الكتاب: منهج القرآن في القضاء والقدر المؤلف: محمود محمد غريب: من علماء الأزهر الشريف والموجه الديني لشباب جامعة القاهرة   (أسلم على يدي المؤلف خمسةٌ من علماء أوربا في فترة السبعينيات) الناشر: دار القلم للتراث - القاهرة الطبعة: الثانية، 1419 هـ - 1998 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. ---------- منهج القرآن في القضاء والقدر محمود محمد غريب الكتاب: منهج القرآن في القضاء والقدر المؤلف: محمود محمد غريب: من علماء الأزهر الشريف والموجه الديني لشباب جامعة القاهرة   (أسلم على يدي المؤلف خمسةٌ من علماء أوربا في فترة السبعينيات) الناشر: دار القلم للتراث - القاهرة الطبعة: الثانية، 1419 هـ - 1998 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: منهج القرآن في القضاء والقدر المؤلف: العلامة الشيخ / محمود غريب (أسلم على يدي المؤلف خمسةٌ من علماء أوربا في فترة السبعينيات) الناشر: دار القلم للتراث - القاهرة الطبعة: الثانية - 1419 هـ - 1998 م [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وسلام على النبي المصطفى، أما بعد: فالدارس للكون، يدرك النظام البديع في ذراته ومجراته، وما دام خالق الكون هو خالق الناس، فلا بد من تدبير وتقدير يسبق وجود الناس، ويحكم سيرهم ومسيرتهم، فقانون الخلق واحد (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) وكل الخلق جاء ويمضي على قدر (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) إن سير الأفلاك بحسبان وتقدير (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96). وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 سير الناس (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40). وهذا التقدير الدقيق، والعلم القديم بما كان وما يكون، وعدم خروج الأمر عن دائرة التقدير الإلهي، هو ما ألزمنا الإسلام بالإيمان به، في موضوع القضاء والقدر، وجعله جزءًا من الإيمان بالله، لا يتم الإيمان إلا به. عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ «لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» رواه مسلم. ثم استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الْإِيمَانِ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». وهذا القدر من الاعتقاد يكفي للنجاة في الآخرة. فكل ما أخطأك لم يكن ليصيبك وكل ما أصابك لم يكن ليخطئك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وكل ما يحدث في كون الله فقد أراده سبحانه. وهذا الإيمان يسلِّي النفس ويعزيها في كل فائت، ويطمئنها ويورثها الإقدام في كل مأمول. قال تعالى (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23). إن كل شيء يقع على الأرض - حتى ورق الشجر - أو يجري على الناس، حتى النفَس الذي نتنفسه من قدر الله، ويقع حسب علمه القديم، ثم بنت الآيتان الكريمتان على هذه الحقائق ثلاثة أمور. أولاً: عزاء النفس في كل فائت (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ). ثانياً: حمايتها من الفرح الذي يطغي صاحبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 (وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) فإن كان الفرح غير مطغٍ فالله - عز وجل - لم يصادر عواطفنا، قال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58). ثالثاً: حفظ النفس من التطاول بنعم الله على خلقه (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) وهذا هو دور الإيمان بالقدر في حياة الناس، وقد وقفت جماعة من المسلمين في موضوع القدر عند هذا الحد، واعتبرت أي مناقشة للموضوع بعد ذلك بدعة، بينما أفنى آخرون حياتهم، وشغلوا مَن بعدهم، في جدل عقيم. وهذه الرسالة مفتاح من مفاتيح القرآن الكريم؛ لفهم الآيات التي كثر النقاش حولها، وأخطأ كثير من المسلمين فهمها. وهي حلقة من سلسلة (حتى لا نخطئ فهم القرآن) التي سبق أن نشرتها بمجلة "التربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الإسلامية" ببغداد طوال سبع سنين. والله نسأل أن يلهمنا الصواب في فهم القرآن. * * * عدل الله كل لظة في الكون، وكل حركة فيه، تؤكد عدل الله المطلق، بل تتجاوز عدل الله إلى مقام الإحسان، وقد قرر القرآن هذه القضية، فيما لا حصر له من آياته (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108). (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45). وتأخيرهم إلى أجل مسمى يعطيهم فرصة العودة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والإصلاح. فمن أصرَّ فمحكمة الآخرة هي محكمة (العدل المطلق) (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47). وعدل الله وإحسانه، يؤكدان أن دائرة التكاليف في الأديان السماوية، وما يتبعها من ثواب وعقاب، مبنية على قاعدة (العدل المطلق) فالله - عز وجل - قد نزه نفسه عن العبث بأعصاب الناس، واللهو بهم، قال تعالى (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17). فكيف يتصور عاقل أن الله تعالى ألقى عباده - مكتوفين - في بحر القدر، ثم قال لهم: من ابتلَّ منكم فسيدخل النار؟ إن الله أعطى الناس القدرة التي تعينهم على فعل الطاعات. إن الذين أحسنوا توجيهها، وهي نفسها القدرة التي يُحْدثون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بها المعصية، عندما ينحرفوا بنعم الله. إن كل وسيلة لطاعته - عز وجل - يمكن أن تكون وسيلة عصيان، والعبد يملك قانون البديلات. فالنتاج العقلي، وما ملكت أيدينا من خيرات، وطاقاتنا الجنسية والعضوية، يمكن أن ترفعنا إلى السماء، وأن تهوي بنا إلى الضياع. والاختيار - الذي منحنا الله إياه - يوجه الطاقة إلى الطاعة أو المعصية، وإذا فقد الإنسان القدرة على الاختيار سقطت عنه المؤاخذة؛ لأن التكاليف الشرعية، والحساب عليها لا يكونان إلا حيث تتوفر الإرادة الحرة (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173). وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أسقط الحدَّ عن امرأة زنتْ، ثم أثبتت أن الراعي منعها الماء، وكاد يهلكها الظمأ، ولم يسقها حتى مكنته من نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فسقوط الاختيار يسقط العقوبة، وحتى لا يخلط الشباب المسلم بين حرية الإنسان في أن يفعل أو لا يفعل، وبين ما قدَّره الله على العباد مما سبق به علمه - عز وجل - ولا يمكن دفعه، فسوف أُقسِّم (القضاء والقدر) إلى أقسام ثلاثة. أولاً: قضاء يستوجب الصبر أو الشكر ثانياً: قضاء يستوجب المعالجة. ثالثاً: قضاء أنت فيه حرٌّ، وفي حدود الحرية محاسب. وهذا التقسيم الثلاثي يوضح منهج القرآن ويجلِّيه، وقد سبقني إلى هذا التقسيم الثلاثي أبو الوفا درويش - رحمه الله - وإن اختلفت طريقة العرض والمعالجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 النوع الأول: قضاء يستوجب الصبر وهو كل ما يحدث للإنسان بدون تدخل من إرادته. الإيمان به عزاء، والصبر عليه واجب، وأجر الصبر والاحتساب أعظم من فقد الدنيا كلها (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10). من ذلك ذكاء المء وغباؤه، وطول العمر وقصره، ووسامة الوجه وقبحه، وسعة الرزق وضيقه. إن الدنيا النُّخال على الدقيق، وتقطف شبابا يؤمل بقاؤهم، وترد إلى أرزل العمر من نتمنى موته رحمة به أو رحمة للآخرين، وتغيب الحكمة عنا، ولا نملك إلا الصبر والتسليم. (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212). (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) [الحج: 5] هذه كلها أمور تجري بها المقادير، ولا نملك دفعها. وواضح أنها أمور لا تدخل في دائرة التكاليف الشرعية، ولا يحاسب عليها الإنسان. * * * النوع الثاني: قضاء يستوجب المعالجة: وأعني به ارتباط الأسباب بالمسببات، مع إيماننا بأنَّ الله خالق الأسباب والمسببات، وواجب المسلم أن يبذل كل جهده في تحصيل الأسباب الموصلة - عادة - للنجاة. فإذا استنفد طاقته، فما يتمُّ بعد ذلك فهو قدر الله، فالمريض لا بد أن يعالج، وعندما سأل كعب بن مالك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فقال: أرأيت دواء يتداوى به .. هل يرد قدر الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم - يا كعب: بل هو من قدر الله. والطالب لا بد أن يذاكر، وقواد الجيوش يعدون ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل لقتال عدو الله. علينا أن نأخذ بكل الأسباب، والأسباب في حد ذاتها من قدر الله، فما يتمَّ بعد ذلك فهو قدر الله. علينا أن نسعى، وليس علينا إدراك النجاح. إن بعض الناس يهملون أسباب النجاة، ثم يتهمون القدر وعاجز الرأي مضياع لفرصته. . . حتى إذا فات أمر عاتب القدرا لقد عزم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على دخول الشام، فعلم أن بها وباء الطاعون، فامتنع عن الدخول، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أتفرُّ من قدر الله؟ قال عمر: أفرُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 من قدر الله إلى قدر الله، هكذا فهم صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع من القدر، فجدوا في الأسباب * * * النوع الثالث: قضاء أنت فيه حرٌّ، وفي حدود الحرية محاسب وهذا النوع يتعلق بسلوك الإنسان إزاء التكاليف الشرعية. ذلك لأن التكاليف والمسئولية لا يكونان إلا حيث تتوفر الإرادة الحرة للإنسان. قال تعالى (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57). (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40). فالقرآن يثبت نوعا من المشيئة، يوجه بها قدرته إلى ما يختار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ولكن هذه المشيئة، لا تخرج الإنسان من دائرة العبودية لله، الذي انفرد وحده بفعل ما يريد. فمشيئتنا عطاءٌ من مشيئة الله سبحانه، كما أن علمنا شعاع من علمه (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ). إن مشيئة البشر واختيارهم لا تتجاوز في النهاية ما أراده الله. فالله - عز وجل - قد شاء أن يعبده كل الكون قهرا، بلا اختيار، فكل شيء في الكون يمارس نشاطه على وجه واحد بلا اختيار منه، إلا الإنسان فإن الله قد شاء أن يجعل له اختيارا في عبادته يؤهله للجزاء. (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31). فالقرآن أثبت لك مشيئة توجه بها قدرتك إلى طاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الله، أو تهوي بها في النار (1) كما أثبت لك القرآن إرادة تستطيع بها أن تغير حالك، وتصلح من نفسك مع الله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20). فقوِّي إرادتك في الخير، ولا تتبع نفسك هواها، وتتمنى على الله الأماني (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). فلك مشيئة ولك إرادة، وقدرة على الإصلاح والتغيير. وثمرة ذلك هي المسئولية عما تحاسب عليه. إن راكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 السفينة حرُّ الحركة في حدودها، وهو مسئول عما عبث فيها، فإن أراد أن يتجاوز بحريته حجم السفينة، ابتلعته الأمواج. * * * قسمة جائرة بعض الناس يجعلون لله ما يكرهون وينسبون للقدر ما يستحون من نسبته لأنفسهم. فإن فعلوا حسنة تفاخروا بها، وتطاولوا على الناس، وإذا فعلوا فاحشة نسبوها إلى الله. قال تعالى (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بهذا أمر الله، وقد قدَّر للناس حرية الطاعة راضين، أو المعصية شاردين صاغرين. وفي سورة الأنعام حكى القرآن الكريم فرية من مزاعم المشركين - الذين أشركوا ونسبوا شركهم إلى الله. قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ). لقد بنى المشركون شبهتهم على أنه لا يقع في كون الله إلا ما يريد، وقالوا: إن شركهم واقع فهو مراد الله. هذا زعمهم. وهي كلمة حق أريد بها باطل - كما قال الإمام محمد عبده - ويمكن أن نوجه إليهم نفس الحجة، فنقول لهم: إن التوحيد أمر واقع، وكل شيء يقع فهو مراد الله، فلماذا تحاربون التوحيد؟ والله إنهم يكذبون على أنفسهم، ليستروا شركهم، وقد ردَّ القرآن عليهم بقوله (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وأنبياء الله قد قامت الحجة العقلية والنقلية على تأييد صدقهم. فهل عند المشركين دليل واحد على زعمهم (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) وهذا المطلب لمجرد التحدي، وحقيقة أمرهم كما وضح القرآن (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148). إن نتاج العقل - مهما بلغ - بمعزل عن هَدْي الله، ظن وتخرص، واليقين ما أوصى الله به من هدى (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) فلا وزن لهرائهم (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) لأن الهداية بيد الله وحده (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149). ولكنه تعالى شاء أن يمنح هدايته لمن يستحقها، ممن قبِل هاية الإرشاد. وسوف نوضح هذا عند حديثنا عن (آيات تفسرها آيات). إن نسبة المعصية إلى القدر انحراف قديم، والإنسانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 جميعا تعرف قصة آدم وإبليس. لقد عصى آدمُ ربَّه عندما أكل من الشجرة التي نهاه - سبحانه - عنها قال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121). ونعلم أن إبليس عصى ربَّه من قبل عندما امتنع عن السجود لآدم. نزل آدم وزوجه إلى الأرض، ونزل إبليس إلى الأرض. فما سرُّ أن يتوب الله على آدم وزوجه، ويبقى إبليس في اللعنة إلى يوم يبعثون؟ وقد أجاب عن هذا السؤال فضيلة الأستاذ / محمد الغزالي - رحمه الله - فقال: إن آدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وزوجه عندما أكلا من الشجرة نسبا المعصية إلى نفسيهما واعتذرا إلى الله (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23). بينما نسب إبليس سبب المعصية إلى الله، وبرَّأ نفسه منها (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40). فقد نسب الإواء إلى الله (بِمَا أَغْوَيْتَنِي). إن قصة الخليقة الناجية - كما مثلها آدم - خطأ ومتاب. وقصة الخليقة الهالكة - كما مثلها إبليس - جريمة وإصرار، وسوف يبقى هذا الأمر إلى يوم القيامة، من نسب المعصية إلى نفسه تاب، يكتب مع آدم. ومن شرد عن الله، وأصرَّ على معصيته، يكتب مع إبليس، فتخير لنفسك ما شئت، فأنت تملك الخيار. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 القلب حرم آمن أي فعل يصدر عن الإنسان يأخذ مرحلتين: مرحلة داخلية تمثل النية والسريرة، ومكانها جوانية الإنسان وقلبه. ومرحلة خارجية، تمثل التنفيذ. ومعلوم أن المرحلة الثانية - مرحلة التنفيذ - يدخلها الخطأ والإكراه. أما المرحلى القلبية فهي المرحلة التي لا يمكن أن يدخلها الإكراه، فأنت تستطيع أن ترغم خادمك على فعل ما تريد، ولكنك لا تستطيع أن ترغمه على أن يضمر ما تريد. وقد فرَّق القرآن الكريم بين الخطإ والخطيئة. فالخطأ ما خلا من القصد الجنائي. والخطيئة ما تعمده القلب من معصية، قال تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5). وقال تعالى (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فالفرق بين الخطإ - الذي يعفو الله عنه - والخطيئة التي يؤاخذ الله عليها - هو عمل القلب -. فالسريرة هي سبب المؤاخذة، لأنها محل الاختيار المطلق، والأعمال بالنيات. كما أخبر النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ومنطقة القلب هي الحم الآمن الذي لا يستطيع أحد من جنود الشر أن يدخله إلا بإذنك. قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42). والله - عز وجل - شاء عدم إرغام عباده على شيء ولو كان هذا الشيء هو الإيمان بالله. قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99). فكيف يرغمهم على الكفر؟!! ومن أين يأتي الإكره على العمل، وأنت تعرف أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 النية تشكل العمل، والنية محلها القلب، والقلب - كما ذكرنا - حرم آمن. ولم يقبل رب العالمين أن يكرهنا على الإيمان، فكيف يكرهنا على الكفر؟!! ولم يسمح رب العالمين للشيطان أن يدخل حرم القلب إلا بإذنٍ من صاحبه. فاغتنم حياتك ووجه قلبك إلى الله، ودع الجدل. (1)   (1) أخبرت السنة أن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطإ والنسيان وما استكرهوا عليه. فما معنى الاستغفار من الخطإ والنسيان في قوله تعالى (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)؟ والذي أفهمه أن الله - عز وجل - يربي المسلمين عن طريق " الدعاء القرآني " يربيهم على أن تنحصر ذنوبهم في أمرين - الخطأ والنسيان - فلا يتعمدوا معصية الله، ولا يصروا عليها. ونفس المعنى في التربية يمكن أن نلحظه في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) فلفظ الآية هو الإخبار بعدم وقوع القتل العمد في المجتمع المسلم، ولكن معناها هو النهي في أبلغ صوره عن هذه الجريمة، كأن الله نهى المسلمين عن القتل فالتزموا بالنهي، فصور حالهم من الطاعة والالتزام، ونفى حدوث القتل العمد منهم. وهذا ما يسبيه العلماء " التعبير بالجمل الخبرية عن المعاني الإنشائية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ساعة وساعة الدارس لطبائع الناس يدرك أن الإنسان سريع التأثر باللحظة التي يعيشها، فساعة تلين له الدنيا، فيشعر أنه صاحب الأمر والنهي، وساعة تميل عنه الدنيا، وتكشر له من أنيابها، فيحسد النمل على طمأنينته وسعيه. فالنمرود - طاغية العراق في عهد إبراهيم الخليل - أخذه الغرور حتى قال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) وفرعون أطغاه المنصب، فأعماه عن حقيقة حجمه، فقال: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى). وقارون عندما طُلب منه حق الله في المال، أنكر دور القدر في الرزق وقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي). ونابليون في التاريخ الحديث - قال: لا مستحيل. لحظات تنتاب الضعاف من الناس فيتناسوا حقيقتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فإذا وصل الإنسان إليها، أو قاربها، جاء القرآن معالجاً، وجاءت آياته تخفف عن النفس غرورها الذي انحدر بها إلى التعالي. في مثل هذا المقام، يسوق القرآن الآيات التي تجرد الإنسان حتى من ملكية نفسه (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) إذن كل شيء بيد الله، وكل الدنيا ليس لها من الأمر شيء. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38). (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85). بهذه الحقائق يعالج القرآن نشوز النفس، ويعيدها إلى حجمها من الاعتدال، هذه ساعة. وساعة أخرى يصاب الإنسان بضعف الإرادة، وفقدان العزيمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ويضيق به الفضاء، فيفقد السيطرة حتى على نفسه، ويشعر أنه ريشة في مهب الريح، تعبث به الأقدار حيث تشاء. وإنسان بهذا العجز عبء على الحياة ثقيل. وهنا يأتي القرآن ليغرس فيهم الأمل، وينمي شعورهم بأنفسهم ويرفع إرادتهم الحرة حتى يوصلهم إلى درجة الاعتدال، بما يؤلهم لتحمل المسئولية، وهذا دور الآيات التي تثبت الإرادة والمشيئة والقدرة على التغيير للإنسان. (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ). آيات تدفع الإنسان إلى جادة الطريق، وتغرس فيه العزم. فنحن نلهوا والقدر جاد، ولا عذر لمتباطئ. والكون من حوله سريع، ومن انزوى عن الحياة لأول خسارة واجهته خسر نفسه. هذا منهج القرآن في علاج متناقضات النفس. وواجب الداعي أن يكون طبيبا، يأخذ لكل نفس من القرآن ما يصلحها. فالمتعالي على الأقدار، وعلى الناس، يعالجه القرآن، والهابط إلى الارتخاء، يجذبه لمركب الحياة. والآيات في كلا الجانبين حقيقة. فمشيئتنا شعاع من مشيئة الله (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فلا تعارض بين الحقائق القرآنية في الموضوعين، ولكن التعارض والتمزق في نفوس أصحاب الأهواء من المتنطعين (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28). ويزيد الطين بلَّة، بعض الذين يتصدون للدعوة وهم ليسوا من فرسانها، فلا يجيد تخير الدواء لمريضه من " صيدلية القرآن الكريم ". إن الدعوة إلى الله إخلاص وبصيرة (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). والأخذ بيد المستضعفين، يغاير علاج المستكبرين، ولكل مقام مقال، كما أن الحديث في مجتمع انكبَّ على العمل، وتكالب على الدنيا، ونسي ما وراءها، يجب أن يختلف عن الحديث في مجتمع تكاسل عن ركب الحياة، ورغب عنها. إن المال - في نظر القرآن - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 خير (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8). والسعي على الكسب عبادة، ولأن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تزرهم عالة، يتكففون الناس، هذه حقائق لا مراء فيها. ولكن من الجهل بعلاج النفوس، أن يركز الداعي عليها، في مجتمع انكبَّ على الدنيا، ونسي الله ولقاءه. ونفس الخطأ يقع فيه الداعي الذي بركز على دعوة الناس إلى الزهد في الدنيا، والفرار من زينتها، في مجتمع الكسالى والمتواكلين. إن الحقائق في الموضوعين ثابتة، ولكن اختيار الدواء بصيرة، ولكل مقام مقال. * * * آيات تفسرها آيات زلَّت أقدام كثيرة عندما حاول أصحابها أن يدرسوا موضوع " القضاء والقدر " بمعزل عن منهج القرآن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أو عندما حاول أصحابها أن يُحملوا آيات القرآن ما سبق أن اعتقدوه من فلسفات. وحفاظا على عقيدة الشباب المسلم، فسوف ألتزم في تفسير الآيات التي تكلمتْ عن المشيئة العليا - مشيئة الله - ألتزم فيها بتفسير القرآن للقرآن، إيماناً مني بأن مجموع آيات القرآن، في الموضوع الواحد، يتمم بعضها بعضاً، ويفسره. قال تعالى: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213). (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93). وكثير من الآيات تثبت أن الهداية والإضلال بمحض المشيئة العليا لله سبحانه، والأمر كذلك فعلاً. وأمام هذه الآيات يتساءل المسلم: ما دام الأمر هكذا فأين حرية الاختيار؟ ولماذا نحاسب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 والإجابة - في ضوء القرآن سهلة - فالقول المجمل يفسره المفصَّل، وقد فصل الله في كثير من الآيات ما أجمله في آيات المشيئة السابقة، قال تعالى في بيان الذين شاء إضلالهم (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27). وقال تعالى (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27). (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34). (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ). فالذين شاء الله إضلالهم، كشف القرآن عن هويتهم (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 إن الله سبحانه لا يُقبل بوجهه الكريم على مدبر. (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6). * * * وهؤلاء يهديهم الله قال تعالى (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28). (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9). (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69). (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا). (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى). (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13). فمن أقبل على الله بقلبه، وقبِل هداية أنبيائه، هداه الله هداية التوفيق. ومن أدبر وتولَّى، أضلَّه اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 هداية الله بعض الناس يستمرئ طريق الضلال، ويتقاعد عن فعل الخير، فإذا دعوته إلى الفضيلة قال: إن الله لم يهدني. وتصحيحا لعقيدة الشباب، ونهوضا بهمم الكسالى أحاول أن أوضح معنى (هداية الله) والدارس للقرآن الكريم، يرى أن القرآن استعمل كلمة الهداية في مجالات أربعة: أولاً: هداية إلزام الفطرة لما خُلقت له ثانياً: هداية الإرشاد والتعليم. ثالثاً: هداية التوفيق. رابعاً: هداية أهل الجنة لمنازلهم. وسوف أوجز شرح المعاني الأربعة. أولاً: هداية الفطرة كل شيء في الكون مسخر لما خُلق له، وقد أعطى الله كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 مخلوق هداية يؤدي بها رسالته في الحياة، ويحقق ما خُلق له. فكلب الحراسة لم نصدر إليه أوامرنا بالسهر، ولم نهدده بالجوع إذا نام، ومع ذلك يقضي ليله يقظاً. وترفع الدجاجة أجنحتها عن البيض قليلاً، في الأسبوع الثالث، حتى تسمح بدخول " الأكسوجين " إلى الأفراخ في البيض، ولو ضمت البيض بشدة، لاختنق الأفراخ. ودودة الحرير تنظف بطنها جيدا قبل الدخول في " الشرنقة " حتى لا تلوث الحرير بما يخرج من بطنها. والحشرة " فكس " تُؤمِّن مستقبل بيضها قبل أن تموت عندما تحفر حفرة، ثم تصطاد جرادة، وتقوم بتخيرها جيدا، ثم تنقلها إلى الحفرة، وتضع البيض فوقها، ثم تموت، فإذا خرج الجنين من البيض، وجد غذاءه لجما طازجا حيا. إن كل شيء يؤدي دوره في الحياة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قدر، وعندما سأل فرعون: قال (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50). هذه هداية الفطرة. * * * ثانياً: هداية الإرشاد وهي صناعة أصحاب الرسالات من الأنبياء والدعاة. وهي أشرف الاأعمال؛ لأنها تقطع حجة العباد على الله قال تعالى (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165). والهداية بمعنى الإرشاد والتعليم، وردت في قوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى). ومعنى (هَدَيْنَاهُمْ) هنا - أي أرشدناهم على يد نبينا صالح - عليه السلام - فآثروا الضلال على الهدى الذي جاءهم به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وهذا النوع من الهداية قد أثبته الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52). أي تعلم وترشد. وغني عن البيان أن هداية الإرشاد سبب في هداية التوفيق . * * * هداية التوفيق فاز بها الذين سعدوا، فأوصلتهم إلى الجنة (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157). بعد أن عاشوا دنياهم في أمان (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82). وقد نالوا هداية التوفيق عندما قبلوا هداية الإرشاد، واستجابوا لله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125). وأثر هذه الهداية في عقيدتهم أن الله أورثهم فرقانا في قلوبهم يفرقون به بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الحق - الذي هو منهج الله - وبين الأهواء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29). كما يسر لهم الطريق إلى الخير في الدنيا، فلم يجدوا عسرا في نفوسهم، عندما يعزمون على طاعة الله، أما مشقة التنفيذ فقد ذللها حبهم للخير، وإصرارهم عليه (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8). وإذا أغراهم الباطل بكل سلاح، عصمهم الفرقان الداخلي (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ). إن هداية التوفيق سر من أسرار الله، يمنحها لمن قبِل هداية الإرشاد. من هنا كانت هداية التوفيق من صنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الله وحده (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ). وقد نفى الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القدرة على هداية التوفيق (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقدر على هداية الإرشاد، ولا يملك هداية التوفيق. وهداية التوفيق يهبها الله سبحانه لمن قبِل هداية الإرشاد. أما من كذَّب وتولَّى فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104). إن سائق السيارة إن قبِل إرشادك للطريق السوي، وشكر لك، ثم تعطلت مركبته، فأمله في عونك كبير. أما من رد إرشادك، وأصر على السير في الطريق الوعر، فلن ينال عونك، إن تعطلت مركبته. هذا ولله المثل الأعلى (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 إن الله يتمم لك ما عزمت عليه. فإن جادت نفسك بالخير خوفا من الله وتصديقا بلقائه، يسَّر الله طريقك إلى الخير (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7). إن وجد الله الخيرَ في قلبك أعطاك خيرا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70). معادلة ثابتة، والله أكرم (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا) إن شحت النفس، وتبجح العبد على ربه، هوى بقصده في النار. (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10). إن الزارع يضع البزر، والله ينبت النبات. فازرع حياتك خيرا. فالحياة فرصة، والله يتمم لك ما تريد. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أو ازرع حياتك إن شئت شرا، ولكن عند قطف الثمر، لا تتهم القدر. * * * رابعاً: هداية المؤمنين لمنازلهم في الجنة الجنة واسعة، لأنها ظلال لرحمات الله التي وسعت كل شيء (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133). فكيف يعرف أهلها منازلهم؟ هذا هو مجال الهداية الرابعة، قال تعالى (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6). كيف يهديهم بعد أن استشهدوا؟ إن الهداية هنا هي إرشادهم إلى منازلهم في الجنة، وهو المشار إليه بقوله تعالى (عَرَّفَهَا لَهُمْ). هذه هي المعاني الأربعة للهداية في القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مفاهيم مظلومة أولاً: القضاء بين الأمس واليوم كان السلف الصالح يجعلون من الإيمان بالقدر زادا في معاركهم، فقد ولَّد هذا الإيمان إقداما وشجاعة. لقد غرس في قلوبهم الإيمان بأن العمر محدود والرزق مكفول، فخاضوا معاركهم آمنين على أنفسهم ومستقبلهم. إن شعارهم دائما (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا) وهذا الشعور ولد عندهم الإقدام آمنين قال شاعرهم: أي يومي من الموت أفر. . . يوم لا قُدِر أم يوم قدر يوم لا قُدِر لا أرهبه. . . ويوم قدر لا ينجي الحذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 هذه عقيدتهم، وأثرها في حياتهم، بها سادوا الدنيا، وقهروا الجبابرة. ثم خلف من بعدهم خلف ركنوا إلى الراحة ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وفسروا القضاء والقدر تفسيرا مثبِّطا لهمتهم، وملجأ يلجأون إليه عند الفرار من تحمل المسئولية. ثم من بعد هذا جعلوه عذرا يعتذرون به عندما يضيعون الفرصة. ونسمع من كلامهم: " أقام العباد حيث أراد " " هذا حظي " " المكتوب على الجبين لابد أن تراه العين " حتى أطلق بعضهم على البغاء اسم الوعد، ومنهم من قال: ألقاه في اليم مكتوفا وقال له. . . إياك إياك أن تبتل بالماء سامح الله هذه الأمة - لقد أضاعت نفسها يوم أن ضيعت دينها، وتكاسلت باسم القدر، ونامت في النور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 بينما استيقظ غيرها في الظلام،وجد السير فوصلوا. سامح الله هذه الأمة - إن أكثرها يدافع عن الخرافات أكثر من دفاعهم عن دين الله. * * * ث انياً: أمر الله ومن المفاهيم المظلومة، قول بعض الغارقين في شهواتهم: هذا أمر الله، يدافعون بذلك عن انحطاطهم وقد كذَّب القرآن دعواهم (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). بهذه المكارم أمر الله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى). فالله سبحانه لا يأمر بالفحشاء. إن الشيطان يأمر بالفحشاء. قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268). فأي إساءة للأدب، وفساد للفطرة، هذه التي تسمح لصاحبها أن ينسب إلى الله ما لا يليق به. وقد سألني بعض الشباب عن معنى قوله تعالى (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16). وحتى لا نخطئ فهم القرآن، لابد أن ندرس الآية الكريمة في ضوء السياق القرآني الذي ذكرت فيه، فقد سبقها ما يؤكد المسئولية الفردية (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14). والإنسان يتحمل نتيجة هدايته وضلاله (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وكما أكد السياق الكريم المسئولية الفردية، رفع عن الناس عبء تحمل أوزار الآخرين، مهما كانت درجتهم من القرابة (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) والله سبحانه أرحم بعباده من أن يؤاخذهم على كفرهم من قبل إرسال الرسل إليهم (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15). في وسط هذا السياق جاءت الآية الكريمة تشرح قانون إهلاك القرى، بعد عصيان الرسل. والآن ما معنى الآية الكريمة؟ (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) ظالمة بسبب تكذيبها للرسل لأن الله لا يهلك قرية حتى يبعث لها رسولا قال تعالى (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209). (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا). فاعل الفعل هو الله سبحانه، وما دام فاعل الأمر هو الله فإن الله لا يأمر بالفحشاء (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ). هذه هي أوامر الله - كما وضحها القرآن - وبها نفسر قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) (فَفَسَقُوا فِيهَا) أي خالفوا الأمر، ومنه قوله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي خرج وخالف. (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وهذه سنة الله في الظالمين (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102). هذا هو تفسير القرآن للقرآن - حتى لا نخطئ فهم القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثالثاً: إرادة الله وبنفس الأسلوب الهابط، يعتذرون عن معاصيهم بقولهم: هذه إرادة الله وهي كلمة حق أريد بها باطل، إن الله لم يقبل أن يُرغم عباده على طاعته فكيف يُرغمهم على معصيته؟ إنَّ جمع الناس على الهداية قهرا، يبطل رسالة الأديان، ويقعد الناس عن التسابق في الخير، والتنافس فيه. ويبطل الأجر على الطاعات، ويجعل عبادة الإنسان لا وزن لها في صحيفة عمله، قال تعالى (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48). إنَّ الجدل العقلي في هذا الموضوع لا نهاية له، ولا ثمرة منه. إنَّ الله أراد أن يجعل للإنسان إرادة يتحمل بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 نتائج فعله. وراكب القطار له حرية الحركة بين العربات، فإن أحدث مخالفة حوسب عليها؛ لأنه يتصرف باختياره. أما ما يتعلق بسير القطار، وتوقفه، ووصوله في الموعد، وتأخره فهذا شيء وإن كان له دخل بما قصدنا من السفر إلا أننا لا نستطيع تغييره. إن القرآن عندما سأل أصحاب النار عن سبب دخولها أجابوا بلا فلسفة ولا جدل (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47). اعترافات مرة، وحقائق بلا فلسفة ولا جدل. (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أين فنون الجدل وفلسفة التنصل واتهام القدر؟!! لقد ذهب لهو الدنيا وبقي الحق. * * * علم الله لم يخع المبطلون أنفسهم بشيء كما خدعوها بأن معاصيهم حتمية الوقوع، لأنها سبقت في علم الله، ونحن نؤمن بأن الله بكل شيء عليم، وهذا الإيمان يدعو إلى الحياء من الله، الذي يراك حين تقوم، ويرقب حركاتك وسكناتك في الليل والنهار، فمن يرغب في المعصية، وهو يؤمن بعلم الله، فعليه أن يبحث عن مسرح لمعاصيه، لا يراه الله فيه. ويروى أن امرأة دفعتها الحاجة الشديدة إلى بيت رجل غني، وامتنع عن قضاء حاجتها حتى تمكنه من نفسها، وبعد تردد شديد، وخوف من الهلاك، أسلمت نفسها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فقال لها مداعباً: إن الكواكب تحكي جمالك الفاتن. فقالت له: ترى الكواكب وأنا أرى موكب الكواكب، وهو غضبان، فانتفض الرجل خجلاً من الله - وقضى حاجتها، وأناب إلى ربه، فغفر له. فالإيمان بعلم الله حصن عن معاصيه، ولكن فنون الجدل العقيم، حولته إلى ستار لمعاصيهم. إن علم الله كالمرآة الصافية التي تعكس على كل إنسان حقيقة وجهه. فمن وقف أمام المرآة باسِم الوجه، طليق الملامح، يرى ابتسامة ونضرة. ومن وقف أمام المرآة عابس الوجه، كئيب الملامح، فلا يتهم المرآة. إن المدرس الماهر يعلم مصائر تلاميذه قبل الامتحان، وليس من حق تلميذ فاشل أن يقول: إن علمك برسوبي مسبقاً، هو السبب في رسوبي. إن المدرس أدى واجبه، فقد شرح ونصح، هذا - ولله المثل الأعلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إن الله يعلم بعلمه القديم ما سيختاره العباد من خير أو شر. فيسر كل إنسان لما عزم عليه، إقرارا ً لحريتهم، وتطبيقاً لقانون الجزاء العادل فيهم. ونسألهم: لماذا لا ينسبون فعل الخير الذي تعلمونه إلى علم الله، كما تنسبون المعاصي إلى علمه سبحانه؟ لماذا لا تقولون: إننا نتصدق، ونقضي حاجات الناس؛ لأنه جرى في علم الله أننا سنفعل هذا، فلا ثواب لنا؟ هل يتصورون علم الله خاصًّا بمعاصيهم؟ أم أن نفوسهم خلت من الخير، فلم يشغلوا أنفسهم به. إن صفة العلم بالنسبة لله سبحانه، صفة انكشاف، وليست صفة إجبار. إن الله سبحانه هداك النجدين، وأرسل الرسل، فتخيَّر زادك، فالسفر الطويل يحتاج إلى زاد. * * * خير من الجدل خير من الجدل - الذي لا ثمرة منه - أن نقرأ معا هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الآية الكريمة، التي تحدد ما يصح أن ينسب إلى الله، وما يصح أن ينسب إلى الناس (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110). وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11). فانسب المعصية إلى نفسك واترك الجدل، والجأ إلى ربك واعتذر، فسترى اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا. وبعد: كل شيء في الكون يمارس نشاطه على وجه واحد، بدون اختيار، إلا الإنسان، فإنه الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يفعل النقيضين باختياره، ومن هنا كان الثواب والعقاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 من تجارب الحياة جمعني عملي بالدعوة بعدد كبير من الشباب، فتحت لأكثرهم قلبي، وحاولت أن أرشدهم إلى الخير. وأفادتني هذه التجربة حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي: أن أكثر الذين يحاولون نسبة انحرافاتهم إلى القدر، هم الغارقون في الشهوات - الذين تضعف إرادتهم عن تكاليف التوبة. إنهم بهذا الزعم يريدون إسكات صوت النفس اللوامة فيهم - وإيقاف سياطها، بل إن بعضهم يفرُّ إلى الإلحاد من أجل أن يُخدِّر ضميره، ويوهم نفسه، بأنه لا إله، ولا حساب، مع علمه الداخلي بكذب دعوته (1)   (1) مات لأحد الدعاة إلى الإلحاد والشيوعية ولد في ريعان شبابه، فحرصت على الذهاب للعزاء، وقلت للأب الملحد: الجنة موعد اللقاء إن شاء الله، فارتسم على وجهه فرحة شديدة أدركت منها أن دعوته للإلحاد لا تتجاوز أنها دعوة منفعة أو فرار من جرائمة الأخلاقية، وعندما عتب عليَّ بعض الشباب المسلم، وقال: كيف تعده بالجنة، وهو من دعاة الإلحاد؟ قلت له: من قال لزوجته أنت طالق - إن شاء الله - لا يقع الطلاق، فأدرك صديقي ما عزمت عليه من اختيار فطرته فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وقد جمعني مجلس - في بلد عربي - بأحد هؤلاء الناس. جادلني في موضوع الجبر والاختيار، وأسرف في الجدل مصرًّا على أن الإنسان مسيَّرٌ. فاستأذنت من الحاضرين في الانفراد به بعض الوقت؛ لأن المناظرات العامة مقبرة للحقيقة، وحين أفردت به، نظرت إليه في ترحم وقلت له: استغفارك الله، خير من هذا الجدل، الذي لا يكفر ذنبا، ولا يمحو خطيئة. فانفرط في البكاء وقال: ادع الله أن يغفر لي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55