزم تناقضها في نفسها، وإن لزمه أن لا يعلم صحتها، وما علم فساده أولى بالرد مما لم تعلم صحته ولا فساده. والجواب الثاني: أن نقول: الأدلة العقلية التي تعارض السمع غير الأدلة العقلية التي يعلم بها أن الرسول صادق، وإن كان جنس المعقول يشملها. ونحن إذا أبطلنا ما عارض السمع إنما أبطلنا نوعاً مما يسمى معقولاً، لم نبطل كل معقول، ولا أبطلنا المعقول الذي علم به صحة المنقول، وكان ما ذكرناه موجباً لصحة السمع وما علم به صحته من العقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 ولا مناقضة في ذلك، ولكن حقيقته أنه قد تعارض العقل الدال على صدق الرسول والعقل المناقض لخبر الرسول، فقدّمنا ذلك المعقول على هذا المعقول، كما نقدّم الأدلة على صدق الرسول على الحجج الفاسدة والقادحة في نبوات الأنبياء، وهي حجج عقلية. بل شبهات المبطلين القادحين في النبوات قد تكون أعظم من كثير من الحجج العقلية التي يعارض بها خبر الأنبياء عن أسماء الله وصفاته وأفعاله ومعاده، فإذا كان تقديم الأدلة العقلية الدالة على أنهم صادقون في قولهم: ((أن الله أرسلهم)) مقدمة على ما يناقض ذلك من العقليات، كذلك تقديم هذه الأدلة العقلية المستلزمة لصدقهم فيما أخبروا به على ما يناقض ذلك من العقليات، وعاد الأمر إلى تقديم جنس من المعقولات على جنس. وهذا متفق عليه بين العقلاء، فإن الأدلة العقلية إذا تعارضت فلابد من تقديم بعضها على بعض، ونحن نقول: لا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان: لا عقليان ولا سمعيان، ولا سمعي وعقلي، ولكن قد ظن من لم يفهم حقيقة القولين تعارضهما لعدم فهمه لفساد أحدهما. فإن قيل: نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة السمع المخالفة له باطلة، إما لكذب الناقل عن الرسول، أو خطئه في النقل، وإما لعدم دلالة قوله على ما يخالف العقل في محل النزاع. قيل: هذا معارض بأن يقال: نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة العقل المخالفة له باطلة لبطلان بعض مقدماتها، فإن مقدمات الأدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء والاشتباه والاختلاف والاضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من تطرقه إلى مقدمات الأدلة السمعية. ومما يبين ذلك أن يقال: دلالة السمع على مواقع الإجماع مثل دلالته على موارد النزاع، فإن دلالة السمع على علم الله تعالى وقدرته وإرادته وسمعه وبصره، كدلالته على رضاه ومحبته وغضبه واستوائه على عرشه ونحو ذلك، وكذلك دلالته على عموم مشيئته وقدرته كدلالته على عموم علمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 فالأدلة السمعية لم يردها من ردها لضعف فيها وفي مقدماتها، لكن لاعتقاده أنها تخالف العقل، بل كثير من الأدلة السمعية التي يردّونها تكون أقوى بكثير من الأدلة السمعية التي يقبلونها، وذلك لأن تلك لم يقبلوها لكون السمع جاء بها، لكن لاعتقادهم أن العقل دل عليها، والسمع جعلوه عاضداً للعقل، وحجة على من ينازعهم من المصدّقين بالسمع، لم يكن هو عمدتهم ولا أصل علمهم، كما صرح بذلك أئمة هؤلاء المعارضين لكتاب الله وسنة رسوله بآرائهم. وإذا كان كذلك، تبين أن ردهم الأدلة السمعية المعلومة الصحة بمجرّد مخالفة عقل الواحد، أو لطائفة منهم، أو مخالفة ما يسمونه عقلاً لا يجوز، إلا أن يبطلوا الأدلة السمعية بالكلية، ويقولون: إنها لا تدل على شيء، وإن أخبار الرسول عما أخبر به لا يفيد التصديق بثبوت ما أخبر به، وحينئذٍ فما لم يكن دليلاً لا يصلح أن يُجْعل معارضاً. والكلام هنا إنما هو لمن علم أن الرسول صادق، وأن ما أخبر به ثابت، وأن إخباره لنا بالشيء يفيد تصديقاً بثبوت ما أخبر به، فمن كان هذا معلوماً له امتنع أن يجعل العقل مقدماً على خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل يضطره الأمر إلى أن يجعل الرسول يكذب أو يخطئ في الخبريات، ويصيب أو يخطئ أخرى في الطلبيات. وهذا تكذيب للرسول، وإبطال لدلالة السمع، وسد لطريق العلم بما أخبر به الأنبياء والمرسلون، وتكذيب بالكتاب وبما أرسل الله تعالى به رسله. وغايته إن أحسن المقال: أن يجعل الرسول مُخبراً بالأمور على خلاف حقائقها لأجل نفع العامة. ثم إذا قال ذلك امتنع أن يستدل بخبر الرسول على شيء، فعاد الأمر جذعاً؛ لأنه إذا جوز على خبر الرسول التلبيس كان كتجويزه عليه الكذب. وحينئذٍ فلا يكون مجرّد إخبار الرسول موجباً للعلم بثبوت ما أخبر به، وهذا –وإن كان زندقة وكفراً وإلحاداً – فهو باطل في نفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 الوجه الخامس عشر: أن ما يسميه الناس دليلاً من العقليات والسمعيات ليس كثير منه دليلاً، وإنما يظنه الظان دليلاً. وهذا متفق عليه بين العقلاء، فإنهم متفقون على أن ما يسمى دليلاً من العقليات والسمعيات قد لا يكون دليلاً في نفس الأمر. فنقول: أما المتبعون للكتاب والسنة – من الصحابة والتابعين وتابعيهم –فهم متفقون على دلالة ما جاء به الشرع في باب الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر وما يتبع ذلك، لم يتنازعوا في دلالته على ذلك، والمتنازعون في ذلك بعدهم لم يتنازعوا في أن السمع يدل على ذلك، وإنما تنازعوا: هل عارضه من العقل ما يدفع موجبه؟ وإلا فكلهم متفقون على أن الكتاب والسنة مثبتان للأسماء والصفات، مثبتان لما جاءا بها من أحوال الرسالة والمعاد. والمنازعون لأهل الإثبات من نفاة الأفعال والصفات لا ينازعون في أن النصوص السمعية تدل على الإثبات، وأنه ليس في السمع دليل ظاهر على النفي. فقد اتفق الناس على دلالة السمع على الإثبات، وإن تنازعوا في الدلالة: هل هي قطعية أو ظنية؟ . وأما المعارضون لذلك من أهل الكلام والفلسفة فلم يتفقوا على دليل واحد من العقليات، بل كل طائفة تقول في أدلة خصومها: إن العقل يدل على فسادها، لا على صحتها، فالمثبتة للصفات يقولون: إنه يعلم بالعقل فساد قول النفاة، كما يقول النفاة: إنه يعلم بالعقل فساد قول المثبتة. ومثبتة الرؤية يقولون: إنه يعلم بالعقل إمكان ذلك، كما تقول النفاة: إنه يعلم بالعقل امتناع ذلك. والمتنازعون في الأفعال هل تقوم به؟ يقولون: إنه علم بالعقل قيام الأفعال به، وإن الخلق والإبداع والتأثير أمر وجودي قائم بالخالق المبدع الفاعل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وكذلك القول في العقليات المحضة كمسألة الجوهر الفرد، وتماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ودوام الحوادث في الماضي أو المستقبل أو غير ذلك، كل هذه مسائل عقلية قد تنازع فيها العقلاء، وهذا باب واسع، فأهل العقليات من أهل النفي والإثبات كل منهم يدعي أن العقل دل على قوله المناقض لقول الآخر، وأما السمع فدلالته متفق عليها بين العقلاء. وإذا كان كذلك قيل: السمع دلالته معلومة متفق عليها، وما يقال إنه معارض لها من العقل ليست دلالته معلومة متفقاً عليها، بل فيها نزاع كثير، فلا يجوز أن يعارض ما دلالته معلومة باتفاق العقلاء، بما دلالته المعارضة له متنازع فيها بين العقلاء. واعلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علم العقل صحته، وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة، وليس في ذلك – ولله الحمد – دليل صحيح في نفس الأمر، ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء، ولا دليل لم يقدح فيه بالعقل. الوجه السادس عشر: إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده، وإن لم يعارض العقل، وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع. وهذه الجملة تفصيلها هو الكلام على حجج المخالفين للسنة من أهل البدع بأن نبين بالعقل فساد تلك الحجج وتناقضها، وهذا –ولله الحمد- ما زال الناس يوضحونه؛ ومن تأمل ذلك وجد في المعقول مما يعلم به فساد المعقول المخالف للشرع ما لا يعلمه إلا الله. الوجه السابع عشر: أن يقال: الأمور السمعية التي يقال: ((إن العقل عارضها)) كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك، هي مما علم بالاضطرار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها، وما كان معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلاً، مع كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقاً، فمن قدح في ذلك وادعى أن الرسول لم يجئ به، كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 الوجه الثامن عشر: أن يقال: إن أهل العناية بعلم الرسول، العالمين بالقرآن، وتفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعالمين بأخبار الرسول والصحابة والتابعين لهم بإحسان، عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده ما لا يمكنهم دفعه عن قلوبهم، ولهذا كانوا كلهم متفقين على ذلك من غير تواطؤ ولا تشاعر، كما اتفق أهل الإسلام على نقل حروف القرآن، ونقل الصلوات الخمس والقبلة، وصيام شهر رمضان. وإذا كانوا قد نقلوا مقاصده ومراده عنه بالتواتر، كان ذلك كنقلهم حروفه وألفاظه بالتواتر. ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني، سواء كان التواتر لفظياً أو معنوياً، كتواتر شجاعة خالد وشعر حسّان، وتحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفقه الأئمة الأربعة، وعدل العمرين، ومغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين وقتاله أهل الكتاب، وعدل كسرى، وطب جالينوس، ونحو سيبويه. يبين هذا أن أهل العلم والإيمان يعلمون من مراد الله ورسوله بكلامه أعظم مما يعلمه الأطباء من كلام جالينوس، والنحاة من كلام سيبويه، فإذا كان من ادعى في كلام سيبويه وجالينوس ونحوهما ما يخالف ما عليه أهل العلم بالطب والنحو الحساب من كلامهم كان قوله معلوم البطلان، فمن ادعى في كلام الله ورسوله خلاف ما عليه أهل الإيمان كان قوله أظهر بطلاناً وفساداً، لأن هذا معصوم محفوظ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 وجماع هذا: أن يعلم أن المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئان: ألفاظه وأفعاله، ومعاني ألفاظه ومقاصده بأفعاله، وكلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما هو متواتر عند الخاصة، ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس، وإن كان عند غيره مجهولاً أو مظنوناً أو مكذوباً، وأهل العلم بأقواله كأهل العلم بالحديث والتفسير المنقول والمغازي والفقه يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم ممن لم يشركهم في علمهم، وكذلك أهل العلم بمعاني القرآن والحديث والفقه في ذلك يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم من معاني الأقوال والأفعال المأخوذة عن الرسول، كما يتواتر عند النحاة من أقوال الخليل وسيبويه والكِسَائي والفراء وغيرهم ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند الأطباء من معاني أقوال أبقراط وجالينوس وغيرهما ما لا يتواتر عند غيرهم، وتواتر عند كل أحد من أصحاب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وأبي داود وأبي ثور وغيرهم من مذاهب هؤلاء الأئمة ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند اتباع رؤوس أهل الكلام والفلسفة من أقوالهم ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند أهل العلم بنقلة الحديث من أقوال شعبة ويحيى بن سعيد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري وأمثالهم في الجرح والتعديل ما لا يعلمه غيرهم، بحيث يعلمون بالاضطرار اتفاقهم على تعديل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد والليث بن سعد وغير هؤلاء، وعلى تكذيب محمد بن سعيد المصلوب وأبي البختري ووهب بن وهب القاضي وأحمد بن عبد الله الجويباري وأمثالهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 الوجه التاسع عشر: أن يقال: كون الدليل عقلياً أو سمعياً ليس هو صفة تقتضي مدحاً ولا ذماً، ولا صحة ولا فساداً، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم، وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لابد معه من العقل، وكذلك كونه عقلياً أو نقلياً، وأما كونه شرعياً فلا يقابل بكونه عقلياً، وإنما يقابل بكونه بدعياً: إذ البدعة تقابل الشرّعة، وكونه شرعياً صفة مدح، وكونه بدعياً صفة ذم، وما خالف الشريعة فهو باطل. ثم الشرعي قد يكون سمعياً وقد يكون عقلياً، فإن كون الدليل شرعياً يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه، فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوماً بالعقل أيضاً، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعياً عقلياً. وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز، من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية. وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعياً سمعياً. وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه. ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات، والسمعيات، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة. وهذا غلط منهم، بل القرآن دل على الأدلة العقلية وبيّنها ونبّه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه، كما قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحقْ أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيءٍ شهيد) . وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 والشارع يحرم الدليل لكونه كذباً في نفسه، مثل أن تكون إحدى مقدماته باطلة، فإنه كذب، والله يحرم الكذب، لا سيما عليه، كقوله تعالى: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه) ويحرمه لكون المتكلم به يتكلم بلا علم، كما قال تعالى: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم) وقوله تعالى: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وقوله: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم) ويحرمه لكون جدالاً في الحق بعد ما تبين، كقوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعدما تبين) وقوله تعالى: (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) . وحينئذ فالدليل الشرعي لا يجوز أن يعارضه دليل غير شرعي، ويكون مقدماً عليه، بل هذا بمنزلة من يقول: إن البدعة التي لم يشرعها الله تعالى تكون مقدمة على الشرعة التي أمر الله بها، أو يقول: الكذب مقدم على الصدق، أو يقول: خبر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون مقدماً على خبر النبي- صلى الله عليه وسلم -، أو يقول: ما نهى الله عنه يكون خيراً مما أمر الله به، ونحو ذلك، وهذا كله ممتنع. وأما الدليل الذي يكون عقلياً أو سمعياً من غير أن يكون شرعياً، فقد يكون راجحاً تارة ومرجوحاً أخرى، كما أنه قد يكون دليلاً صحيحاً تارة، ويكون شبهة فاسدة أخرى، فما جاءت به الرسل عن الله تعالى إخباراً أو أمراً لا يجوز أن يعارض بشيء من الأشياء، وأما ما يقوله الناس فقد يعارض بنظيره، إذ قد يكون حقاً تارة باطلاً أخرى، وهذا مما لا ريب فيه، لكن من الناس من يدخل في الأدلة الشرعية ما ليس منها، كما أن منهم من يخرج منها ما هو داخل فيها، والكلام هنا على جنس الأدلة، لا على أعيانها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 الوجه العشرون: أن يقال: غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم، من المشهورين بالإسلام، هو التأويل أو التفويض أو الرد فأما الذين ينتهون إلى أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر، فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة. والتأويل المقبول: هو ما دل على مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يعلم ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص. وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم، كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد. وأما التفويض: فإن من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضّنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟. وأيضاً، فالخطاب الذي أُريد به هدانا والبيان لنا، وإخراجنا من الظلمات إلى النور، إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك، فعلى التقديرين لم نخاطب بما بيّن فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر. وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبيّن الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبيّن به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئاً، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه. وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وبهذا احتج الملاحدة، كابن سينا وغيره، على مثبتي المعاد، وقالوا: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم، وزعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبين ما الأمر عليه في نفسه، لا في العلم بالله تعالى ولا باليوم الآخر، فكان الذي استطالوا به على هؤلاء هو موافقتهم لهم على نفي الصفات، وإلا فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم ودحضت حجتهم. ولهذا كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان: مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف، يعني أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول، وأولئك جعلوا الجميع تخييلاً وتوهيماً. ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة، فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة. ثم إن ابن سينا وأمثاله من الباطنية المتفلسفة والقرامطة يقولون: إنه أراد من المخاطبين أن يفهموا الأمر على خلاف ما هو عليه، وأن يعتقدوا ما لا حقيقة له في الخارج، لما في هذا التخييل والاعتقاد الفاسد لهم من المصلحة. والجهمية والمعتزلة وأمثالهم يقولون: إنه أراد أن يعتقدوا الحق على ما هو عليه، مع علمهم بأنه لم يبين ذلك في الكتاب والسنة، بل النصوص تدل على نقيض ذلك، فأولئك يقولون: أراد منهم اعتقاد الباطل وأمرهم به، وهؤلاء يقولون: أراد اعتقاد ما لم يدلهم إلا على نقيضه. والمؤمن يعلم بالاضطرار أن كلا القولين باطل، للنفاة أهل التأويل من هذا أو هذا: وإذا كان كلاهما باطلاً كان تأويل النفاة للنصوص باطلاً: فيكون نقيضه حقاً وهو إقرار الأدلة الشرعية على مدلولاتها ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله إلا أهل الإلحاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 الوجه الحادي والعشرون: أن يقال: الذي يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة مجملة تحتمل معاني متعددة ويكون ما فيها من الاشتباه لفظاً ومعنى يوجب تناولها لحق وباطل فبما فيها من الحق يقبل ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع فإن البدعة لو كانت باطلاً محضاً لظهرت وبانت وما قبلت ولو كانت حقاً محضاً لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقاً محضاً لا باطل فيه لكن البدعة تشتمل على حق وباطل، والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات وحقائق وغير ذلك، لابد أن تشمل على لبس حق بباطل وكتمان حق، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لابد له أن يلبس فيه حقاً بباطل، بسبب ما يقوله من الألفاظ المجملة المتشابهة. الوجه الثاني والعشرون: أن يقال: إن هؤلاء الذين يدعون العقليات التي تعارض السمعيات هم من أبعد الناس عن موجب العقل ومقتضاه كما هم من أبعد الناس عن متابعة الكتاب المنزل والنبي المرسل وإن نفس ما به يقدحون في أدلة الحق التي توافق ما جاء به الرسول لو قدحوا به فيما يعارض ما جاء به الرسول لسلموا من التناقض وصح نظرهم وعقلهم واستدلالهم ومعارضتهم صحيح المنقول وصريح المعقول بالشبهات الفاسدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 الوجه الثالث والعشرون: أن يقال: ما سلكوه من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر الله به عباده من أمور اليوم الآخر، حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم، ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال: كالصلوات الخمس، الزكاة، والصيام، والحج، فجعلوها للعامة دون الخاصة، فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل، كما قال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . فأفضى الأمر بمن سلك سبل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق، من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف، حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب ((فصوص الحكم)) وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحداً، وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وهذا تعطيل للخالق. وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن، وهو قول فرعون، ولهذا كانوا معظمين لفرعون. ثم إنهم جعلوا أهل النار يتنعمون فيها، كما يتنعم أهل الجنة في الجنة، فكفروا بحقيقة اليوم الآخر، ثم ادّعو أن الولاية أفضل من النبوة، وأن خاتم الأولياء – وهو شيء لا حقيقة له – زعموا أنه أفضل من خاتم الأنبياء، بل ومن جميع الأنبياء، وأنهم كلهم يستفيدون من مشكاته العلم بالله، الذي حقيقته عندهم أن وجود المخلوق هو وجود الخالق. وكان قولهم كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم، لا عقل ولا قرآن، فإن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس، والأنبياء أفضل من غيرهم، فخالفوا الحس والعقل مع كفرهم بالشرع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 الوجه الرابع والعشرون: أن يقال: معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها، هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كلّ كفر، فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، وبيّن أن المتبعين لما أنزله هم أهل الهدى والفلاح، والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال. كما قال تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) وقال تعالى: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقد أخبر عن أهل النار أنهم إنما دخلوها لمخالفة الرسل، قال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) إلى قوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) . وقال تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جنهم زمراً حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسلٌ منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) . وقال تعالى: (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير. قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير) . ومعلوم أن الكلام الذي جاءت به الرسل عن الله نوعان: إما إنشاء وإما إخبار والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة، فأصل السعادة تصديق خبره، وطاعة أمره، وأصل الشقاوة معارضة خبره وأمره بالرأي والهوى، وهذا هو معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 ولهذا كان ضلال من ضل من أهل الكلام والنظر في النوع الخبري، بمعارضة خبر الله عن نفسه وعن خلقه بعقلهم ورأيهم، وضلال من ضل من أهل العبادة الفقه في النوع الطلبي، بمعارضة أمر الله الذي هو شرعه بأهوائهم وآرائهم. والمقصود هنا أن معارضة أقوال الرسل بأقوال غيرهم من فعل الكفّار، كما قال تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) إلى قوله: (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) . وقال تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) . وقوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) مصدق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مراء في القرآن كفر)) . ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن، وجادل في ذلك بعقله ورأيه، فهو داخل في ذلك، وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله، بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله، فقد دخل في ذلك، فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدّم على نصوص الكتاب والسنة؟ ! . وقال تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كِبر ما هم ببالغيه) . وقال: (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) . والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء، كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين وشواهده كثيرة كقوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) وقوله: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) … . فمن عارض آيات الله المنزلة برأيه وعقله من غير سلطان أتاه، دخل في معنى هذه الآية. وهذا مما يبيّن أنه لا يجوز معارضة كتاب الله إلا بكتاب الله، لا يجوز معارضته بغير ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 وكتاب الله نوعان: خبر وأمر، كما تقدم. أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض، ولكن قد يُفسر أحد الخبرين الآخر ويبيّن معناه. وأما الأمر فيدخله النسخ، ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزله الله، فمن أراد أن ينسخ شرع الله، الذي أنزله، برأيه وهواه كان ملحداً، وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحداً. الوجه الخامس والعشرون: وهو أن يقال: إن الله سبحانه ذم من ذمه من أهل الكفر على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا. كما قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون. قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافلٍ عما تعملون) وقال تعالى: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم) الآية. وقال: (ألا لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً) وقال: (وويل للكافرين من عذاب شديد. الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله) ومعلوم أن سبيل الله هو ما بعث به رسله مما أمر به وأخبر عنه، فمن نهى الناس نهياً مجرداً عن تصديق رسل الله وطاعتهم، فقد صدهم عن سبيل الله، فكيف إذا نهاهم عن التصديق بما أخبرت به الرسل، وبين أن العقل يناقض ذلك، وأنه يجب تقديمه على ما أخبرت به الرسل؟!. ومعلوم أن من زعم أن العقل الصريح الذي يجب اتباعه، يناقض ما جاء به الرسل، وذلك هو سبيل الله، فقد بغى سبيل الله عوجاً، أي طلب لها العوج، فإنه طلب أن يبين اعوجاج ذلك وميله عن الحق، وأن تلك السبيل الشرعية السمعية المروية عن الأنبياء عوجا لا مستقيمة، وأن المستقيم هو السبيل التي ابتدعها من خالف سبيل الأنبياء. ويوضح هذا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 الوجه السادس والعشرون: وهو أن يقال: من المعلوم أن الله أخبر أنه أرسل رسله بالهدى والبيان، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فقال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم. صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) . وقال تعالى: (كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) إلى قوله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم) . وقد قال تعالى: (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) وقال: (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) وقال: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون) وقال تعالى: (قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبلَ السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزل إليهم) وقال تعالى: (ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) وقال تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) ونظائر هذا في القرآن كثيرة. وإذا كان كذلك فيقال: أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق، أو بما يدل على الباطل، أو لم يتكلم: لا بما يدل على حق، ولا بما يدل على باطل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 ومعلوم أنه إذا قدر في شخص من الأشخاص أنه لم يتكلم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: لا بحق ولا بباطل، ولا هدى ولا ضلال، بل سكت عن ذلك، لم يكن قد هدى الناس، ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا بيّن لهم، ولا كان معه ما يستضئ به السالك المستدل. فإن قدّر أن هذا الشخص تكلم بما يُفهم منه نقيض الحق، وبما يدل على ضد الصواب، وكان مدلول كلامه في ذلك معلوم الفساد بصريح العقل –لكان هذا الشخص قد أضل بكلامه وما هدى، وكان مخرجاً لمن اتبعه بكلامه من النور إلى الظلمات، كحال الطاغوت الذين قال الله فيهم: (والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) . ومن زعم أن ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة، قد عارضه صريح المعقول الذي يجب تقدمه عليه، فقد جعل الرسول شبيهاً بالشخص الثاني الذي أضل بكلامه من وجه، ويجعله بمنزلة من جعله كالساكت الذي لم يضل ولم يهد من وجه آخر. فإنه إذا زعم أن الحق والهدى هو قول نفاة الصفات الذي يعلم بالعقل عنده، فمعلوم أن كلام الله ورسوله لم يدل على قول النفاة دلالة يحصل بها الهدى والبيان للمخاطبين بالقرآن. إن كان قول النفاة هو الحق. ومعلوم أن كلام الله ورسوله دل على إثبات الصفات المناقض لقول النفاة، دلالة بيّنة بقول جمهور الناس: إنها دلالة قطعية على ذلك. والمعتزلة ونحوهم من النفاة معترفون بأنها دلالة ظاهرة، فإذا كان الرسول لم يظهر للناس إلا إثبات الصفات دون نفيها، وكان الحق في نفس الأمر نفيها، لكان بمنزلة الشخص الذي كتم الحق وذكر نقيضه. وهذا خلاف ما نعته الله في كتابه، فدل على أن هذه الطريق التي يسوغ فيها تقديم عقول الرجال –في أصول التوحيد والإيمان- على كلام الله ورسوله. تناقض دين الرسول مناقضة بينة، بل مناقضة معلومة بالاضطرار من دين الإسلام، لمن تدبر حقيقة هذا القول، وعرف غائلته ووباله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 الوجه السابع والعشرون: إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن أو الحكمة الذي بلّغته إلينا قد تضمن أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله، مع أن عقولنا تناقض ذلك، لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه، لا نتلقى منه هدى ولا علم –لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول، ولم يرض الرسول منه بهذا بل يعلم أن هذا لو ساغ، لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة، والشيطان لا يزال يلقي الوساوس في النفوس، فيمكن حينئذ أن يلقي في قلب غير واحدٍ من الأشخاص، ما يناقض عامة ما أخبر به الرسول وما أمر به. وقد ظهر ذلك في القرامطة الباطنية، الذين ردُّوا عامة الظاهر الذي جاء به من الأمر والخبر، وزعموا أن العقل ينافي هذا الظاهر الذي بيّنه الرسول. ثم قد يقولون: الظاهر خطاب للجمهور والعامة، حتى يصل الشخص إلى معرفة الحقيقة التي يزعمون أنها تناقض ما بينه الرسول، وحينئذ فتسقط عنه طاعة أمره، ويسوغ له تكذيب خبره. ومن المعلوم لعامة المسلمين أن قول الباطنية، الذي يتضمن مخالفة الرسول، معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام. وكذلك ما أخبر به في المعاد، قد قال متكلمة المسلمين: إن قول الفلاسفة المناقض لذلك معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام. وهكذا ما أخبر به الرسول من أسماء الله وصفاته، يعلم أهل الإثبات أن قول النفاة فيه معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام. وأصل هذا الإلحاد جواز معارضة ما جاءت به الأنبياء بالعقول والآراء. الوجه الثامن والعشرون: وهو أن الله سبحانه وتعالى قد بيّن في كتابه أن معارضة مثل هذا فعل الشياطين المعادين للأنبياء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 قال تعالى: (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين. ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل. ولا تسبوا الذي يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمةٍ عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) أي: وما يشعركم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون. ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة. فقوله: (نقلب أفئدتهم) معطوف على قوله: (لا يؤمنون) ، وكلاهما داخل في معنى قوله: (وما يشعركم) وبهذا تزول شبهة من لم يفهم الآية، فظن أن (أن) بمعنى (لعل) لتوهمه أن قوله: (ونقلب) فعل مبتدأ، إلى قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون. أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين. وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) . ومن تدبر هؤلاء الآيات علم أنها منطبقة على من يعارض كلام الأنبياء بكلام غيرهم بحسب حاله، فإن هؤلاء هم أعداء ما جاءت به الأنبياء. وأصل العداوة البغض، كما أن أصل الولاية الحب، ومن المعلوم أنك لا تجد أحداً ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت، وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كشط ذلك من المصحف لفعله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه. وقيل عن بعض رؤوس الجهمية –إما بشر المريسي، أو غيره-: أنه قال: ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن، فأقروا به في الظاهر، ثم صرفوه بالتأويل. ويقال إنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل. ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية، بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه، خلافاً لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه. كما قال: ((ليبلغ الشاهد الغائب)) (1) وقال: ((بلّغوا عني ولو آية)) (2) وقال: ((نضّر الله امرأ سمع منا حديثاً فبلّغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) (3) . وقد ذم الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزل الله، لأنه معارض لما يقولونه، وفيهم جاء الأثر المعروف عن عمر: قال: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم السنن أن يحفظوها، وتفلّتت منهم أن يعوها، وسئلوا فقالوا في الدين برأيهم، فذكر أنهم أعداء السنن. وبالجملة، فكل من أبغض شيئاً من الكتاب والسنة ففيه من عداوة النبي بحسب ذلك، وكذلك من أحب ذلك ففيه من الولاية بحسب ذلك. قال عبد الله بن مسعود: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله. وعدو الأنبياء هم شياطين الإنس والجن. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: ((تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجن)) . فقال: أو للإنس شياطين؟ فقال: ((نعم شر من شياطين الجن، وهؤلاء يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً)) .   (1) البخاري (1/20) . (2) البخاري (4/170) . (3) رواه الترمذي وصححه الألباني في المشكاة (230) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 والزخرف هو الكلام المزين، كما يزين الشيء بالزخرف، وهو المذهب، وذلك غرور لأنه يغر المستمع، والشبهات المعارضة لما جاءت به الرسل هي كلام مزخرف يغر المستمع. (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) فهؤلاء المعارضون لما جاءت به الرسل تصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، كما رأيناه وجربناه. ثم قال: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً) وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله تعالى بما أنزله من الكتاب المفصل. كما قال تعالى في الآية الأخرى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) وقال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) ، وقوله تعالى: (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً) جملة في موضع الحال. وقوله: (أفغير الله أبتغي حكماً) استفهام إنكار، يقول: كيف أطلب حكماً غير الله، وقد أنزل كتاباً مفصلاً يحكم بيننا؟ وقوله: (مفصلاً) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين، بخلاف ما يزعمه من يعارضه بآراء الرجال، ويقول: إنه لا يفهم معناه، ولا يدل على مورد النزاع، فيجعله: إما مجملاً لا ظاهر له، أو مُؤوّلاً لا يعلم معناه، ولا دليل يدل على عين المعنى المراد به. ولهذا كان المعرضون عن النصوص، المعارضون لها، كالمتفقين على أنه لا يعلم عين المراد به، وإنما غايتهم أن يذكروا احتمالات كثيرة، ويقولون: يجوز أن يكون المراد واحداً منها. ولهذا أمسك من أمسك منهم عن التأويل، لعدم العلم بعين المراد. فعلى التقديرين لا يكون عندهم الكتاب الحاكم مفصّلاً، بل مجملاً ملتبساً أو مؤوّلاً بتأويل لا دليل على إرادته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 ثم قال: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن، فمن نظر فيما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، علم علماً يقيناً لا يحتمل النقيض أن هذا وهذا جاء من مشكاة واحدة، لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات، فإن التوراة مطابقة للقرآن موافقة له موافقة لا ريب فيها. وهذا مما يبين أن ما في التوراة من ذلك، ليس هو من المبدل الذي أنكره عليهم القرآن، بل هو من الحق الذي صدقهم عليه. ولهذا لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ينكرون ما في التوراة من الصفات، ولا يجعلون ذلك مما بدّله اليهود، ولا يعيبونهم بذلك ويقولون هذا تشبيه وتجسيم، كما يعيبهم بذلك كثير من النفاة، ويقولون: إن هذا مما حرّفوه، بل كان الرسول إذا ذكروا له شيئاً من ذلك صدّقهم عليه، كما صدقهم في خبر الحبر، كما هو في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، وفي غير ذلك. ثم قال: (وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً) ، فقرر أن ما أخبر الله به فهو صدق، وما أمر به فهو عدل. وهذا يقرر أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق علينا أن نصدّق به، لا نعرض عنه ولا نعارضه، ومن دفعه لم يصدق به، وإن قال: أنا أصدق الرسول تصديقاً مجملاً، فإن نفس الخبر الذي أخبر به الرسول، وعارضه هو بعقله ودفعه، لم يصدق به تصديقاً مفصلاً، ولو صدق الرجل الرسول تصديقاً مجملاً، ولم يصدقه تصديقاً مفصلاً، فيما علم أنه أخبر به، لم يكن مؤمناً له، ولو أقر بلفظه مع إعراضه عن معناه الذي بينه الرسول، أو صرفه إلى معانٍ لا يدل عليها مجرى الخطاب بفنون التحريف، بل لم يُردها الرسول، فهذا ليس بتصديق في الحقيقة، بل هو إلى التكذيب أقرب. الوجه التاسع والعشرون: وهو أن يقال: إن الله ذمّ أهل الكتاب على كتمان ما أنزل الله، وعلى الكذب فيه، وعلى تحريفه، وعلى عدم فهمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 قال تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون. أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون. ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) . فذمَّ المحرِّفين له، والأميين الذين لا يعلمونه إلا أمانيّ، والذين يكذبون فيقولون لما يكتبونه هو من عند الله، وما هو من عند الله، كما ذم الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، وقد ذمّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في غير هذا الموضع. وهذه الأنواع الأربعة موجودة في الذين يعرضون عن كتاب الله ويعارضونه بآرائهم وأهوائهم، فإنهم تارة يكتمون الأحاديث المخالفة لأقوالهم، ومنهم طوائف يضعون أحاديث نبوية توافق بدعهم، كالحديث الذي تحتج به الفلاسفة: أول ما خلق الله العقل. والحديث الذي يحتجون به في نفي الرؤية: لا ينبغي لأحد أن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة. والحديث الذي يحتجون به في نفس العلو، كالحديث الذي رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبد الله العوسجي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الذي أَيَّنَ الأين فلا يقال له: أين)) ، وعارض به حديث ابن إسحاق الذي رواه أبو داود وغيره، الذي قال فيه: ((يستشفع بك على الله ويستشفع بالله عليك)) ، وأكثر فيه في القدح في ابن إسحاق، مع احتجاجه بحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث، وغاية ما قالوا فيه: إنه غريب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 والأحاديث التي تحتج بها الاتحادية من هؤلاء وغيرهم، مثل: قولهم عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ربي زدني فيك تحيُّراً)) . ومثل الأحاديث التي يحتج بها الواصفون له بالنقائص، كحديث الجمل الأورق ونزوله عشية عرفة إلى الأرض يصافح الركبان ويعانق المشاة، ونزوله إلى بطحاء مكة، وقعوده على كرسي بين السماء والأرض، ونزوله على صخرة بيت المقدس، وأمثال ذلك. وكذلك ما يضعونه من الكتب بآرائهم وأذواقهم ويدّعون أن هذا هو دين الله الذي يجب اتباعه. وأما تحريفهم للنصوص بأنواع التأويلات الفاسدة التي يحرّفون بها الكلم عن مواضعه، فأكثر من أن يذكر، كتأويلات القرامطة الباطنية، والجهمية، والقدرية، وغيرهم. وأما عدم الفهم، فإن النصوص التي يخالفونها، تارة يحرّفونها بالتأويل، وتارة يعرضون عن تدبرها وفهم معانيها، فيصيرون كالأميين الذي لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ، ولهذا تجد هؤلاء معرضين عن القرآن والحديث، فمنهم طوائف لا يقرّون القرآن، مثل كثير من الرافضة والجهمية، لا تحفظ أئمتهم القرآن، وسواء حفظوه أو لم يحفظوه لا يطلبون الهدى منه، بل إما أن يعرضوا عن فهمه وتدبّره، كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ، وإما أن يحرفوه بالتأويلات الفاسدة. وأما الحديث: فمنهم من لا يعرفه ولم يسمعه، وكثير منهم لا يصدق به، ثم إذا صدقوا به كان تحريفهم له وإعراضهم عنه، أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه، حتى أن منهم طوائف يقرّون بما أخبر به القرآن من الصفات، وأما الحديث إذا صدّقوا به فهم لا يقرّون بما أخبر به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 وإذا تبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بالمعقولات، لابد له من كتمان أو كذب أو تحريف أو أمية، مع عدم علم، وهذه الأمور كلها مذمومة – دل ذلك على أن هؤلاء مذمومون في كتاب الله، كما ذم الله أشباههم من أهل الكتاب، وأن هؤلاء وأمثالهم دخلوا في قوله - صلى الله عليه وسلم -، الذي ثبت عنه في الصحيح، الذي قال فيه: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) . قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)) (1) . الوجه الثلاثون: وهو أن يقال: الذين يعارضون كلام الله وكلام رسوله بعقولهم: إن كانوا من ملاحدة الفلاسفة والقرامطة. قالوا: إن الرسل أبطنت خلاف ما أظهرت لأجل مصلحة الجمهور. حتى يؤول الأمر بهم إلى إسقاط الواجبات واستحلال المحرمات: إما للعامة. وإما للخاصة دون العامة. ونحو ذلك مما يعلم كل مؤمن أنه فاسد مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام. وإن كانوا من أهل الفقه والكلام والتصوّف الذين لا يقولون ذلك. فلابد لهم من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. ولفظ ((التأويل)) يراد به التفسير، كما يوجد في كلام المفسرين: ابن جرير وغيره ويراد به حقيقة ما يؤول إليه الكلام. وهو المراد بلفظ التأويل في القرآن. وهذان الوجهان لا ريب فيهما. والتأويل بمعنى التفسير والبيان كان السلف يعلمونه ويتكلمون فيه. وأما بالمعنى الثاني. فمنه ما لا يعلمه إلا الله. ولهذا كانوا يثبتون العلم بمعاني القرآن.وينفون العلم بالكيفية. كقول مالك وغيره الاستواء معلوم. والكيف مجهول. فالعلم بالاستواء من باب التفسير، وهو التأويل الذي نعلمه. وأما الكيف فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وهو المجهول لنا.   (1) البخاري (4/169) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 ويراد بالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، وهذا هو الذي تدعيه نفاة الصفات والقدر ونحو ذلك من نصوص الكتاب والسنة. وهؤلاء قولهم متناقض، فإنهم على أصلين فاسدين: فإنهم يقولون لابد من تأويل بعض الظواهر كما في قوله: ((جعت فلم تطعمني)) . وقوله: ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض)) ، ونحو ذلك. ثم أي نص خالف رأيهم جعلوه من هذا الباب، فيجعلون تارة المعنى الفاسد هو الظاهر، ليجعلوا في موضع آخر المعنى الظاهر فاسداً، وهم مخطئون في هذا وهذا. ومضمون كلامهم أن كلام الله ورسوله في ظاهره كفر وإلحاد، من غير بيان من الله ورسوله للمراد. وهذا قول ظاهر الفاسد، وهو أصل قول أهل الكفر والإلحاد. أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بيّنت المراد، وأزالت الشبهة، فإن الحديث الصحيح لفظه: ((عبدي، مرضت فلم تعدني. فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده)) . فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض. وإنما الذي مرض عبده المؤمن. ومثل هذا لا يقال ظاهره أن الله يمرض، فيحتاج إلى تأويل؛ لأن اللفظ إذا قرن به ما بيّن معناه، كان ذلك هو ظاهره كاللفظ العام، إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة، كقوله: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) وقوله: (فصيام شهرين متتابعين) ونحو ذلك، فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفاً كاملة ولا شهرين، سواء كانا متفرّقين أو متتابعين (1) .   (1) أي أن الناس متفقون على أن نوحاً لم يعش ألف سنة كاملة بل أقل من ذلك لوجود الاستثناء في الآية. ومتفقون على أنه لا يجب صيام شهرين متتابعين على كل مسلم، بل على من لم يجد رقبة مؤمنة يحررها كفارة لخطئه في قتله من قتل من مؤمن أو معاهد لعسرته بثمنها (وانظر تفسير الطبري للآية الكريمة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وأما قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فهو أولاً: ليس من الحديث الصحيح الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا نحتاج أن ندخله في الباب. ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة، ويقولون بتأول الجميع، كما فعل بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر بن فورك في كتاب ((مشكل الحديث)) حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل وأمثاله من الموضوعات. فحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، هو معروف من كلام ابن عباس، ورُوى مرفوعاً، وفي رفعه نظر. ولفظ الحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض. فمن صافحة أو قبّله فكأنما صافح الله وقبل يمينه. ففي لفظ هذا الحديث أنه يمين الله في الأرض، وأن المصافح له كأنما صافح الله وقبل يمينه. ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به. فهذا صريح في أنه ليس هو نفس صفة الله، فلا يمكن أحد أن يأتي بنص صحيح صريح يدل على معنى فاسد. من غير بيان للنص أصلاً. فالحمد لله الذي سلّم كلامه وكلام رسوله من كل نقص وعيب. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. والحمد لله رب العالمين. وأما الخطأ الثاني فيأتون إلى نصوص صحيحة دالة على معانٍ دلالة بينة، بل صريحة قطعية، كأحاديث الرؤية ونحوها، مما فيه إثبات الصفات. فيقولون: هذه تحتاج إلى التأويل كتلك، وقد تبين استغناء كل من الصنفين عن التحريف، وأن التفسير الذي به يعرف الصواب قد ذكر ما يدل عليه في نفس الخطاب: إما مقروناً به، وإما في نص آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم، وصراط مستقيم، في النصوص، لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه، إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب، فنجد من ظهر له تناقض أقوال أهل الكلام والفلاسفة، كأبي حامد وأمثاله، ممن ينظنون أن في طريقة التصفية نيل مطلوبهم، يعوّلون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم، فيقولون: إن ما عرفته بنور بصيرتك فقّرره، وما لم تعرفه فأوّله. ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق، يقول: ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله، وإلا فلا. ثم المعتزلي –والمتفلسف الذي يوافقه – يقول: إن العقل يمنع إثبات الصفات وإمكان الرؤية. ويقول المتفلسف الدهري: إنه يمنع إثبات معاد الأبدان، وإثبات أكل وشربٍ في الآخرة، ونحو ذلك. فهؤلاء، مع تناقضهم، لا يجعلون الرسول نفسه نصب في خطابه دليلاً يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم. ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول، فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئاً من معرفة صفات الله تعالى، بل الرسول معزول عندهم عن الإخبار بصفات الله تعالى نفياً وإثباتاً، وإنما ولايته عندهم في العمليات – أو بعضها- مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم. ثم يقولون مع ذلك: إنه أخبرهم بكلام عن الله وعن اليوم الآخر: صار ذلك الكلام سبباً للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء، مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين، فحقيقة أمرهم أنه أفسد دينهم ودنياهم. وهذا مناقض لقولهم: إنه أعقل الخلق وأكملهم، أو من أعقلهم وأكملهم، وأنه قصد العدل ومصلحة دنياهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد، يقولون قولاً مختلفاً، يؤفك عنه من أفك، متناقض غاية التناقض، فاسد غاية الفساد. الوجه الحادي والثلاثون: وهو أن يقال: حقيقة قول هؤلاء الذين يجوزون أن تعارض النصوص الإلهية النبوية بما يناقضها من آراء الرجال، أن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية، بل ولا يستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله، فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل، ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل، فالإنسان لا يخلو من حالين، وذلك لأن الإنسان إذا سمع خطاب الله ورسوله الذي يخبر فيه عن الغيب: فإما أن يقدر أن له رأياً مخالفاً للنص، أو ليس له رأي يخالفه، فإن كان عنده مما يسميه معقولاً ما يناقض خبر الله ورسوله، وكان معقوله هو المقدّم، قدّم معقوله وألغى خبر الله ورسوله وكان حينئذٍ كل من اقتضى عقله مناقضة خبر من أخبار الله ورسوله قدم عقله على خبر الله ورسوله، ولم يكن مستدلاً بما أخبر الله به ورسوله على ثبوت مخبره، بل ولم يستفد من خبر الله ورسوله فائدة علمية، بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب إلا دلالة بعيدة ليصرف إليها اللفظ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 ومعلوم أن المقصود بالخطاب الإفهام، وهذا لم يستفد من الخطاب الإفهام، فإن الحق لم يستفده من الخطاب بل من عقله، والمعنى الذي دلّ عليه الخطاب الدلالة المعروفة لم يكن المقصود بالخطاب إفهامه، وذلك المعنى البعيد الذي صرف الخطاب إليه، قد كان عالماً بثبوته بدون الخطاب، ولم يدله عليه الخطاب الدلالة المعروفة، بل تعب تعباً عظيماً حتى أمكنه احتمال الخطاب له، مع أنه لا يعلم أن المخاطب أفاده بالخطاب، فلم يكن في خطاب الله ورسوله على قول هؤلاء، لا إفهام ولا بيان، بل قولهم يقتضي أن خطاب الله ورسوله إنما أفاد تضليل الإنسان، وإتعاب الأذهان، والتفريق بين أهل الإيمان، وحصول العداوة بينهم والشنآن، وتمكين أهل الإلحاد والطغيان، من الطعن في القرآن والإيمان. وأما إن لم يكن عنده ما يعارض النص، مما يسمى رأياً ومعقولاً وبرهاناً ونحو ذلك، فإنه لا يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يناقض ذلك الخبر الذي أخبر الله به ورسوله. ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات، ليس لها ضابط، ولا هي منحصرة في نوع معين، بل ما من أمةٍ إلا ولهم ما يسمونه معقولات. واعتبر ذلك بأمتنا، فإنه ما من مدة إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعاً: يزعم أنها معقولات. ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة عليّ، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، لا يدّعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص. ثم أتباع هذه الطوائف يحدثون من الحجج العقلية على قول متبوعهم ما لم تكن عند متبوعهم، فيكون –بزعمهم- قد تبين لهم من العقليات النافية ما لم يتبين لمتبوعهم. واعتبر ذلك بما تجده من الحجج لأبي الحسين البصري وأمثاله مما لم يسبقه إليها شيوخه، وما تجده لأبي هاشم، ولأبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد مما لم يسبقهم إليها شيوخهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 بل أبو المعالي الجويني، ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري، ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما، كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله، فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية، كالوجه واليد، والاستواء. فتبين أن من جوز على خبر الله، أو خبر رسوله، أن يناقضه شيء من المعقول الصريح، لم يمكنه أن يصدق بعامة ما أخبر الله به ورسوله من الغيب، لا سيما والأمور الغائبة ليس للمخبرين بها خبرة يمكنهم أن يعلموا بعقولهم ثبوت ما أخبر به، أو انتفاء جميع ما تتخيله النفوس من المعارضات له. بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية، وما يبنى عليها من العلوم العقلية، قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل، وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس –أو أكثرهم- حلها، وبيان وجه فسادها، وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب، فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه، فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة، وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل. ولو قال قائل: هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية، لم يثبت لأحدٍ علم بشيء من الأشياء، إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية. فهكذا تصديق خبر الله ورسوله، قد علم علماً يقينياً أنه صدق مطابق لمخبره، وعلمنا بثبوت جميع ما أخبر به أعظم من علمنا بكل فردٍ من علومنا الحسية والعقلية، وإن كنا جازمين بجنس ذلك، فإن حسنا وعقلنا قد يعرض له من الغلط ما يقدح في بعض إدراكاته كالشبه السوفسطائية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 وأما خبر الله ورسوله فهو صدق، موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلاً، ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئاً من أخباره وناقضه، فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية، وإن كان العالم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره. وهذه حال المؤمنين للرسول، الذي علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح: لا عقلي، ولا سمعي، وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات، أو برهانيات، أو وجديات، أو ذوقيات، أو مخاطبات، أو مكاشفات، أو مشاهدات، أو نحو ذلك من الأمور الدهّاشات، أو يسمون ذلك تحقيقاً، أو توحيداً، أو عرفاناً، أو حكمة حقيقية، أو فلسفة، أو معارف يقينية، ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها بها أصحابها، فنحن نعلم علماً يقينياً لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات، وضلالات، وخيالات، وشبهات مكذوبات، وحجج سوفسطائية، وأوهام فاسدة، وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسمّاها، بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأرباباً، وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء: (إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) . والمقصود أنه من جوز أن يكون فيما علمه بحسه وعقله حجج صحيحة تعارض ذلك، لم يثق بشيء من علمه، ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من ذلك. فهكذا من جوّز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من خبر الله ورسوله، ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 ولهذا كان هؤلاء المعرضين عن الكتاب، المعارضين له، سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه، وينتهون في أدلتهم إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية. ثم إن فضلاءهم يتفطّنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب، وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب. وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب، وطريق هؤلاء تناقضه، علم بالضرورة من دين الإسلام أن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام، وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته. وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح، وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين، وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين، بل يفيد الشك والحيرة، علم أنها فاسدة في العقل، كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع. الوجه الثاني والثلاثون: أن يقال: العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له. ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين، لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم، فكيف إذا كان التلازم من الجانبين؟ . فإن هذا التلازم يستلزم أربع نتائج: فيلزم من ثبوت هذا اللازم ثبوت هذا، ومن نفيه نفيه، ومن ثبوت الملازم الآخر ثبوت ذلك، ومن نفيه نفيه. وهذا هو الذي يسميه المنطقيون: الشرطي المتصل، ويقولون: استثناء عين المقدم ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، فإذا كان التلازم من الجانبين كان استثناء عين كل من المتلازمين ينتج عين الآخر، واستثناء نقيض كل منهما ينتج نقيض الآخر. وبيان ذلك هاهنا: أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة الشرع، كما قد ذكروا هم ذلك، وقد تقدم أنه ليس المراد بكونه أصلاً له أنه أصل في ثبوته في نفسه، وصدقه في ذاته، بل هو أصل في علمنا به، أي دليل لنا على صحته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 فإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه. وهذا كالمخلوقات، فإنها آية للخالق، فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها. وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي، وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالة على بعض الأحكام: يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم، ولا يلزم من عدمها عدمه، إذ قد يكون الحكم معلوماً بدليل آخر، اللهم إلا أن يكون الدليل لازماً للمدلول عليه، فيلزم من عدم اللازم عدم الملزوم، وإذا كان لازماً له أمكن أن يكون مدلولاً له، إذ المتلازمان، يمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلا بدليل شرعي، فإنه يلزم من عدم دليله عدمه. وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، إذا لم ينقل لزم من عدم نقله عدمه، ونقله دليل عليه، وإذا كان من المعقول ما هو دليل على صحة الشرع، لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع، ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر. لكن نحن إذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بصحة الشرع إلا ذلك العقل، لزم من علمنا بالشرع علمنا بدليله العقلي الدال عليه، ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به، فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه. وهذا هو معنى كون النظر يفيد العلم. وهذا التلازم فيه قولان: قيل: إنه بطريق العادة التي يمكن خرقها. وقيل: بطريق اللزوم الذاتي الذي لا يمكن انفصاله، كاستلزام العلم للحياة، والصفة لموصوفٍ وكاستلزام جنس العرض لجنس الجوهر، لامتناع ثبوت صفةٍ وعرض، بدون موصوفٍ وجوهر. المقصود هنا: أنه إذا كان صحة الشرع لا تعلم إلا بدليل عقلي، فإنه يلزم من علمنا بصحة الشرع، علمنا بالدليل العقلي الدال عليه، ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي، علمنا بصحة الشرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وهكذا الأمر في كل ما لا يعلم إلا بالدليل، ويلزم أيضاً من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع، ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل. وإذا كان العلم بصحة الشرع لازماً للعلم بالمعقول الدال عليه، وملزوماً له، ولازماً لثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، كما أن ثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، مستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر، فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم، فضلاً عن تعارض المتلازمين، فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر، كالضدين والنقيضين. والمتلازمان يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، فكيف يمكن أن يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين، أو متضادين؟ وإذا قال القائل: نحن إنما قدحنا في القدر الذي خالف العقل من الشرع، لم نقدح في كل الشرع. قيل: ومن قدم الشرع إنما قدح في ذلك القدر مما يقال إنه عقل، لم يقدح في كل عقل، ولا في العقل الذي هو أصل يعلم به صحة الشرع. وإنما قلنا: ((مما يقال إنه عقل)) لأنه ليس بمعقول صحيح، وإن سمّاه أصحابه معقولاً. فإن من خالف الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليس معه لا عقل صريح ولا نقل صحيح، وإنما غايته أن يتمسك بشبهات عقلية أو نقلية، كما يتمسك المشركون والصابئون من الفلاسفة وغيرهم بشبهات عقلية فاسدة، وكما يتمسك أهل الكتاب المبدل المنسوخ بشبهات نقلية فاسدة. قال الله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات) وقال تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) . ولهذا كان من قدم العقل على الشرع لزمه بطلان العقل والشرع، ومن قدّم الشرع لم يلزمه بطلان الشرع، بل سَلِمَ له الشرع. ومعلوم أن سلامة الشرع للإنسان، خير له من أن يبطل عليه العقل والشرع جميعاً. وذلك لأن القائل الذي قال: العقل أصل الشرع، به علمت صحته، فلو قدّمنا عليه الشرع للزم القدح في أصل الشرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 يقال له: ليس المراد بكونه أصلاً له: أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، بل هو أصل في علمنا به، لكونه دليلاً لنا على صحة الشرع. ومعلوم أن الدليل مستلزم لصحة المدلول عليه، فإذا قدر بطلان المدلول عليه لزم بطلان الدليل، فإذا قدر عند التعارض أن يكون العقل راجحاً والشرع مرجوحاً، بحيث لا يكون خبره مطابقاً لمخبره، لزم أن يكون الشرع باطلاً، فيكون العقل الذي دلّ عليه باطلاً، لأن الدليل مستلزم للمدلول عليه، فإذا انتفى المدلول اللازم وجب انتفاء الدليل الملزوم وقطعاً. ولهذا يمتنع أن يقوم دليل صحيح على باطل، بل حيث كان المدلول باطلاً لمن يكن الدليل عليه إلا باطلاً. إما إذا قدّم الشرع، كان المقدم له قد ظفر بالشرع، ولو قدر مع ذلك بطلان الدليل العقلي، لكان غايته أن يكون الإنسان قد صدق بالشرع بلا دليل عقلي، وهذا مما ينتفع به الإنسان، بخلاف من لم يبق عنده لا عقل ولا شرع، فإن هذا قد خسر الدنيا والآخرة. فكيف والشرع يمتنع أن يناقض العقل المستلزم لصحته؟! وإنما يناقض شيئاً آخر ليس هو دليل صحته، بل ولا يكون صحيحاً في نفس الأمر. وأيضاً فلو قدر أنه ناقض دليلاً خاصاً عقلياً يدل على صحته، فالأدلة العقلية الدالة على صحة الشرع متنوعة متعددة، فلا يلزم من بطلان واحدٍ منها بطلان غيره، بخلاف الشرع المدلول عليه، فإنه إذا قدر بطلانه لزم بطلان جميع ما يدل عليه من المعقولات. وأيضاً فإن هؤلاء المعارضين للشرع بالعقل، هم يدعون في معقولات معينة أنه عرفوا بها الشرع، كدعوى الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم أن الشرع إنما تعلم صحته بالدليل الدال على حدوث الأجسام، المبني على أن الأجسام مستلزمة للأعراض، والأعراض حادثة لامتناع حوادث لا أول لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 وهذا الدليل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العلم بصدق الرسول ليس موقوفاً عليه، لأن الذين آمنوا بالله ورسوله، وشهد لهم القرآن بالإيمان، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، لم يستدلوا على صدق الرسول بهذا الدليل. وحينئذ فلو قُدر أن هذا الدليل صحيح، لم يلزم من عدم الاستدلال به بطلان الإيمان بالرسول، بل يمكن الاستدلال على صدق الرسول بالأدلة الأخرى، كالأدلة التي استدل بها السلف وجماهير الأمة. وحينئذ إذا قدر أن هذا المعقول المعين مناقض لخبر الرسول، لم يلزم من تقديم خبر الرسول عليه، القدح في أصل السمع الذي لا يعلم إلا به، فكيف إذا كان هذا الدليل باطلاً؟!. فإنه حينئذ لا يجوز أن يعتمد عليه في إثبات شيء ولا نفيه، فثبت أنه على كل تقدير لا يجب تقديمه على الشرع. ومن زعم من أهل الكلام أنه لا طريق إلى معرفة الصانع وصدق رسوله إلا هذا، فإنه من أجهل الناس شرعاً وعقلاً. أما الشرع فقد علم أن السابقين الأولين لم يستدلوا به. وأما العقل، فإن قول القائل: إنه لا دليل إلا هذا، قضية كلية سالبة، وشهادة على النفي العام، وأنه ليس لأحدٍ من بني آدم علم يعلم به صدق الرسول إلا هذا، وهذا مما لم يقيموا عليه دليلاً، بل لا يمكن أحدٌ العلم بهذا النفي لو كان حقاً، فكيف إذا كان باطلاً؟! . وكذلك جميع ما يعارضون به الشرع من العقليات، فإنه لا تخلو من أمرين: إن كانت صحيحة فلم تصح الدلالة في المسلك العقلي، ولا يلزم من بطلانه بطلان دليل الشرع، إذ كان للشرع أدلة عقلية تدل عليه غير ذلك المعيّن العقلي، وإن كانت باطلة فهي من العقليات الباطلة، وليست أصلاً للشرع، فجيب أن يعرف معنى كون العقل أصلاً للشرع: أن المراد به أنه دليل. ونحن قد بيّنا أن كل ما عارض الشرع من العقليات فليس هو دليلاً صحيحاً، فضلاً عن أن يكون هو الدليل على صحة الشرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 فإن قيل: نحن إذا قدّمنا العقل لم يبطل الشرع، بل نفوضه أو نتأوله. قيل: إن لم يكن الشرع دالاً على نقيض ما سميتموه معقولاً، فليس هو محل النزاع، وإن كان الشرع دالاً فتفويضه تعطيل لدلالة الشرع، وذلك إبطال له، وإذا دل الشرع على شيء، فالإعراض عن دلالته كالإعراض عن دلالة العقل. فلو قال القائل: أنا قد علمت مراد الشارع، وأما المعقول فأفوضه، لأني لم أفهم صحته ولا بطلانه، فما أنا جازم بمخالفته لما دل عليه الشرع، وقد رأيت المدعين للمعقولات مختلفين، فما أنا واثق بهذا المعقول المناقض للشرع- كان هذا أقرب من قول من يقول: إن الله ورسوله لم يبين الحق، بل تكلم بباطل يدل على الكفر، ولم يبين مراده، فإن المقدّم للمعقول عند التعارض لابد أن يقول: إن الشرع يدل على خلاف العقل: إما نصاً، وإما ظاهراً. وإلا فإذا لم يكن له دلالة بحال تخالف العقل امتنعت المعارضة، وحينئذ فحقيقة قوله: إن الله –ورسوله- أظهر ما هو باطل وضلال وكفر ومحال، لم يبين الحق ولا هدى الخلق، وإنما الخلق عرفوا الحق بعقولهم. والمقدّم للشرع يقول: إن الله – ورسوله- بيّن المراد، وهدى العباد، وأظهر سبيل الرشاد، ولكن هؤلاء المخالفون له ضلُّوا، وهم الذين قال الله فيهم: (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) فأنا أطعن فيما خالفوا به الرسول، ونبذوا به كتاب الله وراء ظهورهم، وخالفوا به الكتاب والسنة والإجماع، لا أطعن في العقليات الصحيحة الصريحة، الدالة على أن الرسول صادق بلّغ البلاغ المبين، فإن هذه المعقولات يمتنع معها أن يكون الرسول هو الرسول الذي وصفوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 فهذا القائل قد صدّق بالمعقول الصريح والمنقول الصحيح، وصدّق بموجب الأدلة العقلية والنقلية. وأما ذاك القائل فإنه لم يتقبل بموجب الدليل العقلي الدال صدق الرسول وتبليغه وبيانه وهداه للخلق، ولا قام بموجب الدليل الشرعي الذي دل عليه ما دل عليه نصاً أو ظاهراً، بل طعن في دلالة الشرع، وفي دلالة العقل الذي يدل على صحة الشرع. فتبين أن ذلك المقدم للشرع هو المتبع للشرع وللعقل الصحيح، دون هذا الذي ليس معه لا سمع ولا عقل. ومما يوضح هذا: أن ما به عرف صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله تعالى، وأنه لا يكون فيه كذب ولا خطأ يدل على ثبوت ذلك كله، لا يميز بين خبر وخبر، بل الدليل الدال على صدقه يقتضي ثبوت جميع ما أخبر به. وإذا كان ذلك الدليل عقلياً، فهذا الدليل العقلي يمنع ثبوت بعض أخباره دون بعض، فمن أقرَّ ببعض ما أخبر به الرسول دون بعض، فقد أبطل الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وقد أبطل الشرع، فلم يبق معه لا عقل ولا شرع. وهذا حال من آمن ببعض الكتاب دون بعض قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً) . ولا ريب أن من قدّم على كلام الله ورسوله ما يعارضه من معقول أو غيره، وترك ما يلزمه من الإيمان به، كما آمن بما يناقضه، فقد آمن ببعضٍ وكفر ببعض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 وهذا حقيقة حال أهل البدع، كما في كتاب ((الرد على الزنادقة والجهمية)) لأحمد بن حنبل وغيره من وصفهم بأنهم: ((مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب)) . وقوله: ((مختلفون في الكتاب)) يتضمن الاختلاف المذموم المذكور في قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينان وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) فهذا الاختلاف يحمد فيه المؤمنون، ويذم فيه الكافرون. وأما الاختلاف في الكتاب الذي يذم فيه المختلفون كلهم، فمثل أن يؤمن هؤلاء ببعض دون بعض، وهؤلاء ببعض دون بعض، كاختلاف اليهود والنصارى، وكاختلاف الثنتين وسبعين فرقة. وهذا هو الاختلاف المذكور في قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك) ، وفي قوله تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) فأغرى بينهم العداوة والبغض، بسبب ما تركوه من الإيمان بما أنزل عليهم. وهذا هو الوصف الثاني فيما تقدم من قول أحمد: ((مخالفون للكتاب)) فإن كلاً منهم يخالف الكتاب. وأما قوله بأنهم: ((متفقون على مخالفة الكتاب)) فهذا إشارة إلى تقديم غير الكتاب على الكتاب، كتقديم معقولهم وأذواقهم وآرائهم ونحو ذلك على الكتاب، فإن هذا اتفاق منهم على مخالفة الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 ومتى تركوا الاعتصام بالكتاب والسنة فلابد أن يختلفوا، فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزلٌ من السماء، كما قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم) . وكما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 الوجه الثالث والثلاثون: أن يقال: إن الشرع لا يمكن أن يخالفه العقل الدال على صحته، بل هما متلازمان في الصحة، وهذا القدر لا يمكن مؤمن بالله ورسوله أن ينازع فيه، بل لا ينازع مؤمن بالله ورسوله أن العقل لا يناقض في نفس الأمر، لكن الذي تقوله الجهمية والقدرية وغيرهم من أهل البدع أن تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبني على الأدلة النافية للصفات والقدر، كما يقولونه من أن صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه، وقيام المعجزة موقوف على أن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة، وذلك موقوف على أن فعل الله قبيح، والله لا يفعل القبيح، وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على أنه غنُّي عنه عالم بقبحه، والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله، وغناه عنه موقوف على أن ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على نفي صفاته وأفعاله، لأن الموصوف بالصفات والأفعال جسم، ونفي ذلك موقوف على ما دل على حدوث الجسم، فلو بطل الدال على حدوث الجسم بطل ما دل على صدق الرسول فهذا أصل قولهم، ومن وافقهم في نفي بعض الصفات أو الأفعال قال بما يناسب مطلوبه من هذا الكلام، فحقيقة قولهم إنه لا يمكن التصديق بكل ما في الشرع، بل لا يمكن تصديق البعض إلا بعدم تصديق البعض الآخر. وحينئذ فدليلهم العقلي ليس دالاً على صدق الرسول إلا على هذا الوجه، فلا يمكنهم قبول ما يناقضه من نصوص الكتاب والسنة. وحينئذ فيقال لهم: لا نسلم أن مثل هذا هو الأصل الذي به علم صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل هذا معارضة لقول الرسول بما لا يدل على صدقه، فبطل قول من يقول: إنّا إذا قدَّمنا الشرع كان ذلك طعناً في أصله. وهذه المقدمات التي ذكروها عامتها ممنوعة. وإذا قال أحدهم: نحن لا نعلم صدق الرسول إلا بهذا، أو لا نعلم دليلاً يدل على صدق الرسول إلا هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 قيل: لا نسلّم صحة هذا النفي، وعدم العلم ليس علماً بالمعلوم، وأنتم مكذّبون لبعض ما جاء به الشرع، وتدّعون أنه لا دليل على صدق الرسول سوى طريقكم، فقد جمعتم بين تكذيبٍ ببعض الشرع، وبين نفيّ لا دليل عليه، فخالفتم الشرع بغير حجة عقلية أصلاً. الوجه الرابع والثلاثون: أن يُقال: القول بتقديم غير النصوص النبوية عليها، من عقل أو كشف أو غير ذلك، يوجب أن لا يستدل بكلام الله ورسوله على شيء من المسائل العلمية، ولا يصدق بشيء من أخبار الرسول لكون الرسول أخبر به، ولا يستفاد من أخبار الله ورسوله هدى ولا معرفة بشيء من الحقائق، بل ذلك مستلزم لعدم الإيمان بالله ورسوله، وذلك متضمن للكفر والنفاق والزندقة والإلحاد، وهو معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام، كما أنه في نفسه قول فاسد متناقض في صريح العقل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق، كما يجد ذلك من اعتبره، وذلك لأنه إذا جوّز أن يكون ما أخبر الله به ورسوله، وبلّغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أمته من القرآن والحديث، وما فيه من ذكر صفات الله تعالى، وصفات ملائكته وعرشه، والجنة والنار، والأنبياء وأممهم، وغير ذلك مما قصّه الله في كتابه، أو أمر به من التوحيد والعبادات والأخلاق، ونهى عنه من الشرك والظلم والفواحش وغير ذلك، إذا جوّز المجوّز أن يكون في الأدلة العقلية القطعية، التي يجب اتباعها وتقديمها عليه عند التعارض، ما يناقض مدلول ذلك ومفهومه ومقتضاه، لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء مما أخبر به الرسول، إن لم يعلم انتفاء المعارض المذكور، وهو لا يمكنه العلم بانتفاء هذا المعارض، إن لم يعلم بدليل آخر عقلي ثبوت ما أخبر به الرسول، وإلا فإذا لم يعلم بدليل عقلي ثبوته، وليس معه ما يدله على ثبوته إلا إخبار الله ورسوله –وهذا عنده مما يجوز أن يعارضه عقلي تقدم عليه – فلا طريق له إلى العلم بانتفاء المعارضات العقلية، إلا أن يحيط علماً بكل ما يخطر ببال بني آدم، مما يظن أنه دليل عقلي. وهذا أمر لا ينضبط، وليس له حد، فإنه لا يزال يخطر لبني آدم من الخواطر، ويقع لهم من الآراء والاعتقادات، ما يظنونه دلائل عقلية، وهذه تتولد مع بني آدم كما يتولد الوسواس وحديث النفس، فإذا جوّز أن يكون فيها ما هو قاطع عقلي معارض للنصوص مستحق للتقديم عليها، لم يمكنه الجزم بانتفاء هذا المعارض أبداً، فلا يمكنه الجزم بشيء مما أخبر به الرسول –بمجرد إخباره- أبداً، فلا يؤمن بشيء مما أخبر به الرسول، لكونه الرسول أخبر به أبداً، ولا يستفيد من خبر الله ورسوله علماً ولا هدي، بل ولا يؤمن بشيء من الغيب الذي أخبر به الرسول إذا لم يعلم ثبوته بعقله أبداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه. ثم إن لم يقم عنده المعارض المقدّم بقي لا مصدقاً بما جاء به الرسول ولا مكذباً به، وهذا كفر باتفاق أهل الملل، وبالاضطرار من دين الإسلام. وإن قام عنده المعارض المقدّم كان مكذباً للرسول، فهذا في الكفر الذي هو جهل مركب، وذلك في الكفر الذي هو جهل بسيط. ويتناول كلاً منهما قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً. لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً. وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً. وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً) . وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) وأمثال ذلك. ولهذا كان هذا الأصل الفاسد مستلزماً للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه، فمن طرده أدّاه إلى الكفر والنفاق والإلحاد، ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح، وظهر ما في قوله من التناقض والفساد. ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل، حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى الباقي إن أمكنة الدعوة، وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد، فإن هذا الأصل مناقض معارض لدين جميع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 الوجه الخامس والثلاثون: أن يقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به، وقطعهم بثبوت ما أخبرهم به، وأنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمناً به، بل إذا أقر أنه رسول الله، وأنه صادق فيما أخبر، ولم يقر بما أخبر به من أنباء الغيب –لجواز أن يكون ذلك متيقناً في نفس الأمر بدليل لم يعلمه المستمع، ولا يمكن إثبات ما أثبته الرسول بخبره إلا بعد العلم بذلك – فإن هذا ليس مؤمناً بالرسول. وإذا كان هذا معلوماً بالاضطرار، كان قول هؤلاء المعارضين لخبره بآرائهم معلوم الفساد بالضرورة من دينه، وحينئذ فإما أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله فيصدّقه في كل ما أخبر به، ويعلم أنه يمتنع أن يكون ذلك منتفياً في نفس الأمر، وأنه لا دليل يدل على انتفائه، وإمّا أن يكون الرجل غير مصدّق للرسول في شيء مما أخبر به، إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير خبر الرسول، ومن لم يقرّ بما أخبر به الرسول إلا بدليل منفصل لم يكن مؤمناً به، بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض: إن قام دليل على قوله وافقه، وإلا لم يوافقه. ومعلوم أن هذا حال الكفار بالرسل، لا المؤمنين بهم، ورؤوس هؤلاء الذين قال الله فيهم: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله. الله أعلم حيث يجعل رسالته) . الوجه السادس والثلاثون: أن الذين يعارضون الشرع بالعقل. ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول، ويقولون: إن العقل أصل الشرع، فلو قدمناه عليه للزم القدح في أصل الشرع – إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقرُّوا بصحة الشرع بدون المعارض، وذلك بأن يقروا بنبوة الرسول، وبأنه قال هذا الكلام، وبأنه أراد به كذا، وإلا فمع الشك في واحدةٍ من هذه المقدمات، لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل، فيكف مع معارضة العقل؟!. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 أما النبوة: فمن لم يعلم أن الرسول عالم بهذه القضية التي أخبر بها، وأنه معصوم أن يقول فيها غير الحق، لم يمكن أن يعلم حكمها بخبره، فمتى جوز أن يكون غير عالم مع خبره بها، يجوز عليه أن يخطئ فيما يخبر به عن الله واليوم الآخر أو أن يكذب، لم يستفد بخبره علماً، ومن كانت النبوة عنده مكتسبة، من جنس نبي الفلاسفة، وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم، وقوة يتصرف بها في العالم، وقوة تجعل المعقولات في نفسه خيالات ترى وتسمع، فتكون تلك الخيالات ملائكة الله وكلامه، كما يقوله ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة – لم يمكنه أن يجزم بأن الرسول عالم بما يقوله، معصوم أن يقول غير الحق، فكيف إذا كان يقول: إن الرسول قد يقول ما يعلم خلافه؟!. فهؤلاء يمتنع أن يستفيدوا بخبر الرسول علماً، فكيف يتكلمون في المعارضة؟ وكذلك من لم يعلم ثبوت الأخبار لم يتكلم في حصول العلم بموجبها، وكذلك من قال: إن الدليل السمعي لا يعلم به مراد المتكلم، كما يقول الرازي ومتبعوه الذين يزعمون أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم، فهؤلاء ليس عندهم دليل شرعي يفيد العلم بما أخبر به الرسول، فكيف يعارضون ذلك المعقول؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 وكذلك أيضاً من عرف أن معقولاتهم التي يعارضون بها الشرع باطلة، امتنع أن يعارض بها دليلاً ظنياً عنده، فضلاً عن أن يعارض بها دليلاً يقينياً عنده، ولهذا كان الذين صرحوا بتقديم الأدلة العقلية على الشرعية مطلقاً، ليس فيهم من يستفيد من الأنبياء علماً بما أخبروا به، إذا لم يكونوا مقرّين بأن الرسول بلّغ البلاغ المعصوم، بل إيمانهم بالنبوة فيه ريب: إما لتجويز أن يقول خلاف ما يعلم وإما لتجويز أن لا يكون عالماً بذلك، وإما لأنه جائز في النبوة –لم يجزم بعد بأن النبي معصوم فيما يقوله، وأنه بلّغ البلاغ المبين، فلا تجد أحداً ممن يقدّم المعقول مطلقاً على خبر الرسول إلا وفي قلبه مرض في إيمانه بالرسول، فهذا محتاج أولاً إلى أن يعلم أن محمداً رسول الله الصادق المصدوق، الذي لا يقول على الله إلا الحق، وأنه بلّغ البلاغ المبين، وأنه معصوم عن أن يقرّه الله على خطأ فيما بلّغه وأخبر. الوجه السابع والثلاثون: أن يقال: قول هؤلاء متناقض، والقول المتناقض فاسد. وذلك أن هؤلاء يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون بعض، وليس في المنتسبين إلى القبلة، بل ولا في غيرهم، من يمكنه تأويل جميع السمعيات. وإذا كان كذلك قيل لهم: ما الفرق بين ما جوزتم تأويله، فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البيّن وبين ما أقررتموه؟ . فهم بين أمرين: إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم: إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه، وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه. فيقال لهم: فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء، فإنه لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية، كما تقدّم بيانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 وأيضاً فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي، فإنه –على قولكم-: إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولاً له معنى مفهوم، وهو لا يريد ذلك، لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس، أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك- جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك، لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخالف ذلك، أو لكون ذلك ليس معلوماً بدليل عقلي ونحو ذلك، فإنه إذا جاز أن يكون موقوفاً على أمثاله من الشروط، إذ الجميع يشترك في أن الوقف على مثل هذا الشرط، يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به. وإن قالوا بتأول كل شيء، إلا ما علم بالاضطرار أنه أراده، كان ذلك أبلغ، فإن ما من نص واردٍ، إلا ويمكن الدافع له أن يقول: ما يعلم بالاضطرار أنه أراد هذا. فإن كان للمثبت أن يقول: أنا أعلم بالاضطرار أنه أراده. كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت أن يقول أيضاً مثل ذلك. فعلم أن قولهم باطل، وأن قولهم: لا نتأول إلا ما عارضه القطعي –قول باطل، ومع بطلان قولهم قد يصرحون بلازمه، وأنه لا يستفاد من السمعيات علم، مع أنهم يستفيدون منها علماً، فيتناقضون، ومن لم يتناقض منهم فعليه أن يقول: أخبار الرسول ثلاثة أقسام: ما علم ثبوته بدليل منفصل صدق به، وما علم أنه عارضه العقل القاطع كان مأولاً، وما لا يعلم بدليل منفصل لا يمكن لا ثبوته ولا انتفاؤه، وكان مشكوكاً فيه موقوفاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 الوجه الثامن والثلاثون: أن يقال: هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبق معهم إلا طريقان: إما طريق النظار: وهي الأدلة القياسية العقلية، وإما طريق الصوفية: وهي الطريقة العبادية الكشفية، وكل من جرب هاتين الطريقين علم أن ما لم يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا ربّ العباد، ولهذا كان من سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك، إن كان له نوع عقل وتمييز، وإن كان جاهلاً دخل في الشطح والطامات التي لا يصدّق بها إلا أجهل الخلق. فغاية هؤلاء الشك، وهو عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء الشطح، وهو التصديق بالباطل، والأول يشبه حال اليهود، والثاني يشبه حال النصارى، فحذّاق أهل الكلام والنظر يعترفون بالحيرة والشك، كما هو معروف عن غير واحد منهم، كالذي كان يتكلم على المنبر فأخذ ينكر العلو على العرش، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو لم يتحول عما كان عليه: فقال إليه الشيخ أبو الفضل جعفر الهمذاني وقال: دعنا يا أستاذ من ذكر العرش واستواء الله عليه، يعني أن هذا يعلم بالسمع، وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما قال عارف قط: يا الله، إلا ويجد قبل أن يتحرك لسانه في نفسه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فهل عندك من جواب على هذا؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 الوجه التاسع والثلاثون: أنا نعلم بالاضطرار من دين النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودين أمته المؤمنين به، بطلان لوازم هذا القول، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، بل نعلم باضطرار أن من دينه أن لوازم هذا القول من أعظم الكفر والإلحاد، وذلك لأن لازم هذه المقالة وحقيقتها ومضمونها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكون فيما أخبر به عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: لا علم ولا هدى، ولا كتاب منير، فلا يستفاد منه علمٌ بذلك، ولا هدى يعرف به الحق من الباطل، ولا يكون الرسول قد هدى الناس ولا بلّغهم بلاغاً بيناً، ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا هداهم إلى صراط العزيز الحميد. ومعلوم أن كثيراً من خطاب القرآن، بل أكثره، متعلق بهذا الباب، فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدراً وصفة. فإذا كان هذا الخطاب لا يستفيدون منه معرفةً، ولم يبيّن لهم الرسول مراده ومقصوده بهذا الخطاب، بل إنما يرجع أحدهم في معرفة الأمور التي ذكرها ووصفها وأخبرهم عنها، إلى مجرد رأيه وذوقه، فإن وافق خبر الرسول ما عنده صدّق بمفهوم ذلك ومقتضاه، وإلا أعرض عنه، كما يعرض المسلم عن الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب – كان هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول. وهذا يعلمه كل من علم ما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، سواء كان مؤمناً أو كافراً، فإن كل من بلغته دعوة الرسول، وعرف ما كان يدعو إليه، علم أنه لم يكن يدعو الناس إلى أن يعتقدوا فيه هذه العقيدة. فالمقصود أنه يعلم بالاضطرار أن هؤلاء مناقضون لدعوة الرسول، وأن هذا يعرفه كل من عرف حال الرسول من مؤمن وكافر، ولوازم هذا القول أنواع كثيرة من الكفر والإلحاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 الوجه الأربعون: أن يقال: إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما بيّن للناس أصول إيمانهم، ولا عرّفهم علماً يهتدون به، في أعظم أمور الدين، وأجل مقاصد الدعوة النبوية، وأجل ما خلق الخلق له، وأفضل ما أدركه الخلق وحصّلوه وانتهوا إليه، بل إنما بين لهم الأمور العملية، فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من علّمهم وبيّن لهم أشرف القسمين، وأعظم النوعين، كان ما أتاهم به أفضل مما أتاهم به من لم يبين إلا القسم المفضول والنوع المرجوح. وحينئذ فمذهب النفاة للصفات ليس من أئمته أحد من خيار هذه الأمة وسابقيها، وإنما أئمتهم الكبار: القرامطة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، ومن يوافق هؤلاء من ملاحدة الفلاسفة، وملاحدة المتصوفة القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد، كابن سينا، والفارابي، وابن عربي، وابن سبعين، وأمثال هؤلاء. ثم من هو أمثل هؤلاء، كأئمة الجهمية: مثل الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وأبي الهذيل العلاف، وأبي إسحاق النظام وبشر المريسي، وثمامة بن أشرس، وأمثال هؤلاء، فيكون ما أتى به هؤلاء من العلم والهدى والمعرفة، أفضل وأشرف مما أتى به موسى بن عمران، ومحمد بن عبد الله سيد ولد آدم، وأمثالهم من الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، لأن هؤلاء عند النفاة الجهمية لم يبينوا أفضل العلم وأشرف المعرفة، وإنما بينها أولئك على قول النفاة. ولازم هذا القول أن يكون عند النفاة الجهمية أولئك أفضل من الأنبياء والرسل في العلم بالله وبيان العلم بالله، وقد صرّح أئمة هؤلاء بهذا، فابن عربي وأمثاله يقولون: الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحي به إلى الرسول. وابن سبعين يقول: إنه بيّن العلم الذي رمز إليه هرامس الدهور الأولية، ورامت إفادته الهداية النبوية. فعلى قوله: إن الأنبياء راموا إفادته وما أفادوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وطائفة من المتفلسفة يقولون: إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه، وهكذا ملاحدة الشيعة من الإسماعيلية ونحوهم، يقولون إن أئمتهم، كمحمد بن إسماعيل بن جعفر ونحوه، أفضل من موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين. الوجه الحادي والأربعون: أن يقال يلزم من هذا القول أن كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارةً ويبين أخرى، كما يوجد في كلام كثير من أهل الكلام الفلسفة، كابن الخطيب، وابن سينا، وابن عربي، وأمثالهم خيراً من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذّاب، الذي ليس فيه كذب في نفسه، وإن كانت نسبته إلى الله كذب، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا لجليل – عند هؤلاء الملاحدة خيراً من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيراً من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه ولا فساد، بل يضحك المستمع – كما يضحك الناس – من أمثاله. وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسوله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا – إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعباً عظيماً في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من اتباع الرسل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 الوجه الثاني والأربعون: أن يقال: كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في الطب أو الحساب أو النحو أو السياسة والأخلاق أو الهيئة أو غير ذلك من الأمور، بكلام عظم قدره وكبر أمره، وذكر أنه بيّن لهم به وعلم. وهدى به وأفهم، ولم يكن في ذلك الكلام بيان تلك المعلومات، ولا معرفة لتلك المطلوبات، بل كانت دلالة الكلام على نقيض الحق أكمل، وهي على غير العلم أدلّ –كان هذا: إما مفرطاً في الجهل والضلالة، أو الكذب والشيطنة والنذالة، فكيف إذا كان قد تكلّم في الأمور الإلهية، والحقائق الربانية، التي هي أجل المطالب العالية، وأعظم المقاصد السامية، بكلام فضّله على كل كلامٍ، ونسبه إلى خالق الأنام، وجعل من خالفه شبيهاً بالأنعام، وجعلهم من شر الجهلة الضلال الكفار الطغاة، وذلك الكلام لم يدل على الحق في الأمور الإلهية، ولا أفاد علماً في مثل هذه القضية، بل دلالته ظاهرة في نقيض الحق والعلم والعرفان، مفهمة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجع إليه ذوو الإيقان، فهل يكون مثل هذا المتكلم إلا في غاية الجهل والضلال، أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال!؟.. فهذا حقيقة قول هؤلاء الملاحدة في رسل الله، الذين هم أفضل الخلق وأعلمهم بالله، وأعظمهم هدى لخلق الله، لا سيما خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم، الذي هو أعلم الخلق بالله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق في بيان هدى الله، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. ومن المعلوم أن من وصف الأمر على خلاف ما هو عليه، فإما أن يكون قد أُتي من علمه أو قصده أو عجزه، فإنه قد يكون جاهلاً بالحق، وقد لا يكون جاهلاً به، بل ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم وبيان الأمر لهم، كما يقصده أهل الكيد والخداع والنفاق وأمثالهم، وإما أن يكون علمه تاماً وقصده البيان والإيضاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 فإن الفعل يتعذر لعدم العلم، أو لعدم القدرة، أو لعدم الإرادة، فأما إذا كان الفاعل له مريداً له، وهو قادر عليه وعالم بما يريده، لزم حصول مطلوبه. ومن المعلوم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده، وأمثال ذلك من الغيب، وهو أحرص الخلق على تعليم الناس وهدايتهم. كما قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) . ولهذا كان من شدة حرصه على هداهم يحصل له ألم عظيم إذا لم يهتدوا، حتى يُسلّيه ربه ويعزيه كقوله تعالى: (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل) . وقال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) وقال تعالى: (لعلك باخعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين) وقال تعالى: (وإن كان كبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآيةٍ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) . ثم إنه سبحانه وتعالى أمره بالبلاغ المبين، فقال تعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمل وعليكم ما حُملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغُ المبين) وقال تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) وقال تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 فإذا كان المخاطب أعلم الخلق بما يخبر به عنه، ويصفه ويخبر به، وأحرص الخلق على تفهيم المخاطبين وتعريفهم، وتعليمهم وهداهم، وأقدر الخلق على البيان والتعريف لما يقصده ويريده، كان من الممتنع بالضرورة أن لا يكون كلامه مبيناً للعلم والهدى والحق، فيما خاطب به، وأخبر عنه، وبينه ووصفه، بل وجب أن يكون كلامه أحق الكلام بأن يكون دالاً على العلم والحق والهدى، وأن يكون ما ناقض كلامه من الكلام، أحق الكلام بأن يكون جهلاً وكذباً وباطلاً. وهذا قول جميع من آمن بالله ورسوله، فتبين أن قول الذين يعرضون عن طلب الهدى والعلم في كلام الله ورسوله، ويطلبونه في كلام غيره، من أصناف أهل الكلام والفلسفة والتصوف وغيرهم، هم من أجهل الناس وأضلهم بطريق العلم، فكيف بمن يعارض كلامه بكلام هؤلاء الذين عارضوه وناقضوه، ويقول: إن الحق الصريح والعلم والهدى إنما هو في كلام هؤلاء المناقضين، المعارضين لكلام رسول رب العالمين، دون ما أنزله الله من الكتاب والحكمة، وبعث به رسوله من العلم والرحمة؟!. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 الوجه الثالث والأربعون: أن يقال: كل من سمع القرآن من مسلم وكافر، علم بالضرورة أنه قد ضمن الهدى والفلاح لمن أتّبعه، دون من خالفه، كما قال تعالى: (آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) . وقال تعالى: (آلمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين. أتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) وقال: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) . وقال تعالى: (وهذا كتابٌ أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) . وقال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم) . وقال تعال: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) . وكذلك نعلم أنه ذم من عارضه وخالفه، وجادل بما يناقضه، كقوله تعالى (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) . وقال تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) وأمثال ذلك. وإذا كان كذلك، فقد علم بالاضطرار أن من جاء بالقرآن، أخبر أن من صدّق بمضمون أخباره فقد علم الحق واهتدى، ومن أعرض عن ذلك كان جاهلاً ضالاً، فكيف بمن عارض ذلك وناقضه؟! وحينئذ فكل من لم يقل بما أخبر به القرآن عن صفات الله واليوم الآخر وغيرها. كان عند من جاء بالقرآن جاهلاً ضالاً، فكيف بمن قال بنقيض ذلك؟! فالأول عند من جاء بالقرآن في الجهل البسيط، وهؤلاء في الجهل المركب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 ولهذا ضرب الله تعالى مثلاً لهؤلاء، ومثلاً لهؤلاء، فقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) … فهذا مثل أهل الجهل المركب. وقال تعالى: (أو كظلمات في بحر لُجي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) ، فهذا مثل أهل الجهل البسيط. ومن تمام ذلك أن يعرف أن الضلاّل تشابها في شيئين: أحدهما الإعراض عمّا جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والثاني معارضته بما يناقضه، فمن الثاني الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة. فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه، سواء اعتقد ذلك بقلبه، أو قاله بلسانه. وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة، وهؤلاء من أهل الجهل المركب، الذين أعمالهم كسراب بقيعة. ومن لم يفهم خبر الرسول ويعرفه بقلبه، فهو من أهل الجهل البسيط، وهؤلاء من أهل الظلمات. وأصل الجهل المركب هو الجهل البسيط، فإن القلب إذا كان خالياً من معرفة الحق، واعتقاده والتصديق به، كان معرضاً لأن يعتقد نقيضه ويصدق به، لا سيما في الأمور الإلهية، التي هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسماها، والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق، وإلى جهته تمتد الأعناق، فالمهتدون فيه أئمة الهدى، كإبراهيم الخليل وأهل بيته، وأهل الكذب فيه أئمة الضلال، كفرعون وقومه. قال الله تعالى في أولئك: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) . وقال تعالى في الآخرين: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) . فمن لم يكن على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحاً لأئمة الضلال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 الوجه الرابع والأربعون: أن يقال: المعارضون للكتاب والسنة بآرائهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن كل واحد من الدليلين المتعارضين هو يقيني، وقد تناقضا على وجهٍ لا يمكن الجمع بينهما، فإن هذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول، ولكن نهاية ما يقولونه: إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وإن ما ناقضها من الأدلة البدعية – التي يسمونها العقليات- تفيد اليقين، فينفون اليقين عن الأدلة السمعية الشرعية، ويثبتونه لما ناقضها من أدلتهم المبتدعة، التي يدعون أنها براهين قطعية. ولهذا كان لازم قولهم الإلحاد والنفاق، والإعراض عمّا جاء به الرسول، والإقبال على ما يناقض ذلك، كالذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من مجادلي الرسل، كما قال: (وهمت كل أمةٍ برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) . وقوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) ، وقوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) . وأمثال ذلك. الوجه الخامس والأربعون: أن يقال: العقليات التي يقال أنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها فامتنع أن تكون أصلاً له بل هي باطلة وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر من أهل الكلام والفلسفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 الوجه السادس والأربعون: أنكم إذا اعتقدتم في الدليل السمعي أنه ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته على مخالف ما زعمتموه من العقل جهل أمكن أتباع الرسل المصدقين بما جاءوا به أن يعتقدوا في أدلتكم العقلية أنها ليست بأدلة في نفس الأمر وأن اعتقاد دلالتها جهل ويرمون أدلتكم بما رميتم به الأدلة السمعية ثم الترجيح من جانبهم من وجوه متعددة وكانوا في هذا الرمي أحسن حالاً منكم وأعذر، فإن معهم من البراهين الدالة على صحة ما أخبر به السمع إجمالاً وتفصيلاً من المعقول أصح مما معكم، ولا تذكرون معقولاً يعارض ما ورد به الوحي إلا ومعهم معقول أصح منه يصدقه. الوجه السابع والأربعون: أن يقال: إن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع؛ لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه وأنه لا نسبة له إليه، وأن نسبة علومه ومعارضه إلى الوحي، أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل أو تلك التي تَعْلق بالإصبع بالنسبة إلى البحر، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحاً في شهادته، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله، فتقديم العقل على الوحي، يتضمن القدح فيه وفي الشرع وهذا ظاهر لا خفاء به يوضحه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 الوجه الثامن والأربعون: وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين الملكي والبشري بينه وبين عباده مؤيداً بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة، ويستحسنه تارة، ويجوزه تارة، ويكع عن دركه تارة، ولا سبيل له إلى الإحاطة به، ولابد له من التسليم والانقياد لحكمه والإذعان والقبول، وهناك يسقط ((لم)) ، ويبطل ((كيف)) ، ويزول ((هلا)) ، ويذهب ((لو)) ((وليت)) في الريح لأن هذه المواد عن الوحي محبوسة، واعتراض المعترض عليه مردود واقتراح المقترح ما يظن أنه أولى منه سفه وجهل، فالشريعة مشتملة على أعلى أنواع الحكمة علماً وعملاً التي لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم يكن لها إليها نسبة، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان، فهي متكفلة بتعريف الخليقة بها وفاطرها المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه وكرامته والداعي لديه، وتعريف حال السالكين بعد الوصول إليه، ويقابل هذه الثلاثة تعريفهم حال الداعي إلى الباطل، والطرق الموصلة إليه، وحال السالكين تلك الطرق وإلى أين تنتهي بهم، ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل وقابلتها بالتسليم والإذعان واستدارت حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها. فبين ناصر باللغة السائغة، وحام بالعقل الصريح، وذاب عنه بالبراهين، ومجاهد بالسيف والرمح والسنان، ومتفقه في الحلال والحرام، ومعين بتفسير القرآن، وحافظ لمتون السنة وأسانيدها، ومفتش عن أحوال رواتها، وناقد لصحتها من سقيمها، ومعلولها من سليمها، فهي الشريعة ابتداؤها من الله، وانتهاؤها إليه، فمنه بدأت وإليه تعود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 الوجه التاسع والأربعون: أن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأكمله به ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشوف، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) . وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره، فقال: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقومٍ يؤمنون) . ذكر هذا جواباً لطلبهم آية تدل على صدقه فأخبر أنه يكفيهم من كل آية فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلاً على صدقه فضلاً عن أن يكون كافياً، وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهاناً على صحة النبوة، والمقصود أن الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه وما بعثه به فلم يحوج أمته إلى سواه، فلو عارضه العقل، وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافياً للأمة ولا كان تاماً في نفسه. في مراسيل أبي داود (1) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة فيها شيء من التوراة فقال: كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم. أُنْزل على نبي غير نبيهم، فأنزل الله عز وجل: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) . وقال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) . فأقسم سبحانه بنفسه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا، وتتسع صدورنا بحكمه، فلا يبقى منها حرج، ونسلم لحكمه تسليماً فلا نعارضه بعقل ولا رأي ولا هوى ولا غيره، فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذي يقدمون العقل على ما جاء به الرسول وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن   (1) حسنه الألباني في مشكاة المصابيح (177) لطرقه وشواهده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 آمنوا بلفظه، وقال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) . وهذا نص صريح في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده، وهو الحاكم فيه على لسان رسوله فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بوحيه وكتابه وقال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) فأمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهى عن اتباع ما خالفه وأخبر سبحانه أن كتابه بينة وشفاء وهدى ورحمة ونور وفضل وبرهان وحجة وبيان، فلو كان للعقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك، بل كانت هذه الصفات للعقل دونه وكان عنها بمعزل فكيف يشفي ويهدي ويبين ويفصل ما يعارضه صريح العقل؟ الوجه الخمسون: أن الأدلة السمعية هي الكتاب والسنة، والإجماع. وهو إنما يصار إليه عند تعذر الوصول إليهما، فهو في المرتبة الأخيرة، ولهذا أخره عمر في كتابه إلى أبي موسى حيث كتب إليه: ((اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن في السنة فبما قضى به الصالحون قبلك)) (1) . وهذا السلوك هو كان سلوك الصحابة والتابعين، ومن درج على آثارهم الأئمة. أول ما يطلبون النازلة من القرآن، فإن أصابوا حكمها فيه لم يعدوه إلى غيره، وإن لم يصيبوها فيه طلبوها من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أصابوها لم يعدوها إلى غيرها، وإن لم يصيبوها طلبوها من اتفاق العلماء، وقد صان الله الأمة أن تجمع على خطأ أو على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإذا كان الإجماع معصوماً أن ينعقد على ما يخالف العقل الصريح، بل إذا وجدنا معقولاً يخالفه الإجماع علمنا قطعاً أنه معقول فاسد، فلأن يصان كتاب الله، وسنة رسوله عن مخالفة العقل الصريح أولى وأحرى.   (1) صحيح النسائي (4989) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 الوجه الحادي والخمسون: أنه إذا قدر تعارض العقل والكتاب فرد العقل الذي لم تضمن لنا عصمته إلى الكتاب المعلوم العصمة هو الواجب. الوجه الثاني والخمسون: أن طالب الهدى في غير القرآن والسنة. قد شهد الله ورسوله له الضلال، فكيف يكون عقل الذي قد أضله الله مقدماً على كتاب الله وسنة رسوله؟ قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها وحيه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) . وقال: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) . وقال فيمن قدم عقله على ما جاء به: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جآءهم من ربهم الهدى) ، والقرآن مملوء بوصف من قدم عقله على ما جاء به بالضلال. وروى الترمذي، وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنها ستكون فتنة)) قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً. يهدي إلى الرشد) من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم)) . الوجه الثالث والخمسون: أن أصحاب القرآن والإيمان قد شهد الله لهم، وكفى به شهيداً بالعلم واليقين والهدى، وأنهم على بصيرة وبينة من ربهم، وأنهم هم أولو العقل والألباب والبصائر، وأن لهم نوراً على نور؛ وأنهم المهتدون المفلحون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 قال تعالى في حق الذين يؤمنون بالغيب، ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم: (آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) . وقال: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) . وهذا دليل ظاهر أن الذي نراه معارضاً للعقل، ويقدم العقل عليه ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير، ولا قليل ولا كثير. وقال: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) وهذه شهادة من الله على عمى هؤلاء وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك، وشهادة المؤمنين عليهم. وقال: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجةٍ الزجاجة كأنها كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرة مباركة زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نارٌ نورٌ على نور. يهدي الله لنوره من يشاء. ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله وصدق رسله في قلوب عباده، وموافقة ذلك لنور عقولهم وفطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع المشهود وأنه نور على نور. نور الوحي ونور العقل. نور الشرعة، ونور الفطرة. نور الأدلة السمعية، ونور الأدلة العقلية. وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم) . وقال تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) وقال تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) وقال تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) . ثم أخبر سبحانه عن حال المعرضين عن النور المعارضين للوحي بالعقل بمثلين يتضمن أحدهما وصفهم بالجهل المركب، والآخر بالجهل البسيط، لأنهم بين ناظر وباحث ومقدر ومفكر، وبين مقلد يحسن الظن بهم. فقال في الطائفتين: (والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحرٍ لجي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب. ظلماتٌ بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 الوجه الرابع والخمسون: أن الآيات والبراهين اليقينية، والأدلة القطعية، قد دلت على صدق الرسل، وأنهم لا يخبرون عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض، فهم صادقون فيما يبلغونه عن الله في الطلب والخبر، وهذا أول درجات النقيضين أنه حق، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي لا عقلي ولا سمعي، فإن كل ما يظن أنه يعارضه من ذلك فهي حجج داحضة، وشبه فاسدة، من جنس شبه السفسطة والقرمطة وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول، قد شهد له بذلك، وأنه ممتنع أن يعارض خبره دليلاً صحيحاً، كان هذا العقل شاهداً بأن كل ما عارض ما أخبر به الرسول فهو باطل، فيكون هذا العقل الصحيح، والسمع قد شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع. الوجه الخامس والخمسون: وهو أن الله سبحانه اقتضت حكمته وعدله أن يفسد على العبد عقله الذي خالف به رسله، ولم يجعله منقاداً لهم، مسلماً لما جاءوا به، مذعناً له، بحيث يكون مع الرسول كمملوكة المنقاد من جميع الوجوه، فأول ما أفسد سبحانه عقل شيخهم القديم إبليس، حيث لم ينقد به لأمره، وعارض النص بالعقل، وذكر وجه المعارضة، فأفسد عليه عقله غاية الإفساد، حتى آل الأمر إلى أن صار إمام المبطلين، وقدوة الملحدين، وشيخ الكفار والمنافقين. ثم تأمل كيف أفسد عقول من أعرض عن رسله وعارض ما أرسلوا به، فآل بهم فساد تلك العقول إلى ما قصه الله عنهم في كتابه، ومن فساد تلك العقول أنهم لم يرضوا بنبي من النبيين، ورضوا بإلهٍ من الحجر، ومن فساد تلك العقول أنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا عقوبة الدنيا والآخرة على سعادتهما، وبدلوا نعمة الله كفراً، وأحلوا قومهم دار البوار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرسول حتى آل أمرهم إلى مقالات الفلاسفة، التي قدموها على ما جاءت به الرسل، حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء، وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكار، واستنبطوها بعقولهم لعجز غيرهم عنها، لكن أفسد عليهم العقل الذي ينال به سعادة الأبد، حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود، ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين. وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مسخراً، مدبراً، مقهوراً على حركة لا يمكنه الخروج منها، وعلى مكان لا يمكنه مفارقته، وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه، وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتبه هذا الترتيب، ووضعه في هذا الموضع، وقهره على هذه الحركة. وكون سافله منفعلاً غير فاعل، متأثراً غير مؤثر كل وقت في مبدأ ومعاد، وشواهد الفقر والحاجة والحدوث ظاهرة على أجزائه وأنواعه، فجعلوه قديماً غير مخلوق، ولا مصنوع، فعطلوه عن صانعه وخالقه، ثم عطلوا الرب الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، فلم يثبتوا له ذاتاً ولا صفة، ولا فعلاً، ولا تصرفاً باختياره في ملكه ولا عالماً بشيء مما في العالم العلوي والسفلي، وعاجزاً من إنشاء النشأة الأولى أن يعيدها مرة ثانية. وفي الحقيقة لم يثبتوا رباً أنشأ شيئاً، ولا ينشئه، ولا أثبتوا لله ملائكة، ولا رسلاً، ولا كلاماً، ولا إلهية، ولا ربوبية. وأما الاتحادية فأفسد عقولهم فلم يثبتوا رباً، وظنوا أن في الخارج إنساناً كلياً، وحيواناً كلياً، وجعلوا وجود الرب وجوداً مطلقاً، مجرداً عن الماهيات، وقالوا: لا وجود للمطلق في الخارج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 وبالجملة: فلم يصيبوا في الإلهيات في مسألة واحدة، بل قالوا في جميعها ما أضحكوا عليهم العقلاء. وأما متكلمو الجهمية، والمعتزلة، فأفسد عقولهم عليهم حتى قالوا ما يسخر العقلاء من قائله، كما تقدم التنبيه على اليسير منه، وقالوا: يتكلم الرب بغير كلام يقوم به، وخالق بلا خلق يقوم به، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وحي بلا حياة، وقدير بلا قدرة، ومريد بلا إرادة، وفعال لما يريد، ولا فعل له ولا إرادة، وقالوا: الرب موجود قائم بنفسه، ليس في العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، وقالوا: إنه لم يزل معطلاً عن الفعل، والفعل ممتنع، ثم انقلب من الامتناع إلى الإمكان بغير تجدد سبب أصلاً، وقالوا: إن الأعراض لا تبقي زمانين، وأنكروا القوى، والطبائع، والغرائز، والأسباب، والحِكَم، وجعلوا الأجسام كلها متماثلة. وأثبتوا أحوالاً لا موجودة ولا معدومة، وأثبتوا مصنوعاً بلا صانع ومخلوقاً بلا خالق، إلى أضعاف ذلك مما يسخر منه العقلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 وكلما كان الرجل عن الرسول أبعد كان عقله أقل وأفسد، فأكمل الناس عقولاً أتباع الرسل، وأفسدهم عقولاً المعرض عنهم، وعما جاءوا به، ولهذا كان أهل السنة والحديث أعقل الأمة وهم في الطوائف كالصحابة في الناس، وهذه القاعدة مطردة في كل شيء عصي الرب –سبحانه- به، فإنه يفسده على صاحبه، فمن عصاه بماله أفسده عليه، ومن عصاه بجاهه أفسده عليه، ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضو من أعضائه أفسده عليه، وإن لم يشعر بفساده، فأي فساد أعظم من فساد قلب خربٍ من محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والأنس به، والفرح بالإقبال عليه؟ وهل هذا القلب إلا قلب قد استحكم فساده؟ والمصاب لا يشعر، وأي فساد أعظم من فساد لسان تعطل عن ذكره، وما جاء به، وتلاوة كلامه، ونصيحة عباده وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله، وأي فساد أعظم من فساد جوارح عطلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته، والمبادرة إلى مرضاته؟ وبالجملة فما عُصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله، وأتباعه، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل؟ وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى أسباب زيادة إيمانهم بالرسول، وبما جاء به، وموجباً لشدة تمسكهم به، ولقد أحسن القائل: وإذا نظرت إلى أميري زادني نظري له حباً إلى الأمراء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 الوجه السادس والخمسون: أن هؤلاء عكسوا شرعة الله وحكمته، وضادوه في أمره، فإن الله سبحانه جعل الوحي إماماً والعقل مؤتماً به، وجعله حاكماً والعقل محكوماً عليه، ورسولاً والعقل مرسلاً إليه، وميزاناً والعقل موزوناً به، وقائداً والعقل منقاداً له، فصاحب الوحي مبعوث وصاحب العقل مبعوث إليه، والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله وصاحب العقل مخصوص ببحث عن رأي وفكرة، وصاحب الوحي مُلقى وصاحب العقل كادح طالب، هذا يقول أمرت ونهيت وأوحي إليّ، وقيل لي وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي ولا من قبل عقلي ولا من جهة فكري ونظري، وذاك المتخلف يقول نظرت ورأيت وفكرت وقدرت واستحسنت واستنتجت، والمتخلف يقول معي آلة المنطق والكليات الخمس والمقولات العشر والمختلطات والموجهات اهتدى بها، والرسول يقول: معي كتاب الله وكلامه ووحيه، والمتخلف يقول معي العقل، والرسول يقول: معي نور خالق العقل به أهدى وأهتدي، والرسول يقول: قال الله كذا، قال جبريل عن الله كذا، والمتخلف يقول: قال أفلاطون قال بقراط، قال أرسطو كذا، قال ابن سينا، قال الفارابي: فيسمع من الرسول ظاهر التنزيل وصحيح التأويل وشرع سنة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخبر عن السماء والملائكة واليوم الآخر. ويسمع من الآخر الهيولي والصورة والطبيعة والاستقص والذاتي والعرض والجنس والنوع والفصل والخاصة والأيس والليس، وعكس النقيض والعكس المستوي، وما شاكل هذا (1) مما لا يسمع من مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، إلا من رضي لنفسه بما يرضى به هؤلاء المتخلفون لأنفسهم ورغب فيما رغبوا فيه، وبالجملة فهما طريقان متباينان، فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء، فليعزل نظره عن الوحي ويخلي بينه وبين أهله، ومن أحب أن يكون من أهل العقل والوحي فليعتصم بالوحي ويستمسك بغرز من جاء به، ويسلم إليه أعظم من تسليم   (1) انظر لتعريف هذه الألفاظ: الصواعق المرسلة (3/892) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 الصبي لأستاذه ومعلمه بكثير، فإن التباين الذي بين النبي وبين صاحب المعقول أضعاف أضعاف التباين الذي بين الصبي والأستاذ. ومن العجب، أن هؤلاء المقدمين عقولهم على الوحي، خاضعون لأئمتهم وسلفهم، مستسلمون لهم في أمور كثيرة، يقولون: هم أعلم بها منا، وعقولهم أكمل من عقولنا، فليس لنا أن نعترض عليهم فكيف يعترض على الوحي بعقله من نسبته إليه أدق وأقل من نسبة عقل الطفل إلى عقله؟ . وجماع الأمر أن قضايا المعقول، مشتملة على العلم والظن والوهم، وقضايا الوحي كلها حق، فأين قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عجز للخطأ، من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته؟!. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 الوجه السابع والخمسون: أن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي، لا تتأتى على قواعد المسلمين، المؤمنين بالنبوة حقاً، ولا على أصول أحد من أهل الملل، المصدقين بحقيقة النبوة، وليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوة في شيء، وإنما تتأتى هذه المعارضة، ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة، ويجريها على أوضاعهم وأن الإيمان بالنبوة عندهم، هو الاعتراف بموجود حكيم، له طالع مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً، فإذا أخبرهم بما لا تدركه عقولهم عارضوا خبره بعقولهم، وقدموها على خبره، فهؤلاء هم الذين عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء فعارضوا نصوص الأنبياء في باب الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، في هذه الأصول الخمس بعقولهم فلم يصدقوا بشيء منها على طريقة الرسل، ثم سرت معارضتهم في المنتسبين إلى الرسل، فتقاسموها تقاسم الوارث لتركه مورثهم، فكل طائفة كان الوحي على خلاف مذهبهم وقول من قلدوه لجأوا إلى هذه المعارضة، واعتصموا بها دون نصوص الوحي، ومعلوم أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة، وإن تناقض القائل به فغايته أن يثبت كون النبي رسولاً للعمليات دون العلميات أو في بعض العلميات التي أخبر به دون البعض وهذا أسوأ حالاً ممن جعله رسولاً إلى بعض الناس دون بعض، فإن القائل بهذا يجعله رسولاً في العلميات والعمليات، ولا يعارض بين خبره وبين العقل، وإن تناقض في جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلف، فهذا جحد عموم رسالته إلى المدعوين وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به ولم يؤمن في الحقيقة برسالته لا هذا ولا هذا، فإنه يقال لهذا: إن كان رسول الله إلى هؤلاء حقاً فهو رسوله إلى الآخرين قطعاً لأنه أخبر بذلك، ومن ضرورة تصديقه الإيمان بعموم رسالته، ويقال للآخر: إن كان رسول الله في العمليات وإنها حق من عند الله فهو رسوله في العلميات فإنه أخبر عنه بهذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 الوجه الثامن والخمسون: وهو أنك إذا جعلت العقل ميزاناً ووضعت في أحد كفتيه كثيراً من الأمور المشاهدة المحسوسة التي ينالها العيان ووضعت في الكفة الأخرى الأمور التي أخبرت بها الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجدت ترجيحه لهذه الكفة وتصديقه بها فوق ترجيحه للتي قبلها وتصديقه بها أقوى، ولولا الحس والمشاهد تمنعه من إنكار ذلك لأنكره، وهذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممن يدعيها وتنسبه إلى المجازفة، وقلة التحصيل، والخطابة التي تليق بالعامة ولعمر الله إن مدعيها ليعجب من إنكارك لها وتوقفك فيها بعد البيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 فنقول وبالله التوفيق: أنسب إلى العقل حيواناً يرى ويسمع ويحس ويتكلم ويعمل فغشيه أمر ألقي له كأنه خشبة لا روح فيها وزال إحساسه وإدراكه وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله بحيث لا يعلم شيئاً، فأدرك في هذه الحال من العلوم العجيبة والأمور الغائبة ما لم يدركه حال حضور ذهنه واجتماع حواسه ووفور عقله، وعلم من أمور الغيب المستقبلة ما لم يكن له دليل ولا طريق إلى العلم به، وانسب إليه أيضاً حيواناً خرج من إحليلة مجة ماء مستحيلة عن حصول الطعام والشراب كالمخطة فامتزجت بمثلها في مكان ضيق فأقامت هناك برهة من الدهر فانقلبت دماً قد تغير لونها وشكلها وصفاتها فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت قطعة لحم فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت عظاماً وأعصاباً وعروقاً وأظفاراً مختلفة الأشكال والأوضاع وهي جماد لا إحساس لها ثم عادت حيواناً يتحرك ويتغذى وينقلب ثم أقام ذلك الحيوان مدة طويلة في مكان لا يجد فيه متنفساً وهو داخل أوعية بعضها فوق بعض، ثم انفتح له باب ضيق عن مسلك الذكر فلا يسلكه إلا بضغطة وعصره، فوسع له ذلك الباب حتى خرج منه، وانسب إليه أيضاً شيئاً بقدر الحبة ترسله في مدينة عظيمة من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها ثم يقبل على نفسه فيأكلها وهو النار، وانسب إليه أيضاً شيئاً بقدر بزر الخشخاش (1)   (1) بزر الخشخاش: البزر هو كل حب يبذر، والخشخاش نبت ثمرته حمراء وهو ضربان: أسود وأبيض واحدته خشخاشة. ... انظر: المصباح المنير 1/60، مادة بزر، لسان العرب 2/164، مادة خشش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 يحمله الإنسان بين ثيابه مدة فينقلب حيواناً يتغذى بورق الشجر برهة ثم إنه يبني على نفسه قباباً مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناء محكماً متقناً فيقيم في ذلك البناء مدة من الزمان لا يتغذى بشيء البتة، فينقلب في القبة طائراً له أجنحة يطير بها بعد أن كان دوداً يمشي على بطنه فيفتح على نفسه باب القبة ويطير، وذلك دود القز إلى أضعاف ما ذكرنا مما يشاهد بالعيان مما لو جلي لمن لم يره لعجب من عقل من حكاه له، وقال: وهل يصدّق بهذا عاقل، وضرورة العقل تدفع هذا، وأقام الأدلة العقلية على استحالته، فقام في النائم مثلاً القوى الحساسة أسباب لإدراك الأمور الوجودية وآلة لها، فمن لا يدرك الشيء مع وجودها واستجماعها ووفورها، فأن يتعذر عليه إدراكه مع وجودها وبطلان أفعالها أولى وأحرى وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة التي يعارض بها خبر الأنبياء والحس والعيان يدفعه ومن له خبرة بمواد الأدلة، وترتيب مقدماتها، وله أدنى بيان يمكن أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثير من الأمور المشاهدة المحسوسة، وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي تعارض بها النصوص أو أصح منها، وانسب إلى العقل وجود ما أخبرت به الرسل عن الله وصفاته وأفعاله وملائكته وعن اليوم الآخر، وثبوت هذه الأمور التي ذكرنا اليسير منها، وما لم نذكره، ولم يخطر لنا ببال أعجب من ذلك بكثير نجد تصديق العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور ولولا المشاهدة لكذب بها. فيالله العجب! كيف يستجيز العقل إنكار ما أخبرت به الرسل بعد أن رأى وعاين وسمع ما لولا الحس لأنكره غاية الإنكار، ومن ها هنا قال من صح عقله وإيمانه: إن نسبة العقل إلى الوحي أدق، وأقل بكثير من نسبة منادي سن التمييز إلى العقل. الوجه التاسع والخمسون: إن هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم ارتكبوا أربع عظائم: إحداها: ردهم لنصوص الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم- الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 الثانية: إساءة الظن به، وجعله منافياً للعقل، مناقضاً له. الثالثة: جنايتهم على العقل بردهم ما يوافق النصوص من المعقول؛ فإن موافقة العقل للنصوص التي زعموا أن العقل يردها أظهر للعقل من معارضته لها، الرابعة: تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم لمن خالفهم في أصولهم، التي اخترعوها، وأقوالهم التي ابتدعوها، مع أنها مخالفة للعقل والنقل، فصوبوا رأي من تمسك بالقول المخالف للعقل والنقل، وخطئوا من تمسك بما يوافقهما، وراج ذلك على من لم يجعل الله له نوراً، ولم يشرق على قلبه نور النبوة. الوجه الستون: أن من عارض بين الوحي والعقل فقد قال بتكافؤ الأدلة، لأن العقل الصحيح لا يكذب، والوحي أصدق منه، وهما دليلان صادقان، فإذا تعارضا تكافئا، فإن لم يقدم أحدهما بقي في الحيرة والشك وإن قدم أحدهما على الآخر أبطل موجب الدليل الصحيح، وأخرجه عن كونه دليلاً، فيبقى حائراً بين أمرين لابد له من أحدهما، إما أن يسيء الظن بالوحي، أو بالعقل، والعقل عنده أصل الوحي، فلا يمكنه أن يسيء الظن به، فيسطو على الوحي تارة بالتحريف، والتأويل، وتارة بالتخييل، وتارة بالدفع والتكذيب، إن أمكن، وذلك في نصوص السنة، وتارة يدعي ذلك في نصوص القرآن، كما يدعيه غلاة الرافضة وكثير من القرامطة وأشباههم، وهذا كله إنما نشأ من ظنونهم الفاسدة، أن العقل الصحيح يعارض الوحي الصريح، وأما أهل العلم والإيمان، أهل السمع والنقل، فعندهم أن فرض هذه المسألة محال، وأن فرضها كفرض مسألة إذا تعارض العقل وأدلة ثبوت النبوة والرسالة، وإذا تعارض العقل وأدلة ثبوت الخالق وتوحيده، ومعارضة هؤلاء ومن وافقهم على بعضها، تُبَين له أن القوم لا عقل ولا نقل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 الوجه الحادي والستون: أن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسوله وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وحذرهم من حبوط أعمالهم بذلك؛ فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقديم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟ قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر، ومعلوم قطعاً أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به، فهو أعصى الناس لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأشدهم تقدماً بين يديه، وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه، وما جاء به؟ ومن المعلوم قطعاً أنه لم يكن يفعل هذا في عهده إلا الكفار والمنافقون، فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم، وصارت تلك المعارضة ميراثاً في أشباههم، كما حكى الله عن المشركين معارضة شرعه وأمره، بقضائه وقدره. الوجه الثاني والستون: أن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة (1) ، فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه، فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين حمليتين: إحداهما: قوله: (أنا خيرٌ منه) فهذه هي الصغرى، والكبرى محذوفة، تقديرها و ((الفاضل لا يسجد للمفضول)) ، وذكر مستند المقدمة الأولى وهو أيضاً قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) . والمقدمة الثانية كأنها معلومة، أي: ومن خلق من نار أفضل ممن خلق من طين، فهما قياسان متداخلان، وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة، فالقياس الأول هكذا: أنا خير منه، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه، وهذا من الشكل الأول.   (1) هو الشيطان! . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 والقياس الثاني هكذا: خلقتني من نار وخلقته من طين والمخلوق من النار خير من المخلوق من الطين فنتيجة هذا القياس العقلي: أنا خير منه، ونتيجة الأول ولا ينبغي لي أن أسجد له. وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثير من قياساتهم، التي عارضوا بها الوحي، وقدموها عليه، ولكل باطل، وقد اعتذر أتباع الشيخ له بأعذار: ومنها أنه لما تعارض عنده العقل والنقل قدم العقل. ومنها أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله اسجدوا لا عموم له، فإن الضمائر ليست من صيغ العموم. ومنها: أنه وإن كان اللفظ عاماً، فإنه خصه بالقياس المذكور، ومنها أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب، بل حمله على الاستحباب، لأنه المتيقن، أو على الرجحان دفعاً للاشتراك والمجاز. ومنها: أنه حمله على التراخي، ولم يحمله على الفور، ومنها: أنه صان جناب الرب أن يسجد لغيره، ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه، فبالله تأمل هذه التأويلات، التي يذكرها كثير من الناس، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 والمعارضات التي عارض بها النصوص، وفي بني آدم من يصوب رأي إبليس وقياسه، ويقول الصواب معه، ولهم في ذلك تصانيف وكان بشار بن برد الأعمى الشاعر على هذا المذهب، يقول في قصيدته الرائية: الأرض مظلمة سوداء مقتمة والنار معبودة مذ كانت النار ولما علم الشيخ أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع، وإبطاله من معارضته بالعقول، أوحى إلى تلامذته وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يعارض به الوحي، وأوهم أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية، وقال: إن قدمتم الوحي عليها فسدت عقولكم، قال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) . ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شبه عقلية، وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذي لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون. أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين. وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرضون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 الوجه الثالث والستون: أن العقل الذي عارض به هؤلاء السمع هو النفي، والذي دل عليه السمع هو الإثبات، على عرشه، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه وإتيانه، وإثبات وجهه الأعلى، ويديه اللتين كلتاهما يمين وغير ذلك، والعقل عندهم دل على نفي ذلك كله، فالمعارضة التي ادعوها هي معارضة بين النفي والإثبات، فالرسل جاءوا بالإثبات المفصل للأسماء والصفات والأفعال، فجاء أرباب هذا العقل بالنفي المفصل لها، وادعوا التعارض بين دليل هذا الإثبات ودليل النفي، ثم قدموا دليل النفي. فيقال الكلام معكم في مقامين: أحدهما: أن العقل لم يدل على ثبوتها. والثاني: أنه دل على انتفائها، فإن أردتم بدلالة العقل المقام الأول، فنفيها خطأ؛ فإنه لو نفي كل ما لم يدل عليه عقل أو حس نفيت أكثر الموجودات التي لا ندركها بعقولنا ولا حواسنا، وهذا هو حاصل ما عند القوم عند التحقيق، ومن تدبر أدلتهم حق التدبر، علم أنه ليس فيها دليل واحد يدل على النفي، ومعلوم أن الشيء لا ينفى لانتفاء دليل يدل عليه، وإن انتفى العلم به، فنفي العلم لا يستلزم نفي المعلوم، فكيف والعقل الصريح قد دل على ثبوتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 وإن أردتم الثاني، وهو: أن العقل دل على انتفائها، فيقال: العقل إنما يدل على نفي الشيء إذا علم ثبوت نقيضه. فيعلم حينئذ أن النقيض الآخر منتف، فأين في العقل المقطوع بحكمه، أو المظنون ما يدل على نقيض ما أخبرت به الرسل، بوجه من وجوه الأدلة الصحيحة؟ فالمسلمون يقولون: قد دل العقل والوحي معاً على إثبات علم الرب تعالى آمراً ناهياً، وعلى كونه فوق العالم كله وعلى كونه يفعل بقدرته ومشيئته وعلى أنه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويحب ويبغض، فقد شهد بذلك العقل والنقل، أما النقل فلا يمكنكم المكابرة فيه، وأما العقل فلأن ذات الرب أكمل من كل ذات على الإطلاق، بل ليس الكمال المطلق التام من كل وجه إلا له وحده، فيستحيل وصفه بما يضاد كماله، وكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فهو صفة كمال ثبوتها له أكمل من نفيها عنه، وقد اتفقت الأمم على أن الله سبحانه موصوف بالكمال، منزه عن أضداده. الوجه الرابع والستون: أن كل من عارض بين الوحي والعقل ورد نصوص الكتاب والسنة بالرأي الذي يسميه عقلاً لابد أن ينقض تلك النصوص المخالفة لعقله ويعاديها، ويود أنها لم تكن جاءت، وإذا سمعها وجد لها على قلبه من الثقل والكراهة بحسب حاله، واشمأز لها قلبه، والله يعلم ذلك من قلوبهم وهم يعلمونه أيضاً، حتى حمل جهماً الإنكار والبغض لقوله: (الرحمن على العرش استوى) على أن قال: لو أمكنني كشطها من المصحف كشطتها وحمل آخر بغض قوله: (وكلم اللهُ موسى تكليماً) على أن حرّفها وقرأها بالنصب وكلم اللهَ موسى تكليماً أي أن موسى هو الذي كلم الله وخاطبه والله لم يكلمه، فقال له أبو عمرو ابن العلاء فكيف تصنع بقوله: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) فبهت المعطل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 الوجه الخامس والستون: وهو قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً) . وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله عز وجل وحده، بما أنزله من الكتاب المفصل كما قال في الآية الأخرى: (وما اختلفتم فيه من شيءٍ فحكمه إلى الله) . وقال تعالى: (كان الناس أمةً واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) وقال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) . وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) . الوجه السادس والستون: أنه سبحانه أخبر أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى، لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية، لا من حكم العلم والهدى، فقال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون) . فأخبر سبحانه وتعالى: أنه ليس وراء ما أنزله إلا اتباع الهوى، الذي يضل عن سبيله وليس وراء حكمه إلا حكم الجاهلية، وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول، هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية، وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية، والبراهين اليقينية، كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد وصد القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقاً. الوجه السابع والستون: أن هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بعقولهم ليس عندهم علم، ولا هدى، ولا كتاب مبين، فمعارضتهم باطلة، وهم فيها أتباع كل (شيطانٍ مريد. كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 فهذا حال كل من عارض آيات الله بمعقوله، ليس عنده إلا الجهل والضلال، ورتب سبحانه هذه الأمور الثلاثة أحسن ترتيب فبدأ بالأعم وهو العلم، وأخبر أنه لا علم عند المعارض لآياته بعقله، ثم انتقل منه إلى ما هو أخص، وهو الهدى، ثم انتقل إلى ما هو أخص، وهو الكتاب المبين، فإن العلم أعم مما يدرك بالعقل والسمع والفطرة، وأخص منه الهدى الذي لا يدرك إلا من جهة الرسل، وأخص منه الكتاب الذي أنزله الله على رسوله، فإن الهدى قد يكون كتاباً، وقد يكون سنة وهذه الثلاثة منتفية عن هؤلاء قطعاً، أما الكتاب والهدى المأخوذ عن الرسل، فقد قالوا: إنه لا يفيد علماً ولا يقيناً، والمعقول يعارضه، فقد أقروا أنهم ليس معهم كتاب ولا سنة، وبقي العلم فهم يدعونه، والله تعالى قد نفاه عنهم، وقد قام البرهان والدليل العقلي المستلزم لمدلوله، على صدق الرب في خبره، فعلم أن هذا الذي عارضوا به الوحي، ليس بعلم، إذ لو كان علماً لبطل دليل العقل الدال على صدق الرب تعالى في خبره، فهذا يكفي في العلم بفساد كون ما عارضوا به علماً، فكيف وقد قام الدليل العقلي الصحيح المقدمات على فساد تلك المعارضة، وأنها تخص الجهل المركب؟ فكيف وقد اتفق على فساد تلك المعارضة العقل والنقل؟ ونحن نطالب هؤلاء المعارضين بواحدة من ثلاث: إما كتاب منزل، أو أثارة من علم يؤثر عن نبي من الأنبياء، أو معقول صحيح المقدمات، وقد اتفق العقلاء على صحة مقدماته. وهم يعلمون والله شهيد عليهم، بأنهم عاجزون عن هذا وهذا، أفنترك ما علمناه من كتاب ربنا، وسنة نبينا، وما نزل به جبريل من رب العالمين، على قلب رسوله الأمين، بلسان عربي مبين، لوحي الشياطين، وشبه الملحدين، وتأويلات المعطلين؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 الوجه الثامن والستون: أن هذه المعقولات التي عارضوا بها الوحي لها معقولات تعارضها هي أقوى منها ومقدماتها أصح من مقدماتها فيجب تقديمها عليها. لو قدر تعارضهما، ولا يمكن هؤلاء أن يدفعوا كون النصوص من جانب هذه المعقولات، وحينئذ فمعقول تشهد له النصوص أولى بالصحة والقبول من معقول تدفعه النصوص، فنحن ندفع معقولاتهم بهذه المعقولات تارة وبالنصوص تارة وبهما تارة، ولا يمكنهم القدح في هذه المعقولات إلا بمقدمات يردها النص وهذا العقل، فكيف ترد هذه المعقولات والنصوص بتلك، وهذا قاطع لمن تدبره؟ الوجه التاسع والستون: أن يقال لمن جوّز مجيء الرسول بما يخالف صريح العقل ما تقول إذا سمعت كلامه قبل أن تعلم هل في العقل ما يخالفه أم لا؟ هل تبادر إلى رده وإنكاره؟ أم إلى قبوله واعتقاده؟ أم تتوقف فيه ولا تصدقه ولا تكذبه ولا تقبله ولا ترده؟ أم تعلق تصديقه والإقرار به على الشرط، وتقول أنا أعتقد موجبه إن لم يكن في العقل ما يرده؟ فلابد لك من واحد من هذه الأمور الأربعة، فالأول والثالث والرابع مناقض للإيمان بالرسول مناقضة صريحة والثاني لا سبيل لك إليه، لأنك قد جوزت أن يكون في صريح العقل ما يناقض ما أخبر به، فكيف تجزم مع ذلك بصحته، فالقسم الإيماني قد سددت طريقه على نفسك والأقسام الثلاثة مستلزمة لعدم الإيمان، وهذا إنما ينشأ من تجويز أن يكون في العقل الصريح ما يناقض ما أخبر به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 الوجه السبعون: أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول إلا بعد أن يقوم على صحته عنده دليل منفصل من عقل، أو كشف، أو منام، أو إلهام، لم يكن مؤمناً به قطعاً، وكان من جنس الذين قال الله فيهم: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله) بل قد يكون هؤلاء خيراً منهم من وجه، فإنهم علقوا الإيمان بأن يؤتوا سمعاً مثل ما أوتيه الرسل، وهؤلاء علقوا الإيمان على قيام دليل عقلي على صحة ما أخبروا به، وإذا كان من فعل هذا ليس بمؤمن بالرسل فكيف من عارض ما جاءوا به بمعقوله ثم قدمه عليه؟! الوجه الحادي السبعون: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك فيها في العلم واليقين، ولعلك تقول: إنا حكينا ذلك عنهم بلازم قولهم، فاسمع حكاية ألفاظهم، قال الرازي في نهايته: في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع، فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله، وذكر القياس، وذكر الإلزامات، ثم قال: ((والرابع هو التمسك بالسمعيات)) . وهذا تصريح بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة، وأخذ في تقرير ذلك، فقال: ((المطالب على أقسام ثلاثة: منها: ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع. ومنها ما يستحيل حصول العلم بها إلا من السمع. ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى. قال: ((أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته، استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع، وكونه مختاراً وعالماً بكل المعلومات.. وصدق الرسول)) . قال: ((وأما القسم الثاني: فهو ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه، ولم يدركه بشيء من حواسه، فإنّ جلوس غراب على قلة جبل قاف، إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقاً، وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلاً، وهو غائب عن الحس والنفس، استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 وأما القسم الثالث: وهو معرفة وجوب الواجبات أو إمكان الممكنات أو استحالة المستحيلات التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها، مثل: مسألة الرؤية، والصفات، الوحدانية وغيرها)) ثم عدد أمثلة. ثم قال: ((إذا عرفت ذلك فنقول: أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول، فهو ظاهر وإلا وقع الدور، وأما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني، فهو ظاهر كما سلف. وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال، وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي، لأنه إذا لم يكن الجمع بين ظاهر النقل، وبين مقتضى الدليل العقلي، فإما أن نكذب بالعقل، وإما أن يأول النقل، فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا بالعقل، فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذاً لا يكون العقل مقطوع الصحة، فإذاً تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلاً وتعين تأويل النقل. فإذاً الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره فحينئذٍ لا يكون الدليل النقلي مفيداً للمطلوب إلا إذا أثبتنا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلا من وجهين، إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي، وحينئذٍ يصير الاستدلال بالنقل فضلاً غير محتاج إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلاً، إلا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات، فوجب نفيه، ولو كنا زيفنا هذه الطريقة يعني انتفاء الشيء لانتفاء دليله أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الأخرى، وحينئذ نحتاج إلى إقامة الدليل على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر. فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين لعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي، وثبت أن الدليل النقلي تتوقف إفادته لليقين على ذلك، فإذاً الدليل النقلي تتوقف إفادته اليقين على مقدمة غير يقينية، وهي عدم دليل عقلي، وكل ما يبتنى صحته على ما لا يكون يقيناً لا يكون هو أيضاً يقيناً، فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيداً لليقين)) قال: ((وهذا بخلاف الأدلة العقلية، فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفى فيها بأن لا يعلم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة، ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحالة التعارض في العلوم البديهية)) . ثم قال ((فإن قيل: إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل وإلا كان ذلك تلبيساً من الله تعالى وإنه غير جائز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 قلنا: هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح، وأنه يجب على الله سبحانه شيء ونحن لا نقول بذلك ثم إن سلمنا ذلك، فلم قلتم: إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي؟، وبيانه، أن الله تعالى إنما يكون ملبساً على المكلف لو أسمعه كلاماً يمتنع عقلاً أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره، وليس الأمر كذلك، لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر، فعلى هذا إذا أسمع الله تعالى المكلف ذلك الكلام، فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقدير تقصيراً واقعاً من المكلف لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضوع القطع، فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون ملبساً)) . قال: ((فخرج مما ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية.. نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد، وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية)) انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 فليتدبر المؤمن هذا الكلام وليرد أوله على آخره وآخره على أوله، ليتبين له ما ذكرنا عنهم من العزل التام للقرآن والسنة عن أن يستفاد منهما علم أو يقين في باب معرفة الله، وما يجب له، وما يمتنع عليه، وأنه لا يجوز أن يحتج بكلام الله ورسوله في شيء من هذه المسائل وأن الله تعالى يجوز عليه التلبيس والتدليس على الخلق وتوريطهم في طرق الضلال وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال، وأن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته، وقطعوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك، إذ قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه، فإن غاية ما يمكن أن يحج بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثل الإخبار بأن على قلة جبل قاف غراباً صنعته كيت وكيت، أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد، وأن مقدمات أدلة القرآن والسنة غير معلومة ولا متيقنة الصحة، ومقدمات أدلة أرسطو صاحب المنطق والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعية معلومة الصحة، وأنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة السمعية في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته البتة لتوقفها على انتفاء ما لا طريق لنا إلى العلم بانتفائه وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فَضْلة لا يحتاج إليها، بل هو مستغنىً عنه إذا كان موافقاً للعقل. فتأمل هذا البنيان الذي بنوه، والأصل الذي أصلوه، هل في قواعد الإلحاد أعظم هدماً منه لقواعد الدين، وأشد مناقضة منه لوحي رب العالمين؟! وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرسل وعند جميع أهل الملل. الوجه الثاني والسبعون: أن الدين تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وكل منهما نوعان: مطلق ومقيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 فالمقيد مثل أن يقول: لا أصدقه إلا فيما علمت صحته بعقلي، أو فيما يخالف عقلي، أو وافقه فيه شيخي وإمامي وأصحاب مذهبي، والمقيد من طاعة الأمر أن يطيعه فيما وافق حظه وهواه، فإن جاء أمره بخلاف ذلك قدم حظه وهواه عليه، فهذا غير مطيع للرسول في الحقيقة، بل هو متبع لهواه، كما أن ذاك غير مصدق له في الحقيقة، بل إن وافق قوله عقله أو قول شيخه وإمامه ومتبوعه قبله، لا لكونه قاله، كما أن مطيعه فيما وافق هواه، إنما هو متبع لما يحبه ويهواه، فإن جاء الأمر بما يهواه فعله، وإلا لم يفعله، وهذا حال أكثر الناس، وأحسن أحوال هؤلاء أن يكونوا من الذين قال الله فيهم: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم) . ثم ذكر وصف أهل الإيمان فقال: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) . فالتصديق والطاعة لا يكون إيماناً حتى يكون مطلقاً، فإذا تقيد فأعلى أحواله –إن سلم من الشك- أن يكون إسلاماً ويكون صاحبه من عوام المسلمين لا من خواص المؤمنين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 الوجه الثالث والسبعون : أنه لو كان ظاهر الكتاب مخالفاً لصريح المعقول لكان في الصدور أعظم حرج منه وضيق، وهذا خلاف المشهود بالباطن لكل ذي عقل سليم، فإنه كلما كان الرجل أتم عقلاً كان الحرج بالكتاب أبعد منه، قال تعالى: لرسوله: (آلمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه) والله تعالى رفع الحرج عن الصدور بكتابه، وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلما أنزل كتابه ارتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمن به كما قال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً) ومن آمن به من وجه دون وجه ارتفع عنه الحرج والضيق من الوجه الذي آمن به دون ذلك الوجه، فمن أقر أنه منزل من عند الله أنزله على رسوله، ولم يقر بأنه كلامه الذي تكلم به، بل جعله مخلوقاً من جملة مخلوقاته، كان في صدره من الضيق والحرج ما يناسب ذلك، ومن أقر بأنه تكلم بشطره وهو المعاني دون شطره الآخر وهو حروفه كان في صدره من الحرج منه ما يناسب ذلك، ومن زعم أنه غير كاف في معرفة الحق، وأن العباد يحتاجون معه إلى معقولات وآراء ومقاييس وقواعد منطقية ومباحث عقلية ففي صدره منه أعظم حرج، وأعظم حرجاً منه من اعتقد أن فيه ما يناقض العقل الصريح، ويشهد العقل بخلافه. وكذلك من زعم أن آياته لا يستفاد منها علم ولا يقين ففي صدره منه من الحرج ما الله به عليم. قلت: وبهذا الوجه ينتهي ما أردت تسطيره في هذا المبحث، وإني لأرجو أن يكون فيه إعلاءٌ من شأن النصوص الشرعية ودحر للعقل الطاغي إلى داخل حدوده الطبيعية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 نشر " العقلانية " في العالم الإسلامي هدف من أهداف اليهود ! لماذا؟ لأن اليهود يعلمون كثرة النصوص القرآنية والنبوية الفاضحة لهم ولمخططاتهم عبر التاريخ، الكاشفة لشخصيتهم المريضة المنحرفة، المحذرة للمسلمين منهم، المحقرة لسلوكهم. فهذه النصوص تعطي المسلمين شحناً نفسياً ضد يهود وأدائهم المستحكم لأمتنا، وتوضح لهم الطريق الأمثل في التعامل معهم. وحيث أن هذه النصوص هي بين أيدي المسلمين صباح مساء فلا سبيل إلى صرفهم عنها سوى بإحلال العقلانية بدلاً منها، لأن هذه العقلانية التي لا تحتكم إلى نص مقدّس يسهل تعامل يهود معها في المستقبل، حيث لا ثوابت ولا أصول. فما كان حراماً اليوم يكون حلالاً غداً بمباركة هؤلاء العقلانيين! ومن ذلك: الموقف من يهود وأسلوب التعامل معهم، فبعدما كان (النص) الإسلامي يحشد نفوس المسلمين لمواجهة (أشد الناس عداوة للذين آمنوا) ، سيأتي العقل (المزعوم) ويتجاوز تلكم النصوص كلها مقدماً ما يراه مصلحة عليها؛ من التسامح معهم، ونبذ العداوة والبراءة تجاههم. إضافة إلى أنهم بواسطة العقلانية يتساوون مع البشر الآخرين الذي كانوا يحتقرونهم ويزدرونهم لسوء مسلكهم. يقول الأستاذ عبد السلام بسيوني في بحثه حول العقلانية: ((وإنني بالبحث لم يخامرني دهشٌ ولا عجب حين قرأت أن بذور الدعوة العقلانية بذور يهودية، يبرر سارتر الوجودي اليهودي نشرها في العالمين (بأن البشر ما داموا يؤمنون بالدين فسيظل يقع على اليهود تمييز مجحف، على اعتبار أنهم يهود، أما إذا زال الدين من الأرض وتعامل الناس بعقولهم، فعقل اليهودي كعقل غير اليهودي. ولن يقع عليهم التمييز المجحف)) (1) . ويقول سارتر اليهودي - أيضاً -: ((إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبرى هي: عبادة الذهب، وتعرية الجسم البشري، ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني)) (2) .   (1) العقلانية: هداية أم غواية (ص 10) . وقد سبق في كلام الأستاذ محمد قطب. (2) المصدر السابق (ص 18) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 عقلانيون يتوبون قبل الموت ! : رغم فتنة العقلانية الساحرة التي تُخيل للمرء أنه سيستطيع من خلالها الوقوف على كثير من أسرار الخلق والوجود، وأنه من الممكن بواسطتها الاستغناء عن جميع أو كثير مما جاءت به الأديان من العبادات والسلوكيات. رغم كل هذا، وأن المتابع لهذا السراب الخادع قلّما يعود إلى فطرته ويراجع دينه ويعلم حدود عقله المخلوق، إلا أن الله بحكمته ورحمته يجتبي بين الحين والآخر بعضاً من هؤلاء العقلانيين ويقذف نور الهداية في قلوبهم من جديد بعد أن يكونوا قد أمضوا شوطاً طويلاً في اللهاث خلف سراب العقلانية الذي يكتشفونه بهداية الله لهم أنه (سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) . وإليك أخي القارئ مواقفَ لبعض هؤلاء العقلانيين قيدوا فيها خواطرهم عندما أراد الله لهم الهداية من جديد بعد رحلة مضنية خلف معقولاتهم. هذه المواقف سجلها لنا السلف الصالح لنكون حذرين لا ننزلق فيما انزلق فيه الآخرون الذين ندموا على ما أضاعوه من ساعات عمرهم في تحصيل ما لا حاصل منه.. فهذا الرازي مع سبقه في باب المعقول، وفرط ذكائه يشكو حيرته وعجزه فيقول: نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فكم قد رأينا في رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) . (إليه يصعد الكلم الطيب) . وأقرأ في النفي (ليس كمثله شيء) . (ولا يحيطون به علماً) ثم قال: ((ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)) (1) .   (1) شرح العقيدة الطحاوية ص 208-209، وانظر: سير أعلام النبلاء 21/501. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 وقال الشهرستاني: ((فقد أشار إليَّ من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أجمع له مشكلات الأصول، وأحل له ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول لحسن ظنه بي أني وقفت على نهاية النظر، وفزت بغايات مطارح الفكر، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم: لعمري: لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسَيَّرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذَقَن أو قارعاً سن نادم (1) ((وقال الجويني: لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي، وها أنذا أموت على عقيدة أميّ! وقال الخونجي: اشهدوا عليّ أني أموت وما عرفت شيئاً إلا الممكن يفتقر إلى واجب ثم قال: والافتقار أمر عدمي، فلم أعرف شيئاً! وقال آخر: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام. وقال آخر وقد نزلت به نازلة من سلطانه فاستغاث برب الفلاسفة فلم يغث قال: ثم استغثت برب الجهمية فلم يغثني، ثم استغثت برب القدرية فلم يغثني، ثم استغثت برب المعتزلة فلم يغثني. قال: فاستغثت برب العامة فأغاثني)) (2) . ختاماً: أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إلى العودة إلى تحكيم (نصوص) الكتاب والسنة في جميع شئونه لكي ينعم ويسعد ويُفلح مع المفلحين الذين قال الله فيهم (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: تضمن الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (3) . ولا يكونوا ممن قال سبحانه فيهم (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكذلك اليوم تنسى) سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. كتبه/ أبو مصعب: سليمان بن صالح الخراشي الرياض / ص ب 522 الرمز / 11321   (1) نهاية الإقدام في علم الكلام ص 3. (2) الصواعق المرسلة لابن القيم (1/166) . (3) تفسير الطبري (8/469) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16