الكتاب: نزهة الألباء في طبقات الأدباء المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنصاري، أبو البركات، كمال الدين الأنباري (المتوفى: 577هـ) المحقق: إبراهيم السامرائي الناشر: مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن الطبعة: الثالثة، 1405 هـ - 1985 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- نزهة الألباء في طبقات الأدباء أبو البركات الأنباري الكتاب: نزهة الألباء في طبقات الأدباء المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنصاري، أبو البركات، كمال الدين الأنباري (المتوفى: 577هـ) المحقق: إبراهيم السامرائي الناشر: مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن الطبعة: الثالثة، 1405 هـ - 1985 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله خالق الإنسان، الذي علمه البيان والصلاة والدائمة على سيدنا محمد نبيه وصفوته من الأكوان، وعلى آله وأصحابه ما أبنّ أبان، وأعرب لسان وأبان. وبعد، فقد ذكرت في هذا الكتاب الموسوم بنزهة الألباء في طبقات الأدباء، معارف أهل هذه الصناعة الأعيان، ومن قاربهم في المعرفة والإتقان، وبينت أحوالهم وأزمانهم على غاية من الكشف والبيان، فالله ينفع به، إنه الكريم المنان. أول من وضع علم العربية اعلم أيدك الله تعالى بالتوفيق، وأرشدك إلى سواء الطريق، أن أول من وضع علم العربية، وأسس قواعده، وحد حدوده، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذ عنه أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي، وهو منسوب إلى الدئل بن بكر بن كنانة. والدئل، على "فُعِل" اسم دُوَيبة، تسمى الرجل بها، قال سيبويه: وليس في كلام العرب اسم على وزن "فُعِل" غيره، وأنشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 جاءوا بجيش لو قيس معرسه ... ما كان إلا كمعرس الدئل وحكى غيره: رُئِم، اسم للسبة، ووعل [لغة] في الوعل. والديل في عبد القيس، والدول في حنيفة. وسبب وضع علي رضي الله عنه لهذا العلم، ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوجدت في يده رقعة، فقت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء -يعني الأعاجم- فأردت أن أضع لهم شيئاً يرجعون إليه، ويعتمدون عليه؛ ثم ألقى إليّ الرقعة، وفيها مكتوب: "الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما جاء لمعنى"، وقال لي: "انحُ هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبو الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسمٌ لا ظاهر ولا مضمر؛ وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهرٍ ولا مضمر" وأراد بذلك الاسم المبهم. قال أبو الأسود: فكان ما وقع إليّ: "إن" وأخواتها ما خلا "لكن". فلما عرضتها على علي رضي الله عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قال لي: وأين لكنّ؟ فقال: ما حسبتها منها؛ فقال: هي منها فألحقها، ثم قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت! فلذلك سمي النحو نحواً. أبو الأسود الدؤلي وكان أبو الأسود فيمن صحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وكان من المشهورين بصحبته ومحبته ومحبة أهل بيته، وفي ذلك يقول: يقول الأرذلون بنو قُشيْرٍ ... طوال الدهر لا تنسى عليا! فقلت لهم: فكيف يكون تركي ... من الأعمال ما يحصى عليا أحب محمدا حُبّاً شديداً ... وعباسا وحمزة والوصيَّا فإن يك حبهم رشداً أصبه ... وفيهم أسوة إن كان غيّا فكم رشداً أصبت وحزت مجداً ... تقاصر دونه هام الثريا وكان ينزل البصرة في بني قشير، وكانوا يرجمونه بالليل لمحبته عليّاً رضي الله عنه وأهل بيته؛ فإذا ذكر رجمهم له، قالوا: إن الله يرجمك؛ فيقول لهم: تكذبون، ولو رجمني الله أصابني، ولكنكم ترجمون فلا تصيبون. وروى أن سبب وضع علي رضي الله عنه لهذا العلم أنه سمع أعرابياً يقرأ: "لا يأكُلُه إلا الخاطئين" فوضع النحو. ويروى أيضاً أنه قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من يقرئني شيئاً مما أنزل الله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقرأه رجل سورة براءة، فقال:] أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه [بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه! فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله! فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأني هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 سورة براءة، فقال:] أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه [، فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله! إن يكن برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال له عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال:] أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُهُ [فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر رضي الله عنه ألا يقرئ القرآن إلا عالمٌ باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره: أخذ أبو الأسود النحو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى أيضاً أن زياد بن أبيه بعث إلى أبي الأسود، وقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم، ويعرب كتاب الله تعالى! فأبى أبا الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً وقال له: اقعد على طريق أبي الأسود؛ فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن، وتعمّد اللحن فيه. فقعد الرجل على طريق أبي الأسود، فلما مر به رفع صوته فقرأ:] أن الله بريء من المشركين ورسوله [بالجر، فاستعظم أبو الأسود ذلك، وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله! ورجع من حاله، إلى زياد، وقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليَّ ثلاثين رجلاً؛ فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتيَّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الخرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غنَّةً فانقط نقطتين. فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد وهو أمير بالبصرة؛ فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل، قال: فجاء رجل إلى زياد، فقال: أصلح الله الأمير! "تُوفِّي أبانا وترك بنوناً"، فقال له زياد: "تُوُفِّيَ أبانا وترك بنونا! "، ادع لي أبا الأسود؛ فلما جاءه قال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه؛ ففعل. ويروى أيضاً، أن أبا الأسود الدؤلي قالت له ابنته: ما أحسنُ السماءِ! فقال لها: نجومها، فقالت: إني لم أرد هذا، وإنما تعجبت من حسنها؛ فقال لها: إذن فقولي: ما أحسنَ السماءَ! فحينئذ وضع النحو؛ وأول ما رسم منه باب التعجب. وحكى أبو حاتم السجستاني، قال: ولد أبو الأسود في الجاهلية، وأخذ النحو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى أبو سلمة موسى بن إسماعيل، عن أبيه، قال: كان أبو الأسود أول من وضع النحو بالبصرة. وزعم قوم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. وزعم آخرون أو أول من وضع النحو نصر بن عاصم. فأما زعم من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح؛ لأن عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضاً نصر بن عاصم أخذه عن أبي الأسود، ويقال عن ميمون الأقرن. والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فإن رويَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ويحكى عن يحيى بن معين رضي الله عنه أنه قال: مات أبو الأسود الدؤلي رضي الله عنه في الطاعون الجارف سنة تسع وستين. قال يحيى: ويقال: إنه مات قبل الطاعون؛ وذلك في خلافة أبي خبيب عبد الله بن الزبير. وأخذ عن أبي الأسود الدؤلي عنبسة الفيل ، وميمون الأقرن، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحية بن يعمر. عنبسة الفيل فأما عنبسة الفيل، فهو عنبسة بن معدان، وكان معدان رجلاً من أهل ميسان، قدم وأقام بها، وكان يقال له: معدان الفيل. وسبب ذلك أن عبد الله بن عامر كان له فيل بالبصرة، وقد استكثر النفقة عليه، فأتاه معدان، فتقبل بنفقته، وفضل في كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 شهر، فكان يدعى معدان الفيل، فنشأ له عنبسة، فتعلم النحو على أبي الأسود، وروى الشعر، وانتسب إلى مهرة ابن حيدان، وروى لجرير شعراً، فبلغ ذلك الفرزدق، فقال يهجوه: لقد كان في معدان والفيل زاجرٌ ... لعنبسة الراوي علي القصائدا ويروى أن بعض عمال البصرة سأل عنبسة عن هذا البيت وعن الفيل، فقال عنبسة: لم يقل: "الفيل"، وإنما قال: "اللؤم"، فقال لعنبسة: إن أمراً تفر منه إلى "اللؤم" لأمر عظيم!. ويروى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه قال: اختلف الناس إلى أبي الأسود الدؤلي يتعلمون منه العربية، فكان أبرع أصحابه عنبسة بن معدان المهري، واختلف الناس إلى عنبسة، فكان أبرع أصحابه ميمون الأقرع. وروي أيضاً عن أبي عبيدة أنه قال: أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي، ثم ميمون الأقرن، ثم عنبسة الفيل، ثم عبد الله بن أبي إسحاق، ثم عيسى بن عمر. ففي هذه الرواية ميمون الأقرن قبل عنبسة، وفي تلك الرواية عنبسة قبل ميمون. نصر الليثي وأما نصر بن عاصم الليثي، فإنه كان فقيهاً عالماً بالعربية، فصيحاً، قال عمرو بن دينار: اجتمعت أنا والزهري، ونصر بن عاصم، فتكلم نصر، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الزهري: إنه ليفلق العربية تفليقاً. قال المدائني: وكان يرى الخوارج؛ ثم تركهم ورجع عنه، وقال في ذلك: فارقت نجدة والذين تزرقوا ... وابن الزبير وشيعة الكذاب وهوى النجارين قد فارقته ... وعطية المتجبر المرتاب وقرأن القرآن أيضاً على أبي الأسود، وقرأ أبو الأسود على علي رضي الله عنه، فكان أستاذه في القراءة والنحو. مات سنة تسع وثمانين في أيام الوليد بن عبد الملك. ويقال: إنه مات بالبصرة لسنة تسعين في أيام الوليد أيضاً. أبو داود الأعرج وأما الأعرج؛ فهو أبو داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وكان مولى لمحمد بن ربيعة بن الحارث بن المطلب. وكان أحد القراء، عالماً بالعربية، وأعلم الناس بأنساب العرب، وخرج إلى الإسكندرية، وأقام بها إلى أن مات سنة سبع عشرة ومائة في أيام هشام بن عبد الملك. يحيى بن يعمر وأما يحيى بن يعمر العدواني؛ فيكنى أبا سليمان، وهو رجل من عدوان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قيس بن غيلان بن مضر، وكان عالماً بالعربية والحديث، ولقي عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة. وروى عنه قتادة، وكان من الفصحاء، وكان قد ولاه يزيد بن المهلب القضاء بخراسان، فقال له يوماً: هل تشرب النبيذ؟ فقال: ما أدعه في صباحي ومسائي، فقال له: أنت ونبيذك؛ وعزله عن القضاء. ويروى أن الحجاج بن يوسف قال له: أتجدني ألحن؟ فقال: الأمير أفصح من ذلك، فقال: عزمت عليك لتخبرني! فقال: يحيى: نعم! فقال له: في أي شيء؟ فقال: في كتاب الله تعالى؛ فقال: ذلك أشنع؛ ففي أي شيء من كتاب الله تعالى؟ قال: قرأت] قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم [فرفعت "أحبُّ" وهو منصوب، فقال له الحجاج: طول لحيتك أوقعك - وكان طويل اللحية - فقال له رجل ممن حضر: أيها الأمير، حدثني كعب الأحبار أنه مكتوب في بعض الكتب أن اللحية مخرجها من الدماغ، فمن تفرط لحيته في طولها يخف دماغه، ومن خف دماغه قل عقله، ومن قل عقله كان أحمق، والأحمق لا يسمع عنه؛ فقال الحجاج [ليحيى] : لا تساكني ببلد أنا فيه؛ ونفاه إلى خراسان وبها يزيد بن المهلب؛ فكان عنده. قال محمد بن سلام: أخبرني أبي أن يزيد بن المهلب، كتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو، ففعلنا وفعلنا، واضطررناه إلى عرعرة الجبل؛ فقال الحجاج: ما لابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 المهلب وهذا الكلام! فقيل له: إن يحيى بن يعمر عنده، فقال: ذاك إذن! وكان يستعمل الغريب من كلامه، فمن ذلك أنه قال لرجل خاصمته امرأته: أأن سألتك ثمن شكرها وسرك، أنشأت تمطلها وتضهلها!. الشكر والسر: النكاح. ويروى: "وشبرك" والشبر: العطاء. وخاصم رجل رجلاً في غلام، فقال: باعني غلاماً أبّاقاً، فقال له يحيى: ألا قلت: أبوقاً! ومات يحيى بن يعمر بخراسان سنة تسع وعشرين ومائة، في أيام مروان بن محمد. ابن أبي إسحاق الحضرمي وأما ابن أبي إسحاق، فهو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. وكان قيماً بالعربية والقراءة، إماماً فيهما؛ وكان شديد التجريد للقياس. ويقال: إنه كان أشد تجريداً للقياس من أبي عمرو بن العلاء، وكان أبو عمرو بن العلاء أوسع علماً بكلام العرب ولغاتها وغريبها. ويروى أن بلال بن أبي بردة جمع بينهما، قال يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق يومئذ بالهمز، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فنظرت فيه بعد ذلك. ويقال إنه أول من علل النحو. وقال محمد بن سلام: سمعت رجلاً يسأل يونس عن عبد الله بن أبي إسحاق وعلمه، فقال: هو والبحر سواء، أي هو الغاية. وقال يونس: كان أبو عمرو أشد الناس تسليماً للعرب، وكان عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان على العرب، وكان موالي ابن أبي إسحاق الحضرمي موالياً، وهم بني عبد شمس بن عبد مناف، وكان يردّ كثيراً على الفرزدق ويتكلم في شعره، فقال فيه الفرزدق: فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى موالياً فقال له ابن أبي إسحاق: ولقد لحنت أيضاً في قولك: "مولى مواليا" وكان ينبغي أن تقول: "مولى موال" والحليف عند العرب مولى، ومنه قول الأخطل: أتشتم قوماً أثبتوكم بنهشل ... ولولاهم كنتم لعكلٍ مواليا وروى أبو عمرو أن ابن أبي إسحاق سمع الفرزدق ينشد: وعض زمان يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فقال له ابن أبي إسحاق: على أي شيء ترفع "أو مجلف"؟ فقال: على ما يسوءك وينوءك؛ قال أبو عمرو: فقلت للفرزدق: أصبت! وهو جائز على المعنى، أي لم يبق سواه. وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي على يحيى بن يعمر؛ وقرأ أيضاً هو و أبو عمرو بن العلاء على نصر بن عاصم، وكانا رفيقين. وكان هو وأبو عمرو وعيسى بن عمر في وقت واحد، وتوفيَ قبلهما بالبصرة سنة سبع عشرة ومائة في أيام هشام بن عبد الملك. عيسى بن عمر الثقفي وأما عيسى بن عمر الثقفي، فكنيته أبو سليمان - ويقال: أبو عمر - وكان ثقة عالماً بالعربية والنحو والقراءة، وقراءته مشهورة. وكان فصيحاً يتقعر في كلامه، ويعدل عن سهل الألفاظ إلى الوحشي والغريب؛ فمن ذلك أنه لما ضربه يوسف بن عمر بن هبيرة في سبب ثياب استودعها؛ قال: إن كانت إلا أثياباً في أسيفاط، قبضها عشاروك. وذلك أن بعض أصحاب خالد بن عبد الله القسري أودعه وديعة، فلما نزع خالد بن عبد الله عن إمارته بالعراق، وتقلد مكانه يوسف بن عمر، كتب إلى واليه بالبصرة أن يحمل إليه عيسى بن عمر مقيداً، فدعا به وبالحداد، وأمره بتقييده، وقال: لا بأس عليك، إنما أراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الأمير أن يؤدب ولده، قال: فما بال القيد إذن! فبقيت مثلاً بالبصرة، فلما أتى به يوسف بن عمر، سأله عن الوديعة فأنكرها، فأمر به فضرب بالسياط، فلما أخذه السوط جذع، فقال: أيها الأمير، والله إنما كانت أثياباً في أسيفاط، قبضها عشاروك؛ فرفع السوط عنه، وكل به حتى أخذ الوديعة منه. وقال علي بن محمد بن سليمان: رأيت عيسى بن عمر طول دهره يحمل في كمه خرقة يحمل فيها سكر العشر والأجاص اليابس، وريما رأيته واقفاً عندي أو سائراً، أو عند ولاة أهل البصرة، فتصيبه نهكة على فؤاده، فيخفق عليه حتى يكاد يغلب، فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيهما في فمه، ثم يمتصهما فإذا ازدرد من ذلك شيئاً سكن عليه؛ فسألته عن ذلك، فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني يوسف بن عمر، فعالجته بكل شيء، فلم أجد له أصلح من هذا. وصنف كتابين في النحو، يسمى أحدهما الجامع، والآخر الإكمال. وفيهما يقول الخليل بن أحمد - وكان الخليل قد أخذ عنه: ذهب النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ذاك إكمال وهذا جامعٌ ... فهما للناس شمس وقمر وهذان الكتابان لم نرهما ولم نرَ أحداً رآهما. وقال يحيى بن المبارك اليزيدي: يا طالب النحو ألا فابكه ... بعد أبي عمرو وحماد وابن أبي إسحاق في علمه ... والزبن في المشهد والنادي عيسى وأشباهٌ لعيسى وهل ... يأتي لهم دهر بأنداد ويونس النحوي لا تنسه ... ولا خليلا حية الوادي وتوفي سنة تسع وأربعين ومائة. ويشهد لهذا ما روي عن الأصمعي أنه قال: توفي عيسى بن عمر قبل أبي عمرو بهمس سنين، وكان ذلك في خلافة أبي جعفر المنصور، وكان أبو عمرو قد توفي سنة أربع وخمسين ومائة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. أبو عمرو بن العلاء وأما أبو عمرو بن العلاء، فهو العلم المشهور في علم القراءة واللغة والعربية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وكان من الشأن بمكان. واسمه زبان؛ ويروى أن الفرزدق جاء معتذراً إليه من أجل هجو بلغه عنه، فقال له أبو عمرو: هجوت زبان ثم جئت معتذراً ... من هجو زبان، لم تهجو ولم تدعْ فهذا يدل على أن اسمه زبان؛ واختلفوا في اسمه اختلافاً كثيراً، ومنهم من قال: اسمه كنيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أخذ النحو عن نصر بن عاصم الليثي، وأخذ عنه يونس بن حبيب البصري، والخليل بن أحمد، وأبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي وكان يونس بن حبيب يقول: لو كان أحد ينبغي أو يؤخذ بقوله كله في شيء، كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء كله في العربية، ولكن ليس من أحد إلا وأنت آخذ من قوله وتارك. وروى الأصمعي عن الخليل بن أحمد، عن أبي عمرو بن العلاء، أنه قال: أكثر من تزندق بالعراق لجهلهم بالعربية. وحكى الأصمعي قال: غدوت ذات يوم إلى زيارة صديق لي، فلقيني أبو عمرو بن العلاء، فقال: إلى أين يا أصمعي؟ قلت: إلى صديق لي، فقال: إن كان لفائدة، أو لمائدة، أو لعائدة، وإلا فلا. وروي أنه سئل عن قوله تعالى:] فعززنا بثالث [، فقال: المعنى شددنا، وأنشد: أجد إذا ضمرت تعزز لحمها ... وإذا تشد بنعسها لا تنبس تعزز، أي اشتد، ولا تنبس؛ أي لا تصوت. ويروى عن أبي عمرو، قال: كنت هارباً من الحجاج بن يوسف، وكان يشتبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 على "فرجة" هل هي بالفتح أو بالضم؟ فسمعت قائلاً يقول: ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فَرجة كحل العقال بفتح الفاء من "فَرجة"، ثم قال: ألا إنه قد مات الحجاج؛ قال: فما كنت أدري بأيهما كنت أشد فرحاً، بقوله: "َرجة"، أو بقوله مات الحجاج! ويروى أن أبا عمرو سأل أبا خيرة عن قولهم: "استأصل الله عرقاتهم"، فنصب أبو خيرة التاء من "عرقاتهم" فقال له أبو عمرو: هيهات يا أبا خيرة! لأن جلدك! وذلك أن أبا عمرو استضعف النصب، لأنه كان قد سمعها [منه] بالجر، وكان أبو عمرو بعد ذلك يرويها بالنصب والجر. وكان أبو عمرو يقول: إنما نحن بالإضافة إلى من كان قبلنا كبقل في أصول رقل، أي نخل طوال؛ وهذا يدل على كماله في فضله، قال الشاعر: وما عبر الإنسان عن فضل نفسه ... بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل وإن أخس النقص أن يرمي الفتى ... قذى العين عنه بانتقاص الأفاضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وحكى يونس بن حبيب البصري، عن أبي عمرو أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير. وقال إبراهيم الحربي: كان أهل العربية كلهم أصحاب أهواء؛ إلا أربعة فإنهم أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب البصري، والأصمعي. ومما روي عن أبي عمرو لشيخ من نجد: فاستقدرِ الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسر وبينما المرء في الأحياء مغتبطٌ ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير يبكي غريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيِّ مسرور حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حال دهارير وهذه الأبيات لعثمان بن لبيد العذري. روى هشام بن الكلبي، قال: عاش عبيد بن شرية الجرهمي ثلثمائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، ودخل على معاوية بالشام وهو خليفة، فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت، فقال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتاً لهم، فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع، فتمثلت بقول الشاعر: يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير قد بحت بالحب ما تخفيه من أحدٍ ... حتى جرت لك أطلاقاً محاضير فلست تدري وما تدري أعاجلها ... أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير فاستقدر الله خيراً به وارضينَّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير الأبيات إلى قوله: يبكي غريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور قال: فقال لي رجل: أتعرف من قال هذا الشعر؟ قلت: لا، قال: إن قائله هذا الذي دفناه الساعة، وأنت الغريب الذي يبكي عليه ولست تعرفه، وهذا الذي خرج من قبره أمس الناس رحماً به، وأسرهم بموته. فقال له معاوية: لقد رأيت عجباً، فمن الميت؟ فقال: عثمان بن لبيد العذري. وحكى الأصمعي قال: أنشدنا أبو عمرو: فما جبنوا أنا نشد عليهم ... ولكن رأوا ناراً تحش وتسفعُ قال: فذكرت ذلك لشعبة، فقال: ويلك! إنما هو "تحسَّ وتسفع" أي تحرق وتسوَّد. قال الأصمعي: وقد أصاب أبو عمرو، لأن معنى "تحشُّ" توقد، وقد أصاب شعبة أيضاً، ولم أرَ أعلم بالشعر من شعبة. وروى الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، قال: سمعت أعرابياً يقول: فلان لغوب، جاءته كتابي فاختصرها، قال: فقلت له [أتقول] : جاءته كتابي! فقال: أليس بصحيفة! فحمله على المعنى. وقد جاء ذلك كثيراً في كلامهم. واللغوب: الأحمق، وله أسماء كثيرة ذكرناها مستوفاة في كتابنا الموسوم في أسماء المائق. وتوفي أبو عمرو بن العلاء سنة أربع وخمسين ومائة في خلافة المنصور. أبو معاوية النحوي وأما أبو معاوية شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي؛ فإنه كان مولى لبني تميم، وكان يعلم أولاد داود بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان قارئاً محدثاً نحويّاً، من مقدمي النحويين. سكن الكوفة زماناً، وانتقل عنها إلى بغداد. حدث عن الحسن البصري، ويحيى بن أبي كثير، وحدث عنه عبد الرحمن بن مهدي وغيره. وقال [أبو أحمد بن الحسن بن] عبد الله بن سعيد العسكري: إن شيبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 النحوي نسبة إلى بطن يقال لهم نحو بن شمس - بضم الشين - من بطن من الأزد. وذكر أبو الحسين بن المنادي أن المنسوب إلى القبيلة هو يزيد النحوي، لا شيبان. قال أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث: يزيد النحوي، هو يزيد ابن أبي سعيد، وهو من بطن من الأزد، يقال لهم بنو نحو؛ ليسوا من نحو العربية، ولم يرو أحدٌ منهم الحديث إلا رجلان؛ أحدهما يزيد هذا، وسائر من يقال له النحوي، فمن نحو العربية؛ شيبان بن عبد الرحمن النحوي، و هارون بن موسى النحوي، وأبو زيد النحوي. وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن شيبان النحوي وعن هشام الدستوائي وعن حرب بن شداد، فقال: شيبان أرفع عندي، شيبان صاحب كتاب صحيح، قد روى شيبان عن الناس، فحديثه صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وسئل يحيى بن معين عن شيبان: ما حاله والأعمش؟ فقال: ثقةٌ في كل شيء، وكان يحيى بن معين يوثقه، ويزعم أنه بصري انتقل إلى الكوفة. وقال ابن عمار: أبو معاوية النحوي؛ هو بصري ثقة. وتوفي ببغداد سنة أربع وستين ومائة في خلافة المهدي، ودفن في مقبرة الخيزران. وقال محمد بن سعد: دفن في مقابر قريش. وقيل: توفي سنة سبعين ومائة في خلافة الهادي. هارون بن موسى وأما أبو عبد الله هارون بن موسى - وقيل أبو موسى- القارئ النحوي الأعور؛ - فإنه كان من أهل البصرة، وكان عالماً بالنحو، وسمع الحديث عن طاوس اليماني، وثابت البناني، وحميد الطويل؛ وروى عنه علي بن الجعد وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقال عبد الله بن سليمان الأشعث: سمعت أبي يقول: كان هارون الأعور يهودياً فأسلم، وحسن إسلامه، وحفظ القرآن وضبطه، وضبط النحو. وناظره إنسان يوماً في مسألة، فغلبه هارون، فلم يدرِ المغلوب ما يقول، فقال له: أنت كنت يهودياً فأسلمت، فقال له هارون: فبئس ما صنعت! قال: فغلبه في هذا أيضاً. قال أبو حاتم السجستاني: سألت الأصمعي عن هارون بن موسى النحوي، فقال: كان ثقة مأموناً. الشرقي بن القطامي وأما الشرقي بن القطاني، فكان وافر الأدب، عالماً بالنسب. أقدمه أبو جعفر المنصور بغداد ليعلم ولده المهدي الأدب، والشرقي لقب له؛ واسمه الوليد، والقطامي لقب لوالده، واسمه الحصين. ويحكى عن الشرقي بن القطامي أنه قال: دخلت على المنصور، فقال: يا شرقي، علام يؤتى المرء؟ فقلت: أصلح الله تعالى الخليفة! على معروف قد سلف، أو مثله مؤتنف، أو قديم شرف، أو علم مطرف. قال إبراهيم الحربي: الشرقي بن القطامي كوفي قد تكلم فيه، وكان صاحب سحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وقال زكرياء بن يحيى الساجي: الشرقي بن القطامي ضعيف، حدث عنه شعبة حديثاً واحداً، وليس بقائم. قال يزيد بن هارون: حدثنا شعبة عن الشرقي ابن القطامي حديث عمر بن الخطاب أنه كان يبيت من وراء العقبة. فقال شعبة: حماري وردائي صدقة، إن لم يكن الشرقي كذب على عمر. قال: فقلت له: لم تروي عنه!. حمَّاد الراوية وأما حماد الراوية ، فإنه كان من أهل الكوفة، مشهوراً برواية الأشعار والأخبار، وهو الذي جمع السبع الطوال، هكذا ذكره أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة. ويحكى أن حماداً الراوية قال: كنت منقطعاً إلى يزيد بن عبد الملك، وكان أخوه هشام يجفوني [لذلك دون سائر أهله من بني أمية، في أيام يزيد] ، فلما مات يزيد، وأفضت الخلافة إلى هشام خفته، فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا إلى من أثق به من إخواني سراً. فلما لم أسمع أحداً يذكرني أمنتُ فخرجت، وصليت الجمعة في الرصافة، ثم جلست عند باب الفيل، فإذا شرطيان قد وقفا علي، فقالا: يا حماد، أجب الأمير يوسف بن عمر، فقلت في نفسي: هذا الذي قد كنت أخافه؛ ثم قلت للشرطيين: هل لكما أن تدعاني حتى آتِيَ أهلي، فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم أبداً، ثم أصير معكما! فقالا: ما إلى هذا سبيلٍ؛ فاستسلمت في أيديهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وصرت إلى يوسف بن عمر، فسلمت عليه، فرد علي السلام، ورمى إلي كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر؛ أما بعد؛ فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به، وادفع إليه خمسمائة دينار وجملاً مهريّاً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق. فأخذت الدنانير، ونظرت فإذا حمل مرحول، فجعلت رجلي في الغرز، وسرت اثنتي عشرة ليلة، حتى وافيت دمشق، ونزلت على باب هشام، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء، مفروشة بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب حمر من الخز، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، فسلمت عليه، فرد علي السلام، واستدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله؛ فإذا جاريتان لم أرَ مثلهما قط، في أذنيْ كل واحدة منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان تتوقدان، فقال لي: كيف أنت يا حماد؟ وكيف حالك؟ فقلتُ: بخير يا أمير المؤمنين، قال: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا، قال: بعثت إليك لبيت خطر ببالي، لم أدر من قائله؟ قلت: ما هو؟ قال: ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينةٌ في يمينها إبريق فقلت: يقوله عدي بن زيد، في قصيدة له، قال: أنشدينها، فأنشدته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بكر العاذلون في وضح الصبح ... يقولون لي أما تستفيق! ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موثوق لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدُوٌّ يلومني أم صديق قال: فانتهيت إلى قوله: ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق قدمته على عقار كعين الد ... يك صفي سلافها الراووق مرة قبل مزجها، فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق وطفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت يزينها التصفيق ثم كان المزاج ماء سحاب ... لا صرًى آجنٌ ولا مطروق قال: فطرب، وقال لي: أحسنت والله يا حماد؛ يا جارية اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي. فقال: أعده فأعدته، فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه، فسقتني [شربة] فذهب ثلث آخر من عقلي، [فقلت: إن سقتني الثالث افتضحت] ، ثم قال: سل حاجتك، فقلت: كائنةً ما كانت! قال: نعم، قلت: إحدى هاتين الجاريتين، قال: هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما. ثم قال للأولى: اسقيه، فسقتني شربة سقطت منها فلم أعقلْ حتى أصبحت والجاريتان عند رأسي، وإذا عشرة من الخدم مع كل واحد منهم بدرة، فقال أحدهم: إن أمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه فانتفع بها في سفرك، فأخذتها والجاريتين، وعاودت أهلي. والله أعلم. حماد بن سلمة وأما حماد بن سلمة، فإنه كان من متقدمي النحويين، وأخذ عنه يونس بن حبيب البصري. ويروي أن [ابن] سلاّم، قال: قلت ليونس بن حبيب: أيما أسن؟ أنت أو حماد؟ قال: هو أسن مني، ومنه تعلمت العربية. وعن علي بن الزراع قال: سمعت حماد بن سلمة يقول: "من لحن في حديثي، فقد كذب عليّ". وروى نصر بن علي بن سيبويه كان يستملي على حماد، فقال حماد يوماً: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس أحد من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عنه ليس أبا الدرداء"، فقال سيبويه: "ليس أبو الدرداء"، فقال له حماد: لحنت [يا سيبويه] ، "ليس أبا الدرداء"، فقال سيبويه: لا جرم! لأطلبن علماً لا يلحنني معه أحد، فطلب النحو، ولزم الخليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقال أبو عمر الجرمي: ما رأيت فقيهاً أفصح من عبد الوارث، وكان حماد بن سلمة أفصح منه. وحكى أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن محمد بن سلاّم، في ترتيب النحويين من البصريين: وحماد - يعني حماد بن سلمة - كان يونس بن حبيب يفضله. وحكى أبو الحسن الأخفش عن يونس بن حبيب، أن حدثه أن حماداً ناسا من العرب يقولون في النسب إلى شيَة "شِيوَيّ"، والوجه فيه غير ذلك؛ وهؤلاء كأنهم قلبوا موضع الفاء، فوضعوه في موضع اللام، وسيبويه يذهب إلى أن النسب إلى شية "شيَويّ"، وأبو الحسن الأخفش يذهب إلى أن النسب إلى شية "وشييّ". وإليه أشار اليزيدي في قوله: يا طالب النحو ألا فابكه ... بعد أبي عمرو وحماد ولا يريد حماداً الراوية؛ لأنه لا يعرف لحماد شيء في النحو؛ إنما كان مشهوراً برواية الأشعار والأخبار، وكان من أهل الكوفة، واليزيدي إنما قصد تفضيل نحويي البصرة على نحويي الكوفة. وذكر حنبل بن إسحاق في كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 عن الإمام أحمد بن حنبل، أن حماد بن سلمة مات في ذي الحجة سنة سبع وستين ومائة، وتوفي في خلافة المهدي ابن المنصور. أبو الخطاب الأخفش وأما أبو الخطاب الأخفش؛ فكان من أكابر علماء العربية ومتقدميها؛ وأخذ عنه أبو عبيدة معمر بن المثنى. قال أبو عبيدة: سألت أبا الخطاب الأخفش: هل تجمع اليد الجارحة على "أيادي"؟ فقال: نعم، ثم سألت أبا عمرو بن العلاء، فأنكر ذلك، فقلت لأبي الخطاب: إن أبا عمرو قد أنكر ما أثبتَّه، فقال: أو ما سمع قول عدي: سادها ما تأملت في أيادي ... نا وإشناقها إلى الأعناق ثم قال: هي في علم الشيخ؛ لكنه قد أنسيه. وهو كما قال أبو الخطاب، قال الشاعر: فمن ليد تطاولها الأيادي وإن الأغلب أن يراد بها النعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الخليل بن أحمد وأما الخليل بن أحمد، فهو أبو عبد الرحمن بن أحمد البصري الفرهودي الأزدي، سيد أهل الأدب قاطبة في علمه وزهده، والغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله. وكان من تلاميذ أبي عمرو بن العلاء. وأخذ عنه سيبويه؛ وعامة الحكاية في كتاب سيبويه عن الخليل؛ فكلما قال سيبويه: سألته، أو قال: [قال] من غير أن يذكر قائله؛ فهو الخليل بن أحمد. وأخذ عنه أيضاً النضر بن شميل وأبو فيد مؤرج السدوسي وعلي بن نصر الجهضمي وغيرهم. وهو أول من استخرج علم العروض، وضبط اللغة، وأملى كتاب العين على الليث بن المظفر. وكان أول من حصر أشعار العرب. وكان يقول البيتين والثلاثة ونحوها في الآداب؛ مثل ما روى عنه أنه كان يقطّع العروض، فدخل عليه ولده في تلك الحالة، فخرج إلى الناس وقال: إن أبي قد جُنَّ، فدخل الناس عليه فرأوه يقطّع العروض، فأخبروه بما قال ابنه، فقال له: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا وكما روى عنه أيضاً: وقبلك داوى الطبي المريض ... فعاش المريض ومات الطبيب فكن مستعداً لدار الفناء ... فإن الذي هو آتٍ قريب وكان رحمه الله تعالى من الزهاد في الدنيا المعرضين عنها. ويروى أنه وجه إليه سليمان بن علي من الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزاً يابساً، وقال: كلْ فما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي إلى سليمان، فقال له الرسول: فما أبلغه [عنك] ؟ فأنشأ يقول: أبلغ سليمان أني عنه في سعةٍ ... وفي غنى غير أني لست ذا مال سخي بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال والفقر في النفس لا في المال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فارزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال ويحكى عنه أنه قال: إن لم تكن هذه الطائفة - يعني أهل العلم - أولياء الله تعالى فليس لله تعالى وَلِيّ. ويروى عن سفيان أنه كان يقول: من أحب أن ينظر إلى رجل خلق من الذهب والمسك؛ فلينظر إلى الخليل بن أحمد. ويروى عن النضر بن شميل أنه قال: كنا نمثل بين ابن عون والخليل بن أحمد، أيهما نقدم في الزهد والعبادة؟ فلا ندري أيهما نقدم! وكان النضر يقول: ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد. وكان يقول: أكلت الدنيا بعلم الخليل بن أحمد وكتبه؛ وهو في خص لا يشعر به [أحد] . وما يحكى عنه من العلم والزهد أشهر من أن ينشر، وأظهر من أن يذكر. توفي سنة ستين ومائة رحمة الله عليه ورضوانه. يونس بن حبيب وأما يونس بن حبيب البصري، فمن أكابر النحويين؛ أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وسمع من العرب كما سمع من قبله، وأخذ عنه سيبويه، وحكى عنه في كتابه، وأخذ عنه أيضاً أبو الحسن بن حمزة الكسائي، وأبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء. وكان له مذاهب وأقيسة تفرد بها، وكانت حلقته بالبصرة، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 يقصده طلبة العربية وفصحاء الأعراب والبادية. وحكة محمد بن الجهم، قال: حدثنا الفراء، قال: أنشدني يونس النحوي: رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطى عليه النعيم وعن الفراء قال: قال يونس: الآل: من غدوة إلى ارتفاع النهار، ثم هو سراب سائر النهار؛ وإذا زالت الشمس فهو فيء، وفي غدوة ظل، وأنشد لأبي ذؤيب: لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل وكان كذا وكذا الليلة، يقول ذلك إلى ارتفاع [النهار من] الضحى، فإذا جاوز ذلك قالوا: البارحة. وروى الأصمعي عن يونس، قال: قال لي رؤبة بن العجاج: حتام تسألني عن هذه الخزعبلات وأزخرفها! أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك! وعن محمد بن سلام، قال: [قال يونس] : كنا على باب ابن عمير، فمرت بنا امرأة يدفع بعضها بعضاً، فما لبثنا أن أقبل فتى من قريش، فلما رآنا ارتدع، فقلنا: هاهنا طلبتك، فتبعها وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 إذا سلكت قصد السبيل قصدته ... وإن عاجت عجت حيث تعوج وحكى الفراء، عن يونس، قال: كان عبد الملك بن عبد الله ينشد: إذ أنت لم تنفع فضر فإنما ... يراد الفتى كيما يضر وينفعا وعن خلاد بن يزيد، قال: قال يونس: ثلاثة والله أشتهي أن أمكن من مناظرتهم يوم القيامة: آدم عليه السلام، فأقول له: مكنك الله تعالى من الجنة، وحرم عليك الشجرة، فقصدتها حتى طرحتنا في هذا المكروه؛ ويوسف عليه السلام فأقول له: كنت بمصر وأبوك يعقوب بكنعان، وبينك وبينه عشر مراحل، يبكي عليك حتى ابيضت عيناه من الحزن، ولم ترسل إليه أني في عافية وتريحه مما كان فيه، وطلحة والزبير رضي الله عنهما فأقول لهما: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بايعتماه بالمدينة وخلعتماه بالعراق، فأي شيء أحدث!. وحكى أبو عمر الجرمي، قال: رأيت يونس النحوي، مر بحلقة المسجد، فقام إليه رجل يسأله عن قوله تعالى:] وأنى لهم التناوش من مكان بعيد [، فقال بيده: التناوش التناول، وأنشد لغيلان بن حريث الربعي: فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قال ثعلب: جاوز يونس المائة؛ وقيل: عاش ثمانية وثمانين سنة. وتوفي يونس بن حبيب البصري سنة ثلاث وثمانين سنة، في خلافة هارون الرشيد. معاذ الهراء وأما معاذ الهراء؛ فهو أبو مسلم معاذ الهراء، وقيل: يكنى أبا علي، من موالي محمد بن كعب القرظي، وهو عم أبي جعفر الرؤاسي؛ ولد في أيام يزيد بن عبد الملك، وعاش إلى أيام البرامكة، وولد له أولاد أولاد؛ فماتوا كلهم وهو باق. ولا مصنف له يعرف. وأخذ عنه أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، وتوفي في السنة التي نكب فيها البرامكة، وهي سنة سبع وثمانين ومائة، في خلافة الرشيد. أبو جعفر الرؤاسي وأما الرؤاسي، فهو أبو جعفر محمد بن أبي سارة، ابن أخي معاذ الهراء، وإنما سمي الرؤاسي لعظم رأسه. قال أبو محمد بن درستويه: زعم أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب أن أول من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو الرؤاسي. ويحكى عنه أيضاً أنه قال: كان الرؤاسي أستاذ الكسائي والفراء. وقال الفراء: لما خرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الكسائي إلى بغداد، قال لي الرؤاسي: قد خرج الكسائي إلى بغداد، وأنت أسن منه، فجئت إلى بغداد، فرأيت الكسائي فسألته عن مسائل من مسائل الرؤاسي، فأجابني بخلاف ما عندي، فغمزت قوماً من علماء الكوفيين كانوا معي، فقال: مالك قد أنكرت! لعلك من أهل الكوفة؛ فقلت: نعم، فقال: الرؤاسي يقول كذا وكذا، وليس صواباً، وسمعت العرب تقول كذا وكذا؛ حتى أتى على مسائلي، فلزمته. وكان الرؤاسي رجلاً صالحاً؛ ويحكى عنه، أنه قال: أرسل إليّ الخليل بن أحمد يطلب كتابي، فبعثته إليه، فقرأه ووضع كتابه. وصنف الرؤاسي [تصانيف كثيرة] منها "كتاب معاني القرآن"، وكتاب "الوقف والابتداء" الكبير والصغير، وكتاب "التصغير"؛ إلى غير ذلك. المفضل الضبي وأما المفضل بن محمد الضبي؛ فكنيته أبو عبد الرحمن، وكان ثقة من أكابر الكوفيين؛ وأخذ عنه أبو زيد الأنصاري من البصريين لثقته؛ وللمهدي جمع الأشعار المختارة المسماة "المفضليات" وتزيد وتنقص؛ وأصحها التي رواها عنه أبو عبد الله بن الأعرابي. وله من الكتب كتاب "الأمثال"، وكتاب "معاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الشعر"، وكتاب "العروض". قال خلف الأحمر : أخذت على المفضل الضبي، وقد أنشد لامرئ القيس: نمس بأعراف الجياد أكفنا ... إذ نحن قمنا عن شواء مضهب فقلت: إنما هو "نمش"؛ لأن المش مسح اليد بالشيء الخشن، ومنه سمي منديل الغمر مشوشاً. ويحكى أن سليمان بن علي الهاشمي بالبصرة، جمع بين المفضل الضبي والأصمعي، فأنشد المفضل قول أوس بن حجر: وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جذعا ففطن الأصمعي لخطئه - وكان أحدث سنّاً منه - فقال: إنما هو "تولبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 جذعا! " وأراد تقريره على الخطأ، فلم يفطن المفضل لمراده، فقال: كذلك أنشدته. فقال الأصمعي حينئذ: أخطأت، إنما هو "تولبا جذعا"، فقال: المفضل: "جذعاً جذعاً"! ورفع صوته، فقال سليمان بن علي: من تحبان أن يحكم بينكما؟ فاتفقا على غلام من بني أسد، حافظ للشعر، فأحضر فعرضا عليه ما اختلفا فيه، فقال بقول الأصمعي، وصوب قوله، فقال المفضل: وما الجدع؟ فقال: السيئ الغذاء؛ وهكذا هو في كلامهم، ومنه قولهم: أجدعته أمه؛ إذا أساءت غذاءه. خلف الأحمر وأما أبو محرز خلف بن حيان المعروف بخلف الأحمر؛ فإنه كان مولى أبي بردة بن أبي موسى، أعتق أبويه - وكانا فرغانيين - وكان يقول الشعر فيجيد؛ وربما نحله الشعراء المتقدمين، فلا يتميز من شعرهم لمشاكلة كلامه كلامهم. وقال أبو عبيدة: خلف الأحمر معلم الأصمعي، ومعلم أهل البصرة. وقال ابن سلاّم: أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس بيت شعر وأصدق لسانا؛ وكنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبراً، وأنشدنا أن نسمعه من صاحبه. وحكى شمر قال: كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة؛ وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية، فسمع منه - قال وكان ضنيناً بأدبه. وقال الحسن بن هانئ يرثي خلفاً: بت أعزي الفؤاد عن خلف ... وما لدمعي إلاّ يفض يكف أنسى الرزايا ميت فجعت به ... أضحى رهين الثواء في جذف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الجدف: القبر، وأصله "جدث" بالثاء؛ إلاّ أنه أبدل من الثاء فاء، وهم يفعلون ذلك. سيبويه وأما سيبويه؛ فهو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر؛ ويقال: كنيته أبو الحسن، وأبو بشر أشهر. وكان مولى بني الحارث بن كعب. وقال المرزباني: كان مولى آل الربيع بن زياد الحارثي، وسيبويه لقب له، ومعناه بالفارسية "رائحة التفاح". ويقال: إن أمه كانت ترقصه وهو صغير [بذلك] . وكان من أهل فارس، من البيضاء؛ ومنشؤه بالبصرة، وكان يطلب الآثار والفقه. قال نصر بن علي: كان سيبويه يستملي على حماد بن سلمة، فقال حماد يوماً: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس أحدٌ من أصحابي إلاّ وقد أخذت عليه، ليس أبا الدرداء"، فقال سيبويه: "ليس أبو الدرداء"، فقال له [حماد] : لحنت، "ليس أبا الدرداء"، فقال سيبويه: لا جرم! لأطلبن علماً لا تلحنني فيه أبداً، وطلب النحو. وأخذ عن الخليل بن أحمد، وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 يونس بن حبيب، وعيسى بن عمر وغيرهم. وبرع في النحو، وصنف كتابه الذي لم يسبقه أحدٌ على مثله، ولا لحقه أحدٌ من بعده. وقال أبو العباس المبرد: ذكر سيبويه عند يونس بن حبيب البصري، فقال: أظن هذا الغلام يكذب على الخليل! فقيل له: وقد روى عنك أشياء فانظر فيها؛ فنظر فيها، وقال: صدق في جميع ما قال، هو قولي. قال نصر بن علي: وبرز من أصحاب الخليل أربعة: عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر المعروف بسيبويه، والنضر بن شميل، وعلي بن نصر [الجهضمي] ، ومؤرج السدوسي، وكان أبرعهم في النحو سيبويه، وغلب على النضر بن شميل اللغة، وعلى مؤرج الشعر واللغة، وعلى علي بن نصر الجهضمي الحديث. وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: كان سيبويه وحماد بن سلمة أكبر في النحو من النضر بن شميل والأخفش، وكان النضر بن شميل أعلم الأربعة بالحديث. وقال ابن سلاّم: كان سيبويه النحوي غاية في الخلق، وكتابه في النحو هو الإمام فيه. وقال الجاحظ: أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك ففكرت في شيء أهديه إليه، فلم أجد [شيئاً] أشرف من كتاب سيبويه، فقلت له: أردت أن أهدي لك شيئاً، ففكرت فإذا كل شيء عندك، فلم أر شيئاً أشرف من هذا الكتاب [وهذا كتاب اشتريته من ميراث الفراء] ، فقال: والله ما أهديت إلي شيئاً أحب لي منه. وكان يقال بالبصرة "قرأ فلان الكتاب" فيعلم أنه كتاب سيبويه، و"قرأ نصف الكتاب"، فلا يشك أنه كتاب سيبويه. وكان أبو العباس المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه، يقول له: هل ركبت البحر! تعظيماً لكتاب سيبويه واستصعاباً لما فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وكان أبو عثمان المازني يقول: من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستح. قال ابن عائشة: كنا نجلس مع سيبويه النحوي في المسجد، وكان شاباً جميلاً نظيفاً، قد تعلق من كل علم بسبب، وضرب في كل أدب بسهم، مع حداثة سنة وبراعته في النحو؛ فبينا نحن ذات يوم إذ هبت ريح فأطارت الورق، فقال لبعض أهل الحلقة: انظر أي ريح هي؟ وكان على منارة المسجد تمثال فرس، فنظر ثم عاد فقال: ما ثبتت على شيء، فقال سيبويه: العرب تقول في مثل هذا: "قد تذاءبت الريح" وتداءبت الريح، أي فعلت فعل الذئب؛ وذلك أنه يجيء من هاهنا وههنا، ليخيل، فيتوهم الناظر أنه عدة ذئاب. قال أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد: قال ابن كيسان: سهرت ليلة أدرس فنمت، فرأيت جماعة من الجن يتذاكرون الفقه والحديث والحساب النحو والشعر، [قال] : فقلت لهم: أفيكم علماء؟ قالوا: نعم، فقلت من همي [في] النحو: إلى من تميلون من النحويين؟ قالوا: إلى سيبويه. قال أبو عمر: فحدثت بها أبا موسى - وكان يغبطه لحسدٍ كان بينهما - فقال لي أبو موسى: إنما مالوا إليه؛ لأن سيبويه من الجن. وقال محمد بن سلاّم: كان سيبويه جالساً في حلقة بالبصرة، فتذاكرنا شيئاً من حديث قتادة، فذكر حديثاً غريباً، وقال: لم يرو هذا الحديث إلاّ سعيد بن أبي العروبة، فقال له بعض ولد جعفر: ما هاتان الزيادتان يا أبا بشر؟ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 هكذا يقال؛ لأن العروبة يوم الجمعة، فمن قال: "عروبة" فقد أخطأ. قال ابن سلاّم: فذكرت ذلك ليونس، فقال: أصاب لله دره! وأخذ عنه أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، وأبو علي بن المستنير المعروف بقطرب؛ وكان أبو الحسن الأخفش أكبر سنّاً من سيبويه. ويروى أنه جاءه الأخفش يوماً يناظره بعد أن برع، فقال له الأخفش: إنما ناظرتك لأستفيد منك، فقال له سيبويه: أتراني أشك في ذلك! وورد سيبويه إلى بغداد، وناظر بها الكسائي وأصحابه، والمناظرة مشهورة. قال أبو بكر العبدي النحوي: لما قدم سيبويه إلى بغداد - وناظر الكسائي وأصحابه فلم يظهر عليه - سأل عمن يبذل من الملوك ويرغب في النحو، فقيل له طلحة بن طاهر، فشخص إليه إلى خراسان فلما انتهى إلى ساوة مرض مرضه الذي مات فيه، فتمثل عند الموت: يؤمب دنيا ليبقى بها ... فمات المؤمل قبل الأمل حثيثاً يروي أصول النخي ... ل فعاش الفسيل ومات الرجل وقال أبو عمرو بن يزيد: احتضر سيبويه النحوي، فوضع رأسه في حجر أخيه، فأغمي عليه، قال: فدمعت عين أخيه، فأفاق فرآه يبكي، فقال: أخيين كنا فرق الدهر بيننا ... إلى الغاية القصوى فمن يأمن الدهرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ومات في أيام الرشيد. وقال ابن قانع: مات سيبويه النحوي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة. وقال المرزباني: أخبرنا أبو بكر بن دريد أن سيبويه مات بشيراز، وقبره بها، وقيل: إنه مات سنة ثمان وثمانين ومائة. وقرئ على ظهر كتاب لأحمد بن سعيد الدمشقي: مات سيبويه سنة أربع وتسعين ومائة؛ والأول أشبه، لأنه مات قبل الكسائي، والكسائي مات سنة ثلاث وثمانين ومائة، على ما سنذكره في موضعه. قال أبو بكر بن الخطيب: ويقال: إن سيبويه عاش اثنتين وثلاثين سنة، ويقال: مات سيبويه وقد نيف على الأربعين سنة. أبو الحسن الكسائي وأما الكسائي؛ فهو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي. وقال أبو بكر الصولي: علي بن حمزة الكسائي، هو علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان، وقيل: بهمن بن فيروز، مولى بني أسد. أخذ عن أبي جعفر الرؤاسي، ومعاذ الهراء، وكان أحد أئمة القراء السبعة؛ وكان قد قرأ على حمزة الزيات وأقرأ بقراءته ببغداد، ثم اختار لنفسه قراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فأقرأ بها الناس. وكان قد سمع من سليمان بن أرقم وأبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وأخذ عنه أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء وأبو عبيدة القاسم بن سلاّم وجماعة. وقال أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء: إنما تعلم الكسائي النحو على الكبر، وكان سبب تعلمه أنه جاء يوماً وقد مشى حتى أعيا، فجلس إلى قومٍ فيهم فضل، وكان يجالسهم كثيراً، فقال: قد عييت، فقالوا له: تجالسنا وأنت تلحن! فقال: كيف لحنت؟ فقالوا: إن كنت أردت من التعب، فقل: "أعييت"، [وإن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل: "عييت" مخففة] ، فأنف من هذه الكلمة وقام من فوره [ذلك] فسأل عمن يعلم النحو، فأرشدوه إلى معاذ الهراء، فلزمه حتى أنفذ ما عنده، ثم خرج إلى البصرة فلقي الخليل بن أحمد، وجلس في حلقته، فقال رجل من الأعراب: تركت أسداً وتميماً وعندهما الفصاحة، وجئت إلى البصرة! وقال للخليل بن أحمد: من أين علمُك؟ فقال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، فخرج الكسائي، وأنفذ خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ. ولم يكن له هم غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات وجلس في موضعه يونس بن حبيب البصري النحوي، فجرت بينهما مسائل أقرّ له يونس فيها، وصدره موضعه. وقال عبد الرحيم بن موسى: قلت للكسائي: لم سميت الكسائي؟ قال: لأني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أحرمت في كساء. وقال خلف بن هشام: دخل الكسائي الكوفة، فجاء إلى مسجد السبيع - وكان حمزة بن حبيب يُقرئ فيه - فتقدم الكسائي مع أذان الفجر؛ وهو ملتف بكساء، فلما صلى حمزة، قال: من تقدم في الوقت؟ قيل له: الكسائي - يعنون به صاحب الكساء - فرمقه القوم بأبصارهم، فقالوا: إن كان حائكاً فسيقرأ سورة يوسف، وإن كان ملاحاً فسيقرأ سورة طه؛ فسمعهم، فابتدأ بسورة يوسف، فلم بلغ إلى قصة الذي قرأ:] فأكله الذئب [بغير همز، فقال له حمزة:] الذئب [بالهمز، فقال له الكسائي: وكذلك أهمز "الحوت"؟ وقرأ] فالتقمه الحوت [فقال: لا، فقال: فلم همزت "الذئب" ولم تهمز "الحوت"، وهذا] فأكله الذئب [وهذا] فالتقمه الحوت [! فرجع حمزة بصره إلى خلاد الأحول - وكان أكمل أصحابه - فتقدم إليه في جماعة أهل المجلس، فناظروا فلم يصنعوا شيئاً، وقالوا: أفدنا يرحمك الله! فقال لهم الكسائي: تفهموا عن الحائك، تقول إذا نسبت الرجل إلى الذئب: قد استذأب، ولو قلت: قد استذاب بغير همز، لكنت إنما نسبته إلى "الذوب" فتقول: قد استذاب الرجل، إذا ذاب شحمه بغير همز، وإذا نسبته إلى الحوت، تقول: قد استحات الرجل، إذا كثر أكله للحوت؛ لأن الحوت يأكل كثيراً، فلا يجوز فيه الهمز؛ فلتلك العلة همز "الذئب" ولم يهمز "الحوت". وفيه معنى آخر: لا تسقط الهمزة من مفرده ولا من جمعه، وأنشدهم: أيها الذئب وابنه وأبوه ... أنت عندي من أذؤب ضاريات قال: فسمي الكسائي من ذلك اليوم. وله كتب كثيرة منها كتاب "معاني القرآن"، وكتاب "مختصر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 النحو"، وكتاب "القراءات" وكتاب "العدد" وكتاب "اختلاف العدد"، وكتاب "مقطوع القرآن وموصوله"، وكتاب "النوادر الكبير" وكتاب "النوادر الصغير"، وكتاب "الهجاء"، وكتاب "المصادر"، إلى غير ذلك. وكان الكسائي معلم الرشيد والأمين من بعده؛ قال سلمة: كان عند المهدي مؤدب يؤدب الرشيد، فدعاه يوماً المهدي وهو يستاك، فقال له: كيف تأمر من السواك؟ فقال: استك يا أمير المؤمنين، فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم قال: التمسوا لنا من هو أفهم من هذا الرجل، فقالوا: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة، قدم من البادية قريباً. فكتب بإزعاجه من الكوفة، فساعة دخل عليه، قال: يا علي بن حمزة! قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: تأمر من السوال؟ فقال: "سك يا أمير المؤمنين"، فقال: أحسنت وأصبت! وأمر له بعشرة آلاف درهم. قال حرملة بن يحيى التجيبي: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي. قال الكسائي: صليت بالرشيد فأعجبته قراءتي، فغلطت في كلمة ما غلط فيها صبي قط، أردت أن أقرأ:] لعلهم يرجعون [، فقرأت: "لعلهم يرجعين" قال: فوالله ما اجترأ الرشيد أن يرد علي؛ ولكني لما سلمت، قال لي: يا كسائي، أي لغة هذه؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، قد يعثر الجواد! فقال: أما هذا فنعم. قال ابن الدورقي: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد، فحضرت صلاة الجهر فقدموا الكسائي، فصلى بهم، فأرتج عليه في قراءة:] قل يا أيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الكافرون [فلما سلم، قال اليزيدي: قارئ أهل الكوفة يرتج عليه في] قل يا أيها الكافرون [! فحضرت صلاة الجهر، فتقدم اليزيدي فصلى فأرتج عليه في سورة الحمد، فلما سلم قال: احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق. وعن أبي محمد بن حمدان, قال: كان رجل يغتاب الكسائي, ويتكلم فيه, فكتبت فيه أنهاه, فما كان ينزجر, فجاءني بعد أيام, فقال لي: رأيت الكسائي في النوم أبيض الوجه, فقلت له: ما فعل الله تعالى بك يا أبا الحسن! قال: غفر لي بالقرآن, إلا أني رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فقال لي: أنت الكسائي! قلت: نعم يا رسول الله, قال: اقرأ, قلت: فما أقرأ يا رسول الله؟ قال:] والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد [, وضرب بيده كتفي, وقال: لأباهين بك الملائكة غدا. وحكى الدوري قال: كان أبو يوسف يقع في الكسائي, ويقول: أي شىء يحسن! إنما يحسن شيئا من كلام العرب, فبلغ ذلك الكسائي فالتقيا عند الرشيد - وكان الرشيد يعظم الكسائي لتأديبه إياه - فقال: لأبي يوسف: [يا يعقوب] ، أيش تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق؟ قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق أو طالق أو طالق؟ قال: واحدة، [قال] : فإن قال لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق؟ قال: واحدة، قال: فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قال لها: أنت طالق وطالق وطالق؟ قال: واحدة؛ قال الكسائي: يا أمير المؤمنين، أخطأ يعقوب في اثنين؛ وأصاب في اثنين، أما قوله: "أنت طالق طالق طالق" فواحدة؛ لأن الثنتين الباقيتين تأكيد، كما تقول: أنت قائم قائم قائم، وأنت كريم كريم كريم. وأما قوله: "أنت طالق أو طالق أو طالق" فهذا شك، فوقعت الأولى التي تتيقن؛ وأما قوله: "أنت طالق ثم طالق ثم طالق"؛ فثلاث لأنه نسق؛ وكذلك قوله: أنت طالق وطالق وطالق. ويحكى عن الفراء أنه قال: دخلت على الكسائي يوماً، وكان يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: هذا الملك يحيى بن خالد، يوجه إلى ليحضرني فيسألني عن شيء، فإن أبطأت في الجواب لحقني منه عيب، وإن بادرت لم آمن من الزلل، قال: فقلت: يا أبا الحسن، من يعترض عليك؟ قل ما شئت، فأنت الكسائي، فأخذ لسانه، وقال قطعه الله إذن إذا قلت ما لا أعلم. ومات الكسائي ومحمد بن الحسن في سنة ثلاث وثمانين ومائة. وقال ابن الأنباري: مات الكسائي ومحمد بن الحسن سنة ثنتين وثمانين ومائة. وقال أحمد بن كامل القاضي: مات الكسائي بالري سنة تسع وثمانين ومائة، وكان عظيم القدر في أدبه وفضله، ودفنهما الرشيد بقرية يقال لها: رنبويه، وقال: اليوم دفنت الفقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 واللغة. قال محمد بن يحيى: سمعت عبد الوهاب بن حريش يقول: رأيت الكسائي في النوم، فقلت له: ما فعل الله عز وجل بك؟ قال: غفر لي بالقرآن. يعقوب بن الربيع وأما يعقوب بن الربيع أخو الفضل بن الربيع؛ فإنه كان أحد الأدباء الشعراء، وكان حسن الافتنان في العلوم، وكان حاجباً لأبي جعفر المنصور، وكان ماجناً خليعاً، وكان له جارية ظل يطلبها سبع سنين، وبذل فيها ماله وجاهه حتى ملكها، وأعطى فيها مائة ألف دينار فلم بيعها، ولم تمكث عنده إلا ستة أشهر حتى ماتت، فرثاها بمرات كثيرة، وأحسن شعره الذي قاله فيها مراثيها؛ ولم يكن مقصراً فيما سوى ذلك. أنشد علي بن سليمان الأخفش ليعقوب بن الربيع: أضحوا يصيدون الظباء وإنني ... لأرى تصيدها علي حراما أشبهن منك سوالفاً ومدامعاً ... فأرى بذاك لها علي ذماما أعزز علي بأن أروع شبهها ... أو أن تذوق على يدي حماما وأنشد له الأخفش أيضاً عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 لئن كان قربك لي نافعاً ... لبعدك أصبح لي أنفعا لأني أمنت رزايا الدهور ... وإن حل خطب فلن أجزعا أبو نواس وأما أبو علي الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس الشاعر؛ فإنه ولد بالأهواز، ونشأ بالبصرة؛ وقيل: كان مولى للجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان. واختلف إلى أبي زيد الأنصاري وكتب عنه الغريب، وحفظ عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أيام العرب، ونظر في نحو سيبويه. قال عمرو بن بحر الجاحظ: ما رأيت رجلاً أعلم باللغة من أبي نواس، ولا أفصح لهجةً؛ مع حلاوة ومجانبة للاستكره. وقال الشعر، وكان يستشهد بشعره. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان أبو نواس للمحدثين؛ كامرئ القيس للمتقدمين. وقال إسحاق بن إسماعيل: قال أبو نواس: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب، منهم الخنساء وليلى؛ فما ظنك بالرجال! وقال ميمون: سألت أبا يوسف يعقوب بن السكيت عما يختار لي روايته من الشعر، فقال: إذا رويت من أشعار الجاهليين فلامرئ القيس والأعشى، ومن الإسلاميين فلجرير والفرزدق، ومن المحدثين فلأبي نواس، فحسبك. وقال أبو العباس المبرد عن الجاحظ، قال: سمعت إبراهيم النظام يقول وقد أنشد شعر أبي نواس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الخمر: هذا الذي جمع له الكلام فاختار أحسنه. وقال في حقه سفيان بن عيينة: هذا أشعر الناس - يعني أبا نواس. وقال الجاحظ: لا أعرف من كلام الشعراء أرفع من قول أبي نواس: أية نار قدح القادح ... وأي جد بلغ المازح وأنشد الأبيات. قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: دخلت على أبي نواس؛ وهو يجود بنفسه، فقلت: ما أعددت لهذا اليوم؟ فقال: تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما وقال محمد بن زكرياء: دخلت على أبي نواس وهو يكيد بنفسه، فقال لي: أتكتب؟ فقلت: نعم، فأنشأ يقول: دب في الفناء سفلاً وعلوا ... وأراني أموت عضواً فعضوا ذهبت شرتي بحدة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا ليس من ساعة مضت بي إلا ... نقصتني بمرها بي جزوا لهف نفسى على ليال وايا ... م تمليتهن لعبا ولهوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وأسأنا كل الإساءة يا ر ... ب فصفحاً عنا إلهي وعفوا وحكى أبو جعفر الصائغ، قال: لما احتضر أبو نواس قال: اكتبوا هذه الأبيات على قبري: وعظتك أجداثٌ صمت ... ونعتك أزمنةٌ عفت وتكلمت عن أوجه ... تبكي وعن صورٍ سبت وأرتك قبرك في القبو_ر وأنت حي لم تمت ورثى على قبره مكتوب: يا كبير الذنب عفو الل ... هـ عن ذنبك أكبر قال ابن أبي سعيد: مات أبو نواس سنة ثمان وتسعين ومائة. وقال محمد بن الحسين الأنصاري سلف أبي نواس وجماعة آخر: ولد أبو نواس سنة خمس وأربعين ومائة، ومات ببغداد سنة ست وتسعين ومائة، في خلافة محمد الأمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بن الرشيد. وقيل: ولد سنة ست وثلاثين ومائة ومات سنة خمس وتسعين ومائة، وكان عمره تسعاً وخمسين سنة، ودفن في مقابر الشونيزي. وقال أحمد بن يحيى، عن محمد بن رافع، قال: كان أبو نواس لي صديقاً، فوقعت بيني وبينه هجرة في آخر عمره، ثم بلغتني وفاته؛ فتضاعف علي الحزن؛ فبينا أنا بين النائم واليقظان؛ إذا أنا به، فقلت: أبو نواس! فقال: لات حين كنية! قلت: الحسن بن هانئ؟ قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها، هي تحت ثني الوسادة؛ فأتيت أهله؛ فلما أحسوا بي أجهشوا بالبكاء، فقلت: هل قال أخي شعراً قبل موته؟ قالوا: لا نعلم؛ إلا أنه دعا بدواة وقرطاس، وكتب شيئاً، لا ندري ما هو؟ فقلت: أتأذنون لي أن أدخل؟ فدخلت إلى مرقده، فإذا ثيابه لم تحرك بعد؛ فرفعت وسادة فلم أر شيئاً، ثم رفعت أخرى؛ فإذا أنا برقعة فيها مكتوب: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم أدعوك رب، كما أمرت، تضرعاً ... فإذا رددت يدي، فمن ذا يرحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم أني مسلم أبو محمد اليزيدي وأما اليزيدي؛ فهو أبو محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة المقرئ، صاحب أبي عمر بن العلاء البصري؛ وهو مولى لبني عدي بن عبد مناة؛ وإنما قيل له اليزيدي؛ لأنه صحب يزيد بن منصور - خال المهدي - يؤدب ولده فنسب إليه؛ ثم اتصل بالرشيد، فجعله مؤدب المأمون. وكان الكسائي مؤدب أخيه عبد الله الأمين. وكان عالماً باللغة والنحو وأخبار الناس، ولم يكن في النحو في طبقة الخليل وسيبويه والأخفش؛ وكان قد أخذ علم العربية من أبي عمرو بن العلاء، وعبد الله ابن أبي إسحاق الحضرمي، والخليل بن أحمد، وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلاّم، وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وغيرهما. وقال أبو حمدون الطيب بن إسماعيل: شهدت ابن أبي العتاهية، وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريباً من ألف جلد، عن أبي عمرو بن العلاء خاصة، يكون ذلك نحو عشرة آلاف ورقة؛ لأن تقدير الجلد عشر ورقات. وأخذ عن الخليل من اللغة أمراً عظيماً، وأخذ عنه العروض؛ إلا أن اعتماده كان على أبي عمرو بن العلاء؛ لسعة علم أبي عمرو باللغة. وكان اليزيدي يعلم بحذاء دار أبي عمرو، وكان أبو عمرو يميل إليه ويدنيه لذكائه. وكان اليزيدي صحيح الرواية، ثقة صدوقاً. وألف من الكتب كتاب "النوادر" في اللغة على مثال "نوادر الأصمعي" الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 عمله لجعفر بن يحيى، وألف كتاب "المقصور والممدود"، ومختصراً في النحو، وكتاب "النقط والشكل"؛ وغير ذلك. وكان أيام الرشيد مع الكسائي ببغداد في مسجد واحد يقرئان الناس. قال الأثرم: دخل اليزيدي يوماً على الخليل، وعنده جماعة، وهو جالس على وسادة، فأوسع له، فجلس معه اليزيدي على وسادته، فقال له اليزيدي: أحسبني قد ضيّقت عليك! فقال الخليل: ما ضاق مكان على اثنين متحابين؛ والدنيا لا تسع اثنين متباغضين. ويحكى أنه تكلم اليزيدي مع الكسائي بين يدي الرشيد، فظهر كلامه على الكسائي، فرمى بقلنسوته فرحاً بالغلبة، فقال الرشيد: لأدب الكسائي مع انقطاعه أحب إلينا من غلبك مع سوء أدبك. ويروى أن المأمون سأل اليزيدي عن شيء، فقال: لا وجعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين! فقال: لله درك! ما وضعت واوٌ موضعاً قط [في لفظ] أحسن منها في لفظ مثل هذا، ووصله بعطية سنية. وكان اليزيدي أحد الشعراء، وله جامع شعر وأدب، وفيه قصيدته التي يمدح بها نحويي البصرة، ويهجو نحويي الكوفة؛ التي أولها: يا طالب لعلم ألا فابكه ... بعد أبي عمرو وحماد وقد قدمنا منها ذكر من مدحه من أهل البصرة، ثم ذكر فيها بعد ذلك عجز أهل الكوفة، فقال: أفسده قوم وأزروا به ... ما بين أعبام وأوغاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ذوى مراء وذوى لكنة ... لئام آباء وأجداد لهم قياس أحدثوه لهم ... قياس سوء غير منقاد فهم من النحو ... ولو عمروا أعمار عاد في أبي جاد فقوله: "أفسده قوم" أراد به أهل الكوفة. وله أيضاً في ذمهم: كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأول فجاء أقوام يقيسونه ... على لغى أشياخ قطربل فكلهم يعمل في نقض ما ... به يصاب الحق لا يأتلي إن الكسائي وأصحابه ... يرقون في النحو إلى أسفل وله أيضاً قصيدة يرثي بها الكسائي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وكانا قد خرجا مع الرشيد إلى خراسان، فماتا في الطريق، فمنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تصرمت الدنيا فليس خلود ... وما قد ترى من بهجة سيبيد سيغنيك ما أغنى القرون التي خلت ... فكن مستعداً فالفناء عتيد أسيت على قاضي القضاة محمد=فأذريت دمعي والفؤاد عميد وقلت إذا ما الخطب أشكل: من لنا ... بإيضاحه يوماً وأنت فقيد وأقلقني موت الكسائي بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد وأذهلني عن كل عيش ولذة ... وأرق عيني والعيون هجود هما عالمان أوديا وتخرما ... وما لهما في العالمين مزيد فحزني إن تخطر على القلب خطرة ... بذكرهما حتى الممات جديد وكان اليزيدي الغاية في قراءة أبي عمرو بن العلاء، وبروايته يقرأ أصحابه. والمعتزلة يزعمون أنه كان من أهل العدل معتزلياً، والله أعلم بصحة ذلك. وتوفي أبو محمد اليزيدي في سنة اثنتين ومائتين في خلافة المأمون بن الرشيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 النضر بن شميل وأما النضر بن شميل فأخذ عن الخليل بن أحمد، وعن فصحاء العرب، كأبي خيرة الأعرابي وأبي الدقيش. ويحكى عن النضر بن شميل أنه قال: أقمت بالبادية أربعين سنة. وأخذ عنه أبو عبيدة القاسم بن سلاّم. وصنف كتباً، منها كتاب "غريب الحديث"، وكتاب "المعاني"، وكتاب "الأنواء"، وكتاب "المدخل إلى كتاب العين". وحكى محمد بن ناصح الأهوازي، قال: حدثني النضر بن شميل المازني، قال: كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت [عليه] ذات ليلة، وعلي قميص مرقوع، فقال: يا نضر، ما هذا القشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان! قلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ ضعيف، وحر مرو شديد، فأتبرد بهذه الخلقان، فقال: ولكنك قشف. ثم أجرينا الحديث فأجرى هو ذكر النساء، فقال: حدثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز"، فأورده بفتح السين، قال: قلت: صدق يا أمير المؤمنين هشيم؛ حدثنا عوف بن أبي جميلة، عن الحسن، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينه وجمالها كان فيها سِداد من عوز"، قال: وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً، وقال: يا نضر، كيف قلت: سداد؟ قلت: نعم، لأن السداد هاهنا لحن، قال: أو تلحنني! قلت: إنما لحن هشيم - وكان لحاناً - فتبع أمير المؤمنين لفظه. قال: فما الفرق بينهما؟ قلت: السداد بالفتح: القصد في الدين والسبيل، والسداد بالكسر: البلغة، وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد، قال: أو تعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي يقول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فقال له المأمون: قبح الله تعالى من لا أدب له! وأطرق ملياً ثم قال: ما مالك يا نضر؟ قلت: أريضة لي بمرو أتصابها وأتمزرها؛ أي أشرب صبابتها، قال: أفلا أفيدك مالا [معها] ؟ قلت: إني إلى ذلك لمحتاج، ثم قال: فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب، ثم قال: كيف تقول إذا أمرت من "يترب"؟ قال: أتربه. قال: فهو ماذا؟ قلت: فهو مترب، قال: فمن الطين؟ قلت: طنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطين، قال: هذا أحسن من الأولى؛ ثم قال: يا غلام أتربه وطنه، ثم صلى بنا العشاء، وقال لخادمه: تبلغ معه إلى الفضل بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 سهل؛ قال: فلما قرأ الفضل بن سهل الكتاب، قال: يا نضر، أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب فيه؟ فأخبرته ولم أكثر به، فقال: لحنت أمير المؤمنين! قلت: كلا؛ إنما لحن هشيم - وكان لحانة - فتبع أمير المؤمنين لفظه، وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار. ثم أمر لي الفضل من خاصته بثلاثين ألف درهم، فأخذت ألف درهم بحرف استفيد مني. ويحكى أن النضر مرض، فدخل عليه قوم يعودونه، فقال له رجل يكنى أبا صالح: مسح الله تعالى ما بك، فقال: لا تقل "مسح" بالسين، ولكن قل: "مصح" بالصاد، أي أذهبه الله تعالى وفرقه، أما سمعت قول الشاعر: وإذا ما الخمر فيها أزبدت ... أفل الإزباد فيها ومصح فقال له الرجل: إن السين قد تبدل من الصاد، كما يقال: الصراط والسراط وصقر وسقر، فقال له: فإذا أنت "أبو صالح"! وتوفي النضر سنة ثلاث - أو أربع - ومائتين، في خلافة المأمون. هشام الكلبي وأما هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فإنه كان عالماً بالنسب، وهو أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 علوم الأدب؛ فلهذا ذكرناه في جملة الأدباء، فإن علوم الأدب ثمانية: النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب وأنسابهم؛ وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما؛ وهما علم الجدل في النحو، وعلم أصول النحو، فيعرف به الناس وتركيبه وأقسامه من قياس العلة، وقياس الشبه، وقياس الطراد إلى غير ذلك؛ على حد أصول الفقه، فإن بينهما من المناسبة ما لا يخفى؛ لأن النحو معقول من منقول؛ كما أن الفقه معقول من منقول، ويعلم حقيقة خذا أرباب المعرفة بهما. أخذ هشام عن أبيه وغيره، وروى عنه ابنه العباس وغيره؛ وكان من أهل الكوفة، وكان من أحفظ الناس. قال محمد بن السري: قال لي هشام بن الكلبي: حفظت ما لم يحفظ أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد، كان لي عم يعاقبني على حفظ القرآن؛ فدخلت بيته وحلفت أني لا أخرج حتى أحفظ القرآن؛ فحفظته في ثلاثة أيام؛ ونظرت يوماً في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة؛ فأخذت ما فوق القبضة. وتوفي هشام بن محمد بن السائي في سنة أربع ومائتين - وقيل في سنة ست ومائتين - في خلافة المأمون. قطرب وأما أبو علي محمد بن المستنير البصري المعروف بقطرب؛ فإنه كان أحد العلماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 باللغة والنحو؛ أخذ النحو عن سيبويه وعن جماعة من علماء البصرة؛ وسمي قطرباً لأن سيبويه كان يخرج فيراه بالأسحار على بابه. فيقول: إنما أنت قطرب ليل، والقطرب دويبة تدب ولا تفتر. وروى عنه محمد بن الجهم، وكان يذهب إلى مذهب المعتزلة، ولما صنف كتابه في التفسير أراد أن يقرأه في الجامع، فخاف من العامة وإنكارهم عليه؛ لأنه ذكر فيه مذهب المعتزلة، فاستعان بجماعة من أصحاب السلطان ليتمكن من قراءته بالجامع. وله من التصانيف كتاب "معاني القرآن"، وكتاب "غريب الحديث"، وكتابه "الصفات"، وكتاب "الأصوات"، وكتاب "الاشتقاق"، وكتاب "النوادر"، وكتاب "القوافي"، وكتاب "الأزمنة"، وكتاب "المثلث"، وكتاب "العلل في النحو"، إلى غير ذلك. وتوفي سنة ست ومائتين، في خلافة المأمون. أبو عمرو الشيباني وأما أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني؛ فإنه كان عالماً باللغة، حافظاً لها، جامعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 لأشعار العرب. وقيل: إنه لم يكن شيبانيّاً؛ وإنما كان مؤدباً لأولاد أناس من شيبان. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: دخل أبو عمرو إسحاق بن مرار البادية، ومعه دستيجتان من حبر، فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب. وكان أبو عمرو عالماً بأيام العرب، جامعاً لأشعارها، ويروى عن عمرو بن أبي عمرو قال: لما جمع أبي أشعار العرب كانت نيفاً وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل منها قبيلةً وأخرجها إلى الناس كتب مصحفاً، وجعله في مسجد الكوفة؛ حتى كتب نيفاً وثمانين بخطه. ويحكى أنه أخذ عن المفضل الضبي دواوين العرب، وسمعها منه أبو حسان وابنه عمرو بن أبي عمرو. حكى أبو العباس، قال: كان مع أبي عمرو الشيباني من العلم والسماع أضعاف ما كان مع أبي عبيدة، ولم يكن من أهل البصرة مثل أبي عبيدة في السماع والعلم. وروى عن سلمة بن عاصم، قال: كنا في مجلس سعيد بن سلم، وفيه الأصمعي وأبو عمرو، فأنشد الأصمعي بيت الحارث بن حلزة: عننا باطلاً وظلما كما تع ... نز عن حجرة الربيض الظباء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فقال أبو عمر للأصمعي: ما "تعنز"؟ فقال: معناه تنحى، ومنه قيل: العنزة - ويروي أي يضرب بالعنزة؛ وهي العصا - فقال أبو عمرو: الصواب "تعتر عن حجرة الربيض الظباء". أي تنحر؛ فصاح عليه الأصمعي، فقال له أبو عمرو: والله لا ترويها بعد هذا اليوم إلاّ "تعتر" كما قلت لك، فقيل لأبي عمرو: ظفرت به فاحترز منه، فقال له الأصمعي: ما تقول في قول الشاعر: وضرب كآذان الفراء فضوله ... وطعن كإبزاغ المخاض تبورها ما أراد بالفراء؟ فقال له أبو عمرو: ما نحن عليه - وكانا جالسين على فرو - فقال له: أخطأت؛ إنما الفراء جمع فرأ، وهو حمار الوحش. ويحكى عن يونس بن حبيب، قال: دخلت على أبي عمرو الشيباني؛ وبين يديه قطمر فيه أمناء من الكتب يسيرة، فقلت له: أيها الشيخ؛ هذا جميع علمك! فتبسم إلي وقال: هذا من صندوق كبير. وحكى التوزي، قال: قلت لأبي زيد الأنصاري: إن أبا عمرو الشيباني ينشد: بساباط حتى مات وهو محرزق وأنتم تقولون: "محرزق" فقال: هذه لغة نبطية وأم أبي عمرو نبطية؛ فهو أعلم بها منا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وعمر أبو عمرو طويلاً حتى أناف على التسعين. وذكر حنبل بن إسحاق في كتابه عن الإمام أحمد بن حنبل أن أبا عمرو الشيباني أتى عليه تسع عشرة ومائة سنة. وكان الإمام أحمد بن حنبل يحضر مجلس أبي عمرو، وكتب عنه حديثاً كثيراً. وكان أبو عمرو مشهوراً معروفاً؛ وإنما قصر به عند العامة من أهل العلم أنه كان مشتهراً بشرب النبيذ. وتوفي سنة ست ومائتين من خلافة المأمون -وقيل سنة عشر ومائتين- يوم السعانين. علي بن المبارك وأما علي بن المبارك الأحمر صاحب الكسائي، فإنه أول من دون عن الكسائي، قال الفراء: أتيت الكسائي فإذا الأحمر عنده، وقد بقل وجهه ثم برز حتى كان الفراء يأخذ عنه. وكان يؤدب الأمين. وكان مشهوراً بالنحو واتساع الحفظ. وكان أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، يقول: كان علي الأحمر مؤدب الأمين يحفظ أربعين ألف شاهد في النحو، سوى ما كان يحفظ من القصائد وأبيات الغريب، وكان متقدماً على الفراء في حياة الكسائي، لجودة قريحته وتقدمه في علل النحو ومقاييس التصريف. ومات قبل الفراء في سنة ست -أو سبع- ومائتين. ولما مات الأحمر قال الفراء: ذهب من كان يخالفني في النحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أبو زكريا الفراء وأما أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء؛ فإنه كان مولى لبني أسد، من أهل الكوفة، وأخذ عن أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، وأخذ عنه سلمة بن عاصم، ومحمد بن عاصم السمري وغيرهما. وكان إماماً ثقة. ويحكى عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال: لولا الفراء لما كانت اللغة؛ لأنه خلصها وضبطها، ولولا الفراء لسقطت العربية؛ لأنها كانت تنازع ويدعيها كل من أراد، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب. وقال أبو بريد الوضاحي: أمر أمير المؤمنين المأمون الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو، وما سمع من العرب، فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدور؛ ووكل به جواري وخدماً للقيام بما يحتاج إليه؛ حتى لا يتعلق قلبه، ولا تتشوق نفسه إلى شيء؛ حتى إنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلوات. وصير له الوراقين، وألزمه الأمناء والمنفقين؛ فكان الوراقون يكتبون؛ حتى صنف "الحدود" وأمر المأمون بكتبه في الخزائن؛ فبعد أن فرغ من ذلك خرج إلى الناس، وابتدأ يملي كتاب "المعاني". وكان وراقيه سلمة وأبو نصر، قال: فأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب "المعاني" فلم نضبط؛ فلما فرغ من إملائه خزنه الوراقون عن الناس ليكتسبوا به، وقالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 لا تخرجه إلى أحدٍ إلاّ لمن أراد أن ننسخه له على أن كل خمسة أوراق بدرهم؛ فشكا الناس إلى الفراء، فدعا الوراقين، فقال لهم في ذلك، فقالوا: نحن إنما صحبناك لننتفع بك، وكل ما صنعته فليس للناس إليه من الحاجة ما بهم إلى هذا الكتاب؛ فدعنا نعش به. فقال: قاربوهم تنفعوا وتنتفعوا، فأبوا عليه، فقال: سأريكم، وقال للناس: إني أريد أن أملي كتاب المعاني أتم شرحاً وأبسط قولاً من الذي أمللت، فجلس يملي، وأملى في الحمد مائة ورقة، فجاء الوراقون إليه، فقالوا: نحن نبلغ الناس ما يحبون، فننسخ كل عشرة أوراق بدرهم. قال: وكان المأمون قد وكل الفراء ليلقن ابنيه النحو، فلما كان يوماً أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء ليقدماها له؛ فتنازعا، أيهما يقدمها [له] ؟ ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما واحدة، فقدماها؛ وكان للمأمون وكيل على كل شيء خاص، فرفع ذلك إليه في الخبر، فوجه إلى الفراء واستدعاه، فلما دخل عليه قال له: من أعز الناس؟ فقال: لا أعرف [أحداً] أعز من أمير المؤمنين، فقال: بلى، من إذا نهض تقاتل على تقديم نعله وليا عهد المسلمين؛ حتى يرضى كل واحد منهما أن يقدم [له] واحدة، فقال: يا أمير المؤمنين لقد أردت منعهما، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها، وأكسر نفوسهما عن شريفة حرصا عليها؛ وقد روي عن ابن عباس أنه أمسك للحسن والحسين ركابيهما حين خرجا من عنده، فقال له بعض من حضر: أتمسك لهذين الحدثين ركابيهما وأنت أسن منهما؟ فقال له: اسكت يا جاهل، لا يعرف الفصل لأهل الفضل إلاّ ذوو الفضل؛ فقال له المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعتباً، وألزمتك ذنباً؛ وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وضع ما فعلا من شرفهما؛ بل رفع من قدرهما، وبين عن جوهرهما؛ ولقد تبينت مخيلة الفراسة بفعلهما؛ وليس يكبر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ولوالديه، ولمعلمه، ثم قال: قد عوضتهما مما فعلا عشرين ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما. وحكى أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن نجدة، قال: لما تصدى أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء للاتصال بالمأمون، كان يتردد إلى الباب، فلما أن كان ذات يوم جاء ثمامة، قال: فرأيت [له] أبهة أدب، فجلست إليه ففاتشته عن اللغة، فوجدته بحراً، وفاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدت فقيهاً عارفاً باختلاف القوم، وبالنجوم ماهراً، وبالطب خبيراً، وبأيام العرب وأشعارها حاذقاً، فقلت [له] : من تكون؟ وما أظنك إلاّ الفراء! فقال: أنا هو. فدخلت على أمير المؤمنين فأعلمته، فأمر بإحضاره لوقته فكان سبب اتصاله به. وقال أبو بكر بن الأنباري: لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلاّ الكسائي والفراء لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس؛ إذ انتهت العلوم إليهما. وكان يقال: الفراء أمير المؤمنين في النحو. ويروى عن بشر المريسي أنه قال للفراء: يا أبا زكريا، أريد أن أسألك مسالة في الفقه: فقال: سل، فقال: ما تقول في رجل سها في سجدتي السهو؟ قال: لا شيء عليه، قال: من أين قلت ذلك؟ قال: قسته على مذاهبنا في العربية، وذلك أن المصغر لا يضغر، وكذلك لا يلتفت إلى السهو في السهو، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فسكت. ويروى نحو هذا عن محمد بن الحسن، أنه سأله عن ذلك، فأجاب بهذا الجواب، فقال: ما ظننت آدمياً يلد مثلك. وقال سلمة: أملى الفراء كتبه كلها حفظاً، لم يأخذ بيده نسخة إلاّ في كتابين. ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة، وكان مقدار الكتابين خمسين ورقة. وقال سعدون: قلت للكسائي: الفراء أعلم أم الأحمر؟ فقال: الأحمر أكثر حفظاً، والفراء أحسن عقلاً؛ وأبعد فكراً، وأعلم بما يخرج من رأسه. قال سلمة: خرجت من منزلي فرأيت أبا عمر الجرمي واقفاً على بابي، فقال لي: يا أبا محمد، امض لي إلى فرائكم هذا، فقلت له: امض، فانتهينا إلى الفراء، وهو جالس على بابه يخاطب قوماً من أصحابه في النحو؛ فلما عزم على النهوض، قلت: يا أبا زكريا، هذا أبو عمر صاحب البصريين، تحب أن تكلمه في شيء؟ فقال: نعم، ما يقول أصحابك في كذا وكذا؟ قال: كذا وكذا، فقال: يلزمهم كذا وكذا، ويفسد هذا من جهة كذا وكذا، قال: فألقى عليه مسائل، وعرفه الإلزامات فيها، فنهض وهو يقول: يا أبا محمد، ما هذا إلاّ شيطان، يكرر ذلك [ثلاثاً] . وتوفي الفراء سنة سبع ومائتين في طريق مكة، وقد بلغ ثلاثاً وستين سنة، وكذلك حكى عن أحمد بن يحيى ثعلب. قال: توفي الأخفش بعد الفراء، وتوفي الفراء سنة سبع ومائتين في خلافة المأمون، بعد دخول المأمون العراق بثلاث سنين. أبو عبيدة معمر بن المثنى وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، فإنه منسوب إلى تيم قريش، لا تيم الرباب -وكان مولى لهم- ويقال: كان مولى لبني عبد الله بن معرم التيمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وذكر أبو بكر بن الخطيب أنه ولد سنة عشر ومائة، في الليلة التي مات فيها الحسن البصري. قال عمرو بن بحر الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجيّ ولا إجماعيّ أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة. وعن الكديمي -أو أبي العيناء- قال: قال رجل لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة، قد ذكرت الناس وطعنت في أنسابهم، فبالله تعالى إلاّ ما عرفتني من أبوك، وما أصله؟ فقال: حدثني أبي أن أباه كان يهودياً. وكان أبو عبيدة من أعلم الناس باللغة وأخبار العرب وأنسابها، وله في ذلك مصنفات كمقاتل الفرسان وغيره. وقال أبو العباس المبرد: كان أبو عبيدة عالماً بالشعر والغريب والأخبار والنسب، وكان الأصمعي أعلم منه بالنحو. وقال المبرد: قال التوزي: سألت أبا عبيدة عن قول الشاعر: وأضحت رسوم الدار قفراً كأنها ... كتاب محاه الباهلي بن أصمعا فقال: هذا يقوله في جد الأصمعي. قال التوزي: فسألت الأصمعي عن ذلك فتغير وجهه، وقال: هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كتاب عثمان ورد على عبد الله بن عامر، فلم يجد من يقرؤه إلاّ جدي. وقال المبرد: قال أبو عبيدة: لما حملت أنا والأصمعي إلى الرشيد تغدينا عند الفضل بن يحيى، فجاءوا بأطعمة ما سمعت بها قط، وإذا بين يدي الأصمعي سمك كنعد وكامخ، فقال: كل من هذا يا أبا عبيدة، فإنه كامخ طيب، فقلت: والله ما فررت من البصرة إلاّ من الكامخ والكنعد. ولما قدم بغداد قرئ عليه أشياء من كتبه. روى عنه علي بن المغيرة الأثرم، وأبو عبيدة القاسم بن سلام، وأبو عثمان المازني، وأبو حاتم السجستاني، وغيرهم. وقال محمد بن يحيى الصولي: إسحاق بن إبراهيم الموصلي، هو الذي أقدم أبا عبيدة من البصرة، سأله الفضل بن الربيع أن يقدمه، فورد أبو عبيدة سنة ثمان وثمانين ومائة بغداد، فأخذ عنه وعن الأصمعي علماً كثيراً. وعن التوزي، عن أبي عبيدة، قال: أرسل إلى الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه، فلما استأذنت عليه، أذن لي وهو في مجلس له طويل عريض، فيه بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عاليةٌ لا يرتقى إليها إلاّ على كرسي وهو جالس عليها، فسلمت عليه بالوزارة، فرد وضحك إلي، واستدناني حتى جلست معه على فره، ثم سألني وألطفني وباسطني، وقال: أنشدني فأنشدته، فطرب وضحك وزاد نشاطه، ثم دخل رجل في زي الكتاب، له هيئة، فأجلسه إلى جانبي، وقال له: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أبو عبيدة، علامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل وقرظه لفعله هذا، وقال لي: إني كنت إليك مشتاقاً، وقد سئلت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟ فقلت: هات، قال: قال الله عز وجل:] طلعها كأنه رؤوس الشياطين [، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف؛ فقلت: إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به؛ فاستحسن الفضل ذلك، واستحسنه السائل، واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه؛ فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز، وسألت عن الرجل، فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه، [وهو] إبراهيم بن إسماعيل الكاتب. قال سلمة: سمعت الفراء يقول لرجل: لو حمل إلي أبو عبيدة لضربته عشرين في [كتاب] المجاز. وقال التوزي: بلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه تأليف كتاب المجاز في القرآن، وأنه قال: يفسر ذلك برأيه، قال: فسأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم، ومر بحلقة الأصمعي، فنزل عن حماره، وسلم عليه وجلس عنده؛ وحادثه ثم قال له: يا أبا سعيد، ما تقول في الخبز؟ قال: هو الذي نخبزه ونأكله، فقال له أبو عبيدة: فسرت كتاب الله برأيك، قال الله تعالى:] إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً [فقال له الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته، لم أفسره برأيي، فقال له أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 عبيدة: وهذا الذي تعيبه علينا، كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا؛ ثم قام فركب حماره وانصرف. وقال أبو عثمان المازني: سمعت أبا عبيدة يقول: دخلت على الرشيد، فقال لي: يا معمر، بلغني أن عندك كتاباً حسناً في صفة الخيل، أحب أن أسمعه منك، فقال الأصمعي: وما تصنع بالكتاب؟ يحضر فرس، ونضع أيدينا على عضو عضو، ونسميه، ونذكر ما فيه، فقال الرشيد: يا غلام، أحضر فرسي، فقام الأصمعي فوضع يده على عضو عضو، ويقول: هذا كذا، قال الشاعر فيه كذا، حتى انقضى قوله. فقال الرشيد: ما تقول فيما قال؟ قال: قلت: قد أصاب في بعض وأخطأ في بعض، والذي أصاب فيه شيء نعلمه، والذي أخطأ فيه لا أدري من أين أتى به! وقال عبد الله بن عمرو بن لقيط: لما خبر أبو نواس بأن الخليفة يجمع بين الأصمعي وأبي عبيدة، قال: أما أبو عبيدة فعالم؛ ما يزال مع أسفاره يقرؤها، والأصمعي بمنزلة بلبل في قفص، يسمع من نغمه لحوناً، ويرى كل وقت من ملحه فنوناً. وزعم الباهلي صاحب المعاني أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا أبا عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر -يعني أن الأصمعي كان صاحب عبارة حسنة، وأن أبا عبيدة كان صاحب عبارة سيئة. قال أبو العباس المبرد: كان أبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكانا بعد يتقاربان، وكان أبو عبيدة أكمل القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وذكر علي بن عبد المديني أبا عبيدة فأحسن ذكره، وصحح روايته وقال: كان الأصمعي لا يحكي عن العرب إلاّ الشيء الصحيح. وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: حضرت أبا عبيدة في بعض الأيام فأخطأ في موضعين، قال: "شِلت الحجر"، وإنما هو "شُلت" بضم الشين، ثم أنشد: شلت بدا فارية فرتها فضم الشين وإنما هو فتحها. وكان أبو عبيدة ينشد قول حاجب بن زرارة يوم جبلة: شتان هذا العناق والنوم ... والمشرب البارد في ظل الدوم وكان الأصمعي ينكر عليه، ويقول: ما ابن الصباغ وهذا! وأنى لأهل نجد دوم، والدوم شجر المقل، وهو يكون بالحجاز، وحاجب نجدي، فأنى له دوم! وكان الأصمعي ينشده "في الظل الدوم"، أي الدائم، كما يقال: رجل زور، أي زائر. وقال أبو موسى محمد بن المثنى: توفي أبو عبيدة النحوي سنة ثمان ومائتين. وقال الخليل بن أسد النوشجاني: أطعم محمد بن القاسم بن سهل النوشجاني أبا عبيدة موزاً، فكان سبب موته، ثم أتاه أبو العتاهية فقدم إليه موزاً، فقال: ما هذا يا أبا جعفر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 قتلت أبا عبيدة بالموز وتريد أن تقتلني! لقد استحللت قتل العلماء. قال الصولي: توفي أبو عبيدة سنة سبع ومائتين. وقال المظفر بن يحيى: توفي أبو عبيدة سنة تسع ومائتين؛ وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. وقيل: توفي بالبصرة سنة ثلاث عشرة ومائتين، وله ثمان وتسعون سنة في خلافة المأمون. أبو سعيد الأصمعي وأما الأصمعي فهو عبد الملك بن قريب، واسم قريب عاصم - ويكنى أبا بكر - بن عبد بن أصمع. وكان صاحب النحو واللغة والغريب والأخبار والملح. وقال عمر بن شبة: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ست عشرة آلاف أرجوزة. ويقال: كان الرشيد يسميه شيطان الشعر. وقال الأخفش: ما رأينا أحداً أعلم بالشعر من الأصمعي وخلف، فقلت: أيهما كان أ'لم؟ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الأصمعي؛ لأنه كان نحوياً. وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: كان أبو زيد صاحب لغة وغريب ونحو، وكان أكثر من الأصمعي في النحو، وكان أبو عبيدة أ'لم من أبي زيد والأصمعي بالأنساب والأيام والأخبار، وكان للأصمعي يد غراء في اللغة لا يعرف فيها مثله، وفي كثرة الرواية، وكان دون أبي زيد في النحو. وحكى محمد بن هبيرة، قال: قال الأصمعي للكسائي وهما عند الرشيد: ما معنى قول الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ... ودعا فلم أرَ مصله مقتولا قال الكسائي: كان محرماً بالحج، قال: الأصمعي فقوله: قتلوا كسرى بليل محرماً ... فتولى لم يمتع بكفن فهل كان محرماً بالحج؟ فقال هارون للكسائي: يا علي؛ إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي. قال الأصمعي: قوله: محرما"، أي في حرمة الإسلام؛ ومن ثم قيل: مسلم محرم؛ أي لم يحل من نفسه شيئاً يوجب القتل. وقوله: "محرماً" في كسرى، يعني حرمة العهد الذي كان له في عنق أصحابه. قال المصنف: ويحتمل أن يكون قوله: "محرماً" في حق عثمان، أي دخل في الأشهر الحرم؛ يقال: أحرم الرجل، إذ دخل في الأشهر الحرم، وقد كان قتل في ثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وذو الحجة من الأشهر الحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قال أبو عبد الله بن الأعرابي: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحواً من مائتي بيت، ما فيها بيت عرفناه. وكان الأصمعي صدوقاً في الحديث، أخذ عن عبد الله بن عون وشعبة بن الحجاج وحماد بن سلمة والخليل بن أحمد؛ ويحكى أنه أراد أن يقرأ عليه العروض وشرع في تعلمه فتعذر ذلك عليه، فيئس الخليل منه، فسأله عن معصوب الوافر، فقال له: يا أبا سعيد، كيف تقطع قول الشاعر: إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلاّ ما تستطيع فعلم الأصمعي أن الخليل قد تأذى ببعده عن علم العروض، فلم يعاوده فيه. والعصب: إسكان الخامس [المتحرك] فتسكن اللام من "مفاعلتن" فتبقى "مفاعلتن"، أي بسكون اللام [منه] ، فتنقل إلى "مفاعيلن" وتقطيعه هكذا: إذا لم تستطع شيئن فدعهو ... وجاوزه إلى ما تستطيع مفاعيلن مفاعيلن فعولفن ... مفاعيلن مفاعيلن فعولن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأخذ عنه ابن أخيه عبد الرحمن بن عبد الله، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم، وأبو حاتم السجستاني، وأبو الفضل الرياشي، وأحمد بن محمد اليزيدي ونصر بن علي الجهضمي وغيرهم. وكان من أهل البصرة. وقدم بغداد أيام الرشيد. قال محمد بن عبد الرحمن مولى الأنصاري: حدثنا الأصمعي، قال: بعث إلي الأمين وهو ولي عهد، فصرت إليه فقال: إن الفضل بن الربيع يحدث عن أمير المؤمنين أنه يأمر بحملك إليه على ثلاث دواب البريد - وكان حينئذ بالرقة - فجهزت وحملت إليه، فلما وصلت إلى أمير المؤمنين، وأنزلني منزلاً أقمت فيه يومين أو ثلاثة، ثم استحضرني فقال: جئني وقت المغرب حتى أدخلك على أمير المؤمنين، فجئته على الرشيد وهو جالس منفرد، فسلمت فاستدناني، وأمرني بالجلوس فجلست، فقال لي: يا عبد الملك، وجهت إليك بسبب جاريتين أهديتا إلي، قد أخذنا طرفاً من الأدب، أحببت أن تبور ما عندهما، وتشير فيهما بما هو الصواب عندك، ثم قال: ليمض إلى عاتكة فيقال لها: أحضري الجاريتين، فحضرت جاريتان ما رأيت مثلهما قط، فقلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 لإحداهما: ما اسمك يا فلانة فقالت: فلانة، قلت: ما عندك من العلم؟ قالت: ما أمر الله تعالى به في كتابه؛ ثم ما ننظر فيه من الأشعار والآداب والأخبار، فسألتها عن حروف من القرآن، فأجابتني كأنها تقرأ الجواب من كتاب، وسألتها عن النحو والعروض والأخبار فما قصدت، فقلت: بارك الله تعالى فيك، فما قصرت في جوابي في كل فن أخذت فيه، فإن كنت تقرضين من الشعر فأنشدينا شيئاً، فاندفعت في هذا الشعر: يا غياث البلاد في كل محل ... ما يريد العباد إلاّ رضاكا لا ومن شرف الإمام وأعلى ... ما أطاع الإله عبد عصاكا [ومرت في الشعر إلى آخره] ، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت امرأة في مسك رجل مثلها؛ وسألت الأخرى فوجدتها دونها؛ إلاّ أنها إن ووظب عليها لحقتها، فقال: يا عباسي، فقال الفضل: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: لترد إلى عاتكة ويقال لها: تصنع هذه التي وصفها بالكمال لتحمل إلي الليلة. ثم قال لي: يا عبد الملك، أنا ضجر، قد جلست أحب أن أسمع حديثاً أتفرج به، فحدثني بشيء، فقلت: لأي الحديث تقصد يا أمير المؤمنين؟ فقال: مما شاهدت وسمعت من أعاجيب الناس وطرائف أخبارهم، فقلت: يا أمير المؤمنين، كان صاحب لنا في بدو بني فلان؛ كنت أغشاه وأتحدث إليه، وقد أتت عليه ست وتسعون سنة، أصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الناس ذهنا، وأجودهم أكلاً، وأقواهم بدناً، فغبرت عنه زماناً ثم قصدته، فوجدته ناحل البدن، كاسف البال، متغير الحال، فقلت له: ما شأنك؟ أأصابتك مصيبة؟ قال: لا، قلت: فمرض عراك؟ قال: لا، قلت: فما سبب هذا الذي أراه بك؟ فقال: قصدت بعض القرابة في حي بني فلان، فألفيت عندهم جارية قد لاثت رأسها، وطلت بالورس ما بين قرنها إلى قدمها، وعليها قميص وقناع مصبوغان، وفي عنقها طبل تدق عليه، وتنشد هذا الشعر: محاسنها سهام للمنايا ... مريشة بأنواع الخطوب برى ريب الزمان لهن سهما ... يصيب بنصله مهج القلوب فأجبتها: قفي شفتي في موضع الطبل ترتعي ... كما قد أبحت الطبل في جيدك الحسن هبيبني عوداً أجوفا تحت شنة ... تمتع فيما بين نحرك والذقن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فلما سمعت الشعر مني نزعت الطبل، ورمته في وجهي، وبادرت إلى الخباء، فلم أزل إلى أن حميت الشمس على مفرق رأسي، لا تخرج ولا ترجع إلي جوابا، فقلت: إنا لله! أنا والله معها كما قال الشاعر: فوالله يا سلمى لطالت إقامتي ... على غير شيء يا سليمى أراقبه ثم انصرفت سخين العين قرح القلب؛ فهذا الذي ترى بي من التغير من عشقي لها. قال: فضحك الرشيد حتى استلقى، وقال: ويحك يا عبد الملك! ابن ست وتسعين يعشق! قلت: قد كان كذلك، يا أمير المؤمنين، فقال: يا عباسي، فقال [الفضل] : لبيك يا أمير المؤمنين، قال: أعط عبد الملك مائة ألف درهم، ورده إلى مدينة السلام، فانصرفت، فإذا خادم يحمل شيئاً، ومعه جارية تحمل شيئاً، فقال: أنا رسول الجارية التي وصفتها، وهذه جاريتها، وهي تقرأ عليك السلام، وتقول لك: أمير المؤمنين أمر لي بمال وثياب؛ وهذا نصيبك منها، فإذا المال ألف دينار؛ وهي تقول: لن تخليك من المواصلة بالبر، فلم تزل تتعهدني بالبر الواسع؛ حتى كانت فتنة محمد، فانقطعت أخبارها عني، وأمر لي الفضل ابن الربيع من ماله بعشرة آلاف درهم. وحكى أبو العباس المبرد، قال: دخل الأصمعي على الرشيد بعد غيبة كانت منه، فقال له: يا أصمعي، كيف أنت بعدنا؟ فقال: ما لاقتني بعدك أرض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فتبسم الرشيد، فلما خرج الناس قال: يا أصمعي؛ ما معنى قولك: "ما لاقتني أرض"؟ فقال: ما استقرت بي أرض؛ فقال: هذا حسن؛ ولكن لا ينبغي أن تكلمني بيد يدي الناس إلا بما أفهمه، فإذا خلوت فعلمني، فإنه يقبح بالسلطان ألا يكون عالماً؛ لأنه لا يخلو إما أن أسكت أو أجيب، فإذا سكت فيعلم الناس أني لا أعلم إذ لم أجب، وإذا أجبت بغير الجواب، فيعلم من جوابي أني لم أفهم ما قلت. قال الأصمعي: فعلمني أكثر مما علمته. وحكى المبرد أيضاً، قال: مازح الرشيد أم جعفر، فقال لها: كيف أصبحت يا أم نهر؟ فاغتمت لذلك ولم تفهم معناه، فأنفذت إلى الأصمعي تسأله عن ذلك، فقال: الجعفر: النهر الصغير، وإنما ذهب إلى هذا؛ فطابت نفسها. ويحكى عن الأصمعي أنه قال: كلمت أبا يوسف القاضي بحضرة الرشيد في الفرق بين "عقلت القتيل", و"عقلت عنه", فلم يفهمه حتى فهمته؛ عقلت القتيل؛ إذا أديت ديته, وعقلت عنه؛ إذا لزمته دية فأديتها عنه. وذكر أبو العباس المبرد أن رجلا كان يألف حلقة الأصمعي, فإذا صار إلى ضيعته أهدى إلى الأصمعي مما يحمل منها؛ فترك حلقة الأصمعي, وألف حلقة أبى زيد, وكان أبو زيد لا يقبل شيئا, قال: فمر الرجل يوما بالأصمعي فأنشده الأصمعي للفرزدق: ولج بك الهجران حتى كأنما ... ترى الموت في البيت الذي كنت تألف وقال أبو العيناء: قال الأصمعي: دخلت أنا وأبو عبيدة على الفضل بن الربيع, فقال: يا أصمعي, كم كتابك في الخيل؟ فقلت: جلد, قال: فسأل أبا عبيدة, فقال: خمسون جلدا, قال: فأمر بإحضار الكتابين وإحضار فرس. وقال لأبو عبيدة: اقرأ كتابك حرفا حرفا, وضع يدك على موضع موضع من الفرس, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فقال أبو عبيدة: لست ببيطار؛ وإنما هذا شيء أخذته وسمعته من العرب, فقال لي: يا أصمعي قم, فضع يدك على موضع موضع [من الفرس] , فوثبت, فأخذت بأذني الفرس, ووضعت يدي على ناصيته, فجعلت أقول: هذا اسمه كذا؛ حتى بلغت حافره. فأمر لي بفرس؛ فكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة, ركبت الفرس وأتيته. وقال ابن بكير النحوي: لما قدم الحسن بن سهل العراق, أحب أن يجمع بين جماعة من أهل الأدب, فأحضر أبا عبيدة والأصمعي ونضر بن علي الجهضمي, وحضرت معهم, فابتدأ الحسن فنظر في رقاع كانت بين يديه للناس في حاجاتهم فوقع عليها, وكانت خمسين رقعة, ثم أمر فدفعت إلى الخازن, ثم أفضنا في ذكر الحفاظ, فذكرنا جماعة, فالتفت أبو عبيدة وقال: ما الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى! هاهنا من يقول: إنه ما قرأ كتابا قط فاحتاج إلى أن يعود فيه, ولا دخل قلبه شيء وخرج عنه. فالتفت الأصمعي, فقال: إنما يريدني بهذا القول, والأمر في ذلك على ما حكى؛ وأنا أقرب إليه؛ قد نظر الأمير في خمسين رقعة, وأنا أعيد ما فيها وما وقع به على رقعة رقعة؛ فأحضرت الرقاع, فقال الأصمعي: سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا؛ ووقع له بكذا, والرقعة الثانية والثالثة, حتى مر في نيف وأربعين رقعة, فالتفت إليه نصر بن علي الجهضمي, وقال: أيها الرجل, أبق على نفسك من العين؛ فكف الأصمعي. وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول: ما عبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. وروى الرياشي, قال: سمعت عمرو بن مرزوق, يقول: رأيت الأصمعي وسيبويه يتناظران, وهذا يغلبه في لسانه في الظاهر - يعني الأصمعي. وروى عباس بن الفرج, قال: ركب الأصمعي حمارا ذميما, فقيل له: بعد براذين الخلفاء تركب هذا! فقال متمثلا: ولما أبت إلا طراقا بوردها ... وتكديرها الشرب الذي كان صافيا شربنا برنق من هواها مكدر ... وليس يعاف الرنق من كان صافيا وهذا وأملك ديني, أحب إلي من ذلك مع فقدهما. قال نصر بن علي: كان الأصمعي يتقي أن يفسر حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يتقي أن يفسر القرآن. وقال أيضا: حضرت الأصمعي, وقد سأله سائل عن معنى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جاءكم أهل اليمن وهم أبخع أنفسا"، ما معنى أبخع؟ قال: يعني أقتل، ثم أقبل متندماً على نفسه كاللائم لها، فقلت له: لا عليك، فقد حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى:] فلعلك باخع نفسك [، أي قاتل نفسك، فكأنه سريَ عنه. وقال إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الحربي: كان أهل البصرة أهل العربية، منهم أصحاب الأهواء، إلا أربعة فإنهم كانوا أصحاب سنة: أبو عمر بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، والأصمعي. وقال محمد بن إبراهيم: سمعت الإمام أحمد بن محمد بن حنبل يثني على الأصمعي بالثنة. قال: وسمعت علي بن المديني يثني عليه، وقال: وسمعت الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يثنيان عليه في السنة. وروي عن [ابن] أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين، يقول: الأصمعي ثقة. وحكى الشافعي أنه قال: ما رأيت بذلك المعسكر أصدق من الأصمعي. وحكى أنه سئل أبو داود عن الأصمعي، فقال: صدوق. وقال أبو العيناء: توفي الأصمعي بالبصرة وأنا حاضر؛ سنة ثلاث عشرة ومائتين. ويقال: سنة سبع عشرة ومائتين في خلافة المأمون. وقال محمد بن أبي العتاهية: لما بلغ أبي موت الأصمعي جزع عليه ورثاه فقال: أسفت لفقد الأصمعي لقد مضى ... حميداً له في كل صالحة سهم تقضت بشاشات المجالس بعده ... وودعنا إذ ودع الأنس والعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقد كان نجم العلم فينا حياته ... فلما انقضت أيامه أفل النجم أبو زيد الأنصاري وأما أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري، فكان عالماً بالنحو واللغة، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلاّم، وأبو حاتم السجستاني، وأبو العيناء محمد بن القاسم، وغيرهم. وكان ثقة من أهل البصرة، وكان سيبويه إذا قال: "سمعت الثقة" يريد أبا زيد الأنصاري. وقال صالح بن محمد: أبو زيد النحوي ثقة. ويروى عن أبي عبيدة والأصمعي أنهما سئلا عن أبي زيد الأنصاري فقالا: قل ما شئت من عفاف وتقوى وإسلام. وقال أبو عثمان المازني: كنا عند أبي زيد، فجاء الأصمعي وأكب على رأسه وجلس، وقال: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين سنة. وقال الأصمعي: رأيت خلفاً الأحمر في حلقة أبي زيد. ويحكى عن أبي زيد أنه قال: كنت ببغداد فأردت انحدر إلى البصرة، فقلت لابن أخي: اكتر لنا، فجعل ينادي، "يا معشر الملاحون"، فقلت [له] : ويلك! ما تقول؟ فقال: جعلت فداك! أنا مولع، بالرفع لا بالنصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وحكى أبو حاتم السجستاني قال: حدثني أبو زيد قال: قلت لأعرابي: ما المتكأكئ؟ قال: المتأزف، قلت: وما المتأزف؟ قال المحبنطئ، قلت: وما المحبنطئ؟ قال: أنت أحمق، ومضى وتركني؛ قال السيرافي: وذلك كله القصير. وقال أبو العباس المبرد: كان أبو زيد عالماً بالنحو، ولم يكن مثل الخليل وسيبويه، وكان يونس من باب أبي زيد في العلم باللغات، وكان يونس أعلم من أبي زيد بالنحو، وكان أبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو. وحكى أبو زيد من شواهد النحو عن العرب ما ليس لغيره، وكان يروى عن علماء الكوفة ولا يعلم أحد من علماء البصريين بالنحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة إلا أبا زيد، فإنه روى عن المفضل الضبي، قال أبو زيد في أول كتاب النوادر: أنشدني المفضل لضمرة بن ضمرة النهشلي: بكرت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي أأصرها وبني عمي ساغب ... فكفاك من إبة علي وعاب هل تخمشن إبلي علي وجوهها ... أو تعصبن رؤوسها بسلاب بكرت، أي قدمت في الوقت. بعد وهن، أي ساعة من الليل. وبسل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أي حرام. وأصرها، أي أشد أخلافها، ومنه المصراة. وساغب، أي جائع. وإبة، أي عيب. وسلاب أي عصابة سوداء تلبسها المرأة في المصيبة؛ وعامة كتاب النوادر لأبي زيد عن المفضل الضبي. وقال أبو عثمان المازني: كان أبو زيد يقول لأصحابه إذا أخطئوا: أخطأتم وأسوأتم، من قولهم أسوأ: الرجل، مهموز، إذا أحدث. وقال روح بن عبادة: كنت عند شعبة، فضجر من الحديث فرمى بطرفه، فرأى أبا زيد بن أوس في أخريات الناس فقال: يا أبا زيد: واستعجمت دار مي ما تكلمنا ... والدار لو كلمتنا ذات أخبار إلى يا أبا زيد؛ فجعلا يتناشدان الأشعار، فقال بعض أصحاب الحديث لشعبة: يا أبا بسطام، نقطع إليك ظهور الإبل، لنسمع منك حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتدعنا، وتقبل على الأشعار! قال: فرأيت شعبة قد غضب غضباً شديداً، ثم قال: يا هؤلاء أنا أعلم بالأصلح لي! أنا والذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ويروى أن أعرابياً وقف على حلقة أبي زيد، فظن أبو زيد أنه قد جاء يسأل عن مسألة في النحو، فقال أبو زيد: سل يا أعرابي، فقال على البديهة: د لست للنحو جئتكم ... لا ولا فيه أرغب أنا ما لي ولامرئ ... أبد الدهر يضرب خل زيد لشأنه ... أينما شاء يذهب واستمع قول عاشق ... قد شجاه التطرب همه الدهر طفلة ... فهو فيها يشبب وقال أبو عثمان المازني: سمعت أبا زيد رحمه الله تعالى يقول: لقيت أبا حنيفة رحمه الله تعالى، فحدث بحديث فيه: "يدخل الجنة قوم حفاة عراة منتنين قد أحشتهم النار"، قال: "منتنون قد محشتهم النار"، فقال: ممن أنت؟ قلت: من أهل البصرة، فقال: كل أصحابك مثلك؟ فقلت: أنا أخسهم حظاً في العلم؟ فقال: طوبى لقوم تكون أخسهم. وقال محمد بن يونس: توفي أبو زيد الأنصاري سنة أربع عشرة ومائتين. وقال الرياشي وأبو حاتم: توفي أبو زيد سنة خمس عشرة ومائتين. قال المصنف: وكان ذلك في خلافة المأمون. وحكى أبو بكر الخطيب أن وفاته كانت بالبصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 مؤرج بن عمرو السدوسي وأما أبو فيد مؤرج بن عمرو السدوسي، فكان من كبار أهل اللغة والعربية، وأخذ عن أبي زيد الأنصاري، وصحب الخليل بن أحمد، وكان من أكابر أصحابه، وسمع الحديث عن شعبة بن الحجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما. وأخذ عنه أحمد [بن محمد] بن أبي محمد اليزيدي. قال أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي: أخبرني عمي أبو جعفر، قال: أخبرني مؤرج أنه قدم من البادية ولا معرفة له بالقياس في العربية، قال: فأول ما تعلمت القياس في حلقة أبي زيد الأنصاري بالبصرة. وقال محمد بن العباس اليزيدي: حدثني عمي عبيد الله، قال: حدثني أخي أحمد بن محمد، قال: قال لنا مؤرج بن عمرو السدوسي: اسمي وكنيتي غريبان، اسمي مؤرج، والعرب تقول: أرجت بين القوم وأرشت؛ إذ حرشت، وأنا أبو فيد، والفيد ورد الزعفران. ويقال: فاد الرجل يفيد فيداً إذا مات. ويقال: إن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة، وكان الخليل يحفظ نصف اللغة، وكان أبو فيد يحفظ ثلثي اللغة، وكان أبو مالك الأعرابي يحفظ اللغة كلها؛ وكان الغالب على أبي مالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 حفظ الغريب والنوادر. قال إسماعيل بن إسحاق، عن نصر بن علي، قال: كنت عند محمد بن المهلب، وإذا الأخفش قد جاء إليه، فقال له محمد بن المهلب: من أين جئت؟ فقال: من عند القاضي يحيى بن أكثم وقد سألني عن الثقة المقدم من غلمان الخليل من هو؟ فقلت له: النضر بن شميل وسيبويه ومؤرج السدوسي. وقال محمد بن العباس اليزيدي: أهدى أبو فيد مؤرج السدوسي إلى جدي محمد بن أبي محمد كساء، فقال جدي فيه: سأشكر ما أولى ابن عمرو مؤرج ... وأمنحه حسن الثناء مع الود أغر سدوسي نماه إلى العلا ... أبٌ كان صبا بالمكارم والمجد أتينا أبا فيد نؤمل سيبه ... ونقدح زنداً غير كاب ولا صلد فأصدرنا بالفضل والبذل والغنى ... ومازال محمود المصادر والورد كساني ولم استكسه متبرعاً ... وذلك أهنى ما يكون من الرفد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 كساء جمال إن أردت جماله ... وثوب شتاء إن خشيت أذى البرد كسانيه فضفاضاً إذا ما لبسته ... تروحت مختالاً وجرت عن القصد ترى حبكاً فيه كأن اطرادها ... فرند حديث صقله، سل من غمد سأشكر ما عشت السدوسي بره ... وأوصي بشكر للسدوسي من بعدي قال المصنف: ولو كانت هذه الأبيات في مقابلة حلة من سندس الجنة لوفت بشكرها؛ لما تضمنته من حسن ألفاظها ومعانيها، ولقد كسا اليزيدي مؤرجاً من ثياب ثنائه ما هو أنقى وأبقى من كسائه، فرحمة الله عليهما!. أبو الحسن الأخفش وأما أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش؛ فإنه كان مولى لبني مجاشع بن دارم، وهو من أكابر أئمة النحويين البصريين، وكان أعلم من أخذ عن سيبويه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وكان أبو الحسن قد أخذ عمن أخذ عنه سيبويه، فإنه كان أسن منه؛ ثم أخذ عن سيبويه أيضاً. وهو الطريق إلى كتاب سيبويه؛ لأنا لم نعلم أحداً قرأه على سيبويه، وما قرأه سيبويه على أحد؛ وإنما لما توفي سيبويه قرئ الكتاب على أبي الحسن الأخفش. وكان ممن قرأه عليه أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني. ويقال: إن أبا الحسن الأخفش لما رأى أن كتاب سيبويه لا نظير له في حسنه وصحته، وأنه جامع لأصول النحو وفروعه استحسنه كل الاستحسان، فيقال: إن أبا عمر الجرمي وأبا عثمان المازني - وكانا رفيقين - توهما أن أبا الحسن الأخفش قد هم أن يدّعيَ الكتاب لنفسه، فقال أحدهما للآخر: كيف السبيل إلى إظهار الكتاب ومنع الأخفش من ادعائه؟ فقال له: نقرؤه عليه، فإذا قرأناه عليه أظهرناه وأشعنا أنه لسيبويه فلا يمكنه أن يدعيه. وكان أبو عمر الجرمي موسراً وأبو عثمان المازني معسراً، فأرغب أبو عمر الجرمي أبا الحسن الأخفش، وبذل له شيئاً من المال على أنه يقرئه وأبا عثمان المازمي الكتاب، فأجاب إلى ذلك، وشرعا في القراءة عليه، وأخذا الكتاب عنه، وأظهرا أنه لسيبويه وأشاعا ذلك، فلم يمكنا أبا الحسن أن يدعي الكتاب، فكانا السبب في إظهار أنه لسيبويه، ولم يسند كتاب سيبويه إلى إلا بطريق الأخفش، فإن كل الطرق تستند إليه. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: حدثنا سلمة قال: حدثني الأخفش أن الكسائي لما قدم البصرة، سألني أن أقرأ عليه - أو أقرئه - كتاب سيبويه، ففعلت، فوجه إلي خمسين ديناراً. وكان أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب يفضل الأخفش، وكان يقول: هو أوسع الناس علماً. ويحكى أن مروان بن سعيد المهلبي سأل أبا الحسن الأخفش، عن قوله تعالى:] فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك [؛ ما الفائدة من هذا الخبر؟ فقال: أفاد العدد المجرد من الصفة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وأراد مروان بسؤاله أن الألف في] كانتا [تفيد التثنية؛ فلأي معنى فسر ضمير المثنى بالاثنتين، ونحن نعلم أنه لا يجوز أن يقال: "فإن كانتا ثلاثاً"، ولا أن يقال: "فإن كانتا خمساً"، وأراد الأخفش أن الخبر أفاد العدد المجرد من الصفة، أي قد كان يجوز أن يقال: "فإن كانتا صغيرتين فلهما كذا، أو صالحتين فلهما كذا، وإن كانتا كبيرتين فلهما كذا". فلما قال:] فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان [، أفاد الخبر أن فرض الثلثين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط؛ فقد حصل من الخبر فائدة لم تحصل من ضمير المثنى. وحكى أحمد بن المعدل، قال: سمعت الأخفش، يقول: جنبوني أن تقولوا: "شر"، وأن تقولوا: "ليس لفلان بخت". وصنف كتباً كثيرة في النحو والعروض والقوافي؛ وله في كل فن منها مذاهب مشهورة، أقوال مذكورة، عند علماء العربية. القاسم بن سلاّم وأما أبو عبيد القاسم بن سلام ، فكان أبوه عبداً رومياً لرجل من أهل هراة؛ ويحكى أن سلاما خرج هو وأبو عبيد مع ابن مولاه إلى الكتّاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فقال للمعلم: علمي القاسم فإنها كيسة. ثم إن أبا عبيد طلب العلم، وسمع الحديث، ودرس الأدب، ونظر في الفقه. وأخذ الأدب عن أبي زيد الأنصاري وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى والأصمعي واليزيدي وغيرهم من البصريين. وأخذ عن ابن الأعرابي وأبي زياد الكلابي ويحيى الأموي وأبي عمرو الشيباني والكسائي والفراء. وروى الناس من كتبه المصنفة نيفاً وعشرين كتاباً في القرآن والفقه. وبلغنا أنه كان إذا ألف كتاباً أهداه إلى عبد الله بن طاهر؛ فيحمل إليه مالاً خطيراً استحساناً لذلك. وكتبه مستحسنة مطلوبة في كل بلد، والرواة عنه مشهورون. وكان أبو عبيد ديناً ورعاً جواداً. قال أبو علي النحوي: حدثنا الفسطاطي، قال: كان أبو عبيد مع ابن طاهر، فوجه إليه أبو دلف يستهديه أبا عبيد مدة شهرين، فأنفذ أبا عبيد إليه، فأقام عنده شهرين فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها، وقال: أنا في جنبة رجل ما يحوجني إلى صلة غيره، ولا أخذ ما فيه علي نقص، فلما عاد إلى ابن طاهر وصله بثلاثين ألف دينار بدل ما وصله أبو دلف؛ فقال: أيها الأمير، إني قد قبلتها، ولكن قد أغنيتني بمعروفك وبرك وكفايتك عنها، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحاً وخيلاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وأوجه بها إلى الثغر، فيكون الثواب متوفراً على الأمير. ففعل. وقال أحمد بن يوسف: لما عمل أبو عبيد كتاب "غريب الحديث" عرضه على عبد بن طاهر؛ فاستحسنه، وقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيق ألا يخرج عنا إلى طلب المعاش، فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: عرضت كتاب الحديث على أبي فاستحسنه، وقال: جزاه الله تعالى خيراً. وقال أبو علي: أول من سمع هذا الكتاب من أبي عبيدة يحيى بن معين. قال أبو بكر بن الأنباري: كان أبو عبيد يقسم ليله أثلاثاً، فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويضع الكتب ثلثه. قال أبو حاتم: قال أبو عبيد: مثل الألفاظ الشريفة، والمعاني الظريفة، مثل القلائد اللائحة، في الترائي الواضحة. وقال هلال بن العلاء الرقي: من الله تعالى على هذه الأمة بأربعة من زمانهم؛ بالشافعي بفقهه بحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالإمام أحمد بن محمد بن حنبل في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس، وبيحيى بن معين لنفى الكذب عن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبأبي عبيد القاسم بن سلام لتفسير الغريب من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولا ذلك لاقتحم الناس في الخطأ. وقال إبراهيم بن أبي طالب: سألت أبا قدامة عن الشافعي وابن حنبل وإسحاق وأبي عبيد، فقال: أما أفهمهم فالشافعي، إلا أنه قليل الحديث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وأما أورعهم فابن حنبل، وأما أحفظهم فإسحاق، وأما أعلمهم بلغات العرب فأبو عبيد. قال إسحاق بن راهويه الحنظلي: أبو عبيد أوسعنا علماً، وأكثرنا أدباً، وأجمعنا جمعاً، إنا نحتاج إلى أبي عبيد، وأبو عبيد لا يحتاج إلينا. قال أحمد بن سلمة: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: الحق يحبه الله تعالى؛ أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني وأعلم مني. وقال أحمد بن نصر المقرئ: [قال إسحاق بن إبراهيم] : إن الله تعالى لا يستحيي من الحق؛ أبو عبيد أعلم مني، ومن الإمام الشافعي، ومن الإمام أحمد بن حنبل. وقال أبو عمر الزاهد: سمعت ثعلباً يقول: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل، لكان عجباً. وقال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد القاسم بن سلام فاضلاً في دينه وفي علمه، ربانيا متفننا في أصناف علوم الإسلام؛ من القرآن والحديث والفقه والغريب والأخبار، حسن الرواية، صحيح النقل، لا نعلم أحداً من الناس طعن عليه في شيء من أمره ودينه. قال عبد الله بن طاهر: كان للناس أربعة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زمانه، وأبو عبيد القاسم بن سلام في زمانه. قال أبو سعيد الضرير: كنت عند عبد الله بن طاهر، فورد عليه نعي أبي عبيد، فقال: يا أبا سعيد، مات أبو عبيد، ثم أنشد يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 يا طالب العلم قد أودى ابن سلام ... وكان فارس علم غير محجام مت الذي كان فيكم ربع أربعة ... لم يلف مثلهم إستار أحكام خير البرية عبد الله أولهم ... وعامر، ولنعم الثبت يا عام هما اللذان أنافا فوق غيرهما ... والقاسمان ابن معن وابن سلام قال إبراهيم الحربي: أدركت ثلاثة لن يرى مثلهم أبداً، وتعجز النساء أن يلدن مثلهم، رأيت أبا القاسم بن سلام؛ ما مثلته إلا بجبل نفخ فيه روح، ورأيت بشر بن الحارث فما شبهته ولا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلاً، ورأيت الإمام أحمد بن حنبل، كأن الله تعالى جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء، ويمسك ما شاء. وسئل يحيى بن معين عن الكتابة عن أبي عبيد والسماع عنه، فقال: مثلي يسأل عن أبي عبيد! أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 عبيد يسأل عن الناس! لقد كنت عند الأصمعي، إذ أقبل أبو عبيد، فقال: أترون هذا المقبل؟ فقالوا: نعم، قال: لن يضيع الناس ما حيي هذا المقبل. وقال الإمام أحمد بن حنبل: أبو عبيد القاسم بن سلام ممن يزداد كل يوم عندنا خيراً. وقال أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش: توفي أبو عبيد بمكة حرسها الله تعالى سنة ثنتين -أو ثلاث- وعشرين ومائتين، في خلافة المعتصم. وقال الحسن بن علي: خرج أبو عبيد إلى مكة سنة تسع عشرة ومائتين؛ ومات بها سنة ثلاث وعشرين ومائتين؛ وقيل: سنة أربع وعشرين ومائتين. في خلافة المعتصم بالله تعالى، وبلغ من العمر سبعاً وستين سنة. أبو عمر الجرمي وأما أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي النحوي؛ فهو مولى لجرم بن ربان، وجرم من قبائل اليمن. وقال المبرد: هو مولى لبجيلة بن أنمار. وأخذ أبو عمر النحو عن أبي الحسن الأخفش وغيره، وقرأ كتاب سيبويه على الأخفش، ولقى يونس بن حبيب، ولم يلق سيبويه، وكان أبو عمر رفيق أبي عثمان المازني، وكانا هما السبب في إظهار كتاب سيبويه، وقد قدمنا ذلك. وقال المبرد: كان الجرمي أعوض على الاستخراج من المازني؛ وكان المازني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أحد منه. وأخذ أبو عمر الجرمي اللغة عن أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي وطبقتهم؛ وكان صاحب دين وإخاء وورع، وصنف كتبا كثيرة؛ منها مختصره المشهور في النحو؛ ويقال: إنه كان لكما صنف منه باباً صلى ركعتين بالمقام، ودعا بأن ينتفع به، ويبارك فيه. وقال أبو علي الفارسي: قل من اشتغل بمختصر الجرمي إلاّ صارت له بالنحو صناعة. ويروى أنه اجتمع أبو عمر الجرمي والأصمعي، فقال الجرمي للأصمعي: كيف تصغر "مختار"؟ فقال: "مخير"، فقال الجرمي: أخطأت، إنما هو "مخيتير". ويروى أنه قال له الأصمعي: كيف تنشد هذا البيت: قد كن بخبأن الوجوه تستراً ... فالآن حين بدون للنظار أو "بدأن"؟ فقال: "بدأن" فقال له الأصمعي: أخطأت؛ إنما هو "بدون"، أي ظهرن. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: قال لي ابن قادم: قدم أبو عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الجرمي على الحسن بن سهل، فقال لي الفراء: بلغني أن أبا عمر الجرمي قد قدم، وأنا أحب أن ألقاه، فقلت: إني أجمع بينكما، فأتيت أبا عمر فأخبرته، فأجاب إلى ذلك؛ فلما نظرت الجرمي، وقد غلب الفراء وأفحمه، ندمت على ذلك؛ قال ثعلب: فقلت له: ولم ندمت على ذلك؟ فقال: لأن علمي علم الفراء؛ فلما رأيته مقهوراً قل في عيني، ونقص علمه عندي. ويحكى أيضاً أنه اجتمع أبو عمر الجرمي وأبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء: فقال: الفراء للجرمي: أخبرني عن قولهم: "زيد منطلق"، لم رفعوا "زيداً"؟ فقال له الجرمي: بالابتداء، فقال له الفراء: وما معنى الابتداء؟ قال: تعريته من العوامل، قال له الفراء: فأظهره، فقال الجرمي: هذا معنى لا يظهر، قال له الفراء: فمثله، قال له الجرمي: لا يتمثل. قال الفراء: ما رأيت كاليوم عاملاً لا يظهر ولا يتمثل، فقال له الجرمي: أخبرني عن قولهم "زيد ضربته"، لم رفعت "زيداً"؟ فقال: بالهاء العائدة على زيد، قال الجرمي: الهاء اسم، فكيف يرفع الاسم؟ قال الفراء: نحن لا نبالي من هذا؛ فإنا نجعل كل واحد من المبتدأ والخبر عاملاً في صاحبه في نحو "زيد منطلق"، فقال له الجرمي: يجوز أن يكون كذلك في زيد منطلق؛ لأن كل واحد من الاسمين مرفوع في نفسه، فجاز أن يرفع الآخر؛ وأما الهاء في "ضربته" ففي محل النصب، فكيف ترفع الاسم؟ فقال له الفراء: لم نرفعه به وإنما رفعناه بالعائد، فقال له الجرمي: وما العائد؟ فقال له الفراء: معنى، فقال له الجرمي: أظهره، قال: لا يظهر، قال: مثله، قال: لا يتمثل، قال له الجرمي: لقد وقعت فيما فررت منه. فيقال: إنهما لما افترقا قيل للفراء: كيف رأيت الجرمي؟ قال: رأيته آية، وقيل للجرمي: كيف رأيت الفراء؟ قال رأيته شيطاناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وكان أبو عمر الجرمي يلقب بالنباج - بالجيم - لكثرة مناظرته في النحو ورفع صوته فيها، فإن النباج هو الرفع الصوت وقال أبو القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي: مات الجرمي سنة خمس وعشرين ومائتين في خلافة المعتصم. سلمة بن عاصم وأما أبو محمد سلمة بن عاصم النحوي؛ فإنه أخذ عن أبي زكريا يحيى بن زياد الفراء؛ وروى عنه كتبه، وأخذ عنه أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب. وكان ثقة ثبتاً عالماً. قال إدريس بن عبد الكريم: قال لي سلمة بن عاصم: أريد أن أسمع كتاب العدد من خلف، فقلت لخلف؛ فقال: فليجئ، فلما دخل رفعه لأن يجلس في الصدر، فأبى وقال: لا أجلس إلاّ بين يديك؛ أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: كان أبو عبد الله الطوال حاذقاً بالعربية، وكان سلمة حافظاً لتأدية ما في الكتب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وكان أبو جعفر بن قادم حسن النظر في العلل، وهؤلاء الثلاثة من مشاهير أصحاب الفراء. أبو الهيثم الرازي وأما أبو الهيثم الرازي؛ فإن كان عالماً بالعربية، عذب العبارة، دقيق النظر. قال أبو الفضل المنذري: لازمت أبا الهيثم زماناً، وكان بارعاً حافظاً، صحيح الأدب؛ عالماً ورعاً، كثير الصلاة، صاحب سنة، ولم يكن ضنيناً بعلمه وأدبه. توفي سنة ست وعشرين ومائتين؛ وكان ذلك في خلافة المعتصم بالله تعالى. أبو عبد اليزيدي وأما أبو عبد الله محمد اليزيدي، فإنه كان أديباً عالماً بالقراءات واللغة، وكان شاعراً مجيداً، وله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 كيف يطيق الناس وصف الهوى ... وهو جليل ما له قدر! بل كيف يصفو لحليف الهوى ... عيش، وفيه البين والهجر! وله أيضاً: الهوى أمر عجيب شأنه ... تارة يأس وأحياناً رجا ليس فيمن مات منه عجب ... إنما يعجب ممن قد نجا وذكر المهلبي أن محمد بن أبي محمد اليزيدي، خرج مع المعتصم إلى مصر، ومات بها. سعدان الضرير وأما أبو عثمان سعدان بن المبارك الضرير؛ فإنه كان مولى عاتكة، مولاة المهدي. وكان ابن المبارك مولى سبيّاً، ذكره ابن الأنباري، و [ذكر] أنه من رواة العلم والأدب من البغداديين، وكان يروى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، وروى عنه محمد بن الحسن بن دينار الهاشمي. ولسعدان من التصانيف: كتاب "خلق الإنسان"، وكتاب "الوحوش"، وكتاب "الأرض والمياه والجبال والبحار". ابن الأعرابي وأما أبو عبد الله محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي، فإنه [كان] مولى لبني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 هاشم، وكان من أكابر أئمة اللغة المشار إليهم في معرفتها، ويقال: لم يمكن للكوفيين أشبه برواية البصريين من ابن الأعرابي. وكان عالماً ثقة، وكان ربيباً للمفضل الضبي، وسمع منه الدواوين وصححها، وأخذ عن الكسائي كتاب "النوادر" وأخذ عن أبي معاوية الضرير. وأخذ عنه أبو العباس أحمد بن أحمد بن يحيى ثعلب، وأبو عكرمة الضبي، وإبراهيم الحربي. وقال أبو جعفر أحمد بن يعقوب بن يوسف الأصفهاني النحوي: فأما أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، فكانت طريقته طريقة الفقهاء والعلماء، وكان أحفظ الناس للغات والأيام والأنساب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: قال لي ابن الأعرابي: أمليت قبل أن تجيئني يا أحمد حمل جمل. وقال ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي. وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي: سمعت من ألف أعرابي خلاف ما قاله الأصمعي. وقال محمد بن الفضل الشعراني: كان للناس رؤوس؛ كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 سفيان الثوري رأساً في الحديث، وأبو حنيفة رأساً في القياس، والكسائي رأساً في القرآن؛ فلم يبق الآن رأس في فن من الفنون أكبر من ابن الأعرابي؛ فإنه رأس في كلام العرب. ويحكى أنه اجتمع أبو عبد بن الأعرابي وأبو زياد الكلابي على الجسر ببغداد، فسأل أبو زياد ابن الأعرابي، عن قول النابغة: "على ظهر مبناة" فقال: "النطع" بفتح النون وسكون الطاء، فقال: لا أعرفه؛ النطع بكسر النون وفتح الطاء. فقال أبو زياد: نعم. وإنما أنكر أبو زياد النطع بفتح النون وسكون الطاء؛ لأنها لم تكن من لغته. وفي النطع أربع لغات ذكرناها في موضعها. وحكى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، قال: اجتمع عندنا أبو نصر أحمد ابن حاتم وابن الأعرابي، فتجاذبا الحديث؛ إلى أن حكى أبو نصر أن أبا الأسود دخل على عبيد الله بن زياد، وعليه ثياب رثة، فكساه ثياباً جدداً، من غير أن يعرض له بسؤال، فخرج وهو يقول: كساك ولم تستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل، وناصر وإن أحق الناس إن كنت مادحاً ... بمدحك من أعطاك والعرض وافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فأنشد أبو نصر قافية البيت الأول "وياصر" بالياء، يريد: ويعطف، فقال له ابن الأعرابي: إنما هو "وناصر" بالنون، فقال: دعني يا هذا وياصري وعليك ب"ناصرك". وقال أبو جعفر القحطبي: ما رئي في يد ابن الأعرابي كتاب قط، وكان من أوثق الناس. ويحكى عن ابن الأعرابي أنه روى قول الشاعر: ولا عيب فينا غير عرق لمعشر ... كرام، وأنا لا نحط على النمل "نحط" بحاء غير معجمة، وقال: معناه: إنا لا نحط على بيوت النمل لنصيب ما جمعوه، وهذا تصحيف؛ وإنما الرواية: "وأنا لا نخط على النمل"، واحدتها نملة، وهي قرحة تخرج بالجنب؛ تزعم المجوس أن ولد الرجل إذا كان من أخت ثم خط على النملة شفي صاحبها؛ ومعنى البيت: أنا لسنا بمجوس ننكح الأخوات. وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي، يقول: ولد في الليلة التي مات فيها أبو حنيفة. وقال أبو غالب علي بن أحمد بن النضر: توفي ابن الأعرابي في سنة إحدى وثلاثين ومائتين. قال المصنف: وكان ذلك في خلافة الواثق بن المعتصم. ويقال: توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين؛ وبلغ من السن - على ما يقال - ثمانين سنة؛ ويقال: إحدى وثمانين وأربعة أشهر وثلاثة أيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ابن سعدان الضرير وأما أبو جعفر محمد بن سعدان الضرير النحوي؛ فإنه كان من أكابر القراء، وله كتاب مصنف في النحو، وكتاب في معرفة القرآن. وأخذ عن أبي معاوية الضرير، وأخذ عنه ابن المرزبان وغيره وكان ثقة. وقال أبو الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المنادي: كان أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي الضرير يقرأ بقراءة حمزة، ثم اختار لنفسه، ففسد عليه الأصل والفرع؛ إلاّ أنه كان نحوياً. وذكر ابن عرفة: أنه توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين؛ وكان ذلك في خلافة الواثق بن المعتصم. أبو تمام وأما أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر؛ فإنه شامي الأصل، وكان بمصر في حداثته يسقي الماء في المسجد الجامع، ثم جالس الأدباء، فأخذ عنهم وتعلم، وكان فطناً فهماً، وكان يحب الشعر، فلم يزل يعانيه حتى قال الشعر وأجاده، وسار شعره، وشاع ذكره، وبلغ المعتصم خبره، فحمل إليه وهو بسر من رأى، فعمل فيه أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 تمام قصائد [عدة] وأجازه المعتصم وقدمه على شعراء وقته. وقدم إلى بغداد فجالس بها الأدباء، وعاشر العلماء؛ وكان موصوفاً بالظرف وحسن الأخلاق وكرم النفس. وقد روى عنه أحمد بن [أبي] طاهر وغيره أخباراً مسندة. وهو حبيب بن أوس بن الحارث بن القيس. وقال إدريس بن يزيد: قال لي تمام بن أبي تمام الطائي: ولد أبي سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات سنة إحدى وثلاثين ومائتين. وقال محمد بن موسى: عنى الحسن وهب بأبي تمام، وولاه بريد الموصل، فأقام بها أقل من سنتين، ومات سنة إحدى وثلاثين ومائتين في خلافة الواثق، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وقال الحسن بن وهب يرثيه: فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي ماتا معاً وتجاورا في حفرة ... وكذاك كانا قبل في الأحياء ورثاه محمد بن عبد الملك وهو حينئذٍ وزير فقال: نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لما ألم مقلقل الأحشاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 قالوا: حبيب قد ثوى، فأجبتهم: ... ناشدتكم لا تجعلوه الطائي! محمد بن سلاَّم وأما أبو عبد الله محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم البصري؛ فكان من جملة أهل الأدب، وألف كتاباً في طبقات الشعراء. وأخذ عن حماد بن سلمة، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو العباس ثعلب. وقال محمد بن أحمد بن يعقوب بن شبة: حدثنا جدي، قال: كان محمد بن سلام له علم بالشعر والأخبار، وهما من جملة علوم الأدب. قال الحسن بن فهم: قدم علنا محمد بن سلام سنة اثنتين وعشرين ومائتين، فاعتل علة شديدة؛ فما تخلف عنه أحد، وأهدى له الأجلاء أطباءهم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فكان ابن ماسويه من جملة من أهدى إليه؛ فلما جسه ونظر إليه؛ قال له: لا أرى بك من العلة ما أرى بك من الجزع! فقال: والله ما ذاك على الدنيا مع اثنتين ثمانين سنة؛ ولكن الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة؛ فقال ابن ماسويه: فلا تجزع، فقد رأيت في عرقك من الحرارة الغريزية، [ما] إن سلمت من العوارض ما يبلغك عشر سنين. قال ابن فهم: فوافق كلامه قدراً، فعاش محمد عشر سنين بعد ذلك؛ وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان ذلك في السنة التي مات فيها الواثق وبريع المتوكل بن المعتصم. علي بن المغيرة الأثرم وأما أبو الحسن علي بن المغيرة الأثرم؛ فإنه كان صاحب لغة ونحو، أخذ عن أبي عبيدة والأصمعي، وأخذ عنه أحمد بن يحيى ثعلب، والزبير بن بكار، وأبو العيناء، وغيرهم. وقال أبو مسحل : كان إسماعيل بن صبيح أقدم أبا عبيدة في أيام الرشيد من البصرة إلى بغداد، وأحضر الأثرم - وكان وراقاً في الوقت - وجعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 في دار من دوره، وأغلق عليه الباب، ودفع إليه كتب أبي عبيدة، وأمره بنسخها، فكنت أنا وجماعة من أصحابنا نصير إلى الأثرم، فيدفع إلينا الكتاب من تحت الباب، ويدفع إلينا ورقاً أبيض من عنده، ويسألنا نسخه وتعجيله، ويوافقنا على الوقت الذي نرده إليه فيه؛ فكنا نفعل ذلك. وكان الأثرم يقرأ على أبي عبيدة؛ قال: وكان أبو عبيدة من أضن الناس بكتبه؛ ولو علم بما فعله الأثرم لمنعه من ذلك ولم يسامحه. وقال ثعلب: كنا عند الأثرم وهو يملي شعر الراعي، فلما استتم المجلس وضع الكتاب من يده؛ وكان معي يعقوب بن السكيت، فقال لي لابد أن أسأله عن أبيات للراعي، فقلت له: لا تفعل، فلعله لا يحضره جواب، فلم يقبل، ثم وثب فقال: ما تقول في قول الراعي: وأفضن بعد كظومهن بجرةٍ ... من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا قال: فتنحنح الشيخ ولم يجب، قال: فما تقول في بيته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 كدخان مرتجل بأعلى تلعة ... غرثان ضرم عرفجاً مبلولا وقال: فلم يجب؛ فرأينا الكراهة في وجهه. وقال الأثرم: "مثقل استعان بذقنه"، فقال يعقوب: هذا تصحيف؛ إنما هو "بدفية" فقال الأثرم: تريد الرأسة بسرعة! ثم دخل بيته. وقال في معنى المثل: إن البعير إذا حمل عليه، وأثقله الحمل مد عنقه، واعتمد على دفيه؛ لما لم تكن له راحة: فيضرب مثلاً لمن ضعف عن أمر واستعان بأضعف منه عليه. وقال أبو بكر بن الأنباري: كان ببغداد من رواة اللغة اللحياني والأصمعي، وعلي بن المغيرة. وتوفي الأثرم في جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، في السنة التي مات فيها الواثق، وبويع المتوكل على الله تعالى. أبو مسحل وأما أبو مسحل عبد الوهاب بن حريش الهمذاني النحوي؛ فإنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عالماً بالقرآن ووجوه إعرابه، عارفاً بالعربية؛ أخذ عن علي بن حمزة الكسائي؛ وكان يكنى: أبا محمد، ويلقب أبا مسحل، وكان إعرابياً قدم بغداد، وافداً على الحسن ابن سهل. ميمون بن جعفر أما أبو توبة ميمون بن جعفر النحوي؛ فإنه أخذ عن رواة اللغة والأدب؛ أخذ عن الكسائي، وأخذ عنه محمد [بن الجهم] السمري، وكان ثقة. وقال أبو بكر الأنباري: وكان ببغداد من رواة اللغة الأموي، وأبو توبة ابن جعفر؛ وذكر آخرين غيرهما. وأراد بالأموي أبا محمد يحيى بن سعيد؛ وكان من أكابر أهل اللغة والنحو، وكان كثيراً ما يروى عنه أبو عبيد القاسم بن سلام. هشام الضرير وأما هشام بن معاوية الضرير، فكان يكنى أبا عبد الله، أخذ عن الكسائي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وكان مشهوراً بصحبته. وله من التصانيف كتاب "المختصر"، وكتاب القياس، وقطعة حدود لا يرغب فيها. أبو إسحاق اليزيدي وأما أبو إسحاق إبراهيم بن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي، فإنه كان عالماً بالأدب، شاعراً مجيداً؛ أخذ عن أبي زيد الأنصاري والأصمعي. وله كتاب يفتخر به اليزيديون؛ وهو "ما اتفق لفظه واختلف معناه" نحو من سبعمائة ورقة، ورواه عنه عبيد الله بن محمد أبي محمد اليزيدي. وذكر إبراهيم أنه بدأ يعمل هذا الكتاب وهو ابن سبع عشرة سنة، ولم يزل يعمله حتى أتت عليه ستون سنة. وله كتاب في مصادر القرآن، وكتاب في بناء الكعبة وأخبارها. وروى عنه أنه قال: كنت يوماً عند المأمون، وليس عنده إلا المعتصم، فأخذت الكأس من المعتصم فعربد علي؛ فلم أحتمل ذلك وأجبته، فأخفى ذلك ولم يظهره، فلما صرت من غد إلى المأمون -كما كنت أصير إليه- قال لي الحاجب: أمرت ألا أذن لك، فدعوت بدواة وقرطاس وكتبت: أنا المذنب الخطاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 سكرت فأبدت مني الكأس بعض ما ... كرهت، وما إن يستوي السكر والصحو ولا سيما إن كنت عند خليفة ... وفي مجلس ما إن يليق به اللغو ولولا حميا الكأس كان احتمال ما ... بدهت به لا شك فيه هو السرو تنصلت من ذنبي تنصل ضارعٍ ... إلى من إليه يغفر العمد والسهو فأدخلها الحاجب على المأمون، ثم خرج إلي مؤذناً لي بالدخول والرقعة في يده، قد وقع المأمون عليها: إنما مجلس الندامى بساط ... فإذا ما انقضى طوينا بساطه فدخلت على المأمون فمد إلي باعه، فأكببت على يديه فقبلتها، فضمني إليه وأجلسني. وقال المرزباني: وحدثني العباس بن أحمد النحوي أن المأمون وقع على الأبيات: إنما مجلس الندامى بساط ... للمودات بينهم وضعوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من حديث أو لذة رفعوه وقبل عذره، وأذن له وقربه. أبو عبد الرحمن العدوي وأما أبو عبد الرحمن عبد الله بن [أبي] محمد العدوي، والمعروف بابن اليزيدي؛ فإنه كان عالماً بالنحو واللغة؛ وأخذ عن أبي زكرياء يحيى بن زياد الفراء وغيره، وصنف كتاباً في غريب القرآن وكتاباً في النحو مختصراً، وكتاب الوقف والابتداء، وكتاب إقامة اللسان على صواب المنطق؛ وأخذ عنه ابن أخيه الفضل بن اليزيدي. قال أبو العباس ثعلب: ما رأيت في أصحاب الفراء أعلم من عبد الله بن [أبي] محمد اليزيدي - وهو أبو عبد الرحمن - في القرآن خاصة. إسحاق الموصلي وأما أبو محمد بن إبراهيم بن ميمون الموصلي، فإنه أخذ الأدب عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما؛ وشرع في علم الغناء وغلب عليه، ونسب إليه؛ وهو صاحب كتاب الأغاني، ورواه عنه ابنه حماد. وأخذ عنه أبو العيناء والزبير ابن بكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وروى أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي: قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي، يقول: رأيت في منامي كأن جريراً ناولني كبة من شعر فأدخلتها في فمي، فقال بعض المعبرين: هذا رجل يقول من الشعر ما شاء. وعن محمد بن عطية الشاعر، قال: كان يحيى بن أكثم في مجلس له، يجتمع الناس إليه، فوافى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فجعل يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم؛ ثم تكلم في الفقه فأحسن، واحتج، تكلم في الشعر واللغة ففاق من حضر، فأقبل على يحيى بن أكثم فقال: أعز الله تعالى القاضي! أفي شيء مما ناظرت فيه وحكيته نقص أو مطعن؟ قال: لا، قال: فما بالي أقوم بسائر العلوم قيام أهلها، وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه! قال العطوي: فالتفت إلي يحيى بن أكثم، فقال: جوابه في هذا عليك -وكان العطوي من أهل الجدل- قال: فقلت: نعم أعز الله القاضي! جوابه علي، ثم التفت إلى إسحاق، وقلت: يا أبا محمد، أنت كالفراء والأخفش في النحو؟ فقال: لا، فقلت: أفأنت في اللغة كالأصمعي وأبي عبيدة؟ قال: فقلت له: أفأنت في الأنساب كالكلبي؟ قال: لا، فقلت: فأنت في الكلام كأبي الهذيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والنظام؟ قال: لا، قلت: فمن هاهنا نسبت إلى ما نسبت إليه؛ لأنه لا نظير لك فيه ولا شبيه، وأنت في غيره دون أوفى أهله! فضحك وقام وانصرف، فقال يحيى بن أكثم: لقد وفيت الحجة حقها، وفيها ظلم قليل لإسحاق؛ وإنه ليقل في الزمان نظيره. وحكى الحسن بن يحيى الكاتب عن إسحاق الموصلي، قال: أنشدت الأصمعي شعراً لي على أنه لشاعر قديم [وهو] : هل إلى نظرةٍ إليك سبيل ... يرو منها الصدى ويشفي الغليل إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير من المحب القليل فقال: هذا والله الديباج الخسرواني، فقلت له: إنه ابن ليلته، فقال: لا جرم! إن أثر الصنعة فيه، فقلت: لا جرم! إن أثر الحسد فيك. وقال محمد بن عبد الله: ما سمعت ابن الأعرابي يصف أحداً بمثل ما كان يصف به إسحاق من العلم والصدق والحفظ؛ وكان كثيراً ما يقول: هل سمعت بأحسن من ابتدائه في قوله: هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل! هل تعرفون من شكا نومه بأحسن من هذا اللفظ الحسن! قال محمد بن علي: سمعت إبراهيم الحربي يقول: كان إسحاق الموصلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ثقة صدوقاً عالماً، وما سمعت منه شيئاً، ولوددت أني سمعت منه. وقال محمد: وسمعت أبا العباس يقول هذا القول. وتوفي إسحاق بن إبراهيم الموصلي سنة خمس وثلاثين ومائتين، في خلافة المتوكل. أبو محمد التوزي وأما أبو محمد عبد الله بن محمد التوزي، فإنه كان من أكابر علماء اللغة، وأخذ عن أبي عبيدة والأصمعي، وقرأ على أبي عمر الجرمي كتاب سيبويه. وقال محمد بن يزيد المبرد: ما رأيت أحداً أعلم بالشعر من أبي محمد التوزي؛ كان أعلم من الرياشي، وكان أكثرهم رواية عن أبي عبيدة معمر بن المثنى. وقال أبو العباس المبرد: سأل التوزي عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير عن قول الفرزدق: ومنا غداة الروع فتيان غارة ... إذا متعت بعد الأكف الأشاجع فلم يجب. ومعنى "متعت"، أي احمرت من الدم، ومنه قولهم: نبيذ ماتع، أي شديد الحمرة. ويروى أن أبا محمد التوزي تزوج بأم أبي ذكوان النحوي، وكان إذا قيل له: ما كان التوزي منك؟ قال: كان أبا إخوتي. توفي سنة ثمان وثلاثين، في خلافة المتوكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 عمارة بن عقيل وأما عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الشاعر بن عطية بن الخطفي -واسم الخطفي حذيفة- فكان من أهل البصرة، واسع العلم؛ كثير الفضل؛ وأخذ عنه أبو العيناء محمد بن القاسم وأبو العباس المبرد. وقال المبرد: كنا عند عمارة بن عقيل، فقال: ألا أعجبكم! مرت بي امرأة متحفزة، فلما قربت مني سفرت وقالت: يا شيخ، ألا تعجبك الملاح! فقلت: بلى. وتعجبني الملاح وكل دل ... ولكن لا أراك من الملاح وكل مليحة كالبدر تبدو ... إذا سفرت وأنت من القباح وقال عمارة: كنت امرأ دميماً داهية، فتزوجت امرأة حسناء رعناء، ليكون أولادي في جمالها ودهائي، فجاءوا في رعونتها ودمامتي. أبو صالح يحيى بن واقد وأما أبو صالح يحيى بن واقد بن محمد بن عدي بن خزيم النحوي؛ فإنه أخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 عن الأصمعي، وكان ولد في خلافة المهدي سنة خمس وستين ومائة، وكان عالماً باللغة والنحو. وقال أبو نعيم الحافظ: وروي عن الأصمعي عن ابن هلال، قال: الأرض أربعة وعشرون فرسخاً، فاثنا عشر ألفاً للسودان، وثمانية آلاف للروم، وثلاثة آلاف للفرس، وألف للعرب. أبو الحسن اللحياني وأما أبو الحسن علي بن حازم اللحياني؛ فإنه كان من أكابر أهل اللغة وله نوادر. قال سلمة: كان اللحياني أحفظ الناس للنوادر عن الكسائي والفراء والأحمر، فمن نوادره أنه حكي عن بعض العرب، أنهم يجزمون ب"لن" وينصبون ب"لم" وعلى هذه اللغة قرأ من قرأ:] ألم نشرح لك صدرك [لفتح الحاء. وحكى اللحياني في نوادره: ذُرُّوح وذَرُّوح وذُرّاح وذُرْنوح وذُرَحْرَح وذُرَّحْرَح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وحكى أبو الحسن الطوسي ، قال: كنا في مجلس اللحياني، وكان عارماً على أن يملي نوادر ضعف ما أملى، فقال [يوماً] : تقول العرب: "مثقل استعان بذقنه"، فقام إليه ابن السكيت ، وهو حدث، وقال: يا أبا الحسن؛ إنما تقول العرب: "مثقل استعان بدفيه"، تريد أن الجمل إذا أنهض للحمل وهو مثقل استعان بجنبيه؛ فقطع الإملاء؛ فلما كان في المجلس الثاني أملى: تقول العرب: "هو جاري مكاشري"، فقام إليه ابن السكيت أيضاً فقال: أعزك الله تعالى! وما معنى "مكاشري"! إنما هو "مكاسري" بمهملة، أي كسر بيتي إلى [كسر] بيته. قال: فقطع الإماء، فما أملى بعد ذلك شيئاً. ويحكى أن اللحياني أول من صحف هذا المثل؛ وهو قوله: يا حابل اذكر حلا"، أي يا من شد الحبل اذكر وقت حله، فقال: "يا خامل اذكر حلا"؛ وهو تصحيف لا وجه له. ابن السكيت أما أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت؛ فإنه كان من أكابر أهل اللغة، كان مؤدب ولد جعفر المتوكل على الله، والسكيت لقب أبيه إسحاق؛ وأخذ عن أبي عمرو الشيباني والفراء وابن الأعرابي، وأخذ عنه أبو سعيد السكري وأبو عكرمة الضبي. وذكر محمد بن الفرج، قال: كان يعقوب يؤدب مع أبيه بمدينة السلام في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 درب القنطرة صبيان العامة، حتى احتاج إلى الكسب، فجعل يتعلم النحو. وكان أبوه رجلاً صالحاً، وكان من أصحاب الكسائي، حسن المعرفة بالعربية؛ وكان يقول: أنا أعلم من أبي بالنحو، وأبي أعلم مني بالشعر واللغة. وحكي عن أبيه أنه حج وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وسأل الله تعالى أن يعلم ابنه النحو، قال: فتعلم النحو واللغة، وجعل يختلف إلى قوم من أهل القنطرة، فأجروا في كل دفعة دراهم وأكثر؛ حتى اختلف إلى بشر وإبراهيم ابني هارون - أخوين كان يكتبان لمحمد بن طاهر - فما زال يختلف إليهما وإلى أولادهما دهراً، واحتاج ابن طاهر إلى رجل يعلم ولده، وجعل ولده في حجر إبراهيم، وقطع ليعقوب خمسمائة درهم، ثم جعلهما ألف درهم، وكان يعقوب قد خرج قبل ذلك إلى سر من رأى في أيام المتوكل [فصيره عبد الله بن يحيى بن خاقان عند المتوكل] ، فضم إليه ولده وأنسى له الرزق. قال الحسين بن عبد المجيب: سمعت يعقوب بن السكيت في مجلس أبي بكر بن أبي شيبة يقول: ومن الناس من يحبك حبا ... ظاهر الحب ليس بالتقصير فإذا ما سألته نصف فلس ... الحق الحب باللطيف الخبير وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: ما رأيت للبغدادين كتاباً خيراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 من كتاب يعقوب بن السكيت في المنطق. وتوفي يعقوب سنة ثلاث وأربعين ومائتين - وكان ذلك في خلافة المتوكل. وقيل: إنه قتله المتوكل، وذلك أنه أمره المتوكل بشتم رجل من قريش فلم يفعل، وأمر القرشي أن ينال منه، فأجابه يعقوب، فلما أن أجابه قال له المتوكل: أمرتك أن تفعل فلم تفعل، فلما شتمك فعلت! وأمر بضربه، فحمل من عنده صريعاً مقتولاً، ووجه المتوكل من الغد إلى بني يعقوب عشرة آلاف درهم دية. أبو الحسن الطوسي وأما أبو الحسن علي بن عبد الله بن سنان الطوسي، فإنه أخذ عن مشايخ الكوفيين والبصريين. وأكثر أخذه عن ابن الأعرابي. وكان عدواً لابن الكسيت، لأنهما أخذا عن نصران الخراساني، واختلفا في كتبه بعد موته. ولا مصنف له. أبو عثمان المازني وأما أبو عثمان بكر بن محمد بن بقية -وقيل بكر- بن محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 عدي بن حبيب المازني العدوي؛ من بني مازن بن شيبان من أهل البصرة، أخذ عن أبي عبيدة والأصمعي، وأخذ عنه أبو العباس المبرد، والفضل بن محمد البريدي، وغيرهم. وله تصانيف كثيرة؛ منها: كتاب التصريف، وكتاب ما تلحن فيه العامة، وكتاب الألف واللام، وكتاب العروض، وكتاب القوافي. وعن بكار بن قتيبة أنه قال: ما رأيت نحوياً قط يشبه الفقهاء إلا حيان بن هلال والمازني. وحكى أبو العباس المبرد، قال: قصد بعض أهل الذمة من أهل اللغة أبا عثمان المازني ليقرأ عليه كتاب سيبويه، وبذل له مائة دينار على تدريسه، فامتنع أبو عثمان من قبول بذله وأضب على رده، قال: فقلت له: جعلت فداك؟ أترد هذه النفقة مع فاقتك وشدة إضاقتك! فقال: إن هذا الكتاب بشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله تعالى، ولست أرى أن أمكن منها ذمياً غيرة على كتاب الله تعالى وحمية له. قال: فاتفق أنه أشخص إلى الواثق، وكان السبب في ذلك أن جارية غنت: أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فرد عليها بعض الناس نصبها "رجلاً" وتوهم أنه خبر "إن"، وليس كذلك؛ وإنما هو معمول "لمصابكم" لأنه في معنى "إصابتكم"، وظلم خبر "إن"، فقالت الجارية: لا أقبل هذا وقد قرأته على أعلم الناس بالبصرة أبي عثمان المازني. فتقدم بإحضاره. قال المبرد: قال لي أبو عثمان: لما قدمت من البصرة إلى سر من رأى، دخلت على الخليفة، فقال لي: يا مازني، من خلفت وراءك؟ فقلت: خلفت يا أمير المؤمنين أُخية أصغر مني، أقيمها مقام الولد؛ فقال: ما قالت لك حين خرجت؟ قلت: طافت حولي وقالت وهي تبكي: أقول لك يا أخي ما قالت بنت الأعشى لأبيها: تقول ابنتي حين جد الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم ترانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى ويقطع منا الرحم قال: فما قلت لها؟ قال: قلت: أقول لك يا أخية ما قال جرير لزوجته أم حرزة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح فقال: لا جرم! إنك ستنجح، وأمر له بثلاثين ألف درهم. وفي غير هذه الرواية أنه لما دخل عليه قال: باسمك؟ - قال المازني: أراد أن يعلمني معرفته بإبدال الباء مكان الميم في هذه اللغة - فقلت: بكر بن محمد المازني، فقال: مازن شيبان أم مازن تميم؟ فقلت: مازن شيبان؛ فقال: حدثنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هيبتك تمنعني من ذلك [وقد] وقال الراجز: لا تفلواها وادلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غدوا قال: فسره، فقلت: لا تقلواها، لا نعنفاها في السير، يقال: فلوت؛ إذا سرت [سيراً] عنيفاً، ودلوت إذا سيراً رفيقاً - ثم أحضر التوزي - وكان في دار الواثق، وكان التوزي قد قال: "إن مصابكم رجل" توهما أنه خبر "إن" - فقال له المازني: كيف تقول إن ضربك زيداً ظلم؟ فقال التوزي: حسبي، وفهم. ويحكى عن أبي عثمان أنه قال: حضرت أنا ويعقوب بن السكيت مجلس محمد بن عبد الملك الزيات، وأفضنا في شجون الحديث، إلى أن قلت: كان الأصمعي يقول: "بينا أنا جالس إذا جاء عمرو"، فقال ابن السكيت: هكذا كلام الناس، قال: فأخذت في مناظرته عليه؛ فقال محمد بن عبد الملك: دعني حتى أبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 له ما اشتبه عليه، ثم التفت إليه، وقال: ما معنى "بينا"؟ قال: "حين"، قال: أفيجوز أن يقال: حين جاء عمرو إذ جاء زيد! قال: فسكت. ويحكى أن أبا عثمان المازني سئل بحضرة المتوكل على الله تعالى عن قوله عز وجل:] وما كانت أمك بغيا [، فقيل له: كيف حذفت الهاء، وبغي "فعيل"، و"فعيل" إذا كان بمعنى "فاعل" لحقته الهاء، نحو فتى وفتية؟ فقال: إن "بغوي"، ومن أصول التصريف: إذا اجتمعت الواو والياء، والسابق منهما ساكن، قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، كما قالوا: شويت شيّاً، وكويت الدابة كيّاً؛ والأصل فيهما "شوياً و"كوياً"، فعلى هذه القضية، قيل: "بغي"، ووجب حذف التاء منهما؛ لأنها بمعنى "باغية"، كما يحذف من صبور بمعنى صابرة. وكان أبو عثمان المازني مع علمه بالنحو كثير الرواية، قال المازني: حدثني رجل من بني ذهل بن ثعلبة، قال: شهدت شبيب بن شيبة، وهو يخطب إلى رجل من الأعراب بعض حرمه، وطول. وكان للأعرابي حاجة يخاف أن تفوته، فاعترض الأعرابي على شبيب، وقال له: ما هذا؟ إن الكلام ليس للمتكلم المكثر، ولكن للمقل المصيب، وأنا أقول: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، أما بعد: فقد أدليت بقرابة، وذكرت حقاً، وعظمت مرغبا؛ فقولك مسموع، وحبلك موصول، وبذلك مقبول، وقد زوجناك صاحبتك على اسم الله تعالى. وروى أبو عثمان، قال: حدثني أبو زيد قال: سمعت رؤبة يقرأ:] فأما الزبد فيذهب جفاء [، قال: فقلت: "جفاء"، قال: لا، إنما الريح تجفله، أي تقلعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وقال المازني: سألني الأصمعي عن قوله: يا بئرنا بئر بني عدي ... لا ينزحن قعرك بالدلى حتى تعودي أقطع الولي فقلت: "حتي تعودي قليباً أقطع الولي"، وكان حقه أن يقول: قطعاء الولي" لقوله: تعودي". وعن أبي سعيد السكري قال: توفي سنة سبع وأربعين ومائتين، وكان ذلك في السنة التي قتل فيها المتوكل وبويع المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل. أبو عمران النحوي وأما أبو عمران موسى بن سلمة النحوي، فإنه أخذ عن الأصمعي وأبي عبد الرحمن اليزيدي. قال يحيى بن علي المنجم: أبو عمران أحد رواة الأصمعي، وكان قد أملى كتب الأصمعي ببغداد، فحملها الناس عنه. أبو حاتم السجستاني وأما أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، فإنه كان عالماً ثقة قيماً بعلم اللغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والشعر؛ أخذ عن أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي، وأخذ عنه أبو بكر بن دريد وغيره. وقال أبو العباس المبرد: سمعت أبا حاتم يقول: قرأت كتاب سيبويه على الأخفش مرتين، وكان حسن العلم بالعروض وإخراج المعمى وقول الشعر الجيد؛ ولكن لم يكن بالحاذق في النحو، وكان إذا التقى هو وأبو عثمان المازني تشاغل أو بادر خوفاً من أن يسأله عن النحو. قال المبرد: حضرت السجستاني وأنا حدث، فرأبت في حلقته بعض ما ينبغي أن تهجر حلقته، فتركته مدة ثم صرت إليه، وعميت عليه بيتاً لهارون الرشيد؛ وكان يجيد استخراج المعمى، فأجابني: أيا حسن الوجه قد جئتنا ... بداهية عجيب في رجب فعميت بيتاً وأخفيته ... فلم يخف بل لاح مثل الشهب ومن شعره: نفسي فداك يا عبي ... د الله جل بك اعتصامي فارحم أخاك فإنه ... نزر الكرى بادي السفام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وأنله ما دون الحرا ... م، فليس يقصد للحرام وله أيضاً: كبد الحسود تقطعي ... قد بات من أهوى معي وحكي عن أبي حاتم، قال: قرأت على الأصمعي في جيمية العجاج: جابا ترى بليته مسحجا فقال: ["تليله"، فقلت: "بليته"، فقال] : هذا لا يكون، فقلت: أخبرني به من سمعه من فلق رؤبة - أعني أبا زيد الأنصاري - فقال: هذا لا يكون، فقلت جعله مصدراً، أي تسحيجاً، فقال: هذا لا يكون، فقلت: فقد قال جرير: ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عيا بهن ولا اختلابا أي تسريحي؛ فكأنه أراد أن يدفعه، فقلت له: وقد قال الله تعالى:] مزقتم كل ممزق [، [فأمسك] . وكان أبو حاتم كثير التصانيف في اللغة، وصنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 في النحو والقراءة. وتوفي أبو حاتم السجستاني - فيما قبل - سنة خمسين ومائتين، في خلافة المستعين. وقال ابن دريد: بل توفي سنة خمس وخمسين ومائتين. الجاحظ وأما أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ؛ فإنه كان عالماً بالأدب فصيحاً بليغاً، مصنفاً في فنون العلوم، وكان من أئمة المعتزلة، تلميذ أبي إسحاق النظام. وذكر يموت بن المزرع أنه مولى أبي القلمس عمرو بن قلع الكناني. ثم الفقيمي. [قال] وكان جد الجاحظ أسود، خال أمي. وروى عن أبي يوسف القاضي، قال: تغذيت عند هارون الرشيد، فسقطت من يدي لقمة، انتثر ما كان عليها من الطعام، فقال: يا يعقوب، خذ لقمتك، فإن المهدي حدثني عن أبيه المنصور، عن أبيه محمد بن علي، عن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أكل ما سقط من الخوان فرزق أولاداً كانوا صباحاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقال أبو بكر العمري: سمعت الجاحظ يقول: نسيت كنيتي ثلاثة أيام، فأتيت أهلي، فقلت: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان. وقال أبو العباس المبرد: سمعت الجاحظ يقول لرجل آذاه: أنت والله أحوج إلى هوان، من كريم إلى إكرام، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر. قال أبو سعيد الجنديسابوري: سمعت الجاحظ يصف اللسان، فقال: هو أداة يظهر بها البيان، وشاهد يعبر عن الضمير، وحاكم يفصل الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الأشياء، وواعظ ينهى عن القبيح، ومعزر يرد الأحزان، ومتعذر يدفع الضغينة، [ومله يونق الأسماع، وزارع ينبت المودة] ، وحاصد يستأصل العداوة، وشاكر يستوجب المزيد، ومادح يستحق الزلفة، ومؤنس يذهب الوحشة. وروى أن الجاحظ كان يأكل مع محمد بن عبد الملك الزيات، فجاءوا بفالوذجة، فتولع محمد بالجاحظ، وأمر أن يجعل من جهته مارق من الجام، فأسرع في الأكل، فتنطف ما بين يديه، فقال له الزيات: تقشعت سماؤك قبل سماء الناس، فقال الجاحظ: لأن غيمها كان رقيقاً. وروى أبو العيناء، قال: كنت عند ابن أبي داود بعد أن قتل بن زيات، فجيء بالجاحظ مقيداً - وكان في أسبابه وناحيته - فقال ابن أبي داود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 للجاحظ: ما تأويل هذه الآية:] وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [، فقال الجاحظ: تلاوتها تأويلها، فقال: جيئوا بالحداد، فقال: لتفكوا عني أو لتزيدوني؟ فقيل: بل ليفك عنك، فجيء بالحداد، فغمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساق الجاحظ، ويطيل أمره قليلاً، ففعل، فلطمه الجاحظ، وقال له: أعمل عمل سنة في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة؛ فإن الضرر على ساقي، وليس بجذع ولا ساجة؛ فضحك ابن أبي داود وأهل المجلس منه. وقال ابن أبي داود: أنا أثق بظرفه ولا أثق بدينه. وروى المبرد أنه قال: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه وهو عليل، فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج، ولو نشر بالمناشير لما أحس به، نصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه، والأمر في ذلك أني قد جزت التسعين، وأنشدنا: أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب وقال أحمد بن يزيد بن محمد المهلبي، عن أبيه، قال: قال المعتز بالله تعالى، يا يزيد ورد الخبر بموت الجاحظ، فقلت: لامير المؤمنين طول البقاء ودوام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 العز قال: وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين. وعن محمد بن يحيى الصولي مثل ذلك. أبو عمرو الهروي وأما أبو عمرو شمر بن حمدويه الهروي، فإنه كان ثقة عالماً فاضلاً، حافظاً للغريب، رواية للأشعار والأخبار، رحل إلى العراق في شبيبته، وأخذ عن ابن الأعرابي، وعن جماعة من أصحاب أبي عمرو الشيباني وأبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة الفراء؛ منهم الرياشي وأبو نصر وأبو حاتم وأبو عدنان. ثم لما رجع إلى خراسان أخذ عن أصحاب النضر بن شميل والليث بن المظفر. وألف كتاباً كبيراً أسسه على حروف المعجم، وابتدأه بحرف الجيم، لم يسبقه إلى مثله أحد تقدمه، ولا أدركه فيه من بعده؛ ولما أكمل الكتاب بخل به فلم ينسخه أحد من أصحابه، فلم يبارك له فيما فعله، حتى مضى لسبيله، فاخترن بعض أقاربه ذلك الكتاب واتصل بيعقوب بن الليث، فقلده بعض أعماله، واستصحبه إلى فارس ونواحيها، فحمل معه ذلك الكتاب، فأناخ يعقوب بن الليث بالسيب من [أرض] السواد، [وحط بها سواده، وركب في جماعة المقاتلة من عسكره، مقدراً لقاء الموفق، وأصحاب السلطان] ، فجرى الماء من النهروان على معسكره، وغرق ذلك الكتاب في جملة ما غرق من سواد المعسكر. قال أبو منصور الأزهري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أدركت أنا من ذلك الكتاب تفاريق أجزاء بغير خط شمر، فتصفحت أبوابها فوجدتها على غاية من الكمال؛ والله عز وجل يغفر لنا ولأبي عمرو زلَلَه، فإن الضن بالعلم غير محمود، ولا مبارك فيه. وتوفي شمر سنة خمس وخمسين ومائتين. أبو داود المروزي وأما أبو داود سليمان بن معبد المروزي النحوي، فأخذ عن الأصمعي والنضر بن شميل. وكان ثقة. قال أبو رجاء محمد بن حمدويه: توفي أبو داود سنة سبع وخمسين ومائتين، وزاد غيره في ذي الحجة في خلافة المعتمد. الرياشي وأما أبو الفضل عباس بن الفرج الرياشي؛ فإنه كان مولى محمد بن سليمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الهاشمي؛ وإنما قيل له الرياشي؛ لأن أباه كان عبداً لرجل يقال له: رياش؛ فبقي عليه نسبه إلى رياش. وكان الرياشي من كبار أهل اللغة، كثير الرواية للشعر؛ أخذ عن الأصمعي، وكان يحفظ كتب الأصمعي وكتب أبي زيد كلها؛ وقرأ على أبي عثمان المازني كتاب سيبويه، فكان المازني يقول: قرأ علي الرياشي الكتاب وهو أعلم به مني. وأخذ عنه أبو العباس المبرد وأبو بكر ابن دريد. وروى أبو بكر بن دريد، قال: رأيت رجلاً في الوراقين بالبصرة يفضل كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت، ويقدم الكوفيين، فقيل للرياشي - وكان قاعداً في الوراقين - ما كان قاله ذلك الرجل، فقال: إنما أخذنا نحن اللغة عن حرشة الضباب وأكله اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة عن أهل السواد وأصحاب الكوامخ، أو كلام يشبه هذا. الحرشة: الذين يصيدون الضباب، وأحدهم حارش، مثل حارس وحرسة وكافر وكفرة. وروى ابن أبي الأزهر، قال: كنا نراه يجيء إلى أبي العباس المبرد في قدمة قدمها من البصرة، وقد لقيه أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وكان يقدمه ويفضله. وذكر أبو محمد بن قتيبة، قال: سألت الرياشي عن قول العرب: "بينا زيد قائم جاء عمرو"، فقال: إذا ولي لفظة "بينا" الاسم العلم رفعت، فقلت: "بينا زيد قائم جاء عمرو"، وإن وليها اسم المصدر، فالأجود الجر، كقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 بينا تعانقه الكماة وروغه ... يوماً أتيح له جريء سلفع قال المصنف: يروى "تعانقه" بالجر والرفع، فمن جره جعل الألف فيه للإشباع، كقول الشاعر: وأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذم الرجال بمنتزاح أي بمنتزح، ومن رفعه جعل الألف زيادة ألحقت كما زيدت "ما" في "بينما"، فتغير حكم "بين" لضمها إليها. وحكى أبو منصور أحمد بن شعيب بن صالح البخاري، قال: أنشدني أبو الفضل الرياشي لنفسه: شفاء العمى حسن السؤال وإنما ... يطيل العمى طول السكوت على الجهل فكن سائلاً عما عناك فإنما ... خلقت أخا عقل لتسأل بالعقل وتوفي سنة سبع وخمسين ومائتين في خلافة المعتمد. المفضل بن سلمة وأما أبو طالب المفضل بن سلمة، فإنه كان لغويا فاضلاً، كوفي المذهب، أخذ عن أبي عبد الله بن الأعرابي وغيره. وله كتب كثيرة، منها كتاب معاني القرآن، وكتاب البارع في علم اللغة، وكتاب الاشتقاق، وكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 آلة الكاتب، وكتاب المقصور والممدود، وكتاب المدخل إلى علم النحو، وكتاب جلاء الشبهة في الرد على المشبهة، وكتاب الخط والقلم، وكتاب الفاخر فيما يلحن فيه العامة، وكتاب عمائر القبائل. واستدرك على الخليل بن أحمد في كتاب العين، وعمل ذلك كتاباً. أبو عثمان الأشنانداني وأما أبو عثمان الأشنانداني رحمه الله، فإنه كان من أئمة اللغة، أخذ عن أبي محمد التوزي، وأخذ عنه أبو بكر بن دريد. قال ابن دريد: سألت أبا حاتم السجستاني عن اشتقاق "ثاذق"، اسم فرس، فقال: لا أدري، وسألت الرياشي فقال: يا معشر الصبيان؛ إنكم [لتتعمقون] في العلم. قال: وسأل أبا عثمان الأشنانداني، فقال: هو من ثدق المطر من السحاب، إذا خرج خروجاً سريعاً، نحو الودق. وحكى ابن دريد أيضاً، قال: سألت أبا حاتم السجستاني عن قول الشاعر: وجفر الفحل فأضحى قد هجف ... واصفر ما اخضر من البقل وجف فقلت: ما هجف؟ فقال: لا أدري، فسألت أبا عثمان الأشنانداني فقال: عجف، إذا التحقت خاصرتاه من التعب وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أبو هِفّان المهزمي وأما أبو هفان عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي الشاعر، فإنه كان ذا حظ وافر من الأدب، وأخذ عن الأصمعي، وروى عنه يموت بن المزرع، وقال أبو تراب الأعمشي: بينا أبو هفان يمشي في بعض طرق بغداد، نظر إلى رجل من العامة على فرس فقال: من هذا؟ قيل له: كاتب فلان، ثم مر آخر فقال: من هذا؟ قيل له: كاتب فلان، فأنشأ أبو هفان يقول: أيا رب قد ركب الأرذلون ... ورجلي من رحلتي داميه فإن كنت حاملنا مثلهم ... وإلا فأرجل بني الزانيه ويحكى أن أبا هفان استقبل يوماً على حمار مكار، فقيل له: يا أبا هفان، تركب حمير الكراء! فأجاب أبا هفان من فوره: ركبت حمير الكرا ... لقلة من يعترى لأن ذوي المكرما ... ت قد غيبوا في الثرى فقلت له: أقلت هذا من وقتك؟ فقال: إنما قلته غداً! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أبو إسحاق الزيادي وأما أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي - وقيل له الزيادي لأنه من أولاد زياد بن أبيه - فإنه أخذ عن الأصمعي وغيره، وأخذ عنه أبو العباس محمد بن يزيد المبرد وغيره. وكان عالماً بالنحو، قرأ كتاب سيبويه، وله فيه نكت وخلاف في بعض المواضع، ذكرها أبو سعيد السيرافي في شرح الكتاب. وله كتاب في "الأمثال"، وكتاب "النقط والشكل"، وكتاب "تنميق الأخبار". أبو جعفر الكوفي وأما أبو جعفر محمد بن عمران الكوفي النحوي، فإنه كان مؤدب عبد الله ابن المعتز بالله تعالى. ويروى أنه حفظ ابن المعتز وهو يؤدبه سورة] والنازعات [، وقال له: إذا سألك أمير المؤمنين: في أي شيء أنت؟ فقل: أنا في السورة التي تلي] عبس [. فسأله عن ذلك، فقال: في السورة التي تلي] عبس [، فقال له: من علمك هذا؟ فقال: مؤدبي، فأمر له بعشرة آلاف درهم. وقال علي بن عمر الحافظ: أبو جعفر الكوفي ثقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ابن ناصح النحوي وأما أبو جعفر أحمد بن عبيد الله بن ناصح النحوي؛ فإنه مولى بني هاشم؛ وهو ديلمي الأصل، أخذ عن الأصمعي، وحدث عن يزيد بن هارون وغيره، وروى عنه أحمد بن الحسن بن شقير، وقاسم بن محمد الأنباري. ويروى أنه لما أراد المتوكل أن يأمر باتخاذ المؤدبين لولديه: المنتصر والمعتز أحضروا، فجاء أحمد بن عبيد الله، فقعد في أخريات الناس، فقال له من قرب منه: لو ارتفعت! فقال: أجلس حيث انتهى المجلس. فلما اجتمعوا قال لهم الكاتب: لو تذكراتم وقفنا على مواضعكم من العلم؛ فألقوا بينهم بيتاً لابن غلفاء وهو: ذربني إنما خطئي وصوبي ... علي، وإن ما أنفقت مال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فقالوا: ارتفع "مال" ب"ما" إذ كانت موضع "الذي"، ثم سكتوا، فقال لهم أحمد بن عبيد الله: هذا الإعراب، فما المعنى؟ فأحجم القوم، فقيل له: فما المعنى عندك؟ فقال: أراد: ما لومك إياي وإن ما أنفقت مال، ولم أنفق عرضاً، فالمال لا ألام على إنفاقه. فجاءه خادم من صدر المجلس، فأخذ بيده حتى تخطى به إلى أ'لاه، وقال له: ليس هذا موضعك؛ فقال: لأن أكون في مجلس ارتفع منه إلى أعلاه أحب إلي من أن أكون في مجلس أحط منه. واختير هو وأبو جعفر بن قادم صاحب الفراء. وله من الكتب: كتاب المقصور والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث. ابن قتيبة وأما أبو محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، فإنه كان كوفياً، ومولده بها. وإنما سمي الدينوري؛ لأنه كان قاضي دينور. وأخذ عن أبي حاتم السجستاني وغيره، وأخذ عنه أبو محمد عبد الله بن جعفر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 درستويه وغيره. وكان فاضلاً في اللغة والنحو والشعر؛ متفنناً في العلوم. وله المصنفات المذكورة، والمؤلفات المشهورة، فمنها: غريب القرآن، وغريب الحديث، ومشكل القرآن، ومشكل الحديث، وأدب الكاتب، وكتاب المعارف، وعيون الأخبار، ودلائل النبوة من الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام؛ إلى غير ذلك من المصنفات. قال أحمد بن كامل القاضي: توفي عبد الله بن مسلم بن قتيبة في ذي القعدة سنة سبعين ومائتين. وذكر ابن المنادي عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن أيوب الصائغ أن ابن قتيبة أكل هريسة، وأصاب حرارة، ثم صاح صيحة شديدة، ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر، ثم اضطرب ساعة، ثم هدأ؛ فمازال يتشهد إلى وقت السحر، ثم مات، وذلك أول ليلة من رجب سنة ست وسبعين ومائتين، وكانت وفاته في خلافة المعتمد على الله تعالى. أبو سعيد السكري وأما أبو سعيد الحسن بن الحسين بن عبد الرحمن بن العلاء بن أبي صفرة السكري النحوي؛ فأخذ عن أبي حاتم السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي، ومحمد بن حبيب. وكان ثقة حاذقاً، وكان راوية البصريين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وله من الكتب: كتاب الوحوش، وكتاب النبات. وعمل أشعار جماعة من الفحول كامرئ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، وهدبة بن خشرم، وأشعار هذيل، وأشعار اللصوص. وعمل شعر أبي فراس؛ وتكلم عن غريبه ومعانيه في نحو ألف ورقة، وغير ذلك. وكان مولده سنة اثنتي عشرة ومائتين وتوفي سنة خمس وسبعين ومائتين في خلافة المعتمد. وقيل: توفي سنة تسعين ومائتين في خلافة المكتفي، والأول أصح. قال الصولي: كنا عند أحمد بن يحيى ثعلب، فنعي إليه السكري، فقال: المرء يخلق وحده ... ويموت يوم يموت وحده والناس بعدك إن هلك ... ت كمن رأيت الناس بعده ابن مهران وأما أبو بكر عبد الله بن مهران النحوي؛ فإن كان ثقة، وكان ضريراً. وذكر أحمد بن كامل أنه سمع منه بمنزله سنة سبع وسبعين ومائتين في خلافة المعتمد. إبراهيم الحربي وأما أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الحربي، فإنه كان قيماً بالأدب، جماعاً للغة، زاهداً، حافظاً للحديث، عالماً بالفقه. وصنف كتباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 كثيرة، منها كتاب غريب الحديث وغيره. وكان أصله من مرو، وإنما قيل له الحربي لما روى أبو إسحاق بن إبراهيم ابن حبيش، قال: [سمعت أبا إسحاق الحربي يقول: أمي تغلبية، وكان أخوالي نصار أكثرهم] : قلت له: لم سميت الحربي؟ فقال: صحبت قوماً من الكرخ على الحديث، وعندهم ما جاوز قنطرة العتيقة، من الحربية، فسموني الحربي بذلك. وأخذ الأدب عن أبي العباس ثعلب. وقال أبو عمرو الزاهد: سمعت ثعلباً يقول: ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس نحو أو لغة خمسين سنة، وقال: سمعت ثعلباً يقول ذلك مراراً. وحكى أبو الحسين بن المنادي عن ثعلب مثل ذلك. وقال محمد بن صالح: لا تعلم أن بغداد أخرجت مثل إبراهيم الحربي في الأدب والفقه والحديث والزهد. قال أبو بكر أحمد بن يعقوب القرنجلي اللخمي: حدثنا أبو إسحاق الحربي، وقسماً ما رأيت بعيني مثله. وقال إبراهيم الحربي: في كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أبي عبيد "غريب الحديث" مائة وخمسة وعشرون حديثاً؛ ليس لها أصل؛ قد علمت عليها في كتابي. وسئل أبو الحسن الدارقطني عن إبراهيم الحربي، فقال: كان إماماً، وكان يقاس بالإمام ابن حنبل في زهده وعلمه وورعه. وعنه أيضاً أنه قال: أبو إسحاق الحربي إمام مصنف عالم بكل شيء، بارع في كل علم، صدوق. وكان مولده سنة ثمان وتسعين ومائة، وتوفي ببغداد سنة خمس وثمانين ومائتين، وصلى عليه أبو يوسف يعقوب القاضي في شارع الأنبار. أبو عبد الله محمد بن علي وأما أبو عبد الله محمد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنه كان أحد الأدباء والشعراء والعلماء برواية الأخبار، أخذ عن أبي عثمان المازني، والعباس بن الفرج الرياشي. قال ابن أبي حاتم الرازي: سمعت منه؛ وهو صدوق ثقة. مات سنة ست وثمانين ومائتين، وقيل: سبع وثمانين في خلافة المعتضد بالله أبي العباس أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 علي بن عبد العزيز وأما علي بن عبد العزيز؛ فإنه كان عالماً باللغة، أخذ عن أبي عبيد، وروى عنه علي بن إبراهيم القطان. وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين. المبرد وأما أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي المعروف بالمبرد - والثمالي منسوب إلى ثمالة بن مسلم بن كعب بن الحارث بن كعب - فكان شيخ أهل النحو والعربية، وإليه انتهى علمها بعد طبقة أبي عمر الجرمي، وأبي عثمان المازني. وكان من أهل البصرة، وأخذ عن أبي عمر الجرمي، وأبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وغيرهم من أهل العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وكان يعول على المازني. ويقال: إنه بدأ بقراءة كتاب سيبويه على الجرمي، وختمه على المازني. وكان إسماعيل القاضي - وهو أقدم مولداً منه - يقول: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه. وأخذ عنه الصولي ونفطويه النحوي، وأبو علي الطوماري، وجماعة كثيرة. وكان حسن المحاضرة، مليح الأخبار، كثر النوادر، قال أبو سعيد السيرافي: سمعت أبا بكر بن مجاهد يقول: ما رأيت أحسن جواباً من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قول لمتقدم. وسمعته يقول: لقد فاتني منه علم كثير لقضاء زمام ثعلب. وقال السيرافي: وسمعت نفطويه يقول: ما رأيت أحفظ لأخبار بغير أسانيد منه ومن أبي العباس بن الفرات. وقال أبو سعيد: وقد نظر في كتاب سيبويه في عصره جماعة لم يكن لهم كنباهته، مثل أبي ذكوان القاسم بن إسماعيل، ومثل أبي علي بن ذكوان، ومثل أبي يعلى بن أبي زرعة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أصحاب المازني، ومثل أبي جعفر بن محمد الطبري، ومثل أبي عثمان الأشتانداني، وأبي بكر بن إسماعيل المعروف بمبرمان وغيرهم. وقال أبو عبد الله المفجع: كان المبرد لعظم حفظه اللغة واتساعه يتهم، فتوافقنا على مسألة لا أصل لها نسأله عنها، لننظر كيف يجيب، وكنا قبل ذلك تمارينا في عروض بيت الشاعر: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك، بعض الشر أهون من بعض فقال قوم: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني، فقطعناه، وتردد على أفواهنا تقطيعه ومنه "ق بعضنا"، فقلت له: أيدك الله تعالى! ما القبعض عند العرب؟ فقال: القطن، يصدق ذلك قول الشاعر: كأن سنامها حُشِيَ القبعضا قال: فقلت لأصحابه: ترون الجواب والشاهد؛ إن كان صحيحاً فهو عجيب، وإن كان اختلق الجواب في الحال فهو أعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقال أبو بكر بن الأزهر: حدثني محمد بن يزيد المبرد، قال: قال لي المازني: بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى مواضع المجانين والمعالجين، فما معنى ذلك؟ قال: فقلت: أعزك الله تعالى! إن لهم طرائف من الكلام، قال: فأخبرني بأعجب ما رأيته من المجانين، قال: فقلت: دخلت يوماً إليهم، فمررت على شيخ منهم وهو جالس على حصير قصب، فجاورته إلى غيره، فقال: سبحان الله تعالى! أين السلام! مَن المجنون؟ أنا أم أنت! فاستحييت منه، فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا [حسن] الرد؛ على أنا نصرف سوء أدبك على أحسن جهاته من العذر؛ لأنه كان يقال: [إن] للداخل على القوم دهشة؛ اجلس أعزك الله تعالى عندنا! وأومأ إلى موضع من الحصير، فقعدت ناحية استجلب مخاطبته، فقال لي: وقد رأى معي مجبرة: أرى معك آلة رجلين، أرجو أن تكون أحدهما، تجالس أصحاب الحديث الأخفاف، أو الأدباء أصحاب النحو والشعر؟ قلت: الأدباء، قال: أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الذي يقول فيه: وفتى من مازن ... ساد أهل البصره أمه معرفة ... وأبوه نكره فقلت: لا أعرفه، فقال: أتعرف غلاماً [له] قد نبغ في هذا العصر، معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ذهن وله حفظ، وقد برز في النحو يعرف بالمبرد؟ فقلت: أنا والله عين الخبير به، قال: فهل أنشدك شيئاً من شعره؟ قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر، فقال: يا سبحان الله! أليس هو القائل: حبذا ماء العناقي ... د بريق الغانيات بهما ينبت لحمي ... ودمي أي نبات أيها الطالب أشهى ... من لذيذ الشهوات كل بماء المزن تفا ... ح خدود الفتيات قلت: قد سمعته ينشد هذا في مجلس الأنس، فقال: يا سبحان الله! أولا يستحي أن ينشد مثل هذا حول الكعبة! ثم قال: وما تسمع ما يقولون في نسبه؟ قلت: يقولون: هو من الأزد أزد شنوءة، ثم من ثمالة، قال: قاتله الله! ما أبعد غوره! أتعرف قوله: سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون: ومن ثماله فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهاله فقال لي المبرد: خل قومي ... فقومي معشر فيهم نذاله فقلت: أعرف هذه الأبيات لعبد الصمد بن المعذل، يقولها فيه. فقال: كذب من ادعاها! هذا كلام رجل لا نسب له يريد أن يثبت له بهذا الشعر نسباً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فقلت له: أنت أعلم، فقال: يا هذا قد غلبت خفة روحك على قلبي، وقد أخرت ما كان يجب تقديمه؛ ما الكنية أعزك الله! قلت: أبو العباس، قال: فما الاسم؟ قلت: محمد، قال: فالأب؟ قلت: يزيد، قال: قبحك الله! أحوجتني إلى الاعتذار مما قدمت ذكره، ثم وثب باسطاً يده يصافحني، فرأيت القيد في رجله إلى خشبة، فأمنت غائلته، فقال: يا أبا العباس، صن نفسك عن الدخول إلى هذه المواضع، فليس يتهيأ من كل وقت أن نصادف مثلي على مثل هذه الحال؛ أنت المبرد، أنت المبرد! وجعل يصفق، وقد انقلبت عينه، وتغيرت حليته، فبادرت مسرعاً خوفاً أن تبدر لي منه بادرة، وقبلت والله منه، فلم أعاود الدخول إلى مخيس بعدها. ويروى أن أبا العباس ثعلب تخلف أبا العباس المبرد بكلام قبيح، فبلغ ذلك المبرد، فأنشد: رب من يعنيه حالي ... وهو لا يجزي ببالي قلبه ملآن مني ... وفؤادي منه خالِ فلما بلغ ثعلباً ذلك لم يسمع منه بعد ذلك في حقه كلمة قبيحة. وحكى أبو بكر بن السراج عن محمد بن خلف، قال: كان بين أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب من المنافرة ما لا خفاء به؛ ولكن أهل التحصيل يفضلون المبرد على ثعلب، وفي ذلك يقول أحمد بن عبد السلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 رأيت محمد بن يزيد يسمو ... إلى الخيرات في جاه وقدر جليس خلائف وغذى ملك ... وأعلم من رأيت بكل أمر وكان الشعر قد أودى فأحيا ... أبو العباس دارس كل شعر وقالوا ثعلب رجلٌ عليم ... وأين النجم من شمس وبدر! وقالوا ثعلبٌ يفتي ويملي ... وأين الثعلبان من الهزبر! ويحكى أن بعض أكابر أولاد طاهر سأل أبا العباس ثعلباً أن يكتب له مصحفاً على مذهب أهل التحقيق، فكتب "والضحى" بالياء، ومن مذهب الكوفيين أنه إذا كان أول الكلمة من هذا النحو ضمة أو كسرة كتبت بالياء؛ وإن كان من ذوات الواو، والبصريون يكتبون بالألف. فنظر المبرد في ذلك المصحف فقال: ينبغي أن يكتب "والضحى" بالألف لأنه من ذوات الواو، فجمع ابن طاهر بينهما، فقال المبرد لثعلب: لم كتبت "والضحي" بالياء؟ فقال: لضم أوله: فقال له: ولم تضم أوله وهو من ذوات الواو وتكتبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بالياء؟ فقال: لأن الضمة تشبه الواو، وما أوله واو يكون آخره ياء، فتوهموا أن أوله واو، فقال أبو العباس المبرد: أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة! ولبعضهم في مدح المبرد: وأنت الذي لا يبلغ الوصف مدحه ... وإن أطنب المداح في كل مطنبِ رأيتك والفتح بن خاقان راكباً ... وأنت عديل الفتح في كل موكب وكان أمير المؤمنين إذا رنا ... إليك يطيل الفكر بعد التعجب وأوتيت علماً لا يحيط بكنهه ... علوم بني الدنيا ولا علم لتعجب يروح إليك الناس حتى كأنهم ... ببابك في أعلى مني والمحصب. وقال الزجاج: لما قدم المبرد بغداد، جئت لأناظره، وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب، فعزمت على إعناته. فلما فاتحته ألجمني بالحجة، وطالبني بالعلة، وألزمني إلزامات لم أهتد إليها، فتيقنت فضله، واسترجحت عقله، وأخذت في ملازمته. ولبعضهم في مدحه: وإذا يقال: من الفتى كل الفتي ... والشيخ والكهل الكريم العنصر والمستضاء بعلمه وبرأيه ... وبعقله؟ قلتُ: ابن عبد الأكبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قال أبو العباس بن عمار: صحف محمد بن يزيد المبرد في كتاب "الروضة" في قوله: حبيب بن خدره، فقال جدرة وفي ربعي بن حراش، فقال: خراش. وصنف كتباً كثيرة، ومن أكبرها كتاب المقتضب؛ وهو نفيس؛ إلا أنه قلما يشتغل به أو ينتفع به؛ قال أبو علي: نظرت في كتاب المقتضب فما انتفعت منه بشيء إلا بمسألة واحدة؛ وهي وقوع إذا جواباً للشرط في قوله تعالى:] وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون [. قال المصنف: وكان السر في عدم الانتفاع به، أن أبا العباس لما صنف هذا الكتاب، أخذه عن ابن الراوندي المشهور بالزندقة وفساد الاعتقاد، وأخذه الناس من يد ابن الراوندي وكتبوه منه؛ فكأنه عاد عليه شؤمه فلا يكاد ينتفع به. وقال أبو بكر بن السراج: كان مولد المبرد سنة عشر ومائتين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ومات سنة خمس وثمانين ومائتين. وكذلك قال محمد بن العباس: قرئ على ابن المنادي وأنا أسمع: مات محمد بن يزيد المبرد في شوال سنة خمس وثمانين ومائتين، في خلافة المعتضد بالله تعالى. ولثعلب في المبرد حين مات: ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وليذهبن مع المبرد ثعلبا. بيتٌ من الآداب أضحى نصفه ... خرباً وباقي النصف منه سيخرب فتزدوا من ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قريب يثرب أوصيكمو أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب أبو العباس ثعلب وأما أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني النحوي المعروف بثعلب، فإنه كان إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه. أخذ عن محمد بن زياد الأعرابي وعلي بن المغيرة الأثرم وسلمة بن عاصم ومحمد بن سلام الجمحي والزبير بن بكار وأبي الحسن أحمد بن إبراهيم. وأخذ عنه أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، وابن عرفة، وابن الأنباري، وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 عمر الزاهد، وأبو موسى الحامض، وإبراهيم الحربي، وغيرهم. وكان ثقة ديناً مشهوراً بصدق اللهجة والمعرفة بالغريب، ورواية الشعر القديم، مقدماً بين الشيوخ وهو حدث. ويروى أن ابن الأعرابي كان يقول له: "ما تقول في هذا يا أبا العباس؟ " ثقة بغزارة علمه وحفظه. ولد سنة مائتين. وكان يقول: مات معروف الكرخي سنة مائتين، وفيها ولدت، وطلبت العربية في سنة ست عشرة ومائتين، وابتدأت بالنظر في حدود الفراء ولي ثمان عشرة سنة، وبلغت خمساً وعشرين سنة وما بقي علي للفراء مسألة إلا وأنا أحفظها وأضبط موضعها من الكتاب، ولم يبق من كتب الفراء في هذا الوقت شيء إلا وأنا قد حفظته. وقال أبو بكر بن محمد التاريخي: أحمد بن يحيى ثعلب أصدق أهل العربية لساناً، وأعظمهم شأناً، وأبعدهم ذكراً، وأرفعهم قدراً، وأوضحهم علماً، وأرفعهم حلماً، وأثبتهم حفظاً، وأوفرهم حظّاً في الدين والدنيا. وقال المبرد: أعلم الكوفيين ثعلب، فذكر [له] الفراء، فقال: لا يعشره. وقال علي بن جمعة بن زهير: سمعت أبي يقول: لا يرد عرصات القيامة أحد أعلم بالنحو من أبي العباس ثعلب. ويحكي ثعلب عن عمارة بن عقيل أنه كان يقرأ:] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ولا الليل سابق النهار [بنصب "النهار"، فقال: ما أردت؟ فقال: أردت "سابقٌ النهار" يعني بالتنوين؛ فقال له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن، أي أقوى. ويحكى عنه، أنه قال في قول الشاعر: وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم ... من الناس ذنباً جاءه وهو مسلما معناه: وما كنت الدهر أخشى إحلاس مسلم مسلماً ذنباً جاءه. وهو لو وكد الضمير لكان أحسن، وغير التوكيد جائز. وكذلك حكى أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن العرب: "راكب الناقة طليحان" وتقديره: "راكب الناقة والناقة طليحان"، إلا أنه حذف المعطوف لتقدم ذكر الناقة، والشيء إذا تقدم دل على ما هو مثله. ويحكى عنه أيضاً أنه قال في قوله: يرد طيخاً وهديراً زغدبا إنه من زغد زغداً في هديره، إذا هدر هديراً شديداً، من قولهم: زغد عكته، إذا عصرها ليخرج سمنها، فجعل الباء زائدة؛ وهذا بعيد جداً؛ وإنما هو من الأصلين المتداخلين: الثلاثي والرباعي، كسبط وسبطر، ودمث ودمثر، ولا خلاف أن الراء ليست زائدة؛ لأنها ليست من حروف الزيادة، وكذلك الباء في "زغدب" ليست زائدة، لأنها ليست من حروف الزيادة. ويحكى عنه أيضاً أنه قال: الطيخ: الفساد، وهو من تواطخ القوم، وهذا معدود أيضاً من سقطات العلماء. وقال أبو بكر بن مجاهد: كنت عند أبي العباس ثعلب، فقال: يا أبا بكر، اشتغل أهل القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو؛ فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة! فانصرفت من عنده تلك الليلة، فرأيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقال: "أقرئ أبا العباس عني السلام، وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل". قال أبو عبد الله الروذباري: أراد أن الكلام به يكمل، والخطاب به يجمل. ويروى عنه أيضاً أنه قال: أراد أن جميع العلوم مفتقرة إليه. وتوفي أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ليلة السبت لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين ومائتين، في خلافة المكتفي أبي محمد علي بن المعتضد، ودفن في مقبرة باب الشام ببغداد. عبد الله بن المعتز وأما عبد الله بن المعتز بالله، أمير المؤمنين، فإنه كان غزير الفضل، بارعاً في الأدب، حسن الشعر كثيره؛ ومنه قوله: أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا عليه السلام وارعوى باطلي وبان حديث النف ... س مني وعفت الأحلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ومنه قوله: أخ لي يعطيني الرضا في دنوه ... ويمنعني بعض الرضا وهو بائن إذا ما التقينا سرني منه ظاهر ... وإن غاب عني ساءني منه باطن على غير ذنب غير أن مساويا ... له علمتني كيف تؤتى المحاسن وقوله أيضاً: ما المغاني من بعدهم بالمغاني ... فليكن شأنك البكاء وشاني امحى ربعهم وكان جديداً=ونأى عنهم الذي كان دان ما مررنا على لوًى فيه نعم=مذ مررنا على لوَى نعمان ومحاسن شعره كثيرة [جداً] . أخذ عن أبي العباس المبرد وأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب. وروى عنه أدبه أحمد بن سعيد الدمشقي - وكان مؤدبه - وروى عنه شعره محمد بن يحيى الصولي وغيره. وولد لسبع بقين من شعبان سنة أربع وأربعين ومائتين، وبويع بد المقتدر، فبقي يوماً واختلف عليه، فأمر المقتدر بحمله إليه فحمل إليه، وقتل في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ابن كيسان وأما أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي، فإنه كان أحد المشهورين بالعلم، والمعروفين بالفهم؛ أخذ عن أبي العباس المبرد، وأبي العباس ثعلب، وكان قيما بمعرفة البصريين والكوفيين، وكيسان لقب لأبيه كذلك. قال أبو القاسم بن برهان النحوي: وكان لابن كيسان مصنفات كثيرة؛ منها المهذب في النحو، وشرح الطوال؛ إلى غير ذلك. وكان أبو بكر بن مجاهد يقول: كان أبو الحسن بن كيسان أنحى من الشيخين - يعني المبرد وثعلبا. وتوفي سنة تسع وتسعين ومائتين، وذلك في خلافة أبي الفضل جعفر المقتدر بالله تعالى بن المعتضد. ابن المنجم وأما أبو أحمد يحيى بن علي بن أبي منصور المعروف بابن المنجم، فإنه كان أديباً شاعراً، ونادم غير واحد من الخلفاء. أخذ عن إسحاق الموصلي وغيره، وأخذ عنه أبو بكر الصولي وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 قال أبو عبد الله المرزباني: أبو أحمد المنجم، أديب شاعر مطبوع، أشعر أهل زمانه، وأحسنهم أدباً، وأكثرهم افتناناً في علوم العرب والعجم، وجالس المعتضد والمكتفي من بعده، وهو من أشجار الأدب الناضرة، وأنجمه الزاهرة. ولد سنة إحدى وأربعين ومائتين، وتوفي في سنة ثلثمائة. وقال هلال بن المحسن: توفي يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ثلثمائة، وسنه ثمان وخمسون سنة، في خلافة المقتدر بالله تعالى. محمد بن فرح وأما أبو جعفر محمد بن فرح - بالحاء المهملة - فإنه كان أحد العلماء بنحو الكوفيين. وأخذ عن سلمة بن عاصم صاحب الفراء، وروى عنه أبو بكر محمد بن عبد الملك التاريخي. يموت بن المزرع وأما يموت بن المزرع العبدي، ابن أخت الجاحظ، فإنه من عبد قيس، وكان صاحب آداب وملح وأخبار. أخذ عن جماعة من علماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 العربية: أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، ونصر بن علي الجهضمي، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي. وكان يسمى محمداً، ويموت هو الغالب عليه. قال أبو محمد بن عمر بن محمد بن يوسف بن يعقوب القاضي: سمعت يموت بن المزرع يقول: بليت بالاسم الذي سماني به أبي، فإني إذا عدت مريضاً فاستأذنت عليه فقيل لي: من ذا؟ قلت: أنا ابن المزرع، فأسقطت اسمي. قال أبو سليمان محمد بن عبد الله بن أحمد: مات يموت بن المزرع بطبرية سنة ثلاث وثلثمائة. وذكر [أبو] سعيد بن يونس المصري أنه توفي بدمشق سنة أربع وثلثمائة في خلافة المقتدر بالله تعالى. أبو جعفر النحوي الطبري وأما أبو جعفر أحمد بن محمد الطبري النحوي، فإنه حدث عن نصير وهاشم بن عبد العزيز صاحبي الكسائي. وذكر ابن سيف أنه سمع منه سنة أربع وثلثمائة، وذلك في خلافة المقتدر بالله تعالى. أبو حنيفة الدينوري وأما أبو حنيفة أحمد بن داود، فكان ذا علوم كثيرة، منها النحو، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 واللغة، والهندسة، والحساب، والهيئة. وكان ثقة فيما يرويه. وله من الكتب: كتاب الباء، وكتاب ما يلحن فيه العامة، وكتاب الشعر والشعراء، وكتاب الفصاحة، وكتاب الأنواء، وكتاب حساب الدور، وكتاب البحث في حساب الهند، وكتاب الجبر والمقابلة، وكتاب البلدان، وكتاب النبات - ولم ير في معناه مثله - إلى غير ذلك. أبو موسى الحامض وأما أبو موسى سليمان بن محمد بن أحمد الحامض، فإنه كان نحوياً مذكوراً بارعاً مشهوراً من نحاة الكوفيين. أخذ عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وهو من أكابر أصحابه، وهو المقدم منهم، ومن خلفه بعد موته، وجلس مكانه. وألف كتباً؛ منها غريب الحديث، وخلق الإنسان والوحوش والنبات. وروى عنه أبو عمر الزاهد، وأبو جعفر الأصبهاني المعروف ببزرويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وكان ثقة صالحاً. وقال أبو الحسن محمد بن جعفر بن هارون: أما أبو وموسى الحامض؛ فإنه كان أوحد في البيان والمعرفة وبالعربية واللغة والشعر. حكى أبو علي النقار، قال: دخل أبو موسى الكوفة، وسمت عليه كتاب الإدغام عن ثعلب، عن سلمة، عن الفراء. قال أبو علي: فقلت له: أراك تلخص الجواب تلخيصاً ليس في الكتب! فقال: هذا ثمرة صحبة أبي العباس ثعلب أربعين سنة. وقال طلحة بن محمد بن جعفر: توفي أبو موسى الحامض ليلة الخميس لسبع بقين من ذي الحجة، سنة خمس وثلثمائة في خلافة المقتدر بالله تعالى. أبو عبد الله اليزيدي وأما أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد اليزيدي، فإنه أخذ عن عمه عبيد الله وعن أبي العباس ثعلب وأبي الفضل الرياشي. وكان راوية للآداب. وروى عنه أبو بكر الصولي، وأبو عبيد الله العسكري، وعمر بن محمد بن سيف وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قال ابن سيف: توفي أبو عبد الله اليزيدي ليلة الأحد أول الليل لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر جمادى الآخرة، سنة عشر وثلثمائة؛ وكان قد بلغ اثنتين وثمانين سنة وثلاثة أشهر؛ وذلك في خلافة المقتدر بالله تعالى. الزجاج وأما أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج؛ فإنه كان من أكابر أهل العربية، وكان حسن العقيدة، جميل الطريقة. وصنف مصنفات كثيرة؛ منها كتاب المعاني في القرآن، وكتاب الفرق بين المؤنث والمذكر، وكتاب فعلت وأفعلت، والرد على ثعلب في الفصيح؛ إلى غير ذلك. وكان صاحب اختيار علمي النحو والعروض. وقال أبو محمد بن درستويه: حدثني أبو إسحاق الزجاج، قال: كنت أخرط الزجاج، فاشتهيت النحو، فلزمت أبا العباس المبرد، وكان لا يعلِّم مجاناً، وكان لا يعلم بأجرة إلاّ على قدرها، فقال: أي شيء صناعتك؟ فقلت: أخرط الزجاج، وكسبي كل يوم درهم ونصف، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أشرط أن أعطيك كل يوم درهماً أبداً إلى أن يفرق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه. قال: فلزمته، وكنت أخدمه في أموره، ومع ذلك أعطيه الدرهم؛ فنصحني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 في العلم حتى استقللت، فجاءه كتاب من بعض الأكابر من الصراة يلتمسون معلماً نحوياً لأولادهم، فقلت له: أسمني له، فأسماني فخرجت، فكنت أعلمهم وأنفذ إليه في كل شهر ثلاثين درهماً، وأتفقده بعد ذلك بما أقدر عليه، وبقيت مدة على ذلك، فطلب عبيد الله بن سليمان مؤدباً لابنه قاسم، فقال: لا أعرف لك إلاّ رجلاً زجاجاً عند قوم بالصراة، قال: فكتب إليهم عبيد الله، فاستنزلهم عني، وأحضرني، وأسلم إلي القاسم، فكان ذلك سبب غناي، وكنت أعطي أبا العباس المبرد بعد ذلك في كل يوم؛ إلى أن مات إلى رحمة الله تعالى. وعن علي بن عبد العزيز الطاهري، قال: أخبرنا أبو محمد الوراق - جار لنا - قال: كنت بشارع الأنبار وأنا صبي يوم نيروز، فعبر رجل راكب، فبادر بعض الصبيان، فقلب عليه ماء، فأنشأ يقول وهو ينفض رداءه: إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قل ماؤه فلما عبر قيل لنا: هذا أبو إسحاق الزجاج. قال الطاهري: شارع الأنبار هو النافذ إلى الكبش والأسد. وقال أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: توفي أبو إسحاق الزجاج في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثلثمائة. وقال غيره: توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من الشهر، في خلافة المقتدر بالله تعالى. ابن الخياط وأما أبو بكر محمد بن أحمد بن منصور المعروف بابن الخياط، فإنه كان من أهل سمرقند، قد بغداد، واجتمع بأبي إسحاق الزجاج، وجرت بينهما مناظرة. وكان يخلط المذهبين. وله كتب؛ منها كتاب معاني القرآن، وكتاب النحو الكبير، وكتاب المقنع. أبو الحسن الأخفش وأما أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش؛ فإنه كان من أفاضل علماء العربية؛ أخذ عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، وأبي العيناء الضرير و [فضلاً] اليزيدي؛ وأخذ عنه أبو عبيد الله المرزباني والمعافى بن زكريا، وعلي بن هارون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 القرميسيني؛ وكان ثقة. قال أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: توفي أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش في ذي القعدة سنة خمس عشرة وثلثمائة، وذلك في خلافة المقتدر بالله تعالى. ابن السراج وأما أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج، فإنه كان أحد العلماء المذكورين، وأئمة النحو المشهورين. أخذ عن أبي العباس المبرد، وإليه انتهت الرياسة في النحو بعد المبرد، وأخذ عنه أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، وأبو سعيد السيرافي، وأبو علي الفارسي، وعلي بن عيسى الرماني. وله مصنفات حسنة، وأحسنها وأكبرها كتاب الأصول؛ فإنه جمع فيه أصول علم العربية. وأخذ مسائل سيبويه ورتبها أحسن ترتيب. وكان ثقة. ويقال: إنه اجتمع هو وأبو بكر بن مجاهد وإسماعيل القاضي في بستان، وكان فيد دولاب، فعنّ لهم أن يعبثوا بإدارتها، فلم يقدروا على ذلك، فالتفت أحدهم، وقال: أما تستحيون! مقرئ البلد ونحويه وقاضيه، لا يجيء منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ثور! قال أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: توفي أبو بكر بن السراج يوم الأحد، لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ست عشرة وثلثمائة في خلافة المقتدر بالله تعالى. ابن شقير أما أبو بكر أحمد بن الحسن بن الفرج بن شقير النحوي، فإنه كان عالماً بالنحو، وكان على مذهب الكوفيين، أخذ عن أحمد بن عبيد بن ناصح، وأخذ عنه ابن شاذان. وله من الكتب: كتاب مختصر في النحو، وكتاب في المقصور والممدود، وكتاب في المذكر والمؤنث. وقال أبو الحسن الدارقطني: أبو بكر أحمد بن الحسن بن شقير النحوي بغدادي، توفي سنة خمس عشرة وثلثمائة. قال أبو بكر الخطيب: وهم الدارقطني في وفاته، وإنما كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وفاته سنة سبع عشرة - وكذلك ذكر أبو الفتح عبيد الله بن أحمد المعروف بجخجخ - في خلافة المقتدر بالله تعالى. وكان من طبقة أبي بكر بن السراج وأبي بكر المعروف بمبرمان، وأبي بكر ابن الخياط، وكان مثله في الميل إلى مذهب الكوفيين. أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول وأما أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول بن حسان، فأنباري الأصل، وكان أديباً فاضلاً فقيهاً، ولي قضاء مدينة المنصور عشرين سنة. قال طلحة بن محمد بن جعفر - وقد سمي قضاة بغداد: أحمد بن إسحاق ابن البهلول بن حسان التنوخي، من أهل الأنبار، عظيم القدر، واسع الأدب، تام المروءة، حسن الفصاحة، حسن المعرفة بمذهب أهل العراق؛ إلاّ أنه غلب عليه الأدب، ولم يزل على قضاء المدينة من سنة ست وتسعين ومائتين إلى شهر ربيه الآخر من سنة ست عشرة وثلثمائة، ثم صرف. قال الخطيب: أخبرنا علي بن أبي غالب المعدل، قال: قال أبي: ولد أحمد بن إسحاق بن البهلول بالأنبار في المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ومات ببغداد في شهر ربيع الآخر سنة ثمان عشرة وثلثمائة، قال: وكان [له] في علوم شتى: [منها] الفقه على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وربما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 خالفهم في مسيئلات يسيرة، وكان تام المعرفة باللغة، حسن القيام بالنحو على مذهب الكوفيين، وله فيه كتاب ألفه. وكان واسع الحفظ للشعر القدين والمحدث والأخبار الطوال والسير، والتفسير. وكان شاعراً كثير الشعر جيده، خطيباً حسن الخطابة والتفوه بالكلام، لَسِناً صالح الحفظ والترسل في الكتابة والبلاغة في المخاطبة، وكان ورعاً متخشعاً في الحكم؛ وتقلد القضاء بالأنبار وهيت وطريق الفرات من قبل الموفق بالله الناصر لدين الله تعالى سنة ست وسبعين ومائتين، ثم تقلد للناصر مرة أخرى، ثم تقلد للمعتضد، ثم تقلد بعض كور الجبل للمكتفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ولم يخرج إليها. ثم قلده المقتدر بالله تعالى سنة ست وتسعين ومائتين بعد فتنة ابن المعتز القضاء بمدينة المنصور من مدينة السلام والأنبار وهيت وطريق الفرات، وأضاف إلى ذلك بعض سنين القضاء بكور الأهواز مجموعة لما مات قاضيها، وهو محمد بن خلف المعروف بوكيع، فما زال على هذه الأعمال حتى صرف عنها سنة سبع عشرة وثلثمائة. قال أبو طالب محمد بن القاضي أبي جعفر بن البهلول: كنت مع أبي في جنازة بعض أهل بغداد من الوجوه، وإلى جانبه [في الحق] أبو جعفر الطبري، فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسليه، وينشده أشعاراً، ويروي له أخباراً، فداخله الطبري في ذلك، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم واستحسنها الحاضرون وأعجبوا بها، وتعالى النهار، وافترقنا؛ فلما جعلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 أسير خلفه، قال لي أبي: يا بني؛ من هذا الشيخ الذي داخلنا اليوم في المذاكرة؟ من هو؟ تعرفه؟ قلت: يا سيدي كأنك لم تعرفه! قال: لا، فقلت: هذا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، فقال: إنا لله! ما أحسنت عشرتي يا بني! ألا قلت لي في الحال، فكنت إذا كره بغير تلك المذاكرة! هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في صنوف العلوم، وما ذاكرته بحسبها. قال: ومضت على هذا مدة، فحضرنا في حق آخر، وجلسنا؛ وإذا بالطبري يدخل إلى الحق، فقلت [له] : قليلاً قليلاً، أيها القاضي، هذا أبو جعفر الطبري؛ قد مقبلاً، فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه، وأوسعت له حتى جلس إلى جنبه، وأخذ يجاريه، فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتاً، قال أبي: هاتها يا أبا جعفر إلى آخرها؛ فيتلعثم الطبري، فينشدها أبي إلى آخرها، وكان كلما ذكر شيئاً من السير، قال أبي: كان هذا في قصة فلان، يوم بنى فلان، مر أبا جعفر فيه، فربما مر، وربما تلعثم، فمر أبي، فيمر أبي في جميعه، قال: فما سكت أبي في ذلك اليوم إلى الشهر، وبان للحاضرين قصور الطبري عنه، ثم قمنا، فقال لي أبي: الآن شفيت صدري! وعن أبي إسحاق بن إدريس النحوي المعروف بابن سيار، قال: سمعت أبا بكر بن الأنباري؛ يقول: ما رأيت صاحب طيلسان أنحى من أبي جعفر بن البهلول. قال يوسف بن عمر بن الحسين بن محمد الخلال: توفي أبو جعفر بن البهلول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 سنة ثمان عشرة وثلثمائة - وقيل: سنة سبع عشرة، وهو أصح - وقيل: سنة عشرة، وهو أصح - في خلافة المقتدر بالله تعالى. ابن دريد وأما أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، فإنه ولد بالبصرة. قال: الحسن بن عبد الله بن سعيد اللغوي: سمعت ابن دريد يقول: ولدت بالبصرة سنة ثلاث وعشرين ومائتين. ونشأ بعمان، وطلب علم النحو، وأخذ عن أبي حاتم السجستاني وأبي الفضل الرياشي وعبد الرحمن، ابن أخي الأصمعي. وكان من أكابر علماء العربية مقدماً في اللغة وأنساب العرب وأشعارهم، وأخذ عنه أبو سعيد السيرافي، وأبو عبيد الله المرزباني. وكان شاعراً كثير الشعر، فمن ذلك المقصورة المشهورة، ومنه أيضاً القصيدة المشهورة، التي جمع فيها المقصور والممدود؛ إلى غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وقال محمد بن رزق بن علي الأسدي: كان يقال: إن أبا بكر بن دريد أعلم الشعراء، وأشعر العلماء. وله من الكتب: كتاب الخمهرة في اللغة، وكتاب الاشتقاق، وكتاب الخيل الكبير، وكتاب الخيل الصغير، وكتاب الأنواء، وكتاب الملاحن، وكتاب أدب الكتاب، وكتاب المجتبى، وكتاب المقتنى؛ إلى غير ذلك. وحكى أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، قال: سألت أبا بكر بن دريد عن الكاغد، فقال: يقال بالدال المهملة، وبالذال المعجمة، وبالظاء المعجمة. وقال جمزة بن يوسف: سألت أبا الحسن الدار قني عن ابن دريد، فقال: تكلموا فيه. وقال أبو حفص عمر بن شاهين الواعظ: كنا ندخل على أبي بكر بن دريد ونستحيي منه مما نرى من العيدان المعلقة، والشراب المصفى، وقد كان جاوز التسعين. ويحكى أن أبا بكر بن دريد قال لأصحابه: رأيت البارحة في المنام آتياً أتاني، فقال لي: لم لا تقول في الخمر شيئاً؟ فقلت: وهل ترك أبو نواس فيها لأحد قولا! قال: نعم، أنت أشعر منه حيث يقول: وحمراء قبل المزج، سفراء بعده ... أتت بين ثوبَيْ نرجسٍ وشقائق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا ... عليها مجاجا، فاكتست لون عاشق فقلت: من أنت؟ قال: شيطانك. وسألته عن اسمه فقال: أبو زاجية، وأخبره أنه يسكن بالموصل. وذكر إسماعيل بن سويد أن سائلاً جاء إلى ابن دريد، فلم يكن عنده غير دن نبيذ، فوهبه له، فجاءه غلامه، وأنكر عليه ذلك، فقال: أيشٍ اعمل! لم يكن عندي غيره. ويروى أنه قال:] لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [، فما تم اليوم حتى أهدى عشرة دنان، فقال لغلامه: تصدقنا بواحد، وأخذنا عشرة. وذكر ابن شاذان أن ابن دريد مات سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، في السنة التي خلع فيها القاهر بالله تعالى أبو منصور محمد بن المعتضد، وبويع الراضي بالله تعالى أبو العباس محمد بن المقتدر بالله تعالى. وذكر ابن كامل؛ أنه مات يوم الأربعاء لثمان عشرة ليلة خلت من شعبان من السنة المذكورة، وذكر أنه مات هو وأبو هاشم الجبائي في يوم واحد، ودفنا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مقبرة الخيرزان، وقال الناس: مات علم اللغة والكلام بموت ابن دريد والجبائي، ورثاه جحظة، فقال: فقدت بابن دريد كل منفعة ... لما غدا ثالث الأحجار والترب قد كنت أبكي لفقد الجود آونةً ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب نفطويه وأما أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة العنكي الأزدي الواسطي المعروف بنفطويه، فإنه كان عالماً بالحديث والعربية، وأخذ عن أبي العباس ثعلب وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، وسمع من محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الجهم وأصحاب المدائني. وأخذ عنه المعافى بن زكرياء، والمرزباني، وجماعة. وصنف كتباً كثيرة؛ منها غريب القرآن، وكتاب الرد على الجهمية، وكتاب النحل، وكتاب التاريخ، ومسألة "سبحان"، وغير ذلك. وكان ثقة. وسئل أبو الحسن الدارقطني عن إبراهيم بن محمد بن عرفة، فقال: لا بأس به، ويروى عن أبي المقرئ، قال: أنشدني إبراهيم نفطويه لنفسه: كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر وكم ظفرت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر كذلك الحب، لا إتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر وهو الذي تعرض بأبي بكر بن دريد في قوله: ابن دريد بقره ... وفيه لؤم وشره قد ادعى بجهله ... وضع كتاب الجمهره وهو كتاب العين إلاّ ... أنه قد غيره فأجابه ابن دريد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أف على النحو وأربابه ... قد صار من أربابه نفطويه أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخا عليه وكان يختضب بالوسمة. وذكر أن مولده سنة أربع وأربعين ومائتين، وتوفي يوم الأربعاء لست خلون من صفر سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة في خلافة الراضي، ودفن يوم الخميس بمقابر باب الكوفة، وصلي عليه البريهاري، فيما ذكر أحمد بن كامل القاضي. ويروى عن منصور بن ملاعب الصيرفي، قال: أنشدني إبراهيم نفطويه: أستغفر الله مما يعلم الله ... إن الشقي لمن لم يرحم الله هبه تجاوز لي عن كل مظلمة ... واسوءتا من جناتي يوم ألقاه! ابن الخراز وأما أبو الحسين عبد الله بن محمد الخراز النحوي؛ فإنه أخذ عن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 العباس محمد بن يزيد المبرد وأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وغيرهما. وله مصنفات في علوم القرآن، وكتاب المختصر في علوم العربية، وكتاب المقصور والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث؛ إلى غير ذلك. قال أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: توفي أبو الحسين الخراز النحوي، صاحب إسماعيل القاضي في شهر ربيع الأول، سنة خمس وعشرين وثلثمائة، في خلافة الراضي بالله تعالى. أبو بكر الأنباري وأما أبو بكر محمد بن القاسم بشار الأنباري النحوي، فإنه كان من أعلم الناس وأفضلهم في نحو الكوفيين، وأكثرهم حفظاً للغة؛ وكان زاهداً متواضعاً. أخذ عن أبي العباس ثعلب. وكان ثقة صدوقاً، من أهل السنة، حسن الطريقة. وألف كتباً كثيرة في علوم القرآن والحديث واللغة والنحو؛ فمنها الوقف والابتداء، وكتاب المشكل وغريب الحديث، وشرح المفضليات وشرح السبع الطوال، وكتاب الزاهر، وكتاب الكافي في النحو، وكتاب اللامات. وله الأمالي، وغير ذلك من المؤلفات. وكان يكتب عنه وأبوه حي، وكان يملي في ناحية المسجد وأبوه في ناحية أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وقال أبو علي إسماعيل بن القاسم: كان أبو بكر الأنباري يحفظ - فيما ذكر - ثلثمائة ألف بيت شاهد في القرآن. وقال حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق: كان أبو بكر الأنباري يملي كتبه المصنفة ومجالسه المشتملة على الحديث والأخبار والتفاسير والأشعار؛ كل ذلك من حفظه. وأملى كتاب غريب الحديث، قيل إنه خمس وأربعون ألف ورقة، وكتاباً في شرح الكافي، وهو نحو ألف ورقة، وكتاب الهاءات نحو ألف ورقة، وكتاب الأضداد؛ وما ألف في الأضداد أكبر منه، وشرح الجاهليات، وسبعمائة ورقة، والمذكر والمؤنث؛ ما عمل أحدٌ أتم منه. وعمل رسالة المشكل ردّاً على ابن قتيبة وأبي حاتم السجستاني وتقصى قولهما، وكتاب المشكل، أملاه وبلغ فيه إلى "طه" وما أتمه، وقد أملاه سنين كثيرة. وقال أحمد بن يوسف الأصبهاني: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقلت: يا رسول الله، عمن أخذ علم القرآن؟ فقال: عن أبي بكر الأنباري. وقال محمد بن جعفر التميمي: فأما أبو بكر بن القاسم الأنباري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فما رأينا أحفظ منه، ولا أغزر منه في علمه. وقال أبو الحسن العروضي: اجتمعت أنا وهو عند الراضي بالله على الطعام، وكان قد عرف الطباخ ما يأكل، فكان يسوي له قلية يابسة. قال: فأكلنا نحن من ألوان الطعام وأطايبه، وهو يعالج تلك القلية، ثم فرغنا وأتينا بحلوى، فلم يأكل منها، فقام وقمنا إلى الخيش، فنام بين يدي الخيش، ونمنا في خيش ينافس فيه، فلم يشرب ماء إلى العصر، فلما كان بعد العصر، قال: يا غلام الوظيفة! فجاءه بماء من الحب، وترك الماء المزمل [بالثلج] ، فغاظني أمره، فصحت صيحة: يا أمير المؤمنين! فأمر بإحضاري، وقال: ما قصتك؟ فأخبرته، وقلت: يا أمير المؤمنين، يحتاج [هذا] إلى أن يحال بينه وبين تدبير نفسه، لأنه يقتلها ولا يحسن عشرتها، فضحك وقال: له في هذه لذة، وقد جرت له به عادة، وصار آلفاً لذلك فلن يضره. ثم قلت: يا أبا بكر، لم تفعل هذا بنفسك؟ فقال: أبقي على حفظي، قلت له: قد أكثر الناس في حفظك، فكم تحفظ؟ فقال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقاً. وقال محمد بن جعفر: وهذا مما لم يحفظه أحد قبله ولا بعده، وكان أحفظ الناس للغة والشعر والتفسير. وحدث أنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً من تفاسير القرآن بأسانيدها. وقال أبو سعيد [بن] يونس: كان أبو بكر آية من آيات الله تعالى في الحفظ. وحكى أبو الحسن العروضي، قال: كان ابن الأنباري يتردد إلى أولاد الراضي بالله، فكان يوماً من الأيام قد سألته جارية عن تفسير شيء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الرؤيا، فقال: إني حاقن ثم مضى، فلما كان من الغد عاد وقد صار معبراً للرؤيا، وذلك أنه مضى من يومه، فدرس كتاب الكرماني. ويحكى أنه كان يأخذ الرطب ويشمه، ويقول: أما إنك طيب، ولكن أطيب منك ما وهب الله عز وجل لي من العلم. ويحكة أنه مر يوماً في النخاسين، وجارية تعرض، حسنة الصورة، كاملة الوصف؛ قال: فوقعت في قلبي، ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله تعالى، فقال: أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته، فأمر فاشتريت وحملت إلى منزلي ولم أعلم، فجئت فوجدتها، فعلمت كيف جرى الأمر، فقلت لها: كوني فوق إلى أن أستبرئك -وكنت أطلب مسألة قد اختلت علي- فاشتغل قلبي، فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاس، فليس يبلغ قدرها أن يشغل قلبي عن علمي - فأخذها الغلام، فقالت: دعني حتى أكلمه بحرفين، فقالت: أنت رجل لك محل وعقل، فإذا أخرجتني ولم تبين لي ذنبي، لم آمن من أن يظن الناس في ظناً قبيحاً، فعرفنيه قبل أن تخرجني. فقلت: مالك عندي عيب، غير أنك شغلتني عن علمي، فقالت: هذا سهل عندي. قال: فبلغ الراضي بأمره، فقال: لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى منه في قلب هذا الرجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وقال أبو بكر: دخلت البيمارستان بباب المحول، فسمعت صوت رجل في بعض البيوت، يقرأ:] أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده [، فقال: أنا لا أقف إلاّ على قوله تعالى:] كيف يبدئ الله الخلق [، فأقف على ما عرفه القوم [وأقروا به، لأنهم لم يكونوا يقرون بإعادة الخلقٍ، وابتدئ بقوله:] ثم يعيده [ليكون خبراً، وأما قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام:] وادَّكر بعد أمة [فهو وجه حسن، والأمة: النسيان. وأما أبو بكر بن مجاهد فهو إمام في القراءة، وأما قراءة ابن شنبوذ:] إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [فخطأ، لأن الله تعالى قد قطع لهم بالعذاب، في قوله تعالى:] إن الله لا يغفر أن يشرك به [؛ قال: فقلت لصاحب البيمارستان: من هذا الرجل؟ قال: إبراهيم الموسوس، مجنون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فقلت: ويحك! هذا أبي بن كعب، افتح الباب عنه، ففتحه عنه، فإذا أنا برجل منغمس في النجاسة والأدهم في رجليه، فقلت: السلام عليكم، فقال: كلمة مقولة، فقلت: ما منعك من رد السلام علي؟ قال: السلام أمان، وإني أريد أن امتحنك، ألست تذكر اجتماعنا عند أبي العباس -يعني ثعلباً- في يوم كذا- وعرفني ما ذكرته، وإذا به رجل من أفاضل أهل العلم، فقال: هذا الذي تراني فيه منغمساً، ما هو؟ قلت: الخرء. قال: وما جمعه؟ قلت: خروء، قال: صدقت، وأنشد: كأن خروء الطير فوق رؤوسهم ثم قال: أما والله لو لم تخبرني بالصواب لأطعمتك منه، فقلت: الحمد لله الذي أنجاني منك. وتركته وانصرفت. ويحكى أن أبا بكر بن الأنباري حضر مع جماعة من العدول؛ ليشهدوا على إقرار رجل، فقال أحدهم للمشهود عليه: ألا نشهد عليك؟ فقال: نعم، فشهد عليه الجماعة، وامتنع ابن الأنباري، وقال: إن الرجل منع أن يشهد عليه بقوله: نعم؛ لأن تقديره جوابه: "لا تشهدوا علي"، لأن حكم "نعم" أن يرفع الاستفهام، ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى:] ألست بربكم قالوا بلى [، ولو أنهم قالوا: "نعم" لكفروا، لأن حكم "نعم" أن يرفع الاستفهام، فلو قالوا: "نعم"، لكان التقدير: نعم لست ربنا، وهذا كفر، وإنما دل على إيمانهم قولهم: "بلى"، لأن معناها يدل على رفع النفي، فكأنهم قالوا: أنت ربنا، لأن "أنت" بمنزلة التاء التي في "ألست". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وقال أبو الحسن الدارقطني: حضرت أبا بكر الأنباري في مجلس إملائه يوم الجمعة، فصحف اسماً أورده في إسناد حديث؛ إما كان "حيان" فقال: "حبان" أو "حبان"، فقال: "حيان"، قال أبو الحسن: فأعظمت أن ينقل عن مثل مع فضله وجلاله وهم، وهبت أن أوقفه على ذلك. فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى المستملي، وذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه وانصرفت. ثم حضرت الجمعة الثانية، فقال أبو بكر للمستملي: عرف الجماعة الحاضرين، أنا صحفنا الاسم الفلاني، لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، نبهنا ذلك الشاب على الصواب وهو كذا، وعرف ذلك الشاب أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال. ويحكى أن أبا بكر بن الأنباري قال في اسم الشمس: "بوح" بالباء بنقطة من تحت، فرد عليه أبو عمر الزاهد، وقال: إنما هو "يوح" بالياء المعجمة بنقطتين من تحت، كذلك سمعته من أبي العباس ثعلب، والصحيح ما قال أبو عمر، والعالم من عدت سقطاته. ويحكى أن أبا بكر بن الأنباري مرض، فدخل عليه أصحابه يعودونه، فرأوا من انزعاج والده عليه أمراً عظيماً، فطيبوا نفسه، ورجوا عافية أبي بكر، فقال: كيف لا انزعج وأقلق لعلة من يحفظ جميع ما ترون - وأشار إلى حاري مملوء كتباً. ويحكى أنه لما وقع في مرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الموت أكل كل ما كان يشتهي، وقال: هي علة الموت. وقال محمد بن العباس الخراز: ولد أبو بكر سنة إحدى وسبعين ومائتين، وتوفي ليلة النحر من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وثلثمائة في خلافة الراضي بالله تعالى. أبو بكر العطار وأما أبو بكر محمد بن جعفر العطار النحوي، فإنه أخذ عن الحسن بن عرفة، وروى عنه أبو الحسن الدارقطني. أبو بكر الصولي وأما أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن محمد بن صول؛ فإنه كان عالماً بفنون الآداب، حسن المعرفة بآداب الملوك والخلفاء، حاذقاً بتصنيف الكتب. وكان نديماً لجماعة من الخلفاء وجمع أشعارهم، ودون أخبارهم. وكان حسن العقيدة، جميل الطريقة، وكان ذا نسب؛ فإن جده صول وأهله كانوا ملوك جرجان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وأخذ عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد وأبي العيناء. وروى عنه المرزباني وغيره. قال محمد بن العباس الخراز: حضرت الصولي وقد روى حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من صام رمضان، وأتبعه شيئاً من شوال"، فقلت: أيها الشيخ، اجعل النقطتين اللتين تحتها فوقها، فلم يعلم ما أردت، فقلت: إنما هو "ستاً من شوال"؛ فرواه على الصواب. وقال أبو بكر بن شاذان - وكان ممن أخذ عن الصولي: وكان يتباهى تباهياً عظيماً بالكتب وهو مصفوفة، وجلودها مختلفة الألوان، وكل صنف من الكتب لون، فصنف أحمر، وصنف أصفر، وغير ذلك. قال: وكان الصولي يقول: هذه الكتب كلها سماع. وكان للصولي شعر في المدح والغزل، وغير ذلك. وله: أحببت من أجله من كان يشبهه ... وكل شيء من المعشوق معشوق حتى حكيت بجسمي ما بمقلته=كأن جسمي من جفنيه مسروق قال طلحة بن محمد: توفي الصولي سنة خمس وثلاثين وثلثمائة - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وقيل: ست وثلاثين - في خلافة المطيع أبي الفضل بن المقتدر بالله تعالى. أبو محمد الدينوري وأما أبو محمد جعفر بن هارون بن إبراهيم الدينوري النحوي؛ فروى عنه أبو علي الفضل بن شاذان. وذكر الفضل أنه سمع منه في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. أبو عمر الزاهد وأما أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم اللغوي الزاهد؛ فكان من أكابر أهل اللغة، وأحفظهم لها، أخذ عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب. وكان يعرف بغلام ثعلب. وقال أبو علي بن أبي علي، عن أبيه، قال: ومن الرواة الذين لم ير قط أحفظ منهم، أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد المعروف بغلام ثعلب، أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة لغة، فيما بلغني. وكان لسعة حفظه يطعن عليه بعض أهل الأدب ولا يوثقونه في علم اللغة؛ حتى قال عبيد الله بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أبي الفتح: يقال: إن أبا عمر الزاهد لو طار طائر لقال: حدثنا ثعلب، عن ابن الأعرابي؛ ويذكر في معنى ذلك شيئاً. وكان المحدثون يوثقونه ويصدقونه. قال: أبو بكر الخطيب: رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء الذي يقدر السائل أنه قد وضعه، فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنة، فيجيب ذلك الجواب. ويروى أن جماعة من أهل بغداد، اجتازوا على قنطرة الصراة، وتذكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أصحف له القنطرة وأسأله عنها؛ فإنه يجيب بشيء آخر، فلما صرنا بين يديه، قال: أيها الشيخ، ما الهرنطق عند العرب؟ فذكر شيئاً قد أنسيته، فتضاحكنا وأتممنا المجلس وانصرفنا، فلما كان بعد شهر، ذكرنا الحديث فوضعنا رجلاً غير ذلك، فسأله فقال له: ما الهرنطق؟ فقال: ألست قد سألت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا؟ فقال: هي كذا!؟ فما درينا من أي الأمرين نعجب من ذكائه: إن كان علماً فهو اتساع طريف، وإن كان كذباً في الحال ثم قد حفظه فلما سئل عنه ذكر الوقت والمسألة، فأجاب بذلك الجواب، فهو أطرف! قال: كان معز الدولة قد قلد شرطة بغداد غلاماً تركياً مملوكاً يعرف بخواجا، فبلغ أبا عمر الزاهد، وكان يملي كتاب الياقونة، فلما جاوزه، قال: اكتبا: "ياقوتة خواجا؛ الخواج في أصل اللغة: الجوع، ثم فرع على هذا باباً، وأملاه، فاستعظم الناس كذبه، وتتبعوه، فقال له أبو علي الحاتمي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وهو من أصحابه: أخرجنا في أمالي الحامض، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي: الخواج: الجوع. وحكى رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن، عمن حدثه؛ أن أبا عمر الزاهد كان مؤدب ولد القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فأملى على الغلام نحواً من ثلاثين مسألة في اللغة، وذكر غريبها، وختمها، ببيتين من الشعر. وحضر أبو بكر بن دريد وأبو بكر الأنباري وأبو بكر بن مقسم عند القاضي أبي عمر، فعرض عليهم تلك المسائل، فما عرفوا منها شيئاً، وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن، ولست أقول شيئاً، وقال ابن مقسم مثل ذلك لاشتغاله بالقرآن. وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات أبي بكر؛ لا أصل لشيء منها في اللغة، وانصرفوا. فبلغ ذلك أبا عمر، فاجتمع مع القاضي وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم، ففتح القاضي خزانة وأخرج تلك الدواوين، فلم يزل أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 عمر يعمد إلى كل مسألة منها، ويخرج لها شاهداً من بعض تلك الدواوين ويعرضه على القاضي؛ حتى استوفى جميعها. ثم قال: هذان البيتان أنشدهما ثعلب بحضرة القاضي، وكتبهما القاضي بخطه على الكتاب الفلاني. فأحضر القاضي الكتاب، فوجد البيتين على ظهر ذلك الكتاب كما ذكر أبو عمر، وانتهت القصة إلى ابن دريد، فلم يذكر أبا عمر بلفظة إلى أن مات. وقال أبو القاسم عبد الواحد برهان الأسدي: لم يتكلم في علم اللغة من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمر الزاهد. وعن أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي، قال: أنشدنا أبو العباس اليشكري في مجلس أبي عمر محمد بن عبد الواحد يمدحه: أبو عمر أوتي من العلم مرتقى ... يزل مساميه ويردى مطاوله فلو أنني أقسمت ما كنت كاذباً ... بأن لم ير الراءون حبراً يعادله هو الشخت جسماً والفضائل جمة ... فأعجب بمهزول سمين فضائله تضمن من دون الجناحين زاخراً ... تغيب على من لج فيه سواحله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 إذا قلت شارفنا أواخر علمه ... تفجر حتى قلت هذي أوائله وعن أبي علي الحاتمي أنه اعتل، فتأخر عن مجلس أبي عمر، فسأل عنه، فقيل: إنه كان عليلاً؛ فجاءه نم الغد يعوده، فاتفق أنه كان قد خرج إلى الحمام، فكتب على الباب بالإسفيداج بيتاً: وأعجب شيء سمعنا به ... عليل يعاد فلا يوجد قال: وهو له. ويروى عن عباس بن محمد الكلوذاني: قال: سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد يقول: ترك قضاء حقوق الإخوان مذلة، وفي قضاء حقوقهم رفعة، فاحمدوا الله تعالى على ذلك، وسارعوا في قضاء حوائجهم ومسارهم تكافئوا عليه. وقال أبو عبيد الله المرزباني: كان ابن ماسي ينفذ إلى أبي عمر الزاهد وقتاً بوقت كفايته، مما ينفق على نفسه، فقطع ذلك عنه مدة لعذر، ثم أنفذ إليه جملة ما كان في راتبه، وكتب إليه رقعة يعتذر إليه من تأخير ذلك، فرده وأمر بعض من كان عنده من أصحابه أن يكتب على ظهر رقعته: أكرمتنا فملكتنا، ثم أعرضت عنا فأرحتنا. وعن محمد بن العباس بن الفرات، قال: كان مولد أبي عمر سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 إحدى وستين ومائتين. وعن أبي الحسن محمد بن عبد الله بن رزق، قال: توفي أبو عمر الزاهد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. قال الخطيب: والصحيح أنه توفي يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وذلك في خلافة المطيع لله تعالى، ودفن في الصفة التي تقابل قبر معروف الكرخي، وبينهما عرض الطريق. أبو علي الصفار وأما أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح الصفار، فإنه كان ثقة عالماً بالنحو والغريب، وأخذ عن أبي العباس المبرد وصحبه. وقال أبو الحسن الدارقطني: إسماعيل بن محمد ثقة. ويروى عن محمد بن عمران المرزباني، قال: أنشدني أبو علي بن محمد الصفار لنفسه: إذا زرتكم ألفيت أهلاً ومرحبا ... وإن غبت حولاً لا أرى لكم رسلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وإن غبت لم أعدم: ألا قد جفوتنا ... وقد كنت زواراً فما بالنا نقلى أفي الحق أن أرضى بذلك منكم ... بل الضيم أن أرضى به منكم فعلا ولكنني أعطى صفاء مودتي ... لمن لا يرى يوماً علي له فضلا وأستعمل الإنصاف في الناس كلهم ... فلا أصل الجافي ولا أقطع الحبلا وأخضع لله الذي هو خالقي ... ولن أعطي المخلوق من نفسي الذلا ويروى عن محمد بن علي بن محمد، قال: أخبرني إسماعيل بن محمد المعروف بالصفار، أنه ولد سنة سبع وأربعين ومائتين. وعن محمد بن العباس بن الفرات أنه قال: ولد إسماعيل في سنة ثمان وأربعين ومائتين، وتوفي سحر يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم، سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، في خلافة المطيع، ودفن في مقابر معروف الكرخي، بينهما عرض الطريق، دون أبي عمر الزاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ابن درستويه وأما أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي النحوي؛ فإنه [كان] أحد النحاة المشهورين، والأدباء المذكورين، أخذ عن أبي العباس المبرد وعبد الله بن مسلم بن قتيبة، وكان فسوياً، وأقام ببغداد إلى حين وفاته. وألف كتبا، منها كتاب الإرشاد، وشرح كتاب الجرمي، وكتابه في الهجاء، وهو من أحسنها. وأخذ عنه عبيد الله المرزباني وغيره. وقال أبو بكر الخطيب: سمعت هبة الله بن الحسن ذكر ابن درستويه وضعفه، وقال: بلغني أنه قيل له: حدث عن عباس الدوري حديثاً، ونحن نعطيك درهماً، ففعل ولم يكن سمع من عباس. قال الخطيب: هذه الحكاية لا تليق بأبي محمد بن درستويه؛ فإنه كان أرفع قدراً من أن يكذب لأجل العوض الكثير، فكيف لأجل التافه الحقير! وسئل البرقاني عن ابن درستويه، فقال: هو ضعيف؛ لأنه لما روى كتاب التاريخ عن يعقوب بن سفيان أنكروا عليه ذلك، وقالوا: إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 حدث يعقوب بهذا الكتاب قديماً، فمتى سمعته منه؟ قال الخطيب: وفي هذا القول نظر؛ لأن جعفر بن درستويه كان من كبار المحدثين، وعنده عن علي بن المديني وطبقته، فلا يستنكر أن يكون بكر بابنه في السماع من يعقوب بن سفيان [وغيره] ، ولا يستنكر أن يكون له سماع من يعقوب بن سفيان؛ مع أن أبا القاسم بن الزهري، قال: رأيت أصل كتاب ابن درستويه بتاريخ يعقوب بن سفيان بيع في ميراث ابن الأبنوسي، فرأيته أصلاً حسناً؛ ووجدت فيه سماعاً صحيحاً. وسألت أبا سعيد الحسن بن عثمان الشيرازي، عن ابن درستويه فقال: ثقة ثقة، حدثنا عنه أبو عبيد الله بن منده الحافظ، وقد سألته عنه، فأثنى عليه ووثقه. قال أبو الحسن ابن أبي بكر: سمعت أبي يسأل أبا محمد عبد الله بن جعفر ابن درستويه النحوي عن مولده، فقال: ولدت سنة ثمان وخمسين ومائتين. وقال محمد بن الحسين، والحسن بن أبي بكر: توفي ابن درستويه يوم الاثنين لست بقين من صفر، سنة سبع وأربعين وثلاثمائة في خلافة المطيع. أبو القاسم الأزدي وأما أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله الأزدي النحوي، فإنه أخذ عن أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، وحدث عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 محمد بن الجهم بمعاني القرآن. قال أبو بكر الخطيب: سألت أبا يعلى محمد بن الحسين السراج المقرئ عن أبي القاسم الأزدي، فقال: ضعيف. وتوفي أبو القاسم الأزدي في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة في خلافة المطيع. ابن أبي حاتم النحوي وأما أبو يعقوب محمد أحمد بن علي بن إبراهيم بن يزيد بن حاتم النحوي، فإنه كان عالماً بالنحو ثقة. وذكر أبو الفتح بن مسرور أنه توفي بمصر يوم الأربعاء، سلخ شهر ربيع الآخر، سنة تسع وأربعين وثلاثمائة في خلافة المطيع. أبو بكر العطار وأما أبو بكر محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن الحسين بن محمد بن سليمان بن داود بن عبيد الله بن مقسم العطار المقرئ النحوي، فإنه أخذ عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب. وكان من أحفظ الناس لنحو الكوفيين وأعلمهم بالقراءات، وله في التفسير ومعاني القرآن كتاب سماه الأنوار، وله في علمي القراءات والنحو تصانيف حسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ومما طعن عليه أنه عمد إلى حروف يخالف الإجماع فيها، فقرأها وأقرأها على وجوه، وذكر أنها تجوز في اللغة العربية، وشاء ذلك عنه عند أهل العلم، وأنكروا عليه، وارتفع الأمر إلى السلطان، فأحضره واستتابه بحضرة القراء والفقهاء، فأذعن بالتوبة، وكتب محضر توبته، وكتب جماعة من حضر في ذلك المجلس بتوبته خطوطهم فيه بالشهادة عليه. وقيل: إنه لم ينزع عن تلك الحروف، وكان يقرأ بها إلى حين وفاته. ذكر أبو طاهر بن أبي هاشم المقرئ، صاحب أبي بكر بن مجاهد، في كتابه الذي سماه "البيان" وقد نبغ نابغ في عصرنا هذا، وزعم أن كل ما صح عنده في العربية من القرآن يوافق خط المصحف، فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها، وابتدع بدعة حاد بها عن قصد السبيل، وأورط نفسه في مزلة عظمت بها جنايته على الإسلام وأهله. ثم ذكر أبو طاهر كلاماً قال بعده: دخلت عليه شبهة لا يخفى فسادها على ذي لبٍ وفطنة صحيحة، وذلك أنه قال: لما كان لخلف هشام بن أبي عبيد وابن سعدان أن يختاورا، وكان ذلك مباحاً لهم غير منكر، كان ذلك أيضاً لي غير مستنكر، ولو حذا حذوهم، وسلك طريقا كطريقهم، لان ذلك مباحاً له ولغيره غير مستنكر، وذلك أن خلفاً ترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 حروفا من حروف حمزة، واختار أن يقرأ على مذهب نافع، وأما أبو عبيد وابن سعدان فلم يجاوز واحد منهما قراءة أئمة القراء بالأمصار؛ ولو كان هذا الغافل نحا نحوهم، كان مسوغاً له ذلك غير ممنوع منه؛ ولا معيب عليه، بل إنما كان النكير عليه لشذوذه عما كان عليه الأئمة الذين هم الحجة فيما جاءوا به مجتمعين ومختلفين. وحكى أبو أحمد العروضي، قال: رأيت في المنام كأني في المسجد الجامع أصلي مع الناس، وكان محمد بن مقسم قد ولى ظهره القبلة، وهو يصلي مستدبرها؛ فأتأول ذلك مخالفة الأئمة فيما اختار لنفسه في القراءات. وقال محمد بن الفوارس: توفي ابن مقسم في شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وذلك في خلافة المطيع. أبو جعفر النحاس وأما أبو جعفر أحمد بن محمد [بن إسماعيل] الصفار المعروف بالنحاس، فإنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 نحوياً فاضلاً، أخذ عن أبي العباس المبرد، وأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش، وأبي عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عرفة الملقب بنفطويه، وعن أبي إسحاق الزجاج؛ وقال: قرأت على أبي إسحاق في كتاب سيبويه: "يكون دفاع مصدر دفع، كما تقول: حسبت الشيء حساباً". وصنف الكتاب المعروف في إعراب القرآن، وشرح السبع الطوال. وصنف كتاباً في النحو، إلى غير ذلك. وحكى في إعرابه للقرآن:] الحمد لله [و] الحمد لله [، وقال: سمعت علي بن سليمان يقول: لا يجوز من هذين شيء عند البصريين. قال أبو جعفر النحاس: وهاتان لغتان معروفتان، وقراءتان موجودتان، فالحمد لله (بالكسر) قراءة الحسن البصري، وهي لغة تميم، والحمد لله (بالضم) ، قراءة ابن أبي عبلة، وهي لغة بعض بني ربيعة. وحكي عن أبي العباس المبرد أنه قال: ما عرفت - أو ما علمت - أن أبا عمرو لحن في صميم العربية إلاّ في حرفين: أحدهما] عاداً الأولى [والآخر] يؤده إليك [، وإنما صار لحناً لأنه أدغم حرفاً في حرف، فأسكن الأول، والثاني حكمه حكم السكون، وإنما حركته عارضة، فكأنه قد جمع بين ساكنين. وأما] يؤدِهِ [فلا يجوز إسكان الهاء إلاّ في الضرورة عند بعض النحويين، ومنهم من لا يجيز البتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أبو جعفر أحمد بن يعقوب بن يوسف النحوي المعروف ببزرويه، فإنه أخذ عن نفطويه، ومحمد بن العباس اليزيدي وغيرهما. قال أبو بكر الخطيب: رأيت بخط أبي بكر بن شاذان: توفي أبو جعفر أحمد بن يعقوب الأصفهاني في [شهر] رجب، سنة أربع وخمسين وثلثمائة في خلافة المطيع لله تعالى. المتنبي وأما أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي، والشاعر المعروف بالمتنبي، فإنه ولد بالكوفة، سنة ثلاث وثلثمائة، ونشأ بالشام، وأقام بالبادية، وطلب الأدب وعلم العربية، ونظر في أيام الناس، وتعاطى قول الشعر في حداثته، حتى بلغ فيه الغاية، وأنهي فيه النهاية، وفاق فيه أهل عصره، وبلغ خبره الأمير سيف الدولة أبا الحسن علي بن حمدان، وأكثر القول في مديحه، ثم مضى إلى مصر، ومدح بها كافوراً الإخشيدي، ثم خرج من مصر وورد العراق، ودخل بغداد وجالس بها أهل الأدب، وقرئ عليه ديوانه، وسمعه منه القاضي أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن القاسم المحاملي ورواه عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقال أبو الحسن محمد بن علي العلوي: كان المتنبي وهو صبي ينزل في جواري الكوفة، وكان أبوه يعرف بعبدان السقا، يستقي لنا ولأهل المحلة. ونشأ هو محباً للعلم والأدب والقراءة، وأكثر من ملازمة الوراقين، فأخبرني وراق كان يجلس إليه، قال لي: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى ابن عبدان السقا! قلت له: كيف؟ قال: اليوم كان عندي، وقد أحضر رجل كتاباً من كتب الأصمعي يكون نحوُا من ثلاثين ورقة ليبيعه، فأخذ ينظر فيه طويلاً، فقال له الرجل: أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت تريد حفظه، فهذا يكون إن شاء الله تعالى بعد شهر، قال: فقال له ابن عبدان: فإن كنت حفظته في هذه المدة، فما لي عليك؟ قال: أهب لك الكتاب، قال: فأخذت الدفتر من يده، فأقبل يتلوه علي إلى آخره، ثم استلبه، فجعله في كمه وقام، فتعلق به صاحبه، وطالب بماله، فقال له: مالك إلى ذلك سبيل، وقد وهبته لي. قال: فمنعناه منه، وقلنا: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام، فتركه عليه. وقال أبو الحسن: كان عبدان والد أبي الطيب يذكر أنه جعفي، وكانت جدة المتنبي همدانية صحيحة النسب، لا شك فيها، وكانت جارتنا، وكانت من صلحاء النساء الكوفيات. وذكر القاضي أبو الحسن بن أم شيبان الهاشمي الكوفي، أن عبدان كان جعفياً صحيح النسب. قال: وكان المتنبي لما خرج إلى كلب، وأقام فيهم، ادعى أنه علوي، ثم ادعى النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي، إلى أن أشهد عليه في الشام بالتوبة وأطلق. قال أبو علي بن حامد: سمعت خلقاً بحلب يحكون أن أبا الطيب المتنبي تنبأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 في بادية السماوة ونواحيها إلى أن خرج إليه لؤلؤ - أمير حمص من قبل الإخشيدية - فقاتله وأسره، وشرد من كان قد اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من قبائل العرب، وحبسه في السجن دهراً طويلاً حتى كاد يتلف، فسئل في أمره، فاستتابه وكتب عليه وثيقة، وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام، وأطلقه. قال: وكان قد تلا على البوادي كلاماً زعم أنه قرآن أنزل عليه، وكانوا يحكون له سوراً كثيرة، نسخت منها سورة، ثم ضاعت، وبقي أولها في حفظي وهو: "والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امضِ على سننك، واقف أثر من قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك من ألحد عن دينه، وضل عن سبيله". وقال: وهي طويلة لم يبق في حفظي فيها غير هذا. قال: وكان المتنبي إذا شوغب في مجلس سيف الدولة - ونحن إذ ذاك بحلب - نذكر له مما كان يحكى عنه فينكره ويجحده. وقال له ابن خالويه النحوي يوماً في مجلس سيف الدولة: لولا أن أخي جاهل، لما رضي أن يدعى بالمتنبي، لأن معنى المتنبئ كاذب، ومن رضي أن يدعى بالكذب فهو جاهل، فقال له: لست أرضى أن أدعى بذلك، وإنما يدعوني به من يريد الغض مني، ولست أقدر على المنع. قال التنوخي: قال لي أبي: فأما أنا؛ فسألته بالأهواز [في سنة أربع وخمسين وثلثمائة عند اجتيازه بها إلى فارس، في حديث طويل جرى بيننا] عن معنى المتنبئ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 لأني أردت أن أسمع منه: هل تنبأ أم لا؟ فجاوبني بجواب مغالط؛ وقال: إن هذا شيء كان في الحداثة، فاستحييت أن أستقصي عليه، فأمسكت. قال: قال لي أبو علي بن أبي حامد ونحن بحلب - وقد سمع قوماً يحكون عن أبي الطيب هذه السورة التي قدمنا ذكرها: لولا جهله! أين قوله: "امض على سننك ... " إلى آخر الكلام، من قوله عز وجل:] فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين [، إلى آخر الآيات! وهل تتقارب الفصاحة، أو يشتبه الكلامان! ويحكى أن أبا الطيب اجتمع هو وأبو علي الفارسي، فقال له أبو علي: كم جاء من الجمع على وزن فعلى؟ فقال: حجلى، ظربى، جمع حجل وظربان. قال أبو علي: فسهرت تلك الليلة التمس لها ثالثاً فلم أجد، وقال في حقه: ما رأيت رجلاً في معناه مثله! وهذا من مثل أبي علي كثير في حق المتنبي. ويحكى أنه لما أنشد سيف الدولة بن حمدان قوله [في مطلع بعض قصائده] : وفاؤكما كالريع أشجاه طاسمه كان هناك ابن خالويه، فقال له: يا أبا الطيب، إنما يقال: شجاه - توهمه فعلاً ماضياً - فقال أبو الطيب: اسكت فما وصل الأمر إليك. قلت: إنما قصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أبو الطيب بقوله: "أشجاه"، أكثره شجاً، لا الفعل الماضي. وقال علي بن أيوب: خرج المتنبي من بغداد، فمدح ابن العميد، وعضد الدولة، وأقام عنده مدة، ثم خرج يريد بغداد، حتى كان حيال الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد، إذا عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدة من أصحابه، فاغتاله هناك وابنه محسداً، وغلاماً له يقال له: مفلح، وأخذ جميع ما كان معه، وذلك لست بقين من شهر رمضان، سنة أربع وخمسين وثلثمائة. وقيل: لليلتين بقيتا من شهر رمضان في السنة المذكورة، وقصته مشهورة، وقد ذكرناها مستوفاة في كتاب "مغاني المعاني"، في شرح ديوانه. وكانت وفاته في خلافة المطيع. أبو الطيب الوشاء وأما أبو الطيب محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى النحوي، المعروف بابن الوشاء، فإنه كان أديباً فاضلاً، حسن التصنيف، وأخذ عن محمد بن يزيد المبرد، وعن أحمد بن يحيى ثعلب. أبو بكر الزجاج وأما أبو بكر أحمد بن الحسين الزجاج النحوي؛ فإنه حدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 عن عبد الله بن محمد البغوي، وكتب عنه علي بن محمد الإيادي، وذكر أنه سمع منه سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وذلك في خلافة المطيع. أبو العباس بن الجهم وأما أبو العباس عبيد الله بن أحمد بن محمد بن محمد بن سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين، فإنه كان أديباً شاعراً، أخذ عن أبي بكر بن الأنباري. قال أبو بكر الخطيب: حدثني عنه القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: وكان أديباً شاعراً، وزعم أن بكير بن أعين هو أخو زرارة بن أعين، قال: وإنما نسبنا إلى زرارة دون بكير، لأن زرارة جدنا من قبل أمنا، فاشتهرنا به. قال أبو القاسم التنوخي: أنشدنا أبو العباس [الزراري] لنفسه: لي صديق قد صيغ من سوء عهد ... ورماني الزمان منه بصد كان وجدي به فصار عليه ... وظريف زوال وجد بوجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أبو نصر الأزدي وأما أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف بن يعقوب الأزدي، فإنه كان عالماً بالأدب، غزير العلم باللغة والشعر، حسن الفصاحة، بارعاً في الكتابة. قال طلحة بن محمد بن جعفر: مازال أبو نصر منذ نشأ نبيلاً، نظيفاً، جميلاً، عفيفاً، حاذقاً بصناعة القضاء، بارعاً في الأدب، واسع العلم باللغة والشعر، تام الهيئة، اقتدر على أمره بالنزاهة والتصون والعفة، حتى وصفه الناس من ذلك بما لم يصفوا [به] أباه وجده، مع حداثة سنة، وقرب ميلاده من رياسته. ولا نعلم قاضياً تقلد هذا الأمر أعرف بالقضاء منه ومن أخيه الحسين، لأنه يوسف بن عمر بن يوسف بن يعقوب، وكل هؤلاء تقلدوا الحضرة غير يعقوب، فإنه كان قاضياً على مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم تقلد فارس، ومات بها، ومازال يوسف والياً على بغداد بأسرها إلى شهر صفر سنة تسع وعشرين وثلثمائة، وصرفه الراضي عن مدينة المنصور بأخيه الحسين، وأقره على الجانب الشرقي والكرخ، ومات الراضي في هذه السنة، وصرف أبو نصر بعد وفاة الراضي، ولي ذلك محمد بن عيسى المعروف بابن أم موسى الضرير. وأنشد يوسف بن عمر لنفسه: يا محنة الله كفى ... إن لم تكفي فخفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ما آن أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي ذهبت أطلب بختى ... فقيل لي: قد توفي ثور ينال الثريا ... وعالم متخفي الحمد لله شكراً ... على نفاوة حرفي قال هلال بن المحسن: كان مولده سنة خمس وثلثمائة، وتوفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة ست وخمسين وثلثمائة في خلافة المطيع. أبو الفتح جخجخ وأما أبو الفتح عبيد الله بن محمد المعروف بجخجخ، فإنه أخذ عن أبي بكر ابن دريد، وروى عنه ابن دينار، وكان ثقة صحيح الكتاب. قال محمد بن العباس بن الفرات: توفي أبو الفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أحمد بن محمد النحوي ليلة الجمعة، ودفن يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، في خلافة المطيع. أبو القاسم الزجاجي وأما أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، فإنه كان من أفاضل أهل النحو، أخذ عن أبي إسحاق الزجاج وأبي بكر بن السراج وعلي بن سليمان الأخفش. وألف كتباً حسنة، منها كتاب الجمل المشهور في أيدي الناس، وكتاب الإيضاح، وكتاب شرح خطبة أدب الكتاب لابن قتيبة، إلى غير ذلك من الكتب. وكان من طبقة أبي سعيد السيرافي وأبي علي الفارسي، إلا أن أبا علي كان يقول: لو سمع أبو القاسم الزجاجي كلامنا في النحو، لاستحيا أن يتكلم فيه. أبو سعيد السيرافي وأما أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزباني السيرافي النحوي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فإن كان من أكابر الفضلاء، وأفاضل الأدباء، زاهداً، لا نظير له في علم العربية، وكان أبوه مجوسياً. وصنف تصانيف كثيرة؛ أكبرها شرح كتاب سيبويه، ولم يشرح كتاب سيبويه أحد أحسن منه؛ ولو لم يكن له غيره لكفاه ذلك فضلاً. قال محمد بن العباس بن الفرات: كان أبو سعيد عالماً فاضلاً، معدوم النظير في علم النحو خاصة. وذكر رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن أن أبا سعيد [السيرافي] كان يدرس القرآن والقراءات وعلوم القرآن، والنحو، واللغة، والفقه، والفرائض، والكلام، والشعر، والعروض والقوافي والحساب؛ وذكر علوماً سوى هذه. وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وينتحل في الفقه مذهب أهل العراق. وقال رئيس الرؤساء: وقرأ على ابن مجاهد القرآن، وقرأ على أبي بكر بن السراج، وعلى أبي بكر مبرمان، وقرأ أحدهما عليه النحو، وقرأ الآخر عليه الحساب. وكان زاهداً يأكل من كسب نفسه، وكان لا يخرج إلى مجلس القضاء إلا بعد أن ينسخ عشر ورقات، يأخذ أجرتها عشرة دراهم، تكون بقدر مئونته. ثم يخرج إلى مجلسه. وكان نزيهاً عفيفاً، جميل الطريقة حسن الأخلاق. وذكر محمد بن أبي الفوارس أنه كان يذكر عنه الاعتزال، ولم يظهر عنه شيءٌ من ذلك. قال هلال بن المحسن: توفي أبو سعيد السيرافي يوم الاثنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ثاني رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة، في خلافة الطائع لله تعالى بن المطيع لله تعالى. ودفن بمقبرة الخيرزان ببغداد، بعد صلاة العصر من ذلك اليوم. أبو بكر الجعد وأما أبو بكر محمد بن عثمان بن مسبح الشيباني المعروف بالجعد، فإنه أخذ عن أبي الحسن بن كيسان، وكان من أفاضل الناس وأعلمهم. وصنف تصانيف في [معاني] القرآن، وناسخه ومنسوخه، والعروض وخلق الإنسان، وكتاباً في النحو، إلى غير ذلك. أبو الحسن القرميسيني وأما أبو الحسن علي بن هارون بن نصر المعروف بالمقرميسيني النحوي، فإنه أخذ عن علي بن سليمان الأخفش، وأخذ عنه عبد السلام بن الحسين البصري. قال ابن أبي الفوارس: توفي علي بن هارون القرميسيني النحوي في جمادى الآخرة، سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة في خلافة الطائع. قال: وكان عنده من أبي الحسن الأخفش أشياء كثيرة، وسمعت منه يقول: كان ثقة جميل الأمر، وكان مولده سنة تسعين ومائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ابن خالويه وأما عبد الله بن خالويه، فإنه كان من أكابر أهل اللغة؛ أخذ عن أبي بكر ابن دريد، وأبي عبد الله نفطويه، وعن أبي بكر بن الأنباري، وعن أبي عمر الزاهد. قال: سمعت ابن الأنباري يقول: اللثيم الراضع: الذي يتخلل ويأكل خلالته. قال: وحدثنا نفطويه، عن ابن الجهم، عن الفراء، أنه سمع أعرابياً يقول: قضت علينا السلطان؛ فقال ابن خالويه: السلطان يذكر ويؤنث، والتذكير أعلى، ومن أنثه ذهب به إلى الحجة. وحكى أبو عمر الزاهد أ، هـ قال في معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أكلتم فرازموا"، أي أفضلوا بين اللقمة والطعام باسم الله تعالى. وأخذ عنه أبو بكر الخوارزمي، حكى عنه أنه قال: كل عطر مائع فهو الملاب، وكل عطر يابس فهو الكباء، وكل عطر يدق فهو الأنجوج قال: وفيه خمس لغات: الألنجوج واليلنجوج والألنجج واليلنجج والأنجوج. وصنف كتباً كثيرة في اللغة وغيرها؛ منها كتاب ليس، وهو كتاب نفيس في اللغة، وشرح المقصورة لابن دريد، وكتاب في أسماء الأسد، وذكر فيه خمسمائة اسم، وله كتاب البديع في القرآن، وله كتاب في إعراب سور من القرآن، ولم يكن في النحو بذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ويحكى أنه اجتمع هو و أبو علي الفارسي ، فجرى بينهما كلام، فقال لأبي علي: نتكلم في كتاب سيبويه؟ فقال له أبو علي: بل نتكلم في الفصيح. ويحكى أنه قال لأبي علي: كم للسيف اسماً؟ قال: اسم واحد، فقال له ابن خالويه: بل له أسماء كثيرة، وأخذ يعددها، نحو الحسام، والمخذم، والقضيب، والمقضب، فقال له أبو علي: هذه كلها صفات. أبو عبد الله العماني وأما أبو عبد الله محمد بن عيسى العماني، فإنه كان من أهل الأدب، أخذ عن أبي إسحاق الزجاج، وروى عنهكتاب فعلت وأفعلت. أبو بكر السجستاني وأما أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني، فإنه كان أديباً فاضلاً متواضعاً واختلفوا في آخر اسم أبيه عزيز، فمنهم من قال: عزيز (بالزاي المعجمة) ومنهم من قال: بالراء غير المعجمة. وسمعت شيخنا أبا منصور موهوب بن أحمد بن الخضر الجواليقي يحكي عن أبي زكرياء يحيى بن علي التبريزي؛ أنه قال: رأيت خط أبي بكر بن عُزير عليه علامة الراء غير معجمة. وصنف كتاب غريب القرآن وأجاد فيه، ويقال: إنه صنعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 في خمس عشرة سنة، وكان يقرؤه على أبي بكر بن الأنباري، فكان يصلح له في مواضع. وكان صالحاً متواضعاً، ورواه عنه أبو أحمد عبد الله بن الحسن بن حسنون وغيره. أبو علي الفارسي وأما أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي؛ فإنه كان من أكابر أئمة النحويين؛ أخذ عن أبي بكر بن السراج، وأبي إسحاق الزجاج؛ وعلت منزلته في النحو حتى فضله كثير من النحويين على أبي العباس المبرد. وقال أبو طالب العبدي: ما كان بين سيبويه وأبي علي أفضل منه. وأخذ عنه جماعة من حذاق النحويين، كأبي الفتح بن جني وعلي بن عيسى الربعي وأبي طالب العبدي وأبي الحسن الزعفراني، وغيرهم. وكان عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي الفارسي في النحو، وغلام أبي الحسين الصوفي في النجوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وصنف كتباً كثيرة حسنة لم يسبق إلى مثلها؛ منها كتاب الإيضاح في النحو، وكتاب الحجة في علل القرآن السبع، وكتاب المقصور والممدود، إلى غير ذلك من الكتب. وتقدم عند الملوك خصوصاً عند عضد الدولة، ويقال: إنه اجتمع مع عضد الدولة في الميدان، فسأله عضد الدولة، بماذا ينتصب الاسم المستثنى، في نحو: قام القوم إلا زيداً؟ فقال له أبو علي: ينتصب بتقدير "استثنى زيداً" فقال له عضد الدولة - وكان فاضلاً - لم قدرت "استثنى زيداً" فنصبت؟ وهلا قدرت امتنع زيد" فرفعت! فقال له أبو علي: هذا الجواب الذي ذكرته لك جواب ميداني وإذا رجعت ذكرت لك الجواب الصحيح. وذكر في كتاب الإيضاح: أنه انتصب بالفعل المقدم بتقويه إلا. ويحكى أن أبا علي لما صنف كتاب الإيضاح لعضد الدولة، وأتاه به، قال له عضد الدولة: هذا الذي صنفته يصلح للصبيان، فصنف له التكملة بعد ذلك، ولو صدر هذا الكلام من بعض أئمة النحويين لكان كبيراً، فكيف من بعض الملوك! وحكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال: أخطئ في خمسين مسألة في اللغة. ولا أخطئ في واحدة من القياس. وتوفي أبو علي الفارسي يوم الأحد، لسبع عشرة ليلة خلت من ربع الأول، سنة سبع وثلاثمائة. وذلك في خلافة الطائع لله تعالى. أبو الحسن الرماني أما أبو الحسن علي بن عيسى بن عبد المعروف بالرماني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فإنه كان من كبار النحويين، أخذ عن أبي بكر بن السراج، وأبي بكر بن دريد. وأخذ عنه أبو القاسم علي بن عبد الله الدقيقي، وكان متفنناً في علوم النحو واللغة والفقه والكلام على مذهب المعتزلة. وصنف كتباً كثيرة منها كتابه المشهور في التفسير، وكتاب الممدود الأكبر، وكتاب الممدود الأصغر، ومعاني الحروف، وشرح الوجيز لابن السراج، إلى غير ذلك من التصانيف. وكان يمزج كلامه بالمنطق حتى قال أبو علي الفارسي: إن كان النحو ما يقوله أبو الحسن الرماني فليس معنا شيء منه، وإن كان النحو ما نقوله فليس معه منه شيء. وقال بعض أهل الأدب: كنا نحضر عند ثلاثة مشايخ من النحويين؛ فمنهم من لا نفهم من كلامه شيئاً، ومنهم من نفهم بعض كلامه دون البعض، ومنهم من لا نفهم جميع كلامه، فأما من لا نفهم من كلامه شيئاً، فأبو الحسن الرماني، وأما من نفهم بعض كلامه دون البعض فأبو علي الفارسي، وأما من نفهم جميع كلامه فأبو سعيد السيرافي. ويحكى أن علي بن عيسى الرماني سئل، فقيل له، لكل كتاب ترجمة، فما ترجمة كتاب الله عز وجل؟ فقال:] هذا بلاغ للناس ولينذروا به [. وقال أحمد بن علي التوزي: كان مولد علي بن عيسى سنة ست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وتسعين ومائتين، وتوفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، في خلافة القادر بالله تعالى أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله تعالى. أبو الحسين الرازي وأما أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي، فإنه كان من أكابر أئمة اللغة، أخذ عن أبي بكر أحمد بن الحسن الخطيب، رواية ثعلب، وأبي الحسن علي بن إبراهيم القطان، وأبي عبد الله أحمد بن طاهر بن المنجم، وكان يقول عن أبي عبد الله هذا: إنه ما رأى مثله، ولا هو رأى مثل نفسه. وأخذ عنه أحمد بن الحسين المعروف بالبديع الهمذاني وغيره، وأقام بالري بأخرة، وكان سبب ذلك أنه حمل إليها من همذان وقد شهر، ليقرأ عليه أبو طالب بن فخر الدولة علي بن ركن الدولة الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 بن بويه الديلمي، فسكنها. وكان فقيهاً شافعياً حاذقاً، ثم انتقل إلى مذهب مالك في آخر أمره، فسئل عن ذلك فقال: دخلتني الحمية لهذا الإمام المقبول على جميع الألسنة، أن يخلو مثل هذا البلد - يعني الري - عن مذهبه، فعمرت مشهد الانتساب إليه، حتى يكمل لهذا البلد فخره، فإن الري أجمع البلاد للمقالات والاختلافات في المذاهب على تضادها وكثرتها. وكان والد أبي الحسين فقيهاً شافعياً لغوياً، وقد أخذ عنه أبو الحسين، وروى عنه في كتبه، قال ابن فارس: سمعت أبي قول: سمعت محمد عبد الواحد يقول: سمعت ثعلباً يقول: إذا أنتج ولد الناقة في الربيع ومضت أيام فهو ربع، فإذا أنتج في الصيف والربيع فهو ربعة. وكان الصاحب بن عباد يقول: شيخنا أبو الحسن رزق التصنيف، وأمن من التصحيف. وله تآليف حسنة، وتصانيف حجة، فمنها كتاب المجمل في اللغة، وكتاب متخير الألفاظ، وكتاب فقه اللغة، وكتاب غريب إعراب القرآن، وكتاب في تفسير أسماء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومقدمة في النحو، وكتاب درارات العرب، وكتاب فُتيا فقيه العرب، إلى غير ذلك من الكتب. وكان كريماً جواداً، فربما وهب السائل ثيابه وفرش بيته، وكان له صاحب يقال له: أبو العباس أحمد بن محمد الرازي المعروف بالغضبان، وسبب تسميته بذلك أنه كان يخدمه، ويتصرف في بعض أموره، قال: فكنت ربما دخلت فأجد فرش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 البيت أو بعضه قد وهبه، فأعاتبه على ذلك، وأضجر منه، فيضحك من ذلك ولا يزول من عادته، فكنت متى دخلت عليه ووجدت شيئاً من البيت قد ذهب، علمت أنه قد وهبه، فأعبس، وتظهر الكآبة في وجهي، فيبسطني، ويقول: ما شأن الغضبان؟ حتى لصق بي هذا اللقب منه، وإنما كان يمازحني به. ومما أنشد لأبي الحسين بن فارس: وقالوا كيف أنت فقلت خير ... تقضى حاجة وتفوت حاج إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج نديمي هرتي، وسرور قلبي ... دفاتر لي ومعشوقي السراج الأزهري وأما أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الأزهري، فإنه أخذ عن المنذري، وروى عنه المبرد أنه قال: النبع والشوحط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 والشربان شجرة واحدة، ولكنها تختلف أسماؤها بحسب اختلاف أماكنها، فما كان منها قلة الجبل فهو النبع، وما كان في سفح الجبل فهو الشريان، وما كان منها في الحضيض فهو الشوحط. وأخذ عنه أبو عبيد الهروي صاحب الغريبين. وكان أبو عبيد أديباً فاضلاً، قال: سمعت الأزهري، يقول في قوله تعالى:] هو أهل التقوى وأهل المغفرة [، المعنى أنه يؤنس باتقائه؛ لأنه يؤدي إلى الجنة، ويؤنس بمغفرته لأنه غفور، يقال: أهلت بفلان آهل به؛ إذا أنستبه، وهم أهلي وآهلتي، أي هم الذين آنس بهم. وصنف الكتاب المشهور في اللغة، وهو كتاب تهذيب اللغة، وهو أكبر كتاب صنف في اللغة وأحسنه، وكتاباً في تفسير ألفاظ المزني؛ إلى غير ذلك. الصاحب بن عباد وأما الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد، فإنه كان غزير الفضل، متفنناً في العلوم، أخذ عن أبي الحسين بن فارس، وأبي الفضل بن العميد. ويحكى أنه لما رجع من بغداد دخل على الأستاذ أبي الفضل بن العميد، فقال له: كيف وجدت بغداد؟ قال: بغداد في البلاد، مثل الأستاذ في العباد. وأنشده الصاحب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 أفاضل الدنيا وإن برزوا ... لم يبلغوا غاية أستاذها أما ترى أمصارها جمة ... ولا ترى مصراً كبغداذها وكان بين الصاحب وبين أبي بكر الخوارزمي شيء، فبلغ الصاحب عنه أنه هجاه بقوله: لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت ... كفاه بالجود سحاً يخجل الديما فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع، لا بخلاً ولا كرما وظلمه بهذا القول، فلما بلغ الصاحب موت أبي بكر أنشد: سألت بردياً من خراسان جائياً ... أمات خوارزميكم؟ قال لي: نعم فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من كفر النعم وصنف تصانيف كثيرة: كالوقف والابتداء، والعروض، وجوهرة الجمهرة، والأخذ على أبي الطيب المتنبي، وكتاب الرسائل، إلى غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ويحكى عنه أنه لما صنف كتاب الوقف والابتداء كان ذلك في عنفوان شبابه، فأرسل إليه أبو بكر بن الأنباري وقال له: إنما صنفت كتاب الوقف والابتداء بعد أن نظرت في سبعين كتاباً تتعلق بهذا العلم، فكيف صنعت هذا الكتاب مع حداثة سنك؟ فقال الصاحب للرسول: قل للشيخ: نظرت في النيف وسبعين التي نظرت فيها، ونظرت في كتابك أيضاً. وكان الصاحب صاحب بلاغة وفصاحة، سمح القريحة؛ يحكى أنه دخل رجل فجعل يكرر السجود، فقال له: تسجد كأنك هدهد! ويحكى أيضاً أنه دخل عليه رجل فقال له: من أين أنت! فقال: من "بنج ده"، وهي بالفارسية خمس قرى، فقال له الصاحب: يحمق من كان من قرية واحدة، فكيف من كان من خمس قرى! ويحكى أنه رأى أحد ندمائه متغير اللون، فقال له: ما الذي بك؟ قال: حمى! فقال له الصاحب: "قه"، فقال النديم: "ده"، فاستحسن الصاحب ذلك منه، وخلع عليه. وكان الصاحب يذهب إلى مذهب أهل العدل، وفي ذلك يقول: تعررفت بالعدل في مذهبي ... ودان بحسن جدالي العراق فكلفت في الحب ما لم أطق ... فقلت بتكليف ما لا يطاق وتوفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، في خلافة العادل بالله تعالى. أبو عبد الله النمري وأما أبو عبد الله النمري؛ فأخذ عن أبي رياش، وأخذ عنه أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 عبد الله الحسين بن علي البصري، وصنف كتاباً في أسماء الذهب والفضة، وكتاباً في مشكلات الحماسة، وعنه أنه قال: العرب تدّعي الصفرة لنسائها، يقال: سفرتها من الطيب، ويقال" صفرتها من الحياء، كما أنشدنا أبو رياش: صفراء من بقر الجواء كأنما ... نزل الحياء بها رداء سقيم وقال أيضاً: العرب تدعو الأبيض أحمر، وتقول في أمثالها: الحسن أحمر، وسميت عائشة الحميراء لبياضها، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعثت إلى الأسود والأحمر"، أي الأبيض، وفي الحديث: "غلبنا عليك الحمراء"؛ أي العجم. وقيل لهم ذلك لبياضهم. ويروى عن أبي عبد الله النمري يرثي أبا عبد الله الأزدي - وكأن بينهما ملاحاة في عهد الحياة. مضى الأزدي والنمري يمضي ... وبعض الكل مقرون ببعض أخي والمجتني ثمرات ودي ... وإن لم يخزني فرضي وقرضي وكانت بيننا أبداً هنات ... توفر عرضه فيها وعرضي وما هانت رجال الأزد عندي ... وإن لم تدنْ أرضهم من أرضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أبو الفرج المعافى وأما أبو الفرج بن زكرياء بن يحيى النهرواني القاضي، فإنه كان من أعلم الناس في وقته بالفقه، والنحو، واللغة، وأصناف الأدب، وكان يذهب إلى مذهب محمد بن جرير الطبري. وذكر أبو القاسم التنوخي: أن المعافى ولي القضاء بباب الطاق. وقال أحمد بن عمر بن روح: إن المعافى بن زكريا حضر في دار بعض الرؤساء. وكان هناك جماعة من أهل العلم. فقالوا: في أي نوع من العلم نتذاكر؟ فقال المعافى لذلك الرئيس: إن خزانتك قد جمعت أنواع العلوم وأصناف الأدب، فإن رأيت أن تبعث الغلام إليها، ويضرب بيده إلى أي كتاب قرب منها، فيحمله ثم نفتحه، فتنظر في أي نوع هو، فنتذاكر ونتجارى فيه! قال ابن روح: وهذا يدل على أن المعافى كان له أنسة بسائر العلوم. وكان أبو محمد الباني يقول: إذا حضر أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلها. وكان يقول أيضاً: لو أن رجلاً وصى بثلث منه أن يدفع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أعلم الناس، لوجب أن يدفع إلى المعافى بن زكريا. وقال ابن روح: سمعت المعافى يقول: ولدت سنة ثلاث وثلاثمائة. هكذا حفظي منه؛ وحدثني من سمعه يقول: ولدت سنة خمس وثلثمائة. وقال أحمد بن محمد العتيقي: كان ثقة. وقال التنوخي وهلال بن المحسن: توفي المعافى بن زكريا النهرواني. يوم الاثنين الثاني في عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة تسعين وثلاثمائة، وذلك في خلافة القادر بالله تعالى. أبو إسحاق تيزون وأما أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد النحوي المعروف بتيزون، فإنه كان أديباً فاضلاً، أخذ عن أبي عمر الزاهد غلام ثعلب، وعن غيره. وحكى أبو القاسم بن الثلاج أنه حدثه عن إبراهيم بن عبد الوهاب، الطبري صاحب أبي حاتم السجستاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أبو عثمان بن جني وأما أبو الفتح عثمان بن جني النحوي، فإنه كان من حذاق أهل الأدب، وأعلمهم بعلم النحو والتصريف. صنف في النحو والتصريف كتباً أبدع فيها؛ كالخصائص، والمنصف، وسر الصناعة، وصنف كتاباً في شرح القوافي، وفي العروض، وفي المذكر والمؤنث، إلى غير ذلك. ولم يكن في شيء من علومه أكمل منه في التصريف، فإنه لم يصنف أحد في التصريف، ولا تكلم فيه أحسن ولا أدق كلاماً منه. وكان أبوه جني مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي، وكان يقول الشعر ويجيده، فمنه: فإن أصبح بلا نسبٍ ... فعلمي في الورى نسبي على أني أءول إلى ... قرومٍ سادة نجبِ أولاك دعا النبي لهم ... كفى شرفاً دعاء نبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ومن شعره أيضاً في العتب على صديق له: صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نية فاسدة وقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحدة ولولا مخافة ألا أراك ... لما كان في تركها فائدة وإنما قال: "خشيت على عيني الواحدة"، لأنه كان أعور. وأخذ عن أبي علي الفارسي؛ وصحبه أربعين سنة وكان سبب صحبته إياه أن أبا علي الفارسي كان قد سافر إلى الموصل، فدخل إلى الجامع، فوجد أبا الفتح عثمان بن جني يقرأ النحو وهو شاب، وكان بين يديه متعلم وهو يكلمه في قلب الواو ألفاً، نحو "قام" و"قال"، فاعترض عليه أبو علي، فوجه مقصراً، فقال له أبو علي: زببت قبل أن تحصرم، ثم قام أبو علي ولم يعرفه ابن جني، فسأل عنه، فقيل له: هذا أبو علي الفارسي النحوي، فأخذ في طلبه، فوجده ينزل إلى السميرية، يقصد بغداد، فنزل معه في الحال، ولزمه وصاحبه من حينئذ إلى أن مات أبو علي وخلفه ابن جني، ودرس النحو ببغداد بعده، وأخذ عنه، وكان تبحر ابن جني في علم التصريف؛ لأن السبب في صحبته أبا علي وتغربه عن وطنه، ومفارقة أهله مسألة تصريفية، فحمله ذلك على التبحر والتدقيق فيه. وأخذ عنه أبو القاسم الثمانيني وأبو أحمد عبد السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 البصري، وأبو الحسن علي بن عبد الله السمسي، وغيرهم. وتوفي ابن جني يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة في خلافة القادر بالله تعالى. أبو أحمد الأزدي وأما أبو أحمد طالب بن عثمان بن محمد بن أبي غالب الأزدي النحوي، فإنه أخذ عن أبي بكر بن الأنباري، وكان نحوياً ثقة، وكف بصره في آخر عمره. وكان مولده سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وتوفي سنة ست وتسعين وثلاثمائة، وذلك في خلافة القادر بالله تعالى. أبو طالب العبدي وأما أبو طالب أحمد بن بكر العبدي، فإنه كان من أفاضل أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 العربية، أخذ عن أبي سعيد السيرافي، وعن أبي الحسن علي بن عيسى الرماني، وعن أبي علي الفارسي، وشرح كتاب الإيضاح لأبي علي شرحاً شافياً. وحكى أبو طالب العبدي في شرحه الإيضاح أنه كلم أبا محمد يوسف بن الحسن بن عبيد الله السيرافي - وكان مكيناً في هذا الأمر على شهرته بين الناس باللغة - في ياء "تفعلين"، فقال: هي علامة التأنيث، والفاعل مضمر، فقلت له: لو كان بمنزلة التاء في "ضربت" علامة للتأنيث فقط لثبتت مع ضمير الاثنين، إذا قلت: أنتما تضربان، كما تقول: ضربتا، فلما حذفت مع ضمير الاثنين علم أن فيها - مع دلالتها على التأنيث - معنى الفاعل، فلما صار للاثنين بطل ضمير الواحد الذي هو الياء، وجاءت الألف وحدها. فقال: هذه إذن زنبيل الحوائج كذا وكذا، وانقطع الوقت بالضحك من ابن شيخنا وقلة تصوره! أبو الحسن الوراق وأما أبو الحسن محمد بن عبد الله الوراق، فإنه كان من طبقة أبي طالب العبدي. وشرح مختصر أبي عمر الجرمي شرحين: أكبر وأصغر، فلقب الأكبر كتاب الفصول في نكت الأصول، ولقب الأصغر بكتاب الهداية. وكان جيد التعليل في النحو. أبو أحمد البصري وأما أبو أحمد عبد السلام بن الحسين بن محمد البصري اللغوي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فإنه كان لغوياً فاضلاً، قارئاً للقرآن، عالماً بالقراءات. وكان يتولى ببغداد دار الكتب وحفظها والإشراف عليها، وكان أبو القاسم عبد الله بن علي يقول: كان عبد السلام البصري من أحسن الناس تلاوة للقرآن، وإنشاداً للشعر. وكان سمحاً سخياً، ربما جاءه السائل وليس معه شيء يعطيه، فيدفع إليه بعض كتبه التي لها قيمة كثيرة، وخطر كبير. قال علي بن المحسِّن التنوخي: كان مولده سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وتوفي يوم الثلاث، لسبع خلت من المحرم سنة خمس وأربعمائة في خلافة القادر بالله تعالى. أبو الحسن السمسماني وأما أبو الحسن علي بن عبيد الله السمسمي اللغوي، فإن كان لغوياً ثقة أخذ عن أبي الفتح بن جني. قال أبو بكر الخطيب: أخذت عنه، وكان صدوقاً. وتوفي يوم الأربعاء لأربع خلون من المحرم سنة خمس عشرة وأربعمائة في خلافة القادر بالله تعالى. يحيى الأرزني وأما يحيى بن محمد الأرزني النحوي، فإنه أخذ عن أبي سعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 السيرافي، وحدث عنه أبو الفضل محمد بن عبد العزيز بن المهدي الخطيب. [قال: ثم صنف] ، ورأيت له مقدمة في النحو لا بأس بها. وقال: توفي في المحرم سنة خمس عشرة وأربعمائة في خلافة القادر بالله تعالى. علي بن عيسى الربعي وأما علي بن عيسى بن الفرج بن صالح الربعي النحوي، فإنه كان من أكابر النحويين؛ أخذ عن أبي سعيد السيرافي، ثم خرج إلى شيراز، فأخذ عن أبي علي الفارسي مدة طويلة نحواً من عشرين سنة، فقال له أبو علي: ما بقي لك شيء تحتاج أن تسأل عنه. وكان أبو علي يقول له: لو سرت الشرق والغرب لم أجد أنحى منك. ثم عاد إلى بغداد؛ فلم يزل مقيماً إلى آخر عمره. وشرح كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وشرح كتاب الجرمي شرحاً شافياً، وألف مقدمة صغيرة، وصنف كتاباً في النحو حسناً جيداً يقال له البديع. ويحكي: أنه شرح كتاب سيبويه ثم غسله؛ وسبب ذلك أن بعض بني رضوان [التاجر] سأله يوماً في مجلسه عن مسألة فأجابه، فنازعه في الجواب، فقام من فوره مغضباً، ودخل البيت، وأخذ الشرح وجعله في إجانة، وجعل يصب عليه الماء، ويقطعه ويلطم به الحيطان، ويقول: أجعل أولاد البقالين نحاة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وكان مبتلًى بقتل الكلاب، فيحكى أنه اجتمع هو وأبو الفتح بن جني يمشيان في موضع، فاجتاز على باب خربة، فرأى فيها كلباً، فقال لابن جني قف على الباب، ودخل، فلما رآه الكلب يريد أن يقتله هرب وهرج، ولم يقدر ابن جني على منعه، فقال له الربعي: ويلك يابن جني! مدبر في النحو، ومدبر في قتل الكلام. ويحكى أنه كان على شاطئ دجلة في يوم شديد الحر، وهو عريان يسبح، فاجتاز عليه المرتضى الموسوي إمام الشيعة، ومعه عثمان بن جني وهما في سميرية، وعليهما مظلة تظلهما من الشمس، فلما رأى المرتضى عرفه، وعرف أن معه عثمان بن جني، فقال له: يا مرتضى، ما أحسن هذا التشيع! عليٌّ تتقلى تصيبه الشمس! فقال المرتضى للملاح: جد وأسرع؛ قبل أن يسبنا. ويحكى من سيره وتصرفاته ما طيه أحسن من نشره. وتوفي ليلة السبت لعشر بقين من المحرم سنة عشرين وأربعمائة في خلافة القادر بالله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ابن عبد الوارث النحوي وأما أبو الحسين محمد بن الحسين بن محمد بن عبد الوارث النحوي، ابن أخت أبي علي الفارسي، فإنه كان نحوياً فاضلاً، أخذ عن أبي علي الفارسي، وأخذ عنه أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني. وحكى عنه أنه قال في قول الشاعر: ديار التي كادت ونحن على منًى ... تحل بنا لولا نجاء الركائب هذا في معنى قول الآخر: قد عقرت بالقوم أم الخزرج يريد أنها استولت على قلوبهم، فوقفوا ينظرون إليها حتى كأنها عقرت رواحلهم، فعجزوا عن المضي. وإلى هذا ذهب أبو الطيب في قوله: وقفنا كأنا كل وجد قلوبنا ... تمكن في أزوادنا بالقوائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 المعنى: أنهم وقفوا بالمنازل يقضون فيها حق التذكر للعهود السالفة، ويجيبون داعية الشوق، فكأن ما في قلوبهم من الشوق والحزن قد جعل في قوائم ظهورهم حتى عجزت عن المشي، كما كان المعنى هناك: أن المرأة قد عقرت رواحلهم، وأعجزتها عن السير، حتى كأنها شوقتها كما شوقت أصحابها. ابن حماد الجوهري وأما أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، فإنه كان أديباً فاضلاً، أخذ عن أبي علي الفارسي، وعن خاله أبي إبراهيم الفارابي صاحب ديوان الأدب. وصنف الصحاح في اللغة للأستاذ أبي منصور البيشكي، وحصل سماع أبي منصور منه إلى باب الضاد المعجمة. واعترى الجوهري وسوسة، وانتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد إلى سطحه وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أيها الناس، إني قد عملت في الدنيا شيئاً لم يغلب عليّ، فسأعمل في الآخرة أمراً لم أسبق إليه. وضم إلى جنبيه مصراعي باب، وشدهما بخيط، وصعد مكاناً عالياً، وزعم أنه يطير، فوقع فمات، وبقي الكتاب غير منقح ولا مبيض، فبيضه بعض أصحابه؛ أبو إسحاق ابن صالح الوراق بعد موته، وغلط فيه في مواضع كثيرة، فمنها قوله: الخضم: المسن من الإبل، وإنما هو المسن، قال أبو وجزة: على خضم يسقى الماء عجاج أراد به المسن، لا المسن من الإبل. ومنها أنه قال في "سقر": السقر بالألف واللام، وهذا ما لا يغلط فيه مثله، قال الله عز وجل:] ما سلككم في سقر [. ومن أعجب ما فيه من التصحيف، أنه صحف فيه تصحيفاً مركباً، قال: الجرأضل: الجبل، فجعل الجراضل كلمة واحدة: بالجيم والضاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 المعجمة، وإنما هو الجر: أصل الجبل، كما قال الشاعر: وقد قطعت وادياً وجرا والجر أيضاً: حبل يشد من أداة الفدان. والجر أيضاً: شيء يتخذ من سلاخة عرقوب البعير يجعل فيه الخلع، يعلق من مؤخر العكم، فهو أبداً يتذبذب، وأنشد: زوجك يا ذات الثنايا الغر ... والربلات والجبين الحر والجر: أن ترعى الإبل وتسير؛ وكأنه مأخوذ من قولهم: جررت الجبل وغيره جراً، ومنه قولهم: وهلم جرا ... إلى غير ذلك من الغلط، وسبب ذلك أن مؤلفه مات قبل تبييضه، والذي بيضه لم يقرأه عليه. أبو محمد القيسي وأما أبو محمد مكي بن أبي طالب بن محمد بن مختار القيسي، فإنه كان نحوياً فاضلاً، عالماً بوجوه القراءات، وله فيها كتب كثيرة، منها كتاب إعراب مشكل القرآن، وكتاب التبصرة في القراءات السبع، وكتاب البيان عن وجوه القراءات في كتاب التبصرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وألفه في أواخر عمره سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وهو كتاب كبير الفائدة ... إلى غير ذلك من المؤلفات. أبو الحسن الحاجب وأما أبو الحسين هبة الله بن الحسن المعروف بالحاجب، فإنه كان من أهل الفضل والأدب، وكان شاعراً مليح الشعر، فمن ذلك قوله: يا ليلة سلك الزما ... ن بطيبها في كل مسلك إذ ارتقى درج المس ... رة مدركاً ما ليس يدرك والبدر قد فضح الظلا ... م فستره عنه مهتك وكأنما زهر النجو ... م بلمعها شعل تحرك والغيم أحياناً يمو ... ج كأنه ثوب ممسك وكأن تجعيد الري ... ح لدجلةٍ ثوبٌ مفرك وكأن نشر المسك ين ... فح في الغمام إذا تحرك كأنما المنثور مص ... فر الذارا ذهب مشبك والنور يبسم في الريا ... ض فإن نظرت إليه سرك شارطت نفسي أو أقو ... م بحقها والشرط أملك حتى تولى الليل من ... هزما وجاء الصبح يضحك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ويح الفتى لو أنه ... في ظل طيب العيش يترك! وأراه يحسب عمره ... فإذا أتاه الشيب فذلك وتوفي الحاجب أبو الحسين هبة الله بن الحسن فجأة، في آخر شهر رمضان، سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، في خلافة القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله تعالى. أبو القاسم الثمانيني وأما أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني، فإنه كان نحوياً فاضلاً، وكان ضريراً، أخذ عن أبي الفتح عثمان بن جني: وأخذ عنه أبو المعرم بن طباطبا العلوي. وضرح اللمع لابن جني، وشرح الملوكي في التصريف لابن جني أيضاً. وكان هو وأبو القاسم بن برهان متعارضين بالكرخ، فكان خواص الناس يقرؤون على ابن برهان، والعوام يقرؤون الثمانيني. ابن هلال الكاتب وأما أبو الحسن هلال بن المحسِّن بن إبراهيم بن هلال الكاتب؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فإنه كان يطلب الأدب، وسمع من أبي علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، وعلي بن عيسى الرماني، وأبي بكر محمد بن الحراز، وكان صدوقاً. قال أبو بكر الخطيب: سألته عن مولده، فقال: ولدت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. وتوفي ليلة الخميس لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، في خلافة القائم بأمر الله تعالى. أبو القاسم القصباني وأما أبو القاسم الفضل بن محمد القصباني، فإنه كان من أعيان أهل الفضل والأدب، صنف حواشي الإيضاح أبو علي الفارسي، وصنف مقدمة مشهورة في النحو، وأخذ عنه ابن زكرياء يحيى بن علي الخطيب التبريزي وأبو محمد القاسم بن علي الحريري. وتوفي يوم الخميس لست خلون من شهر صفر، سنة أربع وأربعين وأربعمائة، في خلافة القائم بأمر الله تعالى. أبو العلاء المعري وأما أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخي المعروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 بالمعري، فإنه كان غزير الفضل، وافر الأدب، عالماً باللغة، حسن الشعر، جزل الكلام، وكان ضريراً أعمى، ولم يكن أكمه؛ كما توهمه من لا علم له. وصنف تصانيف كثيرة، وأشعاراً جمة؛ كسقط الزند، ولزوم ما لا يلزم، إلى غير ذلك. قال أبو القاسم التنوخي: ورد بغداد، وقرأت عليه شعره. وذكر أنه لما قدم بغداد دخل عليه علي بن عيسى الربعي ليقرأ عليه شيئاً من النحو، قال له الربعي: ليصعد الإصطبل فخرج مغضباً، ولم يعد إليه. ويروى أنه أدخل يوماً إلى مجلس المرتضى، فعثر بإنسان، فقال له: من هذا الكلب؟ فقال له: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً! ويحكى عنه أنه كان برهمياً، وأنه وصف لمريض فروج، فقال: استضعفوك فوصفوك. وأخذ عنه أبو زكرياء يحيى بن علي الخطيب التبريزي. وذكر أن مولد أبي العلاء يوم الجمعة مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وعمي من الجدري، وجدر أول سنة سبع وستين وثلاثمائة فغشى يمنى حدقتيه بياض، وأذهب اليسرى. وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة - أو اثنتي عشرة. ورحل إلى بغداد سنة ثمان وتسعين، ودخلها سنة تسع وتسعين، وأقام بها سنة وتسعة أشهر، ولزم منزله بعد منصرفه من بغداد سنة أربعمائة، وسمى نفسه رهن المحبسين. وكان عمره ستاً وثمانين سنة، لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ويحكى عنه كلمات وأشعار موهمة، توجب في حقه التهمة؛ والله أعلم. وتوفي يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، سنة تسع وتسعين وأربعمائة، في خلافة القائم بأمر الله تعالى. ابن شيطي وأما أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن أحمد بن عثمان بن شيطي، فإنه كان مقرئاً أديباً، عالماً بالعربية، قيماً بوجوه القراءات، حافظاً لمذاهب القراء. قال أبو بكر بن الخطيب: وسألته عن مولده فقال: ولدت يوم الاثنين لست خلون من رجب، سنة سبعين وثلاثمائة. وقال الخطيب: وتوفي ابن شيطي يوم الأربعاء لخمس بقين من صفر، سنة خمسين وأربعمائة، وذلك في خلافة القائم بأمر الله تعالى. عبد الواحد العكبري وأما أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان العكبري النحوي، فإنه كان قيماً بعلوم كثيرة، منها النحو واللغة، ومعرفة أيام العرب والتواريخ، وليس له أنس بالحديث، وأخذ عن أبي أحمد عبد السلام بن الحسين البصري اللغوي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وعن أبي الحسن علي بن عبد الله السمسمي، وأخذ عنه أبو الكرم ابن الدباس النحوي. ويحكى [عنه] أنه كان مقيماً بالحريم، فنهب في أول دولة الترك، ونهب له فيه رحل وأثاث له قيمة، فأخبر المتقدم بذلك، فجاء إليه احتراماً له لمكانه من العلم - وكان على مذهب أبي حنيفة - فقال له: قد سمعت أنه قد أخذ منك مال له قيمة، وأنا أغرمه لك كله، فقال: لا أريد إلاّ ما أخذ مني بعينه، فقال: ومن أين أقدر على ذلك؟ ولا أعلم من أخذ! بل أنا أغرم لك ذلك وأكثر منه، فقال: لا حاجة لي في غير عين مالي؛ لأني لا أدري من أين هو! وقيل: إنه كان في أول زمانه منجماً ثم صار نحوياً، وكان حنبلياً فصار حنفياً عدلياً؛ فيحكى عنه أنه كان يقول: الحمد لله؛ لأني كنت منجماً فصرت نحو نحوياً، وكنت حنبلياً فصرت حنفياً عدلياً. وتوفي يوم الأربعاء ودفن في مقبرة الشونيزي يوم الخميس سنة خمسين وأربعمائة، في خلافة القائم بأمر الله. أبو القاسم الرقي وأما أبو القاسم عبيد الله بن علي بن عبيد الله الرقي، فإنه كان عالماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 باللغة والأدب، عارفاً بالقراءات وقسمة المواريث، وكان صدوقاً. ويحكى أن الشيخ الإمام أبا إسحاق الشيرازي الفقيه، كان يسأله عن الكلمة من اللغة، ويقول له: قدر أنه سألك عنها صبي، ولا تقل إنه سألني عنها الشيخ أبو إسحاق. قال أبو بكر الخطيب: سألته عن مولده، فقال: ولدت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وتوفي يوم الخميس الثاني من شهر ربيع الآخر، سنة خمسين وأربعمائة، في خلافة القائم بأمر الله تعالى. أبو الحسين الكاتب وأما أبو الحسين أحمد بن علي الكاتب، فإنه كان كاتب الخليفة القادر بالله تعالى مدة. وكان أديباً شاعراً، وخطيباً فصيحاً، حدث عن أبي بكر بن مقسم. وذكر هلال بن المحسن وأحمد بن محمد العتيقي، أنه توفي لتسع بقين من شعبان سنة خمسين وأربعمائة، في خلافة القائم بأمر الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 أبو منصور الخوافي وأما أبو منصور عبد الله بن سعد بن مهدي الخوافي، فإنه كان أديباً شاعراً، فرضياً حاسباً، وكان من أوفى الناس مروءة، وأسمحهم نفساً، دخل بغداد في زمان العميد الكندري، واستوطنها. وأخذ عن أبي يحيى خالد بن الحسين الأديب الأبهري. وكان كثير الرواية، وأكثر رواياته كتب الأدب، وكان قد جمع كتباً من كل جنس. وكان حسن الشعر، ومنه قوله: سآخذ في متون الأرض ضرباً ... وأركب في العلا عبر الليالي فإما والثرى، وبسطت عذري ... وإما والثريا والمعالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ابن بابشاذ وأما أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ، فإنه كان من أكابر النحويين، حسن السيرة، منتفعاً به وبتصانيفه. وكان هو وأبو الحسن علي بن فضال المجاشعي من حذاق نحاة المصريين على مذهب البصريين. أبو محمد الدهان وأما أبو محمد الدهان اللغوي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فإنه كان من أفاضل أهل اللغة، وأخذ عن علي بن يحيى بن عيسى الرماني، وأخذ عنه أبو زكرياء يحيى بن علي الخطيب التبريزي. قرأت على الشيخ أبي منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي اللغوي، عن الشيخ أبي زكرياء يحيى بن علي الخطيب التبريزي، عن أبي محمد اللغوي الدهان، لزهير بن أبي سلمى: لا تكثر على ذي الضغن عتبا ... ولا ذكر التجرم للذنوب ولا تسأله عما سوف يبدي ... ولا عن عيبه لك المغيب متى تلك في صديق أو عدو ... تخبرك العيون عن القلوب أبو بكر الجرجاني وأما أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي، فإنه كان من أكابر النحويين، أخذ عن أبي الحسين محمد بن الحسين بن محمد بن عبد الوارث، وكان يحكي عنه كثيراً، لأنه لم يلقَ شيخاً مشهوراً في علم العربية غيره، لأنه لم يخرج عن جرجان في طلب العلم، وإنما طرأ عليه أبو الحسين فقرأ عليه، وأخذ عنه علي بن أبي زيد الفصيحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وصنف تصانيف كثيرة جيدة، منها: كتاب المغني في شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي، وهو نحو ثلاثين مجلداً، وكتاب المقتصد في شرح الإيضاح أيضاً، نحواً من ثلاثة مجلدات، وكتاب إعجاز القرآن، وكتاب العوامل، وكتاب الجمل، وشرحها الموسوم بالتلخيص، إلى غير ذلك. وذكر في قول جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطري لولا الكمي المقنعا أن المراد به أبو الفرزدق غالب، لأنه عاقر سحيم بن وثيل، فغلبه، فكان جرير يقول: إنكم تفتخرون بعقر الإبل، فما بالكم لا تفتخرون بمعاقرة الأبطال وقتل الكماة! ويحكى أن غالباً أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: من أنت؟ قال: غالب، فقال له علي: صاحب الإبل الكثيرة؟ قال: نعم: فقال: ما فعلت إبلك؟ قال: دغدغتها النوائب، وفرقتها الحقوق، فقال: ذلك خير سبيلها، من هذا الذي معك؟ قال: ابني وهو يقول الشعر، فإن أذن أمير المؤمنين أنشد، فقال: علمه القرآن فإنه خير له من الشعر. الثعالبي وأما أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، فإنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 أديباً فاضلاً فصيحاً بليغاً، صنف كتباً كثيرة منها؛ كتاب يتيمة الدهر، وسحر البلاغة، وكتاب فرائد القلائد، وكتاب سر الأدب؛ إلى غير ذلك من الكتب، وأخذ عن أبي بكر الخوارزمي. وحكى أنه قال: المخلاف لليمن، كالسواد للعراق، والرستاق لخراسان. أبو محمد الأسود الأعرابي وأما أبو محمد الأسود الأعرابي، فإنه كان أديباً بارعاً في معرفة أنساب العرب، ومعرفة أسماء شعرائهم، وكان كثيراً ما بروي عن أبي الندى محمد بن أحمد. ولم يكن بالمشهور؛ وكان ابن الهبارية الشاعر يعيب أبا محمد الأسود الأعرابي بذلك. وصنف أبو محمد الأعرابي تصانيف لا بأس بها، منها نزهة الأديب وفرحة الأريب، وقيد الأوابد، إلى غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ويحكى أنه كان يتعاطى تسويد لونه، فكان يدهن بالزيت، ويقعد في الشمس، يتشبه بالأعراب؛ ليتحقق تلقيبه بالأعرابي. أبو الحسن الوراق وأما أبو الحسن محمد بن هبة الله بن الوراق النحوي؛ فإنه كان له في القراءات وعلوم القرآن يد ممتدة، وباع طويل. وكان ثقة صدوقاً، وهو سبط أبي الحسن محمد بن عبد الوراق النحوي. قال أبو الحسين الكاتب: كان شيخنا أبو الحسن مقرئاً، استدعاه القائم بأمر الله ليعلم أولاده، وكان ضريراً، فلما بلغ الموضع الذي فيه أمير المؤمنين، قال له الخادم: وصلت فقبل الأرض، فقال الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله، وجلس، فقال له القائم: وعليك السلام يا أبا الحسن، أدن مني، فما وال يدنيه، حتى مس بركبته ركبة أمير المؤمنين القائم، فأول ما سأله عن العروض، فقال: ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد فشرع أبو الحسن يشرحه، وأنه من الطويل على ثمانية أجزاء: "فعولن، مفاعيلن"، وأنه أتى به على الأصل؛ ولم يدخله القبض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وهو حذف الياء من "مفاعيلن"، ثم سأله عن عوارض العروض، فأجاب، ثم عن مسائل نحوية، فأجاب. فلما خرج الشيخ من عند القائم جاءه محمد الوكيل، فقال: فقال: مولانا أمير المؤمنين، يقول: هذا هو البحر. وتوفي يوم الجمعة قبل الصلاة، ودفن يوم السبت لخمس بقين من شهر رمضان، سنة سبعين وأربعمائة، في خلافة المقتدر بالله تعالى. أبو عبد الله الحلواني وأما أبو عبد الله سليمان بن عبد الله بن الفتى الحلواني، فإنه كان وافر العلم باللغة العربية، وكان والد الحسن بن سليمان، ثقة. نشأ بالمدرسة النظامية ببغداد، ونزل بأصبهان وسكنها، وأكثر فضلائها قرؤوا عليه، وأخذوا عنه الأدب. وذكره أبو زكرياء يحيى بن عبد الوهاب في تاريخ أصفهان، فقال: سليمان بن عبد الله بن الفتى البغدادي. قدم أصبهان، واستوطن بها، وكان جميل الطريقة، فاضلاً أديباً، حسن الأخلاق. ودخل بغداد سنة ثلاثة وأربعمائة، وتشاغل بالأدب على أبي القاسم الثمانيني وغيره من أدباء وقته. وكان مليح الشعر، ومنه قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 تذلل لمن إن تذللت له ... رأى ذاك للفضل لا للبله وجانب صداقة من لم يزل ... على الأصدقاء يرى الفضل له يحيى طباطبا العلوي وأما الشريف أبو المعمر يحيى بن طباطبا العلوي، فإنه كان من أهل الأدب والسؤدد، وإليه انتهت معرفة نسب الطالبين في وقته. وأخذ عن علي بن عيسى الربعي وعن أبي القاسم الثمانيني، وأخذ عنه شيخنا الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة العلوي الحسني المعروف بابن الشجري. وكان ابن طباطبا عالماً بالشعر، ورأيت له في صنعة الشعر مصنفاً حسناً. وكان شاعراً مجيداً، فمن شعره في الحث على طلب العلم: حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحى كئيب القلب عندي حزينه يلوى على أن رحت في العلم راغباً ... أجمع من عند الرواة فنونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فأعرف أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه ويزعم أن العلم لا يجلب الغنى ... ويحسن بالجهل الذميم ظنونه فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه توفي في شهر رمضان، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، في خلافة المقتدى بأمر الله تعالى. أبو المعالي بن قدامة وأما أبو المعالي بن علي بن قدامة، قاضي الأنبار، فإنه كان له معرفة بالفقه والشعر، وكان أديباً فاضلاً، ورأيت له مؤلفاً في علم القوافي، وتعليقاً في النحو. توفي لست عشرة ليلة خلت من شوال، سنة ست وثمانين وأربعمائة، في خلافة المقتدى بأمر الله تعالى. الخطيب التبريزي وأما أبو زكرياء يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني الخطيب التبريزي، فإنه كان أحد أئمة اللغة والنحو. أخذ عن أبي العلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 المعري وأبي القاسم عبيد الله بن علي الرقي وأبي محمد الدهان اللغوي. ودرس الأدب بالمدرسة النظامية ببغداد. وصنف تصانيف جمة، فمنها كتاب غريب القرآن، وكتاب مقاتل الفرسان، وكتاب الكافي في علمي العروض والقوافي، وشرح اللمع لابن جني، وشرح الحماسة، وديوان المتنبي والمفضليات، والسبع الطوال، والمقصورة لابن دريد، وسقط الزند للمعري، إلى غير ذلك من التصانيف. وأخذ عنه جماعة، كشيخنا أبي منصور موهوب بن أحمد بن الخضر الجواليقي وأبي الحسن سعد محمد بن سهل الأنصاري وأبي الفضل بن ناصر وغيرهم. وسمعنا أنه كان غير مرضي الطريقة. والله أعلم. وحكى ابن السمعاني عن أبي الفضل بن ناصر، أنه كان ثقة في اللغة وفيما ينقله. وحكى أبو زكرياء عن أبي الجوائز الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بن علي الواسطي، عن أبي الحسن المخلدي الأديب وغيره، أن المتنبي كان بواسط جالساً؛ وعنده ابنه محسد قائماً، وجماعة يقرؤون عليه، فورد إليه بعض الناس، فقال له، أريد أن يجيز لنا هذا البيت، وهو: زارنا في الظلام يطلب سراً ... فافتضحنا بنوره في الظلام فرفع رأسه، وقال: يا محسد، [قد] جاءك بالشمال فأته باليمين، فقال: فالتجأنا إلى حنادس شعر ... سترتنا عن أعين اللُّوَّام قال أبو الجوائز: معنى قول المتنبي لولده: قد جاءك بالشمال فأته باليمين أن اليسرى لا يتم بها عمل، وباليمنى تتم الأعمال، فأراد أن المعنى يحتمل زيادة فأوردها. وقد ألطف المتنبي في الإشارة، وأحسن ولده في الأخذ. وحكى أيضاً أبو زكرياء، عن أبي الجوائز الواسطي، عن أبي الحسن بن أذين البصير النحوي، قال: حضرت مع والدي مجلس كافور الإخشيدي، فدخل إليه رجل، فقال في دعائه: أدام الله "أيام"، سيدنا بكسر ميم "أيام"، ففطن لذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 جماعة من الحاضرين، أحدهما صاحب المجلس حتى حين شاع ذلك، فقام رجل من أوسط الناس، وأنشأ يقول: لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا ... أو غص بالريق أو بهر فتلك هيبته حالت جلالتها ... بين الأديب وبين الفتح بالحصر وإن يكن خفض الأيام عن غلط ... في موضع النصب، لا عن قلة النظر فقد تفاءلت من هذا لسيدنا ... والفأل مأثور عن سيد البشر بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن أوقاته صفوٌ بلا كدر وأخبرنا أبن ناصر إجازة عن أبي زكرياء لنفسه: فمن يسأم من الأسفار يوماً ... فإني قد سئمت من المقام أفمنا بالعراق على رجال ... لئام ينتمون إلى لئام وتوفي في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسمائة، في خلافة أبي العباس أحمد المستظهر بأمر الله تعالى، ودفن بمقبرة باب أبرز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 عل بن أبي زيد الفصيحي وأما علي بن أبي زيد الفصيحي النحوي، فإنه كان نحوياً حاذقاً، وتعلم النحو على كبر، وأخذ عن عبد القاهر الجرجاني، وأخذ عن جماعة، كأبي نزار النحوي، وأبي الفوارس الصيفي الشاعر الملقب بحيص بيص، ودرس الأدب بالمدرسة النظامية بعد الشيخ أبي زكرياء يحيى بن علي الخطيب التبريزي. وسمي بالفصيحي لكثرة إعادته ودرسه "الفصيح". ويحكى أنه دخل يوماً على مريض، فقال: شفاه الله تعالى! وسبق على لسانه: "ما وأرخيت الستر" لاعتياده كثرة إعادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وكان مقيماً بالمدرسة، فاتهم بالتشيع، وتعرض له بسبب ذلك، فقال: أأتهم بالتشيع! أنا متشيع من الفرق إلى القدم. وخرج من المدرسة علي، فقيهها، ودرس الأدب بها شيخنا أبو منصور موهوب بن أحمد الخضر الجواليقي. وكان المتعلمون يقصدون الفصيحي إلى داره التي انتقل إليها، حدثني زين الدين الأعرابي بن عمر السهروردي الصوفي، قال: داري بكراء، وخبزي بشراء، وقد جئتم تتدحرجون إلي! اذهبوا إلى ذلك الذي عزلنا به. ورأيت خطه بالقراءة عليه، سنة تسع وخمسمائة. الذكي وأما محمد بن أبي الفرج الكتاني الصقلي المالكي المعروف بالذكي، فإنه كان عالماً باللغة والنحو علوم الأدب. قال أبو نصر بن الفضل بن الحسين الطبراني: كنت أقرأ على الذكي المغربي كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الشهاب لأبي عبد الله القضاعي، فقال في قوله عليه الصلاة والسلام: "مَن لعب بالنرد شير، فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه"، قال: أصله النرد، وإنما قيل له: النردشير؛ لأن أول من لعب به أردشير، فنسب إليه. قال: وقرأت عليه في قوله عليه الصلاة والسلام: "تربت يداك" عقيب قوله: "عليك بذات الدين"، قال: معناه لا أصبت خيراً، وهو على الدعاء. قال: قال أبو عبيد: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتعمد الدعاء؛ ولكنها كلمة جارية على ألسنة العرب، يقولونها وهم لا يريدون وقوع الأمر. وقال ابن عرفة: تربت يداك، أي إن لم تفعل ما أمرتك به. والله أعلم. وقال ابن الأنباري: أي لله درك، إذا استعملت ما أمرتك به، واتعظت بعظتي. قال: وذهب بعض أهل العلم إلى أنه دعاء على الحقيقة، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث خزيمة: "أنعم صباحاً، تربت يداك"، يدل على أنه ليس بدعاء عليه، بل هو دعاء له، وترغيب في استعمال ما تقدم من الوصاية، ألا تراه قال: "أنعم صباحاً" وعقبه بقوله: "تربت يداك"، والعرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 تقول: لا أم لك، تريد: لله درك! ومنه قول الشاعر: هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً ... وماذا يرد الليل حين يثوب وظاهره: أهلكه الله، وباطنه: لله دره، وهذا المعنى أراده الشاعر بقوله: رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح أراد لله درها، ما أحسن عينيها! وأراد بالغر من أنيابها سادات قومها. قال الذكي المغربي في قوله عليه السلام: "لا عقد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الإسلام"؟ العقد: التحالف؛ كان الرجل يحالف الرجل في الجاهلية على أنه إن مات أحدهما ورثه الآخر دون ورثته، فجاء الإسلام بآية الميراث ونسخ ذلك. وتوفي الذكي المغربي بأصبهان، في حدود سنة عشر وخمسمائة. الحريري وأما أبو محمد القاسم بن علي [بن محمد] الحريري، فإنه كان أديباً فاضلاً، بارعاً فصيحاً بليغاً. صنف كتباً حسنة، عذبة العبارة، رائقة، منها: كتاب المقامات الشهيرة في أيدي الناس، وكتاب درة الغواص فيما يلحن فيه الخواص، وكتاب الرسائل، وملحة الأعراب وشرحها، إلى غير ذلك [من الكتب] . وأخذ عن أبي القاسم الفضل بن محمد القصباني -وكان القصباني نحوياً فاضلاً- قال الحريري: ذكر شيخنا أبو القاسم القصباني أنك إذا قلت: ما أسود زيداً! وما أسمر عمراً! وما أصفر هذا الطائر! وما أبيض هذه الحمامة! وما أحمر هذه الفرس! فسدت كل مسألة منها من وجه، وصحت من وجه، فيفسد جميعها إذا أردت بها التعجب من الألوان، وتصح جميعها إذا أردت بها التعجب من سواد زيد، وسمر عمرو -وهو الحديث بالليل خاصة- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ومن صفير الطائر، وكثرة بيض الحمامة، ومن حمر الفرس؛ وهو أن ينتن فوه. وأخذ عن الحريري المقامات شريف الدين علي بن طراد الزينبي الوزير، وقوام الدين علي بن صدقة الوزير، وابن المائدائي قاضي واسط، وابن المتوكل، وابن النقور، وجماعة كثيرة من أهل الأدب وغيرهم. وروى لي ابن المتوكل عنه: لما تعامى الدهر وهو أبو الورى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصده تعاميت حتى قيل إني أخو عمي ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده ويحكى أنه لما قدم بغداد حضره شيخنا أبو منصور موهوب بن أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الجواليقي، وهو يقرأ عليه كتاب المقامات: فلما بلغ المقامة الحادية والعشرين إلى قوله: وليحشرن أذل من فقع الفلا ... ويحاسبن على النقيصة والشغا قال له الشيخ أبو منصور: ما الشغا؟ فقال: الزيادة، فقال له الشيخ أبو منصور: إنما الشغا اختلاف منابت الأسنان، ولا معنى له هاهنا. وكان الحريري دميم الخلقة، فيحكى أن رجلاً قصده ليقرأ عليه، فاستدل على مسجده الذي يقرأ فيه، فلما أراد الدخول، رأى شخصاً دميم الخلق فاحتقره، وقال: لعله ليس هو هذا، فرجع. ثم قال في نفسه: لعله يكون هذا، ثم استبعد أن يكون هو، والشيخ يلحظه، فلما تكرر ذلك منه، تفرس الشيخ منه ذلك، فلما كان في المرة الأخيرة قال له: ادخل، فأنا من تطلب، أكثر من قرد محنك. ويحكى أنه كان مولعاً بالعبث بلحيته بحيث يتشوه بذلك، فنهاه الأمير وتوعده على ذلك، وكان كثير المجالسة له، فبقي كالمقيد لا يتجاسر أن يعبث بها! فتكلم في بعض الأيام عند الأمير بكلام استحسنه منه، فقال له الأمير: سلني ما شئت حتى أعطيك، فقال له: أقطعني لحيتي، فقال له: قد فعلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ويحكى أنه كتب إليه الوزير علي بن صدقة خادمه، فكتب إليه يستعفي من ذلك، فكتب إليه، إن عدت تستعفي [من ذلك] كتبت إليك: الخادم. قال ابن السمعاني: سألت أبا القاسم بن أبي محمد الحريري عن وفاة أبيه، فقال: توفي سنة ست عشرة وخمسمائة بيني حرام، من البصرة، وسألته عن مولده، فقال: لا أدري! غير أنه [قال لي] : كان له وقت أن توفي سبعون سنة. ابن الدباس وأما أبو الكرم المبارك بن فاخر بن محمد بن يعقوب النحوي البغدادي [أخو أبي عبد الله الحسين بن محمد لأمه] المعروف بابن الدباس، فإنه كان بارعاً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 النحو، أخذ عن أبي القاسم عبد الواحد بن برهان الأسدي، وأخذ عنه أبو محمد بن عبد الله بن علي بن أحمد المقرئ المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط. وألف كتباً، منها كتاب المعلم في النحو، وشرح خطبة أدب الكتاب، وجواب مسائل، إلى غير ذلك. وحدثني خالي أبو الفتح بن الخطيب الأنباري قال: سألت أبا الكرم ابن الدباس عن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سلمان منا أهل البيت" على ماذا اتنصب "أهلَ البيت"؟ فقال: انتصب على الاختصاص، وتقديره: أعني أهل البيت. قال ابن السمعاني: قرأت بخط والدي، قال: سمعت أبا الكرم بن الفاخر النحوي، يقول: صَمِتَ يَصمُت، وصَمَتَ يصمُت لغة رديئة. قال: وقال الكوفيون والبصريون: ما من فعل جاء ماضيه على فعل إلا وسمعنا في مستقبله يفعل بالكسر ويفعل بالضم، قال: وسمعنا نحن ذلك باليمن والحجاز من الأعراب. وحكى أبو الفضل محمد بن عطاف الموصلي أنه سأل أبا الكرم عن مولده فقال: ولدت في شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. قال ابن السمعاني: قرأت بخط والدي قال: سألت المبارك بن الفاخر عن مولده فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وحكى أبو الفضل محمد بن عطاف أنه توفي أبو الكرم بن الفاخر النحوي ليلة النصف من ذي القعدة، سنة خمسمائة، ودفن بباب حرب. وأخبرني أبو محمد ابن بنت الشيخ أبي منصور المقرئ النحوي، أنه قرأ عليه شرح كتاب سيبويه للسيرافي في مدة آخرها مستهل رجب، سنة أربع وخمسمائة؛ والله أعلم. أبو محمد النعماني وأما أبو محمد طلحة بن محمد النعماني، فإنه كان عالماً بالأدب. كثير المحفوظ، مليح الشعر، جيد القريحة، سريع البديهة. قال أبو عمرو عثمان بن محمد النقالي بخوارزم: كنت أنا والشيخ أبو محمد طلحة بن محمد النعماني نمشي ذات يوم في السوق، فاستقبلتنا عجلة عليها حمار ميت، يحمله الدباغون إلى الصحراء، ليسلخوا جلده فعجبت من ذلك مرتجلاً: يا حاملاً صار محمولاً على عجله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فقال أبو محمد مجيباً: أتاك موتك منتاباً على عجله فحكيت له هذه الحكاية، فتفكر في نفسه سويعة، ثم أنشأ يقول: والموت لا تتخطى الحي رميته ... ولو تباطأ عنه الحي أزعج له ابن السيبي وأما أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب بن السيبي، فإنه كان مؤدب الخلفاء، وكانت له معرفة بالأدب والشعر، وأخذ عنه شيء يسير. وتوفي يوم الثلاثاء، لست عشرة ليلة خلت من المحرم، سنة أربع عشرة وخمسمائة، في خلافة المسترشد بالله، وصلي عليه بجامع القصر، ودفن بباب حرب. أبو الأزهر المحولي وأما أبو الأزهر الضحاك بن سلمان بن سالم المحولي، فإنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 له معرفة وافرة بالنحو واللغة، وله قريحة جيدة في الشعر، فمنه قوله: ما أنعم الله على عبده ... بنعمة أوفى من العافية وكل من عوفيَ في جسمه ... فإنه في عيشة راضيه والمال شيء حسن جيد ... على الفتى لكنه عارية ما أحسن الدنيا ولكنها ... مع حسنها غدارةٌ فانية وأسعد العالم بالمال من ... أداه للآخرة الباقية أبو إسحاق الغزي وأما أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن محمد الغزي، فكان أحد الفضلاء وممن يضرب به المثل في صنعة الشعر. ومحاسن شعره كثيرة، فمنها قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 إن يكرهوا نظم القريض فعذرهم ... باد كحاشية الرداء المعلم هم محرمون عن المناقب والعلا ... والشعر طيب لا يحل لمحرم ومنها قوله أيضاً: قالوا تركت الشعر قلت ضرورةً ... باب الدواعي والبواعث مغلق لم يبق في الدنيا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق ومن العجائب أنه لا يشترى ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق ومنها: يلغى الكرى فيما يحاول صيده ... إلا الخيال فمن حبائله الكريم إلى غير ذلك. وكان أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الطبري الأديب يقول غير مرة في المذاكرة إذا استحسن شيئاً من شعر نفسه: هذا يشبه شعر الغزي قال ابن السمعاني: وخرج أبو إسحاق الغزي من مرو إلى بلخ، فأدركته المنية في الطريق، وحمل إلى بلخ، ودفن بها. وكان يقول: أرجو أن يغفر الله عز وجل لي ويرحمني، لأني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 شيخ مسن جاوزت التسعين، ولأني من بلد الإمام الشافعي محمد بن إدريس - يعني من غزة. وتوفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة، في خلافة المسترشد بالله تعالى. أبو الفضائل بن الخاضبة وأما أبو الفضائل بن أبي بكر، ابن الخاضبة، فإنه كان من أولاد المحدثين وكان له معرفة باللغة والحديث، وكان حسن الكلام على الأحاديث، حسن الخط. ويحكى أنه لم يكن له طريقة جميلة. وولد يوم الاثنين لثلاث ليال خلون من رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة وتوفي ليلة الأحد، سلخ شهر رمضان، سنة ست وعشرين وخمسمائة، في خلافة المسترشد بالله تعالى. أبو طاهر الأصبهاني وأما أبو طاهر إسماعيل بن محمد الوثابي الأصفهاني، فإنه كان له معرفة تامة بالأدب، ولم يكن بأصفهان في صنع الشعر والترسل أفضل منه. قال ابن السمعاني: سمعت الناس يقولون: إنه كان يخل بالصلوات الفرض، والله تعالى أعلم بصحة ذلك. وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، في خلافة المقتفي لأمر الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أبو الفضل الميداني وأما أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد الميداني النيسابوري، فإنه كان أديباً فاضلاً، أخذ عن أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي. وصنف تصانيف حسنة، منها: كتاب السامي في الأسامي، وكتاب نزهة الطرف في علم الصرف، وكتاب الهادي للشادي. ويحكى أنه لما قدم عليه الزمخشري الخوارزمي، نظر في كتابه الهادي للشادي، فأنكر عليه تسمية الكتاب بهذا الاسم، وقال له: كيف سميت هذا الكتاب مع نفاسته وغموض معانيه ودقتها بهذا الاسم! فإن الشادي من أخذ طرفاً من العلم، وهذا الكتاب لا يليق إلا بمن كان منتهياً لا مبتدئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ويحكى أنه لما فارقه إلى خوارزم عمد إلى بعض كتب الميداني، فزاد على اسم الميداني نوناً قبل الميم، فصار "النميداني"، أي الذي لا يعرف. فلما فارقه، نظر الميداني في الكتاب فشق عليه ذلك، وتتبع بعض كتب الزمخشري، فغير الميم من الزمخشري بالنون، فصار "الزنخشري"، ومعناه بالفارسية: بائع زوجته، فلما وقف الزمخشري على ذلك، كتب إلى الميداني واعتذر إليه من ذلك، فكتب إليه: إذا رجعت رجعنا، وقبلنا عذرك. وهذه فكاهة لا تليق بالمشايخ. أبو سعد الهروي وأما أبو سعد آدم بن أحمد بن أسد الهروي، فإنه كان أديباً فاضلاً، عالماً باللغة، وورد بغداد حاجاً سنة عشرين وخمسمائة، وقرئ عليه بها الحديث والأدب. وجرى بينه وبين شيخنا أبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي ببغداد نوع منافرة في شيء اختلفا فيه، فقال الأسدي للجواليقي: أنت لا تحسن أن تنسب نفسك، فإن الجواليقي نسبة إلى الجمع، والنسب إلى الجمع [بلفظه] لا تصح. وهذا الذي يكره نوع مغالطة؛ فإن لفظ الجمع إذا سمي به جاز أن ينسب إليه بلفظه، كمدائني ومعافري وأنماري، وما أشبه ذلك، فكذلك هاهنا. وتوفي أبو سعد الهروي لخمس بقين من شوال، سنة ست وثلاثين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وخمسمائة، في خلافة أبي عبد الله محمد المقتفي لأمر الله تعالى. الزمخشري وأما أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، فإنه كان نحوياً فاضلاً، وأخذ عن أبي مضر، ورثاه ببيتين وهما: وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين فقلت لها الدر الذي قد ملا ... أبو مضر أذني تساقط من عيني وصنف كتباً حسنة، منها كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل، وكتاب الفائق في غريب الحديث، وكتاب ربيع الأبرار، وكتاب أسماء الأودية والجبال، وكتاب المفرد والمؤلف في النحو، وكتاب المفصل في النحو، وكان يزعم أنه ليس في كتاب سيبويه مسألة إلا وقد تضمنها هذا الكتاب. ويحكى أنه بعض أهل الأدب، أنكر عليه هذا القول، وذكر له مسألة من كتاب سيبويه، وقال: هذه ليست فيه، فقال: إنها إن لم تكن فيه نصاً فهي فيه ضمناً؛ وبين له ذلك. وقدم إلى بغداد للحج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 فجاءه شيخنا الشريف ابن الشجري مهنئاً له بقدومه، فلما جالسه أنشده الشريف فقال: كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن داود أطيب الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قدر أي بصري وأنشده أيضاً: واستكثر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر وأثنى عليه، ولم ينطق الزمخشري حتى فرغ الشريف من كلامه، فلما فرغ، شكر الشريف وعظمه وتصاغر له، وقال: إن زيد الخيل دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحين بصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع صوته بالشهادة، فقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا زيد الخيل، كل رجل وصف لي وجدته دون الصفة، إلا أنت، فإنك فوق ما وصفت". وكذلك الشريف، ودعا له، وأثنى عليه. قال: فعجب الحاضرون من كلامهما؛ لأن الخبر كان أليق بالشريف، والشعر أليق بالزمخشري. ومدحه ابن دهاس السليماني فقيه مكة، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 جميع قرى الدنيا سوى القرية التي ... تبوأها داراً فداء زمخشرا وأحر بأن تزهى زمخشر بامرئ ... إذا عد في أسد الشرى زمخ الشرى وحكى أبو عمر عامر بن الحسن السمسار، قال: ولد خالي في خوارزم يزمخشر، يوم الأربعاء السابع والعشرين من رجب، سنة سبع وستين وأربعمائة، وتوفي بقصبة خوارزم، ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. أبو المظفر البروجردي وأما أبو المظفر شبيب بن الحسين بن عبيد الله بن الحسين بن سباب البروجردي القاضي، فإنه كان أديباً شاعراً، حسن الجملة والتفصيل، وكان يحفظ أشعاراً كثيرة. ويحكى أنه مات له ولد، وكان يحبه حباً شديداً، فصبر ولم يجزع، وقال: أعطيت بغير استحقاق، وأخذت وأنت غير ظالم، فلك الحمد في الحالين. وسئل عن مولده، فقال: ولدت لخمس بقين من رجب، سنة إحدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وخمسين وأربعمائة. أبو منصور الجواليقي وأما أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي اللغوي، فإنه كان من كبار أهل العلم، وكان ثقة صدوقاً، وأخذ عن الشيخ أبي زكرياء يحيى الخطيب التبريزي، وكان يصلي إماماً بالإمام المقتفي لأمر الله. وصنف له كتاباً لطيفاً في علم العروض. وألف كتباً حسنة، منها: شرح أدب الكتاب، ومنها المعرب، ولم يعمل في جنسه أكبر منه، والتكملة فيما تلحن فيه العامة، إلى غير ذلك. وقرأت عليه، وكان منتفعاً بع لديانته، وحسن سيرته، وكان يختار في بعض مسائل النحو مذاهب غريبة، وكان يذهب إلى أن الاسم بعد "لولا" يرتفع بها؛ على ما يذهب إليه الكوفيون، وقد بينت وجهه غاية البيان، في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف"، وكان يذهب إلى أن الألف واللام في "نعم الرجل"، للعهد، على خلاف ما ذهب إليه الجماعة من أنها للجنس لا للعهد. وحضرت حلقته يوماً وهو يقرأ عليه كتاب الجمهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 لابن دريد، وقد حكى عن بعض النحويين، أنه قال: أصل "ليس" "لا أيس"، فقلت: هذا الكلام كأنه من كلام الصوفية، فكأن الشيخ أنكر علي ذلك، ولم يقل في تلك الحال شيئاً فلما كان بعد ذلك بأيام، وقد حضرنا على العادة، قال: أين ذلك الذي أنكر أن يكون أصل "ليس" "لا أيس"؟ أليس "لا" تكون بمعنى "ليس"؟ فقلت للشيخ: ولم إذا كان "لا" بمعنى "ليس" تكون أصل "ليس" "لا أيس"! فلم يذكر شيئاً. وكان الشيخ رحمه الله تعالى في اللغة أمثل منه في النحو أبو منصور، عن الشيخ أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي عن أبي الجوائز الحسين بن علي الكاتب الواسطي، وقال: رأيت في سنة أربع عشرة وأربعمائة، وأنا جالس في مسجد قباء من نواحي المدينة امرأة عربية حسنة الشارة، رائقة الإشارة، ساحبة أذيالها، رامية القلوب بسهام جمالها، فصلت هناك ركعتين، أحسنتهما، ثم رفعت يديها، ودعت بدعاء جمعت فيه بين الفصاحة والخشوع، وسمحت عيناها يدمع غير مستدعًى ولا ممنوع، وانثنت تقول وهي متمثلة: يا منزل القطر بعد ما قنطوا ... ويا ولي النعماء والمنن يكون ما شئت أن يكون، وما ... تشاء ألا يكون لم يكن وسألتني عن البئر التي حفرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وكان أمير المؤمنين يتناول ترابها منه بيده، فأريتها إياها، وذكرت لها شيئاً من فضلها، ثم قلت لها: لمن هذا الشعر الذي أنشدته منذ الساعة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فقال بصوت شج، ولسان منكسر: أنشدناه حضري لاحق، لبدويٍّ سابق، وصلت له منا علائق، ثم رحلته الخطوب، وقد رقت عليه القلوب، وإن الزمان ليشح بما يشح، ويسلس ثم يشرس، فلولا أن المعدوم لا يحسن لقلت: ما أسعد من لم يخلق! فتركت مفاوضتها، وقد صبت إلى الحديث نفسها خوفاً أن يغلبني النظر في ذلك المكان، وأن يظهر من صبوتي، على ما لا يخفى على من كان في صحبتي، ومضت والنوازع تتبعها، وهواجس النفس تشيعها. وتوفي يوم الأحد منتصف المحرم، سنة تسع وثلاثين وخمسمائة في خلافة المقتفي لأمر الله تعالى. أبو البركات الشريف وأما أبو البركات عمر بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن الإمام الشهيد، ابن علي زين العابدين بن السبط أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنه كان من أهل الكوفة، وكان نحوياً لغوياً، فقيهاً محدثاً شرح اللمع شرحاً شافياً، وأخذ عن أبي القاسم زيد بن علي الفارسي، وأخذ عنه أبو محمد عبد الله بن علي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أحمد المقرئ النحوي، ابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط، ومدحه بأبيات لنفسه ببغداد، قال: يا كوفة البلد المسدي إلى يداً ... والجالب الخير إذ عزت مطالبه تراك تجمعنا الأيام في زمن ... يا منزل العلم لابست ملاعبه بذلك الصدر، صدر الناس كلهم ... والباسق العز لا غابت كواكبه حتى أروح قلباً بات مرتقباً ... طوالع الفجر أو تبدو غواربه أحيا بكوفان علماً كان مندرساً ... وقام بالحق فيها وهو خاطبه فما له في الورى شكل سماثله ... وما له في التقى عدل يناسبه نجل النبي رسول الله متصل ... بآله الغر لا مالت جوانبه بر عطوف ردوف ماجد ورعٌ ... غيث على الأرض قد عمت سحائبه فاسمع مديح امرئ قد ظل ممتزجاً ... بلحمه المدح أصلا لا يحانبه وكان أبو محمد ممن قرأ عليه، لأنه كان علامة في النحو، وقرأ عليه جماعة كثيرة، واستضاء بعلمه خلق كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ويحكى أنه مر به أعرابيان وهو يغرس فسيلاً، فقال أحدهما للآخر: يطمع هذا الشيخ مع كبره أن يأكل من جني هذا الفسيل! فقال له الشريف: يا بني، كم من كبش في الرعي وخروف في التنور! ففهم أحدهما دون الآخر، فقال الذي لم يفهم لصاحبه: أيش قال؟ فقال: هو يقول: كم من ناب تسقى في جلد حوار، فعلم الأعرابي ما قال، وأعجبه ذلك، فيقال: إنه عاش حتى أكل من ثمرة ذلك الفسيل. وكان معمراً. قال ابن السمعاني: ولد الشريف عمر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة بالكوفة، وتوفي في شعبان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وذلك في خلافة المقتفي، ودفن يوم السبت في المسيلة، المعروفة بالعلويين، وصلى عليه كل من بالكوفة، وقدر من صلى عليه بثلاثين ألفاً. أبو محمد المزيدي وأما أبو محمد عبد الله بن نصر بن عبد العزيز بن نصر بن عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن أحد بن محمد بن سويد مالك بن عمرو بن سفيان المزيدي، فإنه كان أديباً فاضلاً، روح في البلاد، وسار في الآفاق، واقتبس العلم من الأئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الأكابر، وقرأ الأدب على الأديب الأبيوردي، وبرع فيه. ولد في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وثمانين وأربعمائة. وتوفي في المحرم يوم عاشوراء، سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، في خلافة المقتفي. أبو محمد المقرئ وأما أبو محمد عبد الله بن علي بن أحمد بن عبد الله المقرئ النحوي، ابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط المقرئ فإنه كان مشهوراً بعلم القرآن والقراءات، وكان لع معرفة وافرة بعلم العربية. وأخذ عن أبي الكرم بن الدباس النحوي، وسمعت عليه كتاب سيبويه وشرحه لأبي سعيد السيرافي، كلاهما عن أبي الكرم بن الدباس، وكان قد تفرد برواية شرح كتاب سيبويه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وبأسانيد عالية لم تكن لغيره. وكان شيخاً متودداً متواضعاً، حسن التلاوة والقراءة في المحراب. خصوصاً في ليالي شهر رمضان، وكان الناس يجتمعون إليه لاستماع قراءته في كل ليلة من ليالي الشهر لحسنها وجودتها. وكانت له تصانيف كثيرة في علم القراءات، وتخرج عليه خلق كثير، وكان يقول: لو قلت إنه ليس مقرئ بالعراق إلا وقد قرأ علي أو على جدي، أو قرأ على من قرأ علينا، لكنت أظنني صادقاً. وكان له مقتطفات من الشعر، فمنها قوله: أيها الزائرون بعد وفاتي ... جدثاً ضمني ولحداً عميقا سترون الذي رأيت من المو ... ت عياناً وتسلكون طريقا وكان مولده ليلة الثلاثاء بقين من شعبان، سنة أربع وستين وأربعمائة. وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، في خلافة المقتفي، ودفن من الغد بباب حرب عند جده، على دكة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. ابن الشجري وأما شيخنا الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 العلوي الحسني المعروف بابن الشجري، فإنه كان فريد عصره، ووحيد دهره في علم النحو، وكان تام المعرفة باللغة، أخذ عن أبي المعمر يحيى بن طباطبا العلوي. وصنف في النحو تصانيف، وأملى كتاب "الأمالي"، وهو كتاب نفيس، كثير الفائدة، يشتمل على فنون من علوم الأدب. وكان فصيحاً حلو الكلام، حسن البيان والإفهام، وكان نقيب الطالبين بالكرخ نيابة عن الطاهر، وكان وقوراً في مجلسه، ذا سمت حسن، لا يكاد يتكلم في مجلس بكلمة إلا وتتضمن أدب نفس، أو أدب درس، ولقد اختصم إليه يوماً رجلان من العلويين، فجعل أحدهما يشكو ويقول الآخر: إنه قال في كذا وكذا، فقال له الشريف: يا بني، احتمل؛ فإن الاحتمال قبر المعايب. وهذا كلمة حسنة نافعة، فإن كثيراً من الناس تكون لهم عيوب فيغضون عن عيوب الناس، ويسكتون عنها، فتذهب عيوب لهم كانت فيهم، وكثير من الناس يتعرضون لعيوب الناس، فتصير لهم عيوب لم تكن فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وسأله يوماً ولد النقيب الطاهر، عن "الآل" فقال: الآل: الذي يرفع الشخوص أول النهار وآخره، والأصل فيه الشخص، يقال: هذا آل قد بدا، أي شخص، والآل أهل البيت، وذكر فيه وجوهاً. فقال له ولد النقيب: هل جاء في اللغة في الآل غير هذا؟ فقال: لا، فقلت: ما تقول في قول زهير: فلم يبق إلا آل خيم منضد أليس المراد به عيدان الخيم؟ فقال: أليس قد قلت: إن الآل في الأصل هو الشخص، في قولهم: هذا آل قد بدا، أي شخص قد ظهر، فقوله: "آل خيم، يرجع إلى هذا، وجعل يصفني لولد النقيب، ويقول: فيه وفيه ... ولقد حكى يوماً قول أبي العباس المبرد في بناء: "حذام وقطام" إنه اجتمع فيه ثلاث علل: التعريف والتأنيث والعدل؛ فبعلتين يجب منه الصرف وبالثالثة يجب البناء، إذ ليس بعد منع الصرف إلا البناء، فقلت له: هذا التعليل ينتقض بقولهم: أذربيجان، فإن فيه أكثر من ثلاث علل، ومع هذا فليس بمبني، بل هو معرب غير منصرف، فقال الشريف: هكذا قيل، وهكذا قيل عليه. وكان الشريف بن الشجري أنحى من رأينا من علماء العربية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وآخر من شاهدنا من حذاقهم وأكابرهم. وتوفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، في خلافة المقتفي. وعنه أخذت علم العربية، وأخبرني أنه أخذه عن ابن طباطبا، وأخذه ابن طباطبا، عن علي بن عيسى الربعي، وأخذه الربعي عن أبي علي الفارسي، وأخذه أبو علي الفارسي عن أبي بكر بن السراج، وأخذه ابن السراج، عن أبي العباس المبرد، وأخذه المبرد عن أبي عثمان المازني، وأبي عمر الجرمي، وأخذاه عن أبي الحسن الأخفش، وأخذه الأخفش عن سيبويه وغيره، وأخذه سيبويه عن الخليل بن أحمد، وأخذه الخليل عن عيسى بن عمر، وأخذه عيسى بن عمر عن ابن أبي إسحاق، وأخذه ابن أبي إسحاق عن ميمون الأقرن، وأخذه ميمون الأقرن عن عنبسة الفيل، وأخذه عنبسة الفيل عن أبي الأسود الدؤلي، وأخذه أبو الأسود عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، على ما قدمناه في أول الكتاب. وهذا آخره والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302