الكتاب: أَفْعَالُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَدَلاَلَتَهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ المؤلف: محمد بن سليمان بن عبد الله الأشقر العتيبي (المتوفى: 1430هـ) الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعه والنشر والتوزيع، بيرت - لبنان الطبعة: السادسة، 1424 هـ - 2003 م أصل الكتاب: رسالة دكتوراة - كلية الشريعة - جامعة الأزهر عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] ---------- أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية سليمان الأشقر، محمد الكتاب: أَفْعَالُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَدَلاَلَتَهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ المؤلف: محمد بن سليمان بن عبد الله الأشقر العتيبي (المتوفى: 1430هـ) الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعه والنشر والتوزيع، بيرت - لبنان الطبعة: السادسة، 1424 هـ - 2003 م أصل الكتاب: رسالة دكتوراة - كلية الشريعة - جامعة الأزهر عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] أَفْعَالُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَدَلاَلَتَهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُحَمَّد سُلَيْمَان الأشْقَر دكتورَاه فِي الشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّة مِن الجَامِعَةِ الأَزْهَرِيَّةِ الجُزْءُ الأوَّلُ مؤسسة الرسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 أَفْعَالُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَدَلاَلَتَهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم غاية في كلمة جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة السادسة 1424 هـ - 2003 م ISBN 9953 - 4 - 0166 - 7 جميع الحقوق محفوظة 1988 م. لا يسمح بإعادة هذا الكتاب أو جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إليكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر. (6) مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع وطى المصيطبة شارع حبيب أبي شهلا بناء المسكن هاتف: 319039 - 815112 فاكس: 818215 (9611) ص. ب: 117460 بيروت - لبنان resalah publishers Tel: 319039 - 815112 fax: (9611) 818615 Beirut - lebanon Email: resalah@resalah.com web location: Http://www.resalah.com الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحم سبحانك لا علم لنا إلّا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيّء لنا من أمرنا رشداً اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه اللَّهمَّ: منك ولك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 نال المؤلف بهذه الرسالة درجة العالمية (الدكتوراه) بمرتبة الشرف الأولى، في أصول الفقه، من كلية الشريعة بجامعة الأزهر، بعد مناقشتها في الجلسة المنعقدة لذلك بقاعة الشيخ محمد عبده. يوم الاثنين 25/ 10/ 1976م. من قبل لجنة مؤلفة من فضيلة الشيخ عبد الغني عبد الخالق مشرفاً، وفضيلة الشيخ محمد أنيس عبادة عضواً وفضيلة الدكتور محمد السعيد عبد ربه عضواً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 بسم الله الرحمن الرحيم فاتِحَة القَول الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وصلوات الله وتسليمه على نبيه الأمين، الذي حمل وحيه، وأدّاه إلينا كاملاً، مبيناً، لا عوج فيه، فعلمنا به من الجهالة، وهدانا به من الضلالة، وجمعنا به بعد الفرقة، وجعل لنا في الدنيا والآخرة مكاناً لا تنكره الأمم. وبعد، فإن نهر الشريعة الخالد ينبع أوّلاً من كتاب الله العظيم وحي الله المبارك، وكلمته إلى العالمين. ويستمد هذا النهر بعدُ من سنن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. منذ أن اختار اللُه نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - لحمل الرسالة، استشعر عظم المهمة التي ألقيت على عاتقه لهداية البشر، وتخوّف ثقل القول الذي كلّف به. لقد أهمّه أمر الجموع الزائغة من البشر، في الجزيرة وخارجها، من يهديها؟ وتلك الأجيال المتلاحقة عبر الزمان إلى أن تقوم الساعة، من يعلمها أحكام الله! حتى وردت الطمأنينة له من السماء: {ما ودّعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى} الله معك، أما أنت فاستقم كما أمرت، ولا تحد عنه. لا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل، وحدّث الناس بما جاءك من الوحي، واعبد الله واتّقِه حق تقاته. فهذا الذي عليك. ولست عليهم بمسيطر. إذن الأمر هيّن: تبليغ واستقامة، بيان بالقول، وضرب مثل بالفعل. أما الهداية والإضلال فهما بيد الله وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فشرح الله صدره للأمر، ووضع عنه وزره الذي أنقض ظهره، ويسر له ما كان عليه عسيراً. ولكن هل كانت المهمة يسيرة حقاً؟ لقد كان عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم الليل إلا قليلاً، يتدبّر تلك الكلمات الإلهية، ويقوّم بقيلها فكره وقلبه، حتى إذا أصبح، بلّغها قومه، واستقام عليها ليُقْتَدَى به، ونفّذ ما علّمه الله، ليكون شاهداً عليهم، كما أرسل اللُه إلى فرعون رسولاً، فعصاه فأخذه الله أخذاً وبيلاً. فالأمر جدّ، وليس عبثاً. لقد حرصت الأمة على تدوين ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله، وحفظ الله الذّكر بتلك الجهود المضنية التي بذلتها الأمّة، في شتّى ميادين العلم، والتي تكاد تماثل ما بذلته من الجهود في الجهاد والتبليغ. فكان في كلا النوعين من الجهاد، رفع ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر قومه في العالمين. أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقيقة الأمر أكثر من أقواله أضعافاً مضاعفة. وهذا ملاحظ في سائر البشر. فقلّما ينفكّ البشر عن فعل. ولكنه لا يتكلم إلاّ إذا بدا له ذلك. والتقرير أكثر من ذلك كله، فإن ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أفعال الصحابة وتروكهم، وما رآه في بيئته من الأمور فلم يغيره، لا يحصى، والذي أنكره من ذلك قليل جداً. لكن ما نقل إلينا في دواوين السنة من الأفعال والتقارير، أقلّ من الأقوال أو يساويه. وقد جمع السيوطي عامة السنن المروية في جامعه الكبير، فكانت الروايات الفعلية مساوياً تقريباً للروايات القولية. ومع ذلك، فهل خدَمَ الأصوليون الأفعال التي نقلت كما خدموا الأقوال؟ إن كتب الأصول الشاملة تعرضت للأقوال، من جميع جوانبها تقريباً. فبحثت في الأمر والنهي، والعموم والخصوص، والحقيقة والمجاز، وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بل تعرضوا لألفاظٍ معينة ودلالتها، فتكلموا في من وإلى وعن وعلى وأمثالها. وهناك المباحث التي تدخل فيها الأفعال مع الأقوال، كالحكم، والنسخ، والبيان والإجمال، وما سواها، كادت هذه المباحث أن تكون في كلام الأصوليين مقصورة على الأقوال، ولا يذكر الفعل فيها إلاّ لِماماً، كأنه ضيف زائر، أو حبيب معاتَب. وكتب الباحثون المتخصصون قديماً وحديثاً في مباحث الأقوال، وأفردوا أكثرها بمؤلفات متخصصة. فكتبوا في الأمر والنهي، وفي الحقيقة والمجاز، وفي تفسير النصوص المجملة. وكتبوا في العموم والخصوص وغير ذلك. وبالإضافة إلى ذلك كانت الدراسات اللغوية في النحو والبيان والمعاني تقوم بخدمة الأقوال، وبيان أدقّ الفروق في دلالاتها. لقد حرمت الأفعال النبوية إلاّ من مجهودات ضئيلة، لقد مسّها الأصوليون مسّاً سريعاً في مؤلفاتهم الأصولية الشاملة. فهل ذلك هو الوزن الحقيقيّ للأفعال؟ هل أعطيت الأفعال (كامل حقوقها وما ينبغي لها؟) إن استقراء مواقع الخلاف بين الفقهاء يظهر بجلاء، أن من أسباب الخلاف بينهم اختلافهم في الأحكام المستفادة من الأفعال، بل لعلّي لا أكون مبالِغاً إذا قلت: إنّ الخلاف في قواعد الأفعال هذه هو السبب الأكبر في الخلاف الفقهي. ولم نجد، بعد طول البحث، أحداً خصّ الأفعال بمؤلّف خاص، ما عدا اثنين من فضلاء المتأخرين، أحدهما الشيخ أبو شامة المقدسي، من رجال القرن السابع. ورسالته في ستين ورقة تقريباً. والآخر من رجال القرن الثامن وهو الحافظ العلائيّ، ورسالته في نحو ثلاثين ورقة. لم يُغَطِّ المؤلفان المذكورات جميع نواحي مباحث الأفعال، وكان بحثهما في المواضع التي طرقاها قاصراً من جهات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 لقد كان ذلك كله حافزاً لاختيار الأفعال النبوية موضوعاً لدراسة أصولية، أخدم بها السنة المطهرة. وقد سرت في عملي بحماس شديد شاعراً بعظم المهمة، ناظراً إلى الفراغ الكبير الذي ينتظر السداد. لقد كان السير في الطريق الممهّدة سيراً رفيقاً. أما الفراغ الذي لم يطرق من قبل فقد كان السير فيه عسيراً مضلِّلاً، لولا عون الله وتسديده وتوفيقه. وحرصاً على الطريق الممهّدة، لم أشأ أن أبدأ السير قبل أن أطّلع على كتابات شاملة في الأفعال، فحرصت كل الحرص على الحصول على رسالتي الحافظ العلائي وأبي شامة. أما الأولى فقد حصلت عليها بيسر، إذ وجدتها هنا بالقاهرة. وأما الأخرى، فقد طال البحث عنها في مكتبات العالم العربي فلم توجد فيه. ثم يسّر الله الكريم العثور عليها صدفة في إحدى المكتبات النائية في أوروبا، ولعلها النسخة الوحيدة في العالم من المؤلف المذكور. فحصّلت صورتها بعد عناء شديد. إلاّ أنه قد تبيّن أن كلاً من الرسالتين المذكورتين عجالة، تغني من جوع ولكنها لا تُسمِن، وتنقع الغلة دون أن تعطي الريّ أو تشفي الصدر. واستعنت بالله. ورأيت أن من الأفعال ما ليس في فعليّته خفاء، كالصلاة والصوم والجهاد والركوع والسجود والأكل والشرب والنوم. وأنّ من الأفعال ما اختلف في أنه فعل أو ليس بفعل كالترك والكتابة والإشارة والسكوت والإقرار. فخصصت النوع الأول بباب وسمّيته باب الأفعال الصريحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وخصصت النوع الثاني بباب وسمّيته باب الأفعال غير الصريحة. وجعلت للتعارض بين الأفعال وما سواها من الدلائل باباً ثالثاً. وقد مهّدت للرسالة بتعريف السنة لغة واصطلاحاً. وبيان حجية السنة إجمالاً ومنزلتها من القرآن. وفي تحرير المهمات النبوية وبيان دور الأفعال في أدائها على الوجه الأكمل. وأما الباب الأول وهو باب الأفعال الصريحة فقد انتظم في تسعة فصول: الفصل الأول تعرضت فيه للبيان بالأفعال في حالة انفرادها أو اجتماعها مختلفة أو متفقة. وفي حال اجتماعها مع الأقوال. والفصل الثاني تعرضت فيه لأحكام أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأوضحت أن فعله قد يصدر عن النصوص القرآنية، أو عن اجتهاد، أو تفويض، وأنه قد يصدر على أساس مرتبة العفو، أي عدم الحكم. وبينت في الفصل الثاني أن الأفعال التي تصدر عنه - صلى الله عليه وسلم -، إما أن تكون من قبيل الواجبات، أو المندوبات، أو المباحات، وتعرضت للعصمة عن المكروهات والمحرمات. وذكرت الطرق التي يتعيّن بها حكم فعله - صلى الله عليه وسلم -. فحصرت ذلك، وناقشت النظريات التي أُورِدَت في أماكن شتى من كلام الأصوليين حول ذلك. وفي الفصل الثالث بيّنت أن الأفعال النبوية من حيث الجملة حجّة شرعية. وناقشت المخالفين في ذلك. وأوردت الأدلة المقنعة. وفي الفصل الرابع قسّمت الأفعال النبوية الصريحة عشرة أقسام: الفعل الجبِلّيّ. والعاديّ. والدنيويّ. والخصائص. والمعجزات. والفعل البيانيّ. والامتثاليّ. والمتعدّي. والمفعول لانتظار الوحي. ثم الفعل المجرّد. وخصصت كل واحد منها بمبحث خاص أوضحت ما يستدل به منها وما لا يستدل به، وكيفية ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 غير أني خصصت الفعل المجرّد بفصل خاص هو الفصل الخامس، لمَّا أنه لبُّ باب الأفعال، وهو الذي يقع فيه الخلاف. وفي الفصل السادس تحدثت عن الأحكام التي يصح استفادتها من الأفعال، ومن أين يؤخذ كل منها، سواء الأفعال التكليفية والوضعية. وفي الفصل السابع تحدثت عن صفة الدلالة الفعليّة، وطبيعتها، وهل تنتمي إلى الدلالة المطابقيّة أو التضمنيّة أو الالتزامية. وذكرت أن الفعل قد يدل بالمفهوم. وبيّنت كيفية انسحاب حكم الفعل النبويّ على أفعال الأمة. وتعرضت في الفصل الثامن لدلالة متعلّقات الفعل النبوي. فذكرت دلالة سبب الفعل، وفاعله، ومفعوله، ومكانه، وزمانه، وهيئته، وما يقارنه، وأدواته المادّية، وعدد الفعل ومقداره. وفي الفصل التاسع ذكرت مباحث متنوّعة تتعلق بالأفعال، فعقدت مبحثاً بيّنْتُ فيه للمجتهد الطريق العمليَّ الذي يسلكه لاستفادة الحكم من الفعل النبويّ؛ ومبحثاً آخر للاعتراضات التي تورد على الاستدلال بالأفعال، وكيف الجواب عنها. ومبحثاً ثالثاً لنقل الفعل النبوي، وما قد يقع من الخلل في أدوات النقل وعباراته، وما يحصل من الأوهام بسبب ذلك، ليحصل التنبه لها، والحذر من الوقوع فيها. أما الباب الثاني: فقد عقدته للأفعال غير الصريحة وهي الكتابة والإشارة والأوجه الفعلية للقول، والترك، والسكوت، والتقرير، والهم بالفعل. وعقدت لكل منها فصلاً. ثم عقدت فصلًا لأمور تلحق بالأفعال النبوية. أما الباب الثالث: فقد عقدته للتعارض بين الأفعال النبوية بعضها ببعض، والتعارض بينها وبين الأدلة الأخرى. وانتظم عندي في أربعة فصول. وألحقت به قطعة من رسالة الحافظ العلائيّ المسمّاة (تفصيل الإجمال في تعارض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الأقوال والأفعال) رأيت من الضروري أن تكون بين يدَيْ من يطّلع على هذا البحث. وقد كان مما أخذته على نفسي في هذا البحث أن أزن الأمور بما تستحقه، فلا أستقلّ قولاً للجهالة بقائله، أو لأنه نُبِزَ بوصف غير لائق، ولا أغترّ بقول نسب إلى الجمهور أو الكثير، أو إلى فلان أو فلان من المشهورين. وقد أوردت من الفروع الفقهية أمثلة تتّضح بها القواعد، ويبين بها المراد. وأخذت على نفسي ألاّ أستطرد وراء تلك الفروع نقاشاً واستدلالاً إلاّ بمقدار ما تتضح به القاعدة الأصولية ويبين به المراد منها. والذي يريد دراسة الفرع الفقهيّ ينبغي أن يأخذه من مظانّه من كتب الفقه. وخرّجت ما ورد في هذه الرسالة من الآيات والأحاديث. وترجمت للأعلام المستغربة نوعاً ما، وتركت الترجمة للمشهورين اكتفاء بشهرتهم. ولست أدّعي العصمة، ولا أزعم الإحاطة. وإنما أدّعي وأزعم أنني بذلت جهداً في جمع شمل نواحي هذا الموضوع الهام، وأنني حللت جزءاً من تلك المشكلات، وسلطت الأضواء على مواضع الإشكال الأخرى. وليس ذلك بحولي ولا بقوّتي، وإنما بفضل الله وعونه وتيسيره لكل صعب، لمست ذلك عندما رأيت تفتّح المقفلات، وتيسير الشدائد، وتسهيل كل عسير. وأتقدم بالشكر إلى أستاذي فضيلة الشيخ عبد الغني محمد عبد الخالق، الذي كان لتشجيعه وتوجيهه أثره الكبير في خروج هذه الرسالة على هذا الوضع، ولكل من أسدى في ذلك يداً. "والحمد لله أولاً وآخراً" القاهرة - مدينة نصر يوم الخميس 17 من رجب الحرام 1396 هـ 15 من يوليو 1976 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تمهيد 1 - السنة في اللغة وفي الاصطلاح. 2 - حجية السنة إجمالاً، ومنزلتها من القرآن. 3 - تحرير المهمات النبوية وبيان دور الأفعال في أدائها على الوجه الأكمل. 4 - تعريف (الفعل) وانقسامه إلى صريح وغير صريح. 5 - الأفعال النبوية في الدراسات الحديثية والأصولية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المبحث الأول السنّة فى اللغة وفي الاصطلاح السنة في اللغة الطريق: المسلوك حسياً كان أو معنوياً (1). قال صاحب اللسان: "السنة، وسُنن الطريق وسَنَنُهُ، نهجه. وقال شمر: السنة في الأصل سنة الطريق. وهو طريق سنّه أوائل الناس فصار مسلكاً لمن بعدهم". وقال اللُه تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} (2) أي: "سن الله في الذين نافقوا الأنبياء وأرجفوا بهم أن يقتلوا أينما وجدوا" (3). وقال أيضاً: فهل ينظرون إلا سنة الأولين {فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلاً} (4)، أي: "إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. فقد أجرى الله العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذِّب بمثله من استحقه. لا يقدر أحد أن يبدّل ذلك" (5). وسواء أكانت الطريقة حميدة أو ذميمة، فكلاهما في اللغة سنة، يدلّ للنوع الأول قول لبيد في معلقته: من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها   (1) المعاني الحسية الواردة في اللغة لمادة (سنن) ثلاثة: 1 - السن بمعنى تحديد السكين ونحوها. 2 - السنة بمعنى الحظ. وقد ذكر في اللسان من معاني السنة الخط في جلد الحمار (الوحشي). 3 - السنن والسنة بمعنى الطريق. (2) سورة الأحزاب: آية 38 و62 (3) تفسير الآية عن لسان العرب. (4) سورة فاطر: آية 43. (5) تفسير هذه الآية عن القرطبي 14/ 360 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ويدل للنوع الثاني قول خالد بن زهير: ولا تَعْجَبَنّ من سيرةٍ أنتَ سرتَها (1) ... فأول راضٍ سُنّةً مَنْ يسيرها بل ورد هذا الاستعمال في السنة، كما في حديث الصحيحين، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعُنّ سُنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه" (2). وبهذا يتبيّن ضعف قول الخطابي: "إن "السنة" في اللغة للطريقة المحمودة خاصة" (3). "السنة" في الاصطلاح : السنة في اصطلاح الأصوليين ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من الأقوال والأفعال. وهي في اصطلاح المحدّثين لمعنى أوسع من ذلك، إذ هي عندهم: "ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، من قول، أو فعل، أو صفة خَلْقيّة، أو خُلُقيّة، وما يتصل بالرسالة من أحواله الشريفة قبل البعثة ونحو ذلك" (4). وإنما جعلوها كذلك لأنهم أهل العناية برواية الأخبار. وتطلق السنة على ما يقابل البدعة. وبذلك تصدق على كل الشريعة، من قرآن، وحديث ثابت، واجتهاد صحيح. ومن هنا استعمل الاصطلاح المشهور   (1) هذه رواية ابن قتيبة في (عيون الأخبار) 4/ 108 ولكن في (الشعر والشعراء): و (الأغاني. ط بولاق 6/ 62 - 63): فلا تجزعن من سنة أنت سرتها. وللبيت قصة، فلتراجع في هذه المواضع. (2) متفق عليه (الفتح الكبير). (3) إرشاد الفحول ص 33 (4) محمد محمد أبو زهو: الحديث والمحدثون / 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 "أهل السنة" تمييزاً لهم عن المبتدعة في الأعمال أو الاعتقادات، كالمعتزلة، والشيعة، والخوارج. ولهذا الاستعمال أصل في الحديث النبوي، قال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. تَمَسّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1). فقابل السنن بالبدع. وفي الصدر الأول كانت السنّة تطلق على طريقة الخلفاء الراشدين، بالإضافة إلى طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (سنة الخلفاء الراشدين) كما في الحديث الآنف الذكر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "جلَد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكلٌّ سنة" (2). إلا أنه لما أخذ الفقهاء فيما بعد بالمبدأ القائل بأنه لا حجّة في قول أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قُصِرت دلالة لفظ "السنة" على أقوالِ وأفعالِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده. قال ابن فارس: "كره العلماء قول من قال: سنة أبي بكر وعمر، وإنما يقال سنة الله وسنة رسوله" (3). أما في اصطلاح الفقهاء فالسنة بمعنى النافلة والمندوب، أي ما يتقرب به إلى الله تعالى مما ليس بمتحتم على المسلم. وبعضهم جعله لنوع خاص من القربة هي ما داوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التعبدات، كالوتر والرواتب وصوم الاثنين والخميس، دون ما لم يداوم عليه، كالنوافل المطلقة. واستعمل الفقهاء "السنة" في باب الطلاق خاصة للدلالة على الجواز الشرعي، فقالوا: طلاق السنة، وقابلوه بقولهم: طلاق البدعة، وهو غير المشروع، كالطلاق في الحيض، وطلاق الثلاث دفعة واحدة. هذا ويلاحظ على تعريف الأصوليين للسنة، أنه يدخل فيه ما لم يكن من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله حجة، كأفعاله وأقواله في شؤون الدنيا الصرفة، لقوله:   (1) رواه أبو داود 12/ 360 وحسنه الترمذي. ورواه الترمذي وابن ماجه (الفتح الكبير). (2) رواه مسلم (نيل الأوطار 7/ 147). (3) إرشاد الفحول ص 6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (1). والأولى إخراج مثل هذا (2)، ولعلّهم إنما تركوا التصريح به لظهوره، لأن من ترك العمل بما لا حجة فيه، لا يقال إنه تارك للسنة. ويشير إلى هذا قول عائشة: "نزول الأبطح ليس بسنّة، إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أسمح لخروجه" (3). مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. ويلاحظ أيضاً أن أقواله وأفعاله - صلى الله عليه وسلم -، قبل النبوة، ليست بتشريع، وتخرج بقولهم في التعريف (ما صدر عن النبي) فإن ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة لا يصدق عليه أنه (صادر عن النبي). وملاحظة ثالثة، وهي أن قول المحدّثين (ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أشمل مما قال الأصوليون، فالحديث عند المحدثين سنة بقطع النظر عن ثبوته. ولا يكون سنة عند الأصوليين إلاّ بقيد ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أجل ذلك عبّروا بقولهم (ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -). وملاحظة رابعة، وهي أن بعض الأصوليين قال في تعريف السنة: إنها ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، وبعضهم يضيف الترك، وبعضهم يضيف الهمّ والإشارة ونحو ذلك. والأولى ترك ذكر ما عدا الأقوال والأفعال، كما صنع البيضاوي في المنهاج، لأن كلّ ما ذكر مما سواهما فهو فعل على الراجح، كما سنذكره في مواضعه إن شاء الله. وأما من ادّعى أن شيئاً مما ذكر ليس فعلاً، وأنه حجة، فيلزمه ذكره في التعريف.   (1) رواه مسلم 16/ 118 (2) عبد الوهاب خلاف نص على أن ذلك "من السنة ولكنه ليس تشريعاً واجباً اتباعه". وعندي أن ذلك هو من "السنة" في اصطلاح المحدثين لا في اصطلاح الأصوليين لأن الأصوليين يعتمدون (الحجية). وقد أشار إلى اعتبار قيد الحجية في التعريف صاحب تيسير التحرير 3/ 20 (3) رواه مسلم 9/ 58 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 المبحث الثاني حجية السنّة إجمالاً الاحتجاج بالسنة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتبارها أحد أصول الشريعة الإسلاميّة الدالة على الأحكام الشرعية، هو دأب المسلمين قديماً وحديثاً. والذين يعرضون عن اتخاذها كذلك، ولا يعتبرونها عليهم حجة، قوم زائغون منحرفون عن الحق. بل قال الشوكاني: "إن ثبوت حجيّتها، واستقلالها بتشريع الأحكام، ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلّا من لا حظّ له في دين الإسلام" (1). القرآنيون : وقد نبغ بين المسلمين قوم سمّوا أنفسهم "القرآنيين"، ادّعوا أن الشريعة لا تؤخذ إلّا من القرآن، وأن المسلمين ليسوا بحاجة إلى السنة. وصنعوا من فهمهم المجرد للقرآن تركيبة شرعيّة في الطهارات والصلاة والزكاة والحج وغيرها، يعلم المطّلع عليها يقيناً أنها مخالفة لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ولهؤلاء القوم المعاصرين المذكورين سلف فيمن مضى، لم يزالوا تذرّ نجومهم، فتطمسها شموس الحق من أئمة الهدى في كل زمان. وقد ألّف السيوطي رسالته المشهورة "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة" للرد على من وجد من دعاة هذه الفكرة في زمانه من الرافضة. وذكر فيه أن أصحاب هذا الرأي من الزنادقة والرافضة، كانوا موجودين   (1) إرشاد الفحول ص 33 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 بكثرة في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم "وتصدى لهم الأئمة الأربعة، وأصحابهم، في دروسهم ومناظراتهم وتصانيفهم" (1). وذكر الشاطبيّ (2) طائفة شبيهاً حالها بحال هؤلاء، إلّا أنها كانت تقبل الحديث إذا وافق القرآن. ومع ذلك فقد قال الشاطبي عنهم: "أنهم قوم لا خلاق لهم". ولا شك أنهم أهل لهذا الحكم. ومما تمسّك به هؤلاء ظواهر قرآنية، نحو ظاهر قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (3) وقوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} (4). والجواب أن الآية الأولى ليس المراد بالكتاب فيها القرآن، بل اللوح المحفوظ، كما هو واضح من السياق. وكان القرآن تبياناً لكل شيء بما دل عليه من الأدلة الأخرى، وهي السنة والإجماع والقياس. ومما تمسّكوا به أيضاً أحاديث ضعيفة مردودة، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا، وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله؟ ". قال عبد الرحمن بن مهدي: "الزنادقة وضعوا هذا الحديث" (5). وقال الصَّغَاني: "هذا الحديث موضوع" (6). ومنه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه" (7). وهو معارض بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اكتبوا لأبي شاهٍ" (8). وإذنه لعبد الله بن عمرو (9) في كتابة ما يسمعه منه - صلى الله عليه وسلم -.   (1) السيوطي: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ص 3، 4 (2) الموافقات 4/ 17، 18 (3) سورة الأنعام: آية 38 (4) سورة النحل: آية 89 (5) الموافقات للشاطبي 4/ 18 (6) المقاصد الحسنة. وانظر أيضاً: السيوطي: مفتاح الجنة، ص 14 (7) رواه أحمد ومسلم (الفتح الكبير). (8) رواه البخاري (فتح الباري) ط مصطفى الحلبي 1/ 216 (9) رواه أحمد وأبو داود (فتح الباري ط مصطفى الحلبي 1/ 218) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الحديثيون : ونحن وإن كنا ننعى على القوم الذين تقدّم ذكرهم أسلوبهم في فهم الدين، لا يسعنا إلّا أن نوجّه اللوم -منصفين- إلى قوم انتسبوا إلى الحديث الشريف انتساباً جعلهم يعرضون عن كتاب الله، ولا يتدبّرونه حقّ التدبر لاستفادة الأحكام منه. بل كل اعتمادهم على السنة وحدها. ولو سألت أحد (علمائهم) عن حكم شرعي ودليله، لما عَرّج على كلام ربه، ولا التفت إليه، بل يسارع إلى الاستشهاد بالحديث والاستدلال به، ولو كان الحكم في القرآن بيّناً واضحاً لا لبس فيه. ولست أعني أنهم يعتقدون وجوب تقديم السنة على الكتاب، ولكن الذي أعنيه تصرفهم العمليّ في دراساتهم وتآليفهم وفتاواهم ونحو ذلك. وكان الواجب علهيم إنزال السنّة منزلتها الحقيقية، منزلة الخادم لكتاب الله، التابع له، الواقف حياله، يترجم عنه، ويوضّح ما غمض من معانيه. وليس هناك -في ما نعلم- طائفة من المسلمين يعتقدون تنحية القرآن عن الاحتجاج به في الدين، ولا طائفة معينة يعتقدون تقديم السنة على القرآن، وإن نقل القول بذلك عن قوم لم يعينوا (1). بل المسلمون ما بين معتقد لمساواة القرآن للسنة في الاحتجاج، وبين معتقد لتقديمه عليها، وهو الراجح، كما في الحديث المشهور من إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ إذ قال: "أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنّة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي ولا آلو" (2). وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال في كتابه إلى شريح قاضيه على الكوفة: "إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (3). وفي رواية: "إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره".   (1) نقله الشاطبي في الموافقات 4/ 8 - 10 ونقله الجويني (إرشاد الفحول ص 273). (2) بمعنى ما في سنن أبي داود (9/ 509) وفي عون المعبود: أخرجه الترمذي وقال "ليس إسناده بمتصل" ولكن قال الخطيب: "لما احتجوا به جميعاً أغنى عن طلب الإسناد له". (3) هذا الأثر بروايتيه ذكره الشاطبي في الموافقات (4/ 8) وقد انفرد به النسائي 4/ 231 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 هذا وقد ورد عن بعض أهل العلم أنه قال: "السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاضٍ على السنة" (1). ومعناه أن السنة تبين مجمل القرآن، وتخصص عامه، وتقيّد مطلقه. ولكن هذا القائل عبّر تعبيراً غير موفق، أوجد نوعاً من التصور الفاسد لتقديم السنة على القرآن، وفتح لأعداء الإسلام مطعناً، إذ ادّعوا أن تقييم المسلمين للسنة تطوّر صُعُداً، حتى قدموها على القرآن. وقد ذكر أن الإمام أحمد سمع مثل هذا القول، فكان تعليقه على ذلك أن قال: "لا أجسر أن أقوله، ولكن أقول: السنة تفسر القرآن وتبيّنه" (2). أدلة حجية السنة النبوية : 1 - من القرآن: قوله تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول} (3). وقوله: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} (4)، {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (5) وهو - صلى الله عليه وسلم - أمَرنا باتباع سنته، والأخذ بها، فيلزم طاعته في ذلك، ليتحقق امتثال هذه الآيات المذكورة وأمثالها. وهو - صلى الله عليه وسلم - قد أمَرَنا أيضاً بأمور تفصيلية، ونهانا عن غيرها، فيلزمنا طاعته فيها عملاً بالآيات المذكورة أعلاه، وذلك هو الأخذ بالسنة. وورد في كتاب الله تعالى أمره لنا باتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتعليق فلاحنا على ذلك، وجعله مقتضى محبتنا الله، ومقتضياً لمحبة الله لنا. فقد قال تعالى: {الذين يتّبعون الرسول النبيّ الأمّي الذي يجدونه مكتوباً   (1) ذكره الشاطبي في الموافقات (4/ 10) ونقل أيضاً في مادة (السنة) من دائرة المعارف الإسلامية (12/ 284) غير منسوب إلى قائل معين، ولم نجده في مصدر مسند. (2) نقله الشاطبي في الموافقات 4/ 26 (3) سورة آل عمران / 32. (4) سورة آل عمران: آية 132 (5) سورة الأحزاب: آية 71 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزِل معه أولئك هم المفلحون} (1). وقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (2). وإذا ثبتت مشروعية اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، فإن الاتباع هو سلوك السبيل الذي سلكه المتبوع. وسبيل محمد - صلى الله عليه وسلم - هي سنته، وهو المطلوب. بل قد ورد في القرآن الكريم بيان أن تعليم السنة، بالإضافة إلى تعليم الكتاب، هو من مهمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {هو الذي بعث في الأميّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيّهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (3). قال قتادة: "الحكمة السنّة وبيان الشرائع" (4). ولكن يحتمل أن يقال: إن المراد بالحكمة الفهم العميق، ومعرفة معالجة الأمور بما تستحقه، كما فسّرها آخرون. وعلى هذا الوجه لا تكون الآية حجة في هذه المسألة. إلا أنه ورد في سورة الأحزاب قوله تعالى: {يا نساء النبيّ لستنّ كأحد من النساء إن اتقيتنّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ... } إلى قوله: { ... واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة} (5) وهو يبيّن أن الحكمة شيء خاص متميّز كان {يتلى} أو يصنع به ما هو شبيه بالتلاوة (6) من المذاكرة   (1) سورة الأعراف: آية 175 (2) سورة آل عمران: آية 31 (3) سورة الجمعة: آية 2 (4) تفسير القرطبي 2/ 131 وهو عند البخاري (فتح الباري ط الحلبي 10/ 39) (5) سورة الأحزاب: آية 34، 35 (6) على حد ما قال النحويون في قول الشاعر: علفتها تبناً وماءاً بارداً ... حتى شَتَتْ همّالةً عيناها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والتحفظ والدراسة. وهذا يبيّن أن تفسير قتادة للحكمة هو الصواب، وتكون الآية دليلاً على حجية السنة كما تقدم (1). ومما يؤكد هذا المعنى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا (يتعلمون السنة كما يتعلمون القرآن) ففي صحيح مسلم: "جاء ناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن والسنة" (2). 2 - من السنة: شهد المسلمون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو رسول الله حقاً، بدلالة المعجزات التي أجراها الله على يديه، وهذا يقتضي الإيمان بعصمته من الكذب فيما يبلغنا إياه عن ربه عزّ وجل، وما جاء به من أمر الدين. وقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسَّكتم بهما، كتاب الله وسنة نبيه" (3). أخبر أن في التمسّك بالسنّة، كالكتاب، أماناً من الضلال. وهذا يقتضي أنها حق ودليل صحيح على الأحكام. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته، يُحَدَّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإن ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله".   (1) قال الشافعي رضي الله عنه ( ... ما من الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة دليل على أن الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الرسالة ص 32) وقال: "سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. قال (الشافعي): "وهذا يشبه ما قال والله أعلم، لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، وذكر الله منَّةً على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة. فلم يجز أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول اللُه" والآية الأخرى التي ذكرناها أشد وضوحاً في الدلالة على المراد. والحمد لله على توفيقه. (2) صحيح مسلم: 13/ 46 (3) رواه مالك بلاغاً في الموطأ (عبد الباقي) 2/ 899 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وفي رواية عند أحمد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أوتيتُ القرآن ومثله معه، ألا إني أُوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ ينثني شبعاناً [كذا بالأصل] على أريكته، يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرّموه. ألا لا يحل لكم الحمار الأهليّ، ولا كلُّ ذي نابٍ من السباع، ألا ولا لُقَطة من مال مُعَاهَد، إلا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوهم، فإن لم يَقْروهم فلهم أن يعقبوهم بمثل قراهم" (1). ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإني أُوتيت القرآن ومثله معه" أي أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن. وكمثال على ذلك نذكر أن الله آتى نبيه، تحريم الخبائث، فُصِّل بعضها في القرآن، كالميتة والدم ولحم الخنزير وبعضها بالسنة، كما ذكر في هذا الحديث، كلحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع. وقال: "العلم ثلاثة. وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنّة قائمة، أو فريضة عادلة" (2). لا يقال: أن هذا الاحتجاج للسنة بالسنة، فكيف يحتج بها قبل أن يثبت أنها حجة؟ لأن المراد أنه لما ثبت إخباره في هذه الأحاديث وأمثالها بكون سنته حقاً، ومثل القرآن في لزوم اتّباعها، فإما أن يكون خبره هذا كذباً، وهو مستحيل، لدلالة المعجزة على صدقه، ولما ثبت من عصمته عن الكذب في أمر الدين. فلا يبقى إلاّ أن قوله هذا حقّ. وهو المطلوب. 3 - دلالة الإجماع: إن المتتبع لتصرفات الصحابة رضي الله عنهم في تعرّفهم لأحكام الدين لأجل العمل به، يجد أنهم إذا وجدوا السنة عملوا بها، وجعلوها حجة في الدين، ولم يستجيزوا مخالفتها وإغفالها واطّراحها.   (1) المسند 4/ 131 (2) رواه أبو داود (عون المعبود 8/ 92) وابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 نجد ذلك في تصرفات أبي بكر مثلاً: فعنه أنه قال: "يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} (1) وإنا سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه أوشك أن يعمّهم الله بعقابه". وطلبت فاطمة والعباس من أبي بكر رضي الله عنهم ميراثهما من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمنعهما أن يعطيهما شيئاً، وقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نورث. ما تركنا صدقة" (2). وأمر أبو بكر عُمّاله على الصدقة أن يعملوا بما سنّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا نص مطلع كتابه: عن أنس بن مالك أن أبا بكر كتب لهم: "إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوق ذلك فلا يعط" (3) ثم بين المقادير. وعمر رضي الله عنه لما جادل أبا بكر في قتال مانعي الزكاة، قال: "كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها. وحسابهم على الله". فقال أبو بكر: "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة. فإن الزكاة حق المال" (4). وكان عمر يَقْصُر في السفر الآمن، ويقول: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (5).   (1) سورة المائدة: آية 105 (2) مسند أحمد تحقيق أحمد شاكر 1/ 158 وقال: إسناده صحيح. (3) رواه أحمد (1/ 183) وأبو داود والنسائي والدارقطني، ورواه البخاري مفرقاً في مواضع من صحيحه (أحمد محمد شاكر في تحقيق المسند). (4) الحديث إسناده صحيح. رواه أحمد في المسند. تحقيق أحمد شاكر 1/ 207 (5) رواه مسلم 5/ 196 وأبو داود والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وعثمان رضي الله عنه قال: في مملوكة ولدت من زنا: "أقضي بينكما بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الولد للفراش، وللعاهر الحجر" (1). وذكّر الناس في يوم الفطر والنحر، وقال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذين اليومين" (2). وكان يعلّم الناس الوضوء بفعله، ويقول: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا" (3). وعليّ رضي الله عنه جلد الشارب أربعين، واحتجّ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورجم الزانية محتجّاً بأن ذلك سنة رسول الله". في وقائع كثيرة، لا تنحصر كثرة، ثبتت عن الأربعة الراشدين، وغيرهم من الصحابة الأكرمين، مما لا يدع مجالاً للشك أنه كان متقرراً لديهم أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة لله على عباده، وأن العمل بها عمل بدين الله وشرعه. فانعقد على ذلك إجماعهم، ولم يخالف فيه أحد منهم. واستمرّت الأمة الإسلامية على ذلك، "ولم يخالف فيه إلاّ من لا حظّ له في الإسلام"، كما قال الشوكاني. أنواع الحديث النبوي من جهة دلالته على الأحكام : ذكر وليّ الله الدهلوي أن مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودُوِّن في كتب الحديث، على قسمين، قال: "الأول: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة" (4)، وفيه قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (5). ومن هذا القسم علوم المعاد وعجائب الملكوت. وهذا كلّه مستند إلى الوحي.   (1) رواه أحمد 1/ 338، وإسناده حسن (أحمد شاكر). (2) رواه أحمد 1/ 427 وإسناده صحيح (أحمد شاكر). (3) رواه مسلم 3/ 108 (4) حجة الله البالغة 1/ 272، 273 (5) سورة الحشر: آية 7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ومنه شرائع وضبط للعبادات والاتفاقات وهذه بعضها مستند إلى الوحي، وبعضها مستند إلى الاجتهاد واجتهاده - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الوحي، لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرّر رأيه على الخطأ. ومنه حكم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقّتها ولم يبيّن حدودها ... والثاني: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر". فمنه الطبّ، ومنه باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالأدهم الأقرح" (1) ومستنده التجربة. ومنه ما فعله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل العادة، وبحسب الاتفاق دون القصد ... ومنه ما ذكره كما كان يذكره قومه كحديث أم زرع. ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ، وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش، وتعيين الشعار ... ومنه حكم وقضاء خاص. وإنما كان يتّبع فيه البينات والأيمان". اهـ. وهو تقسيم جيد وتحديد واضح. وسوف نفصل القول في مثل ذلك في ما يتعلق بالأفعال النبوية في ما نستقبله من هذا البحث إن شاء الله. منزلة السنة من القرآن : يتبيّن مما تقدم أن في منزلة السنة في القرآن ثلاثة أقوال: الأول: أن القرآن مقدّم في الرتبة على السنة، فلا يُنْسخ القرآن بالسنة. وقد   (1) أي من الخيل، والأدهم الأسود، والأقرح الذي في جبهته بياض دون الغرة. والحديث رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن ماجه عن أبي قتادة مرفوعاً بلفظ "خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم المحجل ثلاث. فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الصِّفَة. وهو صحيح (صحيح الجامع الصغير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 نسب ابن السمعاني (1) هذا القول إلى الشافعي في عامة كتبه، وإلى أبي حامد الإسفراييني، وابن سُريج. ومعنى ذلك أن السنة لا يمكن أن تأتي بما يعارض القرآن على وجه لا يمكن الجمع بينهما. فإن روي من ذلك شيء، فلا بدّ أن السنة منسوخة، أو في الاستدلال بها دخَل، أو تكون الآية منسوخة بآية أخرى. وإلّا فإنّ الرواية لا تكون ثابتة. الثاني: أنهما متساويان. وعند التعارض يقدَّم المتأخر وروداً منهما. فإن لم يعلم يتوقّف في المسألة. وأصحاب القول الثاني يجيزون نسخ القرآن بالسنة. وقد نسب ابن السمعاني (2) هذا القول إلى الحنفية وعامة المتكلمين. وقال: قيل إنه اختيار ابن سريج. الثالث: إن السنة مقدمة على الكتاب. فيطرح الكتاب عند التعارض. وهو قول مردود، لا ينسب إلى قائل معين. ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذكر أدلّة أصحاب القولين الأولين ومناقشاتها، بعد أن نعلم أنه لم يرد شيء من الأحاديث الصحيحة يتعين أنه ناسخ للكتاب، حتى نقل الغزالي عن بعضهم "إن ذلك لم يقع أصلاً" (3). وكل ما قيل فيه من الأحاديث إنه ناسخ للقرآن خمسة ليس غيرها فيما نعلم: 1 - حديث: "لا وصية لوارث" (4). قيل إنه ناسخ لآية: {الوصية للوالدين والأقربين} (5).   (1) القواطع ق 148 أ. على أن ابن السمعاني ذكر الاتفاق على أن السنة الآحادية لا تنسخ القرآن. فعلى هذا: المقصود بالسنة التي يصح أن تكون ناسخة للقرآن عندهم المتواترة دون الآحادية. (2) القواطع ق 148 أ. (3) المستصفى 1/ 80 (4) صحيح (تفسير القرطبي 2/ 263). (5) سورة البقرة: آية 180 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 والصحيح أن النسخ إنما هو بآيات المواريث، ولكن لمّا احتمل أن آية المواريث تَضُمُّ للوالد والقريب حظّاً آخر، أو تبدل حظّاً من حظ، جاء الحديث مبيّناً أن المراد الاحتمال الثاني. فلولا هذا الحديث لأمكن الجمع للوارث بين الميراث والوصية. فكان الحديث مبيناً لا ناسخاً (1). 2 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: الثّيب بالثّيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (2). قال بعضهم: هو ناسخ لآية إمساك الزواني في البيوت حتى يتوفاهن الموت. والصواب أن الحديث مبيّن للسبيل المذكور في الآية. 3 - حديث قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الطائف في ذي القعدة الحرام. قال بعض الفقهاء إن ذلك ناسخ لقوله تعالى (3): {يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتال فيه كبير} ونحوها من الآيات الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم. والصواب أن تحريم القتال فيها غير منسوخ، بل هو باقٍ مؤبّد مؤكّد. وما كان من قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لثقيف إنما كان من باب ردّ العدوان المذكور مع تحريم الأشهر الحرم في آية واحدة، هي قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (4)، وقد كانت ثقيف وسائر هوازن تجمعت بعد فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكة، وسارت إليه، فقابلهم بحنين وهزمهم، فلجأ فلّهم إلى الطائف. فكان من تمام المعركة -بحسب المنطق العسكري الذي يدل عليه قول تعالى: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} - ملاحقة المنهزمين قبل أن يتمكنوا من إعادة الكرة، وفي الحديث عن جابر ما يدل على ذلك، حيث قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغزو في الشهر الحرام إلاّ أن يُغْزَى، أو يغزو، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ" (5).   (1) أشار السمعاني (ق 152أ) إلى أن الحديث مبين للآية، ولم يوضح معنى البيان كما وضحناه. (2) رواه مسلم وأحمد من حديث عبادة بن الصامت (الفتح الكبير). (3) سورة البقرة: آية 217. (4) سورة البقرة: آية 194. (5) رواه أحمد 3/ 334، 345 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 4 - ذكروا (1) أن آياتٍ نسخت بأحاديث، الصحيح فيها أنها مخصصة وليست ناسخة، منها: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} (2) نسخت في حق ابن خَطَل حينما قال - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوه" (3). وقد كان متعلقاً بأستار الكعبة. والصواب أن هذا تخصيص وليس نسخاً. 5 - ومنها آية: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّماً على طاعمٍ يطعمه إلّا أن يكون ميتة ... } (4) الآية ذكروا نسخها بحديث النهي عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وواضح أن هذا تخصيص أيضاً وليس بنسخ. وممن نبّه إلى قلة جدوى الخوض في هذه المسألة الشاطبي، حيث قال: "البحث في هذه المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع، ولا كبير جدوى فيه" (5). وصرّح ابن تيمية بأنه يذهب إلى امتناع نسخ القرآن بالسنة وأن ذلك مقتضى حرمة القرآن (6). وقال الشوكاني: "وبه جزم الصيرفي والخفاف، بل نقل بعضهم إجماع الشافعية عليه" (7). هذا بالنظر إلى ما يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنما يقطع بذلك من يسمعها منه مباشرة، أو تنقل إليه نقلاً قطعياً. فإن نقلت نقلاً آحادياً انضم إلى المسألة عنصر جديد يؤيد عدم الأخذ بها فيما عارض القرآن، إذ إن احتمالات كذب الرواة ووهمِهم تدخل في البين، لتخفف من وزن الحديث في ميزان الترجيح. ويوافق في هذا المقام على مرجوحية السنة، كثير ممن عارض ذلك في المقام الأول. فقال الشوكاني: هذا رأي الجمهور. وذكر أن ابن السمعاني وسليماً الرازي نقلا الإجماع عليه (8).   (1) ابن السمعاني (ق 149 أ). (2) سورة البقرة: آية 192 (3) صحيح مسلم 9/ 131 (4) سورة الأنعام: آية 145 (5) الموافقات: 4/ 11 (6) الفتاوى الكبرى. ط الرياض 20/ 397 - 399 (7) إرشاد الفحول: 1/ 190 (8) إرشاد الفحول: 1/ 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 مجالات خدمة السنة الشريفة للقرآن العظيم : يمكن حصر المجالات التي تخدم فيها السنة القرآن العظيم فيما يلي: 1 - تقرير مضمون الكتاب وتثبيت حقائقه بما يقطع احتمال المجاز، وذلك بأن تأمر بعين ما أمر به، وتنهى عن عين ما نهى عنه، وتخبر بعين ما أخبر به. مثاله أن الله تعالى أمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإتمام الصوم، والحج، ونحوها من الفرائض، أعني الأمر بأصل الفعل. فجاءت السنة آمرة بذلك أيضاً. وفَعَلها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك جاء الكتاب ناهياً عن نكاح الربيبة، والجمع بين الأختين، فامتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك وأكّد أنه حرام (1). وقد يسمى هذا النوع بيان التقرير. وهو لا يزيد عن أن يكون توكيداً لما في الكتاب. 2 - تفسير ما في القرآن من مجمل. وذلك أن يَرِد القرآن بنص لا يُدرى المراد به أصلاً، ولا يتمكن المجتهد من استنباط التفاصيل، إذ إنها تُعلم من قبل القائل الأول. ومثاله أنه تعالى أمر بالصلاة، ولم يبين أوقاتها، ولا أعدادها، ولا عدد ركعاتها، ولا هيئاتها؛ فلا اللغة تبين ذلك من لفظ (الصلاة)، ولا أحيل في بيانها على شيء آخر. فلم يبق إلا أن يُبين ذلك من قبل الله تعالى. فكان ذلك بالسنّة. ويسمى هذا النوع بيان التفسير. 3 - وقريب من هذا النوع بيان التخصيص للعام، وبيان التقييد للمطلق، وبيان إرادة خلاف الظاهر. فالأول مثل أن الله أمر بقطع السارق، وهذا يعمّ سارق القليل والكثير، وجاء في الحديث إخراج صور معينة، لا قطع فيها، كمن سرق دون النصاب، أو سرق الثمر المعلّق وأكله في مكانه. فهذا بيان أنّ المراد بقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (2) ما عدا ما أُخرِج بالسنة.   (1) انظر صحيح مسلم 9/ 15 ورواه البخاري وأبو داود وأحمد. (2) سورة المائدة: آية 38 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ومن هذا النوع سائر ما بُيِّن من الشرائط لتنفيذ الأوامر الشرعية في العبادات والحدود وغيرها. والثاني، وهو تقييد المطلق، مثل قوله تعالى في كفارة اليمين: {أو تحرير رقبة} (1) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد عتق جارية بكماء، كفارةً عن ضربه لها: "أعتقها فإنها مؤمنة" (2) فقاسَ بعض الفقهاء على ذلك كفارة اليمين وأوجب فيها أن تكون مؤمنة. وأما بيان إرادة خلاف الظاهر، فمثاله ما ورد أنه لما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} (3) أهمَّ ذلك الصحابة، وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه؟ فبيّن لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه تعالى يريد بالظلم الشرك خاصة. 4 - تبديل ما في القرآن بأحكام أخرى. وهو النسخ. فهذا يثبتُه بعض الأصوليين، وينفيه آخرون. ونفيه هو الذي رجحّناه، كما تقدم. 5 - هذا وقد تضيف السنة إلى الشريعة أحكاماً مستقلة ليست في القرآن. وهذا النوع قسمان (4): أ- قسم يمكن إرجاعه إلى القرآن بنوع من القياس، أو من العمل بالمقاصد العامة التي أرشد إليها القرآن. فمثال القياس أن الله تعالى قال: {حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ... وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (5) فذكر سبع محرمات بالنسب واثنتين بالرضاعة. فجاءت السنة تحرم سائر السبع من الرضاع، بحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (6). ومثال العمل بالمقاصد العامة: إباحة المسح على الخفين والعمامة والجبيرة، رخصة لدفع الحرج أو الضرر المشهود لهما في القرآن.   (1) سورة المائدة: آية 89 (2) رواه مسلم 5/ 24 وأبو داود 9/ 106 (3) سورة الأنعام: آية 82 (4) الموافقات 4/ 12 وما بعدها. (5) سورة النساء: آية 23. والمقصود بالقياس في هذا المثال الإلحاق بنفي الفارق. (6) متفق عليه (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ب- وقسم يمكن إرجاعه إلى القرآن على معنى أنّ القرآن أرشد إلى العمل بالسنة. ومثاله ما ورد عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" (1). فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت؟ فقال: "وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في كتاب الله ... ". قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (2) ولو أنه رضي الله عنه أجابها إذ أنكرت كون ذلك في القرآن، بأنه بيان لقوله تعالى عن الشيطان: {ولآمرنهم فليغيّرنّ خلق الله} (3) لكان جواباً، ولكنه قطع عليها خط الرجعة، بما يدل على حجية السنة ولو كانت مستقلة عن القرآن في الدلالة على الأحكام. ومن ذلك أن السنة نهت عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير (4)، وليس ذلك في القرآن. وحرمت على المحرم لبس الثياب المفصّلة المخيطة، وليس ذلك في القرآن. وقد ذكر الشاطبي أن بعضهم رام أن يرجع ما في الأحاديث إلى النصوص القرآنية بالتفصيل بحيث يجد في القرآن دلالة تفصيلية، نصّاً أو إشارة، إلى ما دلّت عليه الأحاديث النبوية. قال: "ولكنه لا يفي بما ادّعاه، إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب، ولا يوافق على مثلها السلف الصالح، ولا العلماء الراسخون في العلم" وذكر أن: "هذا الرجل المشار إليه نصب نفسه لاستخراج معاني الأحاديث التي أخرجها مسلم في صحيحه، دون سواه" (5). وليت الشاطبي أشار إلى اسم هذا المؤلف، ليمكن العثور على ما صنعه، إذ أنه مبحث جدير بالاهتمام. وسنعود إلى هذه المسألة بشيء من التفصيل في الفصل الثاني من الباب الأول إن شاء الله.   (1) حديث ابن مسعود، مع قصة الحديث، رواه مسلم 13/ 106 ورواه أحمد والبخاري وأبو داود. (2) سورة الحشر: آية 7 (3) سورة النساء: آية 119 (4) رواه أحمد ومسلم وأبو داود (الفتح الكبير). (5) الموافقات 4/ 52 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المبحث الثالث تحديد المهمات النبويّة وبيان دور الأفعال النبوية في أدائها على الوجه الأكمل تعرّضت آيات الكتاب العزيز، بالتفصيل، للغرض من البعثة النبوية الشريفة. فذكرت أن الله أرسل رسوله {رحمة للعالمين} (1) و {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (2) و {لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين} (3) و {ليُخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} (4) و {ليقوم الناس بالقسط} (5). وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف السامية، أنزل الله تعالى كتابه العظيم، على رسوله الكريم. تدبيران كل منهما بالغ الحكمة: أن جعل الله بين أيدي البشر كتاباً مشتملاً على ما يريد لهم أن يعلموه، وما يريد لهم أن يعملوا به. وأن حَمَّل هذا الكتاب بشراً اختاره لكي يؤديه عن الله إلى عباد الله. وهما تدبيران متكاملان، يكوّنان تدبيراً واحداً، هدفه أن يعلم العباد ما يريد الله منهم، فتكون له عليهم الحجّة، فيؤمن به من شاء الله له أن يؤمن، فتتحقق له رحمه الله، ويحق القول على الكافرين، ولتنفذ شريعة الله في الأرض   (1) سورة الأنبياء: آية 107 (2) سورة النساء: آية 165 (3) سورة يس: آية 70 (4) سورة الطلاق: آية 11 (5) سورة الحديد: آية 25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فيقوم الناس بالقسط، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور. وبذلك تتحقق الأهداف المطلوبة من البعثة النبوية. وفي سبيل ذلك حمّلت الكلمات الإلهية محمداً - صلى الله عليه وسلم - مهمات جسيمة. وقد استقرأنا الآيات التي تعرضت لذلك، فتبين أن المهمات الرئيسية التي ذكرتها خمس هي كما يلي: المهمة الأولى: التبليغ، والمراد به تبليغ القرآن، وتبليغ أحكام أخرى زائدة على ما يتضمنه القرآن العظيم. قال اللُه تعالى: {إن عليك إلاّ البلاغ} (1)، {ما على الرسول إلاّ البلاغ} (2). ومن البلاغ تلاوة القرآن، ليُسمع فيُعلم، وليُعرف كيف يُقرأ. قال الله تعالى: {قد أنزل الله إليكم ذكراً * رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات} (3). المهمة الثانية: بيان القرآن، أي تفسير ما غمض من معانيه، وإيضاح ما أشكل منه، ورفع ما فيه من إجمال، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامّه، لكيما يفهم وينفذ على الوجه الذي أراده الله. قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكّرون} (4). المهمة الثالثة: الدعوة إلى الله، بأن يطلب من الكفار الإيمان، وأن يدعو العصاة والمذنبين إلى الإقلاع عما يبعدهم عن رحمة الله. فكان - صلى الله عليه وسلم - مكلفاً بأن يكون داعياً إلى الخلاص من الكفر والفسوق والعصيان في الدنيا، والخلاص كنتيجة لذلك من آثارها المدمرة في الآخرة. كما أنه كُلِّف أن يدعو إلى الأعمال الصالحة من العبادة وفعل الخير، ليكون ذلك موصلاً فاعله إلى جنة الله. وفي سبيل ذلك كلف، - صلى الله عليه وسلم -، بمهمات أخرى معاونة لهذه المهمة، وهي مهمات: التذكير، والتبشير، والإنذار.   (1) سورة الشورى: آية 48 (2) سورة النور: آية 54 وسورة العنكبوت: آية 18 (3) سورة الطلاق: آية 10، 11 (4) سورة النحل: آية 44 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 قال الله تعالى: {فذكّر إنِما أنت مذكّر * لست عليهم بمسيطر} (1) وقال: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} (2). وأُمر - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد، تحقيقاً للدعوة، لإزالة كل ما يقف في طريقها من ظلم المتعسفين، الذين يحولون بقوتهم وسيطرتهم، بين الناس وبين أن يسمعوا كلام ربهم ويستجيبوا له. المهمة الرابعة: تعليم الأمة القرآن، والسنن. فيعلّمهم تلاوة القرآن وحفظه، ويعوّدهم على تدبّره وتفهّمه واستنباط الأحكام منه، حتى يصبحوا به علماء من جميع الوجوه. وكذلك الشأن في السنن التي أراد لها أن تظهر وتصدر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما بعثت معلماً" (3)، وقال: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم" (4)، وقال: "لكن الله بعثني معلماً ميسراً" (5). المهمة الخامسة: التزكية، وهي التربية، أي تنمية الغرائز والمَلَكَات والقدرات الصالحة في المؤمنين به، وتطهيرهم من خبائث الاعتقادات والأخلاق والعادات والأعمال والأقوال، حتى تكون الأمة أمّة قوية نافذة في أمورها، متحررة من جميع الانحرافات التي تزيغ بها عن الطريق، وبذلك يصبحون أهلاً للخلافة في الأرض، فيقوموا بحق الخلافة بقوة وصدق، ليستحقوا أن يكونوا هم الوارثين {الذين يرثون الفردوس} (6). هذا وإن المهمة الرابعة والمهمة الخامسة، تكادان أن تكونا مهمة واحدة، لشدة الترابط، ولأن أولاهما تؤدي إلى أخراهما، فمن تَعلّم الكتاب والسنة حقاً استقامت حاله في جميع النواحي التي ذكرناها. وقد ذكر الله هاتين المهمتين، مع مهمة التبليغ، مجتمعة جميعاً، في أربعة   (1) سورة الغاشية: آية 21 (2) سورة الأحزاب: آية 46، 47 (3) رواه ابن ماجه 1/ 17وفي الزوائد: إسناده ضعيف. (4) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان (الفتح الكبير). (5) رواه أحمد 3/ 328 (6) سورة المؤمنون: آية 11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 مواضع من كتابه الكريم. منها في سورة الجمعة {هو الذي بعث في الأمّيّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (1). ومن الملاحظ أن التبليغ والبيان والدعوة، تتمّ وتتأدَّى بالمرة الواحدة مع المبلّغ والمبين له والمدعوّ. وأما التعليم والتزكية فأمرهما أشد من ذلك، إذ "إن التعلّم لا يقتصر على اكتساب الحقائق والمعارف والمعلومات، وإنما هو أوسع من ذلك. إذ يشمل اكتساب المهارات الحركية، والعادات السلوكية، والاتجاهات الاجتماعية، والقيم الخلقية، والدوافع الثانوية" (2). وهذا يستدعي من المعلّم الملاحقة والمواصلة لعملية التعليم يوماً بعد يوم بل وربما ساعة بعد ساعة. وأن ينتهز الفرص لإلقاء المعلومات، وتفسيرها. وتكرارها، والمناقشة فيها، وتصحيح أخطاء المتعلمين عند استذكارها وتطبيقها، والثناء عليهم إذا أحسنوا استيعابها والعمل بها، وأن لا يُخْليهم من ذلك كله إلاّ بعد أن يطمئن إلى أنّ ما حصّلوه رسخ لديهم على وجه مستقيم، وأصبحت لهم ملكة فيه قوية. وهكذا كان شأنه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه رضي الله عنهم. دور الأفعال : هذا وإن الأقوال كانت هي الوسيلة الرئيسية للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء هذه المهمات. ولكن مع ذلك كانت الأفعال النبوية تؤدي دوراً بارزاً في تنفيذ المهمات المطلوبة منه، وخصوصاً مهمة البيان، ومهمة التعليم والتزكية.   (1) سورة الجمعة/ 2، وانظر المواضع الأخرى: في سورة البقرة في موضعين: الآيتان 129، 151، وفي سورة آل عمران/ 164. (2) أبو الفتوح رضوان: المدرس في المدرسة والمجتمع ص 106، 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 طرائق التعليم : كشفت الدراسات التربوية عن أن تأثر شخص ما بشخص آخر، في تحصيل أنواع من المعرفة والتعلم، واكتساب الاتجاهات والقيم والعادات، يمكن أن يتمّ بثلاث طرق: الاستماع للأقوال، والمشاهدة للأفعال والاقتداء بها، والممارسة من جانب المتعلم مع التصحيح من جانب المعلم. وإن دراسة طبيعة هذه الطرق وخصائصها، يكشف لنا عن مدى حاجة البشر إلى رسول منهم، يؤدي المهمات المذكورة إليهم. وتتبين بها حكمة الله في ذلك، وعظيم منته التي ذكرها في سورة آل عمران في قوله: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}. أولاً: طريقة الاستماع للقول: إن القول أساسي في عملية التعليم. وبه تنتقل الأفكار والمعلومات من ذهن المعلم إلى ذهن المتعلم، عن طريق حاسة السمع، ويمكن بهذه الواسطة نقل معلومات وافرة في برهة قصيرة. وتمتاز هذه الطريقة، بإمكان التحديد الدقيق للمعلومات، وربط الأسباب بالمسببات، وذكر الصيغ بدرجة العموم والخصوص المطلوبة، وذلك بما توفره أداة اللغة من إمكانيات لا تكاد تقف عند حد، يستطاع بواسطتها أداء الفكرة على درجة عالية من الكمال، بحسب تمكن المعلّم من الفصاحة والبلاغة، ووفرة محصوله من الألفاظ والتراكيب. وتسمى هذه الطريقة في عالم التدريس بطريقة الإلقاء والمحاضرة. ومن أجل الميزات المذكورة لهذه الطريقة، جعل الله أصل الشريعة الأصيل قولاً يتلى ويسمع، وسمّاه {قرآناً مبيناً}، وجعله مشتملاً على المسائل الرئيسية في الشريعة، وأمر بتلاوته وتدبّره وتفهّمه، ووعد على ذلك الأجر الجزيل، وجعل لقراءته واستماعه مناسبات دينية تتكرّر بتكرر الساعات والأيام والشهور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 كالصلوات الخمس، والجمعات والأعياد، وكقيام الليل، وخاصة قيام شهر رمضان شهر القرآن. وجعله عزّ وجل مكتوباً محفوظاً ليبقى دون تحريف ولا تغيير، ينتقل بين أيدي البشر جيلاً بعد جيل، ليستمعوا كلام الله غضّاً كما أُنْزِل، فتحصل منه المنافع المشار إليها لكل من وفّقه الله لرفقة القرآن. كما أن القسم الأكبر من السنة النبوية هو سنن قولية. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلّغ بلفظه ما يوحى إليه من أحكام، ويبينّ بلفظه ما أشكل من معاني القرآن، ويجيب على الأسئلة والاستفسارات الموجّهة إليه من صحابته الكرام، ويدعو إلى الله تعالى الأفراد والجماعات، في لقاءات خاصة، أو اجتماعات عامة لأمور واقعة، أو لمناسبات تتكرر، كما في مجالس حديثه مع المؤمنين، في المسجد، والسوق، والمنزل، والسفر والإقامة، وكما في خطبه في الجمعات والأعياد والحج وغير ذلك. واتخذ المنبر ليسمع قوله أكبر عدد من الحاضرين، بأكبر قدر من الوضوح. واتخذ له أصحابه دكّةً من طين في المسجد يجلس عليها إذا أراد أن يكلّمهم ويعلّمهم. وواضح أن طريقة الإلقاء والقول كانت هي الوسيلة الكبرى لأداء المهمّات النبوية الخمس التي أشرنا إليها. الطريقة الثانية للتعلّم: مشاهدة الفعل لأجل الاقتداء به: الراغب في تعلم مهنة ما، يدرس أولاً أسسها نظريّاً، ويتفهم قواعدها وأصولها من الأقوال المسموعة أو المدونة في دواوين تلك المهنة. فإذا انتهى من ذلك وخرج إلى الحياة العملية مزوَّداً بتلك المعلومات، وهو يظن أنه قد أتقن ما سمع وعلمه حق العلم، يجد أنه عند المباشرة لتطبيق المعلومات التي حصلها يخفى عليه شيء كثير من التفاصيل التي تجدّ عليه، والتي هي بحاجة إلى أن يستكشف أسرارها وطرق علاجها. والمشاهدة لفعل نموذجيٍّ من معلم نموذجي، من أعلى المستويات في تلك المهنة ذي خبرة بدقائقها وأسرارها، يطبق المعلومات النظرية، هذه المشاهدة هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وسيلة حية، ومصدر مهمّ، يتعلم منه طالب العلم الشيء الكثير عن المادة التي يدرسها. وخاصة إذا كانت "مشاهدة قصدية، وموجهة توجيهاً صحيحاً، لنواحي مختلفة من عمل المدرس. وهي ضرورية مع الطلبة الصغار والكبار على السواء وينبغي ألا تتوقف طيلة مدة الدراسة. وهي طريقة ناجحة في تنمية اتجاهات محمودة نحو المهنة موضوع الدرس، وكذلك في تنمية مهارات كافية في تلك المهنة" (1). هذا وقد أصبح استخدام وسائل الإيضاح المشاهدة جزءاً أساسياً من عملية التعليم في العصر الحاضر، وأولتها المؤسسات التعليمية الاهتمام البالغ. إذ إنها تعطي للمعلومات مزيداً من الحيوية، وتجعل الطالب متشوّقاً إلى المادة العلمية، ومتمتعاً متلذذاً بما يصحله منها، بالإضافة إلى معاونتها للطالب على تحليل المادة الدراسية، وفهمها فهماً جيداً. فإن من طبيعة هذه الوسائل أن توضح ما غمض في المادة. وتفسّر ما يصعب التعبير عنه بالقول. كما أن هذه الوسائل من شأنها أن تجعل المعلومات المدروسة ذات قيمة تطبيقية عملية، يستطيع الطالب أن يستفيد منها في فعالياته المختلفة في حياته. وكل ذلك يعود إلى الميزة البارزة في وسائل الإيضاح، وهي ربطها للمعلومات الجديدة التي يقدمها المعلم إلى الطالب بالمعلومات القديمة، وبذلك تعين الوسائل الإيضاحية على تثبيت ما يعرضه المدرّس من المادة في ذهن الطالب. وبالإضافة إلى ذلك، تثير الوسائل الإيضاحية الملاحظة والتأمّل في الأشياء والحوادث والمواقف الجديدة، حتى تطلب النفس الجواب على ما يقع من المشكلات التي يشاهد الطالب وقوعها، وتتحدد أمامه مجسمة واضحة، فيقع الجواب عنها لديه موقعاً مستقراً. وواضح أن المعلومات تصل إلى ذهن الطالب، في طريقة المشاهدة، عن طريق حاسة البصر.   (1) محمد حسين آل ياسين: مبادئ في طرق التدريس. بيروت، المكتبة العصرية ص 284 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ويؤكِّد علماء النفس أن الإدراك الحسي لشيء ما، يقوى ويتعاظم لدى الفرد كلما اشترك في إدراكه من الحواس عدد أكبر. فإذا وصف المدرس للطلبة نهراً معيناً تحصَّل لديهم فكرة ما عن هذا النهر. ولكن إذا رسم المدرس النهر، أو أخذهم إليه، تتوسع فكرتهم عن هذا النهر، وترسخ معلوماتهم عنه حتى لا تكاد تَمّحي من أذهانهم، فيسهل تذكرهم له واستعادة صورته. فإذا سبحوا في مائه، وشربوا منه، وشعروا ببرده أو حرِّه، قويت معرفتهم وازدادت رسوخاً. وبذلك تخرج المعلومات بالمشاهدة من عالم العقل إلى عالم الواقع، ومن القول إلى الفعل، ومن التصور المجرد إلى الحقيقة الواقعة (1). الأفعال النبوية كوسيلة بيانية وتعليمية مشاهدة : إن الله وهو العالم بطبائع البشر، الخبير بما يصلح لهم ويصلحهم، لم يشأ أن تكون معرفتهم بالدين عن طريق كتاب يلقى إليهم دون بيان رسول وينتهي الأمر، أو عن طريق رسول يبلّغهم الكتاب وينتهي الأمر، ولكن، لكي تتم حجّة الله على العالمين، جعل هذا الرسول نموذجاً بشرياً لذلك الكتاب، حتى كأنّ ذلك الرسول قرآن متحرك. أو كأنّ المنهج القرآني تحول "إلى حقيقة واقعة، تتحرك بين الناس. تحوّل إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره، مبادئ ذلك المنهج ومعانيه"، "ووضع الله في شخص ذلك الرسول الصورة الكاملة للمنهج الإسلامي، الصورة الحية الخالدة على مدار التاريخ" (2). وقد سأل سعد بن هشام عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "ألستَ تقرأ القرآن؟ " قال: "بلى"، قالت: "فإن خلق   (1) محمد حسين آل ياسين: مبادئ في طرق التدريس، ص 252، 253، وأيضاً: أبو الفتوح رضوان وآخرون: المدرس في المدرسة والمجتمع ص 222 - 225 (2) محمد قطب: منهج التربية الإسلامية ص 220 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن"، قال: "فهمت أن أقوم ولا أسأل عن شيء حتى أموت" (1). لقد تمثّلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - خصائص المنهج الرّبّاني في الحياة البشرية كما تمثّلت في حياته تفاصيل ذلك المنهج، فالذي شاهد حياته وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - فقد شاهد ذلك المنهج، ومن قبس منه، فقد قبس من النور الذي أرسله الله لهداية البشر. ومن هنا نعلم وجه وصفه بالسراج في الآية التي حددت مهماته - صلى الله عليه وسلم -، إذ قال الله عز وجل: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} (2). إن مشاهدة الناس للمبادئ القرآنية متمثّلة في الواقع الأرضي البشري، يعطي لهم دفعات من الثقة والتصديق بذلك المنهج، لأنهم يرونه بعيونهم متحققاً، فيُسارعون إلى تطبيق تلك المبادئ، اقتداءً بمن رأوها متمثلة فيه. ولو أن القرآن نزل مجرداً عن رسول حامل له ممثِّل لما فيه، لتعوّقت كثير من النفوس عن امتثاله، توهّماً أن ذلك أمر صعب المنال، أو لا يمكن تحقيقه في واقع الحياة. هذا وإن الذين شاهدوه - صلى الله عليه وسلم - بأعينهم، تأثّروا به، وتعلّموا منه على أتم ما يمكن من أحوال هذه الطريقة. ولكن الذين لم يشاهدوه يتيسّر لهم الاطلاع على أفعاله وأحواله بما نقل إليهم عن طريق الذين شاهدوه، ويكون هذا الاطلاع وسيلة قريبة من المشاهدة، تؤدي إلى ثمارٍ قريب من ثمار المشاهدة. فهو قدوة متجددة حيثما ذكرت سيرته وأخباره وأحواله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تمثّلت فيه - صلى الله عليه وسلم - صور متنوعة، كل منها يوضّح للبشر كيف يكون الملتزم بالمنهج الرباني في ناحية معينة من نواحي الحياة. فالعالم يرى في محمد - صلى الله عليه وسلم - الصورة السامية المثاليّة للعالم، والعابد يرى فيه   (1) الحديث بأتم من هذا. رواه مسلم 6/ 26 وأحمد وأبو داود. (2) سورة الأحزاب: آية 45 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 صورة المثل الأعلى للعابد، وهكذا الداعية، ورجل السياسة، ورجل الحرب، والأب، والزوج، والقريب، والصاحب والصديق، حتى العدوّ يستطيع أن يتعلم منه كيف ينبغي أن يعامل عدوّه. و"كل هذه الصور كانت مجتمعة في محمد - صلى الله عليه وسلم - على توافق وانسجام" (1) وتعادل، لا يطغى بعضها على بعض كما قد تطغى بعض الصفات في الأبطال على سائر الصفات. هل كان محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى: يقول جولد تسيهر: "لو أن الإسلام قد تمسّك بشهادة التاريخ الحق تمسكاً دقيقاً لوجد أنه لا يستطيع أن يُمدَّ المؤمنين به بفكرة مثاليّة للحياة الأخلاقية، وهي فكرة اتخاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلاً أعلى واحتذائه. لكن المؤمنين لم يتركوا أنفسهم يتأثرون بصورة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما رسمها التاريخ الصادق، بل حلّ محلها من أول الأمر، الصورة المثاليّة للنبي في رأيهم". ثم يقول: "إن علم الكلام في الإسلام، حقق هذا المطلب، بما رسم للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - من صورة تمثله بطلاً ونموذجاً لأعلى الفضائل، لا مجرد أداة للوحي الإلهي ونشره بين غير المؤمنين. على أنه يبدو أن هذا لم يرده محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه، فقد قال إن الله أرسله {شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} أي إنه مرشد، لا نموذج ومثل أعلى، أو -على الأقل- إنه ليس كذلك {أسوة حسنة} إلاّ بفضل رجائه وذكره الله كثيراً (سورة الأحزاب: آية 21) ولقد كان على ما يبدو مدركاً بإخلاص ضعفه الإنساني، ومن ثَمَّ كان عمله أكثر من شخصه". اهـ (2). هذا المعنى الذي ألح عليه المستشرق اليهودي، أشار إليه الآخر: يوسف شاخت، في مادة (أصول الفقه) في (دائرة المعارف الإسلامية) حيث ذكر أن   (1) محمد قطب: منهج التربية الإسلامية ص 223 (2) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام - ترجمة محمد يوسف موسى وزميليه ط ثانية. القاهرة، دار الكتب الحديثة (د. ت) ص 35 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أقواله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن موضع شك منذ البداية، أما الأفعال فإنما اتّخذ فيها مثلاً أعلى رَغمْاً عن أن شريعته لا تدل على ذلك. ونحن سنثبت -إن شاء الله- حجية أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفصل الثالث من الباب الأول. ولن نرد على ما في كلامهما من الباطل الذي دعاهما إليه الكفر. ولكن يهمنا هنا إثبات أنه - صلى الله عليه وسلم - جُعِل الصورة المقتدى بها في الدين، وأن بملاحظة أفعاله يحصل تعلم الدين، وأنه كان المثل الأعلى للبشر في حدود البشرية من جهة الدين، وأن ما أشار إليه جولد تسيهر وزاغ عنه، وهو قوله تعالى في الأخلاق والعبادة والمعاملة: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} دليل في ذلك. وسياق الآية في الثبات في الحرب، لا في مجرد العبادة. وحتى الآية التي كفر بها جولد تسيهر، فيها أن الله أرسل نبيه {سراجاً منيراً}، والسراج يضيء من داخله. وقد جاء ثلاثة رهط إلى أبيات النبي - صلى الله عليه وسلم -، يسألون عن عبادته لربه، فأخبروا بها، فكأنهم تقالُّوها. فقالوا: وأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فالتزم بعضهم أن لا ينكح النساء، والآخر أن يصوم ولا يفطر، والثالث: أن يقوم فلا ينام. فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم، فقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر، وأقوم، وأنام، وأتزوّج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني" (1). فلم ينبّههم إلى الحق بذكر آية، أو تبليغ وحي، وإنما نبّههم إلى فعل نفسه، وإلى ما يلتزم به، وأن من ناقَضَ مقتضى الاقتداء به في ذلك، فليس على شريعته. وأمر آخر يدل على المطلوب دلالة واضحة، وهي أن الله تعالى قصّ علينا في كتابه قصص أنبيائه والصالحين من عباده. وإنما قصّهم ليكونوا عبراً ومُثُلاً تحتذى، كما في توبة آدم، ودعوة شعيب، والتزام إبراهيم، ووصية يعقوب لبنيه بالتوحيد، وعفة يوسف، واستغفار يونس، وطاعة إسماعيل، وقوة موسى، وعبادة مريم،   (1) بمعنى رواية البخاري (فتح الباري. ط مصطفى الحلبي 11/ 4) ورواه مسلم 9/ 176 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وعبودية عيسى، عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه. فكيف لا تكون أفعال أفضلهم وأكرمهم وأتقاهم لله، قدوة ومثالاً يحتذى، وهو خاتمهم الذي جعل للناس كافة رسولاً؟ وكان خاتماً للرسل، فهو نبي جميع العصور اللاحقة حتى تقوم الساعة. ومعلوم أن أفعاله يقتدى بها من حيث هي دليل على أحكام الله، لا لذاتها من حيث إنها أفعاله، وكونه (مثلاً أعلى) إنما هو في شدة تمسّكه بما أمره به ربه، وشدة متابعته للمنهج الذي رسمه له. وقد وضّح - صلى الله عليه وسلم - هذا عندما قال لمن أبي الاقتداء به في حكم ديني، محتجاً بأن الله يحل لرسوله ما شاء: قال له: "لكني أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتّقي" فأشار إلى أنه قدوة من حيث كونه أعلى الناس في تقوى الله، مع كونه أعلمهم بأحكام الله. وقال لبعض الصحابة: "أما لكم فيّ أسوة" (1) وكلام المستشرق الآنف الذكر يوهم أن المسلمين جعلوه - صلى الله عليه وسلم - مثلاً أعلى تحتذى أفعاله لذاتها، على اعتبار أنه إن فعل شيئاً أصبح شرعاً، ولو لم يقصد به التشريع. وهذا لم يذهب إليه أحد من المسلمين، إلا بعضهم في أفعال محدودة سنبيّنها في موضعها إن شاء الله. بل أكثر كلام الأصوليين في باب الأفعال دائر حول تمييز ما هو دليل على الحكم الشرعي مما ليس بدليل. وقد حقّق الاقتداءُ به - صلى الله عليه وسلم - مستويات عالية في الإيمان والإخلاص والجهاد والعلم والعبادة والدعوة، تمثّلت في أشخاص الصحابة الكرام، وفي المجاهدين المخلصين لله في كل عصر وجيل من أجيال أهل الإسلام. ولا تزال هذه القدوة العظيمة تنبت أبطالاً في كل عصر، يكونون شجىً في حلوق أعداء الله. وكأنّ الله عز وجل يشير إلى هذا بقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ... } إلى قوله: { ... ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} (2).   (1) رواه مسلم 5/ 186 (2) سورة الفتح: آخر السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الطريقة الثالثة للتعليم : الممارسة للفعل تحت نظر المعلّم ليصحح للمتعلّم إن كان في فعله خطأ، ويقرّه عليه إن كان صواباً. ويقابلها في السنة النبوية (الإنكار والتقرير). "والممارسة والعمل منهل من مناهل التعلم. وقد نادى ولا يزال ينادي بهما مربو العصر الحاضر. والقول المأثور (التعلم بالعمل) يهيمن على فلسفة جميع المدارس الأمريكية، ويسيطر على تفكير جميع مدرسيها، حتى إن المتأخرين من المربّين والمشتغلين بالتعليم أخذوا يضعون الأهميّة العظمى على الناحية العملية. وما (المدارس التجريبيّة) إلا مؤسسات أعِدّت لتطبيق هذه الفكرة، إذ نجد الطلاب في مثل هذه المدارس في غرف مملوءة بالآلات البخارية أو الكهربائية، كأننا في معمل من المعامل، لا في مدرسة جاء إليها الطلاب ليتلقّوا فيها العلوم. ومن أجل هذا فالطلاب في مثل هذه المدارس، يتلذّذون بكل ما يعهد إليهم عمله، ويتعلمون أكثر مما يتعلمه الطلاب في المدارس التقليدية" (1). المدرسة النبوية قد طبّقت هذه الطريقة بمستوى رفيع: لقد حثّ القرآن طوائف الأمّة على النفير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنفير معه، ليتعلّموا أثناء النفير، ويعملوا بأحكام دينهم تحت سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصره. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصحح لهم وينقد لهم أفعالهم إن كان فيها خطأ، ويقرّ ما هو صالح وصحيح من أفعالهم، ويثني على ما هو حسن، حتى يستقرّ في نفوسهم الميل إليه واستحسانه. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حيثما أقام أو سافر أو غزا، يلاحظ أفعال صحابته ولا يترك الخطأ (يمر)، بل ينبّه عليه، كما حدث في حديث المسيء في صلاته، وحديث أنهم كانوا يحلفون بآبائهم فنهاهم، وغير ذلك مما هو معروف في دواوين السنة. وكان يكل إلى أصحابه المهامّ الجسيمة في السرايا والبعوث والولايات والوفود في غيبته، بل يكل إليهم أحياناً الحكم والخطابة والمفاوضة في حضرته. فيتعلّمون بالعمل. وهو - صلى الله عليه وسلم - يقرّ لهم الصواب فيعلمون أنه صواب، وينكر عليهم الخطأ فيجتنبونه.   (1) محمد حسين آل ياسين: مبادئ في طرق التدريس ص 282، 283 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 المبحث الرابع تقسيم السّنن النَّبَويَّة إلى قوليَّة وفعليَّة صريحة وغير صريحة تنقسم السنن النبوية من حيث طبيعتها قسمين رئيسيين: الأول: الأقوال. والثاني: الأفعال. والزركشي في البحر المحيط توسّع في ذكر أقسام السنن بالتفصيل، فجعلها ثمانية: الأول: القول، الثاني: الفعل، الثالث: التقرير، الرابع: ما همّ به، الخامس: الإشارة، السادس: الكتابة، السابع: الترك، الثامن: التنبيه على العلة، نقله عن أبي منصور، والحارث المحاسبي (1). ونحن نرى أن الخمسة التي ذكرها بعد الفعل راجعة إلى قسم الأفعال، وإن كانت ذات صفات خاصة تميّزها عن سائر الأفعال. وأما الثامن، وهو التنبيه على العلة، فهو إما راجع إلى القول، إن كان الدليل قوليّاً، أو إلى الفعل إن كان الدليل فعليّاً. ومن أجل ذلك فإن تقسيم السنن إلى أقوال وأفعال هو تقسيم حاصر. ثم الأفعال تنقسم إلى أنواع. وسوف نسير في رسالتنا هذه على هذه الطريقة. فنقسم السنن إلى قسمين: قولية، وفعلية.   (1) البحر المحيط 2/ 260 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 تعريف الفعل : الفعل هو حركة البدن أو النفس. وعرّفه صاحب اللسان بأنه: "كناية عن كل عمل متعدّ أو غير متعدّ". والفعل عند المنطقيين "تأثير من جرم مختار أو مطبوع في جرم آخر، فيحيله عن بعض كيفيّاته إلى كيفيّات أخرى، كفعل السكّين والحجر، والقاطع بهما، فإنهما يحيلان القطوع، كالتفاحة مثلاً، عن حال الاجتماع إلى حال الافتراق. وقد يكون الفعل مجرداً، كالقيام والتحرك والتفكر، وما أشبه ذلك" (1). وقال الجرجاني في التعريفات: "الفعل هو الهيئة العارضة للمؤثّر في غيره بسبب التأثير، كالهيئة الحاصلة للقاطع بسبب كونه قاطعاً ... ومنه الفعل العلاجي، وهو ما يحتاج حدوثه إلى تحريك عضو كالضرب والشتم" (2). ثم ذكر ابن حزم أن الفعل ينقسم إلى ما يبقى أثره بعد انقضائه، كفعل الحرّاث والنجّار والزوّاق، وما لا يبقى أثره بعد انقضائه كفعل السابح والماشي والمتكلّم، وما أشبه ذلك (3). هذا وليس كل ما يعبر عنه بالفعل الصرفيّ مراداً هنا، فنحو مات وعاش، واسودّ وابيضّ، وكان وصار، وحُرِمَ ورُحِمَ، هذه أفعال عند الصرفيين ولكنها ليست عند المناطقة والأصوليين أفعالاً، لأن من نسبت إليه لم يفعلها. والقول هو فعل من بعض الوجود. وسيأتي بيان ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني إن شاء الله. فعل غيره بأمره صلى الله عليه وسلم : لو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد المسلمين أن يفعل شيئاً ففعله، فهل يكون ذلك فعلاً نبوياً حتى يستدلَّ به على طريقة الاستدلال بالأفعال، أم هو قول يفهم كغيره من الأوامر؟   (1) بتصرف عن ابن حزم: التقريب لحد المنطق، بيروت، دار مكتبة الحياة، ص 60 (2) ص 75 (3) التقريب لحد المنطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يمثّل الأصوليون في باب الأفعال النبوية بأنه - صلى الله عليه وسلم - (رَجَم) ماعزاً، و (قطع) سارق رداء صفوان. ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يباشر ذلك، ولكن فعل بأمره. وقد اعترض على التمثيل بذلك ابن الهمام في التحرير، ثم قال: "إلا أن يُجعل فعل المأمور كفعله - صلى الله عليه وسلم - لمّا كان بأمره، وفيه ما فيه" (1) وأنا أقول: إن القول النبوي الذي بمعنى الإفتاء والإخبار بحكم الشرع هو (قول)، وما فعل بناء عليه يكون منسوباً إلى فاعله لا إلى الآمر به. وذلك كما نصلي ونصوم ونحج ولا ينسب فعلنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما الأمر التنفيذيّ الصادر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بوصفه (إمام العامة) أو القائد أو الأمير، أو نحو ذلك، فإن ما يفعله المأمور تنفيذاً مطابقاً، فهو من جهةٍ فعل للمأمور، لأنه قام بالحركة، فتنسب إليه حقيقة. ويجوز نسبته إلى الآمر به، - صلى الله عليه وسلم -. وأهل البيان يجعلون نسبة الفعل إلى الآمر به من المجاز العقليّ، لما كان الآمر هو السبب في وجود الفعل وليس هو الفاعل الحقيقي. إلا أن مرادنا هنا توضيح أن مثل ذلك الفعل هل ينسب إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، حتى يكون من باب الأفعال النبوية، ويستدل به كما يستدل بالأفعال، فيدل مثلاً إذا كان مجرداً على الاستحباب في ما هو من باب القرب، أو هو أمر فيستدل به على الوجوب؟ وهي مسألة مهمة تنبني عليها فروع كثيرة. إن الشخص الذي وُجّه إليه الأمر التنفيذي يلزمه الطاعة، لأنه (مأمور) والأمر يقتضي الوجوب. ولكن غيره ممن لم يؤمر به، يقتدي بالفعل، ويعتبره كسائر أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، فيجري عليه قانون الاستدلال بالأفعال النبوية. ووجه ذلك أن المأمور في هذه الحال لا يزيد عن كونه كالآلة للآمر، وخاصّة وأنه - صلى الله عليه وسلم - نبيّ ورسول، فتابعه المأمور ليس له الخيرة من أمره، ولا محيص له من التنفيذ، طاعة منه لأمر الله ورسوله، وثقةً بأن تقدير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحكم   (1) التقرير والتحبير 2/ 302، 303 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وللظروف والأسباب والطريقة والنتائج، تقدير هو الصواب بعينه، وليس لأحد من البشر أن يعقّب على حكمه. وأهل اللغة عندما يسندون الأفعال إلى الآمر بها، المسؤول عن تقدير أسبابها وظروفها ونتائجها، إنما يصدرون في ذلك عن قناعة نفسية بأن الفعل يعتبر صادراً عن الأمر المسؤول كما يعتبر صادراً عن المأمور الذي لا يزيد عن كونه مجرد آلة (1)، بل أولى. وكمثال لا تقدم نضرب ما ذكره ابن حزم في مسألة حكم إشعار الهدي. فقد روى ابن حزم (2) حديثاً من طريق النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ببدنته فأشعَر في سنامها من الشق الأيمن، ثم سَلت الدَّم عنها وقلدها نعلين. ثم قال ابن حزم: "ليس في هذا الخبر أنه أمَر بالإشعار. ولو كان فيه، لقلنا بإيجابه مسارعين. وإنما فيه أنه (أمر ببدنته فأشعر في سنامها)، فمقتضاه أنه أمر بها، فأُدنِيَتْ إليه، فأشعر في سنامها، لأنه هو - صلى الله عليه وسلم - تولّى بيده إشعارها. بذلك صح الأثر". اهـ. أي فيدل على الاستحباب. فليت شعري لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد أمر أجيره، أو خادمه أو أحد   (1) ألمح إلى ذلك سعد الدين التفتازاني في حاشيته على شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول (1/ 157) حيث يقول في نحو (أنبت الربيع البقل): ليس هنا مجاز وضعي أصلاً لا في المفرد ولا في المركب، بل عقلي، بأن أسند الفعل إلى غير ما يقتضي العقل إسناده إليه، تشبيهاً له بالفاعل الحقيقي. قال: وليس المقصود بهذا التشبيه هو الذي يقال بالكاف وكأن ونحوهما، بل هي عبارة عن جهة راعوها في إعطاء الربيع -وهو الجدول- حكم القادر المختار، كما قالوا: شبه (ما) بـ (ليس) فرفع بها الاسم ونصب الخبر. اهـ. فجعله التشبيه هنا عبارة عن (جهة راعوها)، نظير لما ذكرنا من القناعة النفسية لدى أهل اللغة إذ ينسبون الفعل إلى الآمر الواجب الطاعة، ويسند الفعل في كل من الصورتين إلى غير فاعله على سبيل المجاز العقلي. (2) المحلى 7/ 110، 112 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الحاضرين، أن يتولّى عنه ما تولاه هو بنفسه، أكان ينتقل الحكم في حق الأمّة من الندب إلى الوجوب؟ إن الأوْلى أن يقال: إن الذي وجِهَ بالأمر يتعيّن عليه التنفيذ، ولكن ذلك الفعل ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كسائر أفعاله، ليجري على قانونها في حق الأمة. وبهذا يتبيّن أن تمثيل الأصوليين للأفعال النبوية برجم ماعز، وقطع يد السارق، وقتال أهل مكة، وغير ذلك، هو تمثيل صحيح. واعتراض ابن الهمام الذي تقدم ذكره غير وارد. والله أعلم. تقسيم الفعل إلى صريح وغير صريح : من الأفعال ما هو صريح في الفعلية، فلا يختلف في كونه فعلاً. وذلك كالضرب، والمشي، والحب. والمثال الأول وهو الضرب، هو للفعل المؤثّر لا غير فاعله، والثاني للمجرّد المشاهَد، والثالث للمجرّد النفسي. ومن الأفعال ما ليس صريحاً في الفعلية، فيدور الوهم فيه بين أن يكون فعلاً أو لا يكون. ومن ذلك الكتابة، والإشارة، والترك الإيجابي الذي يعبّر عنه بالكفّ أو الإمساك، والسكوت عن الجواب، والتقرير، والهمّ بالفعل، ونحو ذلك. فهناك من يدعي أن الكتابة قول، وأن الترك والسكوت والتقرير ونحوها ليست أفعالاً. والقول فعل غير صريح. فهو فعل من بعض الوجوه. كما سيأتي في موضعه في الفصل الثالث من الباب الثاني. ما يعبّر عنه بالفعل وهو قول: كثير من الأقوال يعبّر عنها بما يوهم الفعلية. ويجب أن لا يخدعنا ذلك عن حقيقة كونها أقوالاً، وذلك مثل: تشهّد، وكبّر، وسبّح، ولبّى، ومدح، وأثنى، ووبّخ فلاناً، ولعنه، ودعا عليه، وأمره، ونهَاه. ودليل كونها أقوالًا أنها تفسير بالقول. فـ (التشهّد) هو قول: أشهد أن لا إله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 إلاّ الله، و (التسبيح) هو قول: سبحان الله، و (التلبية) هي قول: لبيك اللهم. وهكذا. ولكن لا يمنع ذلك أن تكون هذه الأقوال ذات أوجه فعلية، كما يأتي (1) كغيرها من الأقوال. انقسام السنن الفعلية إلى صريحة وغير صريحة : تبعاً لما تقدم إيضاحه من أنَّ ما يصدر عن الإنسان من الأفعال ينقسم إلى فعل صريح وفعل غير صريح، فإن السنن الفعلية الصادرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنقسم إلى أفعال صريحة، وأفعال غير صريحة. وحجيّة الأفعال النبويّة الصريحة تثبت بمجرد إثبات حجيّة الأفعال النبويّة، إذ إنها لعدم الخفاء في فعليتها، تدخل في ما تثبت حجيّته من الأفعال دخولاً أوليّاً. وهذا بخلاف الأفعال النبوية غير الصريحة، كالترك والسكوت، إذ إنها، لخفاء فعليّتها بما يميّزها عن الصريح من الأفعال، بحاجة إلى مزيد من الأدلة والاحتجاج، يبين عدم خروجها عما ثبتت حجيّته من الأفعال. يوضح هذا أننا لما أثبتنا حجيّة السنة بصفتها الإجمالية، وكان دخول السنن القولية في نطاق "السنة" ظاهراً لا مرية فيه، بخلاف الأفعال، احتجنا لإثبات حجية الأفعال إلى مزيد من الأدلة. وشبيه هذا كله ما ذكره الأسنوي من أن: "إطلاق الأصوليين يقتضي أن الفرد النادر يدخل في العموم، وَصَرَّحَ بعضهم بعدم دخوله" (2) وذكر لذلك فروعاً، منها: 1 - الأكساب النادرة كاللقطة والهبات ونحوها، هل تدخل في المهايأة، والصحيح دخولها.   (1) في الفصل الثالث من الباب الثاني. (2) التمهيد ص 100 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 2 - ومنها أن المتمتع يجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج. فلو أراد تأخير التحلل الأول إلى ما بعد أيام التشريق، بأن يؤخّر الحلق والطواف، ويصومها في ذلك الوقت، لكونه زمن الحج، فإنه لا يجوز على الصحيح عند الرافعي، وعلّله بقوله: "لأنها صورة نادرة" فلا تكون مرادة من الآية، بل تحمل الآية على الغالب المعتاد. هذا ومن أنكر فعلية بعض ما سميناه (الأفعال غير الصريحة) -كالترك والسكوت مثلاً- فإن افتقاره إلى الاستدلال على حجيّتها افتقار حقيقي، وتكون الأدلة بالنسبة إليه تأسيسيّة. أما بالنسبة إلى من يرى فعليّتها -وهو ما نسير عليه- فإن الاستدلال على حجيّتها يكون للتأكيد على عدم خروجها عن حجيّة السنن الفعلية بصفتها الإجمالية. من أجل ذلك رأينا أن نقسم البحث إلى قسمين، نجعل لكل منهما باباً: الأول: للأفعال الصريحة. والثاني: للأفعال غير الصريحة. ونتبع ذلك بباب ثالث، خاص بالتعارض بين السنن الفعلية بعضها وبعض، وكذلك للتعارض بينها وبين الأقوال وغيرها من الأدلة. والله المستعان، وبه التوفيق. مرتبة مباحث الأفعال من علم الأصول : أصول الفقه هو العلم بأدلّة الفقه الإجمالية، وكيفيّة استفادة الأحكام الفقهية منها، وحال المستفيد. ويتعرض فيه الأصوليون لأربعة أمور أساسية، جعلها الغزالي في المستصفى (أقطاباً) أدار عليها مباحث هذا العلم، وذلك أنه جعل الحكم الشرعي كالثمرة التي يستثمرها المجتهد من الأدلة. القطب الأول: في الأحكام الشرعية وهي الثمرة. وكل ثمرة لها صفة وحقيقة في نفسها وأقسام. فيبحث في هذا القطب في حقيقة الحكم، وانقسامه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 واجب، ومحظور، ومندوب، ومكروه، ومباح، وقضاء، وأداء، ورخصة، وعزيمة، وصحة، وفساد، ويبيّن أن الحكم الشرعي لا يكون إلا من حاكم، هو الله وحده. ويبحث في أحوال المحكوم عليه. ومن يجوز تكليفه ومن لا يجوز. القطب الثاني: في الأدلة إجمالاً: الكتاب والسنة والإجماع وغيرها، وهي المثمِرة للأحكام. فيبيّن في هذا القطب حدّ الكتاب، وما هو منه وما ليس منه، وطريق إثباته، وما يجوز أن يشتمل عليه من حقيقة ومجاز، وعربيّة وعجميّة، ويبحث في السنة عن أنواعها، وطرق ثبوتها، وصفات رواتها. ثم يبحث في الإجماع وسائر ما يستدل به على الأحكام الشرعيّة. القطب الثالث: في طرق الاستثمار، وهي دلالات الألفاظ على المعاني بمنطوقها ومفهومها واقتضائها وما يعقل منها كالقياس. القطب الرابع: في المستثمر وهو المجتهد، يذكر فيه صفات المجتهد، والموضع الذي يجري فيه الاجتهاد، دون الذي لا مجال للاجتهاد فيه، وسائر مسائل الاجتهاد والتقليد. ولغير الغزالي من الأصوليين ترتيبات أخرى لمسائل علم الأصول يراعون فيها جهات مختلفة. وعلى كل حال فإنه لما كانت الأفعال النبوية دليلاً على الحكم الشرعي ومفيدة له، كان موقع مباحثها ضمن مباحث الأدلّة. وذلك على ترتيب الغزالي في القطب الثاني، وهو المثمر. والأدلة: كتاب وسنة وإجماع وقياس، ويتبعها عند بعض الأصوليين أدلة أخرى. والسنة أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله. ولما كانت الأقوال أدلّ على الأحكام، وهي الأصل في التبليغ والبيان، فإن مباحث الأفعال تؤخر في باب السنة، غالباً، عن مباحث الأقوال. وإثبات ورود الأحاديث بنوعيها، وهو ما يسمى باب (الأخبار) أو باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 (الإسناد) يؤخر عن باب الأفعال غالباً، كما فعله البيضاوي (1)، لأن الغرض منه إثبات ورود السنن بصفتها العامة، أي بشقيها القولي والفعلي. وقد يؤخر إلى ما بعد ذكر الدليل الثالث وهو الإجماع كما فعله الرازي في المحصول (2). ولعل وجهه أن باب الأخبار الغرض منه إثبات ورود الدليل سواء كان كتاباً أو سنة أو إجماعاً. فكان باب الأخبار ملحقاً بالأدلة الثلاثة. غير أن الأفعال النبوية تذكر أيضاً في غير باب أدلّة الأحكام. فتذكر ضمن مباحث الإجمال والبيان ونحوها من مباحث الدلالة، لبيان كيفية البيان بها. وتذكر أيضاً في باب القياس بإيجاز شديد، لبيان كيفية استخراج عللها لأجل القياس عليها. ومن جهة أخرى قد تتعارض دلالة الأفعال بعضها مع بعض، أو مع الأقوال، أو مع غيرها من الأدلة، فيذكر ذلك ضمن مباحث التعارض والترجيح بين الأدلة. ولكن كثيراً من الأصوليين يبادرون بذكر التعارض الذي للفعل علاقة به، ضمن مباحث الأفعال من باب السنة، لتجتمع مباحث الأفعال في مكان واحد، كما فعله أبو الحسين البصري والشوكاني وغيرهما. مشتملات مباحث الأفعال : لن نتعرض في بحثنا في الأفعال لما يتعلق بروايتها وإثباتها، فذلك أمر تشترك فيه الأقوال والأفعال على حد سواء. أفرد له المحدثون علم (مصطلح الحديث) وتعرّض له الأصوليون في باب (الأخبار) من مباحث السنة. وهو لذلك متروك للباحثين في السنة بصفتها العامة، أو في الأخبار خاصة. وسيكون بحثنا في (الأفعال النبوية) بعد افتراض ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقوعها منه، وذلك فيما صحّ عند أهل الحديث، ثقة بأنهم أهل الاختصاص في ذلك.   (1) منتهى السول 2/ 3 وقد تعرض الأسنوي لهذه المسألة. (2) المصدر نفسه والصفحة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 غير أننا نستثني فنذكر مما يتعلق برواية الفعل أشياء يسيرة، لها علاقة باستفادة الأحكام من الأفعال، كتعبير الصحابي عن الفعل، وما يمكن أن يستفاد من ذلك من تعليل أو تعميم أو غيرهما. تصنيف الأفعال كقَسِيمٍ لسائر الأدلّة: الأدلة المعتمدة في الشريعة أغلبها أقوال، فالكتاب العظيم قول الله تعالى، والسنة النبوية منها أقوال ومنها أفعال، والإجماع منه قولي ومنه فعلي. ومذهب الصحابي عند من قال به، منه قول ومنه فعل. ولكن دليل القياس، وهو العلة، ليس قولاً ولا فعلاً، ولكن هي معنى اعتبره الشارع في الأصل. فالأدلة، إذن، إمّا أقوال. وإمّا أفعال. وإما غيرهما. ويقول ابن تيمية: "الأصل قول الله، وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وتركه القول وتركه الفعل. وإن كانت جرت عادة الأصوليين أن يذكروا قول الله فقط، ومن جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله وفعله وإقراره" (1). فهذا تقسيم للأدلة من وجه طبيعتها. وتقسيما إلى كتاب وسنة وإجماع وقياس وغير ذلك، هو تقسيم لها من وجه مصادرها. وهو التقسيم السهل المعتمد عند الأصوليين. وعلى التقسيم الأول ليس كل الأفعال داخلاً في بحثنا بصفة أساسية، لأن موضوعه (الأفعال النبوية). فلا تدخل فيه أفعال الله تعالى، ولا أفعال الصحابة رضي الله عنهم. ولا أفعال أهل الإجماع. ولكننا سنلحق بأبحاث الأفعال النبوية بعض ما يشاكلها مما يتعلق بأفعال غير النبي - صلى الله عليه وسلم - تتميماً للبحث، لأنها تشارك أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في طبيعتها (الفعلية) وفي الدلالة على أحكام عند من يقول بها.   (1) المسودة ص 298 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المبحث الخامس الأفعال النَّبَويَّة في التآليف الحديثية والأصُوليّة مظان التعرّف على الأفعال النبوية: تذكر دواوين السنة أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبثوثة بين أحاديثه القوليّة. ولم يفردها من المسندين أحد بالرواية فيما نعلم، كما لم يفرد الأقوال أحد عن الأفعال. ولما استقرت دواوين السنة المسندة، من الصحاح والسنن والمسانيد والموطآت والمستخرجات وغيرها، في القرن الخامس تقريباً، وبدأ عصر التجميع منها، جمع الشيخ ابن العاقولي، وهو محمد بن محمد بن عبد الله (733 - 797 هـ) أحد أساتذة الجامعة المستنصرية ببغداد، كتابه (الرصف لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفعل والوصف) اعتمد فيه ما ذكره ابن الأثير في جامع الأصول، وأضاف إليه ما ذكر في بعض المصادر الأخرى. وهو -أعني ابن العاقولي- أول من اعتنى بجمع الأفعال، وإفرادها عن الأقوال، فيما يظهر. وقد قال في مقدمته: "أما الأفعال فلم نر من اعتنى بجمعها مفصلة قبل كتابنا هذا، وإنما تذكر في أثناء الأقوال" (1) فأكّد لنا هذا المعنى، وهو إغفال المتقدمين من المحدثين لإفراد الأفعال (2).   (1) انظر: 1/ 3 (2) بعد أن كتبنا هذا اطلعنا على مقدمة صحيح ابن حبان (354 هـ) فوجدناه يذكر أنه قسم كتابه خمسة أقسام: الأوامر، والنواهي، والأخبار، والإباحات، والأفعال. (انظر 1/ 58) = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ولم يكن هدف ابن العاقولي من تجميع الأفعال التهيئة لاستفادة الأحكام الفقهية منها، وإنما كان يريد التعريف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، ولذلك أدمج أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - الخلقيّة، ونسبه الشريف، ونحو ذلك. وأورد في ضمن ذلك أقوالاً يسيرة. وجاء بعد ذلك السيوطي، فأفرد الأفعال عن الأقوال. ولم يكن الذي دعاه إلى هذا أمراً يتعلق بالاحتجاج بها، وإنما كان هدفاً فنيّاً صرفاً. وذلك أنه أراد تجميع الأحاديث النبويّة المأثورة بأسرها، من جميع دواوينها المسندة، في كتاب واحد، سمّاه (الجامع الكبير) (2). واختار أن يرتبه ترتيباً يمهد الطريق للباحثين، للوصول إلى الحديث المطلوب بيسر وسهولة. فكان أن رتّبه ترتيباً هجائياً كَلِمِيّاً (3)،   =ولم يطبع أصل كتابه، وإنما طُبع بترتيب الأمير علاء الدين الفارسي، الذي سمّاه "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" حيث رتّبه على أبواب الفقه، وقد نشر منه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله الجزء الأول، وتقوم الآن مؤسسة الرسالة بإصداره كاملاً بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط في ستة عشر جزءاً. إلا أننا نحمد الله على أن رجعنا بأولية فصل الأفعال النبوية عن الأقوال، إلى القرن الرابع. ملاحظة: يبعد أن يكون لنضج مباحث الأصول في ذلك القرن أثر على ابن حبان في ترتيبه الذي اختاره. فإنه قسم الأفعال خمسين نوعاً، يظهر في أكثر عناوينها ذلك، من مثل قوله (في ص 104، 105 من المقدمة): النوع السادس: فعل فعله - صلى الله عليه وسلم -، لم تقم الدلالة على أنه خص باستعماله دون أمته، مباح لهم استعمال مثل ذلك الفعل، لعدم وجود تخصيص فيه. وقوله أيضاً: النوع الثامن عشر: أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، التي تفسر عن أوامره المجملة. وذلك ظاهر أيضاً في سائر الأقسام غير الأفعال. فإن صدق الظن، فإن كتاب ابن حبان، على أصله الذي ألفه عليه، يصلح أن يكون بستاناً للأصوليين، ينتقون منه فيتأنقون، أطايب ثماره، كأمثلة لمسائلهم الأصولية. (1) الرصف 1/ 2 (2) بدأ بطبعه بالقاهرة. (3) فرق في الترتيب الهجائي بين النظام الكلمي والنظام الحرفي. يراجع للتفصيل رسالتنا (الفهرسة والترتيب المعجمي) نشر دار البحوث العلمية، بالكويت، 1372 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بحسب حروف كلمات اللفظ النبوي، الأول فالثاني فالثالث، كلمة كلمة. فاستقام له ذلك في الأحاديث القولية الصرفة. أما "الأحاديث الفعليّة، أو التي فيها قول وفعل، أو سبب أو مراجعة" (1) له أو نحو ذلك، فلم يمكن إدخالها في سلسلة هذا الترتيب. فاضطره ذلك إلى إفرادها. فجمعها جميعاً في قسم مستقل، رتّبه هجائياً بحسب أسماء الصحابة رواة الأحاديث. فثبت (الجامع الكبير) عنده على قسمين، أولهما للأقوال وثانيهما للأفعال. ثم اختصر كتابه (الجامع الصغير) من قسم الأقوال خاصة من (الجامع الكبير) إلاّ أنه أدخل في الجامع الصغير في آخر حرف الكاف منه، ما ورد من الأحاديث الفعليّة، مبدوءة روايته بلفظ (كان يفعل). وجاء بعده علي المتقي الهندي، فجمع القسمين من كتاب السيوطي مرة أخرى في ترتيب مخالف. وسمّى كتابه (كنز العمال من سنن الأقوال والأفعال) فقد رتّب كتابه لا على (الهجاء)، وإنما على (الأبواب الموضوعية) كالإيمان والصلاة والنكاح ونحو ذلك، مرتّباً بين عناوين تلك الأبواب بحسب حروفها. وأما الأحاديث في داخل كل باب فإنه يذكر أولاً ما كان قوليّاً، ثم يذكر ما كان فعليّاً. فقد بقيت الأقوال والأفعال في كتابه منفصلة بعضها عن بعض، ولكن داخل الأبواب. ولا نجد كتاباً أفردت فيه الأفعال عن الأقوال سوى ما ذكرنا. وعلى هذا فالأحاديث الفعليّة، التي هي موضوع بحثنا، يرجع إليها في دواوين السنة المسندة، أو التجميعات كجامع الأصول وغيره، أو في كتاب ابن العاقولي، أو القسم الثاني من الجامع الكبير أو باب (كان يفعل) في الجامع الصغير، أو كنز العمال. والله أعلم.   (1) من مقدمة السيوطي للجامع الكبير، نقلها صاحب كنز العمال، ط الهند 1/ 6 - 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الأفعال النبوية في الدراسات الأصوليّة: يتعرّض الأصوليون في مؤلفاتهم الشاملة للأفعال النبويّة، ضمن مباحث السنّة، كما ذكرنا. وأكثرهم يفرد الأفعال بباب، أو فصل، أو مسألة. يتعرّضون للفروق في الدلالة بينها وبين الأقوال، ويردون ما يثار حول حجيتها من الشبهات. وقليل منها يذكر مباحث السنة بصفتها العامة ويغفل الأفعال، كما فعل ابن قدامة في (روضة الناظر)، اكتفاء بكلامه على حجيّة السنة ودلالتها، غير أننا نعتبر ذلك قصوراً ممن فعله. بل ينبغي إعطاء الأفعال من الدراسة حقها، ليفرق الفقيه بين القول والفعل، ويعلم كيف يستفيد الحكم من كل منهما على استقامة، وحسب ما تقتضيه (الأصول). ولم أجد أحداً أفرد أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - بمؤلف خاص، ما عدا اثنين من المؤلفين الفضلاء: أحدهما: أبو شامة المقدسي، وهو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي، نزيل دمشق، والمقتول غيلة ببيته سنة 665 هـ، وهو أحد تلامذة الأصولي الشهير سيف الدين الآمدي. وأبو شامة مؤرخ، أديب، فقيه، عالم بالقراءات، بالإضافة إلى تضلعه في علم الأصول، وله باع جيد في بيان حقيقة البدع وإنكارها كما يعلم من كتابه المشهور الذي سمّاه (الباعث على إنكار البدع والحوادث). وتأليفه في الأفعال سمّاه (المحقّق من علم الأصول في ما يتعلّق بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -) وهو كتاب جيد، يدل على بصر مؤلفه بعلم الأصول، ودقته في أبحاثه، مع ورع وأمانة. وقد نقل عنه الزركشي في (البحر المحيط) واعتمد ما نقل عنه. ونقل عنه أيضاً الشوكاني في (إرشاد الفحول) فأكثر، وخالفه في بعض ما نقل عنه. ونقل عنه ابن أبي شريف في حاشيته على جمع الجوامع (1) ونقل عنه غيرهم.   (1) ق 176 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ثانيهما: الحافظ العلائي، وهو خليل بن كَيْكَلْدي بن عبد الله، الدمشقي الشافعي (694 - 761 هـ) وهو محدّث فقيه أصولي. وكتابه في الأفعال ليس شاملاً لمباحثها، وإنما هو في باب خاص هو باب التعارض، كما يدل عليه اسمه (تفصيل الإجمال في تعارض الأفعال والأقوال) وقد بحث بالتفصيل مسألة التعارض بين الفعل والفعل، ثم مسألة التعارض بين الفعل والقول، وقسم هذه المسألة إلى ستين صورة، وبين حكم كل صورة منها وما تقتضيه مذاهب الأصوليين فيها، ومثل لأكثر تلك الصور. ويظهر أنه اطّلع على كتاب أبي شامة، الذي بحث مسألة التعارض بحثاً مجملاً، فأراد العلائي أن يخدم كتابه بتفصيل إجماله. وهو -أعني العلائي- لا يذكر كتاب أبي شامة، ولكنه يوافقه في كثير من عباراته بحروفها، وكذلك تقسيماته للبحت، والله أعلم (1).   (1) "أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -" رسالة لأبي الحسن الأشعري. ذكر ذلك في قائمة مؤلفات الشيخ إلى الحسن الأشعري التي نقلتها المحققة: فوقيه حسين، ضمن مقدمتها لرسالة "الإبانة" له، ونشرتها "دار الأنصار بالقاهرة" ص 65. وقالت ولم "يرد عن الرسالة المذكورة أي تعليق لا من القدامى ولا من المحدثين" وقد عزت إلى (تبيين كذب المفتري لابن عساكر) ص 135. فليراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الباب الأول الأفعال الصريحة 1 - البيان بالأفعال. 2 - أحكام أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إليه. 3 - حجيّة أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -. 4 - أقسام الأفعال النبوية الصريحة، ودلالتها على الأحكام. 5 - الفعل المجرّد. 6 - الأحكام المستفادة من الأفعال. 7 - صفة الدلالة الفعليّة. 8 - دلالة متعلقات الفعل النبوي. 9 - مباحث متنوعة تتعلق بالأفعال. أ- الطريق العملي لاستفادة الحكم من الفعل. ب- الاعتراضات التي تورد على الاستدلال بالأفعال. ج- نقل الأفعال النبوية. د- نية التأسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 قدمنا في التمهيد أننا نعني بالأفعال الصريحة كل أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عدا الترك والتقرير والسكوت والكتابة والإشارة والأوجه الفعليّة للقول، وأننا سنفرد هذه الأنواع من الأفعال بباب خاص (1). وأمثلة أفعاله الصريحة نحو صلاته - صلى الله عليه وسلم - وصومه وزكاته وحجه وسائر أنواع عباداته، ونحو بيعه وشرائه، وقيامه وقعوده، ونومه، ومعاشرته لأزواجه وأقاربه وأصحابه وأعدائه من الكفار والمنافقين، وغير ذلك مما يساويه في الفعليّة دون غشاء يغطي وجه فعليته، أو يضعف رؤيتها. ونودّ هنا أن نوضّح أن كثيراً من مباحث هذا الباب الأول تنطبق على الأفعال غير الصريحة، فما يستوي فيه القسمان يذكر في هذا الباب. وإنما نفرد الأفعال غير الصريحة بباب خاص لنذكر فروقها، لئلا يظن الاستواء بينها وبين الأفعال الصريحة في جميع الأحكام.   (1) تنبيه: قد نتساهل في التعبير في أثناء هذه الرسالة، فنقول أحياناً: الفعل والترك، أو: الفعل والتقرير، فيكون المراد الصريح منه خاصة، بقرينة ضمه إلى قسيمه، وليس ذلك منا ارتضاء لمذهب من أخرج الترك والتقرير عن حيز الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الفَصْل الأول البيان بالأفعال تمهيد في القدوة، والاقتداء بالأفعال النبوية. 1 - البيان. 2 - البيان الفعلي. 3 - اختلاف القول والفعل في البيان. 4 - اختلاف الفعلين في البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 تمهيد في القدوة والاقتداء بالأفعال النبويّة قد ذكرنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مكلّفاً بمهمات البيان، والتعليم، والتزكية. وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما بعثت معلِّماً". وقد حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمانة، وأدّى المهمة على أكمل وجه وأتّمه. فاستعمل جميع الوسائل الممكنة، لإبلاغ دين الله تعالى وتمكينه في الأرض، حتى كان بحقٍّ إماماً، بل كان إمام الأئمة، هَدَى بفعله - صلى الله عليه وسلم - كما هَدَى بقوله، حتى كان فعله نموذجاً حياً للمسلم، يتعلم منه الدين، كما يتعلمه من أقواله - صلى الله عليه وسلم -. درجة الإمامة في الدين : درجة الإمامة في الدين درجة عالية، ذكر الله تعالى الذين يعملون للوصول إليها بطيّب الذّكر، وجعلهم ممن {يجزون الغرفة} إذ قالوا: {واجعلنا للمتقين إماماً} (1). وامتنّ الله بها على خليله إبراهيم بقوله: {إني جاعلك للناس إماماً}. و (الإمام) في اللغة المتّبَع الدالّ. يقال للطريق إمام، ولرئيس القوم إمام. وقوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} (2) قيل في تفسيره: بنبيّهم وشرعهم (3). والإمام في الصلاة، كما في الحديث: "إنما جعل ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا رفع فارفعوا" (4) يرشد بفعله، فيفعل المؤتمون به كما يفعل.   (1) سورة الفرفان: آية 74 (2) سورة الإسراء: آية 71 (3) لسان العرب. (4) متفق عليه (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "تقدموا فأْتموا بي، وليأتمّ بكم من بعدكم" (1) .. وواضح من هذا أن الإمام من يتبع فعله كما يتبّع قوله. ميزة القدرة الملتزمة وأثرها في الاتباع : المقتدى به الذي هو عالم بالمبدأ الذي يدعو إليه، مؤمن به، حريص على نشره بين الناس، لا يكاد يتخلف عمله عن علمه. إذ إن ما يعلمه يصبح كالطبيعة المغروزة فيه، فيفعل ما يفعله بتأثير ذلك العلم الذي أصبح كالوصف الراسخ فيه. وذلك أنه إذا تعهّد نفسه، فلم يسمح أن يصدر عنه ما يخالف مقتضى ما يحمله من العلم، ودعاها إلى ممارسة كل ما يدعوه إليه العلم، فإنه يتعوّد أن يسير حسب المبدأ، وتتقوّى فيه تلك العادة بالتكرار والضبط، حتى تكاد أن تكون طبيعة أخرى. وحينئذٍ يكون ما فعله تصديقاً لأقواله ودعوته التي يدعو إليها، وترسيخاً لها في نفوس أتباعه، وتصح القدوة بفعله كما تصح بقوله. وعلى العكس من ذلك من خالف فعله قوله، يكون ذلك منه تكذيباً لقوله، وعائداً عليه بالإبطال في نفوس الأتباع، ويكون ذلك منفرّاً لهم عن دعوته، وعن استماع كلامه، والانتفاع به. قال الشاطبي (2): "إن المفتي إذا أمر مثلاً بالصمت عما لا يعني، فإن كان صامتاً عما لا يعنيه ففتواه صادقة، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني، فهي غير صادقة. وإذا دلّك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه، وإن كان راغباً في الدنيا فهي كاذبة. وإن دلّك على الصلاة وكان محافظاً عليها، صدقت فتياه، وإلا فلا. وهكذا في سائر الأوامر".   (1) رواه مسلم وأبو داود (الفتح الكبير). (2) الموافقات 4/ 252، 3/ 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 "ومثلها النواهي: فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات، وكان في نفسه منتهياً عنها، صدقت فتياه. أو نهى عن الكذب، وهو صادق اللسان، أو عن الزنا، وهو لا يزني، أو عن التفحّش وهو لا يتفحّش، وما أشبه ذلك، فهو الصادق الفتيا، والذي يقتدى بقوله وفعله، وإلا فلا، لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (1) فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم، فإنما يريد: على كل مكلف، وأما منهم". اهـ. وقال في موضع آخر: "إذا وقع القول بياناً فالفعل شاهد له ومصدق ... وبيان ذلك ... إن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية، أو الفعل الفلاني، ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه، قوي اعتقاد إيجابه، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله. وإذا أخبر عن تحريمه مثلاً ثم تركه، فلم يُرَ فاعلاً له، ولا دائراً حواليه، قوي عند متبعه ما أخبر به عنه، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله، أو أخبر عن تحريمه ثم فعله، فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه، طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى. بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة: إما من تطريق احتمال إلى القول، وإما من تطريق تكذيب إلى الناقل، أو استرابة في بعض مآخذ القول. مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظّم في دين أو دنيا كالمغروز في الجبلة، كما هو معلوم بالعيان. فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل. فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به، أو عدم ذلك" (2) اهـ. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أصدق الناس، وأقومهم بحق الإمامة، وأسرعهم إلى تنفيذ ما أرسل به من شريعة الله، على نفسه أولاً، ثم أهل بيته، وأقاربه، وعلى غيره ممن ينفّذ أمره عليهم، وانظر قوله يوم حجة الوداع: "ألا إن ربا الجاهلية موضوع، ألاّ   (1) سورة التوبة: آية 119 (2) الموافقات 3/ 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وإن أول رباً أضع ربا عمي العباس بن عبد المطلب. ألاّ وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب" (1). ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاحظه في أفعاله من حيث إنها قدوة : النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله إلى هذه الأمة كان هو إمامها في مسيرتها على شريعة الله. وهذه الدرجة تقتضي صاحبها أن يلاحظ أفعاله من حيث إنها قدوة ومتّبعة، ومتأسّىً بها، فلا يسترسل كما قد يسترسل غيره ممن لا يقتدى بهم. لقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أوزارهم شيء" (2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله" (3). كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلحظ هذا كله، ويعلم أن أفعاله حجة، وأنه منظور إليه، ومؤتمٌ به ومتبع، وهذا دعاه إلى وزن أفعاله بميزان الشرع، بالإضافة إلى عناية خاصة تتبع مهمة التعليم اقتضت أموراً نفصلها كما يلي: الأمر الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجتنب مواضع التهم، ولا يفعل شيئاً يتضمن نقص مروءة. ولا يفعل ما يستنكر ظاهراً وإن كان جائزاً باطناً. فإن وقع شيء من ذلك لحاجة أو نحوها أخبر بحكمه وعذره ومقصوده، كيلا ينفر عنه مشاهده، وليستفيد ذلك الحكم الجاهل به (4). ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجلين لما رأياه يتحدّث مع زوجته صفية في المسجد   (1) صحيح مسلم (جامع الأصول 4/ 236) (2) رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن جرير (الفتح الكبير). (3) رواه مسلم وأحمد وأبو داود (الفتح الكبير). (4) انظر: ابن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم. ط الهند ص 20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ليلاً، فولّيا، قال: "على رسلكما، إنها صفية بنت حُيَيٍّ" (1) ثم قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فخفت أن يقذف في قلوبكما شيئاً". وقد نبّه عبد الكريم زيدان (2) إلى قيد جيد في هذه المسألة، وهو أن الفعل الذي يترك حذراً من الشبهة، ينبغي أن لا يكون من صميم الدعوة، فإن كان من صميم الدعوة فينبغي فعله، ولوكان فيه تنفير. فما ظُنَّ أن حكمه التحريم وليس بمحرم، فإنه يفعل لبيان الجواز، وإن قال الناس ما قالوا. فهذا من بيان الحق، كما تزوّج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب مطلقة زيد الذي كان يدعى ابنه قبل أن ينزل القرآن بإبطال التبني. فكان زواجه بها بياناً (3)، لم يمتنع من فعله خوف قالة الناس. الأمر الثاني: الحرص على خفة الفعل المظهر، فلا يكون فيه مشقة وعسر، لئلا يأخذ الاتباع أنفسهم بالشدة كما يأخذ بها نفسه. وقد أثنى الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يشقّ عليه ما يشقّ على الأمة، بقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (4) وتقول عائشة رضي الله عنها: "إنْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيشق عليهم" (5). وتقول رضي الله عنها في الركعتين اللتين بعد العصر: "والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله، وما لقي الله حتى ثقل عن الصلاة. وكان يصلّي كثيراً من صلاته قاعداً. وكان يصلّيهما، ولا يصلّيهما في المسجد، مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحبّ ما خفّف عنهم" (6). وتروي رضي الله عنها الحادثة التالية، قالت: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من   (1) رواه البخاري مسلم وأبو داود (جامع الأصول 1/ 246) (2) عبد الكريم زيدان: أصول الدعوة، ص 403، 404 (3) لنا في الاستدلال بالآية الواردة في ذلك رأي خاص نذكره في الفصل الثالث. (4) سورة التوبة: آخر السورة. (5) رواه البخاري 3/ 10 ومسلم. (6) رواه البخاري 2/ 64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عندي، وهو قرير العين طيب النفس، فرجع وهو حزين النفس، فقلت له، فقال: إني دخلت الكعبة وودت أني لم أكن فعلت، إني أخشى أن أكون أتعبت أمّتي من بعدي" (1). فإن عمل بما فيه شدة، وكان خاطئاً به، بيّن اختصاصه بذلك لئلا يقتدوا به فيه، كما فعل في الوصال في الصوم، إذ قال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني ويسقيني" (2). الأمر الثالث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في الأفعال الشرعية التي تتكرر يواظب غالباً على فعل الشيء على أكمل الوجوه وأتمها، وذلك ليتعلم منه من لا يعلم، وليصححوا أفعالهم حسب فعله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلك الوضوء، كان أكثر وضوئه ثلاثاً ثلاثاً، مع الإسباغ والمبالغة. وربما توضأ مرة مرة. أو مرتين مرتين، لبيان الجواز (3). ومن ذلك الصلاة، يؤديها جماعة أمام الناس على أكمل الوجوه والهيئات، مع تخفيفها، لتتعلم منه كيفية الصلاة برؤيته وهو يصلي، بخلاف ما إذا صلى حيث لا يراه الناس، فقد كان يترخص فيصلي جالساً أحياناً، واتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه (4). وقد قال ابن جماعة في مثل ذلك من آداب المعلم المقتدى به: "أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام، ... ، ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها. فإن العلماء هم القدوة، وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله على العوّام، وقد يراقبهم من لا يعلمون" (5). الأمر الرابع: عنايته - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يساء فهم دلالة الفعل عنه، بأن يفهم منه   (1) رواه الترمذي وهذا لفظه، وأبو داود (جامع الأصول 4/ 54) ورواه أحمد. (2) رواه البخاري وأبو داود (جامع الأصول 7/ 250) (3) ذكر ذلك الزركشي في (البحر المحيط) 2/ 252 (4) لما أسن وحمل اللحم. رواه أبو داود 3/ 226 (5) في (تذكرة السامع والمتكلم) ط الهند. ص 21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 النسخ لقول سابق وهو لا يريده، أو نحو ذلك. فيبيّن ما يفرق به رائي الفعل بين ما يجوز وما لا يجوز. من ذلك إنه بكى - صلى الله عليه وسلم - عندما ظنّ أن سعد بن عبادة مات. وكان قد نهى عن النياحة، وقال: "إن الله لا يعذّب بدمع العين، ولا بحزن القلب. ولكن يعذّب بهذا أو يرحم" (1). وأشار إلى لسانه. ومن ذلك أنه غضب عندما علم أن علياً يريد أن يتزوج زوجة أخرى على فاطمة رضي الله عنهما، ولم يأذن في ذلك، ثم قال: "وإني لست أُحرِّم حلالاً، ولا أُحل حراماً. ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً" (2). فبيّن أن غضبه ليس لكون الأمر محرماً، بل هو على الحل، وإن كان يرفضه هو. ولم يتحلل من عمرته في حجة الوداع، فامتنع بعض الناس من التحلل، فبيّن لهم أن الذي معه من الحل أنه ساق الهدي، فلا يحل حتى ينحر. ومن ذلك أنه كان إذا فعل فعلًا بمقتضى الرخصة والعذر، ينبّه أحياناً على ذلك من لا يدري، لئلا يظن أن ذلك الفعل هو العزيمة. ومثاله أنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بأصحابه بمكة قصراً، وكان معهم في الصلاة مكيون، قال لهم: "يا أهل البلد صلوا أربعاً فإننا قوم سفر" (3). الأمر الخامس: حرصه - صلى الله عليه وسلم - على نقل أفعاله إلى الناس ليقتدوا بها ويتعلموا منها أحكام الشريعة، فكثيراً ما كان يعمل العمل في مكان بارز، ويستدعي التفات الناس إليه، كما فعل في يوم عرفة، إذ شرب وهو يخطب الناس، وهم ينظرون إليه (4)، ليعلم الناس أن سنة الواقف بعرفة الفطر.   (1) رواه البخاري ومسلم (جامع الأصول 11/ 406) (2) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود (جامع الأصول 10/ 83) (3) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (عون المعبود 4/ 96) (4) يفهم من روايات البخاري (نيل الأوطار 252، 254). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وكما صلّى يوماً على المنبر، ورجع وسجد بالأرض، وقال: "إنما صنعت هذا لتأتمّوا بي ولتعلّموا صلاتي" (1). وكان يضحّي بمصلى العيد (2) أمام جمهور الناس. و"طاف بالبيت وبين الصفا والمروة، على بعيره، ليراه الناس، وليشرف، وليسألوه" (3). ومن وسائله لنقل أفعاله إخباره بنفسه عن كثير مما يفعل ابتداء، أو جواباً على سؤال، أو إنكاراً على من فعل خلاف ذلك، أو ثناء على من فعل مثل فعله وإقراراً له. من ذلك قوله: "إني لا آكل متكئاً" (4). وسأله سائل هل يغتسل إذا أتى أهله من غير إنزال، فقال: "إني لأفعل ذلك ثم اغتسل" (5). وقال لرهط أرادوا التشديد على أنفسهم: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (6). وقال لجعفر بن أبي طالب: "أشبهت خلقي وخلقي" (7). ومن وسائله أيضاً، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحاول تكثير مشاهديه، وانتقاءهم من أهل العلم والإيمان ليأخذوا عنه، كما قال في صفوف الصلاة: "ليلني منكم أولو الأحلام   (1) رواه البخاري 2/ 397 ومسلم 5/ 35 (2) أبو داود والنسائي (جامع الأصول 4/ 146). (3) رواه مسلم وأبو داود (الرصف/ 5531). (4) رواه البخاري 9/ 540 وأبو داود 10/ 243 (5) رواه مسلم (الرصف 1/ 204). (6) رواه البخاري 9/ 104 ومسلم 9/ 176 (7) رواه البخاري 5/ 304 والترمذي 10/ 270 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (1)، وفي رواية: "ليلني منكم الذين يأخذون عني" (2). ورأى في أصحابه (3) تأخُّراً، فقال: "تقدّموا فأتموا بي وليأتمَّ بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخّرون حتى يؤخّرهم الله" (4). ومن ذلك أيضاً ما قال السبكي في ترشيح التوشيح عن والده: "إن السر في نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أربع نسوة، أن الله أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها، وما يُستحيا من ذكره وما لا يُستحيا. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حياء. فجعل الله له نسوة ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله التي قد يستحيا من ذكرها بحضرة الرجال، فيتكمّل نقل الشريعة. وكثر عدد النساء كتكثير الناقلين لهذا النوع. ومنهن عرف غالب مسائل الغسل والحيض والعدّة وغيرها. وأيضاً فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه وحالة خلوته، من الآيات البيّنات على نبوته" (5) اهـ. ملاحظة الصحابة للأفعال النبوية من أجل الاقتداء : كان ما تقدم ذكره داعياً الصحابة رضي الله عنهم إلى ملاحظة الأفعال النبوية الشرعية وتعرف كيفياتها، لأجل الاقتداء بها. وتفصيل ذلك أن تأثُّر شخص ما بشخص آخر حتى يقلده في فعله وأحواله على درجات: الدرجة الأولى: إن أي شخصين تخالطا، ورأى أحدهما ما يفعل الآخر، فلا بد أن يتأثر به ولو قليلاً، ما لم يمنع ذلك مانع.   (1) رواه مسلم والأربعة (الفتح الكبير 3/ 72). (2) أخرجها الحاكم (الفتح الكبير 3/ 72). (3) المقصود كبار أصحابه المتقدمون على غيرهم في الصحبة. (4) رواه مسلم وأحمد وأبو داود (الفتح الكبير 2/ 36). (5) نقله عبد الحي الكتاني في الترتيبات الإدارية (2/ 236) ومنه نقلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الدرجة الثانية: فإن كان لأحد الشخصين فضل على الآخر، ومزيد منصب ورياسةٍ كان تأثر المفضول والرؤوس بأفعال الفاضل والرئيس أظهر وأبين، حتى إنه كثيراً ما يقلده في هيئة لباسه، وعاداته في كلامه ومشيه وأكله وشربه ونحو ذلك. وقد تقدّم قول الشاطبي: "إن التأسّي في الأفعال والتروك، بالنسبة إلى من يعظّم في دين أو دنيا، كالمغروز في الجبلة، كما هو معلوم بالعيان". وإلى هذا المعنى يشير المثل القائل "الناس على دين ملوكهم" فهو يعبّر عن هذه الطبيعة البشرية تعبيراً صادقاً. وقد أشار ابن خلدون في المقدمة (ص 147) إلى تعليل ذلك، فليرجع إليه. الدرجة الثالثة: فإن كان لدى المتأثر مودة للآخر ومحبة وألفة، كان التأثر أعظم. وكلما كانت المحبة أعظم كان التأثر أعظم وأتمّ، حيث إن المحبة تدعو إلى الاتفاق بفعل ما يفعل المحبوب، ومحبة ما يحبه. وقد فصّل القول في ذلك المتكلمون في المحبة (1). وقد نهى الله تعالى عن تزويج المشركين والتزوّج إليهم، وعلّل ذلك بقوله: {أولئك يدعون إلى النار واللُه يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} (2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" (3). وهذه الدرجات الثلاث موجودة في المؤمن بالنسبة إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكانت في الصحابة رضي الله عنهم على أتمّ ما يكون، لكثرة مخالطتهم له، ورؤيتهم فضله عليهم بالفضائل التي حلاّه الله بها، ومنصب النبوة والإمامة الَّذَيْنَ أكرمه الله بهما، والمحبة العظيمة التي خالطت قلوبهم بما شاهدوه من رعاية الله له، وإكرام الله لهم بأن اختارهم لصحبته الكريمة، وللنقل عنه إلى العالمين. وانضمّ إلى ذلك عندهم بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - درجتان أخريان، هما: الدرجة الرابعة: أن الله تعالى أثنى على {الذين يتبعون الرسول النبيّ   (1) راجع مثلاً: ابن القيم: روضة المحبين. ط دمشق، ص 285 - 287 (2) سورة البقرة: آية 221 (3) رواه الترمذي 7/ 49 وقال: حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الأميّ} وجعل لذلك نصيباً في الحكم عليهم بقوله: {أولئك هم المفلحون} (1). الدرجة الخامسة: أن الله تعالى جعل من شأن المؤمن الذي يرجو الله واليوم الآخر أنه يتأسّى برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} (2)، وسيأتي القول في دلالة هذه الآية إن شاء الله، في الفصل الرابع من هذا الباب. أثّر ذلك كله في صحابته رضي الله عنهم حتى كانوا يراعون ما يفعل، وينظرون إليه كيف يفعل. ويتحينون الفرص لذلك لأجل أن يقتدوا به. فهذا زيد بن خالد يقول: "قلت لأرقبن الليلة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلّى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين طويلتين، ثم صلّى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما ... " (3) الحديث. وعن الفضل بن عباس قال: "بتّ ليلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنظر كيف يصلي من الليل ... " (4) الحديث. وكان أشدَّهم في هذه الناحية، وأدومهم عليها، وأحرصهم على التحري عن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - حتى في أدقّ التفاصيل، عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقد حفظت لنا الوثائق الحديثية نماذج كثيرة من ذلك تكشف لنا عن دوافع نفسية عميقة التأثر، بل يكاد يكون هذا المعنى هو مفتاح فقه ابن عمر، والسمة الرئيسية لما ينقل عنه من الآراء التشريعية. فمن ذلك أنه لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة ثم خرج، يقول ابن عمر: "فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالاً فسألته: هل صلّى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعيم، بين العمودين اليمانيين". قال ابن عمر: "فذهب عني أن أسأله: كم صلّى" (5).   (1) سورة الأعراف: آية 157 (2) سورة الأحزاب: آية 21 (3) رواه مسلم (الرصف 1/ 373). (4) رواه أبو داود (الرصف 1/ 377). (5) رواه البخاري ومسلم (الرصف 1/ 557). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وكان ابن عمر: "يبيت بذي طُوَى بين الثنيتين، ثم يدخل من الثنية التي بأعلى مكة. وكان إذا قدم حاجّاً أو معتمراً لم ينخ ناقته إلاّ عند باب المسجد، وكان يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان) يفعل ذلك" (1). وأحصى ابن عمر الأماكن التي صلّى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سفره لحجة الوداع من مكة إلى المدينة، وحدّد مواقعها بأوصاف دقيقة. وقد أورد البخاري حديثه في ذلك بتمامه، وهو حديث طريف طويل فليرجع إليه (2). أثر اقتداء الأمة بأفعال نبيها في نشر دعوة الإسلام والاقتناع به : لقد كان اقتداء الأمة الإسلامية بنبيها - صلى الله عليه وسلم - بعد عصر الصحابة، النابع من أحكام دينها، وتأثرها بشخصيته وأخلاقه الكريمة، دافعاً كبيراً لها إلى الاستقامة على أمر الدين على بصيرة من أمرها. ولم تزل سيرة نبيها - صلى الله عليه وسلم - تمثِّل لها أنبل الصفات والأعمال والأخلاق. وتجسِّم المثل والمبادئ الإسلامية أمام أنظارها، فتعمل بدينها حق العمل، اقتداء بتلك السيرة العطرة. ولم تزل تلك السيرة تبدع في الأمّة أجيالاً من البطولات. تحقق القدوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بدرجة عالية، حتى كأنهم نسخ أخرى لتلك الشخصية الفذّة، في صبرها وبلائها ويقينها بالله، وفي تواضعها وزهدها وصدقها مع الله، وفي معاملة الناس، مع الصدق في العلم بدين الله وإيصال منافعه إلى البشر. وقد كان لتلك الشخصيات العظيمة الأثر البعيد في جذب الناس إلى الإسلام، واقتناعهم به، ورغبتهم في الدخول فيه والعمل به، ما لم تؤثره الخطب والمواعظ والأقوال البليغة. لأنهم يرون بأعينهم، ويلمسون بأيديهم، مدى الإخلاص والتفاني في حب الله، ومقدار النفع الحاصل بتلك الشموس المضيئة.   (1) رواه البخاري (الرصف 1/ 586). (2) البخاري 1/ 567 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 المبحث الأول البيان ماهية البيان : البيان اسم مصدر (بيّن) فهو بمعنى التبيين، كالسلام والكلام، بمعنى التسليم والتكليم. والتبيين في اللغة الكشف عما ليس بمعروف ولا معلوم. و (البيان) يستعمل عند الأصوليين استعمالين (1): الأول: بيان المبيّن للمعنى الذي في نفسه فيصدق على ما يسمى البيان (الابتدائي) وهو ما لم يرد بياناً للفظ سابق. ويصدق أيضاً على البيان بالاستعمال الثاني. فعلى هذا كل كلام فهو بيان. قال الله تعالى في وصف كتابه العظيم: {هذا بيان للناس} (2)، {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} (3) وقال عزّ من قائل: {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان علّمه البيان} (4) والاستعمال الثاني: وضّحه الصيرفي بقوله: "البيان إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى حيّز التجلي والوضوح" (5). ومنه قول الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر   (1) أشار إلى ذلك السعد التفتازاني، فليراجع: التلويح على التوضيح 2/ 17 وذكره أيضاً أبو الحسين البصري: المعتمد في أصول الفقه 1/ 217 وسمى النوع الأول البيان العام والثاني البيان الخاص. (2) سورة آل عمران: آية 138 (3) سورة النحل: آية 89 (4) سورة الرحمن: آية 1 - 3 (5) الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام 3/ 32 البناني: حاشية جمع الجوامع 2/ 66 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 لتبين للناس ما نزل إليهم} (1) فهذا الاستعمال أخصّ من الأول. وهو الأغلب في كلام الأصوليين. وهو الذي سنجري عليه، ونخص ما خرج عنه، من الاستعمال الأول، باصطلاح (البيان الابتدائي). ما يحتاج إلى البيان وما لا يحتاج إليه : ليس كل كلام بحاجة إلى بيان. بل إن أريد بالكلام ظاهره وحقيقته كان بيّناً لمن يعلم وضع القول. وذلك كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة * وآتوا الزكاة} هو بيّن في إيجاب هاتين العبادتين. وقوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (2) بين في إيجاب أصل الصوم، وأن الوقت شهر رمضان. وكذا آية تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، هي بيّنة في تحريم ما ذكر فيها (3). فإن أراد المتكلم بالكلام غير ظاهره فلا بدّ من البيان. وكذا إن أراد غير حقيقته فهو يحتاج إلى القرينة المبيّنة للمراد. فمن الأول: العام إذا أريد به الخصوص. نحو {اقتلوا المشركين} (4). أريد به ما عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم، فهو محتاج إلى البيان. ومن الثاني: نحو قوله تعالى: {حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} (5) بُيِّن بقوله: {من الفجر}.   (1) سورة النحل: آية 44 (2) سورة البقرة: آية 185 (3) قال الشافعي رضي الله عنه: البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب اللُه تعالى من أحد هذه الوجوه. منها: ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه فلم يحتج فيه مع التنزيل إلى غيره. ومنها: ما أتى (الكتب) على غاية البيان في فرضه، وافترض طاعة الرسول، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله كيف فرضه. وعلى من فرضه ومتى يزول بعضه ويثبت بعضه. ومنها: ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب (الرسالة: تحقيق أحمد محمد شاكر ص 32). (4) سورة التوبة: آية 5 (5) سورة البقرة: آية 187 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فإن لم يكن للكلام ظاهر، بأن كان محتملًا لأمور احتمالات متساوية فهو مجمل. والبيان له لا بد منه أيضاً كقوله تعالى: {وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} (1) لم يعرف ذلك الحق ما هو، فلا بدّ من بيانه. ويقول الغزالي: "يحتاج إلى البيان كل ما يتطرق إليه احتمال، كالمجمل، والمجاز، والمنقول بتصرف الشرع، والعام المحتمل للخصوص، والظاهر المحتمل للتأويل، ونسخ الحكم بعد استقراره، ومعنى قول (افعل) أنه للندب أو الوجوب، أو أنه على الفور أو على التراخي، أو أنه للتكرار أو المرة الواحدة، والجمل المعطوفة إذا عقبت باستثناء، وما يجري مجراه مما يتعارض فيه الاحتمال، والفعل من جملة ذلك" (2) اهـ. وواضح أن الكلام قد يكون بيّناً من وجه أو وجوه، ولكنه محتاج إلى البيان من وجه أو وجوه أخرى. كما في آية {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ... } إلى قوله تعالى: { ... فمن شهد منكم الشهر فليصمه} فهي بيّنة من حيث إيجاب أصل الصوم، ومن حيث إن وقته شهر رمضان. لكن تبقي الحاجة إلى بيان الصوم أفي الليل هو أم في النهار، ومتى يبدأ ومتى ينتهي. وأيضاً إذا خفي دخول الشهر أو خروجه بغيم أو نحوه وكل ذلك قد بيّن في آيات أخرى أو في السنة المطهرة. الإجمال في الفعل، ووجوهه : الفعل وإن صحّ البيان به على الراجح، قد يكون هو في ذاته مجملاً يحتاج إلى بيان. وقد ذكر الأصوليون من أنواع المجمل الفعل، فقد يكون الفعل دائراً بين احتمالين فأكثر. ويمثلون لذلك بقيام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الركعة الثانية دون جلوس: يحتمل أنه   (1) سورة الذاريات: آية 19 (2) المستصفى 2/ 51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 تركه قصداً فيدل على عدم وجوبه، ويحتمل أنه تركه نسياناً فلا يدلّ على ذلك. وقد بُيّن هذا الإجمال بفعل آخر، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد للسهو في آخر صلاته. فدلّ على أن تركه كان عن نسيان. ويمكن حصر وجوه الإجمال في دلالة الفعل فيما يلي : أولاً: أنه قد يدور حكمه بين الاختصاص بفاعله، كما في الخصائص النبويّة، وبيّن أن يكون عامّاً له وللأمة. وكذا الاختصاص بالمكان والزمان والحال التي فعل فيها وبين سائر الأمكنة والأزمنة والأحوال. ثانياً: أنه قد يدور حكمه بين الوجوب والندب والإباحة كما سيأتي في الفصل التالي إن شاء الله. ثالثاً: أنه قد يدور بين أن يكون مقصوداً به التعبّد والتشريع، وبين أن يفعل على حد الإباحة العقلية. رابعاً: أنه حتى لو كان مقصوداً به التشريع، يدور بين أن يكون بياناً لمجمل معين أو لا يكون بياناً له. خامساً: أنه قد يدور بين الارتباط بسبب معين وبين عدم الارتباط به، كالخروج في صلاة العيد إلى المصلى في الصحراء، هل كان لعذر ضيق المسجد فلا يسنّ إلا عند الضيق، أو لم يكن لذلك فيسن مطلقاً. وظائف البيان : قسّم الأصوليون البيان من حيث الوظيفة التي يمكن أن يؤديها أربعة أقسام، التقرير، والتفسير، والتغيير، والتبديل (1).   (1) يقسم الحنفية البيان إلى خمسة أقسام: هذه الأربعة، وبيان الضرورة. ونحن لم نذكر بيان الضرورة، لأنه لا يخرج في وظيفته عن الأربعة، وإنما سمي بيان الضرورة بالنظر إلى سببه لا وإلى وظيفته فلم نتعرض لذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 النوع الأول: بيان التقرير، ومعناه تأكيد الكلام بما يقطع احتمال المجاز، إن كان المراد بالكلام المؤكَّد حقيقته، وبما يقطع احتمال الخصوص إن كان المؤكّد عاماً. فمن الأول قوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه} (1) فقوله: {بجناحيه} بيان يقرر أن المراد بالطائر حقيقته، وهي الطائر المعروف كالحمام والعصافير مثلاً، لا مجازه كالبريد مثلاً. ومن الثاني: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} (2) فقوله: {كلهم أجمعون} بيان يقرر ويؤكد أن المراد بلفظ: {الملائكة} عمومه، وأن الخصوص ليس هو المراد. النوع الثاني: بيان التفسير. وهو بيان ما كان غير واضح الدلالة، سواء أكان خفاء الدلالة فيه راجعاً إلى الجهل بأصل الوضع وهو الغريب، أو إلى تعدد الوضع وهو المشترك، أو إلى أمر عرض عند استعمال اللفظ وارتباطه بغيره من أجزاء الكلام، أو عند تطبيقه على بعض الصور. فمن بيان التفسير قوله تعالى: {إن الإنسان خُلِق هلوعاً * إذا مسّه الشر جزوعاً * وإذا مسّه الخير منوعاً} فإن الهلوع لفظ غريب، وقد فسرته الآيتان بعده. ومنه قوله تعالى: {والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء} فإن القرء دائر بين الطهر والحيضة، وقد بُيِّن بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "طلاق الأمة طلقتان، وعدتها حيضتان" (3) فبيّن أن القرء الحيضة. ومنه قوله تعالى: {إلاّ أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} فإن الموصول {الذي} يحتمل أن المراد به الزوج أو الولي. وورد في حديث الدارقطني: "وليّ عقدة النكاح الزوج" (4).   (1) سورة الأنعام: آية 38 (2) سورة الحجر: آية 30 (3) رواه أبو داود والترمذي والحاكم (الفتح الكبير). (4) انظر تفسير القرطبي 3/ 206 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ومما يخفى عند تطبيقه على بعض الصور نحو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فإن دخول من أخذ مال غيره على سبيل العارية ثم جحده، في مفهوم (السارق)، أمر مشتبه بحاجة إلى بيان (1). فلما قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، تبيّن دخوله. النوع الثالث: بيان التغيير. وهو البيان الذي فيه تغيير لموجب اللفظ من المعنى الظاهر إلى غيره. وذلك في المخصِّصات كالشرط والاستثناء ونحوها، وتقييد المطلق. نحو قول القائل لامرأته: "أنت طالق إن دخلت الدار" ونحو: "له علي ألف إلاّ مائة" وذلك أن آخر الكلام بَيّن أن المراد بأوله غير ما دلّ عليه. والشافعية يجعلون التخصيص من بيان التفسير. النوع الرابع: بيان التبديل، وهو النسخ، إذ هو بيان انتهاء مدة الحكم (2) وفي اعتبار هذا النوع بياناً اختلاف، إذ ليس هناك لفظ خفي يبيّن بالنسخ. ما به يمكن البيان : نقل الشوكاني (3) عن السمعاني أن البيان يقع بستة أشياء: أحدها: القول، وهو الأكبر. والثاني: الفعل. والثالث: الكتابة، كما بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسنان الديات، ومقادير الزكاة بكتبه المشهورة. والرابع: الإشارة، كقوله: " الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا" (4) والخامس: التنبيه، وهو المعاني والعلل التي نبّه بها على الأحكام. كقوله في بيع الرطب بالتمر: "أينقص الرطب إذا يبس؟ " (5) والسادس: الاجتهاد من العلماء.   (1) بيان النصوص التشريعية ص 170 (2) محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي. ص 1 - 31 وأيضاً: بدران أبو العينين بدران: بيان النصوص التشريعية. ص 215 وما بعدها. (3) إرشاد الفحول ص 172 (4) رواه مسلم (نيل الأوطار 4/ 201). (5) رواه الخمسة وصححه الترمذي (نيل الأوطار 5/ 211). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قال الشوكاني: وزاد شارح اللُّمع وجهاً سابعاً وهو البيان بالترك، كما روي أنّ آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم - كان ترك الوضوء مما مسّت النار. قلت: لم يذكروا التقرير في هذا الحصر، ولا بدّ من ذكره. فتتم بالتفصيل ثمانية. فالفعل أحد ما يقع به البيان. وسيأتي ذكر من خالف في ذلك إن شاء الله. حكم البيان : البيان لما يحتاج إلى البيان واجب، لقوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون} (1). وإنما يجب في حالين: الأول: أن يكون السائل عن المسألة جاهلاً بحكمها وهي منصوصة. دلّ على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" (2). الثانية: أن يأتي وقت العمل بالمجمل، ولا يتمكن المكلف من امتثاله، لجهله بالحكم أصلاً أو لخفائه عليه. كمن أسلم، وأتى عليه رمضان، وهو لا يعلم وجوب صومه، أو كيفيته، فيجب البيان له. فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. أما قبل الحاجة إلى التنفيذ، وقبل السؤال عن الحكم، فلا يجب البيان. ثم حيث وجب، فإن كان في الجهة أكثر من عالم واحد كان وجوب البيان كفائياً، وإن لم يكن إلا واحد تعيّن عليه.   (1) سورة آل عمران: آية 187 (2) رواه أحمد والأربعة والحاكم (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وبالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة كان بيان المجمل الذي لا يعلم إلاّ من جهة المجمِل، متعيَّناً عليه، ككيفية الصلاة، وأعداد ركعاتها وشروطها، لأنه ليس هناك أمارة يمكن أن يعلم بها الحكم غيره من العلماء، - صلى الله عليه وسلم -. ومثله بيان التغيير، إنْ لم يكن على التغيير دلالة موجودة يمكن أن يُعلم من قبلها. ويتعيّن عليه أيضاً البيان الابتدائيُّ للأحكام الشرعية الموحى بها إليه مما لم يرد في القرآن. ويتعيّن عليه أيضاً سائر أنواع البيان حيث وجبت، إن كان لا يوجد غيره، ممن يمكن أن يدل على المطلوب. فإن وجد غيره كفى. كما فعل أبو بكر، إذ بينّ حكم السّلَب أنه يجب إعادته إلى القاتل. فأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال (1). هل يجب البيان لجميع الأحكام (2): قد بيّنّا أن البيان يجب في حالين: أن يسأل العالم عن المسألة وهي منصوصة، وأن تقع الحادثة ويجهل حكمها. فأما في الأولى: وهي حالة السؤال عن المنصوص: فالبيان واجب لجميع الأحكام الخمسة واجبها ومندوبها ومباحها ومكروهها وحرامها. وأما في الثانية: وهي حالة الوقوع والمكلّف جاهل: فإنه إذا جاء وقت المأمور به الواجب، فتركه المكلف، وجب بيانه له. أو أراد المكلف فعل محرم، وجب بيان حرمته له. أما بيان المستحب فيستحب، وكذلك بيان المكروه، وذلك حرصاً من المبيِّن على حصول الأجر للفاعل بفعل المستحب وترك المكروه، فيصل   (1) انظر القصة في صحيح البخاري 8/ 35 وصحيح مسلم 12/ 60 (2) هذه المسألة تعرض لها الآمدي 3/ 40، ونحن أوفيناها بحثاً، وعرضناها عرضاً أشمل. وبالله التوفيق. وانظر أيضاً، المحقق من علم الأصول (ق 11 ب). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 للمبيِّن أجر الدلالة على الخير. ولا يكون بيان المستحب والمكروه في هذه الحالة الثانية واجباً، وكذلك بيان المباحات. ولعلّ هذا هو معنى ما نقله الغزالي عن (قوم من القدرية) أنهم قالوا: "بيان الواجب واجب، وبيان المستحبّ مستحبّ" وهو قول حق، لكن بالقيود التي ذكرناها. وقد ألزمهم الغزالي أن يقولوا: وبيان الحرام حرام، وبيان المكروه مكروه. ويظهر أنه لم يفطن إلى مقصدهم. ويستثنى مما تقدم حالة واحدة يجب فيها بيان المستحب والمكروه، وهي أن يكون المكلف يعتقد في الفعل حكماً غير حكمه الشرعي، كمن يتنفل في الوقت المكروه، أو يتعبّد لله بمباح ليس موضوعاً للتعبّد، أو يكره سنة من السنن أو يحرِّمها. ففي هذه الحالة يجب البيان (1). ويمكن إعادة هذا الاستثناء إلى النوع الأول، وهو بيان الواجب، لأن اعتقاد الأحكام الصحيحة للأفعال واجب على المسلم. فإذا أخطأ في ذلك الاعتقاد فقد ترك الواجب، ووجب بيانه له. هذا حكم البيان في حق غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - فالبيان كله واجب ليخرج الحكم عن الإبهام المطلق إذ لا يعلم إلّا من جهته. فإن خرج، فحكمه - صلى الله عليه وسلم - حكم غيره إلا في بيان المكروه. أما المكروه فيجب عليه بيانه لئلا يعتقد الفاعل والمشاهد إباحته كما يأتي في فصل التقرير من الباب الثاني إن شاء الله.   (1) انظر: الشاطبي: الموافقات 3/ 322 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المبحث الثاني البَيَان الفِعلي ذكرنا في المبحث السابق أحكام البيان إجمالاً، ونخصص هذا المبحث بالبيان الفعلي: حكم البيان بالفعل : البيان بالفعل أحد أنواع البيان. فيمكن استعماله حيث أفاد المطلوب. وواضح عقلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان واسطة لتبليغ الشريعة وبيانها، فإنه يبين بالطريقة التي يختارها. فإما أن يبيِّنَ المشكل بأقواله أو بأفعاله. فلما صحّ البيان بالأقوال لكونها دليلاً على المطلوب فكذلك يصح البيان بالأفعال حيث تدل على المطلوب. فما أفاد فيه البيان بالأقوال والأفعال، أجزأ بكل منهما (1). ويكون ذلك واجباً مخيَّراً، أيَّ الخصلتين فعل فقد أدّى ما وجب عليه. وهذا مذهب أكثر العلماء. وقد قيّده عبد الجبار (2) بأن لا يختص أحدهما في كونه مصلحة بما ليس في الآخر، وهو بمعنى ما ذكرناه أعلاه من اشتراط الإفادة. وقد منع بعض الأصوليين وقوع البيان بالأفعال. نُقِل ذلك عن أبي إسحاق   (1) راجع كتاب أبي شامة: المحقق من علم الأصول، ق 11 ب. (2) المغني17/ 250 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 المروزي الشافعي، وعن أبي الحسن الكرخي الحنفي (1). ونقله السرخسي (2) عن (بعض المتكلمين)، وقال: "إن هذا منهم بناء على أصلهم أن بيان المجمل لا يكون إلا متصلاً به. والفعل لا يكون إلا منفصلاً عن القول". ثم قال: "فأما عندنا: بيان المجمل قد يكون متصلاً به، وقد يكون منفصلاً عنه". وذكر البناني (3) أن محل الخلاف إذ لم يعلّق البيان بالفعل قولاً. وإلاّ فلو قال: القصد بما كلفتم به من هذه الآية ما أفعله، ثم فعله، فلا خلاف أنه بيان، كما ذكره القاضي (الباقلاني) في تقريبه. أقول: فعلى هذا لا ينبغي أن يكون خلاف في أن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مثلاً، بيان لآية الأمر بالحج، لكونه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "خذوا مناسككم لعليّ لا أحجّ بعد حجتي هذه" (4). وكذلك لما صلّى به جبريل لبيان أوقات الصلوات يومين متواليين، يصلي في اليوم الأول أول الوقت، وفي اليوم الثاني آخره، ثم قال: الوقت ما بين هذين. أقول: وينبغي أن يحصر الخلاف أيضاً في الأفعال التي تدل بالأسوة، لا فيما يستعمل بمعنى المخاطبة، كالإيماء، والإشارة، فإنها قائمة مقام القول. كما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر: "ذبحت قبل أن أرمي" فأومأ بيده، قال: "لا حرج" (5). وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجمعة ساعةً لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه" (6). وأشار بيده يقللها.   (1) انظر النقل عنهما في: إرشاد الفحول ص 173 (2) انظر: أصول السرخسي 2/ 27 (3) حاشية البناني على جمع الجوامع 2/ 68 وقد جعل صاحب تيسير التحرير (3/ 175، 176) هذا النوع مما فيه الخلاف. وما قاله البناني والباقلاني أولى. (4) رواه مسلم 9/ 44 وهذا لفظه. ورواه النسائي 5/ 270 بلفظ يا أيها الناس خذوا مناسككم لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا. (5) رواه أبو داود (جامع الأصول 4/ 111). (6) رواه مالك وأحمد ومسلم (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ومثل الإشارة: الكتابة والعقد، وسائر ما يؤدّي مؤدَّى القول (1). ووجهة من يمنع كون الفعل بياناً أن البيان بالقول ممكن، والبيان بالفعل أطول زمناً منه بالقول، فيتأخر البيان به مع إمكان تعجيله وتيسّره بالقول، وذلك عبث، والعبث ممتنع على الشارع. وقد أجاب الأولون عن ذلك بأجوبة (2): الجواب الأول: عدم التسليم بكون البيان بالأطول عبثاً، فإن كون أحد الطريقين إلى الهدف أقصر من الآخر، لا يلزم منه وجوب سلوكه، وترك سلوك الطريق الأطول. فقد يكون الأطول أيسر كما هو معلوم. وقد يكون أوضح وأثبت في الذهن وقد يتبع سلوكه حصول فوائد أخرى (3). وقد تقدم إيضاح ذلك في التعليم بالمشاهدة، فلا نكرره.   (1) أشار إلى ذلك أبو الحسين البصري في المعتمد 1/ 338 وأيضاً الشاطبي في الموافقات 4/ 246، 247 (2) انظر: في هذه المسألة كلام أبي الحسين البصري في المعتمد 1/ 338 والقرافي: شرح تنقيح الفصول ص123، 124. وأيضاً: تيسير التحرير 3/ 175، 176 والآمدي 3/ 34 (3) وانظر كمثال على ذلك هذا الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال: "مكانكم" ثم رجع فاغتسل، ثم خرح إلينا ورأسه يقطر، فكبر وصلينا معه" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فقد تبينت بهذا الحديث أمور، كما بوب له بها أصحاب كتب الحديث. فبوب له البخاري: باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو ولا يتيمم. و: باب هل يخرج من المسجد (بعد الأذان) لعلة. و: باب إذا قال الإمام: مكانكم ثم رجع انتظروه. وفي صحيح مسلم: باب متى يقوم الناس إلى الصلاة. ولمالك في الموطأ: باب إعادة الجنب الصلاة وغسله. ولأبي داود: الجنب يصلي بالقوم وهو ناس. وللنسائي: الإمام يذكر بعد قيامه أنه على غير طهارة. وقال الحافظ في الفتح: وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز النسيان على الأنبياء. قال: في أمر العبادة، لأجل التشريع.= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الجواب الثاني: عدم التسليم بكون الزمان الفعل أطول في كل حال. وخاصة في الفعل ذي الهيئات والكيفيات التي يصعب تحديدها بالقول، كالوضوء مثلًا، فإن تبيين كيفيته بالفعل أخصر منه بالقول. ولو ذهبنا نحدّد بالقول ما أوضحناه بالفعل لطال الأمر وتكرر، وصعب على الذهن مع ذلك ضبطه (1). الجواب الثالث: أن ذلك وقع في السنة، ومنه شربه - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة وهو راكب على بعيره ليعلم الناس أنه مفطر. هل يشترط لاعتبار الفعل بياناً عدم وجود قول صالح للبيان: اشترط ابن فورك (2) لصحة اعتبار الفعل بياناً أن لا يكون هناك قول صالح لأن يكون بياناً. ووجه ذلك عنده أن القول هو الأصل في البيان، وأن الفعل يكون بياناً بغيره، والقول يكون بياناً بنفسه، فإذا وجد ما هو الأصل في البيان امتنع العدول عنه إلى غيره. وسيأتي في مبحث اختلاف القول والفعل في البيان، ما يعلم به بطلان هذا الاشتراط.   = جواز الفصل بين الإقامة والصلاة. جواز انتظار المأمومين مجيء الإمام قياماً للضرورة. لا يجب على من احتلم في المسجد فأراد الخروج منه أن يتيمم. جواز الكلام بين الإقامة والصلاة. جواز تأخير الجنب الغسل عن وقت الحدث. فانظر هذه الفوائد كلها كيف تحصلت من فعل واحد، ويمكن للحاضرين أن يفقهوها بيسر. وكيف أنه لو اشتغل ببيانها قولاً لاحتاج إلى مجلس طويل أو مجالس، وربما لم تستقر في أذهانهم استقرارها بهذا الفعل اليسير. (1) يقول الآمدي (3/ 35، 36): أما القول بأن البيان بالفعل مما يفضي إلى تأخير البيان مع إمكان تقدمه بالقول فغير مسلم. بل التعريف بالقول، وذكر كل فعل بصفته وهيئته وما يتعلق به، أبعد عن التشبث بالذهن من الفعل المشاهد ... وربما احتيج في ذلك إلى تكرير في أزمنة تزيد على زمان وقوع الفعل بأزمنة كثيرة، على ما يشهد به العرف والعادة. (2) الزركشي: البحر المحيط 2/ 181 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 هل يصلح الفعل وحده بياناً دون انضمام قول يدل على أنه بيان: يتبيّن مما تقدم أن الفعل يمكن أن يقع بياناً، بقرينة تدل على أنه بيان لكذا وكذا من الأقوال القرآنية أو النبويّة. ثم قد تكون تلك القرينة قولاً، كما في الحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" و"خذوا مناسككم" وقد تكون غير ذلك (1). كيفية بيان كل من الأحكام الخمسة بالأفعال : تقدم لنا أن البيان بالفعل قد ينفرد عن القول. وقد يرد مع القول فيؤيده ويقويه، ويقطع عنه احتمالات شتى، ويدخل معنا هنا البيان الابتدائي بالفعل فيصدق عليه ما يصدق على بيان المجمل. والمراد هنا أن نوضح الطرق التي بها يكون الفعل بياناً للأحكام الواردة في الكتاب والسنة، بترتيب أحكامها. وقد اعتنى بذلك الشاطبي (2). ونحن نذكر بإيجاز، مع العلم انها قواعد غالبية، ويكفي عنها البيان بالقول أحياناً. 1 - الواجب: بيانه بالفعل. مع المداومة عليه وعدم الترك، ولا يتسامح في الترك مطلقاً. 2 - المحرّم: بيانه بالترك المطلق، ولا يتسامح في فعله ألبتة، سواء أكان كبيراً أو صغيراً، وسيأتي ذلك في مبحث العصمة النبويّة، في فصل لاحقٍ إن شاء الله. 3 - المندوب: ينقسم قسمين، بحسب حال المبيّن له: أ- فإن كان جاهلًا بأصل الحكم، فالبيان له بالفعل ليقتدي به. ب- وإن كان المبين له مظنة أن يعتقد أن ذلك المندوب واجب، كما إذا حافظ عليه والتزمه التزام الواجبات، أو خيف عليه أن يعتقد ذلك، وجب أن   (1) وسيأتي استيفاء القول في ذلك في مبحث الفعل البياني من الفصل الرابع إن شاء الله. (2) الموافقات 3/ 318 - 336 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 يفرّق له بينهما بترك التزامه من قبل المبيِّن. وفي حديث عائشة: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم" (1)، "وكان يحب ما خفّ على الناس" (2). وقصة إفطاره - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة بمرأى من الناس تصلح شاهداً لهذا الأصل. وقام في رمضان ليلتين أو ثلاثاً، فقاموا خلفه حتى كثروا، فتركه بعد ذلك، حمله الخطابي (3) على معنى الترك بياناً لئلا يظن وجوبه. 4 - المكروه: بيانه ينقسم قسمين بحسب حال المبين له، كما تقدم في المندوب. أ- فإن كان المبيّن له جاهلًا بأصل الحكم، فالبيان له يكون بالامتناع من الفعل، وإظهار كراهته، لتعلم. والترك في المكروهات هو الأصل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - لمقتضى العصمة، كما سيأتي في مبحث الفعل البياني. ب- وإن كان المكروه مظنّة اعتقاد لزوم الترك، كمن اعتقد المكروه محرماً أو خيف عليه أن يعتقد ذلك، فإن بيانه يكون بفعل المكروه. وسيأتي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل المكروه بياناً لعدم تحريمه. وهذا الغرض هو المقصود هنا. وعندما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أناساً كرهوا (4) أن يستقبلوا بفروجهم القبلة قال: "أوَ قد فعلوها؟ حوِّلوا مقعدتي إلى القبلة" (5). 5 - المباح: بيان إباحته بفعله أحياناً وتركه أحياناً. ويتأكد الفعل إذا كان المباح مظنّة اعتقاد التحريم أو الكراهة، ويتأكد الترك إن كان مظنّة اعتقاد الوجوب أو الندب. وقد قال ابن مسعود: "لا يجعلنّ أحدكم للشيطان من نفسه جزءاً، لا   (1) رواه البخاري 3/ 10 (2) رواه مالك في الموطأ من حديث عائشة (فتح الباري 10/ 525). (3) فتح الباري 3/ 10 (4) الكراهة هنا بمعنى التحريم. (5) رواه أحمد وابن ماجه، وقال النووي: إسناده حسن. وقال الذهبي حديث منكر (نيل الأوطار 1/ 95، 96). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يرى إلا أن حقاً عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه؛ أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله" (1). ما يمكن حصوله بالأفعال من أنواع البيان : قال السمعاني: "يحصل بالفعل جميع أنواع البيان" (2). أولاً: البيان الابتدائي: سيأتي ذكر إمكانية كون الفعل النبوي بياناً ابتدائياً، والخلاف حول ذلك، في فصل الفعل المجرّد، من هذا الباب. ثانياً: بيان التقرير: وهذا واضح من دلالة الأفعال. فإن السنن العملية كثيراً ما تكون مقررة لحقائق ألفاظ الكتاب والسنة القولية، وظواهرها. فما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - تنفيذاً لما في الكتاب، عُلِم به يقيناً أن المراد به حقيقة اللّفظ دون مجازه. ويمكن بهذه الطريق الرد على المؤوّلة من الفلاسفة والباطنية ودعاة الفاطميين وغيرهم من الملحدين والمبتدعين، فيما أوّلوه من الأحكام الشرعية. فلو تعسّفوا في تأويل الأقوال لم يمكنهم ذلك في الأفعال. ومن أجل ذلك يحصل التحقق دون ريب من كذبهم في دعاوى كثيرة (3). هذا وإن فائدة الأفعال في هذا النوع من البيان واضحة أيضاً في قطع استبعاد الحقائق التي تتضمنها الأقوال. ومن ذلك ما قصّ الله علينا في كتابه: {أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مِئَة عام ثم بعثه ... } إلى أن قال: { ... فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} (4) وفي الآية التالية لها: {وإذا قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي   (1) رواه مسلم 5/ 220 وروى مسلم عن أنس بمعناه. (2) الزركشي: البحر المحيط 2/ 253 أ. (3) مثل ما ذكر في (قواعد عقائد آل محمد، لمحمد بن الحسن الديلمي، استانبول، مطبعة الدولة، 1938 ص 47) من قوله: قال صاحب (تأويل الشريعة): (الصلوات الخمس طاعات الأول والثاني والناطق والأساس والإمام" وقال صاحب (تأويل الشريعة) "الصوم هو الستر على إمامك وحجتك" وقال "الشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية" وقال في (إذ يبايعونك تحت الشجرة): شجرة الإمام. (4) سورة البقرة: 259، 260 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الموتى قال أَوَلَمْ تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصُرْهُنَّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم} فحصل بالفعل من طمأنينة القلب واليقين بالخبر ما لم يحصل بالقول، وإن لم يشك في صدقه، إذ هو قول رب العالمين. ثالثاً: بيان التفسير: وقوع هذا النوع من البيان، بالفعل، كثير. فقد بيّن - صلى الله عليه وسلم - الوضوء فعلاً، وكذلك الصلاة، والحج، والطواف، والسعي، وغيرها. رابعاً: بيان التغيير: وهو بيان أن المراد باللفظ خلاف ظاهره، ومثاله نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن القود في الطرف قبل الاندمال (1) وروي أنه أقاد قبل الاندمال (2)، فتبيّن بالفعل أنه أراد بالنهي الكراهة دون التحريم. ومن بيان التغيير التخصيص، وسنفرد لتخصيص الأدلّة الشرعية بالأفعال النبوية مبحثاً خاصاً في أوائل باب التعارض وهو الباب الثالث من هذه الرسالة. خامساً: بيان التبديل: وهو النسخ، وسيأتي ذكره أيضاً في باب التعارض. القوة والوضح بين البيان القوليّ والبيان الفعليّ: اختلفت أقوال الأصوليين أيهما أقوى دلالة: القول أم الفعل؟ فمن قائل: القول أدلّ من الفعل، ومن قائل: الفعل أدلّ منه (3)، ومن قائل بالتفصيل في ذلك. المذهب الأول: احتج القائلون بأن القول أدلّ، بما يلي: أولاً: أن القول له صيغة، فيمكن أن يعلم المراد به من جميع الوجوه، والتعبير به عن كل ما في النفس، بما يكون نصّاً في المطلوب أو ظاهراً. حيث إن الألفاظ موضوعة لمعان معلومة يمكن تركيبها لتدل على المراد عيناً، وبدرجة العموم   (1) روى ذلك الدارقطني (نيل الأوطار 7/ 30). (2) رواه أحمد والدارقطني (نيل الأوطار 7/ 30). (3) قال أبو الحسين البصري في المعتمد (ص 340): إن الفعل أكشف لأنه ينبئ عن صفة المبين مشاهدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 والخصوص المطلوبة، وبما يدل على الحكم المراد. وقد قال الشاعر: القول ينفد ما لا ينفذ الإبَر أما الفعل فلا يقع إلاّ على صورة واحدة، ولا يتعدّى تلك الصورة بنفسه، فلا يفهم منه بنفسه درجة الحكم أهي الوجوب، أم الاستحباب، أم الإباحة، ولا يعلم قدر انسحابه على أشخاص آخرين غير الفاعل، وعلى أحوال أخرى غير الحالة التي وقع عليها (1). ثانياً: أن القول يمكن أن يُدَلَّ به على أنه بيان للمجمل، بخلاف الفعل، فإنه لا يدل بنفسه على ذلك، فلا يعلم ذلك إلا بدليل غير فعلي، إما بالقول، وإما بالعقل، وإما بأن يعلم ذلك بالضرورة من قصده. ثالثاً: إن الفعل لا يمكن الدلالة به على المعدوم والمعقول، بل على الموجود والمحسوس خاصة، بخلاف القول، إذ يمكن التعبير به عن كل ذلك (2). رابعاً: إن الفعل البياني، قد يلازمه حركات وأوصاف غير مراد أن تكون بياناً، ويعرف ذلك بالاستقراء (3). وهذا قد يجعل في كل جزء من أجزاء الفعل البياني احتمالاً أنه غير مراد. وهذه الاحتمالات لا يمكن إزالتها إلا بتكرار الفعل مع حذفها، أو بالقول، أو بغير ذلك من القرائن، كما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة في مكان معين، فلئلا يظن ظان أن ذلك المكان مقصود قال: "وقفت هنا وعرفة كلها موقف". وقال في مزدلفة مثل ذلك، وقال في النحر بمنى: "نحرت هنا ومنى كلها منحر" (4). وفي رواية (5): "وكل فجاج مكة طريق ومنحر" (6).   (1) القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني: المغني في التوحيد والعدل 17/ 265، 226، وانظر أيضاً: تيسير التحرير، حيث حكاه في 3/ 148 والبناني: حاشيته على شرح جمع الجوامع 2/ 100 (2) عبد الله دراز: حاشية على الموافقات 3/ 314 (3) تيسير التحرير 3/ 149 والبناني على شرح جمع الجوامع 2/ 100 والعلائي: تفصيل الإجمال ق 12 (4) تيسير التحرير 3/ 176 (5) رواه أبو داود 5/ 413 وسكت عنه المنذري. (6) انظر: روايات الحديث في جامع الأصول 4/ 70 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 والقول يمكن إخلاؤه عن مثل هذه الاحتمالات. ووجه خامس: نضيفه إلى ما ذكره الأصوليون، وهو أن القول تتبلور به الأحكام والصلاة بين الأمور. وكم من حقائق كانت موجودة بالفعل، ولكن لا يلتفت الناس إلى وجودها، ولا ينتبهون إلى أنها تمثل دوراً فيما يجري (بالفعل) أمام أبصارهم. فلما قُيِّض لها شخص ذو فطانة وذكاء، فلمحها وعبّر عنها بالقول، أصبحت شيئاً معلوماً يمكن لغيره من الناس فهمه وتطبيقه والاستفادة منه. ويؤكد ذلك حوادث استخراج قوانين الظواهر الطبيعية، كالكهرباء والجاذبية والمغناطيسية والحرارة والبرودة، وتأثيراتها المختلفة. وشبيه به ما نراه لعلماء الصحابة كعائشة رضي الله عنها، في فهمها للأحكام وأسبابها من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، في شؤون طهارته وصلاته بالليل والنهار وصيامه وغير ذلك، وما نراه لأئمة الأصوليين من استنباطهم لقوانين الأصول، مع أنها كانت جارية قبلهم (بالفعل) في نصوص الكتاب والسنة وكلام الناس، وهكذا الخليل مع قوانين العروض، وهكذا أيضاً قوانين كل علم وفن مما يوفق الله من شاء من أهل المواهب لاستخراجه والتعبير عنه. وبه تعالى التوفيق. المذهب الثاني: احتج القائلون بأن الفعل أبلغ في البيان، بأدلة، منها : أولاً: أن يتبيّن بالفعل من الهيئات والتفصيلات ما يصعب بيانه بالقول، حتى أن ما يتبيّن بالفعل ليتعذّر بيانه بالقول أحياناً (1)، خاصّةً وأن من الهيئات الفعلية ما لم يوضع له لفظ خاص. وثانياً: أن الفعل أفعل في النفس، بحيث تطمئن إليه أكثر، ويستمرّ في الذاكرة زمناً أطول (2). وقد تقدم ذكر هذا في التعلّم بالمشاهدة، وأيضاً في البيان التقريري بالفعل. ومما ذكروه من هذا الباب ما وقع في الحديبية، حين أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفسخ   (1) انظر تيسير التحرير. والقرافي: شرح تنقيح الفصول ص 123، 124 والآمدي: الإحكام 3/ 34 (2) أشار الآمدي إلى هذا الدليل، حكاه القاضي عبد الجبار في المغني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فلم يمتثلوا، حتى اشتدّ حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فلما أشارت عليه أم سلمة بأن يحلق دون أن يكلمهم، فحلق، سارعوا إلى الامتثال (1). وثالثاً: أن القول يؤكد بالفعل، والتأكيد أقوى من المؤكَّد. وقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يؤكد قوله بفعله، كفسخ الحج، والطهارات. ولكن هذا الدليل لا يثبت، إذ ليس من المسلّم أن التوكيد لا يكون إلّا أقوى من المؤكَّد، بل قد يؤكّد الشيء بأضعف منه، إذ الحاصل بالاجتماع أقوى مما يحصل بالانفراد، وذلك هو المطلوب بالتأكيد. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في ما يأتي من هذا الفصل. ورابعاً: أن القول يدخله احتمال المجاز والنقل، وغير ذلك. والفعل يخلو عنها (2). المذهب الثالث: القول بالتفصيل : الشاطبي في الموافقات (3) نحا منحى آخر غير ما تقدم، فهو يرى أنه لا يصح إطلاق القول بالترجيح بين البيانين. وقسّم المسألة قسمين: القسم الأول: يستوي فيه البيانان وذلك أن يكون المأمور به فعلاً بسيطاً، أو وجد له نظير في المعتاد ولو كان مركباً، لكونه معلوماً، فينصرف إليه اللفظ. فالأول: كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلاً، فإنه لبسطاته وقلة   (1) أشار إلى هذا الدليل السرخسي الحنفي، انظر أصوله؛ 2/ 27 (2) لعل هذه الوجوه تفسر لنا لم كانت بعض الأحكام تبين بالفعل مع طوله، ويترك القول مع إيجازه وقصره، ومن ذلك أن الله تعالى اختار أن يبين مواقيت الصلاة فعلاً، فأرسل جبريل فأم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلوات الخمس في يومين متواليين، صلى في الأول في أول الوقت، وفي الثاني في آخر الوقت. وسأل سائل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مواقيت الصلاة، فقال له: صل معنا، فصلى معهم يومين، صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم الصلوات في اليوم الأول أول وقتها وفي اليوم الثاني آخر وقتها، ثم قال: الوقت ما بين هذين. فقد استغرق البيان لهذه المسألة يومين كاملين. (3) الصفحات 3/ 311 - 315 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 تفصيلاته، شيء واحد. ولكونه معتاداً، ينصرف إليه القول إذا سمِّي باسمه الخاص. فلو أريد تبيان الجنابة الموجبة للغسل بالقول مثلاً، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" (1)، أو اغتسل فعلاً من التقاء الختانين، حصل بيان الجنابة بكل منهما على التساوي. والثاني: وهو ما له نظير في المعتاد، ولو كان مركباً. كما لو طلبْتَ من البنّاء أن يبني لك بيتاً على أن يكون مماثلاً لبيت معين مبنيّ فعلاً، وكان الاسم الموضوع لذلك النوع يطلق عليه بتفاصيل كثيرة إلا أنها معتادة ومتعارف عليها. فيكفي القول، ويقوم مقام الفعل، والفعل يقوم مقامه تماماً. القسم الثاني: الأفعال المركبة الكثيرة التفاصيل، من أركان وشروط ومستحسنات، وتلحقها مبطلات وعوارض، ولم تجربها عادة بين الناس تحدِّد المراد باللفظ تحديداً وافياً. فحينئذ يكون البيان لها بالفعل أبلغ "من جهة بيان الكيفيّات المعيّنة المخصوصة التي لا يبلغها البيان القولي. ولذلك بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة بفعله لأمته، والحج، والطهارة، وإن جاء فيها بيانٌ بالقول، فإنه إذا عرض نصُّ الطهارة في القرآن على عين ما تلقي بالفعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كان المدرك بالحسِّ من الفعل، فوق المدرك بالعقل من النّص، لا محالة. وهَبْه - صلى الله عليه وسلم - زاد بالوحي الخاصّ أموراً لا تدرك من النصّ على الخصوص، فتلك الزيادات بعد البيان إذا عرضت على النص لم ينافها، بل يقبلها، كما في آية الوضوء". فالفعل من هذه الجهة أبلغ. أقول: ومثاله من الواقع ما لو أردت أن تبيّن صفة حيوان غريب لم يره السامعون من قبل، فوصفت تفاصيل خلقته وحجمه ولونه وطباعه، فمهما اطنبت في ذكر التفاصيل قولاً، فلن تتكون لدى السامعين الصورة المطابقة للحقيقة بتفاصيلها، فلو أريتهم الصورة الشمسية الملوّنة لذلك الحيوان، اتّضحت الفكرة عنه أكثر، فلو أريتهم تمثالاً مجسّماً للحيوان بنفس حجمه ولونه تعاظم وضوح الفكرة. ثم لو أريتهم الحيوان نفسه، فرأوه بأعينهم، ولمسوه بأيديهم، ورأوا أحواله وحركاته، وشاهدوا طباعه، فإنهم يعلمون من تفاصيل ذلك ما لم يعرفوه بسماع   (1) رواه ابن ماجه (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 القول، حتى لو حصلت مقارنة بين الصورة الذهنية التي تكوّنت بسماع القول أولًا، وبين الصورة التي تكوّنت برؤيته (فعلاً) لكانت الأخيرة مختلفة عن الأولى بنسبة كبيرة، هي بها أقرب إلى الحقيقة. ومثل ذلك في الشريعة أن الحجَّ تذكر صفته في كتب الحديث والفقه بالتفصيل، ومع ذلك فإنه لا يتبيّن تبيناً كاملًا حتى للمدرِّسين وسائر الفقهاء، إلاّ برؤية أفعال الحجاج وأماكن الحج وما يفعل في كل منها، فإذا رأى ذلك، وفَعَله، أصبحت معرفته ضرورية، على ما هو معلوم بالتجربة. ومن جهة أخرى يكون القول أبلغ، وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص في الأحوال والأزمان والأشخاص، فإن القول ذو صيغ يمكن بها تبيين هذه الأمور ونحوها، أما الفعل فهو قاصر على فاعله، وزمانه، ومكانه، وحالته. قال الشاطبي: "لو تُرِكنا والفعلَ الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلاً، لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله، في هذا الوقت المعين، وعلى هذه الحالة المعينة. فيبقى علينا: هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة أو في هذه الحالة؟ أو يختصّ بهذا الزمان أو هو عامٌّ في جميع الأزمنة؟ أو يختص به وحده أو يكون حكم أمته حكمه؟ ثم بعد النظر في هذا، يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله: من أيّ نوعٍ هو من الأحكام الشرعية". فهذان النوعان لا يمكن تبيينهما بالفعل، ولا بدّ من القول، أو وضوح القرائن، لبيان ذلك. ومن هنا احتاجت الأفعال النبوية إلى دليل خارج عنها يبين أنها دليل في حق الأمة. والحاصل: إن البيانين يستويان في الفعل البسيط، أو الفعل المركّب المعتاد الذي له لفظ يدل عليه بالتحديد. ويرجح البيان بالفعل من جهة بيان الفعل الكثير التفاصيل غير المعتاد، ومن جهة قوته في عمق التأثير النفسي، وقوة التشبث بالذهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ويرجح البيان بالقول من جهة العموم والخصوص، ومن جهة درجة حكم الفعل، ومن جهة تعليقه بما هو بيان له. أعلى أنواع البيان : نقل الزركشي أن بعضهم رتّب أنواع ما يقع به التبيين حسب قوتها، هكذا: القول، ثم الفعل، ثم الإشارة، ثم الكتابة ثم التنبيه على العلة (1). وأما الشاطبي (2) فيرى أن اجتماع القول والفعل متطابقين هو الغاية في البيان، كما حصل بذلك تبيين الطهارة والصلاة والصَّوم والحجّ. ولا شك أن اجتماع البيانين المذكورين أقوى، وذلك من وجوه: الأوّل: إن كلا من القول والفعل، يسد ما في الآخر من النقص، برفع الاحتمالات التي مر ذكرها. الثاني: أنه يضيف إلى الآخر ما له من خصائص بيانية. الثالث: أنه أصلاً نوع من التكرار، والتكرار تأكيد وتقوية. ومن الملاحظ عمليّاً أن ما ورد فيه البيان بالقول والفعل من العبادات، كالصلوات الخمس مثلاً، هو أوضح كثيراً مما ورد فيه البيان بالقول خاصة، كصلاة الاستخارة، أو بالفعل خاصة، كصلاة الكسوف، وصلاة الجنازة، وصلاة العيدين، وصلاة الخوف، وصلاة الاستسقاء. ولعله لذلك يجري فيها من الخلاف ما هو أكثر، نسبياً، من النوع الأول. وإن كان إثبات ذلك بحاجة إلى تتبع واستقراء. إلاّ أننا نرى اجتماع أنواع أخرى من البيان معهما، يكون به البيان أقوى. وأهمّ ذلك التقرير، فإنه يدل على رضا المبيِّن عن الصورة الذهنية التي حصلت لدى المبيَّن له. فإن البيان قد يكون وافياً، ولكن أفهام بعض السامعين تقصر أو تغفل. فإن عَمِل المبيّن له بما بُيِّن، فوافقه المبيِّن على فعله، وأقرّه، فذلك أقوى ما يكون البيان، كما تقدم في التعلّم بالممارسة.   (1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص173 (2) الموافقات 3/ 311 - 314 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 رجوع البيان بالقول إلى البيان بالفعل : إن القول المبيِّن عن الفعل قد يرجع إلى الفعل. وذلك أن الفعل يسمى بألفاظ لغوية، فإن كانت مجملة فسرت بألفاظ أخرى تعبّر عن أفعال، فـ (الصلاة) مجمل يفسّر بأنها الأفعال المعلومة، من القيام والتكبير والقراءة والركوع والسجود والتسليم وغير ذلك. ومعاني هذه الألفاظ لم تُعلم إلّا بفعلها، أو رؤية من يفعلها، بحيث إن من لا يعلمها لو أريد تفسيرها له، لفعلنا أمامه الركوع مثلاً، ثم قلنا له: هذا الركوع، وهكذا السجود وغيره، فقد عاد البيان القولي عن الفعل إلى الفعل. وقد قال الشاطبي: "وإنما يقرِّب مثل هذا القول الذي معناه الفعلي بسيط وجد له نظير في المعتاد، وهو إذ ذاك إحالة على فعل المعتاد، فَبِه حصل البيان لا بالقول" (1). والألفاظ المعبِّرة عن أفعال مركبة أشدُّ حاجة إلى هذا النوع من البيان الفعلي. وهذا شأن الأسماء اللغوية غالباً، فإن فهمها، أو فهم ما فُسِّرت به من الألفاظ لا يتم من غير أن تكون لدى السامع (خبرات عمليّة سابقة)، إذا سمع اللفظ نزّله عليها ليفقه المراد به. ومن هنا يعلم أن ضيق الأفق، وقلة الخبرات العملية، وقلة التجارب في الحياة، ينشأ عنها ضيق فهم اللغة، وعسر تبيّن المراد بالألفاظ.   (1) الموافقات 3/ 313 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 المبحث الثالث اجْتماع القول والفِعل في البَيان الكلام في هذه المسألة ينقسم قسمين، لأنه إن جاء بعد المجمل قول وفعل وكلاهما صالح لأن يكون بياناً، فإما أن يكونا متطابقين لا يزيد أحدهما على الآخر، وإمّا أن لا يكونا كذلك. ومعنى صلاحيتهما للبيان أن يفعل ما أمر به، وأن يصفه بذكر أجزائه وأعداده وهيئاته. أما إذا أحال بالقول على الفعل، كأن قال: "خذوا مناسككم" و"صلوا كما رأيتموني أصلِّي" (1). ونحو ذلك، فهذا القول ليس بياناً، وإنما هو قول معلِّق للبيان على الفعل، فيُعلم به كون الفعل بياناً (2). فإن علم بالضرورة أو بالعقل، أن الفعل بيان، كان مثل هذا مؤكِّداً لذلك (3). القسم الأول: حالة الاتفاق : وأمثلته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن بقوله عدد ما أمر به الله من الصلوات، فبيّن بالقول أنها خمس صلوات، وصلاها فعلاً كذلك، لم تزد ولم تنقص. وكذلك بينّ مقادير ما أمر الله به من الزكاة المفروضة في الذهب والفضة أنها ربع العشر، وأخذها كذلك.   (1) سيأتي تخريج هذا الحديث بتوسع في فصل الفعل البياني. (2) أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 338 حيث قال: "إن البيان هو الفعل، دون القول المعلق للفعل بالمبين". (3) تيسير التحرير 3/ 176 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والذي يعتبر بياناً منهما هو أولهما وروداً، سواء علم أو جهل. إذ به يحصل التبيين (1)، ويخرج الأمر عن الإبهام. ويكون الثاني منهما مؤكّداً له ومقويّاً، كما تقدم عند ذكر أعلى أنواع البيان. وهذا هو القول المعتمد. وقيل يكونان بمجموعهما بياناً. وقيل القول هو البيان، سواء تقدم أو تأخر، دون الفعل، لأنه أقوى من الفعل (2). هذا وقد قرّر الآمدي (3) وبعض الأصوليين أن المتأخّر منهما إنما يجوز اعتباره تأكيداً للأول في حال استوائهما في القوة، وحال كون الثاني منهما أقوى. أما إن كان الثاني أضعف فلا يكون مؤكِّداً، إذ إنه يخلو من الإفادة، فيكون المجيء به عبثاً. وبَنَى على ذلك أنه في حال العلم بأولهما وروداً يكون الثاني تأكيداً إنْ كان أقوى من الأول. وفي حال الجهل بذلك، فالأشبه أن الأول وروداً هو الأضعف منهما، لئلا يلزم المحذور الذي أشار إليه. وقد رفض السبكي هذه الطريقة، فرأى أن المتأخِّر يكون توكيداً ولو كان أضعف (4). والذي نختاره هنا قول السبكي. ونزيد أن العرب لم تزل تؤكّد في كلامها الأقوى دلالة بالأضعف. كما في   (1) هكذا أطلق أبو الحسين البصري في المعتمد ص 339 جعل المتقدم منهما هو البيان ولم يعرج على تفصيل. (2) نقله الشوكاني ص 173 (3) الإحكام في أصول الأحكام 3/ 37 ونقله البدخشي 2/ 151 وأقره. (4) جمع الجوامع 2/ 68 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الإتباع، كقولهم: جاؤوا أجمعون "أكتعون"، وحارٌّ "يارّ". إذ التابع هنا لا دلالة له أصلاً قبل اقترانه بالمتبوع، على ما هو المعتمد عند اللغويين. وأيضاً فإن دليل الآمدي ينتج امتناع التأكيد بالمساوي، وهو لا يقول به. وهذا نص عبارته "لو فرضنا تأخر المرجوح امتنع أن يكون مؤكِّداً للراجح، إذ الشيء لا يؤكّد بما هو دونه في الدلالة، والبيان حاصل دونه، فكان الإتيان به غير مفيد، ومنصب الشارع منزّه عن الإتيان بما لا يقيد". فقوله: "والبيان حاصل دونه" صادق على التأكيد بالمساوي، فيلزمه منعه. وذلك معلوم بطلانه حتى في التأكيد بالمفرد (1). وفي الطبيعة إذا نحن أضأنا غرفة بمصباح، ثم قَوَّينا النور بمصباح آخر أضعف من الأول، فلا شكّ أن له تأثيراً في تقوية الرؤية، ما لم يكن الأول كالشمس في قوة إضاءته، ومثل هذا بالنسبة إلى الألفاظ نادر جداً في الدلالة على المعاني المركبة كما تقدم. ولا ينبني على هذه المسألة شيء من الأحكام، إذ الفرض أن القول والفعل متفقان في المدلول. بل هي تذكر لمجرد استيفاء الأقسام. القسم الثاني: حال الاختلاف : بأن يدل أحدهما على أن المطلوب أكثر مما يدل عليه الآخر. ومحل الخلاف إذا لم يعلّق الفعل بالمجمل قولًا. فإن قال: ما أفعله هو البيان لآية كذا، أو حديث كذا، فالفعل بيان بلا شك. ويكون بدرجة القول. فلا يجري فيه الخلاف الآتي.   (1) التزم الإسنوي في شرح المنهاج بكون التأكيد لا يكون أضعف من المؤكد. ولكن قصره على التأكيد بالمفردات، وأجازه في التأكيد بالجمل، وجعل التأكيد بالأضعف من القول والفعل شبيهاً بالتأكيد بالجمل، فأجازه. ونحن نرى بطلان هذا القول أصلًا، وأن التأكيد بالأضعف جائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ومثال هذا القسم، ما روي (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن فطاف طوافين، وسعى سعيين. وروي عنه أنه قال بعد نزول آية الحج: "من أحرم بالحج والعمرة، أجزأه طواف واحد، وسعي واحد عنهما، حتى يحلّ منهما جميعاً". وفي المسألة ثلاثة مذاهب: الأول: مذهب الرازي وابن الحاجب أن القول هو البيان، سواء تقدم أو تأخر. وقال به أيضاً أبو الخطاب الحنبلي (2) وغيرهم. ودليل هذا المذهب أن القول يدل بنفسه على أنه بيان، والفعل لا يدل إلاّ بالواسطة. وما يدل بنفسه أولى (3). والقول هو الأصل في البيان، فينبغي أن يكون هو البيان. ويكون الفعل الزائد عن القول، على هذا المذهب، كالطواف الثاني في المثال، ندباً، أو خاصاً به - صلى الله عليه وسلم -. وقد نقل الزركشي (4) عن ابن فورك، أنه يبني على هذا القول اشتراطاً معيناً في جواز اعتبار القول بياناً. فرأى أن الفعل إنما يأتي بياناً إن لم يكن هناك قول صالح للبيان، وإلاّ لم يرجع إلى الفعل.   (1) أما الفعل ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن فطاف طوافين- طواف القدوم وطواف الزيارة يوم النحر. وسعى سعياً واحداً بعد طواف القدوم، ولم يسع بعد طواف الزيارة. هذا ما يؤخذ من حديث جابر وغيره. وقد روى النسائي عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن فطاف بالبيت طوافين، وسعى سعيين". وأما القول فما أخرجه أحمد من حديث ابن عمر بلفظ "من قرن بين حجته وعمرته أجزأه لهما طواف واحد". ولم يذكر السعي (الفتح الكبير) وروى الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما، ولم يحل حتى يقضي حجه ويحل منهما جميعاً" (الفتح الكبير). (2) التمهيد ق 92 أ. (3) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 73 (4) البحر المحيط 2/ 81 أب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الثاني: مذهب أبي الحسين البصري، وهو أن المتقدم في نفس الأمر هو البيان حقيقة. قال: "لأن الخطاب المجمل، إذا تعقبه ما يجوز أن يكون بياناً له، كان بياناً له" (1). ثم إن علم المتقدم من القول والفعل فالحكم عنده كذلك. وإن جهل فالقول عنده هو البيان، لأن الفعل لا يكون بياناً للمجمل إلاّ بما يعلقه به من قول أو ضرورة، ولا ضرورة هنا مع وجود القول المبيّن للمجمل. وقد قدم في أول هذه المسألة، قبل تفصيلها وشرحها، أنه حيث قيل إن القول هو البيان، فالطواف الثاني في المثال المضروب ندب. وحيث قيل بأنه الفعل، فالطواف الثاني واجب. استدراك الآمدي على مذهب أبي الحسين: نقل الآمدي (2) مذهب أبي الحسين البصري المتقدم ذكره، ووافقه في حال العلم بالتقدم على ما ذكر، غير أنه أضاف، أنه في حال تقدم الفعل، فإنه وإن دلّ على أن الطواف الثاني واجب، إلاّ أنه لا بدّ من تقديره منسوخاً بالقول، أو خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. والخصوصية أرجح، لخلوّها من نسخٍ للفعل أو تعطيل للقول. وهذا عندي استدراك لا يخفى، وإنما الذي فعله أبو الحسين أنه نبّه إلى حكم الفعل الزائد عند وروده وقبل ورود القول عليه، ولم يذكر حكمه عند ورود القول بعده مخالفاً له. فمذهبهما في الحقيقة شيء واحد. وأما ترجيحه الخصوصيّة على النسخ فلا يوافق عليه، لأن الأصل تساوي الأحكام بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته. وسيأتي إيضاح ذلك في مبحث الخصائص.   (1) المعتمد 1/ 340 (2) الإحكام 3/ 38 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الموارنة بين المذهبين : إن المذهبين متفقان في حال العلم بتقدم القول، أو الجهل بالمتقدم، إن القول هو المقدم في الحالين. وإن ما اختلف فيه المذهبان حالة العلم بتقدم الفعل. فيرى أبو الحسين أنه لا يجوز إهماله، إذ هو نوع من أنواع البيان، وقد جاء في وقت الحاجة إليه، فوجب أن يكون بياناً. وأصحاب المذهب الأول نظروا إلى أرجحية القول من حيث البيان، ووضوح ارتباطه بالمبيّن. فقدموه. ونحن نرى أن مآل القولين واحد، فعندما ورد الفعل وهو صالح للبيان، فلا بد من اعتباره بياناً. ثم إذا جاء القول بعد ذلك، فلا بد من الأخذ به، لأنّ "القول بإهمال دلالة القول ممتنع" كما قال الآمدي. فهو يَرِد حينئذ على الفعل فيدل على أن ما زاد منه على القول ندب، أو يلغي دلالته على الحكم في حق الأمة دون نبيها فيكون مخصصاً، أو في حق الجميع فيكون ناسخاً. فالخلاف بينهم في المسألة إنما هو في مما قبل ورود القول المتأخر، فأمّا بعد وروده فالعمل يكون بالقول على كل حال بالنسبة للأمة، لأنه إما أن يكون هو البيان على القول الأول. أو يكون ناسخاً لحكم الفعل، على القول الثاني. والله أعلم. الثالث: وفي المسألة قول ثالث، وهو الوقف عند الجهل بالمتقدم، فلا يحكم بكون أحدهما هو البيان دون الآخر، بل البيان أحدهما لا بعينه. لأن كلاً منهما أقوى من الآخر من وجه، فلا يرجح عليه بلا مرجح. وقد رجح هذا القول ابن السمعاني (1). وقال العلائي في إبطال هذا الدليل: "إن البيان بالقول أكثر، وغاية الأمر   (1) نقله عنه الزركشي: البحر المحيط 2/ 253 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 أنهما متساويان في البيان (أي في قوته ووضوحه) وتسلم بقية الأوجه (أي في ترجيح القول) وبهذا يظهر ترجيح القول تقدميه، فلا تعادل حينئذ. والله أعلم" (1) اهـ. كلامه. وعندي أن جعل دلالة القول أرجح هو الذي ينبغي اعتماده. وبذلك لا يكون القول بالوقف صواباً. والحاصل: أننا بعد النظر في هذه المسألة وتشعباتها عند الأصوليين، نرى أن المسألة تلتئم بأن يقال: إنه بالنظر إلى الواقع في نفس الأمر، وعند من يعلم ذلك الواقع، لا بدّ من اعتبار أول الواردين من قول أو فعل بعد المجمل، هو البيان له. وأما بالنسبة إلى العمل وبالنظر لمن لا يعلم الواقع، فيعمل بالقول، ويقال إنه هو البيان، حقيقة إذا تقدم، ومجازاً إذا تأخر. وما زاد من الفعل فهو إما ندب أو خاص أو منسوخ. وهذا التوفيق صادق على حالتي الاتفاق والاختلاف. وتكون القاعدة العامة "أنه إذا ورد بعد المجمل قول وفعل كلاهما صالح للبيان، فالبيان في الحقيقة المتقدم منهما، والعمل بالقول على كل حال". تنبيه: المثال الذي ذكر في هذه المسألة الفعل فيه أكثر من القول. فلو كان العكس، ونقص الفعل، بأن أمَرَ بطوافين، وفَعَل واحداً، فمقتضى القول الأول، وهو قول الرازي ومن معه، البيان القول، ونقْصُ الفعل تخفيف في حقه - صلى الله عليه وسلم -، تقدم القول أو تأخّر. ومقتضى قول أبي الحسين أن البيان المتقدم، فإن كان المتقدم الفعل، فما زاده القول بعده مطلوب بالقول، وإن كان المتقدم القول فالنقص تخفيف خاص في حقه - صلى الله عليه وسلم - (2).   (1) تفصيل الإجمال ق 52 ب. (2) المحلى: شرح جمع الجوامع 2/ 69 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 المبحث الرابع إذا اختلف فعلان في البيان فأيهمَا البيان الأصوليون لم يذكروا هذه المسألة، وذكرها ابن دقيق العيد في شرح العمدة (1) وواضح أن أول الفعلين وروداً يكون هو البيان ما لم يدل على أن البيان هو آخر الفعلين. فإذا اعتبرنا الفعل الأول هو البيان، يبقى الزائد من الفعل الثاني فعلًا مجرداً لا يدل على وجوب، بل قد يدل عل الندب أو الإباحة كما يأتي في الأفعال المجردة. وهذا إن كان الفعل الثاني زائداً على الأول. أما إن نقص عنه فهو إما ناسخ للزائد في حق الجميع، وإما تخفيف في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. والنسخ أولى كما تقدم. ولا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذّر الجمع. وقد يعلم أن الفعل المنقول إلينا متأخر، ويعلم أن قبله فعلاً هو البيان، لكن لم ينقل إلينا أول الفعلين، كبعض رواية أصاغر الصحابة ومتأخري الإسلام منهم إذا رووا بعض هيئات الصلاة، أو أعمالًا في الصوم أو غيره من الأمور المستمرة. فإن الظاهر تأخر مروياتهم، وهي لا شك قد سبقت ببيان، فلا تكون مروياتهم تلك بياناً. ولا يمتنع -إذا لم يدل على التغيير- الاستدلال بالفعل المتأخر، هذا على أن الفعل المتقدم مثله، لأن الأصل عدم التغير. والله أعلم.   (1) 1/ 206 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الفصل الثاني أحكام النبي بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - 1 - ما يصدر عنه الفعل النبوي. أ- الوحي. ب- الاجتهاد. ج- مسألة التفويض. د- مسألة العفو. 2 - أحكام الأفعال النبوية. أ- ما يكلف به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأفعال. ب- أحكام ما صدر عنه من الأفعال. ج- العصمة عن المحرمات. د- العصمة عن المكروه. 3 - كيف يعيّن حكم الفعل إذا صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إليه خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 المبحث الأول ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مكلّف بكذا وجوباً أو ندباً، وبكذا تحريماً أو كراهة، أو أو أنه حلال له كذا، فيفعل أو يترك بناء على ذلك. وربما يفعل الشيء بناء على أنه لم ينزل عليه فيه شيء، أي على أنه ليس فيه حكم شرعي. فينقسم هذا المبحث إلى مطلبين: لأنه إما أن يفعل بناء على التكليف، أو أن يفعل بناء على عدم التكليف. المطلب الأول أن يفعل بناء على التكليف إدراكه - صلى الله عليه وسلم - لكونه مكلفاً بفعل ما، يحصل من طريقين: الأول: الوحي إليه - صلى الله عليه وسلم -، بالطرق التي نصت عليها الآية التي في آخر سورة الشورى {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم}. ثم قد يكون الوحي متلوّاً، وهو القرآن العظيم، بأن يكون آية أو آيات خاصة بالواقعة أو شاملة لها، كقوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ... } الآيتين. فإن فيهما الأمر له - صلى الله عليه وسلم - بتخيير أزواجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وقد يكون الوحي غير قرآن. كما في الحديث: "أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة، بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة ثم سكت، فجاءه الوحي ...... فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما الطيب الذي بك فاغسله، وأما الجبّة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" (1). وكما حصل في موقعة الأحزاب. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رحيل المشركين "وضع سلاحه واغتسل، فأتاه جبريل فقال: "قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، اخرج إليهم". قال: "فإلى أين؟ " قال: "ها هنا" -وأشار إلى بني قريظة- فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم" (2). وهذا النوع كثير لا يخفى على من له خبرة بالسيرة النبوية الشريفة. وهو متفق عليه بين كل المؤمنين برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ لا بد منه لتحقيق الإيمان بالرسالة. ثم إنّ ما كان من الوحي قرآناً، فإما أن يكون نصاً في المسألة، فلا يحتاج إلى إعمال فكر ونظر، ومنه ما يحتاج إلى ذلك، فهذا الفكر والنظر في ما يحتاج إليه من الوحي ندخله في النوع التالي وهو الاجتهاد. الثاني: الاجتهاد. فإذا أقرّه الله تعالى عليه كان ذلك من الله تعالى بياناً لكونه اجتهاداً صائباً. ومن أجل ذلك سمّى الحنفية الأول الوحي الظاهر، وسموا هذا الطريق: الوحي الباطن (3). والاجتهاد أنواع : الأول: اجتهاد في دلالات الألفاظ الموحى بها إليه - صلى الله عليه وسلم -، من المجمل والمشترك، والحقيقة والمجاز، والعام والخاص، وغير ذلك. فيجتهد فيها بما يعرفه من لغة قومه، وأساليبهم في القول، لأن القرآن بلغتهم نزل ليبيِّن لهم.   (1) رواه مسلم. (2) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة (جامع الأصول 9/ 199). (3) أصول البزدوي 3/ 924 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وليست كل السنة البيانية صادرة عن اجتهاد. بل إن من المتفق عليه أن جزءاً كبيراً منها موحىً به، فيدخل في قسم الوحي السابق الذكر. ومنها تبيين جبريل لمواقيت الصلاة. الثاني: الاجتهاد القياسي، بقياس غير المنصوص على المنصوص، فيلحق الفروع بالأصول بناء على الاشتراك في العلل. الثالث: الاجتهاد في الأمر الواقع بما يراه دون الرجوع إلى نص معين. وهي المسماة بمسألة التفويض. ونحن نعود إلى هذه الأنواع، واحداً واحداً، فنبين مذاهب العلماء فيها، وأدلة المثبتين والنفاة (1). النوع الأول: الاجتهاد البياني : ولا يقال هنا أن تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن هو عمل بالقرآن، فكيف يكون زائداً عنه حتى يقال إنه بالاجتهاد؟. لأنه لما أمر الله تعالى بالسجود مثلاً، لم يبيّن أن الساجد يسجد على الأعضاء السبعة. فذلك ليس في القرآن، بل هو تفسير له، زائد عليه. ومن هذا النوع رؤيته - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل كيفيات العمل في كثير ممّا أوحي إليه مجملاً، من الزكاة والصوم والحج وغير ذلك، وأسباب ذلك شروطه، مما لم يفصله الوحي الظاهر. ومنه رؤيته انطباق العمومات الواردة في القرآن على أشياء معينة، فيحكم عليها بحكم العام الوارد في القرآن. ولعل من ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" (2). "وعن أكل لحوم الحمر   (1) يراجع لاستيفاء هذا البحث: أبواب الاجتهاد من كتب الأصول المشهورة، وأيضاً: عبد الجليل عيسى: اجتهاد الرسول، نشر بالكويت. (2) رواه مسلم وأبو داود والنسائي (جامع الأصول 8/ 288). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الأهليّة (1)، وقال: إنها ركس" (2). وقال في القنفذ: "إنه خبيثٌ من الخبائث" (3). فالظاهر أن ذلك كان باجتهاد منه، ومن الممكن أنه - صلى الله عليه وسلم - رآها داخلة في قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (4). ومنه رؤيته - صلى الله عليه وسلم - الأمر المسكوت عنه، الدائر بين أصلين، أنه أقرب إلى أحدهما من الآخر، فيعطيه حكمه. كما في ميراث البنتين. قال الله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف} (5) وسكت عن الاثنتين. فألحق - صلى الله عليه وسلم - الاثنتين بما فوق الاثنتين فجعل لهما الثلثين. كما في قصة ابنتي سعد بن الربيع حين قال لعمهما: "أعط ابنتي سعد الثلثين". وحرّم الله عز وجل الميتة، وأحلّ المذكاة، فدار جنين المذكاة بين الطرفين، فحكم - صلى الله عليه وسلم - بأن ذكاة أمه ذكاة له، بقوله: "ذكاة الجنين ذكاة أمّه". ومنه معرفة أن إحدى الآيتين مخصصة للأخرى دون العكس. كما في حديث البخاري عن أبي سعيد بن المعلَّى أنه قال: "كنت أصلّي في المسجد. فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلم أجبه، فقلت يا رسول الله، كنت أصلي. فقال ألم يقل الله عز وجل: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} قلت: بلى" (6). فيظهر أن أبا سعيد كان يظن آية {وقوموا لله قانتين} مقدمة في موضع التعارض على الآية التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبيّن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العكس هو الصواب. فهذا النوع من الاجتهاد قريب، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أفصح العرب وأعلمهم بكلامهم، وكان نظره ثاقباً، وفكره وقّاداً، وقد أمر باتباع ما أنزل إليه من ربه. ورعاية ربه فوقه، إن أخطأ صوّبه، وإن لم يصحح له يتبين أنه قد عمل بالصواب.   (1) انظر الشاطبي: الموافقات 4/ 33 - حيث ذكر أمثلة لهذا النوع. (2) رواه النسائي. وأصل النهي عنها عند البخاري ومسلم (جامع الأصول 8/ 290). (3) رواه أبو داود (جامع الأصول 8/ 272) وإسناده ليس بقوي. (4) سورة الأعراف: آية 157 (5) سورة النساء: آية 11 (6) البخاري 8/ 156 ورواه الترمذي وغيره بسياق آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وبعض المجيزين لاجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - يمنع اجتهاده في هذا، ويرى أن هذا النوع لا يكون إلا بوحي ظاهر، ففي تيسير التحرير (1) ما يلي: " (وهو) أي الاجتهاد (في حقه) - صلى الله عليه وسلم - (يخصّ القياس، بخلاف غيره) من المجتهدين ... أما في القياس فظاهر، وأما في غيره (ففي دلالات الألفاظ) وفي (البحث عن مخصص العام، والمراد من المشترك، وباقيها) أي باقي الأقسام التي في دلالتها خفاء، من المجمل وأخواته، ...... وكل ذلك ظاهر عنده - صلى الله عليه وسلم - لا يحتاج إلى نظر وفكر" اهـ. فهو يجيز الاجتهاد القياسي، كما سيأتي في النوع الثاني، وأما في هذا النوع فهو يرى أن ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك هو حكم بالوحي. ولهذا أوجه: الأول: أن يكون كل ذلك بوحي خاص من الله تعالى. الثاني: أن يكون إلهاماً منه تعالى، لأجل توضيح مراده بكلامه. الثالث: أن يقال كان ذلك من أثر نفاذ البصيرة، وسلامة الإدراك. فهو وضاح عنده لأجل ذلك، لا يحتاج إلى اجتهاد. وظاهر قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} (2) يؤيد هذا القول (3)، إذ إن الله تعالى جعل على نفسه أن يبيّنه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -.   (1) 4/ 183 (2) من سورة القيامة. (3) حكى الآمدي (3/ 43، 44) عن بعضهم احتمالاً في آية (ثم إن علينا بيانه) إن المراد ببيان القرآن إظهاره وهو على وفق الظاهر، دون أن يكون المراد بيان المجمل والخصوص والتقييد الخ. وقد أقر الآمدي هذا الاحتمال، ومنع دلالة الآية على ما ذكرنا. وعندي أن حمل الآية على ذلك تأويل مردود، لأن الظاهر أن البيان إنما هو لما في المراد به خفاء، ويؤيده أنه عطف البيان بـ (ثم) على الجمع والقرآن، فهو إذن شيء آخر، فيتعين أنه بيان المجمل ونحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ونحن نرى أنه يجوز أن يكون بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجملات القرآن بالأوجه الثلاثة المذكورة آنفاً، بالإضافة إلى وجه رابع، وهو الاجتهاد. فثبت جواز اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في بيان القرآن. وأما قوله تعالى: {ثم إن علينا بيانه} فإذا أقرّ الله تعالى رسوله على ما بينّ، فهو بيان من الله، يوضحه أن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه على عملٍ ما، هو بيان لمشروعية ذلك العمل، كما سيأتي في فصل التقرير، من الباب الثاني، إن شاء الله. النوع الثاني: الاجتهاد القياسي ّ: في جواز كون النبي - صلى الله عليه وسلم - متعبّداً بالاجتهاد القياسيّ خلاف. قال الآمدي: "اختلفوا في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان متعبداً بالاجتهاد في ما لا نصّ فيه (1). فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف: إنه كان متعبداً به. وقال أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم: لم يكن متعبّداً به. قال: وجوز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع (2)، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري. والمختار جواز ذلك عقلاً ووقوعه سمعاً (3). اهـ كلام الآمدي.   (1) هذه العبارة من كلام الآمدي "في ما لا نص فيه" مجملة، لأن (النص) يطلق على اللفظ الدال على المعنى سواء كان فيه احتمال أم لا، فيصدق على الظاهر، ويطلق على اللفظ الدال على المعنى دون احتمال، فلا يصدق على الظاهر. فإن كان مراده بعبارته الإطلاق الأول، فالخلاف عنده في تجويز الاجتهاد القياسي دون البياني. وإن كان مراده بها الإطلاق الثاني يكون الخلاف عنده في تجويز الاجتهادين القياسي والبياني، ونحن حملنا كلامه على الأول احتياطاً، حتى يتبين لنا، فذكرنا كلامه في (الاجتهاد القياسي). (2) كلام الشافعي في الرسالة (تحقيق أحمد محمد شاكر) ص 92 (3) الإحكام 4/ 222. وانظر أيضاً: أصول البزدوي 3/ 926 - 933 وتيسير التحرير 4/ 188، 189 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قلت: وقد نسب صاحب تيسير التحرير إلى الأشعرية أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متعبّداً به. وحكى صاحب التحرير أن القاضي والجبائيّ أجازا اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في الحروب فقط، أي دون الأحكام الشرعية (1). والمختار ما نص عليه الحنفية (2) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عليه العمل بالوحي أولاً، وكان عليه أن ينتظر الوحي في الوقائع، فإن لم يأته الوحي بعد الانتظار اجتهد رأيه (3). الدليل العقلي لجواز صدور أفعال النبي صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد : إنا لو فرضنا أن الله تعبّده بذلك، بأن قال له: حكمي عليك أن تقيس فيما لا نص فيه، لم يلزم من ذلك أمر محال. وقد نوقش هذا الدليل بأنه لو كان في الأحكام الصادرة عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يكون عن اجتهاد، لجاز أن لا يُجعل أصلاً لغيره، وأن يخالف فيه، وأن لا يكفر مخالفه، لأن جميع ذلك من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد. وأجاب عن ذلك الآمدي بأنا لا نسلم أن ما ذكروه من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد، بدليل الإجماع عن اجتهاد، فإن الإجماع معصوم من الخطأ. فكذلك اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يقرّ على خطأ في الأحكام الشرعية. الأدلة القرآنية: منها : 1 - أدلة القياس، كقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} (4) والمأمور بالاعتبار، وهو القياس، المؤمنون، وأولهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهو مأمور بالقياس. والبحث يستوفى في باب القياس. فمن أثبت القياس أصلاً في الشريعة لزمه القول به هنا. 2 - قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما   (1) 4/ 184 (2) أصول البزدوي 3/ 926 - 933 (3) تيسير التحرير 4/ 190 (4) سورة الحشر: آية 2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أراك الله} (1) والذي أراه إياه يعمّ الحكم بالنص، والاستنباط من النصوص، والقياس عليها. ونوقش هذا الدليل بأن ما أراه هو ما أنزله إليه. والجواب أن يقال: أن ما حكم به قياساً على المنزل هو حكم بالمنزل، لأنه حكم بمعناه وعلته. وجواب آخر: أن حكمه بالاجتهاد هو حكم بما أراه الله، فتقييده بالمنزل مخالف لإطلاق الآية. 3 - قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} (2) فعاتبه الله على إطلاقهم، كما في حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: "جئت فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان. فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبكي للذي عَرَض علي أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عُرِض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة -لشجرة قريبة منه- وأنزل الله عز وجل: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ... } الآيات. فأحلّ الله الغنيمة لهم" (3) اهـ. فإنه هنا حكم بالمصلحة. وإذا جاز الحكم بالمصلحة، فالحكم بالقياس أولى. 4 - أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى على كبير المنافقين عبد الله بن أبي. فجذبه عمر، وقال: أليس الله تعالى قد نهاك أن تصلّي على المنافقين؟ فقال: "أنا بين خيرتين، قال الله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} (4) فلأزيدنّ على السبعين". فصلّى عليه (5). فنزل قوله تعالى: {ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} (6).   (1) سورة النساء: آية 105 (2) سورة الأنفال: آية 67 (3) رواه مسلم والترمذي (جامع الأصول 9/ 142). (4) سورة التوبة: آية 80 (5) حديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي رواه البخاري 3/ 138 ورواه مسلم والنسائي وابن ماجه. (6) سورة التوبة: آية 84 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الأدلة من السنة النبوية : ما وقع فعلاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، من العمل بالاجتهاد، في مواطن كثيرة، ثم ودَّ لو أنه عمل بطريق آخر. كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في سوقه الهدي في حجة الوداع: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت" (1). قال في تيسير التحرير: "أي لو علمت قبل سوق الهدي، ما علمته بعده من أمري، -يريد به ما ظهر عنده من المشقة عليه، وعلى من تبعه، في سوقه الهدي، الملزم دوام الإحرام إلى قضاء مناسك الحج- لما سقته، بل كنت أحرمت بالعمرة، ثم أحللت بعد أدائها، كما هو دأب المتمتع. فعُلِم أنه لم يسق بالوحي، وإلاّ لم يقل" (2) اهـ. أدلة المانعين : 1 - قالوا: يمتنع ذلك لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى} (3) وما يؤدي إليه الاجتهاد ليس بوحي. فيلزم على إجازته الخلف في القرآن، وهو مستحيل. ويجاب عن ذلك بأن سبب نزول الآية أن المشركين كانوا يزعمون إن القرآن افتراء من محمد - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت. فالمقصود بالوحي فيها القرآن خاصة. ولو سلّم أنها تعم جميع ما قاله - صلى الله عليه وسلم - فما يؤدي إليه الاجتهاد، إن أقرّ عليه، هو وحي باطن كما قال الحنفية. 2 - وقالوا: لو أُمر - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد لم يؤخّر جواباً، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخّر الجواب في بعض الوقائع حتى يأتيه الوحي، كما في قصة (4) من سأله في عمرة   (1) صحيح البخاري 3/ 504، 606 (2) 4/ 186 (3) سورة النجم: آية 3، 4 (4) تقدم ذكرها قريباً. أخرجها مسلم 8/ 78 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الجعرانة: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة بعد ما تضمخ بطيب؟ فلم يجبه حتى نزل الوحي. وأجيب عن ذلك بأنه قد يكون التأخير لانتظار الوحي، إذ لا اجتهاد مع النص. وربما كان التأخير لغموض الدليل المجتهد فيه، فيحتاج إلى زمان مهلة. 3 - وقالوا: لا يجوز العلم بالظنّ مع القدرة على اليقين. وأجيب عن ذلك بمنع قدرته - صلى الله عليه وسلم - على اليقين بإنزال الوحي، لأن إنزال الوحي لم يكن إليه - صلى الله عليه وسلم -، بل هو إلى الله تعالى. فإن لم ينزل عليه وحياً في المسألة الواقعة جاز له الاجتهاد فيها. 4 - قالوا: لو - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل بالاجتهاد، لجازت مخالفته من مجتهد آخر. وأجيب عن ذلك، بأن اجتهاده، إذا أقرّ عليه، وحي باطن، فلا تجوز مخالفته. وأمّا قبل تبيّن الإقرار، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يشيرون عليه، فيقبل مشورتهم، ويعترضون عليه أحياناً كما تقدم النقل عن عمر رضي الله عنه، فيبيّن وجه اجتهاده (1). النوع الثالث: مسألة التفويض : وهي أنه هل يجوز أن يكل الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم في بعض الأمور بما يراه، دون نص ولا قياس على منصوص، وأن يفعل بناء على ذلك، فما قاله بناء على ذلك أو فعله فهو شرع الله، ويكون مكلّفاً به؟. قد أجاز ذلك كثير من أهل العلم منهم أبو علي الجبائي، والآمدي، وابن السمعاني، والسبكي، والشيرازي (2).   (1) تيسير التحرير 1/ 189 (2) انظر الآمدي 4/ 282، وجمع الجوامع 2/ 391، وتيسير التحرير 4/ 236، والمعتمد ص 889، والقواطع ق 287 أ، واللمع ص 78 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ومنعه أبو الحسن البصري وأكثر المعتزلة، وأبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية. وكثير ممن أجاز ذلك قال إنه مع جوازه لم يقع. وتردد الشافعي، فقيل إن تردّده في الجواز، وقيل في الوقوع (1). وقد احتج المجيزون لذلك: 1 - بقوله تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه} (2) أضاف التحريم إلى إسرائيل عليه السلام، فدلّ على أنه كان مفوضاً إليه، وإلاّ لكان قد فعل ما ليس له، ومنصب النبوة يأبى ذلك. وقد نوقش هذا الدليل، باحتمال كون تحريمه لما حرمه عن قياس. ويجاب بأنه لو كان عن قياس، للزم أن لا يكون ما حرّمه حلالاً قبل تحريمه له، بل يكون حراماً ظهرت حرمته بعد اجتهاده. وهو خلاف ظاهر الآية، فإنها نسبت التحريم إليه. 2 - واحتجوا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين. وأنها لن [كذا] تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا يُنفّر صيدها، ولا يُخْتَلَى شوكها، ولا تحلّ ساقطتها إلاّ لمنشد ... " فقال العباس: "إلاّ الإذْخِر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا". قال: "إلاّ الإذْخِر" (3).   (1) قال الشافعي في الرسالة بعدما ذكر أن السنة قد تأتي بما ليس له أصل في القرآن "منهم من قال: جعل الله له - صلى الله عليه وسلم - بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب" وهذا هو التفويض، ثم ذكر أنه قد قيل أيضاً: إنها صادرة عن القرآن، أو بوحي خاص، أو بإلهام ثم قال الشافعي "وأي ذلك كان فقد بين الله أنه فرض طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذراً" (الرسالة ص 91 - 103) فالتفويض عنده أمر محتمل وجائز. (2) سورة آل عمران: آية 93 (3) مسلم 8/ 129وهذا لفظه ورواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ومعلوم أن استثناءه الإذْخِر لم يكن إلاّ من تلقاء نفسه، لعلمنا بأنه يوح إليه تلك اللحظة. وقد نوقش الاستدلال بهذه الواقعة، باحتمال أن يكون جاءه الوحي باستثناء الإذْخِر، بوحيٍ كلمح البصر. 3 - ومما يجوز أن يحتج به لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد همَمْتُ أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن فارس والروم يصنعون ذلك، فلا يضرّ أولادهم" (1). فظاهرٌ أنه عندما همّ أن ينهى عن ذلك، لم يكن نهيه لأجل وحي أتاه بذلك، بل لمجرد أنه يرى في ذلك مصلحة، وأنه امتنع من النهي عن ذلك عندما علم أن أقواماً يفعلونه ثم لا يقَع عليهم منه ضرر. 4 - واحتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (2). وهو صريح في أن الأمر بالسّواك، وعدمه، مفوّض إليه، لأن مثل هذا القول لا يصدر إلاّ عمن كان الأمر بيده. ومثل ذلك ما في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحجّ فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" (3). ولولا أن الأمر مفوّض إليه لما كان هذا الخطر محتمَلاً، لأن الوحي لا يعجل لعجلة أحد من الناس. ومثله أيضاً ما في سيرة ابن هشام، أنه - صلى الله عليه وسلم - قتل النضر بن الحارث في الأسر بعد وقعة بدر، فقالت أخته قُتَيْلَة أبياتاً تعاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول منها: ما كان ضَرَّك لو مننتَ وربّما ... منَّ الفتى وهو المَغيظُ المُحَنَّقُ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته". فلو لم يكن القتل وعدمه مفوضاً إليه، لكان سماعه لهذا الشعر، وعدم سماعه له، سواء.   (1) مالك ومسلم وأحمد والأربعة (الفتح الكبير). (2) رواه السبعة (الفتح الكبير). (3) صحيح مسلم 8/ 101 ورواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقد نوقش الاستدلال بهذه الوقائع باحتمال أنه - صلى الله عليه وسلم - خُيِّر فيها تخييراً خاصاً. والسياق يأبى هذا الاحتمال، كما لا يخفى. أدلة المانعين : وقد احتجّ القاضي عبد الجبار (1) للمنع من التفويض، بأن الشرائع إنما يَتَعَبَّد الله بها الناس لكونها مصالح، والإنسان قد يختار الفساد، فلو أباح الله تعالى للإنسان أن يحكم بمجرد اختياره، لكان ذلك إباحة للحكم بما لا يأمن كونه فساداً. وقد أكّد هذا الاستدلال أبو الحسين البصري وأخذ به. ونقضه الآمدي بأنه مبنيّ على رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى، فمن لا يرى ذلك لا يلزمه القول بمقتضى دليل القاضي؛ ومن سلم رعاية المصلحة في أفعاله تعالى، فإن التفويض لا يكون إلاّ مع التسديد للمصلحة باللطف الخفي، وبذلك يؤمن اختيار الفساد، كما هو واضح في الوقائع التي حصل الاحتجاج بها. واختار ابن السمعاني القول بأنها ينبغي أن تُبنى على مسألة العصمة، فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوماً، جاز التفويض إليه. وهو وجيه. فالحقُّ أن التفويض إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وقع، ولو في مسائل قليلة. تنبيه: قال السمعاني: "هذه المسألة أوردها متكلمو الأصوليين، وليست بمعروفة بين الفقهاء، وليس فيها كبير فائدة، وقد وجد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا على ما وُجد" (2). ولسنا معه في قوله: "ليس فيها كبير فائدة". فإن معرفة المسلم للطرق التي تصدر بها الأحكام عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمر له خطورته.   (1) المعتمد لأبي الحسين البصري ص 890 (2) القواطع ق 289 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 المطلب الثاني أن يفعل بناء على عدم التكليف وهي مسألة العفو اختلف علماء الأصول في هذه المسألة المهمة على مذهبين: 1 - فمنهم من رأى أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال العباد، فلا يخلو فعل منها عن حكم شرعي "فما من عمل يُفرض، ولا حركة ولا سكون يدَّعى، إلاّ والشريعة حاكمة عليه إفراداً وتركيباً" (1). وقد أحاطت الشريعة بالأفعال إحاطة تامة، فلم يشذّ منها شيء. وممن قال بهذا الإمام الشافعيّ، وابن السمعانيّ. قال ابن السمعاني: "لا بد أن يكون لله تعالى في كل حادثة حكم، إما بتحليل أو بتحريم" (2) وفي موضع آخر: "إنا نعلم قطعاً أنه لا يجوز أن تخلو حادثة عن حكم لله تعالى منسوب إلى شريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. يبيّنه أنه لم يرد عن السلف الماضين أنهم أعروا واقعة عن بيان حكم فيها لله تعالى وتقدس. وقد استرسلوا في بثّ الأحكام استرسال واثق بانبساطها على جميع الوقائع. ولا يخفى على منصف أنهم ما كانوا يفتون فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى ما يعرى عن حكم وإلى ما لا يعرى عنه" (3). اهـ. 2 - ومنهم من يرى أن الشريعة جاءت بأحكام معينة في أفعال معينة، أراد الله عزّ وجل أن تكون تلك الأحكام هي الدين، وترك ما سوى تلك الأفعال   (1) الشاطبي في الموافقات 1/ 78 (2) القواطع ق 192 أ. (3) القواطع ق 239 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 المعينة، فلم يتعرّض له، لا بأمر ولا بنهي، ولا بتحليل ولا بتحريم، بل أبقاه على ما كان عليه قبل ورود الشريعة. وأفعال العباد على هذا قسمان: قسم فيه حكم شرعي، سواء أكان واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً، وقسم آخر خارج عن نطاق الشريعة، مغفل من حكم شرعي، وهو ما يسمى بالعفو. وقد توقف الشاطبي في إثبات مرتبة العفو ولم يرجح أحداً من المذهبين. وبعضهم يسلم ثبوت مرتبة العفو في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويمنعها بعده (1). وربما وسّع بعضهم معنى هذا المصطلح (العفو) ليشمل فعل المخطئ والناسي والمضطر ونحو ذلك. ونحن نقتصر على النوع الأول، إذ به يتعلق بحثنا هنا. أدلة المذهب الأول : يحتج للمذهب الأول بأدلة: 1 - لو لم تكن أفعال المكلفين بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف، لكان بعض المكلفين خارجاً عن حكم خطاب التكليف، ولو في وقت أو حالة ما. لكن ذلك باطل، لأنا فرضناه مكلفاً، فلا يصح خروجه. ويمكن إبطال هذا، بأنّا نمنع أن يكون العبد البالغ العاقل مكلفاً على الإطلاق، وإنما هو مكلّف بما كلّفه الله به، لا بما سكت عنه فلم يكلفه به. 2 - قول الله تعالى: {ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء}. وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} (2). وجه الاستدلال بالآية الأولى: أن الكتاب تبيان لكل شيء، وتدخل أفعال   (1) الشاطبي في الموافقات 1/ 167 (2) سورة المائدة: آية 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 العباد دخولاً أوليّاً. إذ إن ضبطها حسب أوامر الله، هو المقصود، الأول من نزول القرآن. فينبغي أن يكون في الكتاب بيان أحكامها جميعاً. ويمكن الجواب عن هذا، بأن الآية عامة لكل ما من شأنه أن يدخل فيها قال مجاهد: "تبياناً لكل شيء: للحلال والحرام" (1)، وهي واردة في شؤون الدين، كالآية الثانية. فما ليس من الدين خارج عن عمومهما. والفعل إذا لم يرد الله تعالى إنزال حكم فيه فهو خارج عن حكم الدين. أدلة المذهب الثاني : 1 - ورد في حديث سلمان الفارسي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الجبن والسمن والفراء، فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه. والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه" (2). 2 - وعن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال. وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً" (3). ثم تلا: {وما كان ربك نسياً}. وهذا نص في المسألة. وقال ابن عباس: "كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذُّراً. فبعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل كتابه، وأحلَّ حلاله، وحرم حرامه، فما أحلَّ فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو" (4). وتلا: {قل لا أجد في ما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه} إلى آخر الآية. 3 - وعن أبي ثعلبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها   (1) تفسير القرطبي 10/ 164 (2) أخرجه الترمذي والحاكم (الفتح الكبير) قال الترمذي (5/ 297) حديث غريب. وهو عند ابن ماجة 2/ 1117 (3) ذكره الشاطبي، ولم نجده في الأصول من حديث أبي الدرداء. (4) رواه أبو داود 10/ 273 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء من غير نسيان من ربكم، ولكن رحمة منه لكم، فاقبلوها ولا تبحثوا عنها" رواه الحاكم (1) والدارقطني (2). 4 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته" (3). ولهذا الحديث شاهد: ما ذكره الله في قصة بقرة بني إسرائيل حين أكثروا من السؤال فشدّد الله عليهم، فقد كان اللون خارجاً عن المحكوم فيه أصلاً، وإلاّ لم يؤاخذهم بالسؤال عنه. 5 - نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة السؤال، ولومه من فعل ذلك. ولو كان لكل شيء حكم شرعي لما كان السائل عنه ملوماً. ومما ورد من ذلك النهي: "ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" (4). رأينا في هذه المسألة : الذي نميل إليه صحة القول بمرتبة العفو، وأن أحكام الشريعة طائفة محدودة من الأحكام، سواء أكانت مستفادة بالنص، أو الاجتهاد البياني، أو القياس، أو غير ذلك. وما لم يدل عليه دليل صحيح، يكون خارجاً عن جملة الأحكام أصلاً والله أعلم وأحكم. وبناء على ذلك لا يمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل الشيء بناء على أنه لا حكم فيه من قبل الله تعالى. بل هو مسكوت عنه. وعلى هذا يحمل ما كان - صلى الله عليه وسلم - يفعله مما حرّمه الله بعد ذلك كالتبني، ولبس الذهب، وما أقرّ غيره عليه من ذلك كشرب الخمر.   (1) الجامع الصغير. (2) عبد الله دراز في تعليقه على الموافقات 1/ 162 (3) رواه مسلم 15/ 110 ورواه البخاري وأبو داود. (4) رواه مسلم 8/ 101 ورواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 تنبيه : إنه وإن كان القول بجواز كون أحكامه - صلى الله عليه وسلم - عن اجتهاد قياسي أو مصلحيّ حقّاً، وأن أفعاله كأقواله قد تكون صادرة عن ذلك النوع من الاجتهاد، إلاّ أنه يجب التنبّه إلى أن إرجاع فعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله إلى القرآن، وصدورهما عن فهمه - صلى الله عليه وسلم - للقرآن، هو أولى من اعتبارهما اجتهاداً مستقلاً. وحيث دار الفعل بين أن يكون دالاً على تشريع مستأنف، وبين أن يكون تأولاً للقرآن، فاعتباره تأولاً للقرآن أولى. والمسألة خلافية، فقد قال الزركشي: "إن السرخسي نقل عن الحنفية، أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو فعله، متى ورد موافقاً لما في القرآن يجعل صادراً عن القرآن، وبياناً لما فيه. قال: والشافعية يجعلونه بيان حكم مبتدأ حتى يقوم الدليل على خلافه ... لما في ذلك من زيادة الفائدة" (1). إلاّ أن قول الحنفية يترجح بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوثاً في الأصل لبيان القرآن والعمل به.   (1) البحر المحيط 2/ 252 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 المبحث الثاني أحكام الأفعال النبوية البحث في هذه المسألة يتفرع فرعين : الأول: أحكام الأفعال التي يكلّف بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي قبل صدورها عنه. الثاني: أحكام الأفعال التي صدرت منه. أعني ما يحكم به على الفعل بعد صدوره عنه - صلى الله عليه وسلم -. فنخصّ كل فرع منهما بمطلب. المطلب الأول ما يكلّف به النبي صلى الله عليه وسلم من الأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر من خلق الله، وعبد من عباد الله، مكلّف كغيره من المكلّفين. فهو مطالب بأفعال يفعلها، على وجه الحتم والإلزام، وتلك هي الواجبات. وأفعال مطلوبة منه لا على وجه الإلزام، وتلك هي المستحبات. ومطالب بأن يترك حتماً أموراً معينة وتلك هي المحرّمات، وأن يترك، لا على وجه الحتم، أموراً، وتلك هي المكروهات. وجعل له الخيار في أمور أخرى أن يفعلها أو لا يفعلها، وهي ما أبيح شرعاً. ثم قد يوجه التكليف إلى الناس عامة، أو المؤمنين عامة، فيدخل فيه - صلى الله عليه وسلم -. وذلك كقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 لعلكم تتقون} (1) وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا} (2). وقد يوجه التكليف إليه - صلى الله عليه وسلم - بالتعيين، كقوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً * واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيراً} (3). الفرض والواجب، والحرام والمكروه، عند الحنفية، ومدى انطباقه على التكاليف النبوية : من المعلوم أن الحنفية يفرقون بين الفرض والواجب: فالفرض عندهم ما كان دليل التكليف به قطعياً. والواجب ما كان في دليله اضطراب. ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه الوحي من الله بطريق لا يشك فيه، لأنه كما قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} (4) فيأتيه الوحي مباشرة كالتكليم وحياً، أو من وراء حجاب، أو بسند هو رواية جبريل الأمين عن ربه عزّ وجل. فليس في الطريق شبهة، ومن أجل ذلك قال بعض الحنفية إن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التي هو مكلّف بها حتماً، كلها من قبيل الفرض، وليس فيها من المسمّى (واجباً) في اصطلاحهم شيء. ولكن البزدوي والسرخسي يثبتان الواجب مع الفرض. يقول البزدوي: "باب أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهي أربعة أقسام: مباح، ومستحب، وواجب، وفرض" (5). وقال شارحه البخاري: "الشيخ (يعني البزدوي) وشمس الأئمة   (1) سورة البقرة: آية 21 (2) سورة المائدة: آية 87. (3) سورة الأحزاب: آية 1، 2 (4) سورة الشورى: آية 51 (5) أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار للبخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 (يعني السرخسي) قسما أفعاله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أقسام. والقاضي الإمام (1)، وسائر الأصوليين قسموها ثلاثة: واجب ومستحب ومباح. وأرادوا بالواجب الفرض. وهذا أقرب إلى الصواب، لأن الواجب الاصطلاحي ما ثبت بدليل فيه اضطراب، ولا يتصور ذلك في حقه - صلى الله عليه وسلم -، لأن الدلائل الموجبة في حقه كلها قطعيّة". هذا ما قال. ولكن بتدقيق النظر يتبين أن كلام الإمامين البزدوي والسرخسي صواب. وذلك أنهم يثبتون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متعبّداً بالاجتهاد، وأن اجتهاده قد يداخله الخطأ (2)، كما تقدم. وهم وإن قالوا إنه لا يقرّ عليه، إلاّ أنه - صلى الله عليه وسلم - عندما يقدم على الفعل باجتهاد، يقدم عليه بدليل ظنّيّ هو القياس. وشبهة الخطأ في القياس قائمة، بدليل أن الخطأ وقع فعلاً، كما قد أثبتوا ذلك. فهذا يبينّ أن ما ذهب إليه البزدوي والسرخسي صحيح ثابت، وأن ما رجحه البخاري مرجوح. أقول: وينبغي أن يقال مثل هذا القول على مذهب الحنفية، في المحرّم والمكروه. فما كُلِّف - صلى الله عليه وسلم - بتركه حتماً نصاً فهو محرم، وما رأى اجتهاداً منه أنه مكلف بتركه، فهو مكروه كراهة تحريم. فإذا أُقر عليه تبين أنه محرم. والله أعلم. انحصار أفعاله صلى الله عليه وسلم في الواجب والمحرم، من جهة منصب البيان : ذكر الشاطبي (3) أن القائم في مقام البيان عن الشريعة له في أفعاله وأقواله اعتباران: أحدهما: من حيث إنه واحد من المكلفين، ينقسم حكم فعله إلى الأحكام الخمسة وهذا ما قدمنا ذكره في المسائل السابقة من هذا المبحث. والثاني: من حيث إن أفعاله وأحواله صارت بياناً وتقريراً لما شرع الله عزّ   (1) لعله يعني أبا زيد الدبوسي. (2) انظر تيسير التحرير 4/ 184 (3) الموافقات 3/ 318 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وجل إذ انتصب في هذا المقام. فالأفعال في حقه، إما واجب، وإما محرم، ولا ثالث لهما، لأنه من هذه الجهة واجب، والبيان واجب لا غير. فيجب أن يفعل ما بيانه بالفعل. ويجب أن يترك ما بيانه بالترك، ولو كان ما يفعله أو يتركه غير واجب على الرجل العادي، إلاّ أنه على المبيِّن يجب. ولكن هذا إنما يتعين حيث تظهر الحاجة إلى البيان، وذلك في حالين: الأولى: عند جهل المشاهد للفعل بحكم الفعل (مع لزوم الفعل له). والثانية: عند اعتقاد خلاف الحكم، أو مظِنّة اعتقاد خلافه. ومثاله أن يجهل قوم الحديثَ الوارد في الندب إلى التطوع قبل صلاة المغرب بعد الأذان، ويستنكروا ذلك. فعلى المبين أن يفعل ذلك، ليحصل البيان، لأن البيان في حقه واجب. ولعلّ من هذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ طلب أن يَطْعَم من غير صيد غير المحرم، وطلب أن يَطْعَم من الجعل الذي أخذوه على الرقية. قياماً بواجب البيان. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 المطلب الثاني أحكام الأفعال الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل، احتمل بحسب الأصل أن يكون فعله على سبيل الوجوب، أو على سبيل الندب، أو على سبيل الإباحة، ولا إشكال في شيء من هذه الثلاثة. ويبقى القول في مقامين: الأول: هل يمكن أن يكون بعض الأفعال الصادرة عنه - صلى الله عليه وسلم - محرمة، وقد فعلها عمداً، أو خطأ، أن نسياناً، أو على نحو ذلك من الطرق؟ وهي المسألة التي تُعَنْوَنُ عادة بمسألة العصمة. الثاني: هل يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حكمه الكراهة؟. المقام الأول عصمة الأنبياء عن المحرمات أصل البحث يقتضي أن يكون عنوان هذه المسألة (عصمة محمد - صلى الله عليه وسلم -)، غير أننا أثرنا بحثها نحو عنوان (عصمة الأنبياء) لأن الأنبياء صلى الله عليهم جميعاً في هذه المسألة سواء. وتبحث هذه المسألة أصلاً في كتب العقائد، لأنها في ما يجب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجوز له، ويحرم عليه، بمقتضى النبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ويذكرها الأصوليون في أوائل مباحث السنة، فعل ذلك ابن الهمام، وقال: إن ذلك من عادة الأصوليين من غير الحنفية (1). ومنهم من ذكرها في بحث الأفعال النبوية من السنة، كما فعل البيضاوي في منهاجه (2)، إذ جعلها أولى مسائل بحث الأفعال النبوية. وقال الأسنوي شارحه: "وهي مقدمة لما بعدها، لأن الاستدلال بأفعالهم متوقف على عصمتهم". وفعل ذلك الزركشي في البحر المحيط (3)، وقال: القسم الثاني -من السنة- الأفعال، وعادتهم يقدمون عليها الكلام على العصمة، لأجل أنه ينبني عليها وجوب التأسي بأفعاله. اهـ. وفعله الغزالي في المنخول والمستصفى. ونحن نرى أن مسألة العصمة ينبغي إذا ذكرت في الكتب الأصولية الشاملة؛ أن تذكر في أول مباحث السنة، إذ أن تعلقها إنما هو بالسنة بصفتها الشاملة للقول والفعل، لا بالفعل على وجه الخصوص. وإنما نذكرها نحن في قسم الأفعال لأنه أحد نوعي السنة، لا لاختصاصها به. العصمة في اللغة والاصطلاح : العصمة في اللغة اسم مصدر عصم، وهي بمعنى: المنع، كذا في (لسان العرب). وفي (القاموس) عصم: منع ووقى. أقول: ولعلها بمعنى المنع المضمن معنى الوقاية، على ما تدل عليه استعمالاتها المختلفة؛ فليس كل منع عصمة، وإنما العصمة أن تمنع الشيء أن يلحقه الضرر. قال الله تعالى: {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (4) وقال: {ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم} (5) أي يتمسك بحبله وهداه خشية الانحراف، كما قال الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (6) وتقول العرب: اعتصم بالفرس، إذا أمسك بعرفه حين يخشى السقوط. وقال الزجاج:   (1) تيسير التحرير 3/ 20 (2) 2/ 53 (3) 2/ 245 أ. (4) سورة هود: آية 43 (5) سورة آل عمران: آية 101 (6) سورة آل عمران: آية 103 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 أصل العصمة الحبل، وكل ما أمسك شيئاً فقد عصمه. وتقول العرب: عصام القِربة، وعصام الإناء. فالعصام: الحبل أو الحلقة التي يعلّق بها الشيء فلا يسقط. أما في الاصطلاح، فالعصمة: منع الله عبده من السقوط في القبيح من الذنوب والأخطاء ونحو ذلك، وهو المعنى المراد في هذا المبحث. هذا، وتستعمل العصمة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى آخر وهو أنه تعالى عصمه من أن يصل إليه أذى الناس، لأجل أن يتمكن من إبلاغ دعوته. ففي الحديث أن عائشة قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس، حتى نزلت هذه الآية: {والله يعصمك من الناس} (1) فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبّة، فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله" (2). وسيأتي لهذا المعنى مزيد بسط في أواخر مسألة العصمة. والعصمة بهذا المعنى، خارجة عن المعنى الاصطلاحي للعصمة، الذي قدمنا ذكره، كما لا يخفى. حقيقة العصمة : اختلف علماء الكلام وعلماء الأصول في حقيقة العصمة، على أقوال (3). 1 - قيل: المعصوم من لا يمكنه الإتيان بالمعصية. وأصحاب هذا القول على طريقتين: أ- فقيل: حقيقة العصمة أن يختص المعصوم في نفسه أو بدنه بخاصّيّة تقتضي امتناع إقدامه على المعصية. وهذا القول في حقيقة العصمة مردود، إذ لوكان الذنب من المعصوم ممتنعاً   (1) رواه الترمذي 8/ 411 وقال في الشرح: قال الحافظ (ابن حجر) إسناده حسن وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير والحاكم في مستدركه. (2) سورة المائدة: آية 67 (3) انظر إرشاد الفحول ص 34 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لما استحق المدح بترك الذنب، ولزال تكليفه، إذ لا تكليف بما لا يطاق، ولا ثواب عليه (1). ب- وقيل: ليس العصمة أن يكون في نفس المعصوم أو بدنه خاصّيّة ليست في غير المعصوم، ولكن العصمة القدرة على الطاعة، وعدم القدرة على المعصية. وهذا قول الأشعري (2). ومعناه إما أن الله يسلب من المعصوم القدرة على المعصية، فمفهوم العصمة على هذا عدمي. أو يخلق مانعاً يمنع العبد من المعصية، ومفهومها على هذا وجودي (3). 2 - وقيل المعصوم يمكنه الإتيان بالمعصية، ولكن الله يمنعه منها باللطف، بصرف دواعي المعصوم عن المعصية، بما يلهمه إياه من رغبة ورهبة، وكمال معرفة، كالتحقيق بقوله تعالى: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} (4). وهذا قول المعتزلة. واللطيف عند المعتزلة هو: "كل ما يختار المرء عنده الواجب، ويجتنب القبيح" أو"ما يكون العبد عنده أقرب إلى اختيار الواجب، أو ترك القبيح، مع تمكنه من الفعل في الحالين" (5). واللطف عندهم يسمى توفيقاً، أو عصمة؛ فإذا وافق اللطفُ فِعْلَ الطاعة يقال له توفيق، وإذا وافق اجتناب القبيح يسمى عصمة (6). العصمة هل هي جائزة أو واجبة؟ واضح من تعريف العصمة أن كل من وقي الوقوع في الذنب فقد عُصم منه. وفي حديث البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما استُخلفَ خليفةٌ إلّا كان له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضّه عليه،   (1) عضد الدين الإيجي: المواقف، وشرحه للشريف الجرجاني 8/ 281 (2) البحر المحيط للزركشي 2/ 246ب. (3) تيسير التحرير 3/ 30 (4) سورة الأنعام: آية 15 (5) د. عبد الكريم عثمان: نظرية التكليف، ص 388، نقلاً عن المغني لعبد الجبار 13/ 93. (6) المصدر نفسه ص 387 نقلاً عن المغني لعبد الجبار 20/ 230 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وبطانة تأمره بالشرّ وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله" (1). فالعصمة أصلاً في حق البشر بطريق الجواز. والخلاف الواقع بين الأمة في عصمة الأنبياء إنما هو في وجوبها أو عدم وجوبها. لمحة عن تاريخ القول بعصمة الأنبياء : لسنا نجد في القرآن العظيم بياناً لعصمة الأنبياء بطريق النص، وقد ذكر الرازي في كتابه (عصمة الأنبياء) اثنتي عشرة آية، رأى أنها دالة على عصمتهم. ودلالتها عنده هي بطريق اللزوم، لا بطريق النص، كما هو واضح من استقرائها في كتابه المذكور، وكما سيأتي إيضاحه إن شاء الله. والسنة كذلك فيها إشارات ليست نصوصاً. ومن أصرح ما ورد في ذلك ما في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما منكم من أحد إلاّ وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة". قالوا: وإياك؟ قال: "وإياي، إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلاّ بخير" (2) ومن أقوال الصحابة، ما في مسند أحمد، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قال في أول خطبة له بعد توليه الخلافة: "لئن أخذتموني بسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ما أطيقها، إن كان لمعصوماً من الشيطان، وإن كان لينزل عليه الوحي من السماء" (3). وذُكِر أن أول من ألّف في العصمة (الشريف) المرتضى، وكان من كبار دعاة الإمامية. فقد ألّف كتابه (تنزيه الأنبياء) قال فيه بعصمة الأنبياء، وأضاف إلى ذلك أن أوجب العصمة لأئمة الشيعة. بل يرى بعض الكاتبين أنه اتخذ القول بعصمة الأنبياء سلماً للقول بعصمة (الأوصياء) كما ادّعاه. ثم ألّف الرازي، وهو محمد بن عمر بن الحسين، المتكلم الأصولي الشهير، (543 - 606هـ) كتابه الآنف الذكر (عصمة الأنبياء) (4) الذي أصبح   (1) 11/ 501 (2) رواه أحمد ومسلم (الفتح الكبير). (3) قال أحمد محمد شاكر: إسناده حسن. (4) كتاب (عصمة الأنبياء)، طبعته إداره الطباعة المنيرية بالقاهرة عام 1355 هـ وقدم له وعلق عليه محمد منير الدمشقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 عمدة الأكثرين بعده في تقرير المسألة والاستدلال لها. وقد صنف مباحث المسألة. وذكر أقوال العلماء فيها، واختار عصمة الأنبياء في زمان نبوتهم، لا قبلها، عن تعمّد الكبائر والصغائر. وأجاز صدورها عنهم سهواً. وذكر الأدلة ، ثم تتبّع قصص الأنبياء، وتأوَّل ما ظاهره صدور الذنب عنهم مما ذكره الله تعالى في قصصهم. مذاهب العلماء في العصمة إجمالا ً: 1 - الشيعة الإمامية غالت في إثبات عصمة الأنبياء، حتى منعوا صدور المخالفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة وبعدها، كبيرة كانت المخالفة أو صغيرة، عمداً كانت أو سهواً (1). ونقل البعض أن ابن أبي الحديد، من الشيعة الإمامية، شارح (نهج البلاغة)، مال إلى الاعتدال، فأجاز صدور الذنب سهواً أو نسياناً ولا يقرّ عليه (2). ويظهر أن الشيعة الزيدية لم يوافقوا الإمامية على ما ذهبوا إليه (3). 2 - وأكثر المعتزلة يوافق الشيعة في مذهبهم، إلّا في الصغائر غير المُسَخِّفَة قبل البعثة وبعدها، والكذب صغيره وكبيره، والسهو في ما يؤدونه. ولخّص أبو الحسين البصري ما يمتنع عليهم بقوله: "لا يجوز عليهم ما يؤثر في الأداء، ولا ما يؤثر في التعليم، ولا في القبول" (4). وفصّل ما ذكرنا. 3 - المتكلمون ومنهم الآمدي والرازي والباقلاني (5) وبعض المعتزلة وغيره، قالوا إنهم لا يمتنع عليهم قبل النبوة الكبائر ولا الصغائر، قال الأمدي: بل ولا يمتنع عقلاً إرسال من أسلم وآمن بعد كفره.   (1) الآمدي 1/ 242 (2) وهبه الزحيلي "عصمة الأنبياء" مقالة في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، أي شبه؟ سنة 1395 هـ ص 25 (3) المصدر السابق. وانظر هداية العقول. (4) أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 370 (5) قال ابن حزم في (الفصل 4/ 2) "وأما هذا الباقلاني، فإنا قد رأينا في كتاب صاحبه أبي= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أما بعد النبوة، فقد قالوا إن الأنبياء معصومون عن تعمّد كل ما يخلّ بصدقهم، فيما دلّت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن الله تعالى. أما بطريق الخطأ والنسيان فقد اختلفوا فيه. وجوزه الباقلاني، ومال إليه الآمدي. وأما الكفر فقد منعوه عمداً وسهواً. وأما المعاصي الكبائر وصغائر الخِسّة فقد منعوها عمداً وجوزوها سهواً. كما جوزوا الصغائر على سبيل الندرة (1) ولو عمداً. ومنهم من منع ذلك كله، ومن أولئك السبكي وابنه، والإسفرائيني والشهرستاني، والقاضي عياض (2). بل إن القاضي عياض وافق الشيعة الإمامية في دعوى العصمة قبل النبوة، والعصمة بعد النبوة من الصغائر ولو سهواً (3). 4 - والخوارج نقل الآمدي عن الأزارقة منهم أنهم أجازوا بعثة نبي يعلم الله أنه يكفر بعد نبوته. والفُضَيْليّة منهم أجازوا صدور الذنوب عن الأنبياء، وكل ذنب فهو عندهم كفر. وبذلك يكونون قد أجازوا صدور الكفر عنهم. 5 - وأما أهل الحديث، فينقل الكاتبون في الأصول عنهم وعن الكرّامية، أنهم أجازوا صدور الكبائر عن الأنبياء عمداً. وابن تيمية ينقل "إن عصمتهم في ما   =جعفر السمناني قاضي الموصل، أنه كان يقول: "كل ذنب، دق أو جل، فإنه جائز على الرسل، حاش الكذب في التبليغ فقط". قال: "وجائز عليهم أن يكفروا" قال: "وإذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، ثم فعله، فليس ذلك دليلًا على أن ذلك النهي قد نسخ، لأنه قد يفعله عاصياً لله عز وجل" قال: "وليس لأصحابه أن ينكروا عليه ذلك". اهـ. فإن كانت هذه النقول عن الباقلاني نفسه، فهي رواية أخرى تخالف ما يتناوله الأصوليين من مذهبه. (1) انظر الآمدي 1/ 243، 244 (2) ابن السبكي والمحلي: جمع الجوامع وشرحه 2/ 95 والقاضي عياض: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى ط القاهرة، محمد علي صبيح 2/ 115 (3) الشفاء 2/ 140 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 يبلّغونه عن الله تعالى ثابتة باتفاق الأمة" (1). وقال في موضع آخر: "النبي معصوم في ما يبلغه عن الله تعالى، فلا يستقرّ خطأ في المبلغ" وأما فيما يتعلق بالذنوب فليسوا عنده معصومين عن صدورها منهم، ولكن هم معصومون من الإقرار على الذنب، بل يُنَبِّهون أو يتوبون (2) وظاهر قوله هذا أنه يجيز صدور الذنب منهم كبيراً كان أو صغيراً عمداً وسهواً. فلا عصمة عنده للنبي عن صدور الذنب والمخالفةِ منه، وإنما العصمة عن استمراره على الذنب دون توبة، وعن استقرار ما يؤديه من الشريعة على الخطأ. 6 - وأما الظاهريّة، فإن ابن حزم ترك ظاهريّته هنا، وقال بعصمة الأنبياء بعد النبوة عن كل ذنب صغير أو كبير عمداً، ولم يمنع أن يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - ذلك سهواً عن غير قصد. والتزم أنهم لا يُقرُّون على ذلك، بل ينبههم الله تعالى عليه ولا بدّ، إثر وقوعه منهم، ويظهر ذلك لعباده ويبيّن لهم (3). الأدلة : لن نستعرض بالتفصيل أدلة القائلين بالعصمة، وأدلة مخالفيهم، وسنكتفي بعرض الأدلة إجمالاً، ونضرب لها بعض أمثلة تتبين بها طريقة كل طائفة في الاستدلال لما تقول. ونختار ما نراه أرجح. سائلين الله تعالى التوفيق والعصمة. أولاً: أدلة القائلين بالعصمة عن صدور الذنوب عن الأنبياء: 1 - آيات قرآنية، من مثل قوله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} والعاصي ظالم، فلو عصى النبي - صلى الله عليه وسلم - لتوجه إليه حكم الآية. واعتقاد ذلك في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر. وقوله: {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} فلو صدرت   (1) مجموعة فتاوى ابن تيمية، القاهرة، مطبعة كردستان العلمية 2/ 283 وأيضاً: منهاج السنة 1/ 130 (2) الفتاوى الكبرى لابن تيمية. ط الرياض 10/ 290 (3) ابن حزم: الفصل في الملل والنحل 4/ 2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 عنهم الذنوب كانوا من حزب الشيطان ولكان من قال الله فيهم: {ألا إن حزب الله هم المفلحون} من العباد والصلحاء، خيراً من الأنبياء. وذلك باطل. ويناقش ابن تيمية مثل هذا الاستدلال، بأن الظالم هو من أصرّ على الذنب ولم يتب منه، أما من وقع منه فبادر إلى التوبة والإنابة إلى الله، فلعله يكون خيراً ممن لم يقع منه الذنب أصلاً (1). قال: "وفي الأثر: كان داود بعد التوبة، خيراً منه قبل الخطيئة" (2). فلم يذكر الله تعالى عن نبي ذنباً إلاّ مقروناً بتوبة واستغفار (3). 2 - أنّا مأمورون بالتأسّي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بقوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} ونحو ذلك من الآيات. فلو صدر تعمّد المخالفة أو الغلط أو النسيان عنه لكنا مأمورين بالاقتداء به فيه، وهذا لا يجوز. فثبت استحالة صدور المعصية عنه (4). ونوقش هذا الدليل بأنه لا يُنتج إلاّ منع استقرار الشرع على غير الوجه الصحيح. قال ابن تيمية: "حجة التأسيّ بالأنبياء صلوات الله عليهم لا تنتج منع الذنب، ولكن منع الإقرار عليه". قال: "المختار أن العصمة ثابتة عن الإقرار على الذنوب مطلقاً. والحجج العقلية والنقلية تنتج هذا لا غير" (5). وقال أيضاً: "إن هؤلاء من أعظم حججهم ما اعتمده القاضي عياض وغيره حيث قالوا: نحن مأمورون بالتأسيّ بهم في الأفعال، وتجويز ذلك يقدح في التأسيّ. فأجيبوا بأن التأسي هو فيما أُقِرّوا عليه، كما أن النسخ جائز في ما يبلّغونه من الأمر والنهي، وليس ذلك مانعاً من وجوب الطاعة، لأن الطاعة تجب في ما لم ينسخ. فعدم النسخ يقرر الحكم، وعدم الإنكار يقرر الفعل، والأصل عدم كل منهما" (6). اهـ.   (1) الفتاوى الكبرى ط الرياض. 10/ 293 - 295 (2) منهاج السنة. (3) الفتاوى الكبرى ط الرياض 10/ 296 (4) الرازي: عصمة الأنبياء ص 5، وعياض: الشفاء. (5) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى 10/ 293 (6) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى 15/ 149 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وقال الشيخ محمد خليل هرّاس: "الواجب أن نستحي من الله أن نقول ما يخالف كلام الله عز وجل. وما وقع من الرسل من مخالفات قليلة جداً في أعمارهم الطويلة أدّى إليها أحياناً غلبة طبع أو نسيان بمقتضى أنهم بشر، لا يمكن أن يغض من أقدارهم، ولا أن يخرجهم عن منصب القدوة التي جعلها الله لهم" (1). ونوقش هذا الدليل أيضاً مع من أجاز صدور المعصية الكبيرة نسياناً أو سهواً أو الصغيرة عمداً وسهواً، بأنا مأمورون بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في صغير أعماله وكبيرها. فلما لم يقتض دليل الاقتداء منع النسيان والسهو والصغيرة، فكذلك لا يقتضي منع صدور الكبيرة عمداً. وإنما يقتضي الدليل منع الإقرار على الكل كما تقدم. وقد أجاب أبو هاشم الجبائي عن هذا الاستدلال بقوله: "إن التأسيّ بالعاصى قد يكون طاعة". كالذاهب إلى الكنيسة للكفر، يتأسىّ به من يمضي معه لمطالبة غريم واسترجاع وديعة. وهذا الجواب غير مرضي، وقد ردّه أبو عبد الله البصري بأن: "المتأسّي بغيره لا يكون متأسّياً في جنس الفعل، وإنما يكون كذلك بأن يفعله على الوجه الذي فعل". يعني بالوجه: غرضه من الفعل. وقد رجّح القاضي عبد الجبار طريقة شيخه أبي عبد الله البصري (2). وهو الصواب. أقول: والعجب من الرازي أنه جعل الحاجة إلى التأسي به - صلى الله عليه وسلم - دليل عصمته، ولكنه في باب الأفعال النبوية من كتابه المشهور (المحصول) توقف في مسألة التأسّي بها، ورأى أنه غير لازم (3). لاحتمالها الخصوصية - ما لم يبيِّن لنا بالقول أن الفعل المعيّن مقصود به التأسِّي. وهذا تناقض من الرازي، عفا الله عنا وعنه.   (1) تعليقه على الخصائص الكبرى السيوطي 3/ 336 (2) عبد الجبار: المغني 15/ 286 (3) المحصول للرازي ق 48 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 3 - دليل التنفير: وهو دليل عقلي. وهو عمدة المعتزلة: قالوا: كلّ ما ينفر عن القبول من النبي - صلى الله عليه وسلم -، من الكذب فيما يؤديه وفي غير ما يؤديه، والكبائر، وصغائر الخسة ونحو ذلك، فيجب أن يكون معصوماً منه، لا يصدر عنه. ويكون لذلك معصوماً من الفظاظة والغلظة، وحتى عن كثير من المباحات القادحة في التعظيم. ويدخل فيه قول الشعر والكتابة، إذ كانت معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - الفصاحة، والإخبار عن الغيوب (1). وقد ناقش الغزالي الاستدلال بالتنفير على العصمة، بقوله: "لا يجب عندنا عصمتهم من جميع ما ينفرّ، فقد كانت الحرب سِجالاً بينه وبين الكفار، مع أنه حُفظ عن الخطّ والكتاب لئلا يرتاب المبطلون. وقد ارتاب جماعة بسبب النسخ، وجماعة بسبب الآيات المتشابهات" (2). اهـ. وناقشه أيضاً صاحب (التحرير) (3) في ما قبل البعث بقوله: "بعد صفاء السريرة، وحسن السيرة، ينعكس حالهم في القلوب (أي إلى التعظيم والإجلال) ويؤكده دلالة المعجزة، والمشاهدة واقعة به في آحاد انقادَ الخلق إلى إجلالهم، بعد العلم بما كانوا عليه. فلا معنى لإنكاره" اهـ. فالحق أن دليل التنفير غير قائم، ولا يصح الاعتماد عليه في هذه المسألة. 4 - دليل الإجماع: قالوا: أجمعت الأمة على عصمة الأنبياء. ولكن الأصوليين وغيرهم اختلفوا فيما ادّعوا الإجماع عليه من ذلك، فالقاضي عياض ذكر الإجماع على عصمتهم. 1 - في العقيدة. و2 - في الأقوال البلاغية، عن العمد والسهو والنسيان والغلط وغير ذلك. و3 - من الخُلف في الأقوال الدينية عمداً وسهواً. و4 - من الذنوب الكبائر. والرازي أنكر الإجماع فيها إذا كان سبيله السهو والغلط، دون العمد. وادّعى   (1) أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 371 (2) المستصفى 2/ 49 (3) 3/ 20 و21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الإجماع على العصمة من تعمد الصغائر والكبائر. كما حكى عمّن سمّاهم (الحشْويّة) -ولعلّه يقصد أصحاب الحديث- إجازتهم صدور الكبائر سهواً وعمداً. وحكى عن الفُضَيْليَّة جواز صدور الكفر عنهم. وأيضاً حكى الزركشي في البحر المحيط، عن مالك وعن ابن السمعاني، صحة وقوع الصغائر منهم. وتُتدارك بالتوبة (1). وابن تيمية حكى الإجماع، ولكن جعله إجماعاً على امتناع إقرار الأنبياء على الذنوب، وعلى امتناع استقرار الخلف في التبليغ، دون ما سوى ذلك. وهكذا نرى أن ما يتحقق فيه الإجماع هو العصمة من الإقرار على الذنوب الكبائر المتعمدة، ومن استقرار الخلف في التبليغ. 5 - دليل اقتضاء المعجزة للعصمة: وهو دليل عقلي. وبه أخذ ابن فُورَك والغزالي، فيما خالف مقتضى المعجزة. قال الغزالي: "كل ما يناقض مدلول المعجزة فهو محال عليهم بطريق العقل. ويناقض مدلول المعجزة جواز الكفر، والجهل بالله تعالى، وكتمان رسالة الله، والكذب والخطأ والغلط فيما يبلغ، والتقصير في التبليغ، والجهل بتفاصيل الشرع الذي أمر بالدعوة إليه". قال: "أما ما يرجع إلى مقارفة الذنب فيما يخصه، ولا يتعلق بالرسالة، فلا يدلّ على عصمتهم منه دليل العقل، بل دليل التوقيف والإجماع" (2) اهـ. إذن فدلالة المعجزة على العصمة دلالة صحيحة، ولكنها دلالة محدودة بدعوى الرسالة وما وقع عليه التحدي، وما يستقر في الشرع مما يبلغه - صلى الله عليه وسلم - بقوله أو فعله، دون سائر الأقوال والأفعال. 6 - دليل عقلي: إن الذنوب تنافي الكمال، وأن الأنبياء لكرامتهم على الله لا يصدر عنهم ذنب (3).   (1) البحر المحيط 2/ 246 أ. (2) المستصفى 2/ 49 (3) جمع الجوامع 2/ 95 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ونوقش هذا بأن التوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه (1). ثانياً: أدلة القائلين بإمكان صدور المخالفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: 1 - استدلوا لذلك بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من نسبة (العصيان) و (الذنوب) و (الظلم) إلى بعض الأنبياء. ومن ذلك قوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} (2)، وقوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (3). وقال عن آدم وزوجه: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} (4) وعن يونس أنه قال: {سبحانك إني كنت من الظالمين} (5) ونحو ذلك من الآيات. 2 - وقالوا: حذّر الله أنبياءه من الوقوع في الشرك والمعاصي بنحو قوله عزّ وجل: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (6)، وقال: {ولولا أن ثَبَّتناكَ لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} (7). 3 - قالوا: فلو كان لا يتصور أن يقع منهم الذنب، لما كان لهذا التحذير معنى. وذكر الله في قصص أنبيائه، في مواضع كثيرة جداً، وقوع الذنوب منهم. ولكن الله عزّ وجل لا يذكر عن نبي ذنباً إلا أتبعه بذكر توبة النبي منه، أو تذكيره، وتنبيهه إلى ذلك كما في قصة آدم من الشجرة، وطلب نوح نجاة ابنه، وفي مغاضبة   (1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، طبعة كردستان العلمية 2/ 283 ونقله الشيخ عبد الجليل عيسى في: اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص 43 وما بعدها. (2) سورة طه: آية 121 (3) سورة الفتح: آية 2 (4) سورة الأعراف: آية 23 (5) سورة الأنبياء: آية 87 (6) سورة الزمر: آية 65 (7) سورة الإسراء: آية 75، 76 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 يونس، وقتل موسى للقبطي، وقصة داود مع الخصم الذين تسوروا المحراب، وقوله تعالى في قصة ابن أم مكتوم: {عبس وتولّى * أن جاءه الأعمى} الآيات. في أمثال ذلك، مما كان فيه التعليم للنبي، الذي وقعت منه المعصية، وضرب المثل لغيره من البشر، حتى يكون قدوة في المسارعة إلى الخيرات، والتباعد عن المعاصي، بعد تعليم الله له، والمسارعة إلى التوبة من المخالفات، والتحصُّن من أسبابها المؤدية إليها. يقول محمد قطب في مجال حديثه عن التربية بالقصة: "يستعرض (القرآن) في حق الأنبياء، بعض مظاهر الضعف البشري. ولكن ليس الاحتفال فيها بنقطة الضعف، ولكن بالإنابة منها إلى الله. يعرضها القرآن دون مداراة على أصحابها ... ولكنه لا يصنع منها بطولة، لأنها في الحقيقة ليست كذلك ... وقصة آدم من ذلك ... إنها لحظة ضعف، أصابت آدم، فنسي نفسه، وعهده مع ربه، وجنح إلى شهوة من شهوات نفسه، فاستزلّه الشيطان منها، وقاده من مقودها" (1). 4 - قالوا: وفي السنة مواضع تدل على ذلك، منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أم سليم أما تعلمين أني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن تجعلها له طهوراً، وزكاةً وقربةً تقرِّبه بها منك يوم القيامة" (2). ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته قام في أصحابه على المنبر فقال: "أما بعد، أيها الناس، إنه قد دنا مني خفوقٌ مِنْ بَينْ أظهركم، ألا فمن كنت جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليَسْتَقِدْ منه، ومن كنتُ أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقدْ. ولا يقولَنَّ قائل: أخافُ الشحناءَ من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنها ليست من شأني" (3).   (1) منهج التربية الإسلامية ص 241 (2) رواه أحمد ومسلم (الفتح الكبير 3/ 379). (3) أخرجه ابن سعد وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وأبو نعيم من حديث الفضل بن العباس (الخصائص الكبرى 3/ 378). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ومعلوم أن ذلك كله لو كان بحق، فلا قود، ولا وفاء فيه. ولا يجوز أن يُظَنَّ أن ذلك القول منه - صلى الله عليه وسلم - تخييل، لمجرد التعليم، لأن التخييل يؤدي إلى اعتقاد خلاف الحق. وقد نوقشت هذه الأدلة وأمثالها مناقشات طويلة، حفلت بها كتب التفسير، وكتب شروح الحديث، والشمائل، والخصائص، وكتب العقائد، وكتب الأصول. وقد أخذت هذه المناقشات من علماء طوائف الملة جهوداً كبيرة. وقد اعتنى بها الرازي في كتابه عن العصمة، وعياض في الشفاء (1)، والعضد في المواقف (2)، وغيرهم، واستعرضوا الآيات والأحاديث الدالة على إمكان وقوع الذنوب من الأنبياء، والآيات والأحاديث الدالّة على أنها وقعت فعلاً. ثم شرعوا في تأويلها وبيان احتمالات يمكن صرف الكلام إليها. ووفِّقوا في بعض ذلك، ولكن كان كثير من تأويلهم متكلّفاً بعيداً، يغلب عند القارئ لكتاب الله أنه لم يُرَد أصلاً، وأنه لو أُريد لما كان الكتاب والسنة بياناً، بل كانا يكونان تعمية عن الحقّ، وإيهاماً لخلافه. ومن أمثلة ذلك ما قال الرازي في قوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} عصى بكونه تاركاً للمندوب. وفي إخراج آدم من الجنة بسبب معصيته قال: ليس في الآية إلا أنه أُخرج من الجنة عند إقدامه على هذا الفعل، أو لأجل إقدامه على هذا الفعل، وذلك لا يدل على أن ذلك الإخراج كان على سبيل التنكيل. وقال في قصة قتل موسى القبطي، وقوله: {هذا من عمل الشيطان}، قال: يحتمل أن المراد: عمل المقتول من عمل الشيطان. وفي قول موسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له} اغفر لي: أي اقبل مني هذه الطاعة. وقال في قول هارون لأخيه: {لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} أخذ برأس   (1) 2/ 149 - 169 (2) 8/ 268 - 280 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أخيه ليدنيه فيتفحص كيف الواقعة، فخاف هارون أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له، فقال إشفاقاً على موسى عليه السلام: {لا تأخذ بلحيتي} لئلا يظن القوم بك ما لا يليق. وقال في قوله تعالى: {ووجدك ضالاًّ فهدى} يحتمل المراد: ضالاً عن المعيشة وطريق الكسب. أو: وجدك ضالاً في زمان الصبا في بعض المفاوز. أو مضلولاً عنه في قوم كفار. وقال في قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} أي ذنب أمتك، أو ليغفر لأمتك ما أذنبوا في حقك. وقال البناني: قال ابن السبكي في قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} أي لنبيٍّ غيرك. وفي قوله تعالى: {تريدون عرض الدنيا}: المخاطب الصحابة دون النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). قال ابن تيمية: "وفي الكتاب والسنة الصحيحة والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه" (2). وقال أيضاً: "ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والإجماع، وهي العصمة في التبليغ، لم ينتفعوا بها، -يعني المتكلمين- إذ كانوا لا يُقِرُّون بموجب ما بلّغته الأنبياء، وإنما يقرون بلفظ يحرفون معناه. والعصمة التي كانوا ادعوها -لو كانت ثابتة- لم ينتفعوا بها، ولا حاجة بهم إليها عندهم، فإنها متعلقة بغيرهم لا بما أمروا بالإيمان به. فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله، ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم. وهو الذي تحصل به السعادة، وبضده تحصل الشقاوة". اهـ. وقال في موضع ثالث: "والذين لا يقولون بصدور مخالف عن الأنبياء، تأولوا كل ذلك بمثل تأولات الجهمية، والقدرية، لنصوص الصفات والمعاد، وهي   (1) حاشية البناني على جمع الجوامع 2/ 378 (2) الفتاوى الكبرى، ط الرياض 10/ 295 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 من جنس تأويلات الباطنية والقرامطة، التي يعلم بالضرورة أنها باطلة، وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه" (1). ... قدّمنا بياناً لمذاهب العلماء في عصمة الأنبياء، وما يحتج به لكل قول، ونحن نبيِّن ما نختاره، ونرّتب ذلك بحسب ما يقال بالعصمة منه. أولًا: دعوى الرسالة ومجموع القرآن والشريعة: فما وقعت المعجزة مصدقة له من صحة دعوى الرسالة، وأن القرآن والشريعة من عند الله تعالى، وما بلّغه - صلى الله عليه وسلم - وأثبته بالمعجزة، فكل ذلك مقطوع بالعصمة من أي خلف فيه، بدليل المعجزة المتقدم ذكرها. ثانياً: تبليغ الآيات وبيان الأحكام بالقول والفعل: تقدم أن هذا الأمر مجمع على العصمة من الإقرار عليه، فما استقرّ في الشريعة مما أبلغه - صلى الله عليه وسلم - أمته لا بد أن يكون من عند الله تعالى، بدلالة الإجماع كما تقدم. وبدلالة قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} (2)، وقوله: {فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته} (3)، وقوله: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً * ولولا أن ثبّتْناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً} (4). لكن هل يتصور أن يصدر ما فيه خلف فيصحّح، أو لا يتصور صدروه أصلاً، هذا موضع الاشتباه، وعنده اختلفت الأنظار. وظاهر الآيات السابقة مشعر بإمكان ذلك، ومنهم من نقل الإجماع على امتناعه كما تقدم، والله أعلم.   (1) مجموع الفتاوى الكبرى، مطبعة، كردستان العلمية، 2/ 283 (2) سورة الحاقة: آية 44 (3) سورة الحج: آية 52 (4) سورة الإسراء: آية 73 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ثالثاً: الكبائر: القول فيها كالقول في النوع الثاني المتقدم أعلاه سواء. رابعاً: الصغائر: أما صغائر الخسّة فهي كالكبائر ولا فرق. وأما ما عداها كالنظرة، والكلمة اليسيرة من السب ونحوه عند الغضب، والضربة بغير حق، فقد قال الغزالي: "وأما الصغائر ففيه تردد بين العلماء، والغالب على الظن وقوعه، وإليه يشير بعض الآيات والحكايات" (1). وأجازه كثير من المعتزلة والأشاعرة (2) وهو المعتمد، خلافاً للإمامية والحنفية (3) وبعض متأخري المتكلمين (4). ويتدارك بالتوبة أو الإنكار من جهة الله تعالى. خامساً: الخطأ في العمل بالشريعة، والإفتاء: أي في استنباط الأحكام وفي تطبيق الأحكام على الوقائع، في حق نفسه - صلى الله عليه وسلم -، وحق غيره، من غير تعمّد للمخالفة، لأن تعمّد المخالفة داخل في الصغائر أو في الكبائر، وحكمها قد تقدم. والخطأ مبني على جواز الاجتهاد وعدمه، فمن قال بجواز اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - قال بإمكان صدور الخطأ تأوّلاً، وينبّه عليه. هذا على مذهب من يقول: المصيب واحد. لا على مذهب من يقول: كل مجتهد مصيب (5). وصاحب جمع الجوامع صوّب أنه - صلى الله عليه وسلم - يجتهد، ولكن لا يخطئ (6)، مع قوله: إن المصيب في الاجتهاد واحد. وهذا الجمع بين الأمرين مستبعد.   (1) المنخول ص 223 (2) المواقف 8/ 265 (3) تيسير التحرير 3/ 21 (4) انظر أيضاً: إرشاد الفحول ص 34 (5) المستصفى 2/ 49 (6) جمع الجوامع للسبكي وشرحه للمحلى 2/ 387، 389 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 والقول بإمكان وقوع الخطأ بالتأول، مع التنبيه عليه، أصوب. وهو مذهب الحنفية (1)، وقد اختاره الآمدي، ونقله عن الحنابلة وأصحاب الحديث وجماعة من المعتزلة، وأكثر المتكلمين (2). ومن أدلة وقوعه قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وقصة استغفاره - صلى الله عليه وسلم - للمشركين، وقيامه على قبور المنافقين. ولما ورد في قصة أسرى بدر (3)، من أمره - صلى الله عليه وسلم - باستئسار الأسرى، ثم مفاداتهم بإشارة أبي بكر رضي الله عنه، حتى نزل قول الله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} (4). ونحن نرى أن الخطأ الذي وقع، على القول بإمكان صدوره، أن الله تعالى أمر في سورة القتال في حق العدوّ قبل الإثخان بأمر واحد محدّد: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق} (5) وحالة القتال في بدر كانت داخلة في هذا الحكم، إذ كان المسلمون فقراء، مستضعفين، محتقرين، لا يرهبهم أحد من العرب وخاصة أهل مكة. وكان ذلك يؤلّب العرب عليهم، ويجعلهم مطمعاً لكل أحد. فكان تأسيس الهيبة والرهبة، التي تكف العدوان عنهم، لا بد فيه من ضرب الرقاب وامتناع الأسر حتى يحصل الإثخان. وكان شدّ الوثاق، وتجميع الأسرى، مخالفاً للنص. فكان الأسر ومفاداة الأسرى اجتهاداً، وكان الحامل عليه ما قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله هم أهلك وعشيرتك، ولعلّ الله أن يهديهم؛ وما أشار إليه (تريدون عرض الدنيا) أي الفدية. وهذا عمل بالقياس أو المصلحة في مقابلة النص. ومن أجل ذلك وقع العتاب فيه، واستحق العاملون به العقاب. قال الله تعالى: {لولا كتاب من الله سبق   (1) كشف الأسرار علي البزدوي 3/ 929 وتيسير التحرير - كتاب الاجتهاد. (2) الأحكام 4/ 291 (3) روضة الناظر بتعليق بدران 2/ 421 (4) سورة الأنفال: آية 68، 69 (5) سورة محمد (القتال): آية 4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} ولو كان الأمر مجرد خطأ في الاجتهاد المأذون فيه، لما استحق المجتهد العقوبة، لأن الأدلة الشرعية قد قررت أن المجتهد معذور، بل هو مثاب على اجتهاده. ولا يعني قوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} نسخ آية تحريم الأسر قبل الإثخان، بل هي باقية ثابتة، تؤيّدها العلوم العسكرية، واستقراء الوقائع التاريخية المعلومة عند نشأة الدول الجديدة. ولكن الذي وقع هو تسويغ التعاقد الدولي الذي تمّ مع أهل مكة. لأن العقد على المفاداة كان قد وقع، وكان في إلغائه ضرر كبير يلحق سمعة الدولة الإسلامية، وينفِّر عنها المقبلين عليها، ويمكّن للدعاية المعادية من التأثير على أهلها (1). وقد احتجّ مانع صدور الخطأ عنه - صلى الله عليه وسلم - بأمور: الأول: أن اجتهاد أهل الإجماع معصوم من الخطأ، فاجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالعصمة من الخطأ. وأجيب عن هذا بأن اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - أولى بالصواب من اجتهاد كل واحد من أهل الإجماع على انفراده. ذكره الرازي الجصاص (2). وأجيب أيضاً، بأنه لا مانع من أن تختص الأمة برتبة بسبب اتباعها لنبيها، وله - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل من النبوّة وغيرها، وأصل العصمة، ما يرجح به على الأمة. ونظّروا لذلك بالإمام الأكبر، لا يلزم أن يكون له رتبة القضاء، وإن كانت رتبة القضاء مستفادة منه، ولا يعود ذلك عليه بنقص أو انحطاط رتبة. وإنما جاز وقوع الخطأ منه، لأجل مصلحة تشريع الاجتهاد، والتشاور،   (1) هذا المعنى الذي أخذنا به في هذه الواقعة، وجدنا الشيخ عبد الرحمن الجزيري قد أخذ به في مقال له بمجلة الأزهر مجلد سنة 1356 ص 680. وقال السيد رشيد رضا "توجه العتاب إليهم، بعد بيان سنة النبيين في المسألة، الدال بالإيماء على شمول الإنكار والعتاب له صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله". (تفسير النار 10/ 86). (2) أصول الجصاص 220 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 واستنباط الأحكام، ووراء ذلك الوحي يصحح ما وقع من الخطأ، بخلاف الإجماع بعده - صلى الله عليه وسلم - (1)، فليس هناك وحي يصححه. الثاني: يلزم على إجازة الخطأ، أن الصحابة كانوا مأمورين باتباع جائز الخطأ. وذلك باطل. وأجيب بأن بطلان ذلك ممنوع، بدليل الأمر بطاعة الأئمة وأولي الأمر في اجتهاداتهم، مع عدم عصمتهم من الخطأ. الثالث: أنه يلزم، على إِجازة الخطأ، الشك فيما يقوله - صلى الله عليه وسلم - عن اجتهاد، وذلك يخلّ بمقصود البعثة. وأجيب عن ذلك بأن الشك في ما يصدر عن اجتهاد لا يخلّ بمقصود البعثة. إنما الذي يخلّ بمقصودها الشك في نفس الرسالة (2). وقد عهد من الصحابة مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما علموا أنه صدر عن اجتهاد، كما فعل الحباب بن المنذر، إذ قال: يا رسول الله أهذا منزلٌ أنزلَكَهُ الله، ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: ليس هذا لك بمنزل ... إلخ الحديث (3). وكاعتراض عمر لصلاته - صلى الله عليه وسلم - على كبير المنافقين عبد الله بن أبيّ. وقد تقدمت. فالأصح إذن جواز وقوع الخطأ. كما أشرنا إلى ذلك، مع عدم الإقرار عليه.   (1) بتصرف عن تيسير التحرير 4/ 191 (2) تيسير التحرير 4/ 190 (3) سيرة ابن هشام في قصة بدر. انظر الشفاء 2/ 144 وتيسير التحرير 3/ 263 وانظر أيضاً ابن دقيق العيد، الأحكام في شرح عمدة الأحكام 1/ 252. وقد نسب صاحب تيسير التحرير إلى الحكماء أن السهو زوال الشيء من الذاكرة مع بقائه الحافظة، والنسيان ذهابه من الذاكرة والحافظة كلتيهما. فالنسيان عندهم أعمق أثراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 سادساً: السهو والنسيان: أما فيما لا يتعلق بالبلاغ وبالتكليف، كأنْ ينسى ما سمعه من القصص والأخبار وكلام الناس، فلا إشكال في جواز ذلك. وفي القرآن إشارات إلى أن الله تعالى قد يُنسي نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيئاً مما أوحاه إليه من القرآن مما يريد تعالى أن ينسخه، كقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلّا ما شاء الله} (1)، وقوله: {ما ننسخْ من آية أو نُنْسِها نأت بخير منها أو مثلها} (2). وأما سائر ما يوحى إليه - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، والأقوال التي يأمره بتبليغها، فهو معصوم من النسيان فيها بالإجماع. فإن قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} يدل على أن الله تعالى يعصمه من نسيانه، وكذلك قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه} (3) وجمعه، كما قال المفسرون، جمعه في صدره - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يفقد منه شيء. ولكن ورد في بعض الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - نسي بعض الآيات. ففي سنن أبي داود عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى صلاة، فقرأ فيها، فلبِّس عليه. فلما انصرف قال لأبي بن كعب: "أصليت معنا؟ " قال: نعم. قال: "فما منعك" قال الخطابي: إسناده جيد. وروى أبو داود أيضاً عن مسور بن يزيد المالكي، قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة، فترك آية من القرآن، فقيل: يا رسول الله: آية كذا وكذا تركتها. قال: "فهلا ذكرتنيها". فإن صحّ الحديث بذلك، فالذي ينبغي أن، يقال: إنه إذا أبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ما أوحي إليه به، وخاصة إذا كتب في المصحف، فقد حصل البلاغ وتأدَّت الأمانة، فلا يمتنع أن ينسى - صلى الله عليه وسلم - شيئاً منه. قال ذلك ابن عطية (4).   (1) سورة الأعلى: آية 6 (2) سورة البقرة: آية 106 (3) سورة القيامة: آية 16 (4) الزركشي: البحر المحيط 2/ 246 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وأما ما كلّف به - صلى الله عليه وسلم - من الأفعال فهل ينسى فيفعل ما نهى عنه، أو يترك ما أمر به سهواً عنه. تقدم أن الإمامية من الشيعة، والرازي في بعض كتبه، وبعض من تابعهم وغلا في النبي - صلى الله عليه وسلم -، منع صدور النسيان عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد احتجوا برفعة مقام الأنبياء، وأن النسيان ينقص من أقدارهم. ويجاب عن ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج عن طبيعته البشرية المقتضية لوقوع ذلك منه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر مثلكم -في رواية: أذكر كما تذكرون و- أنسى كما تنسون" (1). وقد استثنى بعض الذاهبين إلى امتناع النسيان عليه - صلى الله عليه وسلم -، فأجازوا أن يسهو في أحوال خاصة، ليعلِّم أمّته كيف يصنعون إذا نسوا، كما سها في الصلاة، فعلمهم سجود السهو (2). واحتجوا بحديث رواه مالك في موطئه (3)، بلاغاً، وانفرد به، ونصّه: "إني لأنسى أو أُنَسّى لأسُنّ ". وقد قال بعض الذاهبين إلى ذلك: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعمد أن ينسى في الصلاة ليسنّ (4). وذلك خطأ، فإن تعمد السلام من اثنتين في الظهر مثلاً يبطل الصلاة والبيان بالقول كاف، فلا ضرورة تُلْجئ إلى ذلك. هذا بالإضافة إلى عدم معقولية تعمُّد النسيان. والقول الثاني: وهو الصواب إن شاء الله: جواز نسيان التكليف والسهو فيه. وبهذا قال الرازي في كتابه (عصمة الأنبياء)، والآمدي والغزالي والباقلاني وغيرهم، وهو قول جمهور العلماء، بل ادّعى بعضهم الإجماع عليه (5).   (1) رواه أحمد وابن ماجه (الفتح الكبير) ورواه مسلم 5/ 66 والبخاري صلاة/ 31 (2) الزركشي: البحر المحيط 2/ 246 ب. (3) البناني: حاشيته على شرح الجوامع 2/ 95 (4) البحر المحيط 2/ 247 أ، الشفاء 2/ 144 ونسب هذا القول إلى أبي المظفر الإسفرائيني. (5) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 35 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 والدليل لذلك أنه لا امتناع فيه عقلاً. وقد ورد في الكتاب العظيم نسبته إلى الأنبياء، كقوله تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً} ووقع فعلاً كما قد ذكر في السنة. فقد حفظ من سهوه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة مواضع، وقوله: "أُريتُ ليلة القدر ثم أُنسِيتُها". الإقرار على النسيان : الذين قالوا بجواز النسيان عليه - صلى الله عليه وسلم - في الأفعال التكليفية، قال بعضهم: لا يُقَرّون عليه، بل ينبّهون عن قرب. وهو قول الجمهور، كما حكاه الزركشي. وقيل: قد يتراخى التصحيح، وإليه مال الجويني، ولكن لا ينقرض زمانهم وهم مستمرّون على النسيان. وهذا فيما يترتب عليه تشريع من الأفعال. أما الأفعال التي لا يترتب عليها تشريع، فقد قال ابن القشيري: لا بُعد أن ينسى، ثم لا يتذكر حتى ينقرض زمانه، وهو مستمر على النسيان، مثل أن ينسى صلاة ثم لا يتذكرها (1). ملحق: العوارض البدنية والنفسية : لم يقل أحد بوجوب عصمة الأنبياء عن أن تلحقهم العوارض التي تلحق غيرهم، من المرض والجوع والعطش، والنوم والإغماء (2) والتعب، والضعف والكبر، والجراح والموت. وسواء لحقهم ذلك بدون تسببٍ من البشر أو بتسبّب منهم، فقد قُتل بعض الأنبياء قتلاً. وفي بعض الأحوال كان الله عز وجل يعصمهم من أعدائهم، كما عصم   (1) البحر المحيط 247 أ. (2) الإغماء الذي يطول الشهر والشهرين وأكثر، قال الداركي: هو غير جائز لأنه كالجنون. بخلاف الساعة والساعتين، فهو جائز لأنه شبيه بالمرض (البحر المحيط للزركشي 2/ 247 ب). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 إبراهيم من الاحتراق بالنار، وعصم موسى من أذى فرعون، وعصم عيسى من القتل والصلب، صلى الله عليهم أجمعين. وأما نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابه ما أصابه في الله، وناله أذى المشركين، فشُجَّ يوم أحُدٍ وكُسرت رباعيته (1)، وسقط عن بعيره، وجُحِش شِقه، وسُحر. ومن جهة أخرى عصم في بعض المواقف، فعُصم من أذى أبي جهل، وأنجي ليلة الهجرة من المشركين، ومُنِع عنه سراقة بن مالك، ووُقي سيف غورث بن الحارث، واغتيال عثمان بن طلحة العبدري، وأرْبَد بن قيس، وعامر بن الطفيل، وأعلمه الله بأن بني النضير يريدون اغتياله، وأخبرته الذراع الذي سُمّت له، إلى غير ذلك من الوقائع التي ذكرت في السيرة، وعصمه الله فيها (2). وهذا مُشكل مع قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} فإن هذه الآية تقتضي عصمته في جميع الأحوال. والذي أراه أن الوقائع التي ناله - صلى الله عليه وسلم - فيها الأذى من الناس إنما كانت قبل نزول آية العصمة. فإنها من سورة المائدة. وسورة المائدة من أواخر ما نزل. قال القرطبي: "روي أنها نزلت مُنْصَرَف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية" (3). ونُقل أن آية العصمة المذكورة، نزلت في قصة غورث بن الحارث التي وقعت بالحديبية (4). فإن صح الخبر بذلك، دلّ على أن العصمة من أذى الناس أمر ضمنه الله تعالى لنبيه في السنة السابعة للهجرة، لا قبل ذلك. وحينئذ فلا إشكال إلا في قضية أكله - صلى الله عليه وسلم - ذراعَ الشاة المسمومة، وأنه قال عند وفاته - صلى الله عليه وسلم -: "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من ذلك السُّمّ" رواه البخاري (5) وانفرد به.   (1) روى البخاري قصة شجته - صلى الله عليه وسلم - وكسر رباعيته (فتح الباري ط الحلبي 8/ 375) وفي سيرة ابن هشام أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى الظهر يوم أحد قاعداً، من الجراح التي أصابته (السيرة النبوية. تحقيق مصطفى السقا وزملائه 2/ 87). (2) القاضي عياض: الشفا 2/ 173 (3) الجامع لأحكام القرآن 6/ 30 (4) الجامع لأحكام القرآن 6/ 246 (5) فتح الباري ط (مصطفى الحلبي 9/ 195) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 خلاصة القول في العصمة : قد تبيّن مما نقلناه من الخلاف والاحتجاج في المسألة، أن الاتفاق حاصل على أنه لا يستقر فيما بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة خطأ ولا عمدٌ مخالف لما أراد الله تشريعه لهذه الأمة. وهذا كافٍ من وجهة نظر الأصولي لأن يبني عليه حجية البلاغ. أما الأفعال النبوية فلا ينبني على الخلاف في العصمة فيها كبير أمر. فأما من قال بجواز صدور الذنب، ولم يلتزم العصمة من الإقرار عليه، فقد قيل بأنه يبني على ذلك عدم حجية الفعل النبوي. وقد نُسب إلى الباقلاني في ظاهر ما نقله ابن حزم في (الفصل) (1). وقال الآمدي في الفعل الصادر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل يستفاد منه الحكم في حقنا أوْ لا، قال: "وبعض من جوز المعاصي على الأنبياء قال هي على الحظر". ورد ذلك تلميذه أبو شامة بقوله: "ليس مأخذ قولهم إنها على الحظر تجويزهم المعاصي على الأنبياء، بل مأخذه أن الأشياء باقية على أصلها في التحريم إلى أن يقوم دليل الإباحة، وصورة الفعل لا دليل فيها بالنسبة إلى الأمة" (2). ونحن سنذكر إثبات العلماء حجّية الفعل النبوي حتى على افتراض قيام هذا الاحتمال في بعض الأفعال. وأما من أجاز صدور الذنب والخطأ والسهو منهم، وألتزم وجوب العصمة من الإقرار عليه، فالأمر في حقه واضح. إلا أنه قد بَنَى عليه ابن عقيل الحنبلي قيداً في الاستدلال بالفعل النبوي، وهو أن الأفعال الواقعة على غير جهة القربة، لا تدل على الإباحة إلاّ مشروطةً بأن لا تتعقّبَها مَعْتَبَة من الله، أو استغفار منه - صلى الله عليه وسلم -، واستدراك، حيث إنه لا يقر على الخطأ. قال: "وهذا ملحوظ في هذا الفصل على من أغفله، مستدرَكٌ على من أهمله، بل أطلق القول إطلاقاً". وضرب مثلاً بقيامه - صلى الله عليه وسلم - على قبور المنافقين، واستغفاره لبعض المشركين (3).   (1) الفصل في الملل والنحل 4/ 2 (2) المحقق من علم الأصول، مخطوط: الورقة 10 أ (3) الواضح في أصول الفقه ق 126 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ومن أجل ذلك فتحقيق القول في العصمة، ليس موضعه المباحث الأصولية، وإنما موضعه كتب العقائد. وقد أحسن الآمدي بإخراج تحقيق هذه المسألة عن مباحث الأصول، والإحالة بها على كتب علم الكلام. هل يجوز أن يرتكب النبي - صلى الله عليه وسلم -، المحرم للمصلحة الراجحة : ذكر الشاطبي أن ذلك قد يقع (1). ومثّل ذلك بتقريره - صلى الله عليه وسلم - للزاني بصريح القول. يعني الشاطبي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمِقِرّ: "لعلك ... لعلك ... " حتى قال له: "أنكتها؟ " لا يكني (2). مع أن ذكر هذا اللفظ في الأصل محرم. ولكن فعل ذلك لأنه يترتب على ذكره الأمْنُ من أن يكون المقِرّ توهّم ما ليس بزناً زناً، فيفضي إلى رجمه بلا حقّ. ولذلك أكده - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "كما يغيب الميل في المكحلة، والرشاء في البئر". قال: نعم، قال: "أتدري ما الزنا؟ " إلى آخر الحديث. وليس معنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون قد فعل ما فيه الإثم، بل المصلحةُ الراجحة ألغت التحريم، فعاد الفعل مباحاً، بل واجباً، في تلك الحالة الخاصة.   (1) الموافقات 3/ 331 (2) رواه البخاري 12/ 135 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 المقام الثاني هل يفعل النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً حكمه الكراهة؟ أما أنه - صلى الله عليه وسلم - يفعل المكروه سهواً أو غلطاً أو تأوُّلاً، فلا إشكال في إمكان ذلك، وخصوصاً على قول من يجيز صدور الصغائر على ذلك الوجه، لأن صغائر الذنوب من جملة المحرمات، وهي أشد من المكروهات. والمكروه لا إثم في فعله وإن كان تركه أولى. وأما أنه يفعله عمداً. ففيه تفصيل. وذلك أن فعل المكروه على وجهين: الوجه الأول : أن يفعله لا بقصد بيان الجواز. وقد منع هذا النوع كثير من الأصوليين. ومن أجاز صدور الصغائر عنه - صلى الله عليه وسلم -، يلزمه إجازة المكروهات من باب أولى. والذين منعوه أدخلوه في ما يُعْصَم منه النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليلين: الأول: أن المكروه منهي عنه، وقبيح، فكيف يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرتكب ما نهاه الله عنه من القبيح؟ (1). والثاني: أن التأسّي به مطلوب، فلا يقع منه مكروه، إذ لو وقع لكان التأسّي فيه مطلوباً، فلا يكون مكروهاً (2).   (1) ابن السبكي: انظر النقل عنه عند البناني في حاشيته على شرح جمع الجوامع 2/ 96 ونقله الزركشي في البحر عن (بعضهم) 2/ 246 ب وانظر الشاطبي: الموافقات. (2) ابن أبي شرف: حاشيته على جمع الجوامع. نسخة خطية بمكتبة الأوقاف بالكويت ص 175 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وبعضهم لم يستند في منعه إلى العصمة، وإنما لم يحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الكراهة لأن الظاهر وقوفه - صلى الله عليه وسلم - عند النهي لا يتجاوزه. قال القرافي: "إن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يقع فيه محرّم لعصمته، ولا مكروه لظاهر حاله". ومعنى هذا وجود احتمال ضئيل بكون فعله - صلى الله عليه وسلم - مكروهاً، ولكن لا أثر لذلك الاحتمال في منع استفادة الأحكام من الأفعال. ولعلّ هذا مراد ابن السبكي في قوله في جمع الجوامع: (وفعله - صلى الله عليه وسلم - غير محرَّم للعصمة، وغير مكروه للندرة) (1). الوجه الثاني : أن يفعل المكروه عَمْداً ليبيّن الجواز. وذلك أن المكروه جائز، لعدم الإثم واللوم في فعله، وإن كان تركه أولى لأن في تركه أجراً. فإذا أُريد بيان ذلك، أي بيان أن الفعل غير محرم، فقد يبيّنه - صلى الله عليه وسلم - بأن يفعله، فإذا فعلهُ علم أنه غير محرم. والفعل حيئنذ في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب من جهة البيان كما تقدم. فلا يقال إنه وقع في الكراهة، بل هذا في حقه من باب تعارض المصلحة والمفسدة، فإن في فعله مصلحة البيان، ومفسدة مخالفة النهي، ومصلحة البيان أرجح. وقد تكون المصلحة غير البيان، فيفعل المكروه لأجلها، كالتهاجر ثلاثاً، فإنه في الأصل مكروه، ويجوز لمصلحة التأديب. وقد نقل ابن تيمية (2) عن القاضي (أبي يعلى الحنبلي)، المنع من فعله - صلى الله عليه وسلم - المكروه لبيان الجواز، محتجّاً بأن فعله - صلى الله عليه وسلم - يفهم منه انتفاء الكراهية، فيختلّ البيان. وربما استُدلَّ لهذا القول بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال قوم يتنزّهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" (3). والمكروه إنما يترك تنزهاً. وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - التنزه عن مثل فعله، فدل على أنه لا يكون مكروهاً. والصواب جواز هذا النوع، لأنه يحصل به البيان المطلوب، ويمكن التنبيه على كراهته بالقول، إذا لم تعلم بالقرائن.   (1) جمع الجوامع مع شرح المحلى 2/ 96 (2) المسودة في أصول الفقه ص 74 (3) البخاري ومسلم وأحمد (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقد جعل منه ابن حجر استعانة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمغيرة في صبّ الماء عليه لأجل الوضوء. وصبّ عليه أيضاً أسامة بن زيد (1)، وجعل بعضهم منه الاقتصار في الوضوء على مرة مرة، أو مرتين مرتين. وهو المكروه الذي بمعنى خلاف الأولى. وكل ذلك ليبين جوازه وإجزاءه. وجعل منه الحنفية وضوءه - صلى الله عليه وسلم - بسؤر الهرة. والشاطبي جعل في جواز فعل المكروه للبيان شرطاً: هو أن لا يكثر الفعل المكروه، ولا يواظب عليه، لأن ذلك يفضي إلى إيهام إباحته أو استحبابه أو وجوبه، فينقلب حكمه عند من لا يعلم. قال: "ولا سيما المكروهات التي هي عرضة لأن تتخذ سنناً، وذلك المكروهات المفعولة في المساجد، وفي مواطن الاجتماعات الإسلامية والمحاضر الجمهورية" (2). وهو تقييد حسن. وقيد أيضاً بأنه - صلى الله عليه وسلم - يقتصر على القدر الذي يحصل به البيان، فلا يتعداه. قال: "إذا ترجح بيان المكروه بالفعل، تعيّن الفعل على أقل ما يمكن وأقربه" (3). وموضع بيان المكروه بفعله هو أن يكون مظنة لاعتقاد تحريمه. ولذلك يكون بيانه بفعله أبلغ من بيانه بالقول. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى.   (1) صحيح البخاري. انظر فتح الباري 1/ 285 (2) الموافقات 3/ 332 (3) الموافقات 3/ 320 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 المبحث الثالث كيفَ يعيّن حكم الفعل الصادر عنه - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إليه خاصّة قدمنا في المبحث السابق أن الأفعال التي تصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - إما أن تكون واجبة عليه، أو مندوبة، أو مباحة. وقد يفعل المكروه لبيان الجواز. وأنه على قول بعض الأصوليين قد يفعل ما نهاه الله تعالى عنه خطأ، أو نسياناً، أو تعمداً للصغائر، ولكنه عبد جميعهم لا يُقرّ على ما ترتب عليه من ذلك شيء من التشريع، بل يصحّح له لكي تتم عصمة الشريعة. فانحصرت أفعاله التشريعية التي أقر عليها في الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه الذي يفعله لبيان الجواز، ولكنه في حقه جائز بل ربما كان واجباً. وغرضنا في هذا المبحث الذي نحن فيه أن نتعّرف الطرق التي بها يتعيّن لدينا حكم فعله - صلى الله عليه وسلم -، إذ إن ذلك التعيين أساس لاستفادة الحكم من الفعل في حق الأمة، كما يأتي في الفصول التالية إن شاء الله. المطلب الأول تعيين الواجب من أفعاله صلى الله عليه وسلم يتعين الواجب من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بأمور: الأول: القول، بأن ينص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقول على أن ما فعله واجب عليه. الثاني: أن يكون الفعل قد ورد مورد البيان لقول دالٍّ على الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ومثاله فعله - صلى الله عليه وسلم - لأعداد الركعات في الصلوات المكتوبات، هو بيان لقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} (1). وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن أوقات الصلوات المفروضة، فقال للسائل: "صلِّ معنا هذين اليومين". فبيّن بفعله أول الوقت وآخره". وشبيه بذلك أن يقع الفعل امتثالاً لآية دالة على الوجوب، فيعلم أنه واجب. ومثاله صوم شهر رمضان، فإنه واجب، لأنه امتثال لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. الثالث: أن يكون موافقاً لفعل نذَره. كما لو قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن هزم الله العدوّ غدا فله عليَّ أن أصوم يوم كذا، فصامه على إثر هزيمة العدو، فيعلم أن ذلك وقع وفاءً للنذر" (2). وقد قال الزركشي: "أن يقع (الفعل) جزاءَ شرط، كفعل ما وجب بالنذر إن قلنا إن النذر غير مكروه" (3). الرابع: التسوية بين الفعل وفعل آخر في حكمهما (4)، بأن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً، ثم يقول: هذا الفعل مثل الفعل الفلاني، وقد علم حكم هذا الفعل الآخر. ولو خُيِّر - صلى الله عليه وسلم - بين فعلين، أحدهما قد عُلم أنه واجب، فالآخر مثله، لأن التخيير يقتضي التسوية (5)، إذ لا يمكن التخيير بين الواجب وما ليس بواجب. الخامس: أن يكون وقوعه مع أمارة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة للوجوب، كالصلاة بأذان وإقامة (6). فلم يعهد في الشريعة الأذان والإقامة لصلاة غير واجبة.   (1) الجصاص: أصوله. مخطوط. ق. 210 أ. وابن حزم: الإحكام ص 138 (2) الأسنوي: نهاية السول 2/ 63 وأبو شامة: المحقق 35 أ. (3) البحر المحيط 2/ 351 ب. (4) ابن السبكي: جمع الجوامع 2/ 98 (5) البيضاوي: منهاج الأصول، وشرحه نهاية السول للأسنوي 2/ 61، أبو شامة: المحقق ق 35 أ. (6) أبو شامة: المحقق ق 35 أ. ابن السبكي: جمع الجوامع 2/ 98 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 السادس: قال بعض الأصوليين: أن يكون الفعل لو لم يكن واجباً لكان ممنوعاً (1)، كالركوع الثاني في صلاة الكسوف (2). فإنه لو زيد في الصلاة ركوع قصداً، ولم يكن من أركانها، كصلاة الظهر، فإنها تبطل، فلما زيد في صلاة الكسوف ركوع قصداً، كان ذلك الركوع واجباً، لا يجوز الإخلال به. ومثاله أيضاً: سجود السهو، فإنه لو لم يكن واجباً لما جاز. قال الأسنوي (3) بعد ذكره هذه القاعدة: "هكذا ذكر (الرازي) في المحصول، وتبعه على ذلك من بعده" أقول: بل قد سبق إلى تقرير هذه القاعدة القاضي عبد الجبار، كما في المغني (4)، وخصّ ذلك بالعبادات، قال: "لو أنه - صلى الله عليه وسلم - تعمّد فعلاً لو لم نجعله شرعياً لكان منهياً عنه في العبادة، فيجب أن يعلم أنه من شرائط تلك العبادة، نحو ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين في صلاة الكسوف". وتقرير الدليل: أن الفعل. كالختان مثلاً، هو ممنوع منه بحسب الأصل، لأنه نوع من الجراح، وقد ورد النهي عن دم الغير بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام". فلا يجوز ارتكاب هذا التحريم إلا بأمر ملزم. وهو الوجوب. فدار هذا الفعل بين الوجوب والتحريم لا غير. وحين فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - علمنا أنه ليس محرماً، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل المحرم، فلم يبق إلا أنه واجب، وهو المطلوب. ومن جهة أخرى: يلزم لإجراء عملية الختان كشف العورة، وذلك محرم، والمحرّم لا يجوز ارتكابه إلاّ لواجب (5).   (1) ذكر ذلك السيوطي في الأشباه والنظائر (ص 148)، وجعله قاعدة فقهية بعنوان (الواجب لا يترك لسنة) و (جواز ما لو لم يشرع لم يجز، دليل على وجوبه). (2) أبو شامة: المحقق ق 35 أ، ابن السبكي: جمع الجوامع 2/ 98 أبو الحسين البصري: المعتمد ص 386 (3) التمهيد ص 134 (4) 17/ 272 (5) انظر تقرير المسألة والاستدلال فيها في المجموع للنووي في فصل الختان من الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وعندي في هذا الاستدلال نظر، فإن الفعل إذا كان مستحباً أو مباحاً، فقد خرج أيضاً عن المنع، ولو كان في الأصل منهياً عنه، فإن نقيض الحرمة رفع الحرج، وذلك صادق على كل من الوجوب والندب والإباحة، بل والكراهة كما تقدم. فبكلٍّ منها يخرج الفعل عن الحظر. وحاصله أننا نمنع وجود فعل دائر بين الوجوب والحرمة. ومن قال به طالبناه بأن يبيّن حده لنناقشه فيه. وأيضاً؛ فإن كثيراً من الصور في الشريعة خارجة عن هذه القاعدة. فمن المستحبّات ختان النساء، بل وختان الرجال على قول، وسجود التلاوة أثناء الصلاة، وإشعار الهدي، ورفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد، بل والقيام الثاني والركوع الثاني في صلاة الكسوف عند بعضهم على ما ذكره النووي في المجموع، ونقله عن الكثيرين أنه مستحب (1)، وسجود السهو أيضاً عند الشافعية، وبعض الرخص كالقصر والفطر للمسافر، والفطر للمريض. ومن المباحات أكل المضطّر الميتة، أو مال الغير، وحلق الشعر للمحرم المريض، والجمع بين الصلاتين عند العذر، وذبح البهائم، والصيد بالجوارح. وذكر السيوطي أيضاً النظر إلى المخطوبة، والمكاتبة، وقتل الحية في الصلاة، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى. وقد ذكر الزركشيّ في البحر المحيط أن هذه المسألة أخذت عن ابن سريج في إيجاب الختان. وأشار إلى عدم استقامتها، ثم قال: "وتنتقض هذه القاعدة بصور كثيرة، منها سجود السهو، وسجود التلاوة في الصلاة، فإنه ممنوع منه، ولما جاز لم يجب" (2). وقال الأسنوي أيضاً: "وهو منتقض بصور كثيرة" (3).   (1) الأسنوي: التمهيد ص 134 (2) 2/ 152 أ. (3) نهاية السول 2/ 63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وأراد المحلِّي أن يصححها، ويجعل ما خرج عنها موقوفاً على الدليل، وذلك حيث يقول: "وقد يتخلف الوجوب عن هنه الأمارة لدليل، كما في سجود السهو وسجود التلاوة" (1). وعندي في قوله هذا نظر، إذ الشأن في صحة القاعدة أولاً، وذلك ما يحتاج إلى إثبات. وأيضاً فاعتبار الصور الخارجة عن القاعدة نقضاً لها، كما قال الزركشي، هو الصواب. وثالثاً: لو كانت هذه القاعدة صواباً، فإنها تقتضي وجوب سجود التلاوة، وتكبيرات العيد، وختان النساء، وإشعار الهدي، ولم يرد دليل يمنع الوجوب، فلم لا يقولون به؟ وإن ادعوا وجود دليل مانع، فما هو؟. السابع: أن يكون الفعل قضاء لواجب، فيعلم أنه واجب (2)، لأنه قد عهد في الشريعة أن قضاء الواجب حيث شرع، فهو واجب. ومثاله قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الصبح، بعدما خرجوا من الوادي الذي ناموا فيه عن الصلاة (3). الثامن: وقال به بعض المالكية: أن يقضي العبادة إذا خرج وقتها دون أداء، أو فُعلت في الوقت على فساد: فيعلم بذلك أن العبادة المقضيّة واجبة، إذ أن غير الواجب لا يقضى (4). ومثاله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان إذا غلبه عن قيام الليل نوم أو وجع صلّى في النهار اثنتي عشرة ركعة" (5) فيعلم أنه كان يصلي قيام الليل على جهة الوجوب.   (1) شرح جمع الجوامع 2/ 98 (2) الأسنوي: نهاية السول 2/ 63. (3) أبو شامة: المحقق ق 35 أ. (4) القرافي: شرح تنقيح الفصول ص 128. وفي الأصل الذي نقلنا منه قوله: "و (يستدل) بالقضاء على عدم الوجوب. هذا على مذهب مالك أن النوافل لا تقضي" وواضح أن كلمة (عدم) في هذا النص قد دخلت خطأ من الناسخ، أو هي سبق قلم من القرافي، كما لا يخفى. (5) ذكره في نيل الأوطار في مباحث الوتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ومثال آخر: قضاؤه - صلى الله عليه وسلم - لعمرة الحديبية، التي أحصر عنها. فقد عاد في السنة التالية واعتمر، وسميت عمرة القضاء. فيدل على أن عمرة الحديبية كانت واجبة. والمراد أنها وجبت بالدخول فيها. والصواب أن هذا النوع ليس دليلاً على وجوب المقضي، لأن دعواهم أن غير الواجب لا يقضى، دعوى مردودة، لما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى الركعتين اللتين بعد الظهر، قضاهما بعد العصر (1). وعند الجماعة، إلاّ البخاري، عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل". وهذا حث على قضاء ما رتّبه المسلم لنفسه من الأذكار. فالصلاة والصوم ونحوهما أولى. والذي عند الشافعية استحباب قضاء السنن الرواتب. ولو قيل في هذه الأمارة: ما وجب قضاؤه واجب لكان صواباً. ومنه وجوب قضاء حج التطوع، يدل على أنه وجب بالشروع. وقد أشار إلى ذلك السرخسي (2). التاسع: ذكره الزركشي في البحر المحيط: أن يداوم - صلى الله عليه وسلم - على الفعل مع عدم ما يدل على عدم الوجوب. قال: "لأنه لو كان غير واجب لأخلَّ به" (3) وذكره أيضاً صاحب مسلم الثبوت وصاحب تيسير التحرير (4). وقد وضّح ذلك ابن تيمية حين قال في الاستدلال على وجوب الطمأنينة في الصلاة: "إن مداومته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في كل صلاة كل يوم، مع كثرة الصلوات، من أقوى الأدلة على وجوب ذلك، إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة واحدة ليبيّن الجواز، أو لبيّن جواز تركه بقوله، فلما لم يبين -لا بقوله ولا بفعله- جواز ترك ذلك، كان ذلك دليلاً على وجوبه" (5).   (1) نيل الأوطار 3/ 29، 30 وفيه أن عند أحمد في رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: انقضيهما إذا فاتتا، قال: "لا". قال الشوكاني: قال البيهقي: وهي رواية ضعيفة. (2) أصول السرخسي 1/ 116 (3) ق 252 أ (4) 3/ 127 (5) القواعد النورانية الفقهية ص52 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وعندي في هذا نظر. فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحافظ على الرواتب فلا يخلّ بها، بل: "كان عمله ديمة" (1). وكان يقول: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ" (2). وكان يقضي ما فاته من النوافل المرتبة، كالركعتين اللتين بعد الظهر، قضاهما بعد العصر لما شُغِل عنهما. وما ذكره ابن تيمية منتقض بقراءة سورة بعد الفاتحة. لم يبين - صلى الله عليه وسلم - عدم وجوبها قولاً، ولا نُقِل أنه تركها ولو مرة واحدة فيما نعلم. وأما حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (3) فيدل على الركنية، ولا يدل على جواز ترك ما عدا الفاتحة. ومع ذلك، فإن قراءة سورةٍ بعد الفاتحة ليس بواجب، بلا خلاف (4). ومثل السورة كثير غيرها من أفعال الصلاة المستحبة، كالجهر في الجهرية، وبعض هيئات الركوع والسجود، ورفع اليدين، وغير ذلك. ولم يرتَضِ الأنصاري شارحُ مسلّم الثبوت القولَ بأن المواظبة مع عدم الترك دليل الوجوب عند الحنفية. ونقض ذلك بما هو معلوم عندهم من سنية صلاة الجماعة، والأذان، والإقامة، وصلاة الكسوف، والخطبة الثانية في الجمعة، والترتيب والموالاة في الوضوء، والمضمضة، والاستنشاق، وغير ذلك مما ثبتت فيه المواظبة من غير ترك، مع عدم تبيين سنّيّتها، بل ثبت عدم الترك. فيعلم أن المواظبة ليست دليل الوجوب عندهم (5). وأما قول ابن تيمية: "إنه لو كان غير واجب لتركه ولو مرة، أو بين عدم وجوبه بالقول" فإن هذا يلزم لو كان هناك ما يجعل هذا النوع من الفعل دالاًّ على الوجوب، وفيه الخلاف. كيف وقد قال الكثيرون ومنهم الظاهرية والحنفية "إن الوجوب لا يؤخذ من الفعل" فيكفي ذلك للدلالة على عدم الوجوب، فلا يلزم البيان بعد ذلك بالقول ولا بالفعل. والله أعلى وأعلم.   (1) رواه البخاري: كتاب الصوم ب 64 ومسلم 6/ 73 (2) البخاري 4/ 235 ومسلم. (3) رواه الشيخان (الفتح الكبير). (4) ابن قدامة: المغني 1/ 491 (5) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 2/ 180 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وبهذا يتبين أن الفعل النبوي لا يخرج بالداومة عليه عن أن يكون فعلاً مجرداً. العاشر: ونقله الزركشي عن الصيرفي: "أن يفعل - صلى الله عليه وسلم - بين المتداعِيَينْ فعلاً على سبيل الجبر. فيعلم أنه واجب. قال: وكذلك ما أخذه من مال رجل وأعطاه لآخر. فيعلم أن ذلك الأخذ واجب" (1). وقال الجصاص: "ما فعله - صلى الله عليه وسلم - من استخراج حقٍّ من رجل لغيره، ومن عقوبة رجل على فعل كان منه، فهذا على الوجوب، لأن ذلك لا يجوز على جهة الإباحة والندب" (2). قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" (3). وقال الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (4). ولهذا النوع شبّه بالنوع السادس المتقدم، إلا أن هذا في القضاء والأمور التنفيذية خاصة. والزركشي ذكر النوعين كليهما. والذي نقوله في هذا النوع، إنه لا يدل على وجوب الفعل عل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يدل على أن من أوقعت به العقوبة، أو أُخذ منه المال، مستحقٌّ لذلك، وأنه قد وجب عليه. فلا يدل ذلك على وجوب القضاء أو التنفيذ. وقد قال الله تعالى: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تُعرض عنهم فلن يضروك شيئاً} (5) فلو جاءه أهل الكتاب، ليحكم بينهم، وقد جاؤوه فعلاً فحكم بينهم ورجم الزانيين، فلا يدلّ ذلك على أن الحكم بينهم والتنفيذ كان واجباً عليه، بنصّ الآية المذكورة. ونظير ذلك وليّ الدم في جناية العمد، له أن يقتص، فإذا اقتصّ لم يصح   (1) البحر المحيط 2/ 251 ب (2) أصول الجصاص. 210 أ (3) مسلم وأبو داود (الفتح الكبير) (4) سورة البقرة: 188، والنساء: 29 (5) سورة المائدة: آية 42 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 القول إنه كان واجباً عليه الاقتصاص، بل يقال: إن القصاص كان حقّاً له واجباً على الجاني أن يستسلم له. والحاصل أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ المال أو عاقب، وكان ذلك جائزاً له أو مندوباً، صح، وخرج بذلك عن الحرمة، فلا يلزم أن يكون واجباً عليه - صلى الله عليه وسلم -. فذكر هذا النوع في هذا الموضع (وهو مبحث حكم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إليه) ليس صواباً. وإنما ينبغي أن يذكر في مباحث الحكم المستفاد من الفعل في حق الأمة. ونحن سنذكره هناك إن شاء الله في مبحث الفعل المتعدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 المطلب الثاني تعيين المندوب من أفعاله صلى الله عليه وسلم يتعين المندوب من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بأمور: الأول: بالقول. ومثاله أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيامه ليومي الاثنين والخميس فقال: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" (1). فبيّن - صلى الله عليه وسلم - أنه استحبّ صيام اليومين المذكورين. ولو كان صومهما واجباً لما ذكر هذا، بل كان يبين وجوبه. الثاني: أن يكون الفعل بياناً لقول دال على الندب، أو امتثالاً له. الثالث: أن يسوّي بين الفعل وفعل آخر مندوب، والتخيير تسوية، لأنه لا يخيّر بين ما هو مندوب وما ليس بمندوب (2). الرابع: أن يكون وقوعه مع قرينة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة للندب، على وزن ما قالوه في الوجوب. ومثاله عندنا. أنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان يوتر على البعير" (3). فذلك يقتصي أن الوتر في حقه - صلى الله عليه وسلم - مندوب، وليس واجباً، كما قاله ادّعى أنه كان واجباً عليه - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وكذا يرد به على أبي حنيفة في قوله: "إِنه واجب عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلينا" (4).   (1) الترمذي، وقال "غريب" (نيل الأوطار 4/ 263) (2) أبو شامة: المحقق ق 34 ب (3) متفق عليه (الفتح الكبير). (4) نيل الأوطار 3/ 33 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الخامس: أن يقع الفعل قضاء لمندوب (1). كالركعتين بعد العصر، صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلاً عن الركعتين اللتين بعد الظهر. ويشكل على ذلك قضاء الحج والعمرة المتطوع بهما إذا فسدا، فإن ذلك القضاء واجب. وحل هذا الإشكال أن الحج والعمرة يلزمان بالدخول فيهما وإن كانا في الأصل تطوعاً، فإذا فسدا بعد الدخول فيهما كان فسادهما بعد الوجوب، فلا تنتقض القاعدة. السادس: المواظبة على الفعل في العبادة، مع الإخلال (2) به أحياناً لغير عذر ولا نسخ، أو كونه بالاستقراء مما لا يكون واجباً، يدل على استحبابه بخصوصه. ومثاله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الصبح يوم الجمعة {آلم تنزيل} و {هل أتى على الإنسان ... } فدلّ ذلك على استحباب قراءتهما في تلك الصلاة. ومثلها القراءة في الجمعة بـ {سبح} و {الغاشية}، وفي العيد بـ {ق} و {اقتربت}. فقد أخلّ ببعض ذلك، إذ كان يقرأ أحياناً في الجمعة بسورة {الجمعة} وسورة {المنافقون} وفي العيد بـ {سبح} و {الغاشية}. هذا بالإضافة إلى أنه لم يعهد في الشريعة وجوب تخصيص صلاة معينة بقراءة معينة. بخلاف ما لو لم تنقل مواظبته على الفعل، بل نقل مرة واحدة، فلا يدل ذلك على استحباب التخصيص. ومثاله ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بـ {المرسلات}، وورد أنه قرأ فيها بـ {الطور}. السابع: أن يكون الفعل قربة من القرب، ويعرف أنه غير واجب، لانتفاء   (1) أبو شامة: المحقق ق 34 ب. الأسنوي: نهاية السول 2/ 68 (2) أبو شامة: المحقق ق 34 ب، والزركشي: البحر الحيط 2/ 252 أو الأسنوي على البيضاوي: نهاية السول شرح منهاج الأصول2/ 63نقلًا عن المحصول للرازي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 دليل الوجوب، فيثبت الندب (1). لأن قصد القربة يدل عل طلب الفعل الدائر بين الوجوب والندب، والوجوب منتفٍ لأجل البراءة الأصلية. والحق أن هذا النوع من جنس الفعل المجرد، وفيه خلاف، وسيأتي ذكره في الفصل الخاص بالفعل المجرد إن شاء الله.   (1) القاضي عبد الجبار: المغني 17/ 271، 272 والقرافي: شرح تنقيح الفصول ص 128 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 المطلب الثالث تعيين المباح من أفعاله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الفعل مباح بأمور: الأول: النص على أن ما فعله مباح له. ثم قد يكون النص في الكتاب العظيم، كقوله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} (1). وقد يكون في السنة: كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي" (2). الثاني: أن يكون بياناً أو امتثالاً لآية دالة على الإباحة (3)، كأكله - صلى الله عليه وسلم - من الغنيمة، امتثالاً لقوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} وأكله من لحم الهدي امثتالاً لقوله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها}. وهذا الوجه ذكره بعض الأصوليين. وفي ذكر الامتثال في المباح نظر، إذ المباح غير مطلوب حتى يقال لفاعله إنه ممتثل. الثالث: التسوية بينه وبين فعل معروفة إباحته. الرابع: انتفاء دليل يدل على الوجوب أو الندب، وذلك لانحصار   (1) سورة الحشر: آية 5 (2) رواه مسلم 7/ 45 وأبو داود. (3) أبو شامة: المحقق ق 34 ب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الأنواع الثلاثة، فإذا لم يثبت الوجوب ولا الندب حمل على الإباحة لأنها الأصل (1). وهذا النوع أيضاً هو من الفعل المجرد، وفيه الخلاف، وسيأتي القول فيه في فصل الفعل المجرد.   (1) أبو شامة: المحقق ق 34 ب. الزركشي: البحر المحيط 2/ 252 أالإسنوي: نهاية السول 2/ 63 ونقله عن المحصول للرازي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الفصل الثالث حجية أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأحكام من حيث الجملة 1 - الأدلة. 2 - منشأ حجيّة الأفعال، والشبه التي تورد عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 حجيّة الأفعال النبوية على الأحكام من حيث الجملة أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حيث الجملة، حجة على العباد، إذ هي دليل شرعي يدل على أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين. لقد نقل بعض الأصوليين الإجماع على ذلك، منهم القاضي عبد الجبار (1)، وأبو الحسين البصري (2). حيث ذكرا أنه: "لا خلاف بين أهل العلم أنه يُرْجَع إلى أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في ثبوت الأحكام للأفعال الشرعية، كما يرجع إلى أقواله، وذلك كله عندهم واحد في هذا الباب" (3). ونقل الآمدي في ذلك خلافاً، حيث قال: "معظم الأئمة من الفقهاء والمتكلمين، متفقون على أننا متعبّدون بالتأسيّ به - صلى الله عليه وسلم - في فعله، واجباً كان أو مندوباً أو مباحاً، ومنهم من منع من ذلك مطلقاً" (4). ومما يؤكّد وجود الخلاف، ما ينقله بعض الأصوليين من القول بأن الفعل النبوي على الحظر في حقنا، حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، كما يأتي إن شاء الله. وقد نُسب الخلاف في ذلك إلى أبي بكر الدقاق من الشافعية، وأبي الحسن   (1) المغني 17/ 257 (2) المعتمد 1/ 377 (3) المغني 17/ 257 (4) الإحكام 1/ 265 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الكرخي من الحنفية، وإلى الأشعرية (1). قالوا: ليست أفعاله - صلى الله عليه وسلم - حجة في حقنا ما لم يقم دليل الاشتراك بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - في حكم ذلك الفعل، وإلا فهو خاص به. ونقسم الكلام في هذا الفصل إلى مبحثين، أولهما في الأدلة، وثانيهما في الشبه التي يوردها بعض الأصوليين.   (1) انظر: تيسير التحرير 3/ 120 وهو وإن خص خلافهم بما عدا الجبلي والبياني، فإن الجبلي أمره واضح لا يحتاج إلى استدلال، والبياني يستفاد حكمه من المبين. فالدليل في الحقيقة هو المبين. فرجع خلافهم إلى أن الأفعال النبوية لا يحتج بها لذاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المبحث الأول الأدلَّة أما النظر العقلي فلا يقتضي كون فعله - صلى الله عليه وسلم - حجة (1)، بخلاف أقواله، لوجهين: الأول: أن الأقوال معلومة المدلول، فهي موضوعة لمعان معينة تفيدها بالوضع، إمّا الخبر، وإما الطلب. وتصديقنا له - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر، وطاعتنا له فيما طلب، هي مقتضى اللفظ بالضرورة، إذ لو لم يفدنا القول ذلك، لخلا عن أي فائدة، وكان عبثاً محضاً. بخلاف الفعل، كالصلاة المعينة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد يفعله لما في الفعل من المصلحة الخاصة به، كما يفعل كل منا إذ يقضي مصالحه الخاصة، وقد يفعله لنقتدي به، أو للمقصدين جميعاً. فلو تصورنا خلو فعله من فائدة الاقتداء به، بقي الفائدة الأخرى، وهي أن يكون فعله للمصلحة الخاصة به. فلم يخلُ فعله عن فائدة. فافترق الفعل عن القول في ذلك. ويكون الفعل الذي لم يدل على كونه حجة، بمنزلة اللفظ غير الموضوع، وأما الذي بمنزلة اللفظ الموضوع، فهو الفعل إذا دل الشرع على أنه حجة (2). ثانياً: أنه يُتصوَّر في الفعل أن يكون مصلحة النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمته، فيكون مطلوباً منه دونهم. فقد يكون واجباً عليه أو مندوباً له أو جائزاً. وهو بخلاف ذلك   (1) انظر: في هذه المسألة القاضي عبد الجبار: المغني 17/ 251، 252، 257. وأبا الحسين البصري: المعتمد 1/ 376 (2) القاضي عبد الجبار: المغني 17/ 251، 252 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 في حق الأمة. فقد ثبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الشريعة أحكام خاصة به، هي ما يسمى (الخصائص النبوية)، منها أن الله أحلَّ له أن يتزوج أكثر من أربع وحرم ذلك على أمته؛ وأوجب عليه قيام الليل وليس ذلك عليهم واجباً. فيدل ذلك على إمكان افتراقه - صلى الله عليه وسلم - عنهم في سائر الأحكام. وقد يقع في قلوب بعض الناس شبه عقلية، يظنونها قاضية بكون فعله - صلى الله عليه وسلم - حجة، منها: أولاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - من حيث هو رسول، ينبغي متابعته في فعله، ولو لم تطلب منا تلك المتابعة قولاً. والجواب أن ذلك غير لازم، إذ يعقل أن يرسل الله تعالى رسولاً، يقول: أطيعوني في ما آمركم به، ولا تقتدوا بأفعالي، لأنها ليست كلها صالحة لكم. وأيضاً: لما كان الفعل غير دالٍّ إن كان من غير رسول، فكذلك لا يدل إن كان من رسول، ما لم يدل على ذلك دليل. ثانياً: أننا لو لم نتبعه في أفعاله لكان ذلك مخالفةً له، ولا يجوز مخالفة الرسول. والجواب: أن مخالفة الرسول تكون بترك ما أراد منا فعله، أو فعل ما أراد منا تركه. ونحن لا نعلم أنه يريد منا أن نوافقه في أفعاله، إلاّ بأن يقول لنا ذلك. الأدلّة السمعية هل حجية السنّة كافية في إثبات حجيّة الأفعال النبوية: قد يسبق إلى بعض الأفهام الاستدلال لحجيّة الأفعال النبوية بأن يقول: إن الأفعال النبوية من السنة، وحجيّة السنة ثابتة بدلالة الكتاب والإجماع. وذلك يدل على أن الأفعال النبويّة حجة. وفي هذا الاستدلال نظر؛ فإن اعتبار أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنن، إنما يصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 إذا ثبت أنها حُجّة، فإن لم يثبت أنها حجة فليست سنناً، بل تكون كأفعال غيره من الناس. وفي الاستدلال المذكور نظر من جهة أخرى، فإن السنة الثابتة حجّيّتها بدلالة الكتاب هي السنن القولية، وهي التي ينطبق عليها قوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (1)، وقوله: {وما ينطق عن الهوى} (2) ونحوهما من الآيات التي يستدل بها على حجيّة السنة. تدل على صدقه - صلى الله عليه وسلم - في القول ووجوب طاعته فيه، فأما المتابعة في الفعل فلا تقتضيها المعجزة. وأما قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (3) ونحوها من الآيات، وقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فإن الاتباعَ والتأسّي صادق على طاعة القول قطعاً. وشمول الاتباع والتأسّي للاقتداء بالفعل أمر فيه خفاء، ولذلك فهو بحاجة إلى إثبات. وهو ما يفعله الأصوليون في باب الأفعال. ... بتدقيق النظر في ما ورد في القرآن العظيم، والسنن القولية، والإجماع، يتبيّن أنها تدل على حجيّة الفعل النبوي. ونحن نذكر ذلك بالترتيب، فنقول: أولاً: الأدلة القرآنية استُدِلّ من كتاب الله تعالى على كون أفعال النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - حجة على عباد الله، بآيات ثلاث: الآية الأولى: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}. نزلت هذه الآية في شأن غزوة الخندق، في سياق تعداد نعم الله تعالى على   (1) سورة النساء: آية 80 (2) سورة النجم: آية 3 (3) سورة آل عمران: آية 31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 المؤمنين، بأن أرسل الله على الكافرين {ريحاً وجنوداً لم تروها}. ذكّر الله المؤمنين بأن الكفار جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، حتى ظنّوا باللُه الظنون وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً، وأرجف المنافقون والذين في قلوبهم مرض، وبدأوا يتسرّبون من مواقعهم بأعذار كاذبة يريدون الفرار، وانهارت مقاومتهم، لما كانوا عليه من الجبن الخالع، لضعف إيمانهم أو انعدامه. ثم قال تعالى: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم} أي لو عاد الأحزاب إلى حصار المدينة، لودّ هؤلاء المنافقون، والمرضى القلوب، لو أنهم في البادية، بعيدين عن موطن القتال، لا يصلهم منه إلا الأخبار. ثم تأتي الآية التي معنا {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} يحتمل أن الخطاب فيها للمنافقين، تبكيتاً لهم على مواقفهم الدنيئة التي وقفوها، وتذكيراً لهم بما كان ينبغي لهم أن يفعلوه. ويحتمل أن الخطاب فيها للمؤمنين (1) تأييداً لموقفهم وثناءً عليه وتثبيتاً لهم. والأولى أن يقال: هو خطاب للمجموعة كلها مؤمنها ومنافقها. وتعني الآية أن الله رضي من عباده المؤمنين الصبر في مواطن البلاء، تأسّياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكره من المنافقين عدم تأسّيهم به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. إلاّ أن لفظ (الأسوة) مما ينظر فيه. فمادة (أس و) تكون بمعنى مداواة الجراح. تقول العرب: أسوت الجرح، وفي كلامهم: الآسي وهو الطبيب، والآسية الخاتنة، والإساء الدواء. وتكون بمعنى المساواة، وفي كتاب عمر إلى أبي موسى: "آس بين الناس" أي ساو بينهم.   (1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/ 156 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أما (الأسوة) فقد وردت في اللغة لمعنيين: الأول: ما يتسلى به الحزين عن مصابه، والمهموم عن همّه. والثاني: المماثلة. تقول: جعلته في مالي أُسوة، أي قسمتُ مالي بيني وبينه نصفين، حتى صار مثلي فيه. ومنه جاءت الأسوة بمعنى القُدوة. وبين المعنيين صلة واضحة، فإن المحزون يتسلّى بأن يقول لنفسه: قد أصاب فلاناً مثل ما أصابني، فعليّ أن أصبر كما صبر. ويحتمل أن الأسوة التي بمعنى التسلّي عن المصاب، من (الإسا) الذي بمعنى الدواء والمعالجة، إذ إن المصيبة كالجراح، والسلوّ دواؤها. و (الأسوة) في الآية، لأول وهلة، يبدو أنها محتملة للمعنيين جميعاً. يقول القرطبي: "قوله تعالى {أسوة} الأسوة: القدوة، والأسوة: ما يُتأسى به، أي يتعزّى به، فيقتدى به في جميع أفعاله، ويُتَعَرَّى به في جميع أحواله، فقد شُجَّ وجهه - صلى الله عليه وسلم -، وكُسِرَت رَبَاعِيَتُه (1)، وقُتل عمه حمزة، وجاع بطنه، ولم يُلْفَ إلاّ صابراً محتسباً وشاكراً راضياً". ولكن إن نحن جعلنا (الأسوة) في الآية بمعنى ما يتصبّر به الحزين، لم تكن الآية حجة في الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن لنا أسوَةً بكل صابر. وإن جعلناه بمعنى القدوة، فهي حجة على المطلوب، وهو قول جمهور الأصوليين. وهو الصواب، كما نبيّنه بعد. وقد أورد بعضهم على الاحتجاج بهذه الآية، أنها وردت في أمر خاص هو الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في الصبر في الحرب، وليس لفظ {أسوة} في الآية من ألفاظ العموم حتى يقتدى به في غير هذا الفعل. قالوا: وحتى لو قلنا إنها ليست خاصة بما ذكر في السياق، فلا يجوز القول   (1) الرباعية، إحدى الأسنان الأربع التي تلي الثنايا، بين الثنية والناب (اللسان). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 بأنها عامة في كل فعل، بل هي مطلقة. وتتحقق الآية فيمن اقتدى به - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور دون غيرها (1). وقد أجاب الآمدي (2) بأن تعيين المتأسّي فيه ممتنع، لعدم دلالة اللفظ عليه. والقول بإبهام المتأسّي فيه ممتنع لأنه على خلاف الغالب من خطاب الشرع، فلم يبق إلاّ العموم. وهذا الجواب متهافت كما لا يخفى. إذ القول بتعيّنه في ما فيه السياق ممكن ومقبول، كما قال ابن دقيق العيد: "إن السياق طريقٌ لتخصيص العمومات وبيان المحتملات" (3). وجواب أبي الحسين البصري (4) أصحّ، وهو أنه لا يطلق في اللغة على الإنسان أنه أسوة لزيد إذا كان إنما ينبغي لزيد أن يتبعه في فعل واحد، وإنما يطلق ذلك إذا كان ذلك الإنسان قدوة لزيد، يهتدي به في أموره كلّها. إلا ما خصّه الدليل. ومما يؤكد العموم أيضاً ما ورد في الحديث، مما يدلّ على الصواب من تفسير الآية، أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فناموا حتى فاتتهم صلاة الفجر. فصلاّها بهم، وذلك بعد ارتفاع الشمس. فتهامس بعضهم إلى بعض "ما كفارة ما صنعنا اليوم؟ " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما لكم فيّ أسوة؟ " (5) وذلك أنه اكتفى بقضاء الصلاة. وكانت تلك كفارة ما حصل منهم. وهذا حكم شرعي حاصل بالاقتداء بالفعل.   (1) تبنى هذه الشبهة الرازي في المحصول (ق 52 أ) (2) الأحكام 2/ 268 (3) يرى ابن دقيق العيد أن السياق أحد مخصصات العموم، ومبينات المراد بالمجملات. انظر كتابه: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 2/ 19، 232، وفرق بين ذلك وبين قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وبين أن الأصوليين لم يذكروا قاعدة التخصيص بالسياق، إلا بعض المتأخرين ممن أدرك هو أصحابهم. (4) المعتمد 3/ 384 (5) رواه مسلم 5/ 186 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وسيأتي في الاستدلال بالإجماع، ما يدلّ على أن الصحابة كانوا يحتجون بكونه - صلى الله عليه وسلم - أسوة، على أحكام شرعية مأخوذة من الأفعال. فهذا يفسّر معنى الأسوة في الآية. وقال الصنعاني: "أما ما قيل من أن {أسوة} نكرة في الإثبات لا عموم لها، وإنما هي خاصة في ما نزلت فيه، فغير صحيح، لأن قوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} هو في المعنى جواب لقوله: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}. وهو شرط (1)، والشرط من ألفاظ العموم" (2). اهـ. وحتى لو قلنا بأنّ الأسوة هي القدوة في أمور معينة دون غيرها، فقد ثبت مطلوبنا هنا وهو أن الأفعال النبوية، من حيث الجملة، حجة في الشريعة، لأن قولنا: "من حيث الجملة" نعني به: "في بعضها دون بعض". وسيأتي في الفصل التالي تمييز ما هو منها حجة، مما لا يحتج به. الآية الثانية: قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وشبيه بها قوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ ... } إلى قوله: { ... واتبعوه لعلكم تهتدون} (3). فقد أمرنا الله عزّ وجل باتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم -. والاتباع في اللغة أن يسير الإنسان خلف آخر. والمراد هنا أن نتخذه - صلى الله عليه وسلم - رئيساً وقائداً إلى أعمال الخير والبر نهتدي بهديه. والاتّباع يكون في الأقوال والأفعال. فمن استعمال الاتباع في طاعة الأقوال، قوله تعالى: {اتبع ما أوحي إليك من ربك} (4)، وقوله: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (5).   (1) هداية العقول. (2) أي في المعنى. أما في اللفظ فـ (من) موصول. والمعنى (من كان يرجو الله واليوم الآخر فله في رسول الله أسوة حسنة). (3) سورة الأعراف: آية 157، 158 (4) سورة الأنعام: آية 106 (5) سورة الزمر: آية 18 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ومن اتباع الأفعال قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} (1)، وقوله: {وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض} (2). وقد أورد بعضهم على الاحتجاج بالآيات المذكورة، أنها ليست عامة، بل مطلقة، والمطلق يتحقق في ضمن فرد من أفراده، فربما كان المراد اتباعه في القول خاصة. وأجاب أبو الحسن البصري، بأن الإطلاق يقتضي صحة الاتّباع في كل ما يصدق عليه. قال: "إن إطلاق قوله {واتبعوه} وإن لم يفد العموم، فإنه يفيد أن لنا اتباعه في أفعاله لأن ذلك اتباع له، والخطاب مطلق" (3). ويرى القاضي عبد الجبار: "أن الاتباع إذا أطلق انصرف إلى اتباع الأفعال، كاتباع الإمام، أما طاعة الأقوال فتسمى "امتثالاً"، ولا تسمّى "اتباعاً" إلاّ مقيّداً" (4). الآية الثالثة: قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطراً} (5) قال المستدلون بها: "لولا أن اتباعه - صلى الله عليه وسلم - فيما يفعله يفيد الحكم الشرعي في حق الأمة، لما كان للآية معنى، لأن معناها: أنه ينتفي عنهم الحرج في نكاح مطلقات أدعيائهم، بكونه - صلى الله عليه وسلم - تزوّج مطلقة دعيه، وهذا لا يتمّ ما لم يكن متقرراً أن أفعاله حجة" (6). وقد اعترض على الاستدلال بالآية بأنها واردة في متابعته - صلى الله عليه وسلم - في تزوّج مطلقات الأدعياء، وليس فيها ما يدل على التأسّي في غير ذلك من الأفعال.   (1) سورة الطور: آية 21 (2) سورة البقرة: آية 135 (3) المعتمد 1/ 384 (4) المغني 17/ 260، 261 (5) سورة الأحزاب: آية 37 (6) انظر الآمدي 1/ 266 - 268، أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 384، ابن تيمية مجموع الفتاوى الكبرى 15/ 443 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وأجيب عن ذلك بأنه ليس فيها دلالة على خصوص متابعة المؤمنين للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، ولولا أن التأسّي بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ما يصنعه قاعدة شرعية عامة، لما فهم الصحابة رضي الله عنهم الحكم في ذلك في حقهم. ولذلك قال الآمدي: وهذا من أقوى ما يستدل به ها هنا. وعندي في الاستدلال بهذه الآية نظر. فإن إباحة التزويج كانت معلومة منذ نزل تحريم التبني، وبيان فساد ما سبق وقوعه منه، في قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلك قولكم بأفواهكم .. } إلى قوله: { .. وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} (1) مع قوله تعالى في المحرمات {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}. وإلغاء نظام التبني إلغاء لكل ما ترتب عليه، ومن ذلك ما كانوا يعتقدونه من تحريم مطلقات الأدعياء. إذن ليس الغرض من تزويجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب الإعلام بالحكم، فإن العلم به حاصل من قبل. ولكن العادات لها سلطان قويّ على النفوس، ويصعب مخالفتها، ويجد الإنسان في ذلك حرجاً كبيراً. وكم من لباس مباح نافع للناس، يمتنع الإنسان من لبسه، وهو يعلم أنه حلال، لمجرد أنه يجد الحرج في ذلك، لعدم جريان العادة بلبسه في بيئته. وكذلك في المناكح والعلاقات الاجتماعية وغيرها. والروّاد هم الذين لا يبالون بذلك الحرج، فيفعلون الحسن لحسنه، وبذلك يكوّنون عادات جديدة نافعة، ويوجدون قبولاً لها في بيئتهم، وبذلك يفتحون المجال أمام غيرهم لينتفعوا بتلك العادات الجديدة. وهذا عين ما تشير إليه الآية (2).   (1) سورة الأحزاب: آية 4 (2) لم أجد أحداً من المتقدمين أشار إلى هذا المعنى. ثم وجدت الأستاذ الفاضل محمد مصطفى شلبي ذكره، وأكد لي ما فهمته، حيث قال في كتابه "تعليل الأحكام" ص 17 ما نصه (أمر الله رسوله الكريم بزواجها، معللاً هذا الحكم بدفع الحرج والضيق عن المؤمنين في إقدامهم على ذلك الفعل. وكيف لا يكون حرج وقد كانت عادة التبني في الجاهلية فاشية = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فليس الحرج المطلوب إبطاله في الآية إذن هو الحرج من جهة الله تعالى، وهو الإثم، ولكن الحرج هو الضغط الاجتماعي المانع من العمل بما أباحه الشرع. وبذلك لا تكون الآية دالة على المطلوب في هذا الموضع. وبالله التوفيق. ثانياً: الأدلة من السنة لا يصلح الاحتجاج بالسنة الفعلية في هذا المقام، لأنه يكون من باب إثبات الشيء بنفسه. وإنما يصح الاحتجاج هنا بالسنة القولية. وقد ورد مما يدل على ذلك أمور: الأول: أن قوماً سألوا عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فكأنهم تقالّوها، فأراد أحدهم أن يقوم الليل فلا ينام، والآخر أن يصوم فلا يفطر، والثالث أن لا يتزوج النساء. فلما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمرهم، قال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ " قالوا: نعم. قال: "لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (1).   = فيهم متأصلة، حتى حكموا للأدعياء بما للأبناء من الحقوق، فلو اقتصر القرآن في إبطال التبني على قوله: {وما جعل أدعيائكم أبنائكم} لشق على بعض النفوس الإقدام على نكاح حليلة المتبنى مخافة لوم الآخرين. لذلك شاء الله ما كان من زواج زيد لزينب، وحصول الكراهة بينهما، ووقوع الشكاية، حتى يتم الفراق، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنكاحها ليقطع جذور هذه العادة، فإذا أقدم غيره من المؤمنين على مثل هذا أجاب بقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} اهـ. ثم وجدت صاحب مسلم الثبوت وشارحه (2/ 181) يقولان: "القول ينفي الحرج شرعاً لا طبعاً. فإن الإنسان كثيراً ما يتحرج من فعل المباح لما (يرى) فيه من المداهنة. ينفر الطبع، وفعل الرسول المتبوع ينفيهما جميعاً" وهو توجيه مقبول، إلا أنه يلزمه أن هذا الفعل لا يتعين بياناً شرعياً، وهو مطلوبنا، خاصة وقد كان البيان القولي في هذه المسألة سابقاً للفعل. (1) رواه مسلم 9/ 176 والبخاري أول كتاب النكاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فقد أنكر عليهم مخالفته فيما يفعله، وذلك دالّ على المطلوب. ثم أخبرهم بما يفعله هو، وغرضه أن يقتدوا به في ذلك، وفي هذا دلالة أخرى. ثم وضع قاعدة عامة "من رغب عن سنتي فليس مني" ولفظ (السنة) هنا عام، وقد ورد على سبب معين هو الاقتداء بالأفعال، وقد تقرر في علم الأصول أن صورة السبب قطعيّة الدخول في العام. فثبت المطلوب. ويدلّ ذلك على أن الأفعال النبوية جزء من السنة النبوية يحتج به كما يحتج بالأقوال. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عرض الأمر الذي هو بحاجة إلى بيان حكمه، يذكر للقوم أحياناً، أن يفعله (1)، ويرى ذلك كافياً في البيان. ولا يكون كافياً ما لم يكن متقرّراً أن فعله دليل وحجة. ومن ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر: 1 - حديث جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة الغسل، أنه قال: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً". وأشار بيديه كلتيهما (2). وروي مثله من حديث جابر (3). 2 - وحديث أنس: "إني لأتوب إلى الله تعالى في اليوم سبعين مرة" (4). 3 - وحديث أبي رافع: "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرُد" (5). 4 - وحديث عائشة أن رجلًا قال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا جنب، فأصوم؟ قال: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" (6).   (1) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى 18/ 9 (2) البخاري (فتح الباري 1/ 367) ومسلم وأصحاب السنن (الفتح الكبير). (3) أحمد ومسلم (الفتح الكبير). (4) النسائي وابن حبان (الفتح الكبير). (5) أحمد وابن حبان أبو داود والنسائي (الفتح الكبير) والبرد جمع بريد، وهو الرسول. (6) أحمد ومسلم (نيل الأوطار 4/ 225) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وروي مثله عن أم سلمة. فقد سأل عمر بن أبي سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيقبِّل الصائم؟ قال: "سل هذه الأم سلمة. فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك (1). 5 - حديث عائشة، أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل. وعائشة جالسة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأفعل هذا أنا وهذه ثم نغتسل" (2). ثالثاً: دليل الإجماع نجد الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من التابعين والأئمة، قد ورد عنهم ما لا يكاد يُحصى كثرة، الاحتجاج بالسنة العملية. والذي عن الصحابة من ذلك صنفان: الأول: القول الصريح الناطق بأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة. والثاني: الاحتجاج عمليّاً بالفعل النبوي. فمن النوع الأول : 1 - أن أبا بكر رضي الله عنه جاءته فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تسأله ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نورث، ما تركنا صدقة" إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه فيه إلا صنعته (3) وفي رواية قال أبو بكر: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملته، وإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ (4). 2 - حديث عمر، قال له يعلى بن أمية: ألا تستلم هذين؟ يعني الركنين من   (1) مسلم (نيل الأوطار 4/ 223) (2) مسلم (نيل الأوطار 1/ 242) (3) أحمد في المسند 1/ 4 (4) أحمد في المسند 1/ 6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الكعبة اللذين من جهة الحِجْر. قال عمر: ألم تطف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى. قال: أليس لك في رسول الله أسوة حسنة؟ قال: بلى. قال: فانفذ عنك (1). فقوله رضي الله عنه: "أليس لك في رسول الله أسوة حسنة" إثبات أنه يرى أن الفعل النبوي حجة. ويفيد أيضاً أنه يرى الآية دالّة على ذلك، وأن هذا هو تفسيرها، كما تقدم. وهكذا يقال في الأحاديث التالية. 3 - عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أكَبَّ على الركن (2) فقال: "إني لأعلم أنك حجر، ولو لم أر حبيبي - صلى الله عليه وسلم - قبّلك أو استلمك، ما استلمتك ولا قبلتك، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" (3). 4 - حديث علي (4) في مناظرته للخوارج، إذ نقموا عليه التحكيم، كان في ما قال لهم: نقموا عليَّ أني لما كاتبت معاوية، كتبت: عليّ بن أبي طالب: (يعني: لم يكتب: أمير المؤمنين) وقد جاء سهيل بن عمرو، فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بسم الله الرحمن الرحيم) قال: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم. قال: وكيف نكتب؟ قال سهيل: اكتب: باسمك اللهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فاكتب: محمد رسول الله. فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك. فكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً. قال علي: ويقول الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}. 5 - حديث عائشة، عندما سئلت عن القبلة للصائم. قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، ولكم في رسول الله أسوة حسنة (5).   (1) أحمد 4/ 422 (2) يعني الركن الذي فيه الحجر الأسود. (3) أحمد في المسند 1/ 21 قال أحمد شاكر "صحيح. وله طرق كثيرة" قلت هو في الصحاح والسنن من طرق، لكن ذكر الأسوة الحسنة ليس إلا في هذه الرواية لأحمد. وهي صحيحة. (4) مجمع الزوائد 6/ 235 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. والحاكم في المستدرك 3/ 152 (5) أحمد 6/ 192 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 6 - أن ابن عمر سئل عن رجل طاف بالبيت في عمرة، ولم يطف بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت سبعاً، وصلّى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة سبعاً، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (1). 7 - حديث ابن عمر أيضاً: أن أحد أصحابه نزل عن راحلته فأوتر ثم أدركه، فقال له ابن عمر: أين كنت؟ قال: خشيت الفجر، فنزلت فأوترت. فقال ابن عمر: أليس لك في رسول الله أسوة حسنة؟ قال: بلى والله. قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على البعير (2). 8 - عن أنس أنه صلّى على حماره لغير القبلة، فلما أنكروا عليه قال: "لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ما فعلته" (3). فهذه آثار مختلفة، يحتج فيها الصحابة، بأن لنا "في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة" على أن الحكم الشرعي يؤخذ من فعله - صلى الله عليه وسلم -. والنوع الثاني : ما ورد مما لا يكاد يحصى كثرة، من بيان الصحابة للأحكام بنقلهم ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، في طهاراته وصلاته وصيامه وحجه، وفي بيعه وشرائه، ومعاشرته لزوجاته، ومعاملته لأهل الحرب وغيرهم. ويرون ذلك ديناً، وأنه تقوم به الحجة على الناس إذا علموا به. ونحن في غنى عن التمثيل لهذا النوع لكونه لا يخفى على أحد ممن له صلة بفقه السنة النبوية. هذا وقد ردّ الرازيّ (4) والغزالي (5) الاستدلال بالسنة والإجماع في هذه   (1) حديث ابن عمر في العمرة: رواه البخاري (فتح الباري 3/ 615) (2) حديث ابن عمر في الوتر على الراحلة: رواه مسلم 1/ 487 وهو في الموطأ أيضاً في باب صلاة الليل. (3) مسلم 1/ 488 (4) المحصول ق 50 أ. (5) المستصفى2/ 51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 المسألة. قال الرازي: "هذه أخبار آحاد لا تفيد العلم". وأيضاً: أكثر هذه الأخبار واردة في الصلاة والحج، فلعله - صلى الله عليه وسلم - كان قد بيّن لهم أن شرعه وشرعهم سواء في هذه الصور. قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما تروني (كذا) أصلي". وقال: "خذوا عني مناسككم". اهـ. والشبهة الأولى التي ذكرها، مردودة بأنّ الأخبار الواردة في ذلك وإن كان كل منها بذاته خبر آحاد، إلا أنها متواترة معنويّاً، لاتفاقها على ذلك المعنى. والشبهة الثانية مردودة أيضاً، إذ هي دعوى مخالفة للواقع، وخيال لا حقيقة له، فإن أهل العلم والفقه منذ عصر الصحابة، ما زالوا يعتبرون الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله ديناً وشرعاً. ولا يخلو كتاب من كتب الفقه المدللة من الاحتجاج بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - في غير الصلاة والحج، كالطهارة، والبيع، والنكاح، والحرب، وغير ذلك. ونُقِل ذلك عن الصحابة فمن بعدهم. وإنكار ذلك مكابرة. وقد أحسن الآمدي بالإعراض عن هاتين الشبهتين وإغفال ذكرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 المبحث الثاني الشبه التي تورد على حجية الفِعل النبوي ثبت بما ذكرناه من الكتاب والسنة القولية والإجماع، أن الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - أنها حجة، تستفاد منها الأحكام في حق الأمة، بالاقتداء به فيها - صلى الله عليه وسلم -. ومنشأ حجيّة الأفعال النبوية يمكن إيضاحه كما يلي: 1 - لله تعالى في أفعال نبيه - صلى الله عليه وسلم - أحكام شرعية معينة. 2 - وهو - صلى الله عليه وسلم - عالم بتلك الأحكام. 3 - ويريد بفعله مطابقتها. 4 - ويعلم أن الفعل مطابق للحكم. فينتج أن فعله مطابق لحكم الله في حقه. 5 - وحكم أفعالنا المماثلة لأفعاله، كحكم أفعاله. فها هنا خمسة أمور، وما يورد من الشبه على حجية الفعل النبويّ، يرد في واحدٍ أو أكثر من هذه الأمور. فنذكر هذه الأمور الخمسة بالترتيب، ونذكر ما قد يورد على كل منها. فيكون الكلام على ذلك في خمسة مطالب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 المطلب الأول أن لفعله صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى حكماً شرعياً وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - بش ر مكلّف كسائر المكلفين، إذ هو عبد مربوب، وقد نزل عليه الوحي آمراً وناهياً. والذي قد يورد على هذا، أن يقال: ليس كل فعل فيه حكم شرعي، وإذا لم يكن في كل فعل حكم شرعي، احتمل أن يكون ما فعله - صلى الله عليه وسلم - صادراً عن العمل على مرتبة الإباحة العقلية، أي بناء على أن لا حكم في المسألة، فإذا استفيد من فعله حكم الفعل في حقنا، نسب ذلك إلى الشرع. فكانت الاستفادة خطأ. والذي نقوله في هذه الشبهة: إنها لا يمكن إيرادها على أحكام الأفعال التي يُتَقَرَّبُ بها واجب ومندوب، وإنما على الأفعال التي يفعلها - صلى الله عليه وسلم - على درجة الإباحة، فتلك يحتمل فيها هذا القول. فمن قال بوجود مرتبة العفو في الشريعة، لزمه أن يقول إن تلك الأفعال لا تدل على الإباحة الشرعية، بل على الإباحة العقلية، أعني أن الفعل الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - يكون خالياً عن حكم شرعي. ومن نفى مرتبة العفو أصلاً لم يلزمه ذلك. وقد تقدم الكلام في مرتبة العفو. المطلب الثاني أنه صلى الله عليه وسلم عالم بالحكم الشرعي في حق نفسه فقد ضمن له الله تعالى أن لا ينسى شيئاً من الكتاب الموحى إليه به، وضمن الله تعالى أن عليه بيانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. فالأحكام الموحى بها إليه - صلى الله عليه وسلم - ظاهرة عنده لا تخفى. وهذا العنصر الهام هو أحد الدواعي التي تحدو بعلماء الملة إلى تتّبع أفعاله - صلى الله عليه وسلم - لأجل الاقتداء بها. وقد أشار إليه جابر بن عبد الله الأنصاري، رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 عنه، في سياق وصفه لحجة الوداع، عندما قال: "أذّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس (بالحج) في السنة العاشرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجّ. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله ... ، ورسول الله بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به" الحديث (1). والذي قد يورد على هذا الأصل أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل باجتهاد، ويخطىء، في ذلك الاجتهاد كما تقدم. إلاّ أن الجواب عن هذا الإيراد واضح وهو أن الله تعالى لا يقرّ رسوله على خطأ في الاجتهاد. المطلب الثالث أنه صلى الله عليه وسلم يريد بفعله موافقة الحكم الشرعي في حقه والذي قد يورد على هذا شبه أربع: الشبهة الأولى: أن يقال: قد أجاز بعض الأصوليين صدور المعصية عنه - صلى الله عليه وسلم - عمداً إذا كانت صغيرة (2)، مع احتمال أن لا ينزل تصحيح لذلك، كما تقدم. فلو استفدنا الحكم من فعله لزم الاقتداء به في ما هو محرم. والجواب من وجهين: 1 - أن يقال: إن من أجاز ذلك أجازه على سبيل الندرة، والنادر لا يلغي   (1) حديث جابر في حجة الوداع: رواه مسلم 2/ 886 (2) أورد هذا أبو المعالي الجويني على قول من جوز تعمد الصغيرة على الأنبياء. انظر المحقق لأبي شامة ق 15 وأورده التميمي الحنبلي وجعله مؤيداً لقول الوقف في الفعل المجرد. انظر التمهيد لأبي الخطاب: ق 90 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 القانون العام الذي ثبت بالأدلة المتقدمة. بل الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - أنه يريد بها الموافقة. وهذا جواب المازري، وأقرّه أبو شامة، وقرّره الآمدي (1). 2 - أن يقال: من أجاز صدور الصغيرة عنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أجازها فيما لا ينبني عليه تشريع، فإذا انبنى عليها تشريع امتنعت عند قوم (2)، ولزم التنبيه عند آخرين، كما تقدم، لئلا يستقر في الشريعة ما هو مخالف لأحكام الله، إذ الشريعة معصومة بالإجماع. هذا وقد تتقوى هذه الشبهة بتدخل عنصر معيّن، وهو أن الله تعالى أمدَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، جزاء صبره على تكاليف الدعوة إلى أن فتح عليه، أمدّه بمغفرة سابقة لما قد يقع منه من المخالفات. قال تعالى في أول سورة الفتح: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} فقد يُظَن أن ذلك مما يدعوه - صلى الله عليه وسلم - إلى الاسترسال وعدم التحرّج، اعتماداً على المغفرة السابقة. وقد عرضت هذه الشبهة في الأفعال النبوية لبعض الصحابة. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن رجلاً جاء إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعْلَمكلم بما أتقي" (3)، وفي رواية أبي داود: "وأعلمكم بما أتّبع". وفي مسند أحمد: "وأعلمكم بحدوده ". وفي رواية: "وأحفظكم لحدوده".   (1) الإحكام 1/ 250 (2) منهم أبو عبد الله البصري، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، انظر كتابه: المغني 15/ 288 حيث يقول: "لم يثبت أن لا فعل إلا ويجب التأسي فيه، وإنما يجوز ذلك على وجه التأويل، وما هذا حاله لا تجوز فيه المعصية، وإنما يجوز ذلك على وجه التأويل فيما لا يتعلق بالشرائع". ونقل مثل ذلك عن أو عبد الله (البصري) 15/ 287 (3) صحيح مسلم، ط عبد الباقي 2/ 781 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 والحديث في الموطأ أيضاً. فلعلّ الذي خطر ببال الصحابي السائل أن بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجنابة أثناء الصوم يحتمل أن يكون معصية، وقد أقدم عليها اعتماداً على المغفرة السابقة. وربما كان ما خطر بباله أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يهتمّ بتعرّف الحكم في المسألة، اعتماداً على المغفرة المشار إليها. وكان جوابه - صلى الله عليه وسلم - مبطلاً لكلا الاحتمالين: فقوله: "إني أخشاكم لله" ردّ للاحتمال الأول. وهو إشارة إلى أن المغفرة لم تمنع كمال الخشية، لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بجلال ربّه وعظمته. وقوله: "وأعلمكم بما أتقي"، ردّ للاحتمال الثاني، إذ هو - صلى الله عليه وسلم - أعلم الأمة بمرادات ربه في الوحي المنزّل إليه. وقد أشرنا إلى ردّ هذا الاحتمال في المطلب الثاني المتقدم. الشبهة الثانية: أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل المكروه لبيان الجواز، كما تقدم. فما يؤمّننا أن يكون الفعل الذي نراه مفيداً للإباحة، هو في الأصل مكروه وقد فعله - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز، فتكون استفادتنا للحكم خطأ. ويجاب عن هذا بأنه لا بد أن تتبين كراهته إما بنهي عنه في موضع آخر، أو بالقرائن. الشبهة الثالثة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعامل الناس بما يتألفهم ولا ينفرهم، وقد قال الله تعالى له: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (1). فما يؤمّننا أن يكون الفعل الذي نريد أن نقتدي به فيه مكروهاً أو محرماً عليه في الأصل، ولكن أبيح له فعله للمصلحة الراجحة من تأليف القلوب، وحسن السياسة، والتوصّل إلى ما هو أهم وأعظم.   (1) سورة آل عمران: آية 159 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 والقاعدة المقررة عند الفقهاء "جواز ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما" والقاعدة الأخرى "احتمال المفسدة المرجوحة لتحصيل المصلحة الراجحة" ولم تزل هاتان القاعدتان دستور الساسة المهرة في كل العصور، وقد اتفقت على صحتهما الأمم. وقد قال الله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} (1). وأباح الله تعالى النطق بكلمة الكفر للتخلّص من الأذى، إذا اطمأن القلب بالإيمان. وقال ابن حجر: روينا في مسند الروياني وغيره بإسناد صحيح عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "كيف ترى جُعيْلاً؟ " قال: كشكله من الناس، يعني المهاجرين. قال: "فكيف ترى فلاناً؟ " قال: سيد من سادات الناس. قال: "فجعيل خير من ملء الأرض من فلان". قال: قلت: ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع؟ قال: "إنه رأس قومه فأنا أتألفهم به" (2). فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرّم ذلك الرجل تألُّفاً لقومه دون أن يكون أهلًا للكرامة لذاته. وقد أجاب القاضي عبد الجبار بمنع جواز التُّقْيَة للرسول، في ما أمر بأدائه، يقول: "ولو كانت مجوّزة لم تعظم رتبة النبي، لأنها إنما تعظم لأنه يتكفّل بأداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونه" (3). والمعتمد في الجواب أن يقال: إن المهمّة الأولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت البيان عن الله تعالى. فحيث كانت السياسة لا تتعارض مع البيان، فلا إشكال، كأن يقدّم بعض المباح ويؤخّر بعضه. ومنه عندي حديث جعيل، المتقدم.   (1) سورة آل عمران: آية 28 (2) فتح الباري 1/ 80 (3) المغني 15/ 284 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وحيث تعارضا، فإن كان هناك قرائن تبيِّن أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ما فعل، على سبيل السياسة، فالأمر واضح، وإيس منهلاّ امتنع أن يكون فعله له مكروهاً أو محرماً، لأنه يؤدي إلى أن يستقر في الشريعة ما ليس منها. والله أعلم. الشبهة الرابعة: أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يكون له عذر فيما فعل، أي أن يكون فعل الفعل على سبيل الرخصة، كأن يكون أفطر في رمضان، ويكون إفطاره لأجل مرض خفيّ. ومثاله أيضاً: أن يكون قد صلّى في ملابسَ دونٍ، لقلة الملابس اللائقة بجلال الصلاة، فمن اقتدى به - صلى الله عليه وسلم - في ترك الملابس الفاخرة في الصلاة، كان ذلك خطأ. ومثاله أيضاً: مما ورد في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر الإنفاق حتى لا يبقي شيئاً. ويتقشف في معيشته. يحتمل أن يكون ذلك للحاجات والضرورات الواقعة في المجتمع الإسلامي مما لا بدّ من الوفاء به. فإن اقتدي به في ذلك في السعة كان خطأ. ونظير ذلك في الإقرار ما ورد عن أبيّ بن كعب أنه قال: الصلاة في الثوب الواحد سنة، كنا نفعله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعاب علينا، فقال ابن مسعود: إنما كان ذلك إذ كان في الثياب قلة، فأما إذ وسّع الله فالصلاة في الثوبين أزكى (1). ومن هنا وقع الخلاف في المنيّ، ففي حديث عائشة أنها كانت تفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً فيصلي فيه (2). قال الشافعية والحنابلة: ذاك دليل طهارته. وقال الحنفية: هو نجس، ويجزئ فرك يابسه. ومثاله أيضاً: تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدنانير الذهبية، والدراهم الكسروية، وإقراره التعامل بها، مع ما عليها من صور القياصرة، ومعابد النيران. يحتمل أن   (1) أحمد في المسند 5/ 141 (2) رواه مسلم 3/ 196 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 يكون فعل ذلك من باب الضرورة لعدم إمكان سكّ نقود جديدة خالية من ذلك على عهده - صلى الله عليه وسلم - (1). ومثاله أيضاً: تركه أن يصلي العيد بالمسجد، بل خرج إلى المصلى، يحتمل أنه فعل ذلك لضيق المسجد عن أن يتسع لجميع القادمين لصلاة العيد، ويحتمل أن ذلك هو السنة. والجواب: أن أفعاله هذه موافقة للحكم الشرعي في حقه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الرخصة، وليست مخالفة لها. والواجب الفحص عنها على أي وجه وقعت، وما العذر الذي لأجله حصلت. وهذا هو ما يصنعه المجتهدون حيال مثل هذه الأحاديث. فإذا علموا السبب أناطوا الحكم به. وإذا جهل السبب فيكون الظاهر أن الحكم مطلق، ويعمل بذلك الظاهر. والله أعلم. المطلب الرابع أنه صلى الله عليه وسلم عالم بمطابقة فعله للحكم الشرعي والذي قد يورد على هذا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه بشراً، قد ينسى كما تقدم. وربما فعل أثناء ذلك النسيان، أو ترك، ما هو معذور به، فنبني عليه أحكاماً شرعية. وذلك خطأ. والجواب: ما تقدم في بحث العصمة من أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل نسياناً ما هو مخالف للحكم الشرعي، فإنه ينبّه لذلك، لئلا يُقْتَدى به فيه. أما على قول من منع النسيان في ما ينبني عليه حكم شرعي، فالجواب واضح.   (1) الشيخ عبد المجيد وافي جعل هذا الوضع دليلاً على إباحة استعمال الصور وأنكر على النووي قوله بالتحريم. انظر مقاله في كتاب (عمر- نظرة عصرية جديدة) ط مؤسسة الدراسات العربية، بيروت ص 161 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقد يورد عليه أيضاً على أصول الحنفية، أنهم أثبتوا في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - الزَّلة، وعرفوها بأنها "اسم لفعلٍ غير مقصود في عينه، لكنه اتّصل به الفاعل عن فعلٍ مباحٍ قَصَدَه، فزلّ بشغله (به) عنه إلى ما هو حرام لم يقصده أصلاً" (1). والجواب: عن هذا الإيراد أنهم التزموا أن الزّلة لا بدّ من اقترانها ببيان أنها زلّة. المطلب الخامس أن حكم أفعالنا المماثلة لأفعاله صلى الله عليه وسلم، كحكم أفعاله ولا فرق فما كان واجباً عليه فهو واجب علينا، وما كان مندوباً له فهو مندوب لنا، وما هو حلال له فهو لنا حلال. ومقتضى هذا أننا إذا علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل فعلاً على وجه الوجوب وجب علينا أن نفعله. وإذا فعل فعلاً على وجه الندب، وجب علينا اعتقاده مندوباً لنا وصح منا التنفل به. وإذا فعله على وجه الإباحة وجب اعتقاده مباحاً لنا وجاز لنا أن نفعله. والذي قد يورد على هذا الأصل، أنه قد ثبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أفعال خاصة به أجمعت الأمة عليها، فما يؤمِّننا أن الفعل الذي نريد الاستدلال به هو أحد الخصائص، فيكون الاستدلال به خطأ؟. والجواب: أن ما علم بدليل، أنه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - خرج عن هذه القاعدة، إذ كونه خاصّاً به يقتضي أن لا نشاركه في حكمه.   (1) البزدوي: أصول البزدوي ص 920 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وما علمنا بدليل خاص أنه مشترك بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - فحكمنا فيه حكمه بالاتفاق، لأجل ذلك الدليل الخاصّ الدالّ على التأسّي. وأما ما لم يعلم أنه خاصّ به، ولم يعلم أنه مشترك بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم -، وهو أكثر أفعاله، فهذا محل الاشتباه، وعنده اختلفت أنظار الأصوليين. وسيأتي إيضاح الخلاف في ذلك واستيفاء القول فيه في الفصل التالي والذي بعده إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الفصل الرابع أقسام الأفعال النبوية الصريحة ودلالة كل منها على الأحكام 1 - الفعل الجبلي. 2 - الفعل العادي. 3 - الفعل في الأمور الدنيوية. 4 - الفعل الخارق للعادة (المعجزات). 5 - الخصائص النبوية. 6 - الفعل البياني. 7 - الفعل الامتثالي (التنفيذي). 8 - الفعل المتعديّ. 9 - ما فعله - صلى الله عليه وسلم - لانتظار الوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أقسام الأفعال النبويّة ودلالتها على الأحكام قدمنا في الفصل السابق أن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث الجملة حجّة على الأمة. وأن ذلك هو الأصل فيها. وأثبتنا ذلك بالأدلة، ورددنا الشبه التي قد تورد على حجيتها. وفي هذا الفصل نستعرض الأفعال النبوية بأنواعها، ونبيّن ما يعرف به كل نوع، وهل يدل على حكم أو لا يدل عليه، والأحكام التي تدل عليها تلك الأنواع. أقسام الأفعال النبوية: فعله - صلى الله عليه وسلم -: إما متعلق بغيره وهو الفعل المتعديّ، أو قاصر عليه. وفعله القاصر عليه إما أن يصدر عنه لداعي الجبلة، أو اتباعاً للعادة، أو لتقديره فيه منفعة أو دفع مضرة، أو هو تابع للشرع. وفعله التابع للشرع إما معجز أو غير معجز. وفعله غير المعجز إما أن يفعله لأنه مطلوب منه خاصة وهي الخصائص النبوية، أو هو مشترك بيننا وبينه. والمشترك إما أن يعلم أنه متعلق بوحي معين، يفعله بغرض تبيين مجمل في ذلك الوحي أو مشكل وارد فيه، أو لمجرد امتثال الأمر الإلهي في ذلك الوحي. وإما أنه لا يعلم تعلقه بوحي معين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 والذي لا يعلم تعلقه به إما أن يفعله مؤقتاً لانتظار الوحي، وإما أن يفعله على غير ذلك الوجه، وهو الفعل المبتدأ المجرّد. فانحصرت أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في عشرة أقسام (1)، هي كما يلي: 1 - الفعل الجبِلّيّ. 2 - الفعل العَادي. 3 - الفعل الدنيوي. 4 - الفعل المعجز. 5 - الفعل الخاص. 6 - الفعل الامتثالي. 7 - الفعل المؤقّت لانتظار الوحي. 8 - الفعل المتعدّي. 9 - الفعل المبتدأ المجرّد. وسوف نعقد لكل قسم منها مبحثاً خاصاً من هذا الفصل، ونخص الفعل المبتدأ بفصل مستقل، نظراً لأن البحث فيه هو لب باب الأفعال وأهمّ ما فيه، وما عداه إنما يذكره الأصوليون مع وضوحه، بقصد تحديد المراد بالفعل المبتدأ. وقبل التفصيل نشير إشارة مجملة لما يدل عليه كل قسم منها، فنقول: إن الفعل الجبلي والعادي والدنيوي لا قدوة فيها، ولا تدل على أكثر من الإباحة، والفعل المعجز والخاص كذلك لا قدوة فيهما، لما فيهما من معنى الاختصاص به - صلى الله عليه وسلم -، والفعل البياني والامتثالي يقتدى بهما، والمؤقت لانتظار الوحي لا قدوة فيه إذا جاء الوحي بخلافه، والمجرّد فيه تفصيل، يعلم في موضعه. ونقدم قبل ذلك بيان الطرق العامة التي يسلكها علماء الأمة، على اختلاف نزعاتهم، في استفادة الحكم من الفعل النبوي.   (1) ذكر أبو الحسين البصري (المعتمد 1/ 385) تقسيماً للأفعال، ولم يحصر عددها، وحصرهما أبو شامة في ستة أقسام (المحقق 3 ب) ونحن استوفينا حصرها استيفاء لم نطلع على مثله. وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 طرق العلماء في حجية أنواع الأفعال النبوية، ودلالة كل منها على الأحكام: للعلماء في ذلك ثلاث طرق رئيسية: الطريقة الأولى: أن الفعل النبويّ بمجرده دالّ على الحكم في حقنا، يعني سواء علمنا حكمه بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لم نعلم. وأصحاب هذه الطريقة على ثلاثة مسالك: فمنهم من قال: هي دالة على الوجوب في حقنا. ومنهم من قال: هي دالة على الندب في حقنا. ومنهم من قال: هي دالة على الإباحة. الطريقة الثانية: أنها لا تدل على شيء في حقنا إلاّ باعتبار حكمها بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -. فما فعله على وجه الوجوب فهو علينا واجب. وما فعله على وجه الندب فهو لنا مندوب. وما فعله على وجه الإباحة فهو لنا مباح. وما لم نعلم حكمه بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - حملناه على أدنى الاحتمالات. ورأى أبو علي بن خلاد أن التساوي بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - حاصل في أحكام العبادات خاصة، وأما فيما عداها فلا. الطريقة الثالثة: أنها ليست أدلّة بمجردها، وليست أدلة باعتبار حكمها بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -، لاحتمال أن يكون الفعل الذي فعله من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - (1).   (1) انظر: أبا الحسين البصري: المعتمد 1/ 377، الآمدي: الإحكام 1/ 247 وما بعدها. المحلي: شرح جمع الجوامع 2/ 97 - 99، أبا شامة: المحقق ق 2، 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 تحرير محل النزاع: ليس الخلاف السابق ذكره هو في جميع الأفعال، بل ما كان من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - جبلياً أو شبهة، أو كان من خصائص، أو اقترن به دلالة خاصة على أن المراد به التأسّي، أو وقع بياناً لشيء من آي الكتاب، فالأمر فيه واضح. وإنما الخلاف فيما وراء ذلك وهو الفعل المجرّد المبتدأ. والأقوال المذكورة إنما هي في هذا النوع (1).   (1) سيأتي أن أبا شامة رأى أن الفعل الجبلي يندب لنا الموافقة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 المبحث الأول الفِعل الجبلي إن النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - كغيره من أنبياء الله، بشر كسائر البشر، لم يتميّز عن سائر البشر إلاّ بأن الله أوحى إليه برسالته، واختاره ليؤدي مهمة البلاغ وما يتبعها مما تقدم ذكره. قال الله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد} (1). {قل سبحان ربي هل كنت إلّا بشراً رسولاً} (2). وإن اختيار الله تعالى له لحمل الرسالة لم يَستتبع انخلاعه - صلى الله عليه وسلم - من رتبة البشرية، بل بقي واحداً من البشر، له مثل ما لهم من الحاجات البدنية والنفسية. وذلك مقتضى إنسانيته وبشريته، من أجل ذلك كان قضاؤه لتلك الحاجات أمراً دعت إليه جبلته البشرية، وليس بمقتضى الرسالة، أما الذي بمقتضى الرسالة فهو الأفعال التشريعية التي يفعلها لتكون مطابقة لشرع الله تعالى. تنبيه: إن كان الفعل مما لا تقتضيه الجبلة كالركوع والسجود، ورفع اليدين في الدعاء، ونحو ذلك، فهو خارج عن هذا المبحث، بخلاف القيام والجلوس والاضطجاع والأكل والشرب. فإذا وجد المخالف لمقتضى الجبلة في الفعل العبادي، فهو مشروع فيها قطعاً، إما مستحبّ أو واجب، ما لا يُظَنّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله في أثناء العبادة لغرض بدني أو نحوه فيكون من المباح.   (1) سورة فصلت: آية 6 (2) سورة الإسراء: آية 93 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ونضرب لذلك مثلاً بفرعين: الفرع الأول: تحويل الرداء في الاستسقاء، الجمهور أنه فعل تشريعي. وعن أبي حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب من ذلك شيء (1). الفرع الثاني: وضع اليدين على الصدر في الصلاة، لا تقتضيه الجبلة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله. قال الجمهور باستحبابه. وهو الذي ذكره مالك في الموطأ. وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، ومنهم من كره الإمساك (2). والأفعال الجبلية على ضربين : الضرب الأول : فعل يقع منه - صلى الله عليه وسلم - اضطراراً دون قصد منه لإيقاعه مطلقاً، وذلك كما نقل أنه كان إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر (3)، وإذا كره شيئاً رؤي في وجهه (4)، وكتألمه من جرح يصيبه، أو حصول طعم الحلو والحامض في فمه من طعام يأكله، وما يدور في نفسه من حبٍّ وكراهة لأشخاص أو أشياء، مما لا سيطرة له على منعه أو إيجاده، ككراهيته أكل لحم الضب، وكراهيته قاتل حمزة. ومثل هذا أيضاً ما يفعله في حالات اللاّوعي، كما يقع منه من الحركات وانتقال الأعضاء في منامه، أو غفلته، أو نحو ذلك. فهذا النوع لا حكم له شرعاً، لوقوعه دون قصد منه - صلى الله عليه وسلم -، وهو لذلك خارج عن نطاق التكليف، ومن أجل ذلك لا يستفاد منه حكم، ولا يتعلق به أمر باقتداء ولا نهي عن مخالفة. ومما يستأنس به لصحة هذه القاعدة ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: "اللهم هذا قسمي في ما أملك، فلا تلمني في ما تملك ولا   (1) فتح الباري، مصطفى الحلبي 3/ 152 (2) ابن حجر: فتح الباري 2/ 224 (3) متفق عليه (الفتح الكبير). (4) الطبراني في الأوسط (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أملك" (1). والذي لا يملكه - صلى الله عليه وسلم - هنا هو ميل القلب إلى إحداهنّ أكثر من الأخرى. فهذا لا قدوة فيه، والمطلوب العدل قدر الإمكان. وقد يقع من الأفعال ما يشتبه فيه أنه اضطراري أو غير اضطراري، فيقع الاشتباه في حكمه على أساس ذلك. ومن ذلك ما ورد عن مطرّف بن عبد الله عن أبيه، قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرَّحَى من البكاء" (2) - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أنه كان يستدعي البكاء بمناسبته لمقصود العبادة، فيدل على جواز استدعائه، ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغلبه البكاء وهو لا يريده، فلا يدل على جواز استدعاء البكاء. ولا بد لنا أن نفرق في أمر المحبّة والكراهية ونحوهما أيضاً بين نوعين منهما، لكل نوع حكمه: النوع الأول: المحبّة والكراهية الناشئتان عن تعويد النفس على موافقة الشرع، بمحبة المطلوبات الشرعية، وكراهية الممنوعات، هما فعلان دالاّن على الأحكام، وينبغي الاقتداء بهما. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" (3). ففي هذا الحديث، إن صحّ، حثّ على معالجة النفس لتستجيب للدواعي الشرعية، وتتّبع ما جاء به الشرع. والنوع الثاني: المحبة والكراهية الطبيعيتان، من محبة المستلذّات وكراهية المؤلمات. فهذا النوع هو المقصود هنا، وهو الذي لا قدوة فيه لخروجه عن سلطان الإرادة. ومن أجل ذلك قيّدْنا ما لا قدوة فيه من المحبة والكراهة بـ "ما لا سيطرة له على منعه أو إيجاده".   (1) أحمد والأربعة والحاكم (الفتح الكبير) والنسائي. (2) أبو داود 3/ 172 وهذا لفظه والترمذي. (3) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (تفسير القرطبي 16/ 167) ولم يسنده إلى شيء من كتب الحديث. وفي الأربعين النووية (الحديث 41) فال النووي: "هذا حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح" وكتاب (الحجة) هو لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي، ورواه الطبراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فمن النوع الأول من المحبة والكراهة، وهي التي تدل على الحكم، ويقتدى به - صلى الله عليه وسلم - فيها، ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره وتنعّله وترجّله وفي شأنه كله" (1). وكان يحب من أصحابه أبا بكر وعمر، وقال لمعاذ: "إني أحبّك" (2). وكان يكره النفاق والمنافقين، ويكره الكذب والكاذبين، وكان يكره أن يطأ أحد عقبه (3). وفي كل ذلك من أمره قدوة. ومن النوع الثاني، وهو المحبة والكراهة الطبيعيتان، ما ورد عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الحلواء والعسل (4)، ويحب الدبّاء (5)، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد (6). وكان أحب الطعام إليه الثريد من الخبز والثريد من الحيس (7). وكان يكره ريح الحناء (8). فلا قدوة في شيء من ذلك. ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك أكل الضبّ كراهةً له. قال: "أجدني أعافه" فلم يقتدِ به الصحابة في ذلك، بل أكله خالد بن الوليد على مائدته - صلى الله عليه وسلم -. الضرب الثاني : الأفعال الجبلّيّة الاختيارية، وهي ما يفعله عن قصد وإرادة، ولكنها أفعال تدعو إليها ضرورته من حيث هو بشر، ويوقعها الإنسان قصداً عند شعوره بتلك   (1) متفق عليه (الفتح الكبير). (2) أحمد وأبو داود وابن حبان (الفتح الكبير 3/ 401). (3) الحاكم في المستدرك (الفتح الكبير). (4) البخاري ومسلم والأربعة (الفتح الكبير). (5) أحمد والنسائي وابن ماجه عن أنس (الفتح الكبير) والدباء القرع. (6) متفق عليه (الفتح الكبير). (7) أبو داود والحاكم (الفتح الكبير) والحيس التمر يعجن بسمن وأقط ويخرج منه نواه. (8) أحمد وأبو داود والنسائي (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الضرورة. إلاّ أن إيقاعها تابع لإرادته وقصده، بحيث يستطيع الامتناع عن ذلك في وقت دون وقت. ومثال هذا الضرب: تناول الطعام والشراب، وقضاء الحاجة، واتخاذ المنزل، والملابس، والفراش، والمشي والجلوس والنوم والتداوي من المرض، والنكاح. فإن أصل هذه الأشياء ضروريّ للإنسان من حيث هو إنسان، بحيث يصيبه الضرر لو امتنع منها كلية. فهو يفعلها تحت ضغط الضرورة، وبذلك يكون فعله لها خارجاً عن التكليف، ولا قدوة بما لا تكليف فيه، وتكون من الضرب الأول الذي تقدّم ذكره. فمن فعل شيئاً من ذلك وزعم أنه يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخطأ، لأنه سيفعله شاء أم أبى. إلاّ أنه لا بد من التقصّي لأمور أربعة تتبع ذلك، هي التي تدخل في المراد بهذا الضرب الثاني. أولاً: الهيئات التي يمكن أن تقع عليها الأفعال المشار إليها في هذا الضرب. إذ الفعل يمكن أن يقع على هيئات مختلفة، فيفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الفعل على إحدى تلك الهيئات دون غيرها، كما ورد أنه كان ينام على جنبه الأيمن، ويأكل بيمينه، ويشرب ثلاثاً. ويأتي أهله بطريق أو طرق معينة. فليس ذلك دليلاً على استحباب تلك الطريقة أو وجوبها، لإمكان عمله على الهيئة أو الهيئات الأخرى، ما لم يدل دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - قصد بذلك موافقة الأمر الشرعي. ووجهه أن هذه الهيئات هي أيضاً أفعال جبلية اختيارية، وتدل على الإباحة. ثانياً: أنواع الأشياء المستعملة من الضرورات المشار إليها، إذ قد يأكل طعاماً معيناً، كما قد أكل التمر والعسل وخبز الشعير ونحو ذلك، وليس شيء من ذلك ضرورياً، إذ قد يترك ما أكله ويأكل بدله شيئاً آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وكذلك اتخذ - صلى الله عليه وسلم - بيوتاً مبنية من طين، ومسقوفة بالجريد. وكان له فراش من أدم حشوة ليف. وتزوّج نساء على أوصاف معينة، ومن قبائل معيّنة. وهذا النوع يدل على الإباحة أيضاً. ثالثاً: الأمكنة والأزمنة التي يوقع فيها الفعل الجبلي، إذ قد يأكل في وقت دون وقت، أو ينام في مكان دون آخر. رابعاً: ويلتحق بذلك أن يفعل مما تقتضيه الجبلة ما ليس أصله ضروريّاً. وإنما هو حاجى، كأصل اتّخاذ المراكب، أو مراكب من أنواع خاصة كالخيل والحمير والبغال. وكذلك ما يفعله - صلى الله عليه وسلم - ممّا فيه من المنفعة، وإن لم تكن حاجية، كاتخاذ العصا وشم الطيب. والفعل الجبلي الاختياريّ مهما كان نوعه يدل على الإباحة، ولا يدلّ على استحباب أو وجوب، ما لم يقترن بقول أو قرينة، تدل على ذلك، أو يكون له صلة بالعبادة، كما سيأتي في بقية هذا البحث. أقسام الفعل الجبلّيّ الاختياري: الفعل الجبلي الاختياري على قسمين، لأنه إما أن يكون له صلة بالعبادة، أو لا يكون له بها صلة. القسم الأول الفعل الجبلي الصرف والمراد به ما ليس له صلة بالعبادة، كأكل طعام معيّن كالتمر واللحم والعسل، وسير في طريق معين، ولبس ثياب ذات شكل معين، كالقباء والعباء والقميص، أو من مادة معينة كالقطن والصوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وهذا النوع من الأفعال يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإباحة. والمشهور عند الأصوليين أنه لا أسوة فيه، بل من شاء أن يفعل مثله فعل، ومن شاء أن يترك تركه، دون أن يكون للفعل ميزة على الترك من ثواب أو غيره، ودون أن يكون في الترك ذم شرعي. وبعضهم ادّعى الإجماع على ذلك. إلاّ أن ابن حزم اشترط في جواز الترك أن لا يكون رغبةً عما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان كذلك كان التارك آثماً. واحتج بالحديث: "لكني أنا أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني". فذكر أكل اللحم، وهو فعل جبلي صرف. ورأينا أن الحديث المشار إليه وارد فيمن ترك المباح تديناً وتقرباً إلى الله به، فهذا خلاف الشرع، إذ لا يُعْبَد الله بعبادة لم تشرع، ولأن ذلك ترك للمباح مع اعتقاد تحريمه أو كراهته، وذلك تغيير لشرع الله. ولا يصح أن يفهم من الحديث أن من أكل بالملعقة وترك الأكل بالأصابع فقد رغب عن السنّة واستحق الوعيد، ولا أنّ من توضأ من المغسلة أو الإبريق وترك الوضوء من إناء صفر يغترف منه باليد فقد رغب عن السنة، ولو اعتقد الآكل بالملعقة والمتوضئ من المغسلة أن ذلك أنظف وأحسن فليس ذلك أيضاً رغبة عن السنة، لأنه تركٌ للمباح مع اعتقاد إباحته، وليس في ذلك حرج. وأما دعوى الإجماع فالصحيح أن المسألة ليست مجمعاً عليها. فقد نقل الباقلاني في التقريب عن قوم لم يسمِّهم، أن التأسّي به - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله المباحة مندوب. وكذا حكاه الغزالي عن بعض المحدّثين. وبه صرّح السبكي في قواعده (1)، وإليه يميل أبو شامة (2)، ونقل المازريّ عن قوم لم يسمِّهم القول بوجوب التأسي في جميع الأفعال على الإطلاق، وذلك يقتضي دخول هذا النوع.   (1) ق 115 أ. (2) أبو شامة: المحقق ق 3 ب، 4 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 والقول بالوجوب هنا بعيد جداً. أما القول بأنه يدل على الندب فله حظ من النظر. والندب هنا على طريقتين للقائلين به: الأولى: أن يقال: إن الظاهر من فعله - صلى الله عليه وسلم - إنه تشريع، فيحمل على الظاهر، والوجوب لم يتحقق، فيبقى حمله على الندب منه - صلى الله عليه وسلم -، ولما كان حكمنا كحكمه، يحمل على الندب في حقنا أيضاً. فالحكم فيه مستو بيننا وبينه. والثانية: أن يقال: الأصل عدم التشريع، فهو منه - صلى الله عليه وسلم - محمول على الإباحة، ولكن يُنْدَب لنا إيقاعه على مثل هذه الصورة التي أوقعها عليها هو - صلى الله عليه وسلم -. فالحكم بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - مختلف، هو منه مباح، ومنّا مستحب. والتأسي هنا واقع في صورة الفعل دون حكمه. فيؤجر على القصد لا على الفعل. ونحن نفصل القول في هذا القسم ليتبيّن الحق فيه إن شاء الله. فنقول: إن له أحوالاً مختلفة الدرجات. الدرجة الأولى: أن يرشد إلى الهيئة المخصوصة بالقول مع الفعل. وهذا يخرج الفعل عن هذا البحث، لأن النظر حينئذ في الدليل القولي. ومثاله ما ورد في الحديث: إنه كان إذا شرب تنفّس ثلاثاً، ويقول: "إنه أهنأ وأمرأ". ومثاله أيضاً: أنه كان يأكل بيمينه، وأمرَ بذلك، ويأكل مما يليه وأمر بذلك. الدرجة الثانية: أن يواظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على إيقاع الفعل الجبلي على هيئة مخصوصة ووجه معروف، كما نقل عنه ذلك في بعض هيئات الأكل والشرب والنوم ونحو ذلك. فهذا يحتمل أن المقصود به التشريع، فيكون مستحباً، ويحتمل أنه فعل ذلك لداعي الجبلة وحدها فلا يكون مستحباً (1). ومن ذلك أنه كان إذا نام   (1) الزركشي: البحر المحيط 2/ 248 أ. الشوكاني: إرشاد الفحول ص 35 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وضع يده اليمنى تحت خده (1)، وينام على جنبه الأيمن. وكان يأكل بثلاث أصابع (2). ومنشأ التردّد فيه قاعدة (تعارض الأصل والظاهر)، إذ الأصل عدم التشريع، وبراءة الذمم من التكاليف الشرعية، وهذا يقتضي في هذا النوع أن لا يكون واجباً ولا مستحباً. والظاهر أن فعله لما واظب عليه على طريقة معينة أنه شرع يتبع، لأن الغالب من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التشريع، إذ هو - صلى الله عليه وسلم - مبعوث لبيان الشرعيات (3). وقد نقل الزركشي عن أبي إسحاق في ذلك وجهين للشافعية، أحدهما: أنه سنة متبعة، والثاني: أنه لا يتبع فيه إلاّ بدليل. ونقل عنه أيضاً من موضع آخر من كتابه أن الوجه الثاني لهم أنه يتوقف فيه لاحتمال الخصوصية (4). وقد مال السبكي في القواعد إلى القول بالاستحباب. والمشهور عند المحدّثين، وهو المتداوَل في كتبهم وشروحهم للحديث، أن ذلك الفعل يدل على الندب، ويطلب التأسي به - صلى الله عليه وسلم - فيه. والأرجح عندي القول الثاني، وهو أنه دالّ على الإباحة لا أكثر. ولا تنتهض المواظبة والتكرار دليلاً على كون الفعل مقصوداً به التشريع، إذ كثيراً ما يقع من الإنسان أن يفعل الأفعال التي من نوع واحد بطريقة واحدة، بل إن ذلك هو الأغلب على الناس، لأن في ذلك اقتصاداً في المجهود الفكري، فالشيء إذا فعله الإنسان على الطريقة التي جرى عليها في مثله، أمكنه فعله دون إعمال للفكر فيه، وممكن الاستفادة من الفكر في أثناء ذلك الفعل في أشياء أخرى. فلما كان هذا من طبيعة البشر، فإن ما واظب عليه يُلْحَق بما لم يواظب عليه، ولا يستفاد من كل ذلك حكمٌ أعلى من الإباحة.   (1) أحمد والترمذي والنسائي (الفتح الكبير). (2) مسلم وأحمد وأبو داود (الفتح الكبير). (3) الزركشي: البحر المحيط 2/ 248 أ. (4) البحر المحيط 2/ 248 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الدرجة الثالثة: أن يقع منه الفعل الجبلّيّ لا على سبيل المواظبة والتكرار. ومثاله أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قد سار في أيمن الطريق أو أيسرها. أو جلس تحت شجرة معينة أو نحو ذلك. فهذا أضعف درجات الفعل الجبلي الاختياري. ودلالته على الإباحة واضحة. أما الندب فالقول به هنا أضعف منه فيما واظب عليه - صلى الله عليه وسلم -. وقد نُقِل عن ابن عمر رضي الله عنهما، ما يدل على أنه كان يَتَتَبّع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمواضع التي سار فيها أو جلس فيها، ذكر منها ابن سعد كاتب الواقديّ في الطبقات طرفاً (1). ومما يرويه المحدّثون من ذلك أنه رضي الله عنه جرّ خطام ناقته حتى أبركها في الموضع الذي بركت فيه ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسار براحلته في جانب من الطريق سارت فيه ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "لعلّ خفاً يقع على خفّ" (2). ونزل تحت شجرة كان نزل تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحث في أصلها الماء. وبال في موضع بال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت عائشة: "ما كان أحدٌ يتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - في منازله، كما كان يتبعها ابن عمر" (3). وشبيه بذلك ما نُقِل عنه أنه كان يلبس النِّعال السبتية اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان ابن عمر يستجمر بالألُوَّة غير مُطَرَّة، وبكافور يطرحه مع الألُوّة، ثم قال: هكذا كان يستجمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4). وهذا النقلان أشبه بالنوع الذي قبل هذا، وهو ما حصل على سبيل التكرار والمواظبة. وابن تيمية يفرّق بين نوعين من المتابعة في هذا: المتابعة في صورة الفعل، والمتابعة في مكان الفعل، فيقرّ بالخلاف في الأولى. وأما الثانية فهي عنده ممنوعة   (1) طبقات ابن سعد، بيروت، دار صادر، 1377 هـ 4/ 142 - 188. (2) نسبه علي الطنطاوي الى حلية الأولياء 1/ 310 ذكره في كتابه (سيرة عمر بن الخطاب وأخبار عبد الله بن عمر) ط بيروت، دار الفكر، 1380 ص 470 (3) طبقات ابن سعد 4/ 125. وانظر البداية والنهاية 5/ 179 (4) مسلم 4/ 1766 والألوة العود الهندي المعروف، وتطرية العود خلطه بالعنبر أو غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 اتفاقاً. يقول: "لو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً بحكم الاتفاق، مثل نزوله في السفر بمكان أو أن يفضل في إداوته ماء فيصبه في أصل شجرة، أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق، ونحو ذلك، فهل يستحبّ قصد متابعته في ذلك؟ كان ابن عمر يحب أن يفعل مثل ذلك. وأما الخلفاء الراشدون وجمهور الصحابة فلم يستحبوا ذلك، لأن هذا ليس بمتابعة لها، إذ المتابعة لا بدّ فيها من القصد، فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل، بل حصل له بحكم الاتفاق، كان غير متابع له في قصده. "وابن عمر يقول: وإن لم يقصده، لكن نفس فعله حسن على أيّ وجه كان، فأحب أن أفعل مثله، إما لأن ذلك زيادة في محبته، وإما لبركة مشابهته له ... "وهكذا للناس قولان في ما فعله من المباحات على غير وجه القصد، هل متابعته فيه مباحة فقط، أو مستحبة، على قولين في مذهب أحمد وغيره. يقول: "ولم يكن ابن عمر ولا غيره، يقصدون الأماكن التي كان ينزل فيها، ويبيت فيها، مثل بيوت أزواجه، ومثل مواضع نزوله في مغازيه، وإنما كان الكلام في مشابهته في صورة الفعل فقط وإن كان هو لم يقصد التعبّد به. فأما الأمكنة نفسها فالصحابة متفقون على أنه لا يعظّم منها إلا ما عظّمه الشارع" (1) اهـ كلامه. وقد يظن لأول وهلة أن هذا وهم من ابن تيمية، فقد صحّ عن ابن عمر أنه تحرى الأمكنة التي حصل الفعل النبويّ فيها بحكم الاتفاق، ومن ذلك الحديث الطويل الذي رواه البخاري (2) في الباب الذي عقده بعنوان (باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -) ذكر فيه المواقع التي كان ابن عمر يتحرّى الصلاة فيها، ويخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى فيها في أسفاره إلى مكة. وأيضاً: كان ابن عمر يتحرّى أن يصلي من الكعبة في المكان الذي قيل له إن   (1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى الكبرى 10/ 409، 410 (2) البخاري: 2/ 569. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى فيه (1). ويتحرّى أن يقف من عرفة في المكان الذي وقف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). ولكن قد بينّ ابن تيمية مراده في موضع آخر (3)، حيث بيّن أن ما فعله ابن عمر لم يزد على أنه كان يختار إحدى الصورتين الممكنتين في الفعل الواحد، وهي الموافقة لما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الأخرى، بأن تحضره الصلاة مثلاً في بقعة معينة قد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها فيختار الصلاة في تلك الناحية ويترك سائر نواحيها. والمستنكر عند ابن تيمية، ويدعى الاتفاق على إنكاره، أن تعظّم بقعة لم يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيمها، ويظهر ذلك بأن ينشئ المسلم لها سفراً طويلاً أو قصيراً. فهذا تقييد جيد في المسألة وتحرير صحيح لمحل النزاع. هذا وقد عوض ما كان يفعله ابن عمر من هذا النوع، بما فعله والده رضي الله عنهما. قال ابن حجر: ثبت عن عمر أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان. فسأل عن ذلك. فقالوا: قد صلّى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "من عرضت له الصلاة فليصلّ، وإلاّ فليمض، فإنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً". وقد أوّل ابن حجر هذا الفعل عن عمر رضي الله عنه، بحمله على من لا يعرف حقيقة الأمر، فيظن الصلاة هناك واجبة. وهو تأويل فيه نظر، فسياق القصة يأباه. واحتج أيضاً بحديث عتبان بن مالك، الوارد في صحيح البخاري، أنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيه في بيته، ليصلي له في مكان منه يتخذه مصلى، وفعل ذلك.   (1) البخاري 1/ 579 (2) ذكره ابن حجر في الإصابة 2/ 349 (سيرة عمر لعلي الطنطاوي). (3) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص 423 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وهذا خارج عن الموضوع، لأن صلاته - صلى الله عليه وسلم - هناك مقصودة ولهدف معلوم هو أن يُتّخذ مصلى، وليس ذلك وارداً على موضع النزاع، لأن النزاع في ما حصل من الأفعال بحكم الاتفاق. وذكر ابن حجر أيضاً أن عمر بن عبد العزيز بنى مساجد على مواضع بالمدينة ثبت له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فيها (1). ورأينا في مثل ذلك أن الفعل الجبلّيَّ الصرف لا يدل على الاستحباب مطلقاً، بل يدل على الإباحة. وسواء أكان مما واظب عليه - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم الترجيح فيه، أو مما لم يواظب عليه. ورأينا في ما نقل عن ابن عمر أنه فعل ذلك لا على سبيل التعبّد لله بذلك. أعني لا على سبيل أنه مستحب شرعاً، وإنما فعله بداعي عظم المحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو يسلّي نفسه، أو يستثير شوقه، بأن يعمل صورة ما عمل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بالكون في المكان الذي كان فيه: "لعل خفاً يقع على خف" كما قال رضي الله عنه. فهي مسألة شخصية صرفة، كما يصنع المحبّ المتيّم بآثار حبيبه، إذ يحتفظ بصورته، أو بقطعة من ثيابه، أو يذهب إلى المكان الذي قابله فيه، أو نحو ذلك. وقد حصل بسبب فعله ذاك، وحرصه عليه، أن نُقِلت إلينا معلومات تاريخية قيّمة في بيان أمكنة حصل فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - أفعال معينة، كصلاته داخل الكعبة مثلاً، إذ حدّد لنا موقع صلاته - صلى الله عليه وسلم - منها بالضبط. وفي مقابل ذلك حصل من أفعاله تلك ما يقابل هذه المصلحة، وهو ما حصل من الوهم عند كثير من الناس أن الاقتداء في ذلك مستحبّ. وأما الذي يقتدى به في هذا فهو عمر رضي الله عنه، ثاني الراشدين، اللذين أمرنا أن نقتدي بسنتهم، وهذا من سنتهم. تنبيه: بعض ما نقلناهُ عن ابن عمر داخل في القسم التالي، وهو ما له علاقة   (1) فتح الباري 1/ 571 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 بالعبادة، ولكن ذكرناه في هذا القسم استيفاء لما نقل عنه، وجمعاً له في مكان واحد. القسم الثاني الفعل الذي له علاقة بالعبادة وهو ما وقع في أثناء العبادة، أو في وسيلتها (1)، أو قبلها قريباً منها، أو بعدها كذلك. فمما وقع في أثناء العبادة نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالمحصّب ليلة النفر (2)، وقبض الأصابع الثلاث في التشهد، ووضعها على الأرض مضمومة في السجود. وجلسة الاستراحة (3) بعد الركعة الأولى وبعد الثالثة، والتطّيب للإحلال من الإحرام، واتكاؤه - صلى الله عليه وسلم - أثناء الخطبة على قوس أو عصا، ولبس النعلين في الصلاة، يحتمل أنه فعله لكونه من سنة الصلاة، ويحتمل أنه فعله على سبيل الجواز فقط، كما يلبس في الصلاة قطناً أو صوفاً أو غير ذلك (4). ومما وقع في وسيلة العبادة دخوله مكة من طريق كُدَيّ، وخروجه من طريق   (1) البناني: حاشية على شرح جمع الجوامع 2/ 97 (2) المحصب بطحاء مكة. (3) قال ابن السبكي: مما دار بين الجبلي والشرعي: جلسة الاستراحة عندما حمل اللحم. فقيل ذلك جبلي فلا يستحب، وقيل شرعي وهو الصحيح. وقيل يستحب للمبدن وفي معناه العاجز الضعيف دون غيرهما (قواعد ابن السبكي ق 115 أ). وقال ابن دقيق العيد: جلسة الاستراحة قال بها الشافعي في قول، وأصحاب الحديث، وأباها مالك وأبو حنيفة وغيرهما، وعذرهم عن الحديث (يعني حديث مالك بن الحويرث أنه كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض) أنه يحمل على أنها بسبب الضعف للكبر، فإن تأيد هذا التأويل، بقرينة، مثل أن يتبين أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - السابقة على حالة الكبر لم يكن فيها هذه الجلسة فلا بأس بهذا التأويل. فإن قوي ذلك باستمرار عمل السلف على ترك الجلوس كان زيادة في الرجحان. اهـ بتصرف قليل (إحكام الأحكام 1/ 225). (4) وانظر فتح الباري 1/ 494 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 كَدَاء ودخوله المسجد الحرام من باب بني شيبة، وطوافه - صلى الله عليه وسلم - بالبيت راكباً على بعير، وكذلك في السعي بين الصفا والمروة، ووقوفه في الموقف بعرفات على بعير، وعودته - صلى الله عليه وسلم - من صلاة العيد من طريق غير طريق الذهاب، وذهابه إلى العيد ورجوعه منه ماشياً (1)، ووقوع صلاته في السفر في مواضع معينة. ومما وقع قبل العبادة قريباً منها: اضطجاعه - صلى الله عليه وسلم - قبل صلاة الفجر بعد أن يصلّي النافلة. قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظةً حدثني، وإلاّ اضطجع حتى يؤذَن بالصلاة". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية للبخاري: اضطجع على شقه الأيمن. وقد أوجب ابن حزم (2) الضجعة بعد ركعتي الفجر. وقال الشافعية باستحبابها بناء على هذا الحديث. وبوّب عليه البخاري: "باب الضجعة على الشقّ الأيمن بعد ركعتي الفجر". مما يوحي بأنه يرى استحبابه. واستنكره ابن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخعي والحسن البصريّ ممن فعله، وقال ابن عمر هو بدعة (3). ومما وقع بعد انتهاء العبادة انصرافه - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عن يمينه أو عن يساره. فهذا القسم الثاني وهو ما له صلة بالعبادة، بأنواعه الأربعة أعلى من القسم الذي قبله. والقول بالندب فيه أظهر من القسم الأول، وهو ما لا صلة له بالعبادة. فإذا انضمّ إلى صلته بالعبادة عنصر التكرار والمواظبة عليه قوي القول بالندب فيه. وباستقراء الفروع الفقهية يبتيّن أن هذا النوع على درجات (4):   (1) حديث: كان يخرج إلى العيد ماشياً .. : رواه ابن ماجه (المغني لابن قدامة 2/ 374) (2) الإحكام ص 432 (3) حديث اضطجاعه - صلى الله عليه وسلم - بعد ركعتي الفجر: البخاري 3/ 43 ومسلم. وذكر الشق الأيمن هو عند البخاري خاصة. والنقول عن السلف - صلى الله عليه وسلم - من كلام ابن حجر في فتح الباري 3/ 43 (4) وانظر الزركشي: البحر المحيط2/ 248ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الدرجة الأولى: أن الفعل الجبلي يُلحظ فيه أحياناً أنه مقصود في العبادة ليكون جزءاً منها. وقد قيل بالوجوب في ذلك أحياناً ولو لم يرد فيه قول آخر. ومن ذلك الجلوس بين الخطبتين، قال الشافعي بوجوبه، وقال غيره من الأئمة بأنه مستحبّ، ونُقِل عن بعض الصحابة أنهم خطبوا فلم يجلسوا حتى الفراغ (1). وكذلك القيام في الخطبتين، واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقيل بوجوبه. وهو أحد القولين في مذهب أحمد. والقول الآخر أنه لا يجب، وهو مذهب أبي حنيفة (2). وعندي أن الوجوب هنا ليس متلقّى من مجرد الفعل، بل من كونه فعلاً بيانيّاً في اعتقاد القائل بالوجوب، أي اعتقاد أن الفعل مقصود به بيان صفة خطبة الجمعة المأمور بها في سورة الجمعة، فهذا القصد هو سبب القول بالوجوب. إذ الفعل البياني يمكن أن يُدَلّ به على الوجوب، كما يأتي. الدرجة الثانية: ما سبيله الاستحباب من ذلك، وهو ما وضح فيه أمر التعبّد، وذلك إن عُلم، أو غَلَب على الظن بأمارة، أن المقصود التعبّد به، كالقيام في الخطبتين والجلوس بينهما كما تقدم، وصلاته - صلى الله عليه وسلم - داخل الكعبة، وإفطاره على رطباتٍ وتراً، ونحو ذلك. ومن هذا النوع عند الجمهور تحويل النبي - صلى الله عليه وسلم - رداءه في دعاء الاستسقاء، لم يقل أبو حنيفة بمشروعيته. وقال من احتج له: إنما قلب - صلى الله عليه وسلم - رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع اليدين لا الدعاء، فهو عنده جبليّ. وأجيب بأن تثبيت الرداء لا يدعو لقلبه، فالظاهر أنه قلبه قصداً تعبّداً (3). الدرجة الثالثة: ما حصل التردّد فيه بين أن يكون مقصوداً به التعبّد أو لا. فهذا الذي فيه الخلاف.   (1) ابن قدامة: المغني 2/ 306. (2) ابن قدامة: المغني 2/ 302، 303 (3) ابن دقيق العيد. الأحكام 1/ 342 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والخلاف فيه ناشئ عن تعارض الأصل والظاهر كما تقدم. إذ الظاهر أن المقصود به التشريع، لصلته بالعبادة، والأصل عدم هذا القصد. والذي نرجحه أنه لا يدل على الاستحباب، وإنما قصاراه أن يدل على الجواز في العبادة، كرفضه - صلى الله عليه وسلم - التنشيف من الغسل بالمنديل، وجعل ينفض الماء بيده. واستعماله آنية من أنواع معينة في الوضوء، وكالضجعة بعد ركعتي الفجر، وأكله من كبد أضحيته يوم عيد الأضحى، وذهابه إلى عرفة من طريق ضب، ورجوعه من طريق المأزمين، وركوبه أثناء الطواف والسعي والوقوف، وكون الركوب في تلك المواضع على بعير. فكل ذلك دالّ على الإباحة فقط، ولا قدوة فيه. وهذا يفسّر لنا قلّة عناية الصحابة رضي الله عنهم بنقل أفعاله التي من هذا النوع، حيث إنها على الإباحة، وهي الأصل. والله أعلم. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في المبيت بالمحصَّب بعد النفر: "المحصّب ليس من النسك، إنما هو منزل نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أسمح لخروجه". إلاّ أن احتمالاً يرد هنا، وهو أن يقال: إن احتمال عدم قصد التعبّد بهذا النوع يقتضي عدم اعتباره جزءاً من العبادة. ولكن الاستحباب فيه وارد في جهة أخرى هي موافقة صورة ما عمله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيثبت الاستحباب. وقد أشار إلى هذا ابن السبكي، قال في مسألة التحصيب: "قال أصحابنا: يستحبّ النزول به، ولو تركه لم يؤثّر في نسكه لأنه ليس من مناسك الحج" (1). وقد تقدّم القول في هذا عند ذكر متابعات ابن عمر في القسم الأول، وبيّنا ما نعتمده في ذلك. والله ولي التوفيق. الدرجة الرابعة: ما وضّح فيه أنه ليس مقصوداً به التعبّد، ولكن وقع لغرض جبليّ أو نحوه، فلا إشكال في أن ذلك يدل على الإباحة مطلقاً، أو إذا وجد   (1) القواعد 115 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 سببه، ولا يُظَنَّ أن أحداً يقول بالاستحباب فيه. وذلك كالتفاته - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وقت الخطر، وسيره فيها حتى فتح الباب لعائشة، وأشار بيده ليَرُدّ السلام، واعتماده على عمود في صلاة الليل عندما أسنّ وكبر، وقعوده في موضع القيام كذلك، واختيارِه ما أكله وشربه أثناء حجه، ونزوله في خيمة حينذاك، ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 المبحث الثاني الفعل العادي كثيراً ما يقصد بالأمور (العادية) في كلام الأصولين والفقهاء ما سوى الأمور العبادية. فيدخل فيه المعاملات والآداب والأمور الجبليّة وغيرها. ونحن نقصد بالفعل (العاديّ) في هذا المبحث أمراً أخص من ذلك، فمقصودنا به ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - جرياً على عادة قومه ومألوفهم. مما يدل دليل على ارتباطه بالشرع، كبعض الأمور التي تتصل بالعناية بالبدن، أو العوائد الجارية بين الأقوام في المناسبات الحيوية، كالزواج والولادة والوفاة. ومن أمثلتها أنه - صلى الله عليه وسلم - لبس المِرْط المُرَحّل، والمخَطّط، والجبّة، والعمامة، والقباء. وأطال شعره، واستعمل القرب الجلديّة في خزن الماء، وكان يكتحل، ويستعمل الطيب والعطور. وأيضاً كانت العروس تزف إليه في بيته، لا في بيت أبيها كما هي عادة بعض البلاد الإسلامية الآن، ودَفَن الموتى في قبور محفورة في التراب دون المبنية بالحجارة أو غيرها. وحكم هذه الأمور العاديّة وأمثالها، كنظائرها من الأفعال الجبليّة، والأصل فيها جميعاً أنها تدل على الإباحة لا غير، إلا في حالين: 1 - أن يرد قول يأمر بها أو يرغّب فيها، فيظهر أنها حينئذ تكون شرعية. 2 - أن يظهر ارتباطها بالشرع بقرينة غير قوليّة. كتوجيه الميت في قبره إلى القبلة، فإن ارتباط ذلك بالشرع لا خفاء به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ومن هنا يتبيّن أن قول بعض المتأخرين، كالشيخ محمد أبي زهرة (1) رحمه الله، بأن إعفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لحيته، وتقصير شاربيه، كان أمراً عاديّاً وليس شرعياً، هو قولٌ يخرج عما يقتضيه العمل بالأدلة، وذلك لورود القول الآمر، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - علّقه بأمر شرعي هو مخالفة أعداء الدين. أعني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خالفوا المشركين، وفّروا اللحى وأحفوا الشوارب" (2). وفي رواية: "خالفوا المجوس".   (1) قال الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (أصول الفقه ص 109): "كثيرون على أنه -يعني إعفاء اللحية- من السنة المتبعة، وزكوا ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قصوا الشارب، وأعفوا اللحى". فقالوا: إن هذا دليل على أن إبقاء اللحية لم يكن عادة، بل كان من قبيل الحكم الشرعي. والذين قالوا إنه من قبيل العادة قرروا أن النهي الذي [كذا بالأصل] لا يفيد اللزوم بالإجماع، وهو معلل بمنع التشبه باليهود والأعاجم، الذين كانوا يطيلون شواربهم ويحلقون لحاهم. وهذا يزكي أنه من قبيل العادة، وذلك ما نختاره". اهـ. ونحن نقول إن تعليله - صلى الله عليه وسلم - بمخالفة اليهود والأعاجم هو الذي يدل على كونه شرعياً، لأن مخالفتهم مقصد شرعي معتبر، كما في القبلة. وانظر: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) لابن تيمية ففيه البيان الشافي. (2) متفق عليه (جامع الأصول 5/ 428) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 المبحث الثالث الفعل في الأمور الدّنيوية نعني بالأمور الدنيوية ما فعله - صلى الله عليه وسلم - بقصد تحصيل نفع في البدن أو المال، له أو لغيره، أو دفع ضرر كذلك، أو دبّر تدبيراً في شأنه خاصّة أو شؤون المسلمين عامة، لغرض التوصل إلى جلب نفع أو دفع ضرر. ويشمل هذا النوع من الأفعال الأضرب التالية: الضرب الأول: الأفعال الطبيّة، وهي ما يجريه على بدنه خاصة، أو أبدان غيره من الناس بقصد دفع مرضٍ حاضر أو متوقّع. فقد تناول النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أعطى غيره، أطعمه وأشربة متنوعة على سبيل حفظ الصّحّة، أو لدرء أمراض معينة، كألبان الإبل وأبوالها (1). وكذلك تعاطى وأعطى أنواعاً مختلفة من العلاج، فقد احتجم واستَعَط (2)، وكانت حجامته في وسط رأسه (3). وكانت حجامته من شقيقة كانت به (4). ولما اشتدّ به وجعه أهريق عليه من سبع قرب لم تحلل أوكِيَتُهُنّ (5). ولما جُرح بأحُد، أُلصق على جرحه رماد حصير ليرقأ الدم (6). وداوى بريقه مع تراب (7).   (1) البخاري 10/ 178 (2) البخاري 10/ 147 (3) البخاري 10/ 152 (4) البخاري 10/ 153 (5) البخاري 10/ 167 (6) البخاري 10/ 174 (7) البخاري 10/ 308 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ورفض أدويةً معيّنة كاللدود (1). الضرب الثاني: الأفعال في الزراعة، بأن يزرع أنواعاً معينة من النبات، أو يزرع بطريقة ما، أو يسقي المزروعات كذلك، أو يفعل بالنبات شيئاً بقصد تكثير إنتاجه أو تحسينه أو نحو ذلك. وشبيه بها ما يُفعل بالحيوان بقصد تكثير إنتاجه وتحسينه، كإطعامه أعلافاً معينة، أو المزاوجة بين سلالات منه مختلفة بقصد الحصول على نسل أجود. الضرب الثالث: الصناعة، بأن يصنع بمادّة شيئاً ما بقصد تحويلها إلى شكل ذي أوصاف مخالفة لشكلها الأول، لتكون أنفع، أو يحلّل مادة ما إلى حالات أبسط، أو يركِّب مادة مع مادة بقصد الحصول منهما على مادة جديدة، هي أنفع من الأصل. الضرب الرابع: التجارة، بأن يعمل ف البيع والشراء، في أشياء معينة، في ظروف معينة، بقصد تحصيل مكسب عن فروق الأسعار. الضرب الخامس: أنواع أخرى من المكاسب كرعي الغنم، أو العمل للغير بأجر. الضرب السادس: التدابير التي اتخذها - صلى الله عليه وسلم - في الحرب من استعمال المجانيق والسيوف والرماح والسهام، وتربية الخيل للقتال، وحفر الخنادق، وترتيب الجيوش وتدريبها. الضرب السابع: التدابير التي اتخذها - صلى الله عليه وسلم - في الإدارة المدنية، من اتخاذ الولاة والكتاب والحراس والحجّاب والسفراء، وكذلك الأعلام والشعارات، والمرافق من الطرق والحصون وغيرها (2).   (1) حديث اللدود: البخاري 10/ 166 واللدود ما سقي من الدواء بالمسعط في الفم (اللسان). (2) انظر الكتاب القيم في تفاصيل ذلك: التراتيب الإدارية لمؤلفه عبد الحي الكتاني. نشرته ببيروت، دار إحياء التراث العربي، صورة بالأوفست. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فهذه الأضراب وأمثالها قد وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثير من أفرادها ونقل إلينا أشياء من ذلك. والنظر في الأحكام التي يمكن أن تدل عليها مثل تلك الأفعال من وجهين: الوجه الأول: أصل الطب والزراعة والصناعة والتجارة والقصد إلى تحصيل المكاسب، والسعي لتحقيق التدابير المدنية والعسكرية المناسبة، ونحو ذلك، يستفاد من فعله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إباحته، وأنه لا يخالف العقيدة ولا الشريعة. وقد يترقّى، إلى درجة الاستحباب أو الوجوب، بحسب الأحوال الداعية إليه. وفي الحديث القولي إشارة إلى ذلك حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أكل أحد طعاماً قطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" (1). ومن قال في الأمور الجبلية التي فعلها - صلى الله عليه وسلم - إنه يستحب لنا التأسيّ بها، فكذلك يقول هنا، ومن ادّعى الوجوب فكذلك. إلاّ أن القول بأن الأصل فيها الإباحة أصوب، كما تقدم في أفعال الجِبِلّة الاختيارية. الوجه الثاني: الأمر الذي عمله بخصوصه، هو مباح له، وقد يكون مستحباً له، أو واجباً عليه، لاعتقاده - صلى الله عليه وسلم - أنه هو المؤدي إلى غرض مستحب أو واجب. ولكن هل يكون حكم مثله بالنسبة إلينا كذلك، كما لو شرب دواءً معيناً لعلاج مرض معين، فهل يستحب لنا شرب ذلك الدواء لذلك المرض مثلاً، أو يجب، بل هل يباح بناء على ذلك أم لا؟. هذا ينبني على أصل، وهو أن اعتقاداته أو ظنونه - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الدنيوية هل يلزم أن تكون مطابقة للواقع، بمقتضى نبوته، أو أن هذا أمر لا صلة له بالنبوّة؟. اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا. بل كل ما يعتقده في ذلك فهو مطابق للواقع.   (1) رواه البخاري 4/ 303 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ولم نجد أحداً من قدماء الأصوليين، صرّح بمثل هذا المذهب. ولكنه لازم لمن جعل جميع أفعاله - صلى الله عليه وسلم - حجة حتى في الطبيات والزراعة ونحوها. وهو لازم أيضاً لمن صحح منهم أن تقريره - صلى الله عليه وسلم - لمخبر عن أمر دنيويّ يدل على صحة ذلك الخبر، كما فعل السبكي وأيّده المحلي والبناني (1). والذين عند حصرهم أقسام الأفعال النبوية، لم يذكروا الفعل النبوي في الأمور الدنيوية، كقسم من أفعاله لا دلالة فيه، يظهر أنهم يقولون بهذا القول، إذ يلزمهم أن يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - في الطب مثلاً دليلاً شرعياً. من هؤلاء مثلاً أبو شامة، والسبكي، وابن الهمام، وغيرهم. وابن القيم في كتابه (الطب النبويّ) (2) يذهب إلى حُجيّة أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الطب، فيلزمه القول بهذا المذهب. ويظهر أن هذه طريقة المحدّثين، فإنا نجد عند البخاريّ مثلاً هذه الأبواب، ولم يذكر فيها من الأحاديث إلا أحاديث فعليّة: (باب السعوط) (باب أي ساعة يحتجم) (باب الحجامة في السفر) (باب الحجامة على الرأس) (باب الحجامة من الشقيقة والصداع) (3) وعند غيره من المحدثين، كأصحاب السنن، تبويبات مشابهة. ويوافقهم الشراح غالباً على ذلك، فيذكرون استحباب أدوية معيّنة لأمراض معيّنة، بناء على ما ورد في ذلك من الأفعال النبويّة. المذهب الثاني: أنه لا يلزم أن يكون اعتقاده في أمور الدنيا مطابقاً للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلاً أو كثيراً. بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: وليس في ذلك حطٌّ من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به، لأن منصب النبوّة منصبٌّ على العلم بالأمور الدينية، من الاعتقاد في الله وملائكته   (1) انظر جمع الجوامع شرحه وحاشيته 2/ 127، 128 وأيضاً 2/ 95 (2) هو بعض كتابه المشهور (زاد المعاد في هدي خير العباد) وقد طبع أيضاً مفرداً. (3) صحيح البخاري 10/ 145 - 152 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إذا اعتقد أن فلاناً مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معيّناً يشفي من مرض معيّن، فإذا هو لا يشفى منه، أو أن تدبيراً زراعياً أو تجارياً أو صناعياً يؤدي إلى هدف معيّن، فإذا هو لا يؤدّي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أن تدبيراً عسكرياً أو إدارياً سينتج مصلحة معيّنة، أو يدفع ضرراً معيّناً، فإذا هو لا يفعل، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثّراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره، مما أدّى إلى نتائج معيّنة، فكل ذلك يؤدّي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظنّ أو اعتقد. وقد صرّح بأصل هذا المذهب، دون تفاصيله، القاضي عيّاض (1) والقاضي عبد الجبار الهمداني المعزلي (2) والشيخ محمد أبو زهرة (3). وظاهر الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كغيره من الناس في ذلك، بل فيه التصريح بأن أصحاب الخبرة في صنائعهم وتجاراتهم وزرعاتهم قد يكونون أعلم منه بدقائقها. إلا أن القاضي عيّاضاً أوجب أن يكون الخطأ في ذلك نادراً لا كثيراً يؤذن بالبله والغفلة (4). ويُحتَجّ لهذا المذهب بأدلة، منها: أولاً: حديث تأبير النخل. ففي صحيح مسلم عن رافع بن خديج، أنه قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فإذا هم يأبرون النخل. فقال: "ما تصنعون؟ " قالوا: كنا نصنعه. قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" فتركوه. فنفضت. فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر".   (1) الشفاء 2/ 178 (2) المغني 17/ 256 حيث جعل من شرط الاقتداء بالفعل "أن يكون مما له مدخل في الشرع ولا يكون مما يفعل للمنافع والمضار". (3) كتابه: تاريخ المذاهب الفقهية ص 10 (4) الشفاء 2/ 180 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وفي رواية طلحة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظن ذلك يغني شيئاً". فأخبِروا بذلك، فتركوه. فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنّي إنما ظننت ظنّاً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله". وفي رواية أنس: "أنتم أعلم بدنياكم" (1). وشبيه به حديث ابن عباس في قصة الخرص (2)، وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، فما حدّثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر". وقد رُدّ الاستدلال بهذا الحديث، بأن المراد: أنتم أعلم بدنياكم من أمر دينكم (3). ويكون توبيخاً لهم. وسياق الأحاديث على اختلاف رواياته يأبى هذا التأويل ويبطله. ثانياً: حديث أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" (4). وفي وراية الزهري للحديث المذكور: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم. فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسِبُ أنه صادق، فأقضي له بذلك" (5). إذا ثبت الأصل الذي ذكرناه آنفاً، فإنه ينبني عليه أن ما فعله - صلى الله عليه وسلم - من أمور الدينا مما مرجعه إلى تجاربه الخاصة، وخبرته الشخصية، وتفكيره وتقديره في الأمور الدنيوية التي وضحناها، لا يدل على مشروعية ذلك الفعل بالنسبة إلى الأمة.   (1) راجع لروايات هذا الحديث: صحيح مسلم 4/ 1835 ومسند أحمد 3/ 152 (2) ذكره القاضي عياض: الشفاء 2/ 178 ولم يعزه. (3) البناني: حاشيته على شرح جمع الجوامع 2/ 128 وأيضاً: علي القاري: شرح الشفا. (4) البخاري 13/ 157 وأصله عند مسلم وأبي داود. (5) البخاري 13/ 172 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وممن صرّح بهذه القاعدة بصفتها العامة، من الأصوليين القدامى القاضي عبد الجبّار (1). وصرّح به حديثاً ولي الله الدهلوي (2)، ومحمد أبو زهرة (3)، وعبد الوهاب خلاف (4)، وعبد الجليل عيسى (5)، وفتحي عثمان (6). أما من حيث التفصيل، فقد وضّحه ابن خلدون في المقدمة، في شأن ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - في شأن الطبّ، حيث قال: "الطب المنقولُ في الشرعيّات من هذا القبيل (يعني طبّ البادية المبني على تجارب قاصرة) وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديّاً للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث ليعلّمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديّات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". قال: "فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطبّ الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه. اللهم إلاّ إذا استعمل على جهة التبرّك وصدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم النفع، وليس ذلك في الطب المزاجي" (7). اهـ. رأينا في ذلك : نختار المذهب القائل بأن أفعاله الدنيوية ليست تشريعاً، وذلك لأجل الأدلة الآتية: 1 - قوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ} وقوله: {قل سبحان   (1) المغني 17/ 269 (2) حجة الله البالغة1/ 272 (3) كتاب: تاريخ المذاهب الفقهية، ص 10 (4) كتابه: أصول الفقه ص 43 (5) اجتهاد الرسول. (6) الفكر القانوني الإسلامي بين أصول الشريعة وتراث الفقه، القاهرة، مكتبة وهبة (د. ت) ص 68 (7) المقدمة ص 493 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ربي هل كنت إلاّ بشراً رسولاً} وقد تكرر التأكيد في الكتاب على بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه ليس إلهاً، ولا ملكاً، ولا يعلم الغيب. ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نَبّأه الله عز وجل، لم يمنعه من تصرفاته البشرية كما يتصرف غيره من الناس على غالب الظنون والتقادير التي تخطئ وتصيب، ولا تعهّد له بأن يمنعه من الخطأ في ذلك، فالأصل استمرار حاله في ذلك كما كان قبل النبوة، لمّا لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل. وقد أكّدت السنة النبوية ما بيّنه القرآن من ذلك، كما يأتي. 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر دينكم فاقبلوه. وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر". وفي رواية: أنتم أعلم بدنياكم. وقد تقدّم هذا الحديث. وبهذا الحديث، برواياته المختلفة، يوصّل النبي - صلى الله عليه وسلم - أصلاً عظيماً في الشريعة، ويبيّنه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحياناً أعلم منه - صلى الله عليه وسلم - بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعيَ شرعاً لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إلاّ كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس. 3 - ما ذكر ابن إسحاق في سيرته، في سياق غزوة بدر، قال: حُدِّثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر، قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله. ثم نغوّر ما وراءه من القُلُب. ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أشرت بالرأي" (1).   (1) سيرة ابن هشام، وعليها الروض الأنف للسهيلي، بتحقيق عبد الرحمن الوكيل. القاهرة دار الكتب الحديثة (د. ت) 5/ 97 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 4 - ما ورد في الحديث أن نفراً دَخَلوا على زيد بن ثابت، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له. فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكلّ هذا أحدثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). 5 - ما ورد عن هشام بن عروة، أن عروة بن الزبير كان يقول لعائشة: "يا أماه، لا أعجب من فهمك، أقول: زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت أبي بكر. ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس، أو من أعلم الناس. ولكن أعجب من علمك بالطبّ، كيف هو ومن أي هو؟ قال: فضرَبَتْ على منكبه، وقالت: إن عُرَيّة! أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَسْقَم عند آخر عمره، أو في آخر عمره. فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات، وكنت أعالجها له" (2). مسائل متمّمة لبحث الأفعال النبوية الدنيوية: المسألة الأولى: إذا انضم إلى الفعل الدنيوي قولٌ آمر، فذلك يخرجه من باب الأفعال. ويعود النظر إلى الدليل القولي، وذلك خارج عن موضوع بحثنا. وليت بعض الباحثين يتولّى بحث الأقوال النبوية المتعلقة بالأمور الدنيوية، ليصل في شأنها إلى قول فصل، ثم يجمعها من كتب الحديث وينص على ما يصحّ استفادته منها من الأحكام وما لا يصح. المسألة الثانية: إذا نصّ القرآن على أمر دنيويّ فهو حق لا مرية فيه، لأنه من الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض. فإن كان الفعل النبويّ في الشؤون الدنيوية استجابة لإرشادات القرآن التي تتعلّق بذلك الأمر، فيكون الفعل بياناً أو امتثالاً للقرآن. ويحمل على الشرعيّ.   (1) ذكره الدهلوي في حجة الله البالغة 1/ 272 ولم يعزه. (2) رواه أحمد في مسنده (6/ 67) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ولعلّ خير مثال على ذلك شربُه - صلى الله عليه وسلم - العسل للتداوي (1)، فإن ذلك تطبيق لقوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس}. وشبيه بذلك ما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله عن وحي من الله تعالى. المسألة الثالثة: إذا تردد الفعل بين أن يكون دنيوياً أو دينياً، حُمل على الدينيّ، لأنه الأكثر من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم.   (1) الخطيب البغدادي عن أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى اقتمح كفاً من شونيز وشرب عليه ماء وعسلاً (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 المبحث الرابع الأفعال الخارقة للعادة (المعجزات والكرامات) أجرى الله تعالى هذا الكون على سنن ثابتة وعوائد مطردة. وربط الأشياء بأسبابها، وجعل علاقة السببية هذه وسيلة إلى توليد أشياء جديدة، ذات صفات موافقة أو مخالفة لأصولها. وبها تتطور الكائنات وتتغير الموجودات، وتتجدد الحوادث. ومعنى اطّراد السنن الكونية، أنه إذا أثّر شيء في شيء تحت ظروف معينة، فأنتج شيئاً آخر، فإنه لو أعيد تسليط المؤثر، أو مثيل له، على المؤثر فيه أو على مثيل له، مع وجود ظروف مماثلة تماماً، فلا بدّ أن تحصل نتيجة مماثلة تماماً لما نتج في الحالة الأولى. ومثاله أننا لو أخذنا قضيباً من الحديد، في درجة حرارة فعينة، وقسنا طوله، ثم سخنّاه مئة درجة مئوية، فإنه سيتمدد بالحرارة. فلو قسنا الزيادة في الطول وأثبتناها، ثم أخذنا قضيباً آخر، أيضاً من الحديد، مساوياً في الطول للأول، وفي نفس درجة الحرارة، ورفعنا حرارته مئة درجة مئوية، فلا بدّ أن يتمدد، وأن تكون زيادته مساوية تماماً للزيادة في حالة القضيب الأول. فإن اختلف مقدار الزيادة بين الحالتين، فلا بد أن عاملًا آخر مخالفاً لما كان في الحالة الأولى هو سبب الاختلاف، بأن كان الحديد مختلف النوعية مثلاً. وهذا الاطّراد في سنن الكائنات، سبب من أسباب التقدم البشري، وسيطرة البشر على الأرض، وذلك لأن العقل الذي أكرم الله به الإنسان يستطيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 إدراك الصلات السببية بين الأشياء بإدراكه خواصها، فيستطيع الإنسان بذلك أن يهيّئ الظروف المختلفة التي تؤدّي إلى نتيجة معينة. فإذا كملت تلك الظروف، تولّدت عنها النتيجة ولا بدّ. وذلك حسب قاعدة اطّراد السنن. واطّراد السنن كما هو في العناصر البسيطة للكون وفي مركباته، وفي صفاتها العامة من الجاذبية والحرارة والرطوبة واللون والصلابة والمرونة وغير ذلك، هو أيضاً في الأحياء من النبات والحيوان، وفي النفوس الإنسانية، وفي المجتمعات البشرية، كذلك، وقد قال الله تعالى: {فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً} (1) وقد ذكر الله تعالى أنه لا تبديل لسنته في ثلاثة مواضع أخرى غير هذه الآية (2). إلاّ أن قوانين السببية في الأحياء أكثر تعقيداً، وأبعد تصوراً، وأصعب منالاً. وليست العلوم الكونية، الكيميائية، والطبيعية، والحيوية، والنفسية، إلاّ نتائج المساعي لاستكشاف القوانين المشار إليها، وإلاّ تطبيقاً لتلك القوانين، واستفادة منها فيما ينفع الناس أو يضرهم. وقد جاءت الديانات السماوية حرباً على دعاوى السببية الكاذبة. فمن ذلك إبطال التطيّر، وإبطال الزجر والعرافة والمخرقة، وإبطال دعاوى عبدة الأصنام بأنها تنفع أو تضر، ودعاوى المنجّمين بأن حركات النجوم أسباب لعلم الغيب، أو أنها تؤثّر على الحوادث الأرضية، أو نحو ذلك، مما لا يخفى على المطّلع على حقائق ما جاء عن الأنبياء. وأتمُّ ما ورد من ذلك وأوضحه ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -. إلا أن الإسلام جاء بأمرين عظيمين يتعلقان بقانون السببية.   (1) سورة فاطر: آية 62 (2) سورة الإسراء: آية 77، سورة الأحزاب: آية 62، سورة الفتح: آية 23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أولهما: البيان الواضح لكون الأسباب هي من وضع الله تعالى، فهو مسبّبها، وهو الذي جعل فيها تأثيراتها المعينة. وهذا لأنه تعالى خالق كل الأشياء، والجاعل فيها صفاتها وخصائصها. والقرآن مليء بهذا النوع من البيان. ومن أمثلته قوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (1)، وقوله: {والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم} (2). وثانيهما: أنه لما كان الله تعالى هو مسبّب الأسباب، فإنها لا شكّ تحت تصرّفه وإرادته وقهره. فلو شاء أن يبطلها لأبطاها، بأن يفقدها نتائجها المحتومة، أو يوجد الأشياء من دون أسبابها المسنونة، كما قال للنار: {كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} (3) فأفقدها خاصية الإحراق، وكما أوجد عيسى من أم بلا أب. إلّا أن هذا النوع من التصرف الإلهي نادر، وأما الأكثر الذي هو الأصل، فهو اطّراد السنن كما تقدم. أهداف خرق السنن الكونية بالمعجزة : المعجزات التي يؤيّد الله بها أنبياءه خرق للسنن الكونية، لتكون حججاً لهم على العباد أنهم رسل الله، إذ إن السنن الكونية لا يخرقها إلّا الذي وضعها ورتبها وهو الله تعالى. فإذا جاء ذلك على يد من يدّعي على الله أن الله أرسله، كان بيّنة على صدقه، حين أجرى الله ذلك على يده، ولا يجريه على يد من يدّعي الرسالة كذباً عليه تعالى. ومن هنا فقد جاء أكثر رسل الله تعالى بمعجزات، أجريت على أيديهم، وشاهدها أقوامهم. كرّر الله تعالى ذكرها في كتابه، لتحصل الطمأنينة بصدقهم ويتم الانقياد لهم. وقد يأتي خرق العادة إعداداً للنبي لتحمل تكاليف الدعوة، أو إظهاراً   (1) سورة القمر: آية 49 (2) سورة النحل: آية 81 (3) سورة الأنبياء: آية 69 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 من الله لكرامة نبيه عليه جزاء قيامه بتكاليف الدعوة، وبذل نفسه في سبيلها، كالإسراء بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد يكون خرق العادة معونة من الله لنبيه على أداء تكاليف الدعوة، لضعفه عنها، كما في إنزال الملائكة للقتال يوم بدر، وفي حفظه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بستر شخصه عمن أراد اغتياله. ومثلها إنجاء أنبيائه من كيد أعدائهم بغير الأسباب المعتادة، كرفع عيسى، وفلق البحر لموسى. حدّ المعجزة: المعجزة، عند عبد الجبار المعتزلي: أمر واقع من الله تعالى، تنتقض به العادة، ويتعذّر على العباد فعله، خاصّ بمدّعي النبوّة، على وجه التصديق له (1). والمعجزة عند الباقلاني الأشعري: أمر واقع من الله تعالى، تنتقض به العادة، ويتعذر على العباد فعله، يقع على يد مدّعي النبوّة، مقترناً بالتحدّي، على وجه التصديق له. فاشترط الباقلاني اقتران المعجزة بالتحدّي لإثبات النبوّة، لأن الخارق عنده قد يقع للولي كرامة، ولكن لا يقع للولي إذا تحدى به لإثبات النبوّة، بل يمنع منه حينئذ (2). وعبد الجبار لم يشترط ذلك لأنه ينكر الخوارق لغير الأنبياء أصلاً. حدّ الكرامة: عرف صاحب المواقف الكرامة بأنها "ظهور الخارق على يد العارف بالله تعالى وصفاته، مقروناً بعمل الطاعات، غير مقرون بدعوى النبوة" (3).   (1) القاضي عبد الجبار: المغني 15/ 199 وفي بعض كلامه يوافق الباقلاني انظر المغني 15/ 234 (2) الباقلاني: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات ص 17. (3) شرح المواقف 8/ 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وهي عند القشيري: "فعل ناقض للعادة في أيام التكليف، ظاهر على موصوف بالولاية، في معنى تصديقه في حاله" (1). خرق السنن الكونية على أيدي الأولياء : اختلفت الأراء في الأمة الإسلامية حول هذه النقطة. فالمعتزلة وأبو إسحاق الإسفراييني والحليمي، يرون أن النواميس الكونية لا تنخرق إلا لنبيّ، لتكون معجزة له، وأما ما عدا ذلك، فالسنن مطردة اطّراداً منضبطاً لا يتخلّف مطلقاً. فأنكروا بذلك كرامات الأولياء الخارقة للعادة. وسواء أكانت صغيرة أم كبيرة (2). وأجازوا أن ييسر للأولياء نحو إجابة دعاء، وموافاة ماء في أرض فلاة مما ينحطّ عن رتبة خرق العادات (3). ونسب الرازي في الأربعين إلى أبي الحسين البصريّ المعتزلي، موافقة أهل السنة في إثباتهم كرامات الأولياء الخارقة (4). وأهل السنة والصوفية وجمهور الأمة، على إثبات كرامات الأولياء، إلاّ أنهم في ذلك على قولين: الأول: أن كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لوليّ. ولا فرق بينهما إلا أن النبي يتحدّى بخرق العادة ليثبت نبوته، والولي لا يتحدّى (5). ونسب هذا القول إلى جمهور العلماء وممن صرّح به النووي في شرح صحيح مسلم، والجويني في الإرشاد. الثاني: أن كرامات الأولياء بخرق العادات ثابتة، إلاّ أنها لا ترقى إلى مثل   (1) الرسالة القشيرية ص 660 (2) القاضي عبد الجبار: المغني 15/ 205، 225، 241، 242 (3) المحلي: شرح جمع الجوامع 2/ 420، عليش: هداية المريد ص 177 (4) العضد: المواقف، وشرحه للجرجاني 8/ 288 (5) هداية المريد ص 177 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وجود ولد دون والد، وقلب جماد بهيمة. وممن قال بهذا القول القشيري (1)، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني (2). ويظهر أن الباقلاني يقول به في كتابه في التفريق بين المعجزات والكرامات (3)، حيث يرى أن السّحرة يقدرون على كل ما يقدر عليه الأنبياء، ما عدا ما أُجمع على أنهم لا يقدرون عليه، كإخراج ناقة من صخرة، وفلق البحر، وآيات موسى التسع. وإنما يقدرون على نحو الطيران في الهواء، وموت المسحور وحبّه أو بغضه. فيظهر أن قوله في خوارق الأولياء مثل ذلك. الأدلة : 1 - قول المعتزلة: الدليل الأول: احتج عبد الجبار -ونقله عن أبي هاشم الجبّائي- لإنكار خرق العادة على سبيل الكرامة، بأن إثبات ذلك إبطال لدلالة المعجزات على صدق الأنبياء. ومن أجل ذلك أنكر أن يكون للسحر حقيقة وتأثير في قلب الأعيان (4). وقد نوقش هذا الديل بأن الأولياء لا يتحدّون بها لإثبات دعوى النبوّة (5)، ولو تحدّوا بها لمنع الله تعالى تأثيرها. ومثل ذلك يقوله في حق السحرة من أثبت أن للسحر حقيقة (6). الدليل الثاني: أن إثبات الكرامة مفسدة، لأنه ينفّر عن النظر في دلالة   (1) الرسالة القشيرية ص 664 (2) ابن السبكي، والمحلي، والبناني: جمع الجوامع وشرحه وحاشيته 2/ 420 (3) ص 48 (4) المغني 15/ 205، 226 وفي بعض كلام عبد الجبار ما يوافق فيه قول الباقلاني. وقال إنه المعتمد. انظر المغني 15/ 234 (5) العضد: المواقف 8/ 288 (6) الباقلاني: البيان ص 95 - 97 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 معجزات الأنبياء. وقد نقل هذا الدليل عن أبي إسحاق المعتزلي، وهو معتمد أبي عبد الله البصري (1). والجواب ما تقدّم نقله عن الغزالي في ردّ الاستدلال بالتنفير. أدلة المثبتين : أولًا: أنها فعل ممكن في نفسه، لقدرة الله عليه. وكل ممكن وقوعه فهو جائز، ومن زعم أنه ممتنع فعليه بيان المانع (2). وقد تقدم الردّ على ما ادّعاه النفاة مانعاً. ثانياً: احتجوا بالوقوع، لما في كتب الحديث من إضاءة السوط لعَبّاد بن بِشْر، وأُسَيْد بن حُضَيْر، وزيادة الطعام لضيوف أبي بكر، ونحو ذلك. وكما هو مأثور عن التابعين والأولياء كبشر وغيره مما يبلغ حدّ التواتر (3). وقد أجاب عبد الجبار بأن التواتر في ذلك ممنوع، إذ التواتر مفيد للعلم. وقال: "ونحن نعرف خلاف ذلك من أنفسنا، وأنتم تعلمون منّا أنا لا نعتقد ذلك، وأنا نتديّن بخلافه" أي فلو كان يفيد العلم لأفادنا، فبقي أنه أخبار آحاد، ولا يثبت بذلك اعتقاد (4). وناقشه أيضاً بأنه لو كان حقاً لكان ظهوره في الصحابة أولى من ظهوره على شيبان الراعي، وبشر الحافي، ومعروف الكرخي، وسهل التستري، وأضرابهم. أما والمنقول عن الصحابة أقلّ مما نقل عن هؤلاء كثيراً، بل إنه لم يظهر على عليِّ بن أبي طالب مثلاً مع حاجته الشديدة إليه، وإمكان أن تحقن دماء المسلمين بظهور   (1) المغني 15/ 223 (2) عليش: هداية المريد ص 179 (3) انظر نصوصاً مجمعة منها، في (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) لابن تيمية ص 125. (4) المغني 15/ 225 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ذلك على يديه في قتاله مع معاوية. ولو كان حقاً لظهر حينئذ. ولاستغنوا أيضاً عن التحكيم (1). والذي نختاره، أن ذلك ممكن وأنه واقع. أولاً: بدليل ما نقله القرآن العظيم من ذلك، فلو ادّعى مُدَّعٍ عدم صحة النقل فيما سواه، لم يمكن من مؤمنٍ إلا أن يؤمن بنقل الله. والله تعالى ذكر أن أصحاب الكهفِ: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً} (2) نائمين لم يتناولوا طعاماً ولا شراباً. وذكر عن صاحب سليمان أنه أتاه بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه. وإن كان في هذا الثاني احتمال (3). وأيضاً ذكر عن مريم أنها كانت: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} (4). وثانياً: بما نقل من ذلك في كتب السنة، وفي الصحيحين من ذلك جملة. وانظر أبواب فضائل الصحابة في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة، تجد من ذلك أخباراً إن لم تتواتر آحادها، فإنها متواترة معنوياً، لأنها متفقة في الدلالة على أنهم كانوا يصدقون بذلك وأمثاله. إلاّ أننا مع ذلك نرى أن أكثر ما ينقل عن كثير ممن يدعون الولاية، أو تُدّعَى لهم، من خرقهم للعادات والسنن الكونية، كذب مفترى لا أصل له، أو له أصل من الحق وقد عظمه الاتباع المغلوبون على عقولهم وأفهامهم، أو هو من الباطل من   (1) المغني 15/ 241 (2) سورة الكهف: آية 25 (3) سورة النمل: آية 25 في تفسير الآية أن الذي أتى به هو سليمان نفسه، انظر، مثلاً، تفسير البغوي عند قوله تعالى: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} من سورة النمل. (4) انظر الإرشاد للجويني ص 320 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الألاعيب والمخرقات، أو من تصرفات الجن والشياطين، بمعاونتهم أولياءهم وإيحائهم إليهم (1)، مما قد ينخدع به كثير من العوامّ وأشباههم من المنتسبين إلى العلم ممن لا فرقان له (2)، حتى عظموا بسبب ذلك كثيراً من الكفرة، ممن كفره أعظم من كفر فرعون وقارون وهامان. واعتقدوا أن أولياءهم هؤلاء يتصرفون في الكون مع الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً (3). وزاد بعض الصوفية المسألة عنفاً، بدعواهم أن الخارق يقع بقوة ذاتية في نفس الولي، وادّعوا أنها قوة إلهية (4). وكانت من نتيجة ذلك أن انطلت الحقائق على كثير من المسلمين، وفقد قانون السببيّة عندهم فاعليته الحضارية، حتى أصبحوا في مؤخّرة الركب العالمي. وكان من أعظم العوامل التي أدّت إلى ذلك، هذا النوع من (الإيمان) الكافر. ولما كان الخارق مخالفاً للعادات والسنن الكونية، كانت العادات والسنن الكونية شاهداً مكذباً لما يُروَى منه. ولذلك ينبغي أن لا يصدّق ما ينقل من ذلك أو يروى من الحوادث، ما لم يكن له شهود أكثر قوة، بأن يكون النقل على درجة عالية من الثبوت، تحصل بها الطمأنينة، ويتم عندها الإذعان والتسليم، ويكون الرواة لذلك من أهل البصيرة الذين لا ينخدعون باللعب والمخرقة. وها نحن في زماننا نستمع إلى شيء كثير مما ينقل من مثل ذلك من حوادث معاصرة، فإذا حقق الأمر تبيّن زيف الدعوى. ولم يحصل عندنا اليقين، ولو بحادثة واحدة مخالفة للسنن. وهذا يؤكّد ما قلنا. ويؤكّده أيضاً ما عرف من طباع النقلة لهذا النوع من الأخبار، فإنهم يتزيدون فيها ويبالغون، فيظهرون بعض ما فيه غرابة مما هو عاديّ، بشكل الخارق   (1) سورة الأنعام: آية 121 (2) ابن تيمية: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 145، 150 (3) محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي ص 188 (4) إبراهيم إبراهيم هلال: ولاية الله والطريق إليها ص 182 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 للعادة، كل ذلك ليجلبوا استحسان السامعين واستغرابهم، وحتى يكون لكلامهم طلاوة، ويعود المستمعون إليه مرة بعد مرة. فإذا كان الرواة على درجة عالية من التقوى والبصر والثقة والتشدّد، وتعدّدت طرق الرواية، جبر ذلك النقص، وصحّ الوثوق بهذا النوع من الأخبار. الاقتداء بالأفعال النبوية الخارقة للعادة : لهذا الاقتداء موقعان: لأنه إما أن يقتدي بما يسبق الفعل من أسبابه. أو يقتدي بما يلحقه من فوائده. أما الخارق نفسه فهو من فعل الله تعالى، ولا ينسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا مجازاً. أولاً: هل للمؤمن أن يعمل على حصول الكرامات الخارقة؟: إذا وقع الخارق على يد نبي مثلاً، فوقوعه بالنسبة إليه اضطراريّ، إذ هو من فعل الله تعالى، لا يقدر عليه إلاّ الله. ولكن الذي بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - أسبابه التي جعلها لله له أسباباً، كرميه - صلى الله عليه وسلم - التراب في وجوه الكفار، فأوصله الله إلى أعينهم، وقال: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (1) وعندما عطش الجيش طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بقية ماء في قدح فوضع يده فيه، ودعا الله، فَنَبَع الماءُ من بين أصابعه حتى ملأ الجيش كل ما عندهم من الآنية. فهذا الرمي منه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الطلب للماء، ووضع يده فيه، ودعاء الله، هو سبب لحصول المعجزة (2). فهل للمؤمن، اقتداءً بذلك، أن يحاول بالرياضة التوصل إلى التمكن من ذلك، وأن يفعل الأسباب الموصلة إلى الخوارق؟.   (1) سورة الأنفال: آية 17 (2) الشاطبي: الموافقات 2/ 277 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 من العلماء من ذهب إلى أن كرامة الولي لا تقع بقصد منه، بل تقع له دون قصد (1). ومنهم من أجاز وقوعها بالقصد. ومن هؤلاء القشيري (2)، والشاطبي. فقد أجاز للمؤمن أن يعمل لإيقاعها (3). ولكن ذلك عنده في موضع الرخص، والعزيمةُ عنده الدخول في الأسباب المعتادة. وإذا طلب وقوع الخارق فليطلبه لمعنى شرعيّ، لا لحظ نفسه. والحجة عند الشاطبي ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يظهر المعجزات طلباً لإيمان الكافرين، وتقوية ليقين المتقين (4)، وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - يقتدى بها. ونحن نرى أن الكرامات لا تقع على سبيل القصد، وما يقع منها يقع ولا يعلم المؤمن به إلا بعد وقوعه. ودليلنا على ذلك أن المعجزات خصائص للأنبياء، والأصل في الخصوصية عدم الاقتداء. وأيضاً فإن دليل إمكان خرق العادات على سبيل الكرامات هو وقوعها. وباستقراء ما وقع منها لغير الأنبياء مما صح نقله يتبين أنه وقع لهم دون قصد. كنوم أهل الكهف، وإنزال الطعام على مريم، وإضاءة السوط لعباد بن بشر وأسيد بن حضير، وتنزّل السكينة لأبيّ بن كعب. ومن العلماء من أجاز للوليّ أن يتحدى بالخارق لإثبات ولايته، كما يتحدّى النبي بالمعجزة لإثبات نبوّته (5)، بأن يقول: "أنا وليّ الله سبحانه، وآية ولايتي   (1) نقله الجويني في الإرشاد ص 316 ونقله محمد عليش: هداية المريد، وشرحه للسنوسي ص 177 (2) الرسالة القشيرية ص 662 (3) الشاطبي: الموافقات 1/ 355 (4) الشاطبي: الموافقات 2/ 278 ومقصده بالعمل لحصول الخارق أن يطلبه بالدعاء ولا يجوز عنده أن يؤدي العبادة بنية حصول الخارق. (5) الشاطبي: الموافقات 1/ 355 و2/ 253 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 طيراني في الهواء، أو تعلّقي به، أو انشقاق القمر". ولا تفترق الكرامة عن المعجزة على هذا إلاّ بدعوى الرسالة في المعجزة (1). وحجة من أجاز ذلك، التأسّي بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد تقدّم جوابه. ثانياً: تصرّف النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الخارق هل يقتدى به فيه: يرى الشاطبي أن المزايا والمناقب التي أعطيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عامّة كعموم التكاليف، بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله جرت أنه إذا أعطى الله نبياً شيئاً أعطى أمته منه، وأشركهم معه فيه (2). وبنى الشاطبي على هذا الأصل أن للمؤمن، إذا حصل له شيء من ذلك، أن يبني عليه ويتصرّف على أساسه، قال: "ومما ينبني على هذا الأصل أنه لما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذّر وبشّر وأنذر، وتصرف بمقتضى الخوارق، من الفراسة الصادقة، والإلهام الصحيح، والكشف الواضح، والرؤيا الصالحة، كان من فعل مثل ذلك ممّن اختصّ بشيء من هذه الأمور على طريق الصواب، وعاملاً بما ليس بخارج عن المشروع" (3). واحتجّ لذلك أيضاً بأن الأصل عدم الخصوصية. فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل أشياء من ذلك، كقوله في خيبر عن علي: "لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه" (4). وإخباره أنه: "ستكون لكم أنماط" (5) فرتّب على الاطلاع الغيبيّ وصاياه النافعة، ومثله ما أخبر به من وصاياه عند الفتن، لحذيفة وغيره، فلنا أن نفعل مثل ذلك، لأنه لم يقل إن ذلك خاصٌّ به - صلى الله عليه وسلم -، فيثبت بذلك [عمومه] (6).   (1) عليش: هداية المريد ص 78، الجويني: الإرشاد ص 316 (2) الموافقات 2/ 249 (3) الموافقات2/ 263 (4) مسلم 15/ 178 ورواه البخاري. (5) البخاري (مع فتح الباري ط مصطفى الحلبي 7/ 441) (6) الموافقات 2/ 265 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 واحتجّ لذلك ثالثاً بفعل الصحابة، من نحو قول عمر: "يا سارية الجبل" (1) وقصّ على عمر رجل أنه رأى الشمس والقمر يقتتلان، فقال له: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر. قال: "كنتَ مع الآية الممحوّة، لا تلي عملاً أبداً". واشترط الشاطبي لجواز التصرف على أساس الخارق، أن لا يخرم ذلك التصرف حكماً شرعيّاً ولا قاعدة دينية. فلو حصل للمؤمن مكاشفة أن هذا الماء مغصوب أو نجس، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم، لأن القاعدة الشرعية أن لا ينتقل عن الوضوء إلى التيمم إذا وجد ماء محكوماً بطهارته. ولو حصلت له مكاشفةٌ أن هذا المال لزيد، وقد تحصّل بالحجة لعمرو، لم يجز له أن يشهد به لزيد (2). والجائز عنده من ذلك نحو أن يترك أحد الجائزين ويفعل الآخر. فهو عمل على وفق الأحكام الشرعية. فموضع العمل بها يتبيّن، على سبيل التمثيل، في ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون في مباح، كأن يرى أن فلاناً يقصده في وقت كذا بخير أو شر، فيستعد لذلك. والثاني: أن يكون لحاجة، فكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يخبر بكل ما يعلم من المغيبات، بل بحسب الحاجة، فكذلك المكاشف بذلك. والثالث: أن يكون فيه تحذير أو تبشير، ليستعدّ لكلٍ عدّته، كالإخبار عن أمر ينزل إن فعل كذا، أو لا يكون إن فعل كذا. ونحن نوافق الشاطبي فيما نقلناه عنه هنا، لا من حيث إن العمل بذلك مدلول للفعل النبويّ، بل لأنه كما ذَكَر، تصرُّفٌ في حدود المباح، والتصرف في حدود المباح لا حرج فيه. فإن رأى رؤيا مثلاً، وغلب على ظنّه صدقها، فلا حرج عليه أن يعمل بمقتضاها فيما لا يخالف الشرع.   (1) ابن كثير: البداية والنهاية 7/ 131 من رواية سيف بن عمرو الواقدي، وفي روايتهما مقال، عند أهل الشأن. (2) الموافقات 3/ 263 - 266 وأيضاً 4/ 82 - 86 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 المبحث الخامس الأفعال الخاصَّة به صلى الله عليه وسلم " الخصائص النبويَّة" بعض الأفعال التي كان يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم -، هي مما أبيح له خاصة من دون سائر المؤمنين، أو وجب عليه دونهم؛ وبعض ما حرّم عليه، حرّم عليه خاصة من دونهم. وهذا النوع من الأفعال داخل فيما يسمى الخصائص النبوية . ونحن نقدّم بين يدي القول في الاستدلال بهذا النوع من الأفعال توضيحاً للخصائص. الخصائص: تقول العرب: خصَّه بالشيء يخصُّه خَصّاً وخُصُوصيّةً، وخَصُوصيّة وخِصِّيصيَ، وخصَّصه واختصَّه: أفرده به دون غيره. واختصَّ فلان بالأمر، وتخصَّص إذا انفرد به (1). فما أفرد الله تعالى به إنساناً من الناس، من صفة في خلْقه أو خُلُقه، أو من حكم شرعي، أو غير ذلك، فكل ذلك خصائص. فمن الأحكام الخاصَّة بغير النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أجاز لأبي بردة هانئ بن نيار الأنصاري، التضحية بعناق، وقال له: "تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد   (1) لسان العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 بعدك" (1). ومنها أنه جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين، وحكم بها لنفسه - صلى الله عليه وسلم -. ومن أجل ذلك سمي خزيمة "ذا الشهادتين". الخصائص النبويّة: ما اختصّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمور كثيرة، أفردها العلماء بالتأليف (2). ويذكرها المؤلفون في السيرة النبوية، وفي الشمائل النبوية. تصنيف الخصائص النبوية : تقسم الخصائص النبوية بحسب ما يلي: 1 - بحسب من عنه الاختصاص. 2 - بحسب زمن الاختصاص.   (1) رواه الشيخان وأصحاب السنن (جامع الأصول 4/ 142) (2) ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون (مادة: الخصائص) الأسماء التالية: 1 - يوسف بن موسى الجذامي الأندلسي المعروف بابن السدي (- 663 هـ) 2 - جمال الدين محمد سالم بن نصر الله بن واصل الحموي (- 697 هـ) ذكره صاحب ذيل كشف الظنون. 3 - القطب الخيضري. 4 - سراج الدين، عمر بن علي بن الملقن الشافعي (- 804 هـ) 5 - جلال الدين عبد الرحمن بن عمر البلقيني (- 824 هـ) 6 - كمال الدين، محمد بن محمد الشامي، إمام الكاملية (- 874 هـ) 7 - وألف السيوطي كتابه المشهور بعنوان (الخصائص الكبرى)، واسمه (كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب) ذكر أنه تتبع هذه الخصائص عشرين سنة حتى زادت على الألف وذكر أنه قصد به الاستيعاب، يعني أنه يذكر كل ما قيل فيه أنه من الخصائص. ولم يقصد إلى تحقيق صحة ما يذكره. وقد نشر كتاب السيوطي محققاً. وقد اختصر السيوطي كتابه وسمى المختصر (أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب) واختصره أيضاً الشيخ عبد الوهاب الشعراني (- 972 هـ) 8 - أقول: وقد خص ابن حبان (- 354 هـ) الخصائص المروية في السنن بفصل من كتابه المشهور بصحيح ابن حبان، كما ذكر ذلك في المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 3 - بحسب ما فيه الاختصاص. أولاً: تنقسم الخصائص النبوية، بحسب من عنه الاختصاص، ثلاثة أقسام: 1 - منها ما تشاركه فيه أمته، وينفرد به هو وأمته - صلى الله عليه وسلم - عن سائر الأنبياء وأممهم. وذلك مثل ما ورد في الحديث: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر؛ وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ؛ وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي؛ وأعطيت الشفاعة؛ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى الناس عامة" (1). ومثل تجويز الدية في قتل العمد ولم تكن لمن قبلنا جائزة. 2 - ومنها ما ينفرد به - صلى الله عليه وسلم - عمن ليس بنبي، لكن يشاركه فيه كل الأنبياء، أو بعضهم. وأمثلة ذلك تأييدهم بالمعجزات، وبالعصمة من المعاصي على ما تقدم، وتكليم الله لهم. ونزول الوحي عليهم، وكونهم لا يورثون، وُيدفنون حيث يموتون. 3 - ومنها ما ينفرد به محمد - صلى الله عليه وسلم - عن جميع البشر من الأنبياء وغيرهم، ككونه خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وأنه مبعوث إلى جميع العالمين إنسهم وجنهم، وشفاعته العظمى يوم الحساب. ثانياً: وتنقسم بحسب زمان الاختصاص قسمين: 1 - فمنها في الدنيا، كالإسراء به، وكإباحة نكاح أكثر من أربع نسوة. 2 - وفي الآخرة، ككونه "أول من يبعث" (2) و "أول شافع وأول مشفع" و"أول من يقرع باب الجنة" و"أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة" وبيده لواء الحمد يوم القيامة، وأُعطي الكوثر، والحوض.   (1) رواه البخاري ط مصطفى الحلبي 1/ 453 (2) وانظر لمثل هذا النوع من الخصائص: الفتح الكبير 2/ 270 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وتنقسم أيضاً من هذا الوجه قسمين، لأنها إما دائمة كما تقدم، وإما موقوتة بوقت محدود، كما أحِلّت له مكة "ساعة من نهار" (1). ثالثاً: وتنقسم بحسب ما فيه الاختصاص إلى: 1 - ما ليس بحكم شرعي، وأمثلته ما كان في خلقته - صلى الله عليه وسلم -، كخاتم النبوة بين كتفيه، وتأييده بالمعجزات، والوحي، والنصر بالرعب مسيرة شهر. 2 - وما هو حكم شرعي. وهذا القسم نوعان: لأنه إما حكم شرعي لفعل غيره بسببه كرامة له، كتحريم نسائه على غيره، وما نسخ من وجوب الصدقة على المؤمنين عند مناجاته، ووجوب احتجاب نسائه (2)، وتحريم أخذ الزكاة على آل بيته، وأنه لا يورث، وأن الكذب عليه عمداً كبيرة، وتحريم رفع الصوت فوق صوته. وإما حكم شرعي لفعله هو - صلى الله عليه وسلم - كوجوب قيام الليل، وتحريم الصدقة عليه، وإباحة نكاح ما زاد على أربع نسوة، وتحريم نكاح من لم تهاجر معه. الحكمة في تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - بما خصّه الله تعالى به: لم نجد أحداً ممن اطلعنا على تآليفهم فصل: هذا الموضوع بالبحث، والذي يظهر عند التأمل في المناسبة، أنه - صلى الله عليه وسلم - لما كان يشارك أمته في البشرية، ويخالفهم في الرسالة، فإن منشأ الاختصاص بما خصّه تعالى به من الخصائص، راجع إلى الرسالة دون غيرها من الأوصاف المشتركة بينه وبين سائر الناس.   (1) رواه البخاري (فتح الباري ط الحلبي 1/ 216) وأبو داود والنسائي. (2) أكثر العلماء على أن بدن المرأة كله عورة ما عدا الوجه والكفين. فعلى هذا يكون وجوب تغطية نساء النبي الوجوه والأكف من الخصائص، وهو الذي اعتمدناه أعلاه. وفي رواية عند أحمد: يجب تغطية الوجه والكفين على كل امرأة، فعلى هذا ليس في المسألة اختصاص. انظر: (بداية المجتهد ط الحلبي 1/ 115. تفسير القرطبي 12/ 227) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 أما ما يختصّ به - صلى الله عليه وسلم - عن سائر النبين، فمنشؤه كون رسالته أهم، لأنها أعمّ بالنظر إلى المدعوين، إذ كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الثقلين الإنس والجنّ. وبالنظر إلى الزمان، إذ رسالته - صلى الله عليه وسلم - هي الخاتمة، فوقتها مستمر إلى قيام الساعة. فالخصائص إذن ناشئة من طبيعة الرسالة، ودائرة حولها، لتتم حكمة الله بأداء الرسالة على أفضل حال. والوجوه التي عليها تخدم الخصائص الرسالة يظهر لنا أنها كما يلي: الأول: الإعداد للرسالة قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كأخذ الله تعالى الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا به (1) ليأخذوا هم الميثاق على أقوامهم، ويكون ذلك داعياً للأمم إلى قبول رسالته - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذا أيضاً ما حصل قبل المبعث من الإرهاصات بنبوته، والبشائر التي وقعت عند بعثته. الثاني: توثيق رسالته، ومن ذلك ما خصّه الله تعالى به من المعجزات، والعصمة من المعاصي، وخاتم النبوّة بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم -، ومنعه من الكتابة وقول الشعر. ومن ذلك ما أخبر به من المغيبات التي تقع بعد وفاته، لتبقى دلائل التصديق والثقة مستمرة بعده، بتجدد تحقق ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلك أيضاً في أحكام أفعاله: تحريم الصدقة عليه، لئلا يظن به أنه أتى بما أتى به لتحصيل مال. وتُمِّم بالحكم بأنه لا يورث، حتى تقطع الأمة بأنه لم يحصِّل برسالته منهم لآله مالاً {إن هو إلاّ ذكرى للعالمين} (2).   (1) انظر سورة آل عمران: آية 81 (2) سورة الأنعام: آية 90 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ومن ذلك أيضاً ما أشار إليه في الحديث: "إن كذباً عليّ ليس ككذبٍ على أحد، فمن كذب عليّ متعمداً فليلج النار" (1). الثالث: تهيئته لأداء الرسالة، وإعداده لتحمّل أعبائها، ومن ذلك ما أوجب الله عليه من قيام الليل، ليتمّ له تدبّر الوحي الإلهي وتعلّمه وتفهّمه في أنسب الأوقات لذلك، قال الله تعالى: {قم الليل إلاّ قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلاً * إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} (2). هذه الآيات له ولغيره من أمته، ثم نسخ الوجوب في حق غيره وبقي في حقه هو، كما بُيِّنَ ذلك في حديث عائشة. ومن ذلك الإسراء به، قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} (3). الرابع: ما اختصّه الله به كعون له على أداء الرسالة. من ذلك عصمته من الناس، وإظهار الآيات على يديه، كتكثير الطعام ونبع الماء. ومن ذلك إباحة نكاح ما زاد على أربع نسوة، ليقمن بمعاونته على الأداء، باطلاعهن على ما خفي من شؤونه وإبلاغها للأمّة، وليكون إصهاره إلى قبائل العرب تأليفاً لهم وتسهيلاً لدخولهم في الإسلام، كما حصل في زواجه - صلى الله عليه وسلم - من جويرية بنت الحارث، من بني المصطلق، فقد كان ذلك سبباً لإسلام قومها. ومن ذلك إباحة القتال له بمكة، ونصره بالرعب مسيرة شهر. ومن ذلك أيضاً تحريم نكاح من لم تهاجر معه، فإن ذلك يحصل به عملياً تأكيدٌ قوي لفضل الهجرة، ويكون حثّاً غير مباشر، ولكنه ذو مفعول قوي، على استجابة المسلمين الذين لم يهاجروا. الخامس: إدامة الرسالة من بعده - صلى الله عليه وسلم -، كحفظ الكتاب الذي جاء به من التبديل، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق.   (1) متفق عليه من حديث المغيرة (الفتح الكبير). (2) سورة المزمل: آية 2 - 5 (3) أول سورة الإسراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 السادس: ما أعطاه الله من التوسعة، ومن رفع مكانته في الدنيا والآخرة جزاء على ما تحمله من التكاليف في تبليغ الرسالة. قال الله تعالى: {ما ودّعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى} (1). فمما أعطاه إباحة نكاح أكثر من أربع، وهذا وجه آخر في ذلك غير ما تقدم ذكره. ومنه ما رفع الله عنه من كثير من الحرج في مسائل النكاح، قال الله تعالى: {ما كان على النبي من حرج في ما فرض الله له سنّة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله} (2). ومنه قرن اسمه باسمه في الشهادتين، وما أوجب الله تعالى على المؤمنين من الصلاة عليه في الصلاة، والصلاة عليه كلما ذكر. ومن ذلك، بعد موته، تحريم نسائه على غيره، وما في الآخرة من إعطائه المقام المحمود، والحوض المورود، وسائر درجاته الخاصة. الفعل الدائر بين الخصوصية وغيرها : يدور بين الخصوصية وغيرها نوعان من الأفعال: الأول: ما تلمح فيه الخصوصية، كوضعه - صلى الله عليه وسلم - جريدة على قبرين بقصد التخفيف من عذاب صاحبيهما. وسائر ما تُدَّعى فيه الخصوصية بنقول محتملة. والثاني: ما لا تلمح فيه، ولكن يجوز عقلاً أن يكون خاصّاً وأن يكون مشتركاً. وهذا النوع الثاني هو سائر الأفعال المجرّدة، ويأتي بيان الحكم فيها في الفصل الخامس إن شاء الله. أما النوع الأول، فقد ادُّعِيت الخصوصية في أفعال معدودة، لمّا حصل   (1) سورة الضحى: آية 2 - 4 (2) سورة الأحزاب: آية 38، 39 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 التعارض بين الفعل وغيره من الأدلة، فتخلّص بعض العلماء بدعوى الخصوصية في الفعل. والمعتمد أن الأصل في الفعل عدم الخصوصية، وأنه لا تجوز دعوى الخصوصية بغير دليل، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله. وكذلك لو كانت الدلالة ضعيفة وأمكن التخلّص منها. وسبب ذلك أن الخصوصية خلاف الأصل، لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوث قدوة وداعياً بفعله وقوله كما تقدم. فأفعاله هي للاقتداء، والخصوصية تمنع الاقتداء. وفي المثال الذي أشرنا إليه قال اين حجر: "استنكر الخطَّابي ومن تبعه وضع الناس الجريد على القبر عملاً يهذا الحديث. قال الطرطوشي: لأن ذلك خاص ببركة يده - صلى الله عليه وسلم -. وقال عياض: لأنه علّل غرزهما على القبر بأمر مغيّب، وهو قوله: إنهما ليعذبان. يقول ابن حجر: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا، أن لا نتسبّب له في أمر يخفّف عنه العذاب لو كان يعذب. وقد تأسَّى بريدة بن الحصيب الأسلمي الصحابي بذلك، فأوصى أن يوضع عند قبره جريدتان. ذكر ذلك البخاري في باب الجنائز تعليقاً. قال ابن حجر: وهو أولى من غيره أن يتبع" (1) اهـ. وكلام ابن حجر راجع إلى القاعدة التي ذكرنا. أدلة الخصوصية : يعلم أن حكم الفعل من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - بأمور: الأول: أن يرد في القرآن النص على الخصوص والمنع من الاشتراك، كقوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم} (2)   (1) فتح الباري 1/ 319 (2) سورة الأحزاب: آية 50 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وقد يكون في النص الدالّ على الخصوصية خفاء فيقع فيه الخلاف. ومن ذلك قوله تعالى في صلاة الخوف: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ... } (1) الآيات، يقول القرطبي: "هذه الآية خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة. هذا قول كافة العلماء. وشدّ أبو يوسف، وإسماعيل بن علية، فقالا: لا تصلّى صلاة الخوف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الخطاب كان خاصّاً له بقوله: {وإذا كنت فيهم} وإذا لم يكن فيهم لم يكن لهم ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره في ذلك، وليس أحد بعده يقوم مقامه ... فلذلك يصلي الإمام بفريق، ويأمر من يصلي بالفريق الآخر، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا" (2). اهـ. ثم ذكر أن الجمهور يرون اتباعه - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً حتى يدل دليل واضح على الخصوص، ولئلا تكون الشريعة قاصرة على من خوطب. وقد عمل الصحابة بصلاة الخوف بعده - صلى الله عليه وسلم -. ثم إن خاطب الله تعالى نبيه بالحكم بضمير المفرد، أو بقوله يا أيها النبي، لم يدل ذلك على الاختصاص، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قائد أمته في طريقها إلى الله، والأمر للقائد أمر لأتباعه. ومن رفض المشاركة في الحكم هنا بمقتضى اللفظ لا يمنع القياس. ومثاله قوله تعالى: {لا تمدّنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} (3) وقوله: {وشاورهم في الأمر} (4). وسيأتي لهذا البحث زيادة بيان في مبحث قول المساواة من فصل الفعل المجرّد. الثاني: أن يقول - صلى الله عليه وسلم - ذلك. كنهيه لهم عن الوصال لما واصل، وقال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني،. وقال في دخول مكة مقاتلاً: "إن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم".   (1) سورة النساء: آية 102 (2) الجامع لأحكام القرآن 5/ 364 - 366 (3) سورة الحجر: آية 88 (4) سورة آل عمران: آية 159 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 أمّا لو ورد الإخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يفعل كذا أو لا يفعل كذا، فلا يدل على الاختصاص، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا آكل متكئاً". الثالث: أن يعلم ذلك بالضرورة، كما إذا فعل فعلاً، ثم نهاهم عنه في وقت قريب (1). وكما إذا أمرهم بأمر، ثم ترك في الحال ما نهاهم عنه، أو نهاههم عن شيء وفعله في الحال، فيعلم أن حكم تركه أو فعله خاص به - صلى الله عليه وسلم - (2). وكل هذا على طريقة المعتزلة، لأنهم لا يجيزون النسخ قبل التمكّن من الامتثال. أما عند غيرهم فيجوز النسخ قبل التمكن، فلا يكون هذا النوع دليل الخصوصية. أما إن نهاهم عن الشيء وهو متلبِّس به، فينبغي أن يكون ذلك دليل الاختصاص عند المعتزلة وغيرهم، كما نهاهم عن الوصال وهو مواصل، ونهاهم عن نكاح أكثر من أربع وهو مقيم على ذلك. وعلى قول المعتزلة، إن تأخّر الترك أو الفعل طرأ احتمالٌ بأن الحكم الأول قد نُسخ، فلا تتحقق الضرورة. ومثاله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم أن يصلوا قياماً والإمام جالس، وصلّى بهم في مرض موته وهم قائمون وهو جالس. فقيل: ذلك من خصائصه (3). وهو مردود، لما تقدم. ثم قد قيل: إنه فعله ليبين الجواز، فبيّن بفعله أن النهي السابق إنما هو للكراهة. وهو مذهب الحنابلة. وقيل إن النهي منسوخ (4).   (1) أبو الحسن البصري، المعتمد 1/ 390 (2) نفس المصدر 1/ 387 (3) ابن قدامة: المغني 2/ 220 - 222 (4) السيوطي: الخصائص الكبرى 3/ 284 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الرابع: الإجماع على الخصوصية، كإجماعهم على تحريم الزيادة على أربع نسوة. واختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بإباحة ذلك. الخامس: القياس الجلي، كتحريم نكاح امرأة تكره صحبته. لأنه إذا وجب عليه طلاق من تكره صحبته ممن قد تزوجهن، فأن لا يبتدئ نكاح الكارهة أولى. ودليل وجوب الطلاق عليه في تلك الحال قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتنَّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتِّعكن وأسرِّحكن سراحاً جميلاً} (1). الخصائص التي تدخل في موضوع بحثنا : لا يدخل في بحثنا الآتي، ما شاركته أمته - صلى الله عليه وسلم - فيه وانفردوا به عن سائر الأنبياء وأممهم، لأن الغرض بيان ما تقتدي به الأمة فيه من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، والذي تشاركه فيه الأمة أمره واضح لا خفاء به. وأيضاً لا يدخل في بحثنا ما كان من الخصائص في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة، لخروجها عن نطاق التكليف. ولا يدخل ما كان صفة من صفاته البدنية، كخاتم النبوّة، وسائر ما ليس من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. فانحصرت الخصائص النبوية التي سنبحثها في هذا الفصل، في ما كان حكماً شرعياً لفعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، في هذه الدنيا، مما ينفرد به عن أمته، سواء شاركه فيه غيره من الأنبياء، أو لم يشاركه فيه منهم أحد. وأما ما كان من الخصائص في فعل غيره بسببه، فسنذكر الاستدلال به بعد ذكر الاستدلال بالخاص من أحكام أفعاله - صلى الله عليه وسلم -.   (1) سورة الأحزاب: آية 38 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 درجات خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في سُلّم الأحكام: يقسم الفقهاء خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله إلى ثلاثة أنواع: 1 - أفعال واجبة عليه خاصة، كتخيير نسائه. وفائدة تخصيصه بالوجوب عند الفقهاء، زيادة الأجر والثواب، لأن ثواب الفرض أكثر من ثواب النفل. 2 - وأفعال محرمة عليه خاصة، كتبدّل أزواجه، ونكاح من لم تهاجر معه. وفائدة تخصيصه بالتحريم عندهم كمال التطهير والتنزيه، ولأن أجر ترك المحرم أكثر من أجر ترك المكروه. وليس ما ذكر من فائدة تخصيصه بالوجوب والتحريم مطّرداً في كل الخصائص، كما هو واضح. وقد ذكرنا الأوجه الستة لخصائصة في ما تقدم. 3 - وأفعال مباحة له خاصة، كالزيادة على أربع زوجات. ولم يذكروا في خصائصه المندوب ولا المكروه. أما المندوب، فالظاهر أنه ثابت في خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وعندي أن من ذلك الوصال. والفقهاء يذكرون الوصال في قسم المباح. ونسبه السيوطي إلى الجمهور. ولكن ذكره في المندوب هو الصواب، كما لا يخفى، وبه قال الجويني (1)، وأبو شامة (2). ويفهم من كلام الشاطبي أنه لا يرى الوصال من الخصوصيات (3). ومثل الوصال في ذلك القسم بين الزوجات، فهو مندوب له لا شك في ذلك. وأما المكروه له خاصة فلم نظفر له بمثال. ومن أجل وقوع المندوب له في خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فالذي نراه أن نقسم   (1) الخصائص الكبرى للسيوطي 3/ 284 (2) المحقق ق 11 أ (3) الموافقات 3/ 62، 150 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 خصائصه أربعة أقسام لا ثلاثة، إلّا أن يعبر بدل المباح بالجائز ليشمل ما ذكرناه في قسم المندوب. والله أعلم. ونلاحظ في النوع الثالث وهو المباح له خاصة أنه ينقسم ثلاث أقسام (1): الأول: أن يكون مباحاً له، وحكمه على الأمة الوجوب. والثاني: أن يكون مباحاً له وحكمه في حق الأمة التحريم، وذلك مثل الزيادة على أربع نسوة، إذ هو علينا محرم. والثالث: أن يكون مباحاً له وحكمه على الأمة الكراهة، وهذا قليل، ومنه القضاء والفتيا حال الغضب. وأما أن يكون مباحاً له وحكمه في حقنا الندب، فلم نظفر له بمثال. ما يمتنع الاختصاص فيه : 1 - لاحظ الحافظ العلائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يختص في باب القربات والتعظيم بالترخص في شيء (2)، يعني بذلك أن ما كان واجباً على غيره من الأمة من العبادات، وتعظيم الله، وتعظيم شعائر الله، فلا يكون له - صلى الله عليه وسلم - خصوصية بأن يكون ذلك في حقه مباحاً أو مندوباً. وذلك واضح، فإنه - صلى الله عليه وسلم - يخص بإيجاب ما ندب إليه غيره من العبادات، كالتهجد، زيادة في الزلفى والقربة، فكيف يرخص له في ترك ما وجب على غيره منها وهو - صلى الله عليه وسلم - الناس بالتزام القرب والطاعات والتعظيم، لقوة علمه بالله تعالى. وكذلك ما حرّم على الناس تعظيماً لحرمات الله، لا يرخص له - صلى الله عليه وسلم - في فعله. ورد العلائي بهذه القاعدة قول من زعم أن استدبار النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة عند قضاء الحاجة كان خصوصية له، لأن ما ورد من النهي عن استدبارها إنما هو لتعظيم شعائر الله، وتكريمها.   (1) قسمه الماوردي قسمين كما عند الزركشي في البحر 2/ 249 أ، ونحن أضفنا الثالث. (2) انظر رسالته: تفصيل الإجمال، في أثناء كلامه في الفصل الثاني ق 49 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وقوله في ذلك وجيه. 2 - ولاحظ السرخسي ملاحظة أخرى. وهي أن ما كان واجباً على غيره - صلى الله عليه وسلم - من أقوال معينة في مواقع معينة، فلا يجوز أن يختص بعدم إيجابه، قال: "فإن معنى الخصوصية هو التخفيف والتوسعة ......... وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أفصح الناس، وما كان يلحقه حرج في استعمال اللفظ (الواجب) (1) ورد بهذا الأصل قول الشافعي إن انعقاد النكاح بلفظ الهبة خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -". ونحن نتوسّع في هذه القاعدة، فنقول: كل ما لم يكن فيه حرج على النبي - صلى الله عليه وسلم - في اختيار من قول أو فعل، فلا يكون خاصاً به، بل هو مشترك. ويمكن الاستفادة من ذلك أيضاً في رد قول من زعم أن استدباره - صلى الله عليه وسلم - للكعبة في قضاء الحاجة خاص به، إذ التوجّه إلى الجهات المختلفة سواء من حيث الخفة والثقل. والله أعلم. عدد الخصائص : ذكر صاحب كشف الظنون أن السيوطي ذكر في (الخصائص الكبرى) أنه تتبع الخصائص عشرين سنة حتى زادت عنده على الألف. وهو قد قصد أن يكون كتابه: "مستوعباً لما تناقلته أئمة الحديث بأسانيدها المعتبرة، ... أورد فيه كل ما ورد" (2). غير أنه لم يلتزم الصحة، إنما التزم أن لا يذكر خبراً في ذلك موضوعاً. ويفهم من ذلك أنه لم يلتزم ترك الضعيف من الأخبار، فورد في كتابه أخبار ضعيفة كثيرة. بل ادّعى محقق الكتاب (3) أن السيوطي لم يلتزم بشرطه في تنزيه كتابه عن الأخبار الموضوعة (4).   (1) أصول السرخسي 1/ 180 (2) الخصائص الكبرى 1/ 8 (3) الشيخ محمد خليل هراس، رحمه الله. (4) انظر الخصائص الكبرى 3/ 652 التعليق رقم (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وما صحّ الخبر فيه مما أورده، كثيراً ما لا يكون دالاًّ على الاختصاص، كإجابة الدعاء (1)، فالله تعالى يستجيب لمن دعاه من نبي وغيره. وبعض ما ذكره من الاختصاص دعوى لا سند لها (2). فلو أن ما جعله من الخصائص عُرِض على ميزان النقد لما ثبت منه في تقديري أكثر من ثلث الألف أو ربعه. وهذا في الخصائص بصفتها العامة. أما ما اختصّ به - صلى الله عليه وسلم - في أحكام أفعاله، فإن بعض فقهاء الشافعية والمالكية ذكروها في مؤلفاتهم في أوائل كتاب النكاح (3)، لما كان كثير من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - هي في باب النكاح. وأول من استطرد إليها المزني صاحب الشافعي رضي الله عنهما. وقد ذكرها القرطبي المالكي بالتفصيل، وحصرها في 37 خاصة، قال: إن منها المتفق عليه، والمختلف فيه (4). وذكرها السيوطي، فجعلها 65 خاصة. وذكرها الرملي الشافعي في شرح المنهاج فجعلها 47 خاصة. ولعلّ ما يصح دليله من كل ما ذكر قريب من خمس عشرة خاصة لا أكثر. منها في الواجبات: التهجد بالليل، وتخيير نسائه. ومنها في المحرمات تحريم الزكاة عليه وعلى آله، وتحريم أكل الأطعمة الكريهة الرائحة، وتحريم التبدل بأزواجه.   (1) الخصائص الكبرى 1/ 366 - 371 (2) مثلاً: أنه كلف من العلم ما كلفه الناس بأجمعهم (3/ 264) ولا تجب عليه الزكاة (3/ 287). (3) انظر مثلاً من كتب الشافعية: روضة الطالبين للنووي. ونهاية المحتاج، للرملي، على المنهاج، ط الحلبي 1357 هـ 6/ 175 ومن كتب المالكية: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير- كتاب النكاح. (4) تفسير القرطبي 14/ 212 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ومنها في الجائزات: خُمس خُمسِ الغنيمة، وخمس الفيء، والوصال، والزيادة على أربع نسوة، وسقوط القسم بين زوجاته، والقتال بمكة. الاستدلال بأفعاله صلى الله عليه وسلم الخاصة به في الأحكام المماثلة : إذا ثبتت الخصوصية في فعل من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها تقتضي أن حكم غيره ليس كحكمه وذلك إجماع (1)، إذ لو كان حكمه حكم غيره لما كان للاختصاص معنى. ومن أجل ذلك كانت فائدة معرفة الخصائص معرفة أن حكم غيره - صلى الله عليه وسلم - ليس كحكمه فيها، ولئلا يقتدي بها جاهل إذا سمع الحديث مثلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كذا. هذا ما يذكره الفقهاء من فائدة معرفتها (2). إلاّ أن المهم ثبوت الخصوصية بدليل صحيح، أعني بصحته صحة الثبوت، بالإضافة إلى صحة الدلالة على الخصوصية. وليس كل ما ذكره المؤلفون من الخصوصيات صحيحاً، كما تقدم. وقد تتبّع ابن حجر في (تلخيص الحبير) (3) ما ذكره الرافعي في شرح الوجيز من الخصائص، وهي التي يتناقلها الفقهاء، فزيّف أدلة بعضها كوجوب ركعتي الفجر، وبين عدم صحة دعوى الخصوص في بعض آخر، وأثبت أن الاشتراك أصحّ. ثم إنه وإن امتنعت مشاركتنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في خصوصياته، فإن للاقتداء به فيها وجهاً واضحاً، فإنه إذا امتنع من أكل الثوم والبصل لكونهما محرمين عليه خاصة، فيتّجه أن يقال: إن من اقتدى به في الامتناع من ذلك يؤجر، ويكون في حقه مكروهاً، وإذا وجب عليه تخيير نسائه إذا بدا منهن الضيق، استُحِبَّ ذلك لغيره.   (1) انظر التقرير والتحبير 2/ 302، الآمدي: الأحكام 1/ 247 (2) الرملي: نهاية المحتاج 6/ 174 (3) تلخيص الحبير 3/ 117 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وفي هذه المسألة للعلماء قولان: القول الأول: ما قاله الشوكاني: "توقف إمام الحرمين (1) في أنه هل يمتنع التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أم لا. وقال: ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون في هذا النوع، ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك. فهذا محل التوقف" (2). وقال أبو شامة: تابع القشيريّ والمازريّ إمامَ الحرمين على ذلك. وقال الغزالي: ما عرف أنه خاصيته فلا يكون دليلاً في حق غيره (3). أقول: وابن السبكي في جمع الجوامع وشارحه، وافقا الجويني على ما ذهب إليه، فقد ذكر ابن السبكي أن حكم الفعل المخصّص (واضح) وفسره المحلي بأننا (لسنا متعبدين به) وذكر البناني عن (شيخ الإسلام) (4) أن مرادهما أن الفعل الخاصّ لا يكون دليلَاً في حقنا، ولا يمتنع أن يكون الدليل شيئاً آخر كالقول مثلاً (5). هذا وإن أكثر ما نُقِل من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - بُيِّن الحكم فيه في حقنا بأدلة مستقلة، كاستحباب الضّحى والأضحى والوتر والتهجد في حقنا للأدلة القولية الواردة في ذلك. وتخيير المرأة الكارهة نوع من الإحسان، والإحسان مطلوب شرعاً. وككراهية أخذ الزكاة والصدقة في حقنا، وكراهة أكل ما له ريح كريهة كالبصل والثوم. ولعل الجويني ومن وافقه ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه لهذا المعنى، فإن معرفتنا بكون هذه الأمور وأشباهها مستحبة لنا أو مكروهة إنما منشؤه الأدلة الخاصة الواردة   (1) يعني الجويني. (2) إرشاد الفحول ص 35 (3) المستصفى 2/ 49 (4) يعني الشيخ زكريا الأنصاري. (5) جمع الجوامع وشرحه وحاشية البناني 2/ 97 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 بذلك، وإنما الدليل الذي يدل على صحة القاعدة قول الشارع، أو الإقرار، أو عمل الصحابة، ولم يتحقق شيء من ذلك عند الجويني ومن تبعه. والقول الثاني: ما قاله أبو شامة (1) فإنه يرى أن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - ممنوع في ما أبيح له خاصة، لدلالة الخصوصية على امتناع ذلك في حق غيره. وأن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاستحباب ثابت فيما فعله على سبيل الوجوب، وفي ترك ما تركه على سبيل الحرمة. فيندب لنا على هذا القول: فعل ما فعله - صلى الله عليه وسلم - مما اختصّ به من الواجبات، ويندب لنا التنزه عما تركه مما اختصّ به من المحرمات. فخصوصيته - صلى الله عليه وسلم -، على هذا القول، إنما هي في تحتم الفعل أو الترك بالنسبة إليه، والمشاركة بيننا وبينه هي في أصل مطلوبية الفعل أو الترك المقتضية للاستحباب أو الكراهة، وتمتنع المشاركة في ما زاد على ذلك وهو تحتّم الفعل أو الترك، لدلالة الخصوصية على هذا الامتناع. وقال أبو شامة: إن ما ذكره "لا نزاع فيه لمن فهم الفقه وقواعده، ومارس أدلة الشرع ومعاقده ومعانيه". وقد نقل الشوكاني بعض كلام أبي شامة، ووافقه على ما ذهب إليه (2). ونقله قبله الزركشي في البحر وأقرَّه. إلاّ أن الشوكاني قيّد هذه المسألة بأنه إذا علم بدليل قوي الحكم في حقنا فهو المعتمد، فإن عارض القول ما يستفاد من هذه القاعدة يقدَّم الدليل القولي. ويفهم من كلام أبي شامة أنه يدلل لقوله بوجهين: الأول: البناء على القواعد الشرعية. ولم يبيّن القاعدة التي يشير إليها. ولعله يعني أن ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن يكون مصلحة، وذلك يعني أنه في حقّنا كذلك   (1) انظر كتابه (المحقق) ق 5 أ (2) إرشاد الفحول ص 35، 36 وفي كلام الشوكاني هنا خفاء، ومآله إلى ما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 مصلحة، فيكون مستحباً. وإن ما نهى عنه لا بد أن يكون مفسدة، فيكون في حقنا مكروهاً. وامتنع التحتّم الذي هو الإيجاب والتحريم بدليل الخصوصية. فإن كان هذا مقصوده، فلا يسلّم له، إذ قد يكون الشيء مصلحة لشخص ولا يكون مصلحة لآخر، كالصوم، هو مصلحة للطاهر، وليس مصلحة للحائض، وكالقصر هو مصلحة للمسافر، وليس مصلحة للمقيم. وهكذا يقال في جانب المفسدة. الثاني: أنه قد ورد عن الصحابة الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في الفعل الخاص. ومن ذلك أن ابن عباس ائتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل. وقد امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل طعام في منزل أبي أيوب الأنصاري، كان فيه ثوم، فقال أبو أيوب: "إني أكره ما تكره" ولم ينكر ذلك عليه، - صلى الله عليه وسلم - (1). وهذا أيضاً غير مسلّم، أما ائتمام ابن عباس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل، فإن استحباب صلاة الليل معلوم بدلالة الكتاب والسنة القولية كما لا يخفى، فلا يكون دليلاً في المسألة. وأما قول أبي أيوب: "فإني أكره ما تكره". فهو محمول على أنه للكراهة الطبيعية، لا للكراهة الشرعية. وبذلك لا يثبت دليل القاعدة، الذي أراد أبو شامة رحمه الله إثباتها له. إلاّ أننا نرى أن استقراء الخصائص الواجبة والمحرمة (وعددها ما بين خمس وثلاثين عند السيوطي إلى تسع عشرة كما عدَّها الرملي والقرطبي) يُظهر أن هذه القاعدة صادقة على جميع هذه الجزئيات. ما عدا تحريم الكتابة والشعر (2) عليه - صلى الله عليه وسلم -   (1) رواه مسلم (جامع الأصول 8/ 283) (2) من عدهما كذلك السيوطي (الخصائص 3/ 271) ونقله عن النووي في الروضة. وقد أغفلهما الرملي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 عند من عدَّهما من الخصائص، والمقصود بتحريمهما عليه تحريم تعاطي أسبابها الموصلة إليهما، فإن الكتابة والشعر لا يُكْرهان في حق الأمة إذا استعملا في مباح. فإن لم تثْبت قاعدة أبي شامة، بما استدَلَّ به لها، فإن الاستقراء يُغلِّب على الظن صحتها. والله أعلم. هذا وإن أغلب ما اختصَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في باب الوجوب والتحريم، يعلم حكمه في حقنا بأدلة غير الأفعال. ومن أجل ذلك كانت فائدة هذه القاعدة ضئيلة في استفادة الأحكام الشرعية من الأفعال الخاصة، إذ إنها تحصيل حاصل. ويجوز استعمالها للتوكيد والاستئناس. ونحن نرى لها فائدة أخرى. وذلك أن كثيراً من العلماء في شروحهم للأحاديث، والجمع بين الأحاديث القولية والفعلية، كثيراً ما يحملون الحديث الفعلي على أنه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. فإن كانت الخصوصية بالإيجاب أمكن معرفة صحة ذلك من عدمها، باستخدام هذه القاعدة: فإن وجد أن الحكم في حقنا ليس الاستحباب، بل الإباحة أو الكراهة أو التحريم، يتبيّن أن الحمل على الخصوصية فاسد. ونظير ذلك يقال في الخصوصية بالتحريم. وكمثال تطبيقي لذلك نذكر مسألة عدّ تحريم الكتابة والشعر من الخصائص النبوية. فالمشهور أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقدر عليهما، ولو أراد تعلمهما لما أمكنه ذلك. فخرجا على هذا القول في حقه - صلى الله عليه وسلم - عن نطاق التكليف، وهو الراجح. أما على القول المرجوح، وهو أنه كان قادراً عليهما، فقد ادّعى قوم تحريمهما عليه، وإن ذلك من خصائصه. وذلك مردود، بناء على هذه القاعدة إذ لو كانا في حقه حراماً لكانا في حقنا مكروهين، وذلك ممنوع. فتنتفي الخصوصية. والله أعلم. ما يختص به صلى الله عليه وسلم في أفعال غيره : وذلك ما شرعه الله تعالى من الأحكام من فعل غيره بسببه - صلى الله عليه وسلم -، تعظيماً لمقامه ورفعاً لشأنه. ومنه أنه لا يرثه أحد من أقاربه ولا زوجاته، ومنه أن ما تركه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 من ماله صدقة، وأنه لا يحل لأحد نكاح زوجاته بعده، وأنهن أمهات المؤمنين، ومن فعل منهن معصية يضاعف لها العذاب ضعفين، ومن يقنت منهن لله ورسوله فلها الأجر مرتين، وتحريم رفع الصوت فوق صوته، والكذب عليه عمداً كبيرة، ويجب القتل على من سبه أو هجاه. هل يصحّ تعدية هذه الخصائص إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم: ينقل عن بعض الصوفية أنه ادّعى لنفسه في أتباعه أشياء من مثل هذا النوع من الخصائص. فنُقل عن بعضهم أن الوليّ في أتباعه ومريديه كالنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، ولهذا يجعلون لشيوخهم من الخصائص مثل ما هو ثابت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز عندهم نكاح امرأة الشيخ بعد موته، ولا يجوز رفع الصوت عنده (1). إن ما تقدم ذكره من الإجماع على عدم جواز الاشتراك فيما ثبت من خصائصه ينفي دعوى مشاركة (الأولياء) في خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. ولما كانت خصائصه - صلى الله عليه وسلم - لا تدل في حقنا على المماثلة، فلذلك يكون من حرَّم على الناس لنفسه مثل ما حرّم عليهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد حرم ما ليس حراماً، وذلك لا يجوز. وكذا من أوجب عليهم لنفسه مثل ما وجب عليهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أوجب ما ليس بواجب وذلك لا يجوز. وقد ورد عن أبي برزة الأسلمي، قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق. قال، فقال أبو برزة: ألا أضرِبُ عنقه؟ قال: فانتهزه أبو بكر، وقال: ما هي لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). فلو كان للوليّ أن يكون له مشاركة في هذا النوع من الخصائص، لكان أولى الناس بذلك، صدّيق الأمة أفضلها بعد نبيها وأكرم (أوليائها) على الله.   (1) محمد خليل هراس، نقلاً عن (العهد الوثيق) للشيخ محمود خطاب السبكي وغيره (الخصائص الكبرى) للسيوطي 3/ 306 حاشية (2) (2) رواه أحمد. وصححه أحمد شاكر (المسند، بتحقيقه 1/ 55) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 خاصة التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم : من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - التبرك بآثاره والاستشفاء بها، فقد نقل أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه، ومجَّ فيه، ثم قال لأبي موسى وبلال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما، ونحوركما. وتوضأ وصب على جابر، وأمر بشعره أن يقسم بين المسلمين. وكان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه. وبعض ثيابه كانت تغسل بعده ويعطى ماؤها للمرضى. وجمعت أم سليم عرقه لتطّيّب به. وشرب بعضهم دم حجامته - صلى الله عليه وسلم -. وحنّك بعض صبيانهم بالتمر. والدليل على أن هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتبرَّكوا بأفاضلهم. وليس في الأمة بعد نبيّها أفضل من أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. فلم ينقل عن أحد منهم، ولو حادثة واحدة، أنهم تبركوا بهؤلاء الأولياء الأربعة أو غيرهم (1). فهذا إجماع على الترْك. والتبرك هنا ليس له وجه إلاّ اعتقادهم أن ذلك خاص به - صلى الله عليه وسلم -. إذ لو كان للتشريع لعملوا به ليبينوه للأمّة. وقد ذكر الشاطبي احتمالاً أنهم تركوه من باب سدّ الذرائع. لئلا يصل الجهال منه إلى عبادة غير الله. ومن أجل ذلك كانت المسألة عند الشاطبي مشتبهة (2). إلاّ أن هذا الاحتمال لا ينبغي أن يُلغي دلالة الإجماع، إذ إن أكثر الأدلة الشرعية ظنية، وتطرقها بعض الاحتمالات الضعيفة، ولا يبطل ذلك العمل بها. والله أعلم.   (1) الشاطبي: الاعتصام 2/ 6 - 11 (2) الشاطبي: الاعتصام 2/ 11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 المبحث السَّادسُ الفعل البياني تقدم في الفصل الأول أن البيان بالفعل جائز وواقع. ويهمنا هنا أن نذكر ما يستفاد من الأحكام من الفعل الواقع بياناً. وقد قدمنا أن مرادنا بالفعل البياني، ما وقع بياناً للمشكل من مجمل وغيره مما ورد في القرآن وتكفلت السنة ببيانه، وهو الذي نقصده هنا أيضاً، أما الفعل الواقع بياناً ابتدائياً فهو من الفعل المجرد، وسيأتي ذكره في الفصل التالي إن شاء الله. جهات الفعل البياني : للفعل البياني ثلاث جهات، يستفاد من كل منها نوع من الأحكام: الجهة الأولى: جهة أنه امتثال للأمر أو النهي في العبادة، فإذا بيّن - صلى الله عليه وسلم - آية الحج بأن حج وقال لهم: "خذوا مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" فإن حجّه في حدّ ذاته امتثال لما أوجب الله عليه من الحج، ويجزيء عنه، فيسقط عنه الفرض بذلك. ويعترض هنا سؤال، وهو أنه هل يمكن أن يتجرّد الفعل البيانيّ عن جهة الامتثال هذه، فيتخلّص بياناً؟. وصورة ذلك أن يأتي - صلى الله عليه وسلم - بفعل هيئته هيئة العبادة، وهو لا يقصد العبادة، وإنما يقصد مجرد التعليم، كما يفعله المعلّمون أحياناً من أداء صورة الصلاةِ مثلاً، على سبيل التمثيل لطلبتهم، دون أن يقصدوا الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 يفهم من كلام البناني (1) أنه يرى أن البيان والامتثال "يحصل بكل منهما الآخر" فظاهر هذا أنه لا يتصوّر انفصال الفعل البيانيّ عن الامتثال. وقد ورد في حديث عند ابن ماجه والبيهقي، أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به". ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: "من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين". ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي". قال القاضي حسين من الشافعية: من أصحابنا من قال: فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الوضوءات في مجالس، لأنه لو كان في مجلس واحد لصار غسل كل عضو ست مرات، وذلك مكروه. قال: ومنهم من قال: كان ذلك في مجلس واحد للتعليم، ويجوز مثل ذلك للتعليم. قال النووي: "ظاهر رواية ابن ماجه أنه كان في مجلس واحد. وهذا كالمتعين، لأن التعليم لا يكاد يحصل إلا في مجلس واحد" (2). اهـ. فالوضوء الأخير من الثلاثة كان تمثيلاً لمجرد البيان. فإن صحّ الحديث كان دليلاً أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل أحياناً لمجرد البيان. ومثال آخر: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمّار بن ياسر حين أراد أن يعلمه التيمم: "إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا .. " الحديث. فلا يبعد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان متوضئاً وأن ما فعله من التيمّم صوري. وحتى لو لم يكن متوضئاً فالظاهر أنه كان بالمدينة، والتيمّم للحاضر لا يجزئ. ومن جهة أخرى، قد تنفرد جهة الامتثال، فيكون الفعل امتثالاً مجرداً من دون أن يكون بياناً لشيء. ومن ذلك ما كان - صلى الله عليه وسلم - يفعله في خلواته مما لا يطّلع عليه أحد من الأمة "لأن ما أريد به البيان يلزم إظهاره" (3).   (1) حاشية شرح جمع الجوامع 2/ 98 (2) النووي: المجموع 1/ 471 (3) الغزالي: المستصفى 2/ 28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وما كان الممتثل بيّناً بنفسه كغسل اليدين في الوضوء. أو سبق بيانه بقول أو فعل، كما بيّن المواقيت بصلاته يومين متواليين، فصلاة اليوم الثالث ليست بياناً للوقت. الجهة الثانية: جهة أنه امتثال لما أمر به من البيان. وهو من هذه الجهة واجب أو مستحب كما تقدم. وقد يختلف حكم الفعل الواحد من هاتين الجهتين، فيكون مندوباً من حيث إنه امتثال للأمر بعبادة مندوبة، واجباً من حيث إنه امتثال للأمر بالبيان، كما لو بيّن بفعله صلاة مندوبة. والقدوة حاصلة بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الناحية. والمقتدي به فيها هم أهل العلم والدعوة، والقائمون مقامه في بيان الأحكام للأمة، وليس العوام من لا علم عنده. ولم يزل القائمون على الدعوة والتربية يتأسّون به - صلى الله عليه وسلم - في كيفية بيانه للأحكام من انتهاز الفرص لها، والتخول بالموعظة، والبداءة بالأهم، والتدرج في البيان، إلى غير ذلك من النواحي التي يذكرها الكاتبون في مباحث التربية الإسلامية، ومباحث الدعوة. وينظر حكم الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في كيفيات البيان في مبحث (الفعل الامتثالي). الجهة الثالثة: جهة ما يحصل بالفعل من البيان، فيعلم به تفاصيل الفعل الذي أمرنا به، ويعلم أنه واجب في حقنا أو مندوب أو مباح، وذلك بتعلقه بما هو بيان له، فإن تعلق بآية دالة على الوجوب، دلّ على الوجوب، وإن تعلق بآية دالة على الندب دلّ على الندب، وإن تعلق بما دل على الإباحة دلّ على الإباحة، كما سيأتي إن شاء الله. وهذه الجهة هي المرادة غالباً في كلام الأصوليين عند ذكرهم الفعل البياني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الفرق بين الفعل البياني والفعل الامتثالي : البيان يكون لغة بمعنى (الإظهار) ويكون بمعنى (الظهور) والبيان في مصطلح الأصوليين اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه: إنه بمعنى (تبيين الحكم)، أو بمعنى (دليل الحكم)، أو بمعنى (العلم بالحكم الحاصل عن الدليل) (1). واختار البزدوي أنه بمعنى (التبيين)، وهو الذي نعتمده في هذا المبحث. فالبيان هو القول أو الفعل الصادر عن المبيّن بقصد إظهار المراد بالمجمل ونحوه. وعلى هذا فالفعل البياني هو الفعل الذي قصد به النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان مشكل في الأحكام الشرعية. أما ما فعله - صلى الله عليه وسلم - لا بقصد التبيين، وإنما لمجرد أن الله أمره أن يفعل ففعل، على حدّ ما يفعل غيره من المكلفين، فذلك هو الفعل الامتثالي. وليس المراد القصد العام لبيان الشريعة ككل. فإن هذا القصد كان ملازماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - طيلة حياته بعد البعثة. وإنما المراد القصد الخاص، بان يريد أن هذا الفعل المعيّن هو بيان لهذا المشكل المعين. ما يعرف به الفعل البياني : أنكر المروزيّ الشافعي، والكرخي الحنفي، جواز البيان بالفعل. والجمهور على جوازه. وقد تقدم ذكر ذلك. واختلف الجمهور القائلون بجوازه، في أن الفعل هل يكون بياناً بنفسه؟.   (1) قال البزدوي: "المراد بالبيان في هذا الباب عندنا الإظهار دون الظهور" وقال البخاري "وعند بعض أصحابنا وأكثر أصحاب الشافعي معناه ظهور المراد للمخاطب". وانظر أيضاً: المستصفى 1/ 153 والبحر المحيط 2/ 181 وبيان النصوص التشريعية ص 23 - 25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 فالأكثرون على أن الفعل لا يكون بياناً، إلاّ بقرينة تدلّ على أنه بيان (1). والقرينة التي تبيّن أن الفعل الواقع هو بيان، اشترط صاحب (الكبريت الأحمر) أن تكون قولَاً، ورأى أن غير القول لا يقوم مقامه ما لم يتكرر الفعل (2) [على صفة واحدة]. وقد حصر صاحب المحصول القرائن في ثلاثة: أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده، أو بالقول، أو بالدليل العقلي، بأن يذكر الممُجْمل وقت الحاجة إلى العمل به ثم يفعل فعلاً يصلح أن يكون بياناً. وقال: لا يحصل البيان إلاّ بأحد هذه الأمور الثلاثة (3). وغيره جعل كل ما فيه دلالة بياناً، وجعل أيّ قرينة تدل على ذلك دالّة على كونه بياناً. فذكر الغزاليّ في المستصفى سبع طرق، وذكر أبو شامة ثمانياً (4). ونحن نورد منها هنا ما يتعلق بهذا الموضوع ونترك باقيها إلى مواضع هي بها أليق. وعندي أن مبنى اختلافهم قي هذا هو اختلافهم في ما يعبّرون عنه بـ (البيان) فمن رأى أن البيان هو (الدليل) أو العلم الحاصل عنه جعل كل ما يستدل به من الأفعال بياناً. ومن جعل (البيان) هو (التبيين)، أي فعل المبين، فقد حصر طرق معرفة الفعل البياني في ما يدل على قصد الإظهار (5). وهذا هو الذي نعتمده في هذا المبحث، لأنا قد خصصناه بـ (الفعل البياني)، وجعلنا للفعل الامتثالي مبحثاً خاصاً، وبيَّنَّا أنه يستدل به أيضاً.   (1) الزركشي: البحر المحيط 1/ 2 ونقله عن المازري. (2) الزركشي: البحر المحيط 2/ 181 أ. (3) وأبو الحسين البصري لم يذكر غير الثلاثة. المعتمد 381، 386 (4) المحقق ق 35 ب (5) انظر الخلاف في ذلك في أصول البزدوي 3/ 824 - 826 والمستصفى 1/ 153 والبحر المحيط 2/ 181 وبيان النصوص التشريعية ص 23 - 25 وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أما من جعل كلَّ فعل يستدل به في الأحكام بياناً، فلا يستقيم له أن يذكر في أقسام الفعل، البيانيَّ والامتثاليَّ كليهما معاً. وبناء على ما اعتمدناه، فإن الأفعال الواقعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - يستدل على أنها بيان بطرق مختلفة: الطريق الأولى: القول الصريح، بأن يقول - صلى الله عليه وسلم -: ما فعلته، أو: ما سأفعله، هو بيان لكذا. وهذه أعلى الطرق. ومثاله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر لما أراد أن يعلمه التيمم: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، ثم ضرب بيده إلى الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه، ووجهه" (1). فمسح الكفّين يبيّن به الإشكال في المراد باليد في آية التيمم. والبيان هنا هو الفعل، وليس القول هو البيان. والذين قالوا: لا يكون البيان بالفعل، قالوا: القول هنا هو البيان. وقال في تيسير التحرير: الأولى أن يقال: القول لزيادة البيان (2). والصواب ما قاله أبو الحسين البصري من أن القول معلِّق للبيان على الفعل (3). وهذا ما اعتمدناه، إذ جعلنا القول هنا طريقة يُستدلّ بها على كون الفعل بياناً. وبالله التوفيق. وهذه الطريق مرحلتان: المرحلة الأولى: أن يقول إن الفعل بيان، ولا يعيّن ما هو بيان له، ويتعيّن بالقرائن. كما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - في التيمم.   (1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (جامع الأصول 8/ 148) (2) تيسير التحرير 3/ 175، 176 (3) أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 338 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 المرحلة الثانية: أن يعيّن بقوله ما هو بيان له، كأن يقول: هذا الفعل بيان لآية كذا وكذا. ولم نظفر لهذه المرحلة بمثال. والعمدة في تعيين المبيَّن على ما يأتي من الطرق سوى القول. الطريق الثانية: إجماع العلماء على أن الفعل المعيّن بيان لآية معينة. كإجماعهم في أعداد الركعات في الصلوات، وما فيها من الأركان التي اتفقوا عليها أن ذلك بيان للصلاة المأمور بها في الكتاب. وأن مقادير الزكاة التي أخذها - صلى الله عليه وسلم - هي بيان للزكاة المأمور بها. الطريق الثالثة: أن يرد خطاب مجمل، ولم يبيّنه - صلى الله عليه وسلم - بالقول، وأتى وقت التنفيذ، ففعَل - صلى الله عليه وسلم - أمامهم فعلاً صالحاً للبيان، فيعلم الحاضرون أنه بيان لذلك المجمل. هذا بالنسبة إلى من شاهد الفعل الواقع بعد المجمل. أما بالنسبة إلى من لم يشاهده، كغير الصحابي، فإننا إذا بلغنا الفعل النبويّ يحتمل عندنا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد بيّنه بالقول ولم يبلغنا. فيكون الظاهر عندنا أن الفعل بيان. قاله الغزالي (1). ومثاله أنه تعالى أمر بالوقوف بعرفة، ولم يذكر وقت الوقوف، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - تاسع ذي الحجة، فتبيّن بذلك وقته للواقفين معه. ومثاله في جانب المحرّمات: إن الله حرّم الميتة، فاحتمل دخول الجراد في ذلك، فلما أكله - صلى الله عليه وسلم - أمامهم، أو أقرّ آكليه وهو يراهم يفعلون، عُلِم عدم دخوله في الميتة المحرمة. الطريق الرابعة: أن يُسأل - صلى الله عليه وسلم - عن بيان مشكل، فيفعل فعلاً، ويعلم بقرائن الأحوال أنه يريد جواب السائل (2)، كالذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مواقيت الصلاة، فقال: "صل معنا" فصلّى في اليوم الأول في أول الوقت، وصلى في اليوم الثاني في آخره، فعلم بذلك، أول الوقت وآخره. ولما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أين السائل،   (1) المستصفى 52/ 2. (2) أبو شامة: المحقق ق 36 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الوقت ما بين هذين" (1). زاد ما علم من القرائن توكيداً، وانتقل بذلك إلى الطريقة الأولى. الطريق الخامسة: وقد قرّرها أبو نصر القشيريّ، وخلاصتها أن يعتبر الفعل بياناً للمجمل، إن كان المجمل قد ورد، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يصلح أن يكون بياناً لذلك المجمل، ولم تقترن بالفعل قرينة تدل على أنه هو البيان، ولم يرد بيان آخر قولين ولا فعليّ، وتوفيّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يرد بيان غير ذلك الفعل الصالح للبيان. قال القشيري: "لا يُخْتَرم - صلى الله عليه وسلم - مع بقاء الالتباس في اللفظ المجمل. فيحمل فعله على البيان في مثل هذه الصورة إجماعاً من الأمة" (2). ومثاله الجزية، إذ قد وردت مجملة، وأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقادير معينة. ما يدلّ عليه الفعل البياني من الأحكام: حكم الفعل البياني عند الأصوليين بحسب ما هو بيان له، فيرجع إلى المبيّن في معرفة حكمه. فإن كان الفعل بياناً لآية دالة على الوجوب، دلّ على الوجوب، كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} بيّن - صلى الله عليه وسلم - بفعله ميقات صلاة الظهر، مثلاً. فيجب إيقاعها في ذلك الوقت. وبيّن أنها أربع ركعات، فلا يجزئ غير ذلك. وبيّن ما فيها من القيام والركوع والسجود. فوجب الإتيان بها في الصلاة. وكذلك الجمعة، بيّن - صلى الله عليه وسلم - بفعله أنها ركعتان. ودليل كون الفعل بياناً في أكثر هذه الفروع الإجماع. وإن كان المبيّن ندباً كان الفعل البيانيّ ندباً، كإقامة ثالث أيام التشريق بمنى إلى ما قبل الغروب. وكأفعال العمرة.   (1) رواه مسلم والترمذي وأبو داود (جامع الأصول 6/ 145) (2) أبو شامة: المحقق ق 37 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وإن كان إباحةً كان الفعل مباحاً (1). ويقول القرافي: "البيان يُعَدّ كأنه منطوق به في ذلك المبين (2) فبيانه الحجّ الوارد في كتاب الله يعد منطوقاً به في آية الحج، كأن الله تعالى قال: {ولله على الناس حِجّ البيت} -على هذه الصفة- وكذلك بيانه لآية الجمعة، فَعَلها - صلى الله عليه وسلم - بخطبة وجماعة وجامع وغير ذلك، فصار معنى الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا نوديَ للصّلاة} -التي هذا شأنها- {من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}. وإذا كان البيان يعد منطوقاً به في المبين، كان حكمه حكم ذلك المبيّن، إن واجباً فواجب، أو مندوباً فمندوب، أو مباحاً فمباح" (3). اهـ. الفعل البياني هل هو دليل الحكم؟ : قدّمنا أن الفعل البياني يفصِّل المراد بالمجمل، وحكم التفاصيل حكم المجمل، فأربع ركعات في الظهر حكمها الوجوب، لأن المبيّن بالفعل دالّ على الوجوب، وهو {أقيموا الصلاة}. فمأخذ الوجوب على هذا، المجملُ نفسه، وليس في الفعل دلالة على الحكم. وبهذا صرّح عبد الجبار (4)، وأبو الحسين البصري، وأبو يعلى الحنبلي (5). قال أبو الحسين: "غير صحيح أن البيان يدلّ على الوجوب كما يدلّ المبيّن، لأن البيان إنما يتضمن صفة المبين، وليس يتضمّن لفظاً يفيد الوجوب" (6). وقال في موضع آخر: "إذا كان الفعل بياناً لمجمل، وكان المجمل دالاً على الوجوب، عاد الفعل للوجوب، لكن الإيجاب بالمجمل، لا بالفعل، فالفعل لا يدل على الوجوب أساساً" (7).   (1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 36 ابن عقيل: الواضح 126 أ. (2) شرح تنقيح الفصول ص 126 (3) أي من ناحية البيان والدلالة فقط، لا من كل الجهات فلا يصح نسخ الكتاب به مثلًا، فذلك ممتنع. وانظر ابن دقيق العيد: إحكام الأحكام 1/ 186 (4) المغني 216/ 17 (5) العمدة ق 104 أ. (6) المعتمد 1/ 341 (7) المعتمد (الزيادات) 2/ 1004 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ويرى البنانيّ أن الحكم يكون له، بورود الفعل البيانيّ، دليلان: المجمل، والفعل نفسه. فيكون الفعل دليلاً مؤكداً، بالإضافة إلى أنه يفيد فائدة أخرى تأسيسية، هي وجوب الصفة التي لم تعلم إلاّ بالفعل. وكمثال على ذلك، الطواف الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً لقوله تعالى: {وليطوّفوا بالبيت العتيق} يستفاد منه، بالإضافة إلى توكيد الوجوب المستفاد من الآية، وجوب صفته التي وقع عليها، ككونه سبعاً، والابتداء بالحجر، وجعْل الطائف البيت عن يساره (1). وعندي أن من قال إن الوجوب يستفاد من المجمل لا من الفعل نظر إلى أصل التأثير، فإن الفعل ساكت عن الطلب فلا يؤثِّر إيجاباً، والمؤثر للإيجاب هو الخطاب الآمر. ومن قال إن الوجوب يستفاد أيضاً من الفعل فقد نظر إلى أن الوجوب يمكن أن يعرف بالنظر في الفعل. فالفعل علامة على الوجوب، وليس هو المؤثر للوجوب. ثم هو يفيد أيضاً وجوب الصفة. الأجزاء غير المرادة من الفعل البياني ّ: المشكلة الكبرى في الأفعال البيانية، وخاصة في العبادات، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل الفعل بجميع أجزائه، الواجبة والمندوبة، ويفعل في أثنائه بعض الأفعال المباحة أيضاً، ولا ينفصل في بادي الرأي واجُبُه من مندوبِهِ من مباحه. وقد قال ابن الهمام: إن الاستقراء يدلّ على أن كثيراً من الأفعال البيانية تشتمل على أفعال غير مرادة من المجمل (2). ويمثّل كثير من الأصوليين للفعل البيانيّ بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجعلونها بياناً لآيات الأمر بإقام الصلاة، وبحجِّه - صلى الله عليه وسلم -، ويجعلونه بياناً لآية {ولله على الناس حجّ   (1) حاشية على شرح جمع الجوامع 98/ 2 (2) تيسير التحرير 3/ 176 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 البيت} ويقولون: إن دليل كون صلاته - صلى الله عليه وسلم -، وحجِّه، بياناً للآيتين، هو الطريق القولي، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقوله: "خذوا عني مناسككم". ففي الصلاة كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم، فيرفع يديه حذو منكبيه، ويكبِّر، ثم يضع يديه على صدره، ثم يقرأ الفاتحة وسورة، سرّاً في بعض الصلوات، وجهراً في بعضها ... إلى آخر ما يذكر في صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم -. ومن المعلوم أن ذلك كله ليس بواجب، بل قد قال ابن قدامة: إن أكثر أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة مسنونة غير واجبة (1). وكذلك صفة أداء المناسك، من طوافِ القدوم، والرَّمل، والاضطباع، وركعتي الطواف، والصلاة داخل الكعبة، والشرب من ماء زمزم، والسعي مع الهرولة، إلى غير ذلك. فما يقوله جمهور الأصوليين، من أن الفعل الواقع بياناً لواجب فهو واجب، مشكل. لأنه يقتضي أن جميع ما فعله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة التي صلاها بياناً هو واجب، وكذلك جميع أفعاله في أخذ الزكاة، وفي الحج، وغير ذلك مما فعله بياناً. وهذا ما لا يقول به من الفقهاء أحد. قال ابن دقيق العيد في ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الصلاة سورة بعد الفاتحة: "قد ادُّعي في كثير من الأفعال التي قُصِد إثبات وجوبها أنها بيان لمجمل. وهذا الموضع مما يحتاج إلى إخراجه من كونه بياناً، أو أن يفرق بينه وبين ما ادُّعي فيه كونه بياناً من الأفعال، فإنه ليس معه في تلك المواضع إلا مجرد الفعل، وهو موجود هنا" (2). وقد تصدى لهذه المسألة أبو يعلى الحنبلي. وكان رأيه أن الجزء الذي أجمعوا على أنه بيان، يكون بياناً، وإلاّ فلا، قال: "ليس كل فعله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة   (1) المغني 553/ 1 (2) الإحكام 1/ 244 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 والصدقة بياناً للجملة التي في الكتاب، لأنه لو صلّى لنفسه لم يدلّ على أنه بيان لقوله تعالى: {أقيموا الصلاة}، ولو تصدّق بصدقة، لم يدلّ على أنها مرادة بقوله تعالى: {وآتوا الزكاة}. وإنما وجه البيان ما يُجْمِع الناس على أنة من المكتوبات، لأن ما يفعله في نفسه لم يثبت أنه فعله فرضاً، فلا يكون فيه دلالة على أنه فعله بياناً" (1). وعندي أن هذا لا يكفي لحل الإشكال إذ لا يمكن توقّف فهم الأحكام على الإجماع. بل ما أجمعوا على أنه بيان كعدد ركعات الصلاة فهلا بيان بلا شك، وما أجمعوا على أنه ليس بياناً كالتثليث في غسل اليدين، فليس هو بياناً بلا شك. وأما ما لم يجمعوا فيه بنفي ولا إثبات فقول أبي يعلى يقتضي منع كونه بياناً، مع أنه اتّفق على أنه يمكن تعليق البيان بالفعل بقول من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في الطريق الأولى، والنص على الحكم كالإجماع عليه، بل هو أولى. فلا يزال الإشكال قائماً، والقاعدة التي ذكرها الأصوليون مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلّوا كما ... وخذوا عني ... " تقتضي أنه بيان، فيكون واجباً ويكون الأصل في ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة والحج، أنه للوجوب. وهذه النتيجة مخالفة للواقع. بل إن أكثر ما فعله - صلى الله عليه وسلم - في هاتين العبادتين هو مستحبّ وليس بواجب. وسلك ابن دقيق العيد طريقاً آخر لحل ذلك الإشكال، فقال: "ما ثبت استمرار فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه دائماً، دخل تحت الأمر كما هو في قوله - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" وكان واجباً. وبعض ذلك مقطوع به -أي مقطوع باستمرار فعله له- وما لم يقم دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلق الأمر باتباع الصلاة على صفتها، لا يُجْزَم بتناول الأمر له" (2). وفي هذا المسلك ما فيه، أتراه - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات التي صلاها أثناء وفود جماعة مالك بن الحويرث، ترك ما كان يواظب عليه من المستحبات في الأقوال والأفعال   (1) أبو يعلى الحنبلي: العدة ق 7 أ (2) إحكام الأحكام 207/ 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 والهيئات، كالجهر والإسرار، وتعديد التسبيح والأذكار، والتورك في التشهد، وقراءة سورة بعد الفاتحة؟ يغلب على الظن أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يترك شيئاً من ذلك، ولا يتمّ لابن دقيق العيد مسلكه. ونحن وقد أخذنا على عاتقنا بحث مسائل الأفعال النبوية لا يسعنا إلاّ أن نعطي هذه المسألة مزيداً من الاهتمام، وخاصّة في مسائل الصلاة والحج، كنموذج لغيرهما. فنقول: إن الدليل مكون من أربع حلقات: الأولى: إن لفظ (الصلاة) المأمور بها في قوله تعالى: {أقيموا الصلاة} و (الحج) في قوله: {ولله على الناس حج البيت} هما من المجمل. الثانية: والأمر للوجوب. الثالثة: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" و"خذوا عني مناسككم" دليل على أن أفعاله، في الصلاة والحج بيان للمجمل. الرابعة: والبيان حكمه حكم المبين. فتكون النتيجة: أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة والحج واجبة. ونجيب عن هذه النتيجة بجوابين: مجمل ومفصل. أما المجمل، فلو أنها كانت صحيحة لاقتضت وجوب جميع أفعال صلاته وحجه - صلى الله عليه وسلم -. وهو مردود يقيناً. وقد تقدم النقل عن ابن دقيق العيد في الصلاة بخصوصها. وأما الحج فقد قال السبكي في قواعده، في شأن ركعتي الطواف: "فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم"، فلا دلالة له على وجوب شيء خاص منها لأن المناسك (عامة في) (1) الواجب والمندوب، وإذا احتُجَّ به في وجوب فعل شيء   (1) في الأصل المخطوط كلمة غير مقروءة، والسياق يقتضي ما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 خاصّ لزم طرده في الجميع، كالرَّمل، والاضطباع، وسائر المسنونات" (1). وأما الجواب الفصل، فإن الخلل لا شك، هو في واحدة أو أكثر، من هذه الحلقات الأربع. فالحلقة الأولى: صحيحة ولا نظير فيها. وأما الثانية: فإنه وإن اختلف الأصوليون في دلالة الأمر على الوجوب، فلا إِشكال في أن الصلاة والحج واجبان، ولكنهما يشتملان على أفعال مندوبة كثيرة، ولا يمكن إيقاعهما على الواجب مفصولاً من المستحبّات، إلا بتكلُّفٍ كثير. وأما الثالثة والرابعة: ففيهما نظر. فأما الحديث الأول: وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فهو في قصة وفود مالك بن الحويرث ورفاقه، على النبي - صلى الله عليه وسلم -. في آخر العهد المدني. وقد أورد قصة وفوده أكثر أصحاب كتب الحديث المشهورة دون قوله - صلى الله عليه وسلم - لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وهذه الزيادة ذكرها البخاري وأحمد والدارمي دون غيرهم. وفي أكثر روايات البخاري وأحمد ذكرت القصة بدون هذه الزيادة وهي دائرة على أبي قلابة. والزيادة من الثقة مقبولة. ونصّه في إحدى روايات البخاري كما يلي: قال البخاري: حدثنا مسدّد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي سليمان مالك بن الحويرث، قال: "أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شبَبَةٌ متقاربون. فأقمنا عنده عشرين ليلة. فظنّ أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمّن تركنا في أهلنا، فأخبرناه. وكان رقيقاً رحيماً، فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلّموهم   (1) السبكي: القواعد ق 116 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ومُرُوهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذّن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم" (1). فإن صحت هذه الزيادة، فالكلام عنها في باب الأفعال متردّد بين طريقين: الأول: أن الأمر في قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" للوجوب. فيدل على أن الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة الوجوب. الثاني: وهو الذي نعتمده، أن الأمر للإرشاد، وهو إرشاد لقومٍ مخصوصين، فهم شباب من البادية، حديث عهدهم بالإسلام، لم يقيموا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة تكفي أن يتعلموا جميع الأحكام، بل عشرين يوماً فقط، وحملهم الشوق إلى أهلهم، لصغر أسنانهم، وعنفوان شبابهم، على أن يستعجلوا المسير. فأوصاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الوصية. فهل تصلح تلك الوصية أن تكون قاعدة عامة؟ ويكون الحكم في حق سائر الصحابة وسائر الأمة كذلك. كلا، بل كما يجوز أن يقال لمن يسير في طريق يجهلها: "سر وراء فلان، واصنع ما يصنع" لأن هذه هي العلامة الوحيدة الميسورة، مع أن فلاناً المتبوع قد يميل عن الطريق يمنة أو يسرة يستطرد لغرض خاص، فيضطر التابع له أن يسير خلفه. وقد يصنع المتبوع أشياء ليست ضرورية فيفعلها التابع، فكذلك الأمر في قصة مالك بن الحويرث رضي الله عنه. ولم تحفظ هذه اللفظة "صلوا كما رأيتموني أصلي" عن غير مالك بن الحويرث، فيبعد أن تكون قاعدة عامة للمسلمين، ولا يبثّها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، إذ لو بثّها لبعد أن لا ينقلها كبار النقلة من الصحابة. وفي حديث مالك بن الحويرث أنه كان يجلس بعد الركعة الأولى وبعد الثالثة، وهي الجلسة المسماة جلسة الاستراحة، والتي يمنعها أكثر الفقهاء، كمالك   (1) فتح الباري 10/ 437، 438 وانظر أطراف الحديث في المصدر نفسه 1/ 110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وأبي حنيفة والشافعي في قول (1) وأحمد في رواية (2)، وكان مالك بن الحويرث يعلّمها الناس. ولم ينقل فعلها عن أحد من الصحابة غيره (3). وغاية ما يصحّ أن يقال في قوْلتِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" إنها إرشاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لمالك، ومن كان في مثل حاله رضي الله عنه، ممن لم يسعفه الوقت للتعلم، والتفريق بين واجبات الصلاة وسننها، وما ليس من واجباتها، ولا من سننها، فيقال له: اصنع مثل فعل فلان من الناس، وفلان ممن يحسن الصلاة. فيشابهه في الصورة دون القصد. أما أن يكون كل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة بياناً، ويكون بذلك واجباً، فذلك أمر يتجاوز ما يدل عليه هذا الحديث بملابساته الواردة في كتب السنة. بل هذه واقعة حال. ووقائع الأحوال مشهور الكلام فيها. فلا تحمل على العموم، لأن الخطاب فيها موجه إلى مالك وصحبه، فلا يشاركهم في المدلول إلاّ من كان في مثل حالهم (4). أما من سواهم من أهل العلم، من المجتهدين والمتفرغين، فعليهم أن يعتمدوا في التفريق بين واجبات الصلاة وسننها على الدلائل الكثيرة المبثوثة في الكتاب والسنة. فإن لم يكن ثم شيء يميّز بينها فإنها تكون من الأفعال المجردة، وسيأتي حكمها إن شاء الله. جواب آخر: وقد أجاب به أبو شامة: سلّمنا أن الحديث يدل على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - بيان، لكنها بيان للصلاة المطلوبة من المسلمين، بواجباتها وسنها وما يجوز فيها، فلماذا يحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على أنه للواجب خاصة؟. بل الناتج من كون صلاته بياناً أن يكون كل فعل فعله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة دائراً بين هذه الأنواع الثلاثة، والعمدة في تمييز بعضها عن بعض إما القول، وإما   (1) ابن دقيق العيد: الأحكام 225/ 1 (2) ابن قدامة: المغني 529/ 1 (3) المصدر السابق 529/ 1 (4) وانظر: المحقق لأبي شامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الإجماع، وإما القرائن الأخرى، ولا يصلح الفعل وحده دليلاً. ولذلك قال الجصاص: "أُمرنا بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - على وصف هو أن نصلي كما رأيناه يصلي. فنحتاج أن نعلم كيف صلّى من ندب أو فرض فنفعل مثله" (1). فإن لم يوجد دليل مميّز، فنحن قاطعون بأن الفعل ليس بياناً للحكم بل يدخل في ما يأتي من الفعل المجرد، في الفصل التالي إن شاء الله. وأما الحديث الثاني: هو "خذوا عني مناسككم" فهو خطاب عام للأمة، ولا يمكن فيه دعوى الخصوص، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قاله لجمهور الحجاج، وهو على بعيره يرمي جمرة العقبة (2). وفي رواية: "قاله قبل يوم التروية وخروجهم للحج. فلا يرد هنا ما قلناه في الحديث الأول من امتناع دلالته على البيان العام" (3). وأما الوجه الآخر الذي قلناه في الحديث السابق فيأتي هنا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل في حجته أفعال الحج كلّها من واجب، ومندوب. ولا يتميّز بالفعل واجبه من مندوبه، فلا يصلح الفعل بياناً في ذلك، ما لم يقترن بكل فعل جزئي قرينة تدل على أنه بيان. ويضاف هنا وجه ثالث، وهو أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" لا يتعيّن أن يكون المراد به ملاحظة أفعاله بخصوصها، بل يصدق على الأخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله بسؤاله عما يشكل عليهم، والاستماع إلى ما يأمر به ويرشد إليه. فأقصى ما يدل عليه الحديث، أن يدل على مشروعية أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الحج، أما التفريق بين واجبها ومندوبها فلا بدّ من المصير إلى وجه آخر في الدلالة على ذلك. وحكم أفعاله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الناحية حكم سائر الأفعال المجرّدة. والخلاصة: أن هذين الحديثين لا يصلحان دليلاً على أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في   (1) أصول الجصاص ق 210 أ. (2) صحيح مسلم (كتاب الحج ح 310) ومسند أحمد 318/ 3، 327، 328 (3) مسند أحمد 366/ 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الصلاة والحج واجبة، بناء على أنها بيان للواجب. بل أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في هاتين العبادتين مختلطة واجبها بمندوبها غير متميزة، والعمدة في تمييز ذلك على الأدلة الأخرى. وينظر في كل فعل بخصوصه ما يحتفّ به من القرائن. لقد كثر في كلام الفقهاء إيجاب كثير من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة والحج اعتماداً على أن هذين الحديثين دليل على أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة والحج بيان للمجمل الواجب، ولا يوجبون أفعالًا منها كثيرة أخرى، حتى ليعجب الناظر من تفريقهم في ذلك. والصواب إن شاء الله ما ذكرناه من أنّ أفعاله - صلى الله عليه وسلم - فيهما ليست مميزة للواجب من المندوب إلّا فعلاً خاصاً عليه دلالة خاصة، أنه بيان لذلك. والله أعلم. الاختلاف في أن ما ورد عليه الفعل مجمل أو غير مجمل : إن الفعل إذا ورد وله علاقة بنص قرآني، فلا بد من اعتبار كون النصّ مجملًا حتى يكون الفعل بياناً له، فمن لم يُثْبِتْ أنه مجمل، لم يكن الفعل عنده بياناً. ويتبيّن ذلك بمثالين فرعيّين: الأول: قوله تعالى في آية الوضوء: {وأيديكم إلى المرافق}، مع فعله - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه، فإنه "أدار الماء على مرفقيه". من العلماء من قال إن (إلى) مجمل، لأنه يكون بمعنى انتهاء الغاية، ويكون بمعنى (مع)، فهو مشترك، والمشترك مجمل، فجاء الفعل مبيناً أن (إلى) بمعنى (مع) دون معنى انتهاء الغاية، واقتضى ذلك وجوب غسل المرفقين (1). ومنهم من قال إن (إلى) واضح، لانتهاء الغاية، وذلك بيّن، فلا يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - بياناً (2)، ويكون غسله - صلى الله عليه وسلم - لمرفقيه مندوباً.   (1) ابن قدامة: المغني 122/ 1 وانظر تيسير التحرير 3/ 120، 121 (2) التقرير والتحبير 2/ 302 ابن دقيق العيد: الإحكام 36/ 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وقد قال بالوجوب عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال بعض أصحاب مالك وداود لا يجب، وحكى ذلك عن زفر. الفرع الثاني: المضمضمة، في الوضوء، هي واجبة عند أحمد وابن أبي ليلى، مسنونة عند الحنفية والمالكية والشافعية. فمن قال بوجوبها فوجهته عنده أن الله قال في شأن الوضوء {فاغسلوا وجوهكم} والفم يحتمل أنه داخل في مسمى (الوجه) ويحتمل أنه ليس بداخل لأنه غير مواجه. فكان ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من المضمضة بياناً، فيدل على أن الفم من الوجه، فيجب غسله. ومن قال بأنها مستحبة فهو يقول: الفم غير داخل قطعاً في مسمى الوجه، وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من المضمضة زيادة فعلية صرفة، فتكون مستحبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 المبحث السابع الفعل الامتثالي التنفيذي ّ ما يفعله عامّة المسلمين الملتزمين، من الأفعال التي طلبها الله تعالى منهم في كتابه أو على لسان رسوله، يفعلونه تنفيذاً وامتثالًا للأوامر والتوجيهات الإلهية. وهم حين يفعلون ذلك لا يقصدون تبيين أمر خفيّ أو دعوة معينة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان واحداً من الأمة، وقد وُجّهت إليه التكاليف، وهو أول المسلمين، فهو يؤدي تلك التكاليف، طاعةً لأمر ربه، وتلبية لدعوته. فأفعاله التي يستجيب بها للتكاليف الإلهية، هي أفعال امتثالية. لكننا نبيّن مرادنا بالفعل الامتثالي هنا بما يلي: فما فعله - صلى الله عليه وسلم - امتثالًا لطلب خاص به، كقيام الليل، فهو من الخصائص وقد تقدم بحثها. وما فعله امتثالاً، وقَصَد به مع الامتثال بيان مجمل أو مشكل، فهو من الفعل البياني الذي تقدم ذكره، وهو في إفادة الأحكام أعلى درجة من الفعل المراد به مجرد الامتثال. ومن أجل ذلك فليس مراداً هنا. وما احتمل أن يكون امتثالًا لطلب إلهي، إلّا أننا لم نعلم ذلك الطلب ما هو، فليمس مراداً هنا، بل يدخل في الفعل المجرّد الذي يأتي ذكره بعد هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فالمراد هنا خاصة، الفعل الذي قصد به مجرد الامتثال لطلبٍ معلوم لم يثبت أنه خاصة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومثاله الإتيان بالشهادة، وأداء الصلاة، والصوم والحج، وما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - من القربات إلى الله تعالى، وما كان يفعله من المعاملات والعقود ملتزماً فيها ما شرع تعالى، وكافّاً عما نهى عنه. وكل فعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - صادر عن الأوامر الإلهية العامّة للمكلفين، إذا لم يكن فيها إجمال ولا خفاء، أو كان فيها إجمال أو خفاء ولكن لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - للتبيين، فهو امتثالي. وقد قال أبو شامة: "وهذا القسم لا حاجة إلى النظر فيه" (1). إلا أننا نرى أنه بحاجة إلى النظر من جهات، نعرضها في مطالب: المطلب الأول حكم الفعل الامتثالي : يتبيّن حكمه من الطلب الممتثل، فإن كان إيجاباً فالفعل واجب. وإن كان استحباباً فالفعل مستحب. وكذلك في جانب الترك إن ترك - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لطلب تحريميّ فالترك واجب، أو لطلب كراهة فالترك مستحب، وإن كان الخطاب تحليلاً وإباحة فالفعل مباح (2). المطلب الثاني معرفتنا للنصّ الممتثل بالفعل المعيّن فائدتها ربط الفعل الامتثالي بالنص الممتثل لتتضح أبعاد الحكم.   (1) المحقق: ق 2 ب. (2) في تسمية الفعل المباح امتثالاً نظر، ويذكر هنا لتتميم الأقسام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 المطلب الثالث الطرق التي يمكن بها معرفة النص الممتثل هي كما يلي: الطريقة الأولى: القول من النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله لما صلّى على ابن أبيّ كبير المنافقين: "إن الله خيّرني فاخترت، ولأزيدن على السبعين". يشير إلى قوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ... } الآية. ومن هذا أن يخبر أن الله تعالى قد أمره بفعلٍ فَعَله، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم" (1). أو بتركٍ ترَكَه، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في ترك قتل المخنثين: "نهيت عن قتل المصلين" (2). الطريقة الثانية: أن يفعل الفعل بعد نزول الأمر مباشرة، بحيث لا يخفى أنَّ فعلَه امتثال لذلك الأمر النازل، وخاصَّة إن كان سبب النزول متعلّقاً بذلك. كآية: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (3). نزلت في أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة من بني شيبة، فلما نزلت أعاده إليهم وقال: "اليوم يوم وفاءٍ وبرّ" (4). ومثاله أيضاً آية الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتخيير نسائه فخيّرهن (5). وشبيه بهذا أن يبيّن الصحابي الراوي ذلك، كما قالت عائشة: "ما صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاةً بعد أن نزلت عليه {إذا جاء نصر الله والفتح} إلاّ يقول فيها: سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" (6) وفي بعض الروايات قالت   (1) متفق عليه (الفتح الكبير). (2) رواه أبو داود 13/ 276 وانفرد به وفي سنده مجهول. وحسنه في (صحيح الجامع الصغير) من رواية الطبراني بلفظ "نهيت عن المصلين". (3) سورة النساء: آية 58 (4) سيرة ابن هشام بتحقيق مصطفى السقا وزميليه ط ثانية 412/ 2 وتفسير القرطبي 356/ 5 (5) سورة الأحزاب: آية 28 (6) البخاري (إحكام الأحكام لابن دقيق) 1/ 296 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 عائشة: "يتأوَّل القرآن". وقد بيّن ابن دقيق العيد (1) أن هذا فيما كان من فعله بعد الفتح، إذ به يتمّ الأمر، أما ما قبل الفتح فما فعله من ذلك يكون فعلاً ابتدائياً. الطريقة الثانية: أن توجد مناسبة ومطابقة بين الفعل ونصّ معين. قال أبو الحسين البصري: "أما ما يعلم به أنّ فعله أو تركه امتثال لدلالة نعرفها فهو أن يكون مطابقاً لبعض الأدلة التي نعرفها" (2). ثم قد تكون المناسبة بيّنة مقبولة، وقد تكون خفية فيكون في قبولها نظر، وذلك على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: أن يكون ذلك بيّناً وواضحاً تمام الوضوح، بحيث لا يخفى ولا يحتاج إلى تطلب الدليل عليه. ومثاله سجوده - صلى الله عليه وسلم - وركوعه في الصلاة، هو امتثال لآيات الأمر بالركوع والسجود. ومثل طوافه - صلى الله عليه وسلم - بالبيت في حجة الوداع يوم النحر، هو امتثال لآية {وليطوّفوا بالبيت العتيق}. ثم قد تكون المناسبة خفية يقل التفات العالم إليها، فإذا نبِّه إلى ذلك أقرَّ به، ولم يشكَّ فيه، فيكون من هذه الدرجة، ومثاله ما ورد (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذبح في حجة الوداع مئة ناقة، أخذ من كل ناقة بضعة، فجعدت في قدر وطبخت فشرب من مرقها، فهو تنفيذ لآية {فكلوا منها}. الدرجة الثانية: أن يكون الفعل متردِّداً بين أن يكون امتثالاً لآية معيّنة أو يكون فعلاً مبتدأ. والتردد فيه ناشئ من صلاحيته ليكون امتثالًا لتلك الآية نظراً لوجود التناسب، مع إمكان أن لا يكون امتثالًا لها، بل يكون فعلاً ابتدائياً مجرداً. وقد نقل السرخسي عن الحنفيّة أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قوله إذا ورد موافقاً لما   (1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 1/ 299 (2) المعتمد 1/ 386 (3) رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث جابر الطويل في صفة حجة الوداع (جامع الأصول 4/ 240) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 في القرآن يجعل صادراً عن القرآن. قال: والشافعية يجعلونه مبتدأ حتى يقوم الدليل على خلافه (1). قال: وعلى هذا فبيانه - صلى الله عليه وسلم - التيمّم في حق الجنب صادر عما في القرآن. وبه يتبيّن أن المراد بقوله تعالى: {أو لامستم النساء} الجماع دون المسّ باليد وهم -يعني الشافعية- يجعلون ذلك بيان حكم مبتدأ، ويحملون قوله: {أو لامستم} على المس باليد، لأنه يحتمل أن يكون صادراً عما في القرآن، ويحتمل أن يكون شرع حكم مبتدأ، وهو في الظاهر غير متصل بالآية، فيحمل على أنه بيان حكم مبتدأ باعتبار الظاهر، لما فيه من زيادة الفائدة. وقال أبو شامة: "إذا فعل - صلى الله عليه وسلم - فعلاً يوافق ما ورد به القرآن العزيز كالوضوء والاغتسال والصيام فإن ذلك يكون تنفيذاً لما أمر به" (2) وقال القاضي أبو بكر (3): "يجوز مع ذلك أن يكون فرضاً ابتدأ به، وما يلزمنا خاصة، أو يلزمنا وإياه، فعلٌ آخر". فلا بد من إشعار لنا بأنه فعله اتّباعاً لحكم الآية، وإلاّ فجواز ما قلناه قائم: "قال أبو شامة وفي هذا الكلام نظر" (4). وهذا المثال (5) هو من أفراد الفعل البياني، ولكن القول في الامتثالي من نفس الباب، لا فرق في ذلك. وأما أبو يعلى الحنبليّ فإنه يرى أن الظاهر في الفعل الموافق للآية أنه امتثال لها. قال: "لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يترك فعلًا أوجبه الله عليه، أو ندبه إليه". وهو بذلك يوافق ما نقله السرخسي عن الحنفية. والذي نراه أن قول الحنفية ومن وافقهم في ذلك أولى بالصحة من قول من   (1) ينقل عن الشافعي أنه قال: "ما سئل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه". فإن صح هذا النقل كان مخالفاً لما نقله السرخسي عن الشافعية. فلينظر وليحرر. (2) البحر المحيط للزركشي 2/ 252 ب. (3) هو الباقلاني. (4) أبو شامة: المحقق ق 5 ب، 37 أ. (5) المقصود مثال التيمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 خالفهم نظراً لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوثٌ بالقرآن ليعمل به ويدعو إليه، قال الله تعالى: {قل إنما أتّبع ما يوحى إليّ من ربي هذا بصائر من ربكم} (1). وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. الدرجة الثالثة: أن تكون المناسبة خفية جداً. بحيث يكون اعتبار الفعل تطبيقاً للآية المعينة نوعاً من التحكُّم، فلا ينبغي المصير إليه. المطلب الرابع دلالة الفعل الامتثالي : يقال هنا مثل ما تقدم قوله في الفعل البياني، من أن دلالته مؤكدة لدلالة النص الممتثل. والفعل حينئذ علامة على الحكم، وليس مؤثّراً له. فيدل على الوجوب إن كان امتثالاً لواجب، وعلى الندب إن كان امتثالاً للندب، وإلاّ فعلى الإباحة، وقال أبو الحسن البصريّ: "إن امتثل - صلى الله عليه وسلم - فيها (يعني أفعاله) طريقة معروفة لنا فإن ذلك لا يمنع من كون فعله دلالة لنا أيضاً على أننا متعبدون بمثله .. على حدٍّ لو انفرد أحدهما لفعلْنا الفعل لأجله". وقد يفيد فوائد أخرى: 1 - فيجوز التخصيص بالفعل الامتثالي في مخالفة العموم، ومثاله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى بالمسجد الحرام، والناس يمرون بين يديه، خصّ به نهيه عن الصلاة إلاّ بسترة. 2 - ويجوز التقييد به. فالأمر القرآني الوارد بغسل الأعضاء في الوضوء مطلق من جهة العدد، قيّده - صلى الله عليه وسلم - بفعله، فغسل مرة ومرتين وثلاثاً ولم يزد. وقد أبى مالك اعتبار العدد. قال ابن قدامة: "الوضوء مرة مرة، والثلاث أفضل". هذا قول أكثر   (1) سورة الأعراف: آية 203 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أهل العلم، إلاّ أن مالكاً لم يوقّت مرة ولا ثلاثاً، قال: إنما قال الله: {فاغسلوا وجوهكم} (1). ومثله التراويح عند الظاهرية، الأمر بها مطلق من جهة العدد، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" (2) أكثر الأئمة على عدم الوقوف عند هذا العدد، فاختار أحمد والشافعي وأبو حنيفة ثلاثاً وعشرين لفعل عمر، واختار مالك تسعاً وثلاثين كعمل أهل المدينة، ولم يقل أحد من متقدمي علماء الأمة بالوقوف عندما فعله - صلى الله عليه وسلم - فيما نعلم ما عدا بعض الظاهرية (3). قال النووي: "قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس في ذلك حدّ لا يزاد عليه ولا ينقص منه. وإن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وما اختاره لنفسه" (4). ووجه ما رآه الأئمة الأربعة أن الأمر الوارد من الله تعالى مطلق، يتأدّى بالتهجد بأي عدد كان. وما فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد عن أن يكون اختار عدداً يناسبه، ثم حافظ عليه، لأنه "كان عَمَلُه دِيمَة". فلا يدل ذلك على وجوب ما اختاره من العدد، ولا استحبابه. قال الشافعي: "رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق" (5). الفرق بين دلالة الفعل البيانيّ ودلالة الفعل الامتثاليّ: الفعل البيانيّ مقصود به البيان وإظهار المراد بالمجمل، وذلك نوع من التعليم. فالأصل أن يُعْتَنى به مزيد عناية. فإن كان بيان واجب، فلا يعمل فيه بالرخص والتيسيرات التي يمكن أن تفهم على غير وجهها. ولا يضاف إليه ما هو مستحب وليس بواجب.   (1) المغني 1/ 139 (2) مسلم 6/ 18 والبخاري. (3) يلمح من كلام ابن حزم أنه يرى التقييد بالصور الواردة في صلاة الليل. انظر المحلى 3/ 42 (4) شرح صحيح مسلم 6/ 19 (5) ابن حجر: فتح الباري 4/ 253 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فإن انضم إليه شيء من ذلك وجَبَ بيانه لئلا ينضمّ إلى الواجب ما ليس منه. وليعتبر في ذلك ببيان النبي - صلى الله عليه وسلم - مواقيت الصلاة، فقد صلّى في اليوم الأول في أول الوقت، وصلّى في اليوم الثاني في آخر الوقت، وقال: الوقت ما بين هذين. وأيضاً قال - صلى الله عليه وسلم - في عرفات: وقفت هنا وعرفة كلها موقف. وقال في مزدلفة: وقفت هنا وجمع كلها موقف. وقال في نحره بمنى: نحرت هنا فجاج مكة كلها منحر. لئلا يتوهم الاختصاص بالموضع الذي وقف فيه أو نحر. أما الفعل الامتثالي فلا يلاحظ فيه ما يلاحظ في الفعل البياني. بل هو امتثال مجرد، فيداخل الواجب ما ليس منه ليُفعل على وجهٍ أكمل. فهو أضعف دلالة من الفعل البياني. 3 - وقد يتبيّن بالفعل الامتثاليّ مجمل أو نحوه. فعقوبته - صلى الله عليه وسلم - للسارق بقطع يده من المفصل، يستفاد منها أمران: الأول: تأكيد أصل وجوب القطع المستفاد من الآية. والثاني: وجوب أن يكون القطع من المفصل. فلا يكفي قطع الأصابع مثلاً، ولا يجوز التجاوز بقطع الساعد. فقد تبيّن به موضع القطع. ووجه استفادة هذا الحكم الثاني أن (اليد) في الآية لفظ (مجمل) على قولٍ، لاحتمال أن يكون المراد الذراع كلها، أو الكف. وعلى القول الآخر الظاهر من لفظ (اليد) الذراع (1)، وعلى كل فقد تبيّن بهذا الفعل الامتثالي أن المراد به في الآية الكف. ووجه تبيُّن ذلك من الفعل، أن الواجب لو كان أقلَّ، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زاد على الواجب، وهذا ممتنع لتحريم دم المسلم بغير حق. ولو كان الواجب أكثر لكان - صلى الله عليه وسلم - قد نقص، ولم ينفّذ كلّ ما أمر الله به، وذلك ممتنع.   (1) انظر القولين في حاشية ابن أبي شريف ص 175 البناني: حاشية جمع الجوامع 2/ 97 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 المبحث الثامن الفعل المتعدي المراد بالفعل المتعدّي ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مما له علاقة بالغير، من العقوبات والمعاملات والقضاء بين الناس ونحو ذلك. وقد أفرده بعض الأصوليين نوعاً خاصاً من الأفعال، منهم أبو الحسين البصري (1)، والزركشي (2)، والشوكاني (3)، وغيرهم. وهو بالنسبة إلى صدوره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالنسبة إليه خاصة، لا يعدو أن يكون واحداً من الأنواع الأخرى، لأنه إما جبلّي أو خاص أو بيان أو امتثال، أو ليس كذلك فيكون من الفعل المجرّد. فحكم الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك يعلم في موضعه من المباحث المشار إليها. أما بالنظر إلى الغير، أعني الشخص الذي تعلّق به الفعل، فللفعل صور: الأول: ما يوقعه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشخص من العقوبة حدّاً أو تعزيراً أو غرامة يدل على أن ما نسب إلى ذلك الشخص وكان سبباً فيها هو معصية. فيفهم منه حكم الفعل الذي فعله المعاقَب. ويفهم منه استحقاق من فعل ذلك الفعل لمثل تلك العقوبة. وقال القاضي الباقلاني: "لا يكون الأمر كذلك إلّا بتنبيه منه - صلى الله عليه وسلم - على أن من فعل مثل ذلك استحقّ مثل تلك العقوبة. وقال: لأنه، وإن تقدّم ذلك الفعل،   (1) المعتمد 1/ 387 (2) البحر المحيط 2/ 249 أ. (3) الإرشاد ص 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فإنه لا يتعيّن لكونه موجِب أخذِ المال وإيقاع العقوبة، فإنه لا يمتنع وجود فعل آخر هو المقتضي للمال والعقوبة" (1). اهـ. أقول: وحصول التنبيه يعيّن السببيّة، وأيضاً لو قامت قرائن الحال على ذلك كانت كافية. والله أعلم. الصورة الثانية: قد يكون الفعل المتعدّي (آمراً) أو (ناهياً)، بمنزلة الخطاب، فيدل كدلالة الأمر والنهي. ومثاله أن ابن عباس ائتم وحده بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل، فقام عن يساره، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فأقامه عن يمينه (2). قال ابن حزم: "هو على الوجوب، لأنه وإن كان فعلاً فهو أمر لابن عباس بالوقوف عن يمينه ونهي له عن الوقوف عن يساره" (3). وقال أبو شامة: "ذلك على الندب" (4) ولعلّه بَنى ذلك على قاعدته في أن الوجوب والتحريم لا يمكن استفادته من مجرّد الفعل. والصواب عندي جعله بمنزلة الأمر، إذ إن هذا ليس فعلاً مجرداً، بل تدلّ طبيعته المتعدية الآمرة، على المراد به، ويرد عليه الخلاف في مؤداه كما ترد على الأمر القوليّ. وقد قال بالوجوب في هذا الفرع الحنابلة والظاهرية، وقال مالك والشافعي والحنفية بصحة صلاة المنفرد عن يسار الإمام. ومأخذهم القرينة الدالة على أن الأمر ليس للوجوب، هي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُبْطِل تحريمته. فدلّ على الجواب (5). ومثال آخر: أن عبد الله بن مسعود كان يصلي وقد وضع يسراه على يمناه، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يمناه على يسراه (6). فذلك يدل على استحباب وضع اليمنى على اليسرى وكراهية العكس.   (1) أبو شامة: المحقق ق 38 أ. (2) مسلم 6/ 50 (3) الإحكام 1/ 429 (4) المحقق ص 23 (5) ابن قدامة: المغني 2/ 213 (6) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وقال ابن حجر: إسناده حسن (نيل الأوطار 2/ 194). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الصورة الثالثة: قضاؤه - صلى الله عليه وسلم - بين اثنين (1) له ثلاث جهات: الأولى: الإثبات بالبيّنات والشهود والقرائن. وهو من هذه الناحية فعل كسائر الأفعال، يقتدى به فيها حسبما تقدم. الثانية: تقديره لثبوت الواقعة. هو مبني على الظاهر، وليس يدلّ على أن المحكوم عليه هو في الباطن ظالم، ولا أن المحكوم له محق. ومجب على المحكوم عليه التسليم والرضا بحكمه - صلى الله عليه وسلم -. الثالثة: ما حكم به على تقدير ثبوت الواقعة، فهو شرع، فإن ثبت لدى القضاء مثل ما ثبت لديه - صلى الله عليه وسلم -، تعيّن الحكم بما حكم به. الصورة الرابعة: لو باع أو اشترى من شخص لم يدلّ ذلك على أن المال كان ملكه في الباطن إذ إنّ هذا تعامل على أساس الظاهر.   (1) انظر في هذا البحث: الزركشي: البحر المحيط 20/ 249 أ. الشوكاني: الإرشاد ص 36 عبد الوهاب خلاف: علم أصول الفقه ص 44. أبو شامة: المحقق ق 38 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 المبحث التاسع ما فعَله صلى الله عليه وسلم في انتظار الوحي هذا النوع جعله الزركشي والشوكاني قسماً مستقلاً من أقسام الأفعال النبوية. ذكر الزركشي (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبهم إحرامه في الحج، يعني أنه أحرم دون أن يعيّن أنه يقرن أو يتمتع أو يُفرد الحج عن العمرة. ونقل عن الشافعية أنه يُسْتَحَبّ التأسّي به - صلى الله عليه وسلم -، فيكون إبهام الإحرام أفضل، تأسّياً. والاقتداء بهذا النوع، على سبيل الاستحباب، غير مرضي. ففي مسألة إبهام الإحرام أنه- وإن ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبهم الإحرام منتظراً لوحي خاص -لا مساغ للاقتداء به في ذلك بعد مجيء الوحي، وتبيّن الأمر. ولكن يدل على أن الإبهام مباح لا غير. إذ لو كان فاسداً لم يفعله - صلى الله عليه وسلم -. وانتظار الوحي لا يبيح فعل ما لا يجوز. ويتأكد الجواز بأن علياً أحرم عند مجيئه من اليمن بمثل ما أحرم به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعلم ما أحرم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعندما التقى بالنبي أمره أن يصنع كما صنع هو. فهذا إقرار يدل على الجواز. والله أعلم.   (1) البحر المحيط: 2/ 249 أ. إرشاد الفحول ص 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الفَصل الخَامس الفعل المجرَّد 1 - الفعل المجرّد المعلوم الصفة (1). 2 - الفعل المجرّد المجهول الصفة. 3 - ما ينسب إلى الأئمة من القول في الفعل المجرّد بنوعيه. 4 - الأدلّة والمناقشات. أ- مناقشة دعوى امتناع التأسّي في الفعل المجرّد. ب- قول الوقف. ج- قول التحريم. د- قول الإباحة. هـ- قول الندب. و- قول الوجوب. ز- قول المساواة. ح- قول المساواة في العبادات خاصة.   (1) المقصود بـ (الصفة) حكم الفعل من وجوب أو غيره. وقد يعبر الأصوليون عنه أيضاً بـ (الوجه). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الفعل المجَرَّد تعريف وتحديد : مرادنا بالفعل المجرّد، ما كان من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - خلافاً لما تقدم من الأنواع السابق ذكرها. (ص 168 وما بعدها). ومعنى كونه مجرّداً، أن الأفعال السابقة اقترن بكل منها قرينة يتبيّن منها حكمه بالنسبة إلينا، فالجبليّ يدلّ على الإباحة، ولسنا متعبّدين بفعل مثله، والذي عُلِم أنه بيان حكمه مأخوذ من الخطاب المبين، والذي علم أنه امتثال كذلك حكمه مأخوذ من الخطاب الممتثل، وهكذا. والفعل المجرّد بالنظر إلى حقيقته على نوعين: الأول: ما قد يكون في الحقيقة والباطن واحداً من الأنواع السابقة، لكن لم يظهر لدينا دليل نلحقه به. فقد يكون في الحقيقة خاصاً ولكن لم نطلع على دليل خصوصيته، أو يكون في حقيقته امتثالاً لأمر إلهي معيّن، سواء أكان في القرآن العظيم ولم نجد ما نحكم به أن الفعل امتثال لذلك الأمر، أو كان الفعل امتثالاً لوحي خاص لم نخبرَ به، بل ظهر لنا الفعل مجرّداً. الثاني: أن يكون فعلاً فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء من ذات نفسه مطابقاً لما فوّضه الله تعالى له من إنشاء بعض الأحكام، أو من تصرفه في حدود مرتبة العفو، كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ما يستفاد من الأفعال النبوية المجرّدة، من الأحكام في حق الأمة: إذا علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل فعلاً مجرداً، فما حكم مثل ذلك الفعل في حقنا؟. إن الإجابة على هذا السؤال هي أهمُّ مسألة في باب الأفعال النبويّة، وعليها يدور أكثر كلام الأصوليين في هذا الباب، نظراً لأن هذه الإجابة تتحكم في مسلك الفقهاء عند استنباطهم للأحكام الفقهية، مما يؤثر عنه - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الفعلية المجرّدة، ولأن ما تقدم ذكره من أقسام الأفعال النبوية، عدا المجرّد، أمره واضح لا يكاد يخفى. ولكي نستطيع تبيين دلالة الفعل المجرَّد بجلاء، نقسمه قسمين: القسم الأول: المعلوم الصفة بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -. وهو ما علمنا بدليلٍ أنه فعله واجباً، أو فعله ندباً، أو على أنه مباح. وتُعلم صفته بالأدلة التي تقدم ذكرها. القسم الثاني: المجهول الصفة. ... فنعقد لكل من النوعين مبحثاً خاصاً. ونُتبع بمبحث لذكر ما نسب إلى الأئمة المتبوعين، والأصوليين المشهورين من القول في ذلك. وبمبحث آخر نستوفي فيه الأدلة، ونختار ما نراه أولى بالحق. والله ولي التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 المبحث الأول الفعل المجرّد المعلوم الصِّفَة إذا علمنا بصدور فعل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن مما تقدم من أقسام الأفعال النبوية، وتعيّن عندنا بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، فللعلماء في دلالته على الأحكام في أفعالنا المماثلة لفعله أقوال سبعة هي: 1 - المساواة مطلقاً. 2 - المساواة في العبادات دون غيرها. 3 - الوجوب. 4 - الندب. 5 - الإباحة. 6 - التحريم. 7 - الوقف. أما المساواة -وبها يقول الجمهور (1) - فمعناها أننا نساوي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحكام أفعاله المجردة، فما فعله واجباً فهو علينا واجب، وما فعله ندباً فهو علينا مندوب، وما فعله مستبيحاً له فهو لنا مباح. وأما قول الوجوب فمعناه أن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجب علينا أن نفعله على كل حال. سواء علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله واجباً أو مندوباً أو مباحاً. ولو جهلنا ذلك فالحكم الوجوب كذلك كما يأتي. وأما قول الندب فمعناه أنه يندب لنا فعل مثل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، أعني سواء علمنا صفة فعله أو جهلناها. وحتى لو علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله وجوباً فإنه لا يجب علينا بل يندب.   (1) أصول البزدوي وشرح البخاري 3/ 920 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وأما الإباحة فأنه يباح لنا مثل فعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجب ولا يندب. وأما التحريم، فمعناه أنه لا يجوز لنا فعل مثل شيء من أفعاله المجرّدة. وأما الوقف، فمعناه أنا لا نحكم على فعلنا المماثل لفعله - صلى الله عليه وسلم - بحكم ما. سواء جهلنا حكم فعله أوعلمناه. منشأ الاختلاف : هذه الأقوال الآنفة الذكر تتجه اتجاهين رئيسين، ثم يتشعبان: الاتجاه الأول: أن التأسّي به - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله المجردة مطلوب شرعاً بدلالة ما تقدم ذكره في فصل حجية الأفعال النبوية، من الآيات والأحاديث والإجماع، الدالّة على مشروعية الاتّباع والتأسي. والاتجاه الثاني: أن التأسيّ به - صلى الله عليه وسلم - فيها غير مطلوب شرعاً. ووجهه أنه وإن ثبتَتْ حجية الأفعال النبوية، إلّا أن مانعاً منع من التأسي بالفعل المجرّد، وذلك المانع هو احتمال الخصوصية، فكيف يُتَأسّى به - صلى الله عليه وسلم - في أمر قد يكون من خواصّه، فنكون قد أوجبنا ما لا يجب علينا أو أبحنا ما لا يباح لنا. وأورد بعضهم، أيضاً، احتمالَ أن يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - معصية، على قول من يجيز صدور الصغائر عن الأنبياء. كما تقدم في الفصل الثالث. قالوا: وذلك مانع من الاقتداء. ثم تشعب أصحاب الاتجاه الأول شعبتين، بحسب تفسيرهم للتأسيّ المطلوب شرعاً: الشعبة الأولى: قالوا: التأسّي واجب، ومعنى التأسّي عندهم هو مساواة الفعل للفعل، في الصورة والحكم. وهؤلاء أصحاب القولين الأول والثاني، (المساواة المطلقة والمقيدة). والشعبة الثانية: قالوا التأسّي هو المساواة في الصورة دون الحكم. ثم تفرع هؤلاء فرعين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الفرع الأول: قالوا: التأسيّ مطلوب منا على سبيل الوجوب، فيجب علينا أن نفعل صورة ما فعل - صلى الله عليه وسلم -، سواء كان هو قد فعله على سبيل الوجوب أو غيره. وهؤلاء هم أصحاب القول الثالث (الوجوب). والفرع الثاني: قالوا: التأسيّ مطلوب منا على سبيل الندب، وهم أصحاب القول الرابع (الندب). وأما أصحاب الاتجاه الثاني: وهم الذين قالوا إن التأسيّ بالأفعال المجرّدة غير مطلوب شرعاً، فقد منعوا بذلك دلالة فعله المجرّد على الأحكام في حقنا، فكان وجود الفعل النبوي المجرّد عندهم كعدمه بالنسبة إلى هذا الأمر. وبقي حكم فعلنا كما كان قبل ورود مثيله من الأفعال النبوية المجرّدة. فمن قال الأصل في الأفعال الإباحة، قال بها هنا وهو القول الخامس. ومن قال الأصل التحريم قال به هنا وهو القول السادس. ومن نظر إلى أن الفعل المجرّد متردد بين أن يكون خاصاً أو مشتركاً، فقد توقف، وهو القول السابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 المبحث الثاني الفعل المجهول الصِّفة يجري في الفعل المجرّد المجهول الصفة، ما يجري في المعلوم الصفة من الخلاف. وترد فيه الأقوال المتقدمة على السواء، ما عدا قولَ المساواة، ففيه هنا - أعني في مجهول الصفة- تفصيل. أما في ما عدا قول المساواة فلأن العلم بصفة صدوره عنه - صلى الله عليه وسلم - لا يؤثر في الحكم المستفاد، بل الحكم المستفاد في حقنا على القول الثالث هو الوجوب مطلقاً، أعني سواء كان حكم الفعل بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - الوجوب أو غيره، وعلى القول الرابع الندب، مطلقاً، وهكذا في سائر الأقوال. ولذلك تجري الأقوال الخمسة في مجهول الصفة. أما قول المساواة، فإن المساواة بين حكم فعلنا وحكم فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن تحقيقها ما لم يتعيّن لفعله واحد من الأحكام الثلاثة. ومن أجل تحقيق قول المساواة في الفعل المجرّد المجهول الصفة، كان لا بدّ من حمل فعله على واحد من الأحكام الثلاثة في حقه - صلى الله عليه وسلم -، بنوع ترجيح ظاهريّ، مع الاعتراف بأنه قد يكون في الحقيقة والباطن على حكم آخر. وبعض العلماء أبى حمله على شيء من الثلاثة. من أجل ذلك كان في المسألة أقوال أربعة: القول الأول: أنه يحمل على الوجوب في حقه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه الأحوط بالنسبة إلينا (1). ولأن فعله أعظم أجراً، فيكون أليق بحقه - صلى الله عليه وسلم -.   (1) القاضي أبو يعلى: العدة ق 106 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 والقول بالوجوب في ما ظهر فيه قصد القربة من الفعل المجرّد، أقوى منه في ما لم يظهر فيه ذلك القصد. ونقل القول بالوجوب فيما ظهر فيه قصد القربة عن مالك (1) وعن ابن سريج، وأبي سعيد الإصطخري، وابن أبي هريرة، وابن خيران من الشافعية، وعن الحنابلة (2) ونصره القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه (العدة) (3) وصرّح به من متأخري الشافعية الشيخ زكريا الأنصاري (4)، والتزم أنه للوجوب في حقه - صلى الله عليه وسلم - وحقنا حتى في ما لم يظهر فيه قصد القربة. القول الثاني: أنه يحمل على الندب في حقه - صلى الله عليه وسلم -، وهو أصحّ الأقوال في ما ظهر فيه قصد القربة. إذ إن القربة دائرة بين الوجوب والندب، فالمباح لا قربة فيه. ولما دارت القربة بين الوجوب والندب، وكان حمله على الوجوب لا بدّ له من دليل، إذ هو أمر زائد على مجرد القربة، كان الأولى حمله على الندب لأنه المتيقن، والوجوب مشكوك فيه. وقال أبو شامة: "هو متردّد بين أن يكون مندوباً له، أو واجباً عليه وجوب الخصوصية. إذ لو كان واجباً مشتركاً لوجب عليه أن يبلغه المكلّفين. فلما لم يفعل دلّ على أنه غير واجب عليهم. ثم إذا وقع التردد بين كونه مندوباً إليه، أو واجباً عليه، غلب على الظن كونه مندوباً، لغلبة المندوب في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وقلة ما اختصّ به من الواجبات" (5) وفي هذا التقسيم نظر يعلم مما يأتي في قول الندب. وأما القول بالندب في ما لم يظهر في قصد القربة، فقد وجّه بأن الغالب من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - المندوبات. وهو توجيه ضعيف. وقد قال الشوكاني (6) بالندب، ووجّهه بأن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يظهر فيه   (1) تيسير التحرير 3/ 122 (2) الآمدي: الأحكام 1/ 248 (3) العدة ق 105 أ. (4) غاية الوصول شرح لب الأصول ص 92 (5) المحقق ق 11 أ (6) إرشاد الفحول ص 38 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 قصد القربة، فهو لا بدّ أن يكون لقربة. وأقل ما يتقرّب به المندوب، ولا دليل يدل على زيادة على الندب، فوجب القول به. وهذا أيضاً توجيه آخر ضعيف، لأن قوله: "لا بدّ أن يكون لقربة" مردود فالنبي - صلى الله عليه وسلم - واحد من البشر، يفعل كغيره من الناس، ما أباح الله له. وليس فعل المباح عبثاً فيلزم تنزيهه عنه، بل قد يفعل لجلب نفع أو دفع ضرر. القول الثالث: أنه للإباحة وهو ضعيف بالنسبة إلى ما ظهر فيه قصد القربة. ولكن هو أصح الأقوال فيما لم يظهر فيه ذلك القصد، وادّعى بعض الحنفية الإجماع عليه (1). ووجهه أن الفعل المجرد لا يفهم منه أكثر من رفع الحرج، تُرِك ذلك في ما ظهر فيه قصد القربة، وبقي ما لا قربة فيه خالياً من دليل يدل على أكثر من الإباحة، فيحمل عليها. فإذا دار الفعل بين أن يكون مقصوداً به القربة أو لا يكون، فمن غلّب فيه قصد القربة استدل بالفعل على الاستحباب، ومن غلّب فيه عدم قصد القربة استدلّ به على الجواز. ومثاله لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - نعليه في الصلاة قال ابن دقيق العيد: "إنه يدل على الجواز، ولا بنبغي أن يؤخذ منه الاستحباب، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المقصود من الصلاة إلّا أن دليل على إلحاقه بما يُتجمّل به للصلاة، فيرجع إليه" (2). أقول: قد صح فيه الحديث: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم" (3). فكان قصد القربة فيه من وجه آخر غير التجمّل. والله أعلى وأعلم. القول الرابع: التوقّف. ومعناه الامتناع عن حمل الفعل المجهول الصفة على حكم معيّن. فيمتنع المساواة فيه، بناء على ذلك.   (1) انظر تيسير التحرير 3/ 122 (2) الأحكام 1/ 227 (3) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ووجه الوقف فيما ظهر فيه قصد القربة، احتمال أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله وجوباً، أو فعله ندباً. وعدم الدليل على كونه فعله وجوباً، لا يدل على عدم كونه كذلك، فلا يتعين الندب. وأما ما لم يظهر فيه قصد القربة، فلاحتمال أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله وجوباً أو ندباً أو إباحة. وعدم الدليل على كونه فعله وجوباً أو ندباً لا يدل على عدم كونه كذلك، فلا تتعيّن الإباحة. وممن قال بهذا: الفخر الرازيّ، والغزالي. فالتوقف في ما ظهر فيه قصد القربة بين الوجوب والندب. والتوقف في ما لم يظهر فيه ذلك القصد، بين الأحكام الثلاثة. وقيل: الوقف بين الثلاثة، على كل حال (1). القول المختار في محمل الفعل المجهول الصفة : الذي نختاره إن ما ظهر فيه قصد القربة يحمل على الندب في حقه - صلى الله عليه وسلم - وما لم يظهر فيه ذلك يحمل على الإباحة. أما ما احتجوا به لقول الوجوب، من أنه أحوط، فنترك الرد عليه إلى موضعه الأليق به في المبحث الرابع من هذا الفصل. وأما الاحتجاج بأن فعل الواجب أعظم أجراً، وأن ذلك أليق بحاله - صلى الله عليه وسلم -، فهو مردود بما هو معلوم الوقوع من أن أفعاله المندوبة في العبادات أكثر من أفعاله الواجبة، ومثال ذلك الصيام، فكان - صلى الله عليه وسلم - يصوم الاثنين والخميس، وثلاثاً من كل شهر، ويصوم من رجب وشعبان والحرم وغير ذلك، وكان لا يلتزم بذلك. وهذا يدل على عدم وجوبه، وأن أكثر أفعاله فيما عدا العبادات على الإباحة. وأما ما احتجّ به الواقفون، فهو حقّ، لأن انتفاء دليل الوجوب في ما ظهر فيه قصد القربة، لا يمنع أنه - صلى الله عليه وسلم - فعلها في الواقع وحقيقة الأمر على سبيل الوجوب. فلذلك لا يتعيّن الندب.   (1) جمع الجوامع 2/ 99 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ولكن نقول: إنما نحمل القربة المجهولة الصّفة على الندب، لأنه لما ثبت لدينا وجوب التأسّي به - صلى الله عليه وسلم - (كما سيأتي)، وعلمناه قد فعل هذه القربة، فكان لا بدّ لنا من حملها على أحد الحكمين، لنتمكن من التأسّي. ولما كان حمل القربة على الوجوب في حقه يقتضي الوجوب في حقنا، والأصل براءة ذممنا من ذلك، حملناه على الندب، لأنه المتحقق بعد ثبوت الطلب (1). وكذلك القول فيما فعله - صلى الله عليه وسلم -، مما لم يظهر فيه قصد القربة، يحمل على الإباحة لأنها المتيقنّة. تنبيه: يتضح مما تقدم عرضه في هذا المبحث والذي قبله، أنه حيث قال أحد من العلماء في فعل من الأفعال النبوية المجردة إنه يدل على الوجوب في حقنا، فذلك القول له أحد مأخذين. المأخذ الأول: أن يكون قائله ممن يرى أن الفعل المجرّد يدل على الوجوب في حقنا (القول الثالث) بقطع النظر عن حكمه بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -. المأخذ الثاني: أن يكون قائله من أصحاب القول الأول وهو قول المساواة، مع كونه يعتقد في الفعل أنه صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واجباً، إن كان معلوم الصفة أو يلحقه بالواجب إن كان مجهول الصفة. ولا يتعين أحد هذين المأخذين بمجرّد نسبة القول بالوجوب إلى قائل معيّن، ما لم تقم قرينة تبيّن مقصوده. وكذلك القول بالندب يدور بين مأخذين موازيين لمأخذي قول الوجوب. ومثله أيضاً القول بالإباحة. وأما قول الوقف فله في الفعل المعلوم الصفة مأخذ واحد، هو احتمال الخصوصية، وفي المجهول الصفة مأخذان: الأول احتمال الخصوصية والمعصية ونحوها. والآخر: عدم تعين الحكم في حقه - صلى الله عليه وسلم - على قول المساواة.   (1) انظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص/ 38 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 المبحث الثالث ما ينسبُ إلى الأئمَّة من القول في الفعل المجرّد بنوعَيْه اضطربت كتب الأصول في ما تنسب إلى بعض الأئمة من القول في دلالة الفعل المجرّد على الأحكام، حتى إننا لنجدهم ينسبون إلى الإمام الواحد أقوالاً متضاربة ينقض بعضها بعضاً. فالإمام مالك مثلاً نسب إليه القول بالوجوب، والقول بالندب، والقول بالإباحة. والثلاثة منسوبة إلى الإمام الشافعي أيضاً. وكذلك نسبت الأقوال الثلاثة إلى الإمام أحمد بن حنبل. ولعلّ هذا الاضطراب راجع: أولاً: إلى أن ما أسند إليهم ليس منصوصاً لهم وإنما هو تخريج على بعض أقوالهم في الفروع. قال المازري: "أشار ابن خويز منداد إلى أن قول الوجوب مذهب مالك، وقال: وجدته في موطئه يستدل بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يستدل بأقواله". وسنبيّن أشياء من هذه قريباً إن شاء الله. وثانياً: إلى اختلافهم في مقصودهم بالوجوب أو الندب أو الإباحة، أهو راجع إلى حكم الفعل في حقه - صلى الله عليه وسلم -، أم في حقنا. وفي مقصودهم بالتأسّي الذي يوجبونه أو يندبون إليه، أهو المساواة في مجرد الصورة أو في الصورة مع الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وكثير من ذلك سيبقى مبهماً دون حلّ، نظراً لتعذّر الحصول على نصوص لهم أو نسبة أقوال منضبطة محررة. أما متأخرو الأصوليين، فكثير من أقوالهم منضبطة محررة نسبياً. وأنا أنسب الأقوال إلى أصحابها مرتّبة بحسب المذاهب، وقد كان بالإمكان ترتيبها بحسب الأقوال أنفسها كما هو المعتاد في مثل هذا، إلّا أن غرضي أن أدلّ على كثرة الاضطراب في هذه المسألة المهمة، حتى عند أصحاب المذهب الواحد. 1 - الإمام أبو حنيفة وأتباعه: لم نجد نقلاً عن أبي حنيفة رضي الله عنه في كتب أتباعه، وقال الغزالي في المنخول: "عُزِي إليه أنه يُتَلَقّى من الفعل الوجوب مطلقاً" (1). والجصّاص، من الحنفية، يرى أن الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - الاشتراك في معلوم الصفة، فيجب علينا المتابعة فيها حتى يقوم دليل الخصوص، وفي مجهول الصفة تثبت الإباحة حتى يقوم دليل الحكم في حقه (2). وأبو الحسن الكرخي الحنفيّ اختلف النقل عنه، فبعض الحنفية نقل عنه أنه يثبت الإباحة في حقه - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يقدم على معصية، ويحمل الأفعال المجرّدة كلها على الخصوصية فيمنع الاقتداء بها ما لم يقم دليل الاشتراك. ونقل عنه آخرون أنه يثبت المتابعة في معلوم الصفة، ويمنعها في مجهول الصفة (3). وقد أشار الجصّاص إلى اختلاف النقل عن الكرخي، ثم قال: "والذي يغلب على ظني من مذهبه أن علينا اتّباعه فيه على الوجه الذي أوقعه عليه (4). ونقل عنه ابن الباقلاني أنها تدلّ على الوجوب (5).   (1) ص 225 (2) البخاري: شرح البزدوي 3/ 921 وأصول الجصاص ق 205 ب. (3) أصول البزدوي وشرحه 3/ 921، 922 (4) أصول الجصاص ق 205 ب. (5) المحقق لأبي شامة ق 6 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ونقل عنه صاحب مسلم الثبوت (1) القول بالوقف. والذي استقر عند متأخري الحنفية المساواة في معلوم الصفة، والإباحة في مجهولها. وخصّه ابن الهمّام بما لم يظهر فيه قصد القربة (2). 2 - المالكيّة: نقل ابن خويز منداد المالكي عن الإمام مالك أن فعله - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب. وقال: "وجدته في موطئه يستدل بأفعاله - صلى الله عليه وسلم -" أقول: إن لم يكن عنده دليل يثبت به مذهب مالك ما عدا هذا، فإنه لا يثبت مذهبه في المسألة، لاحتمال أن مالكاً يحتج في موطئه على الوجوب بالأفعال البيانية، أو بما علم وجوبه في حقه - صلى الله عليه وسلم -، على قول المساواة. وقد وجدنا مالكاً رحمه الله ذكر في الموطأ في الوضوء تمضمض النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل غسل وجهه، ثم قال: "أما الذي غسل وجهه قبل أن يتمضمض فليمضمض ولا يعد غسل وجهه" (3). فهذا فعل مجرّد لم يره مالك دالاًّ على الوجوب، وإلاّ لأوجب إعادة غسل الوجه. وقال صاحب تيسير التحرير (4) ما مفاده أن قول مالك هذا هو في ما كان قربة من مجهول الصفة، يعني الدائر بين الوجوب والندب. فيحمله على الوجوب في حقه - صلى الله عليه وسلم - وحقنا. ونقل الرازي (5) والآمدي (6) عنه القول بالإباحة في ما ظهر فيه قصد القربة. والباقلاني -وهو مالكي- يقول بالوقف.   (1) مسلم الثبوت وعليه فواتح الرحموت 2/ 180، 181 (2) تيسير التحرير 3/ 123 (3) الموطأ 1/ 20 (4) 3/ 122 (5) المحصول ق 48 أ. (6) الإحكام 1/ 248 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 3 - الشافعيّة: أما الإمام الشافعي نفسه فقد نسب إليه القول بالوجوب (1)، والقول بالندب (2)، والقول بالإباحة. وأبو إسحاق الشيرازي (3) قال بالمساواة في ما ظهر حكمه، وبالإباحة فيما لم يظهر فيه قصد القربة من مجهول الصفة، وبالوقف في ما ظهر فيه ذلك القصد، بين الوجوب والندب. والمنقول عن جمهور الشافعية أن فعله - صلى الله عليه وسلم - على الندب في حقنا ما لم يدل على غير ذلك دليل (4)، وقد تبنّى هذا القول أبو شامة في كتابه (المحقّق من علم الأصول فيما يتعلّق بأفعال الرسول) وانتصر له، بل بنى كتابه عليه. وفريق من الشافعية، وهم ابن سريج ومن معه (5)، قالوا بأن فعله - صلى الله عليه وسلم - في القربات، إذا كان مجهول الصفة، يحمل على الوجوب في حقه وبالتالي يكون مثله منّا واجباً. ومن الشافعيّة من قال بالمساواة، منهم الصيرفي وابن فورك. ونقل عنهما الزركشي وأبو شامة قول الوقف (6). وكثير من المتكلمين صاروا إلى الوقف، منهم الغزالي في (المستصفى) وأما في (المنخول) (7) فقد أخذ بقول المساواة، مع حمل القربة مجهولة الصفة على الندب، وحمل ما عدا القربة من ذلك على الإباحة. والرازي قال بالوقف في كتابه (المحصول)، وقال بالوجوب في كتابه (المعالم).   (1) المنخول ص 226 (2) الآمدي 1/ 248 (3) اللمع ص 40 (4) ابن حزم: الإحكام ص 422 (5) تقدم ذكرهم في المبحث السابق. (6) البحر المحيط 2/ 250 ب. والمحقق 8 أ. (7) المنخول ص 226 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ومن الواقفين في ذلك أيضاً الدقاق (1). والجويني يقول في (البرهان) بالندب (2). وأما الآمدي فقد قال بالمساواة في ما ظهر حكمه. وأما ما جهل حكمه وظهر فيه قصد القربة فإنه يدل عنده على ترجيح الفعل على الترك، ولعله يعني الندب (3). وما لم يظهر فيه قصد القربة، يدل عنده على الإباحة في حقنا كما صرّح به (4). 4 - الحنابلة: نسب أبو الخطاب إلى الإمام (5). أحمد ثلاث روايات في دلالة الفعل المجرّد: الوجوب، والندب، والوقف. وقال: إنه استنبط القول بالوقف من قول أحمد "الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى الفعل، لأنه - صلى الله عليه وسلم - يفعل الشيء على جهة الفضل، وقد يفعل الشيء وهو خاص به، وإذا أمر بالشيء فهو للمسلمين" هذا بينما ادّعى أبو يعلى أن هذا القول من أحمد نص منه على الندب. وقال أبو الحسن التميمي الحنبلي: "الذي انتهى إليّ من قول أبي عبد الله - يعني الإمام أحمد- إن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - موقوف على ما يضامّه من الدليل" (6). وقد نقد ابن تيمية تخريج القول بالوقف وبين أن التخريج باطل (7). وقد نسب الآمدي إلى الحنابلة القول بالوجوب في مجهول الصفة من القرب في حقه - صلى الله عليه وسلم - وحقنا (8) وممن صرّح به منهم القاضي أبو يعلى وقال: هذا قياس   (1) أبو شامة: المحقق ق 5 ب. (2) أبو شامة: المحقق 8 أ. (3) أكد ابن شريف في حاشيته على جمع الجوامع أن مراد الآمدي بترجيح الفعل على الترك في ما ظهر فيه قصد القربة هو الندب. وقال: كما فهمه عنه ابن الحاجب وغيره. (4) الإحكام 1/ 264 (5) التمهيد لأبي الخطاب ق 89 ب ونقله أبو يعلى أيضاً في العدة ق 104 أ. (6) العدة ق 104 أ. ويقول أبو يعلى إنه وجد كلام التميمي في مسئلة له مفردة. (7) ابن تيمية: المسودة ص 72 (8) الإحكام 1/ 248 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 المذهب (1). يعني في القرب خاصة إذا لم يتعيّن حكمها بدليل. فإن تعيّن فالحكم المساواة (2). 5 - المعتزلة: ينسب إلى طوائف من المعتزلة القول بالوجوب (3). والذي عند القاضي عبد الجبار في المغني، المساواة في معلوم الصفة. وأما مجهولها فما كان قربة فهو دائر بين الوجوب والندب، ويحمل على الندب (4) وما لم يكن قربة يحمل على الإباحة (5). ورأي أبي الحسين البصري المساواة في معلوم الصفة. ولم يتّضح لنا قوله في مجهولها. أما ابن خلاد المعتزلي (6) فقد نقل عنه التفريق في التأسّي بين العبادات وغيرها. فأوجب الاقتداء في الفعل العبادي المجرد، ومنع الاقتداء في غير ذلك. والنقل عنه في كتب الأصوليين مضطرب وغير محرر. 6 - الظاهريّة: يقول الظاهرية إن الأفعال المجردة تدلّ في حقنا على الندب خاصة، فإذا نقل إلينا فعله - صلى الله عليه وسلم - فلا وجوب. قال ابن حزم ونقله (عن جميع أصحاب الظاهر): "ليس شيء من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - واجباً، وإنما نُدِبْنا إلى أن نتأسّى به فيها فقط ... إلا ما كان بياناً أو تنفيذاً" (7).   (1) العدة ق 105 أو نقله ابن تيمية في المسودة ص 76 (2) العدة ق 39 أ. (3) البحر المحيط للزركشي 2/ 249ب. أبو يعلى الحنبلي: العدة ق 105 أ. (4) المغني 17/ 256 (5) المصدر نفسه 17/ 271 (6) له ترجمة قصيرة في كتاب (المنية والأمل) لابن المرتضى، نشرته دار صادر، ص 62. وقد جعله من الطبقة العاشرة من المعتزلة، من أقران أبي الحسين البصري. وهو تلميذ أبي هاشم الجبائي. (7) الإحكام ص 422 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 المبحث الرابع الأدلَّة والمناقشات نتعرّض في هذا المبحث لأدلة الأقوال السبعة المتقدمة، فنوردها، ونبيّن أوجه الاستدلال بها، ونذكر ما يورد عليها. وقد قدمنا أن الأقوال الثلاثة الأخيرة، وهي قول الإباحة، وقول التحريم. وقول الوقف، مبناها على عدم التأسي بالفعل النبوي المجرد بدعوى أنه محتمل للخصوصية، والفعل الخاصّ يمتنع الاقتداء به. ونحن نناقش هذه الدعوى المشتركة بين الثلاثة في مطلب، ثم نستعرض الأقوال الثلاثة، واحداً واحداً، ونعقد لكل منها مطلباً. المطلب الأول في مناقشة دعوى امتناع التأسيّ لاحتمال الخصوصية ونحوها لا شك أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - خصائص لا يشاركه فيها أحد من أمته، وقد تقدم ذكر ذلك. وهناك أفعال ثبتت المشاركة في أحكامها بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمة كالإسلام والصلاة والصوم والحج وصلة الرحم ونحو ذلك. وكسائر الأفعال البيانية، والأفعال التي هي امتثال وتنفيذ لآيات معلومة عامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والأمة. ومثلها أيضاً الأفعال التي أمرنا بالتأسّي فيها بأعيانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وأما الواسطة، وهي الفعل المجرّد الذي لم يُعلم أنه خاص، ولم يُعلم أنه مشترك الحكم، فهل يُقتدى به؟ هذا موضع الاختلاف. فأما الذين منعوا التأسّي به أصلاً، وهم أصحاب الأقوال الثلاثة المذكورة فقد قالوا: إنه لما كان احتمال الخصوصية قائماً في كل فعل مجرد، فليس لأحد أن يدعي جواز أخذ الحكم منه، فلعلّه أن يكون مما يجوز له - صلى الله عليه وسلم - ويحرم على غيره، فيكون من اقتدى به قد فعل حراماً. إذا نظرنا -منصفين- نجد أن خصائصه التي ثبتت بأدلة صحيحة قليلة جداً، وقد قدرناها فيما مضى بخمس عشرة خاصة، وجزء كبير منها إنما خصوصيتها بكونها محرمة عليه، والمحرم لا يفعله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يبقى من الأفعال التي فعلها والتي ثبت اختصاصه بأحكامها أكثر من عشر خصائص. هذا بينما أكثر الأحكام الشرعية ثبت الاشتراك فيها، كأنواع العبادات وأركانها وشروطها، وما يستحب فيها من الأفعال والهيئات وكذلك الآداب والمعاملات التي ثبت الاشتراك فيها، تزيد أضعافاً مضاعفة عما ثبت الاختصاص فيه. ومن هنا فإن الفعل المجرّد ينبغي ألاّ تُمنع دلالته في حقّنا لأجل الاحتمال الضئيل لكونه خاصة من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. يقول الآمدي: "وأما بالنسبة إلى أمته، فلأنه وإن كان، عليه الصلاة والسلام، قد اختصّ عنهم بخصائص لا يشاركونه فيها، غير أنها نادرة، بل أندر من النادر بالنسبة إلى الأحكام المشترك فيها. وعند ذلك، فما من أحد من آحاد الأفعال إلا واحتمال مشاركة الأمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أغلب من احتمال عدم المشاركة، إدراجاً للنادر تحت الأعم الأغلب، فكانت المشاركة أظهر" (1). اهـ. وبمثله أجاب ابن الهمّام أيضاً (2).   (1) الإحكام 1/ 250 (2) تيسير التحرير 3/ 127 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 لقد حاول الغزالي أن يردّ هذا الاستدلال بقوله: "فإن قيل التعميم أكثر فلينزل عليه. "قلنا: وَلَمْ يُجب التنزيل على الأكثر، وإذا اشتبهت أخته بعشر أجنبيات فالأكثر حلال ولا يجوز الأخذ به" (1). اهـ. وهذا التنظير غير مستقيم، لأن المخالف يدّعي ندرة الخصوصيات، لا مجرّد قلتها. والتنظير الصحيح ينبغي أن يكون بما يقوله الفقهاء من أنه لو اشتبهت أخته بنساء أهل مدينة أو قرية غير محصورات، لم يحرم عليه الزواج منها (2). ولا شكّ أن القاعدة (الحكم للأغلب ولا عبرة بالنادر) قاعدة صحيحة في باب الأدلة الشرعية. ولو نحن أبطلنا كل دليل في الكتاب والسنة لاحتمال ضئيل، لأبطلنا بذلك حجيّة القسم الأكبر من الشريعة، من أخبار الآحاد والقياس، بل والآيات والأحاديث المتواترة التي قد يتطرق احتمال إلى دلالالتها. ويقول المازري: "وبالجملة فالأظهر في هذا أننا مأمورون بالاتباع على الجملة فإن الصحابة كانت تدين بهذا. وإذا طرقنا إلى مثل هذا الاستدلال ما أشار إليه الواقفية من التجويز، فتحنا على أنفسنا مطاعن من طعن علينا في استدلالنا بآثارهم في إثبات القياس والعمل بخبر الواحد. وهذا واضح. وإنما يبقى النظر في مسلكهم اتباعه - صلى الله عليه وسلم - (كذا) هل كانوا يعتقدون الوجوب أو الندب" (3). ويقول أبو شامة: "مذهب الواقفية مستلزم للتوقيف في أقوال الشارع وأفعاله، ولزم من ذلك التوقف في أكثر الأحكام الشرعية، وهو خلاف ما عليه السلف وأئمة الهدى من فقهاء الأمصار" (4). هذا وقد أحسن أبو الخطاب صياغة الردّ على من منع التأسي لاحتمال الخصوصية، إذ يقول: "احتجّوا بأن ما يفعله يجوز أن يكون مصلحة له دوننا (5)   (1) المستصفى 2/ 51 (2) السيوطي: الأشباه والنظائر ص 56 (3) أبو شامة: المحقق ق 13 ب. (4) المحقق ق 22 ب. (5) التمهيد ق 89 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 "والجواب أنه يجوز أن يكون مصلحة لنا أيضاً، وقد أمرنا اتباعه، فوجب ذلك، لأن الظاهر أن المصلحة في الفعل تعمّه وإيانا، إلا أن يردّ دليل بتخصيصه". وأما احتمال المعصية ونحوها فقد أجبنا عليه في الفصل الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 المطلب الثاني قول الوقف مبنى هذا القول على أن الفعل المجرّد لا دلالة له، لأن حكمه دائر بين الاختصاص والاشتراك، ولاحتمال المعصية ونحوها عند من يقول به. وقد وجّهوه في الفعل المجهول الصفة أيضاً بأن التأسّي به غير ممكن، إذ التأسّي يستدعي المساواة في صورة الفعل وحكمه، فلما كان حكمه مجهولاً امتنع الاقتداء به ووجب التوقف. فأما الاستدلال باحتمال الخصوصية والمعصية فقد أبطلناه في ما تقدم. وأما توجيههم الوقف في الفعل المجهول الصفة فقد تقدم مناقشته أيضاً في مبحث الفعل المجهول الصفة. إلاّ أنه يتعيّن هنا النظر في مقصودهم بالتوقف، والتصرف الذي يرون أنه ينبغي إزاء الفعل المجرّد. فأما قولهم في الفعل المجهول الصفة أنه يتوقف فيه، فيحتمل أنهم أرادوا التوقف في حكمه بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا أمرُهُ قريب. ولكنهم قالوا بالوقف أيضاً فيما ظهر حكمه، وحينئذ فإما أن يمنعوا الاقتداء به فيؤول إلى قول الحظر الآتي ذكره، ولكنهم أعني الواقفية: الغزالي، والرازي، ومن معهما- ممن ورد قول الحظر. وإما أن يجيزوا الاقتداء به مع الجهل بوجهه، وهذا أيضاً ما صرّحوا ببطلانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فلا يبقى إلاّ أنهم يعتبرون وجود الفعل المجرّد كعدمه بالنسبة إلينا، وحينئذ نرجع إلى الأصل في الأفعال قبل ورد الشرع، وهو ارتفاع الحرج عن الفعل. وليس ذلك عندهم هو الإباحة لأن الإباحة عندهم حكم شرعي، وهذا ليس حكماً (1). وانما هو خلوّ الفعل عن الحكم. ويكون الحكم في حقنا عندهم بمعنى الإباحة على قول من يقول: الإباحة حكم عقلي (2).   (1) المستصفى2/ 40 (2) انظر كشف الأسرار على أصول البزدوي 3/ 922 أو البحر المحيط للزركشي 2/ 251 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 المطلب الثالث قول التحريم لم ينسب هذا القول إلى قائل معين (1)، وإنما نسب إلى بعض من قال بأن الأصل في الأشياء قبل ورود السمع التحريم. فإذا انتفت دلالة الفعل النبوي على الأحكام بقي الفعل على ذلك الأصل. قال الغزالي: "هذا خيال من رأى الأشياء قبل الشرع على الحظر" (2). والآمديّ ذكر أن مبناه على قول من يجوّز على الأنبياء المعاصي (3). وقد أبى أبو شامة طريقة الآمديّ في بناء هذا القول، ولم يذكر وجه رده، ولا داعي لرده إذ هو محتمل. ووجه أنه كيف يقتدى به فيما يحتمل أنه معصية؟. ويردّ هذا القول من أصله، بأن الأصل في المنافع الإباحة، كما يعلم في موضعه من كلام الأصوليين. وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من المعصية، أو من الإقرار عليها. وأن من أجاز وقوعها فإنما يقع ذلك عنده على سبيل الفلتة والأمر النادر. وقد أجاب الغزالي بجواب آخر، قال: "يلزم من هذا القول تناقض،   (1) وجدنا ابن حزم في الفصل 4/ 2 ينسبه إلى الباقلاني أو صاحبه أبي جعفر السمناني بناء على احتمال كون الفعل النبوي معصية. (2) المستصفى 2/ 49 (3) الإحكام 1/ 250 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 بتقدير أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلين متضادين في وقتين، فيؤدي إلى أن يحرم الشيء وضدّه، وهو تكليف محال" (1). ومن أجل ذلك قال أبو شامة: "هذا قول سخيفٌ رديء على أيّ الأصلين بُني" (2).   (1) المستصفى 2/ 49 (2) المحقق ق 10 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 المطلب الرابع قول الإباحة 1 - هو راجع عند بعض القائلين به إلى امتناع التأسيّ في معلوم الصفة ومجهولها. وأن الواجب العودة إلى الأصل في الأفعال، وهو الإباحة. ويردّ على أصحاب هذا الاتجاه بما تقدم في إبطال دعوى امتناع التأسي. 2 - ويرجع عند آخرين إلى أننا لم يطلب منا التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله المجردة، بل أبيح لنا ذلك. وجوابه بما تقدم في فصل حجيّة الفعل النبوي من الأدلة القاضية بأن التأسّي مطلوب شرعاً. 3 - ومبناه عند طائفة ثالثة أننا حملنا فعله - صلى الله عليه وسلم - المجهول الصفة في حقه - صلى الله عليه وسلم - على الإباحة، وذلك يقتضي الإباحة في حقنا، على قول المساواة الآتي. وهذا البناء صواب في الفعل المجهول الصفة إذا لم يظهر فيه قصد القربة. أما إذا ظهر قصد القربة فذلك يرقى بالفعل إلى الندب. ولا تصح دعوى الإباحة فيه، إذ أنها على خلاف مقتضى الظاهر. ... انتهينا من استعراض الأقوال التي تمنع التأسيّ بالفعل المجرّد بحجّة احتمال الخصوصية أو غيرها. وانتهينا إلى بطلانها جميعاً. وبقي أن نستعرض الأقوال التي تقول بمشروعية التأسّي به - صلى الله عليه وسلم -. وهي أربعة: القول بالندب، والقول بالوجوب، والقول بالتساوي في العبادات خاصة، والقول بالتساوي في جميع الأفعال المجردة. ونعقد لكل منها مطلباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 المطلب الخامس قول الندب المراد بهذا القول عند من قالوا به معنيان: الأول: من قصر القول بالندب في الفعل المجهول الصفة على ما ظهر فيه قصد القربة، فهو من القائلين بالتساوي لكن يحمل الفعل على أنه صدر منه - صلى الله عليه وسلم - مندوباً. ولذا فإننا سنذكر القول بالندب بهذا المعنى مع قول التساوي. الثاني: أننا إذا علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل فعلاً، فإنه يندب لنا أن نفعل مثله، سواء، علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك على سبيل الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، أو لم نعلم ذلك، وسواء أكان الفعل قربة أم لم يكن، كما صرّح بذلك بهذا التفصيل أبو شامة (1). ونقصر القول في هذا المطلب على المعنى الثاني. وقد وضّح أبو شامة قول الندب، وما يجري فيه، حيث يقول (2): "كل فعل ظهر فيه قصد القربة، وكان معلوم الصفة من وجوب أو ندب، أو لم يكن، فالأمة مندوبون إلى إيقاع مثل ذلك الفعل مطلقاً. وما لم يظهر فيه قصد القربة، وكان محتملاً للقربة، وإن خفيت عنا، فكذلك. مثاله رفع اليدين عند التحرم بالصلاة، وعند الركوع، والرفع عنه، وعند القيام من الركعتين، وكنزوله - صلى الله عليه وسلم - في حجّته بذي طُوَى ومبيته يوم ليلة يوم   (1) المحقق ق 6 أ (2) المحقق ق 2 أ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 عرفة. فهذا ونحوه أفعال صدرت منه - صلى الله عليه وسلم - تحتمل القربة، وإن لم يظهر لنا فاستحبّ علماء المذهب متابعته والتأسيّ به فيها. وهي في هذا الباب بمثابة الأوصاف الشبهيّة في باب القياس، إلا أنها مخطوطة الدرجة عما ظهر فيه قصد القربة. فيكون الاستحباب فيها آكد مما لم يظهر فيه قصد القربة، ويكون الاستحباب فيما وجب عليه - صلى الله عليه وسلم - آكد، لأن مصلحته أتم بدليل تحتمه عليه. فهذه ثلاث درجات: أعلاها متابعته - صلى الله عليه وسلم - في ما وجب عليه. وبعدها متابعته في ما نُدِب إليه، أوفيما لم تعلم صفته، لكن ظهر فيه قصد القربة. والدرجة الثالثة ما احتمل القربة وإن لم تظهر. وبعد هذه الدرجات درجة رابعة، وهي متابعته - صلى الله عليه وسلم - في الأفعال التي يكاد يقطع فيها بخلّوها من القربة، كهيئة وضع أصابع اليد اليمنى في التشهد، فتستحب المحافظة عليها والأخذ بها ما أمكن، تدريباً للنفس الجموح، وتمريناً لها على أخلاق صاحب الشرع، لتعتاد ذلك، فلا تخلّ بعده بشيء مما فيه قربة. فهذا ونحوه هو الذي يظهر لي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يلاحظه، فأخذ نفسه بالمحافظة على جميع آثاره - صلى الله عليه وسلم - ... فالمتّصف بالإيمان، من علامات صحّة إيمانه ومحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - التبرك بآثاره، والاتّباع فيها. فهي -وإن لم تصدر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قربةً - قربةٌ. فنحن نرجو بفعلها التقّرب إلى الله تعالى، لما انطوى عليه فعلنا لها من محبته - صلى الله عليه وسلم - التي حملتنا عليها، ولما يُحْدِث ذلك من رقة القلب بتذكره - صلى الله عليه وسلم -". اهـ. ثم نقل أبو شامة عن ابن عَبْدان قوله: "أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لم تحصل منه على وجه القُرَب، يستحبّ التأسّي به فيها، رجاء بركته، مثل أكله وشربه وعطائه ومعاشرته لنسائه، وجميع أفعاله المتعلقة بأمور الدنيا. يستحب التأسّي به في جميع ذلك". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 أدلة القائلين بالندب : القائلون بالندب في الفعل المجرّد بأنواعه، استدلوا بما ورد في الشريعة من طلب التأسّي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والاتباع له، ومن فعل الصحابة (1) وقالوا: إن الشرع طلب التأسي لا على سبيل الوجوب، فلا يبقى إلا أنه دال على الندب. واستدلوا على انتفاء الوجوب بانتفاء دليل يحتّم التأسِّي. وحاولوا رد أدلة القائلين بالوجوب بما نذكره في المطلب التالي. واستدلوا على انتفاء الوجوب أيضاً بأمور (2): الأول: أن الفعل أضعف دلالة من القول، والقول يدل على الوجوب، فينبغي أن لا يكون الفعل دالاً عليه، بل على الندب (3). ويجاب عن ذلك بأنه لا يلزم من كونه أضعف دلالة خروجه من دائرة الدلالة على الوجوب. الثاني: حديث أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كل أمتي يدخلون الجنّة إلا من أبى" قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" (4). قالوا: والطاعة والعصيان إنما هي بالنسبة إلى القول دون الفعل. فدل على أن الوجوب مستفاد من القول دون الفعل (5). ويجاب بأنه إذا أمر بالقول باتباع فعله، فلم يتّبع، كان عصياناً. سلمنا أن الطاعة اتِّباع مقتضى القول، والعصيان مخالفته، لكن ليس في الحديث تعرّض للفعل أصلاً. ولو دلّ هذا الحديث على عدم الوجوب، بالفعل   (1) تقدم إيضاح ذلك في الفصل الثالث. (2) لم نر أحداً تتبع هذه الأحاديث بالرد على استدلال ابن حزم وأبي شامة بها إلا قليلاً. وقد رددنا عليهما بما يسره الله. (3) أبو شامة: المحقق ق 15 ب. (4) البخاري 13/ 249 (5) أبو شامة: المحقق ق 15 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 لزم مثل ذلك في الأدلة الأخرى، التي لم تذكر في هذا الحديث، كالإجماع والقياس. الثالث: حديث: "ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئاً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه" (1). قالوا: وهذا ظاهر في القول دون الفعل (2). ويجاب بأنه إذا دلّهم بالقول على اتّباع فعله فقد بين بالقول. وأيضاً: هذا منتقض بكل ما يدل على الوجوب من غير أمره، كالقياس والمفهوم والإجماع. وأجاب بعض الحنفية (3) أيضاً بأن الاستحباب كذلك يستدعي التبليغ، فإن لم يكن الفعل تبليغاً للوجوب فلا يكون تبليغاً للندب. الرابع: حديث: "دعوني ما تركتكم، فإنما أهلكَ من كان قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (4) قالوا: فلم يوجب على أحد إلا ما استطاع، مما أُمر به، واجتناب ما نهي عنه فقط، وأسقط ما عداه. وأمرهم بتركه ما تركهم (5). ويجاب عن ذلك بمثل ما تقدّم في الحديث السابق. الخامس: قالوا: إنا قد علمنا بضرورة الحسّ والمشاهدة أنه - صلى الله عليه وسلم -، وكلَّ حي في الأرض، لا يخلو طرفة عين من فعل، إما جلوس، أو مشي، أو وقوف، واضطجاع، أو نوم، أو اتكاء، أو غير ذلك من الأفعال. وفعله لم يظهر دائماً، بل هو في حال خلوته لا يترك الأفعال. قالوا: وهذا يدل على عدم وجوب شيء من   (1) قال أبو شامة: رواه الشافعي من حديث المطّلب بن حنطب. (2) أبو شامة: المحقق ق 15 ب. (3) تيسير التحرير 3/ 1126، وأيضاً: فواتح الرحموت 2/ 182 (4) رواه مسلم 15/ 109 (5) ابن حزم: الإحكام 1/ 429 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 أفعاله، إذا لو كان واجباً لوجب أن يحضره أحد منهم دائماً، لينقل إليهم ما فعله - صلى الله عليه وسلم - من الواجبات. وهذا من أقوى ما يحتجّون به (1). وجوابه، وبالله التوفيق، من وجوه: 1 - أن ما يفعله - صلى الله عليه وسلم - في غيبته مما كان واجباً، لا يمتنع أن يفعل مثله مرة أو مرات أخرى بحضرتهم، فيحصل المقصود. 2 - أنه - صلى الله عليه وسلم - قد حرص على تكثير نسائه، والحكمة أن يرين أحواله في خلوته وينقلنها إلى الناس، وهذا يدل على خلاف ما ذكروا. 3 - أن دليلهم ينتقض بقولهم هم. إذ إنهم يقولون: فعله يدل على الاستحباب. والاستحباب شرع يجب بيانه، فكان يلزم إظهاره كالواجب. 4 - أن ما مثلوا به أفعال جبلّيّة، لا ترقى إلى مرتبة الوجوب، بل ولا الاستحباب. والواجبات من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - قليل، فيمكن إظهارها. السادس: واحتج به ابن حزم (2)، أنّ الأفعال لو كانت على الوجوب لكان ذلك تكليفاً لما لا يطاق، من وجهين: 1 - أنه كان يلزمنا أن نضع أيدينا حيث وضع - صلى الله عليه وسلم - يده، وأن نمشي حيث مشى، وننظر إلى ما نظر إليه. وهذا كله خروج عن المعقول. ويجاب عن هذا الوجه، بأن هذه مباحات جبلّيّة لا دخل لها في الأحكام، فلا ترد على قول القائلين بالوجوب، والقائلين بالمساواة. وأيضاً لو صحّ هذا لكان وارداً على قول الندب الذي يقول به ابن حزم، فما كان جواب القائلين بالوجوب.   (1) انظر أصول الجصاص (ق 209 أ). (2) الأحكام 1/ 435 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 2 - أن أكثر هذه الأشياء -يعني الأشياء الماديّة التي تصرف فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأعيانها- قد فنيت، فكنّا من ذلك مكلّفين ما لا نطيق. والجواب أن القائلين بالوجوب، إنما يقولون بوجوب إيجاد فعلٍ مماثل لفعله - صلى الله عليه وسلم -. والمماثلة تتحقق دون ما ذكر. وأيضاً هذا لو صحّ لكان وارداً على قول الاستحباب. السابع: واستدلوا أيضاً بحديث الأعرابيّ (1) الذي حلف أن لا يزيد شيئاً على ما أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - من أركان الإسلام الخمسة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفلح إن صدق. قالوا: لم يُلزمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أفعاله. ولم ينكر عليه الاقتصار عليها بل شهد له بالفلاح (2). وجوابه ما ثبت من إيجاب أمور أخرى كالجهاد وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاحتمل أن يكون هذا الحديث متقدّماً ويكون كل ما ثبت وجوبه غير الخمسة المذكورة متأخّراً. ويكون دليل التأسي متأخّر الورود عن حديث الأعرابي. الثامن: واستدلوا أيضاً بحديث عبد الله بن مسعود (3)، قال: صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزاد (أو قال: فنقص) فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدَثَ في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليتَ كذا وكذا. قال: فثنى رجله واستقبل القبلة، فسجد بهم سجدتين ثم سلم. فلما انْفتَل أقبل علينا بوجهه، فقال: "لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون. فإذا نسيتُ فذكِّروني. وإذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصواب فليبنِ عليه، ثم يسجد سجدتين" (4). قالوا: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به"، ما كنت أقتصر على بيان ذلك بفعلي، بل كنت أنبئكم به قولاً.   (1) رواه البخاري 1/ 106 ومسلم 1/ 166 (2) أبو شامة: المحقق ق 17 ب. (3) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الثلاثة (جامع الأصول 6/ 354) (4) أبو شامة: المحقق ق 23 أ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 والجواب أن مثل هذه الحادثة خالفَ فيها الفعلُ القولَ المتقدم المستقرّ المعلوم، فلا يكفي الفعل لنسخه لو كان المراد النسخ، فلو لم ينبئهم به لقُدم القول. وحينئذ فإذا أريد نسخه لا بد من أن يكون ذلك بقول. وخاصة على قول من يقول: الفعل لا ينسخ القول مطلقاً، أو لا ينسخه ما لم يتكرر. وأيضاً ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه ينسى كما ينسون، يجعل تركه لما ترك مجملاً، لأنه يدور بين النسيان وبين التشريع، ومن أجل ذلك لا يصلح الفعل بياناً في مثل هذا المقام، ويتعين القول. ... هذه أدلتهم التي أوردوها، وقد زيّفناها وبيّنا أنها لا تدل على مطلوبهم. ولقد صرّح أبو شامة بأن "الاقتداء بالواجب من فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون واجباً، وأنه لا يعلم شيئاً من الأحكام الواجبة مستندُ وجوبه الفعل". وهذه مجازفة غير مقبولة، كان ينبغي له أن يحترز من إطلاقها، لعل الذي حمله على ذلك اقتفاء خطوات ابن حزم رحمة الله عليهما. وإلاَّ فأيّ دليل قوليّ يدل على وجوب خطبة الجمعة، وركنيّة ركعتين في صلاة العيد، ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، والبدء بالصفا، ووجوب ركوعات صلاة الكسوف، وسجود السهو، وغير ذلك. دليل بطلان قول الندب : التأسّي المطلوب شرعاً يقتضي المساواة في صورة الفعل، وفي حكم الفعل. وبدون ذلك لا يكون الفعل الذي نفعله تأسياً. فمن لم يفعل ما يماثل الفعل النبويّ في الصورة فليس متأسيّاً، بل يكون مخالفاً (1). وكذلك مَن فعَل ندباً ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - واجباً، فذلك ليس تأسيّاً، بل هو نوع من المخالفة، أو هو أقرب إلى الابتداع.   (1) أبو الخطاب: التمهيد ق 90 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وهذا دليل صحيح. وهو عمدة القائلين بالمساواة في الحكم. وهو الذي نأخذ به. وله يمكن الرد أيضاً على قول القائلين بالوجوب. وقد اعترض على هذا الدليل بشبهٍ أربع: الشبهة الأولى: وقد اعترض بها أبو شامة (1). وحاصلها أن تفسير الأسوة بالمساواة في الصورة والحكم تفسير غير مقبول، إذ لا يعرفه أئمة اللغة. بل الوارد في مصنفاته تفسير الأسوة بالاقتداء، وهو لا يقتضي المساواة في الحكم. يقول أبو شامة: "لم أر أحداً ممن وقفت على مصنفه في اللغة ذكر في معنى الائتساء والاتّباع ما ذكروا، ولا يشترط ما شرطوا، بل يفسّرون الائتساء بالاقتداء، هكذا مطلقاً. نحو قول الراغب: الأسوة والأسوة كالقُدوة والقدوة. وهي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن حسناً وإن قبيحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً. ولهذا قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فوصفها بالحسنة". ثم نقل عن غير الراغب مثل ذلك، ثم قال: "فالتأسي على هذا عبارة عن فعلٍ يوافق فعل الغير، مفعولٍ لأجل فعله، متصفٍ بصفاته الظاهرة دون الموافقة له في النية". ثم قال: "إن دعواهم مقابلة بدعوى أكثر منهم من أهل الأصول، وهم القائلون بالتعيين من وجوب أو ندب، فإنهم لا يفسّرون التأسي والاتباع بما ذكروا، فليرجع إلى تفسير أهل اللغة فإنه الأسدّ". وقد تلقف هذا التفسير للأسوة المحدّث الصنعاني (2)، وأكده بالاستشهاد بقول الخنساء في مرثاة أخيها صخر: وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلِّي النفس عنه بالتأسّي بعد قولها: ولولا كثرةُ الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي   (1) المحقق ق 18 أ، ب. (2) حاشية هداية العقول 1/ 466 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 واحتجوا على القائلين بالمساواة، بأنهم أجازوا التأسي فيما لا يعلم وجهه، بأن يفعل على طريق الندب، أو على طريق الإباحة. وهذا عندهم يدل على أن التأسي لا يشترط فيه معرفة حكم الفعل. كشف أمر هذه الشبهة : ونحن نقول، وبالله التوفيق: إن كلًا من القائلين بالندب والقائلين بالوجوب، قد شط، والذي يقتضيه ما أورده أن الائتساء والاتباع الموافقة في الأفعال، كما فسره أهل اللغة. والموافقة المساواة من جميع الوجوه. فإذا علمناه - صلى الله عليه وسلم - عمل عملاً على وجه الوجوب لا نكون وافقناه بعملنا إياه على وجه الندب، إذ إن هذه مخالفة حقيقية، فلا تتحقّق الأسوة. وكذلك عكسه، فإن علمناه قد فعل الفعل ندباً فمن المخالفة له أن نفعله على وجه الوجوب ونتخذه علينا واجباً، وكذلك لو علمناه فعل ما فعل على وجه الإباحة يكون من الخطأ اعتبار ذلك قربة والتقرب إلى الله تعالى به وجوباً، أو ندباً. إذ إن ذلك نوع من الابتداع. أما إذا لم نعلمه فعله ندباً أو وجوباً أو إباحة فإن صفة الفعل لا تكون عندنا أمراً ظاهراً، وليس لنا حينئذ إلا العمل بالظن، وهو حمل القُرُبات على الندب، والتأسي به فيها، وحمل ما عداها على الإباحة. والحاصل أن الأولى أن يقال: التساوي في الحكم في الفعل المعلوم الصفة واجب، لأن ذلك ظاهر في الفعل، وتركه مخالفة. وأما مجهولها فيعمل بقول الندب في القربة، وبالإباحة فيما عداها، وهذا هو عين قول التساوي كما يأتي إن شاء الله. وأما ما نقلوه من قول الخنساء، فإن التسلّي عن أخيها لا يدخلها في أغراضه الوجوب أو الندب، حتى يحتّج به في هذه المسألة، أما بالنسبة إلى أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن التقرب على سبيل الوجوب، أو الندب، أو فعلها على سبيل الإباحة من أهمّ الأغراض فيه، فلا بدّ من اعتباره. شبهة ثانية: وقد اعترض بها الفخر الرازي في (المعالم)، وهو يقول فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 بالوجوب. قال: فإن قالوا: بتقدير أن يعتقد الرسول أن تلك الأفعال غير واجبة على الأمة كان اعتقاد الأمة وجوبها عليها مخالفة، وتركاً للمتابعة. قلنا: الاعتقاد أمر خفيّ متعارض، فثبت أنّا إن اعتبرنا الاعتقاد جاء التعارض، فوجب اطّراحه والاقتصار على الأفعال الظاهرة (1). وبمثله أجاب أبو الطيّب الطبريّ (2). وهذه شبهة مطّرحة. لأن من أُمِر بالتأسي فيما لا يعلم وجهه، وقد استطاع أن يستدل عليه بالأمارات، فلم لا يفعل؟ ثم إن فعل فأخطأ فلا يصح نسبته إلى المخالفة وترك الاتّباع. بل هو مجتهد مأجور. ولا يقتضي ذلك جواز المخالفة في معلوم الحكم. شبهة ثالثة: وقد أثارها أبو شامة. فقد بيّن أن من فعل فعلاً من العبادات لا يدري أواجب هو أم مندوب، أن عبادته صحيحة. ثم إن كان الشرع يقتضي وجوبها، وقع فعله واجباً وأجزأ عنه، وإلا فيقع ندباً، وله الأجر على كلّ حال. وكذلك لو نوى العبادة المعيّنة مطلقاً، أعني دون أن ينوي أنها فرض أو نفل، فعبادته صحيحة. ثم استدل لذلك. ثم احتّج بهذا على أن التأسي لا يشترط فيه معرفة حكم القربة التي علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقرّب بها، بل يكفي عنده معرفة أنها قربة، وتميّزها مما ليس بقربة. ورأى أن ذلك يقتضي أنه لا يشترط في التأسي المساواة في حكم الفعل (3). وفي سبيل الرد على ذلك نحب أن نبيّن، أن قول المساواة، وهو الذي نختاره، يوافق قول الندب فيما عُلِم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ندباً، وفيما جهل حكمه مما ظهر فيه قصد القربة.   (1) أبو شامة: المحقق ق 18 ب. (2) أبو شامة: المحقق 18 ب. (3) المحقق ق 20 - 23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ويبقى الخلاف في نوعين: الأول ما علم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الوجوب، والثاني: ما علم أنه فعله على سبيل الإباحة، والمحمول عليه. فأما في الثاني فبطلان دعوى أبي شامة واضح، لأن ما جاز على سبيل العادة والإباحة لا يجوز فعله على سبيل العبادة، فالله تعالى لا يُعْبَد إلا بما شرع. والمباحات لا يتعبّد بها، وذلك أصلٌ مقرّر في الشريعة. وأما في الأول. وهو معلوم صفة الوجوب، فإن من التحدّي والمباينة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل الشيء واجباً، ونحن نعلم ذلك، ثم لا نتابعه فيه، فهذا خلاف التأسّي. نعم: من جهل حكم القربة فأطلق النّيّة فلا بأس بذلك في بعض صور العبادات، وكذا مَنْ علمه فيطلق النية (1). أما أن يعلم صفة النية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يتعمّد أن ينوي خلافها، فإنه مشاق ومعاند، بل ومبتدع متباعد. والله الهادي إلى أقوم طريق. شبهة رابعة: قالوا التساوي في حكم الفعل قد ثبت عدم اعتباره في صور من التأسّي والاقتداء معترف بها، فيدل ذلك على أن التأسّي لا يشترط لحصوله ما ذكرتم من الساواة في الحكم. فمن الصور المشار إليها اقتداء المصلي المتنفل بالمفترض، والاتفاق حاصل على صحته، واقتداء المفترض بالمتنفل، وهو جائز عند الشافعي وغيره (2). وكمن خرج لجهاد فتبعه آخر يريد التجارة يسمى متبعاً له في سفره، وإن خالفه في قصده (3). ونحن نقول: حقيقة التأسّي والمتابعة الساواة من جميع الوجوه، فإذا دل الدليل على سقوط شيء، بقي ما عداه على الأصل (4). ومن هنا تَطَلَّبَ الفقهاء الأدلة على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل وعكسه. وليس حكم الفعل مما قام الدليل على سقوطه. فيجب التزام المساواة فيه.   (1) انظر: السيوطي: الأشباه والنظائر ص 18 (2) ابن قدامة: المغني 2/ 225، 226 (3) أبو يعلى: العدة ق 104 أ. (4) الأنصاري: فواتح الرحموت 2/ 181 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وقال أبو الخطاب الحنبلي (1): إن المتنفل خلف المفترض إن قلنا يكون تابعاً، فلأن الصلاة تجمع قربة وإسقاط فرض والمتنفل متقرب، فهو تابع في القربة دون إسقاط الفرض. وعندي أن هذا الرد لا يكفي، بل هو تصحيح لجواب أصحاب الندب. وأجاب شارح مسلم الثبوت، على طريقة الحنفية بأن المتنفل إذا أحرم بالصلاة أصبحتْ عليه واجبة، فيستوي الإمام والمأموم في نية الوجوب. وهذا الجواب لا يجري على غير طريق الحنفية. وأما استشهادهم بأن من خرج لجهاد فتبعه من يريد الحجّ يسمى متبعاً، فالجواب أنه متبع له في أصل السفر، وليس هو متبعاً له في جهاده. وكذلك اتباعنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون اتباعاً في مقاصده الشريفة، من التقرّب إلى الله تعالى بما كان يتقرب به، من الواجبات والنوافل. ... وإذ فرغنا من ذكر ما استدل به القائلون بالندب، والرد عليهم بما فتح الله به، نذكر هنا أن قول الندب إن استساغه أحد في ما وجب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينبغي أن يستساغ في ما فعله - صلى الله عليه وسلم - على وجه الإباحة، والفرق أن الواجب قد فُعِل على وجه القربة، فللندب في مثله منا وجه. أما ما فعله - صلى الله عليه وسلم - على وجه الإباحة، فإن في فعله على وجه التعبد نوعاً من الابتداع في الدين، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يشرعه. وقد تقدم القول في ذلك في مبحث الفعل الجبلي.   (1) التمهيد: ق 90 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 المطلب السادس قول الوجوب مراد القائلين بالوجوب إن ما ثبت لدينا من الأفعال النبوية المجردة يجب علينا أن نفعل مثله في الصورة، سواء علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وجوباً أو ندباً أو إباحة، أو جهلنا حكمه بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -. وبعض القائلين به خصه بالمجهول الصفة من الأفعال (1). وهذا القول يوافق قول الندب في اعتبار الموافقة في صورة الفعل دون حكمه. ويخالف في الحكم المستفاد في حقنا. وقد استُدلّ لهذا القول بأدلة عقليّة وقرآنية وسنّيّة وإجماعية. الدليل الأول: أن الفعل النبوي يحتمل أن يكون حكم مثله في حقنا الوجوب أو الندب أو الإباحة. والاحتياط أعلى المراتب، فوجب الأخذ به احتياطاً لئلا نترك ما وجب علينا، كصيام الثلاثين من رمضان إذا لم يُرَ الهلال، يحتمل أن يكون من شوّال، ومع ذلك نصومه احيتاطاً لئلا يكون من رمضان. وأجيب عن ذلك (2) بأن الاحتياط يمكن أن يقال به إذا خلا عن احتمال الضرر. وما نحن فيه يحتمل أن يكون الفعل حراماً على الأمة فيكون ضرراً. قال الآمدي: وهذا الجواب غير صحيح، فإنه لو غمّ الهلال ليلة الثلاثين   (1) أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 382 (2) نقل الشوكاني هذا الجواب وأقره (إرشاد الفحول ص 36) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 من رمضان، يجب صومه احتياطاً للواجب، وإن احتمل أن يكون حراماً بكونه يوم العيد (1). وقال مثل ذلك صاحب تيسير التحرير (2). والجواب الصحيح أن يقال: إن الاحتياط الواجب هو في وجوب أداء ما ثبت وجوبه وشكَّ في أدائه، كمن نسي صلاة من الخمس، ولم يعلم عينها، يجب عليه أن يصلي الخمس احتياطاً. وفي ما كان ثبوته هو الأصل، كصوم الثلاثين من رمضان، إذ الأصل إنه من رمضان وإن احتمل أن يكون من شوال. أما ما لم يثبت وجوبه والأصل عدم وجوبه، فلا يصح إيجابه احتياطاً كصوم الثلاثين من شعبان (3). الدليل الثاني: قالوا: النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل إلا حقاً وصواباً، فاتباعه حق وصواب. وترك الحق والصواب باطل وخطأ. والجواب أن ما يفعله عُلِمَ انقسامه إلى واجب ومندوب ومباح. فما فعله على سبيل الندب فالحقّ إيقاعه على سبيل الندب، وذلك هو الحق والصواب وكذلك يقال في المباح. الدليل الثالث: قالوا: إن الفعل آكد في البيان من القول، فإذا أفاد الأمر الوجوب، فالفعل أولى. ويجاب عن ذلك بأنه يجوز أن يكون الفعل في بعض الأحوال أقوى بياناً، ولكن موضع ذلك هيئات التفاصيل، فأما قوة الطلب وتحتّمه فليس الفعل موضوعاً لذلك، بخلاف القول، فإن القول الآمر موضوع للإيجاب، فبطل كون الفعل أولى (4). الدليل الرابع: وهو شبيه بما تقدم، قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الصحابة عام   (1) الآمدي: الإحكام 1/ 263 (2) 3/ 126 (3) ابن الحاجب والعضد: منتهى السول وشرحه (2/ 24) (4) أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 378. أبو الخطاب: التمهيد 91 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الحديبية بالفسخ فلم يفسخوا، حتى غضب وقال لأم سلمة: أما شعرت أنني أمرتهم بأمر فإذا هم يتردّدون. فأشارت عليه بأن يخرج فينحر ويحلق ولا يكلمهم. فخرج فنحر وحلق. فلما رأوه فعل ذلك نحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً من الغم. قالوا: فلولا أن الصحابة علموا أن فعله أشدّ استيجاباً لمثله منهم، لما ترددوا في طاعة الأمر، ثم انصاعوا لدلالة الفعل. والذي نقوله في الجواب: إنهم استجابوا لاجتماع الفعل مع القول، إذ مجموعها أقوى من القول وحده كما لا يخفى. وجواب آخر أجاب به الآمدي (1): إن ترددهم كان رجاء أن ينزل أمر ينسخ الأمر بالإحلال، فلما حلق هو - صلى الله عليه وسلم - يئسوا من ذلك فحلقوا. وأجاب بجواب آخر: أن فعله وقع بياناً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" فوجب من حيث هو بيان. وهذا الجواب غير مرضي، لأنه إذا اجتمع القول والفعل في البيان وتقدم القول فهو البيان اتفاقاً، كما تقدم. فالبيان هنا هو القول اتفاقاً، والفعل مؤكِّد للبيان وهذا يصحح ما أجبنا به. هذا إنْ سلّمنا إن هنا ما يحتاج إلى البيان، ولكن الصواب عدم التسليم بذلك، لعدم وجوده أصلاً، لأن آية الإحصار بينة وهي قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" كان في حجة الوداع بعد الحديبية بأعوام. الدليل الخامس: قوله تعالى: {فاتبعوه} فالاتباع له - صلى الله عليه وسلم - واجب بدلالة هذه الآية، والاتباع الامتثال للقول، والإتيان بمثل الفعل.   (1) الإحكام 1/ 261 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وقد أجاب ابن حزم بأن الاتّباع هو طاعة الأمر. وهو جواب غير مرضي. فإن بين الطاعة والاتباع فرقاً لا يخفى. والجواب الصحيح أن يقال: مماثلة الفعل تقتضي المماثلة من جميع الوجوه، فهي الواجبة. وليس من المماثلة والاتباع أن نفعل واجباً ما فعله ندباً أو إباحة. وبهذا أجاب عبد الجبار والآمدي (1). ولم يرتض ابن الهمام هذا الجواب بالنسبة إلى الفعل المجهول الصفة، ورأى أن الصواب في الإجابة أن يقال: الأمر بالاتباع غير محمول على عمومه، إذ لا يجب قيام وقعود وسائر الأفعال الجبليّة. وليس ثم مخصص معيّن، فتعين حمله على أخصّ الخصوص من معلوم صفة الوجوب، ففيه خاصة يجب الاتباع (2). وعندي أن قوله: (وليس ثم مخصص معين) مردود، لما تقدم في فصل الأفعال الجبلية. ولذا فجواب الآمدي أولى. الدليل السادس: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} قالوا: في هذه الآية تحذير من المخالفة، لأن معناها: من كان يرجو الله واليوم الآخر فله في رسول الله أسوة حسنة. ومفهومها. أن من لم يتأسّ به - صلى الله عليه وسلم - فليس ممن يرجو الله واليوم الآخر. وهذا دال على الوجوب، فلا بد لنا من فعل مثل ما فعل، ولا يهمنّا على أيّ وجه فعل. والجواب بتسليم دلالة الآية على وجوب التأسّي، ومنع أن يكون معنى التأسّي الموافقة في الصورة دون الحكم، بل التأسّي هو الموافقة في الصورة مع الاتفاق أيضاً في الحكم. الدليل السابع: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم   (1) الآمدي: الإحكام 1/ 257 عبد الجبار: المغني 17/ 260 (2) تيسير التحرير 3/ 123 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (1) قالوا: والفعل من الأمر، بدلالة قوله تعالى: {وما أمر فرعون برشيد} أي أحواله وشأنه وأفعاله. {إليه يرجع الأمر كله} {وإذا كانوا معه على أمر جامع} قالوا: فلما كان فعله من أمره لم تجز مخالفته. وأجيب عنه بأن الأمر في الآية المستدل بها هو الأمر بالقول، بدليل قوله تعالى في أول الآية: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} فما عبّر عنه أولاً بالدعاء، عبّر عنه أخراً بالأمر. و (الأمر) في اللغة يأتي لمعنيين، الأول: القول الطالب، والثاني: الحال والشأن، ومنه الأفعال. والعرب قد فرّقوا بينهما. فقالوا في جمع الكلمة بالمعنى الأول (أوامر)، وفي جمعها بالمعنى الثاني (أمور). فالأمور غير الأوامر. والأمر واحد الأمور، غير الأمر واحد الأوامر. فـ (الأمر) مشترك (2). والقرينة تبيّن أن المراد به في الآية القول دون الفعل. وأجاب القاضي عبد الجبار بأنه على تقدير أن الفعل داخل في مسمى الأمر، أو أن الأمر في الآية بمعنى الفعل، فالنهي عن مخالفته يقتضي الموافقة، ولا يكون أحدنا موافقاً إلا إذا فعل على الوجه الذي فعله عليه - صلى الله عليه وسلم - (3) وهو جواب سديد. الدليل الثامن: قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} وفعله هو مما آتاناه، فكان الأخذ به واجباً. والجواب عندنا أن هذه الآية من سورة الحشر، نزلت في شأن مال الفيء، أمَرَهم الله تعالى أن يقبلوا ما أعطاهم رسول الله منه (4). وأن يكفوا عما نهاهم عن   (1) سورة النور: آية 63 (2) نقل صاحب البحر المحيط (1/ 291 ب) في (الأمر) خمسة مذاهب: 1 - أنه حقيقة في القول والفعل 2 - حقيقة في القول مجاز في الفعل- الحنفية 3 - مشترك بينهما- الشريف المرتضى 4 - حقيقة في القول والشأن والطريق دون آحاد الأفعال 5 - لا يتضمن الفعل أمراً- الشيرازي. (3) المغني 17/ 262، 263 (4) هذا تفسير الحسن والسدي للآية كما في تفسير القرطبي 18/ 17 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أخذه. فالإيتاء بمعنى الإعطاء، والأمر بأخذ المال أمر إباحة، وليس أمرَ إيجاب قطعاً. فلا صلة للآية بقضية التأسّي بالأفعال النبوية. والتفسير الآخر للآية هو ما قاله ابن جريج من أن معناها: ما آتاكم الرسول من طاعتي فاقبلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. فعلى هذا التفسير، يجاب عن استدلالهم، بأن الإيتاء هنا بمعنى الأمر (1)، بدليل مقابلته بما بعده (2) {وما نهاكم عنه فانتهوا} وبدليل أن القول يتعدى إلينا، فيكون بمعنى العطية (3). ومثله قوله تعالى {خذوا ما آتيناكم بقوة} أي افعلوا ما أمرتم به. ولو سلمنا أن المؤتى يصدق على الأفعال، فذلك لا يدل على وجوب جميع أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، بل على اتِّباعها على ما هي عليه من الأحكام. الدليل التاسع: الإجماع، فقد رُوي عن الصحابة، "أنهم لما اختلفوا في الغسل من الوطء دون إنزال، أرسل عمر إلى عائشة رضي الله عنها فسألها عن ذلك، فقالت: فعلتُه أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واغتسلنا. فأخذ عمر بذلك. وقال: لا أسمع أحداً قال بعد هذا: الماء من الماء، إلاّ جعلته نكالاً" (4). وأجمعت الأمة على ذلك بعده. فكان اكتفاؤهم في إيجاب ذلك بمجرد الفعل، دليلاً على أنهم مجمعون على أن الفعل دليل الوجوب. وقد أجيب عن ذلك بأجوبة: 1 - إن ذلك فعل بياني وليس فعلاً مجرداً (5)، والفعل إذا كان بياناً لواجب   (1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 36 (2) أبو الحسين البصري المعتمد 1/ 381 (3) القاضي عبد الجبار: المغني 17/ 264 (4) الطحاوي في مشكل الآثار بسند فيه ابن لهيعة (وهو ضعيف) وأصل الحديث عند مسلم (الزركشي: الإجابة ص 78) قلت: هو عند الشافعي وأحمد بسياق آخر (انظر كنز العمال 9/ 325). (5) العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 24، الصنعاني: هداية العقول 1/ 467 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فهو يدل على الوجوب. ووجه كونه بياناً أن الله تعالى قال: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} والجنابة، وإن كانت معلومة المعنى لغة إلا أن معرفة المقدار الموجب للغسل من العلاقة الجنسية أمر مبهم، فبُيِّن بالفعل. وعندي في هذا الجواب نظر، لأنه إذا كان قد سبق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الماء من الماء" فقد حصل البيان به، والفعل الزائد مستحب أو خاص حسب ما تقضى به القواعد الأصولية. فلعله - صلى الله عليه وسلم - يكون قد اغتسل استحباباً أو زيادة في التنظف. 2 - وأجيب أيضاً: بأنهم أوجبوه لكونه شرطاً في صحة الصلاة، فيكون مأموراً به، لدخوله تحت الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (1). وليس هذا الجواب بمرضي أيضاً. وقد تقدم القول في دلالة حديث "صلوا كما رأيتموني أصلي". 3 - وأجيب أيضاً أن عائشة لما قالت ذلك في معرض الاحتجاج على ما يوجب الغسل، وفصله مما لا يوجبه، قصدت بالإخبار به الأخبارَ عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يراه واجباً، فوجب تبعاً لذلك. فليس ذلك فعلاً بيانياً، وإنما هو فعل مجرد قام دليل وجوبه في حقه - صلى الله عليه وسلم -، فيجب في حقنا، على قول المساواة الآتي. 4 - وأيضاً: لعلها أخبرتهم بما كانت ترويه من قوله - صلى الله عليه وسلم - (2): "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومسّ الختان الختان، فقد وجب الغسل". فإن أبا موسى الأشعري، لمّا اختلف المهاجرون والأنصار في ذلك، سألها، فروت له قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل". هذه رواية مسلم. وفي الموطأ (3)، قالت: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل". فهذا ما ينبغي أن يعتمد في الجواب عن هذه الشبهة (4).   (1) العضد على ابن الحاجب 2/ 24 (2) رواه مسلم ومالك والترمذي. (3) جامع الأصول 8/ 160 (4) على أن دعوى الإجماع في هذا مردودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 إبطال قول الوجوب قول الوجوب في الفعل المجرد، سواء أكان مجهول الصفة أو معلومها، قول مردود، لا يثبت له أساس. ويغلب على ظني أنه لو أمكن التنقيب لتبين أن من نسب إليهم القول به من الأئمة، براء منه. وخاصة في ما لم يظهر فيه قصد القربة. وقد قال الجويني: "نسبوه -يعني القول بالوجوب- إلى ابن سريج، وهو زلل في النقل عنه. وهو أجلّ قدراً من ذلك" (1). ويكفي في بطلانه عدم الدليل على صحته. ويمكن إبطاله أيضاً بالأدلّة التالية: الأول: أنه يلزمنا على هذا القول تناقض، لأن من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل الشيء من المندوب والمباح في وقت، ثم لا يفعله، أو يفعل ضده، في وقت آخر، فمقتضى قول الوجوب أنه يجب علينا فعل الشيء وضده، أو فعله وتركه. وذلك إما أن يكون في وقت واحد، أو في وقتين مختلفين، فإن كان في وقتين مختلفين فذلك نفي للوجوب، لأن الواجب لا يجوز تركه. وإن كان في وقت واحد لزم التناقض، وهو محال (2). الثاني: أنه يقتضي أن الفعل يجب علينا إن فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مباحاً أو مندوباً. وهذا ضد التأسّي والاتباع المأمور بهما في القرآن (3). وقد حاول المنتصرون لهذا القول أن يردّوا هذا الدليل بمثل ما ردّه به أهل مذهب الندب، ولكن لا يتم لهم ذلك. وقد تقدّم بيانه. الثالث: حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: "إنْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   (1) الزركشي: البحر المحيط 2/ 250 أ. (2) أشار إلى هذا الاستدلال أبو الحسين البصري في المعتمد (1/ 381) والعضد في شرحه لمختصر ابن الحاجب (2/ 84) (3) أبو الخطاب الحنبلي: التمهيد ق 90 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ليدعُ العمل وهو يحبّ أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم". ففي هذا الحديث دليل على أن الفرض لم يكن بنفس فعله، بل بفرض من الله تعالى إذا اقتدوا به فيه (1). ولا يرد هذا الدليل على قول المساواة، لأنه لا يجب علينا مثل فعله -على قول المساواة- إلا في حالة واحدة، وهي أن يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل الفعل على وجه الوجوب خاصة. وليس العمل الذي كان يتركه - صلى الله عليه وسلم - مفروضاً عليه، لأن الواجب لا يترك. فالحديث وارد في المندوبات قطعاً. وشبيه بذلك ما قال الجصاص في رد دعوى الوجوب، فقد احتجّ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم ليلتين في رمضان ثم لم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: "خشيت أن تكتب عليكم" يقول الجصاص: قد صلى النبي بهم ليلتين، وأخبر مع ذلك أنها لم تجب بفعله، فلو كان فعله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب لكان وجب بأول ليلة (2) اهـ. الرابع: ألزم ابن حزم القائلين بالوجوب (3) أن يقولوا بوجوب صوم الأيام التي كان - صلى الله عليه وسلم - يصومها، ووجوب صلاة ما كان يصلي، ووجوب المشي حيث مشى - صلى الله عليه وسلم -. ومثل هذا لا يقول به من الفقهاء أحد.   (1) أبو شامة: المحقق 3 أ، ابن حزم: الإحكام 1/ 430 (2) أصول الجصاص ق 208 أ. (3) الإحكام 1/ 140 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 المطلب السابع قول المساواة ومعناه أن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - واجباً فإنه يدل على وجوب مثله علينا، وما فعله ندباً فمثله مندوب منا، وما فعله على سبيل الإباحة فهو لنا مباح. وسواء كان فِعْله عبادة أو غير عبادة. وقد يعبّر بعض الأصوليين، كما ذكر الأسنوي (1). عن هذا القول بعنوان: (وجوب التأسّي). ولكنه عنوان يجعل هذا القول يلتبس بقول الوجوب الذي سبق ذكره. وأمّا عنوان (المساواة) الذي اخترناه، فهو عنوان معبِّر لا يحصل به التباس. ثم إن كان حكم الفعل بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - معلوماً فالمساواة فيه واضحة، وإن لم يكن معلوماً فإن المساواة فيه هي بحسب ما يترجح لدى المجتهد. فمن رجّح الوجوب في حقه - صلى الله عليه وسلم -، فبمقتضى قول المساواة يكون الحكم في حقنا الوجوب، ومن رجح الندب فالندب، ومن رجح الإباحة فالإباحة. ونحن قد رجّحنا قول من حمل فعله المجهول الصفة على الندب في حقه - صلى الله عليه وسلم - إن ظهر قصد القربة، وعلى الإباحة إن لم يظهر. فعلى قول المساواة يكون الحكم في حقنا كذلك. ويستدل لهذا القول بالأدلة التي سقناها في الفصل الذي دللنا فيه على حجية الأفعال النبوية من حيث الجملة، حيث سقنا الآيات والأحاديث الدالة على ذلك. وذكرنا أن الإجماع يدل عليه أيضاً، فبذلك يثبت أصل التأسّي.   (1) نهاية السول 2/ 55 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ونضيف هنا أمرين لا بد منهما لاثبات قول المساواة: الأول: إن الاتباع والتأسي في الأفعال واجب (1). والثاني: إن الاتباع والتأسي يقتضي المساواة في صورة الفعل وفي حكمه أيضاً. فإذا ثبت الأمران ثبت أنه يجب أن تكون أحكام أفعالنا مساوية لأحكام أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. أما الأول: فإثباته بأدلة، منها: 1 - قوله تعالى: {واتّبِعوه} أمر، والأمر يفيد الوجوب. والقائلون بالندب ادّعوا أن هذا الأمر (اتبعوه) لا يفيد إلا الندب، كما زعم ذلك أبو شامة (2)، قال: الصواب حمله على الندب لا على الوجوب، لأنا لو حملناه على الوجوب لخصصناه بأشياء كثيرة ندبيّة لا تجب علينا وقد فعلها. ولو حملناه على الندب لم يلزمنا مثل ذلك. والجواب على طريقته: إنا لو حملناه على الندب لخصصناه أيضاً بأشياء كثيرة واجبة تستفاد من فعله - صلى الله عليه وسلم -. فالصواب حمل هذا الأمر (اتّبعوه) على ظاهره من وجوب المتابعة، الذي يقتضي المساواة في الأحكام. فلا يخصص بشيء، لأن ما فعله وجوباً نفعله وجوباً ونعتقد وجوبه، وما فعله ندباً نعتقده ندباً في حقنا، وما فعله إباحة نعتقده في حقنا كذلك.   (1) قد يشكل القول بوجوب التأسّي في الفعل المندوب أو المباح، فكيف يكون التأسّي واجباً ولا يكون المتأسى فيه واجباً. وقد وضح الأنصاري شارح مسلم الثبوت مقصود القائلين بذلك حيث يقول: "التأسّي واجب يعني أن مراعاة الصفة واجبة. وهذا كما يقال: العمل على طبق خبر الواحد واجب، مع أن بعض الأخبار يفيد الندب أو الإباحة، يعني أن مراعاة حكم الخبر واجب، فكذا التأسّي بمراعاة الصفة واجب (فواتح الرحموت 2/ 180) (2) المحقق ق 25 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 2 - ومنها آية التأسّي، وقد تقدم إيضاح وجه دلالتها على الوجوب. والقائلون بالندب نَفَوْا دلالتها على الوجوب، لقوله تعالى: {لقد كان لكم} ولم يقل {عليكم} (1). والجواب أن قوله تعالى: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} بدل من (لكم) فيؤول المعنى إلى أنّ: من كان مؤمناً فله برسول الله أسوة حسنة. وفي مفهومه تهديد ووعيد لمن ترك ذلك، والتهديد يدل على الوجوب. وأجاب السمعاني (2) أن الذي لنا هو الأجر، فالأسوة لنا من هذا الوجه لا من غيره. وهو جواب سديد، ويؤيده ما في حديث الإسراء: "فأعطاني خمس صلوات". فهي فرائض، وهي عطاء، أي ما في فعلها من الأجر. وأجاب أبو الحسن البصري (3) بأن قولك: "لنا أن نفعل" معناه: لا حظر علينا في فعله، والواجب ليس بمحظور فعله. وأجاب القاضي أبو يعلى: بأن (لهم) بمعنى (عليهم). كقوله تعالى: {لهم اللعنة} وليس هذا الجواب مرضياً، إذ هو خلاف. الظاهر. 3 - ومنها ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رغب عن سنتي فليس مني". في سياق مساواته - صلى الله عليه وسلم - في أحكام أفعاله. وأما الثاني: وهو اقتضاء التأسيّ والاتباع المساواة في أحكام الأفعال: فإن مفهوم المتابعة والتأسي الموافقة والمساواة، وذلك كما هو معتبر في صورة الفعل، يعتبر أيضاً في حكمه. وقد أنكر القائلون بالندب، والقائلون بالوجوب، اقتضاء التأسّي والمتابعة المساواة في الحكم. وسبق جوابه. فيثبت المطلوب.   (1) المحقق ق 27 أ. (2) القواطع ق 6 - ب. (3) المعتمد 1/ 380 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 من أجل ذلك فقول المساواة هو الذي نختاره. وبه قال الشوكاني (1). وقبله قال به أبو الحسين البصري، والآمدي، والسبكي في جمع الجوامع، وغيرهم. ويتأيّد هذا الذي اخترناه بأن الأمر إذا وجّه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه عز وجل، فإن الأمة تدخل تبعاً فيما كان صالحاً لهم، ما لم ينص على اختصاصه به. وكذلك النهي. بل ربما نزلت الآية بسبب صحابي معين ولكن يوجه الخطاب فيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار وزُلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}. نزلت في أبي اليسَر بن عمرو الأنصاري (2). روى الترمذي أن رجلاً جاء إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها وأنا هذا، فاقض فيَّ ما شئت. فذكَرَ نزول الآية. فالخطاب فيها بحسب الظاهر موجّه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي نازلة في شأن غيره. وما ذاك إلا لهذا الأصل، وهو الاشتراك في الأحكام. وليست هذه القاعدة متفقاً عليها. بل الواقفية يخالفون فيه أيضاً، ويقولون: إن الخطاب الموجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بضمير المفرد، لا يدخل فيه غيره، لأن لفظ الأمر وقع خاصاً، ليس يتناول غيره، فلا يجوز إثباته. يقول الغزالي: "قوله تعالى لنبيّه: {يا أيها النبي اتق الله} وقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} مختصّ به بحكم اللفظ، وإنما يشاركه فيه غيره بدليل، لا بموجب هذا اللفظ، كقوله {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك} وقوله: {فاصدع بما تؤمر} قال: "وقال قوم: ما ثبت في حقه فهو ثابت في حق غيره، إلا ما دل الدليل على أنه خاص به. وهذا فاسد. لأن الأصل اتباع موجَب الخطاب، وما ثبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى: {يا أيها النبي} فيختصّ به، إلا ما دل دليل على الإلحاق. وكذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر: "راجعها" إنما يشمل غيره بدليل آخر، مثل قوله: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" (3) أو ما جرى مجراه. اهـ.   (1) إرشاد الفحول ص 36 (2) تفسير القرطبي 9/ 111 (3) حديث "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" يكثر الأصوليون من ذكره والاحتجاج = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 أقول: ومما جرى مجراه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة" (1). وهذا الكلام من الغزالي حق، ونحن نقول بمقتضاه، ولكن نقول إن الأدلّة قامت على التساوي في الأحكام، بصفتها العامة، وأيضاً في حق أحكام الأفعال خاصّة، وهي ما تقدم في حجية الأفعال النبوية. وأيضاً استعمال أهل اللغة يساعد على ذلك، فإن الرئيس الأعلى إذا قال لقائد الجيش: انزل في محل كذا، وسرْ في وقت كذا، واستعمل من السلاح كذا وكذا، ونحو ذلك، فليس ذلك خاصاً به، بل له ولمن معه. ولو أراد أن يأمره في خاصة نفسه بشيء فإنه ينصّ على الاختصاص (2). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب شرع، ومنه يؤخذ الشرع، إذا أمره الله بالأمر من الشرع فهو له وللأمة التي هي تَبَع له. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أمرني الله بشيء إلا وقد أمرتكم به، ولا نهاني عن شيء إلا وقد نهيتكم عنه". وفي الحديث أيضاً: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذنَ لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة" (3). فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه الإذن بزيارة قبر أمه، بنى على ذلك جواز زيارة سائر المسلمين للقبور. ومما يدل على المساواة أيضاً قول الله تعالى: {يا أيها النبي إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ... إلى قوله:   = به. قال السخاوي "ليس له أصل، قاله العراقي. وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه" (المقاصد الحسنة ص 192) (1) رواه الترمذي وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما (المقاصد الحسنة ص 193) (2) نقل الآمدي هذا الاستدلال عن قوم، ووجهه، ثم رد عليه. وانظر كتابه: الإحكام 2/ 380 - 382 (3) رواه الترمذي (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبيّ إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين} (1). قال ابن تيمية (2): "إنها تدل على هذا الأصل من وجهين: أحدهما: أنه قال {خالصةً لك} ليبيّن اختصاصه بذلك، فعلم أنه حيث سكت عن الاختصاص كان الاشتراك ثابتاً، وإلا فلا معنى لتخصيص هذا الموضع ببيان الاختصاص. والثاني: أن ما أحلّه له من الأزواج والمملوكات أطْلق، وفي الواهبة قيّدها بالخلوص له، فعلم أنه حيث سَكَت عن التقييد فذلك دليل الاشتراك". ويتأيّد أيضاً بما بيّنه الشاطبي (3) من أن الأدلة الجزئية في الشريعة يمكن أخذها كلية إلا ما خصّه الدليل. واستدل على ذلك بأدلة. منها: أن الأصل عموم التشريع، كقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (4) وقوله: {وما أرسلناك إلا كافةً للناس} (5) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت إلى كلّ أحمر وأسود" (6). ومنها: أصل شرعية القياس، إذ لا معنى له إلا جعل الخاصّ الصيغة عامّاً في المعنى. قال وهو معنى متفق عليه. ومنها: قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" (7) وقال: "إني لأَنْسَى أو أُنسَّى لأسُنّ" (8).   (1) سورة الأحزاب: آية 50 (2) الفتاوى الكبرى 4/ 444. (3) الموافقات 3/ 51 - 53 (4) سورة الأعراف: آية 158 (5) سورة سبأ: آية 28 (6) رواه مسلم 5/ 1 (7) تقدم آنفاً اإشارة إلى أن الحديث لا أصل له. (8) رواه مالك (1/ 100) بلاغاً، وانفرد به. انظر الكلام عليه في مقدمة تنوير الحوالك للسيوطي، وتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي للموطأ (1/ 100) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ومنها: مما بيّنه في موضع آخر (1) من أن الشريعة موضوعة في الأصل لمصالح العباد، فأحكامها على العموم لا على الخصوص، إلا ما ثبت فيه الخصوص بالدليل، وأن دليل الاختصاص يذكر في الحكم المختص إعلاماً بأن الشريعة خارجة عن قانون الاختصاص.   (1) الموافقات 3/ 51 - 53 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 المطلب الثامن قول المساواة في العبادات الخاصة قول ابن خلاد المنسوب إليه في كتب الأصوليين أن التأسّي في العبادات واجب، وفي العادات لا يجب بل يستحب، هو قولٌ غير محرر. ولم نطلّع على ما قاله بحروفه لنرد عليه. قال القرافي: ووجه تخصيص الوجوب بالعادات قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" و"صلوا كما رأيتموني أصلي" وظاهر المنطوق الوجوب، لأنه أمر، ومفهومه أن غير المذكور لا يجب (1). وواضح أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ونحوه لا تخصيص فيه حتى يكون له مفهوم. وآية التأسيّ عامة، فيجب العمل بها في العبادات وغيرها. والله أعلم. فائدة مهمة نلحقها بقول المساواة : قال ابن تيمية: "مسائل الأفعال لها ثلاثة أصول: أحدها: أن حكم أمته - صلى الله عليه وسلم - كحكمه في الوجوب والتحريم وتوابعهما، إلا أن يأتي دليل يخالف ذلك. الأصل الثاني: أن نفس فعله يدل على حكمه - صلى الله عليه وسلم - إما حكمٌ معين، أو حكم   (1) شرح تنقيح الفصول ص 127 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 مطلق، وأدنى الدرجات الإباحة ...... فمتى ثبت أن الفعل يدلّ على حكم كذا، وثبت أنا مساوون له في الحكم، ثبت الحكم في حقنا. الأصل الثالث: أن الفعل هل يقتضي حكماً في حقّنا من الوجوب مثلاً وإن لم يكن واجباً عليه - صلى الله عليه وسلم -، كما يجب على المأموم متابعة الإمام في ما لا يجب على الإمام، وعلى الجيش متابعة الإمام في ما لا يجب على الإمام، وعلى الحجيج موافقة الإمام في المقام بالمعرَّف إلى إفاضة الإمام؟ هذا ممكن أيضاً. بل من الممكن أيضاً أن يكون سبب الوجوب في حقه معدوماً في حقنا، ويجب علينا لأجل المتابعة ونحوها، كما يجب علينا الرّمَل والاضطباع مع عدم السبب الوجب له في حق الأولين، أو سبب الاستحباب منتفياً في حقنا. وقد نبه القرآن على هذا بقوله: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} فصار واجباً عليهم لموافقته، ولو لم يكن قد تعيّن الغزو في ذلك الوقت إلى ذلك الوجه" (1). اهـ كلامه. فابن تيمية يرى أنه يخرج عن هذا الأصل -وهو الاشتراك في الحكم- ثلاثة أمور: الأول: ما دل عليه دليل، وهو الخصائص. وقد تقدم القول فيها. الثاني: ما يجب علينا، وهو عليه - صلى الله عليه وسلم - غير واجب، وإنما وجب علينا لأجل المتابعة. كالخروج معه في الغزو. ونحن نرى أن هذا النوع لا ينبغي أن يستثنى، لأن المتابعة له - صلى الله عليه وسلم - إنما وقع من جهة كونه إماماً، لا من جهة الرسالة، بدليل أنها تجب مع كل إمام في الغزو، ومع كل إمام في الصلاة. وإنما وجب من تلك المتابعة ما وجب، مؤقتاً حال حياته وتوليه السلطة. لا بعد ذلك. أما أن يجب ذلك في شيء من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - من حيث هورسول، فلا نجد له مثالاً، وهو -أعني ابن تيمية- لم يمثل له.   (1) المسودة في أصول الفقه ص 74، ص 192 (مكرر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الثالث: وقد ذكر في بقية كلامه: ما يستحب لنا، ولم يكن بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحبّاً. وقد مثل لها بأن أحمد بن حنبل "تسرّى لأجل المتابعة، واحتجم ثلاثاً لأجل المتابعة، وقال: ما بلغني حديث إلاّ عملت به، حتى أعطى الحجام ديناراً". فإن أصل هذه الأفعال من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباحة، وقد فعلها أحمد على سبيل الاستحباب. ونحن قد سبق أن بيّنّا الرأي في مثل هذه الأفعال في قول الندب، فليرجع إليه. أما ما ذكره ابن تيمية من أن الحكم في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكون معلّقاً بسبب وهو منا مطلق، فسنذكره في مبحث السبب من الفصل الثامن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الفصل السادس الأحكام المستفادة من الأفعال 1 - الوجوب. 2 - الندب. 3 - الإباحة. 4 - الكراهة. 5 - التحريم. 6 - الأحكام الوضعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الأحكام المستَفادة مِنَ الأفعَال مما تقدم في الفصول السابقة من هذا الباب، وعلى أساس القول المختار، وهو قول المساواة في الفعل المجرّد، نلخّص الأحكام التي تستفاد من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فيها من بحث، في مطالب: المطلب الأول الوجوب يستفاد الوجوب من الفعل النبوي من مواضع: أ- أن يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - قد صدر عنه بياناً لآية دالة على الوجوب في حقّه وحقّنا. ب- أن يكون امتثالاً لآية دالّة على الوجوب كذلك. جـ- أن يكون مجرّداً، وقد علمنا بدلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله واجباً. ويلاحظ أن الواجب إما أن يكون فعلاً متكاملاً، يجب إيجاده من أصله كصلاة الظهر مثلاً. وإما أن يكون خارجاً عن العبادة تتوقف صحتها عليه، وهو مقدور للمكلف، وهو الشرط، فيجب من حيث إن الواجب لا يتمّ إلا به، كالوضوء للصلاة. ونذكر أمثلته في بحث الشرط، وسيأتي. وإما أن يكون جزءاً من العبادة، وهو قسمان: 1 - الركن، وهو جزء الماهية الذي لا تتحقق إلا بوجوده، ولا يسقط عمداً ولا سهواً، ولا يجبَر، ومثاله الركوع، وهو ركن في الصلاة، والطواف بالبيت، ركن في الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 2 - الواجب الذي ليس بركن، وهو ما يجوز سقوطه سهواً، ويجبر، كالتشهّد الأول عند الحنابلة، يجبر في الصلاة بسجود السهو، وفي الحجّ بدم، كما في ترك الإحرام من الميقات. ثم قد يكون الجزء واجباً في العبادة المسنونة. وكونه واجباً فيها يعني توقُّف صحتها عليه، كالركوع في صلاة النافلة، لا من حيث إنه يعاقب على تركه، إذ يجوز ترك النافلة أصلاً، فهو بمعنى الشرط إلا أنه جزء من العبادة. ولا يدل الفعل على الركنيّة بمجرده، بل على مجرد الوجوب. وكأمثلة على استفادة الوجوب من الفعل نذكر مسائل: 1 - منها: صلاة العيد: قال الحنابلة وبعض الشافعية: هي فرض على الكفاية. وقال أبو حنيفة: واجبة على الأعيان. وقال مالك وأكثر أصحاب الشافعي: سنة مؤكدة غير واجبة. نقل ذلك ابن قدامة (1)، ثم قال: لنا على وجوبها في الجملة أمر الله تعالى بها بقوله: {فصلّ لربك وانحر} والأمر يقتضي الوجوب، ومداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعلها وهذا دليل الوجوب. واحتجّ الحنفية لوجوبها بالمواظبة عليها (2). 2 - ومنها: مسألة السعي في الحج: ففي السعي ثلاثة أوجه، وهي ثلاث روايات عن أحمد (3): الأول: أنه ركن لا يتمّ الحجّ إلا به. وهو قول عائشة وعروة ومالك والشافعي، وغلّط النووي من نَسَبَ إلى الشافعي القول بأنه واجب غير ركن. قالت عائشة: "طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاف المسلمون -تعني بين الصفا والمروة-   (1) المغني 2/ 368 (2) فواتح الرحموت 2/ 180 (3) انظر ابن قدامة: المغني 3/ 388، 389، النووي: المجموع 8/ 86، 87 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حجَّ من لم يطف بين الصفا والمروة ولحديث حبيبة بنت أبي تَجْرَاةٍ مرفوعاً "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" (1). الثاني: أنه واجب. وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والقاضي أبي يعلى الحنبلي. نقل عن أبي حنيفة أنه يجبر بدم. ونقل النووي أنه الأصح عن أحمد. الثالث: أنه سنة لا يجب بتركه دم. روى عن ابن عباس وابن مسعود وأبيّ ابن كعب وأنس وابن الزبير. فأما القول بأنه ركن فلا يصح استفادته من الفعل، وقد نَقَل النووي عن ابن المنذر تعليق القول بركنيّته على ثبوت حديث حبيبة، وإلا فيكون تطوعاً. ورجّح ابن قدامة أنه واجب. وقال: لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب، لا على كونه لا يتم الحجّ إلا به. 3 - ومنها: مسألة ركعتي الطواف: في ركعتي الطواف خلاف هل هما واجب أو تطوّع. وقيل أن الطواف لا يصحّ إلا بهما فهما على هذا في معنى الرّكن (2). ومن أسباب الخلاف فيهما الخلاف في دلالة الفعل. وقال السبكي في قواعده: "في ركعتي الطواف قولان مشهوران، أصحّهما أنها سنة، والثاني أنها واجبة، وهما راجعان إلى دلالة الفعل المجرّد. فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" فلا دلالة له على وجوب شيء خاص منها". اهـ (3). ومما استُدِلّ على وجوبه بالأفعال مما ذكره السبكي في القواعد: الموالاة في الوضوء، وفي الغسل والتيمم، والموالاة بين أشواط الطواف، والموالاة بين الطواف   (1) قال النووي في المجموع (8/ 73) حديث حبيبة ليس بقوي، في إسناده ضعف. ونقل أن ابن عبد البر قال: فيه اضطراب، وقال: قد رواه الشافعي وأحمد والدارقطني والبيهقي. ثم قال النووي (8/ 87) رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن من حديث صفية بنت شيبة مرفوعاً. (2) انظر المجموع 8/ 60، 61 (3) ق 116 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 والسعي، والموالاة بين الخطبة وصلاة الجمعة، والموالاة بين صلاتي الجمع في وقت الأولى أو وقت الثانية، والقيام في خطبة الجمعة مع القدرة، والفصل بين الخطبتين بجلسة، وقراءة شيء من القرآن في الخطبة، والترتيب بين أركانها، والجمع بين الوقوف بالنهار والليل بعرفة، والمبيت في المزدلفة. وأكثر هذه المسائل يستدل فيها بالفعل المجرد خاصة، وفي أكثرها قولان بالوجوب والاستحباب، والاستحباب أرجح إلا فيما ورد فيه دليل غير الفعل يدل على الوجوب. ويحتمل أن تكون هذه الأفعال التي ذكرها من أفراد الفعل البياني، لا من الأفعال المجردة. ونحن نرجح أن تكون من الأفعال المجرّدة كما تقدم بحثه في مبحث الفعل البياني. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 المطلب الثاني الندب ويستفاد من مواضع: أ- أن يكون قد فعله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الوجوب، وعلم أن الوجوب خاص به. ب- أن يكون قد فعله على سبيل البيان لأمر دالٌّ على الندب. جـ- أن يكون قد فعله على سبيل الامتثال لأمر دال على الندب. د- أن يكون قد فعلَ فعلاً مجرداً دل الدليل على أنه فعله ندباً. هـ- أن يكون قد فعل فعلاً مجرداً، ولم يعلم حكمه بالنسبة إليه، ولكن يظهر فيه قصد القربة، بأن يكون مما فعله في العبادة، وكان على خلاف مقتضى الجبلة، أو ظهر فيه ذلك بقرينة أخرى. مسألة تابعة للندب: دلالة الفعل على الأفضلية : إذا كانت العبادة أو غيرها من الأفعال الجائزة أو المندوبة أو الواجبة يمكن عملها على صور مختلفة، وفَعَلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة أو مرات كثيرة، فهل يحمل فعله على أنه صادر على أفضل الوجوه لبيان الكمال فيها، أو يحمل على الأقلّ لبيان المجزئ؟. قال ابن تيمية في دلالة الفعل النبويّ على الأفضلية: هي مسألة كثيرة المنفعة، وذلك في صفات العبادات وفي مقاديرها وفي العادات، وفي الأخلاق والأحوال. اهـ (1). فمثال ما لم يكثر فعله: إحرامه من الميقات، مع أنه يجوز أن يحرم من المدينة ولا خلاف في جواز الإحرام قبل الميقات (2)، فهل يقال: إحرام الحاجّ والمعتمر من   (1) المسودة ص 74 (2) ابن قدامة: المغني 3/ 264 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 منزله أفضل، لكثرة العمل، أو من الميقات لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم منه؟. قال الحنابلة بأفضليّة الإحرام من الميقات استناداً إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو حنيفة ومالك الإحرام من البلد أفضل. وفعَلَه بعض الصحابة. وعن الشافعي قولان كالمذهبين. ومثله الأضحية: فقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحّى بكبشين أقرنين أملحين ذَبَحهما بيده. استفاد منه بعض الفقهاء أفضليةَ الذكور في الأضاحي، وأن تكون باللون المذكور في الحديث. وعن مالك: الأفضل أن تكون من الغنم، بخلاف الهدي فالأفضل عنده الإبل. والحنابلة فضّلوا الإبل، أخذاً ببعض الأحاديث القولية (1). وقد ادُّعِيَت الأفضلية بناء على فعله - صلى الله عليه وسلم - في الركوب في الحج، وفي الوقوف بعرفة، والاقتصار في الضحى على ثمان، وغير ذلك. ومما واظب عليه - صلى الله عليه وسلم - قصر الصلاة في السفر، وجعله بعض الفقهاء واجباً وبذلك يخرج عن مسألتنا. أما القائلون بأن القصر جائز ويجوز الإتمام، فمنهم من قال: القصر أفضل، أخذاً بالدليل الفعلي، وهو قول أحمد ومالك، وأحد قولي الشافعي. وقوله الآخر: الإتمام أفضل لكونه أكثر عملاً وعدداً وهو الأصل (2). والاستدلال بالفعل على الأفضلية، في الحالة الثانية، وهي المواظبة، أقوى وأتمّ. ويرى النووي التفريق بين النوعين، فما وقع مرةً واحدة فإنه يقع على أكمل الوجوه وأتمّها، وأما ما يتكرر فإنه يفعل أحياناً على القدر المجزئ لبيان الجواز، والأكثر على الأكمل، لما صنع - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء مرة مرة، وثلاثاً ثلاثاً، أكثر عمله الثلاث. ونحن نميل إلى الأخذ بالاتجاه الناظر إلى طبيعة العمل، فما كان أكثر عملاً   (1) ابن قدامة: المغني 2/ 621 (2) المغني 2/ 270 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فهو أفضل (1)، فعلى هذا: الإحرام من الأبعد أفضل، والتضحية بالبقر أفضل من الغنم، وبالإبل أفضل، وكلما كان أكثر فضلاً فهو خير، ما لم يخرج إلى حيّز التشديد والإرهاق. وكذلك نرى أن إتمام الصلاة في السفر أفضل، على القول بأنه جائز. وإنما يكون هذا في حق من لا يقتدى به، أما من يُقْتَدى به فينبغي أن يعمد إلى التيسير والتسهيل لئلا يشقّ على المقتدين، ويكون في حقّه من هذه الناحية أفضل، ويحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - بالاجتزاء من بعض الأعمال بالقليل، على هذا المحمل، أو غيره من المحامل. والله أعلم وأحكم. تمايز المندوبات في الدرجة، ودلالة الأفعال على ذلك : من المعلوم أن المندوبات تتمايز في القوة، فبعضها آكد من بعض، وقد يتبين التأكّد بالقول، وهو كثير. وقد يتبيّن بالفعل، وذلك على أنواع فمنها: أولاً: أن يحافظ - صلى الله عليه وسلم - على المندوب حتى مع قيام الأعذار، وذلك كركعتي الفجر والوتر، فقد قضى ركعتي الفجر في السفر لما نام عنهما، و"لم يكن على شيء من النوافل أشدّ تعاهُداً منه على ركعتي الفجر" (2) وكذلك حافظ على الوتر، حتى إنه أوتر على بعيره (3)، فإن ذلك يدلّ من جهة تركه - صلى الله عليه وسلم - لما عداها من الرواتب وإفرادها بالمحافظة عليها، على أنها آكد من غيرها. وقد قيل بوجوبها عليه - صلى الله عليه وسلم - خاصة، ولا يثبت ذلك. ثانياً: أن يظهر - صلى الله عليه وسلم - الاعتناء بالمندوب والاحتفال به، كما في صلاة العيد عند من يقول بندبيّتها، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، فإنّ فعلها في جماعة، ودعوة الناس لها، مظهران لتأكّدها، حتى لقد قال الحنابلة بوجوب صلاة العيد على الكفاية، وقال الحنفية بوجوبها على الأعيان (4).   (1) هذه إحدى القواعد الفقهية المشهورة، ذكرها السيوطي بهذه الصيغة "ما كان أكثر فعلاً، كان أكثر فضلاً" (الأشباه والنظائر ص 143). (2) متفق عليه (نيل الأوطار 3/ 21). (3) رواه الجماعة (نيل الأوطار 3/ 32). (4) المغني لابن قدامة 2/ 367 والقول بأنها سنة مؤكدة هو قول الشافعية والمالكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 المطلب الثالث الإباحة وتستفاد من مواضع: 1 - ما فعله - صلى الله عليه وسلم - من الأمور الجبلية الاختيارية. 2 - ما فعله من الأمور العادية والدنيوية. 3 - ما فعله بياناً لآية دالّة على الإباحة. 4 - ما فعله امتثالاً لأية دالّة على الإباحة. 5 - ما فعله وعلمناه قد فعله على سبيل الإباحة لقرينة تدل على ذلك. 6 - ما فعله وجهلنا حكمه وليس مما ظهر فيه قصد القربة. نظرة في استفادة الإباحة من الأفعال النبوية : إن الإباحة تؤخذ من الفعل النبوي من جهة الفعل خاصّة دون جهة الترك، فبالفعل النبوي يتبين أن لا حرج في فعل ذلك الأمر، وأما ارتفاع الحرج عن الترك فيستفاد من عدم وجود دليل طالب، أو من جهة وقوع الترك أيضاً. ومبنى الدلالة الأولى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن ما يفعله ليس معصية، وهو معصوم من المعصية، وعلى القول بعدم عصمته في حال أو عن نوع منها، فإنه يعاتب على ذلك ولا يُقَرّ عليه فيما انبنى عليه تشريع. وقد تقدم ذلك في مواضع. غير أنه لا بد من معرفة وجه تلك الإباحة هل هي إباحة عقلية أو إباحة شرعية. وللتفريق بينهما نقول: إن المعتزلة يرون أن الأشياء قبل ورود الشرع تحت حكم العقل، ثم يفصل العقل بأن الفعل واجب إذا كان في تركه مفسدة وحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 إذا كان في فعله مفسدة، وإن كان في تركه مصلحة فمكروه، أو كان في فعله مصلحة فمندوب أو لم يشتمل على مصلحة أو مفسدة فمباح (1). وأما عند غير المعتزلة فلا حكم قبل مجيء الشريعة أصلاً. وأما بعد مجيء الشريعة، فالإباحة العقلية عند المعتزلة، هي رفع الحرج عن الفعل والترك، مستمرة. فليست الإباحة عندهم حكماً شرعياً بل عقلي. وأما عند غيرهم، فالإباحة شرعية، وهي الخطاب الشرعي الدال على التخيير بين فعل الشيء وتركه. وأقر الآمدي بأن الإباحة بعد مجيء الشريعة قسمان: إباحة شرعية، وإباحة عقلية، وهي بقاء الشيء دون حكم يقتضي المنع منه أو إيجابه (2). وصرح بذلك الغزالي أيضاً (3) ولقولهما وجه بيّن، وهو معنى ما قدمناه في مرتبة العفو. والأصل في الأشياء بعد مجيء الشرع الإباحة في ما ينفع، والمنع في ما يضر. وهذا ما قرره الرازي، واتبعه فيه كثير من الأصوليين.   (1) جمع الجوامع بشرح المحلي 1/ 62 (2) الإحكام 1/ 176 (3) شفاء الغليل ص 633 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ويقرر ابن تيمية أصلاً آخر، وهو أن الأصل في العبادة بعد مجيء الشرع المنع حتى يرد دليل شرعيتها، وجواز الشيء على سبيل العادة لا يعني أنه يجوز على سبيل العبادة. وأما العاديّات من العقود وغيرها فالأصل بها عدم المنع ما لم يرد دليل المنع. قرّر ذلك في مواضع من كتبه ونسبه إلى فقهاء الحديث أحمد وغيره (1). الإباحة المستفادة من الفعل النبوي : إن الإباحة التي يدل عليها الفعل النبوي. إن كان بياناً أو امتثالاً لدالٍّ عليها، فهي إباحة شرعية. وأما ما فعله من المباحات الجبلية والعادية، وما حكمنا بإباحته من الأفعال المجردة، فإن إباحته عقلية، أو -كما قرر الغزالي- لا حكم فيه من جهة الشرع، وذلك أن غاية ما في الفعل الدلالة على أن ليس في الشرع ما يدل على المنع منه. فائدة استفادة الإباحة من الأفعال النبوية المجردة : قد يقال: إن الإباحة هي الأصل في المعاملات والأمور الجبلية والدنيوية والعادية ونحوها. فما فائدة الفعل النبويّ في ذلك المجال؟. فالجواب أن فائدته من جهات: الأولى: أن الإباحة المستفادة من الفعل أقوى من المستفادة من العمومات الواسعة، فأكله - صلى الله عليه وسلم - من لحم العنبر الميت أدل على إباحته من عموم الآية {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} بل ومن عموم الآية: {أحلَّ لكم صيد البحر وطعامه} وهي، من باب أولى، أقوى في الدلالة على إباحة الفعل المعيّن من الإباحة العقلية، التي يقول بها المعتزلة. الثانية: نفي احتمال أن تكون الصورة مشمولة بنص مانع أو قياس مانع،   (1) شفاء الغليل ص 633 القاهرة 2/ 326 ابن القيم: إعلام الموقعين 2/ 326 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 كما في قصة أكله - صلى الله عليه وسلم - من لحم العنبر الميت. وقصة أكله - صلى الله عليه وسلم - من لحم شاة تصُدّق به على بريرة فأهدت إليه منها. ومثل تشبيكه - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه في المسجد بعد الصلاة، كما في حديث ذي اليدين، يدل على إباحته وعدم القياس على ما ورد من نهيه - صلى الله عليه وسلم - القادم إلى المسجد عن التشبيك (1). ومثل خروجه من المسجد دون تيمم، عندما تذكر أنه جنب، وقد أوجب بعض الفقهاء التيمّم في مثل هذه الحال (2). ومثل إخراجه - صلى الله عليه وسلم - رأسه إلى عائشة لترجّله وهي حائض وهو معتكف في المسجد. فقد تبين به أنواع من المباحات. ومن هنا كثر نقل الصحابة للأفعال التي من هذا النوع لبيان الإباحة حيث يُظَنّ المنع، كما في أحاديث مسح الخفين، كثر نقلها لما في الآية من الأمر بالغسل، بل كثيراً ما كان ظن التحريم لأمر من الأمور من بعض الناس، حافزاً للصحابة على رواية الأفعال لإثبات الإباحة. وبهذا السبب ظهر جزء كبير من السنن. الثالثة: إثبات الجواز في ما الأصل فيه المنع. وهي قاعدة مهمة جداً في باب العبادات، فإن الأصل فيها المنع كما تقدم، فلا يعبد الله إلا بما شرع، وحيث فعل - صلى الله عليه وسلم - العبادة الخاصة علم أنها جائزة من أصلها، ولو فعل العبادة في حال معينة أفاد جواز فعلها في تلك الحال، كالصلاة على الميت الغائب، وفعل صلاة الفرض على الراحلة عند المطر إذا كانت الأرض مبتلّة، وفعل النافلة على الراحلة، وأنه يتجه حيثما توجهت ركابه.   (1) انظر فتح الباري 1/ 566 (2) ابن حجر: فتح الباري 1/ 383 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 المطلب الرابع الكراهة الفعل لا يدل على الكراهة، وقد يدل الترك عليها كما يأتي إن شاء الله. المطلب الخامس التحريم لا يدل الفعل (1) على التحريم بطريق التأسي. ولكن يدل على ذلك الفعل المتعدي، أحياناً كما تقدم، كالعقوبة بالحدّ أو التعزير، تدل على تحريم ما كان سبباً لها. وقد يدل نزعه - صلى الله عليه وسلم - للشيء وكذلك كسره وتحطيمه ونحو ذلك، على تحريم لبسه واتخاذه. كما في حديث عقبة بن عامر: "أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَروج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف، ثم نزعه نزعاً شديداً كالكاره له، ثم قال: "لا ينبغي هذا للمتقين" (2). و"كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه (3) " ومثله ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ذهب ثم نَزَعه ورمى به" (4). و"رأى رجلًا يطوف بالكعبة بخزامة في أنفه فقطعها" (5). وفي رواية "رأى في المطاف رجلين بزمام بينهما فقطعه" (6).   (1) أما الترك فقد يدل على التحريم. وسيأتي بحث ذلك في فصل الترك من الباب الثاني. (2) البخاري ومسلم (جامع الأصول 11/ 281) والفروج: القباء. (3) البخاري 10/ 385 (4) انظر صحيح مسلم 14/ 66 والبخاري 10/ 315 (5) البخاري 11/ 586 (6) البخاري 3/ 482 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وإنما يدل على ذلك إذا عرف أنه صنع ما صنع بقصد بيان الشرع أو الامتثال له. فإنَّ نزْع الثوب نزعاً معتاداً لا دلالة فيه، وكذا لو كسر شيئاً تالفاً لا يحتاج إليه. وإن لم يعلم أنه قصد البيان أو الامتثال فلا يدل أيضاً على التحريم. ومثاله ما ورد في الصحيح أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فرّق ما جاءه من مال البحرين حتى لم يبق منه شيء. فقال ابن حجر: "في الحديث بيان أن الإمام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في مستحقيه ولا يؤخره" (1). ونحن لا نرى دلالة الحديث على تحريم التأخير ولا كراهته، لاحتمال أنه لم يقصد امتثال حكم خاص بذلك، بل لكثرة المحتاجين، أو لوجود مال غيره مخزون لديه، ينفق منه عند الحاجة. فللإمام إذن أن يقدّم أو يؤخر بحسب المصلحة. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتبس بعض الأموال لنوائبه.   (1) فتح الباري 1/ 517 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 المطلب السادس دلالة الفعل النبوي على الأحكام الوضعية ما تقدم قبل هذا كله راجع إلى دلالة الأفعال النبوية على الأحكام التكليفية. أما دلالتها على الأحكام الوضعية فهي دلالة خفية، وقلما يمكن بيانها بالفعل دون قول يوضح ارتباط الحكم بسببه ونحوه. فأما مع القول فهو في الشريعة كثير. فمن ذلك: 1 - السببية: مثال بيان السببية بالفعل دون القول أنه - صلى الله عليه وسلم -: "قام فتوضأ"، "وسها فسجد". 2 - الشرطية: من بيان الشرطية بالفعل وحده، في شرط الوجوب، بأن يترك الفعل في حال ويفعل في حال آخر، فيعلم أن ذلك الحال شرط. ومثال ما روي عن الزهريّ عن أبي سلمة قال: "قلت لأبي هريرة: على كم تجب الجمعة من رجل؟ قال: لما بلغ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين جمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" استدل بذلك أن شرط وجوب الجمعة وجود خمسين رجلاً" (1). ومن أمثلته أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقيم الجمعة في المدينة، ولا يقيمها في أسفاره، فعلم بذلك أن شرط وجوبها الإقامة.   (1) اجتماع الخمسين شرط وجوب الجمعة على رواية في مذهب أحمد (المغني 2/ 328). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وقد يتبيّن بالفعل عدم الشرطية، وهو كثير في الشريعة. وذلك أن يفعل الشيء ويجتزئ به مع انعدام ما يظن شرطاً. كفعله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الجمعة قبل الزوال، فيعلم بذلك أن الزوال ليس شرطاً (1). وكإجرائه عقد البيع دون إشهاد، فيعلم أن الإشهاد ليس شرطاً لصحة البيع. وقد استفاد بعض العلماء الشرطية من الفعل الذي لا قول معه، كما في تقدم الطواف لصحة السعي، قال النووي: "قال أصحابنا: يشترط كون السعي بعد طواف صحيح سواء أكان بعد طواف القدوم أو طواف الزيارة ... واستدل الماوردي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سعى بعد الطواف. مع أنه قد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتأخذوا عني مناسككم" وبإجماع المسلمين. قال: وشذ الجويني فقال في كتابه "الأساليب": قال بعض أئمتنا: لو قدّم السعي على الطواف اعتدّ بالسعي. قال النووي: وهذا النقل غلط ظاهر، مردود بالأحاديث الصحيحة وبالإجماع الذي قدمناه عن نقل الماوردي والله أعلم" (2). أقول: وقد نقل عدم الشرطية في ذلك عن عطاء، ونقل عن أحمد بن حنبل: يجزئه إن سعى قبل الطواف ناسياً. واختار صاحب المغني (3) إنه شرط، واحتج بالفعل النبوي مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتأخذوا عني مناسككم". فإن ثبت الإجماع فهو حجة. وإلا فإن الحديث لا يدل على الوجوب كما تقدم. والشرط هنا من الواجب. ولهذا فإن القول بالاشتراط في هذه المسألة خارج عن القاعدة الأصولية. والله أعلم. ومثله قول من قال باشتراط جعل البيت عن يسارك في الطواف: يقول النووي: الترتيب عندنا شرط لصحة الطواف بأن يجعل البيت عن ويطوف عن يمينه تلقاء وجهه. فإن عكسه لم يصح، وبه قال مالك وأحمد   (1) في حديث سلمة عند أبي داود: كنا نصلي الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان فيء. (2) المجموع 8/ 81 (3) ابن قدامة: المغني 3/ 390 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وجمهور العلماء. وقال أبو حنيفة يعيده إن كان بمكة، فإن رجع إلى وطنه ولم يعده لزمه دم وأجزأه طوافه (1). والحجة لوجوبه حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قبل الحجر الأسود طاف على يمينه. مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" وبهذا احتج الشيرازي (2). وأما ابن حزم فلم يستدل بالفعل في هذه المسألة، وإنما رأى (3) إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمرهم بالخبب، فلا بد أنه أمرهم من أين يبتدئون وكيف يصنعون فالوجوب عنده بالقول المنقول بطريق اللزوم. والأولى القول بالوجوب. ومأخذه عندي أن فعله - صلى الله عليه وسلم - بيان لآية الأمر بالطواف. فمن هنا وجبت الكيفية، والعدد أيضاً. 3 - المانعية: وأما بيان المانعيّة بالفعل مع القول فهو كثير، ومنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّ هدية الصيد لما كان محرماً. وقال للمهدي: "إنّا لم نردَّه عليك إلاّ أنّا حُرُم" (4). وأما بالفعل دون قول، فإن كان الفعل ناهياً، فكثير، كما في حديث ابن عباس قي تحويل النبي - صلى الله عليه وسلم - له من موقفه عن يسار الإمام إلى يمينه. وأما الفعل الذي لا نهي فيه، فيرد قليلاً. وذلك كصلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه جالساً، يدل على أن المرض يمنع وجوب القيام. وقد يدل الفعل على عدم المانعية، وذلك أن يفعل العبادة أو العقد مع التلبس بما يظن مانعاً من الصحة، فيعلم بذلك أنه ليس مانعاً. وهو كثير. ومنه عُلِم أنّ العمل اليسير في الصلاة لا يبطلها، كما صنع - صلى الله عليه وسلم - إذ فتح الباب لعائشة وهو   (1) المجموع 8/ 67 (2) المجموع 8/ 34 (3) المحلى 7/ 97 (4) رواه البخاري ومسلم ومالك (جامع الأصول 3/ 419). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 في الصلاة (1)، وحمل أمامة ابنة ابنته زينب. فكان إذا قام رفعها وإذا ركع وضعها وهو في الصلاة. ومنه علم أيضاً أن الكلام اليسير في شأن الصلاة سهواً لا يبطلها، صنع - صلى الله عليه وسلم - ذلك إذ تكلّم سهواً، بعد أن سلم من نقص، كما في حديث ذي اليدين. ومنه علم أيضاً أن السفر لا يمنع صحة الصوم، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يصوم أحياناً في السفر (2). وكذلك في المنع من الوجوب. فقد أقاد النبي - صلى الله عليه وسلم - يهودياً من امرأة قتلها بأحجار (3)، فعلم أنه لا يمنع وجوب القصاص كون القاتل يهودياً، ولا كون القاتل رجلاً والمقتول امرأة، ولا كون آلة القتل مثقلاً غير محدد. 4 - الرخصة والعزيمة: أما الرخص فبيانها بالفعل الذي معه قول، كثير، كنّيته - صلى الله عليه وسلم - صوم النفل بالنهار، والمسح على الخفين. قال - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة حينما أراد أن ينزع خفيه: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين". فمسح عليهما. وكذلك بيانها بالفعل الذي لا قول معه كثير، ووجه كثرتها هنا أنها على خلاف الأصل، فكان ذلك كافياً في بيان أنها رخص، ومثاله جمعه - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين في السفر، وصلاته في مرضه جالساً، وتطوعه على الدابة، وتوجهه عليها إلى غير القبلة، والاستجمار، واستدبار القبلة عند قضاء الحاجة في البنيان. 5 - الصحة والفساد: إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة على وجه ما فإنه يدل على صحة عملها على مثل ذلك الوجه. ولكن لا يدل على فسادها إذا عملت على وجه آخر، ما لم يكن دليل   (1) روى القصة أبو داود والترمذي والنسائي (جامع الأصول 6/ 329) (2) رواه البخاري ومسلم (ابن دقيق العيد: شرح العمدة 2/ 18) (3) رواه الجماعة (نيل الأوطار 7/ 18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 على أن ذلك الوجه الذي عملها عليه - صلى الله عليه وسلم - بعينه واجب. وكذلك في العقود ونحوها، فما فعله منها دل على صحته وأنه موافق للشرع ومستكمل لجميع أركانه وشروطه، ومنتفية عنه الموانع. ومن هذا الباب مسألة القرعة، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها سافر بها معه (1). وأيضاً أقرع بين أعْبُدٍ ستة أعتقهم رجل عن دُبُر لم يكن له مال غيرهم فمات. فأقرع بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعتق بالقرعة اثنين، وأرَقّ أربعة (2). يدل هذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - على أن القرعة طريق صحيح لتعيين الحقوق إذا تساوت ولم يكن للترجيح طريق آخر. وللفقهاء تفصيل في تمييز ما تجري فيه القرعة مما لا تجري فيه (3). ومن هذا أيضاً اكتفاؤه - صلى الله عليه وسلم - عن القول في قبول الهبة بالقبض، وفي تصرفه بالإذن العرفي عن الإذن القولي، كما في مبايعة نفسه عن عثمان، وإدخاله أهل الخندق إلى طعام أبي طلحة، وأيضاً إلى طعام جابر. ونحو ذلك. كل ذلك يدل على الصحة في مثله من التصرف (4). ومن هذه الجهة، وهي جهة دلالة الفعل على الصحة، يمكن استنباط أن شيئاً معيناً ليس ركناً، أو أنه ليس شرطاً، كما تقدم.   (1) مسلم 17/ 103 ورواه البخاري. (2) رواه مسلم 11/ 140 ورواه أبو داود والترمذي والنسائي. (3) انظر: الفروق للقرافي 4/ 113 (4) يراجع: ابن تيمية: القواعد النورانية ص 114 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الفصل السابع صفة الدلالة الفعليّة الدلالة وأنواعها 1 - طبيعة الدلالة الفعلية. 2 - وجه انسحاب حكم فعله - صلى الله عليه وسلم - على أفعال الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 صفَة الدلالة الفعليَّة تمهيد الدلالة وَأنواعهَا الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. والأول هو الدالّ، والثاني هو المدلول. والبحث في الدلالة من جهتين: جهة الارتباط والتلازم بين الدالّ والمدلول والثانية جهة الدالّ. أولاً- جهة الارتباط بين الدالّ والمدلول: الرابطة بين الدال والمدلول على أنواع، لأنها تكون عقلية، وطبيعية، وعادية، ووضعية. أ- فالعقليّة، كدلالة وجود الشيء على عدم نقيضه، ودلالة الأثر على أن له مؤثّراً. ب- والطبيعيّة أن يكون الترابط بينهما بسبب الطبع والخلق، ومثاله دلالة الدخان على النار، ودلالة الصوت ذي الصفة الخاصة الناشئ من النقر، على أن المضروب نحاس، أو حديد، ودلالة الأعراض على الأمراض عند الأطباء، ودلالة الارتجاف أو قول (إح) على إصابة صاحبه بشدة البرد. جـ- وأما العادية، فكأنْ تكون جرت العادة أن يقع أمران معينان متحدين في الوقت أو مع سبق أحدهما للآخر، فإن علم وقوع أحدهما دل على وقوع الآخر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ومثاله الاستدلال بوجود أحد الزوجين في بلد على وجود الآخر فيه، وبالولادة على السرور بها، وبالموت على الدفن، وعكسه، وعلى التعزية. د- وأما الوضعية فبأن يجعل أحدٌ أو طائفة من الناس، شيئاً ليدل على شيء، كالإشارات الضوئية التي توضع لتنبيه سائقي السيارات أو السفن أو الطائرات، وكدلالة الخط والعقد والإشارة، على ما أريد أن تدل عليه. وكالألفاظ المستعملة في اللغة، وضعت لتدل على معاني تعرف من كتب اللغة. ثانياً: جهة الدال: الدال إما أن يكون لفظاً، أو فعلاً، أو صفة، أو شيئاً مادّياً. وغرضنا يتعلق بالدليل إذا كان فعلاً. ولكن نقدم تقسيم المنطقيين للدلالة اللفظية، ليتبيّن حكم الدلالة الفعلية إذا قورنت بها. ... الدلالة اللفظية : الألفاظ الصادرة تختلف دلالاتها، فقد تكون عقلية كدلالة الكلام على متكلم، وطبيعية، كقول (آه) على شدة الألم، وعادية كدلالة قولهم (كل عام وأنتم بخير) على أن اليوم عيد. ووضعية وهو الأكثر. ثم الدلالة الوضعية في الألفاظ تنقسم ثلاثة أقسام، لأنها: أما: دلالة مطابقة، وهي دلالة اللفظ على كل معناه الموضوع له، كدلالة (البيت) على البيت. وإما: دلالة تضمن، وهي دلالة اللفظ على بعض معناه، كدلالة (البيت) على السقف أو الباب. وإما: دلالة التزام، وهي دلالة اللفظ على خارج عن معناه لازم له، كدلالة (السقف) على الحائط (1).   (1) وانظر لاستكمال هذا البحث القطب على الشمسية، وحاشية الجرجاني ص 22، وأيضاً السبكي والمحلي: جمع الجوامع وشرحه 1/ 239، والمستصفى: المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ومن الدلالة الالتزامية : 1 - الاقتضاء: وهو دلالة المذكور على مقصود للمتكلم مضمر، يتوقف عليه صدق الكلام، كقوله تعالى: {واسأل القرية} أي أهلها، أو تتوقف عليه صحة الكلام، كحديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" أي المؤاخذة بهما. 2 - والإيماء: وهو دلالة اللفظ على لازم مقصود للمتكلم لا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} أي لأجل السرقة. 3 - والإشارة: وهي دلالة اللفظ على ما ليس مقصود للمتكلم، لكنه يعلم من كلامه. 4 - والمفهوم: وهو أن يدل اللفظ على حكم في غير محل النطق. وهو نوعان: مفهوم مخالفة، ومفهوم موافقة. أ- فمفهوم المخالفة، أن يكون المسكوت عنه مخالفاً في الحكم للمنطوق، كدلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الغنم الزكاة" على أن ما عدا السائمة من الغنم لا زكاة فيها. ب- ومفهوم الموافقة: نوعان: الأول: ويسمى (فحوى الخطاب) وقد سماه بعض الحنابلة (التنبيه)، وهو أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، كدلالة قوله تعالى: {ولا تقل لهما أف} على تحريم ضرب الوالدين. والثاني: ويسمى (لحن الخطاب) أو (دليل الخطاب) وهو أن يكون المسكوت عنه مساوياً في الحكم للمنطوق، كدلالة تحريم أكل مال اليتيم على تحريم إحراقه أو إغراقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 المبحث الأول طبيعَة الدلالة الفعليَّة قد يكون للفعل دلالات مختلفة، وغرضنا يتعلق بذكر دلالة أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وليست دلالة أفعاله - صلى الله عليه وسلم - على الأحكام في حقنا عقليه. وقد تقدم إيضاح ذلك في فصل حجية أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وليست كذلك طبيعيّة، ولا عاديّة، إذ لا دخل للطّبْع ولا للعادة في شيء من ذلك. وإنما هي دلالة وضعيّة، بمعنى أن الشرع جعلها لنا علامة، إذا رأيناها علمنا ما الحكم في حقنا. ومثاله أننا إذا علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم -، صلى بعد الجمعة ركعتين ندباً، كان ذلك لنا علامة موضوعة تدلّنا على أن حكم ركعتين بعد الجمعة في حقنا الندب. ويقول القاضي عبد الجبّار: "لو كان الفعل بمجرده -يعني من غير دلالة شرعية على حجيته- يدل، لكان القول بذلك أولى، فإذا صحّ أن القول لا يدل إلا بالمواضعة على الوجوه التي تقدم ذكرها، فالواجب مثل ذلك في الفعل" (1). والذي يدلنا على هذا الوضع في الأفعال النبوية أمران: الأول: أمر غير شرعي، بل هو مواضعة عامة، وذلك في أفعال خاصة من   (1) المغني 17/ 251 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، كالكتابة، والخط، والعقد، والإشارة ونحو ذلك كدلالة دفعه - صلى الله عليه وسلم - من مرّ أمامه على منعه من ذلك، وككسره التصاليب في الدلالة على المنع منها. فهذه الدلالة ليست شرعية، أعني أن مثل هذه الأفعال دالة على مراد الفاعل بفعله، مطلقاً، سواء أكانت من نبي أم من غيره. ولو كَسَر غير نبيّ إناءً معيناً لعلمنا أنه لا يريد بقاءه. وذلك كالكلام سواء، فليس كون الكلام دالاً على مراد المتكلم خاصاً بنبي دون غيره، ومتى صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - دل على الحكم الشرعي. وكذلك استفيدت الأحكام الشرعية من هذا النوع من الأفعال من حيث إنها صدرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما المواضعة فهي عامة. الثاني: أمر شرعي، وهو ما تقدم من الأدلة القاضية بحجية الأفعال النبوية من حيث الجملة، مع ما قدمناه من البيان لأنواع الأحكام التي تؤخذ من الفعل. فهذا وضع شرعي. أنواع الدلالة الوضعية الفعلية : من الأفعال ما يدلّ مطابقة، وتضمناً، والتزاماً. وهو الكتابة، لأنها بمنزلة القول، فيمكن أن تدل على ما يدل عليه القول سواء بسواء. وسيأتي إن شاء الله في الباب الثاني الكلام على الكتابة. وأما ما سواها من الأفعال، ففيه تفصيل: أولاً: دلالة المطابقة: تتصور دلالة الفعل مطابقة على الحكم الشرعي في موضعين: 1 - الإشارة، والعقد، ونحوه من الأفعال (الآمرة والناهية). 2 - الفعل البياني، على ما قدمنا ذكره من أنه دال على الحكم بالقصد. كبيانه - صلى الله عليه وسلم - هيئة الطواف بفعله، وهيئة الحج، وأوقات الصلوات الخمس. ثانياً: دلالة التضمن: لا تتأتى دلالة التضمّن على الأحكام في الأفعال. ولو دل الفعل البياني كطوافه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 - صلى الله عليه وسلم -، على جزء من الطواف، كالبدء من عند الحجر، فإن تلك دلالة مطابقية، لأن حقيقتها دلالة ذلك الجزء من فعله - صلى الله عليه وسلم - على حكم مثل ذلك الجزء في حقنا. ثالثاً: دلالة الالتزام: تتأتى دلالة الفعل التزاماً، على الحكم في حقنا، في صور: 1 - الأفعال الجبليّة والعاديّة، والأفعال الامتثالية. فإنه يلزم من فعله - صلى الله عليه وسلم - لها أنها مطابقة للشرع، ومن معرفة أن حكمنا كحكمه فيها معرفة حكمنا. 2 - ما تقدم في الفعل المتعدي، من أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا عاقب أحداً بحدٍّ أو تعزير، علمنا أن ذلك الشخص قد فعل كبيرة، بطريق الالتزام، ثم يعلم أن مثل ذلك الفعل في حقنا أيضاً كبيرة، بناء على أصل الاستواء في الأحكام الشرعية. ويقول القرافي: "إن إقدام الحاكم على بيع عبد كان قد أعتقه من أحاط الدين بماله، يستلزم الحكم ببطلان ذلك العتق". ويقول: "الفعل الذي هو البيع ونحوه لا تتأتى فيه دلالة التضمن ألبتة، فإن الحكم لا يقع إلا لازماً له" (1). وقوله هذا هو في الدلالة على الحكم القضائي. والحكم الشرعي أيضاً مثله سواء. 3 - ومما يدل عليه الفعل بالالتزام أيضاً باب الطهارة والنجاسة، فمن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأدخل يديه في الإناء واغترف منه، فإن ذلك يدل بالالتزام على عدم فقدان الماء الطهورية بمثل ذلك. وحديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي: "وفي ثوبه بقع الماء" تعني المنيّ بعد أن تحكه يابساً. استدل به على طهارة المني الشافعية والحنابلة، وقال الحنفية: هو نجس ويكفي في تطهيره الفرك، كتطهير النعل بدلكها بالتراب (2). ومثله طوافه - صلى الله عليه وسلم - بالبيت على بعير، استدل به بالالتزام على طهارة فضلات   (1) في رسالته: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 124 (2) ابن دقيق العيد: الإحكام 1/ 101 - 104 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 الإبل، إذ لو كانت نجسة لم يعرّض النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد للتنجيس (1). أنواع الدلالة الالتزامية الفعلية : أولاً- دلالة الاقتضاء: لا تتأتى دلالة الاقتضاء في الأفعال. ولا تكون إلا لفظية. ثانياً- الإيماء: هذه الدلالة تتأتى من الفعل، كأن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً لم يكن من عادته فعله، بعد أمر حادث، فيدل ذلك على السببية، كصلاته ثمان ركعات بعد فتح مكة، استدل به على أن الفتح كان سبباً لذلك. وكسجوده بعد صلاة سها فيها، فيعلم أن السهو سبب للسجود. وكسجوده عقب تلاوة آية فيها ذكر السجود لله، يدل على أن التلاوة سبب للسجود. ثالثاً- الإشارة: الدلالة الإشارية كثيرة في الأفعال، فبيانه - صلى الله عليه وسلم - للصلاة على المنبر، ورجوعه وسجوده بالأرض، كان القصد منه بيان هيئات الصلاة، ولم يقصد منه بيان جواز ارتفاع الإمام عن المأموم، ولا بيان جواز الحركة خطوات قليلة أثناء الصلاة، وقد حصل العلم لنا بذلك بدلالة الإشارة. رابعاً- مفهوم الفعل: أولاً: مفهوم المخالفة (دليل الفعل): قد تتأتى استفادة الأحكام من الأفعال النبوية بطريقة المفهوم المخالف. وقد وضح ذلك القاضي أبو يعلى الحنبلي في العدة (2)، حيث يقول: "أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها   (1) ابن دقيق العيد: الإحكام 2/ 76 (2) العدة ق 64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 دليل (1)، وقد قال أحمد رحمه الله: لا يصلى على القبر بعد شهر، على ما فعل - صلى الله عليه وسلم - إذ صلى على قبر أم سعد بعد شهر. فجعل صلاته بعد شهر دليلاً على المنع في ما زاد عليه، لأن الفعل كالقول في أنه يقتضي الإيجاب، ويخصص بها (كذا) العموم". وقال ابن تيمية: (2) "قال ابن عقيل: ذكر (بعض) أصحابنا عن أحمد أنه جعل للفعل دليلاً، وأخذه من مسألة الصلاة على القبر، وأحال هو -يعني ابن عقيل- ذلك، وجوز أن يكون المستند استصحاب الحال. وبسط القول، وسلّم الدلالة إذا كثر الفعل" (3). وهذا يعني أن ابن عقيل يرفض نظرية القاضي أبي يعلى في نسبة القول بذلك إلى مذهب أحمد، للاحتمال الذي ذَكَر، فيما عدا حالة واحدة، وهي أن يكثر فعله - صلى الله عليه وسلم - على صفة معينة، أو في حال أو وقت معين، فيفهم المنع في ما سواها. ويظهر أن ما سلمه من القول بالمفهوم المخالف إذا كثر الفعل مستقيم في صور كثيرة نص الفقهاء فيها على المنع، ولا يظهر مستند إلا مفهوم المخالفة. فمن ذلك منعهم الزيادة في الوضوء على مرات ثلاث استدلالاً بالفعل. وفيه حديث قولي، أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم" (4). ولا يصح هذا الحديث. ومن ذلك كراهية بعضهم لصلاة العيد في المسجد، واعتبار أن السنة فعلها بالمصلى، أخذاً من الفعل. ثانياً- دلالة الفحوى: تتأتى دلالة الفحوى بالأفعال كثيراً، ويقول مجد الدين ابن تيمية (الجدّ): "قد يستفاد التنبيه من الفعل كما يستفاد من القول، ومثلّه ابن عقيل بقوله تعالى:   (1) يعني: كدليل الخطاب، وهو مفهم المخالفة. (2) المسودة ص 353 (3) ابن قدامة: المغني 1/ 140 (4) أخرجه أحمد وابن ماجه، والنسائي بنحوه (140). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} (1) نبّه بأدائهم القنطار على أداء ما دونه" اهـ. وعندي أن هذه دلاله قولية، لأن الله تعالى يدلّنا بالقول على ذلك، لا بالفعل، ولو قال: "نبّهوا بأدائهم للقنطار على أدائهم لما دونه" لكان لقول ابن عقيل وجه. ويقول الجد: مثّله هو: "يعني ابن عقيل" بالبصاق في المسجد، وإلى القبلة، على البول. ولعلّه يعني أن حكّ النبي - صلى الله عليه وسلم - للنخامة من قبلة المسجد يدل على المنع من التبول من باب أولى. ويقول (2): "وأحسن من هذا ما أشار إليه أحمد بن حنبل واستدل به، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين بالمدينة من غير خوف ولا سفر، فإنه يفيد الجمع للخوف والسفر والمطر" (3). وهذا استدلال مستقيم. ثالثاً- مفهوم الموافقة المساوي (لحن الفعل) وهذا كثير في الأفعال، وهو نوعان: الأول: كرضخه - صلى الله عليه وسلم - من الفيء لمن كان معه في الحرب من النساء (4) فكذلك ينبغي أن يرضخ لغيرهم ممن يماثلهم في ذلك إذا حضروا الحرب، كالصبيان. ومثل اتخاذه قبيعة سيفه من فضة، يدل على جواز اتخاذ رأس الدواة، وحلقة المرآة، ونحو ذلك، من الفضة.   (1) سورة آل عمران: آية 75 (2) ابن تيمية: المسودة في أصول الفقه ص 348 (3) انظر الحديث في ذلك عند أحمد 6/ 380 وأبي داود 7/ 401، 402 (4) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن (المغني لابن قدامة 8/ 322) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وضابط هذا النوع أن يفهم من حكم فعله - صلى الله عليه وسلم - حكم فعل من نوع آخر، مساوٍ له، بخلاف النوع الآتي. الثاني: وهو أن يقال: ما فعله - صلى الله عليه وسلم - فحكمنا فيه كحكمه، وهو ما تقدم من قول المساواة في الفعل المجرّد. وهذا النوع، وهو انسحاب أحكام أفعاله - صلى الله عليه وسلم - على أحكام أفعال الأمة بطريق المساواة، هو الدلالة الرئيسية للأفعال النبوية المجردة، وإذا أطلقت الدلالة الفعلية فإنما يراد بها هذا النوع خاصة. ويتعلق بهذه الدلالة خاصة، أعني دلالة المساواة في الحكم بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم -، مسائل مهمة، نستعرضها في المبحث التالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 المبحث الثاني وجْه انسِحَاب حُكم الفِعْل النبويّ عَلى أفعَال الأمَّة قدمنا أن ذلك من دلالة مفهوم الموافقة. وهذا هو ما نميل إليه. ولكن قد اختلف تكييف الأصوليين لذلك الانسحاب على وجهين. فمنهم من قال بأن ذلك بطريق العموم، ومنهم من قال بأنه بطريق القياس. أولاً- القول بالعموم: نسب الزركشي في البحر المحيط، القول بجريان العموم في الأفعال إلى أصحاب مالك (1) وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشوكاني: الفعل لا عموم له، فلا يشمل جميع الأوقات المستقبلة. ونسب ذلك إلى "جمهور أهل الأصول على اختلاف طبقاتهم" (2). وقد وجّه الغزالي ذلك (3) بأن الفعل لا يقع إلا على وجه معين، فلا يجوز أن يحمل على كل وجه يمكن أن يقع عليه. وقد بيّن غيره أنه كما لا عموم للفعل بالنسبة إلى الزمان والمكان والأسباب فكذلك لا عموم له بالإضافة إلى غير فاعله من الفاعلين، ولا غير مفعوله من   (1) البحر المحيط للزركشي ق 4 أ (2) إرشاد الفحول ص 38 (3) المستصفى 2/ 22 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 المفعولين، ولا غير السبب الذي وقع من أجله. ومعلوم أن الفاعل لم يفعل ذلك الفعل إلا مرة واحدة، في زمان واحد، ومكان واحد، وبمفعول واحد، وعلى هيئة واحدة. وهكذا. فالفعل إذْ يقع إنما يقع خاصاً بفاعله، وعلى الهيئة والحال التي وقع عليها. هذا بالنظر إلى الفعل في ذاته من حيث هو فعل. ثم إن دلّ الدليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - يبين بذلك الفعل مجملاً عامّاً لنا وله، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: لمّا صلى على المنبر "إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي" (1) وكقوله: "خذوا عني مناسككم" فإن فعله يكون عاماً بحسب عموم المبين، لأنه يكون حينئذٍ بمنزلة القول. وقال ابن الهمام: العموم هنا للمحل لا لنقل الفعل (2). وأما فيما سوى ذلك مما دل الدليل على تأسي الأمّة به - صلى الله عليه وسلم - كالفعل المجرّد، فإن القول بالعموم فيه لا يصحّ إلا على نوع من المسامحة. وأما في الحقيقة فإن العموم إنما هو في الأدلة الدالة على وجوب تأسيّ الأمة به - صلى الله عليه وسلم -، في الحالات المماثلة. الثاني: القول بالقياس : لم نجد أحداً صرح بأن إلحاق غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنبي في حكم أفعاله هو قياس، ما عدا الآمدي. فإنه يرى أن معنى التأسّي الذي أمرنا به هو القياس عينه. فقد ذكر في (باب حجية القياس) حديث أم سلمة أنها سئلت عن قبلة الصائم، فسألته - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: "هل أخبرتِهِ أني أقبّل وأنا صائم؟ " ثم قال الآمدي: "إنما ذكر ذلك تنبيهاً لقياس غيره عليه" (3). وذكر اعتراض من يعترض على ذلك بأن هذا يدل على أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة متبعة، وليس بقياس. قال الآمدي: "أنه   (1) رواه البخاري 2/ 397 رواه مسلم 5/ 38 (2) انظر تيسير التحرير 1/ 248 (3) الإحكام 4/ 44 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 اعتراض غير صحيح، وذلك لأنه لو لم يكن اتباعنا له في فعله بطريق التأسّي به، لما كان حكم فعله ثابتاً في حقنا، ولا معنى للقياس سوى ذلك" (1). وقال الآمدي أيضاً: "إن العمل بخبر فرك المني، والغسل من التقاء الختانين، وقبلة الصائم، كل ذلك مستند إلى القياس، لا إلى عموم الفعل، لتعذره" (2). ويفهم من كلام الغزالي أنه يذهب إلى مثل ما ذهب إليه الآمدي، قال الغزالي في حديث أم سلمة المتقدم ذكره: "إن ذلك تنبيه لقياس غيره عليه - صلى الله عليه وسلم -" وهذا يدل على أنه يرى مساواتنا له - صلى الله عليه وسلم - في أحكام أفعاله قياساً (3). رأينا في ذلك : إننا نرى أن الذين عبّروا بعموم الفعل إنما عبّروا به على طريق المسامحة، لا على اعتقاد أن الفعل في الحقيقة عام. ونرى أنهم إنما يقصدون العموم من حيث انطباق مثل حكم فعله - صلى الله عليه وسلم - على أفعالنا. فليس هناك صيغة تنطبق على أفرادها حتى يقال بالعموم. أما القائلون بأن الحكم ينسحب على أفعالنا بطريق القياس، كما قال الآمدي وأشار إليه الغزالي، فيكون القياس حينئذٍ من القياس بنفي الفارق، لا من قياس العلة. فما يحتج به من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - لا يحتاج إلى الاستدلال على علته لأجل الإلحاق بها، بل يكفي أن نعرف أن لا فارق بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - إلا النبوة، ثم نعلم أن النبوة ليست فارقاً مؤثراً في الأحكام التشريعية. ودليل ذلك ما تقدم في فصل إثبات حجية أفعاله - صلى الله عليه وسلم - من آيات التأسّي والاتباع ونحوها، فإنها تدل على أن النبوة ليست فارقاً، فيما سوى ما ثبت بالدليل من الخصائص النبوية. ثم ينبغي أن يقال: إن تلك الدلالة هي من باب مفهوم الموافقة، كما قدّمناه   (1) المصدر نفسه 4/ 51 (2) المصدر نفسه 2/ 372 (3) المستصفى 2/ 64 وأشار إلى مثل ذلك في شفاء الغليل ص 640 - 645 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 قبل هذا الفصل. وهو أولى من جعلها قياساً، وذلك أن الأصوليين ذكروا في حدّ القياس الاستواء في العلة. لذلك قال ابن الهمام: "إن الجمع بنفي الفارق ليس من حقيقة القياس" (1) فالأولى اعتبار الدلالة الفعلية من باب مفهوم الموافقة. ولما اتفق الحكم بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره، صار ذلك هو عموم الفعل على سبيل المسامحة كما تقدم ذكره. فأما ما كان الجمع فيه بالعلة، فإنه قياس، ولا إشكال في ذلك. ويتأتى ذلك في الفعل كثيراً، كقياس جواز الإتمام في السفر على جواز صوم الفرض فيه، للاستواء في العلة، وهي ترك الترخص.   (1) تيسير التحرير 4/ 77 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الفصل الثامن دلالة متعلقات الفعل النبوي 1 - سبب الفعل. 2 - الفاعل وجهاته. 3 - المفعول به وجهاته. 4 - مكان الفعل وزمانه. 5 - هيئة الفعل. 6 - دلالة الاقتران. 7 - الأدوات والعناصر المادية. 8 - العدد والمقدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 دلالة متَعلقات الفِعْل النبَويّ ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب أن الدلالة الرئيسية للأفعال هي الدلالة على أن أحكام أفعالنا مساوية لأحكام أفعاله - صلى الله عليه وسلم - فما وجب عليه وجب علينا، وما ندب له ندب لنا، وما أبيح له أبيح لنا. ثم بينّا أن ذلك هو من مفهوم الموافقة لفعله - صلى الله عليه وسلم -، أو من القياس بنفي الفارق. والذي يراد بيانه في هذا الفصل، أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقع إلا مع التلبّس بأمور مختلفة، فكما أنه وقع 1 - لسبب معين، كذلك 2 - يقع من فاعله 3 - وقد يتعدى إلى مفعول، 4 - ولا بدّ أنه واقع في زمان معين، ومكان معين، 5 - وعلى هيئة معينة، 6 - وقد تستعمل فيه آلة وعناصر مادية معينة 7 - وقد يقارنه أمور تقع معه، 8 - وقد يقع الفعل مرة أو مرات معلومة أو مجهولة. فلما قلنا إن استفادة الحكم من فعله - صلى الله عليه وسلم - تقتضي أن نفعل مثل ما فعل، وجوباً أو ندباً أو إباحة، على التفصيل المتقدم بيانه، فهل يعني ذلك أن الأسوة المطلوبة شرعاً تقتضي مماثله فعلنا لفعله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمور؟. لم يتعرض أحد من الأصوليين الذين اطلعنا على كلامهم لهذه المسألة بالتفصيل، ونحن نرجو أن نتمكن بعون الله من إيضاح ذلك، مسترشدين بتصريحات وإشارات مجملة، وردت في مواضع متفرقة من كلام القوم. فنقول: أما أصل الفعل فلا بد من الاتفاق فيه، وإلا فلا تتحقق المماثلة أصلاً، وذلك كصلاة وصلاة، وصوم وصوم، ولا يتم الاستدلال بفعل صلاة على فعل صوم إلا بنوع من القياس عند الاستواء في العلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وأما ما سوى ذلك، فإن القول الجامع أن يقال: إن المطلوب المماثلة فيه ما كان من المتعلقات المذكورة غرضاً مقصوداً على سبيل أنه شرع، عندما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الفعل. يقول أبو الحسين البصري في شرح قولهم: (على الوجه الذي فعل) "أما الوجه الذي وقع عليه الفعل، فهو الأغراض والنيات، فكل ما عرفناه أنه غرض في الفعل اعتبرناه. ويدخل في ذلك نية الوجوب والنفل" (1). ويقول ابن أمير الحاج: "معنى على وجهه أن يكون مشاركاً له في الصفة والغرض، والنية" (2). فإن علمنا أن شيئاً منها ليس مقصوداً، فلا يدخل في التأسّي، ويقول أبو الخطاب الحنبلي: "إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الفعل في زمان ومكان، وعلمنا أن في ذلك غرضاً، مثل صلاة الجمعة، وصوم رمضان، والوقوف بعرفة (فإننا لا نكون متأسِّين به إذا فعلناه في غير الزمان والمكان) وإن لم نعلم أن فيه غرضاً، مثل أن ينقل أن تصدق بيمينه وقت الظهر بباب مسجده، فإن التأسّي يحصل بالصدقة، وإن تصدق بشماله، في غير باب مسجده، وغير وقت الظهر" (3). والحاصل أن ما علمناه مقصوداً في الفعل، من المتعلقات المذكورة فهو معتبر في الاقتداء. وما علمناه غير مقصود فهو خارج. وما لم نعلم أنه مقصود، ولا أنه غير مقصود، فهو موضع الإشكال، وهو موضع البحث في هذا الفصل. وقبل الشروع في التفاصيل نقدّم مسائل تتعلق بهذا الأصل العام. المسألة الأولى: أن المراد بالقصد والغرض فيما تقدم، قصد التعلّق من حيث الموافقة للشريعة، لا قصد المتعلق لذاته، أو لمصلحة عارضة، فإذا صلى، - صلى الله عليه وسلم -، في   (1) المعتمد 1/ 372 (2) التقرير والتحبير 2/ 303 (3) أبو الخطاب: التمهيد ق 89 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 بقعة من المسجد مثلاً، فقد قصد أن يصلي فيها، لا شك في ذلك، لكن قد يكون قَصدَها لأنه يريد موافقة الشرع بتخصيصها، كالصلاة عند المقام، فيكون تخصيصها مطلوباً في حقنا شرعاً، وقد يكون قصدها مع أنها عنده غير متميزة شرعاً عما سواها بشيء، وإنما قصده قصد عاديّ لغرض موقوت، كأن تكون أقرب إليه مما سواها، أو لأنّ فيها ظلاً يستظل به من الشمس مثلاً، أو لغير ذلك. فلا يدل على استحباب تخصيصها أو وجوبه. وبهذا يرد على من زعم استحباب الصلاة عند أساطين معينة من المسجد النبوي، أو في بقاع معينة من أنحاء المدينة وغيرها، لمجرد أنه قد نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى فيها، أو عمل فيها عملاً ما (1). ولم يفرق ابن تيمية بين القصدين، فقد ذكر تحري سلمة بن الأكوع الصلاة عند سارية المصحف من المسجد النبوي. قال سلمة: "إني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الصلاة عندها" (2). يقول ابن تيمية: "وقد ظنّ بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه، وليس بجيّد، فإنه هنا قد أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرّى البقعة، فكيف لا يكون هذا القصد مستحباً" (3) اهـ. ونحن نجيبه بما تقدم من التفريق بين القصدين. وأما ما فعله سلمة رضي الله عنه، فليس فعله حجة. ولعله فعله بناء منه على أن ذلك التحري من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لقصد شرعي. فإن تلك البقعة المعينة واقعة بين المنبر والبيت، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي". المسألة الثانية: أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يقصد في الفعل الواحد بعض متعلقاته على سبيل الوجوب، وبعضها على سبيل الندب، وبعضها على سبيل الإباحة، فتختلف الأحكام المستفادة بحسب ذلك. فعندما صلى صلاة الاستسقاء ركعتين، كان لابساً ملابس بذلة، لها لا شك لون خاص. فأما كون الصلاة ركعتين فذلك واجب، وأما التبذل في الثياب في صلاة الاستسقاء فمستحب، وأما اللون فمباح.   (1) ذكر في (الرصف) مواضع نقلت فيها أفعال النبي بالمدينة وغيرها (1/ 163 - 170) (2) رواه البخاري (فتح الباري 1/ 577) (3) اقتضاء الصراط ص 389 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وبهذا يتبيّن أن لكل متعلق من المتعلقات الثمانية حكمه المنفرد، ثم قد تتفق تلك الأحكام أو تختلف. المسألة الثالثة: أن القصد أمر قلبي، ثم قد يعلم إذا دلت عليه الأدلة القولية أو الحالية، وقد يكون خفياً فيستدل عليه بالأمارات. ويستعان لذلك بالأصول التي نذكرها في ما يأتي. المسألة الرابعة: الأصل التأسّي في المتعلق الذي نعلم أنه مراد، أو غلب على الظن إرادته بأمارة، فإنه يعتبر في التأسّي. ولا يصح التأسّي فيما علم أنه غير مراد من جهة الشرع. وأما ما لم تعلم إرادته ولم يغلب على الظن إرادته، فيختلف باختلاف نوع المتعلق. وسيتبين أن الأصل في بعضها الاعتبار، وفي بعضها عدم الاعتبار. المسألة الخامسة: ما كان من المتعلقات اتفاقياً، وقد تعلق به الفعل مصادفة دون قصد أصلاً، فهو أبعد ما يكون عن الاعتبار في التأسّي. ولا يجوز إدخاله في التأسّي وقصده في العبادة أو غيرها. ويقول ابن تيمية: "متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله بأن نفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله. فإذا قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - العبادة في مكان، كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد. أما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق، لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحرّ ذلك المكان، فإنا إذا تحرّينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإنما الأعمال بالنيات" (1). ويقول: يجب الفرق بين الاستنان به - صلى الله عليه وسلم - في ما فعله، وبين ابتداع بدعة لم يسنّها، لأجل تعلقها به (2). ونحن نرى أن مما يندرج تحت هذه القاعدة المثالين الآتيين: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج حجة الوداع، فوافق وقوفه بعرفة يوم الجمعة.   (1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 387 (2) اقتضاء الصراط المستقيم ص 389 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد ذلك، فقد خرج من المدينة وهو لا يعلم متى يقف. لأنه خرج قبل أن يدخل شهر ذي الحجة. فمن ادعى -كالسيوطي (1) ونقله عن ابن جَمَاعَة- أن الوقوف بعرفة إذا وافق يوم الجمعة أفضل، من جهة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف وقوفه الجمعة، فقوله مردود. وبحسبنا في رده أنه يستلزم تتبُّع أعياده - صلى الله عليه وسلم - أي الأيام وافقت، ومسيره وحركاته متى حصلت، لنخصّها بمزيد من العمل. وذلك غير مستقيم شرعاً. وقد احتج السيوطي لما ذهب إليه بأدلة أخرى لا كلام لنا فيها في هذا المقام. المثال الثاني: قالت عائشة: تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم - في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نسائه كان أحظى مني عنده؟ وكانت عائشة تستحب أن يبنى بنسائها في شوال. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: "فيه استحباب التزويج والدخول في شوال. قد نصّ أصحابنا (2) على استحبابه، واستدلوا بهذا الحديث" (3) اهـ. ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد شوالاً بالبناء فيه، ولو استحب ذلك لكان علينا تتبع شهور بنائه بزوجاته الباقيات، واعتبارها مواسم يستحب فيها الزواج. فما قاله النووي مردود، ولا يصح بناء الاستحباب على التعلق الاتفاقي. ولعل عائشة قالت ذلك رداً على من تطّير من شوال فكره الزواج فيه، وقد ذكر النووي ذلك نفسه، فيكون قولها دالاً على إثبات الجواز، ونفي تطّير الجاهليين بشوال.   (1) انظر رسالته (نور اللمعة في خصائص الجمعة) ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/ 220 قال فيه "وقفة الجمعة تفضل غيرها من خمسة أوجه، أحدها: موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن وقفته كانت يوم الجمعة، وإنما يختار الأفضل" ثم ذكر باقي الأوجه. (2) صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 209 (3) وانظر: نهاية المحتاج 6/ 182 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 المبحث الأول سَبَبُ الفعْل السبب ما يضاف إليه الحكم، لتعلق الحكم به من حيث إنه معروف للحكم، أو مؤثر في حصوله، أو باعث على اشتراعه. وهي الأقوال الثلاثة التي تذكر في علة القياس. وسواء ظهرت المناسبة في ذلك أو لم تظهر، فكل ذلك سبب (1). وإضافة الحكم إليه أن يقال: وجب الجلد للزنا، ووجبت الظهر بزوال الشمس. فإذا فعل - صلى الله عليه وسلم - فعلاً ما، لسبب من الأسباب، فإن الذي يقتدي به فيه هو من وجد مثل ذلك السبب في حقه، أما من لم يوجد فليس له أن يفعل مثل ذلك الفعل، بدعوى الاقتداء والتأسي به - صلى الله عليه وسلم -. فأدلة التأسّي والمتابعة والاقتداء، مقيّدة بحصول سبب الفعل، فإذا وجد السبب وجب الاقتداء، مقيّدة بحصول سبب الفعل، فإذا وجد السبب وجب الاقتداء، وإلا فلا. وسواء أكان الفعل المنوط بالسبب واجباً أو مستحباً أو مباحاً. ويمكن توضيح الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - عند وجود السبب بالتمثيل بأنه - صلى الله عليه وسلم - قطع يد   (1) جمع الجوامع للسبكي، وشرحه للمحلي 1/ 94. وهذا الذي اعتمدناه في السبب هو أحد قولين في تحديده. وعليه يكون شاملاً للعلة. والقول الآخر أن السبب مباين للعلة، فالسبب ما كان موصلاً دون تأثير، والعلة ما أوصلت مع التأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 رجل سرق رداء صفوان. فالسبب هنا هو السرقة. ولا يجوز الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في قطع يد إنسان ما لم يوجد سبب القطع، وهو السرقة. فإذا وجد ذلك السبب وجب الاقتداء بإقامة الحد على السارق. ومثاله أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف يصلي بأصحابه، فذكر أنه جنب، فانصرف فاغتسل ثم جاء، فلم ينصرف أحد منهم ليغتسل. ووجه ذلك أن سبب الغسل وهو الجنابة، وجد في حقه هو، ولم يوجد في حقهم. وإنما يقتدي به في ذلك من وجد في حقه السبب المماثل. ومثال ثالث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قرأ عام الفتح سجدة، فسجد الناس كلهم، منهم الراكب والساجد في الأرض، حتى إن الراكب ليسجد على يده" (1). يحتمل أنهم سجدوا لكونه - صلى الله عليه وسلم - قرأ سجدة التلاوة، أو سجدوا لكونه قارئاً ساجداً للتلاوة. فعلى الاحتمال الأول يسجد كل من استمع للقراءة التي فيها السجدة، سواء سجد القارئ أو لم يسجد. وعلى الاحتمال الثاني: يسجد المستمعون إن سجد القارئ، ولا يسجدون إن لم يسجد. ويظهر أن مذهب البخاري الأخذ بالاحتمال الثاني، فقد بوّب على الحديث: (باب من سجد لسجود القارئ) واحتجّ بقول ابن مسعود للقارئ اسجد فأنت إمامنا فيها. ومن الحجة لذلك أيضاً رواية زيد بن أسلم، أن غلاماً قرأ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة. فانتظر الغلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سجد، فلما لم يسجد قال: يا رسول الله! أليس في هذه السجدة سجود؟ قال: "بلى، ولكنك كنت إمامنا فيها ولو سجدت لسجدنا" (2).   (1) رواه البخاري. فتح الباري 2/ 556 (2) رواه أبن أبي شيبة (فتح الباري 2/ 556) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 المطلب الأول أنواع الأفعال من حيث تعلقها بالأسباب الأفعال من حيث تعلقها بالأسباب على أنواع: الأول: ما هو مرتبط بالعبادة ارتباط الجزء بالكل، فهذا لا يطلب له سبب، وذلك كالركوع والسجود بالنسبة إلى الصلاة، وكغسل الوجه أو اليدين بالنسبة إلى الوضوء، وإنما ينظر في سبب العبادة ككل. وليس كل أجزاء العبادة يجري هذا المجرى، بل منها ما يتبع سبباً خاصاً، كالركوعات الزائدة عن الأول في صلاة الكسوف، فإنها منوطة بالكسوف. والقنوت، فإنه مرتبط بالوتر، وسجود السهو، فإنه مرتبط بالسهو في الصلاة. وكسجود التلاوة فيهَا، فسببه تلاوة السجدة، وهكذا. الثاني: النوافل المطلقة، من صلاة وصوم وصدقة وأذكار مطلقة، وغير ذلك. فإنها ليست منوطة بسبب من الأسباب. وكذلك ما يفعله - صلى الله عليه وسلم - من المباحات على الإطلاق، لا يطلب لها سبب لأنها تفعل لملائمة الطبيعة البشرية كما تقدم. الثالث: ما هو مقيد بسبب زمانيّ كالصلوات الخمس، والرواتب، وقيام الليل، وبعض الصوم كصوم رمضان، وصوم يوم عاشوراء، وست من شوال. أو بسبب مكانيّ، كتحية المسجد، والطواف بالبيت، والوقوف بعرفة. وبيّن القرافي (1) إن الصوم لا يكون منوطاً المكان، أما الصلاة فقد تناط بالزمان وقد تناط بالمكان، كما تقدم في الأمثلة.   (1) الفروق 2/ 170 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 أو بسبب حادث من الحوادث، كصلاة الكسوف. أو بسبب مناسب يتضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، كصلاة الاستسقاء عند القحط، وقطع يد السارق، وسائر الحدود التي أقامها، وترك الأكل من الميتة، وأكل الميتة للضرورة، وسائر الرخص. المطلب الثاني طرق معرفة سبب الفعل ذكر الأصوليون في أبواب القياس طرق استخراج علة الحكم. وكان ما صرفوا إليه جل همهم استخراج علل الأحكام المدْلول عليها بالأدلة القولية. أما الأفعال فقد حظيت من اهتمامهم بحظ بخس. وقد كانت جديرة بمزيد من الاهتمام، لتفتح أمام الفقهاء باب تفهّم النقول الفعلية، ووضعها في مواضعها السليمة. وإننا نقتفي -هنا في بيان طرق استخراج أسباب أحكام الأفعال- آثارهم في بيانهم لأسباب الأحكام القولية، مسترشدين بما وضحوه. والله الموفق والمعين، فنقول: إن سبب الفعل يعرف بطرق: إما أن يعرف بالنص القولي الصريح أو غير الصريح، أو بالإجماع، أو الإيماء، أو قول الصحابي، أو الاستنباط، أو المناسبة. الطريقة الأولى: إثبات العلة بالنص الصريح أو الظاهر، أو بالإيماء بالقول. والنص إما من كتاب الله تعالى. وإما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كقوله بعد أن صلى على المنبر: "إنما فعلت هذا لتأتمّوا بي ولتعلموا صلاتي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وكقوله، إذ شمّت أحد العاطسين ولم يشمّت الآخر: "إن هذا حمد الله فشمَتُّه، وإنك لم تحمد الله" (1). ومثال الإيماء بالقول: أنه - صلى الله عليه وسلم - خلعَ نعليه في الصلاة فخلعوا نعالهم. فلما سلم قال لهم في ذلك، فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا. فقالو: "إن جبريل أخبرني إن فيهما أذى". وكقوله عندما قام لجنازة يهودي: "أليست نفساً؟ " (2). وكقوله عندما وضع الحجر على قبر عثمان بن مظعون: "أعلم به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". الطريقة الثانية: الإيماء بالفعل. ومثاله أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً بعد أمر طارئ. فيعلم أنه سبب الفعل، ومن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - نقص من الصلاة سهواً، وسلّم. فلما قيل له، أتم الصلاة، وسجد سجدتين وسلم. فإن إيقاعه سجدتين في آخر الصلاة لا يعهد في الصلاة، فارتباطهما بالنقص سهواً أمر واضح، وإلا لكانا لغواً لا يليق به - صلى الله عليه وسلم - (3). الطريقة الثالثة: إثبات السبب بالإجماع. فإذا أجمعت الأمة على أن فعلاً من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كان لسبب كذا، فإنه يتعين. الطريقة الرابعة: إثبات السببية بقول الصحابي، وذلك أن الصحابيّ يرى الفعل، ويشاهد ما يحتف به من القرائن الدالة على سببه، وهو عدل عارف باللغة. فالظاهر أن ما أخبر بسببيته هو السبب حقاً. بل لا يبعد أن يكون سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً يدل على السببية فنقل إلينا السبب ولم ينسبه إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -.   (1) رواه البخاري ومسلم (جامع الأصول 7/ 396) (2) رواه البخاري ومسلم (جامع الأصول 1/ 435) (3) مثل القاضي الباقلاني في التقريب بسجود السهو للاستدلال على علة الحكم بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فذكر هذا المثال، ونحن بينا أن ذلك من قبيل الإيماء. وانظر الشوكاني: إرشاد الفحول ص 213 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وهذا النوع -وهو إثبات السببية بقول الصحابي- هو في الحقيقة- راجع إلى طريقة أو أكثر من الطرق الأخرى المذكورة في هذا المبحث، لأن الصحابي يفهم السببية أولاً، ثم يعبر عنها. وطريقة فهمه لها راجعة إلى طريق من الطرق المذكورة ولا شك. إلا أن قوله بالنسبة إلينا طريق، من حيث الجملة. ويحتمل أن الصحابي ظنَّ ما ليس بسبب سبباً. ولكنه احتمال ضئيل لا يصح الذهاب إليه، ما لم يتبيّن أن الصحابي كان في فهمه ذاك مخطئاً (1). وأمثلة هذا النوع كثيرة، كقول جابر بن عبد الله في ميعاد صلاة العشاء: "كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رآهم اجتمعوا عجّل، وإذا رآهم أبطأوا أخّر" (2) فعُرف بذلك سبب تعجيله - صلى الله عليه وسلم - العشاء وسبب تأخيرها. وقول عائشة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً وأراد أن يأكل أو ينام توضأ" (3). فبينت أن الأكل والنوم على الجنابة سببان لوضوئه. وقولها: "كان إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" (4). فبيّنت أن سبب الاجتهاد في العبادة عشر رمضان الأخير. وقول ابن عباس: "ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بالمدينة بين الظهر والعصر، وجمع بين المغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر. (5) فسئل: ما أراد إلى ذلك؟ فقال: "أن لا يحرج أحداً من أمته" (6). فإنه يدل على أن الجمع منوط بالحرج. الطريقة الخامسة: أن يعرف السبب بالاستنباط. وذلك إما بالسّبْرِ والتقسيم أو بالمناسبة، أو بالدَّوَران.   (1) انظر تيسير التحرير 4/ 40 (2) متفق عليه (نيل الأوطار 2/ 13) (3) رواه أحمد ومسلم (نيل الأوطار) 2/ 235 (4) رواه مسلم 8/ 70 ورواه البخاري. (5) رواه الجماعة (جامع الأصول 6/ 459) (6) انظر فتح الباري 2/ 24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فمثال الأول، وهو معرفة السبب بالسبر والتقسيم، أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم عرفة ركعتين وخطب. فقيل كانت خطبته للجمعة لأنه وافق يوم جمعة. وقيل إنها خطبة لعرفة، والركعتان ظهر مقصورة. فلما علمنا أنه أسرَّ في الركعتين بالقراءة، علمنا أن الخطبة ليست للجمعة، فلا يبقى إلا للوقوف بعرفة. وعليه فيقتدى به - صلى الله عليه وسلم -، فيثبت للوقوف بعرفة خطبة (1). ومثال آخر: روت أم هانئ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم فتح مكة ثماني ركعات، وذلك وقت الضحى (2). فاختلف في سببه هل هو الوقت، فيدل على استحباب صلاة الضحى، أو الفتح. وقد ذكر ابن القيم أن الأمراء كانوا يصلونها ويسمونها صلاة الفتح (3). فلما صلى، - صلى الله عليه وسلم - الضحى في غير هذا الموطن، وعلم من شأنه الترغيب في صلاة الضحى، عرف ارتباطها بهذا السبب. والله أعلم. ومثال الثاني: وهو المناسبة، أنه - صلى الله عليه وسلم - حسم يد السارق بعد القطع، والغرض حفظ العضو من التلف. ومثال إثباته بالدوران: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة فأجازني". احتج به لمذهب الشافعي وأحمد في أن المدة التي إذا بلغها الإنسان ولم يحتلم   (1) انظر مناظرة طريفة بين القاضي أبي يوسف، وبين مالك، بمحضر هارون الرشيد، في هذه المسألة. ذكرها القرافي في الفروق 2/ 125 (2) حديث أم هانئ في صلاته الضحى يوم الفتح متفق عليه (نيل الأوطار 3/ 70) (3) انظر الشوكاني: نيل الأوطار 3/ 67 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 حُكِمَ ببلوغه، هي خمس عشرة سنة. فقد أجاز ابنَ عمر في القتال بخمس عشرة سنة، ولم يجزه فيما دونها، فدلّ على ذلك (1). وأما أبو حنيفة ومالك فلم يأخذا بذلك. وقال أبو حنيفة: يحكم ببلوغ الجارية ببلوغ سبع عشرة، وأما الغلام ففيه روايتان: أحدهما: بسبع عشرة كالجارية، والأخرى بثمان عشرة. وقال مالك: لا حدّ للبلوغ بالسن (2). وقد اعتذر لمن لم يأخذ بحديث ابن عمر في ذلك: بأن الإجازة في القتال حكمها منوط بإطاقته والقدرة عليه، وأن إجازة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر في الخمس عشرة: لأنه رآه مطيقاً للقتال ولم يكن مطيقاً له قبلها (3).   (1) ابن دقيق العيد: الأحكام 2/ 335 (2) ابن قدامة: المغني 4/ 460 (3) ابن دقيق: الإحكام 2/ 335 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 المطلب الثالث هل يتوقف الاقتداء بالأفعال النبوية على معرفة أسبابها إن الأفعال بالنسبة إلى هذا الأمر على أقسام: لأن الفعل إما أن يكون مما يتوقف على سببٍ، أو لا. والأول: إما أن يعلم سببه، أو لا. والأول: إما أن يكون السبب مستمراً بعده، أو لا. فهي أربعة أقسام : 1 - ما لا يتوقف على سبب. 2 - ما فعله لسبب معلوم وهو مستمر بعده. 3 - ما فعله لسبب فزال. 4 - ما جهل سببه. القسم الأول: ما لا يكون مرتبطاً بسبب أصلاً، بل هو مطلق، كنوافل الصوم والصلاة: فهذا يفعل اقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. ويفعل مطلقاً، كما أن المتأَسيَّ به مطلق. فلا يجوز ربط نوافل بأسباب لم يربط بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. فمن اقتدى به - صلى الله عليه وسلم - في نوافل الصلاة المطلقة لا يجوز أن يفعلها مرتبطة بأسباب من عنده. كما لو تداعى قوم لتخصيص الثلاثاء أو الأربعاء على سبيل القربة بصوم أو صلاة، أو تخصيص مكان لم يخصه به النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من ذلك. ووجه ذلك أن سببيّة السبب الشرعي، هي حكم شرعي. والحكم الشرعي لا يجوز إثباته إلا بدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 القسم الثاني: ما علم ارتباطه بالسبب. وهو ما كان الفعل في الأصل ممنوعاً أو مكروهاً، وقد فعله - صلى الله عليه وسلم - لسبب. وهذا القسم لا يجوز فعله بلا سبب، لأنه لو كلمتين لغير سبب مماثل لانتقل من حيز الممنوعات إلى حيز المباحات، فيكون نسخاً وإبطالاً للحكم الأصلي، وذلك غير مراد. ويدخل في هذا القسم أنواع: 1 - الرخص: كجمعه - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين. إذ إن فيه تقديم الصلاة عن وقتها، أو تأخيرها عن وقتها، وكلاهما حرام. وإنما يجوز الجمع عند سببه. ومثال آخر: تقريره الزاني باللفظ الصريح، والتصريح بمثل ذلك، لأنه من الفحش وهو محرم، وإنما جاز لسبب هو الأمن من إقامة الحدّ على بريء. ومثال ثالث: ما روى الترمذي: "أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير، فانتهوا إلى مضيق، فحضرت الصلاة، فمُطروا، السماء من فوقهم والبِلّة من أسفل منهم. فأذّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على راحلته. وأقام، فتقدم على راحلته فصلى بهم، يومىء إيماء، يجعل السجود أخفض من الركوع" (1). فالأصل أن صلاة الفريضة لا تجوز على الراحلة، لما في ذلك من نقص بعض الأركان، ولكن جاز لما ذكر في الحديث. 2 - العقوبات: وهي منوطة بأفعال معينة صدرت من المكلفين الذين أوقعت بهم، كقطع يد السارق، ورجم الزاني الثيب، وجلد القاذفين لعائشة رضي الله عنها. قال الشوكاني: "ما يفعله - صلى الله عليه وسلم - مع غيره عقوبة له اختلفوا فيه هل يقتدى به أم لا؟ فقيل يجوز، وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب، وهذا هو الحق. فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله، كان لنا أن نفعل مثل فعله عند وجود مثل ذلك السبب، وإن لم يظهر السبب لم يجز" (2).   (1) 2/ 458 (2) إرشاد الفحول ص 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 والأمر كما قال. 3 - ما أخذه - صلى الله عليه وسلم - من مال إنسان: فإن الأصل تحريمه، لقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} فإذا أخذ - صلى الله عليه وسلم - مال إنسان فلا يؤخذ مثله من مثله، حتى يعرف هل أخذه على وجه الزكاة، أو الصدقة، أو الهدية أو غير ذلك. وقد قال القاضي عبد الجبار: "لو أنه - صلى الله عليه وسلم - أكره غيره على أخذ شيء من ماله لعلمناه حقاً. فإذا علمنا سببه صح التأسي به" (1). 4 - العبادات الخاصة المرتبطة بالأسباب، فلا تفعل إلا عند وجود سببها. كصلاة الكسوف، لا تفعل إلا عند وجود السبب. وكسجود السهو، وسجود التلاوة، وكالقنوت في الصبح على رأي ابن تيمية ومن وافقه، فإنه يراه منوطاً بالنوازل، بناء على حديث أنس (2) أنه - صلى الله عليه وسلم -: "قنت شهراً بعد الركوع في صلاة الصبح، يدعو على رِعْلٍ وذَكْوانَ" (3). قال ابن تيمية، بعد أن ذكر حكم القنوت: "هذا النزاع الذي وقع في القنوت، له نظائر كثيرة في الشريعة. فكثيراً ما يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لسبب، فيجعله بعض الناس سنة، ولا يميز بين السنة العارضة والدائمة" (4). القسم الثالث: ما فعله لسبب فزال. ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعنى معين، ثم زال ذلك المعنى نقل فيه الزركشي (5) عن الماوردي حكاية قولين للشافعية: القول الأول: وقد قاله أبو إسحاق المروزي، أننا لا نفعله، لزوال معناه، إلا بدليل يدل على فعله بعد زوال المعنى. وبمثل هذا القول يقول أبو شامة (6).   (1) المغني 17/ 272 (2) البخاري 2/ 490، ومسلم 5/ 179 (3) رعل وذكوان اسمان لقبيلتين، تعرضوا لرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتلوهم. فكان يقنت ويدعو عليهم. (4) مجموع الفتاوى 23/ 4113، 114 (5) البحر المحيط 2/ 248 ب (6) المحقق ق 17 ب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 القول الثاني: ونسبه إلى ابن أبي هريرة: يقتدى به وإن زال معناه، نظراً إلى مطلق التأسيّ. لقوله تعالى: {واتبعوه}. ولما ورد في السنة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء، وأصحابه، اضطبعوا بأرديتهم ورملوا في الطواف من الحجر الأسود إلى الركن اليماني، ومشوا من اليماني إلى الأسود، فعلوا ذلك ثلاث مرات، وبيّن - صلى الله عليه وسلم - الغرض من ذلك بقوله: "رحم الله أمرأ أراهم من نفسه اليوم قوة". وكان المشركون قد وقفوا في المسجد الحرام من جهة الحِجْر، وقد قالوا فيما بينهم: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتم حمّى يثرب. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك ليظهروا الجلَد والقوة والنشاط، إرغاماً للمشركين، وكسراً لحدة سخريتهم. ثم بعد ذلك فتحت مكة، وقضي على قوة الشرك، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو وأصحابه في طواف القدوم ما فعلوه في عمرة القضية، مع زوال السبّب. فلم يكن هناك مشركون يقفون من جهة الحِجْر، ينظرون إلى المسلمين تلك النظرة. فدلّ ذلك على أن ما فعله لغرض فزال، أنه يستمرّ حكمه. وقد يعترض على ذلك بأن يقال: لم تخل مكة عند حجة الوداع أيضاً، من قوم حاقدين من أهل مكة، يتربّصون بالمسلمين الدوائر، ولو لم يروا من المسلمين قوة وشوكة ترهبهم لانتفضوا عليهم. وبهذا يتبين أن السبب لم يزل في حجة الوداع. فلأصحاب القول الثاني أن يجيبوا عن ذلك بجوابين: الأول: أن ما ذكرتم، لو سلّم، يقتضي المحافظة على الاضطباع والرمل أما المشي من الركن اليماني إلى الأسود، فذلك لا يقتضيه، إذ كان بالإمكان أن يستمرّ الرمل الأشواط الثلاثة، أو أن تكون الاستراحة بالمشي في غير الموضع الذي مشوا فيه أولاً. فلما حافظوا على المشي في المكان عينه الذي مشوا فيه أولاً، ورملوا في المكان الذي رملوا فيه أولاً. دل ذلك على أن الفعل يستمر حكمه وإن زال سببه. الثاني: إنه حتى بعد أن قوي الإسلام، وزالت العداوات والإحَن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 واجتمعت كلمة أهل مكة على الإسلام، لم يترك المسلمون الرَّمَل ولم يُعْلم خلاف بين أهل العلم في سنيته (1). والاضطباع سنّة كذلك عند الجمهور، وخالف فيه الإمام مالك. وعندما حجّ عمر بن الخطاب، وأتى المطاف، قال: "ما لنا وللرمل، إنما كنّا راعينا به المشركين" (2) ثم قال: "شيء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا نحبّ أن نتركه". وفي رواية أبي داود: قال عمر بن الخطاب: "فيم الرَّمَلان والكشف عن المناكب وقد أطّأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وذلك يدل على المطلوب. وقد نقل السبكي في قواعده (3) القولين، ومثّل للمسألة برجوعه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العيد في طريقٍ آخر. ثم ذكر المعاني المحتملة لذلك، ثم قال: "إن رجح معنىً مما ذكر، فمن وجد فيه ذلك المعنى كان مستحبّاً في حقه، ومن لم يوجد فيه فوجهان، والأصح الاستحباب". وهذا من السبكي يقتضي ترجيح القول الثاني، وهو قول ابن أبي هريرة أن الفعل النبوي يقتدى به، ولا يعتبر السبب. رأينا في هذه المسألة : الذي نراه ترجيح القول الأول، وهو أن الفعل إذا زال سببه، فلا يتّبع، لأن الفعل الذي فُعِل لغرض، إنما يكون اتباعه لتحصيل ذلك الغرض. فإن علم أنه لا يحصل، فإن فعل مثله لا يكون اتباعاً وتأسيِّاً، وإنما يكون غفلة ومخالفة. وأيضاً فإن السببية حكم شرعي، فإن كان الشيء مما لا يفعل إلا عند السبب لم يجز فعله بعد زوال السبب. ونستدل لذلك أيضاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلع نعليه في الصلاة فخلعوا نعالهم. فلما سلم قال لهم: "لم خلعتم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا   (1) ابن قدامة: المغني 3/ 373 (2) جامع الأصول 4/ 12 (3) قواعد السبكي ق 115، أ، ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 نعالنا. قال: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذىً. فإذا جاء أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد فيهما أذىً أو قذراً فليمسحه، وليصلِّ فيهما". فلم يصرْ خلع النعال في الصلاة سنة بخلع النبي - صلى الله عليه وسلم - لنعليه، إلا أن يكون عند وجود الأذى فيهما. أما إذا زال ذلك المعنى فلا، كما يشير إليه الحديث. فإن قيل: فما وجه استمرار الرمل والاضطباع سنة، حتى بعد أن انقضى السبب؟. فالجواب: أن هذا نوع من الأفعال غير ما تقدم ذكره. وذلك أن الشرع دل على أنه يراد لهذا الفعل أن يكون صفة من صفات الطواف، مشروعة فيه. وإيضاح ذلك، أن أفعال الحج مثلاً، كثير منها اتُّخذت فيه أفعال وأحوال متقدمة، من أيام إبرا هيم عليه الصلاة والسلام وأسرته، وقعت منهم، فاتُّخذت نموذجاً وضعت على مثاله أفعال الحج. ولنعتبر ذلك بالسّعْيِ بين الصفا والمروة. فأصله سعي أم إسماعيل بينهما، لتطلب الماء لابنها الذي تركته يضغُو عند زمزم. فعلت ذلك سبعاً، وقد هرولت في المنخفَض الذي هو بطن الوادي. فوُضِع السعي على مثال ذلك، وجعل جزءاً من أجزاء الحج. يقول ابن عباس مشيراً إلى هذه القصة، كما روى عنه البخاري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فذلك سعي الناس بينهما" (1). وكذلك تضحية إبراهيم بالكبش اتخذت أساساً لمشروعية الهدي. وقد أمرنا باتخاذ مقامه مصلى. وهذه الأفعال أبقيت في العبادات مستمرة دائمة، كما تبقى الأمم بعض الآثار الحسية المشاهدة، لتدلها على عظمة أسلافها السابقين، ولتكون ذكراها ماثلة أمام الأبناء، تثيرهم نحو التضحية والفداء، والاقتداء بسابقيهم من المعظّمين. فهذه آثار من الحجارة والطين، وتلك آثار من التفاني في طاعة الله.   (1) البخاري بشرحه فتح الباري ط الحلبي 7/ 209 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 يقول ابن دقيق العيد في شأن بقاء الرمل والاضطباع ونحوهما مما بقي من الأحكام بعد زوال سببه: في ذلك من الحكمة تذكر الوقائع الماضية للسلف الكرام. وفي طيّ تذكرها مصالح دينية. إذ يتبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله، والمبادرة إليه، وبذل الأنفس في ذلك. وبهذه النكتة يظهر لنا أن كثيراً من الأعمال التي وقعت في الحجّ، ويقال بأنها (تعبد)، ليست كما قيل. ألا ترى أنّا إذا فعلناها وتذكّرنا أسبابها، حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين، وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله، فكان هذا التذكّر باعثاً لنا على مثل ذلك، ومقرِّراً في أنفسنا تعظيم الأولين. وذلك معنى معقول" (1). اهـ. ثم ذكر أن السعي بين الصفا والمروة اقتداء "بفعل هاجر، وأن رمي الجمار سببه فعلُ إبراهيم، إذ رمى إبليس بالجمار في هذا الموضع". اهـ. فالذي نقوله إذن في فعله - صلى الله عليه وسلم - الرمَل والاضطباع، إنه اتخذ أساساً، وضعت العبادة على مثاله. فإن قيل: هذا يدل على أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - يقتدي بها حتى بعد زوال السبب. فالجواب: إن ما جعل منها مثالاً هو الذي يتبع. كالرمل والاضطباع، دون ما لم يجعل مثالاً، كحمل السيوف مثلاً، أو قعقعة السلاح، أو غير ذلك. والفرق بين النوعين أن الأول وضعته الشريعة أسلوباً للعبادة، ولم تضع الثاني. وإن كان هذا الثاني مستحبّاً عند وجود سببه وهو إخافة المشركين. لكن لم تجعله الشريعة جزءاً من عبادة الحج. ولو جعلته لصار منها. والحاصل، أن الفعل النبوي إذا فعل لسبب، ثم زال السبب، فإنه لا يقتدى به إلا بدليل يدل على ذلك، وهو قول أبي إسحاق المروزيّ المتقدم ذكره. والله أعلى وأعلم.   (1) الإحكام 2/ 75 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 القسم الرابع: ما فعله ولم نعلم سببه : ويدخل في هذا القسم ما جهل سببه بالكلية. ويدخل أيضاً ما دار بين أمور لا يدرى أيها هو السبب ولم يترجح واحد منها. والاقتداء بأفعال هذا القسم أعلى من الاقتداء بأفعال القسم السابق، لأن ما علم زوال معناه قطعاً لا يوازي ما جهل معناه مع احتمال أن يكون باقياً في حق المقتدي، إذ إنه قد يفعله حينئذٍ احتياطاً لعلّه أن يصادف السبب. ومن أجل ذلك كان حكمه أخفى. وقد قال أبو إسحاق المروزيّ في هذا النوع: يقتدى به (1). وضمّه إلى ما علم معناه وكان باقياً. ولم يضمه إلى ما زال معناه. وكذلك قال السبكي: يقتدى به بالإطلاق (2). وقال النووي أيضاً: يستحب التأسّي به قطعاً (3). وهذا هو الحق، ولا يجوز سواه. لأننا قد افترضنا أنه فعل شرعي، ليس جبليّاً ولا هو من الخواصّ. فلا شكّ أنه دله فعله لمصلحة مشروعة، إما لذاته وإما منوطاً بسبب. فإذا جهلنا السبب بقي احتمال حصول المصلحة بفعله قائماً، مرجّحاً للفعل على الترك، وذلك معنى الاستحباب. ويفارق أفعال القسم السابق، فإننا علمنا أن المصلحة لا تحصل بالفعل منها إلا عند سبب معين، فلا معنى لإيجاد الفعل مع القطع بإن المصلحة المطلوبة لا تحصل به. بخلاف أفعال هذا القسم الذي نحن فيه، فإن رجاء حصول المصلحة به لم ينعدم. وقد مثل له السبكي في قواعده بالذهاب للعيد من طريق والرجوع من طريق آخر. وجعل تكرار ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - دليل شرعيته. وذكر أن الشافعية قالوا في معناه أقوالاً:   (1) الزركشي: البحر المحيط 2/ 248 ب. (2) السبكي: القواعد 115 أ، ب. (3) الزركشي: البحر المحيط ق2/ 248 ب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 منها: أنه كان يطيل طريق الذهاب لتحصيل الفضيلة، ثم يرجع من طريق أقصر. قال وهذا هو الراجح عند الأكثرين. وقيل: ليتصدق فيهما. وقيل: ليسوّى بين أهل الطريقين. وقيل: لتشهد له الطريقان. وقيل: ليغيظ المنافقين بإظهار الشعار. وقيل غير ذلك. فهو مثال لما تردد فيه الفعل بين أسباب. ومثال ما لم ينقدح فيه سبب أصلاً تقبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - للحجر الأسود، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما وقف عند الحجر (1): "إني لأقبلّك، وإني لأعلم أنك حجر، وأنك لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك". وهذه قاعدة ينبني عليها الاقتداء بأفعال كثيرة مما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة التي لم تعلم أسبابها. فإنها ينبغي أن تكون محلاً للقدوة ولا ينبغي أن يقال: لا نفعلها إلا بعد معرفة السبب. فلو قيل ذلك لسقطت دلالة أفعال كثيرة تتصل بالشرع ولم تعلم أسبابها، تعلم من تتبع كتب الحديث ولكن الشرط أن يعلم أن الفعل خارج عن الجبليّ ونحوه مما تقدم، مما لا يقتدى به أصلاً. والله أعلم. استدراك : يلوح لنا في هذه المسألة تقييد: فإن الفعل إذا جهل معناه، ولكن دار بين احتمالات بعضها باق وبعضها زائل، فيتأتى القول السابق بصحة الاقتداء به. ومما هو زائد في المثال السابق الذي ذكره السبكي: قصد التصدق في الطريقين، فإنه زائد بالنسبة إلى من لا يريد أن   (1) رواه مسلم 19/ 17والبخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 يتصدق. وكذلك التسوية بين أهل الطريقين، فقد يكون أحد الطريقين لا ساكن به. وأما إذا قلنا: سببه تحصيل الفضيلة بأبعد الطريقين، فذلك يقتضي أن لو رجع أيضاً في الطريق الأبعد لحصل الاقتداء. وإن قلنا: المعنى أن يشهد له الطريقان، فذلك باقٍ لا يتصور زواله. ولكن إذا دار الفعل بين احتمالات كلها باقية فذلك يتأسّى به قطعاً ولا مجال للتردد، لحصول المصلحة قطعاً. وكذلك إن دار بين احتمالات كلها زائلة بالنسبة إلى المقتدي، فلا يكون الفعل بالنسبة إليه من هذا القسم، بل من القسم السابق وهو ما زال حكمه. والله أعلم. استدراك آخر : ما تقدم اختياره في أفعال هذا القسم هو ما كان الأصل في الفعل الإباحة، والسبب يقتضي فيه الاستحباب أو الوجوب، لولا ذلك السبب لكان من المباح. فيصح أن يقال حينئذٍ: يقتدى بفعله - صلى الله عليه وسلم - وإن جهل السبب. أما إن كان أصل الفعل التحريم أو الكراهة والسبب يقتضي الإباحة أو غيرها، فإنه إن جهل السبب لم يصح الاقتداء. ومثال ذلك الرخصة التي تبيح المحرّم. فلو أنه - صلى الله عليه وسلم - أفطر في رمضان لسبب لا ندري ما هو، لم يصح الاقتداء به، وكذلك لو عاقب إنساناً لسبب لم ندره. وحاصل هذه القاعدة، أن ما كان الأصل فيه المنع، فلا ننتقل عن هذا الأصل إذا صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل خارج عن ذلك لسبب لم يعلم. وشبيه بذلك في الاستدلال بالأقوال، أن بَرِيرَةَ كانت أَمَةً مملوكة كاتَبَها أهلها، فأرادت عائشة أن تشتريها لتعتقها، وأراد أهلها أن يشترطوا أن يكون لهم ولاؤها بعد عتقها. وذكرت عائشة ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق" (1).   (1) رواه مسلم 10/ 144 والبخاري ومالك في الموطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 فليس لغيره - صلى الله عليه وسلم - أن يشترط للبائعين شرطاً لهم فيه مصلحة وهو يعلم أنه لا يلزمه شرعاً، ويزعم أنه فعله بناء على إذنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، لما في ذلك من المخادعة الممنوعة شرعاً. فإن علم السبب جاز. والسبب على ما ذكره الشافعي في الأم (1) وما رجحه ابن القيم (2): استحقاقهم للعقوبة، جزاء على إقدامهم على مخالفة الشريعة، وهم يعلمون حكمها القاضي بأن "الولاء لمن أعتق" فمن اقتدى به عند حصول مثل هذا السبب جاز. والله أعلم.   (1) فتح الباري 5/ 191 (2) إعلام الموقعين 4/ 338 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 المبحث الثاني الفَاعِل وَجهَاته النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مبيناً بقوله وفعله، وملتزماً فيهما بالمنهج الرباني. وكان من تمام البيان الفعلي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في حياته بأدوار مختلفة في البيئة الاجتماعية التي كان واحداً من أفرادها. وكان في كل دور من تلك الأدوار قدوة لمن يأتي بعده - صلى الله عليه وسلم - ممن يمثل ذلك الدور. فكان الإنسان المسلم، ورب أسرة، وكان رئيس الدولة، ومتولي السلطات، والمحتسب، وقائد الجيش، والقاضي، والمفتي، وكان إمام الصلاة. وكان كثير من هذه الأدوار ممتزجاً بعضه ببعض، في شخصه - صلى الله عليه وسلم -. والتصرف الذي كان يتصرفه كان ينتمي إلى واحد أو أكثر من هذه الجهات من شخصه الشريف. والاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في فعل من أفعاله يكون صحيحاً إذا كان المقتدي به مساوياً له في الجهة التي صدر عنها ذلك الفعل. فالتصرفات الصادرة عنه بوصفه رئيس الدولة، يقتدي به فيها من كان بعده رئيس دولة. وما فعله بوصفه مفتياً، يقتدي به فيه المفتي. وما فعله بوصفه قاضياً، يقتدي به فيه القاضي. وما فعله بوصفه إماماً في الصلاة يقتدي به فيه الأئمة بعده. وذلك كتقدمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 أمام الصف، ونيته الإمامة، وجهره بالقراءة بصوت مرتفع، وسبقه لهم بأفعال الصلاة، واتخاذه سترة، وتركه التطوع مكان الفريضة. وسائر المصلين يقتدون به في ما يفعله بوصفه مصلياً مطلقاً، كرفع اليدين، والتكبير، وقول آمين والركوع والسجود ونحو ذلك. التمييز بين جهات الفاعلية: لكن تمييز ما ينتمي إليه الفعل من هذه الجهات المختلفة قد يكون أمراً بيّناً لا يختلف فيه، كما تقدم في ما ذكرناه من أفعال إمام الصلاة، وقد يكون مشكوكاً فيه فيقع الاختلاف فيه. وقد تبينت الحاجة إلى التمييز بين أوصافه التي ترجع إليها أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بل وأقواله، عندما انفصلت الأعمال في المجتمع الإسلامي، واختص بكل دور شخص معيّن أو طائفة من الناس. وبعض ذلك حصل في زمنه - صلى الله عليه وسلم -. لقد حاول الِقرافي محاول جادة، وضع قاعدة التمييز بين الجهات المختلفة المشار إليها، لكن في حيز الأحكام القضائية، وما يمكن أن تشتبه به، وذلك في رسالته (الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) ميّز فيها (1) بين أنواع من التصرفات: الأول: تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الرسالة. ومقتضاها التبليغ. يقول القرافي: "أما الرسالة فليس يدخل فيها إلا مجرد التبليغ ... وهذا لا يستلزم أنه فُوِّض إليه أمر السياسة العامة. فكم من رسلٍ لله تعالى لم يؤمروا بالنظر في المصالح العامة". الثاني: تصرفه بمقتضى الإمامة (السلطة العامة)، ومقتضاها السياسة العامة، وتنفيذ الأحكام، والقيام بالمصالح.   (1) انظر الرسالة المذكورة ص 87 - 94 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الثالث: تصرفه بمقتضى الإفتاء، وهو تطبيق الأحكام الشرعية على الوقائع دون إلزام. الرابع: تصرفه بمقتضى الحكم، يعني القضاء. وذلك يقتضي أن له سلطة إنشاء الأحكام القضائية. ونحن قد توسّعنا في بيان جهات أخرى غير ما ذكره القرافي. ونضيف أيضاً بيان الحكمة في جمعه - صلى الله عليه وسلم - لهذه المناصب، وفائدتها من جهة التبليغ. فقد يُقال: إنه كان بالإمكان أن يقوم - صلى الله عليه وسلم - بمهمة الرسالة وحدها، أي بمجرد التبليغ. فيبيّن بقوله ما على رئيس الدولة أن يفعله وما على القاضي أن يفعله، وهكذا المحتسب، وإمام الصلاة، والمفتي وغيرهم، وما لهم أن يفعلوه أيضاً. والجواب ما تقدم من أن وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومهمته التي حددت في القرآن ليست مقصورة على التبليغ. بل منها التعليم والتزكية أيضاً، وذلك يتمّ بأن يكون ما بلغه - صلى الله عليه وسلم - بالقول، مطبّقاً تطبيقاً حيّاً مشاهَداً، ليحصل تمام الإدراك والتعقل لما يبلغه بالقول. فحصل بجمعه - صلى الله عليه وسلم - منصب القضاء إلى منصب الرسالة البيان الفعلي لما يراعى في القضاء من الأحكام الشرعية. وبجمعه منصب الإفتاء إلى منصب الرسالة البيان الفعلي لما يراعيه المفتي عند إصداره الفتيا. وبجمعه إمامة الصلاة البيان الفعلي كذلك. وكذلك يقال في الإمامة العامة والإدارة، وما سواها من المناصب. وكان هذا أظهر في الحكمة من أن يكون متوليّاً منصب الرسالة وحده، إذ لا تتبين حينئذٍ الأحكام الشرعية المتعلقة بسائر المناصب إلا قولًا فقط، وذلك يكون قصوراً في البيان والتعليم. والله عليم حكيم. ولكن قد حصل بسبب هذا الجمع بين المناصب اشتباه في بعض الأحكام المستفادة من الفعل: أهي أحكام شرعية عامّة تلزم الأمة، أم هي أحكام خاصة موقتة، تلزم من تعلقت به وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 أو بعبارة أخرى: هل هي صادرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصفه رسولاً، أو بغير ذلك من صفات، من الجهات التي تقدم ذكرها. لقد ذكر الأسنوي من هذه الجهات ثلاثاً: منصب النبوة، ومنصب الإمامة العامة، ومنصب الإفتاء. ثم قال: "إن ما ورد بلفظ يحتمل رده إلى المناصب الثلاث يحمل عند الشافعي على التشريع العام، لأنه الغالب من أحواله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه المنصب الأشرف، ولأن الحمل عليه أكثر فائدة، فوجب المصير إليه ... وقال أبو حنيفة: يحمل على الثاني لأنه المتيقن" (1). وقال القرافي أيضاً: "إن غالب تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ، لأن وصف الرسالة غالب عليه - صلى الله عليه وسلم -" (2). ونحن نضرب أمثلة يتبين منها ما تقدم ذكره في هذا المطلب: المثال الأول : عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي، فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمني على اليسرى (3). بوّب عليه النسائي: باب في الإمام إذا رأى رجلاً قد وضع شماله على يمينه. وهو تبويب حسن. لأن هذا الحكم وإن كان من باب تبليغ الشريعة، وهو لائق بمنصب النبوة، ويقتدي به كل أحد، إلا أن ذلك ألصق بمهمة إمام الصلاة المرتّب لها، فكما أنه يقيم للناس صلاتهم بمتابعتهم له، فكذلك ينبغي أن يعلمهم إتقان صلاتهم. وكما قيل في هذا الحديث، يقال في حديث المسيء صلاته، وحديث مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - مناكبهم في الصلاة ليستووا، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتخولهم بالموعظة، وسائر ما فيه وعظ أو إنكار أو تعليم من النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الصلاة والوضوء وغيرهما من   (1) الأسنوي: التمهيد ص 156 (2) الفروق 1/ 208، 209 و3/ 8 (3) رواه النسائي 2/ 126 وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الأحكام الشرعية، والآداب والأخلاق الدينية، مما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - في مسجده، ينبغي أن يجعل مثل ذلك من مهمة إمام المسجد، ووظيفته. ويمكن البحث من هذه الجهة، في كثير من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - المتعلقة بالمسجد، كبناء بيوته - صلى الله عليه وسلم - ملتصقة بالمسجد، فإن ذلك يمكن جعله أصلًا لتقريب بيت الإمام من المسجد. ومناسبة ذلك ظاهرة. المثال الثاني : قصة حديث ذي اليدين في تسليم النبي - صلى الله عليه وسلم - من نقص، وما جرى من السؤال والجواب بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين ذي اليدين وأبي بكر وعمر، ثم أتمَّ الصلاة وسجد للسهو. قيل إن ذلك يدل على أن من سلم من نقص ثم تكلم، يظن أن صلاته قد تمت لم تفسد صلاته. وهو مروي عن مالك. وقيل تفسد صلاة الجميع. وقيل إن عدم فساد الصلاة بذلك مختص بالإمام. وتفسد صلاة من تكلم غيره. وهو مذهب الحنفية. واعتذروا عن تكلم أبي بكر وعمر بأن كلامهما كان جواباً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت إجابتهما للنبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة عليهما ولو في الصلاة، أو كان جوابهما بالإيماء لا بالقول. وعن تكلم ذي اليدين بأنه تكلم سائلًا عن نقص في الصلاة في وقت يمكن ذلك فيها. قالوا: والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان إماماً، فيدل ما فعله على حكم فعل الإمام، ويبقى ما عداه على الأصل (1). المثال الثالث : حديث عبد الله بن زيد أن النبي خرج يستسقي، فحول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة، ثم حول رداءه.   (1) انظر: ابن قدامة: المغني 2/ 50، ابن دقيق العيد: الإحكام 1/ 256 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 قال جمهور الفقهاء: يستحب لكل من حضر صلاة الاستسقاء، من إمام ومأموم تحويل أرديتهم. وقال الليث، وأبو يوسف، ومحمد: يستحب ذلك للإمام دون المأموم لأنه نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أصحابه (1). فالخلاف هنا راجع إلى الاحتمال الذي ذكرنا في أول هذا المطلب. المثال الرابع : عن سلمة بن الأكوع قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "من ضحّى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء". فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: "كلوا، وأطعموا، وادّخروا، فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيها" (2). فإن آخر القصة يدل على أن النهي الأول كان صادراً عنه - صلى الله عليه وسلم - بوصفه صاحب السلطة الإدارية، وكان هذا منه إجراء موقتاً لعلاج حالة اجتماعية طارئة بما يحقّق المصلحة ويدرأ المفسدة. ولكن باجتماع منصب السلطة مع منصب الرسالة يدل هذا الحديث أنه يجوز لصاحب السلطة الإدراية أن يتخذ مثل هذا الإجراء، بالمنع من بعض المباحات، ولا يكون ذلك مخالفاً لعقيدة الإسلام ولا شريعته. ومثل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين: "من قتل قتيلاً فله سلبه" هو عند الحنفية من باب تصرفات الأئمة. ويمكن البناء عليه أن للإمام أن يضع مثل هذا القانون لتحصيل مصلحة معينة عسكرية أو مدنية. المثال الخامس : حديث غضبه - صلى الله عليه وسلم - حين علم أنه علي بن أبي طالب يريد أن يتزوج بنت أبي جهل على فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورفضه - صلى الله عليه وسلم - الموافقة على ذلك (3).   (1) ابن قدامة: المغني 2/ 434 (2) رواه البخاري 10/ 24 (3) راجع صحيح البخاري وشرحه فتح الباري 9/ 327 وصحيح مسلم 3/ 16 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وقد ذكر ابن حجر أن ذلك يحمل على ثلاثة أوجه: الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - حرَّم ذلك على علي خاصة. الثاني: أن الجمع كان مباحاً لعليّ، ولكن منعه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك رعاية لخاطر فاطمة، وقَبِل علي ذلك امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: إنه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرم التزوج على بناته. أو على فاطمة خاصة، وهو راجع إلى الأول. ولما كان الأصل عدم الخصوصية كما تقدم فإن أصوب ما تحمل عليه القصة الوجه الثاني، ويكون ما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع بصفته واحداً من المسلمين، وغضب كما يغضب الواحد منهم، ورفض كما يرفض الواحد منهم، أن يكون لابنته ضَرّة. ويؤيد ذلك أن في إحدى روايات هذه القصة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإني لست أحرّم حلالاً، ولا أحِلُّ حراماً" (1). فهو إذن أمر شخصي بحت، لا علاقة له بالتشريع. بل كما لو استؤذن أي رجل من سائر الناس في أن يتزوج صهره على ابنته فإنه قد يرفض، وإن لم يكن ذلك ممنوعاً ولا مكروها. ثم قد يطيعه صهره ويرعى خاطره إن كان له فضل عليه. وذلك كله في حيّز المباح. ويؤيد هذا ما وقع في بعض روايات البخاري للحديث، أن فاطمة قالت له - صلى الله عليه وسلم -: "إن الناس يزعمون أنك لا تغضب لبناتك" أي: كما يغضب سائر الناس. فقال - صلى الله عليه وسلم - ما قال. ويؤيده أيضاً أن في رواية مسلم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإن فاطمة بضعة مني يَرِيِبُني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها". المثال السادس : قالت هند بنت عتبة: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (2).   (1) رواه مسلم 16/ 4 (2) حديث هند رواه البخاري 9/ 507 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم في حقّ أبي سفيان وهو غائب. فهل يدل هذا على جواز الحكم على الغائب؟. قال بعض الشافعية: يجوز، واحتجوا بهذا الحديث. وترجم عليه البخاري: (باب القضاء على الغائب). وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وقال النووي: لا يصح الاستدلال، بل هو إفتاء. والذي عين جهة الإفتاء ما ثبت من أن أبا سفيان كان حاضراً بمكة (1). فلو كان ذلك القول قضاء للزم أن يحضر المجلس. المثال السابع : أحاديث الإقطاع، منها أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير حضر فرسه، وأقطع وائل بن حجر معادن القبلية. وغير ذلك. وهذا بالاتفاق صادر عنه - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إماما للعامة. وينبني على ذلك أن للإمام أن يقطع من الأراضي التي لم يَجْر عليه ملك لأحد، في حدود المصلحة.   (1) ابن حجر: فتح الباري 9/ 510 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 المبحث الثالث جهَاتُ المفعُول بهِ القول هنا شبيه من بعض الوجوه بما تقدم من القول في جهات الفاعل، غير أن المجال هنا أضيق. ومما اختلف فيه من الفعل بسبب اختلاف جهات المفعول به، صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي عندما مات بأرض الحبشة، فمن منع الصلاة على الغائب، اعتذر عن هذا الحديث بأن النجاشي لم يصل عليه ببلده أحد (1). ومن ذلك في باب صلاة الجنازة أيضاً، أنه - صلى الله عليه وسلم - قام عند صدر الرجل ووسط المرأة. فذهب الحنابلة والشافعية إلى استحباب ذلك لظاهر الحديث. وقال أبو حنيفة: يقوم عند صدر الرجل وصدر المرأة لأنهما سواء (2). ومثله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بصبي لم يأكل الطعام فأجلسه في حجره، فبال على ثيابه. فدعا بماء فنضحه ولم يغسله (3). فقيل بناء عليه: ينضح بول الغلام والجارية، ولا يجب غسلهما. وقيل يغسلان جميعاً. وقيل ينضحان جميعاً، وهو الأصح ما لم يأت من فرّق بينهما بحجة قائمة. لأن الأصل المساواة.   (1) ابن دقيق: الأحكام 1/ 352 (2) ابن قدامة: المغني 2/ 90 (3) صحيح البخاري وفتح الباري 1/ 327 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 المبحث الرابع مَكان الفعْل وَزمانِه يعلم مما تقدم في الفصول السابقة حكم أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلينا، على أساس استواء الحكم بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم -. ومن المعلوم أن فعله - صلى الله عليه وسلم - يقع في ظرف زماني ومكاني، ولا بدّ. فهل الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - يقتضي أيضاً مساوتَه في زمان الفعل ومكانه؟. ولكي نوضح المقصود بهذا السؤال، نقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه الجمعة مثلاً في مسجده، وفي الوقت المعلوم. وفهم الفقهاء أن المسجد معتبر، وأن الوقت معتبر كذلك، فتفعل صلاة الجمعة في المسجد في الوقت الذي صلى فيه، وذلك مستفاد من قضية التساوي. ومن أجل ذلك يبحثون عن الأوقات التي صلى فيها، لتكون القدوة على أتمها بإيقاع الصلاة في مثل ذلك الوقت. ومثل ذلك في اعتبار المكان: الوقوف خاص بعرفة، والطواف خاص بالبيت، وركعتا الطواف خاصتان بمقام إبراهيم، ونحر الهدي خاص بمكة. ومثل ذلك في الزمان: الصوم خاص برمضان، وركعتا الفجر بعد طلوعه، وبعض الصوم خاص بالاثنين والخمسين وعاشوراء. ومما لم يعتبر فيه المكان: الصوم، والذكر، وصلاة النفل المطلق، والبيع والشراء وعقد النكاح، وغير ذلك. الأدلة الدالة على اعتبار الزمان والمكان، أو الغائهما : 1 - قد يدل على اعتبار المكان أو الزمان بالقول. ومثاله في المكان، ما قاله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، في عرفة "وقفت هنا وعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 كلها موقف" فدل على اعتبار عرفة في الوقوف، وألغى خصوصية المكان الذي وقف فيه من عرفة. وقال كذلك بمزدلفة "وقفت هنا -يعني عند جبل قُزَح- وجمعٌ كلها موقف" وقال بمنىً: "نحرت هنا ومنى كلها منحر". وفي رواية: "وكل فجاج مكة منحر". ومثاله في الزمان: ما في حديث عائشة، أنه - صلى الله عليه وسلم - صام عاشوراء وأمر بصيامه. ومثاله إلغائه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي بعد العصر، وينهى عنه (1). 2 - أن يفعله - صلى الله عليه وسلم - بالمكان المعيّن، قاصداً أن يُتّخذ من بعده لمثل ذلك الفعل. ومثاله أن عتبان بن مالك طلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي في بيته في مكان يتخذه مصلى (2). ففعل. 3 - التكرار: فقد قيل بأنه يجب اعتبارهما في التأسّي إذا كرر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفعل في ذلك المكان أو الزمان. نقله الباقلاني (3) عن قوم، وضعفه. وإذا ترك الفعل في الزمان أو المكان فلم يفعله مرة أخرى مع التمكن والسعة فقد يدل ذلك على عدم اعتبارهما. كتركه - صلى الله عليه وسلم - قصد غار حراء وغار ثورٍ أن يأتيهما للتعبّد فيهما، في أيام الفتح وحجة الوداع. وتركه - صلى الله عليه وسلم - الفعل المعيّن في مكان آخر، ثم عوده إلى الفعل في المكان الأول يدل على اعتباره، كتركه الجمعة في السفر والعودة إليها في الحضر، يدل على أن الحضر معتبر، بخلافه في صلاة الجماعة. 4 - نقل الصحابي للفعل مقروناً بذكر الزمان أو المكان. ولم أجد أحداً ذكر   (1) حديث: كان يصلي بعد العصر وينهي عنه: رواه أبو داود من حديث عائشة. (2) رواه البخاري في مواضع ومسلم 1/ 242 ومالك 1/ 173 (3) أبو شامة: المحقق ق 39 أ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 هذا النوع. وهو واضح من ذكرهم لنظائره في مواضع أخرى. ووجهه أن الصحابيّ قد رأى قرائن الحال، وربما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظاً تدل على اعتبار الظرف لم ينقلها إلينا. وهو عدل، فيقتضي أن الأمر كما قال. وخاصة إذا احتج به، أو أمر به. ومع ذلك فهذه أمارة ضعيفة. ووجه ضعفها احتمال أن مراده بنقل الزمان أو المكان مجرد الإخبار، دون الاحتجاج. ولو وضح أنه يريد الاحتجاج، فذلك رأيه، وليس قوله حجة. وكونه رأى قرائن تدل على ذلك ليس إلا مجرد احتمال. ثم إذا انضمت هذه الأمارة إلى التكرار قويت الدلالة على ذلك، ومثاله حديث جابر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت ... والصبح كان يصليها بغلس" (1). يدل ذلك على أفضلية إيقاع الصلاة في هذه الأوقات. ومثاله أيضاً حديث ابن عمر: "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي مسجد قباء كلَّ سبت فيصلي فيه ركعتين" (2). وقد أيّد مشروعيته قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحقُّ أن تقوم فيه} على القول بأن المراد بالمسجد في الآية مسجد قباء. ما يعتبر من زمان الفعل النبوي ومكانه : أما ما دل دليل خاص على اعتباره في التأسّي من الزمان أو المكان، فإنه يعتبر، اتفاقاً. وما دل الدليل الخاص على إلغاء التأسّي فيه، فهو ملغى اتفاقاً. وما لم يدل دليل خاص على اعتباره ولا على إلغائه فقد اختلف فيه على مذاهب: المذهب الأول: أن الأصل عدم اعتبار الزمان ولا المكان. وهذا مذهب   (1) حديث جابر: متفق عليه. (2) البخاري 3/ 69 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 القاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي (1)، وتلميذه أبي الحسن، وابن الهمام الحنفي (2) والقاضي الباقلاني، والغزالي (3) والآمدي (4). استدل عبد الجبار بأن اعتبارهما يؤدي إلى نقض التأسي وإبطاله، لأنه يقتضي أن المتأسي لا بد أن يفعل الفعل في الوقت نفسه الذي فعل فيه المتأسي به، وقد فات، فيؤدي إلى أن التأسي مستحيل. وكذلك في المكان، إذ من المستحيل جمع الناس في مكان واحد، هو المكان الذي حصل فيه الفعل المتأسَّى به. فيؤدي ذلك إلى نقض التأسي وإبطاله وقد قال أبو الحسين (5) في إبطال هذا الاستدلال: "هذا إنما يمنع من اعتبار زمان معين، ولا يمنع من اعتبار مثل الزمان كما في صلاة الجمعة، ولا يمنع من اعتبار ذلك المكان في زمان آخر، ولا يمنع من اعتباره إذا كان المكان مستعاً كعرفة". واحتج عبد الجبار بأن الواجب الاقتصار في صفات الفعل ومتعلقاته على أقل قدر، لأننا لو اعتبرنا الأكثر من الصفات لكان في ذلك التضييق الذي لا يقف عند حد، حتى يؤدي إلى امتناع التأسي، كما تقدم. يقول عبد الجبار: "يلزم على ذلك أن يعتبر محل الفعل كما اعتبر المكان والوقت. وأن تعتبر الآلة. وأن تعتبر أعيان الأشخاص، حتى إذا أخذ - صلى الله عليه وسلم - الزكاة من العربيّ يعتبر النسب في ذلك وسائر الصفات. وهذا باطل. فلا بد إذن من اعتبار الأقل في ما يمكن معه التأسي، وإنما يقال بما زاد عليه لأجل الدليل الذي يقتضيه". المذهب الثاني: أن الأصل اعتبار الزمان والمكان كليهما في التأسي. وإلى هذا ذهب أبو عبد الله البصري (*) كما نقله عنه أبو الحسن في المكان خاصة وسكت   (1) المغني 17/ 269 (2) التحرير، وعليه التقرير والتحبير 2/ 303 (3) أبو شامة: المحقق ق 39 أ (4) الإحكام 1/ 245 (5) المعتمد 1/ 372 (*) أبو عبد الله البصري هو الحسين بن علي. أخذ عن ابن خلاد وعن أبي هاشم الجبائي وأبي الحسن الكرخي. له ترجمة في (المنية والأمل) لابن المرتضى اليماني ص 62 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 عن الزمان (1) ونقله الباقلاني عن قوم لم يسمهم (2). المذهب الثالث: يعتبر المكان، ولا يعتبر الزمان. نقله أبو نصر القشيري (3) عن (قوم من الأصوليين) لم يسمهم، ولم يبين الوجه في تفريقهم بينهما. ويمكن الاستدلال لاعتبار المكان بفعل ابن عمر وسالم ابنه، إذ كانا يتحريان الصلاة في المواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره إلى مكة. ولكن ذلك معارض بما ثبت عن عمر أنه رأى الناس يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك، فقالوا: قد صلى النبي فيه - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "من عرضت له الصلاة فليصلّ، وإلا فليمض، فإنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً" (4). المذهب الرابع: اعتبار الزمان دون المكان. وإليه يميل ابن تيمية. فقد ذكر عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في مسجد الفتح ثلاثاً: يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه. قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة، فأدعو فيها، فأعرف الإجابة. يقول ابن تيمية: "هذا الحديث يعمل به طائفة من أصحابنا وغيرهم، فيتحرون الدعاء في هذا الوقت، كما نقل عن جابر. ولم ينقل عن جابر أنه تحرى الدعاء في المكان، ولكن تحرى الزمان" (5). رأينا في ذلك: الذي نراه ترجيح القول الأول، وهو أن الأصل عدم اعتبار الزمان والمكان في التأسّي، ما لم نعلم أنه مقصود ومتحرىًّ شرعاً.   (1) المعتمد 1/ 373 (2) أبو شامة: المحقق ق 39 أ. (3) أبو شامة: المحقق 39 أ (4) ابن حجر: فتح الباري 1/ 569 وانظر أيضاً: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم ص 386 (5) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم ص 433 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وترجيحه من وجوه: الأول: ما تقدم عن القاضي عبد الجبار من أن اعتبارهما تضييق وتحجير في التأسّي. فينبغي إلغاؤهما ليتسع الحكم. الثاني: أن الزمان والكان ظرفان للأفعال، ولا بد لكل فعل مهما كان، من أن يقع في زمان ومكان. ولا شك أن الذي يقصد اعتباره من ذلك هو الأقل، فيجب بيانه. ويبقى الأكثر وهو غير المعتبر. الثالث: أن يقال: إن تخصيصنا للمكان أو الزمان بناء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل فيه، إما أن يكون لخاصية نشأت من إيقاعه - صلى الله عليه وسلم - العمل فيه وإما لخاصية موجودة فيه قبل أن يفعل فيه - صلى الله عليه وسلم - فعله. فأما الاحتمال الأول فقد تقدم إبطاله في المطلب الخاص بسبب الفعل. وأما الثاني وهو أن يكون في الظرف خاصيّة تقتضي تخصيصه بالعبادة، فلا يصح بناء الأحكام الشرعية عليه، لوجهين: أولهما: أن احتمال وجود الخاصية المذكورة معارض باحتمال عدم وجود خاصية أصلاً، وأن وقوع الفعل في ذلك الظرف طرديٌّ محْض كتغيُّم السماء وصحوها، وخاصة إذا خلا من المناسبة، كما في عقد النكاح في شوال والدخول فيه. وثانيهما: أن البناء على مجرد احتمال الخاصيّة لا يصلح ولا بد من بيان ذلك بالقول أو غيره. أما مجرد إيقاع الفعل في الظرف فلا يكفي بياناً، لما تقدم من أن الظرف ضروري للفعل من حيث هو فعل. ولا تبنى الأحكام الشرعية إلا على علم أو ظن، ناشئ عن دليل. فالقاعدة إذن عدم اعتبار المكان والزمان في التأسّي، إلا بدليل خاص يدل على ذلك. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أمثلة تطبيقية : المثال الأول: مكان نحر الهدي للمحصر. قال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ... فإن أُحصرتم فما استيسر من الهدي} ونحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هديهم حيث احصروا. ذهب أبو حنيفة إلى أن هدي المحصر ينحر بالحرم، كهدي غير المحصر. وذهب مالك والشافعي إلى أنه ينحر في مكان الإحصار (1). وعن أحمد روايتان كالمذهبين (2). استدل لأبي حنيفة (3) بقوله تعالى: {ثم مَحلُّها إلى البيت العتيق} وبتسميته هدياً، والهدي ما يهدى إلى البيت. واستدل لمالك والشافعيّ بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (4). قال القرطبي: "ينحر حيث حلّ، اقتداء بفعله عليه الصلاة والسلام بالحديبية". ومقتضى القاعدة التي ذكرناها، وهو الراجح عندنا في هذه المسألة، أن هدي المحصر يجب نحره بالحرم، وأما الفعل النبوي من ذبحه خارج الحرم فهو خارج على سبب، وهو أنه قد حيل بينه وبين إرساله الهدي إلى الحرم. ودليل ذلك قوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهديَ معكوفاً أن يبلغ مَحلّه} يعني (وصدّوا الهَدْي). يقول الجصاص: (5) "هذا من أدل الدليل على أن محلّه الحرم: .. فلما أخبر عن منعهم الهديَ عن بلوغ مِحلّه، دل ذلك على أن الحِلَّ ليس بَمَحِلّ له".   (1) تفسير القرطبي 2/ 379 (2) ابن قدامة: المغني 3/ 358 (3) ابن الهمام: فتح القدير 2/ 297 (4) المجموع 8/ 267 وانظر أيضاً: الشافعي: الأم 2/ 159 (5) أحكام القرآن 1/ 273 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وعلى هذا يكون المستفاد من الفعل النبوي جواز ذبحه في مكان الإحصار في حالة عدم القدرة على إرساله إلى الحرم. والله أعلم. المثال الثاني: إقامة صلاة الجمعة بالقرى. قال الحنفية: لا تقام إلا بمصر جامع. وقال الشافعية والحنابلية والمالكية: تقام بالقرى. احتج الحنفية بحجج منها: كما في بدائع الصنائع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقيم الجمعة بالمدينة، وما روي إقامتها حولها، وكذا الصحابة رضي الله عنهم، فتحوا البلاد، وما نصبوا المنابر إلا في الأمصار (1). واحتج الآخرون بحجج منها ما روي عن ابن عباس، أنه قال: "إن أول جمعة جُمعت بعد جمعةٍ في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجواثى من قرى البحرين" (2). وقال الحنفية في رد هذا الاستدلال: القرية في عرف المتقدمين المصر، المثال الثالث: جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة، وهو جالس بين أصحابه. فوهبت نفسها له ليتزوجها، فكأنه لم يرد ذلك، فقال بعض أصحابه: إن لم يكن لك بها حاجة فزوِّجنْيها، فزوَّجَه بها، وفي رواية: كان ذلك في المسجد (3). واضح أن الفعل يدل على الجواز، فلا حرج في إجراء عقد النكاح في المساجد. ولكن لا يصح القول بأنه مستحب فيها، لعدم الدليل على ذلك.   (1) بدائع الصنائع 1/ 261 (2) رواه البخاري وهذا لفظه. ورواه أبو داود بمعناه (جمع الأصول 6/ 443) (3) فتح الباري 9/ 206 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 المبحث الخامس هَيئَة الفعل قد قال البلاقاني في هيئة الفعل كلمة تناقلها من بعده كالغزالي وأبي شامة والزركشي (1). وهي أن ما يقتدى به من الأفعال النبوية تتبع هيئته. يقول الغزالي: "إن قيل: إن فعَلَ (النبي - صلى الله عليه وسلم -) فعلا، وكان بياناً، ووقع في زمان ومكان وعلى هيئة، فهل يتبع الزمان والمكان والهيئة؟ قيل: أما الهيئة والكيفية فنعم، وأما الزمان والمكان فلا مدخل له إلا أن يكون لائقاً به بدليل". ولم يبينوا لنا ما الهيئة التي يشيرون إليها. ولا أنها تتبع وجوباً أو استحباباً. ويظهر أن المقصود بالهيئة أن يتركب الفعل من أجزاء ذات أوضاع خاصة، مع الأخذ في الاعتبار كيفية ترتّب تلك الأجزاء بموقع بعضها من بعض. فإن كان هذا هو المراد، فأوضح ما يمثل به لذلك هيئة الصلاة من كونها ذات قيام بعده ركوع بعده رفع ثم سجودانِ بينهما جلسة إلى آخر ما يذكر في صفة الصلاة. ولكن هذا الأمر، وهو اتباع الهيئة، هو في الصلاة واضح لا إشكال فيه، وذلك لأن لها هيئة اجتماعية علمت من قرائن كثيرة، وإشارات في الكتاب والسنة، هي دليل الترتيب. أما ما لم يكن كذلك من الأفعال فهل تتبع هيئته أيضاً؟.   (1) انظر: المستصفى 2/ 52. المحقق 39 أ. البحر المحيط 2/ 252 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 والذي نقوله إن إتباع الهيئة، إذا لم يُدَلّ عليها إلا بالفعل النبويّ المجرد، لا يزيد عن أن يكون مستحباً. فأما إن كان الفعل بياناً لهيئة مأمور بها فيدل على وجوب تلك الهيئة، وذلك كما أن الله أمر بالسجود، فعلّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود بهيئته المطلوبة التي يتحقق بها كونه سجوداً. لكن ما خرج عن تبين حقيقة السجود من الهيئات، كالتّخْوِيَة، وضمِّ الأصابع، وتوجيهها إلى القبلة، فيكون مستحبّاً لا غير، أخذ من قاعدة الفعل المجرد الذي ظهر فيه قصد القربة، فهي وإن كانت من أجزاء الصلاة، إلا أنها في ذاتها أفعال يراد بها القربة، إذ إنها تعين على الخشوع واستحضار التوجه إلى الله. وكذلك هيئة الطواف. فقد تبين بفعله - صلى الله عليه وسلم - وجوب البدء من عند الحجر الأسود، وجعل البيت عن يساره وهذا ما يتحقق به كون الفعل طوافاً. وأما ما زاد عن ذلك كالرمل بين الركنين والاضطباع، والأذكار، فهي أمور خارجة عن حقيقة الطواف، فتكون من قبيل الأفعال المجردة، ويقتدى بها استحباباً إن وضح أن المراد بها القربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 المبحث السَّادس الدلالة الاقتِرانيّة مرادنا بالاقتران أن يقع الفعل النبوي مقارناً أو سابقاً أو لاحقاً لفعل آخر مع كون الفعلين ليسا جزأين لفعل واحد. فإن الأفعال التي تكوِّن فعلاً واحداً قد تقدمت في المبحث الخاص بالهيئة. والذي يظهر لنا أن الفعل إذا اقترن بفعل آخر علم ارتباطه به حتى يكون كالوصف له (1)، بدليل قولي، فإنه يؤخذ بذلك. وإن لم يكن دليل قولي، فالأولى النظر إلى ذلك حسب قاعدة التأسّي بالأفعال المجردة دون قاعدة الفعل البياني، والله أعلم. مثال أول : ومن أوضح الأمثلة لذلك ما روى ابن مسعود: "أن المشركين شغلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذَّن. ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء" (2). فقال المالكية والحنفية والحنابلة: يجب الترتيب بين الفوائت، حتى لو قدم العصر على الظهر مثلاً فإنه يعيد العصر. وقال الشافعية: لا يجب ذلك بل هو مستحب.   (1) انظر الموافقات للشاطبي 3/ 35 - 38 (2) حديث ابن مسعود رواه الترمذي والنسائي (جامع الأصول 6/ 141) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 استدل الأولون بالفعل النبويّ، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فأدخلوا في دلالة الفعل الدلالة الاقترانية، وحملوها على الوجوب. وقد تقدم أن الصواب من حديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" لا يصلح دليلاً للتمييز بين واجبات الصلاة ومستحباتها، بل تبقى أفعال الصلاة من هذه الناحية في حكم الفعل المجرّد. وبيّنّا أن الفعل المجرّد إذا لم يتقدم دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الوجوب فلا يكون واجباً. ولم تقم قرينة على أنه - صلى الله عليه وسلم - رتب بين الفوائت على سبيل الوجوب، فلا يبقى إلا أنه فعل ذلك استحباباً. فهذه طريق من طرق الاستدلال على كون مذهب الشافعية في مسألة الترتيب بين الصلوات المقضية أرجح. والله أعلم. مثال آخر : حديث ابن عمر: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها، وسجدتين بعد الجمعة، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء. فأما المغرب والعشاء ففي بيته. وحدثتني حفصة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين بعدما يطلع الفجر" (1). وروي نحوه عن عائشة (2). فقد تضمن هذا الحديث من متعلقات الفعل ثلاثة أشياء: 1 - العدد، وسيأتي في مطلب خاص إن شاء الله. 2 - والمكان، وقد تقدم أن الفعل لا يدل على اعتباره في التأسّي إلا بقرينة. وقد قال ابن حجر: استُدِل بهذا الحديث على أن فعل النوافل الليلية في البيوت أفضل منه في المسجد، بخلاف رواتب النهار. قال: وفي الاستدلال بهذا الحديث لذلك نظر، والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد.   (1) رواه البخاري (3/ 50) (2) رواية عائشة عند مسلم (نيل الأوطار 3/ 16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أقول: ولعلّ هذا من تتبعات ابن عمر لأمكنة العبادة النبويّة، مما لم يكن غيره من الصحابة يعيرها باله، ولا يلتفت إليه. 3 - الاقتران بالفريضة، قبلها أو بعدها، وهو المراد هنا. والاتفاق واقع على أن هذا الارتباط بين الرواتب والفرائض معتبر، وإنما اختلف الفقهاء في العدد والمكان. ولعلّ الذي دلّ على أن هذه المقارنة معتبرة في هذا المثال اتفاق ابن عمر وعائشة على ملاحظتهما، مع الاستمرار من النبي - صلى الله عليه وسلم - على رعايتها، وخاصة في الركعتين اللتين قبل صلاة الفجر. قالت عائشة: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشدّ تعاهداً منه على ركعتي الفجر". ... مثال رابع: النظائر القرآنية عند ابن مسعود : ورد من حديث ابن مسعود أنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ النظائر سورتين في الركعة: الرحمن والنجم، في ركعة. واقتربت والحاقة، في ركعة والطور والذاريات، في ركعة. وويل للمطففين وعبس، في ركعة" قال أبو داود: هذا تأليف ابن مسعود. ولا يدل هذا الاقتران على وجوب ولا استحباب، والغالب أنه وقع عرضاً، فليس هو مما ظهر فيه قصد القربة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 المبحث السابع الأدواتُ والعناصِر الماديّة إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استعان في إيجاد الفعل بأدوات معينة فذلك غالباً للمصلحة التي تحصل بتلك الأدوات، فالتأسّي بفعله لا يقتضي الاستعانة أصلًا بأدوات مماثلة، وذلك كالعصا أو القول في الخطبة، وكالخُمْرة التي كان يضعها فيسجد عليها، واستلامه الركن بالمحجن، واستناده إلى الجذع عندما كان يخطب، قبل أن يصنع له المنبر. فلا يجب ذلك ولا يستحب، وإنما يدل ذلك على الجواز. وإنما قلنا في ما سبق، يستحب اتخاذ المنبر، لما ورد من القول الآمر باتخاذه، ولأنه جعل من شعائر المسجد. وأجمعت الأمة عليه. وكما قلنا في الأدوات، كذلك يقال في جنس المواد المستعملة، إنما تختار بحسب المصلحة، فإذا بني - صلى الله عليه وسلم - مسجده من طين وسعف النخيل، وفرشه بالرمل أو الحصباء، وكان منبره ثلاث درجات، ومصنوعاً من أثل الغابة، فلا يدل ذلك على أكثر من الإباحة، ما لم يعلم أن تخصيص ذلك الجنس لغرض شرعي، فيكون بخصوصه مستحباً. وأما ما سوى ذلك فينظر في ما يحقق المصلحة على وجه أتمّ، فيكون أولى من غيره، كبناء السجد الآن بالإسمنت المسلّح والرخام ونحوها. وتستخدم فيه مكبّرات الصوت، والإنارة الكهربائية، والسجاجيد، وغير ذلك. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 المبحث الثامن العدد والمقدار يتضمّن البحث في عدد الفعل ومقداره أموراً، نعقد لكل منها مطلباً: المطلب الأول الفعل الواحد، إن كان يمكن عمله بقدر طويل أو قصير، فهل يعتبر طول الفعل وقصره في التأسّي؟. نقل أبو الحسن البصريّ (1) عن القاضي عبد الجبار أنه لا اعتبار بطول الفعل وقصره في التأسّي. ومقصوده أنه لما ثبت وجوب التأسيّ في أصل الفعل فإن ذلك لا يستلزم وجوب التأسّي في طول الفعل وقصره، ولم يمنع أن يقتدي بطول الفعل وقصره على وجه الاستحباب. ثم قال أبو الحسين البصري: لقائل أن يقول: يجب اعتبار ذلك -يعني طول الفعل وقصره- بحسب الإمكان، إذا علم دخولهما في الأغراض. يعني إذا علم أن طول الفعل أو قصره مقصود. فلا شك إذا علم أن القدر مقصود، أنه يقتدى به، ولكن هل يجب لمجرد علمنا أنه مقصود، أولاً يجب إلا إذا علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - قصد فعله على وجه الوجوب؟. والفرق بين الأمرين أن المقصود الأول مجرد التعبّد، والمقصود الثاني: التعبّد على وجه الوجوب.   (1) المعتمد (1/ 374) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ولنضرب المثال بسجوده - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. فإنه يتحقق بوضع الرأس على الأرض لحظة لا يطمئنّ فيها (1)، وكان - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يخففه مع الطمأنينة وأحياناً كان يطيله جداً. فأما القدر الأول فهو واجب لا شك في ذلك، وهو مجمع عليه، إذ لا يتحقق المأمور به إلاّ بذلك. وأما القدر الثاني، وهو قدر الطمأنينة فقد اختلف فيه، فقال أبو حنيفة بأن الطمأنينة في الركوع والسجود غير واجبة، أخذاً بالأمر {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا}. وقال الحنابلة والشافعية: الطمأنينة واجبة، بدليلين. الأول: الفعل النبويّ، فإنه وقع تفسيراً للسجود الواجب، فيدل على أنها مرادة بالأمر. وقد حافظ - صلى الله عليه وسلم - على الطمأنينة فلم يتركها مرة واحدة. والثاني: حديث المسيء صلاته، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "اسجد حتى تطمئن ساجداً" (2). والقول الثاني، وهو قول الحنابلة والشافعية، ارجح، لأن هذه قرائن تدلّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك على سبيل الوجوب، وقاعدة التأسّي تنتج أنه واجب علينا أيضاً، هذا إن اعتبرناه فعلاً مجردّاً. فأما إن اعتبرناه بياناً للأمر فالوجوب أظهر. وأما القدر الثالث: وهو إطالة السجود بما يزيد على القدر الذي تتحقق به الطمأنينة، فهذا لا يدل على وجوبه دليل. بل هو مستحبّ أخذاً من قاعدة الاستحباب في الفعل المجرّد الذي قصدت به القربة. والذي نستنتجه من ذلك أنه ينبغي أن ينظر لطول الفعل وقصره نظرة   (1) انظر ابن قدامة: المغني 1/ 500 (2) حديث المسيء صلاته، رواه البخاري 11/ 549 والترمذي 2/ 208 وقال هذا حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 مستقلة عن أصل الفعل، على أساس قاعدة الفعل المجرّد، فإن علم أنه - صلى الله عليه وسلم - قصد في الفعل قدراً معيناً على سبيل الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة فالحكم في حقنا كذلك، وإن لم يعلم ذلك فالاستحباب إن ظهر قصد القربة، وإلاّ فالإباحة. ومن هنا ينشأ القول باستحباب التخفيف في ركعتي الفجر، وفي صلاة الفرائض جماعة، وخاصة عند ظهور حاجة بعض المصلين إلى ذلك، كأن يبكي طفل وأمه مع المصلين. واستحباب تقصير الخطبة وإطالة الصلاة يوم الجمعة، واستحباب الإطالة في صلاة الليل، مع تخفيف الركعتين الأوليين منها. إلى غير ذلك مما ورد ذكره في السنة من مقاديرها. وكذلك استحباب القدر الذي وقفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 المطلب الثاني الكثرة والقلة في مرات وجود الفعل ويدخل في هذه المسألة أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الفعل دائماً، أو مرات كثيرة، أو قليلة. فقد قال ابن أمير الحاج: "لا يخل بالتأسّي أن يكون فعل الغير متكرراً أو لا" (1). والصواب أن في المسألة تفصيلاً. فإن علم للفعل سبب ارتبط به، فكثر الفعل أو قلّ تبعاً لكثرة وجود السبب أو قلته، فالأمر واضح أن الاقتداء به يكون بفعله عند ورود السبب. كإرساله - صلى الله عليه وسلم - السّعاة على الزكاة كل عام، وإقامته الجمعات والأعياد ونحوها، وصيام رمضان، ورجم الزاني، وقطع السارق. وأما ما سوى ذلك فهو على قسمين: القسم الأول : أن يعمل به - صلى الله عليه وسلم - دائماً أو كثيراً (2). فيقتضى ذلك في حقنا الإكثار من ذلك الفعل، وخاصة إن كان أصل الفعل امتثالاً للأوامر الإلهية، كالإكثار من نوافل الصلاة، والصوم، والصدقات، والإكثار من الجهاد. فهذا النوع محل للاقتداء، يستحب الإكثار من الفعل كما أكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - منه.   (1) التقرير والتحبير على التحرير 2/ 303 (2) أشار الشاطبي إلى أشياء من ذلك في سياق بحث. انظر: الموافقات 3/ 56 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 القسم الثاني : أن يقع العمل به قليلاً. وهو نوعان: النوع الأول: ما علم سبب قلته. فيعلم حكمه بذلك، وله أمثلة: المثال الأول: صلاته قيام رمضان بالمسجد، فإنه فعلها، ثم تركها خشية أن تفرض فدلّ ذلك على مشروعية فعلها بالمسجد لزوال السبب، ولا بأس بالإكثار منها فيه، بل السنة المحافظة عليها في المساجد بدليل فعل الصحابة والتابعين. المثال الثاني: صلاة الضحى، قالت عائشة: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سبحة الضحى، وإني لأسبّحها، وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم". فقد تبيّن سبب القلة. فلا مانع بالنسبة إلينا من الإكثار منها بل والدّوام عليها (1). وقد كانت عائشة تداوم عليها وتقول: "لو نشِر لي أبواي ما تركتها" (2). الئوع الثاني: أن لا يعلم للقلة سبب. فالذي يقتضيه التأسّي والاقتداء عدم الإكثار منه، بل تقليله بحسب ذلك. ولهذا النوع أمثلة. المثال الأول: قيامه - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة (3)، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - يقوم لكل قادم، بل لم ينقل عنه إلاّ هذه المرة، وأمرهم بالقيام لسعد بن معاذ (4)، فلا يصح اتخاذ القيام -بناء على ذلك- سنة. المثال الثاني: تقبيل بعض الناس يده - صلى الله عليه وسلم -، قد وقع ذلك مرات معدودة إن صحت الروايات بذلك (5)، ولم يكن ذلك دأب الصحابة معه - صلى الله عليه وسلم -. فلا ينبغي أن   (1) انظر تيسير التحرير 1/ 255. الموافقات 3/ 60 (2) رواه مالك (جامع الأصول 7/ 77) (3) رواه الترمذي 7/ 523 (4) سيرة ابن هشام 2/ 240 (5) منها أولاً: تقبيل بعض اليهود يديه ورجليه (الترمذي 8/ 580 وقال: حسن صحيح وأحمد 4/ 239 وابن ماجه2/ 1221) ثانياً: تقبيل ابن عمر يده - صلى الله عليه وسلم - (أحمد 2/ 70 وأبو داود 7/ 307 وابن ماجه 2/ 1221). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 يتخذ ذلك سنة. بل الأكثر من فعلهم معه - صلى الله عليه وسلم - هو السنة وهو المصافحة. فإن حصل التقبيل على سبيل الندرة والقلة تكريماً للدين وأهله جاز إن صحت الرواية، ما لم يدلّ على خصوصيته بذلك - صلى الله عليه وسلم -. المثال الثالث: سجود الشكر، ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله على قلة. مع كثرة ما فتح الله عليه من الفتوح. كرهه مالك وأبو حنيفة، واستحبه الشافعي وأحمد (1). المثال الرابع: العمرة. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر بعد الهجرة أربع عمر، عمرة الحديبية سنة ست، والقضية سنة سبع، والجعرانة سنة ثمان، وعمرة مع حجة الوداع سنة عشر. فلم يزد عن عمرة واحدة في السفرة، أو عمرة في سنة. وقد اختلف الفقهاء في ذلك. فقال مالك: يكره أن يعتمر في السنة مرتين (2). ومثله قول النخعي. وقال أحمد والشافعي: لا بأس بذلك. احتجاجاً بقصة عائشة فقد اعتمرت في شهر مرتين. وأما الموالاة بين العمر والإكثار منها فقد قال ابن قدامة: "أقوال السلف وأحوالهم تدل على أنه لا يستحب ذلك. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينها ... ولو كان في هذا فضل ما اتفقوا على تركه" (3). المثال الخامس: صلاة التطوّع جماعة. فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيام رمضان كما تقدم، فكان سنّة، وأما ما سوى ذلك فقد صلّى نفلاً جماعة بأنس وأمه، وصلّى بابن أم مكتوم. وصلّى بابن عباس. غير أنه يعلم أن الأكثر من فعله أن يصليها منفرداً. فكانت تلك هي السنة. وقال الشاطبي: "هو الذي أخذ به مالك أنه يجيز الجماعة في النافلة في الرجلين والثلاثة، ولا يكون ذلك مظنة اشتهار، وما عدا هذا فإنه يكرهه" (4).   (1) انظر المغني لابن قدامة 1/ 628 (2) المدونة 1/ 374 (3) المغني لابن قدامة 3/ 226 (4) الموافقات 3/ 62 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وبيّن ابن تيمية ما يبنيه على ذلك، فقال: "من الناس من يجعل هذا في ما يحدث من صلاة الألفية ليلة النصف من شعبان، والرغائب، ونحوها، يداومون فيه على الجماعات. ومن الناس من يكره التطوع جماعة. ومعلوم أن الصواب فيما جاءت به السنة. فلا يكره أن يتطّوع في جماعة، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يجعل ذلك سنة راتبة، كمن يقيم للمسجد إماماً راتباً يصلي بالناس بين العشاءين، أو في جوف الليل، كما يصلي بهم الصلوات الخمس" (1). المطلب الثالث دلالة الفعل النبوي على الحد الأعلى أو الحد الأدنى في التقديرات الشرعية من ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في الوضوء على ثلاث غسلات، وفي صلاة الليل عن إحدى عشرة ركعة، وجَلَد في الخمر نحو أربعين (2)، وأقام بمكة تسعة عشر يوماً يقصر، فهل ذلك حد أعلى لا يجوز الزيادة عليه؟. وكذلك قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم، فهل يمتنع القطع في ما دونه؟. فأما الوضوء: فقد قال البخاري: كره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). وقال الشافعي لا أحب الزيادة على الثلاث، فإن زاد لم أكرهه، أي لم أحرمه. قال ابن حجر: وهذا هو الأصح عند الشافعية. وعند بعض الحنفية: إن اعتقد أن الزيادة سنة أخطأ، وإلاّ فلا لوم (4). وقال أحمد: لا يزيد على الثلاث إلاّ رجل مبتلى (5).   (1) الفتاوى الكبرى 23/ 113، 114 (2) رواه مسلم (فتح الباري 12/ 70) وأبو داود والترمذي. (3) فتح الباري 1/ 234 (4) المصدر نفسه 1/ 234 (5) المصدر نفسه 1/ 234 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ويرى المالكية أن الوضوء يجب فيه الإسباغ، ولا تحديد فيه من حيث عدد الغسلات في حدود الثلاث، ويكره أن يزيد عليها (1). وأما قيام الليل: فقد كره بعض المحدّثين الزيادة على إحدى عشرة ركعة، ولم يكرهه أحد من أئمة المذاهب الأربعة. وأما الجلد في الخمر: فقد زاد عمر الحد إلى ثمانين، بإشارة علي رضي الله عنهما. قال الشافعي: الحد أربعون، استدلالاً بالفعل النبويّ ويجوز عندي الزيادة على سبيل التعزير إلى ثمانين. وقال مالك وأبو حنيفة: الحدّ ثمانون، لإجماع الصحابة. وعن أحمد روايتان كالمذهبين (2). وأما القصر: فقد قال ابن عباس: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يوماً يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا (3). وقال ابن حجر: وروي في هذا الحديث: "خمسة عشر". فرأى الحنفية أن المسافر إذا أتى بلداً فعزم على الإقامة فيه خمسة عشر يوماً فإنه يتم الصلاة، فإن نوى أقلّ من ذلك قصر. وقال الحنابلة: من نوى أكثر من أربعة يقصر. واحتجوا بإقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة عام حجة الوداع أربعاً، يقصر فيهن (4)، ونقل نحوه عن الشافعي (5). وأما القطع في السرقة: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم.   (1) ابن قدامة: المغني 1/ 184 (2) المصدر نفسه 1/ 140 (3) ابن دقيق: الإحكام. وابن رشد: مقدمات المدونة 1/ 2 (4) ابن قدامة: المغني 8/ 307 ابن حجر: فتح الباري. (5) حديث ابن عباس رواه البخاري 2/ 561 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 قال ابن دقيق العيد: "جمهور الفقهاء على اعتبار النصاب، وشذ الظاهرية فلم يعتبروه، ولم يفرقوا بين القليل والكثير (1). ونقل في ذلك وجه في مذهب الشافعي" (2). ثم النصاب ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وعند الحنفية عشرة دراهم لأحاديث رويت في ذلك. ونقل ابن حجر في مقدار النصاب ما يقرب من عشرين قولًا (3). القاعدة في استفادة الحدّ في التقديرات من الفعل النبوي: إنه متى كان الأصل المنع، فجاء الفعل دالاًّ على الجواز، فإنه يدل على الجواز في نفس المقدار الوارد ذكره بطريق المطابقة، وفي ما ساواه بالقياس بنفي الفارق، ويدل على ما سوى ذلك بطريق الفحوى، أعني في ما هو أولى، ويبقى ما سوى ذلك على المنع. وأما إن كان الأصل الجواز، فإن الفعل لا يدل على تحديد أصلاً. وإيضاح هذه القاعدة في الأمثلة المتقدمة كما يلي: ففي مسألة الوضوء رأوا أن الإسراف ممنوع، وبنوا على ذلك الكراهة، في ما زاد عن ثلاث غسلات. بناء على أنه إسراف، كما ذكره البخاري، والإسراف ممنوع. ومن لم ينظر إلى الإسراف أجاز الزيادة على ثلاث. وفي مسألة قيام الليل: ليس الأصل المنع بل -كما في الحديث-: "الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر" (4). فلا كراهة في الزيادة على إحدى عشرة. ومن كرهه فقوله مردود.   (1) الإحكام 2/ 264 (2) فرق ابن حزم بين الذهب وغيره، فجعل للذهب نصاباً هو ربع دينار، ولا نصاب عنده فيما عداه (فتح الباري 12/ 107) (3) فتح الباري 12/ 106 (4) رواه الطبراني في الأوسط (الفتح الكبير) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وفي مسألة زيادة الصحابة في حد الخمر على أربعين: الأصل المنع، فالأصح اعتبار ما زاد تعزيراً، كما قال الشافعي، ووجهه أن بعض الناس تحاقروا العقوبة. وأما في مسألة القصر: فإنه وإن كان مشروعية القصر هي الأصل في صلاة المسافر لنصّ الآية، إلاّ أن ذلك منوط في الآية بالسفر، وذلك يقتضي جواز القصر ما دام حكم السفر قائماً. لكن من أجمع إقامة ببلد غير بلده، أياماً كثيرة أو قليلة، اشتبه أن يكون في حكم المسافر، أو حكم المقيم. والمغلب في ما زاد على الفعل جانب الإقامة لأن القصر على خلاف الأصل. أما الشوكاني فإنه يقول في تحقيق أمر هذه المسألة: "الحق أن الأصل في المقيم الإتمام، لأن القصر لم يشرعه الشارع إلا للمسافر، والمقيم غير مسافر، فلولا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من قصره بمكة وتبوك مع الإقامة، لكان -يعني الإتمام- هو المتعيّن، فلا ينتقل عن ذلك الأصل إلاّ بدليل .. ولا شك أن قصره في تلك المدة، لا ينفي -يعني من حيث هو دليل فعلي- القصر في ما زاد عليها، ولكن ملاحظة الأصل المذكور هي القاضية بذلك" (1). اهـ. هذا ما قاله الشوكاني، وهو استدلال بالقاعدة التي ذكرنا، ولكن فيه نظر، لإخراجه من أقام في أثناء سفره، اليوم واليومين، عن مسمّى المسافر. وذلك معاندة للغة. وأيضاً يلزم من قوله إجازة القصر لمن هو غير مسافر، وذلك خلاف ما دلّ عليه القرآن. بل الصواب ما قلنا من أن من أقام بغير بلده فهو من جهة مسافر، ومن جهة مقيم، ويغلب جانب السفر في القليل، وجانب الإقامة في الكثير. ولمّا كان الكثير لا حدّ له لمبدئه، حدوا القليل وحده بالفعل لأنه متيقن، فأخذ ابن عباس بروايته (تسعة عشر يوماً) وأخذ الحنفية برواية (خمسة عشر يوماً) وأخذ الشافعية والحنابلة بصلاته - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الخروج إلى الحج أربعة أيام. وأما القطع في السرقة، فإن الأصل القطع في القليل والكثيرة، للآية، ولو لم يرد إلا الدليل الفعلي لكان قول أهل الظاهر هو الظاهر. قال ابن دقيق: "الاستدلال   (1) نيل الأوطار 3/ 224 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 بهذا الحديث -يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلائة دراهم- على اعتبار النصاب، ضعيف، فإنه حكاية فعل. ولا يلزم من القطع في هذا المقدار فعلاً عدم القطع في ما دونه" (1). بل الذي دلّ على اعتبار النصاب أحاديث قولية، من مثل ما رفعت عائشة: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً" (2). وبهذا يظهر الحكم في ما شابه هذه الأمثلة. والله أعلم.   (1) أحكام الإحكام 2/ 263 (2) حديث "تقطع اليد ... " البخاري 12/ 96 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الفصل التاسع مباحث متنوعة تتعلق بالأفعال 1 - الطريق العملي لاستفادة الحكم من الفعل. 2 - الاعتراضات التي تورد على الاستدلال بالأفعال. 3 - نقل الأفعال النبوية. 4 - نية التأسّي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 مباحث متنوّعة تتعلّق بالأفعال الصريحة المبحث الأول الطريق العملي لاستفادة الحكم من الفعل تعرّض الغزالي لهذه المسألة في المستصفى (1)، فرأى أن المجتهد إذا نقل إليه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يجب عليه البحث إلاّ عن أمر واحد، هو أنه: "هل ورد الفعل بياناً لخطاب عام، أو تنفيذاً لحكم لازم عام، فيجب علينا اتباعه، أو ليس كذلك فيكون قاصراً عليه - صلى الله عليه وسلم -. أما إن لم يقم دليل على كونه كذلك، فالبحث عن كونه ندباً في حقه - صلى الله عليه وسلم - أو واجباً، أو مباحاً، أو محظوراً، لا يجب، بل هو زيادة درجة وفضل في العلم يستحب للعالم أن يعرفه". وهذا القول من الغزالي رحمه الله مبنيّ على مذهبه في الفعل المجرّد، أنه لا يدلّ على شيء في حقنا، إذ إن مذهبه التوقف في الفعل المجرّد كما تقدم. وهو لازم لمن قال بذلك القول كالباقلاني والرازي، وغيرهم. وهو أيضاً لازم لكل من منع التأسيّ به - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله المجردة من أصحاب قول التحريم، وقول الإباحة على الوجه الذي ذكرناه في موضعه. وأما أبو شامة فلما كان مذهبه أن الفعل المجرّد يدلّ على الندب، بقطع النظر عن صفة صدوره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه نقَل قول الغزالي المتقدم، ثم قال: "على ما اخترناه يبحث (المجتهد) بعدما تحقق أن الفعل ليس ببيان، عن أن فيه قربة أو لا، فإن كان فيه قربة قضى بأنه مندوب للأمة، وإلاّ فهو مباح". يعني على التفصيل الذي ذكره في المباح، من أنه يستحب لنا من وجه.   (1) المستصفى 2/ 51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وهذا القول من أبي شامة مبني أيضاً على مذهبه في أن الفعل المجرّد يدل على الاستحباب في حقنا حتى لو كان قد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الوجوب. أما على القول الذي صار إليه الجمهور في الفعل المجرّد، وهو الذي اخترناه فإن الأمر يختلف. ونحن نفصل القول في ذلك، فنقول وبالله التوفيق، إن المجتهد يسير في استفادة الحكم من الفعل النبوي، الخطوات التالية بالترتيب: الخطوة الأولى: أن ينظر: هل الفعل من جملة الأفعال الجبلية ونحوها. فإن كان كذلك، فلا يستفاد في حقنا منه أكثر من الإباحة. وإلاّ: فالخطوة الثانية: أن يبحث هل هناك ما يمنع تعدية حكم الفعل إلى الأمة، كأن يوجد ما يدلّ على كون الفعل خاصاً به - صلى الله عليه وسلم - فإن وجد ذلك وقف عنده. وإلاّ: فالخطوة الثالثة: هل ورد ما يدل على كون الفعل بياناً لخطاب عام، أو تنفيذاً وامتثالاً لحكم عام، فيعلم بذلك. وهو ما ذكره الغزالي. وإلا: فالخطوة الرابعة: أن يعتقد أن الفعل المجرّد، فليبحث هل ورد ما يدل على حكم الفعل في حقه - صلى الله عليه وسلم -، من وجوب أو ندب أو إباحة، فيكون الحكم في حقنا مساوياً للحكم في حقه - صلى الله عليه وسلم - بناء على قول المساواة، وهو قول الجمهور. وسواء أكان الفعل في العبادات أو غيرها من الآداب والمعاملات والعقوبات وغير ذلك. وقد تقدم بيان طرق معرفة الحكم في حقه - صلى الله عليه وسلم -. فإن لم يكن الفعل معلوم الحكم: فالخطوة الخامسة: أن يعتقد أن الفعل من المجهول الصفة، فلينظر هل هو مما يظهر فيه قصد القربة. فإن كان كذلك حمله على الاستحباب في حقه - صلى الله عليه وسلم -، وبالتالي يدل على الاستحباب في حقنا بناء على قاعدة المساواة. والخطوة السادسة: إن لم يظهر للمجتهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد القربة، فليحمل الفعل على الإباحة في حقه - صلى الله عليه وسلم -، فيدل على الإباحة في حقنا أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 والخطوة السابعة: إن تبيّن الحكم في حق الأمة، فلينظر المجتهد، هل وقع الفعل لسبب معيّن، فإن وجد ما يدلّ على ذلك، وكان السبب باقياً، علم ارتباطه بالسبب في حقنا أيضاً. وإن كان السبب زائلاً فلا. وإن جهل السبب فالتأسّي مستحب. الخطوة الثامنة: لينظر المجتهد بعد ذلك بأي وصف أوقع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الفعل، أمن جهة الإمامة العامة، أم من جهة إمامة الصلاة، أم من جهة القضاء. أم غير ذلك من الجهات التي تقدم ذكرها. فبهذا يعلم المجتهد من يلزمه حكم الفعل، من سائر المسلمين. فإن لم تتعيّن جهة ما، فالأصل العموم. فهذا مسلك بيِّن يتبعه المجتهد في إستفادة الحكم من الفعل النبويّ. وهناك زوايا ومنعطفات أخرى في هذا الطريق، تعلم مما تقدم بيانه. والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 المبحث الثاني الاعتراضات التي تورد على الاحتجاج بالأفعال عقد ابن عقيل الحنبلي (1) في ذلك فصلاً ممتعاً. فذكر فيه ثمانية اعتراضات تتوجه على الاستدلال بالفعل. ونحن نذكرها بإيجاز ملخصة من كلامه مع مزيد توضيح: الاعتراض الأول: أن يبيّن أن المستدلّ لا يقول به. ومثاله أن يستدل الحنفي في قتل المسلم بالكافر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلماً بكافر وقال: "أنا أحق من وفى بذمته" (2). فيقول الشافعي أو الحنبلي: هذا لا تقول به، فإن الذي قتله به كان رسولاً. ولا يقتل مسلم بالرسول عند أبي حنيفة. قال ابن عقيل: وقد تكلّف بعض أصحاب أبي حنيفة الجواب عن ذلك، فقال: لما قتل المسلم بالرسول كان ذلك دالاً على قتل المسلم بالذميّ من طريق الأولى، فنسخ قتل المسلم بالرسول، وبقي الذميّ على مقتضاه الأول. الاعتراض الثاني: المنازعة في مقتضى الفعل. ومثاله أن يستدل الشافعي أو الحنبلي على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود بفعله - صلى الله عليه وسلم -. فيقول المخالف: فعله لا يقتضي الوجوب. والجواب عنه من ثلاثة أوجه: الأول: أن يقول: فعله عندي يقتضي الوجوب، وإن لم تسلم دللت عليه. الثاني: أن يقول: هذا بيان لمجمل واجب في القرآن، فيدل على كونه واجباً.   (1) انظر كتابه (الواضح) ق 157 ب وما بعدها. (2) الحديث نقله في بدائع الصنائع 6/ 337 معزواً إلى محمد بن الحسن بإسناده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 الثالث: أن يقول: قد اقترن به ما يدل على وجوبه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:"صلوا كما رأيتموني أصلي". أقول: في الوجه الأول والوجه الثالث نظر عندنا بالنسبة إلى هذا المثال خاصة يعلم مما تقدم. ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض أيضاً بأن يقال: هذا الفعل صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - واجباً، وحكمنا فيه كحكمه. الاعتراض الثالث: دعوى الإجمال في الفعل. ومثاله أن يستدل الشافعي على طهارة المني بأن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي". فلو كان نجساً لقطع الصلاة. فيقول المعترض: هذا مجمل، لأنه في قضية عين فيحتمل أنه كان كثيراً أو قليلاً، فربما كان ما فركته عائشة قليلاً، وقليل النجاسات معفو عنه. والجواب عنه يكون بأن يبيّن المستدل أن الفعل متعيّن في الوجه الذي وقع به الاستدلال. ففي المثال المتقدم يبين بالدليل أن المني كان كثيراً، لأن عائشة احتجت بهذا الخبر على طهارته، فلا يجوز أن تحتج بما يعفى عنه مع نجاسته. ولأنها أخبرت عن دوام الفعل وتكرره، ويبعد أن يستوى حاله في القلة مع تكرره. الاعتراض الرابع: المشاركة في الدليل. ومثاله أن يستدل الحنفي في جواز ترك قسمة الأراضي المغنومة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك قسمة بعض أراضي خيبر. فيقول الشافعي والحنبلي: هذا حجة على قسمته، لأنه قسم بعضه، وفعله هذا امتثال للآية، وذلك يقتضي الوجوب. وأما تركه لما تركه فربما كان لنوائبه ومهمات الإسلام. الاعتراض الخامس: اختلاف الرواية. وذلك مثل أن يستدل الحنفي على جواز نكاح المُحْرِم بما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوّج ميمونة وهو محرم. فيقول الشافعي أو الحنبلي: روي أنه تزوجها وهما حلالان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن يجمع بين الروايتين إن إمكنه. والثاني: أن يرجّح روايته على رواية المخالف. الاعتراض السادس: دعوى النسخ. مثل أن يستدل الحنفي على أن سجود السهو بعد السلام، بما روي (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سجد بعد السلام. فيقول الشافعي: هذا منسوخ بما روى الزهري، قال: آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، السجود قبل السلام (2). وجوابه بالجمع بين الأمرين إذا أمكن، فإن الجمع مقدم على النسخ. الاعتراض السابع: التأويل. مثل أن يستدل الحنفيّ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، تزوّج ميمونة وهو محرم، فيتأوله الشافعي والحنبلي بأن المراد بالإحرام هنا أنه في الحرم أو في الشهر الحرام لا إحرام الحج والعمرة، فإن الصيغة قابلة لذلك، ومنه قولهم: أتْهم، وأنجد، وأصبح، لمن دخل في تهامة، أو نجد، أو الصبح. وقد قال الشاعر في قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة: قتلوا ابن عفانَ الخليفةَ مُحرِماً ... ودعا، فلم أرَ مثله مخذولاً والجواب أن يتكلم الحنفي على دليل التأويل بما يسقطه، فيسلم له الظاهر. الاعتراض الثامن: المعارضة: ومثاله أن يستدل الشافعي في رفع اليدين برواية أبي حميد الساعدي (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حذو منكبيه. فيعارضه الحنفيّ بما روى وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رفع يديه حيال أذنيه (4). وجوابه بأن يرجح دليله على دليل المعترض، بما يعلم في باب الترجيح من أصول الفقه. أو يتكلم على رواية المعترض بوجه من الوجوه السابق ذكرها في هذا المبحث.   (1) انظر: جامع الأصول 6/ 350 (2) انظر: جامع الأصول 6/ 350 (3) رواها أبو داود والترمذي، والنسائي (جامع الأصول 6/ 209) (4) رواها مسلم وأبو داود والنسائي (جامع الأصول 6/ 209) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 المبحث الثالث نقل الأفعال النبويّة المطلب الأول طرق النقل 1 - الأغلب أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - تثبت لدى الأمة بنقل صحابته رضي الله عنهم. فينقلون أفعاله كما ينقلون أقواله. وسنعود إلى هذه الطرق بشيء من التفصيل. وقد تثبت بطرق أخرى. 2 - منها: النقل القرآني. كقول الله تبارك اسمه: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ... } الآية (1)، وقوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} (2)، وقوله: {يا أيها النبي لم تحرّم ما أحلَّ الله لك} (3)، وقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً} (4). 3 - ومنها: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن فعل نفسه، كقوله: "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرُد". وكإخباره بما وقع منه ليلة الإسراء. 4 - ومنها ما ذكره الزركشي (5)، أن ينعقد الإجماع على أن إحدى صورتي الفعل أفضل من الأخرى. فنقول: هذه الصورة أفضل بالإجماع، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا   (1) سورة الفتح: آية 29 (2) سورة التوبة: آية 43 (3) سورة التحريم: آية 1 (4) سورة الجمعة: آية 11 (5) البحر المحيط 2/ 252 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 يواظب على ترك الأفضل، فيلزم أنه واظب على الأفضل. ومثاله: الوضوء المرتّب المنويّ، هو بالإجماع أفضل من الوضوء المنكوس، أو غير المنويّ. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يواظب على ترك الأفضل، فيلزم أنه فعل الوضوء مرتباً منوياً. أقول: للمخالف أن يقول إن التقسيم غير حاصر، فهناك حال سوى المواظبة على الفعل والمواظبة على الترك، هي أن يفعل دون مواظبة ويترك دون مواظبة. وهي الأكثر في الأفعال المندوبة، كتثليث الوضوء. فهذا الدليل لا ينتج أكثر من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يغلب في عمله الأخذ بالأفضل. وقد استخدم ابن قدامة هذا الدليل لإثبات أن وقت العيد بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، لا عند طلوع الشمس. قال: "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده لم يصلوا حتى ارتفعت الشمس. بدليل الإجماع على أن الأفضل فعلها في ذلك الوقت. ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل إلاّ الأفضل والأولى" (1). ونحن نرى أن قوله: "لمَ يكن يفعل إلاّ الأفضل" ممنوع. إذ قد كان يفعل ما هو أقل فضلاً، أحياناً، توسعة وتيسيراً على أمته. والله أعلم. 5 - ومنها ما ذكره الزركشي أيضاً، وهو أن يقال في المثال السابق: لو ترك - صلى الله عليه وسلم - النية والترتيب في الوضوء لوجب علينا تركه، بدليل الاقتداء به، لأن المتابعة كما تكون في الأفعال، كذلك تكون في التروك. ولما لم يجب علينا تركه يثبت أنه ما تركه بل فعله. وهذا الدليل مبني على مقدمة هي وجوب المساواة في الترك. ويأتي بحثها في فصل التروك من الباب الثاني إن شاء الله. وليست مطردة في كل التروك، بل في   (1) المغني 2/ 377 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 بعضها كما أن الأفعال كذلك. وليس هذا المثال مما يجب فيه الترك. لأنه قد ينوي ويرتب أحياناً ويترك ذلك أحياناً أخرى. ولأنه لم يأتنا دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - تركه على سبيل الوجوب. المطلب الثاني إدراك الصحابي للفعل المنقول أما الأقوال فإن الصحابي يدركها بحاسة السمع، ويسمع ألفاظاً محددة، فيتمكن من نقلها كما سمعها، وقد يرويها بالمعنى. وأما الأفعال فإن إدراكها يتم في الأغلب بحاسّة البصر. وقد يتمّ بغيرها كعلمهم باستعماله - صلى الله عليه وسلم -، للطيب والعطور. وما يدركه الصحابي من ذلك بحاسة البصر قد يكون إدراكاً مباشراً، وهو الأغلب وقد يكون إدراكاً غير مباشر، ولعل من ذلك ما روى عبد الله بن عمر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالصفرة (1)، وقال أنس: لم يخضب (2). قال ابن حجر: "فيحتمل أن يكون الذين أثبتوا الخضاب شاهدوا الشعر الأبيض، ثم لما واراه الدهن ظنّوا أنه خضبه". وهكذا، فإن النقل للفعل يكون أتمّ وأصحّ إن كان الصحابيّ (رآه وهو يفعل) لا أن يكون (رأى ما يستدل به على أنه فعل) وقول ابن عمر: "رأيته - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالصفرة" لا يعني أنه رآه أثناء مباشرة عملية الصبغ، بل يحتمل أنه رأى الصفرة فظنها صبغاً، كما قال ابن حجر. وبعض الأفعال ليس مما يدرك بحاسّة أصلاً، وإنما تدرك آثاره. فلا بدّ أن يلاحظ الناقل لها تلك الآثار، ويلاحظ تكررها، وعدم صدور مخالف لها في الدلالة، ليتمكّن من إثبات الفعل، وذلك كقول عائشة رضي الله عنها: "كان يحب   (1) حديث ابن عمر في الخضاب بالصفرة: البخاري 10/ 304 (2) حديث أنس في نفي الخضاب: البخاري 10/ 351 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 التيامن ما استطاع في طهوره وتنعّله وفي شأنه كله". فإن المحبّة والكراهية ونحوهما ليست مما يرى. كما أن بعض الأفعال لا تقع دفعة واحدة، وإنما يقع من الفعل أجزاء مختلفة في أزمان متفاوتة، فيجمع الصحابي بعض تلك الأجزاء إلى بعض، ليكوّن منها صورة متكاملة للواقعة أو العادة. وقد يكون ذلك التجميع على قدر كبير من المطابقة للواقع، ولكن قد يفوت الراوي بعض التفصيلات التي تكمل الصورة، ويكون لذلك أثر في الأحكام المستفادة. فمن ذلك الجمع قول أنس: "كان إذا كان يوم عيد خالف الطريق" (1) فإن هذا، إن لم يكن أصله من قوله - صلى الله عليه وسلم -، يقتضي أن أنساً لاحظ طريق ذهابه - صلى الله عليه وسلم -، ثم طريق رجوعه، والمخالفة بينهما، ولاحظ ذلك في عيد ثانٍ وثالث، حتى استطاع أن يخبر عن هذه العادة من فعله - صلى الله عليه وسلم -. ومثله قول أنس أيضاً: "كان إذا كان مقيماً اعتكف العشر الأواخر من رمضان. وإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين". وقول ابن مسعود: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا". ومما تبيّن فيه خفاء بعض التفصيلات على الراوي قول أبيّ: "الصلاة في الثوب الواحد سنة، كنا نفعله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعاب علينا". فقال ابن مسعود: "كان ذاك إذ كان في الثياب قلة، فأمّا إذ وسّع الله عليكم فالصلاة في الثوبين أزكى". فتحصّل أنه لا بدّ في مثل هذا الإدراك من أمور: الأول: ملاحظة الفعل. الثاني: ملاحظة تكرره.   (1) البخاري من حديث جابر (الفتح الكبير). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 الثالث: محاولة ربطه بسببه. الرابع: معرفة أن ذلك الارتباط مقصود. ومن هذا يتبيّن أن تحصيل هذا الإدراك بحاجة إلى نوع من الأسلوب العلمي للمعرفة. المطلب الثالث صور النقل إذا أدرك الصحابي فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحصلت لديه صورته، فإنه ينقله إلى غيره ممن لم يشهد ذلك الفعل. ونقْله حينئذٍ إما بفعل وإما بقول. هذا ومن المعلوم أن الأقوال تنقل بطريقتين: الأولى: نقل اللفظ باللفظ المساوي له، أي النقل الحرفي. وهو جائز بالإجماع بل هو الأصل. والثانية: نقل اللفظ بمعناه، بأن يبدل لفظاً مكان لفظ يساويه في الدلالة، أو يسقط من الألفاظ ما يراه غير ذي علاقة بالحكم. وبعض الأصوليين يمنع هذا النوع بالكلية، وبعضهم يجيزه من العارف بما يحيل المعنى على أن لا يبدل الخاص بعام، ولا المطلق بمقيد، ولا عكس ذلك. وبعضهم أجاز الرواية بالمعنى في أنواع من الأحاديث ومنع في أنواع أخرى (1). فمنزلة رواية الألفاظ حرفياً، أعلى من روايتها بالمعنى، اتفاقاً، وذلك لأن الرواية الحرفية تصل بها الألفاظ النبويّة بأعيانها إلى المجتهد، فلا تتحرّف معانيها تبعاً لفروق الألفاظ. وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى الرواية الحرفية بقوله: "نضّر الله امرأً   (1) انظر التفصيل في كتب الأصول في أبواب الأخبار، كإرشاد الفحول للشوكاني ص 57 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" (1). هذا وأما نقل الأفعال، فقد يظن لأول وهلة أنه لا يتصور فيه النقل (الحرفي)، ولكن يبدو لنا أن نقل الفعل بالفعل المشابه له في الصورة هو نظير لنقل اللفظ باللفظ. وأما نقل الفعل بالقول، فإنه نظير لنقل اللفظ بمعناه. بل هو من النقل بالمعنى بلا شك، إذ ليس هناك لفظ حتى ينقل بحروفه. ومن أجل ذلك يرد في نقله باللفظ كثير من مخاطر الرواية بالمعنى. وهو ما سنحاول أن نشير إلى بعضه في ما يأتي من هذا المبحث. وليس يلزم مما ذكرنا من التنظير، أن يكون نقل الفعل بالفعل أعلى من نقله بالقول، فإن من طبيعة النقل بالفعل أن يحصل فيه اشتباه يسقطه عن درجة رواية اللفظ باللفظ، بل عن رواية الفعل باللفظ. ولنعتبر ذلك بالواقع في التمثيليات المسرحية التاريخية، كيف يتولّد عند مشاهديها أوهام كثيرة في تصور الوقائع، ولولا مراجعتنا للتصوير اللفظي للواقعة في الوثائق التاريخية، لحصلت لدينا بالتمثيلية صورة تبعد قليلاً أو كثيراً عن حقيقة الواقعة. أولاً: نقل الفعل بالفعل: وذلك ما نقل إلينا عبد الله بن زيد وعثمان وعلي وأبو هريرة وابن عباس وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأفعالهم (2) ثم يحتاج التابعي إلى الألفاظ لكي يعبّر عما يراه. وقد يكون بعض أجزاء فعل الصحابي مما لم يقصد به الحكاية، بل يكون قد صدر ابتداء. فيتوهّم التابعي أن المقصود به الحكاية. ومثاله حديث أبي هريرة في حكايته لوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين، وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين. وقال في آخر   (1) رواه أبو داود 10/ 94 والترمذي 7/ 417 وأحمد بألفاظ متغايرة. (2) انظر: ذلك في كتب السنة في نيل الأوطار مثلاً 1/ 163 - 180 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 حديثه: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ. يحتمل أن إشراعه في العضدين والساقين مما فعله هو ابتداء، وتكون إشارته (بهكذا) إلى ما عدا ذلك. فلا يكون حجة على استحباب الإشراع في الأعضاء المذكورة. ويحتمل أنه مما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله فيكون حجة. ومثاله أيضاً: حديث المعتمر بن سليمان أنه كان يجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} قال بعد صلاته: "ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي. وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس. وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (1). فهذا في النقل بالفعل. وقد صحّ عن أنس قول: "صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} في أول قراءة ولا في آخرها" (2). وحيث تعارضت الرواية الفعلية عن الصحابي، مع الرواية القولية، يقدم القول لأنه نص، والفعل محتمل كما بيّنّا. ومن قبيل نقل الفعل بالفعل أن يرى الصحابي رجلاً يفعل فعلاً، فيقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثله. ومنه أن عمران بن حصين صلى خلف علي بن أبي طالب، فكان إذا سجد كبّر، وإذارفع رأسه كبّر، وإذا نهض من الركعتين كبّر، فقال عمران: "ذكّرني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم -" (3). ومن نقل الرواة أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بالفعل واحداً بعد الآخر، ما يبني عليه مالك بعض مذهبه من العمل المستمرّ بالمدينة بعد نبيها، - صلى الله عليه وسلم -. ومنه كما قال ابن القيم: "نقلهم الوقوف، والمزارعة، والأذان على المكان المرتفع، والأذان للصبح قبل الفجر، وتثنية الأذان وإفراد الإقامة، والخطبة بالقرآن والسنن، دون الخطبة   (1) ذكر الحاكم أن رواته عن آخرهم ثقات (ابن دقيق: شرح العمدة 1/ 249). (2) رواية مسلم. وبمعناها رواية البخاري والموطأ والنسائي وأبي داود (جامع الأصول 6/ 222). (3) حديث علي: متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الصناعية بالتسجيع والترجيع، ونقلهم بعض الأعيان التي له فيها فعل كالصاع والمدّ، وموضع المنبر، وموضع موقفه للصلاة، والبقيع والمصلّى" (1). وهذا شبيه بنقل الأمة تعيينه - صلى الله عليه وسلم - لموضع الصّفا والمروة ومنى ومواضع الجمرات ومزدلفة وعرفة. وهذه النقول من نوع التواتر المنقول فعلياً. ثانياً: نقل الفعل بالقول: وهو في الجملة، أعلى درجة من نقله بالفعل كما سبقت الإشارة إليه. وقد تعرّض الغزالي في المستصفى، كغيره من الأصوليين (2)، لألفاظ الرواية. فرتّبها الغزالي درجات، بحسب قوتها، وبيّن وجوه تميّز بعضها عن بعض. وكان أكثر كلامه منصباً على رواية الأقوال. ونحن نبيِّن على وزان ذلك ألفاظ رواية الصحابيّ للفعل. فنقول إنها على درجات: الدرجة الأولى: أن يقول الصحابي: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا وكذا. فهذا صريح في الإدراك الحسّيّ المباشر وهو ينفي احتمال الواسطة. وقد تتقوّى هذه الدرجة بأمور: الأول: أن يكون الراوي كثير الصحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذلك حريّ أن يجعله يفرّق بين الأفعال المقصودة في التشريع وبين غير المقصودة. ومن هنا لم يأخذ كثير من الفقهاء برواية مالك بن الحويرث لجلسة الاستراحة. وكان تضعيفهم لها من هذا الوجه. الثاني: أن يكون رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يفعل مثل ذلك الفعل مرّات كثيرة على صورة واحدة. ومن هنا كثر الخلاف في أحكام أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الحج، لما أنّه - صلى الله عليه وسلم - لم يحجّ إلا مرة واحدة.   (1) إعلام الموقعين 2/ 372 (2) انظر: المستصفى 1/ 83 إرشاد الفحول ص60، جامع الأصول لابن الأثير 1/ 48 ابن قدامة: روضة الناظر ط: السلفية 1378 هـ ص 61 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الثالث: أن يكون الراوي فقيهاً. وللفقه في هذا المقام مكانته، نظراً إلى أن نقل الفعل هو من باب الرواية بالمعنى كما سبقت الإشارة اليه. وأيضاً فإن كثيراً من الأفعال منوطة بأسبابها، ويحتاج إلى معرفة حصول شروطها وانتفاء موانعها، فإنه إن لم يكن فقيهاً، فربما فاته الانتباه إلى ذلك. ولكن الفعل لا يخرج بذلك عن أن يكون حجة. ويقول الآمدي في قضية فهم السببية: "إن كان (الراوي) فقيهاً كان الظنّ بقوله أظهر، وإذا لم يكن فقيهاً، وإن كان في أدنى الرتب، غير أنه مغلّب على الظنّ" (1). الدرجة الثانية: أن يقول: فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا. يحتمل أن الصحابي أرسله عن صحابي آخر. وهو مع ذلك حجة لأن مراسيل الصحابة مقبولة عند جمهور العلماء. وفي هذه الدرجة احتمال آخر، وهو أن يكون استنبط الفعل من آثاره ولوازمه. الدرجة الثالثة: أن يقول: فُعِل كذا وكذا، من الأمور الشرعية المضافة إلى عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقول بعضهم: كنا نطرد عن الصف بين السواري. ففي هذه الدرجة مع الاحتمالات السابقة، احتمال آخر، وهو أن يكون الفاعل لذلك غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم إن كان مع علمه - صلى الله عليه وسلم - بذلك، لم يخرج عن أن يكون حجة، كما يظهر ذلك في المثال المتقدم، لأنه يكون من الإقرار. وأما إن لم يظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، فإنه يخرج عن الحجية. والله أعلم. الدرجة الرابعة: أن يقول الصحابي: من السنة كذا. وهذا يمكن أن يكون أصله فعلاً، أو يكون قولاً. وفيه احتمال أن يكون المقصود به سنة أحد الخلفاء الراشدين المهديين. وهو مع ذلك حجة، لأن الظاهر أنه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ما لو قال ذلك التابعي.   (1) أحكام الأحكام 3/ 367، 368 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 تكييف الصحابي للفعل النبوي : تقدم أن الفعل النبوي جزئي واقع في الخارج، لا عموم له، وليس له صيغة لفظية، وإن كان لا بدّ للراوي من صيغة يعبّر بها عن ذلك الفعل. وإن الصحابة إذ يعبّرون عن تلك الأفعال بذلك، إنما (يصنّفون) تلك الأفعال، بضمّهم الفعل إلى مجموعة الجزئيات التي ينتمي إليها هذا (العنصر) الجديد، وهو الفعل الحادث الذي يخبرون عنه، واللفظ الذي يختاره الصحابي للتعبير عن تلك المجموعة له أثره عند الفقهاء في تبنّي الحكم الشرعي الذي يستنبط من الفعل. وكمثال على ذلك نشير إلى الخلاف الذي نشأ من قول أبي هريرة: "إن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة". فإن استعماله هذه الصيغة (أفطر) دعت بعض الفقهاء، كالمالكية، إلى أن يقولوا: كل فطر في رمضان يوجب كفارة. وغيرهم، كالشافعية، أبوا ذلك، وقالوا: من المعلوم أن ذلك الرجل لم يفطر بكل أنواع المفطرات، وإنما بمفطر واحد، هو الجماع، كما بينّ في بعض الروايات الأخرى. فيكون هو السبب الموجب للكفارة، لا غيره (1). فهذا مثال يدلّ على المقصود، وإن لم يكن المعبّر عنه بـ (أفطر) من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وواضح أن الطريقة التي سلكها الشافعية في هذا المثال هي الطريقة الصحيحة لأن الفعل لا عموم له. ومثال آخر: قال ابن عباس: إن رفع الصوت (بالذكر) حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته" (2). وهذا يقتضي رفع الصوت بعد الصلاة بكل ذكر ولكن الرواية الأخرى للحديث تخصّ رفع الصوت بالتكبير. يقول فيها: "كنت أعرف انقضاء صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير" (3).   (1) انظر: الزركشي: البحر المحيط 2/ 4 أ. (2) البخاري 2/ 325 وأبو داود. (3) رواه البخاري 2/ 325 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 هذا وقد استعرض الأصوليون ألفاظاً استعملها الصحابة في التعبير عن الأفعال النبوية، وحاولوا تحديد دلالتها، ونحن نذكرها تتميماً لبحثنا، في مسائل: المسألة الأولى : لفظ (فَعَل) والمراد (الفعل الصرفي) المثبت، المعبّر به عن فعل نبويّ (1)، كقول ابن عباس: "صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، من غير خوف ولا سفر" (2). فهذا اللفظ مطلق عن ذكر الزمان. يحتمل أنه جمع بين العصرين في وقت الظهر، أو في وقت العصر، أو صلّى الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها، وهو ما يسمى الجمع الصوري. ولا يصح حمله على العموم، لأن اللفظ يدل على أنه فعله مرة واحدة، وقد وقعت بلا شك في أحد المواعيد الثلاثة. فحمله أبو الشعثاء راويه عن ابن عباس على الجمع الصوري. وإليه ذهب القرطبي المالكي، والجويني الشافعي، والطحاوي من الحنفية. ويؤديهم أن الجمع الصوري لا يخرج عن دلالة الآية {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} قال ابن حجر: "يقوّي حمله على الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرّض لوقت الجمع، وإما أن تحمل على مطلقها، فيلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج. والجمع الصوري أولى. والله أعلم" (3).   (1) انظر الزركشي: البحر المحيط 2/ 60 أ، والشوكاني: إرشاد الفحول ص 125، أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 205، تيسير التحرير 1/ 247، 248، الآمدي: الإحكام 2/ 369 (2) رواه مسلم 5/ 215 وأبو داود والترمذي والنسائي. (3) الفتح 2/ 24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وبعض العلماء، من غير هؤلاء، قالوا: إن ابن عباس شاهد الفعل، وعرف أنه وقع في واحد من المواعيد الثلاثة، فعبّر بما يدلّ بظاهره على عدم التفريق بينها، وذلك يقتضي أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع إما في وقت الظهر، أو في وقت العصر. ولا يريد الجمع الصوري، إذ لو كان كذلك لما أغفل ذكره. ولأنه علّل بما يقتضي ظاهره عدم التقييد بالجمع الصوري، وهو أنه سئل: ما أراد - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك؟ فقال: "أراد أن لا يحرج أمته". فعلّل برفع الحرج، ولا يزول الحرج بالجمع الصوري، بل بكل صور الجمع. والله أعلم. فلهذه القرينة عمّمْنا الحكم في الصور الثلاث ليشمل كل زمن الصلاتين. فإن لم يكن ثم قرينة، فلا يصح تعميم حكم الفعل المثبت المطلق في أقسامه أو أوجهه. بل يحمل على أولى الصور بالحكم، ونتوقف في الصور الأخرى. وإن تساوت توقفنا فيه. وقد قال الشوكاني: "الفعل المثبت إذا كان له جهات فليس بعام في أقسامه، لأنه يقع على صفة واحدة، فإن عرفت تعيّن وإلاّ كان مجملاً يتوقف فيه". فمّما نحمله على أولى الصور، ما ورد أنه - صلى الله عليه وسلم -: "صلّى في الكعبة" فإن عبارة الصحابي يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام صلّى الفرض أو صلّى النفل، واللفظ مطلق، فيحمل على الأولى بذلك، وهو النفل، لما كان قد عهد التخفيف فيه. فلا يدل على جواز صلاة الفرض داخل الكعبة، بل يتوقف في ذلك (1). ومثله أنه - صلى الله عليه وسلم -: "جمع في السفر" فالسفر إما طويل وإما قصير. فلا تكون عبارة الصحابي عامة للجمع فيهما. فالطويل داخل في مفهوم اللفظ؛ والقصير مشكوك فيه، فيتوقف فيه. هذا ويستثنى من جملة الأفعال المثبتة التي ذكرناها في هذه المسألة أن يرد الفعل مقترناً بكان، فنعقد لها المسألة الثانية. تنبيه: الأفعال (أمر) و (نهى) و (قضى) ونحوها، ألفاظ قد يعبِّر بها الصحابي عما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقولهم (نهَى) عن بيع الغرر، و (قَضىَ)   (1) انظر ابن السمعاني: القواطع ق 49 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 بالشفعة للجار. وقد اختلف فيها على قولين، وسوف نبيّن مبنى الخلاف فيها في الباب التالي في الفصل الثالث منه إن شاء الله. الأول: أنها عبارة عن فعل صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعلى هذا لا يصح فيها دعوى العموم، كما قدّمناه في سائر الفعل المثبت. الثاني: وهو الأصوب، أنها عبارة عن قول صدر منه - صلى الله عليه وسلم -. فإن الراوي سمع لفظاً هو: آمركم بكذا، أو: افعلوا كذا، أو: أنهاكم عن كذا، أو: لا تفعلوا كذا، أو نحو ذلك. فعبّر عنه بما ذكر. وقد اختلف فيها القائلون بذلك: هل يجوز أن تدل على عموم أم لا. وعلى هذا المذهب يكون هذا النوع خارجاً عن باب الأفعال النبوية، فلا نستطرد إليه. فليرجع إليه في مظانه من كتب الأصول (1)، في مباحث الأقوال. المسألة الثانية : (كان يفعل) والمراد به الفعل المضارع الذي دخلت عليه كان إذا عبّر به الصحابي عن شيء من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل هي دالّة على مجرد وقوع الفعل، أم على التكرار والمواظبة، وهل تدل على العموم؟. 1 - التكرار: أما دلالتها على التكرار، فذلك واضح لا خفاء به، وقال ابن دقيق العيد: "يقال: كان يفعل كذا، بمعنى أنه تكرر منه فعله وكان عادة له، كما يقال: كان فلان يقري الضيف" (2). وقد اختلف الأصوليون من أين جاءت الدلالة على التكرار: فقيل من (كان)، وهو ظاهر كلام الشاطبي (3). إذ أورد حديث عائشة: "كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر والشمس في حجرتها" (4). ثم قال: لفظ (كان) فعل يقتضي الكثرة". وبه قال ابن الحاجب (5).   (1) انظر مثلاً: إرشاد الفحول للشوكاني ص 125، الزركشي: البحر المحيط: 2/ 60 (2) أحكام الإحكام 1/ 90 (3) الموافقات 3/ 59 (4) البخاري 2/ 6 ومسلم 5/ 108 (5) وقد ذكرت فيه الأقوال الثلاثة جميعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وقيل من مجموع كان والفعل المضارع. وهو ظاهر كلام المحلي (1). ونقله صاحب تيسير التحرير. وقيل من الفعل المضارع وحده. وهذا عندي هو الصحيح من هذه الأقوال، وما عداه وهم من هؤلاء الأعلام رحمة الله عليهم، وجلّ من لا يستدرك عليه قول. فإن المضارع وحده يدل على التكرار والعادة المستمرة، كقولهم فلان يقري الضيف، وينفق ماله في أبواب الخير. وقد يدلّ على المرة الواحدة لكن بشرط استمراره برهة قبل زمن التكلم حتى وقت التكلم. فإذا جاءت (كان) قبل المضارع نقلت معنى التكرار من الحاضر إلى الماضي، ولم تزد على ذلك، فمن أين جاءت بالتكرار؟ (2). وأيضاً: لو أنها دلّت على التكرار مع المضارع لدلّت عليه مع الفعل الماضي، لكنها لم تدلّ عليه، كما في قوله تعالى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار} لا يعني أنهم عاهدوه أكثر من مرة. هذا وإن فائدة معرفة دلالتها على التكرار في أحكام الأفعال النبوية أمر مهم، نظراً إلى أن الفعل المجرّد إذا تكرر على صفة واحدة، وكان ذا صلة بالعبادة، فإنه يقرّب أن الفعل المجرّد على وجه الشرع، فيصلح دليلاً على الاستحباب أو على تأكد الاستحباب. وقد تقدمت الإشارة إليه في مواضع من هذا الباب. وقد ذكر ابن دقيق العيد أنه يجوز أن تستعمل (كان يفعل) لإفادة مجرّد وقوع الفعل، وذلك صادق بالمرة الواحدة، فلا يدل على التكرار. ولكنه يقول: الأول - وهو إفادة التكرار- أكثر في الاستعمال (3).   (1) شرح جمع الجوامع 1/ 425 (2) (كان) الناقصة، خالية من الدلالة على الحدث، ومتمحضة للدلالة على الزمان، وهذا معنى نقصها. وهي تقلب معنى الجملة الاسمية إلى الماضي. فإن قلت: (زيد كريم) ثم دخلت عليها (كان) حولت معنى الجملة من الحاضر إلى الماضي. (3) أحكام الإحكام 1/ 90 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وأشار إلى ذلك أيضاً صاحب تيسير التحرير، فإنه قال: إن إفادة (كان يفعل) التكرار أكثرية لا كلية. وعندي أن إفادة (كان يفعل) للمرة الواحدة، حق، ولكن في بعض الواقع دون بعض. فإنا قد ذكرنا أن المضارع المجرّد من (كان) قد يدل على المرة إن كان الفعل مستمراً إلى زمن التكلم، فإذا دخلت عليه (كان) أفادت ذلك الاستمرار في الزمن الماضي إلى لحظة معينة من الماضي. ومثاله أن تقول (الخطيب يتكلم الآن على المنبر) فإذا أردت نقل ذلك إلى الماضي مع استمرار الفعل إلى وقت معين، تقول مثلًا: "دخلت المسجد وكان الخطيب يتكلم". فهذا استعمال آخر غير الاستعمال الأول، ولكل منهما موضعه، ولا يتوارد الاستعمالان على موضع واحد. وعلامة هذا النوع أن يذكر أمر كالدخول في المثال السابق، ويكون الفعل سابقاً له مستمراً إليه. فما عدا هذا النوع تكون دلالته على التكرار كلية لا أكثرية فقط. فهذا توضيح لما في كلام ابن دقيق العيد من الإجمال. ومن هذا يتبيّن أيضاً أن بعض المؤلفين (1) في الحديث النبويّ يخطئون حين ينقلون الحديث الفعلي بعبارة (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا أو يقول كذا) من أصل ليس فيه إلا (فَعَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا)، لما بين العبارتين من الفرق في المعنى، وقد علم أن من شرط الرواية بالمعنى التساوي بين اللفظين في معنييهما.   (1) انظر مثلًا كتاب "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -" ط 7 ص 126 الحديث: كان أحياناً يرجع صوته كما فعل يوم فتح مكة، ص 76: "وكان يقول: إنما الأعمال بالنيات، ص 77" كان إذا مرض رفع أبو بكر صوته بالتكبير حتى يسمع من خلفه، وليس شيء من ذلك في الأصول، إنما فيها (رجع)، (قال) (رفع) بدون كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 2 - المواظبة والدوام: ومعناه عدم تخلّل الترك. فهو أخصّ من التكرار. فإن تكرار الشيء هو فعله مرتين أو ثلاثاً أو أكثر، وهو واضح في (كان يفعل). أما الدوام الذي لا يتخلّله ترك، فقد ادّعاه في هذا التركيب (كان يفعل) بعض الحنابلة، ونسبه ابن تيمية (1) إلى أبي يعلى وأبي الخطاب الحنبليين. واستدل به أبو يعلى على الوجوب، قال في حديث عبد الله بن زيد في استيعاب مسح الرأس: "هذا إخبار عن دوام فعله، وإنما يداوم على الواجب" ويعني بالدوام ما لم يتركه ولو مرة. وقد تقدم أن أبا يعلى يقول بالوجوب في الفعل المجرّد، وتقدم الردّ عليه. وتقدم أيضاً ذكر أن الدوام على الفعل المجرّد لا يدل على وجوبه. ولكن الذي نريد هنا بيانه أن (كان يفعل) لا تدل على الدوام، وإنما تدل على التكرار والعادة الماضية. ومن أجل ذلك فلا تصلح هذه العبارة من الصحابي في رواية فعل نبويّ دليلاً على وجوب الفعل، حتى عند من يقول إن المواظبة دليل الوجوب. ودليلنا على أن (كان يفعل) لا تدل على الدوام، أنها تدل في الماضي على ما يدل عليه (يفعل) في الحاضر، وقولنا (زيد يقري الضيف) لا يدل على أن قراه للضيف لا يتخلف البتة، بل يدل على أن عادته وأغلب أحواله أن يقري الضيف. فكذلك (كان يقري الضيف)، تدل على مثل ذلك في الماضي. والله أعلم. 3 - العموم: وقد ادّعى الكثيرون أن (كان يفعل) تدل أيضاً على العموم في أقسام الفعل وأوجهه. وهي مسألة مهمة في فهم كثير من الأحاديث الفعلية المروية بهذه الصيغة. وهي غير مسألة دلالة هذا التركيب على المواظبة. فإن المواظبة تعني تكرار   (1) المسودة في أصول الفقه ص 115 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الفعل دائماً عند تكرر المناسبات، وأما العموم فأن يفعله بجميع أقسامه، وعلى جميع الأوجه من الهيئات أو الأماكن أو غير ذلك. وروي القول بالعموم في صيغة (كان يفعل) أبو يعلى، وهو ظاهر كلام الآمدي (1). وقد روى البخاري الحديث: "كان - صلى الله عليه وسلم - يجمع الصلاتين في السفر" فقال البعض بأن ذلك يعمّ الجمع في السفر القصير، وفي السفر الطويل. وقول من ادّعى العموم مردود بما قال ابن قاسم في شرح الورقات: "يمكن أن يجاب بأن (كان يفعل، وإن أفادت التكرار، فإن) كل مرة من مرات التكرار لا عموم فيها، لأنها إنما تقع في أحد السفرين. فالمجموع لا عموم فيه، إذ المركّب مما لا عموم فيه لا عموم فيه. واحتمال أن بعض المرات في أحد السفرين، وبعضهما في الآخر، غير معلوم ولا ظاهر. فصار اللفظ مجملاً بالنسبة للسفر القصير كما أشار إليه الشيخ أبو إسحاق في اللّمع" (2). وشبيه بهذه المسألة، وإن لم يكن منها، ما قال الشوكاني في حديث عامر بن ربيعة: قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما لا أحصى يتسوَّك وهو صائم". قال الشوكاني: "الحديث يدلّ على استحباب السواك للصائم من غير تقييد بوقت دون وقت. وهو يرد على الشافعي قوله بكراهة التسوّك بعد الزوال للصائم، مستدلاً بحديث: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (3). فما قاله الشوكاني مردود، فإن حديث عامر يدل على تكرر وقوع السواك من النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء الصوم مرات كثيرة. ولكن لا ينبغي أن يفهم من ذلك العموم بالنسبة للوقت، إذ يحتمل أن تكون المرات كلها وقعت قبل الزوال، فكيف يصلح أن يكون هذا الحديث رداً لكلام الشافعي رضي الله عنه؟.   (1) الأحكام 2/ 370 (2) شرح الورقات ص 105 (3) نيل الأوطار 1/ 121 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 المسألة الثالثة: اختلاف النقل بين الإطلاق والتقييد : قد ينقل صحابي فعلاً غير مفصل، كمسحه - صلى الله عليه وسلم - رأسه وأذنيه في الوضوء. لم يتعرّض الراوي لكونه مسح الأذنين بماء جديد، أو بفضل ما مسح به رأسه. ثم قد ترِد رواية أخرى للصحابي نفسه أو لغيره مفصلة، كما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح أذنيه بماء خلاف ما مسح به رأسه (1). قال الغزالي: "هذا يزيل الإجمال عن الأول. ولكن يحتمل أن الواجب ماء واحد، والمستحب ماء جديد، فيكون أحد الفعلين على الأقل، والثاني على الأكمل وجعل الغزالي هذا نوعاً من أنواع البيان بالفعل، يعني بيان إجمال الفعل بالفعل" (2). وقد اعترض أبو شامة على ذلك قائلاً: "أورد الغزالي هذا على أنه نوع من أنواع البيان بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو عبارة الراوي. والراوي الأول أطلق ولم يبين أنه مسح أذنيه بفضل ما مسح به رأسه، أو بماء جديد. وكلاهما محتمل. فلما نقَل الراوي الثاني أنه مسحهما بماء جديد، تعيّن حمل ذاك المطلق، على هذا المقيد، فقلنا لا بدّ من ماء جديد للأذنين. أما لو صحّ أنه مسح الجميع بماء واحد، فيمكن حمله على الأقل، ويكون الأكمل رواية من أفرد الرأس عن الأذنين بماء جديد" (3). اهـ. قولنا في ذلك: إن الروايتين إذا أوردت إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة فإما أن يكونا في واقعة واحدة، أو في واقعتين، أو يكون الأمر مبهماً. أولاً: فإن كانا في واقعة واحدة، يجب حمل المطلق حينئذ على المقيد، وهو إطلاق وتقييد في كلام الرواة. ومثاله وإن لم يكن من باب الأفعال، قصة من (أفطر) في رمضان، فأوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه الكفارة، ورد في رواية أخرى، أن   (1) لم تثبت هذه الرواية، كما في نيل الأوطار 1/ 178 (2) المستصفى 2/ 52 (3) المحقق ق 38 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 إفطاره كان (بالجماع). فتختص الكفارة به، ولا تجب في الإفطار بالأكل والشرب، إلا قياساً. ومن أمثلته أيضاً عندي حديث المغيرة بن شعبة في المسح، ففي بعض رواياته: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه، وفي أخرى أنه مسح على العمامة، وفي ثالثة أنه مسح على ناصيته وعمامته (1). فإن حديث المغيرة هذا هو ما وصف به وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ذات ليلة لصلاة الصبح. وقد قال ابن حزم: "بهذا تعلّق المانعون من المسح على العمامة. قالوا: ذكره المسح على العمامة، هو حديث واحد مع الذي فيه ذكر الناصية والعمامة. قال ابن حزم: وهذا خطأ، لأن الوضوء لم يكن مرة واحدة منه - صلى الله عليه وسلم - فمن ادّعى أن ذلك كله في وضوء واحد، في وقت واحد، فقد دخل تحت الكذب، والقول بما لا يعلم. وهذا لا يحل لمسلم" (2). أقول: قوله هذا مردود، وهو من تسرّعاته المعهودة، عفا الله عنا وعنه، فإن سياق القصة يدلّ على أن الحادثة واحدة. وذلك يمنع صحة الاستدلال بهذا الحديث على الاجتراء في الوضوء بمسح بعض الرأس، كما فعل ابن قدامة (3) أو بمسح العمامة وحدها. ولا بدّ لإثبات ذلك من أدلة أخرى غير حديث المغيرة. ثانياً: وإن كان في واقعتين لم يجب حمل المطلق على المقيد، فإن الواقعة التي أطلق فيها ذلك يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل فيها كما فعل في الأخرى. لكن الراوي أطلق ولم يبين. ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك فيها ما فعله في الثانية، فيكون ذلك من باب التعارض بين الفعل والترك، ويكون ذلك نسخاً، أو يكون الأقل واجباً والزائد مستحباً. وسيأتي في باب التعارض إن شاء الله.   (1) ذكرت الروايات الثلاث في جامع الأصول 8/ 130 أما ذكر الرأس وحده فعند البخاري ومسلم. وأما ذكر العمامة وحدها فعند الترمذي وحده. وأما الجمع بين العمامة والناصية فعند مسلم وأبي داود والنسائي. (2) الإحكام 1/ 334 (3) المغني 1/ 125 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 ولا يترجح أحد المسحين إلاّ بقرينة تدل عليه. وقد يصح أن يقال: الأولى الاحتمال الثاني ليجوز كلا الأمرين، دون الأول، لأنه يمنع الترك ويدل على الوجوب، والأصل عدمه. والله أعلم. ثالثاً: وإن أبهم الأمر فلم يعرف أنه في واقعة واحدة أو واقعتين. فالاحتمالان واردان أيضاً. وعلى هذا فإن ما عيّنه أبو شامة، مما نقلناه عنه آنفاً، غير متعيّن. ويكون كلام الغزالي من أن في مسألة مسح الأذنين احتمالين، هو أصوب. وبالله التوفيق. والحاصل: أن الأخذ بالمقيّد لا إشكال فيه، وأما الأخذ بالمطلق على إطلاقه فيمتنع إن كانا في واقعة واحدة، وإلا فيحتمل أن يصح، ويحتمل أن لا يصح. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 المبحث الرابع نيَّة التَأسيّ في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى". وقد اعتبر الفقهاء هذا الحديث إحدى القواعد الأساسية للشريعة. وتدخل النية في العبادات، وفي المباحات إذا قصد بها التقوّي على طاعة الله. والمقصود الأهمّ منها في العبادات تمييز العبادة من غير العبادة، وتمييز رتب العبادات بعضها من بعض (1). وتتميز العبادة عن غيرها باستحضار نيات مختلفة كنية التعبّد بها لله تعالى، ونية الإخلاص له فيها، ونية امتثال أحكامه من الوجوب والندب والإباحة. وكذلك نية التأسّي فيها بعباد الله الصالحين ممن فعلها، وخاصة نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم -. ثم إن كان دليل مشروعية العبادة فعله - صلى الله عليه وسلم - لها، فقد ذكر كثيرون من الأصوليين أن التأسّي لا يتحقق إلا بنية التأسّي، حتى لقد جعلوا ذلك من حقيقة التأسّي. يقول أبو الحسين البصري: "التأسّي في الفعل أن نفعل صورة ما فعل، على الوجه الذي فعل، لأجل أنه فعل" (2)، وبعضهم عبّر عن ذلك بأنه شرط. يقول القاضي عبد الجبار: "شرط التأسّي اعتبار الفعل، واعتبار الوجه الذي عليه وقع، ولا بدّ مع ذلك أن يفعله من أجل أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله" (3).   (1) السيوطي: الأشباه والنظائر 9 - 20 (2) المعتمد 1/ 373 (3) المغني 17/ 268 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ومقصودهم بالفعل صورته، كصلاة مع صوم. فلا يتحقق الاقتداء بصومه - صلى الله عليه وسلم - بفعل صلاة. ومقصودهم بالوجه: الأغراض في الفعل من نية حكمه، وزمانه ومكانه وسببه وغير ذلك، كما تقدم. ومقصودهم بقولهم: "من أجل أنه فعله" أن المقتدي لا يحصل منه التأسّي ما لم ينوِ أنه يفعل فعله ذاك من أجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله". وذكر مثل هذا الآمديّ (1) وابن تيميّة (2) وغيرهما. ولم يذكره البيضاوي في منهاجه. وقد قال عبد الجبار في الاستدلال على ذلك: "إنه لو لم يفعل على هذا الوجه، لكنه فعله امتثالاً أو لغيره من الوجوه، لم يوصف بأنه متأسٍّ به". وقالوا: "إن الاتفاق صدفة ليس تأسّياً". والذي يظهر أن التأسّي يتحقق بفعل مثل ما فعله - صلى الله عليه وسلم - إن كان على الوجه الذي فعله مع نية الامتثال، أمّا أن ينوي أنه يفعل ذاك الشيء لأجل أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله فلا يتعيّن، فلو لم ينو ذلك، لكن نوى إخلاص العبادة لله، أو التقرب إليه، أو امتثال أحكامه، فإن عبادته صحيحة. وكذلك لو نوى التأسّي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فكل هذه نيات صالحة يتأدّى بها المقصود ويصح بها العمل، ويثبت بها الأجر. ويحصل بها التأسّي. والله ولي التوفيق. وأما قول عبد الجبار: أن من قصد الامتثال فقط لا يكون متأسّياً، فإنه قول فيه نظر، لأنه إن نوى الامتثال، وكان الحكم لم يعلم إلاّ من جهة فعله - صلى الله عليه وسلم -، فإن نية التأسّي متضمّنة، والمتضمّن في الحاصل حاصل.   (1) الإحكام 1/ 245 (2) مجموع الفتاوى 10/ 409 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وقول من قال: الاتفاق صدفةً لا يكون تأسّياً، هو صواب لا يرد على ما نحن فيه، لأننا إذ نمتثل حكم الله الذي دل عليه فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليس اتفاق فعلنا وفعله صدفة. والله أعلم. انتهى الجزء الأول -بحمده تعالى- وسيليه الجزء الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 أَفْعَالُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَدَلاَلَتَهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُحَمَّد سُلَيْمَان الأشْقَر دكتورَاه فِي الشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّة مِن الجَامِعَةِ الأَزْهَرِيَّةِ الجُزْءُ الثَّانِي مؤسسة الرسالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 أَفْعَالُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَدَلاَلَتَهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم غاية في كلمة جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة السادسة 1424 هـ - 2003 م ISBN 9953 - 4 - 0166 - 7 جميع الحقوق محفوظة ( c) 1988 م. لا يسمح بإعادة هذا الكتاب أو جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إليكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر. (6) مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع وطى المصيطبة شارع حبيب أبي شهلا بناء المسكن هاتف: 319039 - 815112 فاكس: 818215 (9611) ص. ب: 117460 بيروت - لبنان resalah publishers Tel: 319039 - 815112 fax: (9611) 818615 Beirut - lebanon Email: resalah@resalah.com web location: Http://www.resalah.com الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 الباب الثاني الأفعال غير الصريحة - تمهيد . 2 - الكتابة. 2 - الإشارة. 3 - الأوجه الفعلية للقول. 4 - الترك. 5 - السكوت. 6 - التقرير. 7 - الهم بالفعل. 8 - الملحقات بالأفعال النبوية: أ- أفعاله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة. ب- شمائله النفسية. ج- فعله - صلى الله عليه وسلم - في الرؤيا. د- ما فعل به - صلى الله عليه وسلم - بعد الموت. هـ- أفعال الله تعالى. و- تقرير الله تعالى. ز- أفعال أهل الإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 تمهيد الفعل الصريح كالقيام والجلوس والصلاة والصوم والحب والبغض. وقد قدّمنا أن من الأفعال ما يكون في فعليته خفاء، وينشأ ذلك عن طبيعة الفعل. والأفعال غير الصّريحة قسمان: 1 - فبعض الأفعال تكون دلالته على مراد فاعله أظهر من دلالة سائر الأفعال العادية الصريحة، فيفارق الأفعال الصريحة من هذه الناحية. ويخرجه بعض العلماء لذلك عن الفعلية، لقرب شبهه بالقول. ومن أمثلة هذا النوع الكتابة، والإشارة، والعقد، ونحوها. فالقول يدلُّ بالمواضعة وجريان العرف باستعماله لمعاني خاصة تفهم منه. وكذلك الأمر في الكتابة والإشارة والعقد. 2 - وبعض الأفعال غير الصريحة يكون خفاء فعليّته ناشئاً من كونه سلباً، كالترك والسكوت والإقرار، أو شبيهاً بالسلب كالهمّ بالفعل. وقد عقدنا هذا الباب لهذه الأفعال غير الصريحة، لنبيِّن فروق دلالتها عن دلالة الأفعال الصريحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 الفصل الأول الكتابة الكتابة: تدوينٌ مرئيٌّ للّغة. وهي واسطة لنقل الأفكار والمشاعر، تتميّز عن الكلام والإشارة بأنها باقية، والكلام والإشارة يزولان في الحال. وقد عرّف ابن حزم الكتابة، بأنها: "إشارات تَقَع باتفاق، عمدتها تخطيط ما استقر في النفس من البيان، بخطوطٍ متباينة، ذات لون يخالف لون ما يُخَطّ فيه، متفق عليها بالصوت، فتبلغ به نفس المخطّط ما قد استبانته، فتوصله إلى العين التي هي آلة لذلك" (1)، حتى يحصل بها الإدراك لدى المبلّغ. وابن حزم يشير بكلامه هذا إلى أن الكتابة تدلّ بالمواضعة. والتواضع فيها أن تدلَّ الرموز المكتوبة على الأصوات، وقد تعورف في الأصوات دلالتها عند أهل اللغة على المعاني (2). وتُدْرك الأصوات بحاسّة السمع، أما الكتابة فتدرك بحاسّة البصر. ويتميّز القول عن الكتابة بأنه يمكن أن يصاحبه من الجهارة وملامح الصوت والكيفيّات الصوتية ما يقوى به التعبير، فيؤدِّي ذلك من المعاني ما لم يُنْطَق به، حتى يدل على الغضب والرضا والحزن والسرور والقناعة والضجر وغير ذلك. وقد تصحبه ملامح وقرائن في الشخص المتكمل، من الانبساط والعنْف والإشارات. وذلك يجعل القول حيّاً نابضاً، ويلقي على المعنى ظلالاً يصعب تصويرها كتابة. ولا تزال كثير من الملامح الصوتية في العربية وغيرها ممتنعةً على العلماء أن يتمكّنوا من تصويرها بالإشارات الكتابية.   (1) التقريب لحد النطق ص 5 (2) مقدمة ابن خلدون - الفصل الثلاثون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 ولكن تتميّز الكتابة عن القول بأمور: منها أن الفكرة يمكن تصويرها بالكتابة، على مهل، تصويراً منضبطاً لا ينتشر ولا يضيع. وتتميّز أيضاً عن القول بثباتها، فإن رسم الكلمات إذا نُقِش بقي على ما هو عليه، ما لم تغيِّره يد قاصدة أو عوادي الزمن. ولذلك يمكن أن يفهمه الحاضر والغائب. والموجود عند كتابته ومن يوجد بعد كتابته بعصر أو عصور. أما القول فإنه يزول حالاً بعد النطق به، ولا بدّ إذا أريد الإعلام به مرة أخرى من تكرير الجهد في تركيبه، أو أن يستعاد من الذاكرة. ولكنه قد يتغيّر في الحافظة دون قصد. ولم يمكن اختزان القول كما هو إلاّ في عصرنا الحاضر، عند اختراع وسائل التسجيل الصوتي. وتتميّز الكتابة، ثالثاً، بأنه يمكن ترديد النظر فيها مرة بعد أخرى، حتى يحصل بها لدى القارئ صورة تكاد تكون مطابقة للصورة الحاصلة في ذهن الكاتب. ومن أجل ذلك كانت الكتابة واسطة اتصال مهمةً بين أفكار البشر، في دائرة أوسع من دائرة القول من حيث الزمان والمكان، وكانت ذات فاعليّةٍ أساسية في نشر الحضارة، ونقلها من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل. وقد امتنَّ الله تعالى على البشر بتعليمهم بالقلم، وأقسم بالقلم وما يسطرون من المكتوبات، فنبّه بذلك إلى قدرها وأثرها. المطلب الأول هل الكتابة قول أو فعل؟ يختلف الأصوليون في التعبير عن الكتابة، فمنهم من يجعلها فعلاً من الأفعال، ومنهم من يجعلها قولاً، ومنهم من يجعلها قسيماً للقول والفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 فممن عبّر عنها بأنها فعل، القرافي، حيث يقول: "البيان إما بالقول أو بالفعل كالكتابة والإشارة ... " (1). ومنهم ابن حبان، حيث قسم أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنواع، فجعل كتبه - صلى الله عليه وسلم - نوعاً من الأفعال، وذكر هناك (2) ما أَثَره عنه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. وممن جعل الكتابة قولاً من الأفعال، من القدماء، القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه (العدة). ومن المحدّثين عبد الكريم زيدان في كتابه (أصول الدعوة)، قال: الكتابة من أنواع القول (3). وممن عبّر عن الكتابة كقسيم للقول والفعل القاضي عبد الجبار (4)، وأبو الحسين البصري (5) المعتزليان. وقد سبق تعريفُ ابن حزم للكتابة بأنها تخطيط باليد برسوم متفق عليها تدلّ على الأصوات. ومن هنا نشأ الاختلاف في التعبير عنها: فمن نظر إلى أن التخطيط باليد الذي هو حقيقة الكتابة، هو فعل بجارحة من الجوارح، قال إن الكتابة فعل. ومن نظر إلى أن الكتابة أمارة على الكلام، ويفهم المراد منها بواسطة فهم ما تدلّ عليه من الكلام، قال إنها قول. ومن نظر إلى أن الكتابة تدلّ بعبارات غير ملفوظة أصلاً، وقد تكتب ثم يطلع عليها فتفهم دون أن يتوسط ذلك تلفُّظ أصلاً، أخرجها بالنظر إلى ذلك عن أن تكون أقوالاً أو أفعالاً. والذي نختاره أن الكتابة فعل، وليست قولاً.   (1) شرح تنقيح الفصول ص 122 (2) صحيح ابن حبان 1/ 107 (3) أصول الدعوة ص 453 (4) المغني 17/ 251 (5) المعتمد 1/ 338 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 والوجه ما تقدم من أن حقيقة الكتابة التخطيط. ونرى أن من عبّر عن الكتابة بأنها قول، فإنه قد تجوّز به عنها، لمّا كانت دالّة عليه. وقد صرّح بعض اللغويين بأن إطلاق القول على الكتابة مجاز، منهم الشيخ خالد الأزهري في شرح التوضيح (1) ومن التجوّز به عنها ما ننسبه إلى كثير من المصنفين في كتبهم من الأقوال في مختلف الفنون، فإنهم كتبوه كتابة ولم يلفظوه قولاً. البيان بالكتابة : إن مميّزات الكتابة السابق ذكرها، جعلتْها أداةً من أدوات البيان ذات قيمة فريدة. وقد كان القول الوسيلة الرئيسيّة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في البيان، ولكن الكتابة كانت وسيلة أخرى استُعمِلت حيث دعت الحاجة. فالكتابات تستفاد منها السنن كما تستفاد من الأقوال. وعلى القول بأن الكتابة فعل من الأفعال، فإن الأفعال قد وقع الخلاف فيها أيجوز البيان بها من قبل الشارع أم لا؟ ولكن ذلك الخلاف لا يترقّى حتى يشمل الكتابة. فإن الكتابة أدلّ من سائر الأفعال. ويقول الزركشي: "هل يجري الخلاف الفعلي في الكتابة والإشارة؟ يحتمل أن يقال به؛ والظاهر المنع. وقد قطع ابن السمعاني بالبيان بالكتابة والإشارة، مع حكايته الخلاف في الفعل. وقال صاحب الواضح: لا أعلم خلافاً في (أن) الإشارة والكتابة يقع بهما البيان" (2). وصرّح بذلك الشوكاني أيضاً، وقال إنه: "لا خلاف في أن ذلك من السنة، ومما تقوم به الحجة" (3). وقد استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتابة في بيان الأحكام وتبليغ الدعوة في مناسبات كثيرة جداً، فمما وقع من بيان الأحكام بها كتابته - صلى الله عليه وسلم - أحكام الزكاة، فقد كتب ذلك قبل وفاته في كتاب أخرجه أبو بكر وأمر به عمّال الصدقات. وحديثه عند   (1) التصريح شرح التوضيح 1/ 21 (2) البحر المحيط 2/ 181 ب. (3) إرشاد الفحول ص 42 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 أحمد وأبي داود بسندهما عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كتب الصدقة. ولم يخرجها إلى عمّاله حتى توفّي. قال: فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر من بعدِه فعمل بها" (1) ... ثم بيّنها ابن عمر. وخطب - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، فذكر تحريم مكة، وقال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل". فجاء رجل من أهل اليمن، فقال: "اكتب لي يا رسول الله". فقال: "اكتبوا لأبي فلان" (2). وكان له - صلى الله عليه وسلم - كتبة يكتبون الوحي، ويكتبون له إلى عماله والمؤمنين به في أطراف الجزيرة العربية، وإلى رؤساء الدول المجاورة. ومن كتّابه زيد بن ثابت، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، وسواهم كثير (3). وقد جمع محمد حميد الله (4) ما أُثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من المكتوبات في شؤون التبليغ والسياسة، فكانت قريباً من 280 وثيقة. كثير منها في دعوة الأقوام والرؤساء إلى الله تعالى. ومنها عهود ومواثيق. ومنها إعذار وإنذار وتبشير وتثبيت وأمر بالتمسّك بدين الله. ومنها تفصيل لأحكام شرعية يُلزم بها كمقادير الزكاة ومقادير الدِّيات. وهذا يؤكد أنه - صلى الله عليه وسلم - اتخذ الكتابة وسيلة لبيان أحكام الشريعة وتبليغها. وأن البيان يحصل بها ويتم. وقد جمع رسائله أيضاً عليّ بن حسين الأحمدي (5) في مجلد ضخم، فيه أكثر من 170 وثيقة.   (1) نيل الأوطار: 4/ 139 (2) رواه البخاري 1/ 205 وأبو داود. (3) انظر: حصر كتابه - صلى الله عليه وسلم - في زاد المعاد لابن القيم، والبداية والنهاية لابن كثير، وغيرهما. (4) انظر كتابه: "الوثائق السياسية والإدارية للعهد النبوي والخلافة الراشدة" بيروت، دار الإرشاد، 1389 هـ. (5) انظر كتابه: "مكاتيب الرسول" بيروت، دار المهاجر (د. ت). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 المطلب الثاني منزلة الكتابة من القول عند الفقهاء والمحدثين إن الكتابة عند الفقهاء أحطُّ درجة من القول. فكثير مما يصحّ بالقول لا يصح بالكتابة. فمن ذلك الطلاق. قال ابن قدامة: "في قولٍ للشافعي، لا يقع الطلاق بالكتابة، وسواء نوى بها الطلاق أو لم ينوه، لأنه فعل من قادر على التطليق، فلم يقع به الطلاق كالإشارة" (1). وبمثل ذلك قال ابن حزم الظاهري (2). ويقول الجمهور، وهو المنصوص عن الشافعي، يقع الطلاق بالكتابة إن نواه بها، لأن الكتابة حروف يفهم منها الطلاق، ولأن الكتابة تقوم مقام قول الكاتب. فإن لم ينو لم يقع. اهـ بتصرف. فعلى القول الأول: واضحٌ انحطاط درجة الكتابة عن درجة القول. وعلى القول الثاني كذلك. لأن التطليق بالقول الصريح يلزم به الطلاق ولو لم ينوه. ولا يقع بالكتابة إلا بالنية. وقد ذكر السيوطي مسألة الطلاق بالكتابة (3)، ثم قال: "وإن نوى فأقوال أظهرها: تطلق. والثاني: لا، والثالث: إن كانت غائبة عن المجلس طلقت، وإلاّ فلا. قال في أصل الروضة: وهذا الخلاف جار في سائر التصرفات التي لا تحتاج إلى قبول، كالإعتاق، والإبراء، والعفو عن القصاص، وغيرها. قال: وأما ما يحتاج إلى قبول، فغير النكاح، كالبيع والهبة والإجارة، في انعقادها بالكتابة خلاف مرتّب على الطلاق وما في معناه: إن لم يصح (الطلاق) بها فها هنا أولى، وإلاّ فوجهان، والأصح الانعقاد.   (1) المغني 7/ 239 (2) المحلى10/ 197 (3) الأشباه والنظائر ص 308 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وأما النكاح ففيه خلاف مرتّب، والمذهب منعه بسبب الشهادة، فلا اطّلاع للشهود على النيّة. قال: وحيث جوّزنا انعقاد البيع ونحوه بالكتابة، فذلك في حال الغيبة، فأما عند الحضور فخلاف مرتّب، والأصح الانعقاد" (1). اهـ كلام السيوطي. ويقول محمد سلام مدكور: "يجوز التعاقد بالكتابة، لأنها السبيل الثاني الذي يقطع في الدلالة على الإرادة، وسواء أكان المتعاقدان يقدران على التلفظ أم يعجزان معاً، أم يعجز أحدهما دون الآخر. وسواء أكانا في مجلس واحد، أم كان التعاقد بين حاضر وغائب، ما دامت الكتابة (واضحة، مفهومة، مستبينة). وقالوا (2) إن العقود جميعها في ذلك سواء. ولم يستثنوا منها سوى الزواج. فلم يجيزوه بالكتابة عند التمكن من التلفّظ، لاشتراط الإشهاد والإشهار، والرغبة في الإشهار زيادة في الاحتياط لخطر ما يترتّب عليه من آثار قوية تتعلق بالأعراض والأنساب ولتحقيق العلانية". ومن هنا يتبيّن ما قلنا من انحطاط درجة الكتابة عن درجة القول. وما ذاك إلاّ للعوامل المؤثرة، مما صرّحوا به، أو ألمحوا إليه، في تعليلاتهم، من عدم الاطلاع على النية، وأن الكاتب قد لا ينوي ما تدل عليه العبارات التي يكتبها، بل ينوي تجويد الخطّ، أو تجربة القلم، أو يعبث بالأشكال الحرفيّة، أو لغير ذلك من المقاصد. ومن صحح الكتابة للغائب دون الحاضر، فإنه لاحظ الحاجة. وكذلك المحدثون، تقل ثقتهم بالمكتوبات عن ثقتهم بالمحفوظات، وكان الذي يعتمد على كتابه يسمى صحفياً، وذلك عندهم وصف ذمّ. وهذا حين كان فنّ الكتابة بدائياً، خالياً من النقط والشكل. فمن أخذ من الكتاب وحده لم يؤمن عليه التحريف والتصحيف. هذا بالإضافة إلى إمكانية حصول العبث بالكتاب في غفلة عن صاحبه.   (1) المدخل للفقه الإسلامي ص 536 (2) يعني فقهاء الحنفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 المطلب الثالث التعارض بين الكتابة وغيرها تعرّض لهذا البحث الزركشي في البحر المحيط، فنقل عن أبي منصور (السمعاني) أنه يقدم القول، ثم الفعل، ثم الإشارة، ثم الكتابة، ثم التنبيه على العلة (1). فأما تقديم القول على الكتابة، فهو واضح. وأما تقديم الفعل عليها فغير مسلم، وذلك أن الفعل يعتَوِره ما يضعف دلالته من الاحتمالات التي تقدم ذكرها في فصل حجيّة الأفعال من الباب الأول، كالخصوصية وغيرها، فكيف تقدم على الكتابة، والكتابة بمنزلة القول؟ ثم قد تُوجّه إلى المخاطب في شأن نفسه خاصّة. فكيف يقدِّم المكتوب إليه عليها ما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، أو سمع أنه فعله. وإن كان المراد تقديم الفعل عليها في حقّ غير المكتوب إليه، فهو غير مسلم أيضاً، لأنها بمنزلة القول، والقول مقدم على الفعل. وقد قدمنا أن خفاء فعليّة الكتابة ناشئ من كونها أعلى دلالة من الفعل، وذلك أيضاً يقتضي تقديمها عليه. وأما تقديم الإشارة على الكتابة مطلقاً فهو غير مسلم، بلى ينبغي التفصيل في ذلك. فلو كتب اسم شخص، ثم عيّنه بالإشارة، وتعارضا، قدمت الإشارة، لاحتمال الكتابة الاشتراك والمجاز وغير ذلك. ولا تحتمل الإشارة هنا ذلك، لأنها تدل على المراد يقيناً. ولو كانت الإشارة مبهمة كبعض الإشارة بالعين أو الرأس، وحتى باليد، لتوضيح بعض الهيئات المركبة أو الأمور المعنوية، فإن الكتابة في ذلك أدل، فينبغي تقديمها. وقد تعرّض لذلك المتولّي في قضية طلاق الأخرس، فقال (2) بعدم اعتبار   (1) البحر المحيط 2/ 260 أ. (2) السيوطي: الأشباه والنظائر ص 312 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 الإشارة في الطلاق من الأخلاص إلاّ إذا عجز عن كتابة مفهمة، فإن كان عليها قادراً فهي المعتبرة منه، ولا يعتبر طلاقه بالإشارة، لأن الكتابة أضبط؛ والجمهور أطلقوا جواز طلاق الأخرص بالإشارة. <رأس>كيفية استفادة الأحكام من الكتابة: للكتابات النبوية دلالات ثلاث: الأولى: من حيث هي فعل صادر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فيستدل بها كما يستدل بالأفعال الصريحة. فيجوز استعمال الكتابة في الشؤون الخاصة، وفي الدعوة إلى الله، وتبليغ الغائبين أحكام الشريعة استدلالاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعملها كذلك. الثانية: من حيث هي تعبير عن مرادات النفس. فيستدل بها كما يستدل بالأقوال، بفهم ما تتضمنه من الأوامر والنواهي والإخبار والتحذير والإنذار، على الوجه الذي تفهم عليه اللغة. والأحكام الأصولية التي تنطبق على الكتابة، من هذه الجهة هي أحكام الأقوال. الثالثة: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يراعيه في كتبه من الأمور التي تعلم الاستقراء، من الاقتصار على القدر الضروري، وتقريب المعاني إلى المخاطبين بما هو من لغتهم، وما ألفوه من العبارات والصور التعبيرية، دون قصد إلى سجع أو تكلُّف، والقصد المباشر إلى المراد، دون مقدّمات مضنية ولا ختامات متعسّفة، والتعبير عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - بصيغة المفرد؛ والبدء بالبسملة. فهذه الأنواع ونحوها كل منها نوع مستقل من الأفعال، ينبغي تنزيلها على الأقسام التي تقدم ذكرها من الأفعال الصريحة، والحكم عليها بما يناسبها. ولا بدّ لإثبات كل فعل منها من الاستقراء التامّ أو القريب من التمام، لتتحصل غلبة الظن به. ثم قد يقع الخلاف في أشياء من ذلك، إما من جهة ثبوته، أو غيرها. ومن الأمثلة على استفادة الأحكام من هذه الجهة من جهات الكتابة، ما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 المثال الأول: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الرسائل، بأن يقول المرسل (بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله) لم يكن يقولها - صلى الله عليه وسلم - في رسائله، ويكون ذلك من باب التروك. المثال الثاني: الحمدلة أو البسملة، في أول الرسائل والوثائق. فقد افتتح البخاريّ كتابه بالبسملة دون حمدلة. وذكر ابن حجر اعتراض من اعترض على ذلك بكونه خلاف ما في حديث أبي داود مرفوعاً: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع". وأجاب عن ذلك بأجوبة، منها: وقوع كتب رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك، وكتبه في القضايا، مفتَتَحة بالتسمية دون حمدلة، كما في حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وفي حديث البراء في قصة سهيل بن عمرو في الحديبية. المثال الثالث: عباراتٌ مقصود بها أن تكون على وضع خاص، ككتابته - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وغيره (سلام على من اتّبع الهدى)، فهي دليل على ترك إلقاء السلام على الكافر، واستبداله بهذه العبارة. المثال الرابع: كان - صلى الله عليه وسلم - يكتب إلى بعض ملوك الكفر بآية من القرآن. فيستدل بذلك على لمس الكافر ما فيه قرآن من كتب التفسير والفقه (1) والمجلات الإسلامية والرسائل ونحوها. المثال الخامس: بداءته - صلى الله عليه وسلم - باسمه، فيقول: "من محمد رسول الله إلى فلان" وقد اختلف في وجه ذلك: فقيل: السنة لكل كاتب أن يبدأ باسمه. وقيل: إنه بدأ به لأنه أفضل من غيره، فيدل على أن الأفضل يقدّم اسمه في رسالته إلى المفضول. قال ابن حجر عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم"، قال: "فيه أن السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حكى النحاس فيه إجماع الصحابة. والحق إثبات الخلاف" (2). اهـ.   (1) ابن قدامة: المغني 1/ 148 (2) فتح الباري 1/ 38 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الفَصل الثاني الإشارة الإشارة قد تكون حسية وهي المرادة هنا، وقد تكون معنوية. والإشارة: حركة بعضو من أعضاء البدن، أو متصل به، يراد بها أحياناً أن تبيّن عما في النفس. قال صاحب لسان العرب: "يقال شوّرت إليه بيدي، وأشرت إليه، أي لوّحْتُ إليه. وأشار باليد: أومأ. وأشار بالنّار: رفعها". وقال: "أشار إليه وشوّر أومأ، يكون ذلك بالكفّ والعين والحاجب. أنشد ثعلب: نُسِرُّ الهوى إلاّ إشارة حاجبٍ ... هناك، وإلا أن تُشيرَ الأصابعُ وفي الحديث: كان يشير في الصلاة، أي يومئ باليد والرأس، أي يأمر وينهي بالإشارة". اهـ. ثم قد تكون الإشارة بالرأس أو العين أو الحاجب أو الأكتاف، والأكثر بالكفّ أو الأصابع. وقد تكون بخرقة أو عصاً أو غير ذلك مما قد يساعد على لَفْتِ النظر. الإشارة فعل : الإشارة فعل من الأفعال، لا خفاء في ذلك، لأنها كما قلنا حركة باليد أو غيرها. وإنما جعلناها من جملة الأفعال غير الصريحة من أجل أنه يُستدل بها على الأحكام بطريق غير الأفعال الصريحة. فإن الفعل الصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي أن نفعل مثل ما فعل. وأما الإشارة فإن دلالتها بالمواضعة العامة، شبيهة في ذلك بدلالة القول. فإذا قال عليه الصلاة والسلام: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" ورفع أصابعه العشرة في مرتين، وخنس الإبهام في الثالثة، فذلك يدل على ما يدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 عليه اللفظ، كأنه قال: (الشهر تسعة وعشرون). فهذه دلالة بطريقة أخرى غير طريقة دلالة أفعال. وليست الإشارة لفظ اسم الإشارة، الذي هو هنا (هكذا)، بل هذا اللفظ مؤكّد لمعنى الإشارة، ومنبّه للمخاطب، عن طريق حاسّة السمع، ليلتفت ببصره إلى ما يشير إليه مخاطبه. المطلب الأول كيفية الدلالة بالإشارة الإشارة تدل على مراد المتكلم بطرق مختلفة. وقد ذكر ذلك القاضي عبد الجبار مجملاً، فقال: "تدل الإشارة كدلالة القول، إما بأن يعرف مراده باضطرار، أو بطريقة في الاستدلال، نحو أن يَعُدّ عَدّاً جرت العادة بمثله. فذكر حديث الإشارة إلى عدد أيام الشهر، ثم قال: وهذه أمور معقولة في طريقة الأدلة" (1). اهـ. ونحن نفصّل ذلك فنقول: من طرق التي تدل بها الإشارة: 1 - التشبيه، كما في الحديث المتقدّم، فإن رفع الأصابع يراد بها أن عدد الأيام في الشهر كعدد الأصابع المرفوعة. ولو سئل ماذا يريد أن يصنع؟ فعمل باليد أو الرجل أو الفم أو غيرهما كهيئة من يأكل أو يكتب أو يمشي أو يطرق حديداً أو غير ذلك، لكان المراد به أنه يريد أن يفعل مثل ذلك. 2 - التوجيه، أعني توجيه بصر المخاطب إلى شيء معين، بملاحقة جهة امتداد إصبع المشير أو يده أو وجهه إلى حيث هي متجهة. قال التهانوي: "تعيين الشيء بالإشارة الحسّيّة بالامتداد الموهوم الآخد من المشير المنتهي إلى المشار إليه" (2). اهـ.   (1) المغني 17/ 273 (2) كشاف اصطلاحات الفنون 1/ 739 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 ثم قد يراد أن يتجه بصر المخاطب إما إلى (ذات). ويوافقها من الألفاظ (هذا) وفروعه؛ وإما إلى جهة، ويوافقها من الألفاظ (هنا) وبابها من أسماء الإشارة للمكان. 3 - معانٍ متواضع عليها، غير منحصرة، كهزّ الرأس أو تحريكه جهة العلوّ بمعنى الإنكار والرفض والنفي، وخفضه بمعنى الموافقة والرضا والإيجاب، وهزّ الأكتاب بمعنى الاستخفاف. وكأنواع من الإشارة باليد، فنفضها، بمعنى التنصّل من الأمر وأنك منه براء، وتحريكها جهة المتكلم بمعنى الاستدعاء أو الأمر بالإدناء، وتحريكها بعيداً عن المتكلم بمعنى الأمر بالإقصاء، والتلويح بها بمعنى التوديع. إلى غير ذلك مما يعرف بتتبع عادات الناس. هذا وتتميز الإشارة عن النطق من هذه الناحية. فإنّ فهم الإشارة لا يرتبط بلغة معينة، بل تكاد الإشارة تكون (لغة عامة عالمية)، ولذلك يستعملها الأخرس والطفل الذي لم يتكلم، ويستعملها الناس إذا لم يعلم أحد منهم لغة الآخر. ولم يذكر التهانويّ من الأنواع الثلاثة إلّا النوع الثاني. ولكن النوعين الآخرين هما أيضاً من أنواع الإشارة. واللغة تدل على ذلك، كما تقدم في الشاهد الذي أنشده ثعلب، وما نقلناه من الحديث التالي له. ومما ورد من النوع الأوّل، وهو التشبيهيّ، ما قال جبير بن مطعم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في صفة الغسل "أما أنا، فأفيض على رأسي ثلاثاً" (1). وأشار بيديه كلتيهما. ومنه ما يأتي في الحديث، في ذكر ساعة يوم الجمعة: "وأشار بيده يزهِّدها". ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر. ومما ورد من النوع الثالث وهو الدالّ على معان متعارف عليها، ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس" (2). يعني إشار بعضهم بالتسليم على بعض؟ فالإشارة هنا تدل على التحية.   (1) البخاري 1/ 367 (2) مسلم (عبد الباقي) 1/ 323 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 ومنه أيضاً: حديث عائشة في صلاة الكسوف، وفيه: "فأشارت برأسها أي نعم" (1). ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - مرّ بنساء، فالْوى بيده بالتسليم. المطلب الثاني الإشارة عند الفقهاء للإشارة عند الفقهاء أحوال (2): الأولى: حال الأخرس، فإن إشارته معتبرة وقائمة مقام النطق من الناطق في جميع العقود، كالبيع، والإجارة، والهبة، والرهن، والنكاح، والرجعة، والظهار. وفي جميع الحلول كالطلاق، والعتاق، والإبراء. وفي غير ذلك كالإقرار، والدعوى، والقذف (3) والإسلام. ويستثنى من ذلك الشهادة واليمين. وقد قسم الفقهاء الإشارة من الأخرس قسمين: فمنها صريح يقع به الطلاق، سواء نواه أم لا، وهو الإشارة المفهومة، التي يفهم المقصود منها كل من رآها. ومنها كناية مفتقرة إلى النيّة، وهي الخفيّة التي لا يفهم المراد منها إلاّ بمزيد من الفطنة والذكاء.   (1) البخاري 1/ 12 ومالك في الموطأ 1/ 188 (2) اعتمدنا في هذا الموضع على ما حرره السيوطي في الأشباه والنظائر ص 312 وما بعدها وانظر أيضاً: تفسير القرطبي 4/ 81 (3) أكد البخاري في صحيحه وقوع القذف بإشارة الأخرى ورد على من منعه. انظر فتح الباري 9/ 439 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 ووجه اعتبارها من الأخرس أنه غير قادر على النطق، فهو يعبّر عن مراده بالإشارة لأنها الأمر المتيسّر له، وقد جرت العادة أنه بها يقضي مآربه ويعبّر عن نفسه، فهي (لغته) التي بها يبلغ ما يريد. الثانية: المعتقل لسانه، واسطة بين الناطق والأخرس، قال السيوطي: "فلو أوصى في هذه الحالة بإشارة مفهمة، أو قرئ كتاب في الوصية، فأشار بيده: إن نعم، صحّت". اهـ. فأجرى عليه حكم الأخرس. وهذا منه ملاحظة للعلة التي ذكرناها آنفاً. وذكر ابن حجر في الفتح في المعتقل لسانه ثلاثة أقوال، الاعتبار، وعدمه، وثالثها عن أبي حنيفة: إن كان مأيوساً من نطقه. وعن بعض الحنابلة إن اتصل بالموت، ورجّحه الطحاوي. الثالثة: القادر على الإبانة بالقول. قال السيوطي: "وإشارته لغوٌ إلاّ في صور معيّنة، منها الإفتاء، ومنها الأمان للكافر بالإشارة، تعتبر أماناً حقناً للدم. ومنها ردّ السلام بالإشارة من المصلّي". وهذا في الحقيقة راجع إلى ما تقدم قبل هذه الحالة لأن الصلاة تمنع النطق، شرعاً. وقال ابن عابدين من الحنفية ما حاصله (1): إن الإشارة من الناطق باطلة إلاّ في تسعة مواضع عدها وذكر منها الإفتاء، والإسلام، والكفر، والنَّسَب، والأمان، وإشارة المحرم لصيد. وقال ابن حجر: "في حقوق الله تكفي الإشارة من القادر على النطق. وأما في حقوق الآدميين فلا تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين". وقال محمد سلام مدكور: "الفقه المالكي يعتبر الإشارة أداةً للتعاقد حتى بالنسبة لغير الأخرس، ما دامت مفهومة بين الناس، ومتعارفاً بينهم على مدلولها" (2).   (1) حاشية ابن عابدين ط 1272 هـ 2/ 454 (2) المدخل للفقه الإسلامي 1/ 538 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 ويتأيّد ما ذكره ابن حجر في حقوق الله بحديث أبي قتادة (1) عندما صاد حمار وحش، ولم يكن أحرم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرفقته: "منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ " قالوا: لا، قال: "فكلوا". والصيد محرّم على المحرم لحق الله. المطلب الثالث حكم البيان بالإشارة إن الإشارة لما كان فيها من خفاء الدلالة على المراد ما فيها، منع من اعتبارها في حقوق الآدميين، إلا حيث لا وسيلة للتعبير سواها، كما في حال الأخرس والمعتقل كما تقدم، أما القادر على النطق فلا تعتبر منه، على التفصيل المتقدم. وهذا إن كانت إشارة مجردة. لكنهم اتفقوا على أن البيان الإفتائي بها صحيح. أما إن انضمّ إليها نطق، فبيّنت الإشارة المراد به، فلا خلاف في أنها يصح البيان بها حتى من القادر على النطق. فلو قال الرجل لزوجته (أنت طالق، هكذا). وأشار بأصابعه الثلاث، طلقت ثلاثاً عند كل من يقول بوقوع الثلاث مجتمعة. ووجهه أن (هكذا) لفظ لا بدّ من حمله على مدلوله. وقد بيّن المراد به بالإشارة فتعيّن. ما وقع في السنة من البيان بالإشارة : الذي وقع في السنة من البيان بالإشارة ثلاثة أنواع : النوع الأول: إشارة مجتمعة مع لفظ هو اسم من أسماء الإشارة، تبيّن الإشارة المراد به. وهذا النوع في السنة كثير. ومثاله ما تقدّم في حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" يعني ثلاثين. ثم قال: "وهكذا وهكذا وهكذا" يعني تسعة وعشرين. وقد عقد البخاري باباً (2) بعنوان (الإشارة في الطلاق والأمور) أورد فيه وفي ما بعده من هذا النوع حديث ابن عمر المتقدم وأحاديث أخر، منها:   (1) جامع الأصول 3/ 418 (2) 9/ 436 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لا يعذّب بدمع العين، ولكن يعذّب بهذا". وأشار إلى لسانه. 2 - وقال: "فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه". وعقد تسعين. 3 - وقال: "الفتنة من هنا". وأشار إلى المشرق. 4 - وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده نحو اليمن: "الإيمان ها هنا" مرتين. 5 - وقال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا". وإشارة بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. ومن هذا الباب أيضاً حديث عمّارٍ في التيمم: "إنما يكفيك أن تقول بيدك هكذا". ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه. النوع الثاني: أن يجعل الإشارة كجزء من القول، أعني أن لا يذكر في الكلام اسم إشارة، وإنما يقيم الإشارة مقام اللفظ. وهذا النوع أقلُّ وروداً من الأول، ومثاله ما في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً: "في الجمعة ساعة، لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي، فسأل الله خيراً إلا أعطاه". ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر. قلنا: يزهّدها. اهـ. أقول: فالإشار ها هنا قائمة مقام النعت لكلمة (ساعة) أي: ساعة قليلة. النوع الثالث: الإشارة المجرّدة من القول إذا أفادت. وهي جائزة في مقام بيان الأحكام، وإن كانت لا تعتبر في الحقوق بين الآدميين من القادر على النطق، كما تقدم. وقد تقدم عن السيوطي أنه استثنى الإشارة في الإفتاء، فأجازها من القادر على النطق. وكذلك فعل ابن عبادين. وقد أُثر من ذلك في السنة قليل. ومنه حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل يوم النحر عن التقديم والتأخير، فأومأ بيده أن لا حرج (1). والذي سهّل الأمر في مثل هذا الحديث أن الإشارة وقعت في جواب وسؤال.   (1) صحيح البخاري 1/ 180 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فهي في الحقيقة مضمومة إلى قول. ومثله حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج". قيل: يا رسول الله: وما الهرج؟ فقال بيده هكذا فحرفها، كأنه يريد القتل (1). أما بيان الأحكام بإشارة مجرّدة عن سؤال أو نطق بالكلية، فلم نظفر له بمثال. وقد نقل الزركشي (2) عن ابن السمعاني أنه قطع بصحة البيان بالإشارة. ونقل عن صاحب الواضح، ولعله يعني ابن عقيل الحنبلي، أنه قال: "لا أعلم خلافاً في الكتابة والإشارة يقع بهما البيان". وعدَّ الزركشي (3) وغيره الإشارة قسماً من أقسام السنة، ومقتضى الإطلاق أن البيان يصح حتى بهذا النوع الثالث. وهم إنما يمثلون بأمثلة من النوع الأول. واحتجّ أبو يعلى الحنبلي (4) للبيان بالإشارة، بقوله تعالى عن زكريا: {قال رب اجعل لي آية * قال آيتك ألاّ تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشيا} (5). ومثله قوله تعالى لزكريا: {قال آيتك ألاّ تكلّم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً} ثم قال: فقد قامت إشارته مقام القول في بلوغ المراد. وليس هذا بحجة. فإن زكريا أفقده الله القدرة على النطق في تلك الأيام الثلاثة فرجع كالمعتقل لسانه، كما تدل عليه الآية {آيتك ألاّ تكلم الناس}. ومن هذا يتبيّن أن الأصوليين لم يحرّروا هذا الموضع كما ينبغي له.   (1) صحيح البخاري 1/ 181 (2) البحر المحيط 2/ 181 ب. (3) البحر المحيط 2/ 260 أ. (4) العدد 7 أ. (5) سورة مريم: آية 10 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 المطلب الرابع التعارض بين الإشارة والقول قعّد السيوطي في ذلك قاعدة: "إذا اجتمعت الإشارة والعبارة واختلف موجبهما، قدمت الإشارة" (1). ثم ذكر فروعاً سبعة تدخل في القاعدة، وخمسة خارجة عنها. وهذا يدل على أنها عند الفقهاء قاعدة أغلبية. ومن الأمثلة التي ذكرها وتدخل في القاعدة، أنْ يقول: زوَّجْتُك فلانَة هذه، ويسمّيها بغير اسمها، فإن العقد يصح على المشار إليها دون المسمّاة. ومما وقع منه في السنة ما ورد في حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده على أنفه؛ وفي نسخة إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين" (2). فقد تعارض في هذا الحديث الإشارة -إلى الأنف- والعبارة- والجبهة. وفي المسألة (3) ثلاثة مذاهب. المذهب الأول: ذهب أبو حنيفة، ومالك في قول، إلى أن السجود على الأنف وحده يجزئ. ولعلهما ذهبا إلى أن الجبهة والأنف عضو واحد، بدليل النطق بأحدهما والإشارة إلى الآخر، فإذا جعلا كعضو واحد أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر. فتطابق الإشارة العبارة. ثم متى كانا عضواً واحداً فيجزئ السجود على بعضه، إذ إن العضو الواحد يجوز السجود على بعضه كما في الأعضاء الستة الأخرى. ويحتمل أن مأخذ هذا المذهب تغليب الإشارة على العبارة.   (1) الأشباه والنظائر ص 315 (2) البخاري 2/ 297 (3) انظر: ابن قدامة: المغني 1/ 517، ابن دقيق العيد: الإحكام 1/ 215. ابن حجر: فتح الباري 2/ 296، نيل الأوطار 2/ 267 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 المذهب الثاني: ذهب أحمد في رواية، ومالك في قول، والشافعي في قول، إلى أنه يجب السجود على الجبهة والأنف كليهما. ومأخذ هذا شبيه بمأخذ المذهب السابق من أنهما كعضو واحد، ولكن لا يكتفى بأحد جزأيه عن الآخر، لأن العبارة تقتضي السجود على الوجه، والإشارة تقتضي السجود على الأنف. ولا يجوز على هذا القول جعلهما عضوين منفصلين، لأن الأعضاء تكون بذلك ثمانية، وهو خلاف الحصر الوارد في أول الحديث. وقد رجّح ابن دقيق العيد هذا القول على القول السابق، قال: لكون الجبهة والأنف داخلين تحت الأمر، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور. يعني أنهما في التسمية والعدد يجعلان عضواً واحداً. ولكن الحكم أن يسجد عليهما جميعاً، تطبيقاً لدلالة العبارة ودلالة الإشارة. المذهب الثالث: ذهب أحمد في رواية ثانية، وهو قول لبعض الشافعية، إلى أن السجود على الجبهة دون الأنف يجزئ، ولا يجزئ السجود على الأنف وحده. وكأنّ مأخذ هذا القول رؤية التعارض بين العبارة والإشارة، فقدمت العبارة على الإشارة. وقد وجهه ابن دقيق العيد بأن الإشارة لا تعيِّن المراد يقيناً لتقارب ما بين الأنف والجبهة، بخلاف التعبير فهو يحدّد المراد. فيقدم. وهذا عندي واضح جدّاً. وقد سبق أن أشرت إليه في تعارض الكتابة والإشارة، فيظهر -على قول الجمهور- أن ابن عباس لم يلاحظ الإشارة ملاحظة دقيقة. هذا على روايته (إلى أنفه)، وهي رواية مرجوحة، والثابت في أكثر النسخ من البخاري (على أنفه). وعندي أن فهم هذه الرواية يحل الإشكال. فإن (على أنفه) لا يجوز أن تفهم على أنها تعني (إلى أنفه) فلم يعهد في اللغة تعدية (أشار) إلى المشار إليه بـ (على) وإنما تعدّى إليه بـ (إلى). ولذا ينبغي أن يقال في (على أنفه) إنها تعني أنه وضع إصبعه، أو أصابعه، على أنفه، وأطرافها متجهة إلى الجبهة. ومن المعلوم أن المشار إليه هو ما يتجه إليه رأس الإصبع، والظاهر أن الإصبع كانت متجهة برأسها إلى الجبهة، وإن كان حرفها مرتكزاً على الأنف، ولذلك قال (على أنفه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 لكن ليس ذلك إشارة إلى الأنف، بل إلى الجبهة. وبهذا يكون القول الثالث أرجح الأقوال، ويكون السجود على الأنف مع الجبهة من باب الاحتياط أو الكمال، كما قال الشافعي في الأم، ليس إلاّ، والواجب الجبهة لا غير. وليس معنى هذا أننا نقول بتقديم العبارة على الإشارة دائماً. بل الذي نقوله هنا ما سبق أن قلناه في تعارض الإشارة مع الكتابة، فحيث كانت الإشارة مفهومة معينة للمراد يقيناً دون إبهام، فإنها تقدّم، وإلا نُظِر في الترجيح بينهما في كل مقام بحسبه. ويعرض الإلتباس للإشارة أحياناً بسبب بعد المشار إليه، فإنّ من شاهد العضو المشار به، كالإصبع، إذا كان المشار إليه بعيداً، يصعب عليه تقدير مسقط الإتجاه. فلو كان أمامه رجال ودوابّ وغيرها. وكانت بعيدة، فأشار بأصبعه، احتمل أن يكون كل شيء من الأشياء المقابلة مراداً، وحتى لو ضمّ إلى الإشارة لفظاً، كهذا، وعطف عليه مبيناً بلفظ آخر (كهذا الرجل) فإن الإبهام لا يزايل. أما لو سمّى رجلًا منهم باسمه العلَم فإنه يتعيّن، ما لم يكن الاسم مشتركاً. وكلّما كان المشار إليه أقرب كانت الإشارة أقوى في التعيين ويقل الاحتمال، فإذا تمّ قربه وسقط رأس الإصبع على المشار إليه فلمسه، تعيّن يقيناً، إلاّ لعارض كما في الإشارة إلى الجبهة في حديث أعضاء السجود، الآنف الذكر. هذا ويرتّب النحاة (1) ألفاظ المعارف من حيث قوة التعيين هكذا: ضمير المتكلم، ثم المخاطب، ثم العلم، ثم ضمير الغائب السالم عن إبهام، ثم المشار به والمنادى، ثم الموصول والمعرَّف بأل. والمضاف بحسب المضاف إليه. وهذا ترتيب غير تام الضبط. وحتى لو قلنا به فإنه لا يصحّ إطلاق القول بأن الإشارة مقدمة على العبارة، لأن النحويين قدموا عليها بعض أنواع العبارة وهي الضمائر والأعلام وأخروا عنها المعرَّف بأل والمنادى.   (1) التصريح في شرح التوضيح 1/ 95 ونقله عن ابن مالك في التسهيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 المطلب الخامس هل كانت بعض الإشارات ممتنعة على النبي صلى الله عليه وسلم روى أبو داود: "لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي السرح عند عثمان بن عفان، فجاء حتى أوقفه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، بايعْ عبد الله. فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايَعه بعد ثلاث. ثم أقبل على أصحابه، فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ " فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت لنا بعينك. فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" (1). قال الخطابي: "خائنة الأعين": أن يضمر في قلبه غير ما يظهره للناس، فإذا كفَّ لسانه، وأومأ بعينه إلى ذلك، فقد خان، وقد كان ظهور تلك الخيانة من قبل عينه، فسمّيتْ خائنة الأعين. اهـ. ورواية أبي داود مردودة لضعفها، انفرد بها إسماعيل بن عبد الرحمن السدّي، أخرج له مسلم وتكلم فيه غير واحد، كذا في عون المعبود. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق يهم، ورمي بالتشيّع. قلت: مثل هذا لا يقبل إذا انفرد، وخاصّة إنْ كانت روايته تؤيّد ما رمي به من البدعة، فإن روايته للحديث يؤيّد بها ما يذهب إليه من التشيّع، لأن فيها طعناً في عثمان، وفي ابن أبي سرح، وكلاهما ممن تكره الشيعة. ولأن ما في الحديث مشكل، فكيف يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل رجل جاء يبايعه، ولا بيعة له إلاّ وقد أسلم. فكيف يريد منهم قتل المسلم. ثم ما الذي كان يمنعه من التصريح بالأمر بقتله إن كان يريد قتله؟.   (1) 12/ 13 ورواه بمعناه أيضاً 7/ 345 ورواه النسائي 4/ 106. وفي الفتح الكبير: روى ابن سعد، مرسلاً: الإيماء خيانة. ليس لنبي أن يومئ. وقال في الأحاديث الضعيفة (2266): ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وما قاله الخطابي مردود أيضاً، فليس من الخيانة أن يضمر الإنسان في قلبه غير ما يظهره للناس إن كان ما يضمره مباحاً. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعمل التورية، وقال: "الحرب خدعة" (1). ولما سئل: ممن أنتم؟ قال: "نحن من ماء" (2)، عَنَى به غير ما فهمه السامع. فهذا الحديث ضعيف سنداً، منكر متناً. وأما الآية {يعلم خائنة الأعين} فهي العين التي تعتدي سرّاً على ما حرّم الله عليها، وهي تظهر البراءة، كما يُعْلَم من كلام المفسرين، وليس منها ما ورد في الحديث الآنف الذّكر. والله أعلم. ثم استدركنا فوجدنا الحديث صحيحاً بلفظ: "ما كان لنبي أن يومض" رواه أبو داود. ووجدنا في شرح المنتهى للفتوحي الحنبلي (2/ 92) ما يلي: "منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرمز بالعين والإشارة بالحاجب، للحديث. وهي الإيماء بالعين إلى مباح من نحو ضرب أو قتال على خلاف ما هو الظاهر سمي بذلك لشبهه بالخيانة لإخفائه. ولا يحرم ذلك على غيره". اهـ. فالمسألة بحاجة إلى مزيد تحرير.   (1) البخاري 6/ 158 ومسلم 12/ 45 (2) سيرة ابن هشام 1/ 616 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 الفصل الثالث الأوجُه الفِعليَّة لِلقَول المبحث الأوّل التفريق بين الوجه العباري وبين الوجه الفعلي للقول تعريف القول: القول هو اللفظ المفرد أو المركب الدالّ على معنى (1). واضح من تعريفنا للقول بأنه (اللفظ ... إلخ) أن ذلك يقتضي إدخال القول في حد الفعل، فيكون القول فعلاً. وقد تعرّض لهذه القضية الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في شرحه (2) لحديث: "إنما الأعمال بالنيات ... " فقال:   (1) خالد الأزهري: التصريح على التوضيح 1/ 37 تنبيه: استعمال القول بمعنى الفعل: يعبر العرب أحياناً بـ (قال) عن الفعل، فيكون ذلك خارجاً عن موضوع هذا الفصل وداخلاً في باب الأفعال الصريحة. فمن ذلك أنهم يطلقونه على غير الكلام. فتقول العرب: قال بيده هكذا، أي فعل هكذا، وقال بالماء على يده، أي قلبه. وقد يستعمل بمعنى التهيوء للأفعال والاستعداد لها، يقال: قال فأكل، وقال فضرب. وقد يستعمل بمعنى ضرب، وغلب، ومات. (2) أحكام الإحكام 1/ 10 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 رأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصّص الأعمال بما لا يكون قولاً وأخرج الأقوال من ذلك. وفي هذا عندي بعد. وينبغي أن يكون لفظ "العمل" يعم جميع أفعال الجوارح. نعم لو خصّص بذلك لفظ "الفعل" لكان أقرب، فإنهم استعملوهما متقابلين، فقالوا: الأفعال والأقوال. ولا تردّد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضاً. اهـ كلامه. وواضح من كلامه أنه يرى أن (العمل) يشمل القول، وأن (الفعل) مباين للقول، وأن دليله على ذلك استعمال الفعل والقول متقابلين في كلام الفصحاء. وعندي أن هذا الدليل غير قائم. بل القول هو فعل من بعض الوجوه وخارج عن الفعل من وجه آخر. وتوضيح ذلك أن القول هو قول من حيث دلالة عبارته على ما دلّت عليه بالوضع أو التجوّز. وسواء كانت دلالته بالمطابقة، أو التضمّن أو الالتزام. وهو فعل من حيث إيقاعه أوْ لا إيقاعه، ومن حيث صفة صدوره عن القائل، ومن حيث تعلُّقُه بما تعلق به. هذا وإن العمل بمدلول العبارة هو عمل بالقول، أما إيقاع قولٍ آخر مثل القول فهو اقتداء بالقول من حيث هو فعل. فالقول إنما يطلق على ما يتلفّظ به من حيث مدلول العبارة، لا من جهة أخرى. ومدلول العبارة هو أن الكلام خبر أو أمر أو نهي أو تعجّب أو استفهام أو تمنٌّ أو غير ذلك من هذه المعاني القولية. لكن القول من حيث إخراجه من حيّز العدم إلى حيّز الوجود هو فعل من الأفعال. وكذلك من حيث تأثيره في ما يؤثر فيه، وتعلّقه بما تعلّق به. وأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - يجري فيها على هذا الأسلوب. فهي أفعال من حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - أوقعها، فأخرجها إلى حيّز الوجود، ثم قد يكون قالها مرتبطةً بزمان أو مكان، كأذكار رؤية الهلال، ودخول المسجد الحرام، والوقوف بعرفة، وأذكار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 الصلاة وغير ذلك ... فتكون من هذه الجهة أفعالاً، ويجري في الاستدلال بها في حقّنا على قانون الأفعال. فما علم أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله بياناً لواجب أو امتثالاً له وجب علينا أن نقول مثله، وما قاله بياناً لمستحب أو امتثالاً له فمثله منا مستحب. وإن قاله بياناً لمبيح أو تطبيقاً له فإيقاع مثله منا مباح. وإن لم يكن كذلك فهو فعل مجرّد، نستدل به كما نستدل بسائر الأفعال المجرّدة. وأما ما تضمنته العبارة من إسناد الخبر إلى المبتدأ، أو الفعل إلى الفاعل، أو الطلب ونحوه، فهي الدلالة القولية. والحكم المستفاد من الجهة القولية إنما يستفاد من هذه الناحية لا غير. فالأمر يدل على الوجوب، والنهي يدل على التحريم وهكذا. وكمثال على ذلك نذكر حديث صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفاً، فأتيت أزوره ليلاً. فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلِبَني، فمرّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - على رِسْلِكما، إنها صفيةُ بنتُ حُيَيّ. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً" (1) أو قال: "شرّاً". فقوله: "على رسلكما" طلب للتمهل، ودلالته على ذلك دلالة قولية. وقوله: "إنها صفية بنت حييّ" إخبار لهما عن المرأة التي معه، وأنها زوجته. فهذا خبر مفهوم من الجهة القولية أيضاً. ودلالته على جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف دلالة قولية، من القياس بنفي الفارق. أما دلالته على أنه يندب للإنسان أن يبيِّن في مثل هذا الموقف، إزاحة للتهمة عن نفسه، وانتشالاً لأخيه من مهواة الإثم بسوء الظن، فهي دلالة فعلية، تستفاد من القول من حيث هو فعل كسائر الأفعال، يُجْرى فيه على قانونها في الاستدلال.   (1) متفق عليه (جامع الأصول 1/ 247). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وقد مثّل الشاطبي في باب الأفعال (1) بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - للزاني بصريح السؤال، حيث قال له: "أفعلت كذا؟ أفعلت كذا؟ " حتى قال له: "كما يدخل الرشاء في البئر؟ " إلى آخر ما قال - صلى الله عليه وسلم -. قال الشاطبي: والقول هنا فعل، لأنّه معنى تكليفيّ لا تعريفيّ. فالتعريفي هو المعدود في الأقوال، وهو الذي يؤتى به أمراً أو نهياً أو إخباراً بحكم شرعي، والتكليفي هو الذي لا يعرِّف الحكم بنفسه من حيث هو قول، كما أن الفعل كذلك. اهـ. فهذا تفصيل جيد. ولكنا لسنا نرتضي هذه التسمية (المعنى التكليفي) لأن التكليف متعلّق بالشرع، والمسألة لغويّة محضة. وهذا الاختلاف بين جهتي القول واقع في كل قول، سواء صدر من المنتسبين إلى الشرع أم غيرهم. فما عبّرنا به من (الوجه الفعلي للقول) أوضح ممّا عبّر به الشاطبي رحمه الله. وقد ذكر أبو الحسين البصري (2) في زيادات المعتمد، في قسم الأفعال، قضاءه - صلى الله عليه وسلم - على الغير، ثم قال: "ولقائل أن يقول: لم أدخلتم القضاء في جملة الأفعال، مع أنه قول؟ وأنتم إنما تتكلمون في أبواب الأفعال في الأفعال التي هي أفعال الجوارح؟ قال: والجواب: إنما تكلّمنا في القضاء هاهنا لأنه كأفعال الجوارح بالغير. ولم يجزْ ذكره في ما قبل، فذكرناه هاهنا لمشابهته للأفعال المتعلقة بالغير قال: وإذا أردنا حَسْم هذا الاعتراض قلنا في القسمة: إن ما يسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ما يتعلق بغيره أفعال وتروك. والأفعال ضربان: أفعال هي أقوال، وأفعال ليست أقوالاً". ثم قال: "وإنما قسمْنا الأفعال إلى أقوال وإلى غير أقوال، لأنّ الفعل إذا أطلق أفاد كل ما يفعله الفاعل من قول وغير قول. وإذا جعل في مقابلة قول، لم يدخل القول تحت الفعل". اهـ.   (1) الموافقات 4/ 59 (2) المعتمد 2/ 1006 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وهذا بيان واضح يدل على بعض ما ذكرنا. والذي نقوله إن القول فعل، سواء تعلق بالغير أو لم يتعلق به. وقول أبي الحسين هذا، كافٍ للردّ على استدلال ابن دقيق العيد على التباين بين (القول) و (الفعل) باستعمالها متقابلين في كلام الفصحاء، ووجه الردّ أن التباين عارض يعرض إذا استعملا متقابلين مجتمعين في كلامٍ واحد، أما إذا استعملا في كلامين فإن (القول) يدخل في (الفعل) من الوجه الذي ذكرناه. ضابط للتفريق بين وجهي القول : إن الضابط لذلك أنه حيث كان الاستدلال بالقول يقتضي أن نقول مثل ما قال - صلى الله عليه وسلم -، فهو استدلال بالوجه الفعلي للقول. وحيث كان الاستدلال بالقول يقتضي أن نفهم ما قال ونمتثله، فهو استدلال بالوجه القولي. وبهذا المعنى الذي أشرنا إليه يتضح لنا مبنى الخلاف في ما يختلف فيه من مثل (القضاء) و (البيع) وسائر العقود، و (الأمر) و (النهي) ونحوها. فقد اختلف فيها هل هي أقوال أم أفعال. فمن قال: إنها أقوال، نظر إلى الصيغة، ومن قال: إنها أفعال، نظر إلى الإيقاع والتعلق. فمن ذلك قضاء القاضي بين الخصمين، فإنه قول، لأنه عبارة عن قول القاضي "حَكَمْتُ بكذا". ولكن لأنه يتعلق بالخصمين، ويكون كفّاً لأحدهما عن الآخر وفصلاً بينهما، فهو من هذه الجهة فعل. وقد جعل الجصاص القضاء بين شخصين فعلاً دالاً على الوجوب. وقال ابن الهمام: "القضاء قولٌ يكون معه عموم وخصوص"، وقال أبو الحسين البصري: "إن القضاء قولٌ هو فعل" (1) وهو أوضح من كلام غيره.   (1) انظر أصول الجصاص ق 208 ب، تيسير التحرير 1/ 249، المعتمد 1/ 387 وانظر أيضاً: القرافي: الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 75 وصحيح ابن حبان 1/ 107 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 ومثل القضاء البيع والهبة والتمليك وسائر العقود. ما يدخل تحت هذه القاعدة : يدخل تحت هذه القاعدة جملة كبيرة من أقواله - صلى الله عليه وسلم -، يستدل بها، على طريقة الاستدلال بالأفعال، ونحن نذكر من ذلك أصنافاً: الأول: الأذكار والأدعية النبوية. سواء أكانت في العبادات المرسومة كالصلاة والزكاة والحج والصوم، أو المرتبطة بأسباب زمانيّة كأدعية الصباح والمساء ودخول الشهر، أو مكانية كأذكار دخول المنزل والخروج منه، أو بمناسبات أخرى كما كان - صلى الله عليه وسلم - يقوله إذا استجدّ ثوباً، أو عاد مريضاً، أو قابل وفداً، أو غير ذلك. وقد قال ابن قدامة في سياق بيان حكم تسليمه - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة: "أكثر أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة مسنونة غير واجبة" (1). الثاني: قضاؤه - صلى الله عليه وسلم -. فلو شهد عنده شاهد وحلّف المدعي، ثم قضى بذلك، لكان قضاؤه بالشاهد واليمين فعلاً من الأفعال. وقد ذكر الجصّاص (2) في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - الدالّة على الوجوب قضاءه بين اثنين. الثالث: افتاؤه - صلى الله عليه وسلم -، وبيانه للأحكام الشرعية، وتعليمه أصحابه. والوجه الفعلي لذلك يقتضي أن يُقْتدى به - صلى الله عليه وسلم - في البيان، وتستخدم الطرق التي سلكها، وتراعى الأمور التي راعاها في ذلك. ومثاله الحديث الذي في الصحيحين: عن عبد الله بن عمرو، قال: تخلّف عنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها، فأدْركَنا وقد أرهقتنا الصلاة، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار" مرتين أو ثلاثاً. فالعبارة تدل على وجوب استيعاب الرجل بالغسل.   (1) المغني 1/ 553 (2) أصول الجصاص ق 208 ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 والوجه الفعلي يدل على أمور: منها: ما بوّب عليه البخاري: باب من رفع صوته بالعلم (1). ومنها: تكرير القول المبلِّغ للحكم ليستقرّ ويتأكد. ومنها: تفقَّد الإمام للرعية في وضوئهم. ومن هذا الصنف الثالث أيضاً ما يستدلّ به الأصوليون على إثبات بعض أصول الفقه، كاستدلالهم في باب القياس بأنه - صلى الله عليه وسلم - قاس في مثل جوابه لمن سألته عن حجها عن أبيها: "أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضينه عنه؟ " ثم قال: "اقضوا الله فالله أحق بالوفاء" فهذا النوع إنما هو استدلال بالأفعال. الرابع: أنواع من كلامه - صلى الله عليه وسلم - كمدحه بعض الناس، وذمه لآخرين، ومزاحه وتوريته، ونحو ذلك. إلى غير ذلك من الأنواع. بل كلّ شيء من أقواله - صلى الله عليه وسلم - له وجه فعلي، ثم قد يحتاج إلى ذلك الوجه في الاستدلال، وقد لا يحتاج إليه لظهوره.   (1) فتح الباري 1/ 143 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 المبحث الثاني حصر الأوجه الفعليَّة للقول تتعدّد الأوجه الفعلية للقول إذا نظر إليه من جهات مختلفة. ونحن سنحاول حَصْر تلك الجهات في ما يلي: الجهة الأولى: إيقاع القول المعين منوطاً بزمان أو مكان أو مناسبة معيّنة، كما تقدم في الأذكار والأدعية. وقد يكون القول مطلقاً عن السبب، كسائر الأذكار والأدعية المطلقة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "استغفروا الله. إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة" (1). الجهة الثانية: درجة الصوت. ومثاله ما تقدم في حديث: "ويل للأعقاب من النار". ومثاله أيضاً ما في حديث جابر، قال (2): "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبّحكُمْ ومسّاكُمْ". الجهة الثالثة: استعمالاته اللّغوية. ومن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بالعربية، ويخطب بها، ويتكلم أحياناً بلغة خاصة بقوم وفدوا عليه، ويكتب إليهم بها. كما قال لبنت سعيد بن العاص لما رجعت من الحبشة (3): "يا أم خالد هذا سَنَاهْ" و (سَنَاهْ) بلغة الحبشة بمعنى (حسن)   (1) البخاري 11/ 101 وروى مسلم بعضه 17/ 42 (2) مسلم والنسائي (جامع الأصول 4/ 434). (3) البخاري 10/ 279، 303 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 ولعلّه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال لها ذلك لأنها وُلدت بأرض الحبشة، ونشأت بها، ولعلّها كانت تفهم بها أكثر مما كانت تفهم بالعربية،، فخاطبها بما تفهم. وقال له أبو موسى الأشعريّ (والأشعريون من اليمن): أمِنِ آمْبِرِّ آمْصوْمُ في آمْسَفَر؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من امبرّ امصوم في امسفر" (1). فلما كانت هذه لغتهم خاطبهم بها. وكتب إلى بعض أقيال اليمن: "إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشابيب ... وفي التيْعةِ شاةٌ لا مقوَّرة الألْياطِ ولا ضَناك ... وأنطوا الثَّبِجَة. وفي السُّيوب الخُمس" (2) إلخ. وهذا غريب على لغة قريش، ولكنه لغة من كتب إليهم. الجهة الرابعة: تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - من جهة البديع والمعاني والبيان والصور التعبيرية وما أشبه ذلك. فقد كان يستعمل الإيجاز غالباً دون الإطناب والإسهاب مع الوفاء بالمقصود دون إخلال، ويأخذ بجوامع الكلم. ولا يستعمل السجع والجناس. إلاّ أن يقع ذلك في الكلام دون تكلّف أو معاناة. واستعماله المبالغة، في مثل قوله: "أما أبو جهم فلا يضعَ عصاه من عاتِقِه" (3).   (1) قال في جامع الأصول 7/ 261: أخرجه رزين، وقال محققه: في مجمع الزوائد: أخرجه أحمد والطبراني في الكبير ورجال أحمد ورجال الصحيح. (2) محمد حميد الله: الوثائق السياسية والإدارية للعهد النبوي. الوثيقة رقم 133 شرح الغريب عن المؤلف المذكور: القيل: لقب ملوك حمير. التيعة: أدنى ما تجب فيه الزكاة وهو أربعون من الغنم، والخمس من الإبل. الضناك. الكثيرة اللحم. مقورة الألياط: مسترخية الجلود. انطوا الثبجة: أعطوا الوسط. السيوب: الركاز. (3) مسلم 10/ 36 ومالك في الموطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 واستعماله بعض ألفاظ الدعاء التي لا يراد بها أصل موضوعها، كقوله لأم سليم: "تربت يداك" وقوله عن صفية: "عقرى حلقى". وإجابته عما لم يسأل عنه، إذا علم من حال السائل أنه يجهل ما هو بحاجة إليه، كما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التوضّؤ بماء البحر، فقال: "البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (1). ومنها إجماله قبل البيان توطئةً له وتثبيتاً، وتنبيهاً على قيمة ما سيقال، كقوله لأبيّ: "لأعلمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" (2) ثم علّمه الفاتحة. إلى غير ذلك مما استقرأه المتكلّمون في علم البلاغة، وفي البلاغة النبوية خاصة (3). الجهة الخامسة: العادات الكلامية كما قالت عائشة: "ما كان - صلى الله عليه وسلم - يسرد كسردكم هذا. كان يتكلم كلاماً فصلاً لو عدّه العادّ لأحصاه. وكان إذا تكلّم الكلمةَ أعادها ثلاثاً لتحفظ عنه". الجهة السادسة: إغلاظ القول ولينه. فقد كان - صلى الله عليه وسلم - لأمته كالطبيب المعالج، يستعمل كل شيء في موضعه الذي يستحقه. وكان ربما يُبْهِم إذا أراد الإنكار على معيّن، ويقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ " ولا يسميهم. الجهة السابعة: بيانه - صلى الله عليه وسلم - للأحكام مقرونة بالتعليل والبرهنة المقنعة. كما في حديث أبي هريرة: "أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: ولد لي غلام   (1) رواه مالك في الموطأ 1/ 22 وأصحاب السنن. (2) البخاري 8/ 156 وأبو داود، وأحمد 4/ 211 (3) انظر مثلاً: مصطفى صادق الرافعي: إعجاز القرآن والبلاغة النبوية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 أسود. فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حُمْر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنّى ذلك؟. قال: لعلّ نزعه عرق. قال: فلعلّ ابنك هذا نزعه عرق" (1). فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر السائل بالحكم الشرعي مجرداً، وهو لصوق النسب به، بل جاءه بمثال مقنع، ومن واقع حال السائل. وقالت له عائشة: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني: قصيرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد قلتِ كلمة لو مزجتْ بماء البحر لمزَجتْهُ" (2). ومثله قوله: "لا تجمعوا بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها، إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم".   (1) البخاري 9/ 442 ومسلم 10/ 133 وأبو داود والنسائي. (2) أبو داود 13/ 221 والترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 الفصل الرابع الترك تمهيد في حقيقة الترك: الترك في اللغة: ودع الشيء وتخليته. هكذا في (لسان العرب). وفي المواقف وشرحه: "الترك في اللغة: عدم فعل المقدور، سواء قصد التارك أو لم يقصد، كما في النوم، وسواء تعرّض لضدِّه أو لم يتعرض. وأما عدم ما لا يقدر عليه فلا يسمّى تركاً. ولذا لا يقال: ترك فلان خلق الأجسام. وقيل إن الترك: عدم فعل المقدور قصداً، فلا يقال: ترك النائم الكتابة. ولذا لا يتعلق به المدح والذم. وقيل إن الترك: من أفعال القلوب، لأنه انصراف القلب عن الفعل، وكفّ النفس عن ارتياده. وقيل هو فعل الضد لأنه مقدور، وعدم الفعل مستمر. فلا يصلح أثراً للقدرة الحادثة" (1). اهـ. فبناء على أوسع الاصطلاحات مما ذكره، نقول: الترك نوعان: ترك غير مقصود وترك مقصود. فأما الترك غير المقصود فواضح أنه سلب محض. وهو ليس موضعاً للقدوة، ولا يستدلّ به على طريقة الاستدلال بالأفعال، فلا يدل على جوازٍ ولا كراهة ولا تحريم. ويقول ابن تيمية في سياق كلامه عن دخول الحمّامات:   (1) شرح المواقف 6/ 132 ونقله التهانوى 1/ 168 وانظر أيضاً: شرح جمع الجوامع للمحلى 1/ 214. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 "ليس لأحد أن يحتج على كراهة دخولها، أو عدم استحبابه، بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخلها، ولا أبو بكر وعمر، فإن هذا إنما يكون حجة لو امتنعوا من دخول الحمامات، وقصدوا اجتنابها، أو أمكنهم دخولها فلم يدخلوها. وقد علم أنه لم يكن في بلادهم حينئذ حمام، فليس إضافة عدم الدخول إلى وجود مانع الكراهة أو عدم ما يقتضي الاستحباب بأولى من إضافته إلى فوات شرط الدخول وهو القدرة والإمكان. وهذا كما أن ما خلقه الله في سائر الأرض من القوت واللباس والمراكب والمساكن لم يكن كل نوع منه كان موجوداً بالحجاز. فلم يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كل نوع من أنواع الطعام القوت والفاكهة، ولا لبس من كل نوع من أنواع اللباس. ثم إنّ من كان من المسلمين بأرض أخرى كالشام ومصر واليمن وخراسان وغير ذلك، عندهم أطعمة وثياب مجلوبة عندهم أو مجلوبة من مكان آخر، فليس لهم أن يظنوا ترك الانتفاع بذلك الطعام واللباس سنّة، لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل مثله ولم يلبس مثله، إذ عدم الفعل إنما هو عدم دليل واحد من الأدلة الشرعية. وهو أضعف من القول، باتفاق العلماء. وسائر الأدلة من أقواله كأمره ونهيه وإذنه، ومن قول الله تعالى، هي أقوى وأكبر. ولا يلزم من عدم دليل معيّن عدم سائر الأدلة الشرعية" (1). اهـ. وأما الترك المقصود، فهو الذي يعبّر عنه بالكفّ، أو الإمساك، أو الامتناع. هل الكفّ فعل من الأفعال؟: يرى كثير من الأصوليين أن الكفّ فعل من الأفعال، وهو عندهم فعل نفسي (2). ونُسِب إلى قوم، منهم أبو هاشم الجبائي، إن الكف انتفاء محضّ، فليس بفعل (3).   (1) الفتاوى الكبرى 21/ 313 - 314 (2) السبكي والمحلي: جمع الجوامع وشرحه 1/ 214، الشاطبي: الموافقات 1/ 12 و4/ 58، شرح مختصر ابن الحاجب 2/ 13، 14، السرخسي: أصوله 1/ 80 (3) المحلي: في شرح جمع الجوامع 1/ 215 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 والأول أولى، كما هو معلوم بالوجدان. وأيضاً نحن نجد في الكتاب والسنّة إشارات إلى أن الكفّ فعل، منها قوله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} (1) فسمّى الله تعالى ترك العُبّاد والعلماء للنهي عن المنكر صنعاً، والصنع فعل. ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عُرِضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدتُ في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن" (2). فجعل ترك دفنها ممن يراها عملاً سيئاً. ومن أجل ما في فعليّة الكفّ من الخفاء، ولأجل التباسه بالترك العدميّ، أخرجناه من حيّز الأفعال الصريحة. وقد نعبّر فيما يأتي من هذه الرسالة عن الكفّ والإمساك بـ (الترك) وحيثما عبّرنا به فإنما نعني به الكف خاصة دون الترك غير المقصود، إذ قد تبيّن أن الترك غير المقصود خارج عن الفعلية أصلاً. تقسيمنا لمباحث الترك : الترك إما عدميّ: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغفل الحكم في أمور لم تعرض له ولم تحدث في زمانه، فترك فعلها، وترك القول في شأنها، لعدم المقتضى لذلك القول والفعل. ويذكره الأصوليون في أبواب مختلفة، كباب القياس، والمصلحة المرسلة، وغير ذلك. ويتعرّض له الكاتبون في البدعة. وأما نحن فسوف نغفل الكلام فيه، لأنه خارج عن نطاق بحثنا، إذ بحثنا خاص بالأفعال النبويّة، وهذا النوع ليس فعلاً أصلاً. وإما وجوديّ: وهو الكفّ، وهو أن يقع الشيء، ويوجد المقتضي للفعل أو القول، فيترك الفعل والقول، ويمتنع عنهما.   (1) سورة المائدة: آية 63 (2) مسلم (جامع الأصول 1/ 352). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وهذا القسم نوعان: الأول: ترك الفعل والإعراض عنه، ونذكره في بقية هذا الفصل. والثاني: ترك القول، وهو على منزلتين، لأنه إما سكوتٌ عن الجواب وغيره من أنواع القول ما عدا الإنكار. ونعقد له الفصل الخامس. وإما سكوت عن الإنكار خاصة، فيسمى التقرير، ونعقد له الفصل السادس. وقد جعلنا التقرير في فصل مستقل، لأهميته، ولأن كثيراً من الأصوليين يفردونه عن التروك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 المبحث الأوّل البيان بالترك الترك وسيلة لبيان الأحكام، كالفعل : كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبيّن الأحكام بفعله المجرّد من القول، أو بالفعل الذي يساعده القول، كذلك كان يبيّن الأحكام بالترك المجرّد من القول، أو بالترك الذي يساعده القول. ما يحصل بالترك من أنواع البيان : قد قدّمنا أن الأحكام التي كانت تبيّن بالفعل هي الواجب والمندوب والمباح. فأما التروك فإن الذي يبيَّن بها هو المحرم والمكروه والمباح. وقد قدّمنا أيضاً أن المكروه كذلك كان يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانه بالفعل إذا ظنّ تحريمه. وكذلك هنا: قد يبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - المستحب، بتركه، إذا ظُنَّ وجوبه. ويقول الشاطبي: "المطلوب تركه بيانه بالترك، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حراماً. وإن كان مكروهاً فكذلك، إن كان مجهول الحكم. وإن كان مظنّة لاعتقاد التحريم وترجح بيانه بالفعل تعيّن الفعل على أقل ما يمكن وأقربه. وإن كان مظنّةً لاعتقاد الطلب، أو مظنّة لأن يثابر على فعله فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل، أو كان له أصل في الإباحة" (1).   (1) الموافقات 3/ 320 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 ويقول: "إن كان الفعل المندوب مظنّة لاعتقاد الوجوب، فبيانه بالترك، أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك". اهـ. وسواء أكانت هذه المظنّة المشار إليها ناشئة عن دليل آخر قوليّ أو فعلي يظن عمومه أو إطلاقه، أو عن غير دليل. وإذا ورد الأمر في القرآن أو السنة القولية، أو فهم الوجوب من الفعل النبويّ، ثم ترك - صلى الله عليه وسلم - ذلك مطلقاً أو في حال ما أو لسبب ما، علم نسخ الأول أو تخصيصه، أو حمله على الاستحباب دون الوجوب، على ما سيأتي تفصيله في باب التعارض إن شاء الله. وإذا فرّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين بعض العبادات وبعض، ففعل في نوع من أشياء واظب عليها، وترك تلك الأشياء في نوع آخر، فإنه يتبع في ذلك، ويكون الترك كالنص على أنه لا يفعل. ونضرب لذلك مثالين: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤذن له للصلوات الخمس، ولكن لا يؤذّن لصلاة العيد، ولا لصلاة الخسوف، ولا لصلاة الاستسقاء. أما صلاة العيد، ففي حديث ابن عباس: "لم يكن يؤذَّن يوم الفطر، ولا يوم الأضحى" (1). وعن ابن عباس أيضاً: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى العيد بغير أذان ولا إقامة" (2). ومثله حديث جابر: "لا أذان يوم الفطر حين يخرج الإمام، ولا بعدما يخرج الإمام، ولا إقامة، ولا نداء، ولا شيء". فأجمع الفقهاء (3) على أن صلاة العيد لا يؤذَّن لها ولا يقام. ويقول ابن تيمية: "ترك رسول الله للأذان في العيدين، مع وجود ما يعدّ مقتضياً، وزوال المانع، سنة، كما أن فعله سنة. قال: "فلما أمر بالأذان في الجمعة، وصلّى العيدين بلا أذان ولا إقامة، كان   (1) البخاري 2/ 451 (2) رواه أبو داود (الفتح 2/ 452). (3) ابن دقيق العيد: الإحكام 1/ 330 وقال ابن قدامة في المغني (2/ 378) أنه لا يعلم في ذلك خلافاً ممن يعتد به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة، وأعداد الركعات، أو الحج". وأما النداء لها (الصلاة جامعة)، فقد قال الشافعي: "أحب أن يأمر الإمام المؤذن أن يقول: الصلاة جامعة" (1). وقال: قال الزهري: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر في العيدين المؤذن أن يقول الصلاة جامعة". وابن قدامة اختار الترك، وقال: "سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع" يعني ما ذكر في حديث جابر. وأما صلاة الكسوف، فلم يكن يؤذّن لها، وإنما كان ينادي لها (الصلاة جامعة) (2) فهذه سنتها، ولا يكون لها أذان ولا إقامة، استدلالاً بالترك. وذلك مجمع عليه. وأما صلاة الاستسقاء، فكذلك ليس لها أذان ولا إقامة، لما روى أبو هريرة، قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي، فصلّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة" (3). وقد قيل: ينادى لها (الصلاة جامعة) قياساً على صلاة الكسوف. المثال الثاني: أنه ترك الجهر في بعض الركعات في المغرب والعشاء، وجهر في الركعتين الأوليين دون ما بعدهما. وجهر في صلاة الليل، ولم يجهر في صلاة النهار. فهذا دليل اختصاص الجهر بما جهر فيه، ودليل ترك الجهر في ما لم يجهر فيه. المثال الثالث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي على موتى المسلمين، ولكنه لم يصلّ على شهداء أُحد.   (1) الأم للشافعي 1/ 235 (2) رواه البخاري (جامع الأصول 7/ 105). (3) رواه الأثرم (المغني لابن قدامة 2/ 432). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 فقال مالك والشافعي وأحمد في رواية: "الشهيد لا يصلّى عليه" (1). وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية: يصلّى عليه، إلا أن الرواية عن أحمد أن الصلاة عليه على وجه الاستحباب. وحجة الأولين ما روى جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصلَّ عليهم" (2). واحتجّ الحنفية بأحاديث وردت (3) أنه - صلى الله عليه وسلم - قد صلّى عليهم، منها مُرسَل عطاء، عند أبي داود، ومنها ما روى الحاكم عن جابر أنه صلى عليهم واحداً واحداً. ولفظه: "جيء بحمزة فصلّى عليه. ثم بالشهداء فيوضعون إلى جانب حمزة فيصلّي عليهم ثم يرفعون، ويترك حمزة، حتى صلّى على الشهداء كلهم".   (1) ابن قدامة: المغني 2/ 529 (2) حديث جابر: متفق عليه. (3) انظر ابن الهمام: فتح القدير شرح الهداية 1/ 475 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 المبحث الثاني أقسام الترك والأحكام التي تدل عليها إن تروك النبي - صلى الله عليه وسلم - يمكن تقسيمها إلى أقسام موازية لأقسام أفعاله. والأقسام التي يظهر انقسام الترك إليها ما يلي: الأول: الترك لداعي الجبلة البشرية (1). وهذا لا يدل في حقنا على تحريم ولا كراهة. ومثاله ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل لحم الضب. وقال: " إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه". وكان يترك الطعام إن لم يكن مما يشتهي. ففي الحديث: "ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه" (2). ويظهر أن من هذا النوع ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فأتته ميمونة بخرقة، فلم يُرِدْها، وجعل ينفض الماء بيده. فتركه التنشيف ظاهر أنه لغرض جبلي، ولعله يتعلق برغبته في إطالة برهة ترطّب البدن، أو غير ذلك. وقال ابن دقيق العيد: "ردّ المنديل واقعة حال يتطرّق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون لا لكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو غير ذلك" (3). ولا حاجة لهذا التكلُّف بل الأولى حمله على الرغبة الجبلية، والله أعلم. ونقل ابن قدامة أن عبد الرحمن بن مهدي وجماعة من أهل العلم كرهوا التنشيف لهذا الحديث. ثم قال: "وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الكراهة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يترك المباح كما يفعله" (4).   (1) الشاطبي: الموافقات 4/ 60 (2) البخاري 9/ 547 (3) إحكام الأحكام 1/ 96 (4) المغني 1/ 142 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الثاني: الترك الذي قام دليل اختصاصه به - صلى الله عليه وسلم -. وهو تركه لما حرم عليه خاصة. كتركه أكل الصدقة. قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنّا معشر آل محمد لا تحلّ لنا الصدقة". ومثله ترك ما يشتبه أنه من الصدقة. ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - وجد تمرة ملقاة، فقال: "لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها". ولا يجوز أن يحمل شيء من تروكه - صلى الله عليه وسلم - على الخصوصية لمجرّد الاحتمال. بل لا بدّ من دليل، كما تقدم نظيره في الأفعال. وقد قال أبو شامة في الأفعال إنه يقتدي بالخصائص النبوية الواجبة، على سبيل الاستحباب. فقياس قوله هنا انه ينبغي أن يستفاد لحقّنا كراهية ما خُصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريمه. فيكون أكل الصدقة، مثلاً، مكروهاً لنا. الثالث: الترك بياناً أو امتثالاً لمجمل معلوم الحكم، عام لنا وله. فيستفاد حكم الترك من الدليل المبيّن والممتثَل. ومثاله تركه - صلى الله عليه وسلم - الإحلال من العمرة مع صحابته، وقال: "إني لبّدت رأسي وقلّدت هدي، فلا أحل حتى أنحر". وقال: لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي مَحلّه" فقد امتثل النهي الذي في الآية، بترك التمتع، لما كان قد ساق الهدي. وتبيّن بذلك حكم من ساق الهدي. وتبيّن أيضاً أن المَحِلَّ الزمانيّ مراعىً. والحكم هنا -أعني حكم الحلق- هو التحريم، لظاهر النهي في الآية. ومن الترك الامتثالي تركه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على المنافقين (1) لما نزل قوله تعالى: {ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً}. الرابع: الترك المجرّد، وهو الذي ليس من الأقسام السابقة. وهو نوعان: الأول: ما علم حكمه في حقه بقوله - صلى الله عليه وسلم -، أو باستنباط. والثاني: ما لم يعلم حكمه.   (1) الحديث في ذلك رواه مسلم: 17/ 121 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فأما ما علمنا حكمه في حقه بدليل، فينبغي أن يكون حكمنا فيه كحكمه. أخذاً من قاعدة المساواة في الأحكام، وقد تقدم إثباتها. وأما ما لم نعلم حكمه في حقه - صلى الله عليه وسلم -، فما ظهر فيه أنه تركه تعبداً وتقرباً نحمله على الكراهة في حقه، ثم يكون الحكم في حقنا كذلك أخذاً من قاعدة المساواة، كتركه ردّ السلام على غير طهارة، حتى تيمّم (1). وما لم يظهر فيه ذلك، نحمله على أنه من ترك المباح، كتركه السير في ناحية من الطريق، أو الجلوس في جهة من المسجد. فعلى ما تقدم ذكره، لا فرق بين الفعل والترك في التأسيّ فيهما، وقد صرَّح الشوكانيّ بذلك فقال: "تركه - صلى الله عليه وسلم - للشيء كفعله له في التأسّي به فيه" (2). ويقول الجصّاص (3)، وفيه تلخيص أحكام الترك "نقول في الترك كقولنا في الفعل. فمتى رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ترك فعل شيء، ولم ندر على أي وجه تركه، قلنا تركه على جهة الإباحة. وليس بواجب علينا إلا أن يثبت عندنا أنه تركه على جهة التأثُّم بفعله، فيجب علينا حينئذٍ تركه على ذلك الوجه حتى يقوم الدليل على أنه مخصص به دوننا". وفي هذا القول منه بعض النظر يعلم مما بيّناه في هذا المبحث. وقال ابن السمعاني: "إذا ترك - صلى الله عليه وسلم - شيئاً وجب علينا متابعته فيه" (4) ومقصوده بالمتابعة المساواة في حكم الترك، كما تقرّر عندنا أن ذلك مراده بهذه العبارة في بحث الأفعال. وليس مقصوده أنه يجب علينا أن نترك ما ترك في جميع الأحوال. فظاهر كلامهم التسوية بين الفعل والترك في مراتب التأسيّ. تفريق القاضي عبد الجبار في التأسيّ بين الترك والفعل ومناقشتنا له في ذلك: فرَّق القاضي عبد الجبار بين الترك وبين الفعل، في التأسّي بهما. فعنده أن   (1) رواه البخاري 1/ 441 (2) إرشاد الفحول ص 42 (3) أصول الجصاص ق 210 ب. (4) الزركشي: البحر المحيط 2/ 260 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الفعل إذا وقع منه - صلى الله عليه وسلم - يتأسّى به فيه على كل حال، لأنه، لا يخلو أن يكون من أحد الأقسام المعلوم حكمها أو من المجرّد، فإن كان مجرّداً فإما أن يظهر فيه قصد القربة، فيتأسى به على وجه الندب، أو لا يظهر فيه ذلك، فيتأسّى به فيه على وجه الإباحة، أما الترك فإن كان معلوم الحكم يتأسى به على أساس ذلك الحكم، لكن إن كان مجهول الحكم فالتأسي به عند عبد الجبار غير ممكن. يقول: "أما الفعل فقد ينقل الوجه الذي عليه وقع، فيصح معه التأسّي"، ثم قال: "فأما تركه فإنما يدل بمقدمة زائدة، نحو أن نعلمه تاركاً لما جعل علامة لوجوب الفعل، فنعلم أنه ليس بواجب، أو خروجه عن كونه واجباً إذا تعمّده وقصد إليه". ويقول في موضع آخر: "التأسّي به - صلى الله عليه وسلم - في الفعل أولى من الترك، لأن الترك لا يقع إلاّ على الحد الأول الذي لا تقتضيه طريقة التأسّي، فهو بمنزلة الأكل والشرب وغير ذلك، إلا بأن يكون الترك واقعاً على وجه يعلم أنه من باب الشرع" (1). اهـ. وهو بهذا يشير إلى أن الترك يجوز أن يدل على التخصيص أو النسخ. فإن لم يكن كذلك وعلم حكمه من دليل خارجي صحّ التأسّي به. فإن لم يعلم حكمه فهو حينئذٍ من قبيل الترك الجبلي، ويكون بدرجة الفعل الجبلي الذي لا أسوة فيه، لأن حالة الترك هي الأصل بالنسبة إلى الأفعال الوجودية. ولا يجوز عند عبد الجبار إلحاق الترك بما ظهر فيه قصد القربة من الأفعال، حتى يدل على الكراهة. وتوجيه قوله أن الفعل يظهر فيه قصد القربة من كونه مخالفاً للمعتاد، كهيئة المصلي، أو الساجد، أو الملبّي، أو الطائف، أو الساعي، مع ما يظهر من الخشوع والتضرع، ونحو ذلك. أما الترك فهو أمر مجرَّد لا يظهر للتقرّب به وجه. والذي نرى أنه يحل الإشكال أن يقال: إن الترك إن كان عدميّاً صرفاً، فهو الذي بمنزلة الفعل الجبليّ غير الاختياري، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لغفلته عن الشيء الذي ليس بحضرته، ولا داعي يدعوه لفعله، فهو خارج عن نطاق التكليف. ولذلك فلا أسوة فيه. وهو الذي نعتقد أن القاضي عبد الجبار يريده بالترك الذي لا أسوة فيه.   (1) المغني 17/ 270 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وأما الكفّ عن الشيء والإمساك عنه، فهو أمر تكليفي مقصود، قد يظهر فيه قصد القربة، فيدلّ على كراهة الشيء، دون تحريمه. وقد لا يظهر فيه قصد القربة، فيحمل على أنه من ترك المباح. ويدل على الإباحة. ولذلك كان الصواب التسوية بين الفعل والترك في جميع المراتب. فكما أن من الأفعال أفعالاً جبليّة اضطرارية لا أسوة فيها، فكذلك التروك العدمية جبلية اضطرارية، ولا أسوة فيها. وكما أن من الأفعال ما هو معلوم الحكم فيتأسى به، فكذلك في التروك. وكما أن مجهول الحكم من الأفعال يحمل على الندب أو الإباحة ويتأسى به على ذلك الأساس، فكذلك الكفّ والإمساك، يحمل مجهول الحكم منه على الكراهة أو الإباحة، والله أعلم. تكرار الترك : إنه كما تقدم في الفعل أن تكراره والمواظبة عليه يقرِّب أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله على جهة التعبّد والقربة، فكذلك التروك، ترقى بها المواظبة حتى تقربها من باب ما ترك تعبّداً. ونضرب مثالاً على ذلك ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبّح على ظهر راحلته، حيث كان وجهه، يومئ برأسه". وفي رواية البخاري: "إلا الفرائض" ولمسلم: "غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة". فإنه تركه لصلاة الفريضة على الراحلة، لو كان تركه مرة أو مرتين، لا يدل على المنع منها. يقول ابن دقيق العيد: "قد يتمسّك بما في الحديث في أن صلاة الفرض لا تؤدى على الراحلة. وليس ذلك بقويٍّ في الاستدلال لأنه ليس فيه إلا ترك الفعل المخصوص. وليس الترك بدليل على الامتناع" (1). ثم قال: "وقد يقال إن دخول وقت الفريضة مما يكثر على المسافرين. فترك الصلاة لها دائماً، مع فعل النوافل على الراحلة، يشعر بالفرقان بينهما في الجواز وعدمه". وهذا الذي قاله أخيراً هو الذي نريده. وهو المعتمد عند الفقهاء في هذا الفرع.   (1) الإحكام 1/ 182 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 المبحث الثالث الترك المطلق والترك لسبب إذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراً ما، وعلمنا حكمه على الطريقة المذكورة آنفاً، فإما أن يكون الترك مطلقاً، وإما أن يكون منوطاً بسبب. ومقتضى الترك المطلق أن يكون حكمنا كحكمه - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، أعني دون تقييد بسبب. ومثاله تركه - صلى الله عليه وسلم - الأكل متكئاً، ظاهر فيه أنه على وجه التقرّب، فيحمل تركه الإتكاء أثناء الأكل على ترك المكروه، وفي حقنا كذلك، مطلقاً. ومثله أنه: "لم ينتقم لنفسه" (1) و"كان لا يصافح النساء في البيعة" (2). ومقتضى تركه - صلى الله عليه وسلم - لسبب أن يكون حكمنا كحكمه - صلى الله عليه وسلم - حال وجود السبب، فإذا زال السبب زال الحكم، ورجع الأصل. وإيضاح ذلك بما يأتي: أسباب الترك : إن ما تركه - صلى الله عليه وسلم - مما كان مظنّة أن يفعله كثيراً ما كان يتركه لسبب قائم لولاه لفعله. وترجع تلك الأسباب إلى أنواع، منها: النوع الأول: ترك الفعل المستحب خشية أن يفرض على الأمة. وفي حديث عائشة قالت: "إن كان - صلى الله عليه وسلم - لَيَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم". ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك قيام رمضان جماعة، بعد أن   (1) رواه البخاري 6/ 566 ومسلم 15/ 83 من حديث عائشة. (2) رواه أحمد 2/ 213 من حديث عبد الله بن عمر. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 قام بهم ليلتين أو ثلاثاً. ثم قال لهم: "إنه لم يخْفَ عليَّ مكانكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم". ولذلك لما زالت هذه الخشية بوفاته - صلى الله عليه وسلم - وانقطاع الوحي، أعاد الصحابة رضي الله عنهم فعلها في المسجد في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. النوع الثاني: ترك العمل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب. وترك المباح لئلا يظنّوا أنه مستحب أو واجب. وهذا نوع مشابه للنوع الأول وليس منه. ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، استحباباً. وقد ترك ذلك يوم فتح مكة، فصلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد. فقال عمر: "يا رسول الله فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله". فقال: "عمداً فعلته يا عمر". قال الطحاوي: "يحتمل أن ذلك كان واجباً عليه ثم نسخ يوم الفتح. ويحتمل أنه كان يفعله استحباباً ثم خشي أن يظنّ وجوبه فتركه لبيان الجواز". قال ابن حجر: "وهذا أقرب" (1). وُيسَن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في هذا النوع من الترك ممن يقتدى به إذا ظنَّ توهم بعض الحاضرين شيئاً من ذلك. وقد وضَّح الشاطبي قاعدة ترك المندوبات أحياناً، ممن يقتدى به، فقال: "لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبيّة أن يواظب عليها مواظبةً يفهم الجاهل منها الوجوب، إذا كان منظوراً إليه مرموقاً، أو مظنّة لذلك، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات، حتى يُعلم أنها غير واجبة" (2). اهـ. النوع الثالث: الترك لأجل المشقة التي تلحق الأمة في الاقتداء بالفعل، ولو استحباباً: ومنه تركه الرمل في الأشواط الأربعة الأخيرة من الطواف. ففي حديث ابن عباس قال: "ولم يمنعه أن يرمل الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" (3). وينبغي أن يلاحظ في هذا المثال خاصة أنه لا يستحب الرمل في الأشواط   (1) فتح الباري 1/ 316 (2) الموافقات 3/ 332 (3) البخاري وأبو داود والنسائي (جامع الأصول 4/ 6). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الأربعة الأخيرة، وإن كان السبب زائلاً، لأن الشرع أثبت الطواف على هذه الصفة. كما تقدم إيضاحه. ومن هذا النوع عند بعض الفقهاء، ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرم للحج من بيته بالمدينة، حتى أحرم من الميقات. فلا يدلُّ على أن الإحرام من الميقات أفضل، فهو أقل عملاً. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم: "إتمام الحج أن تحرم به من دويرة أهلك" (1). والراجج أنه إنما ترك الإحرام من المنزل خشية المشقة. والمسألة خلافية (2). ومن هذا النوع عندي أيضاً: تركه - صلى الله عليه وسلم - أن يغطي ركبتيه عندما جلس ودلّى رجليه في الماء (3). وذلك لما يلحق الأمة من التضييق إذا ألزموا بتغطية الفخذين حتى في حال ملابسة المياه وخوضها. ومن قال إن: "ذلك يدل على أن الفخذ ليست عورة" فليس إطلاقه هكذا مرضيّاً، بل هو في حال معينة اقتضت ذلك. بل الأولى أن يكون هذا الترك تخصيصاً لعموم الأدلة القاضية بأن "الفخذ عورة" (4). النوع الرابع: ترك المطلوب خشية من حدوث مفسدة أعظم من بقائه. وهذا من السياسة الشرعية المقررة. ومثاله ما قاله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "لولا قومك حديث عهدهم بكفر، لنقضْتُ الكعبة، فجعلت لها بابين، باب يدخل منه الناس وباب يخرجون" (5). وفي رواية عند مسلم: "لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها إلى الأرض، ولأدخلت فيها الحجر". وبوّب عليه البخاري: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا في أشدَّ منه". ولما زال ذلك السبب، واستقرّ الإسلام، نفّذ   (1) تفسير القرطبي (2/ 365). (2) راجع (سبل السلام) للصنعاني في المواقيت وتفسير القرطبي 2/ 366 وغيرهما. (3) رواه البخاري 7/ 53 (4) حديث: "الفخذ عورة" علقه البخاري عن ثلاثة من الصحابة ورواه مالك وغيره (فتح الباري ط الحلبي 2/ 24). (5) البخاري 1/ 224 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 ابن الزبير في خلافته ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - من البنيان، ولما جاء الحجاج أعادها إلى ما كانت عليه. ومثال آخر: تركه - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين مع عظم فسادهم، وقولهم كلمة الكفر، وإرجافهم، "خشية أن يقول الناس: "أن محمداً يقتل أصحابه". إذ هم في الظاهر مؤمنون، فيكون قتلهم صادّاً للناس عن الدخول في الإسلام. النوع الخامس: الترك على سبيل العقوبة، كتركه الصلاة على المَدِين (1) وقد نسخ هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ". و"لم يصل على ماعز بن مالك ولم ينه عن الصلاة عليه" (2). وفي حديث أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين، فإن حُدِّث أنه ترك وفاءً صلّى عليه، وإلاّ قال للمسلمين: صلّوا على صاحبكم. فلما فتح الله على رسوله كان يصلّي ولا يسأل عن الدين" (3). النوع السادس: الترك لمانع شرعيّ: ومثاله قصة نومه - صلى الله عليه وسلم - ومن معه عن صلاة الفجر. فما استيقظوا إلاّ بعد طلوع الشمس، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (4). ومع هذا لم يبادر إلى الصلاة، بل اقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي، وصلّوا. فيحتمل أن الترك كان لكون الشمس في أول طلوعها وذلك مانع من فعل الصلاة. ويحتمل أن يكون لأن الواديَ به شيطان. فعلى هذين الاحتمالين تجب المبادرة إلى الصلاة إن لم يكن مانع. أما إن قدرنا أن التأخير لم يكن لشيء من ذلك، فالحديث يدل على جواز التأخير مطلقاً (5)، في حدود عدم المبالغة في التأخير.   (1) رواه البخاري. الفتح 4/ 474 (2) رواه أبو داود والنسائي (جامع الأصول 7/ 159). (3) متفق عليه (جامع الأصول 7/ 159) (4) متفق عليه (الفتح الكبير). (5) ابن دقيق العيد: شرح العمدة 1/ 275 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 المبحث الرّابع نقل الترك الذي يعرف به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الفعل أمران. الأول: ذكر الصحابي ذلك، وهو الأكثر، بقوله: ترك - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو: لم يفعل كذا. ومن أمثلته ما تقدم في شهداء أحد: "لم يغسلوا ولم يصلِّ عليهم". وقول ابن عباس في صلاة العيد: "لم يكن يؤذَّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى" (1). وقول جابر: "صلّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيد بلا أذان ولا إقامة". وقول أنس: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو على أحياءٍ من أحياء العرب، ثمّ تركه" (2). وقول عمر بن الخطاب في شأن تعيين الخليفة من بعده: "إن أترككم فقد ترككم من هو خير مني" (3). يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف عليهم أحداً. وقول أنس بن مالك: "صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم" (4). وفي هذه المسألة بحث، وهو أن الفعل أمر وجوديّ، والناقل له يخبر عما شاهده. فقلما يقع فيه الخطأ من هذه الجهة. أما نقل الترك فهو نفي للفعل. ونفي الفعل صيغة تعمّ، فيحتاج أن يكون الناقل قد اطّلع على أحواله - صلى الله عليه وسلم - كلها، حتى يصح له النفي جزماً، وقد ينفي بناء على ما اطّلع عليه من غالب أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون النفي على سبيل غلبة الظن، وهذا هو الأغلب في نقل الترك. فأما النوع الأول، وهو النفي القاطع، فمثل ما قالت عائشة: "ما اعتمر   (1) متفق عليه (جامع الأصول 7/ 87). (2) مسلم وأحمد والنسائي (نيل الأوطار 2/ 359). (3) مسلم 12/ 205 والبخاري. (4) متفق عليه (جامع الأصول 6/ 220). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رجب قط". فهذا على سبيل الجزم، فإن اعتمار النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر لا يخفى، وعُمرُهُ التي فعلها محصورة. وأما النوع الثاني، فمثل ما قالت عائشة أيضاً: "ما بالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً منذ أنزل عليه القرآن" (1). وقالت: "من حدثكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً" (2). فإنها لم تشاهده في كل أحواله. ومن هنا إذا تعارض نقل الترك مع نقل الفعل، فإن كان نقل الترك من النوع الأول، لم يترجّح أحدهما على الآخر من هذا الوجه. وينبغي الترجيح بوجه آخر، وقد يقدم نقل الترك. وقد قدموا نقل عائشة للترك على نقل ابن عمر للفعل، في قضية عمرة رجب. وأما النوع الثاني من نقل الترك، وهو المنقول على غلبة الظنّ. فإنه إذا تعارض مع نقل الفعل يقدم نقل الفعل. لأن ناقل الفعل جازم وناقل الترك يتكلم على غلبة الظن (3). ومن هنا قدموا رواية حذيفة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم فبال قائماً" (4) على رواية عائشة التي تنفي ذلك، كما تقدم. الثاني: قال ابن القيم: "عدم نقلهم لما لو فعله لتوفّرت هممهم ودواعيهم على نقله، (هو نقل لتركه)، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبتة، ولا حدّث به، علم أنه لم يكن" (5). اهـ. وجعل ابن القيم منه: ترك التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة. وترك رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية، وقوله كل يوم: اللهم اهدني في من هديت ... ويقول المأمومون خلفه بصوت مرتفع: "آمين".   (1) أبو عوانة في صحيحه (فتح الباري 1/ 328). (2) رواه الخمسة إلا أبا داود (نيل الأوطار 1/ 101). (3) قاعدة (تقديم المثبت على النافي) قال بها جمهور الفقهاء على ما نقله إمام الحرمين (انظر: إرشاد الفحول ص 279) والغزالي يقول في المستصفى: (2/ 129) هما سواء. والأول أصح بالقيد الذي ذكرناه. (4) البخاري (الفتح 1/ 328). (5) إعلام الموقعين 2/ 370 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 قال: "ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه أحد". وقد قال بهذه النظرية أيضاً: ابن دقيق العيد. فقد ذكر حديث أبي هريرة في سجود السهو، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سجد للسهو ثم سلّم". قال ابن دقيق العيد: "لم يذكر التشهّد بعد سجود السهو. وفيه خلاف عند أصحاب مالك في السجود الذي بعد السلام. وقد يستدل بتركه في الحديث على عدمه في الحكم، كما فعلوا في مثله كثيراً، من حيث إنه لو كان لذكر ظاهراً" (1). وذهب إلى ذلك ابن رشد أيضاً. فقد نقل إنكار مالك لشرعية سجود الشكر، بأنه لم يسمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. ثم قال ابن رشد: "استدلاله على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل، استدلال صحيح، إذ لا يصحّ أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين، وقد أمروا بالتبليغ" (2). قال: "وهذا أصل من الأصول، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء والعيون، والبعل، العشر، وفي ما سقي بالنضح نصف العشر". لأنا نزّلنا ترك نقل أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة منها كالسنة القائمة، في أن لا زكاة فيها، فكذلك يُنزَّل ترك نقل السجود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشكر كالسنّة القائمة في أن لا سجود فيه". اهـ. والحاصل أنّ من نقلنا عنهم -ابن القيم، وابن دقيق العيد، وابن رشد- وغيرهم كالشاطبي، يثبتون هذه القاعدة، وهي أن (ترك النقل هو نقل للترك) بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - لو فعل الفعل الشرعي لتوفّرت هممهم ودواعيهم على نقله، لأنهم أُمروا بالتبليغ. لقد ذكر ابن القيم اعتراض من اعترض على هذا التلازم بقوله: "إن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ " (3).   (1) الإحكام 1/ 260 (2) الموافقات للشاطبي 2/ 413 (3) إعلام الموقعين 2/ 227 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 قال: "فهذا سؤال بعيد جداً عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه، ولو صحّ هذا السؤال وقُبِل، لاستَحَبَّ لنا مستحب الأذان للتروايح، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحبَّ لنا مستحبٌّ آخر الغسل لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل ...... وانفتح باب البدعة، وقال كل من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ ومن هذا تركه أخذ الزكاة من الخضراوات والمباطخ، وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة فلا يطالبهم بالزكاة، ولا هم يؤدونها إليه". ونحن نرى أن هذه مسألة مهمة، فإن إثبات هذه القاعدة على إطلاقها، يقتضي أن كل ما لم ينقل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له، فقد تركه، ويكون ذلك حينئذٍ بمنزلة النص على حكمه، وذلك يقتضي منع إجراء العموم على وجهه ليشمل ما لم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله، وكذلك يقتضي منع القياس في ذلك أيضاً. ومقتضى هذا ألا يعمل بعموم قرآن أو حديث حتى ينقل لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. ونحن سنناقش هذه القاعدة الأصولية من خلال تتبعنا لخلاف العلماء في هذا الفرع الفقهي، وهو أصناف الخارج من الأرض التي تؤخذ منها الزكاة. وإنما اخترنا هذا الفرع، لأن كل الذين أثبتوا هذه القاعدة، ممن تقدّم ذكرهم، مثلوا به. وقد استقرأنا الأحاديث الفعليّة في قضية المعشرات من الخارج من الأرض، فوجدنا أن أصناف الخارج من الأرض التي نقل إلينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الزكاة منها أربعة أصناف لا غير، وهي التمر، والزبيب، والشعير، والقمح. ولم ينقل عنه أنه أخذ الزكاة مما سوى هذه الأصناف. ولا نصّ على شيء غيرها في حديث قوليّ. واستقرأنا مذاهب الفقهاء (1) فوجدناهما كما يلي: 1 - منهم من يقتصر على هذه الأصناف ما عدا الزبيب. ومن هؤلاء أحمد في رواية وجميع الظاهرية ما عدا ابن حزم.   (1) ابن حزم: المحلى 5/ 210 وما بعدها. ابن قدامة: المغني 2/ 690 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 2 - ومنهم من يجعل الزكاة في كل ما خرج من الأرض، دون استثناء، وهو قول ابن حزم. 3 - وأبو حنيفة يرى وجوب الزكاة في كل خارج من الأرض قصد به النماء، فتجب في كل الحبوب والثمار والنوار حتى الورد والسوسن والنرجس، ما عدا ثلاثة أشياء: الحطب، والقصب، والحشيش. وصاحباه استثنيا أيضاً الخضر والفواكه. 4 - وقول الشافعي: كل ما عمل منه خبز أو عصيدة ففيه الزكاة، وما لم يؤكل إلاّ تفكهاً فلا زكاة فيه. 5 - وقول مالك: أن الزكاة تجب في القمح والشعير والسلت وسائر ما يقتات من الحبوب ولا تؤخذ من الثمار إلا من التمر والزبيب. 6 - وعن أحمد: أنها تجب في كل خارج من الأرض ييبس، ويبقى، ويكال. ولا زكاة عنده في سائر الفواكه ولا في الخضر. وقد رجّح الباحث الفاضل الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه القيم (فقه الزكاة) (1) قول أبي حنيفة وأخذ بالعمومات القرآنية وعمومات الأحاديث القولية. فلو كان ترك النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلاً للترك لصحّ قول الظاهرية ولكان الواجب الأخذ به، وانتفت الزكاة في ما عدا الأصناف الأربعة، لكونها لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الزكاة منها. لكن الجمهور أخذوا بالعموم. فأبو حنيفة أخذ بعموم: الآيات وعموم "في ما سقت السماء العشر". والثلاثة عمّموا الحكم بالقياس على المنصوص. قال ابن قدامة: تجب الزكاة في ما جمع (الكيل، والبقاء، واليبس) من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون، سواء أكان قوتاً أو من القطنيات. ولا تجب في سائر الفواكه ولا في الخضر، لأنه لا نصّ فيها ولا إجماع، ولا هي في معنى المنصوص عليه، فتبقى على الأصل.   (1) 1/ 358 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 فقد جعل المانع من إيجاب الزكاة في الخضار والفواكه بقاءها على الأصل. وهو شيء آخر غير إدعاء أن ترك النقل نقل للترك. فنرى أن جمهرة الفقهاء لم يأخذوا بهذه القاعدة في هذه المسألة. وأن المعتمد إما البقاء على الأصل، وإما الخروج عنه بدلالة. وأما ما قاله ابن القيم من أنه يلزم من عدم القول بهذه القاعدة جواز البدع وفتح بابها، فهو مردود، لأننا إذا ثبتنا على الأصل حتى ينقلنا عنه ناقل صحيح لم يلزم ما قال. فإنّ ما مثّل به لم يرد فيه عموم قولي. والذي نؤكّده أن النصّ التشريعي إذا كان عاماً فينبغي حمله على عمومه، ما لم يخصَّص بمخصص صحيح، ولا يكفي في التخصيص أن ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل بعض أفراد ذلك العموم، بدعوى أن ترك النقل نقل للترك في ما سوى ذلك الذي نقل إلينا من فعله. أما لو نقل أنه ترك بعض أفراد العموم فذلك صالح للتخصيص بلا شك. ولو كان ترك النقل نقلاً للترك لكان القائلون بإيجاب الزكاة في سائر ما يقتات ويدّخر، عاملين على خلاف (المنقول) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذلك قول مردود على مدّعيه. وقد وجدنا ابن العربي المالكي ذهب إلى هذا الذي قلناه، فقد قال في كتابه أحكام القرآن (1) عند قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} ما يلي: "فإن قيل: فلم لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر؟. قلنا كذلك قال علماؤنا، وتحقيقه أنه عدم دليل، لا وجود دليل. فإن قيل: لو أخذها لنقل. قلنا: وأيُّ حاجة إلى نقله والقرآن يكفي فيه؟ ". اهـ. فقوله: (والقرآن يكفي فيه) هو ما قلنا من إعمال عموم القرآن. ولا يتوقف على ما نقل الأخذ منه فعلاً.   (1) أحكام القرآن، ط عيسى الحلبي 2/ 752 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وأما ما قاله ابن رشد من حمله كلام مالك على مقتضى هذه القاعدة، فغير مسلّم. فإنّ مالكاً قال: "قد فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين بعده، أفسمعت أن أحداً منهم فعل ذلك؟ -يعني سجود الشكر- إذا جاءك مثل هذا مما قد كان للناس، وجرى على أيديهم، لا يسمع عنهم فيه شيء، فعليك بذلك، لأنه لو كان لذكر، لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن أحداً منهم سجد؟ " (1). فقوله: (لو كان لذكر) فلعله إنما يعني: لذكر قولًا أو فعلاً. إذ لو لم يذكر أصلًا لكان شيئاً من الدين قد ذهب وضاع. فلما لم يرد فيه نصّ قوليّ ولا فعليّ، ولا قياس نصّ، فلا يجوز إثباته بمجرد الهوى، لأن العبادات توقيفية. فليس قول مالك منصّباً على ما وردت فيه عمومات قولية، أو ما يمكن أخذ حكمه بطريق القياس أو غيره. وشبيه بقول مالك في هذا، ما قاله الشافعي في الخارج من غير السبيلين: "إنه ليس من الأحداث، لأن الأحداث مستقصاة في الكتاب والسنة، فلو كان من قبيل الأحداث لذكر في الكتاب أو السنة" (2) والله تعالى أعلى وأعلم. والذي نراه في قضية ترك النقل، انقسامها إلى أقسام: الأول: أن يدل على المتروك نقله نصّاً يأمر بالفعل من الكتاب أو السنة، أو يدل على حكمه الإجماع أو القياس. فلا يكون ترك النقل نقلًا للترك. وإن قلنا هو نقل للترك، فينبغي جعله مرجوحاً، وتقدم عليه الأدلة الأربعة المعارضة له. الثاني: أن يكون المتروك نقله باقياً على حكم الأصل، والأصل عدم المشروعية في العبادة، فترك النقل يؤكّد الأصل ويثبّته. الثالث: أن يروي الصحابي تفاصيل حادثةً وقعت، مما يتعلق به شرع، ويذكر ذلك على سبيل الاستقصاء، فيظهر أنه لم يغادر من تفاصيلها الرئيسية شيئاً.   (1) الموافقات 2/ 410 وليس المراد هنا بيان حكم سجود الشكر، وإنما المراد القاعدة الأصولية، أما سجود الشكر فهو ثابت بأدلة فعليه. راجع لذلك (أعلام الموقعين) لابن القيم، وغيره. (2) نقله السمعاني (البحر المحيط 2/ 259 أ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 ومثّل له السمعاني بنقل قصة رجم ماعز، فقد نقلها الراوي من أولها إلى آخرها، ولم ينقل أنه جَلَدَه، والجَلْد له وزنه في الخبر لو أنه وقع. فترك ذكره دليل على ترك فعله، إذ لو كان لذكر. قال: وقد يردّ المعترض بأن الجَلّد مع الرجم لا يُتّشَوَّف إلى نقله مع نقل الرجم، فإنه غير محتفَل به. يعني لحقارة شأنه بالإضافة إلى الرجم. وهذا الردّ اعتراف بصحة القاعدة، وليس إبطالاً لها، وإنما الخلاف في المثال. ومن هذا النوع عندي ما استدلّ به ابن تيمية من عدم زيارته - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع لموضع تحنثه في الجاهلية في غار حراء، ولا لغار ثور، لأنه لو فعله لكان ظاهراً، ولرافقوه إليه ونقلوا إلينا ذلك. وكذلك ما استدلَّ به الفقهاء من تركه - صلى الله عليه وسلم - لتكرار العمرة قبل خروجه إلى عرفات، وبعد أيام التشريق، وفي عمرة القضاء. الرابع: أن ينقل الراوي الواقعة، ويسكت عن تفصيلٍ يجعل الصورة نادرة، فسكوته يكون حجة على عدم ذلك التفصيل (1). ومثاله ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أقاد مسلماً بكافر، وقال: "أنا أحقّ من وفى ذمته" (2)، قال المانعون لقتل المسلم بالكافر: لعلّ قاتلاً قتل كافراً ثم أسلم القاتل، فهذا نادر، وتتشوّف الطباع لنقله، فسكوت الراوي عنه يدل على أنه لم يكن. وبهذا يتبيّن أن ترك النقل لتفصيل معتادٍ غير نادر، أو ضعيف الأهمية، أو موافق للنصوص المعلومة، لا يدل على نفي وقوعه. ولا أثر لترك نقله في الأحكام. والله أعلم.   (1) السمعاني (البحر المحيط 2/ 259 أ). (2) الحديث نقل في بدائع الصنائع (7/ 237) أن محمد بن الحسن رواه بإسناده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 الفَصل الخامس السُّكوت مرادنا بالسكوت في هذا الفصل الكفّ عن القول. فإن لم يكن هناك ما يستدعي القول، فإن السكوت لا دلالة له، لأن ترك القول هو الغالب على حال البشر. أما إن كان هناك ما يستدعيه، ثم سكت، فإنه قد يدل على حكم. ثم إن كان الذي يستدعي القول فعلاً حدث أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو قولاً قيل أمامه، فسكت عن الإنكار عليه، فذلك هو التقرير. وسيأتي ذكره في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله. وإن كان الذي يستدعيه حادثة وقعت تستدعي بيان حكم، أو سؤالاً يتطلب جواباً منه - صلى الله عليه وسلم -، فسكت عن الجواب، فلسكوته دلالة. وهذا النوع من السكوت هو المراد في هذا الفصل. ويقول عبد الجبار الهمداني: "إن سكوته - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على أن لا حكم، إلا عند المسألة والطلب، لأنه على حكم الابتداء" (1). أنواع السكوت : السكوت من النبي - صلى الله عليه وسلم - على قسمين: الأول: أن يسكت لعدم وجود حكم شرعي في المسألة.   (1) المغني 17/ 274 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 والثاني: أن يسكت مع وجود الحكم في المسألة. ولكن يمنعه من الإجابة مانع. لنعقد لكل من القسمين مطلباً. المطلب الأول السكوت لعدم وجود حكم في المسألة كان - صلى الله عليه وسلم - إذا سئل عن حادثة ليس فيها حكم، يسكت منتظراً للوحي. أما إن كان فيها حكم، ولم يمنع من الجواب مانع، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مأموراً بالجواب. لقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لِتُبَيِّن للناس ما نزّل إليهم} (1) فلو سكت لم يكن مبيّناً. ومن هنا، فإذا سكت، مع عدم وجود المانع، علم أنه ليس في المسألة حكم (2). ثم إذا لم يأت بيان بعد ذلك بقي أمر تلك الحادثة على حكم الأصل. وقد مثل لذلك القاضي عبد الجبار (3) بأنه - صلى الله عليه وسلم - لو سئل عن قول القائل لزوجته: أنتِ ألبتة، وحبلكِ على غاربكِ، إلى غير ذلك من الكنايات، والحادثة واقعة، فسكت، من غير تنبيه، لوجب أن يدل ذلك على أن الكنايات لا تؤثر كتأثير الطلاق الصريح. فمّما ورد في السنة من هذا النوع من السكوت، ما روى جابر: "أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعداً هلك، وترك بنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن. فلم يجبها في مجلسها ذلك. ثم جاءته فقالت: يا رسول الله، ابنتا سعد؟ فقال ادع [هكذا بالأصل] لي أخاه، فجاء، فقال له: ادفع إلى ابنتيه الثلثين، وإلى امرأته الثمن، ولك ما بقي" (4). وفي رواية الترمذي: فنزلت آية المواريث.   (1) سورة النحل: آية 44 (2) القرافي: شرح تنقيح الفصول ص 122. الزركشي: البحر المحيط 2/ 181 ب. (3) المغني: 2/ 274 (4) رواه أبو داود وهذا لفظه والترمذي وابن ماجه (تفسير القرطبي 5/ 57). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 ومنه أيضاً ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: "أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة. وكانت بمكة بغيّ يقال لها عَنَاق، وكانت صديقته. قال: فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله، أنكِحُ عناق؟ قال: فسكت عني، فنزلت {والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك} فدعاني فقرأها عليّ، وقال: لا تنكحها" (1). السكوت عن بعض الأحكام مع بيان بعض آخر : قد يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم واقعة، أو تحدث الواقعة أمامه، فيبيّن لها حكماً أو أحكاماً، ثم لا يذكر حكماً آخر، فهل يدل سكوته عنه على انتفائه؟. إن الأمر في هذا ينقسم قسمين: القسم الأول: أن يكون المسكوت عنه قد تبيّن حكمه بدليل صحيح. وفي تلك الحال لا يكون سكوت عما سكت عنه حجة على انتفائه، بل يكون إحالة منه - صلى الله عليه وسلم - على الدليل. قال السمعاني: "يشترط أن يكون المسكوت عنه لم تشمله أدلة الشرع، فلو كان ذكر فيها، كما لو أُتي بزانٍ فأمر بالجلد ولم يذكر المهر والعدة ونحوه، فذاك مما لا يحتج به، لأن ذلك يحال به على البيان في غير [الـ] موضع". القسم الثاني: أن يكون مما يتوهّم ثبوته، أو يتردّد فيه، لتعارض الأدلة. فينبغي أن يكون السكوت عنه دليل انتفائه. ولنضرب لهذه المسألة مثالين: المثال الأول: ما في حديث يعلى بن أمية: "أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، في جبة، بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة، ثم سكت. فجاءه الوحي .. فقال: أين السائل عن العمرة؟ أما الطيب الذي بك فاغسله، وأما الجبة فانزعها، وما كنت صانعاً في   (1) رواه أبو داود وهذا لفظه والترمذي (تفسير القرطبي 10/ 168). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 حجك فاصنعه في عمرتك" (1). فقد أمره بنزع الطيب واللباس، لكنه - صلى الله عليه وسلم - سكت عن أمره بالفدية لما مضى قبل السؤال من استعماله بعض محظورات الإحرام، وهو الطيب واللباس، وكان المظنون أن يأمره بذلك، قياساً على حلق الشعر الذي تجب فيه الفدية بالنصّ القرآني. ولو كان عالماً لوجبت عليه الفدية. فقد يدل ذلك على سقوط الفدية عمن لبس أو تطيب جاهلاً بالتحريم. المثال الثاني: ما في حديث أبي هريرة في قصة الأنصاري الذي وطئ في نهار رمضان فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتكفير، وسكت عن بيان حكم المرأة. فاستدل بذلك بعض الفقهاء على أن المرأة لا يجب عليها لذلك كفارة. وقد قال السمعاني: "مجرّد السكوت لا يدل عندنا على سقوط ما عدا المذكور، كما يدل عند من يذهب إلى أن الأصل في الأشياء الإباحة. وإنما هو بحسب الحال، وقيام الدليل عليه. ثم قال: ومراتب الاستدلال بالسكوت -يعني عند من استدل به- تختلف، فأقوى ما تكون دلالة السكوت على سقوط ما عدا المذكور، إذا كان صاحب الحادثة -يعني المستفتي- جاهلاً بأصل الحكم في الشيء، ولم يكن من أهل الاستدلال" (2). اهـ. وجعل السمعاني من ذلك المثال الأول. فإن ذاك الأعرابيّ الذي يجهل أنّ لبس الجبة واستعمال الطيب، على المحرم، حرام، لحري أن يكون جاهلاً بحكم الفدية لو كان عليه فدية، فإن من جهل تحريم اللبس فهو بالفدية أجهل. فلما لم يذكرها - صلى الله عليه وسلم - له، دلّ على أنه لا فدية عليه أصلاً. وقد عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إن عرف من حال السائل أنه يجهل بعض الأحكام التي يحتاج إليها أنه يذكرها له وإن لم يسأل عنها. فمن ذلك أن قوماً سألوه: "أنتوضأ بماء البحر؟ " فقال: "البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" فأفادهم   (1) مسلم 8/ 78 (2) البحر المحيط للزركشي 2/ 259 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 حكماً لم يسألوا عنه، وهو حكم الميتة، لما أن جهلهم جواز الطهارة بمائه يدل بالأولى على جهلهم إباحة ميتته، وهم يحتاجون إلى معرفة ذلك. فإن كان السائل ممن له حظ من العلم، وكان له بصر بالأدلة والأحكام، فيمكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت عما سكت عنه، لا لانتفائه، وإنما تركه ثقة بفهم السائل، فهو يجيبه عما يخفى عليه، ويترك إجابته عما يثق بفهمه له. وعلى هذا يحمل سكوته عن ذكر الكفارة في شأن امرأة الأنصاري الذي وطئ في نهار رمضان. فإن كونه من الأنصار، يقتضي حرصه على تعلّم الدين، ولا يخفى عليه أن أحكام الرجال والنساء سواء في ما يتعلق بالمفطرات. وقد ذهب الأكثرون إلى أن الكفارة تجب في هذه المسألة على المرأة كما تجب على الرجل، فهو قول مالك وأبي حنيفة ورواية عن أحمد. والرواية الأخرى عنه أنه لا كفارة على المرأة. قال ابن قدامة: "ووجه ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المرأة بذلك مع علمه بوقوعه منها" (1). أما في مسألة من لَبِس ما يحرم عليه في إحرامه جاهلاً، فقد ذهب عطاء والثوري وإسحاق وابن المنذر إلى أنه لا فدية عليه. وهو المشهور في مذهب أحمد. وذهب مالك والليث والثوري وأبو حنيفة إلى أن عليه الفدية بكل حال (2). المطلب الثاني السكوت لمانع قدمنا في المطلب السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يسكت عن الإجابة عن الحكم الشرعي في المسألة لعدم وجود ذلك الحكم. فأما إن كان الحكم ثابتاً فالأصل أن يجيب عن السؤال، لأن ذلك من البيان الذي أرسل به.   (1) القواطع ق 86 أ، وقد فرق إلكيا الطبري أيضاً بين الحالتين اللتين نقلناهما عن السمعاني ونقله عن الطبري أبو شامة (المحقق ق 43 أ) وأقره. ونقله الزركشي في البحر (2/ 359) وأقرّه كذلك. (2) المغني 3/ 133 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وقد يمنع من الإجابة مانع. والموانع مختلفة (1). 1 - منها: أن يقف عن الجواب لمهلة النظر. فقد كان له حق الاجتهاد في القضايا والنوازل، كما تقدم اختياره وإثباته، في موضعه. والمجتهد يحتاج أحياناً إلى وقت للنظر والتدبر. 2 - ومنها: أن يكون السائل قد سأل عما لم يقع. فيترك جوابه لعدم الحاجة إلى البيان حينئذٍ، ولإشعار السائل بتكلّفه وتعمّقه، وفي ذلك من الكراهة ما فيه. 3 - ومنها: أن يخاف غائلة الفتوى، من ترتب شرٍّ أعظم من الإمساك عنها، فيترك الجواب ترجيحاً لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما. ويمكن أن يحتجّ لهذا النوع، بتركه - صلى الله عليه وسلم - الأمر بنقض الكعبة لحداث عهد قومه بالكفر. 4 - ومنها: أن يكون عقل السائل، أو عقل بعض السامعين، لا يحتمل الجواب، فيسكت عن جوابه لئلا يكون الجواب فتنة له. قال البخاري: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا في أشد منه". ثم روى حديث عائشة في تركه - صلى الله عليه وسلم - نقض الكعبة. ولعلّ من هذا ما ورد عن ابن عباس: "أن رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني أرى الليلة في المنام ظُلّةً تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقلّ. وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلاً. قال أبو بكر: "يا رسول الله بأبي أنت والله لتَدَعَنِّي فَلأعْبُرَنّها". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اعبرها". فعبرها أبو بكر، ثم قال: "أخبرني يا رسول الله، بأبي أنتَ، أصبتُ أم أخطأتُ؟ "، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً"، قال: "فوالله يا رسول الله لتحدثَنِّي ما الذي أخطأت؟ "، قال: "لا تقسم" (2).   (1) ذكر ابن القيم (إعلام الموقعين 4/ 157) جملة منها وذكر من ذلك الشاطبي في الموافقات 1/ 47 و4/ 313، 319 أشياء. (2) مسلم 17/ 93 ورواه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ووجه كونه من هذا الباب أنه لو حدَّث الحاضرين بما يكون من شأن عثمان رضي الله عنه، وهو الرجل الثالث في الرؤيا، لربما كان لبعض السامعين فتنة، وحصل من ذلك مفسدة. قال ابن حجر في الفتح قال النووي: "لعل المفسدة في ذل ما علمه من سبب انقطاع السبب بعثمان، وهو قتله وتلك الحروب والفتن المرتبة عليه، فكره ذكرها خوف شيوعها" (1). 5 - ومنها: أن يترك الكلام أصلاً مع شخص ما، عقوبةً له على فعلٍ فعَله. فقد نهى عن كلام الثلاثة الذين خُلّفوا، حتى قال أحدهم، وهو كعب بن مالك: "كنت أشَبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلِّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه يردّ السلام؟ " (2). 6 - ومنها: أن يعدل في الجواب إلى ما هو أنفع للسائل مما سأل عنه. ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {يسئلونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج} (3) سألوا ما بال الهلال يبدو صغيراً ثم يكبر تم يعود كما كان فأجيبوا ببيان المصلحة في ذلك. 7 - ومنها: أن يسأله السائل عمّا ليس من شأن النبوة والرسالة، فيترك جوابه إشعاراً له بما ينبغي له أن يسأل عنه. ويمكن حمل سكوته عن الإجابة عن سؤالهم على هذا الوجه، فإن تعليم الفلَك ليس من شأن الرسالة. 8 - ومنها: أن يكون السائل متلبّسا بمعصية ظاهرة هي أكبر من التي يسأل عنها وأهم منها. فمن ذلك أن يكون السائل كافراً معانداً، أو منافقاً فاجراً. وقد قال الله تعالى لنبيه: {فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا} (4). 9 - ومنها: سكوته على سبيل الإنكار للسؤال نفسه، لأنه مما لا ينبغي. فالله   (1) المغني 3/ 501 (2) مسلم 15/ 28 والبخاري 12/ 431 (3) سورة البقرة: آية 189 (4) سورة النجم: آية 29 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 تعالى قد نهى عن السؤال عن الأمور التي عفا عنها، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها} (1) ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة السؤال. ومن هذا النوع من السكوت سكوته - صلى الله عليه وسلم - عن الأقرع بن حابس، فقد تلا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت ... } الآية، فقام الأقرع فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى سأله ثلاثاً. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم". 10 - ويكون السكوت أحياناً جواباً. فمن استأذن في فعل شيء، فسكت عن الإذن له، دلّ على عدم الإذن. ومن ذلك ما روى أبو هريرة، قال: "قلت يا رسول الله إني رجل شابّ، وأنا أخاف على نفسي العَنَت، ولا أجد ما أتزوج به النساء" (2). زاد في رواية (3) فأذْن لي أن أختصي- فسكت عني. ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني. ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني. ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرة، جفّ القلم بما أنت لاقٍ، فاختصِ على ذلك أو ذرْ". قال ابن حجر: فيه (من الزوائد) جواز السكوت عن الجواب لمن يُظَنّ أنه يفهم المراد من مجرد السكوت. المطلب الثالث ترك الحكم في حادثة هل يوجب ترك الحكم في نظيرها؟ إذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم في حادثة، فهل لنا أن نحكم في نظيرها؟. نقل الزركشي (4) عن بعض المتكلمين أن تركه - صلى الله عليه وسلم - يوجب علينا ترك الحكم في نظيرها. وقالوا: هذا كرجل شجّ رجلاً شجة، فلم يحكم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم، فيعلم بتركه لذلك أن لا حكم لهذه الشجّة في الشريعة.   (1) سورة المائدة 101 (2) صحيح البخاري 9/ 120 (3) هي رواية المحاملي. ذكرها ابن حجر في الشرح. (4) البحر المحيط 2/ 260 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وقال بعضهم: يحتمل التوقف. وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي: "يجوز لنا أن نحكم في نظيرها". وقد بيّن ابن عقيل (1) وجه تجويز القاضي لذلك، وحاصله أنه - صلى الله عليه وسلم - ربما يكون قد سكت محيلاً لنا على بيان آخر، بأن يكون قد حكم في مسألة أخرى مشابهة، ويكون سكوته من تفويضه إلى الحاضرين استخراج الحكم بالاجتهاد. ووافق ابن عقيل على ذلك في حالة واحدة، هي عنده جائزة، وهي أن يكون له - صلى الله عليه وسلم - حكم في نظيرها يصحّ استخراجه من معنى نطقه. واشترط أن يكون ذلك قياساً جلياً "في قوة ألفاظ النصوص". فإن لم يكن كذلك فلا وجه عنده لطلبنا الحكم مع إمساكه - صلى الله عليه وسلم - عنه. واستدلّ بأن الحكم الذي نطلبه بالقياس أو غيره من الأدلة الاجتهادية لتلك الواقعة، إما أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قد علمه، وتركه، وذلك ممتنع، لأنه من تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإما أن يكون غير عالم به. وذلك غير جائز، "إذ لو أراد الله بيانه لما طواه عن نبيه وأوقع الأمة عليه من غير طريقه"، فلا يبقى إلا أنه لا حكم في المسألة شرعيّاً، وذلك يمنع من طلب حكم شرعي لنظائر تلك الحادثة. وعندي أن كلام القاضي أصوب. فقد ذكرنا قبل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يترك الحكم في أمر من الأمور لمانع شرعي. وقد ذكرنا تلك الموانع. فإذا علمنا ذلك المانع، وعرفنا زواله، جاز أن نحكم فيه. ومثالها نقض الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم. تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لحداثة عهدهم بالإسلام، فلمّا زال ذلك السبب، جاز أن يُفعل ذلك. ومثاله أيضاً تركه الاستخلاف، وتركه تحديد قوم للشورى، لما حصل عنده من التنازع، فاستخلف أبو بكر عمر. وجعل عمر الأمر بعده في أهل الشورى. وكذلك ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم على المعترف بالزنا لأول مرة، والثانية، والثالثة. يقول الشافعية والمالكية: بأن الاعتراف بالزنا مرة واحدة موجب للحد.   (1) المسودة لابن تيمية ص 345 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وإنما أخذوا ذلك من أدلة أخرى غير تلك الواقعة. وحملوا ردّه - صلى الله عليه وسلم - لماعزٍ في المرة الأولى والثانية والثالثة على محامل مختلفة، ككونه لزيادة التثبّت. فلم يجعلوا تركه للحكم في تلك الواقعة مانعاً من الحكم في نظائرها من الوقائع (1). وقال الحنفية والحنابلة: إن ردّه - صلى الله عليه وسلم - لماعز قبل الرابعة دليل أن الرابعة هي الموجبة، ولا حكم في ما قبلها. إذ لو كان فيها حكم لما جاز تركه. أما إن حملنا كلام ابن عقيل في التناظر بين الواقعتين على ما يشمل التساوي في المانع من الحكم، بالإضافة إلى التساوي في أصل الحادثة، فإن كلامه يكون صواباً. وتطبيق هذا على المسائل الفرعية الثلاث التي ذكرناها واضح. وقد أمر مالك الخليفة المنصور بترك نقض الكعبة لئلا يتخذه الملوك لعبة. وذلك مانع مشابه للمانع الذي لأجله تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - على حالها. والله أعلم. والحاصل أن الوقائع التي يمكن أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيها أحياناً نوعان: 1 - ما سبق النص عليه، أو يمكن تبين حكمه بقياس جليّ. 2 - ما منع من الحكم فيه مانع يتضمن مفسدة أعظم من ترك بيان الحكم فيه. فإن لم يكن كذلك فإن ترك الحكم فيه ممتنع. ويمتنع علينا الحكم فيه. وهذا كما هو بيّن، قيد في قياس العلة، فلا يجوز أن يكون فرع القياس مما كان حادثاً في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وترك ذلك الحكم فيه. والله أعلم. المطلب الرابع ترك الاستفصال عند الإفتاء ومدى دلالته على عموم الحكم عبّر الشافعي عن هذه المسألة بقوله: "ترك الاستفصال، في مقام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال" (2). وهو أول من ذكر هذه القاعدة في ما نعلم.   (1) انظر: نيل الأوطار 7/ 103 المغني لابن قدامة 8/ 192 (2) القرافي: الفروق 2/ 87 - 90، ابن اللحام الحنبلي: القواعد ص 234 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وإيضاحها أن يقال: إذا سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم واقعة من الوقائع، وكانت الواقعة المسؤول عنها مما يحتمل أن تقع على صورتين فأكثر، فأجاب عنها دون استفصال عن الصورة الواقعة، فإن الحكم المذكور في الجواب النبويّ، يكون صادقاً على كلتا الصورتين. ولو أراد أن يكون حكمه صادقاً على إحداهما دون الأخرى وجب عليه إما أن يستفصل، ويحكم على المتحصّل بالاستفصال، وإما أن يقيد في كلامه فيقول: إن كان كذا فالحكم كذا. وهذه قاعدة في الإفتاء معروفة، ومثالها أن يقول المستفتي في الميراث: رجل ترك زوجة وأماً وأباً. فينبغي للمفتي أن يسال: هل ترك ولداً أو ولد ابن؟ لأن الحكم يختلف في حال وجوده عن حال عدمه. وكذلك يسأل: هل ترك من الإخوة اثنين فأكثر؟ ولكن لا حاجة إلى أن يسأل: هل ترك عمّاً أو خالاً، إذ أن ذلك لا يؤثر في قسمة التركة. ولإيضاح قاعدة التنزيل هذه بالمثال، نذكر حديث أم سلمة في المستحاضة: "أن امرأة كانت تهراق الدماءَ. فاستفتت أم سلمة لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفرْ بثوب، ثم لتصلّ" (1). احتجّ به الحنفية على أن المستحاضة إن كان لها عادة معلومة فإنها تجلسها، وسواء أكان دمها متميّزاً أم لا، فلا اعتبار بالتمييز. ووجه إلغاء التمييز عندهم البناء على هذه القاعدة التي ذكرنا. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتاها بما ذكر في الحديث، ولم يستفصل منها، أمميزة هي أم لا، فدلّ ذلك أن الأمرين سواء، وأن المعتبر العادة. فنزلوا تركه - صلى الله عليه وسلم - للاستفصال منزلة العموم في القول، فكأنه قال: لتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، في حال تمييزها إن كانت مميّزة، وفي غير تلك الحال إن لم تكن عليها.   (1) رواه مالك وأبو داود والنسائي. وانظر (جامع الأصول 8/ 335). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 والشافعية والمالكية والحنابلة المخالفون للحنفية في هذا الفرع، احتجّوا بحديث عائشة في استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي" (1). استدلوا به على أن المستحاضة إن كانت مميزة فالمعتبر التمييز، ولا اعتبار حينئذٍ بالعادة. واستدلالهم مبني على القاعدة المذكورة نفسها. ووجه بنائها عليها لا يخفى (2). هذا ولما كان من المحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم بالواقعة -ربما من مصدر آخر غير سؤال السائل- على أي الوجهين وقعت، فقد أنكر بعض العلماء صحة هذه القاعدة، لأن استفصاله عن ذلك يكون لغواً لا فائدة فيه. فبالنظر إلى هذا الاحتمال حرّر الأبياري (3) هذه القاعدة كما يلي: أولاً: إن كان الاستفتاء عن أمر لم يقع أصلًا، وإنما يراد إيقاعه في المستقبل، فإن ترك الاستفصال ينزّل منزلة العموم، كما لو سألته امرأة غير مستحاضة عن الحكم لو استحيضت. أقول: ومثله ما لو سئل عن المسألة بصفة عامة، كما لو قيل له: ما تقول في امرأة استحيضت ... إلخ. ثانياً: أن يتبيّن لنا اطّلاعه - صلى الله عليه وسلم - على صفة الحال، ونعلم بطريق ما، أن الخبر كان قد وصله، فلا ريب أن تركه الاستفصال لا يدل على العموم، لأن الاستفصال لا داعي إليه. ثالثاً: أن يثبت لنا، بطريق ما، أن القضية التي وقعت أفتى فيها - صلى الله عليه وسلم - وهي   (1) رواه النسائي (جامع الأصول 8/ 227). (2) انظر الخلاف في هذا الفرع في المغني لابن قدامة 1/ 311 (3) البحر المحيط للزركشي 2/ 53 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 مبهمة عنده، لا يعلم على أي الحالين وقعت، فينزل تركه الاستفصال منزلة العموم، كما هو واضح. رابعاً: أن تكون الحادثة قد وقعت، والسؤال مطلق، ولم يثبّت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً بالواقع، ولا ثبت أنه كان غير عالم به. فهذه الصورة هي المختلف فيها. فاعتبار قيد الوقوع، يمنع القول بالتعميم، نظراً لاحتمال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً بالواقعة، على أي وجه وقعت. وهذا هو المذهب الأول في المسألة. واعتبار الإطلاق في السؤال، وأنه قد يكون من غرض المجيب التسوية بين الاحتمالات في الحكم، يقتضي القول بالتعميم، وهو المذهب الثاني. والمذهب الثالث: التوقف، للتردد بين الاحتمالين المذكورين. وهو منسوب إلى الجويني (1). رأينا في المسألة : الذي نراه أن احتمال علمه - صلى الله عليه وسلم - من طريق آخر بالقضية، كيف وقعت، خلاف الأصل، إذ الأصل عدم العلم، والظاهر أن الجواب وارد على ما ذكر في السؤال فقط. فما أوردوه على القاعدة يمنع اليقين، ولكن لا يمنع الظهور. وهذا ما رجّحه ابن تيمية (2) والزركشي وغيرهم. تنبيه: إنما قالوا: "ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم" ولم يجعلوه عموماً، لأن العموم عندهم من عوارض الألفاظ، وليس الترك لفظاً حتى يقال هو عام. تنبيه آخر: ليس المراد بقيام الاحتمال، في القاعدة السابقة، الاحتمالات الضعيفة والمستبعدة الوقوع، إذ أنه قلما تخلو واقعة من احتمال يجيزه العقل، ومثاله في مسألة السؤال عن الميراث التي قدمنا ذكرها، احتمال أن تكون أم الميت حاملاً بتوأمين، فذلك أمر مستبعد، وليس على المفتي أن يهتمّ له، أو يعتني بالبحث عنه.   (1) المسودة في أصول الفقه ص 109، البناني على جمع الجوامع 1/ 426 (2) نفس المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 فمثل هذه الاحتمالات، ليست مرادة بهذه المسألة، ولا يقال إن الحكم يعمها، ومثال ذلك من السنة أن أنصارياً وطئ زوجته في رمضان، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فأوجب عليه الكفارة. فجمهور الفقهاء جعلوا الكفارة على المتعمّد لذلك دون الناسي. قالوا وليس ترك الاستفصال هنا منزّلاً منزلة العموم في المقال "لأن حالة النسيان بالنسبة إلى الجماع، ومحاولة مقدماته، وطول زمانه، وعدم (اعتياده) في كل وقت، مما يبعد جريانه في حالة النسيان، فلا يحتاج إلى الاستفصال بناء على الظاهر" (1). وخالف في ذلك أحمد وبعض المالكية فقد تمسّكوا بالقاعدة حتى في هذه الحال (2)، فأوجبوا الكفارة على المجامع ناسياً صومه. وبناء على ما تقدم ينبغي تحرير القاعدة كما يلي: "ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال، في وقائع الأحوال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، إلا إذا تبيّن علمه بالحال، أو كان الاحتمال لندرته مما يعزب عن البال" والله أعلم. فروع تنبني على هذه القاعدة : الفرع الأول: من أسلم على أختين (3): في الحديث عن فيروز قال: "أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أطلق إحداهما" (4). ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن من أسلم ومعه أختان، وجب عليه أن يفارق واحدة منهما، ويمسكُ من اختارها. ومذهب أبي حنيفة، وهو قول للشافعي: إنه ليس مخيراً في ذلك، بل يجب عليه أن يفارق التي تأخّر عقدها منهما. فإن كان عقد عليهما معاً بطل. وأجاب من احتجّ لأبي حنيفة عن الاستدلال بالحديث المذكور، بأنه في واقعة حال؛ فيحتمل أن فيروز كان تزوجهما في عقد واحد، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم بالواقعة.   (1) ابن دقيق العيد: شرح العمدة 2/ 11 (2) ابن حجر: فتح الباري 4/ 164 (3) نيل الأوطار 6/ 170 (4) رواه الخمسة إلا النسائي (نيل الأوطار 6/ 170) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 واحتُجّ للأولين بالحديث المذكور، وقالوا: تخييره - صلى الله عليه وسلم - لفيروز، مع تركه الاستفصال منه هل تزوجهما في عقدين أو عقد واحد، ينزل منزلة العموم. ويكون ذلك حكم من أسلم وتحته أختان سواء تزوجهما في عقد أو عقدين. وقالوا أيضاً: احتمال أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قد علم بالواقعة خلاف الأصل، فالظاهر عدم العلم. الفرع الثاني: قضاء رمضان عن الميت : في حديث ابن عباس: "أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله، إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى" (1). الحديث يدل على أنه لا يتخصص جواز النيابة بصوم النذر، وهو منصوص الشافعية، خلافاً لما قاله أحمد (2) ويخرج على القاعدة التي ذكرناها، والله أعلم.   (1) حديث ابن عباس في قضاء الصوم: متفق عليه. (2) ابن دقيق العيد: شرح العمدة 2/ 23 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الفصل السادس التقرير - تمهيد في حقيقة التقرير. 1 - الإنكار وما يحصل به. 2 - حجية التقرير. 3 - شروط التقدير. 4 - أنواع التقرير ودلالة كل منها. 5 - تعدية حكم التقرير لغير المقرر. 6 - مسائل متفرقة. أ- ذكر الأمر في أثناء القول هل يكون تقريراً؟. ب- السكوت على ما يوهمه القول الجائز. ج- الإقرار على الفعل الحادث والفعل المستدام. د- بين الإقرار وقاعدة: لا ينسب للساكت قول. هـ- سعة دلالة التقرير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 تمهيد الإقرار في اللغة مصدر أقرّ، ومادة (ق ر ر) تكون في اللغة للبرد ضد الحر، والمصدر القُرّ. وتكون بمعنى الثبات في المكان والسكون فيه وترك الحركة. والمصدر القَرار، والقُرّ أيضاً. وتكون بمعنى إخراج الصوت على دفعات ومنه قَرُّ الدجاجة (1) ومنه القارورة، لأنها (تقرقر) إذا صُبَّ منها الماء. وأقرَّ الشيءَ، وقرّره، ثبته في المكان، ويكون ذلك بأن يجده في مكان فيتركه على حاله فلا ينقله منه ولا يحرّكه، أو يجده في مكان فينقله إلى مكان آخر فيثبته فيه، أو يجده متحرّكاً فيسكنِّه. ويخرج الإقرار عن هذا الأمر الحسّيّ إلى أمور معنوية ترجع إلى ترك التغيير أو المنع منه. ويستعمل الفقهاء الإقرار بمعنى الاعتراف، لأن من اعترف بما نسب إليه أو اتهم به، فإنهم لم يغيّر ولم يدفع عن نفسه. والإقرار والتقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرف أهل السنن وأهل الأصول: "فإن يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار قول قيل، أو فعلٍ فُعِل، بين يديه، أو في عصره وعلم به" (2). والإقرار قد يكون نوعاً من السكوت، لأنه سكوت عن الإنكار، والسكوت كفّ عن القول.   (1) انظر عن لسان العرب. (2) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 41، الزركشي: البحر المحيط 2/ 256 ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وقد يكون الإقرار كفاً عن الفعل، لأن بعض الأفعال يمكن إنكارها بالفعل. ومن أجل ذلك فلا نرى من الصواب تعريف الإقرار بـ (السكوت عن الإنكار ... إلخ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد يسكت عن إنكار المنكر بلسانه ولكن يغيّره بيده، فلا يقال إنه قد أقرّه. وقد أزال ابنَ عباس عندما قام في الصلاة عن يساره فأقامه عن يمينه، ورأى رجلين يطوفان بالبيت وبينهما زمام فقطعه. والأولى أن يقال في تعريف الإقرار إنه (كف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإنكار على ما علم به من قول أو فعل). والتقرير على الشيء لا يرادف الرضا به. بل ما تضمّن الرضا والموافقة فهو تقرير يحتج به، وما لم يتضمنه فهو تقرير لا يحتج به. فالتقرير حجة إذا وجدت شروط الاحتجاج به وانتفت الموانع، وليس حجة في ما عدا ذلك. التقرير فعل من الأفعال: وذلك من حيث إنه كفّ عن الإنكار، والكفّ فعل كما تقدم، أما الترك العدمي فلا يكون تقريراً، وذلك كعدم نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء لم يعلم بها مما حدث في غير مكانه، أو بعد زمانه. والذين جعلوا التقرير قسيماً للأقوال والأفعال، فليست طريقتهم في ذلك مرضيّة. وإنما تجري على قول من أبى أن يعتبر الكفّ فعلاً من الأفعال. أهمية التقرير في البيان والتعليم: سبق أن أشرنا في أوائل الباب الأول إلى ميزة التقرير في البيان والتعليم. ونعيد شيئاً من ذلك هنا مع زيادة بيان. فنقول: إن البيان والتبليغ بالقول قد لا يحصل به التبيُّن الكامل، فيحتاج المبلّغ إلى أمثلة عمليّة مطابقة للوجه المشروع، فأرسل الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عاملاً بكتاب الله، ليكون عمله أنموذجاً يحتذى. ثم إن السامع للبيان القولي، والمشاهِدَ للعمل النموذجيّ، قد يتخيّل في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 بعض أجزاء العمل المشاهد أنها مطلوبة، أو أنها غير مطلوبة، ويكون ذلك مخالفاً للصواب. فإذا أريد له أن يكون تعلمه سليماً فينبغي أن يطلب منه تنفيذ العمل تحت إشرافٍ ومشاهدة ممن هو أعلى منه درجة في العلم والمعرفة. وتكون مهمة المشرف حينئذ إبطال الأجزاء الزائدة، والأمر بتكميل الأجزاء الناقصة، وتعديل المخالف في الصفة، حتى يتمّ التمرن على العمل على الوجه الصواب، ويصبح أداؤه على ذلك الوجه عادة للمتعلم، وبه يتم التعليم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 المبحث الأول الإنكار وما يحصل به أنواع الإنكار : لما كان التقرير هو عدم الإنكار، وجب أن يُعرف ما يكون إنكاراً من الأقوال والأفعال، لئلا يظن أنه - صلى الله عليه وسلم - أقر شيئاً ويكون قد أنكره. قد قالت العرب في أمثالها: "الحرُّ يُلحى والعصا للعبد" وقال الشاعر: العبد يضرب بالعصا ... والحر تكفيه الإشارة فإنه لما كان الإنكار نوعاً من التعامل مع النفوس البشرية، وكان كثير منها حساساً يتأثر بأقل المؤثرات، وقد يضره القول الصريح، فإن الإنكار الخفي قد يكون أجدى فيه. وقد قال الله تعالى، لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم} (1) أمره تعالى بالعفو عنهم، يعني لما قد يصدر عنهم من الإساءات، وأن يستغفر لهم، ثم يكون ذلك الاستغفار لهم بعد الفعل نوعاً من الإنكار، لأنه مشعر لهم بأنهم قد فعلوا الإساءة. والإنكار على درجات: الأولى: وهي أعلاها: الإنكار باليد، بإيقاع القصاص أو الحد أو التعزير، فيما ورد فيه ذلك من الأفعال. ومثله أن يُهْدر المادّة التي عملت فيها المعصية، كما في قصة خيبر (2)، أنهم   (1) سورة آل عمران: آية 159 (2) متفق عليه (جامع الأصول 8/ 289) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 طبخوا لحوم الحمر، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقدور فأُكفئت: و"شق دنان الخمر بسكين في يده" (1). الثانية: الإنكار بالقول الصريح، ومنه النهي عن الفعل، والإخبار بأنه ذنب أو معصية أو كبيرة أو صغيرة، ونحو ذلك من الصرائح، كقوله لعائشة لما نعتت صفية بالقصر: "لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجته" (2) وقوله للمسيء صلاته: "ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ" الثالثة: التكلم بما هو من لوازم الذنب والمعصية، كالاستغفار للفاعل، والعفو عنه، والتنازل عن الحق المترتب على فعله، ونحو ذلك. الرابع: أن يتكلم بما يستلزم بطلان القول الذي سمعه. ومثال هذا النوع ما ورد في قصة سعد بن معاذ أنه قال: "لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح". فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "تعجبون من غيرة سعد؟. والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين" (3). فقد ظنّ البعض أن هذا إقرار على القول. وليس ذلك على إطلاقه، بل قد أقرّ الغيرة، وأنكر ما أوهمه القول من عدم الحاجة إلى البينة في ذلك. فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحد أحب إليه العذر من الله" إلزام بالبيّنة. ومنه أنه لما خلع نعليه في الصلاة خلوا نعالهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لم خلعتم نعالكم؟ " اعتبره ابن حزم (4) إنكاراً، واعتبره غيره استفساراً مجرّداً. ومنه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم، ثم أعطى عبد الله بن الزبير دم الحجامة ليريقه، فذهب فشرب الدم، فشعر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "ويل لك من الناس، وويل للناس منك" (5). فهذا إنكار.   (1) رواه البيهقي (تفسير ابن كثير. ط بيروت 2/ 640). (2) رواه أبو داود والترمذي. (3) رواه البخاري 13/ 399 (4) الإحكام ص 430 (5) رواه الطبراني (البداية والنهاية لابن كثير 8/ 343). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وقد جعل القاضي عياض شربه الدم دليلاً على طهارة دمه - صلى الله عليه وسلم -، وجعل هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - إقراراً. وفي ذلك ما فيه. وفي رواية الطبراني قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أمرك أن تشربه؟ ". الخامسة: إظهار الكراهة، والإعراض عن الفاعل. ومنه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بيت فاطمة ابنته فوجد على بابها ستراً موشياً، فلم يدخل" (1). وقال البخاري: باب هل يرجع إذا رأى منكراً في الدعوة؟ وذكر فيه حديث عائشة: "أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية فسألته ... " (2) الحديث. وفي هذا النوع خلاف نذكره في المبحث الآتي في درجات التقرير. ومن هذا النوع أن يعيد الكلام الذي سمعه بهيئة المنكر له. ومن ذلك أن جابر بن عبد الله قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر دين كان على أبي. فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا. فقال: أنا أنا!! كأنه يكرهه" (3). الإنكار وخصائصه في بيان الأحكام : يلاحظ أن كثيراً من الشرائع الإسلامية ابتدئت شرعيتها بمناسبات وقتية. والقرآن نزل منجماً بحسب الحوادث. فكانت الحادثة إذا وقعت مخالفة لما أراد الله تعالى أن يشرعه لهذه الأمة، ينزل في ذلك القرآن آمراً وناهياً. ومثال ذلك آيات تحريم الخمر، نزلت في قصة سعد بن أبي وقاص. وآيات المواريث، في قصة ابنتي سعد بن الربيع إذ أراد عمهما أن يجتاح ما لهما. وكذلك السنة النبوية. فإن جزءاً كبيراً منها إنما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء مشاهدته لأصحابه وهم يتعبّدون أو يتعلمون، أو هم يتصرفون في أعمالهم في   (1) رواه البخاري وأبو داود (جامع الأصول 5/ 458) (2) فتح الباري 9/ 249 (3) رواه البخاري ومسلم (جامع الأصول 7/ 376) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 البيع والشراء والزراعة والصناعة والحرب، ومع أهليهم وأولادهم، وغير ذلك. فكان إذا رأى من أحدهم خروجاً عما تقتضيه الشريعة المطهرة لا يتركه على حاله، بل يبادر إلى ردّه إلى جادة الصواب. ويكون ذلك بياناً لحكم تلك المسألة، يتعلمه المنكَر عليه، ويتعلّمه غيره ممن حضره، أو سمع بذلك. وإنكار المنكر من أسباب تفضيل الله لهذه الأمة، قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (1) وهو من مقتضى الشهادة التي أكرم الله بها هذه الأمة. قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (2) فإن من عمل المنكر قد يكون عمله عالماً بنكارته، وذلك معاند، وقد يكون فعله جاهلاً بنكارته. والواجب في كلتا الحالين على من حضره من أهل العلم الإنكار عليه والبيان له، حتى يحصل له التذكّر إن كان غافلاً، والعلم بحكم الله في ذلك الأمر إن كان جاهلاً. فإن أخبر بذلك أمكنه أن يشهد عليه يوم القيامة بأنه بلّغه. وقد قال الله تعالى، عن عيسى ابن مريم: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} (3). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ما نقله الأزهري: "ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعزموا عليه؟ " قالوا: نخاف لسانه. قال: "ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء" (4). وهذا المعنى هو الملاحظ في إطلاق (الشهيد) على القتيل في سبيل الله على بعض الأقوال. وينبغي أن يكون هو الراجح. فإن الشهيد من قتل في البلاغ. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقلته".   (1) سورة آل عمران: آية 110 (2) سورة البقرة: آية 143 (3) سورة المائدة: آية 117 (4) (لسان العرب - شهد). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 المبحث الثّاني حجية التقرير اختلفت آراء الأصوليين في اعتبار الإقرار حجة. 1 - فأكثر الأصوليين يذكرونه قسماً من أقسام السنة النبوية. ونقل ابن حجر (1) الاتفاق على الاحتجاج به. 2 - وقال بعضهم ليس التقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة في الشرع. قال البخاري شارح البزدوي: "ذهبت طائفة إلى أن تقريره - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الجواز والنسخ" (2). أدلة القول الأول : استدل القائلون بحجية التقرير بأدلة، منها: أولاً: أن الله تعالى أرسل نبيه بشيراً ونذيراً، يأمر المعروف وينهى عن المنكر. قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ ... يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} (3) فلو سكت عما يفعل أمامه مما يخالف الشرع، لم يكن ناهياً عن المنكر (4). ثائياً: العصمة. فإن النهي عن المنكر واجب، وتركه معصية، يتنزه عنها أهل التقى من أفراد الأمة، فأولى أن يتنزه عنها محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو أول المسلمين وأتقاهم - صلى الله عليه وسلم -. ولو جاز له ترك إنكار المنكر لجاز ذلك لأمته (5).   (1) فتح الباري 3/ 323 (2) 3/ 869 (3) سورة الأعراف: آية 157 (4) أبو شامة: المحقق 39 ب. ابن حزم: الإحكام ص 436 (5) الجصاص: أصوله ق 72 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وقد قيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنه قال: "الساكت عن الحق شيطان أخرس" (1). وقد اعترض على هذا الدليل، بناء على قول من يجوّز على النبي - صلى الله عليه وسلم - الصغائر، بأنه إنما يلزم أن لو قدّر الفعل المقرّ عليه محرماً لكان كبيرة، أو لكان صغيرة وتكرر أمامه - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكره. ذكر الغزالي (2): هذا الاعتراض عن قوم. وأجاب عنه، بالجزم بجواز التمسّك بالإقرار، حتى على قول من يجوز الصغيرة، محتجّاً بأن الصحابة كانوا يفهمون من التقرير الجواز، دون توقف. وقال الآمدي: "التقرير على غير الجائز، وإن كان من الصغائر الجائزة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قوم، إلا أنه في غاية البعد، لا سيما في ما يتعلق ببيان الأحكام الشرعية" (3). أقول: وقد قدّمت في فصل حجية الأفعال من الباب الأول، أن احتمال الصغائر لا يمنع الاحتجاج بالأفعال، فليرجع إليه. وقد يقال أيضاً: إن إنكار المنكر باللسان غير واجب في جميع الأحوال، بل يجوز تركه في بعض الأحوال، مع الإنكار بالقلب. بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (4). فإذا كان كذلك فلِمَ لا يقال إن بعض ما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكاره يحتمل أنه تركه لعدم استطاعته تغييره، وقد أنكره بقلبه. ويجاب عن هذا السؤال، بأن الإقرار الذي نعتبره حجة، هو إقراره - صلى الله عليه وسلم - لأتباعه من المسلمين، وهم منصاعون لأمره، والظاهر أن قوله يؤثر في المخطئ منهم حتى يترك خطأه. فلا يصدق عليه أنه في مثل هذه الحال غير مستطيع الإنكار   (1) حديث: "الساكت عن الحق شيطان أخرس" نقله البخاري شارح البزدوي (3/ 869) ولم نجده في كتب الحديث. (2) المنخول ص 230، المستصفى 2/ 52، المحقق ق 39 ب. (3) الإحكام في أصول الأحكام 1/ 270 (4) مسلم وأحمد وأربعة (الفتح الكبير). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 باليد أو باللسان، وخاصّة بعد أن نزل عليه قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس}. ثالثاً: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز باتفاق، ومن فعل ما يخالف الشرع فإما أن يكون فعله جاهلاً بالمخالفة، أو عالماً بها. فإن كان جاهلاً بها وجب البيان له ليستدرك ما فات إن كان مما يستدرك، كالإنكار على المسيء صلاته في الحديث المشهور، ولئلا يعود إلى المخالفة في المستقبل. وإن كان عالماً فلئلا يتوهم نسخ الشرع المخالف، وثبوت عدم التحريم (1). رابعاً: ما علم من حال الصحابة في وقائع كثيرة، أنهم كانوا يحتجون بتقريره - صلى الله عليه وسلم - على الجواز (2). ونذكر من ذلك بعضها، على سبيل التمثيل لا الحصر. فمنها: "أن أنس بن مالك سئل وهو غاد إلى عرفة: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كان يهلّ منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبّر منا المكبر فلا ينكر عليه" (3). ومنها: قول أبي بن كعب: "الصلاة في الثوب الواحد سنة، كنا نفعله على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعاب علينا" (4). ومنها: قول ابن عباس: "أقبلت راكباً على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد" (5). ومنها: ما قال البخاري: "باب من رأى ترك النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة. وروى بسنده: "أن جابر بن عبد الله حلف بالله إن ابن صياد الدجال. فقال له:   (1) انظر البخاري: شرح أصول البزدوي 3/ 269 وانظر أيضاً: تيسير التحرير 3/ 128 (2) الغزالي: المنخول 230. المستصفى 2/ 52 (3) البخاري 3/ 510 (4) رواه أحمد 5/ 141 (5) حديث ابن عباس: البخاري 1/ 571 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -" (1). خامساً: واحتجّ الجصّاص (2): "بأن ترك النكير من علماء الأمة على العامّة في ما جرى بينهم من المعاملات التي استفاضت بينهم، هو حجّة على جوازه، كما قاله بعضهم في الاستصناع، ودخول الحمال من غير تعيين أجرة" (3). وهذا الدليل إنما يلزم من قال إن الإجماع السكوتي حجة. أما من أبى ذلك فلا (4). أدلة القول الثاني : استدلّ أصحاب القول الثاني بأمور: أولها: أن السكوت وعدم الإنكار محتمل، إذ من الجائز أنه - صلى الله عليه وسلم - سكت لعلمه بأن فاعل الفعل لم يبلغه التحريم، فلم يكن الفعل عليه إذ ذاك محرماً. فلأجل هذا الاحتمال لا يصح التقرير دليلاً على الجواز. ويجاب عن ذلك بما ذكرناه آنفاً في الدليل الثاني للقول الأول. ثانيها: أنه من الجائز أنه سكت عنه لأنه أنكر عليه مرة فلم ينفع فيه الإنكار، وعلم أن إنكاره عليه ثانياً لا يفيد، فلم يعاود، وأقرّه عليه، كما أقرّ اليهود والنصارى على معتقداتهم. وإذا كان كذلك، لا يصلح دليلاً على الجواز. وهذا أقوى ما يحتجّ به لهذا القول. ويجاب عنه، بأنه يجوز ترك الإنكار على المصرّ الذي لم تنفع فيه التذكرة، لقوله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى} على أحد القولين في تفسير الآية (5). ولما   (1) فتح الباري 3/ 323 (2) أصول الجصاص ق 82 أ. (3) انظر: الخلاف في ذلك في كتب الأصول (مثلاً: شرح جمع الجوامع للمحلي 2/ 187 - 190). (4) انظر: شرح البزدوي 3/ 869 (5) قال الشوكاني في فتح القدير (5/ 412، 413): أن المعنى: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، أو يكون هذا في تكرير الدعوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 علم من حاله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان لا يكرّر على الكفار والمشركين الإنكار في كل يوم وكل حال. وإنما قد بيّن لهم ما حصل به البيان الكافي، القاطع للعذر، وقاتلهم حتى أعطوا الجزية وهم صاغرون، فلو تركهم بعد ذلك لم يُظَنَّ أنّ الحكم قد تغيّر. إلاّ أن هذا النوع خارج عن الإقرار الذي يحتجّ به. فإن شرطه أن يكون المَقرّ مسلماً ملتزماً، وفي المنافق خلاف. فكيف يَترك المسلمَ الملتزمَ المطيع المتّبع، يفعل المنكر، فلا ينهاه عنه. ولو سُلِّم أن الإقرار على مثل ذلك جائز في بعض الأحوال، لوجب افتراض أن ذلك نادر (1)، خاصة وأن أصحابه - صلى الله عليه وسلم - أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأسرعها امتثالاً لأمر نبيّها، الذين شهدوا برسالته، وبذلوا أنفسهم لله في طاعته. فإذا كان كذلك فالنادر لا حكم له، والحكم للأعمّ الأغلب. والله أعلم. درجات التقرير من حيث القوة : قد يقترن بالتقرير ما يقوّي دلالته على الموافقة والرضا. فيكون على درجات: 1 - فأعلاه أن يقترن به الثناء على الفعل، ومدح فاعله. كقوله: "إنّ الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة، جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم" (2). ولمّا قال معاذ: "أقضي بكتاب الله، ثم بسنة رسول الله، ثم أجتهد رأيي" (3). قال - صلى الله عليه وسلم -: "الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله". 2 - ودون ذلك أن يساعد على العمل، ويقوم فيه بدور. ومثاله قيامه - صلى الله عليه وسلم - مع عائشة لتنظر إلى الحبشة وهم (يزفنون) (4) في المسجد يوم العيد. فقد قام لها، وخدّها على كتفه ليسترها ويمكّنها من رؤيتهم، والنظر إلى زفنهم.   (1) انظر الآمدي: الإحكام 1/ 271 (2) رواه مسلم 16/ 6 والبخاري. (3) مسند أحمد 5/ 236، 242 (4) الزفن: الرقص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 ومثله أن يُفعل الفعلُ به هو - صلى الله عليه وسلم -، فيقر على ذلك. كتطييب عائشة له قبيل الإحرام، وترجيلها له وهو معتكف. وهذا النوع من التقرير، لقوته، قد يجعله البعض من الأفعال (الصريحة). 3 - ومثل ذلك أن يستحل ما حصل من الفعل، كأكله - صلى الله عليه وسلم - من حصيلة رقية بن مسعود. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أقسموا وأضربوا لي معكم بسهم" (1)، وصيد أبي قتادة إذ كان مع المحرمين، وصاد حمار وحش، وبقيت منه بقية فأكل منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). وعنبر أبي عبيدة أكل منه - صلى الله عليه وسلم - (3). وكوطئه جاريته مارية التي أهداها له المقوقس، فهو إقرار يدل على صحة تملك الكفار لرقيقهم. 4 - ودون ذلك: أن يسكت - صلى الله عليه وسلم - مع الاستبشار، وإظهار علامات الرضا والقبول. فذلك حجة واضحة. لأن استبشاره لا يكون بما يخالف الشريعة. ومثاله حديث عبد الله بن مغفل قال: "أصبت جراباً من شحم يوم خيبر. قال: فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال فالتفتُّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسماً" (4). ومثله أيضاً تبسّمه لما اشتكت إليه امرأة رفاعة القرظي زوجها، وقالت: "وإنما معه مثل هدبة الثوب" (5). فذلك إقرار يدل على جواز التصريح بمثل ذلك في معرض الدعوى. ومن هذا النوع عند الشافعية، ما ورد عن عائشة أنها قالت: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه. فقال: ألم تري أن مُجَزِّزاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض؟ " (6). وفي هذا المثال للحنفية بحث يأتي ذكره إن شاء الله.   (1) مسند أحمد 3/ 83 (2) مسلم 13/ 87 (3) مسلم 8/ 110 (4) مسلم 12/ 102 والبخاري. (5) مسلم 10/ 2 والبخاري. (6) مسلم 10/ 40 والبخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وقد يظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستبشار أحياناً مع من تبيّن إصرارهم على الفحش. ويكون ذلك منه نوعاً من السياسة، ولا يكون رضاً بما هم عليه من سوء الحال. ومثال هذا ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "استأذن رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام -وفي رواية قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحكه معه- قلت: يا رسول الله، قلتَ الذي قلتَ، ثم ألنت له الكلام؟ قال: أيْ عائشة، إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه". أما مع المسلم المنقاد للشرائع، فإن الاستبشار لا يكون بما يخالف ظاهره الحق. 5 - ودون ذلك أن يسكت سكوتاً مجرداً، لا يظهر رضا ولا كراهة. وهذا النوع حجة أيضاً، لأنه الأصل في التقرير وقد بينا أدلة حجيته. 6 - ودون ذلك أن يسكت مع إظهار الانزعاج، أو الضيق والتبرّم، وكل ما يدلّ على عدم الرضا. وفي هذا النوع يقع التعارض بين دلالة سكوته على الجواز وانتفاء الحرج، ودلالة انزعاجه وتبرّمه على الكراهة. فوقع فيه الخلاف أهو إقرار أم إنكار. وقد رأى السبكي دلالة السكوت على الجواز بعدم ظهور الاستبشار منه - صلى الله عليه وسلم -. يقول السبكي: "سكوته - صلى الله عليه وسلم - على الفعل، ولو غير مستبشر، دليل الجواز للفاعل" (1). وهذا منه شامل للحالتين الخامسة والسادسة. وعندي أن القول بأن إظهار الانزعاج والضيق دليل الكراهة، هو المستقيم. لأن البيان يتم بكل ما يحصل به التبيين، فإذا أظهر - صلى الله عليه وسلم - الكراهة بإعراضه وإظهاره الانزعاج، كان ذلك بياناً، وحصل للمشاهدين تبيُّن غرضه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. فلا يكون هذا النوع إقراراً، بل هو إنكار. والدليل على ذلك أمران:   (1) جمع الجوامع 2/ 95 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 الأول: ما تقدم ذكره في مبحث السكوت، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُسأل أحياناً، فيعرض عن السائل، ويسكت عنه، إنكاراً لسؤاله. ومن ذلك إعراضه عمن سأل عن الحج أفي كل عام هو؟ بدليل أنه لما أكثر عليه السائل صرح له بإنكاره للسؤال. فدلّ على أنه لما سكت معرضاً عنه أولاً، كان يريد بيان الكراهة. الثاني: ما قدمنا في مبحث الإشارة، من أن الإشارة تكون بياناً، إذا قصد بها إفهام المخاطب أمراً. فكذلك هنا. ومن ذلك عندي ما ورد عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - سمع زمّارة راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه. يعني لئلا يسمعها. ومن قال إن ذلك لا يمنع القول بالإباحة، فهو خلاف الظاهر من فعله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال تقي الدين النبهاني في قصّة الراعي: "هذا لا يعتبر إنكاراً على الراعي بل يعتبر سكوتاً عنه، وهو دليل على جواز الزمّارة، وجواز سماعها" (1). وهذا القول منه إن عنى بالجواز فيه ما يشمل المكروه، فإن الخلاف لفظي فلا نلتفت إليه في هذا الموضع. وإن عنى به المباح، فهو مردود، فإن وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - إصبعيه في أذنيه ليس لكراهة طبيعة، كأكل الضب، وإنما هي كراهة شرعيّة، وذلك ظاهر.   (1) الشخصية الإسلامية 3/ 97 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 المبحث الثالث شروط صحَّة دلالة التقرير الشرط الأول: أن يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل. وسواء سمعه أو رآه مباشرة، وهو الأكثر من الأقارير المحتجّ بها. أو حصل في غيبته ونقل إليه، كما نقل إليه خبر تأخيرهم لصلاة العصر حتى غربت الشمس يوم بني قريظة. أما إن لم يعلم به فليس حجة. وصنيع ابن حجر يدل على أنه يرى أن علمه - صلى الله عليه وسلم - بالأمر ليس شرطاً. فقد ذكر أن الصحابي إذا أضاف الفعل إلى زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون حكمه الرفع. قال: "لأنهم لا يقرون على فعل غير الجائز في زمان التشريع، وقد استدلّ جابر على إباحة العزل بكونهم كانوا يفعلونه والقرآن ينزل، ولو كان منهياً لنهى عنه القرآن" (1). اهـ. والذي عليه الجمهور أن اشتراط العلم معتبر. وهو الصواب. وما نسبه ابن حجر إلى جابر الراجح أنه لا يصح منه إلا لفظ: "كنا نعزل والقرآن ينزل" دون قوله: "لو كان شيئاً ينهى عنه لنهى عنه القرآن"، وبأنه قد صح عن جابر عند مسلم أن ذلك بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينههم عنه، كما ذكره ابن حجر نفسه في موضع آخر (2). فكيف يحتجّ بما بلغه على ما لم يبلغه ولم يعلم به؟ وسيأتي لهذا توضيح أتم. وعلى المختار، إن نقل إلينا أن الفعل وقع أمامه - صلى الله عليه وسلم -، أو أنه أُخبر به، فهو حجة عند كل من رأى الإقرار حجة. وإن شككنا في علمه به فالأصل عدم العلم. فإن كان الفعل انتشر بين الصحابة وكثر فيهم وكان مما يستبعد عدم اطلاعه   (1) فتح الباري 1/ 299 (2) فتح الباري 6/ 309 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 عليه، غلب على الظن اطلاعه عليه، وعمل بمقتضى الإقرار (1). وكذا لو وجدت قرينة تدل على العلم. فمثال ما لم يعلم به بعض ما كان في بلاد أخرى من العادات والعبادات وغيرها. ومثال ما يشك في علمه به قول جابر: "كنا نعزل والقرآن ينزل". فإن العزل أمر يستسر به، ما لم يثبت بالنقل أنه بلغه. وقد ثبت ذلك في العزل كما ذكرناه آنفاً. ولو أخبر صحابي أنه فعل شيئاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون إقراراً، لعدم القرينة الدالّة على علمه به. ومثال ما انتشر بينهم حتى يستبعد خفاؤه عليه، قول أبي سعيد: "كنا نخرج صدقة الفطر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير أو صاعاً من برّ" (2). وقول أنس: "إنهم كانوا ينتظرون العشاء، حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضأون" (3). ورواه مسلم بلفظ: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون" (4). ومثال ما يغلب على الظن علمه به قول ابن عباس: "كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" (5). ومثال ما وجدت القرينة على علمه به - صلى الله عليه وسلم - قول أسماء بنت أبي بكر: "نحرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرساً فأكلناه". فهو إقرار يدل على أن لحم الخيل مباح. وقال الحنفية: هو حرام، وكرهه المالكية وغيرهم.   (1) انظر إرشاد الفحول ص 41 (2) رواه مسلم 7/ 61 ومالك والنسائي. (3) رواه أبو داود 1/ 339 (4) صحيح مسلم 4/ 72 (5) البخاري 11/ 88 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وقال الذين لم يأخذوا برواية أسماء، إنه ليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك وأقره. وأجاب من أخذوا بروايتها: إنه لا يُظَنّ بآل أبي بكر والزبير أنهم يقدمون على فعل شيء من مثل هذا، إلا وعندهم العلم بجوازه، لشدة اختلاطهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وآله، وعدم مفارقتهم له. وفي رواية الدارقطني لحديث أسماء: "فأكلنا نحن وأهل بيت رسول الله" (1). وقيل إن كل ما نقله الصحابي في معرض الاحتجاج من أفعالهم، فإنه يدل على أنه بلغه - صلى الله عليه وسلم - فأقرّه (2)، فيكون حجة. قاله بعض الحنابلة، والأول قول الحنفية (3) وهو أصح، لاحتمال أن يكون العمل على ذلك اجتهاداً من الصحابي، بدليل أنه كانوا يفعلون أشياء باجتهادهم. فتحصّل في قول الصحابي: كنا نفعل وكانوا يفعلون على عهده - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقوال (4): أولها: أنه حجة مطلقاً، لأن ذكره في معرض الحجة يدل على بلوغه. ثانيها: أنه ليس حجة ما لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - علم به فأقره. ثالثها: التفصيل بين ما يستحيل خفاؤه عليه - صلى الله عليه وسلم - أو يستبعد، فيكون حجة، وبين ما ليس كذلك فلا يكون حجة، وهو الذي رجحناه، والله أعلم. وهذا وقد يحتج بعض الفقهاء بالأمثلة التي ذكرناها من جهة أخرى، وهي أنها أفعال صحابة (5)، وفعل الصحابي حجة. وهي مسألة خلافية خارجة عن موضوع هذه الرسالة. تنبيه: يتضمن هذا الشرط اشتراط عدم الغفلة عن الفعل. فإن الغافل غير عالم، وإن كان حاضراً.   (1) انظر المغني لابن قدامة 8/ 591 وفتح الباري 9/ 649 (2) ابن تيمية: المسودة ص 298. أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 669 (3) المسودة ص 298 (4) الشوكاني: إرشاد الفحول 61 (5) ابن تيمية: المسودة ص 298 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 الشرط الثاني: قال ابن الحاجب: أن يكون قادراً على الإنكار. ويستدل له بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه". فهو يدل على سقوط الإنكار باليد واللسان عند العجز عنه. ولرخصة الله تعالى في قوله: {إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} فرخّص في النطق بكلمة الكفر، فالسكوت أولى بالجواز. وقد قال الباقلاني وتابعه الزركشي، بأن وجوب إنكار المنكر لا يسقط عنه - صلى الله عليه وسلم - بالخوف على نفسه، لدليلين: الأول: أن الله ضمن له النصر والظفر، وكفاه أعداءه بقوله: {إنا كفيناك المستهزئين}. الثاني: أن تركه الإنكار خوفاً، يوهم الجواز ونسخ النهي. وقد سبق أن تكلمت في شأن عصمته - صلى الله عليه وسلم - من أذى الناس، وذكرت أن آية العصمة متأخرة في العهد المدني، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُحْرس قبل ذلك حتى نزلت. وأما كفاية المستهزئين فهي خاصة بهم وليست عامة في من يخاف منه. ولذلك يظهر لنا أن هذا الشرط معتبر في الإقرار في أوائل العهد المدني. أما في العهد المكّيّ فلم يتبعه - صلى الله عليه وسلم - إلا خُلّص المؤمنين، فلا خشية منهم. وأما بعد نزول آية العصمة فلا. وأما في العهد المدني قبل نزولها فيمكن تحقق الخشية من جهة بعض من مردوا على النفاق من أهل المدينة. وإنما يعتبر هذا الشرط بقدره، وحيث يتحقق لخوفه - صلى الله عليه وسلم - على نفسه وجه. والأصل عدم الخوف. والله أعلم. وأما استدلال الباقلاني بأن ترك الإنكار خوفاً يوهم الجواز، فإن الإمارات لا يخفى على الحاضرين، لو حصل شيء من ذلك. فلا يتحقق ما ذكر. والله أعلم. الشرط الثالث: أن يكون المقرّ منقاداً للشرع، بأن يكون مسلماً، سامعاً مطيعاً. أما إن كان كافراً، فإن تقريره لا يدلّ على رفع الحرج. وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود والنصارى على بِيَعهم وكنائسهم وعلى عبداتهم ورتبهم الكنسية، وبعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 مراسيمهم في العقود والأقضية وغيرها. وأزال أشياء أخرى كإيذاء المسلمين. وأقرّ المجوس على معابدهم، مع ما يعمل فيها من الكفر بالله والشرك به. واعتمر عمرة القضية، فطاف بالكعبة وعليها الأصنام وفيها الصور. وطاف بين الصفة والمروة، وعليهما تمثالان لإساف ونائلة. فلم يكن ذلك حجة على صحة ذلك الوضع. ومن أجل هذا لا يكون سكوته عن الإنكار على فعل الكافر حجة على رفع الحرج. ولكن هو مع ذلك حجة على أنه يجوز للأئمة إقرار أهل الذمة على مثل ما أقرهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا النوع هو من الاستدلال بالأفعال، لا من حيث إنه تقرير. وأما المنافق فقد اختلف فيه، لأنه من حيث هو كافر في الباطن، فهو ملحق بالكافر، وبهذا قال الجويني. ووافقه السبكي والشوكاني وغيرهم. أقول: وعندي في ذلك تفصيل، فأما من كان نفاقه خفياً لا يعلمه جمهور الصحابة، فهذا تجري عليه أحكام المسلمين، ويكون إقراره حجة. وذهب آخرون إلى أن المنافق ملحق بالمؤمنين، لأنه تجري عليه أحكام المؤمنين ظاهراً، فيكون إقراره حجة. وأما من كان نفاقه ظاهراً، وقد تمرّد وعتا وجاهر بنفاقه، فلا ينبغي أن يُشَكّ في أن إقراره ليس بحجة. وهذا كما رُوِي أن عبد الله بن أبيّ رجع بأصحابه عن مساعدة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد (1)، وكان له إماء: "يكرههن على البغاء (2) يأكل من كسبهن السحت، وحالف اليهودَ خشية أن تصيبه الدوائر، فكل ذلك لا حجة فيه على جواز مثله من المسلمين. وقد قال ابن مسعود في شأن الصلاة: "لقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق" (3). وقد قال ابن تيمية: "إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبيّ وأمثاله من أئمة النفاق، لما لهم من أعوان. فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك، بغضب قومه وحميّتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه" (4).   (1) سيرة ابن هشام 2/ 64 (2) القصة في صحيح مسلم (تفسير القرطبي12/ 254). (3) رواه أبو داود 2/ 255 وابن ماجه. (4) الفتاوى الكبرى 28/ 131 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الشرط الرابع: أن لا يكون قد عُلِم من حاله - صلى الله عليه وسلم - إنكاره لذلك الفعل قبل وقوعه وبعد وقوعه، حتى استقرّ ذلك شرعاً ثابتاً، وحكماً راسخاً لا يحتمل التغيير ولا النسخ. فلو خالفه مخالف فسكت عليه، لم يؤخذ بسكوته حجة، ووجب حمله على غفلة عنه، أو عدم علم به، أو عذر خاصّ علمه من الفاعل، أو اكتفاء بالبيان المتقدم، أو حال لم نطّلع عليه، أو غير ذلك مما يمنع تعدية الحكم إلى غير الفاعل. وذلك كعبادة غير الله، ونكاح المحارم، وشرب الخمر إذا أقرّ على ذلك أهل الذمّة. وجعل الحنفية (1) والباقلاني والغزالي من هذا النوع ما ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة مسروراً تبرق أسارير وجهه، فقال: "ألم تَرَيْ أن مُجزّزاً المدلجي نظر آنفاً إلى أسامة وزيد وقد غطّيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض" (2). وهو الحديث الذي احتجّ به الشافعي وغيره على إثبات النسب بقول القائف. قال الباقلاني: "هذا فيه نظر، فإن قول مجزز كان موافقاً لظاهر الحق، وكان المنافقون يبدون غميزة في نسب زيد وأسامة، قاصدين بذلك إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان الشرع حاكماً بالتحاق أسامة بزيد. فجرى قول مجزز منطبقاً على وفق الشرع والظاهر والأمر المستفيض الشائع" (3). وقال الغزالي في المنخول: "إنما سرّ - صلى الله عليه وسلم - بكلمة صدق. صدرت ممن هو مقبول القول فيما بين الكفار، على مناقضة قولهم لما قدحوا في نسب أسامة، إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تأذّى به" (4). والصواب أن الحديث دليل صحة العمل بالقيافة، حيث لا تخالف ما ثبت بطريق شرعي. وقد قال الشافعي في المسألة: "إن الرسول لا يسره إلا الحق، فإذْ سرّه قوله تبيّن أنه من مسالك الحق" (5). والأمر الذي ادّعوا ظهوره غير ظاهر. الشرط الخامس: أن لا يكون المقرّ ممن يزيده الإنكار سوءاً، ويغريه بشرٍ مما هو فيه.   (1) ابن دقيق العيد: الإحكام 2/ 222 تيسير التحرير 3/ 129 (2) متفق عليه. (3) أبو شامة: المحقق ق 42 ب. (4) ص 229 (5) أبو شامة: المحقق ق 42 ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 فإن المعصية لها من حيث تأثير الإنكار فيها درجات. الأولى: أن تزول بالإنكار ويخلفها الطاعة. الثانية: أن تقلّ وإن لم تزل بجملتها. الثالثة: أن يخلفها ما هو مثلها. الرابعة: أن يخلفها ما هو شرّ منها. فالإنكار في الأولى والثانية مشروع، وفي الثالثة موضع اجتهاد، وفي الرابعة محرم (1)، كفاسق باغ، لو ترك شرب الخمر واللعب بالقمار لانصرف إلى القتل، فلا يجوز نهيه. وهذا واضح في حق إنكار غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما في حقه هو، فقد اختلف العلماء على قولين: أولها: أنه كغيره فلا يجب عليه الإنكار، وهو قول المعتزلة، نسبه إليهم السمعاني في (القواطع) (2)، فلا يكون إقراره حجة، إذا علم من حال المقَرّ أنه يغريه الإنكار. ثانيهما: أنه يجب عليه الإنكار، ولو علم ذلك، ليزول بالإنكار توهم الإباحة. ومن هذا الوجه يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخالفاً لغيره، وقال به الباقلاني (3) ورجحه السبكي والبناني (4) ونسب إلى الأشعرية. الشرط السادس: اختلف في أن تكليف المقَرّ شرط أم لا. وقال البناني: "لا يقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً على باطل. والظاهر دخول غير المكلف. لأن الباطل قبيح شرعاً. وإن صدر من غير المكلف، ولا يجوز تمكين غير المكلف منه وإن لم يأثم به، ولأنه يوهم من جهل حكم ذلك الفعل جوازه" (5).   (1) ابن القيم: أعلام الموقعين 3/ 15، 16 وانظر أيضاً: القرافي: الفروق 4/ 55 م. (2) ق 96 ب. (3) المحقق لأبي شامة 41 أ. (4) شرح جمع الجوامع 2/ 96 (5) حاشيته على شرح جمع الجوامع 2/ 95 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وتوقف فيه ابن أبي شريف، مع ميله إلى الاحتجاج به، يقول: "عِظَم منصبه - صلى الله عليه وسلم - مع كونه وليّ كل مسلم، وأولى بكل مسلم من نفسه وأهله، الذين منهم الأب والجد، يقتضي أن لا يقِرّ الصبي المميّز على باطلٍ" (1). ثم قال: "والقلب إلى هذا أميل. ولعلّ الله أن يفتح بما يرفع التوقف أصلاً". الشرط السابع: أن لا يمنع من الإنكار مانع سوى ما تقدم. فإن وجد مانع صحيح أمكن إحالة الإقرار عليه، فلا يكون حجة. ودليل هذا الشرط تركه - صلى الله عليه وسلم - نقض الكعبة، للمانع الذي ذكره كما تقدم. ويستدل له أيضاً بما ورد (2) عن طفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها، "أنه رأى في ما يرى النائم كأنه مرّ برهط من اليهود، فقال من أنتم؟ قالوا: اليهود. قال: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله. فقالت اليهود: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. ثم مرّ برهط من النصارى فقال: من أنتم؟ قالوا: النصارى. قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وما شاء محمد. فلما أصبح أخبر بها من أخبر. ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره. فقال: هل أخبرت بها أحداً؟ قال: نعم. فلما صلّوا خطبهم، ثم قال: إن طفيلاً رأى رؤيا، فأخبر بها من أخبر منكم. إنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها. قال: لا تقولوا ما شاء الله وما شاء محمد". هذه رواية أحمد. وفي رواية ابن ماجه، قال: "أما والله إن كنت لأعرفها لكم، قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد". فأخبر أنه كان قد أقرّهم عليها، والظاهر أنه لم يكن نزل فيها شيء من الوحي صريح. وذكر الحياء في الحديث اختلفت فيه الروايات، فلا يؤخذ مسلماً.   (1) حاشية (المخطوطة) على شرح جمع الجوامع ق 175 أ. (2) رواه أحمد 5/ 72 واللفظ له وابن ماجه 1/ 684 مختصراً وقال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 ومن هذه الموانع أن يسكت - صلى الله عليه وسلم - في انتظار الوحي، ويعلم ذلك من حاله، فلا يكون سكوته قبل البيان حجة على انتفاء الحرج في الفعل. وجعل القشيري من هذا النوع (1) أن لا يكون - صلى الله عليه وسلم - مشتغلاً ببيان حكم من الأحكام، مستغرقاً فيه. فلو كان كذلك فرأى إنساناً على أمر ولم يتعرّض له، فلا يكون إقراره حجة، إذ لا يمكنه بيان جميع الأحكام دفعة واحدة. ونحن نقول: إن ما استدل به من عدم إمكان بيان جميع الأحكام دفعة واحدة حق. ولكن يمكن بيان الحكم بعد انتهائه مما هو بصدده، بل قد قطع - صلى الله عليه وسلم - خطبته يوم الجمعة ليقول لأحد القادمين: "اجلس فقد آذيت وآنيت" (2). ولكن لكلام ابن القشيري وجه من جهة أخرى. وهي أنه لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنساناً من الناس على حال سيئة وقد جمع من الجهل والمعاصي صنوفاً، فهل ينكرها عليه جميعاً أم يعتني بنهيه عن أكبرها ويتجاهل أصغرها فلا ينهى عنه، كما هو مقتضى الحكمة، وكما يشهد له تنزل الأوامر والنواهي الشرعية بالتدريج، حتى إن تحريم الربا والخمر، تأخر إلى أواخر العهد المدني؟ والظاهر أن الطريقة الثانية هي التي كان يسير عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أقر أهل الطائف على إسلامهم مع ترك الزكاة والجهاد (3)، فلم يكن ذلك حجة في جواز ترك الزكاة والجهاد. وخلاصة هذه الشروط ما قال أبو شامة: "حاصل ضبط هذا الباب أن نقول: كلّ فعل أقَرَّ عليه، ولا مانع من الإنكار، أفاد جوازه، إلاّ في ما علم من دينِه إنكاره أبداً، كأديان الكفرة، فإن سكوت لا أثر له" (4).   (1) البحر المحيط للزركشي 2/ 257 ب. (2) المحقق ق 41 ب. (3) أبو داود 8/ 265 وأحمد 4/ 218 ولفظ أبي داود من رواية جابر "اشترطت (ثقيف) على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا صدقة عليها ولا جهاد وإنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يقول: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا". (4) المحقق ق 41 ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 المبحث الرّابع أنواع التقرير ودلالة كُلٍّ منها أنواع التقرير: التقرير على أنواع: أ- الإقرار على الأقوال، ومنه ما روى أحمد في قصة ماعز: أنه اعترف بالزنا أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً، كل ذلك يرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال له أبو بكر: "إنك إن اعترفت الرابعة رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (1). احتج به الحنفية والحنابلة على أن العدد معتبر به في الإقرار بالزنا، من جهتين: الأول: أن ذلك مما علمه أبو بكر من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثانية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّ ذلك، ولم يُخَطِّئ قائله. ب- الإقرار على الأفعال. ومثاله، إقراره خالد بن الوليد على أكل لحم الضب. ومن الإقرار على الفعل الإقرار على الترك، كما نقل (2) أن عمرو بن العاص تيمّم من الجنابة في ليلة باردة وصلّى بأصحابه، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قال له: "صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " قال: ذكرت قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} فتيممت ثم صليت، "فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً". فلم يأمره بالإعادة، فكان ذلك إقراراً منه على ترك الإعادة.   (1) أحمد (نيل الأوطار 7/ 100). (2) أحمد وأبو داود (نيل الأوطار 1/ 280). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 الأحكام التي تدل عليها التقارير : 1 - الإقرار على الأقوال: إن إقراره - صلى الله عليه وسلم - أحداً على قول ما، ينقسم، بحسب المقَرّ عليه، قسمين: أولهما: ما يتعلق بشؤون الدين أصوله أو فروعه، وما ينبني عليه تشريع. فتقريره عليه يدل على صحته. وقيل لا يدل، لاحتمال الاكتفاء ببيان سبق. وهذا مردود، لأن سكوته عليه يوهم صحته وتغيير الحكم السابق. ثم إن كان القول إخباراً عن الشرع، دلّ على أن الشرع كذلك، كما تقدم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قوله: "إن أقررت أربعاً رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وإن كان القول مظنة أن ينهى عنه فلم يفعل، أوأن يحكم فيه بحكم معيّن كإيجاب الحدّ أو التعزير فلم يحكم به، دلّ على جوازه، أعني جواز القول وانتفاء ذلك الحكم في حقه. ومن هذا إقراره - صلى الله عليه وسلم - شعراءه على الغزل والتغني بذكر النساء (1)، كقول حسان: كان سبيئةً من بيتَ رأسٍ ... يكون مزاجَها عسلٌ وماءُ على أنيابها أو طعم غضٍ ... من التفّاح هَصّرَه اجتناءُ وذكر فيها الخمر أيضاً، فقال: ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأُسْداً ما يُنَهْنِهُهَا اللقاء وقول كعب بن زهير: وما سعادُ غداةَ البين إذ رحلُوا ... ألا أغَنُّ غضيضُ الطرفِ مكحولُ   (1) ابن القيم: إعلام الموقعين 2/ 370 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 يرى ابن القيم أنه - صلى الله عليه وسلم - أقرّ ذلك منهم، لكونه جرياً على عادة الشعراء في مطالعِ قصائدهم مما يذكرونه لجلب انتباه السامعين واستثارة نشاطهم ليتوصل الشاعر إلى إلقاء ما يريده إليهم، وتحصيل الأثر النفسي المطلوب لديهم. ولا يتمّ هذا القول، في شأن الخمر خاصة، ما لم يثبت أن قول حسان المذكور كان بعد نزول آية تحريم الخمر. والثاني: ما كان قولاً في شؤون الدنيا، والأمور المغيبة عنه - صلى الله عليه وسلم -. والتقرير عليه لا يدل على صدق الخبر وثبوت مدلوله. بل قد يَطّلع الله ورسوله على كذب ذلك القائل، كما أطلعه على كذب المنافقين في قولهم: {نشهد إنك لرسول الله} وقول كبيرهم: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} وقد لا يطلعه عليه. وهذا قول الآمدي وابن الحاجب وكثير من المتأخرين. وقيل إن التقرير عليه يدل على صدقه لا محالة (1) وأنه لا بدّ أن يُطلع الله رسوله على كذب المخبِر، عصمةً له أن يقرّ أحداً على الكذب. وبه قال السبكي في جمع الجوامع. والقول الأول أصح، لأن إدعاء العصمة عن هذا عريٌّ عن البرهان، إذ لا يستلزم نقصاً بعد أن أمر الله تعالى نبيه أن يعلنها صريحة {ولا أعلم الغيب} ولأنه قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقر على النبي ثم يتبين أنه مخالف للواقع، كإفطارهم في رمضان ثم طلعت الشمس. وينبغي أن يحمل على هذا (2) النوع إقراره - صلى الله عليه وسلم - عمر على حلفه عن ابن صياد إنه الدجّال، ثم تبيّن أنه ليس إياه. وقد قال ابن دقيق العيد في (الإمام) (3): "الأقرب عندي أن سكوته - صلى الله عليه وسلم - لا   (1) انظر السبكي: جمع الجوامع 2/ 127 - 129 (2) عبد الجليل عيسى: اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص 167 (3) البحر المحيط للزركشي 2/ 258 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 يدلّ على المطابقة، لأن مأخذ المسألة ومناطها، أعني كون التقرير حجة، هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة" (1). اهـ. 2 - الإقرار على الأفعال: إن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً على فعل، يدلّ على أن لا حرج في ذلك الفعل. وذلك يصح في الفعل إذا انتفى أن يكون حراماً. فإن الحرام هو الذي يأثم فاعله ويعصي به، وهو المنكر الذي أمر - صلى الله عليه وسلم - بإنكاره. فما أقرّ عليه إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً. وأما المكروه، فالمشهور عند الأصوليين أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يُقِر عليه. وذلك مشكل. ووجه إشكاله أن المكروه ليس معصية، بل يؤجر من تركه لله، وأما من فَعَله فلا إثم عليه. فليس هو معصية حتى يلزم النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكاره. هذا ما يبدو بادي الرأي. ولكن لما كان المكروه مطلوب الترك، وهو منهي عنه، فهو منكر من هذه الناحية. فلا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكاره وإن لم يكن معصية. وإنما يرفع الحرج عن فاعله بعد أن يقع، أما قبل وقوعه فهو يستحق النهي عنه كالمحرمات. والحاصل أن المنكر الذي يستحق الإنكار، أعمّ من المعصية. ويقول الشاطبي: "المكروه غير داخل تحت ما لا حرج فيه، لأن المراد بما لا حرج فيه هنا ما قبل الوقوع. ولا شك أن فاعل المكروه مصادم للنهي بحتاً كما هو مصادم في الفعل المحرم، ولكن خفة شأن المكروه، وقلة مفسدته، صيرته -بعدما وقع- في حكم ما لا حرج فيه، استدراكاً له من رفق الشارع بالمكلف. ومما يتقدمه من فعل الطاعات، تشبيهاً له بالصغيرة التي يكفّرها كثير من الطاعات" (2).   (1) (الإمام) لابن دقيق شرح (الإلمام في أحاديث الأحكام) من خير ما كتب ابن دقيق العيد. وقد أثنى الزركشي على (الإمام) جداً، وقال: (به ختم التحقيق في هذا الفن) يعني فن أصول الفقه، لما أورد فيه من التحقيقات الأصولية. ويظهر أن الإمام مفقود الآن. (2) الموافقات 4/ 67، 68 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 هذا وقد أثبت الشاطبي (1) نوعاً من الإقرار لا يدل على الإباحة الصرفة. وهو أن يقر أحداً على شيء ثم يتنزه عنه هو، كإقراره عائشة على بيان بعض شأن الحيض للمرأة السائلة وتركه هو - صلى الله عليه وسلم -. وكإقراره بعض شأن الليل والغناء مع إعراضه عن سماعه. والذي يظهر من كلام ابن حزم أنه يرى جواز الإقرار على المكروه، فإنه يقول: "الشيء إذا تركه - صلى الله عليه وسلم - ولم ينهَ عنه ولا أمر به، فهو عندنا مباح أو مكروه، من تركه أُجِر، ومن فعله لم يأثم ولو يؤجر، كمن أكل متكئاً، ومن استمع زمارة الراعي. فلو كان ذلك حراماً ما أباحه لغيره، ولو كان مستحباً لفعله، فلما تركه كارهاً له كرهناه ولم نحرمه" (2). ويقول أيضاً: "إن كان قد تقدم في ذلك الشيء نهي فقط ثم رآه - صلى الله عليه وسلم - أو علمه فأقره، فإنما ذلك بيان أن ذلك النهي على سبيل الكراهة فقط" (3). وجعل منه إقراره - صلى الله عليه وسلم - لصحابته على الصلاة خلفه وهم قيام وهو جالس، وكان قد نهاهم عن ذلك. هذا وإن من مشكل التقارير ما روى البخاري، واللفظ له، ومسلم، عن أم عطية، قالت: بايعْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ علينا: {أن لا يشركن بالله شيئاً} ونهانا عن النياحة. فقبضت امرأة يدها، فقالت: أسعدَتْني فلانة، فأريد أن أجزيها، فما قال لها النبي شيئاً -وفي رواية مسلم قالت: إلاّ آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بدّ لي أن أسعدهم. قال: إلاّ آل فلان- فانطلقت ورجعت، فبايَعَها. فظاهره أنه أذن لها في المحرم. وقد اختلف تخريج العلماء له، فمنهم من تخلّص بأنه خاص بتلك المرأة. ومنهم من قال: أذن لها في البكاء دون صوت. ومنهم من قال: ليست النياحة   (1) الموافقات 4/ 72 (2) الإحكام ص 484 (3) الإحكام ص 437 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 محرمة بل مكروهة. وقال ابن حجر: "الأقرب أن النياحة كانت مباحة، ثم كرهت كراهة تنزيه، ثم حرّمت" (1). والأولى عندي أن يقال: إن بعض المكروهات ينتقل بالبيعة عليه إلى التحريم على المبايع. إذ لو كان الحكم قبل البيعة كالحكم بعدها لما أخرت البيعة إلى أن انقضت مهمتها. وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع بعض أصحابه: "أن لا يسألوا الناس شيئاً" فيصح قول من قال: النياحة مكروهة لغير المبايعات. وإنما يصح هذا على قول من يجيز الإقرار على المكروه. والله أعلم. كيفية معرفة حكم الفعل المقرّ عليه: إن ما أقرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه غيره، يعيّن حكمه على الطريقة التي تقدمت في الأفعال الصريحة. فإن كان الفعل امتثالاً لإيجاب فأقرّه على صفة معينة، فإن الإقرار يدل على الإجزاء، على تلك الصفة، ومثاله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه (2) بعد انصراف الأحزاب: لا يصلينَّ أحد منكم العصر إلّا في بني قريظة. فأدرك بعضَهم العصرُ في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي حتي نأتيهم. وقال بعضهم بل نصلّي ولم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنِّف واحداً منهم". فهو دليل على أن ما فعَلوا كان سائغاً لهم. وقد اختلف في علّة هذا التقرير. وقال السهيلي: "فيه دليل على أنه لا يعاب الأخذ بالظواهر، ولا على من استنبط من النصّ معنىً يخصصه" (3). وإن كان الفعل امتثالًا لاستحباب، دلّ على الصحة كذلك. وإن لم يتبيّن فيه أنه امتثال نُظِر فيه، فإن كان على وجه التعبّد، دلّ على صحّة التعبّد بذلك الفعل، فإن التعبّد توقيفي، ولا يجوز التعبّد بما لم يشرع التعبّد   (1) انظر: فتح الباري 8/ 639 (2) البخاري 7/ 408 (3) فتح الباري 7/ 409 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 به، كالإختصاء مثلاً. قال سعد بن أبي وقاص: "ردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتّل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا" (1) وكالقيام في الشمس لله، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) عنه أبا إسرائيل. ولا يجوز حمل التعبّد المقَر عليه، من هذا النوع، على مرتبةٍ أعلى من الاستحباب. وإن لم يكن على وجه التقرب به لله، وجب حمل الفعل على الإباحة. ومن ذلك ما أقرّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه من البيوع والإجارات والشركات والوكالات، والضرب في الأرض والصيد، والاحتشاش، وغير ذلك. وكأنواع المآكل التي رآهم يأكلونها. والملابس والهيئات التي كانوا يتخذونها، إلى غير ذلك. وقد قال الزركشي في البحر المحيط: "إذا تضمّن التقرير رفع الحرج فهل يحمل على الإباحة، أو لا يقضى بكونه مباحاً أو واجباً أو مندوباً بل يتوقف فيه؟ " (3). قال: "ذهب القاضي (الباقلاني) إلى الثاني، وذهب ابن القشيري إلى الأول". والذي اخترناه فيما ليس على وجه القربة، هو القول الأول، وهو قول القشيري. أمّا الباقلاني فقد ذهب إلى الوقف كذلك في الفعل المجرّد، وقد سبق الردّ عليه فيه، فكذلك يُرَدّ عليه مذهبه في التقرير. ثم إذا تبيّن أن التقرير يدلّ على الجواز، فإن كان قد سُبِق بنهي عام. فإن التقرير يدل على نسخه أو تخصيصه، على ما يأتي في باب التعارض إن شاء الله. وقد يقال: إن هذه الأشياء على الإباحة، وهي الأصل، فلو لم يرد أنه - صلى الله عليه وسلم - أقرّ عليها بأعيانها لحكمنا بإباحتها، فما فائدة التقرير؟. وقد ذكرنا الجواب عن مثل هذا السؤال في باب الأفعال الصريحة (4)، فليرجع إليه.   (1) البخاري 9/ 117 ومسلم 9/ 176 (2) البخاري 11/ 586 وأبو داود ومالك. (3) ق2/ 256 ب. (4) انظر المطلب الثالث من الفصل السادس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 الإقرار على ما كان في الجاهلية واستمر في أول الإسلام : إنه من المعلوم أن كثيراً من العادات الجاهلية لم تنكر من أول الإسلام، بل بدأ إلغاؤها بالتدريج، الأهمّ فالأهمّ، حتى أكمل الله دينه، وتمّ تحريم ما أراد الله تحريمه منها. ومن ذلك الخمر، والزيادة على أربع زوجات (1). وقد قال ابن أبي هريرة: "يشترط كون التقرير بعد ثبوت الشرع، وأما ما كان يقر عليه قبل استقرار الشرع حين كان داعياً إلى الإسلام فلا" (2). ومبنى قوله هذا أن الإقرار يدل في الأمور العادية على الإباحة الشرعية. فإن قلنا بأنه يدل على الإباحة العقلية وأن المسألة خالية عن حكم شرعي بالتحريم أو الكراهة، فلا حاجة إلى هذا الشرط، وهو الصواب. والله أعلم. 3 - الإقرار على الترك: يدل إقرار الترك لعبادة ما على عدم وجوبها، فإن أقرّ فرداً ما على تركها، دلّ ذلك أنها ليست واجباً عينيّاً، مع احتمال أنها فرض كفاية، كما لو أقر إنساناً على ترك صلاة العيد. وإن أقر جماعةَ بلدٍ أو قبيلة أو غير ذلك على ترك عبادة، دل على أنها ليست فرض عين ولا فرض كفاية. وقد أقر أهل البوادي على ترك إقامة الجمعات والأعياد، فدلّ ذلك عند العلماء على أنها غير واجبة عليهم. ومن باب الإقرار على الترك ما ذكر ابن تيمية في (القواعد النورانية) (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع أمرهم بالإتمام، فقال: "يا أهل مكة أتِمُّوا صلاتكم فإنّا قومٌ سَفْر". وأما بمنى وعرفة ومزدلفة فلم ينقل أحد أنه أمرهم بذلك. قال ابن   (1) انظر: ولي الله الدهلوي: الحجة البالغة ص 270. محمد قطب: منهج القرآن في تطوير المجتمع. محمد أبو زهرة: أصول الفقه ص 48 (2) البحر المحيط للزركشي 2/ 257 ب. (3) ص 100 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 تيمية: "لو كان المكيّون قد قاموا فأتموا الظُّهر أربعاً، وأتموا العصر والعشاء أربعاً أربعاً، لما أهمل الصحابة نقل هذا". اهـ. وهذا يدل عنده على أنهم قصروا، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم، ورجّح بهذا مذهب أهل المدينة من أن للمكيين القصر بالمناسك بعذر النسك، على مذهب الشافعي وأحمد أنهم لا يقصرون. وعندي أن مذهب الشافعي وأحمد أصح، وذلك من حيث إن ترك النقل ليس نقلًا للترك، كما تقدم بيانه في فصل الترك. وأيضاً فإن الشرع كان قد استقرّ على أن غير المسافر لا يقصر، وأهل مكة بالنسبة إلى المناسك ليسوا في حال سفر. وأيضاً لما أمرهم بالإتمام أول مرة عُلِمَ الحكم، فلا يلزم تكرار البيان. والله أعلم. تنبيه: يجب أن يفرق بين دلالة التقرير على جواز الفعل وصحته من حيث الظاهر، وبين دلالته على ذلك من حيث باطن الأمر، فإن الأول لازم للتقرير دون الثاني. وقد ورد من حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت: "أفطرنا على على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم، ثم طلعت الشمس" (1). وتخاصم إليه رجلان في أرض فقال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ... " الحديث. ويشهد له أنه - صلى الله عليه وسلم - قُرِّب إليه لحم الضب فأراد أن يأكل منه، فقيل له: إنه لحم ضبّ، فأمسك عنه. وتقدّم مثل هذا في بحث العصمة من باب الأفعال الصريحة. وقد قال أبو الحسين البصري: "نقل عن عبد الجبار: إذا أباح إنسان   (1) البخاري (فتح الباري ط الحلبي 5/ 102) وأبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل طعامه، فاستباح النبي - صلى الله عليه وسلم - أكله، فإنه لا يدلّ على أنه مِلْكُه لا محالة، لأنه يكتفي في استباحة الأكل بظاهر اليد" (1). اهـ. تنبيه أخر: لو تحدَّث متحدث أمامه - صلى الله عليه وسلم -، عن إنسان فعَل فِعْلاً أو قال قولاً، وذلك الفاعل أو القائل ممن كان قد مات، أو كان كافراً عند فعله فأسلم، أو لا يزال كافراً، أو غير ذلك، ممن لا يؤثِّر الإنكار عليه تركاً للمعصية، فإن الإنكار والبيان لا يجب. وبالتالي لا يكون الإقرار عليه حجة. ومن هذا يتبيّن أن ما كان يَرِد في ما يحدّث الصحابة به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يحدّث بعضهم بعضاً أمامه، عمّا حصل له في الجاهلية أو لغيرهم، فلا يكون حجة لحكم شرعي. ومن ذلك إخبار سلمان الفارسي بقصة تنصره وأسره ورقّه، وما حصَل له أثناء ذلك.   (1) المعتمد 1/ 387 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 المبحث الخامس تعدية حكم التقرير لغير المقرر تبيّن مما تقدّم من هذا الفصل أن من أقرّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعل فإن تقريره دليل على ارتفاع الحرج بالنسبة إلى فاعل ذلك الفعل. وعلى ذلك اتفاق الأصوليين (1). فأما من سواه، فقد اختلف الأصوليون في تعدية ذلك الحكم إليهم. والبحث في هذا ينقسم قسمين، لأنه إما أن يسبق تحريمه، فيتعارض القول والتقرير. ونذكره في باب التعارض إن شاء الله. وإما أن لا يسبق تحريمه؛ فهذا القسم ذهب جمهور الأصوليين إلى أن حكمه يتعدّى. ووجهه قاعدة استواء الأمة في الأحكام. وقد ادّعى بعض الأصوليين الإجماع على هذه القاعدة، وليس الإجماع عليها ثابتاً. وأيضاً قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما قولي لامرأة واحدة إلاّ كقولي لمائة امرأة" (2). والسكوت عن الإنكار في حكم الخطاب، والخطاب يعمّ. ومما يؤيّد ذلك أن خطابه - صلى الله عليه وسلم - للصحابة في عصره يتعدّى إلى سائر المسلمين بعد عصره إجماعاً. فكذلك تقريره.   (1) العلائي: تفصيل الإجمال ق 68 أو نقله عن القشيري. (2) الترمذي والنسائي واللفظ له من حديث أميمة بنت رفيقة. وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخي بإخراجها لثبوتها على شرطهما (المقاصد الحسنة ص 193). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وممن صرّح بتعدي حكم التقرير لغير المقرر أبو المعالي الجويني، وأبو نصر القشيري، والمازَري، وأبو شامة، والعلائي (1). ونقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني (2) أن الحكم يختصّ بالمقرّر ولا يتعدّى إلى غيره، ووجهه أن التقرير ليس له صيغة لتعمّ جميع المكلفين. والأولى أن يقال: إن شموله لغير المقرّر بضرب من القياس، وليس بطريق العموم اللفظيّ. وقد تقدّم آخر الفصل السابع من باب الأفعال الصريحة ما يغني، فليرجع إليه. تنبيه: تعدية حكم الفعل المقرّر عليه إلى سائر أفراد الأمة، أقوى من تعدية حكم فعله هو - صلى الله عليه وسلم -، إلى غيره. وقد ذكر الجويني (3) أن الذين وقفوا في تعدية حكم الأفعال النبوية، وافقوا على تعدية أحكام الأفعال التي قرر عليها غيره. ووجه ذلك واضح، وهو أن ما فعله - صلى الله عليه وسلم - يرد عليه احتمال الخصوصيّة وهو احتمال يضعف التعدية، أما التقرير، فإن حمله على الخصوصية ضعيف جداً لا يكاد يستحق الذكر، لضآلة ما ثبت تخصيص أفراد الأمة به من الأحكام، كتضحية أبي بردة بالعناق، وجعل شهادة خزيمة بشهادة رجلين. ولذلك كان احتمال المساواة بين فاعل الفعل المقَرّ عليه وسائر أفراد الأمة، هو أقوى من احتمال المساواة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر أفراد الأمة. ودلالة التقرير، لذلك، أقوى من دلالة الفعل النبوي، من جهة التعدية خاصة. وليس معنى ذلك تقديم التقرير على الفعل عند التعارض. فإن الفعل أقوى منه، لزيادته في الوضوح والكمال، ولأن التقرير يطرقه من الاحتمالات ما لا يطرق الفعل. ونذكر ذلك في باب التعارض إن شاء الله.   (1) أبو شامة: المحقق 40، تفصيل الإجمال ق 68 أ. (2) أبو شامة: المحقق ق 40 أالعلائي: تفصيل الإجمال ق 68 أالسبكي: جمع الجوامع 2/ 96 (3) ابن تيمية: المسودة ص 32، ص 70 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 المبحث السادس في مسائل متفرقة المسألة الأولى: ذكر الأمر في أثناء القول هل يكون تقريرا ً: إذا ذكَر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراً في أثناء قولٍ له، ثم لم يقترن بذلك مدح ولا ذمّ، ولا إشعار برضاه بذلك الأمر، ولا إشعار بإنكاره له، فهل يكون ذلك تقريراً له بحيث يدل على أنه لا حرج فيه شرعاً؟. وليست هذه الدلالة قولية. ومثاله ما قصّه النبي - صلى الله عليه وسلم - من اغتسال موسى عليه السلام عرياناً حتى ذهب الحجر بثوبه. وقصّ عن أيوب عليه السلام أنه اغتسل عرياناً (1). وورد عن معاوية بن حيدة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " احفظ عورتك إلاّ عن زوجتك وما ملكت يمينك" فقيل له: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: "الله أحقّ أن يُستحيا منه من الناس" (2). وقد احتجّ البخاريّ بقصّة موسى عليه السلام على جواز الاغتسال مع التعرّي في الخلوة. واحتجّ بها ابن قدامة أيضاً (3)، وقال ابن حجر: يظهر أن وجه الدلالة منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصّ القصتين، ولم يتعقب شيئاً منهما، فدلّ على موافقتهما لشرعنا، وإلاّ لو كان فيهما شيء غير موافق لبيّنه، فيجمع بين الحديثين بحمل حديث معاوية على الأفضل. ومثاله أيضاً: ما ورد في خبر أم زرع الذي رواه البخاري، وفيه أن أم زرع قالت: "وأناس من حَلْي أذنيّ" استدلّ به بعض الفقهاء على جواز تخريق آذان البنات لتعليق الحلي، من حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتعقّب ذكره لذلك بإنكار.   (1) قصتهما في صحيح البخاري 1/ 384، 386 (2) حديث معاوية رواه البخاري 1/ 384 (3) المغني 1/ 231 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 والظاهر عندي أن ما قصّه - صلى الله عليه وسلم - عن الأنبياء، راجع إلى مسألة شرائع الأنبياء هل هي شرع لنا أم لا؟ ويُعلم بحثها في موضعها من كتب الأصول. وقد رجح الأكثر أن ما قصّه الله تعالى منها في كتابه دون إنكار، مما لم يخالفه شرعنا. أنه حجّة، فكذلك ينبغي أن يكون ما قصّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك حجة. وإنما حجّيته من كونه شريعة لنبيّ سابق، وقد أُمر محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بهداهم. أما ما كان في ضمن حديثه - صلى الله عليه وسلم - عن سائر الناس أنهم فعلوا كذا أو تركوا كذا فلا ينبغي أن يكون حجة على الجواز ما لم يقترن به دلالة على الرضا به من ثناء أو نحوه. وبهذا يتبيّن أننا لا نرتضي توجيه ابن حجر للاحتجاج بقصة أيوب وموسى عليهما السلام، بل وجهه ما أشرنا إليه من كونه موافقاً لشريعتهما، وشريعتهما لنا شريعة. وأننا لا نرتضي الاستدلال المذكور على تخريق آذان البنات. نوع آخر: مما يلتحق بما تقدم، استعماله - صلى الله عليه وسلم - بعض الألفاظ التي جرت عادة بعض الأقوام بإطلاقها من ألقاب أو تسميات. فمن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم". فوصفه بأنه عظيمهم. ومنها أنه قال في وصف الدجّال: "كأنه عبد العزّى بن قطن". فاستعمل هذا الاسم "عبد العزّى". فليس ذلك إقراراً لكون هرقل عظيم الروم. ولا بأنه وصل إلى ذلك بطريق مشروع. ولا إقراراً بجواز التسمية بـ "عبد العزّى" ونحوه. ويقول عبد الكريم زيدان: "إطلاق هذه العبارة على رئيس الروم من قبيل بيان واقعه، وهو أنه عظيم في نظر الروم، لرئاسته عليهم، وليس بياناً لاستحقاقه هذا الوصف" (1). اهـ. وقد قال ابن حجر في قوله: "عظيم الروم" عدول عن ذكره بالملك أو الإمْرَة لأنه معزول بحكم الإسلام. ومع ذلك لم يُخْلِه من شيء من الإكرام لمصلحة التألف.   (1) أصول الدعوة ص 344 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وقول ابن حجر هذا، فيه نظر، فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أناساً من أئمة الكفر كثيرين بألقاب الملك، وفي القرآن من ذلك أيضاً. فلم يكن ذلك اعترافاً لأحد منهم بشيء من الاستحقاق. فهي تعريفٌ لا اعتراف. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عظيم الروم" هو من هذا الباب. والله أعلم. ومع هذا، يستدلّ بمثل هذه الأحاديث من جهة أنها أفعال نبويّة يقتدى بها. فيجوز للمسلم المخاطبة بمثل هذه الألفاظ لأمثال هؤلاء. ولعل ذلك إنما يجوز حيث يتعيّن، ولا يكون هناك معرّف سواه، وذلك لما فيه من الإيهام. المسألة الثانية: السكوت على ما يوهمه القول الجائز : لو تكلّم متكلم بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلام ليس كذباً ولا إثم فيه، ولكن يلزم منه إساءة فهم حكم شرعي، فهل يجب عليه - صلى الله عليه وسلم - الإنكار، لئلا يسبق إلى الأذهان ما يخالف الحكم الشرعي؟. ويمثل لهذه القاعدة بقصة المتلاعنين، عويمر العجلاني وامرأته. وفيها أنه بعد تمام اللعان: "طلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -" (1). وسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوله هذا. فاحتجّ بعض الفقهاء بسكوته على لازم القول، وهو أن اللعان لم تقع به الفرقة، إذ لو وقعت به الفرقة لما كان للطلاق بعدها معنى. وهو قول الحنفية ورواية عن أحمد. والرواية الأخرى عنه وقول المالكية والشافعية أن الفرقة وقعت باللعان (2). ولعلّ جواب هؤلاء عن الحديث أنه لا يبعد أن يكون الأمر واضحاً للحاضرين والمتلاعنين أيضاً، أن الفرقة واقعة باللعان. ولذلك ترك الإنكار عليه. وقد أشار إلى هذا الجواب ابن دقيق العيد في شرح الإلمام (3).   (1) رواه الجماعة إلا الترمذي (نيل الأوطار 6/ 284). (2) المغني لابن قدامة 7/ 410 (3) البحر المحيط 2/ 258 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 المسألة الثالثة: الإقرار على الفعل الحادث، والفعل المستدام : الأفعال المحرمة، إما أن يحرم ابتداؤها ودوامها، أو يحرم ابتداؤها دون دوامها (1). فأما ما حرم ابتداؤه ودوامه فيلزم إنكاره على كل حال. كأكل الميتة، ولبس الذهب للرجال. والإفطار في رمضان. وأما ما حرّم ابتداؤه ولم يحرم دوامه، فمثل النكاح في حال الإحرام. ومن هنا، فإن التقرير إذا دلّ على ارتفاع الحرج، فإن ارتفاع الحرج يكون من جهة الدوام، مطلقاً. أما رفع الحرج عن الابتداء فقد لا يدلّ التقرير عليه. وعليه فلو أقرّ رجلاً عنده زوجة أمة وزوجة حرة، فلا يدلّ على جواز ابتداء زواج الأمة إذا كانت عنده حرة. وكذا لو أقرّ حرّاً تحته زوجة أمة وكان موسراً عند إقراره، لم يدلّ على جواز الابتداء. وقد ورد أن بعض نساء الصحابة كن يلبسن الأقراط، وذلك يعني خرق الأذن لأجل تعليق القرط. احتجّ ابن القيم (2) -بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ذلك فلم ينكره- على جوازه. وليس هذا حجة، لاحتمال أن يكون التخريق قد حصل في الجاهليّة فأقرّ - صلى الله عليه وسلم - دوامه. وروي في هذا الحديث أيضاً: "أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن عندي امرأة هي من أحبّ الناس إلي، وهي لا تمنع يد لامس، قال: طلقها إن شئت. وفي لفظ: غيِّرها. قال: إني أخاف أن تتبعها نفسي، وفي لفظ: لا أصبر عنها. قال: فاستمتع بها" (3). فهذا الإقرار لا يدل على جواز ابتداء العقد على مثل هذه (4).   (1) انظر قاعدة: "يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء" في (الأشياء والنظائر) للسيوطي ص 184 (2) تحفة الودود في أحكام المولود، دمشق، دار البيان1391هـ- ص 209 (3) النسائي في موضعين 6/ 66، 170 (4) إعلام الموقعين لابن القيم 4/ 384 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وأما الدوام، فقال بعضهم: يحتمل جواز الدوام لمن حدث لها ذلك بعد الزواج. والراجح أن الحديث ضعيف لا يثبت. قال النسائي: "هذا الحديث ليس بثابت". وقال في موضع آخر: "هذا خطأ، والصواب مرسل". وإن قيل بثبوته كما ادّعاه السِّندي، فهو مؤوّل بأن اللامس طالب الصدقة، ومو ما حمله عليه الإمام أحمد، أو مردود لمعارضته ما هو أثبت منه، كحديث ابن عمر مرفوعاً: "ثلاثة لا يدخلون الجنة، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق والديه، والمرأة المترجّلة المتشبهة بالرجال، والديّوث" (1). المسألة الرابعة: بين قاعدة الإقرار وقاعدة "لا ينسب للساكت قول" : قد نصّ الشافعي على أنه: "لا ينسب للساكت قول" (2). وهي لا تتعارض مع قاعدة الإقرار. فإن الإقرار قد قامت الأدلة على حجّيّته كما تقدم، وما نصّ عليه الشافعي قاعدة عامة يستثنى منها ما قام الدليل على أن القول ينسب للساكت، كسكوت البكر إذا استؤذنت في إنكاحها، فهو منها بمنزلة الإذن الصريح، لورود الدليل الدالّ على ذلك، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البكر تستأذن، وإذنها صُمَاتها" (3). فكذلك الإقرار مستثنى أيضاً. المسألة الخامسة: سعة دلالة التقرير : إن دلالة التقرير تنطبق على أفعال لا حصر لها. وذلك لكثرة ما كان يقع تحت ناظريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأفعال، وما يطرق سمعه من الأقوال من أصحابه، في أثناء مباشرتهم لأمور حياتهم وعبادتهم ودراستهم ونقاشهم وجهادهم وسفرهم وإقامتهم. فلذلك شيء كثير لا حصر له. ومن هنا يتبيّن أن التقارير في الحقيقة هي   (1) أحمد 2/ 134 واللفظ له. والنسائي 5/ 80 وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. (2) السيوطي: الأشباه والنظائر ص 142 (3) البخاري 12/ 340 ومسلم وأصحاب السنن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 الجزء الأكثر من السنة. وما عداه بالنسبة إليه لا يساوي إلا قدراً ضئيلاً. ولكن ما نقل من التقارير إلينا قليل جداً نسبياً. والذي نقل من الأقوال والأفعال أكثر منه بكثير. وبالنسبة إلى الصحابة، كان التقرير نوعاً من التعليم الصامت للشريعة، فَعَل فِعْلة في توسيع مدارك صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحكم على الأفعال والأشياء، حتى لنعتقدُ أن المعلومات التي حصلت لديهم من هذا الباب، كانت أوسع من أن تنقل بالتنصيص عليها. وإنما يمكن أن تنقل بالأقوال العامّة. أو بتلمس العلماء في ما بعد عصر الصحابة، أحكامها، بالأقيسة وغيرها من الأدلة القوية والضعيفة. وهذا يكشف لنا عن جانب من جوانب قوة علم الصحابة بالشريعة، ويقوي قول من قال بأن أقوالهم في شؤون الدين حجّة لازمة. المسألة السادسة : ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أمثلة كثيرة للأفعال التي أقرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عليها. فمن ذلك إقراره لهم على تلقيح النخل، وعلى تجاراتهم التي كانوا يتّجرونها، من تجارة الضرب في الأرض، وتجارة الإدارة، وتجارة السَّلَم، وكإقراره لهم على صنائعهم المختلفة، من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة، وإنما حرّم عليهم فيها الغش والتوسل بها إلى المحرمات، وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة وذكر أيام الجاهلية والمسابقة على الأقدام، وكإقرارهم على المناهدة في السفر، وعلى الخيلاء في الحرب ولبس الحرير فيه، وعلى لبس ما صنعه الكفار من الثياب، وعلى إنفاق ما ضربوه من الدراهم، وربما كان عليها صور ملوكهم، وكإقراره لهم بحضرته على المزاح المباح، والنوم في المسجد، وشركة الأبدان. وكإقراره لهم على ما بأيديهم من الأموال التي اكتسبوها قبل الإسلام بربا أو بغيره، ولم يأمرهم بردها ... إلخ (1).   (1) إعلام الموقعين لابن القيم. بيروت، دار الجيل، بالأوفست عن طبعة القاهرة بتعليق طه عبد الرؤوف سعد 2/ 387 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الفصل السابع الهمّ بالفعل إن الإنسان إذا أراد أن يفعل فعلاً ما، فإن ما يرد بباله من الفكر عن ذلك والإرادة له، ينشأ ضعيفاً، ثم يتقوّى حتى يحمل صاحبه على إخراج الفعل إلى حيّز الوجود. وقد يتوقف عند بعض المراحل. وقد بيّن السبكي الكبير (1) في الحلبيّات، انقسام ذلك إلى درجات خمس. ونحن نذكرها تبعاً له ونبيّنها كما يلي: 1 - الهاجس: وهو ما يُلقى في النفس دون قصد. والهاجس لا يستمرّ، بل إنما هو كومضة الضوء. وقد قال ابن سيدة: "هَجَس الأمر في نفسي: وقع في خلدي". وفي لسان العرب ما ينبئ عن قصر وقت الهاجس، وسرعة انقضائه، وخفاء مضمونه، وذلك أنه ذكر الهَجْس في الأصوات، فقال: الهجسة: النبأة تسمعها ولا تفهمها. 2 - الخاطر: وهو أن يجري في النفس ويتردد فيها. وهو أطول من الهاجس زمناً، وأوضح منه. وأصله من قولهم: خطر البعير بذنبه، إذا رفعه مرة بعد أخرى. وقيل: إذا حركه يميناً وشمالاً. وخطر بالسيف إذا حرّكه كذلك (2). 3 - حديث النفس: وهو أن يقع في النفس الرغبة في أن يفعله، والرغبة في أن لا يفعل. فهو يتردد بين الأمرين لاشتبهاهما، ويحدّث نفسه كالمستشير.   (1) انظر المسألة في (الأشباه والنظائر) للسيوطي ص 33 وذكرها البناني في حاشية جمع الجوامع 2/ 432 (2) لسان العرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 4 - الهمّ: وهو أن يترجّح عنده قصد الفعل على قصد الترك. قال الحماسي: إذا همَّ ألقَى بين عينيه عزمه ... ونكبّ عن ذكر العواقب جانباً فالهمّ قبل العزم. ثم قد يعدل عما همّ به لخطور أمر آخر بباله يرجح الترك. وقد يعزم. 5 - العزم: وهو قوة قصد الفعل وانعدام قصد الترك، وذلك بعد أن يكون التردد قد انتهى ولم يبق إلا الاستعداد وإمكان الفرصة. قال الله تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله}. وقال الليث: العزم ما عقد عليه قلبك من أمرٍ أنك فاعله. وقد بيّن في المواقف وشرحه العزم، بما يجعله هو والهمّ شيئاً واحداً، قال: "العزم هو جزم الإرادة، بعد التردّد الحاصل من الدواعي المختلفة المنبعثة من الآراء العقليّة، والشهوات والنفرات النفسانية. فإن لم يترجح أحد الطرفين حصل التحيّر، وإن ترجح حصل العزم". قال: "والعزم قد يكون سابقاً على الفعل" (1). ثم قد يعدل عن الفعل لطروء أمر خارجيّ لم يكن قد حسب حسابه، أو لأمر ذكره كان له ناسياً. وقد ينحلّ عزمه لا لشيء. تقول العرب: "فلان ما له عزمة ولا عزيمة". أي لا يثبت على أمر عزم عليه. وهذه الألفاظ الخمسة ليست في الاستعمال متباينة تمام التباين وقد يستعمل أهل اللغة بعضها في مكان بعض. ثم إن المرتبتين الأوليين، إذا وقعتا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا دلالة فيهما قط. لأنهما من قبيل الفعل الجبليّ غير الاختياري. فإنهما يردان على النفس دون قصد. وأما حديث النفس، فإنه لأجل ما فيه من التردّد بين الأمرين، وعدم الميل إلى أحدهما، لا يعتبر دليلاً شرعياً.   (1) 6/ 133 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وإنما تكلّم الأصوليون في الهم والعزم منه - صلى الله عليه وسلم -. ونحن نجعل القول فيهما واحداً لتقاربهما وعسر الانفصال بينهما، حتى إن بعض أهل اللغة قال: الهم هو العزم (1). وهذان النوعان هما فعلان نفسيان، ومن هنا دخلا في موضوع هذه الرسالة. هل الهمّ بالشيء حجة؟: إذا همّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشيء ولم يفعله، ففي دلالته على مشروعية فعل ذلك الشيء قولان: الأول: أن ما همّ به حجة. وقد جعله الزركشي أحد أقسام السنة. قال: ولهذا استحبّ الشافعي في الجديد للخطيب في الاستسقاء مع تحويل الرداء تنكيسَه، بجعل أعلاه أسفلَه، محتجاً بـ "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها. فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه" (2). قال الشافعي بعد أن ذكر الحديث: "وبهذا أقول، فنأمر الإمام أن ينكّس رداءَه فيجعل أعلاه أسفله، ويزيد مع تنكيسه فيجعل شقّه الذي على منكبه الأيمن على منكبه الأيسر، والذي على منكبه الأيسر على منكبه الأيمن، فيكون قد جاء بما أراد رسول الله من نكسه، وبما فعل من تحويله" (3). اهـ. وقال الشوكاني: قال الشافعي ومن تابعه إنه يستحب الإتيان بما همّ به - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا جعل أصحاب الشافعي الهمّ من جملة أقسام السنة، وقالوا يقدم القول ثم الفعل ثم التقرير ثم الهمّ. الثاني: أن الهمّ ليس بحجة. وممن ذهب إلى ذلك الشوكاني. قال: "الحق أن الهمّ ليس من أقسام السنة" قال: "لأنه مجرّد خطور شيء على البال من دون تنجيز له. وليس ذلك مما آتانا الرسول، ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسيّ به فيه" (4)   (1) فتح الباري 11/ 328 (2) البحر المحيط 2/ 259 ب. (3) الذي ذكره الزركشي معنى ما قال الشافعي، ونحن نقلنا النص من (الأم) للشافعي 1/ 251 (4) إرشاد الفحول ص 41 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 ونحن نقول وبالله التوفيق: إن الهمّ بالشيء أمر نفسي لا يظهر لنا إلاّ بإحدى طريقتين" إما أن يخبرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإما أن يقدم على الفعل فيحول بينه وبينه حائل فيتركه. الطريق الأولى: أن يخبرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحينئذٍ فلا يخلو من أحوال. 1 - إما أن يخبرنا به على سبيل الزجر عن عمل معين. فيدلّ على تحريم ذلك العلم أو كراهته، بدلالة القول، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام. ثم آمر رجلاً فيؤمّ الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار" (1). دلّ ذلك على وجوب حضورها، وتحريم التخلف عنها، وهي دلالة قولية، من حيث إنه بيّن بقوله ما يفيد أن ما فعلوه هو ذنب. وكذلك حديث: "إنه - صلى الله عليه وسلم - رأى في بعض مغازيه امرأة مجخّاً على باب فسطاط. فقال: لعلّه يريد أن يلمّ بها؟ قالوا: نعم. قال: لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره، كيف يستخدمه وهو لا يحلّ له، أم كيف يورثه وهو لا يحلّ له؟ ". أما المختلف فيه فهو أن يدل الهمّ على مثل ما يدل عليه الفعل لو فعله. فهل يجوز تحريق المتخلفين، ولعن من أراد أن يفعل كفعل صاحب تلك المرأة؟ هذا موضع الإشكال. وهذا النوع يلتحق من هذه الجهة بالهم المجرّد الآتي ذكره. 2 - وأما أن يخبرنا بهمّه مبيّناً لنا أنه ترك ما همّ به وعدل عنه لأنه تبيّن له أن الداعي له غير صحيح، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكر لي أن فارس والروم يغيلون فلا يضر ذلك أولادهم" (2). والحكم في هذا النوع واضح. 3 - وإما أن يخبرنا بأنه ترك الفعل اكتفاء بغيره من الدلالات. ولا شكّ في   (1) حديث أبي هريرة رواه البخاري 2/ 152 (2) الغيلة وطء المرضعة. والحديث رواه مسلم ومالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 حجية هذا النوع. ومنه حديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر فأعهد، أن يقول قائلون أو يتمنى المتمّون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون" (1). 4 - وإما أن يخبرنا بأنه همّ بالشيء ولم يفعله، دون زيادة. وهو الهمّ المجرّد. ومثاله حديث: "لقد هممت أن لا أتّهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي" (2). قولنا في ذلك: الظاهر أن الهمّ لا يدلّ على مثل ما يدل عليه الفعل لو فعله. فما قال الشوكاني من أن: "الهمّ ليس تنجيزاً للفعل" صحيح، وينبغي أن يعتمد. فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يُخْرِج ما همّ به إلى حيّز الوجود، فيحتمل أن تكون هناك موانع شرعية منعته من ذلك، أو أنه - صلى الله عليه وسلم - وجَد السبب أقلّ من أن يكون كافياً لبناء الحكم عليه. فلا يتمّ القول بأن الهمّ المجرد أقسام من أقسم السنة. وعليه فإن استدلال البخاريّ وابن حجر وابن العربي بحديث الهمّ بتحريق المتخلفين على بعض الأحكام، فيه نظر، ومن ذلك ما بوّب عليه البخاريّ: (باب إخراج أهل الرَيب من البيوت بعد المعرفة) (3) وما قال ابن حجر: "فيه من الفوائد جواز العقوبة بالمال ... وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة ... واستدل به ابن العربي وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاوناً بها ... وفيه الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفي في بيته ويتركها، ولا بعد أن تلحقه في ذلك الجمعة ... واستدل به ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية كما هو مذهب مالك" (4). وأما تبويب البخاري على الحديث في موضع آخر: "باب وجوب صلاة   (1) حديث عائشة: "لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر ... " انفرد به البخاري. (2) حديث: "لقد هممت أن لا أتهب ... " رواه أحمد: المسند، تحقيق أحمد شاكر 4/ 240 وقال: "قال في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، ونسبه ابن حجر في التلخيص إلى ابن حبان في صحيحه". (3) فتح الباري 13/ 215 (4) المصدر نفسه 2/ 130 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 الجماعة" (1) فهو مأخوذ من الدلالة القولية. وهو استدلال صحيح، والنظر إنما هو في التعارض بينه وبين غيره من الأدلة. الطريق الثانية: إن يحول بينه وبين الفعل حائل جعله يترك الفعل بعد أن عالجه. وهذا النوع هو الذي قال فيه الشافعي ما قال، واعتبره حجة. ذكر ذلك في باب صلاة الاستسقاء من (الأم) كما تقدم. فجعل قلب الرداء أعلاه أسفله سنة. وقد أبى ذلك جمهور الفقهاء في هذا الفرع. منهم المالكية والحنابلة (2). وانفصل ابن قدامة عن دلالة الحديث باحتمال خطأ الراوي. وأنه يبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك في جميع الأوقات لثقل الرداء. ومن أمثلته أيضاً حديث: " أنه - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بضبٍّ محنوذ فأهوى بيده ليأكل، فقيل: أخبِروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل. فقيل: ضب. فرفع يده" (3). ففيه دلالة على جواز الإقدام على أكل ما لا يعرفه، إذا لم يظهر فيه علامة التحريم. قولنا في ذلك: إن هذا النوع عندنا أعلى من النوع الذي قبله، لأن المانع خارجيّ، والمباشرة قد وقعت. فالقول بأنه من أقسام السنة لا يستبعد. والتفريق بين النوعين واضح. فإن هذا النوع في حقيقته من أقسام العزم. والعزم أعلى أنواع الهمّ. وينبغي حمل كلام الشافعي على هذا النوع خاصة، خلافاً للزركشي الذي جعل مذهب الشافعي أن الهمّ مطلقاً من السنة. ولا يعني هذا أننا نأخذ بما قال الشافعي رضي الله عنه من القول بتنكيس الرداء، وذلك لما قاله ابن قدامة، ولما ورد في الحديث: "فحوّل الناس أرديتهم". فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم، الحاضرون معه في تلك الصلاة تابعوه فتركوا ما هم به وتركه، فأولى أن يتابعه من بعدهم. ولعلّ هذا الفعل خاصة كان مطلوباً على الصفة التي فعلها هو - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلى وأعلم.   (1) المصدر نفس 2/ 125 (2) ابن قدامة: المغني 2/ 435 (3) البخاري 9/ 542 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الفصل الثامن الملحقات بالأفعال النبوية ينتسب إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - أمور سوى الأقوال والأفعال المنتمية إلى منصب النبوة، فيحسن النظر فيها من حيث دلالتها على الأحكام، ليكون البحث مستوفى. والأمور التي نعنيها هنا، هي أفعاله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، وشمائله النفسية، وفعله في المنام برؤياه هو أو برؤيا غيره. وما فعل به - صلى الله عليه وسلم - بعد الوفاة. فنعقد لكل من ذلك مبحثاً، ونتبعها بمبحث في أفعال الله عز وجل. ومبحث في تقريره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 المبحث الأوّل أفعاله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة كانت بعثته - صلى الله عليه وسلم - حداً فاصلاً بين عهدين: عهد كان فيه بشراً كسائر البشر غير متميّز عنهم بشيء، ولم يطالَب أحد من معاصريه بأن يقتدي بشيء من قوله أو من فعله، فهو يسير بينهم واحداً منهم؛ وعهدٍ آخر كان فيه رسولاً من الله للعالمين. وقد اختلف الأصوليون هل كان - صلى الله عليه وسلم - في العهد الأول متعبّداً بشرع سماويّ؟. فمنهم من أثبت ذلك، ونسب القرافي هذا المذهب إلى الإمام مالك (1). ومنهم من نفاه، ونسبه ابن الهمّام إلى المالكية والمتكلّمين، فمنعته المعتزلة، وقال الباقلاني يجوز ولم يقع (2). وهي مسألة يتداولها الأصوليون. ولكن قال القرافي: "قال المازري وإمام الحرمين: هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع ألبتة، بل تجري مجرى التواريخ. ولا ينبني عليها حكم في الشريعة" (3). وقد نقل أصحاب السِّيَر وأصحاب السنن كثيراً من أفعاله وأحواله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة. وليس المراد بنقولهم هذه أن تكون موضعاً لاستنباط الأحكام الشرعية. والاقتداء بما قال أو فعل. وإنما كان مرادهم أن ينقلوا ما يستدلّ به على أحواله التي   (1) القرافي: شرح تنقيح الفصول ص 130 (2) تيسير التحرير 3/ 130 (3) القرافي: شرح تنقيح الفصول ص 130 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 تنفع في المعرفة بنبوّته وصدقه. قال ابن تيمية: "فهذه الأمور ينتفع بها في دلائل. النبوّة كثيراً. ولذلك يُذكَر مثل ذلك في كتب سيرته، كما يذكر فيها نسبه وأقاربه، وغير ذلك مما يعلم به أحواله" (1). ومثال ذلك ما ذكرته خديجة حين قالت (2): "كلاّ والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم وتعيّن على نوائب الحق". ولهذا كان أعلم الناس به - صلى الله عليه وسلم - أسرعهم إلى تصديقه، لما يعلمون من صدقه وأمانته. ثم ذكر ابن تيمية أن كتب الحديث أخصّ بما بعد النبوّة، وقد تذكر أشياء مما حدث قبل النبوة، ولكنها "لا تؤخذ لتشرع ... بل قد أجمع المسلمون على أن الذي فرض (الله) على عباده الإيمان به والعمل هو ما جاء به بعد النبوة. ولهذا كان من ترك الجماعة وتخلّى في الغيران والجبال، حيث لا جمعة ولا جماعة، وزعم أنه يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكونه متحنّثاً في غار حراء قبل النبوة، في ترك ما شرع من العبادات الشرعية التي أمر الله بها رسوله، كان مخطئاً. فإنه بعد أن كرمه الله بالنبوّة لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث". وهذا الكلام الذي ذكره ابن تيمية حق. إلاّ أنه يعرض النظر في أن الله تعالى، وإن لم يكن قد كلّف محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأعباء الرسالة، لكنه قد صنعه على عينه، وجده يتيماً فآواه، وعائلاً فأغناه، وأدّبه فأحسن تأديبه. وهذا يقتضي أن بعض العادات التي تميّز بها، وأُثرت عنه في ذلك العهد، يمكن أن تكون موضع قدوة. وهذا إنما يكون في ما يظهر حسنه ولا يخالف شرعاً. وقد وجدنا البخاري قال في صحيحه: باب كراهة التعرّي في الصلاة وغيرها. ولم يذكر فيه إلا حديث جابر: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له عمه العباس: يا ابن أخي، لو حلّلت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة". قال: "فحلّه فجعله على منكبيه، فسقط مغشياً عليه. فما رؤي بعد ذلك عرياناً" (3).   (1) الفتاوى الكبرى 18/ 10 (2) البخاري 1/ 22 ومسلم. (3) صحيح البخاري 1/ 474 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 ويحتمل أن البخاري احتجّ به من جهة ما في قوله: "فما رؤي بعد ذلك عرياناً"، فإنها تشمل ما بعد النبوّة. ولكن قال ابن حجر: "فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مصوناً عما يستقبح قبل النبوّة وبعدها". وروى أبو داود في كتاب الأدب من سننه قول السائب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري" (1).   (1) أبو داود 13/ 181 وأحمد 3/ 435 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 المبحث الثاني الشمائل النفسيّة (الأخلاق) الخلق ملكة تصدر عنها الأفعال بلا رويّة (1). والأخلاق التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - جَبَله الله تعالى عليها، ولذلك لم تكن محلاً للتكليف، لأن التكليف بالمقدور، والجبليّ ليس مقدوراً. ويقول ابن عبد السلام: "كل صفة جبلية لا كسب للمرء فيها كحسن الصور، واعتدال القامات، وحسن الأخلاق، والشجاعة، والجود، والحياء والغيرة، والنخوة، وشدة البطش، ونفوذ الحواس، ووفور العقل، فهذا لا ثواب عليه، مع فضله وشرفه، لأنه ليس بكسب لمن اتّصف به. وإنما الثواب والعقاب على ثمراته المكتسبة" (2). فالأفعال الصادرة عن هذه الصفات، يمكن أن تكون موضع قدوة. وقد بيّنا ما يقتدي به من ذلك في هذه الرسالة. لكن المقصود هنا البحث في أن صفاته - صلى الله عليه وسلم - نفسها. هل تكون موضع قدوة؟. ومقصودنا بذلك: هل نحن مكلّفون بتحصيل أمثال تلك الأخلاق العالية التي كان عليها - صلى الله عليه وسلم -؟. إن ما تقدم نقله عن عز الدين بن عبد السلام، يفهم منه أن التكليف لا يتعلق بتلك الصفات أصلاً. ولكن الذي أثبته علم النفس وعُرف بالتجارب، أن كثيراً من الصفات   (1) شرح المواقف 6/ 129 (2) قواعد الأحكام 1/ 117 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 النفسية يمكن تحصيلها بالدُّربة والتعلم والتخلّق. فالجود والشجاعة والحياء والغيرة والنخوة وشدة البطش واللطف والعنف، ونحو ذلك، وإن كان بعضها جبلياً، كما يلاحظ في الفروق بين الأطفال، إلا أن المران والتعليم والتدريب العملي، كافية لإحيائها في النفوس، أو تعديلها إن كانت موجودة على وضع منحرف. والنفوس بطبعها مجبولة على تقبّل ذلك التعليم. وكما هو ملاحظ في التدريب البدنيّ العضليّ أنه يكسب العضلات قوة ومتانة، ويعطيها استعداداً لمواجهة الأمور الحيويّة بكفاءة أكثر، فكذلك القوى النفسية، هي مهيأة لذلك. فإن اعتنُي بها نبتت ونمت، وإلاّ ضعفت وماتت. وفي حديث أبي سعيد: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأشَجّ عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبّهما الله: الحلم والأناة. قال: يا رسول الله، أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: بل الله جبلك عليهما" (1). فإن جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - يفهم منه أن هاتين الخصلتين يمكن أن يتخلق الإنسان بهما. وربما كان مقصود ابن عبد السلام ما ذكره الشاطبي من أن الصفة، كالعلم، وإن لم تكن مكتسبة، إلا أن مقدماتها التي تنتجها، كالنظر والبحث يمكن أن تكون مكتسبة. فهذا يمكن أن يسلّم. ونبني عليه فنقول: إن أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - قد أثنى الله تعالى عليها بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} (2)، وكثير منها لم يكن سعى لتحصيله، بل جبله الله تعالى عليه. فالاقتداء به ليس من قبيل الاقتداء بالفعل، وهو مع ذلك مطلوب بأن يتخلق المسلم بما كان خلقاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كالجود والحياء والشجاعة. ودليل طلبها، ما ذكرته من ثناء الله تعالى على خلقه، فهو تنبيه على التخلق بمثله. ومن أدلته أيضاً قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فإنها في كل شؤونه - صلى الله عليه وسلم -، لا في أفعاله خاصة.   (1) أبو داود 14/ 136 وهذا لفظه وأصله عند مسلم 1/ 192 والقصة بأتم من ذلك في مسند أحمد 4/ 206 (2) سورة القلم: آية 5 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 المبحث الثالث فعله - صلى الله عليه وسلم - في الرؤيا إذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسَه في المنام يفعل فعلاً، أو رآه غيره من معاصريه أو ممن بعدَه يفعل فعلاً، فهل ذلك الفعل محل قدوة، كغيره من الأفعال المقتدى بها؟. واضحٌ انقسام المسألة إلى قسمين، فنعقد لكل منهما مطلباً. المطلب الأوّل إذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، يفعل فعلاً، فرؤيا الأنبياء حق. وقد نقل القرطبي أن ابن عباس قال: "رؤيا الأنبياء وحي". واستدلّ بقوله تعالى عن إبراهيم: {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} (1) فهل كان رأى أنه يذبح ابنه وكان ذلك أمراً؟ هذا هو الظاهر، وعليه اقتصر الأسنوي (2). واحتجّ من الآية بثلاثة أوجه: قول إسماعيل: {افعل ما تؤمر}، وقوله تعالى: {إن هذا لهو البلاء} وقوله: {وفديناه}. ويحتمل أنه رأى آمراً يأمره أن يذبح ولده (3).   (1) سورة الصافات: آية 102 (2) نهاية السول 2/ 33 (3) ذكر القرطبي هذا الاحتمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 فعلى الأول تكون رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يفعل فعلاً: أمراً له بالوحي، أن يفعل ذلك الشيء. وقد يكون وعداً بتحقيق ذلك وبشارةً به. فمثال ما هو أمر ما في حديث أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت في المنام أني أهاجر إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي يثرب" (1). ومثال الرؤيا التي هي وعد وبشرى: ما روى الطبري عن ابن عباس في تفسيره قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس} (2) قال: "يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُري أنه دخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذٍ بالمدينة. فعجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السير إلى مكة قبل الأجل، فردّه المشركون. فقال أناس: قد رُدّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان حدّثنا أنه سيدخلها. فكانت رجعته فتنتهم" (3). اهـ. ثم كان تأويل رؤياه تلك، عمرة القضاء في السنة التالية. وقد تكون رؤياه خبراً عن حكم شرعي، كرؤيته - صلى الله عليه وسلم - ليلة القدر أنها في إحدى العشر الأواخر من رمضان ثم أنسيها. المطلب الثاني من رأى في المنام النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل عقد البخاري في كتاب التعبير من صحيحه، باباً بعنوان (من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام) فذكر فيه حديثاً بألفاظ مختلفة. منها رواية أنس رضي الله عنه، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثّل بي". ورواية أبي سعيد: "من رآني فقد رأى الحقّ، فإن الشيطان لا يتكوّنني".   (1) البخاري 6/ 627 ورواه مسلم. (2) تفسير الطبري. ط مصطفى الحلبي 1373هـ - 15/ 112 (3) سورة الإسراء: آية 60 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وذكر ابن حجر في تفسير هذا الحديث أقوالاً مختلفة، ثم قال: "قال القرطبي والصحيح في تأويله أن مقصوده أن رؤيته في كل حال ليست باطلة، ولا أضغاثاً، بل هي حق في نفسها. ولو رؤي على غير صورته، فتصوُّرُ تلك الصورة ليس من الشيطان، بل هو من قبل الله، وقال: هذا قول القاضي أبي بكر" (1). اهـ. ثم قد قال ابن أبي جمرة: "قيل: معناه أن الشيطان لا يتصوّر بصورته أصلاً، فمن رآه في صورة حسنة، فذلك حسن في دين الرائي، وإن كان في جارحة من جوارحه شين أو نقص فذلك خلل في الرائي من جهة الدين. قال: وهذا هو الحق. فعلى قول القرطبي وابن أبي جمرة، كل رؤية له - صلى الله عليه وسلم - المنام فهي حق" (2). أما القرافي فقد قال: "إنما تصح رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد رجلين" (3): 1 - صحابي رآه فعلم صفته، فانطبع في نفسه مثاله، فإذا رآه جزم بأنه رأى مثاله المعصوم من الشيطان، فينتفي عنه اللبس والشك في رؤيته - صلى الله عليه وسلم -. 2 - ورجل تكرّر عليه بسماع صفاته - صلى الله عليه وسلم - المنقولة في الكتب حتى انطبعت في نفسه صفته - صلى الله عليه وسلم - ومثاله المعصوم. فإذا رآه جزم برؤية مثاله، كما يجزم به من رآه، فينتفي عنه اللبس والشك في رؤيته - صلى الله عليه وسلم -. وأما غير هذين فلا يحصل له الجزم. بل يجوز أن يكون رآه بمثاله، ويحتمل أن يكون من تخييل الشيطان. ولا يفيد قول المرئي لمن رآه: أنا رسول الله، ولا قول من يحضر معه: هذا رسول الله. لأن الشيطان يكذب لنفسه ويكذب لغيره، فلا يحصل الجزم". اهـ. وهذا التحقيق موافق لما روي عن ابن سيرين: "أنه كان إذا قصّ عليه رجل أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صف لي الذي رأيته. فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال له: لم تره" (4).   (1) فتح الباري 12/ 386 (2) المصدر نفسه 12/ 391 (3) الفروق 4/ 244 (4) أصله عند البخاري تعليقاً 12/ 383 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 فعلى هذا القول: ليس كل من رأى شخصاً قيل له إنه رسول الله، قد رآه حقّاً. أخذ الأحكام الشرعية من فعله - صلى الله عليه وسلم - في الرؤيا : ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان لا يتمثّل بي" أن قوله وفعله في المنام بدرجة قوله وفعله في اليقظة، بل أقوى، لقلة الوسائط، وخاصّة بالنسبة إلى الرائي نفسه. ولكن لو كان كذلك، وجب تقديم ذلك على ما نقل إلينا من الشريعة. وقد نقل الشوكاني عن أبي إسحاق: "أن رؤيته - صلى الله عليه وسلم - في المنام حجة" (1). وقد أبى جمهور العلماء هذه الطريقة، واتفقوا على أن أي شيء مما ينتج عن الرؤيا إذا خالف الشريعة مردود، وإن وافقها، فهو أمارة يؤتنس بها. وإن لم يوافقها ولم يخالفها جاز العمل بها، كما يعمل بأنواع الخواطر السانحة والإلهامات. فلا بدّ من عرضها على الشريعة على كل حال. وأجابوا عن الحديث بأجوبة: منها: ما ذهب إليه النووي: أن الرائي وإن كانت رؤياه حقاً، ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي بما جاء فيها، قال: "لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي. وقد اتفقوا على أن من شروط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظاً لا مغفّلاً ولا كثير الخطأ، ولا مختلّ الضبط. والنائم ليس بهذه الصفة" (2). ومنها: ما ذهب إليه ابن الحاجّ: "أن الله لم يكلّف عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: رفع القلم عن ثلاثة ... عدّ منهم "النائم حتى يستيقظ" لأنه إذا كان نائماً فليس من أهل التكليف، فلا يعمل بشيء يراه في نومه" (3).   (1) إرشاد الفحول ص 249 (2) المصدر السابق ص 300 (3) عزت عيد عطيه: البدعة ص 299 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 ومنها: ما قال ابن الحاجّ أيضاً: "أن الشرع حثّ على التمسّك بالكتاب والسنة، فإن خالفتهما الرؤيا علم أنها غير حق، وأن ما فيها من الكلام ألقاه الشيطان له في ذهنه، والنفس الأمّارة". وحاصل هذا الوجه أن الحديث دلّ على صحة رؤية مثاله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يدلّ على صحة الكلام الذي يسمع منه. وهذا الجواب لا يتأتى في الأفعال. ومنها: ما قال ابن رشد وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن اعتقد الرائي أنه هو. ومعنى الحديث عنده: "من رآني على صورتي التي خلقني الله عليها، فقد رآني، إذ لا يتمثل الشيطان بي" (1). ومنها: ما قال الشوكاني: "إن الشرع الذي شرعه الله لنا قد كمّله الله عزّ وجل، وقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} ... ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها، وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبيينها بالموت ... وبهذا تعلم أنا لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة" (2). اهـ. وهذا عندي هو الوجه المعتمد في الجواب، وأما ما تقدمه من الأجوبة ففيها نظر. فالخلاصة ما قال الشاطبي: "على الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنّة. نعم يأتي المرئيّ تأنيساً وبشارة ونذارة خاصة، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً، ولا يبنون عليها أصلًا. وهو الاعتدال في أخذها حسب ما فهم من الشرع فيها" (3).   (1) الاعتصام للشاطبي 1/ 262 (2) إرشاد الفحول ص 249 (3) الاعتصام للشاطبي 1/ 264 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 المبحث الرّابع ما فعل به صلى الله عليه وسلم بعد موته جعل ابن حبان الأحاديث الواردة في هذا المعنى باباً في قسم الأفعال من صحيحه (1). وليس ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة. ويذكر المحدثون والفقهاء (2) أشياء من ذلك. منها: أنه: "كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سَحُولِيّةٍ من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة" (3). ومنها: "أنه غُسل وعليه ثيابه". ومنها: "أن الصحابة صلّوا عليه فرادى" (4). ومنها: أنّه: "لما توفي كان رجل يلحَدُ والآخر يَضْرَحُ، فقالوا نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه. فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللّحد فلَحَدوا له" (5). وقال عمرو بن العاص عند وفاته: "الحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما فعل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (6).   (1) صحيح ابن حبان 1/ 108 (2) انظر في ذلك مثلاً: نيل الأوطار 4/ 36 وما بعدها. (3) البخاري 3/ 140 عن عائشة. والسحولية: نسبة إلى بلد كانت تصنع بها. والكرسف: القطن. (4) ورد ذلك في حديث ابن ماجه. وسنده ضعيف (نيل الأوطار 4/ 44). (5) أحمد وابن ماجه (نيل الأوطار 4/ 85) واللحد الشق في جانب القبر، والضرح الشق في وسط القبر. (6) أحمد ومسلم (نيل الأوطار 4/ 85). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ومنها: "أنه دفن حيث مات، في بيت عائشة رضى الله عنها، وتولّى دفنه فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه". ومنها: "أن قبره كان مسنماً (1). ولم يكن مشرفاً ولا لاطئاً (2) ". وجه الاحتجاج بذلك : إنما يحتجّ بما فعل به - صلى الله عليه وسلم - عند الدفن من وجهين: الأول: أن الله تعالى لم يكن ليختار لرسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل. واقتصر على هذا الوجه ابن حجر (3) في قضية نوع ثياب الكفن وعددها. وأشار إليه بعض الصحابة في قضية اللحد والشق، فإنهم لما أرسلوا إلى الذي يلحد والذي يشق، قالوا: "نستخير ربنا". وفي هذا الوجه عندي نظر، إذ ليس بمتعيّن أن الله تعالى يختار لرسوله أفضل الأشياء، فإن القبر منزل من المنازل، وكما كان الله تعالى ييسر لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنواعاً من المآكل والمشارب والمنازل والمراكب، فلا تُدَّعى أفضلية شيء منها على شيء، أو على ما عداها، فكذلك هذا النوع. الوجه الثاني: أنه فعل من أفعال الصحابة أو قول من أقوالهم. وهذا عندي أولى. فإن قيل بهذا الوجه، كان مؤخراً عما ورد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره عند التعارض وهو الصواب. وإن قيل بالوجه الأول كان مقدماً على قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره.   (1) البخاري (نيل الأوطار 4/ 89). (2) أبو داود (نيل الأوطار 4/ 89). (3) فتح الباري 12/ 135 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 المبحث الخامس أفعال الله تعالى هذا نوع من أصول الأحكام قلّ من ذكره من الأصوليين. وقد قال ابن تيمية: "الأصل قول الله تعالى، وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل. وإن كانت جَرَت عادة عامة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه، ومن جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... قوله وفعله وإقراره" (1). اهـ. وقد تعرّض الرازي لبيان الله تعالى فصرّح باستحالته بالإشارة. ورأى القرافي (2) أن ذلك تنبيه من الرازي على استحالة بيانه تعالى بالفعل والكتابة أيضاً، وبيّن القرافي أن ذلك من الرازي تناقض. لتصريحه بجواز البيان بالقول، ولا فرق بين الأمرين. وقال السمعاني: "يقع البيان من الله تعالى بالقول والفعل والكتابة والتنبيه على العلة، ولا يقع بالإشارة" (3). اهـ. ويمثّل للاستدلال بفعله تعالى: بعذابه للمنذَرين، فإنه دليل على تحريم ما فعلوه، ووجوب ما أُمروا به. فهذا في الاستدلال بطريق اللزوم. وأما الاستدلال على أن نعمل مثل ما عمل، فقد قال الحنابلة ومالك والشافعي في أحد قوليه برجم اللائط بكراً كان أو ثيباً. واحتجّ بعضهم لذلك: "بأن الله تعالى عذّب قوم لوط بالرجم، فينبغي أن يُعاقَب من فعل مثل فعلهم بمثل   (1) المسودة ص 298 (2) شرح تنقيح الفصول ص 123 (3) نقله الشوكاني في إرشاد الفحول ص 173 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 عقوبتهم" (1). وروى ابن عباس: "ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكّساً ويتبع الحجارة" (2) وأيّد الشوكاني هذه الطريقة في الاستدلال، فقال: "حقيقٌ بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها أحد من العالمين أن يصلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة كعقوبتهم". وقيل إنه كالزنا سواء. وقيل لا حدّ عليه لأنه ليس بزنا، وهو قول أبي حنيفة. وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: "إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس" (3). فاستدلّ بكونه تعالى جميلاً يحب الجمال على جواز محبة الجمال ومشروعيته. قولنا في ذلك : أما الطريقة الأولى، وهي الاستدلال بالفعل على لازمه، فهي طريق سالكة، لا عوج فيها، وكل ما ذكره الله تعالى في القرآن من قصص الأمم مع أنبيائها، وما فعله الله تعالى بأعداء الأنبياء، فإنما ذكره لنعتبر، فنعلم حرمة ما عاقبهم الله تعالى عليه ونخاف من أن يوقع الله تعالى مثله بنا إن نحن فعلنا مثل فعلهم، لقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} (4). وأما الطريقة الثانية، وهي أن نفعل مثل فعله، كأن نعاقب اللائط بمثل ما عاقبه تعالى به، فهو باب واسع، لو كان حجّة للزم تتبع جزاءاته تعالى للمحسنين في الدنيا والآخرة، والعمل على نمطها. وكذلك عقوباته للعاصين. وللزم مثل ذلك، سواء ذكر في القرآن، أو شاهده الناس عياناً، أو علم بطريق ما. وذلك   (1) ابن قدامة: المغني 8/ 188 (2) رواه البيهقي (نيل الأوطار 7/ 123) (3) رواه مسلم 2/ 89 (4) سورة الحشر: آية 2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 شيء لا ينضبط. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التعذيب بالنار. وقال: "لا تعذّبوا بعذاب الله" (1). فهذا نهي مصادم لهذا النوع من الاستدلال. ومثله فرار الحجر بثوب موسى حتى رؤي عرياناً، فلا يجوز أن يستدل به على جواز تعرية الرجل لتبرئته مما يُنْبَزُ به. والله تعالى يفعل ما يشاء. فالذي نراه أن هذا النوع من الاستدلال باطل. ونستثني من ذلك أموراً: الأول: أن نحب ما أحب الله تعالى، وأن نكره ما يكره. فإنه تعالى لا يحب إلّا ما هو خير وحق، ولا يكره إلا ما هو باطل وإثم. وإنما يحصل لنا العلم بما يحبه الله ويكرهه بالشرع من الكتاب أو السنة. وفي الحديث، ينادي جبريل: "إن الله يحب فلاناً فأحبوه" (2). وفي الحديث الآخر: "نحب بحبّك من أحبك، ونعادي بعداوتك من عاداك" (3). الثاني: بعض ما يتردد بين الحسن والقبح إذا ورد أنه تعالى يفعله، يعلم أنه حسن وإن كان يتوهم فيه النقص، ويكون فعله تعالى دليلاً على أنه لا نقص فيه، وذلك كقوله تعالى: {والله لا يستحيي من الحق} (4) يدل على جواز مباشرة العمل إذا كان حقاً ولا يمنع الحياء من ذلك. وكاستدراجه لأعدائه، ومكره بالماكرين، وكيده للكائدين (5) ولعنه للكافرين، فكل ذلك جائز بدلالة فعله تعالى. الثالث: ما ظهر لنا حسنه ولم يعارضه دليل شرعي، كقوله تعالى؛ {ويؤتِ كلَّ ذي فضل فضله} يصحّ الاحتجاج به على استحباب إنزال أهل الكفاءات في منازلهم، والإكثار من الخير للناس بقدر أعمالهم، ونقض طريقة المساواة بين الناس مع تفاوت فضائلهم وأفعالهم. وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرض العبد أو سافر كُتب   (1) أحمد 1/ 217 (2) البخاري 6/ 303 (3) الترمذي 9/ 370 من حديث طويل. وقال: غريب. (4) سورة الأحزاب: آية 53 (5) انظر أعلام الموقعين 3/ 231 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 له من الأجر ما كان يعمله وهو صحيح مقيم" (1). يصح الاستدلال به على إعطاء الموظّفين والعمّال مثل أجورهم إذا كان تعطّلهم لعذر صحيح. ومن هذا النوع أيضاً ما ذكر الشاطبي (2)، وهو عادة الله تعالى في إنزال القرآن، وخطاب الخلق به، ومعاملته بالرفق والحسنى، وأن استفادة ذلك راجع إلى الاقتداء بأفعاله تعالى، فعدّ الشاطبي من هذا عدم المؤاخذة قبل الإنذار، أخذه من قوله تعالى: {وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولاً} وعد من ذلك أيضاً ترك المؤاخذة بالذنب لأول مرة، والحلم عن تعجيل العذاب للمعاندين. وكتدرجه تعالى في الأمر بالتكاليف الشاقة، والنهي عما ألفه الناس حتى صار كالطبع لهم. ونحن نرى الأخذ من هذه الأنواع، مع الحذر والاحتياط، والتنبيه إلى أن الله ليس كمثله شيء، وأن ذلك يقتضي التمايز في الأفعال، فليس كل شيء يحسن منه تعالى هو حسناً منا. والله أعلم. الأوجه الفعلية لقوله تعالى : يصح استفادة الأحكام من الآداب البيانية القرآنية، على ما يذكره البلاغيون وقد ذكر الشاطبي لذلك أمثلة سبعة، نقتبسها باختصار تتميماً للفائدة. 1 - أن القرآن حين أتى بالنداء من الله للعباد، أتى بحرف النداء المقتضي للبعد، نحو قوله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (3). وحين أتى بالنداء من العباد لله، ترك حرف النداء، استشعاراً للقرب، فيحصل بالاقتداء بالتعبير القرآني تعلّم هذا الأدب. 2 - أن نداء العبد لله جاء في القرآن بلفظ (الرب) في عامة الأمر، تنبيهاً   (1) البخاري 6/ 136 وأبو داود. (2) الموافقات 3/ 376 (3) سورة الزمر: آية 53 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وتعليماً لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضى للحال المدعوّ بها. ومثاله قوله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا} (1) وقوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (2). 3 - أتى بالكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها، كقوله: {من قبل أن تمسوهن} {فأتوهن} {كانا يأكلان الطعام}. 4 - أتى بالالتفات الذي ينبىء في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور إذا كان الحال يستدعي ذلك، نحو {مالك يوم الدين * إياك نعبد} {عبس وتولى أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعلّه يزَّكّى}. 5 - الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى، كقوله: {بيدك الخير} (3) ولم يُرْدِفْه بقول: {والشر}. ونحو قوله: {والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين} (4) لم يقل {وإذا أمرضني فهو يشفين}. 6 - الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالردّ كفاحاً، دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة كقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (5). وقوله: {قل إن افتريته فعليّ إجرامي} (6). 7 - الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسبّبات وتلقّي الأسباب منها، أخذاً من مساقات الترجيات العادية، كقوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا} (7) وقوله: {لعلكم تتقون} {لعلكم تذكّرون}. ثم قال الشاطبي بعد إيرادها: "إن هذه الأمثلة، وما جرى مجراها، لم يُسْتَفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني، وإنما استفيد من جهة أخرى، هي جهة الاقتداء بالأفعال" (8).   (1) سورة آل عمران: آية 8 (2) آخر سورة البقرة. (3) سورة آل عمران: آية 26 (4) سورة الشعراء: آية 79، 80 (5) سورة سبأ: آية 24 (6) سورة هود: آية 35 (7) سورة الإسراء: آية 79 (8) الموافقات 2/ 104 - 107 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 المبحث السادس تقرير الله تعالى ليس تقرير الله تعالى حجة، فإنه يملي للظالمين ويمهلهم إلى أجل لا ريب فيه، وقد يعفو ويغفر، فذلك حقه تعالى. وقال عز وجل: {ولو شاء الله ما فعلوه} (1). وقد احتجّ الكفرة بتقرير الله لهم على ما كانوا عليه من الشرك والافتراء، فرد الله عليهم حجتهم، قال: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا إن تتبعون إلاّ الظنّ وإن أنتم إلاّ تخرُصون} (2). ويتعيّن النظر في نوعين من تقريره تعالى، رأى بعض العلماء أنها حجة: الئوع الأول: تقريره لما يذكره في كتابه من القضايا. فكل قضيّة ذكرت في القرآن ولم ينبه الله تعالى على بطلانها فهي قضية حق. وكل فعل أو أمر أو نهي صدر عن أحد في القرآن فهو حق إلاّ إذا نبّه على بطلانه. والدليل لهذا النوع أمران: 1 - أنه باستقراء آيات الكتاب وجدت العادة أنه إذا حكى أمراً لا يرضاه أو ذكر شيئاً يوهم غير المراد، فإنه يشير إلى بطلانه، أو يأتي بما يدفع الوهم وينفي الاحتمال، ومثاله قوله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} -إلى قوله- {ساء ما يحكمون} (3). وقوله: {ففهّمناها سليمان وكلاً آتينا حُكماً وعلماً} (4) وقوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا   (1) سورة الأنعام: آية 137 (2) سورة الأنعام: آية 148 (3) سورة الأنعام: آية 136 (4) سورة الأنبياء: آية 79 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 نشهد إنك لَرسول الله والله يعلم إنك لَرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} (1). 2 - أن الله أنزل كتابه هداية وإرشاداً وتعليماً للناس، يبيّن لهم ما شرعه الله تعالى ويحكم على الأفعال البشرية، بما يريد الله تعالى أن يكون لهم شرعاً وديناً. وقد سمّى الله كتابه فرقاناً وهدىً وبرهاناً وبياناً وتبياناً لكل شيء. فلا يناسبه أن يذكر عن أحد من الناس ما هو باطل، ثم يسكت عن التنبيه على بطلانه، فإن ذلك يفهم منه رضاه به (2). والمقرّر عليه في القرآن قسمان: الأول: ما كان شريعة سماوية لنبي سابق أو قولاً من أقواله أو فعلاً من أفعاله. ويدخل ذلك في مسألة شرائع من قبلنا هل هي شرع لنا؟ وهي مذكورة في كتب الأصول فلا نطيل بذكر الخلاف فيها. والذي رجحه البزدوي وغيره، أن ما كان شريعة لمن قبلنا، وثبت لنا بكتاب الله، أو ببيانٍ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يلزمنا العمل به على أنه شريعة لنا، ما لم يعلم عندنا نسخه في شريعتنا (3). وإنما اشترط البزدوي أن يقص الله تعالى أو رسوله علينا ذلك من غير إنكار له، احتياطاً للدين، لما ثبت من تحريف أهل الكتاب (4). وقد احتجّ بعض الفقهاء كثيراً بأشياء من هذا النوع، فمنها المهايأة (5): احتجّوا لصحتها بما في قصة هود: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} (6). والمهايأة: تَقَاسُم منافع الشيء المشترك بحسب الزمان أو غيره، بأن يستعمله كل من الشريكين سنةً أو شهراً مثلاً.   (1) أول سورة المنافقون. (2) انظر الشاطبي: الموافقات 3/ 354، 4/ 64 علي حسب الله: أصول التشريع الإسلامي ص 27، 28 (3) أصول البزدوي بشرح البخاري 3/ 933 (4) أصول البزدوي بشرح البخاري 3/ 936 (5) المصدر نفسه 3/ 936 (6) سورة القمر: آية 28 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 واستدلّ المالكية والشافعية والحنابلة (1) على جواز الجعالة بقول يوسف: {ولمن جاء به حِمل بعيرٍ وأنا به زعيم} (2). واستدلّ عبد الكريم زيدان (3) بخروج موسى (خائف يترقب) على أخذ الداعي للحذر. واستدلّ البعض (4) على إباحة صناعة التماثيل بما في قصة سليمان: {يعملون له ما يشاء من محاريبَ وتماثيلَ وجِفانٍ كالجوابِ وقُدورٍ راسيات} (5). واستدلّ ابن عباس على السجود في سورة (ص) بفعل داود عليه السلام. واستدلّ غيره على جواز تولي العمل لدى الكفار، وعلى جواز طلب الوظائف الرئاسية، وإدلاء الطالب بما عنده من الصفات والخصائص والخبرات، بقول يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} (6). واستُدِلّ (7) بقصة الخضر في خرق السفينة -والراجح أنه نبي- على جواز تعييب ملك الغير لأجل إنقاذه من السرقة أو التلف. ولا بدّ عند الاستدلال بمثل هذا من النظر في ما يعارضه، على الطريقة المعهودة في سائر الأدلة. وعليه فلا يتم الاستدلال بقتل الخضر غلاماً، وإلقاء يونس في البحر عند   (1) انظر ابن قدامة: المغني 5/ 656 (2) سورة يوسف: آية 72 (3) أصول الدعوة ص 424 (4) الأستاذ عبد المجيد وافي، في مجلة (الوعي الإسلامي) الكويتية، عدد 36 ص 56 وقد رددت عليه في مجلة (المجتمع) الكويتيه في العدد الصادر 24 شوال1390هـ - ص 17 وما بعدها. وقد نقل جزءاً كبيراً من مضمون هذا الرّدّ الشيخ محمد علي الصابوني في كتابه (روائع البيان في أحكام القرآن) في تفسير سورة سبأ دون أن يشير إلى مصدره، وحسبنا الله ونعم الوكيل. (5) سورة سبأ: آية 13 (6) سورة يوسف: آية 55 (7) ابن عبد السلام: قواعد الأحكام 1/ 79 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 خوف غرق السفينة، على فعل مثل ذلك، ولا على جواز صناعة التماثيل، لتحريمها في شريعتنا بالسنة النبوية. الثاني: أن يكون المقَرّ عليه ليس شريعة سماوية، ولا قولاً أو فعلاً لنبيّ. وسواء أكان المذكور خبره مؤمناً كذي القرنين ونحوه، أو لم يكن مؤمناً. والإقرار على هذا النوع أضعف من الإقرار على سابقه، لأن الأول لما كان في الأصل شريعة لنبي، وكان لدينا من الأدلة أمره تعالى لنبينا بالاقتداء بهدي من قبله من الأنبياء، كان ذلك دليلاً خاصاً لحجيته، أما إن لم يكن نبياً فليس لدينا من الأدلة على حجيته إلاّ ذكره في القرآن من غير إنكار. والذي نقوله إنه حجة ما لم يعارضه ما هو أصرح منه. وله أمثلة كثيرة ونذكر منها: 1 - قول الذين غلبوا على جماعة أصحاب الكهف: {لنتخذنّ عليهم مسجداً} (1). وقد جاء في حقّ من فعل مثل ذلك الحديث: "أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" (2). 2 - قصة مؤمن آل فرعون، وفيها: {يكتم إيمانه} (3) يستدَلّ بها على جواز الكتمان عند الخوف على النفس، وأفضلية الإعلان بالدعوة والصدع بها، وخاصة حيث يخشى عليها عند الكتمان من التحريف أو الضياع. يؤخذ هذا من تنويه الله بشأن هذا المؤمن وتخليده، ما قاله بعد الإعلان. 3 - قصة سليمان، وقول ملكة سبأ: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة} (4). 4 - قصة شاهد يوسف حين قال: {إن كان قميصه قُدَّ من قُبُلٍ   (1) سورة الكهف: آية 31 (2) البخاري 7/ 188 ومسلم 5/ 11 (3) سورة غافر: آية 28 (4) سورة النمل: آية 34 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 فصدقت ... } (1) الآيات يستدل بها على العمل بالقرائن. 5 - قول أصحاب النار لما قيل لهم: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نَكُ من المصلين * ولم نَكُ نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين} (2). استدل به الأصوليون على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. النوع الثاني: تقريره تعالى لما كان الصحابة يفعلونه في عصر نزول الوحي وليس المراد كل ما يفعلونه حتى المعاصي التي ربما كان بعضهم يفعلها ويستخفي بها، وإنما المراد ما كانوا يفعلونه على أنه مما يأمر به الشرع أو يجيزه. لقد ذكر هذا النوع ابن تيمية والتزم أنه حجة، وذلك في ما نقلناه عنه قريباً. يقول: "الأصل قول الله، وفعله، وتركه القول وتركه الفعل، وقول رسوله، وفعله، وتركه القول والفعل" قال هذا تثبيتاً لما ذكره عن أبي سعيد الخدري في شأن العزل إنه قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل، لو كان شيئاً يُنهى عنه لنهى عنه القرآن". ثمّ قال ابن تيمية: "فهذا لا يحتاج إلى أن يبلغ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذا المأخذ قد ذكره أبو سعيد ولم أر الأصوليين تعرضوا له" (3). رأينا في هذا الأصل : تحقيقاً للمسألة نبيّن أن هذه اللفظة التي نسبت إلى أبي سعيد، وهي: "لو كان شيئاً يُنهى عنه لنهانا عنه القرآن" وردت في كلام بعض الفقهاء والأصوليين منسوبة إلى أبي سعيد الخدري، وإلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. أما رواية أبي سعيد في العزل فليس فيها هذه الجملة أصلاً في مجموع الروايات التي ذكرت في (جامع الأصول) وأنما الذي فيها: "أنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: لا عليكم أن لا تفعلوا، فإنما هو القدر" (4). ولم ترد في (كنز العمال) أيضاً. فالظاهر أنها لا أصل لها.   (1) سورة يوسف: آية 25 (2) سورة المدثر: آية 42 - 44 (3) المسودة ص 298 (4) صحيح مسلم (عبد الباقي) 2/ 1062. جامع الأصول 12/ 104 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وأما رواية جابر، فقد رواها مسلم. قال: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق أخبرنا، وقال أبو بكر حدثنا، سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا نعزل والقرآن ينزل. زاد إسحاق قال سفيان: لو كان شيئاً يُنهى عنه لنهانا عنه القرآن". اهـ. رواية مسلم. أقول: الظاهر في هذه الرواية أن هذه الجملة الأخيرة ليست من كلام جابر، بل هي من كلام سفيان. ويحتمل أن تكون من كلام جابر. ولكن قد أخرجه مسلم والبخاري أيضاً وغيرهما من روايات أخرى فلم يذكروها في كلام جابر. وإنما الذي فيه في بعض الروايات عند مسلم: "فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا". فكلا الصحابيّين ذكرا أن هذا بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم ينه عن ذلك، وليس في كلامهما الاحتجاج بتقرير الله تعالى، بل الاحتجاج بتقرير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولعلّ الذي غرّ بعض أهل العلم، ما صنعه صاحب (العمدة) إذ اختصر حديث مسلم، وأدرج كلمة سفيان في الحديث (1)، ولم يكن له أن يفعله. وغفل ابن دقيق العيد فلم يشر إلى ذلك. وشرح الحديث على حاله، فقال: "استدلال جابر بتقرير الله تعالى غريب، وكان يحتمل أن يكون الاستدلال بتقرير الرسول. لكنه مشروط بعلمه بذلك، ولفظ الحديث لا يقتضي إلاّ الاستدلال بتقرير الله تعالى". اهـ. ومن هنا كان الصواب في المسألة، أن تقرير الله في زمن الوحي يكون حجة بشرط أن يبلغ الفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحتجّ بذلك على ما لم يبلغه. وكلام الشوكاني في ذلك محرر جيد، وذلك حيث يقول في نيل الأوطار، في شرح هذا الحديث: "فيه جواز الاستدلال بالتقرير من الله ورسوله على حكم من الأحكام، لأنه لو كان ذلك الشيء حراماً لم يقررا عليه، لكن بشرط أن يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -" (2). وبهذا يتبيّن ما في كلام ابن تيمية رحمه الله، السابق ذكره، من المؤاخذة. ويتبيّن أيضاً أن إعراض الأصوليين عن هذا النوع إنما هو لعدم استقلاله بالاحتجاج. والله أعلم.   (1) شرح عمدة الأحكام 2/ 224 (2) 6/ 209 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 المبحث السابع أفعال أهل الإجماع قال صاحب مسلم الثبوت وشارحه: مسألة: لو اتّفق أهل الإجماع على فعل، بأن عمل الكلّ فعلاً، ولا قول هناك، فالمختار أنه كفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن العصمة ثابتة لإجماعهم، لعموم الدلائل التي مرّت، كثبوتها له - صلى الله عليه وسلم -. وإذا كان كفعله فتأتي المذاهب المذكورة سابقاً، أي في فعله - صلى الله عليه وسلم -. قال: والإمام -لعله يعني الجويني- يحمل على الإباحة إلاّ بقرينة وهو الأظهر. وابن السمعاني قال: كل فعل لم يخرج مخرج الحكم والبيان لا ينعقد به الإجماع. ومن اشترط الانقراض لعصر المجمعين في الإجماع القولي فالفعل أولى بالاشتراط، لقوة احتمال الرجوع فيه (1).   (1) شرح مسلم الثبوت، القاهرة، مطبعة بولاق، بهامش المستصفى 2/ 235 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الباب الثالث التعارض والترجيح - مقدمة في الاختلاف بين الأدلة . 1 - التعارض بين الفعل والفعل. 2 - تعارض الأفعال والأقوال. 3 - تعارض الفعل والأدلة الأخرى. 4 - اختلاف التقرير والقول، واختلاف التقرير والفعل. - ملحق: الصور التفصيلية لاختلاف القول والفعل. (قطعة من رسالة الحافظ العلائي). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 مقدمة في الاختلاف بين الأدلة إذا نظر المجتهد في المسألة، وعرف الأدلة الشرعية الواردة فيها، فقد تكون تلك الأدلة متفقة في الدلالة على الحكم فيقوّي بعضها بعضاً، ويتأكد حكم المسألة بذلك. وإن كانت الأدلّة مختلفة، ينفي بعضها ما أثبته البعض الآخر، فإن كان بعضها قطعيّ الثبوت والدلالة، والآخر ظنّيّ الثبوت، أو ظنّي الدلالة أو ظنيهما، قدّم القطعيّ على الظنيّ، إذ إن الظن ينتفي بمخالفة أمر قاطع. ومثاله أن يخبرك مخبر أن فلاناً غائب عن البلد، ثم تنظر فترى ذلك الشخص بعينه أمامك، فإن خبر المخبر يتبيّن خطؤه، بثبوت نقيض مدّعاه قطعاً، فينتفي ظن غيبته أصلاً (1) وقد ردّت عائشة رضي الله عنها حديث عمر وحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه" (2). ردّته بقول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. وأما أن يكون دليلان قاطعان ينفي أحدهما عين ما يثبته الآخر، فذلك بالنظر إلى الحقيقة والواقع أمر مستحيل. لأن الشريعة من عند الله، فلا تناقض فيها، إلاّ بأن يكون أحد الدليلين ناسخاً للآخر. وأما تعارض ظني مع ظني فهذا أمر ممكن، وواقع.   (1) انظر المستصفى للغزالي 2/ 127، جمع الجوامع للسبكي 2/ 357 (2) ردها لرواية عمر متفق عليها، وردها لرواية ابن عمر متفق عليها كذلك ورواها مالك والترمذي والنسائي. وانظر: الزركشي: الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 والتعارض -المصطلح عليه- بين الدليلين، هو تقابلهما على وجه يمنع كل منهما مقتضى صاحبه (1). العمل عند اختلاف الأدلة : إذا اختلف مقتضى الأدلة في المسألة الواحدة عند المجتهد، على وجه يوهم التعارض، وكان كل منهما صحيحاً، فإنه يتخذ الخطوات التالية، بالترتيب، فلا يتعجل شيئاً منها قبل مكانه. 1 - الجمع بين الدليلين 2 - اعتقاد النسخ 3 - الترجيح بينهما 4 - التوقف أو التخير، أو التساقط الخطوة الأولى: الجمع بين الدليلين : هو أولى من غيره لأن فيه العمل بالدليلين جميعاً. أما الخطوات التي بعد هذه ففيها إلغاء أحد الدليلين على الأقل، والإلغاء إبطال، فلا يجوز إبطال الدليل، إن أمكن إعماله. والجمع بين الدليلين يكون بفهم كل واحد منهما على وجه غير ما يفهم عليه الآخر بحيث يزول التعارض بين مدلوليهما. ووجوه الجمع كثيرة. فمن ذلك الجمع بين النصين بحمل المطلق على المقيد. وحمل العام على الخاص. ومنه حمل أحدهما على الحقيقة والآخر على المجاز. ومن طرق الجمع بين الدليلين المتعارضين حملهما على حالين، أو زمانين، أو مكانين. فمثال حملهما على حالين حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذنه رجل في القبلة في رمضان فأذن له، واستأذنه آخر فلم يأذن له. قال الصحابي راوي الحديث: فنظرنا فإذا الذي أذن له شيخ والذي نهاه شاب. ولم يحملوه على النسخ ولا احتاجوا إلى ترجيح.   (1) الإسنوي: نهاية السول 2/ 64 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 ومثال حمله على زمانين، أو مكانين، ما إذا نهى بعض المسلمين عن القتال وأذن لغيرهم، فكان النهي في شهر حرام، والإذن في غير شهر حرام، أو النهي في الحرم والأذن في الحلّ. ومن طرق الجمع التخصيص، فإن كان أحد الدليلين أخصّ من الآخر مطلقاً قُدّم حكم الأخص في منطقة خصوصه، وبقي حكم العموم في بقية أفراد العامّ، كما يذكر ذلك في أبواب العموم والخصوص، من كتب الأصول. الخطوة الثانية: النسخ : لا يجوز المصير إلى النسخ إلا أن يعرف المتأخر من الدليلين بحجة صحيحة إذ لا يجوز أن يعتبر أحد الدليلين ناسخاً للآخر بمجرد الرأي، لاحتمال أن يكون العكس هو الصحيح. ومن شروط النسخ أيضاً أن السنة الآحادية لا تنسخ القرآن عند جمهور العلماء. وقيل أيضاً: السنة المتواترة كذلك لا تنسخه. وكذلك المتواتر من الحديث لا ينسخ بحديث الآحاد. الخطوة الثالثة: الترجيح بين الدليلين : والترجيح يكون من جهات مختلفة، يجمع بينها أن جهة الترجيح قوة في أحد الدليلين المتعارضين يتميّز بها عن الآخر، فيكون ظنّ دلالته على المطلوب أقوى من دلالة الآخر، فيعمل بالراجح، ويطرح الآخر فيهمل. وهذه الجهات مختلفة. منها: 1 - الثبوت: لأن رجحان أحد الدليلين من حيث الثبوت، يقوّي الظن بأن الآخر مكذوب، أو موهوم. ومن هذه الجهة -جهة الثبوت- يقدّم المتواتر على الآحاد، ويرجّح الأكثر رواة على الأقل، ويرجّح ما سلم سنده على ما فيه اضطراب، وترجّح رواية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 الأضبط والأوثق على رواية من هو أقل منه ضبطاً أو ثقة. ويرجّح ما له شواهد، على ما لا يشهد له في الشرع شيء. 2 - ومنها: جهة جنس الدليل: وهي أن يكون جنس أحد الدليلين أقوى من جنس الدليل الآخر. فيقدّم القرآن على السنة والقياس. وتقدم السنن على الأقيسة. وأما الإجماع فقد قدّمه البعض على القرآن والسنة من جهة أنه لا يقبل النسخ. ورفض ذلك ابن تيمية (1) ومنكرو الإجماع كالشوكاني (2). 3 - ومنها: جهة الوضوح والصراحة: فيقدم القياس الجليّ على الخفيّ، ويقدم النصّ على الظاهر والمؤوّل، والحقيقة على المجاز. ويقدم ما ذُكرت علّته على ما لم تذكر علته، لأن ما ذكرت علته أوضح. ويقدم المنطوق على الإشارة والمفهوم. 4 - ومنها: جهة تأكد المدلول ولزومه للمكلّف: فيقدم النهي على الأمر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" (3). ومثاله تقديم حديث النهي عن الصلاة بعد العصر، على الأمر بالصلاة عند دخول المسجد قبل الجلوس فيه، في حق من دخل بعد العصر. ويقدّم ما كان أقرب إلى الاحتياط. والمرجحات كثيرة، إذ كل إمارة ثانويّة قد يرجّح بها إذا انقدح لدى المجتهد تغليبها لأحد الدليلين، على وجه صحيح مطابق للطرق الشرعية، والأصول المعتبرة. الخطوة الرابعة: التوقف أو التخيير : إذا عجز المجتهد عن الترجيح بوجه من الوجوه، فقد قيل: إنه يتوقف عن العمل بكلٍّ منهما. وقيل: يخيّر، فيفعل أي الوجهين شاء، لأن معه دليلاً على كلتا   (1) الفتاوى الكبرى 19/ 267 - 270 (2) إرشاد الفحول ص 73، 78 (3) رواه مسلم (الفتح الكبير). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 الصورتين. وقيل: إن ذلك يدل على بطلان الدليلين، فيتساقطان، ويرجع المجتهد كمن ليس عنده دليل. والله أعلم. التعارض في الأفعال: إن الدليل الفعليّ إما أن يعارضه دليل فعليّ آخر، أو دليل قوليّ، أو غير ذلك من الأدلة. فنعقد لكل من هذه الأحوال الثلاثة فصلاً. ونتبعها بفصل في تعارض التقرير وغيره. والله المسؤول أن يسدّد القول. ويعيّن على التمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 الفصل الأوّل التعارض بين الفعل والفعل (ويدخل فيه التعارض بين الفعل والترك) إذا ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلان مختلفان بأن يفعل الشيء مرة ويتركه أو يفعل ضده، كأن يصوم يوم اثنين ويفطر في يوم اثنين آخر أو يقوم عند رؤية جنازة، ثم يقعد عند رؤية جنازة أخرى، فما موقف المجتهد إزاء ذلك؟. إن أمام المجتهد طريقين في هذه المسألة، وقد ذهب إلى كل منهما بعض الأصوليين: الأول: أن يقال: إن ورودهما جميعاً ليس من التعارض في شيء. فينبني عليه أن كلاً من الفعلين جائز، فيتخيّر بينهما. ووجه أن الفعل يدل على الجواز، فلا تعارض. والثاني: أن يقال إنهما يتعارضان إذا لم يمكن الجمع بينهما، فإن علم التاريخ فإن الفعل الثاني منهما يكون ناسخاً للأول. وإن لم يعلم يرجح بينهما، وإلا تساقطا. أو يتخيّر المجتهد بينهما أو يتوقف، على ما تقدم في التعارض. ويستدل لهذا القول بما ورد في حديث ابن عباس: "إنهم -يعني صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -- كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره - صلى الله عليه وسلم -" (1). مذاهب الأصوليين في ذلك : 1 - ذهب القاضي الباقلاني إلى القول الأول. فرأى أن الفعلين لا يتعارضان، وأن التعارض فيهما محال. يقول في كتابه التقريب: "دخول التعارض   (1) رواه مسلم 2/ 231 والبخاري ومالك 1/ 294 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 في الفعلين محال، لأنه إن وقعا من شخصين، أو من شخص واحد في وقتين، أو على وجهين مختلفين، لم يكن بينهما تعارض، لأن الفعل يكون من أحد الفاعلين قربة، ويكون من الآخر معصية، ويكون من الشخص الواحد في وقت قربة، وفي وقت آخر حراماً" (1). اهـ. وممن قال بامتناع التعارض بين الفعلين أبو الحسين البصري والقشيري، والغزالي في المستصفى، وابن الهمّام وغيرهم (2). والظاهر من كلام الجويني في البرهان إنه يميل إلى هذا القول. وقال العلائي: "هذا القول هو الذي أطبق عليه جمهور أئمة الأصول". 2 - وذهب جمع آخر من العلماء إلى القول الثاني: ونسبه الجويني في البرهان إلى "كثير من العلماء" قال: "وللشافعي صغو إلى ذلك" (3) يشير إلى مسلك الشافعي في اختلاف الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة صلاة الخوف. وسوف نستعرض ما قاله رضي الله عنه في موضع آخر من هذا الفصل. وقال به أبو إسحاق الشيرازي (4) ونسب الشوكاني هذا القول إلى ابن رشد. ونسبه المازري (5) إلى الجمهور. ولعلّه يعني جمهور الفقهاء، لا جمهور الأصوليين. فإن هذا المسلك أغلب على كلام الفقهاء، كما يأتي. ووجه هذا القول، أن الأفعال لما كانت دالّة على الأحكام، كالأقوال، فإذا دلّ الفعل الأول على الوجوب مثلاً، ثم كان منه - صلى الله عليه وسلم - الترك، فإنه يدل على نسخ الوجوب. وكذا لو ترك على صفة يعلم منها التحريم، ثم فعل، فإنه يدل على نسخ التحريم.   (1) أبو شامة: المحقق ق 44 (2) انظر النقول عن هؤلاء وغيرهم في المحقق من علم الأصول لأبي شامة ق 42 - 47، وفي تفصيل الإجمال للعلائي ق 45 أ، ب. (3) أبو شامة: المحقق ق 43 أ. (4) اللمع ص 35 (5) أبو شامة: المحقق ق 46 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 تحرير محل النزاع : 1 - لا نزاع في أن الفعلين لا يتعارضان بالنظر إلى حقيقتهما، لأن كل فعل منهما يقع في زمان خاص، وشرط التعارض التساوي في الزمن بين المتضادين، فإذا فعل في وقت ثم ترك في وقت آخر، لم يكن ذلك تعارضاً. وكما أن الذوات لا تتعارض، فكذلك الأفعال، لأنها أكوان وجودية. ويقول أبو الحسين البصري: "الأفعال إنما تتنافى إذا كانت متضادة، وكان محلها واحداً ووقتها واحداً. ويستحيل أن يوجد الفعل وضده في وقت واحد، في محل واحد، فإذن يستحيل وجود أفعال متعارضة. أما الفعلان الضدّان في وقتين فليسا متعارضين بأنفسهما" (1). 2 - ولا نزاع أيضاً في أن الفعل إن كان بياناً لمجمل، أنه يحلّ محلّ القول. فإذا فعل بعد ذلك ما يعارضه، يحتمل أن يكون الفعل الثاني ناسخاً للأول، وذلك إن لم يكن الجمع بينهما. ويقول الشوكاني: "إن وقعت الأفعال بيانات للأقوال فقد تتعارض في الصورة، ولكن التعارض في الحقيقة راجع إلى المبيّنات من الأقوال، لا إلى بيانها من الأفعال، وذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" فإن آخر الفعلين ينسخ الأول كآخر القولين" (2). اهـ. ومما يمكن التمثيل به للأفعال البيانية المتعارضية صور صلاة الخوف. فقد وردت روايات تقتضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها على أربع وعشرين صفة، يثبت منها بحسب علم الاصطلاح ستة عشرة صفة (3). وقد مال الشافعي إلى الأخذ بالمتأخر منها، وهذا يحمل على معنى نسخ المتقدم منها بالمتأخر. ووجهه أن فعله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف بيان لما في القرآن. 3 - ولا نزاع أيضاً أن الفعل إذا دلّ دليل خاص على أن المراد دوامه وتكراره   (1) المعتمد 1/ 388 (2) إرشاد الفحول ص 39 (3) إرشاد الفحول ص 39 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 في المستقبل في حقه - صلى الله عليه وسلم -، ودلّ دليل خاص على أن المراد تأسي الأمة به في ذلك الفعل، أنه يجري فيه التعارض أيضاً لتنزّله منزلة القول. ويقول الباقلاني: "لا يمتنع أن يُستدَلّ بفعله - صلى الله عليه وسلم - على نسخ حكم ثبت، وهو أن يعلم بدليلٍ أن ما وقع من فعله - صلى الله عليه وسلم - المراد دوام فعله، فيحل ذلك محل القول الذي يقتضي دوام التعبّد بالفعل في المستقبل. فكما يصحّ دخول النسخ في حكم قولٍ هذه حاله، فكذلك يصح نسخ حكم فعل حلّ محله" (1). ويعلم أن المراد دوام الفعل وتكرره في المستقبل إذا علم ارتباطه بسبب متكررٍ (2)، كصوم الاثنين مثلاً، وصلاة الضحى. 4 - وواضح أيضاً أنه ليس من قبيل تعارض الفعلين اختلاف النقلة في الفعل الواحد إذا نقلوه على وجهين فأكثر. فإن هذا خارج عن مسألتنا، بل هو من قبيل التعارض في الرواية، فيجري الترجيح بين الرواة بالثقة والضبط، وغيرها، أو بالترجيح بين الصور المرويّة أنفسها. ومثاله صلاة الخسوف، فإن مسلماً روى فيها، في كل ركعة ثلاثة ركوعات، ورُوي كذلك في كل ركعة أربعة ركوعات. وقال ابن تيمية: "هذا ضعّفه حذّاق أهل العلم، وقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلّ الكسوف إلاّ مرة، يوم مات ابنه ابراهيم، وقد تواتر أنه إنما ركع ركوعين" (3). اهـ. وقد عقد الغزالي في المنخول (4) لاختلاف النقلة في الفعل الواحد مسألة. ونقل فيها عن الشافعي أنه يُتلقّى من نقلهم للصورتين جواز الآمرين. واختار الغزالي أن ذلك من تعارض النقلة، فيجري الترجيح، ولا يدلّ اختلافهم على جواز الأمرين. وبيّن أن ما نقل عن الشافعي إنما قاله في صلاة الخوف وكان ذلك منه ترجيحاً لإحدى الروايتين لقربها من أبّهة الصلاة.   (1) أبو شامة: المحقق ق 44 أ. (2) تيسير التحرير 3/ 147 (3) الفتاوى الكبرى 18/ 17، 18 وانظر مسألة عدد ركوعات صلاة الكسوف في فتح الباري 2/ 532 (4) ص 227. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 5 - ولا نزاع أيضاً أن ما كان من الأفعال لا دلالة له على الأحكام أصلاً، فإنه لا يقع فيه التعارض كالأفعال الجبليّة الاضطرارية، كالتنفس، وأصل الأكل والشرب. وكذلك الأفعال التي ثبت اختصاصه بها - صلى الله عليه وسلم -، لا تتعارض في حقنا، وقد تتعارض في حقه - صلى الله عليه وسلم -. فالذي فيه اختلاف ونزاع، إنما هو الأفعال المجرّدة المطلقة، وهي التي سبق أن عقدنا لها فصلاً في الباب الأول. وقد حكى أبو نصر القشيري عن الباقلاني، تحديدَ ما فيه الخلاف، فقال: "أما الأفعال المطلقة، التي لم تقع موقع البيان من الرسول، وهي التي يتوقف فيها الواقفية، فلا يتحقق فيها تعارض، فإن الأفعال لا صيغ لها" (1). اهـ. فهذا موضع النزاع. وقد بيّن المازَري موضع النزاع، وذكر ما يجري فيه الخلاف، وذلك حيث يقول: "إن قدّرنا تعدّي حكمه - صلى الله عليه وسلم - إلينا، صار من ناحية تعدّي الحكم إلينا، إما وجوباً أو ندباً، على الخلاف في ذلك، يتصوّر فيه التعارض، وينزل الفعل منزلة القول المشتمل على المعاني. فإذا نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - فعلان متعارضان، ولم يتصوّر فيهما طَرْقُ التأويل (يعني الجمع) فإن أحدهما يكون ناسخاً للآخر، فيُتَطَلّب التاريخ، حتى يعلم الآخِر، فيكون هو الناسخ. هذا مذهب الجمهور. ورأى القاضي (الباقلاني) أن النسخ هنا لم تدْعُ ضرورة إليه، كما دعت في الأقوال. لأن الفعل مقصور على فاعله ولا يتعداه. وليس كالصيغ المشتملة على معان متضادة. فإذا وجدنا فعلين متعارضين، حملناهما على التجويز والإباحة، وقلنا: القصد بيان جواز كل واحد من الفعلين" (2).   (1) أبو شامة: المحقق ق 44 أ. الزركشي: البحر المحيط 2/ 253 ب. (2) انظر هذا النص في المحقق لأبي شامة 46 أ، وعنه نقلناه. وانظره أيضاً في تفصيل الإجمال للعلائي ق 46 أ، وفي البحر المحيط للزركشي 2/ 254 ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 قال: "وهذا الذي قاله القاضي فيه نظر عندي، إلاّ على رأي الذاهبين إلى أن فعله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الإباحة. وليس القاضي من القائلين بذلك، بل مذهبه الوقف". اهـ. وقال العلائي في مفتتح كلامه في مسألة تعارض الفعلين: "اعلم أن الكلام في ذلك مبني على مسألة فعله - صلى الله عليه وسلم - ماذا يدل عليه في حق الأمة، والكلام في تلك المسألة مشهور طويل". قولنا في المسألة : لقد نقلت كلام المازري بتمامه لأني رأيته حدّد سبب الخلاف، وركّز عليه الضوء، فإن من قال بأن الفعل المجرّد يدل على الوجوب في حقنا، فإن الفعل يكون عنده شبيهاً بالقول، ولا حاجة إلى ورود دليل خاص يدل على التكرار في حقّه - صلى الله عليه وسلم - ولا على وجوب التأسّي. وأيضاً على قول المساواة، يتصوّر استفادة الوجوب في حقنا إن علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل الفعل على سبيل الوجوب. أما على قول الاستحباب، فيحتمل القول بالتعارض، لأن الاستحباب حكم شرعي يتصوّر نسخه، بأن نعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك الفعل على سبيل استباحة الترك، فيدلّ ذلك على زوال الاستحباب السابق. ويحتمل أن يقال: الترك للمستحب لا حرج فيه، فلا يدل على عدم الاستحباب. أما على القول بأن الفعل المجرّد لا يدلّ على أكثر من الإباحة فيتأتى القول بالتخيير بين الفعلين، وعدم التعارض بينهما. وأما ما استشكله المازَري من قول الباقلاني بالوقف في الأفعال المجرّدة، وقوله هنا باستفادة جواز الأمرين، فلم نر لفظ الباقلاني بحروفه لنعلم هل صرح بدلالته على الجواز في حقنا، فإن قال بذلك تناقض. ولعله إنما قال بالجواز في حقه - صلى الله عليه وسلم - خاصة. أما الغزالي، من القائلين بالوقف، فقد صرّح بامتناع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 التعارض بين الفعلين، ولكن ذكر أنه لا يستفاد من كلا الفعلين حكم بالنسبة إلينا. فالحاصل إننا لا نذهب إلى أيٍّ من القولين بكماله، بل نذهب إلى التفصيل. فبناء على ما تقدم اختياره من قول المساواة في الفعل المجرّد، وأن الفعل المجرّد قد يدل على الوجوب أو الاستحباب نقول: إن الذي نختاره عند اختلاف الفعلين ما يلي، ولم نجد أحداً فضله كما نذكر هنا، وبالله التوفيق: أولاً: إن كان الفعل بياناً أو امتثالًا لدالٍّ على الوجوب فعارضه فعل آخر، ولم يمكن الجمع بينهما، يعدّ الثاني ناسخاً للأول في حق الجميع (1) إن علم التاريخ، وإلاّ صير إلى الترجيح بينهما. ثانياً: وكذلك في الفعل المجرّد، إن قامت قرينة على أن الفعل الأول يدل على الوجوب في حقنا. ثالثاً: فإن حكمنا على الفعل الأول أنه للاستحباب، فالظاهر أن الترك له لا يعارض فعله ولا يبطل حكمه، ما لم يعلم أن الترك كان على سبيل ترك المباح، أو يتبين أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد إحداث طريقة جديدة في المسألة غير ما كان عليه أولاً. رابعاً: فإن لم يكن كذلك، وحكمنا بأن الفعل الأول دالّ على الإباحة، فإن الفعل الثاني لا يعارضه، بل يتخيّر بينهما، ما لم يعلم بقرينة أن الفعل الثاني وقع على سبيل الوجوب أو الاستحباب فيعمل به وتترك دلالة الأول. فالأمر في هذه المسألة، كما ترى، مبني على حكمنا على الفعل ماذا يدل عليه لو لم يعارضه الفعل الآخر، وعلى حكمنا على الفعل الثاني ماذا يدل عليه لو لم يعارض الفعل الأول، فإذا علم ذلك، جرى بينهما القانون السابق بيانه. ونحن نضرب أمثلة يتبيّن منها المقصود.   (1) نقل عن الكرخي أنه يكون ناسخاً في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده. انظر تيسير التحرير 3/ 148. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 المثال الأول: مسألة سجود السهو أهو قبل السلام أم بعده؟ (1). فيه حديث عبد الله بن بُحَيْنَة: ومعناه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسي التشهد فسجد قبل السلام (2). وروي عن الزهري: آخر الأمرين من النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود قبل السلام. وحديث عبد الله بن مسعود: ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى خمساً فسجد بعدما سلم (3). وحديث ذي اليدين وفيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد بعد السلام. مذهب الشافعي أن سجود السهو كله قبل السلام. ومدهب أبي حنيفة: سجود السهو كله بعد السلام، ويجوز قبل السلام. ومذهب مالك: ما كان من نقصٍ فقبل السلام. وما كان من زيادة فبعد السلام. ومذهب أحمد: السجود كله قبل السلام، إلا أن يكون ورد في مثله عن السلام. قول الشافعي مبني على قاعدة التعارض، وإن المتأخر ناسخ للمتقدم. والمتأخر هو السجود قبل السلام، بدلالة قول الزهري. وقول الحنفية مبني على أحاديث قولية في صحتها نظر. وقول مالك ذهب فيه مذهب الجمع بين الفعلين. وكذلك مذهب أحمد، أما جعله الأصل السجود قبل السلام، فمن جهة الترجيح، فإنه رجح بكون السجود من شأن الصلاة وإنه تتميم لها، فكأنه جزء من أجزائها.   (1) انظر الخلاف والاستدلال في هذا الفرع: المغني لابن قدامة 2/ 21 فتح الباري 3/ 92 وما بعدها. (2) البخاري 3/ 92 (3) البخاري 3/ 96 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 ولم ينقل ابن حجر، على كثرة ما نقل من كلام العلماء وخلافهم، قولاً بالتخيير، إلاّ عن البيهقي. فظاهر من هذا أن بعض هؤلاء الفقهاء ذهبوا إلى الطريقة الثانية في الأفعال المجردة المختلفة، وهي طريقة التعارض، ويجوز أن يحمل مسلكهم هذا على أن سجود السهو فعل بياني، فيتأتى فيه التعارض على كلا المذهبين الأصوليين في المسألة. المثال الثاني: القيام للجنازة (1): فيه حديث علي: "قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجنازة، ثم قعد" (2). الظاهر أن قيامه أولاً للاستحباب، لمخالفته العادة، ولتعبير الصحابي بلام التعليل. وفيه احتمال أنه قام لسبب. ليس هذا الفعل بيانيّاً، ولا دلّ على قصد الدوام عليه في المستقبل دليل. وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن استحباب القيام منسوخ بفعله - صلى الله عليه وسلم -. ووجه النسخ أنهما متعارضان، ويرجع إلى ما قلناه في قسم المستحب من أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يقصد أن يكون الترك مزيلاً لحكم السنة السابقة. ويتأيّد بفعلِ عليٍّ، إذ أمر الذين قاموا للجنازة أن يقعدوا، وذكر هذا الحديث. وذهب أحمد إلى أن فعله - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز، قال: إن قام لم أعِبْهُ، وإن جلس فلا بأس. وهذا أقرب إلى طريقة الأصوليين. ونحن إنما نتعرّض للمسألة الفرعيّة من حيث التمثيل بها للمسألة الأصولية. ونحيل بباقي الكلام فيها إلى كتب الفروع، وشروح الأحاديث. والله أعلم. المثال الثالث: حديث الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يعزل لأهله نفقة سنتهم من أموال بني النضير" (3).   (1) انظر لهذه المسألة الفرعية فتح الباري 2/ 181، المغني لابن قدامة 2/ 479، ونيل الأوطار 4/ 82 (2) رواه مسلم. (3) رواه البخاري 6/ 93، ومسلم 12/ 70، والترمذي 5/ 382 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 مع حديث الترمذي: "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدّخر شيئاً لغد" (1). هذا من التعارض في النقل. ويقدّم حديث الصحيحين، ويسقط حديث الترمذي، لأن المثبِتَ مقدّم على النافي، ولأن حديث الصحيحين أقوى. تنبيه: الحديث الذي احتجّ به القائلون بالتعارض، وهو ما قال ابن عباس: "يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس نصّاً في أنه يجب المصير إلى الفعل الثاني في جميع فروع المسألة، واعتبار الأول منسوخاً، بل ربما كان في بعض الصور على سبيل تقديم الثاني تقديم أولوية وأفضلية، لا تقديم ناسخ على منسوخ. وهذا واضح في حديث ابن عباس، فإنه قال ذلك في شأن إفطار النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر في غزوة الفتح، فجواز الإفطار في السفر قائم باتفاق. ولكن الاختلاف في الأفضلية، فعليها ينصب استدلال ابن عباس. وإنما يتعيّن المصير إلى النسخ حيث يتم التعارض وتوجد شروطه. والله أعلم. مسألة اختلاف الفعلين قلة وكثرة : هذه مسألة مهمة ذكرها الشاطبي (2). وهي كالتقييد لما أطلقه غيره من الأصوليين. وحاصلها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكون فِعْلُه في عبادة ما، مستمراً على طريقة معينة، ولكنه يؤثر أحياناً فعلاً مخالفاً للأول، إما على قلة، وإما في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال. فالذي ينبغي إزاء هذا، أن تقسم المسألة إلى قسمين: الأول: أن يكون للقلة سبب معلوم، من أجله خالف الأمر المستمرّ، ومثاله أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصلوات لأوائل أوقاتها، هذه عادته المستمرة، ولكنه أخّر أحياناً لعارض، كما قد أخّر الصلاة إلى آخر وقتها لكي يبيّن آخر الوقت لمن سأله عن   (1) رواه الترمذي 7/ 26 (2) الموافقات 3/ 59 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وقت الصلاة، ثم عاد إلى الصلاة في أول الوقت. وكإبراده بالظهر، وتأخيره لأجل الجمع في السفر. وحكم هذا النوع أن يتّبع السبب. وهذا النوع يتصوّر في الواجبات، بأن يترك الواجب لسبب، كتركه الجمعة من أجل السفر، وتركه القيام في الفريضة لأجل المرض. ويتصوّر أيضاً في المستحبات كما في الأمثلة المتقدمة. النوع الثاني: أن لا يتبيّن للقلة سبب، كقيام الرجل للرجل تعظيماً له، وكتقبيل اليد. فالأمر المستمرّ منه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقوم لأحد أو يقوم له أحد، ثم قد قام لجعفر بن أبي طالب لمّا قدم من الحبشة، وكان الأمر المستمرّ أن الصحابة لا يقبّلون يده، ثم قد قبّل يده ابن عمر مرة إن صحت الرواية، وقبّل يده بعض اليهود. والذي ينبغي في هذا النوع ترك القليل والتمسّك بالأمر المستمرّ. أو فعل القليل، ولكن على سبيل الندرة والقلّة، وينبغي أن لا يتمسّك بالقليل حتى يكون هو الطريقة العامة، والعادة التي يدرج عليها المسلمون، وخاصّة أهل العلم منهم. وهذا النوع لا يتصوّر في الواجبات، لأنها لا تترك لغير سبب. وإنما يتصوّر في المستحبات، فإنْ تُرِك الواجب لغير سبب كان ذلك نسخاً. مثال فرعي: الصلاة على الغائب في الصحيحين: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلّى، فصفّ بهم، وكبّر عليه أربع تكبيرات" (1). فإن كثيراً من المسلمين كانوا يموتون في أطراف الأرض، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي عليهم، وذلك فعله المستمرّ وقد صلّى على النجاشي. فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية: لا يصلّى على غائب. وقال الشافعي وأحمد في رواية: تجوز الصلاة على الغائب. فأما الأولون فمحمل الفعل عندهم على الخصوصية، ويتأيد بما في صحيح ابن حبان من حديث عمران بن حصين: "فقاموا فصفوا خلفه، وهم لا يظنون إلاّ أن الجنازة بين يديه" وبما ورد أن الأعراض زويت له - صلى الله عليه وسلم -.   (1) متفق عليه (جامع الأصول 7/ 142). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وأما القائلون بالجواز، فإن قولهم بالجواز هو نوع من الجمع بين الفعل والترك، فتكون صلاته على النجاشي عندهم من النوع الثاني، وهو غير المحمول على سبب خاص. وقد ذهب جمع من المحقّقين إلى أنه من النوع الأول الذي علم فيه سبب القلة، فقالوا إن النجاشيّ كان مسلماً بأرض الشرك، لم يصلّ عليه أحد، فيصلّى على الغائب إن كان كذلك. ذهب إلى هذا أبو داود في سننه والخطابي وابن تيمية (1). والله أعلم.   (1) نيل الأوطار 3/ 52 - 54 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الفصل الثاني تعارض الأقوال والأفعال - تمهيد. 1 - أسباب الاختلاف بين القول والفعل. 2 - الجمع بين القول والفعل إذا اختلفا. 3 - القول الذي يعارضه الفعل. 4 - الفعل الذي يصح معارضته للقول. 5 - نسخ حكم الفعل بالقول. وعكسه. 6 - العمل عند التعارض مع الجهل بالترتيب الزمني. 7 - الصور التفصيلية لاختلاف القول والفعل. - أمثلة تعين على إيضاح ما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 تعارض الأقوال والأفعال هذه مسألة مهمة ينبني عليها كثير من الاختلاف الفقهي، في الفروع التي خالف فيها فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قولَه. والأغلب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمر بفعل أو نهى عن فعل، يكون أول العاملين بمقتضى قوله، لقوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين}. ولأن اتفاق القول والفعل يؤكّد البيان ويقوّيه ويثبّته، كما تقدّم في أوائل هذه الرسالة. ويستثنى من هذا الأصل ما كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فقد يترك ما أَمَر به، أو يفعل ما نهَى عنه، إن كان له في ذلك حكم خاصّ، كما تقدم في فصل الخصائص. فالغالب اتفاق قوله وفعله - صلى الله عليه وسلم -. ولكن قد وردت مواضع كثيرة في السنة النبوية يخالف فيها القولُ الفعلَ. ولما كان قوله في الأصل دليلاً شرعياً، وكان فعله دليلاً شرعياً كما تقدم إثباته، فإن الاختلاف بينهما له أثره القوي في باب الاستدلال على الأحكام الشرعية. أمثلة على اختلاف القول والفعل: الأمثلة على ذلك في الشريعة كثيرة، منها أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول أو الغائط، واستدبرها هو. ومنها أنه نهى أن يصلوا خلف الإمام قياماً وهو جالس، ثم صلّى بهم كذلك. ومنها أنه أمر بعض الآكلين معه أن يأكل مما يليه، وتتبّع هو الدبّاء من نواحي القصعة. ومنها أنه أمر أن يوتر المتهجِّد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 بواحدة، وكان هو يوتر بسبعٍ أو تسع. ومنها أنه نهى عن الوصال في الصوم، وواصل هو. ومنها أنه أمر من نسي صلاةً، أو نام عنها، أن يصليها إذا ذكرها، ونام هو عن الصلاة، فلم يبادر إليها، بل انتقل بالذين معه إلى مكان آخر ثم صلّوا. إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة. وقد كانت المسائل التي وردت فيها هذه الأدلة موضع اختلاف صغير أو كبير، كما يعلم من تتبّع مراجع الفقه المقارن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 المبحث الأوّل أسبابُ الاختلاف بين القول والفعل أسباب هذا الاختلاف بين القول والفعل في حقيقة الأمر وواقعه، ترجع إلى واحد أو أكثر من الوجوه التالية: الأول: أن يكون ذلك من اختلاف النّقَلة، فيكون بعضهم قد وهم، أو كذب، أو صحّف، أو غير ذلك من وجوه اختلاف الحديث. ولا بدّ لتمحيص ذلك من الرجوع إلى الروايات المختلفة للأحاديث، ونقدها وتمحيصها والترجيح بينها، بحسب القواعد التي تذكر في أبواب الترجيح بين الأخبار في علم أصول الفقه، حتى تعرف أصدق الروايات في ذلك. والمرجع في مثل هذا إلى أهل الحديث ونقاده. ومن أجل ذلك فلن نتعرض له في هذا البحث. الثاني: النسخ، بأن يكون أحد الدليلين متأخراً عن الآخر، وقد قُصِد به إزالة حكم الأول. الثالث: الحمل على اختلاف الأسباب والدواعي فيكون - صلى الله عليه وسلم - قد فعل الفعل، أو تركه، لسبب لم ينقل إلينا، فيظن التعارض. الرابع: أن يكون الفعل خاصاً به، أو مما لا يحتج به على الأمة. الخامس: أن يكون القول على خلاف ظاهره. العمل عند اختلاف مقتضى الفعل والقول : الطريقة المتبعة هنا هي من حيث الجملة، الطريقة العامّة المتّبعة عند اختلاف الدليلين، بخطواتها الأربع المرتبة التي بيّناها في أول هذا الباب، وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 1 - الجمع 2 - اعتقاد النسخ 3 - الترجيح بمرجح خارجي 4 - التوقّف أو التخيير أو التساقط وفي كل من هذه الخطوات، بالنسبة إلى هذا المبحث، تفصيل نذكره في ما يلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 المبحث الثاني الجمع بين القول والفعل إذا اختلفا هذا أول المراتب وأولاها أن يعمل به إذا ظهر اختلاف بين القول والفعل، لأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. وسواء عُلِم تأخّر الفعل، أو تقدمه، أو جهل. فإن كان القول أمراً بفعل فتركه، بحمل الأمر على الاستحباب لا على الوجوب، كما أمر بأن يوتر المتهجّد بواحدة، وأوتر هو - صلى الله عليه وسلم - بسبع أو تسع. وإن كان نهياً عن فعل ففعله أمكن أن يحمل النهي على الكراهة، كما نَهَى عن الشرب قائماً وشرِب قائماً، ونهى عن استدبار القبلة بالبول أو الغائط واستقبالها، ثم استدبرها. ذَكَر هذه الطريقة ابن حزم الزركشي في البحر (1) وترد في كلام الفقهاء كثيراً. وربما أُورد على هذه الطريقة، أن حمل الأمر على الندب، وحمل النهي على الكراهة، هو إخراج لهما عن الحقيقة التي هي الأصل، إلى المجاز وهو خلاف الأصل. أما القول بخصوصيته - صلى الله عليه وسلم - بحكم الفعل فإنه يبقى الأمر والنهي معه على حقيقتهما، فيكون أولى. وقد أجاب الحافظ العلائي (2) عن هذا الاعتراض بأن الذي اختصّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمة شيء نزر يسير جداً، بالنسبة إلى باقي الأحكام، فالتزام المجاز أولى من التزام الخصوصية.   (1) 2/ 256 أ. (2) تفصيل الإجمال ق 53 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 تخصيص العموم بفعله - صلى الله عليه وسلم - : إذا ورد فعله - صلى الله عليه وسلم - مخالفاً في الحكم لمقتضى قول عام، كما نهى عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، وثبت أنه فعل ذلك، فإن إمكان خروجه هو - صلى الله عليه وسلم - من حكم العام لا إشكال فيه. وأما بالنسبة إلى الأمة، فهل يصحّ أن يكون ذلك تخصيصاً في حقهم؟ كأن يقال في المثال المتقدّم بجواز الاستقبال والاستدبار في البنيان دون الصحراء، استدلالاً بالفعل. هذه المسألة تنبني على حجية الفعل في حق الأمة: فمن قال إن الفعل لا يدل في حق الأمة على شيء، منع التخصيص به في مخالفة العموم. وقد نقل نفي جواز التخصيص بالفعل عن الكرخي وبعض الشافعية. واشترط الكرخي للجواز تكرر الفعل، لأنه إذا فعله مرة واحدة احتمل أن يكون من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - (1). واشترط الغزالي أن يَدُلّ بالقول على أن الفعل بيان (2). ومن توقف في ذلك، توقف في التخصيص به. وأما الذين قالوا في غير حال مخالفة العموم إن الفعل دليل في حق الأمة، وهو القول المختار، فلم يتفقوا على جواز التخصيص بالفعل في مخالفة العموم، بل ساروا في اتجاهين: الاتجاه الأول: امتناع التخصيص بالفعل، ذهب إلى ذلك الآمدي، واختار الوقف (3)، ووجه ذلك عنده أن عموم الأمر باتباع الأفعال والتأسّي بها، عارضه عموم القول المتقدم، وليس إبطال أحد العمومين عنده أولى من إبطال الآخر. ونُقِل مثل هذا القول عن القاضي عبد الجبار (4). وقال به أبو الحسين   (1) الزركشي: البحر المحيط 2/ 146 ب. (2) المستصفى 2/ 28 (3) الإحكام 2/ 482 (4) العلائي: تفصيل الإجمال ق 48 ب. أبو شامة: للمحقق ق 47 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 البصري في باب (الأفعال) (1) من كتابه، وأجاز التخصيص بالفعل في باب (العموم) (2) منه. وابن الحاجب (3) يرى أنه إن كان ثمة دليل خاص يوجب التأسّي بالفعل يكون نسخاً للقول إذا علم تأخره. وإن لم يكن دليل خاص، بل الدليل العام لوجوب الاتباع، فإن الدليل العام لوجوب الاتباع يكون مخصصاً بالقول المتقدم، فيبقى عليهم حكم القول المتقدم، ويمتنع اقتداؤهم به في الفعل. الاتجاه الثاني: وعليه عمل جمهور الفقهاء وتصرّفاتهم في الفروع؛ فإنها تدل على أنهم يجيزون التخصيص بالأفعال. ونسب الآمدي (4) القول بذلك إلى الشافعية والحنفية والحنابلة. وإليه ذهب أبو إسحاق الشيرازي (5)، والقاضي أبو يعلى (6)، والسمعاني (7) وغيرهم، واختاره الحافظ العلائي (8). فالفعل يكون عندهم مخصّصاً للقول العام في حق الأمّة أيضاً. وسواء تقدّم الفعل أو تأخّر، أو جهل التاريخ، على القول الراجح في تقديم الخاصّ على العام. قال العلائي: "والحجة لذلك أن القول بتخصيص فعله به - صلى الله عليه وسلم -، موجبٌ إبطال الدليل الدالّ على التأسّي به في ذلك الفعل، والقول بتخصيص القول بإحدى حالاته وتعميم حكم الفعل في حقه وحق الأمة إعمال للدليلين، وإعمال الدليلين أولى من ابطال أحدهما". قال: "ويتأيّد هذا بأن الأصل مشاركة الأمة له في الأحكام، إلاّ ما دلّ دليل على تخصيصه به - صلى الله عليه وسلم -". وأما ابن حزم (9) فيرى أنه يجوز تخصيص عموم القول بالفعل إن تأخّر   (1) المعتمد 1/ 392 (2) المعتمد 1/ 275 (3) مختصر ابن الحاجب 2/ 151 (4) الإحكام 2/ 480 (5) اللمع 21 (6) العدة ق 123 أ. (7) القواطع ق 54 أ. (8) تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال. ق 48 ب. (9) الإحكام 1/ 434 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 الفعل، لا إن تقدم الفعل، أو جهل الحال فإن تقدم الفعل وجب اعتقاد الفعل منسوخاً. وإن جهل الحال فالأشبه أن يكون الفعل متقدماً في الزمان ويكون منسوخاً. والصحيح ما اختاره الحافظ العلائي، لأن منصب النبي - صلى الله عليه وسلم - منصب البيان والتشريع، وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك هي موضع القدوة والأسوة، فيقتدى بها حيث أمكن. وإنما يمكن حملها على التخصيص إذا ظهر أنه - صلى الله عليه وسلم -، إنما خالف قوله لسبب معيّن، أو أمكن تعقّل معنى مناسب، يكون مناطاً لحكم الفعل. فإن لم يمكن ذلك وجب المصير إلى النسخ. ومن أمثلة التخصيص ما ورد من حثّه - صلى الله عليه وسلم - على صيام يوم عرفة، وترغيبه فيه، ثم أفطر بعرفة لما كان واقفاً بها. وقد أفطر وهو على بعيره ليراه الناس فكان هذا الفعل مخصصاً لحثه وترغيبه في الصيام، بالنسبة إلى ذلك المكان لمعنى يخصّه لا يوجد في غيره، وهو التقوِّي بالفطر على الاستكثار من الدّعاء، وذكر الله تعالى في ذلك الموقف الشريف (1). فإن لم يمكن الجمع والتخصيص تعارض القول والفعل، ووجب المصير إلى إبطال أحد الدليلين، أو التوقف. ونبدأ بتحقيق الظروف التي لا يتحقق التعارض دون توفرها.   (1) تفصيل الإجمال ق 53 ب. المحقق ص 49 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 المبحث الثالث القول الذي يعارضه الفعل القول الذي يوهم معارضة الفعل له، يكون على ثلاثة أنواع: الأول: أن يكون عاماً له - صلى الله عليه وسلم - وللأمة. والثاني أن يكون خاصاً به - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: أن يكون خاصّاً بالأمة -والمراد هنا أن لا يكون القول شاملاً له - صلى الله عليه وسلم -. ونحن نفصل القول في كل من هذه الأحوال، بالترتيب، فنقول: الحالة الأولى: أن يكون القول عاماً لنا وله. بأن يقول: "حرِّم علينا كذا" أو "وجب علينا كذا". فإذا فعل ما يخالفه دار الأمر بين احتمالات: 1 - أن يُجعل حكم فعله خاصّاً به. فيدل على استثنائه هو وحده - صلى الله عليه وسلم - من حكم العموم. وإنما يصلح هذا الوجه إن كان عموم القول له - صلى الله عليه وسلم - بطريق الظهور، كما لو قال: حُرِّم علينا كذا. ثم فعله، كما مثلنا. فإن نصّ على نفسه، فقال: حُرِّم عليّ وعليكم كذا، مثلاً، امتنع هذا الوجه، وتعارض في حقه، ووجب المصير إلى النسخ (1). ويتعارض القول العام والفعل في حقه أيضاً إن تقدّم القول، وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقتضاه، ثم فعل ضده، فإن الفعل الثاني يكون ناسخاً، ولا يجوز الحمل على الخصوصية (2).   (1) نبه إليه ابن الحاجب. راجع مختصره. وانظر نهاية السول للأسنوي 68 (2) البناني: حاشية جمع الجوامع 2/ 101 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 2 - أن يجعل فعله تخصيصاً لعموم قوله في حق الأمّة أيضاً، فيتبيّن بالفعل خروجه وخروج غيره، من حكم العام. ويكون ذلك إذا علم ارتباط فعله بالسبب، كما تقدم. فلا يتم التعارض. وفيه خلاف تقدم ذكره في مبحث التخصيص. وسواء بالنظر إلى هذين الاحتمالين، أن يتأخر الفعل عن القول أو يتقدم عليه. 3 - أن يُعْتَقَد المتأخر من القول أو الفعل ناسخاً للآخر، إن علم التاريخ. ويجيز الفقهاء هذا النوع من النسخ، ويتوقف فيه بعض الأصوليين. ويقدمون عليه الحمل على الخصوصية في حقه - صلى الله عليه وسلم -. الحالة الثانية: أن يكون القول خاصاً به - صلى الله عليه وسلم -. بأن يقول: حرم عليّ كذا. ويثبت أنه فعله. أو: وجب عليَّ كذا، ثم يتركه. وقد قيل في هذه الحال، إنه لما لم يكن القول متناولاً للأمة فليس ثمة إلاَّ احتمال واحد في حقه، هو النسخ بالمتأخر من القول أو الفعل. وفي حق الأمة لا تعارض، لعدم توارد الدليلين على موضع واحد. تنبيه: إذا قال - صلى الله عليه وسلم -: حرم علي كذا، أو وجب علي كذا، فهذا وإن كان خاصاً به من حيث اللفظ، إلاّ أنه ينبغي القول أن أمته ملحقة به، لما ورد من الأدلة القاضية بذلك. وقد تقدم بيان هذا في موضع سابق. ولا يمتنع إلحاق به إلاّ بدليل. فإن جاء الدليل على اختصاصه به حكمنا به. ومثاله أنه واصَلَ ونهاهم عن الوصال. فقالوا: إنك تواصل. فقال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني". ومن أجل ذلك تكون هذه الحالة الثانية قاصرة على ما دلّ الدليل فيه على الاختصاص. أما ورود مجرّد قوله: "أُمِرْتُ، ونُهيتُ، وحَرُم عليّ، ووجَب عليّ"، ونحو ذلك، فلا يمنع القول بالعموم، بل يكون من الحالة الأولى، وهي ما كان القول فيها عاماً لنا وله. لأن قوله: "أُمِرْتُ ونُهيتُ" بمنزلة قوله: "أُمِرنا ونُهينا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 فإن دلّ الدليل على اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى القول، فهي الحالة الثانية. فإن خالف الفعل مثل هذا النوع من القول، فلا تعارض في حق الأمة. وأما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ للمتقدم. الحالة الثالثة: أن يكون القول خاصاً بالأمة. مثل: "افعلوا أو اتركوا كذا، أو وجب أو حرم عليكم كذا". فإذا صدر مثل ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -، وثبت أنه خالفه فقد قيل بعدم التعارض بين القول والفعل في حقه - صلى الله عليه وسلم -. وقد وجّهه القائلون به بأنه لما لم يكن القول شاملاً له، فإنه لم يتوارد الدليلان عليه، بل ورد عليه أحدهما وهو الفعل. وهذا القول مبنيٌّ على قاعدة يذكرها الأصوليون في باب العموم حيث يرى بعضهم أن المتكلم لا يدخل في عموم متعلّق خطابه. ويرى الأكثرون دخوله، وهو الصواب، ما لم يكن دلّ على أن حكمه في ذلك ليس كحكمهم. فالحاصل فيما ورد من مثل: "افعلوا واتركوا وآمُرُكم وأنهاكم" أنه - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن يكون داخلاً في ذلك، فتكون من الحالة الأولى أيضاً، إلا حيث يدل على خروجه عن العموم دليل خاص. فإن دلّ على خروجه عن ذلك دليل فهي الحالة الثالثة. وحينئذ إن فعل هو خلاف ما أمرهم به فلا تعارض في حقه - صلى الله عليه وسلم -. وأما في حق الأمة فيحتمل التعارض. وسيأتي بيانه إن شاء الله. تكرر مقتضى القول : هل يشترط لحصول التعارض بين القول والفعل قيام الدليل على تكرر مقتضى القول؟ ذكر أبو الحسين البصري والغزالي ما يدل على اشتراط ذلك (1). ويفهم من كلام السبكي في جمع الجوامع أن ذلك شرط. وقد وجّهه الشربيني (2) بأن القول له مدلول لغويٌّ وضع له، فعند إطلاقه يدل عليه، وهو الماهيّة المتحققة   (1) المعتمد 1/ 386 المستصفى 2/ 53 (2) تقريره على شرح جمع الجوامع 2/ 99 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 بالمرة الواحدة. فإن تُرك الفعل بعد ذلك لم يكن معارضاً للقول. ولم يذكر هذا الشرط جمهور الأصوليين الذي ذكروا المسألة. ونحن نرى أن كلام السبكي هذا يصلح إن كان القول أمراً، على القول بأن الأمر المطلق لا يدل على التكرار، أما إن كان نهياً، فالنهي يقتضي دوام الترك، فيصدق على كل الزمان، فلا يشترط للتعارض حينئذٍ دليل خاص يدل على تكرر مدلوله. أما الأمر، فالدليل الدالّ على تكرر مقتضاه، قد يكون بتعليقه على متكرّر من شرط أو صفة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمس من شعره بشره شيئاً" (1). يعني بالعشر عشر ذي الحجة. وقد يكون غير ذلك مما يُدَل عليه بالقول.   (1) رواه مسلم في كتاب الأضاحي رقم 1977 من صحيحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 المبحث الرّابع الفعل الذي يصح معارضته للقول أما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فإن كل فعل من أفعاله يصح معارضته للقول الصادر عنه، إن كان القول خاصّاً به، أو شاملاً له. وأما في حق الأمة، إذا كان القول خاصاً بها أو شاملاً لها، فقد ذكر بعض الأصوليين في الفعل شروطاً لا يتم التعارض بدونها. وهي كما يلي: الشرط الأول: قيام دليل خاص على وجوب التأسّي بالفعل: فيجب أن يكون الفعل دالاً في حق الأمة، بأن لا يكون جبلياً، ولا خاصاً به - صلى الله عليه وسلم -. ثم الفعل البياني والامتثالي يصح معارضته للقول كما هو واضح، لقيامه مقام القول. وأما الفعل المجرّد، فمن قال إنه ليس دليلاً في حق الأمة، كما قاله الكرخي، والواقفية: الباقلاني والغزالي ومن تبعهما، اشترط أن يقوم دليل خاص على وجوب تأسيّ الأمة بنبيها في ذلك الفعل بعينه. فإن لم يقم مثل ذلك الدليل فلا تعارض، لأن الفعل المجرّد لا يدل عندهم في حق الأمة على شيء. وأما من قال بأن الفعل المجرّد دليل في حق الأمة على الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، فقد كان ينبغي أن لا يشترط لصحة التعارض قيام دليل خاص على التأسّي. وهذا هو الذي نختاره. بناء على ما تقدم إثباته في فصل الفعل المجرّد من الباب الأول. ويقول الشوكاني: "اعلم أنه لا يشترط وجود دليل خاص يدلّ على التأسّي، بل يكفي ما ورد في الكتاب العزيز من قوله تعالى: {لقد كان لكم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 رسول الله أسوة حسنة} ونحوه .. ومجرد فعله لذلك الفعل بحيث يطلع عليه غيره من أمته ينبغي أن يحمل على قصد التأسّي به، إذا لم يكن من الأفعال التي لا يتأسّى به فيها كأفعال الجبلة" (1). وقال القرافي مثل ذلك (2). وكان غريباً من الآمدي (3) والسبكي (4) أن يقولا في الفعل المجرّد إنه بصفته العامة دليل في حق الأمة، لما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث، ثم يشترطا لحصول التعارض قيام دليل خاص على التأسّي بالفعل. وقد وجه البناني ووافقه الشربيني (5) اشتراط قيام دليل خاص على التأسّي بالفعل، ليتم التعارض، مع إثبات التأسّي بالفعل المجرّد، بأن الفعل المجرّد إذا لم يعارضه قول، يمكن التأسّي به، للأدلة العامة القاضية بوجوب التأسيّ، أما إذا نوقض فإنه يضعف بتلك المناقضة، فيحتاج إلى قيام دليل خاص يدل على التأسّي ليصح التعارض. فإن لم يقم ذلك الدليل الخاص وجب تقديم القول مطلقاً. وظاهر كلام العلائي (6) أن أول من اشترط هذا الشرط الآمدي وابن الحاجب، ولم يذكره الرازي في محصوله (7). وعندي أن كلام القرافي والشوكاني أسدّ وأصوب، لأنه وإن كانت دلالة الفعل تضعف بمناقضة القول له، فدلالة القول أيضاً تضعف بمناقضة الفعل، فيبقيان على ما كان عليه من التناسب في القوة. والذي نعتقده أن الفقه الإسلامي بُنِي على تجاهل هذا الشرط، فإنه بتتبع كلام الفقهاء في استدلالاهم بالأحاديث، نجد غالبهم لا يلاحظون هذا الشرط ولا يقيمون له وزناً، كما سننقله في الأمثلة التي في آخر هذا الفصل إن شاء الله.   (1) إرشاد الفحول ص 41 (2) القرافي: شرح تنقيح الفصول ص128والعلائي: تفصيل الإجمال ق 58 ب، 63 ب. (3) انظر الإحكام 1/ 278 (4) انظر جمع الجوامع 2/ 100 (5) حاشية على شرح جمع الجوامع 2/ 100 (6) تفصيل الإجمال ق 52 أ. (7) أبو شامة: المحقق ق 49 أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 الشرط الثاني : أن يدل دليل على وجوب تكرار الفعل. وهذا الشرط أيضاً ذكره الآمدي وابن الحاجب ومن بعدهم، ولم يذكره المتقدمون. ووجه اشتراطه أنه إذا لم يقم دليل على وجوب تكراره عليه - صلى الله عليه وسلم - وقال قولاً مخالفاً له، فليس ذلك تعارضاً، لأنه لا عموم للفعل في الأزمان ومثاله ما لو صام يوم السبت، ثم قال بعد ذلك: صوم يوم السبت عليّ حرام. قال ابن الهمّام وشارحه في إيضاح ذلك: "قد أخذَتْ صفة الفعل مقتضاها منه بذلك الفعل الواحد، والقول الصادر بعد ذلك الفعل الواحد مسألة شرعية مستأنفة في حقه، لا ناسخ" (1). ولم يذكر السبكي في جمع الجوامع والمحلى هذا الشرط، وأشار إلى الردّ على من اشترطه بقوله: إن الفعل الصادر منه - صلى الله عليه وسلم - يدل على الجواز المستمرّ. وممن ذكَرَ بطلان هذا الشرط العطّار (2) والشربيني. ويقول الشربيني: "تقييد بعضهم بدلالة الدليل على تكرر مقتضى الفعل، هو تقييد لا حاجة إليه، لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - غير الجبلّيّ إنما يكون للتشريع، ومتى كان له، دام مقتضاه حتى يرفعه خلافه. وقد قالوا في الفعل المجهول الصفة إنه للوجوب، ولم يقل أحد إنه للوجوب مرة واحدة فقط" (3). اهـ. وعندي أن الخلاف في ذلك راجع إلى مسألة ما يدل عليه الفعل، فإن دلّ على الجواز ثم جاء القول مانعاً، لم يكن القول نسخاً ولا معارضاً عند من يقول إن الجواز المستفاد من الفعل ليس حكماً شرعياً، وإنما هو عدم الحكم. والى هذا نظر ابن الهمّام. أما من قال بأن الجواز المستفاد من الفعل هو حكم شرعي، أو حيث فهم أن   (1) تيسير التحرير 3/ 150 (2) حاشية على شرح جمع الجوامع. (3) تقريره على شرح جمع الجوامع 2/ 99 بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الفعل وقع على وجه الوجوب أو الندب، فإن القول الواقع بعده يجوز أن يقال إنه ناسخ له. تنبيه: يقول أبو شامة إن فائدة قولنا: "دلّ الدليل على التكرار" فيما إذا تقدم الفعل، لتحصل المعارضة بينه وبن القول المتناول للرسول - صلى الله عليه وسلم -. أما إذا تأخر الفعل فسواء دلّ على التكرار دليل أو لم يدل، لا أثر له فيما يرجع إلى تصوير المعارضة، اهـ. وقوله هذا سديد بيّن، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو فعل الفعل مرة واحد وقد سبق تحريمه، ولم نقدر نسخ التحريم، لكان الفعل معصية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 المبحث الخامس نسخ حكم الفعل بالقول وعكسُه إذا اختلف القول والفعل، ولم يمكن تخصيص القول بالفعل، ولا ظهر وجه للجمع بينهما، وتم التعارض، فإنه يتطلب التاريخ، فيكون آخرهما وروداً ناسخاً لأولها. وقد نقل الماوردي منع الشافعي لنسخ الفعل بالقول. ووافقه ابن عقيل الحنبلي (1). وهذا القول مردود عند جمهور العلماء، ولعل مراد الشافعي أن الفعل يستدلّ به على تقدّم قول ناسخ للقول الأول. أما إن جهل التاريخ فسنذكره في المبحث التالي. ثم قد يكون التعارض والنسخ في حقه - صلى الله عليه وسلم - وحده، أو في حق الأمة دونه، أو في حقهما جميعاً بحسب موضع التقابل بين الدليلين. وإنما يجوز المصير إلى النسخ إذا تحصل أمران: الأول: أن تتحق الشروط العامة، التي تذكر في باب النسخ من مباحث علم الأصول. ومنها ما يلي: 1 - أن يتراخى المتأخر من الدليلين عن المتقدم منهما، فإن تعقبه بحيث لم يمكن لأحد من الأمة تنفيذ مقتضاه، فلا يجوز النسخ. كأن يرد الدليل الثاني قبل دخول الوقت، أو دخل ولم يمض ما يتسع لتنفيذ الأول. وهذا الشرط ذكره بعض أصوليي المعتزلة (2) في باب النسخ. وذكروه في باب   (1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 192، 197 (2) المعتمد لأبي الحسين البصري 1/ 390 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 تعارض الأفعال وذكره كذلك الرازي في محصوله (1) قائلاً به. وأما غيره من الأصوليين، فليس هذا عندهم شرطاً، لأن النسخ عندهم يجوز قبل التمكن من الامتثال. واستدلوا بوقوعه، فقد نسخ الله تعالى عن إبراهيم أمره بذبح ابنه قبل أن يتمكن من الامتثال. ونسخ الله تعالى ليلة الإسراء عن هذه الأمة خمسين صلاة بخمس صلوات، قبل أن يعلموا بالمنسوخ. وهذا القول أصح. وعلى القول باشتراط التراخي إن تعقّب أحد الدليلين الآخر، وتم التعارض، لم يمكن القول بالنسخ، ووجب الحمل على الخصوصية إن أمكن. 2 - أن يعلم الترتيب الزمني بين الدليلين المتعارضين، فيكون آخرهما ناسخاً لأولهما ولا يجوز المصير إلى اعتبار أحدهما ناسخاً قبل تحقيق هذا الشرط. الأمر الثاني: أن تتحقق في كل من القول والفعل شروط التعارض التي تقدم ذكرها. فمن اعتبر في حصول التعارض شرطاً، لم يجز عنده النسخ قبل حصول ذلك الشرط.   (1) ق 54 أ، ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 المبحث السادس العمل عند التعارض مع الجهل بالترتيب الزّمني إذا تحقق التعارض وجهل التاريخ امتنع القول بالنسخ كما تقدم، وقد اختلف الأصوليون في ما على المجتهد أن يصنعه حيال ذلك، على مذاهب: الأول: أنه يقدم القول، لأنه الأصل في البيان، ولأنه أقوى في البيان من الفعل. قال العضد: "ولأن العمل بالقول يبطل مقتضى الفعل في حق الأمة فقط، ويبقى في حقه - صلى الله عليه وسلم -، والعمل بالفعل يبطل مقتضى القول جملة" (1). وإنما يرد دليله هذا إذا كان القول خاصاً بالأمة، أما إن كان القول عاماً لنا وله فلا. وإلى هذا القول ذهب الجصاص (2) والشيرازي والرازي والآمدي وابن حزم وأبو شامة والعلائي وغيرهم. الثاني: أنه يقدم الفعل، لأنه أقوى في البيان عند من قال به. ولم ينسب هذا القول إلى قائل معين. ونسبه أبو الخطاب في التمهيد (3) إلى بعض الشافعية. وقد تقدم لنا في الباب الأول ذكر مسألة الوازنة في القوة، بين القول والفعل، وبيّنّا هناك ما استدلّ به كل من الفريقين. الثالث: الوقف عن الترجيح، وذلك لأن لكل من الطرفين جهة يترجح بها، فيتعادلان. وإليه ذهب الباقلاني والغزالي وابن القشيري (4).   (1) شرح المنتهى 2/ 151 (2) أصول الجصاص ق 199 أ. (3) ق 92 (4) العلائي: تفصيل الإجمال ص 152 أ، الزركشي: البحر المحيط 2/ 255 ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الرابع: التفريق بين أن يكون التقابل في حقه - صلى الله عليه وسلم -، فيترجح الوقف، وبين أن يكون التقابل في حق الأمة فيترجح العمل بالقول. وإلى هذا ذهب ابن الحاجب والسبكي في جمع الجوامع (1). ووجّه شارحه المحلى هذا التفريق: "بأننا متعبّدون فيما يتعلق بنا بالعلم بحكمه، لنعمل معه، بخلاف ما يتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لا ضرورة إلى الترجيح فيه". وهذا المذهب الرابع هو ما نميل إليه، من حيث إن القول هو الأصل في البيان والتبليغ، ولأنه يدل بنفسه على المطلوب، والفعل لا يدل إلاّ بغيره، ولأن القول متفق على دلالته بخلاف الفعل، وإنما اختلف فيه لأنه أضعف دلالة من القول. هذا إن كان التقابل في حق الأمة فيرجّح لأجل العمل. أما إن كان التقابل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا حاجة إلى الاجتهاد في ذلك، إذ لا عمل ينبنى عليه، فهي مسألة خارجة عن موضوع علم الفقه، وتدخل في المسائل الاعتقادية، فيما كان يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو يجب عليه أو يمتنع. والله أعلى وأعلم.   (1) 2/ 101 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 المبحث السَّابع الصَّور التفصيلية لاختلاف القول والفِعل إن القواعد السابق بيانها في هذا الفصل تحدّد، بالإجمال، الطرق التي ينبغي للمجتهد أن يسلكها في كل حالة تعرض له من حالات اختلاف القول والفعل. ولكن الأصوليين، حرصاً منهم على أن يسنوا للمجتهدين مسالك واضحة يسلكونها عند التصرف في هذا المجال، لم يكتفوا بإجمال القول في العوامل المؤثرة في اختلاف الحكم، بل ذكروا الصور التفصيلية المحتملة، وبيّنوا الحكم في كل صورة كيف يكون. وما على المجتهد إلاّ أن يحقق في الاختلاف الذي ينظر فيه، من أي صورة هو، فيلحقه بها، فيحكم عليه بما يذكره الأصوليون لتلك الصورة. وتوضيحاً لذلك نذكر أولاً العوامل المؤثرة في هذه المسألة، في الجدول الآتي في الصفحة التالية: جدول الصور التفصيلية لاختلاف القول والفعل التسلسل ............... بيان العامل .......... عدد الحالات ............. بيانها العامل الأول: .......... الترتيب الزمني ........... (3) ......... تقدم القول. تقدم الفعل. مجهول العامل الثاني: ......... الفترة بين القول والفعل ... (2) ......... تعقب. تراخي العامل الثالث: ........ نوع القول ................ (3) ....... عام لنا وله - صلى الله عليه وسلم -. خاص به. خاص بنا العامل الرابع: ......... تكرر الفعل ............... (2) ......... قيام الدليل عليه. عدم قيام عليه الدليل الخامس: ....... التأسيّ بالفعل ........... (2) ......... قيام الدليل عليه. عدم قيام عليه العامل السادس: ....... تكرر مقتضى القول ...... (2) ......... قيام الدليل عليه. عدم قيام عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 مسالك الأصوليين في تعدد الصور التفصيلية : قد ذكرنا في الجدول المبيّن جميع العوامل التي قال الأصوليون بتأثيرها في نتيجة الاختلاف بين القول والفعل، سواء ما اتفقوا على تأثيره أو اختلفوا فيه. والصور تحتمل كما يتبيّن من الجدول، 144 (مئة وأربع وأربعون) صورة، ناتجة من ضرب عدد الحالات بعضها ببعض. وهناك عوامل أخرى يحتاج إلى النظر فيها أيضاً، كأن يكون القول الدالّ على التحريم أو الإيجاب نصاً أو ظاهراً، وكون العموم في العامل الرابع شاملاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - نصاً أو ظاهراً. فهذه أربعة تضرب في الحالات السابقة. إلاّ أن بعض هذه الصور لا تعقل، وبعضها لا فائدة في تفصيله، وبعضها لا يعرف له أمثلة في السنة. ثم إن من ألغى تأثير عامل من هذه العوامل الستة التي ذكرناها في الجدول. فإنه لا يدخله في الضرب، وينقص عدد الصور عنده بحسب ذلك. فمن أول من وجد له حصر لعدد هذه الصور، الرازي في محصوله (1)، وقد اعتبر العوامل الثلاثة الأولى فقط، وهي: الترتيب الزمني (3)، التعقُّب أو التراخي (2)، أنواع القول (3)، تكون الصور عنده (18) صورة، إلاّ أنه أسقط سدس هذا العدد وهي صور ثلاث، لما كان التعقُّب أو التراخي حال الجهل بالتاريخ، لا أثر له. فانحصرت الصور عنده في (15) صورة، ذكرها بالتفصيل واحدة واحدة، ثم بيّن الحكم في كل منها. وأما الآمدي فإنه أغفل عاملين من الستة، هما: الثاني (التعقُّب أو التراخي) السادس وهو تكرر مقتضى القول، واعتبر الأول (3)، والثالث (3) والرابع (2) والخامس (2) فانحصرت الصور عنده في (36) صورة ذكرها بالتفصيل وبين الحكم في كل منها. والسبكي اعتبر العامل الأول، وهو الترتيب الزمني (3)، والثالث وهو أنواع   (1) ق 53، 54 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 القول (3)، والسادس، وهو تكرّر مقتضى القول (2)، فانحصرت عنده الصور في (18) صورة (1)، وذكر عامل التأسّي بالفعل في بعض الصور. وأما أبو شامة (2) فقد أربى على شيخه الآمدي باعتبار عامل التعقُّب والتراخي أيضاً، فكانت الصور عنده اثنتين وسبعين (72)، أسقط منها سدسها وهو (12) صورة، لأن عامل التعقُّب والتراخي لا أثر له في حالة الجهل بالتاريخ، كما تقدم. فانحصرت الصور عنده في (60) ستين صورة، اكتفى بأن ذكر أنها ستون، وصوّرها بعبارات تدل على كل منها. ولم يبين الحكم في كل منها، وإنما ذكر القوانين الإجمالية التي ينبغي اتباعها عند تحديد الحكم في كل صورة. وقد تلقّف المسألة عنه الحافظ العلائي، وأخذ على عاتقه تفصيل هذه الصور الستن، وبيان الحكم في كل منها، واحدة واحدة. ثم مثّل بأمثلة كثيرة لتكون تطبيقاً وتدريباً ومزيد بيان. وسمّى رسالته (تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال) دلالة على ما صنعه في ذلك، إلا أنه لم يشر إلى أنه استمدّ مما صنع أبو شامة. وجاء الشوكاني (3) بعد ذلك فذكر العوامل عينها التي اعتبرها أبو شامة والعلائي، ولكنه أخطأ في الحساب، فجعلها (48) صورة، وقال ان ما ذكره أولى. ثم فصل القول في (14) صورة منها فقط، لأنه رأى أن أكثر الصور غير موجود في السنة. ونحن قد بيّنا في المطالب السابقة أن الأصح في بعض هذه العوامل الستة عدم تأثيره، ولذلك سنسقطه من الحساب. والعوامل التي نسقطها هي العامل الثاني، وهو عامل التعقُّب أو التراخي، والثالث وهو تكرر الفعل، والرابع وهو ثبوت الدليل على تأسّي الأمة بالفعل الخاص.   (1) تقرير الشربيني 2/ 99 (2) المحقق ق 48 - 50 (3) إرشاد الفحول ص 39 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 فالعوامل التي نراها مؤثرة ثلاثة لا غير، وقد فصلت في الجدول التالي: العامل الأول: .......... الترتيب الزمني ............ (3) .......... تقدم القول. تقدم الفعل. الجهل بالتاريخ العامل الثالث: .......... أنواع القول ............... (3) .......... عامّ لنا وله. خاص به. خاص بنا العامل السادس: ....... تكرّر مقتضى القول ....... (3) .......... قيام الدليل عليه. عدم قيام الدليل عليه فتنحصر الصور عندنا في (18) صورة. وهي التي تفهم من كلام السبكي. هذا هو الذي يترجح عندنا في عدد صور اختلاف القول والفعل. ولكننا سنعمد إلى ذكر الصور التي ذكرها أبو شامة، وفصّلها العلائي، وذلك بأن نضع كلام العلائي بنصّه ملحقاً بآخر هذا البحث. وقصدنا بذلك إيضاح خلاف العلماء في هذه الأصول، وبيان مآخذهم، ولعلّ الله أن يوفق لنشر رسالته كاملة في المستقبل. وسنكتفي بذكر كلام العلائي عن أن نفصّل القول في الصور الستين، مع أننا قد قدّمنا رأينا في كل عامل من العوامل المؤثرة في اختلاف الصور المذكورة. أمثلة تعين على إيضاح ما تقدم المثال الأول: حديث ابن عباس قال: "احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم واحتجم وهو صائم" (1) وحديث شداد بن أوس، ورافع بن خديج وثوبان وغيرهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يحتجم، فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم". 1 - التاريخ: ورد أن الحديث الأول، وهو احتجام النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان في حجة الوداع. ذكره الشافعي. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفطر الحاجم والمحجوم" فقد كان قبل ذلك لأن شداد بن أوس قال في حديثه (2): "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى رجلاً بالبقيع وهو يحتجم، وهو آخذ   (1) أحمد والبخاري (نيل الأوطار 4/ 213). (2) أبو داود (جامع الأصول 7/ 193). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 بيدي، لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدرك رمضان بعد حجة الوداع، فلا بدّ أن يكون قوله قبل فعله. 2 - نوع القول: القول عام لنا وله. على سبيل الظهور. 3 - قام الدليل على تكرر مقتضى القول، لأنه معلق بالصفة. فعلى هذا ينبغي أن يبقى حكم القول في حق الأمة، ويكون الإفطار خصوصية له. لكن يمنع القول بالخصوصية أنه لم يخص في باب القرب بشيء من الرخص. ولذلك يحصل التعارض، ويحكم بالنسخ في حقه - صلى الله عليه وسلم - وحق الأمة. وقد سلك الشوكاني مسلك الجمع، فحمل القول على الكراهة، وفيه نظر، فإنه ليس نهياً حتى يصح حمله على الكراهة وإنما هو حكم بالإفطار. المثال الثاني: حديث أنس، وخلاصته: أن رهطاً من العرنيين غدروا براعي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتلوه واستاقوا النعم، فبعث في آثارهم، فجيء بهم فسمل أعينهم، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا. مع حديث أنس والمغيرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المثلة (1). 1 - التاريخ: في رواية أنس أنه قال بعد أن ذكر حديث العرنيين: ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة، فالفعل متقدم على القول. 2 - القول وإن كان يبدو أنه خاص بنا، إلاّ أنه يشمله - صلى الله عليه وسلم -، على القول بأن المتكلم يدخل في عموم متعلق خطابه. 3 - الدليل قائم على تكرر مقتضى القول، لأنه نهي، والنهي يقتضي دوام الترك. فظاهر هذا أنه يكون الحكم في حقنا وحقه - صلى الله عليه وسلم - نسخ حكم الفعل المتقدم بالقول. والمعتمد عند الجمهور تحريم المثلة.   (1) حديث المغيرة: رواه الحاكم والطبراني. وحديث أنس رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 ورأى ابن الجوزي عدم التعارض، وأن ما فعله - صلى الله عليه وسلم - بهم من سَمْلِ الأعين ليس من المثلة، بل كان من باب القصاص، لأنهم فعلوا ذلك بالراعي. ففي رواية لمسلم وغيره عن أنس أنه قال: "إنما سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة". وقول ابن الجوزي هذا حسن، وهو من باب الجمع بين الحديثين بحمل كل منهما على حال. فالمثلة المنهي عنها ما كان على سبيل التشفّي، بأن نفعل بالقاتل ما لم يفعله بالمقتول. أما إن فعل بالمقتول شيئاً كقلع العين أو قطع الأذن أو غير ذلك مما فيه القصاص، جاز أن يفعل به مثله، لقوله تعالى: {والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (1). المثال الثالث: حديث الفضل بن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: من أصبح جنباً فلا صوم له. وحديث عائشة وأم سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم. 1 - التاريخ مجهول. 2 - القول عام لنا وله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً. 3 - الدليل قائم على تكرر مقتضى القول، لأن الحكم معلق بشرط. فظاهر ما تقدم حمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الخصوصية، ويعمل في حق الأمة بالقول. وقد ذهب إلى هذا قوم. وينبغي أن يردّ ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرخص له في باب القرب بشيء مما يقتضيه التعظيم، بل هو أولى بتعظيم شعائر الله، كما تقدم في فصل الخصائص من الباب الأول. فقد حصل التعارض، والذي ينبغي حسب القانون السابق تقديم القول. ولكن الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء تقديم الفعل وهو يجري على أحد وجهين:   (1) سورة البقرة: آية 194 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 إما على سبيل ترجيح الفعل بموافقته لإشارة الآية: {حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} فإن إباحة الجماع إلى هذه الغاية يلزم منه جواز تأخير الغسل إلى ما بعدها. وهي الطريقة التى سلكها الشافعي. وإما على سبيل نسخ القول بالفعل، وقد مال إليه الخطابي. وقواه ابن دقيق العيد (1) بدلالة الآية، فإنها تدل على إباحة إصابة الجنابة إلى آخر الليل، بعد أن كان ذلك ممنوعاً. فيظهر أن قوله: ("من أصبح جنباً فلا صوم له" كان قبل نزول الرخصة. والله أعلم. المثال الرابع: الوضوء مما مست النار، ورد فيه حديث أبي هريرة وعائشة عند مسلم (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "توضأوا مما مست النار" وعند مسلم أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. وقال جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدم الوضوء مما مست النار" (3). 1 - ذهب بعض الفقهاء إلى عدم التعارض بين الفعل والقول في هذه المسألة. والوجه في ذلك أن القول خاص بالأمة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (توضأوا) وهو (أمر) والمخاطب لا يدخل في عموم خطابه. فعليه يكون الوضوء مما مست النار واجباً في حق الأمة لم ينسخ، وترك الوضوء مما مست النار، لأنه فعل مجرّد، يكون خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وممن ذهب إلى وجوب الوضوء مما مست النار عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري والزهري وأبو قلابة وأبو مجلز، والشوكاني نقل هذا عنهم (4) وأرجعه إلى القاعدة الأصولية، على اعتبار أن القول لم يشمله - صلى الله عليه وسلم -، وأن فعله - صلى الله عليه وسلم - حمله على الخصوصية به.   (1) نيل الأوطار 4/ 225 (2) 4/ 44 (3) رواه الأربعة وابن حبان (نيل الأوطار 1/ 221). (4) (نيل الأوطار 2/ 221) ونقله الشوكاني أيضاً وابن قدامة (المغني 1/ 221) عن جملة من الصحابة منهم ابن عمر، وأبو طلحة، وأنس بن ملك، وأبو موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة. والنقل عنهم في هذه المسألة مضطرب. فإن النووي ذكر أكثرهم في القائلين بعدم الوضوء مما مست النار. وانظرة شرح صحيح مسلم 4/ 441 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 2 - وذهب بعض الصحابة منهم الخلفاء الراشدون، والأئمة الأربعة، إلى أنه لا يجب الوضوء مما مست النار. وقد احتجّ لهؤلاء بحديث جابر المتقدم: "كان آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مسته النار". وهذا يدل على أنهم يرون فعله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك معارضاً لقوله، ولكونه متأخراً عنه، يكون ناسخاً له. وهذه الطريقة أصحّ مما ذهب إليه الشوكاني، فإن القول وإن كان موجّهاً إلى الأمة فإنه يشمل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن المخاطب يدخل في عموم متعلق خطابه على الأرجح، ما لم يمنع من ذلك قرينة، ولا قرينة هنا، ولأن الفعل المجرّد دالّ في حق الأمة على ما اخترناه من قول المساواة، فيثبت بذلك النسخ. وهو المعتمد. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الفصل الثالث تعارض الفعل والأدلة الأخرى أولاً - القرآن: إذا اختلف القول من القرآن العظيم مع الفعل من النبي - صلى الله عليه وسلم - جاز الجمع بينهما، بوجه صحيح، كأن يحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الخصوصية به إذا دلّ عليها دليل، أو على أنه مخصص لدلالة القرآن في حقه - صلى الله عليه وسلم - وحق الأمة. ومثاله: أمره تعالى في القرآن بغسل الوجه، فمع كثرة ما نقلوا في صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم -، وما فضلوه من ذلك، لم ينقل أحد منهم أنه كان يغسل داخل عينيه، فكان هذا دلالة على أنه مستثنى من عموم غسل الوجه (1). ومثال الحمل على الخصوصية أن الله تعالى قال: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (2) وقد جمع - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك العدد، ودليل الخصوصية أنه منع من ذلك غيره، بل أمر غيلان بفراق ما زاد على أربعة، مع إقامته هو على الزيادة. ومثال التخصيص في حق الأمة أيضاً أنه تعالى قال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة} (3) ورجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً ولم يجلده. فدلّ على خروج الثيب من ذلك الحكم (4). فإن لم يظهر للتخصيص وجه، لم يجز نسخ القرآن بالفعل النبوي، عند من   (1) انظر لهذه المسألة الفرعية: المجموع للنووي ط المنيرية 1/ 368 (2) سورة النساء: آية 3 (3) سورة النور: آية 2 (4) أبو الحسين البصري: المعتمد 1/ 275 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 لا يجيز نسخ القرآن بالسنة النبوية (1). وهو الذي اخترناه. وقد تقدم إيضاحه. وأما من أجازه فهو يجيز نسخه بالفعل النبويّ، إلا أنه يشترط التواتر في ثبوت الفعل عند الأكثرين، لئلا يلزم نسخ المقطوع بالمظنون. ولا يجوز كذلك نصب المعارضة بين القول القرآني والفعل النبوي عند جهل التاريخ. بل القرآن مقدم على كل حال. وينبغي حمل الفعل على أنه صدر قبل نزول القرآن المعارض له. ثانياً- الإجماع: إذا خالف الإجماع الفعل النبويّ، فإن الإجماع مقدم عند كل من أثبت حجيّة الإجماع. وليس الإجماع هو الناسخ، وإنما يدل الإجماع على نص ناسخٍ لم ينقل إلينا. وأما من خالف في كون الإجماع حجة -كالشوكاني- فإن السنة الفعلية عنده مقدمة عليه. ثالثاً- القياس: إذا خالف الفعل القياس، فهو مبني على مسألة مخالفة القياس للسنة، وفيها قولان مشهوران: القول الأول: أن القياس إذا خالف السنة سقط، فلا ينسخها إن وَرَد بعدها، وإن جهل التاريخ فلا يقدم عليها. وهذا قول الجمهور من الفقهاء والأصوليين. ووجهه أن القياس إنما يستعمل مع عدم النص، فلا يجوز أن ينسخ النص، إذا الواجب اتباع النصوص، وكل قياس خالف النصوص فهو فاسد الوضع (2). فعلى هذا القول ينبغي أن ينظر: هل تكون مخالفة القياس للفعل النبويّ بدرجة مخالفته للقول النبوي تماماً، فيردّ إذا خالف الفعل كما يرد إذا خالف القول؟.   (1) انظر الزركشي: البحر المحيط 2/ 256 أ. (2) إرشاد الفحول ص 193 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 إنه كما تقدم إيضاحه، قد اختلف في الفعل هل يقوى على نسخ القول أم هو أضعف من أن ينسخه؟ والذي ينبغي أن يقال: إن من أجاز نسخ القول بالفعل يلزمه إجازة نسخ القياس بالفعل، ومن أجاز نسخ القول بفعل من نوع خاص -كالفعل البياني- مثلاً- دون ما عداه، يلزمه إجازة نسخ القياس بذلك النوع. ومن عزل الفعل كله -أو نوعاً منه كالمجرد- عن الدلالة، يلزمه عدم إجازة نسخ القياس به. القول الثاني: إن القياس يعمل به إذا عارض السنة، فتنسخ به السنة المتواترة وغيرها. وقيل تنسخ به السنة الآحادية فقط، وقيل إن كانت علته منصوصة لا مستنبطة. وقال الصفي الهندي: محلّ الخلاف في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما بعده فلا ينسخ به باتفاق. فعلى هذا القول ينبغي أن يجوز نسخ حكم الفعل النبوي بالقياس من باب أولى. قولنا في المسألة : إننا بناء على قول الجمهور، من امتناع نسخ السنة بالقياس، نرى ما يلي: 1 - القياس الجلي -ونعني به القياس بنفي الفارق- إن عارض الفعل البياني، يقدم الفعل البياني مطلقاً، كتقديم القول على القياس. 2 - أما القياس الجلي إن عارض الفعل المجرد، فلا ينبغي أن يشك في جواز نسخه لحكم الفعل المجرد، لأن حكم الفعل المجرد يتعدى إلينا بطريق القياس الجلي. كما تقدم إيضاحه. فيتعارض قياسان من نوع واحد، فينسح آخرهما أولهما. 3 - أما قياس العلة إذا خالف الفعل البياني، فعلى الخلاف المذكور في نسخ القول بالقياس. لأن الفعل البياني بدرجة القول ولا فرق بينهما، والذي ينبغي أن يقدم الفعل البياني على القياس. 4 - وأما قياس العلة إذا خالف الفعل المجرّد فإنه لضعف دلالته محل النظر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 والأولى أن يجري فيه مذهب الجمهور في تقديم السنن على الأقيسة. فينسخ القياس بالفعل المجرّد ويمتنع نسخ القياس له. والحاصل أننا نرى تقديم الفعل البياني على القياس بجميع أنواعه. أما الفعل المجرّد فنفرق بين مخالفته للقياس الجلي فنجعلهما بدرجة واحدة فيتعارضان، ويقدم المتأخر منهما إن علم وإلا فيرجح بينهما، فإن لم يمكن فالوقف. وبُيّن مخالفته لقياس العلة فنرى تقديم الفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 الفصل الرابع اختلاف التقرير والقَول أو الفِعْل تقدم في الباب الثاني ذكر التقرير، وأنه يدل على عدم تحريم الفعل على ذلك الفاعل، وأن مبنى حجيته أنه لو علم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفعل دليلاً يحرّمه لوجب عليه إنكاره. فلما أقرّه علم أنه لا حرج فيه ولا يمنعه دليل شرعيّ. وتقدم أن حكم الفعل المقرر عليه يتعدّى إلى سائر الأمة على الصحيح. ثم يحتمل أنه قبل ذلك الإقرار لم يكن دليل يمنع من الفعل أصلاً. ويحتمل أن ثمة دليلاً ولكن أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - تبديله بذلك الإقرار. ودلالة التقرير على عدم الحرج في صورة عدم تقدم دليل محرم أقوى منها في صورة تقدم مثل ذلك الدليل. أما بالنسبة إلينا، فإذا جاءنا الإقرار، فلم نره يعارض دليلاً شرعياً، فالوجه فيه ما تقدم بيانه. وأما إن خالف دليلاً شرعياً، فإما أن يخالف السنة القولية أو الفعلية. وعلى كل ذلك فالعمل عند الاختلاف كما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 المبحث الأوّل اختلاف التقرير والقول إذا اختلف القول والتقرير فإما أن يعلم تقدم التقرير على القول، أو يجهل المتقدم منهما، أو يعلم تأخر التقرير. فإن علم تقدم التقرير فلا عبرة به، ويقدم القول عليه، لأن التقرير قبل ورود الشروع لا يدلّ على حكم شرعي، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينكر أمراً لم يرد فيه شرع. وإن جهل المتقدّم منهما فيحتمل أن يكون الحكم كذلك، لأن القول أقوى منه. ويحتمل أن يجري فيه التعارض. أما إن تقدم القول، وجاء التقرير بعده مخالفاً له، فإنه يجب التخلُّص بواحد من الأوجه التالية بالترتيب: الأول: الجمع، بحمل القول إن كان نهياً على الكراهه، وإن كان أمراً على الاستحباب. وهذا أولى الوجوه وأيسرها، لأن فيه عملاً بكلا الدليلين. وقد قال ابن حزم: "إن كان تقدم في ذلك الشيء نهي فقط ثم رآه - صلى الله عليه وسلم - أو علمه فأقرّه، فإنما ذلك بيان أن النهي على سبيل الكراهة فقط، لأنه لا يحل لأحد أن يقول في شيء من الأوامر: إن هذا منسوخ، إلا ببرهان جلي. ومن قال في شيء من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله: هذا منسوخ أو مخصوص أو ليس عليه العمل، فقد قال: دعوا ما أمركم به ربكم ونبيكم ولا تعملوا به، وخذوا قولي وأطيعوني في خلاف ما أمرتم به" (1).   (1) الإحكام 1/ 484 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 الثاني: الحمل على الخصوصية: بأن يقال إن التقرير هذا خاص بمن قرر وحده، ولا يلتحق به غيره. وهو مقتضى ما ذهب إليه الباقلاني وسائر من قال إن حكم التقرير لا يعدى إلى غير المقرر. وقد تقدّم الرد عليه. فلما قام الدليل على أن الناس في أحكام الشرع سواء، لم يجز الحمل على الخصوصية إلاّ أن يأتي دليل يدل على ذلك، كتخصيص أبي بردة بالتضحية بعناق، وتخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده. فهذا الوجه وإن قال به البعض، مردود من أساسه ما لم يأت الدليل المذكور. وقد اختار ابن الحاجب (1) وغيره الخصوصية في ما إذا لم يتبيّن معنى يقتضي إلحاق غير المقرّر بالمقرّر. وسيأتي قريباً. ثم حيث قيل بالخصوصية للمقرر، فهي إما على وجه التخصيص من حكم العام (أعني بيان أنه لم يرد دخوله في العامِّ أصلاً)، وإما على وجه النسخ في حقه، والأول أولى حيث أمكن، وإلاّ فيتعين النسخ. ويتعيّن في أحوال؛ منها: أن يكون القول خاصاً بالمقرر، أو يكون المقرر قد علم دخوله في حكم العام بدليل. الثالث: التخصيص في حق الأمة: وذلك بأن يعلم معنى خاص في المقرر لأجله حصل الإقرار، فمن وجد فيه ذلك المعنى استثنى أيضاً من حكم العام قياساً على المقرر، بمقتضى العلة، وبدلالة الإجماع على أن الأمة في أحكام الشرع سواء (2).   (1) المختصر 2/ 151 (2) ابن الحاجب: المختصر 2/ 151، الآمدي 2/ 484 وانظر: البحر المحيط للزركشي 2/ 147ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وهذا الوجه أيضاً مقدم على النسخ في حق الأمة، لأن فيه عملاً بدلالة التقرير في حيّز المعنى المشترك، وعملاً بدلالة القول في ما خرج عن ذلك. ومن التخصيص أيضاً أن يكون القول عاماً في جنس من الأشياء، ويكون التقرير على خلاف العموم في نوع من ذلك الجنس، فيخصص العموم بالتقرير ومثاله: الأمر بأخذ الزكاة من الأموال، ثم أقرهم على ترك أخذ الزكاة من الدور والأثاث والخيل وغيرها. الرابع: نسخ القول بالتقرير: وسواء أكان القول في حق المقرر وحده أو كان عاماً له ولغيره، لأن حكم التقرير عام كما تقدم. فينسخ عموم القول. ولم يرتض هذا الوجه الآمدي (1) وابن الحاجب (2) وغيرهما. ورأيا أنه إذا لم يتبيّن علة تقتضي إلحاق غير المقرر بالمقرر، أن الواجب حمل التقرير على الخصوصية بالمقرر وحده. ونقل الزركشي (3) والعلائي: "أن كثيراً من أئمة الأصول صرحوا بأن الفعل إذا سبق تحريمه، فيتضمن تقريره نسخ ذلك التحريم" (4) قال الزركشي: "وقد نص الشافعي أن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة قياماً خلفه، وهو جالس، ناسخ لأمره السابق بالقعود" وممن صرح بنسخ الأمر بالتقرير ابن حزم (5). وهو ظاهر صنع الغزالي (6). وقد وجّه ابن الحاجب قوله، بأنه لما انتفت العلّة الجامعة امتنع قياس العلة، ولا يجوز هنا الإلحاق بنفي الفارق لأنه إنما يصح إذا علم انتفاء الفارق، لأن الاختلاف في الأحكام ثابت قطعاً، كالطاهر والحائض، والمقيم وللسافر، وهنا لم يعلم انتفاء الفارق فلا يجوز الإلحاق.   (1) الإحكام 2/ 484 (2) المختصر 2/ 151 (3) البحر المحيط 2/ 256 ب. (4) تفصيل الإجمال ق 68 ب. (5) الإحكام 1/ 484 (6) المستصفى 2/ 29 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 ونحن نرى أن القول بجواز نسخ القول بالتقرير، أصحّ من القول بامتناعه، وذلك من أوجه: الأول: أنه قد يعلم انتفاء الفارق في بعض الصور، كالمثال الذي نقلنا قول الشافعي فيه. الثاني: ما نقل من الإجماع على أن الأمة في أحكام الشرع سواء. ويشهد له في هذا المقام ما ورد عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: "ردّ النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا" (1) إذ أن قوله هذا يدل على أنهم كانوا يرون التقرير لواحد على خلاف العموم، هو تقريره لغيره. الثالث: أنه لو كان الإقرار على خلاف مقتضى العموم خاصاً بالمقرر لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان الخصوصية، لئلا يكون ذلك تلبيساً على من علم بذلك الإقرار. وقد قال الغزالي: "لو كان (الفعل القرر عليه) من خاصيته -أي المقرر- لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيّن اختصاصه، بعد أن عرّف أمته أن حكمه في الواحد كحكمه في الجماعة، فيدلّ من هذا الوجه على النسخ المطلق" (2). صور اختلاف التقرير والقول : إذا أقرّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنساناً مؤمناً متبعاً على فعلٍ سبق النهي عنه، أو على ترك فعل سبق الأمر به، فتقريره حجة كما تقدم. وفي المسألة عوامل ثلاثة تؤثّر في حكمها: العامل الأول: (وله حلاّن) لأن القول إما أن يكون خاصاً بالمقرر، أو عاماً له ولغيره. فإذا كان القول خاصاً به، لم يحتمل أن يكون التقرير تخصيصاً، واحتمل أن يؤول القول إن أمكن، وإلاّ فالنسخ.   (1) رواه مسلم 9/ 176 والبخاري 9/ 117 (2) المستصفى 2/ 29 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 أما إن كان القول عاماً للمقرر وغيره فإما أن يؤول القول، أو يكون التقرير تخصيصاً إذا ظهر المعنى، وإلاّ فالنسخ. العامل الثاني: (وله ثلاثة أحوال) أن يكون القول نصّاً في الإلزام كلفظ الوجوب والفرض، والتحريم، والحظر، أو يكون ظاهراً في الإلزام كلفظ الأمر والنهي. أو لا يكون للإلزام أصلاً، كألفاظ الترغيب والإباحة. فإن كان القول نصّاً في الإلزام، لم يحتمل الجمع بينه وبين التقرير بحمل القول على الاستحباب أو الكراهة. ولكن يجب المصير إلى التخصيص إن صح، وإلاّ فالنسخ. وإن كان القول ظاهراً في الإلزام، أمكن الجمع بحمله على خلاف ظاهره، فيكون للاستحباب أو الكراهة. وإن كان القول للاستحباب أو الكراهة فلا تعارض. تنبيه: في الإقرار على فعل المكروه بحث، وينظر في فصل الإقرار من الباب الثاني. العامل الثالث: (وله حالان) أن يقوم دليل على تكرار مقتضى القول، أو لا يقوم عليه دليل. ومثال ما قام الدليل على تكراره النهي، فإنه يقتضي الدوام. وكذلك الأمر إن علّق بسبب أو وصفٍ متكررين. فإن أقرّ على خلافه وجب المصير إلى الجمع إن أمكن، وإلا فالتخصيص وإلاّ فالنسخ. أما إن لم يقم الدليل على وجوب تكراره فلا تعارض أصلاً إذا كان المقَرُّ قد فعله مرة واحدة. فإن كان لم يفعله ألبتة، وأقره على تركه، فهو كما لو قام الدليل على تكرر مقتضى القول. ففي المسألة اثنتا عشرة صورة، تنشأ من ضرب عدد أحوال العوامل بعضها في بعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وفي ما ذكرناه من هذا القول المجمل كفاية، ولا حاجة إلى ذكر الصور التفصيلية. ونزيد المسألة بذكر عدة أمثلة تعين على توضيح المقصود. وبالله التوفيق. أمثلة على اختلاف القول والتقرير : المثال الأول (1): حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الإمام: "إن صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً أجمعون" (2) ثم ثبت أنه صلّى في مرض موته بأصحابه جالساً وهم قيام. فهذا التقرير متأخّر. والقول وإن كان أمراً يُظَنُّ إمكان حمله على الاستحباب كما فعل ابن حزم (3) في هذا المثال، لكن لما كان في شأن متابعة الإمام، فمتابعته واجبة، كما هو ظاهر من سياق الحديث بتمامه. وكون الأمر معلقاً بالشرط يبين أنه للتكرار. واجتماع هذه الأمور يعين النسخ. وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: الأول: أن يقدم القول. فيمتنع القيام خلف الإمام الجالس للضرورة، إذا كان المأموم قادراً. وإليه ذهب الحنابلة، وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان من الشافعية، قالوا: وهذا إن ابتدأ الإمام الصلاة قاعداً، فإن ابتدأها قائماً ثم عرض له العذر فجلس، استمروا قياماً، أخذاً من ابتداء أبي بكر الصلاة قائما ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بهم جالساً. وهذا نوع من الجمع بين القول والتقرير بحمل كل من الحديثين على حالة خاصة.   (1) راجع لمذاهب الفقهاء في هذه المسألة: فتح الباري 2/ 175. ابن دقيق العيد: شرح العمدة 1/ 196 ابن قدامة: المغني 2/ 222 (2) رواه البخاري ومسلم 4/ 133 (3) الإحكام في أصول الأحكام 1/ 484 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 والثاني: وهو قول الشافعي والحنفية. أنهم يصلون قياماً والإمام قاعد. ووجهه أن التقرير ناسخ للقول المتقدم. فيزول وجوب الجلوس خلف القاعد. وإذا زال تعيّن القيام، على الأصل من أن القيام ركن في الفرض في حق القادر عليه. والثالث: مذهب مالك ومحمد بن الحسن، أن اقتداء القادر على القيام، بالقاعد، لا يصحّ أصلاً، سواء صلّى المأموم قاعداً أو قائماً. ووجهه أيضاً نسخ القول بالتقرير، فيزول وجوب القعود خلف الإمام القاعد. ثم نسخت إمامة القاعد جملة بحديث: "لا يؤمّنَّ أحد بعدي جالساً" (1). وهو حديث ضعيف. المثال الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي نشد الضالة في المسجد: "لا وجدتّ، إنما بنيت الساجد لما بنيت له" (2). وورد أنه - صلى الله عليه وسلم - أقرّ الحبشة يوم العيد على اللعب بالحراب في المسجد. واضح أن هذا من جنس التخصيص، فإن هذا النوع من اللعب تمرين على الجهاد وتنشيط له. ولأن إظهار الفرح والسرور مشروع ليوم العيد. المثال الثالث: أنه - صلى الله عليه وسلم - حرّم التصوير ولعن المصوّر (3). وورد أن عائشة اتخذت وسادتين فيهما صور، وأنها كانت تلعب بالبنات - وهي اللعب الصغار- وأقرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. فمن العلماء من أخذ بالقول، واعتبر التقرير سابقاً في التاريخ على القول، فلم يأخذ به.   (1) أخرجه الدارقطني من طريق جابر الجعفي وهو متروك، عن الشعبي مرسلاً (الخصائص الكبرى للسيوطي 3/ 214) (2) رواه مسلم 5/ 54 وأبو داود وابن ماجه وأحمد. (3) صحيح البخاري (ط الحلبي مع فتح الباري 5/ 218). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 ومنهم من قال بالتخصيص، فيجوز اتخاذ الصور الممتهنة، في البسط والفرش ونحوها دون ما سواها. ويجوز أيضاً اتخاذ اللعب لصغار النساء تدريباً لهن على العناية بالأطفال. المثال الرابع: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الغلول، وإحراقه رحل الغال (1)، يدل على تحريمه. وورد عن عبد الله بن مغفّل أنه أصاب جراب شحم يوم خيبر. قال: "فالتزمته فقلت: لا أعطى اليوم أحداً من هذا شيئاً. فالتفتُّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسماً". اتفق العلماء (2) على أن هذا الحديث مخصّص للنهي عن الغلول، وأنه يجوز الأكل من طعام أهل الحرب ما دام المسلمون في دار الحرب، فيأكلون منه قدر حاجتهم.   (1) أبو داود 7/ 383 (2) العلائي: تفصيل الإجمال ق 70 ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 المبحث الثاني اختلاف التقرير والفعل إذا اتفق الفعل والتقرير، فذلك يزيد في قوة دلالة الفعل، لأنه يقطع احتمال الخصوصية بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. أما إذا خالف التقرير الفعل فإنه يقدح في دلالته ويضعفها (1). واختلاف التقرير والفعل أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، ويقر أحداً على تركه، أو بتركه شيئاً ويقر أحداً على فعله. فإن كان ذلك في الأفعال الجبلية أو نحوها مما لا دلالة له على تشريع فلا أثر له. وكذلك الأفعال الدالة على الإباحة. وإن كان الفعل خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإقراره على خلافه واضح أنه من باب التقرير الابتدائي. وأما إذا كان فعله بيانياً، أو امتثالياً، فأقر على خلافه أو دل الدليل على أن فعله المجرّد للوجوب فأقر على خلافه، فهو موضع للنظر. والذي يظهر أنه إن أمكن الجمع وجب المصير إليه، وإلا فالتخصيص. فإن لم يكن وكان الفعل متأخراً فهو المعتبر، وإن كان متقدماً اعتبر حكمه منسوخاً بالتقرير، وإن جهل الحال يقدم الفعل (2) على التقرير لأنه أدل منه، ولأن التقرير يطرقه من الاحتمالات ما لا يطرق الفعل.   (1) انظر: الموافقات للشاطبي 4/ 72 (2) السبكي: جمع الجوامع 2/ 365 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 أمثلة على اختلاف الفعل والتقرير : من أمثلة اختلاف الفعل والتقرير ما في حديث جابر في صفة الحج أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أهل التوحيد: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" ولبى الناس، والناس يزيدون "لبَّيْكَ ذا المعارج" والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع فلم يقل شيئاً" (1). اهـ. فما كان يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلبيته فعل بياني. وتقريره يدل على أن الاقتصار على ذلك اللفظ غير متعين بل يجوز زيادة ما بمعناه من اللفظ. ثم قد قيل إن الاقتصار على اللفظ النبوي أولى. وفيه نظر، إذ إن لكل ما زاد من الذكر أجره. مثال ثان: تركه - صلى الله عليه وسلم - أكل الضب. وقد أكل على مائدته. لا تعارض هنا، لأنه تركه على وجه العيافة له، وذلك أمر جبلّيّ. ختام الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. اللهم كما أرسلت إلينا رسولاً من أنفسنا من يعلمنا الكتاب والحكمة، ويعلمنا ما كنا به جاهلين، اللهم كما بدأتنا بنعمتك قبل استحقاقها، وأدمتها علينا مع الإعراض منا والغفلة والتقصير، اللهم وكما وجهت همتي إلى خدمة سنة رسولك العظيم، وتيسير العمل بها للعاملين، اللهم وكما أعنت على التمام، ويسَّرت الوصول إلى المرام، وأزحت عن البدن علله، وعن النفس عوائقها،   (1) رواه أحمد في المسند 3/ 320 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 اللهم فإني أرفع إليك ثمرة الجهد الضئيل لولا عونك، فاجعل فيها من بركاتك، فإن القليل بنعمتك كثير، والحقير بها كبير. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 ملحق الصور التفصيلية لاختلاف القول والفعل مع بيان الحكم في كل منهما قطعة من رسالة الحافظ العلائي المسمَّاة تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال المخطوط رقم (135 مجاميع بدار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الحافظ العلائي (1): تفصيل حكم هذه الصور يتضح بجعلها على أربعة أقطاب، بحسب تكرر الفعل أو التأسّي به [أو عدم أحدهما]، أو عدمهما. القُطبُ الأوَّل أن لا يدل دليل على وجوب تكرار الفعل في حقه - صلى الله عليه وسلم -، ولا على وجوب تأسّي الأمة به فيه. ويتضمن خمس عشرة صورة: لأنه إما أن يكون القول خاصّاً به، أو خاصاً بنا، أو عامّاً لنا وله. وعلى الأقسام الثلاثة: إما أن يعلم تقدم الفعل، أو تقدم القول، أو يجهل التاريخ. وفي حالتي التقدم: إما أن يتعقّب الآخر أو يتراخى. 1 - الصورة الأولى: أن يتقدم الفعل. ويكون القول خاصاً به، متصلاً بالفعل، من غير تراخ. 2 - والثانية: أن يكون كذلك، إلاّ أنه متراخ عن الفعل. ومثاله في الصورتين: أن يفعل - صلى الله عليه وسلم - فعلاً، ثم يقول: إما على الفور أو على التراخي: لا يجوز لي مثل هذا الفعل في مثل ذلك الوقت. ففي هاتين الصورتين لا تعارض بين القول والفعل أصلاً لا في حقه، ولا في   (1) تفصيل الإجمال ق 56 ب - 64 ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 حق الأمة، أما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فلأن القول لم يرفع حكم ما تقدم من الفعل في الماضي ولا في المستقبل. لأن الماضي لا يرتفع، والفرض أن الفعل غير مقتضٍ للتكرار بالنسبة إليه. وأما في حق الأمة فظاهر، لأنه ليس لأحد من القول والفعل تعلّق بهم. 3، 4 الصورتان الثالثة الرابعة: أن يتقدم هذا الفعل ويكون القول (1) خاصاً بالأمة إما متعقباً، أو على التراخي. مثل أن يفعل - صلى الله عليه وسلم - فعلاً، ثم يقول: لا يجوز لكم هذا الفعل. ففي هاتين الصورتين أيضاً لا تعارض بينهما، لأن الفعل لم يقم دليل خاص على تأسي الأمة به فيه. فكان مختصاً به. والقول خاص بالأمة، فلا تعارض. هكذا صرح به جماعة منهم الآمدي وابن الحاجب. فإن قيل: لا يلزم عن عدم قيام الدليل على التأسّي به في هذا الفعل الخاص أن يكون مختصاً به، بل يكتفى بالأدلة العامة على التأسّي به مطلقاً. قلت: لو اعتبر ذلك لزم منه النسخ، والتخصيص أولى منه. فلذلك قلنا أن الفعل يكون خاصاً به - صلى الله عليه وسلم -. 5، 6 الصورتان الخامسة والسادسة: أن يتقدم الفعل، ويكون القول بعده، عاماً له وللأمة إما متعقباً، أو على التراخي. فقال الآمدي وغيره لا معارضة بينهما أيضاً: أما بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - فلما تقدم فيما إذا كان القول خاصاً به. وأما بالنسبة إلينا فلأن فعله غير متعلق بنا على ما وقع به الفرض. وفصل ابن الحاجب بين أن يكون العموم بطريق التنصيص أو بطريق الظهور. فإن كان على وجه النصوصية، مثل أن يفعل فعلاً، ثم يقول: حرم علي وعلى أمتي هذا الفعل في مثل ذلك الوقت، فلا تعارض أصلاً، لا في حقه ولا في   (1) في الأصل: الفعل. وهو خطأ، يظهر أنه من الناسخ، كما لا يخفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 حقنا، لعدم وجوب تكرار الفعل، ولعدم وجوب التأسيّ به. وإن كان العموم على وجه الظهور، قال: فبالنسبة إلينا لا تعارض أيضاً، لما تقدم، أما بالنسبة إليه فيكون فعله مخصصاً لذلك القول. ولقائل أن يقول: إما أن لا يمكن الجمع بين القول والفعل بطريق بناء العام على الخاص، أو يمكن ذلك. فإن أمكن، بأن يكون الفعل مختصاً يتضمن صورة القول كما تقدم في النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة، واستدبارها مطلقاً، مع الفعل في البيوت، فها هنا الذي ينبغي أن يكون الراجح ما قدمناه من تخصيص القول فيما عدا صورة الفعل، إعمالاً للأدلة العامة، الدالة على التأسيّ به - صلى الله عليه وسلم -. وأصل هذا القطب مدار على أنه لم يدل دليل على تكرر الفعل في حقه ولا تأسيّ الأمة به. ولا يلزم من عدم قيام الدليل أن يكون الفعل خاصاً به، ولا بدّ، بل ربما يكون مما تتأسىّ به الأمة فيه عملاً بالأدلة العامة، لا سيما والأصل عدم اختصاصه - صلى الله عليه وسلم -. فتخصيص القول به، كذا الفعل بالنسبة إليه وإلى الأمة أولى لما قدمناه. وإن لم يمكن الجمع بينهما على وجه تخصيص العموم فعدم التعارض هنا أولى بأن يكون الفعل الأول كان خاصاً به، والقول بعده نسخ ذلك في حقه، ولا تعلق للأمة به. وهذا أولى من أن يكون حكم الأمة حكمه في ذلك الفعل. ونجعل القول ناسخاً له في حقه وحقهم. 7 - الصورة السابعة: أن يتقدم القول، ويكون خاصاً به - صلى الله عليه وسلم -، ثم يتعقبه الفعل بخلافه، من غير تراخ. فها هنا الفعل ناسخ لمقتضى القول عند من يجوز النسخ قبل التمكن من مقتضى الامتثال، وهم جمهور أهل السنة. وأما من لم يجوز ذلك، كالمعتزلة وأبي بكر الصيرفي من أصحابنا، فقالوا: لا يتصور وجود مثل هذا الفعل، مع العهد إن لم نجوز المعاصي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. 8 - الصورة الثامنة: أن يتقدم القول، ويكون خاصاً به، ثم يقع الفعل بعده متراخياً عنه، إما بعد العمل بمقتضى القول، أو بعد التمكن من العمل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فالفعل ناسخ لمقتضى القول وفاقاً. وهو ظاهر على رأي من لم يجوز صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وأما من جوز ذلك فكذلك أيضاً، لأن صدور المعصية خلاف الظاهر. والنسخ وإن كان خلاف الأصل الكثير أكثر منه (1). وهو متفق عليه، أعني النسخ، بخلاف صدور الذنب من الأنبياء. وما في النسخ من الخلاف فهو غير معتد به. فكان الحمل على النسخ أولى من الحمل على صدور الذنب. هذا هو اللائق بمذهب من يجوز المعاصي وإن لم نطلع (2) عليه من حيث النقل. 9، 10 - الصورتان التاسعة والعاشرة: أن يتقدم القول ويكون خاصاً بنا، مثل: حرم عليكم كذا، ثم يفعله هو إما على الفور، أو التراخي. فقال الآمدي وابن الحاجب والأرموي في (نهاية الوصول): لا تعارض بينهما في هذه الصورة، بل الفعل مختص به، والقول مختص بنا، إذ لا دليل على وجوب التأسّي. وذكر القرافي أن الفعل أيضاً شأنه أن تتأسى الأمة به فيه، يعني بالأدلة العامة التي تقتضي ذلك. فالأولون لا يعتبرون إلا دلالة دليل خاص في هذا الفعل، بخلاف القرافي، فإنه يعتبر الأدلة العامة، فيراهما متعارضين. لكن قول الأولين هنا أقوى، لأن اعتبار القول الخاص بنا، وتقديمه، أولى من تقديم الأدلة العامة. 11، 12 - الصورتان الحادية عشرة والثانية عشرة: أن يكون القول عاماً لنا وله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقع الفعل بعده، إما متعقباً، أو على التراخي. فقالوا: لا معارضة هنا أيضاً، كما تقدم مثله فيما إذا علم تقدم الفعل. وفرق ابن الحاجب بين العام بطريق النصوصية، والعام بطريق الظهور، كما تقدم. وفيه من البحث ما تقدم. واحتمال التخصيص حيث يمكن. وذكر بعضهم أن الفعل متى وقع بعد التمكن من مقتضى القول، فلا يكون   (1) يعني: أكثر من المعصية على القول بتجويزها. (2) في الأصل: يطلع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 ناسخاً إلا أن يدل دليل على وجوب تكرار مقتضى القول، فحينئذٍ يكون الفعل ناسخاً لتكرار مقتضى القول. وهذا يجيء في كل موضع قيل فيه بالنسخ، فيما سيأتي من أمثاله. ونحن قد مثلنا ذلك بأن يقول - صلى الله عليه وسلم -: حرم علينا كذا، ثم يفعله، فإن التحريم يقتضي التأبيد. والحقّ في هذا الموضع أن فعله - صلى الله عليه وسلم - ناسخ لمقتضى القول في حقه وإن كان العموم على وجه الظهور. وأما في حق الأمة فهو أما مقتضٍ للتخصيص، أو للخصوصية به، كما تقدم في الفصل الثاني. 13، 14، 15 - الصورة الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة: أن يجهل التاريخ من التقدم والتأخر، ويكون القول أما خاصاً به، أو بنا، أو عاماً لنا وله. ففي هذه الصور الثلاث الأقوال الثلاثة المتقدمة في الفصل الثالث. والمختار تقديم القول عند بعضهم، لاحتمال أن يكون الفعل متقدماً والقول متأخراً. وعند ذلك لا يتحقق التعارض بينهما لما سبق. ويحتمل أن يقال، فيما إذا كان القول خاصاً به، بتقديم الفعل إعمالاً للأدلة العامة الدالة على التأسّي به - صلى الله عليه وسلم - فإنها أرجح حينئذٍ من القول بالوقف، وهو الذي اختاره ابن الحاجب كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 القُطبُ الثَّاني أن يدل دليل على وجوب تكرر هذا الفعل في حقه. ووجوب تأسي الأمة به فيه. وفيه أيضاً خمس عشرة صورة: 16 - الأولى: أن يعلم تقدم القول، ويكون خاصاً به، ثم يصدر الفعل متعقباً له، قبل التمكن من الامتثال. 17 - والثانية: مثلها، إلا أن الفعل وقع متراخياً، بعد التمكن من امتثال مقتضى القول. ففي هاتين الصورتين لا معارضة في حق الأمة، لاختصاص القول به - صلى الله عليه وسلم - والعمل في حقهم بمقتضى الفعل. وأما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فالفعل ناسخ في الصورة الثانية اتفاقاً. وكذلك في الأولى، على القول بجواز النسخ قبل حضور وقت العمل، اللهم إلا أن يكون القول لم يقتضِ التكرار، ولا دليل يدل عليه فإنه حينئذٍ لا معارضة أيضاً في حقه - صلى الله عليه وسلم -. 18، 19 - الثالثة والرابعة: أن يتقدم الفعل، ويكون القول خاصاً به أيضاً، إما متعقباً أو متراخياً. فكذلك أيضاً لا معارضة في حق الأمة، وهم متعبدون بمقتضى الفعل. وأما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فالقول ناسخ لمقتضى الفعل في الصورتين اتفاقاً. 20 - الخامسة: أن يجهل التقدم والتأخر، والقول خاص به أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 فلا معارضة في حق الأمة كما مر. وأما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فتجيء الثلاثة أقوال المتقدمة في الفصل الثالث. اختار الآمدي وغيره ترجيح القول. والذي اختاره ابن الحاجب في هذه الصورة الوقف على تَبَيُّن التاريخ لأنه يحتمل تقدم الفعل على القول، وبالعكس، وكل منهما يكون ناسخاً للآخر فلا ترجيح لتقدم أحدهما على الآخر والجزم بكون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً تحكم، وهو باطل. 21 - السادسة أن يتقدم القول، وهو خاص بنا، ويجيء الفعل بعده، متعقباً، قبل التمكن من امتثال مقتضى القول. فقال الإمام فخر الدين: يجب المصير هنا إلى القول دون الفعل، وإلا يلزم أن يكون القول لغواً، ولا يلغو الفعل، لأن حكمه ثابت في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكأنه يجعل القول الخاص بنا مخصصاً للفعل الذي دل الدليل على تأسي الأمة به بالنسبة إلينا فقط، ويبقى حكمه في حقه - صلى الله عليه وسلم - كما قيل مثله في الفعل مع القول العام لنا وله. والذي اختاره الآمدي وابن الحاجب أنه لا معارضة في حقه - صلى الله عليه وسلم -، وأما في حق الأمة فالفعل ناسخ لمقتضى القول قبل التمكن، على رأي الجمهور. ومن لا يجوز النسخ قبل حضور وقت العمل، فلا تُتَصوَّر المسألة عنده. أو {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)} [الأعراف: 198] يقول بترجيح القول كما قاله فخر الدين. 22 - السابعة: أن يتقدم القول، وهو خاص بنا، ويجيء بعده الفعل المذكور متراخياً، أما بعد العمل به، أو بعد حضور وقته. فاتفقوا على أن الفعل مع الدليل الدال على تكرره والتأسي به فيه ناسخ لمقتضى القول المتقدم. ولم يقل فخر الدين هنا بتقديم القول وهو لازم له أيضاً، لكن التخصيص أولى من النسخ في الموضعين. وإن كان قوله في الصورة التي قبلها تفادياً من النسخ قبل التمكن. فهو يقول بهذه المسألة ولا ينكرها. والحقّ في هذه الصورة والتي قبلها التزام النسخ، كما قال الآمدي وابن الحاجب لأن الفعل لا عموم له حتى يتطرق إليه التخصيص، وإنما عم في حقنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 بالدليل الخاص الذي دل على وجوب تأسينا به فيه. وهذا الدليل مختص بنا فقط. فتقديم القول يقتضي إبطال هذا الدليل من كل وجه. وهو متأخر معارض للأول. فالقول بالنسخ أقوى. وذكر بعض المتأخرين في هذه الصورة التفصيل المتقدم أيضاً، وهو أن القول إذا لم يقتضِ التكرار فإنه حينئذٍ لا معارضة في حقنا أيضاً. وإنما يجيء النسخ إذا كان القول مقتضياً للتكرار. 23، 24 - الثامنة، والتاسعة: أن يتقدم الفعل، ويجيء القول بعده، خاصاً بنا، إما متعقباً، أو على التراخي. فلا معارضة في حقه - صلى الله عليه وسلم - لاختصاص القول بنا، وأما في حقنا فالقول ناسخ لمقتضى الفعل في الصورة الثانية، وفاقاً. وفي الصورة الأولى عند من يجيز النسخ قبل التمكن (وأما من) لا يجيز ذلك فلا تُتَصَوَّر المسألة عنده. أو تجعل ترجيح القول من جهة التخصيص كما قال ابن الخطيب، لا من جهة النسخ. وفيه من البحث ما قدمناه. 25 - العاشرة: أن يجهل التاريخ من التقدم والتأخر، والقول خاص بنا. ففيه الأقوال الثلاثة المتقدمة في الفصل الثالث. واتفق الآمدي وابن الحاجب على ترجيح مقتضى القول هنا، لما تقدم في ذلك الفصل. قال ابن الحاجب: والقول بالوقف هنا ضعيف، بخلاف الصورة الخامسة، لأنا متعبدون هنا بوجوب العمل بإحداهما إما الفعل، وإما القول. لأن كُلاًّ منهما مفروض بالنسبة إلينا، ولا يمكن العمل يهما. وقد ثبت رجحان القول على الفعل بتعين المصير إلى العمل بالقول، بخلاف الصورة الخامسة التي رجح فيها الوقف، فإنهما بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ ولا يجب علينا الحكم بوجوب العمل بإحداهما بالنسبة إليه. فالقول بالوقف أولى. 26 - الحادية عشرة: أن يتقدم القول، ويكون عاماً لنا وله، ويقع الفعل بعده متعقباً، قبل التمكن من الامتثال لمقتضى القول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 فعلى رأي المعتزلة لا تتصور هذه المسألة، إذ النسخ لا يجوز في هذه الصورة ولا يمكن فرض ذلك على أنه معصية، لقيام الدليل الخاص على تكرره في حقه وتأسي الأمة به فيه. وأما عند أصحابنا فالفعل ناسخ لمقتضى القول قبل التمكن. قال بعض المتأخرين: هذا إذا كان عموم القول بطريق النصوصية، فإن كان بطريق الظهور فإن الفعل حينئذٍ يكون مخصصاً للقول، كما تقدم. وهذا مأخوذ من مقتضى تفصيل ابن الحاجب في الصورة المتقدمة في القطب الأول. لكن جزم القول هنا بأن المتأخر ناسخ، ولم يفصل؛ وهو لازم له. 27 - الثانية عشرة: أن تكون الصورة كذلك، لكن الفعل بعد التمكن من امتثال مقتضى القول. وقد جزموا بأن الفعل ناسخ هنا. وفي الحقيقة الناسخ إنما هو الفعل مع الدليل الدال على وجوب تكرره وتأسي الأمة به. وقال المتأخر المشار إليه أن ذلك إنما يكون إذا اقتضى القول التكرار، فإن لم يقتضِ التكرار فلا معارضة لا في حقه ولا في حقنا. 28، 29 - الثالثة عشرة، والرابعة عشرة: أن يتقدم الفعل، ويجيء القول بعده، عاماً لنا وله، إما متعقباً، أو مع التراخي. فالقول هنا ناسخ لوجوب التكرار في حقه. وكذلك لوجوب التأسّي في حقنا، لكن في صورة التعقب على القول بجواز النسخ قبل التمكن. ومن لا يجيز ذلك يحتمل أن يكون تقديم القول عنده بطريق الترجيح للقول، لا على وجه النسخ. 30 - الخامسة عشرة: أن يجهل التاريخ، والقول أيضاً عام لنا وله - صلى الله عليه وسلم -. ففيه المذاهب الثلاثة. والذي يظهر ترجيح القول بالوقف في حقه - صلى الله عليه وسلم -، والعمل بمقتضى القول في حق الأمة، لما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 القُطبُ الثالِث الفعل الذي دل الدليل على وجوب تكرره في حق - صلى الله عليه وسلم - دون تأسي الأمة به فيه. وفيه أيضاً خمس عشرة صورة. واعلم أولاً أن الفائدة إنما تظهر في هذا والقطب الذي قبله إذا كان الفعل متقدماً، فحينئذٍ يتحقق التعارض بينه وبين القول، لمعارضة القول لمقتضى التكرار. أما إذا كان الفعل متأخراً، فالمعارضة تحصل بمجرد الفعل، سواء دل على التكرار دليل أو لم يدل. وهذا خاص بخلاف ما إذا دل دليل على التأسّي فإن له فائدة تقدم الفعل أو تأخره وهو تعلق ذلك بالأمة. وبيان هذه الصور على نحو ما تقدم: 31 - الأولى: أن يتقدم القول، ويكون خاصاً به، ويتعقبه الفعل من غير تراخ. فالفعل ناسخ على رأي أهل السنة كما تقدم. 32 - الثانية: مثلها إلا أن الفعل متراخ. فهو ناسخ للقول اتفاقاً. ولا معارضة بينهما في حق الأمة في هاتين الصورتين ولا في الثلاث التي بعدها أيضاً، لعدم تناول القول والفعل لهم. 33، 34 - الثالثة، والرابعة: أن يتقدم الفعل، على نحو ما تقدم. فالقول ناسخ لمقتضى الدليل الدال على تكرر الفعل في صورة التمكن، اتفاقاً وفي عدمها على الراجح، كما مرّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 35 - الخامسة: أن يجهل التاريخ. فالأقوال الثلاثة. والراجح الوقف، كما تقدم. 36، 37، 38، 39 - السادسة، والسابعة، والثامنة، والتاسعة: أن يكون القول خاصاً بنا. فلا معارضة حينئذٍ تقدم القول أو الفعل، تعقب الثاني أو تراخى، لعدم توارد القول والفعل على محل واحد. والعمل في حق الأمة بمقتضى القول، والفعل من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. 40 - وفي الصورة العاشرة: وهي الجهل بالتاريخ، بطريق الأولى. 41، 42 - الحادية عشرة، والثانية عشرة: أن يتقدم القول، ويكون عاماً لنا وله - صلى الله عليه وسلم -، ويقع الفعل بعده، إما على التعقب أو على التراخي. فلا معارضة في حق الأمة، لا تقدم، والفعل ناسخ لمقتضى القول في حقه - صلى الله عليه وسلم - في صورة التراخي اتفاقاً، وفي صورة التعقب عندنا دون المعتزلة لما تقدم. ومن يجوِّز الذنب على الأنبياء قد يمنع التعارض والنسخ، وخصوصاً إذا كان قبل التمكن. ولكن الظاهر التزام النسخ كما سبق. 43، 44 - الثالثة عشرة، والرابعة عشرة: أن يتقدم هذا الفعل، ويأتي القول بعده عاماً لنا وله، وإما قبل التمكن أو بعده. فقال الآمدي وابن الحاجب وغيرهما: القول ناسخ لمقتضى الدليل الدال على تكرر الفعل في حقه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا إنما يجيء على قاعدة الحنفية، في أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، أو كان عموما لقول له بطريق التنصيص، مثل حرم علي وعليكم. فأما متى كان بطريق الظهور مثل: حرم علينا، بعد ما تقدم منه فعله له، فكأنما الذي يجيء على طريق الشافعية ومن وافقهم تخصيص العموم بفعله - صلى الله عليه وسلم - ويكون ذلك اللفظ من العام الذي أريد به الخاص، لتقدم المخصص له. والتخصيص خير من النسخ. وحيث قيل بالنسخ فعلى الطريق المتقدم فيما قبل التمكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 هذا في حقه - صلى الله عليه وسلم -، وأما في حق الأمة فلا معارضة أيضاً لما تقدم. 45 - الخامسة عشرة: أن يجهل التاريخ والقول عام لنا وله. ففي حق الأمة لا معارضة أيضاً، وفي حقه - صلى الله عليه وسلم - المذاهب الثلاثة المتقدمة والراجح عند ابن الحاجب قول الوقف كما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 القطب الرَّابع أن يكون الفعل دل الدليل على وجوب تأسي الأمة به فيه. ولم يدل على تكرر الفعل في حقه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه الخمس عشرة صورة أيضاً: 46 - الأولى: أن يكون القول خاصاً به، ويتقدم على الفعل، وليس بينهما تراخ. فالفعل ناسخ لمقتضى القول، قبل التمكن على رأي الجمهور، ومن لا يجيز ذلك يمنع تصوره، أو يحيله على ما يجوز عليه على الراجح من المعاصي، ومعاذ الله من إلزامه في حقه. 47 - الثانية: كذلك، لكن الفعل بعد التمكن من امتثال مقتضى القول. فالفعل ناسخ اتفاقاً. ولا معارضة بينهما في حق الأمة، في الصورتين جميعاً. 48، 49 - الثالثة، والرابعة: أن يتقدم الفعل، ويجيء القول بعده، خاصاً به، إما متعقباً أو متراخياً. فلا تعارض في الصورتين: أما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فلعدم وجوب تكرر الفعل وأما في حق الأمة فلعدم توارد القول والفعل على محل واحد. 50 - الخامسة: أن يجهل التاريخ والقول خاص به. فلا معارضة في حق الأمة، لما تقدم. وأما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فتجيء الأقوال الثلاثة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 المتقدمة لأنه يحتمل أن يكون الفعل متأخراً فيكون ناسخاً. والمختار عند ابن الحاجب القول بالوقف، لعدم تعبدنا بذلك القول. ولما في تعيين أحدهما متقدماً من التحكم. 51، 52 - السادسة، والسابعة: أن يكون القول خاصاً بنا، ويقع الفعل بعده، إما متعقباً أو على التراخي. فلا معارضة في حقه - صلى الله عليه وسلم -. والفعل ناسخ في حقنا في صورة التمكن اتفاقاً. وفي الأخرى على الراجح من قول أهل السنة. والناسخ في الحقيقة إنما هو الدليل الدال على وجوب تأسي الأمة به في ذلك الفعل، لا مجرد الفعل. 53، 54 - الثامنة، والتاسعة: أن يتقدم هنا الفعل، ويجيء القول بعده، خاصاً، أما متعقباً، أو متراخياً عنه. فالقول ناسخ لمقتضى الدليل الدال على وجوب التأسّي به في ذلك الفعل، على ما تقدم من التفصيل في الصورتين. وأما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فلا معارضة كما تقدم. 55 - العاشرة: أن يجهل التاريخ والقول خاص بنا. فها هنا الأقوال الثلاثة المتقدمة، والراجح عند الجمهور العمل بمقتضى القول لما تقدم. هذا بالنسبة إلى الأمة. أما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فلا معارضة كما تقدم. 56 - الحادية عشرة: أن يكون القول عاماً لنا وله، متقدماً، ووقع الفعل عقبه. قبل التمكن من الامتثال. ففي حقه - صلى الله عليه وسلم - الفعل ناسخ، على الراجح من قول الجمهور. هذا عند طائفة. ويجيء هنا التفصيل المتقدم عند ابن الحاجب في مثل ذلك، وهو الفرق بين ما يكون العموم بطريق النصوصية، مثل حرم علي وعليكم، فيكون ناسخاً، وبين أن يكون على وجه الظهور مثل: حرم علينا، فيكون الفعل مختصاً به، ويتخصص القول بذلك. وأما في حق الأمة فقال بعض المتأخرين: إن كان الدليل على وجوب التأسّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 مختصاً بذلك الفعل بعينه فالفعل ناسخ، وإن كان شاملاً لهذا الفعل وغيره فالقول مخصص له. وهذا التفصيل يجيء مثله في صور كثيرة مما تقدم. وقد ذكرنا عن القرافي أنه لا يشترط قيام دليل خاص على التأسّي بهذا الفعل بل يكتفي بالأدلة العامة التي تشمل هذا الفعل وغيره، فقال: إذا عمهما القول، وكان الفعل الواقع بعده يعمهما أيضاً، كان ناسخاً للقول، أما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فلأنه المباشر له (ولا يباشر) شيئاً إلا يجوز له الإقدام عليه، وأما هم فلوجوب تأسيهم به، واندراجهم في كل ما شرع له - صلى الله عليه وسلم - إلا ما دل الدليل عليه. فيتناقض القول والفعل، فينسخ المتأخر المتقدم. 57 - الثانية عشرة: أن يكون القول عاماً أيضاً، ويتقدم، ثم يقع الفعل متراخياً بعد التمكن. فهو ناسخ لمقتضى القول على ما صرح به الآمدي وغيره. ويجيء فيه التفصيل المتقدم بين أن يكون العموم بطريق الظهور أو بطريق النصوصية. والتفصيل الآخر الذي ذكرناه عن بعض المتأخرين وهو الفرق بين أن يكون القول اقتضى التكرار أو لا. وقد صرح به هنا في هذا القسم فقال: وإن لم يقتضِ القول التكرار فلا معارضة في حقه ولا في حق الأمة. وإن اقتضى التكرار يكون الفعل ناسخاً للتكرار. وهذا تفصيل متجه. 58، 59 - الثالثة عشرة، والرابعة عشرة: أن يتقدم هذا الفعل ويجيء القول بعده عاماً له وللأمة، إما متعقباً، أو متراخياً. فلا معارضة في حقه - صلى الله عليه وسلم -، لعدم وجوب تكرار الفعل في حقه. وأما في حق الأمة ففي صورة التعقب: القول ناسخ للدليل على وجوب التأسّي بالفعل، على الراجح من جواز النسخ قبل التمكن. وفي صورة التراخي إن كان القول قبل تأسيهم به فهو ناسخ للتأسي. وإن كان بعده، فإن دل الدليل على وجوب تكرار الفعل في حقهم، فالقول ناسخ للتكرار. وإلا فلا معارضة أيضاً في حقهم والعمل حينئذٍ بمقتضى القول، لأن الفعل قد عمل به تأسياً، فحصل الامتثال. ولا دليل على تكرره في حقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 60 - الخامسة عشرة: أن يجهل التاريخ، والقول عام. فتجيء الأقوال الثلاثة: والراجح العمل بالقول. والمختار عند ابن الحاجب والمحققين العمل بالقول في حق الأمة وأما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فالوقف كما تقدم. اهـ. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 المَرَاجع (البيانات حسب الطبعات التي رجعنا إليها في هذا البحث. وما رجعنا إليه من الطبعات بخلاف ما ذكر هنا فقد نبهنا إليه في الهوامش). - القرآن الكريم. الآمدي، علي بن أبي علي بن محمد، سيف الدين أبو الحسن (551 - 631 هـ). - الإحكام في أصول الأحكام. القاهرة، دار الكتب الخديوية. طبع بمطبعة المعارف 1332 هـ، 4 جـ. ابراهيم إبراهيم هلال. - ولاية الله والطريق إليها. القاهرة، دار الكتب الحديثة، 1389 هـ، (550 ص). ابن أبي شريف، محمد بن محمد بن أبي بكر المقدسي (822 - 906 هـ). - حاشية ابن أبي شريف على جمع الجوامع. مخطوط رقم (19 خ) بمكتبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت. ابن الأثير، مبارك بن محمد، أبو السعادات (544 - 606 هـ). - جامع الأصول من أحاديث الرسول. القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، 1368 هـ، طبع منه 12 جـ تحقيق محمد حامد الفقي. ابن أمير الحاج، محمد بن محمد بن محمد (ابن الموقِّت) (825 - 879 هـ). - التقرير والتحبير على تحرير ابن الهمام (790 - 861 هـ) في علم الأصول الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية. القاهرة، المطبعة الأميرية ببولاق، 1316 هـ (3 مجلدات). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (661 - 728 هـ). - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. ط ثانية. القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، 1369 هـ، (482 ص). - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. ط ثانية. بيروت، المكتب الإسلامي 1390 هـ، (158 ص). - القواعد النورانية الفقهية. بتحقيق محمد حامد الفقي. ط 1. القاهرة، مطبعة أنصار السنة المحمدية، 1370 هـ، (272 ص). - مجموع الفتاوى الكبرى. القاهرة، مطبعة كردستان العلمية، 5 جـ. - المسوّدة في أصول الفقه. تعاقب على تأليفه ثلاثة من آل تيمية: جدّ تقي الدين، ووالده، وهو نفسه ورتبها أحمد بن محمد بن عبد الغني (- 745 هـ). ط على نفقة علي بن عبد الله آل ثاني، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. القاهرة مطبعة المدني (د. ت) في مجلد واحد. (580 ص). - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية. جمعها. ورتبها عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي. الرياض، نُشرت على حساب الملك الأسبق سعود بن عبد العزيز رحمه الله، في 37 مجلداً، مطابع الرياض. - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية. بولاق، المطبعة الأميرية، 1322 هـ (4 جـ). ابن تيمية، عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم، (مجد الدين 542 - 621 هـ). - منتقى الأخبار. انظر: الشوكاني - نيل الأوطار. ابن جماعة، بدر الدين بن إبراهيم (825 - 861 هـ). - تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم. حيدر أباد، 1353 هـ (230 ص). ابن الحاجب، عثمان بن عمر، أبو عمرو، المالكي (570 - 646 هـ). - مختصر المنتهى. وعليه شرح العضد وحواشي التفتازاني، والجرجاني والهروي. ليبيا، البيضاء، جامعة محمد بن علي السنوسي الإسلامية، 1388 هـ (2 جـ في مجلد). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد، أبو حاتم التميمي البستي ( ... -354 هـ). - المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع. وهو المشهور بصحيح ابن حبان. انظر: علاء الدين الفارسي- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان. ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني، شهاب الدين (773 - 852هـ). - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، تحقيق عبد الله هاشم اليماني القاهرة، شركة الطباعة الفنية، 1384 هـ في مجلدين. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري. القاهرة، المكتبة السلفية. تَمَّت طباعته 1390، (13 هـ). ابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الظاهري (384 - 456 هـ). - الإحكام في أصول الأحكام. القاهرة، نشره زكريا علي يوسف. وقوبل على نسخة أشرف على طبعها الشيخ أحمد محمد شاكر. (د. ت) مجلدان. - التقريب لحد المنطق والمدخل إليه، بالألفاظ العاميّة والأمثلة الفقهية. تحقيق إحسان عباس. بيروت، دار مكتبة الحياة، د. ت (224 ص). - الفِصَل في الملل والأهواء والنحل. القاهرة، الخانجي، 1321 هـ. (5 جـ). - المُحَلّى شرح المُجَلّى. بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر. القاهرة المطبعة المنيرية، 1347 هـ، (11 جـ). ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، الحضرمي المغربي (732 - 808هـ). - المقدمة. الطبعة القديمة (مشكولة). معلومات النشر غير متوفرة. ابن دقيق العيد، محمد بن علي بن وهب، تقي الدين القشيري (625 - 702 هـ). - إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي. بتحقيق حامد الفقي. القاهرة، مطبعة أنصار السنة المحمدية، 1372 هـ (2 جـ). ابن رشد، محمد بن أحمد، أبو الوليد (450 - 520 هـ). - المدونة (في فقه الإمام مالك) رواية سحنون عن ابن القاسم. نسخة بالأوفست عن ط القاهرة، الساسي (8 مجلدات). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع، كاتب الواقدي (168 - 230 هـ). - الطبقات الكبرى. بيروت، دار صادر ودار بيروت، 1377 هـ-. ابن عبد السلام، عبد العزيز بن عبد السلام، عز الدين (577 - 660 هـ). - قواعد الأحكام في مصالح الأنام. القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى د. ت (2 جـ). ابن العربي، محمد بن عبد الله، أبو بكر (468 - 543 هـ). - أحكام القرآن. تحقيق علي محمد البجاوي. القاهرة، دار إحياء الكتب. العربية. 1957 م (4 جـ). ابن عقيل، علي بن عقيل بن محمد، أبو الوفاء الحنبلي (431 - 513 هـ). - الواضح في أصول الفقه. في مجلدين. مخطوط. بالمكتبة الظاهرية بدمشق، برقم 2872، 2873 عام. ابن قاسم، أحمد بن قاسم العبادي الشافعي الأزهري ( ... -992 هـ). - شرحه على شرح المحِلِّي على الورقات للجويني. مطبوع بهامش إرشاد الفحول للشوكاني. القاهرة، مصطفى الحلبي، 1356 هـ. ابن قدامة، عبد الله بن أحمد بن محمد، موفق الدين المقدسي الحنبلي (541 - 620 هـ). - المغني شرح مختصر الخرقي. ط ثالثة. القاهرة، دار المنار، 1367 هـ (9 جـ). ابن القيم، محمد بن أبي بكر الزُّرَعي، شمس الدين (691 - 751 هـ). - إعلام الموقِّعين عن رب العالمين. حققه محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1374 هـ (4 جـ). - روضة المحبين ونزهة المشتاقين. بتصحيح أحمد عبيد. القاهرة، المكتبة التجارية، 1375 هـ (536 ص). - زاد المعاد في هَدْي خير العباد. ط ثانية. القاهرة، مصطفى الحلبي، 1369 هـ (4 جـ في مجلدين). ابن كثير، إسماعيل بن عمر، أبو الفداء (701 - 774 هـ). - البداية والنهاية في التاريخ. القاهرة، مكتبة الخانجي، 1352 هـ (14 جـ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 ابن اللحام، علي بن عباس، البعلي، علاء الدين، الحنبلي (752 - 803 هـ). - القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية. القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، 1375 هـ (311 ص). ابن ماجه، محمد بن يزيد، القزويني (207 - 275 هـ). - سنن ابن ماجه. بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. القاهرة، دار إحياء الكتب العربي 1952 م - (2 جـ). ابن منظور، محمد بن المكرّم، جمال الدين الإفريقي (630 - 711 هـ). - لسان العرب (المحيط). أعاد بناءه على الحرف الأول فما بعده من الأصول المجردة يوسف خياط ونديم مرعشلي. بيروت، دار لسان العرب، 1970 م (4 جـ). ابن هشام، عبد الملك بن هشام بن أيوب، الحميري العَافري ( ... -213 هـ). - السيرة النبوية، بتحقيق مصطفى السّقّا وزميله. ط ثانية. القاهرة، مصطفى الحلبي 1375 هـ (2 جـ). ابن همام الدين، محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، الإسكندري الحنفي (790 - 861 هـ). - التحرير في أصول الفقه الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية. وعليه الشرح المسمى تيسير التحرير لمحمد أمين المعروف بأمير بادشاه. (4 جـ) في مجلدين. القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1351 هـ. - انظر أيضاً ابن أمير الحاج - التقرير والتحبير. - فتح القدير شرح الهداية في الفقه الحنفي. القاهرة، المكتبة التجارية (د. ت) 8 جـ. أبو الحسين البصري، محمد بن علي بن الطيب، المعتزلي (-436 هـ). - المعتمد في أصول الفقه. اعتنى بتهذيبه وتحقيقه محمد حميد الله، مع محمد بكر وحسن حنفي. دمشق، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، 1374 هـ. مجلدان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 أبو الخطاب، محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني الحنبلي (432 - 510 هـ). - التمهيد في أصول الفقه. النسخة الخطية المحفوظة بالمكتبة الظاهرية بدمشق، برقم (2801) مجلد واحد (249 ق). أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني (202 - 275 هـ). - سنن أبي داود. وعليه شرحه المسمى: عون المعبود شرح سنن أبي داود. حققه عبد الرحمن محمد عثمان. المدينة المنورة، المكتبة السلفية، 1389 هـ- (14 جـ). - المحقق من علم الأصول في ما يتعلق بأفعال الرسول. صورة مخطوط كتب عام 709 هـ بيد علي بن أيوب بن منصور بن وزير. عن نسخة قرئت على مصنفه، (60 ق). أبو الفتوح رضوان وزملاؤه. - المدرس في المدرسة والمجتمع. القاهرة، دار الثقافة، (د. ت). أبو يعلى، محمد بن الحسن الفراء، الحنبلي، القاضي (380 - 458 هـ). - العدة في أصول الفقه. مكروفيلم بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية برقم 76 أصول. أحمد بن محمد حنبل، الإمام (164 - 241 هـ). - المسند. بيروت، المكتب الإسلامي صورة عن ط الميمنية (6 جـ). الإسنوي، عبد الرحيم بن الحسن القرشي، جمال الدين (704 - 772 هـ). - التمهيد في تخريج الأصول على الفروع. مكة المكرمة، المطبعة الماجدية، لأصحابها محمد كامل كردي وإخوانه، 1353 هـ (173 ص). - نهاية السول شرح منهاج الأصول للبيضاوي. مطبوع بهامش التقرير والتحبير شرح التحرير. أمير بادشاه محمد أمين الحسيني البخاري ( ... -972 هـ). - تيسير التحرير. انظر: ابن همام الدين - التحرير. الباقلاني، محمد بن الطيب، أبو بكر (338 - 403 هـ). - البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 والنارنجات. بتصحيح يوسف مكارثي اليسوعي. بيروت، المكتبة الشرقية، 1958 م (180 ص + 25 ص). البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (الإمام المحدِّث) (194 - 256 هـ). - صحيح البخاري. وعليه شرحه فتح الباري لابن حجر العسقلاني. القاهرة، المطبعة السلفية، تمت سنة 1390 هـ (13 جـ). البخاري، عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين الحنفي (400 - 730 هـ). - كشف الأسرار شرح أصول البزدوي. انظر: البزدوي- أصول البزدوي. بدران أبو العينين بدران. - بيان النصوص التشريعية طرقه وأنواعه. الإسكندرية، منشأة المعارف، 1969 م (248 ص). البزدوي، علي بن محمد بن الحسين، فخر الإسلام ( ... -482 هـ). - أصول الفقه. وعليه: كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري. بيروت دار الكتاب العربي، 1394 هـ (4 جـ). البناني، عبد الرحمن بن جاد الله المغربي ( ... -1198 هـ). - حاشية شرح جمع الجوامع. انظر: السبكي - جمع الجوامع. البيضاوي، عبد الله بن عمر ( ... -685 هـ). - منهاج الأصول. وعليه الشرح المسمى (نهاية السول) للإسنوي. القاهرة، المطبعة الأميرية ببولاق، 1316 هـ. بهامش التقرير والتحبير شرح تحرير ابن الهمام. الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، المحدث (209 - 279 هـ). - سنن الترمذي. وعليه شرحه المسمى: تحفة الأحوذي، لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري. صححه عبد الرحمن محمد عثمان. ط ثانية. المدينة المنورة، المكتبة السلفية، 1387 هـ (11 جـ). التفتازاني، مسعود بن عمر، سعد الدين (713 - 791 هـ). - التلويح شرح التوضيح لمتن التنقيح. والتوضيح هو لصدر الشريعة. القاهرة، محمد علي صبيح، 1377 هـ (2 جـ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 التهانوي، محمد علي ابن القاضي التهانوي الفاروقي الهندي ( ... -1158 هـ). - كشاف اصطلاحات الفنون. طهران، 1947 م بالأوفست عن ط كلكتة، 1862 هـ (6 جـ). الجرجاني، علي بن محمد، الشريف ( ... -816 هـ). - التعريفات. بيروت، مكتبة لبنان، 1969 م (336 ص). الجصاص، أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الحنفي ( ... -370 هـ). - أحكام القرآن: دار الكتاب العربي، بالأوفست عن ط الأوقاف الإسلامية، استانبول، 1325 هـ (4 جـ). - أصول الجصاص. مخطوط، بيد محمد بن ماضي، كتبه سنة 748 هـ محفوظ بدار الكتب المصرية، برقم 161 أصول. جولد زيهر، إجناس. - العقيدة والشريعة في الإسلام. ترجمة محمد يوسف موسى وزميليه. ط ثانية، دار الكتب الحديثة، (د. ت). الجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، إمام الحرمين (419 - 478 هـ). - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد. حققه محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم عبد الحميد. القاهرة، مكتبة الخانجي، 1369 هـ، (460 ص). حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله (كاتب جلبي) ( ... -1067 هـ). - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. مع ذيله إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون لإسماعيل باشا بن محمد أمين الياباني. ط ثالثة. طهران، المكتبة الإسلامية، 1378 هـ (4 جـ). الحسين بن المنصور بالله القاسم بن محمد (زيدي). - هداية العقول إلى غاية السول في علم الأصول. ومعه حاشية الحسن بن يحيى سيلان، وحاشية محمد بن إسماعيل الأمير، وحاشية الحسين بن أحمد السياغي. صنعاء اليمن، مطبعة وزارة المعارف المتوكلية، 1359 هـ (2 جـ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الدسوقي، محمد بن عرفة، شمس الدين ( ... -1230 هـ). - حاشية على الشرح الكبير للدردير في الفقه المالكي. القاهرة، عيسى الحلبي، د. ت (4 جـ). الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي، الهندي، شاه ولي الله (1110 - 1176 هـ). - حجة الله البالغة. بتحقيق سيد سابق. القاهرة، دار الكتب الحديثة د. ت (686 ص). الرازي، محمد بن عمر بن الحسين بن الحسين التيمي البكري، فخر الدين، ابن خطيب الريّ (543 - 606 هـ). - عصمه الأنبياء. القاهرة، إدارة الطباعة المنيرية، 1355 هـ (110 ص). الرملي، محمد بن أحمد، شمس الدين الشافعي (1004 هـ). - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للنووي في الفقه الشافعي. القاهرة، مصطفى الحلبي 1357 هـ (8 جـ). الزركشي، محمد بن عبد الله، بدر الدين (745 - 794 هـ). - البحر المحيط في أصول الفقه (مخطوط) في ثلاثة مجلدات. بمكتبة الأزهر برقم 722 (20 أصول). الزركلي، خير الدين. - الأعلام. قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين. ط ثانية، القاهرة، مطبعة كوستاتوماس، 1378 هـ. (10 جـ). زكريا الأنصاري، ابن محمد بن محمود الشافعي، أبو يحيى ( ... -976 هـ). - غاية الوصول شرح لبّ الأصول للمؤلف. ولب الأصول اختصره من جمع الجوامع للسبكي. القاهرة، عيسى الحلبي، د. ت (168 ص). السبكي، عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، تاج الدين ( ... -771 هـ). - جمع الجوامع. وعليه شرح المَحِلِّي، وحاشية البناني وتقرير الشربيني ط ثانية. القاهرة، مصطفى الحلبي، 1356 هـ (2 جـ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 - القواعد ميكروفيلم معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية برقم 74 أصول. السخاوي، محمد بن عبد الرحمن بن محمد (831 - 902 هـ). - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة. القاهرة، مكتبة الخانجي، 1375 هـ (511 ص). السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل، أبو بكر، الحنفي ( ... -490 هـ). - أصول السرخسي. بتحقيق أبي الوفاء الأفغاني. بيروت، دار المعرفة، بالأوفست عن طبعة حيدر آباد، لجنة إحياء المعارف النعمانية د. ت (2 جـ). السمعاني، منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد، أبو المظفر الشافعي (426 - 489 هـ). - قواطع الأدلة في الأصول. صورة عن نسخة مكتبة فيض الله باستانبول برقم 627 أصول. بخط أحمد بن عبد الله الصمدي. كتبه سنة 815 هـ (309 ق). السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر ( ... -911 هـ). - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية. القاهرة، مصطفى الحلبي، 1378 هـ (556 ص). - الجامع الصغير وزيادته. انظر: النبهاني- الفتح الكبير. - الخصائص الكبرى. أو: كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب. القاهرة، دار الكتب الحديثة، 1386 هـ (3 جـ). - مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية. الشاطبي، إبراهيم بن موسى، اللخمي الغرناطي ( ... -790 هـ). - الاعتصام. القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، د. ت (2 جـ). - الموافقات في أصول الشريعة، وهو المسمى (التعريف بأسرار التكليف). وعليه شرح وتعليق ونقد للشيخ عبد الله دراز، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى (د. ت). الشافعي، محمد بن إدريس، المطلبي، الإمام ( ... -204 هـ). - الأمّ. القاهرة، مكتبة الكليّات الأزهرية، 1381 هـ (8 جـ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 - الرسالة. بتحقيق أحمد محمد شاكر. القاهرة، عيسى الحلبي، 1358 هـ (670 ص). الشربيني، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد ( ... -1326 هـ). - تقرير على حاشية البناني على شرح جمع الجوامع: انظر: السبكي - جمع الجوامع. الشوكاني، محمد بن علي، اليماني ( ... -1255 هـ). - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. القاهرة، مكتبة مصطفى الحلبي، 1356 هـ، مجلد واحد. - فتح القدير في علم التفسير. القاهرة، مصطفى الحلبي، 1351 هـ. - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار. والمنتقى هو لمجد الدين بن تيمية. ط ثانية. القاهرة، مصطفى الحلبي، 1371 هـ (8 جـ). الشيرازي، إبراهيم بن علي بن يوسف، أبو إسحاق، الشافعي ( ... -476 هـ). - اللمع في أصول الفقه. القاهرة، محمد علي صبيح، د. ت (80 ص). صدر الشريعة، عبيد الله بن مسعود، الحنفي ( ... -747 هـ). - التلويح لمتن التنقيح. انظر: التفتازاني، التلويح شرح التوضيح. الصنعاني، محمد بن إسماعيل (1059 - 1182 هـ). - سبل السلام شرح بلوغ المرام لابن حجر. ط 4. القاهرة، مصطفى الحلبي، 1379 هـ- (4 جـ). العاقولي، محمد بن محمد بن عبد الله (733 - 797 هـ). - الرصف لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفعل والوصف. طبع دمشق، 1393 هـ. في مجلدين. عبد الجبار بن أحمد، أبو الحسن الأسد أبادي الهمداني ( ... -415 هـ). - المغني في أبواب التوحيد والعدل: القاهرة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1380 هـ. الأصل في عشرين مجلداً (بقي بعضها لم ينشر). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 عبد الجليل عيسى أبو النصر. - اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الكويت، دار البيان 1389هـ (203ص). عبد الحي بن عبد الكبير، الكتاني. - نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التي كانت على عهد تأسيس المدينة الإسلامية. بيروت، دار إحياء التراث العربي، صورة بالأوفست عن الطبعة القديم. د. ت (2 جـ). عبد الكريم زيدان. - أصول الدعوة. بغداد، دار النذير، 1388 هـ (463 ص). عبد الكريم عثمان. - نظرية التكليف آراء القاضي عبد الجبار الكلامية. بيروت، مؤسسة الرسالة، 1391 هـ (735 ص). عبد الوهاب خلاف. - علم أصول الفقه. ط ثامنة. الكويت، الدار الكويتية، 1388 هـ، (236 ص). عزت علي عيد عطية. - البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها. القاهرة دار الكتب الحديثة (د. ت) 554 ص (رسالة دكتوراه بكلية أصول الدين). عضد الدين، عبد الرحمن بن أحمد، الإيجي ( ... -756 هـ). - المواقف. ومعه شرحه للجرجاني، وحاشية للسيالكوتي وحلبي. القاهرة، الساسي 1325 هـ (8 جـ). - شرح مختصر ابن الحاجب، انظر: ابن الحاجب - مختصر المنتهى. علاء الدين، علي بن بلبان بن عبد الله الفارسي (675 - 739 هـ). - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان. بتحقيق أحمد محمد شاكر. جـ 1 فقط. القاهرة، دار المعارف، 1952 م (316 ص). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 العلائي، خليل بن كَيْكَلْدي ( ... -761 هـ). - تفصيل الإجمال في تعارض الأفعال والأقوال. مخطوط رقم (135 مجاميع) بدار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة. ولم يذكر بروكلمان أية نسخة أخرى. علي الطنطاوي. - سيرة عمر بن الخطاب. مذيلة بدرس موجز لحياته وتحليل لنفسيته: دمشق، المكتبة العربية، 1356 هـ (760 ص). عليش، محمد. - هداية المريد لعقيدة أهل التوحيد. وشرحها لمحمد بن يوسف السنوسي ليبيا، البيضاء، جامعة محمد علي السنوسي، 1388هـ، بالأوفست عن ط القاهرة، 1306هـ (296 ص). عمر رضا كحالة. - معجم المؤلفين: تراجم مصنفي الكتب العربية. دمشق، المكتبة العربية 1376 هـ (15 جـ). عياض بن موسى اليحصبي المالكي، القاضي (476 - 544 هـ). - الشفا بتعريف حقوق المصطفى. القاهرة، محمد علي صبيح. د. ت. (2 جـ). الغزالي، محمد بن محمد بن محمد، أبو حامد (505 هـ). - المستصفى من علم الأصول. القاهرة، المكتبة التجارية، 1356 هـ 2 جـ في مجلد. - المنخول من تعليقات الأصول. حققه محمد حسن هيتو (معلومات النشر غير متوفرة) 451 ص. فنسنك، ومنسنج. - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي. الاتحاد الأممي للمجامع العلمية، طبع بمدينة ليدن، مطبعة بريل. بدئ طبعه 1936 م (7 جـ). الفيروز أبادي، محمد بن يعقوب ( ... -817 هـ). - القاموس المحيط. القاهرة، المكتبة التجارية، 4 جـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 القرافي، أحمد بن إدريس، شهاب الدين أبو العباس، المالكي، (626 - 684 هـ). - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرّفات القاضي والإمام. حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: عبد الفتاح أبو غدة. حلب، مكتبة المطبوعات الإسلامية، 1387 هـ. - شرح تنقيح الفصول. القاهرة، المطبعة الخيرية، 1306 هـ. - الفروق. القاهرة، عيسى الحلبي، 1344 هـ (4 جـ). القرضاوي، يوسف. - الشريعة الإسلامية، خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان. بيروت، المكتب الإسلامي، 1393 هـ. - فقه الزكاة. بيروت، دار الإرشاد، 1389 هـ (2 جـ). القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح، أبو عبد الله الأنصاري 671 هـ. - الجامع لأحكام القرآن. القاهرة، دار الكاتب العربي، 1387 هـ، مصورة عن طبعة دار الكتب، (20 جـ). القشيري، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك، النيسابوري. (376 - 465 هـ). - الرسالة القشيرية، بتحقيق عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف القاهرة، دار الكتب الحديثة، 1385 هـ (794 ص). قطب الدين، محمود بن محمد، الرازي ( ... -766 - هـ). - تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية التي صنفها عمر بن علي القزويني المعروف بالكاتبي ( ... -493 هـ) وبهامشه حاشية الجرجاني. ط ثانية، القاهرة، المطبعة الأزهرية، 1328 هـ. الكاساني، أبو بكر بن مسعود، الحنفي ( ... -587 هـ). - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. القاهرة، شركة المطبوعات، 1387 هـ (7 جـ). مالك بن أنس، الأصبحي، المدني ( ... -179 هـ). - الموطأ. بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. القاهرة، عيسى الحلبي، 1951م (2 جـ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 المتقي، علي بن حسام الدين، علاء الدين الهندي ( ... -975 هـ). - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال. ط ثانية. حيدر أباد، دائرة المعارف العثمانية، 1374 هـ طبع منه 14 جـ. مجموعة مؤلفين. - دائرة المعارف الإسلامية. وضعها عدد من المستشرقين، وترجمها محمد ثابت الفندي وزملاؤه طبع منها 15 جـ (أ-ع فقط) القاهرة، 1355 هـ. محب الله بن عبد الشكور البهاري الهندي ( ... -1119 هـ). - مسلّم الثبوت في أصول الفقه. وعليه شرحه: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت لمؤلفه محمد بن نظام الدين الأنصاري. القاهرة، مطبعة بولاق، 1324 هـ مع المستصفى للغزالي (2 جـ). المحلي، محمد بن أحمد، جلال الدين. - شرح جمع الجوامع. انظر: السبكي- جمع الجوامع. محمد أبو زهرة ( ... -1395 هـ). - أصول الفقه. القاهرة. مطبعة مخيمر، (400 ص). - تاريخ المذاهب الإسلامية. القاهرة، دار الفكر العربي. د. ت (2 جـ). محمد أديب صالح. - تفسير النصوص في الفقه الإسلامي: دراسة مقارنة ط ثانية موسعة ومنقحة. دمشق، المكتب الإسلامي، د. ت (2 جـ). محمد حسين آل ياسين. - مبادئ في طرق التدريس العامة. بيروت، المكتبة العصرية (د. ت) (309 ص). محمد حميد الله. - الوثائق السياسية والإدارية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. بيروت، دار الإرشاد، 1789 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 محمد رشيد رضا. - الوحي المحمدي. ط رابعة، القاهرة، دار المنار، 1366هـ (370 ص). محمد سلام مدكور. - المدخل للفقه الإسلامي تاريخه ومصادره ونظرياته العامة. القاهرة، دار النهضة العربية، 1380هـ (777 ص). محمد عجاج الخطيب. - أصول الحديث علومه ومصطلحه. لبنان، دار الفكر الحديث، 1386 هـ (480 ص). محمد فؤاد عبد الباقي. - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. القاهرة، مطابع الشعب، 1378 هـ (782 ص). محمد قطب. - منهج التربية الإسلامية. ط ثالثة، بيروت، بالأوفست عن ط دار القلم، 1386هـ (291 ص). المراغي، عبد الله مصطفى. - الفتح المبين في طبقات الأصوليين. ط ثانية. بيروت، محمد أمين دمج، 1394 هـ (3 جـ). مسلم بن الحجاج القشيري ( .... -261 هـ). - صحيح مسلم. بشرح النووي. القاهرة، المطبعة العصرية، 1347 هـ (18 جـ). أبو زهو، محمد محمد. - الحديث والمحدثون. القاهرة، مطبعة مصر، 1378هـ (495 ص). النبهاني، تقي الدين. - الشخصية الإسلامية. ط بيروت (دون بيانات). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 النبهاني، يوسف بن إسماعيل ( ... -1351 هـ). - الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير (كلاهما للسيوطي) القاهرة، مصطفى الحلبي، 1351 هـ (3 جـ). النسائي، أحمد بن شعيب (215 - 303 هـ). - سنن النسائي، بحاشية السندي. القاهرة، المكتبة التجارية، 1930 م 8 أجزاء النووي. يحيى بن شرف، محيي الدين (631 - 676 هـ). - روضة الطالبين. دمشق، المكتب الإسلامي، 1966 م طبع في 12 جزءاً. - شرح صحيح مسلم. انظر: مسلم بن الحجاج - صحيح مسلم. - المجموع شرح المهذب للشيرازي في الفقه الشافعي. ومعه تكملة للسبكي وغيره. القاهرة، زكريا علي يوسف. د. ت (20 جـ). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 فهرس الأعلام الآمدي (551 - 631 هـ) (1): هو علي بن أبي علي بن سالم التغلبي، سيف الدين، أبو الحسن. الفقيه الأصولي المتكلم. كان حنبلياً ثم انتقل إلى مذهب الشافعي. له: (الإحكام في أصول الأحكام) و (منتهى السول في علم الأصول)، و (أبكار الأفكار في علم الكلام)، و (دقائق الحقائق في الحكم). ابن أبي جمرة ( ... -695 هـ): (2) هو عبد الله بن سعد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، محدث، مالكي المذهب. وفاته بمصر. من كتبه (جمع النهاية) اختصر به صحيح البخاري، ويعرف بمختصر ابن أبي جمرة. و (بهجة النفوس في شرح المختصر). ابن أبي الحديد (586 - 655 هـ) : (3) هو عبد الحميد بن هبة الله، عالم أديب معتزلي شيعي. له شعر جيد. ولد بالمدائن. وانتقل إلى بغداد، وخدم في الديوان. وكان حظياً عند الوزير ابن العلقمي. وكان جيد الإنشاء. له (شرح منهج البلاغة) و (الفلك الدائر على المثل السائر) وله ديوان شعر. ابن أبي شريف (822 - 906 هـ) : (4) هو محمد بن محمد بن أبي بكر المقدسي. شافعي. عالم بالأصول، مولده ووفاته ببيت المقدس. درس وأفتى بمصر وبالقدس. من تصانيفه (الدرر اللوامع بتحرير جمع الجوامع) في الأصول، والفرائد في حل شرح العقائد)، و (المسامرة في شرح المسايرة) في التوحيد.   (1) ترجمته في الفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 1/ 260 - 262، طبقات الشافعية الكبرى 5/ 165 - 222 (2) الأعلام للزركلي 2/ 221 (3) الموسوعة العربية الميسرة، البداية والنهاية 13/ 199، الأعلام 4/ 60 (4) الأعلام للزركلي 7/ 281 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 ابن أبي هريرة ( ... -345 هـ): (1) هو الحسن بن الحسن أبو علي بن أبي هريرة: تتلمذ لابن سريج وأبي إسحاق المروزي وصحبه إلى مصر ثم عاد إلى بغداد ودرس بها: انتهت إليه رياسة الشافعية ببغداد. له (المسائل) في الفقه، وشرح مبسوط وآخر مختصر، لمختصر المزني. توفي ببغداد. ابن الأثير (544 - 606 هـ) : (2) هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري. أصيب بالنقرس فبطلت حركة يديه ورجليه. قيل إن تصانيفه كلها ألّفها وهو في ذلك المرض. له (النهاية في غريب الحديث) و (جامع الأصول من أحاديث الرسول) جمع فيه بين الكتب الستة. و (تحرير أسماء الصحابة) وهو أخو ابن الأثير المؤرخ، وابن الأثير الكاتب. ابن أمير الحاج ( ... -889 هـ): (3) هو محمد بن محمد بن الحسن، الحلبي. فقيه أصول حنفي. أخذ عنه الكثيرون. من كتبه (شرح التحرير) في الأصول. (حلية المجلِّي) في الفقه. ابن تيمية (661 - 728 هـ) : (4) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله، تقيّ الدين. ولد في حرّان، وانتقل مع أبيه إلى دمشق صغيراً فنبغ واشتهر. فناصبه قوم العداء من أجل فتاوى وآراء خالف بها المشهور في زمانه فأوذي وحبس مرات ومات في السجن. أكثر من التصنيف جداً. من كتبه (منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية) وهو كتاب نفيس. وله (الرد على الأخنائي) و (السياسة الشرعية) وطبع له بالرياض (مجموع الفتاوى الكبرى) في 37 مجلداً. ابن تيمية (الأب) (627 - 682 هـ) : (5) هو عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني شهاب الدين والد شيخ الإسلام. سمع من والده. ورحل إلى   (1) معجم المؤلفين 3/ 220 و13/ 381، الفتح المبين 1/ 193 (2) الأعلام للزركلي 6/ 152، طبقات الشافعية 5/ 153 (3) البدر الطالع 2/ 254، الفتح المبين 3/ 47 (4) الأعلام للزركلي 1/ 140، المنهج الأحمد، الدرر الكامنة 1/ 144 (5) شذرات الذهب 5/ 376، ابن كثير 13/ 303، الفتح المبين 2/ 83 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 حلب. كان عالماً بالأصول والفرائض والهيئة. درس وأفتى وصنف. وأقام بدمشق في نشر العلم. له تعاليق في الأصول. ابن تيمية الجد ( ... -652 هـ): (1) هو عبد السلام بن عبد الله بن الخضر، مجد الدين، الفقيه الحنبلي الإمام المقرئ المحدث الأصولي. ولد بحّران 590 هـ وحفظ بها القرآن. ثم رحل إلى بغداد فسمع بها من ابن سكينة وابن الأخضر وأقام بها ست سنين ثم رجع إلى حرّان فتلقى العلم على عمه فخر الدين، ثم عاد إلى بغداد، وأتقن العربية والحساب والجبر والفرائض والقراءات. وهو جد ابن تيمية المشهور، شيخ الإسلام. له (المحرر) في الفقه و (منتهى الغاية). ابن جماعة: (639 - 733 هـ) : (2) هو محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، الكناني، الحموي، الشافعي، بدر الدين. ولي الحكم والخطابة بالقدس، والقضاء بمصر. من تصانيفه: (المنهل الرويّ في الحديت النبويّ) و (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم) و (مستند الأجناد في آلات الجهاد)، ورسالة في (الأسطرلاب) وغيرها. ابن الجوزي (508 - 597 هـ) : (3) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزيّ القرشي البغدادي الحنبلي، أبو الفرج. واعظ بغداد. محدث مؤرخ. أحد المكثرين من التصنيف. له نحو 300 مصنف. له (أخبار الأذكياء) و (تلبيس إبليس) و (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) و (المجالس) و (تقويم اللسان). ابن الحاج ( ... -737 هـ): (4) هو محمد بن محمد بن محمد، ابن الحاج، المالكي، الفاسي. نزيل مصر، توفي بالقاهرة. له: (المدخل إلى الشرع الشريف) و (الأزهار الطيبة النشر). ابن حبان ( ... -354 هـ): (5) هو محمد بن حبان بن أحمد بن حبان، التميمي، أبو حاتم البستي. مؤرخ جغرافي محدث. من أهل بست في سجستان. أحد المكثرين   (1) معجم المؤلفين 5/ 227. الفتح المبين 2/ 68 (2) فوات الوفيات 2/ 174، البداية والنهاية 14/ 163، الأعلام للزركلي 6/ 189 (3) البداية والنهاية 13/ 28، مفتاح السعادة 1/ 207، الأعلام 4/ 90 (4) الدرر الكامنة 4/ 237، للأعلام للزركلي 7/ 264 (5) معجم البلدان 2/ 171، شذرات الذهب 3/ 16، الأعلام 6/ 307 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 من التصنيف. ولي القضاء بسمرقند. من كتبه (المسند الجامع الصحيح) المشهور بصحيح ابن حبان، و (روضة العقلاء) و (الثقات) و (علل أوهام أصحاب التواريخ). ابن حجر العسقلاني (773 - 852 هـ) : (1) هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني الشافعي، أبو الفضل شهاب الدين. أصله من عسقلان بفلسطين. ومولده ووفاته بالقاهرة. رحل في طلب الحديث ونبغ، فقصده الناس. قال السخاوي: انتشرت مصنفاته في حياته، وتهادتها الملوك والأكابر، ولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل. من مصنفاته: (الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة) و (تهذيب التهذيب) و (تقريب التهذيب) و (فتح الباري شرح صحيح البخاري) وغيرها. ابن حزم (384 - 456هـ) : (2) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الظاهري، الأندلسي. أحد أئمة الإسلام. انتسب إليه بالأندلس خلق كثير سموا الحزمية. كانت إليه رئاسة الوزارة وتدبير المملكة، فزهد فيها وانصرف إلى التأليف. انتقد آراء الأئمة وسفه أقوال بعضهم، وشُبِّه لسانه بسيف الحجاج. فطورد وأقصي عن بلده. له: (المحلى في الفقه) و (جمهرة الأنساب) و (الناسخ والمنسوخ) و (المفاضلة بين الصحابة) وغيرها. ابن خلاّد ( ... -360 هـ): (3) هو الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، الفارسي، محدث. كان من أصحاب الوزير المهلبي، له (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) و (أدب الناطق وغيرهما). ابن خلدون (732 - 808 هـ) : (4) هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد، أبو زيد الإشبيلي الحضرمي، فيلسوف مؤرخ اجتماعي. تولى أعمالاً رئاسية واعترضته دسائس ووشايات. ذهب إلى تونس فمصر وولي فيها قضاء المالكية. اثشهر بكتابه (العبر وديوان المبتدأ والخبر) و (بالمقدمة) وهي مقدمة كتاب العبر المذكور.   (1) البدر الطالع 87/ 1، دائرة المعارف الإسلامية 1/ 131 (2) نفح الطيب 1/ 364، دائرة المعارف الإسلامية 1/ 136 (3) يتيمة الدهر 3/ 333 الأعلام 2/ 209 (4) الضوء اللامع 4/ 145، نفح الطيب 4/ 414، الأعلام للزركلي 4/ 106 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 ابن خويز ( ... -390 هـ تقريباً): (1) هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن خويز، ويسمى أيضاً: ابن خويز منداد العراقي المالكي. فقيه أصولي. تفقه على الأبهري. وله اختيارات في أصول الفقه. من آثاره: كتاب كبير في الخلاف. كتاب في أصول الفقه. ابن دقيق العيد (702 هـ) : (2) هو محمد بن علي بن مطيع القشيري المنفلوطي المصري. أحاط بمذهب المالكية ثم انتقل إلى مذهب الشافعية فأحاط به. ولي فضاء الديار المصرية، يُعَدّ من أهل الاجتهاد. له (الإمام في شرح الإلمام) قال الزركشي في البحر المحيط: "به ختم الفن في علم الأصول". وله (الاقتراح في بيان الاصطلاح) و (شرح مقدمة المطرِّزيّ) في الأصول. ابن رشد (450 - 520 هـ) : (3) هو محمد بن أحمد بن رشد، القرطبي مولداً ووفاة. قاضي الجماعة بقرطبة. من أعيان المالكية. وهو جد ابن رشد الفيلسوف المشهور. من تأليفه: (المقدمات الممهدات) و (البيان والتحصيل) و (مختصر شرح معاني الآثار) للطحاوي. ابن سريح (249 - 306 هـ) : (4) هو أحمد بن عمر بن سُرَيج البغدادي، أبو العباس. فقيه الشافعية في عصره. له نحو 400 مصنف. ولي قضاء شيراز. وقام بنصرة المذهب الشافعي فنشره في الآفاق. يعد مجدد المئة الثالثة. ابن سعد (168 - 230 هـ) : (5) هو محمد بن سعد بن منيع، الزهري، مولاهم. مؤرخ ثقة، من حفاظ الحديث. ولد بالبصرة، وسكن بغداد. وعرف بكاتب الواقدي. أشهر كتبه (طبقات الصحابة) المعروف بطبقات ابن سعد. ابن سيده (398 - 458 هـ) : (6) هو علي بن إسماعيل بن سيده. لغوي. ولد بمرسيه بالأندلس. ومات بدانية. درس اللغة والأدب على أبيه، وصاعد، كان ضريراً   (1) الوافي بالوفيات 2/ 52، ومعجم المؤلفين، والديباج المذهب ص 268 (2) الأعلام 7/ 174، شذرات الذهب 6/ 5، البداية والنهاية 140/ 271 (3) أزهار الرياض 3/ 59، الديباج المذهب ص 278، الأعلام 6/ 210 (4) طبقات السبكي 2/ 87، تاريخ بغداد 4/ 287، الأعلام 1/ 179 (5) تهذيب التهذيب، 9/ 182 الوفيات 1/ 507، الأعلام 7/ 6 (6) معجم المؤلفين 7/ 36. الموسوعة العربية الميسرة. الأعلام للزركلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 واسع الحفظ يقول الشعر. له (الأنيق في شرح الحماسة) و (شرح مشكل شعر المتنبي) وأهم كتبه (المحكم) و (المخصص) وكلاهما في اللغة. ابن سيرين (33 - 110 هـ) : (1) هو محمد بن سيرين البصري، الأنصاري بالولاء، كان أبوه من سبي خالد بن الوليد وولاؤه لأنَس. وأمه مولاة أبي بكر. من أشراف الكتاب، كان في أذنه صمم .. معاصر للحسن البصري. أحد الطبقة الثانية من رواه الحديث، استقر بالبصرة واشتهر بالورع. وكان حجة في تعبير الرؤيا. وله فيها كتاب. وعنه أخذ النابلسي وغيره. ابن عبد السلام (577 - 660 هـ) : (2) هو عبد العزيز بن عبد السلام السُّلمي، عز الدين الملقب بسلطان العلماء. فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد. ولد ونشأ بدمشق. وزار بغداد. وعاد إلى دمشق فتولى الخطابة بالجامع الأموي. له (الإلمام في أدلة الأحكام) و (قواعد الأحكام من مصالح الأنام) و (الفتاوى) وغيرها. ابن عبدان ( ... -433 هـ): (3) هو عبد الله بن عبد الله بن محمد بن عبدان الهمذاني، أبو الفضل. فقيه شافعي. كان شيخ همذان ومفتيها. له (شرائط الأحكام) في الفقه. ابن العربي (468 - 543 هـ) : (4) هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي. قاضٍ من حفاظ الحديث. رحل إلى المشرق. ولي قضاء إشبيلية. قال ابن بشكوال: هو ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها. له (شرح الترمذي) و (أحكام القرآن) و (العواصم من القواصم) و (المحصول في أصول الفقه). ابن عقيل (431 - 513 هـ) (5): هو علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي، أبو   (1) معجم المؤلفين 10/ 59. الموسوعة العربية الميسرة. تهذيب التهذيب 9/ 214 (2) معجم المؤلفين 5/ 249. الأعلام للزركلي 4/ 145 (3) معجم المؤلفين 6/ 80. طبقات الشافعية. الأعلام للزركلي. (4) تهذيب التهذيب 9/ 214، تاريخ بغداد، 5/ 331، الأعلام 7/ 25 (5) نفح الطيب 1/ 340، الوفيات 1/ 489، الأعلام 7/ 106 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 الوفاء، الحنبلي. شيخ الحنابلة في وقته. كان قوي الحجة. اشتغل في حداثته بمذهب المعتزلة، وكان يعظم الحلاّج، فطورد واختفى. ثم أعلن توبته ورجع. أعظم تصانيفه كتاب (الفنون) في 400 جزء. وله (الفرق) و (الفصول في فقه الحنابلة) (1). ابن عليّة (110 - 193 هـ): (2) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، الأسدي بالولاء أبو بشر، بصري، من أكابر حفاظ الحديث. كوفي الأصل. تاجر. كان حجة في الحديث ثقة فيه. ولي صدقات البصرة. ثم ولي مظالم بغداد في آخر خلافة الرشيد. وكان يكره أن يقال له ابن عليّة، وعليّة أمه. ابن فورك ( ... -406 هـ) (3): هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر الشافعي. واعظ أصولي، متكلم. حدَّث بنيسابور، وبنى بها مدرسة. قتله محمود بن سبكتكين بالسم. مكثر من التصنيف. له: (مشكل الحديث) و (النظامي) و (الحدود في الأصول). ابن قاسم ( ... -992 هـ): هو أحمد بن قاسم الصباغ العبادي ثم المصري الشافعي الأزهري، شهاب الدين، له: (حاشية على شرح جمع الجوامع) في أصول الفقه. وله (شرح الورقات) (4). ابن قدامة (541 - 620 هـ) : هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، موفق الدين، الجماعيلي، المقدسي، الحنبلي، ولد بقضاء نابلس وانتقل في صغره إلى دمشق. وجاهد مع صلاح الدين، سافر إلى بغداد ثم رجع إلى دمشق. من أكابر الحنابلة. يسمى شيخ المذهب. كتابه (المغني) من أحسن ما ألف في الفقه من حيث الترتيب. و (الكافي) و (المقنع) و (العمدة) و (الاستبصار) وغيرها. ابن القيم (691 - 751 هـ) : هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، شمس الدين. من أركان الإصلاح الإسلامي. وأحد كبار العلماء. تتلمذ   (1) لسان الميزان 4/ 243، شذرات الذهب، 4/ 35، الأعلام 4/ 129 (2) تهذيب التهذيب 1/ 275، تذكرة الحفاظ 1/ 296، الأعلام 1/ 301 (3) طبقات الشافعية 3/ 52، النجوم الزاهرة 4/ 240، الأعلام 6/ 313 (4) شذرات الذهب 8/ 434، فهرس الأزهرية 2/ 7، الأعلام 1/ 189 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 على ابن تيمية وانتصر له ولم يخرج عن شيء من أقواله، وقد سجن معه بدمشق. جمع من الكتب قدراً عظيماً وكتب بخطه كثيراً. من كتبه: (الطرق الحكمية) و (مفتاح دار السعادة) و (الفروسية) وغيرها كثير (1). ابن اللحام (752 - 803 هـ) : هو علي بن محمد بن عباس بن شيبان علاء الدين، دمشقي، حنبلي، فقيه، أصولي. له: (القواعد الأصولية)، (اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية) (2). ابن مسعود ( ... -32 هـ): (3) هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، أبو عبد الرحمن، صحابي، من أكابر الصحابة فضلاً وعقلاً وقرباً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. من السابقين من أهل مكة. أول من جهر بقراءة القرآن بها. كان خادم رسول الله وصاحب سره ورفيقه في حله وترحاله. ولي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت مال الكوفة. ثم قدم المدينة ومات بها عن نحو ستين عاماً. كان قصيراً، يحب الإكثار من الطيب. ابن الملقن (723 - 804هـ) : (4) هو عمر بن علي بن أحمد، الأنصاري، الشافعي، سراج الدين، النحوي. محدث فقيه مؤرخ. أندلسي الأصل. نشأ بالقاهرة وتوفي بها. له: (غاية السول في خصائص الرسول) و (شرح زوائد مسلم على البخاري) و (تخريج أحاديث شرح الوجيز للرافعي). ابن المنذر (242 - 319 هـ) : (5) هو محمد بن إبراهيم بن المنذر، النيسابوري، فقيه مجتهد. كان شيخ الحرم بمكة. قال الذهبي: صاحب التصانيف التي لم يصنف مثلها. منها: (المبسوط) في الفقه و (الإشراف على مذاهب أهل العلم) و (اختلاف العلماء) و (تفسير القرآن). ابن منظور (630 - 711 هـ) : (6) هو محمد بن المكرم، لسان الدين الإفريقي.   (1) الدرر الكامنة 3/ 400 جلاء العينين ص20، الأعلام 6/ 281 (2) شذرات الذهب، 7/ 31 النعيمي، الدارس 2/ 42، معجم المؤلفين 7/ 206 (3) الإصابة 2/ 368 الأعلام للزركلي 4/ 280، الفتح المبين 1/ 69 (4) ذيل طبقات الحفاظ 197، 369، الضوء اللامع 6/ 100، الأعلام 5/ 218 (5) تذكرة الحفاظ 3/ 4، الوفيات 1/ 461، الأعلام 6/ 184 (6) معجم المؤلفين 12/ 46، الموسوعة العربية الميسرة، بغية الوعاة/ 106 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 لغوي مؤرخ. ولد بطرابلس الغرب، أو مصر. ومات بالقاهرة. خدم بديوان الإنشاء بالقاهرة، وولي قضاء طرابلس. كف بصره في آخر حياته. له رسائل وشعر. اختصر كثيراً من الكتب المطولة في الأدب والتاريخ. كالأغاني والعقد والذخيرة وتاريخ دمشق والحيوان للجاحظ، أشهر كتبه معجمه اللغوي المعروف (لسان العرب). ابن الهمام (790 - 861 هـ) : (1) هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود، السيواسي، ثم الإسكندري، كمال الدين، المعروف بابن الهمام. حنفي. عارف بأصول الدين والتفسير والفرائض، والفقه والحساب واللغة. له: (فتح القدير) في شرح الهداية: و (التحرير) في الأصول و (المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة). ابن واصل (604 - 697 هـ) : (2) هو محمد بن سالم بن نصر الله، المازني، التميمي، الحموي. مؤرخ منطقي، مهندس. عالم بالأصولين. اتصل بالملك الظاهر بيبرس فأرسله في سفارة إلى صقلية. من كتبه: (نخبة الفكر) في المنطق. و (مفرج الكروب في أخبار بني أيوب) و (تجريد الأغاني). أبو إسحاق المروزي ( ... -340 هـ): (3) هو إبراهيم بن أحمد. انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق بعد ابن سريج. مولده بمرو قصبة خراسان. أقام ببغداد وتوفي بمصر. له تصانيف منها (شرح مختصر المزني). أبو الحسين البصري ( ... -436 هـ): (4) هو محمد بن علي بن الطيب، أبو الحسن، البصري المعتزلي. أحد أئمة المعتزلة. ولد بالبصرة، وسكن ببغداد. وبها توفي. شهر بالذكاء، والديانة، على بدعته. من كتبه: (المعتمد في أصول الفقه) و (تصفّح الأدلة) و (غرر الأدلة) و (شرح الأصول الخمسة) وكتاب في (الإمامة). أبو الخطاب (432 - 510 هـ) : (5) هو محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني، أبو   (1) الضوء اللامع 8/ 127، الجواهر المضيئة 2/ 86، الأعلام 6/ 184 (2) بغية الوعاة ص 44، الوافي بالوفيات 3/ 85، الأعلام 7/ 3 (3) وفيات الأعيان 1/ 4، شذرات الذهب 2/ 355، الأعلام 1/ 32 (4) الوفيات 1/ 482، تاريخ بغداد 3/ 100، الأعلام 7/ 161 (5) المنهج الأحمد، اللباب 2/ 49، طبقات الحنابلة ص 409 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الخطاب. إمام الحنابلة في عصره. أصله من ضواحي بغداد. ومولده ووفاته ببغداد. من كتبه: (التمهيد) في أصول الفقه، و (الانتصار في المسائل الكبار) و (الهداية) في الفقه. أبو شامة (559 - 665 هـ) : (1) هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، الدمشقي، الشافعي، أبو القاسم شهاب الدين. مؤرخ محدث، باحث، أصله من القدس ومولده بدمشق، وبها وفاته غيلة. من كتبه: (الروضتين في أخبار الدولتين) و (تاريخ دمشق) و (كشف حال بني عبيد) و (الوصول) في الأصول. أبو الشعثاء (21 - 93 هـ) : (2) هو جابر بن زيد الأزدي البصري: تابعي فقيه من الأئمة. بصري أصله من عُمان. صحب ابن عباس. وصفه الشماخي بأنه أصل مذهب الإباضية. وأسُّه الذي قامت عليه آطامه. نفاه الحجاج إلى عمان. أبو عبد الله البصري ( ... -370 هـ): (3) هو محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي البصري. متكلم، وصحب أبا الحسن الأشعري، وقدم بغداد، ودرس عليه أبو بكر الباقلاني. له تصانيف في الأصول، منها (هداية المستنصر) و (معونة المستنصر). أبو يعلى (380 - 458هـ) : (4) هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء الحنبلي القاضي. شيخ الحنابلة. عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون. من أهل بغداد. ولاه الخليفة القائم قضاء دار الخلافة. من مؤلفاته: (الأحكام السلطانية) و (الكفاية) في أصول الفقه و (أحكام القرآن) و (تبرئة معاوية) و (المجرد في الفقه). أبو يوسف (113 - 182 هـ) : (5) هو يعقوب بن إبراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة. من أصل عربي. تولى رياسة الدرس بعد شيخه. أخذ عن مالك وكبار المحدثين. اشتغل بالقضاء وصار كبير القضاة في عهد الرشيد. وكان لهذا أثره في دعم   (1) الفوات 1/ 252، بغية الوعاة 297، الأعلام 4/ 70 (2) تذكرة الحفاظ 1/ 77، وتهذيب التهذيب 2/ 38، البداية والنهاية 9/ 93 (3) تاريخ بغداد 1/ 343، شذرات الذهب 3/ 74، معجم المؤلفين 9/ 20 (4) طبقات الحنابلة لابن المترجم 2/ 193 - 230، تاريخ بغداد 2/ 256، الأعلام 6/ 331 (5) معجم المؤلفين 3/ 340. الموسوعة العربية الميسرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 المذهب الحنفي ونشره. له كتب منها (الخراج) و (اختلاف ابن أبي ليلى) و (الرد على سير الأوزاعي). الأبياري (557 - 618 هـ) : (1) هو علي بن إسماعيل بن علي بن عطية الأبياري. مالكي. منسوب إلى بلدة (أبيار) بالغربية. فقيه أصولي محدث. ناب في القضاء. وهو من شيوخ ابن الحاجب. شرح (البرهان) للجويني. وله (سفينة النجاة) على نمط (الإحياء) للغزالي. وفضله بعضهم عليه. الأرموي (594 - 682 هـ) : (2) هو محمود بن أبي بكر بن حامد بن أحمد الأرموي التنوخي الدمشقي الشافعي، سراج الدين. فقيه أصولي متكلم منطقي من القضاة. أصله من أرمية من بلاد أذربيجان. قرأ بالموصل وسكن دمشق. له (شرح الوجيز) للغزالي، و (شرح الإشارات) لابن سينا، و (التحصيل) وهو مختصر المحصول للرازي. الإسفراييني، أبو حامد (344 - 406 هـ) : (3) هو أحمد بن محمد بن أحمد الإسفراييني، من أعلام الشافعية. ولد في أسفرايين قرب نيسابور، ورحل إلى بغداد، فتفقه فيها وعظمت مكانته. وألف كتباً، منها: (مطول في أصول الفقه)، ومختصر في الفقه سماه (الرونق) وتوفي ببغداد. الإسنوي (704 - 772 هـ) (4): هو عبد الرحيم بن حسن بن علي الإسنوي الشافعي، أبو محمد، جمال الدين، فقيه أصولي، نحوي. قدم من بلده إسنا إلى القاهرة سنة 721 هـ وانتهت إليه رئاسة الشافعية وولي الحسبة ووكالة بيت المال. من كتبه: (الأشباه والنظائر) و (الكوكب الدريّ في استخراج المسائل الشرعية من القواعد النحوية). (نهاية الراغب في العروض). الإصطخرى (244 - 328 هـ) : (5) هو الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن   (1) الفتح المبين 2/ 52 (2) طبقات السبكي 5/ 155، والأعلام 8/ 41، وهدية العارفين 2/ 406 (3) طبقات الشافعية 3/ 24، البداية والنهاية 12/ 2، الأعلام 1/ 203 (4) بغية الوعاة ص 304، البدر الطالع 1/ 352، الزركلي 4/ 119 (5) ابن النديم ص300، ابن خلكان 1/ 161، ابن كثير 11/ 193، الفتح المبين 1/ 178 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 الفضل بن بشار بن عبد الحميد، أبو سعيد، فقيه أصولي شافعي. من إصطخر، بلدة بفارس، من تلاميذه محمد بن المظفر، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو حفص بن شاهين. وهو من أقران ابن سريج. ولي قضاء قُمّ، وولي حسبة بغداد، له كتاب الفرائض الكبير، وكتاب (الشروط والوثائق والمحاضر والسجلات) في القضاء. توفي ودفن ببغداد. إلكيا الطبري (450 - 504 هـ) : (1) هو علي بن محمد بن علي أبو الحسن الهراسي، عماد الدين. فقيه شافعي مفسر. ولد في طبرستان. وسكن في بغداد، ودرس بالنظامية، ووعظ واتهم بالباطنية، وأراد السلطان قتله فحماه الخليفة المستظهر. من كتبه (أحكام القرآن). أم سليم ( ... -30 هـ؟) (2): هي الرميصاء بنت ملحان من بني النجار من الأنصار، وهي أم أنس بن مالك. حضرت حُنيناً وكان لها مواقف. تزوجها أبو طلحة بعد وفاة والد أنس، فكان مهرها إسلامه. توفيت في غزو قبرس. أمير بادشاه ( ... -987 هـ): (3) هو محمد أمين بن محمود البخاري أمير بادشاه، مفسر، فقيه صوفي من آثاره (تفسير سورة الفتح) و (رسالة في أن الحج يكفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها). الباقلاني (338 - 403هـ) : (4) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر، القاضي. من كبار علماء الكلام انتهت إليه رئاسة الأشاعرة. ولد بالبصرة وسكن بغداد، فتوفي بها. كان جيد الاستنباط، سريع الجواب. وجهه عضد الدولة سفيراً إلى القسطنطينية. فجرت له مناظرات مع علماء النصرانية. من كتبه (إعجاز القرآن) و (الإنصاف) و (الملل والنحل) و (تمهيد الدلائل) و (التقريب والإرشاد في أصول الفقه) قال عنه الزركشي: هو أجل كتاب في هذا الفن مطلقاً.   (1) وفيات الأعيان 1/ 327، الأعلام 5/ 149 (2) الإصابة 8/ 87، 153، 843، حلية الأولياء 2/ 57 (3) فهرست الخديوية 7/ 521، معجم المؤلفين 3/ 80 (4) وفيات الأعيان 1/ 481، الأعلام 7/ 46، البحر المحيط للزركشي (المقدمة). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 البخاري ( ... -730 هـ): (1) هو عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري: فقيه حنفي أصولي. من كتبه (شرح المنتخب الحسامي)، للأخسكيتي، و (شرح أصول البزدوي). البزدوي ( ... -482 هـ): (2) هو علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم، أبو الحسن فخر الإسلام. فقيه أصولي، من أكابر الحنفية، من سكان سمرقند، منسوب إلى (بزدة) قلعة بالقرب من (نسف). من تصانيفه: (المبسوط). و (كنز الوصول في أصول الفقه) وهو المعروف بأصول البزدوي و (تفسير القرآن). بشر الحافي (150 - 227 هـ) (3): هو بشر بن الحارث بن علي بن عبد الرحمن، المروزي، أبو نصر. من متقدمي الصوفية. له في الزهد والورع أخبار. من أهل مرو. سكن ببغداد وتوفي بها. البلقيني (724 - 805 هـ) : (4) هو عمر بن رسلان، سراج الدين. عسقلاني الأصل. ولد في بلقينة من غربية مصر. وتعلم بالقاهرة. مجتهد حافظ للحديث. ولي قضاء الشام 769 هـ. من كتبه: (التدريب في فقه الشافعية). و (تصحيح المنهاج)، و (مناسبات تراجم أبواب البخاري). البيضاوي ( ... -685 هـ): (5) هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي، أبو سعيد، ناصر الدين، البيضاوي. ولد في مدينة البيضاء (بفارس، قرب شيراز) وولي قضاء شيراز مدة. وصرف عن القضاء، فرحل إلى تبريز فتوفي بها. من كتبه: تفسيره المشهور. و (موضوعات العلوم وتعاريفها). و (الغاية القصوي في دراية الفتوى). التفتازاني (712 - 791هـ) : (6) هو مسعود بن عمر بن عبد الله، سعد الدين   (1) الفوائد البهية ص 94. فهرس الأزهرية 2/ 70، الأعلام 4/ 137 (2) الفوائد البهية ص 124، مفتاح السعاة 2/ 54، الأعلام 5/ 148 (3) تاريخ بغداد 7/ 67 - 80، الحلية 8/ 336، الزركلي 2/ 26 (4) ذيل طبقات الحفاظ. شذرات الذهب 7/ 51، الأعلام 5/ 205 (5) البداية والنهاية 13/ 309، مفتاح السعادة 1/ 436، الأعلام 2/ 249 (6) بغية الوعاة ص391، الدرر الكامنة 4/ 350، الزركلي 8/ 113 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 من أئمة الأصول والعربية والبيان والمنطق. ولد بتفتازان من بلاد خراسان وأبعده تيمور لنك إلى سمرقند فتوفي بها. من كتبه: (المطول) في البلاغة. و (مقاصد الطالبين) و (شرحه). و (حاشية الكشاف). و (شرح الأربعين النووية). التهانوي ( ... - بعد 1158 هـ): (1) هو محمد بن علي بن محمد حامد الفاروقي، الحنفي، باحث هندي استوعب العلوم المختلفة، وألفّ بفروعها ومصطلحاتها، ويعرف بمعجمه الكبير (كشاف اصطلاحات الفنون) الذي يشتمل على مصطلحات العلوم المختلفة المتداولة. من الفلسفة والرياضة والأصول والفقه وغيرها. وله (سبق الغايات في نسق الآيات). التميمي (317 - 371هـ) : (2) هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود، أبو الحسن. فقيه، حنبلي، أصولي فرضي. له تصانيف في الفقه والفرائض. الثوري (97 - 161 هـ) (3): هو سفيان بن مسروق الثوري، من بني ثور بن عبد مناة، أبو عبد الله، هو أمير المؤمنين في الحديث. كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى. ولد ونشأ بالكوفة. وأراده المنصور على القضاء فأبى. وسكن مكة والمدينة فطلبه فتوارى. وانتقل إلى البصرة فمات بها مستخفياً. من كتبه: (الجامع الصغير). و (الجامع الكبير). كلاهما في الحديث. وكتاب في الفرائض. الجبائي، أبو علي (235 - 303هـ) : (4) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي. من أئمة المعتزلة. ورئيس علماء الكلام في عصره. تنسب إليه طائفة الجبائية. ينسب إلى (جبي) من قرى البصرة. اشتهر بالبصرة. ودفن بقريته. له تفسير حافل مطول. رد عليه الأشعري. الجصاص ( ... -370 هـ): هو أحمد بن علي الرازي، أبو بكر، الجصاص. من   (1) معجم المؤلفين 11/ 47، الموسوعة العربية الميسرة، الأعلام 7/ 188 (2) تاريخ بغداد 10/ 461، البداية والنهاية 11/ 298، معجم المؤلفين 5/ 244 (3) الوفيات 1/ 210، الحلية 6/ 356، الأعلام 3/ 158 (4) وفيات الأعيان 1/ 480، البداية والنهاية 11/ 125، الأعلام 7/ 136 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 أهل الري. سكن بغداد، ومات بها. انتهت إليه رياسة الحنفية. وخوطب في أن يلي القضاء فامتنع. ألف كتاب (أحكام القرآن) وكتاباً في أصول الفقه (1). جولد زيهر، أجناس (1266 - 1340 هـ) : (2) مستشرق مجري يهودي تعلم في بودابست. ورحل إلى سورية فتعرف بالشيخ طاهر الجزائري ولازمه مدة. وانتقل إلى مصر حيث لازم بعض علماء الأزهر. نشر بعض المؤلفات العربية القديمة، وترجم بعض الكتب العربية إلى الألمانية. له (العقيدة والشريعة في الإسلام). ومقالات في دائرة المعارف الإسلامية. وكتاب عن الظاهرية. و (مذاهب التفسير الإسلامي). الجويني (419 - 478 هـ) : (3) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين. شافعي. بنى له الوزير نظم الملك المدرسة النظامية بنيسابور. من تصانيفه (العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية) و (البرهان في أصول الفقه) و (نهاية المطلب في دراية المذهب) في فقه الشافعية. و (الإرشاد) في العقيدة، و (الورقات) في الأصول. حاجي خليفة (1017 - 1067 هـ) : (4) هو مصطفى بن عبد الله كاتب حلبي. مؤرخ بحاثة. تركي الأصل. مولده ووفاته بالقسطنطينية. تولى أعمالاً كتابية له الجيش العثماني. ذهب إلى بغداد 1033 هـ. ورحل إلى ديار بكر والشام وحلب ومكة. وانقطع بعد إلى تدريس العلوم. له (كشف الظنون) و (تحفة الكبار في أسفار البحار). و (سلم الوصول إلى طبقات الفحول). الحارث المحاسبي ( ... -243 هـ): (5) هو الحارث بن أسد المحاسبي. كان صوفياً كبيراً. عالماً بالأصول والمعاملات. واعظاً. ولد بالبصرة. ونشأ بها ومات ببغداد. له (آداب النفوس) و (شرح المعرفة) و (الرعاية لحقوق الله).   (1) تاج التراحم. الجواهر المضية 1/ 84، الأعلام 1/ 65 (2) العقيدة والشريعة -الترجمة العربية- المقدمة، الأعلام 1/ 80، الموسوعة العربية الميسرة. (3) الأعلام للزركلي 4/ 306 (4) مقدمة كشف الظنون دائرة المعارف الإسلامية 7/ 235، الأعلام 8/ 138 (5) معجم المؤلفين3/ 174، الأعلام 2/ 153 ابن خلكان 1/ 126 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 الحليمي (338 - 403هـ) : (1) هو الحسن بن حسن بن محمد بن حليم، البخاري، الجرجاني. فقيه شافعي، قاض. كان رئيس أهل الحديث في ما وراء النهر. مولده بجرجان ووفاته في بخاري. له (المنهاج في شعب الإيمان). خالد الأزهري (838 - 905 هـ) : (2) هو خالد عبد الله بن أبي بكر. جرجاوي، أزهري نحوي. نشأ وعاش في القاهرة. له مجموعة كتب في النحو منها (التصريح على التوضيح) وهو شرح لشرح ابن هشام المسمى (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك) وله (الألغاز النحوية) وغيرها. الخطابي ( ... -388 هـ): هو حَمْدُ بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، أبو سليمان، فقيه محدث، من أهل (بست) من بلاد كابل من نسل زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب. من كتبه: (معالم السنن) في شرح سنن أبي داود و (إصلاح غلط المحدثين). و (شرح البخاري) (3). الدهلوي (1110 - 1176 هـ) : هو أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي الملقب بشاه ولي الله. فقيه حنفي من المحدثين. قيل فيه: أحيا الله به وبأولاده وأولاد بناته وتلاميذه الحديث والسنة بالهند بعد موتهما، وعلى كتبه وأسانيده المدار في تلك الديار. له: (الفوز الكبير في أصول التفسير) و (إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء)، و (الإنصاف في أسباب الخلاف)، و (حجّة الله البالغة) في حكمة التشريع. ترجم معاني القرآن إلى الفارسية (4). الرازي (543 - 606 هـ) : هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسن التيمي البكري، فخر الدين الرازي: إمام مفسر أصولي، واعظ، وهو قرشيّ النسب. ولد بطبرستان، ومولده بالري. ورحل إلى خوارزم وخراسان. كان يحسن الفارسية ويقول بها الشعر من كتبه: (مفاتيح الغيب) في التفسير. و (المباحث المشرقية). و (الأربعون في أصول الدين). و (تعجيز الفلاسفة) (5).   (1) الرسالة المستطرفة 44، الأعلام 2/ 252 (2) معجم المؤلفين 4/ 96، الأعلام 2/ 339، والضوء اللامع 3/ 181 (3) الوفيات 1/ 166، يتيمة الدهر 4/ 231، الزركلي 2/ 204 (4) ذيل كشف الظنون 1/ 65، 161، الأعلام 1/ 144 (5) الوفيات 1/ 474، لسان الميزان 4/ 426، الأعلام 7/ 203 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الرَّوياني (415 - 502 هـ): (1) هو عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد، من رويان وهي قرية في طبرستان. فقيه شافعي. رحل إلى بخاري وغزنة ونيسابور والريّ. وبنى مدرسة في آمل. فتعصب عليه جماعة فقتلوه فيها. وله (بحر المذهب) من أوسع كتب الشافعية، و (الكافي) و (حلية المؤمن). الزركشي (745 - 794 هـ) : (2) هو محمد بن بهادر بن عبد الله، أبو عبد الله الزركشي، بدر الدين. عالم بفقه الشافعية والأصول. تركي الأصل. مصري المولد والوفاة. له: (لقطة العجلان) و (إعلام الساجد بأحكام المساجد) و (المنثور) وهو المعروف بقواعد الزركشي، و (البحر المحيط في أصول الفقه). زكريا الأنصاري (826 - 926 هـ) : (3) هو زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الشافعي. لقب بقاضي القضاة. وبشيخ الإسلام. ولد بالشرقية ثم انتقل إلى القاهرة، وأقام بالأزهر. قال عنه ابن حجر الهيتمي: أجل من وقع عليه بصري من العلماء العاملين والأئمة الوارثين. له (أسنى المطالب) و (منهج الطلاب) في الفقه، و (لب الأصول) وشرحه (غاية الوصول). الزيدية : (4) شيعة تنسب إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وتقابل الإمامية، والزيدية أقرب من الإمامية إلى السنة لاعترافهم بإمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. رأس الطائفة بعد زيد ابنه يحيى. ومنهم الآن باليمن وغيرها. والإمامة عندهم محصورة في ذرية علي من فاطمة. وليست بالوراثة، وإنما هي للأصلح منهم. وآخر من حكم اليمن منهم البدر بن يحيى حميد الدين. السبكي (727 - 771 هـ) : (5) هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، تاج الدين، شافعي، فقيه أصولي مؤرخ أديب ناظم، ولد بالقاهرة، وقدم دمشق مع   (1) وفيات الأعيان 1/ 297، ومرآة الزمان 8/ 29، وطبقات الشافعية 4/ 246 (2) الدرر الكامنة 3/ 397، كشف الظنون 125، الأعلام 6/ 286 (3) شذرات الذهب 8/ 34، معجم سركيس ص 483 (4) الموسوعة العربية الميسرة. (5) الدرر الكامنة 2/ 425، شذرات الذهب 6/ 221، البدر الطالع 1/ 410، معجم المؤلفين 6/ 226 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 والده، ولزم الذهبي وتخرج به، وولي بها القضاء وخطابة الجامع الأموي. له (طبقات الشافعية)، و (رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب) و (شرح منهاج الأصول) للبيضاوي، و (جمع الجوامع). السرخسي ( ... -483 هـ): هو محمد بن أحمد بن سهل، أبو بكر، شمس الأئمة. من كبار الحنفية. مجتهد. له (المبسوط) في الفقه الحنقي، و (شرح الجامع الكبير)، و (شرح السير الكبير) (1). السمعاني (426 - 489 هـ) : (2) هو منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد المروزي السمعاني، أبو المظفر التميمي. كان حنفياً ثم انتقل إلى مذهب الشافعي. من أهل مرو. محدث. مفسر. قدمه نظام الملك. من كتبه: (تفسير السمعاني) و (الانتصار لأصحاب الحديث) و (المنهاج لأهل السنة). و (الاصطلام) في الرد على الدبوسي. سهل التستري (200 - 283 هـ) : هو سهل بن عبد الله بن يونس التستري، أبو محمد أحد أئمة الصوفية والمتكلمين في الإخلاص والرياضة وعيوب الأفعال. له: (تفسير القرآن) و (دقائق المحبين) (3). السهيلي (508 - 581 هـ) : (4) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد، الخثعمي. السهيلي، منسوب إلى (سهيلة) قرية بالقرب من مالقة بالأندلس. مؤرخ، محدث حافظ، نحوي لغوي. أخذ عن ابن العربي وغيره. طلبه والي مراكش. وأحسن إليه وأقبل عليه وأقام بها ثلاثة أعوام ثم توفي. له (شرح جمل الزجاجي) و (الروض الأنف) وهو شرح لسيرة ابن هشام، و (مسألة رؤية الله عز وجل). السيوطي (849 - 911 هـ) (5): عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين. مؤلف. مولده ووفاته بالقاهرة. تنقل في مدن مصر والشام والحجاز واليمن والهند والمغرب طلباً   (1) الجواهر المضيئة 2/ 28، الفوائد البهية ص 158 (2) النجوم الزاهرة 5/ 160، مفتاح السعادة 2/ 191، الأعلام 8/ 244 (3) طبقات الصوفية 206، الوفيات1/ 218، الأعلام 3/ 210 (4) وفيات الأعيان 1/ 351، البداية والنهاية 2/ 318، معجم المؤلفين 5/ 147 (5) الموسوعة العربية الميسرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 للعلم. وألم بجميع علوم الثقافة الإسلامية في عصره، وخاصة التفسير والحديثه والفقه واللغة والبلاغة والنحو. درس في جامع ابن طولون والشيخونية والبيبرسية. أخرج نحو 600 مصنف تقوم أهميتها على ما تعطينا من معلومات من كتب لم تصل إلينا، له (المزهر في اللغة) و (الاتقان في علوم القرآن) و (الأشباه والنظائر في القواعد الفقهية) و (طبقات المفسرين). الشربيني ( ... -1326 هـ): هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الشربيني. مصري فقيه شافعي أصولي. ولي مشيخة الأزهر 1322 - 1324 هـ. كان ورعاً زاهداً لم يتزلف لكبير. له: (تقرير على جمع الجوامع) و (تقرير على شرح تلخيص المفتاح) (1). شريح (42 ق. هـ-78 هـ) : (2) شريح بن الحارث بن معاوية بن عامر الكنْدي. لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو من كبار التابعين. كان محسناً كريماً. اختاره الإمام أمير المؤمنين عمر، قاضياً على الكوفة. وظلّ عليها طيلة دولة الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية حتى ولي الحجاج العراق فاستعفاه فأعفاه. الشوكاني (1173 - 1250هـ) : (3) هو محمد بن علي بن محمد الشوكاني الصنعاني اليماني الفقيه المجتهد المحدث الأصولي المفسر، نشأ بصنعاء، وهو من أهل شوكان قرية بينها وبين صنعاء مسيرة يوم. حفظ كثيراً من المتون. وبلغ رتبة الاجتهاد. ولقب بشيخ الإسلام. تفقه على المذهب الزيدي ولكنه خلع التقليد وأخذ يدعو إلى الاجتهاد والاتباع. له (فتح القدير) في التفسير، و (إرشاد الفحول) في الأصول. و (نيل الأوطار) في الحديث. وغيرها. الشيرازي (393 - 476 هـ) : (4) هو إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله، أبو إسحاق. فقيه أصولي شافعي مؤرخ أديب، ولد بفيروز أباد قرب شيراز ونشأ بها ثم انتقل إلى شيراز. أخذ عن أبي عبد الله البيضاوي وابن رامين. ثم انتقل إلى بغداد لطلب العلم.   (1) فهرس الأزهرية 2/ 19، معجم المطبوعات 1110، الأعلام 4/ 110 (2) ابن خلكان 1/ 281، دائرة وجدي 5/ 373، الفتح المبين 1/ 85 (3) الأعلام 3/ 953، وسركيس ص 1160، الفتح المبين 3/ 145 (4) طبقات السبكي 3/ 88، ابن خلكان 1/ 5، ابن كثير 12/ 124 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 صدر الشريعة ( ... -747 هـ): (1) هو عبيد الله بن مسعود بن محمود بن أحمد المحبوبي البخاري الحنفي. من علماء الحكمة والطبيعيات والأصول. من كتبه: (تعديل العلوم) و (شرح الوقاية)، و (الوشاح في علم المعاني). الصغاني (577 - 650 هـ) : (2) هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر، رضي الدين. أعلم أهل عصره باللغة. كان فقيهاً محدثاً. ولد في لاهور بالهند. ونشأ بغزنة ودخل بغداد. ورحل إلى اليمن. وتوفي في بغداد. من كتبه: (مجمع البحرين) و (مشارق الأنوار)، في الحديث. و (شرح صحيح البخاري). الصنعاني (1099 - 1182هـ) : (3) هو محمد بن إسماعيل بن صلاح الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير، محدث فقيه أصولي مجتهد متكلم من أئمة اليمن. رحل إلى الحرمين. له (سبل السلام شرح بلوغ المرام) و (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد)، وغيرهما. الصيرفي ( ... -330 هـ): (4) هو محمد بن عبد الله الصيرفي، أبو بكر، بغدادي، شافعي، أصولي، متكلم، محدث. تفقه على ابن سريج وسمع الحديث. له: (شرح رسالة الشافعي) فى الأصول و (دلائل الإعلام في أصول الأحكام) وكتاب في الإجماع. وكتاب في الشروط. الطحاوي (239 - 321هـ) : (5) هو أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي أبو جعفر، من (طحا) بالصعيد، انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، تفقه بمذهب الشافعي، ثم تحوّل حنفياً، وهو ابن أخت المزني صاحب الشافعي. له (شرح معاني الآثار) و (مشكل الآثار) و (أحكام القرآن) و (اختلاف الفقهاء).   (1) الفوائد البهية 109، فهرس الأزهرية 2/ 24، 199، الأعلام 4/ 354 (2) الفوائد البهية 63، النجوم الزاهرة 7/ 26، الأعلام 2/ 232 (3) معجم المؤلفين 9/ 56 والبدر الطالع 2/ 133 (4) طبقات الشافعية 2/ 169، مفتاح السعادة 2/ 178، معجم المؤلفين 10/ 220 (5) طبقات الحفاظ للسيوطي. البداية والنهاية 11/ 174، الأعلام 1/ 197 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 العاقولي (733 - 797 هـ) : (1) هو محمد بن محمد بن عبد الله الواسطي البغدادي، غياث الدين، أبو المكارم. عالم بغداد ومدرسها. انتهت إليه الرياسة في العلم والتدريس. ولما دخل تيمورلنك بغداد هرب منه فنهبت أمواله: ورجع بعد ذلك فتوفي بها. من كتبه: (شرح منهاج البيضاوي). و (شرح مصابيح البغوي). و (كفاية الناسك في معرفة المناسك). عبد الله بن سعد بن أبي السرح ( ... -37 هـ): قرشي عامري. فاتح إفريقية. من أبطال الصحابة كان من كتاب الوحي. كان على ميمنة عمرو بن العاص في فتح مصر وُلي مصر سنة 25 هـ وبقي عليها 12 سنة، زحف خلالها إلى إفريقية وتحت إمرته الحسن والحسين ابنا عليّ، وابن عباس، وعقبة بن نافع. ووصل طنجة. وغزا الروم بحراً. وظفر بهم في معركة ذات الصواري. اعتزل أيّام صفين. ومات بعسقلان (2). عبد الجبار الهمداني ( ... -415 هـ) (3): هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني الأسد آبادي، أبو الحسن. قاضٍ، أصولي. كان شيخ المعتزلة في عصره. يلقبونه قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره. ولي قضاء الري ومات فيها. من تصانيفه (تنزيه القرآن عن المطاعن). و (الأمالي). عبد الرحمن بن مهدي (135 - 198 هـ) : (4) هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري البصري اللؤلؤي، من كبار حفاظ الحديث. حدث ببغداد، ومولده ووفاته بالبصرة. قال الشافعي: "لا أعرف له نظيراً في الدنيا". عبد الوهاب خلاف (1306 هـ- ... ؟): (5) ولد بكفر الزيات بالغربية. حفظ القرآن ببلده ثم انتقل إلى الأزهر وحضر على الشيخ عبد الله دراز ومحمد عبده. والتحق بمدرسة القضاء الشرعي. ثم عين قاضياً شرعياً، ودرَّس الشريعة بجامعة فؤاد. له (علم أصول الفقه) و (حلقات في الدراسات العليا في الأصول).   (1) الدرر الكامنة 4/ 194، هدية العارفين 2/ 175، الأعلام 7/ 272 (2) أسد الغابة 3/ 173، النجوم الزاهرة 1/ 7 - 94، الأعلام 4/ 220 (3) تاريخ بغداد 11/ 131، معجم المطبوعات 1269، الأعلام 4/ 47 (4) تهذيب التهذيب 6/ 279، تاريخ بغداد 10/ 240، الأعلام 4/ 115 (5) الفتح المبين 3/ 207 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 العضد ( ... -756 هـ): هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، عضد الدين الإيجي. من أهل (إيج) بفارس. عالم بالأصول والمعاني والعربية. جرت له محنة مع صاحب كرمان فسجنه بالقلعة، ومات فيها. نُبِزَ بالعظائم. له: (أشرف التواريخ). و (الفوائد الغياثية في المعاني والبيان والبديع). و (جواهر الكلام)، وهو مختصر لكتابه: (المواقف) (1). العلائي (694 - 761 هـ) : (2) خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي المحدث الدمشقي، أبو سعيد، صلاح الدين، محدث فاضل باحث تعلم في دمشق، ورحل رحلة طويلة. أقام بالقدس مدرساً بالصلاحية سنة 731 هـ وتوفي بها. من كتبه (المجموع المذهب في قواعد المذهب). و (المجالس المبتكرة). و (الوشي المعلم)، و (الأربعين في أعمال المتقين). علي المتقي الهندي (888 - 975 هـ) (3): هو علي بن حسام الدين عبد الملك الجونبودي، علاء الدين، محدث واعظ. أصله من بلاد الدكن بالهند، سكن المدينة ومكة، له (كنز العمال) و (إرشاد العرفان) و (الرقّ المرقوم في غايات العلوم). (الشيخ) عُليش (1217 - 1299هـ) (4): محمد بن أحمد بن محمد عليش. فقيه أصله من طرابلس الغرب، ولد بالقاهرة، وتعلم بالأزهر، وولي مشيخة المالكية به، ثم توفي بالسجن لاتهامه بممالأة عرابي. له: (شرح السنوسية في العقائد). و (منح الجليل على مختصر خليل). وغير ذلك. عياض، القاضي (476 - 544 هـ) (5): عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي. عالم المغرب وإمام الحديث في وقته. كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم. ولي قضاء سبتة ثم قضاء غرناطة. من كتبه: (شرح صحيح   (1) مفتاح السعادة 1/ 169. الدرر الكامنة 2/ 322، الأعلام 4/ 66 (2) الدرر الكامنة 2/ 90، الأنس الجليل 12/ 451، الأعلام 2/ 370 (3) معجم المؤلفين 7/ 59، وشذرات الذهب 8/ 379، وكشف الظنون 1/ 561 (4) ذيل كشف الظنون 1/ 271، معجم المطبوعات 1372، الأعلام 6/ 244 (5) وفيات الأعيان 1/ 392، مفتاح السعادة 2/ 19، الأعلام 5/ 282 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 مسلم). و (مشارق الأنوار على صحاح الآثار). و (ترتيب المدارك) وهو تراجم لأعلام المالكية والشفا في حقوق المصطفى). الفاطميون : (1) فرقة من غلاة الشيعة، من الباطنية. بدأَ أمرها على يد أبي عبيد الله الشيعي الذي قضى على نفوذ الأدارسة بفاس المغرب، وشيّد المهدية بقرب القيروان فكانت حاضرتهم. نادى بنفس خليفة. وهاجم مصر. واستطاع (المعزّ) من خلفائه أن يفتح مصر ويؤسس القاهرة واتخذها عاصمته. وقد استطاعوا أن يبسطوا سلطانهم في بعض الأوقات على شمال أفريقيا وبلاد الشام وغيرها. قضى عليهم صلاح الدين الأيوبي. القرافي ( ... -684 هـ): (2) هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله، الصنهاجي البهنسي شهاب الدين، ولد بالبهنسا، وأخذ عن العز بن عبد السلام، وعن ابن الحاجب والفاكهاني وغيرهم. له (التنقيح) في الأصول، و (شرح المحصول) و (الذخيرة في الفقه) وغيرها كثير. القرطبي ( ... -671 هـ): (3) هو محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، المالكي، من كبار المفسرين: رحل إلى المشرق، واستقر بمصر. له (الجامع لأحكام القرآن) المشهور بتفسير القرطبي، و (الأسنى في شرح الأسماء الحسنى) و (التذكرة بأحوال الآخرة). القشيري (376 - 465 هـ) : هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة، أبو القاسم، النيسابوري القشيري. من بني قشير بن كعب. كان شيخ خراسان زُهداً وعلماً. وكان السلطان ألب أرسلان يقدمه ويكرمه. من كتبه: (التيسير في التفسير) و (لطائف الإشارات). و (الرسالة القشيرية) (4). القفال (291 - 365 هـ) : (5) هو محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير   (1) الموسوعة العربية الميسرة. (2) الشجرة الزكية ص 188، الفتح المبين 2/ 87 (3) مقدمة تفسيره الجامع لأحكام القرآن، نفح الطيب 1/ 428، الأعلام 5/ 218 (4) طبقات السبكي 3/ 243 - 248، مفتاح السعادة 1/ 438، الأعلام 4/ 180 (5) طبقات السبكي 2/ 176، شذرات الذهب 3/ 51، الفتح المبين 2/ 201 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 الشاشي، أبو بكر. ولد بالشاش. رحل في طلب العلم إلى العراق والشام وخراسان والحجاز. أخذ عن ابن خزيمة ومحمد بن جرير والمدائني وغيرهم. كان شاعراً فصيحاً، إماماً في الزهد والورع. وعنه انتشر مذهب الشافعي فيما وراء النهر. كان يميل أولاً إلى الاعتزال ثم رجع إلى مذهب أهل السنة. له كتاب في الأصول. وله شرح رسالة الشافعي. وآداب القضاء. وغيرهما. الكرّامية: (1) فرقة من أهل البدع تنسب إلى محمد بن كرَّام الذي نشأ في سجستان، وتوفي ببيت المقدس (255 هـ). وينسب إليهم من التجسيم، أنهم يذهبون إلى أن الله محدود من جهة العرش. وأن لا شيء يحدث في العالم قبل حدوث أعراض في ذاته. عرفوا بالزهد والعمل على نشر الإسلام. كثر أتباعهم في خراسان وما وراء النهر وببيت المقدس حتى القرن السابع الهجري. الكرخي (260 - 340 هـ) : هو عبيد الله بن الحسين، أبو الحسن. فقيه، انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق، مولده بالكرخ، ووفاته ببغداد. من كتبه: (رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية). و (شرح الجامع الصغير). و (شرح الجامع الكبير) (2). المازري (453 - 536 هـ) : (3) هو محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، أبو عبد الله، محدث، من فقهاء المالكية، نسبته إلى مازر، بجزيرة صقلية، ووفاته بالمهدية. من كتبه (المعلم بفوائد مسلم) و (الكشف والإنباء في الرد على الأحياء) للغزالي، (إيضاح المحصول في الأصول). المحلي (791 - 964 هـ) : هو محمد بن أحمد بن إبراهيم المحلي الشافعي، جلال الدين، أصولي مفسر. مولده ووفاته بالقاهرة. قيل فيه: تفتازاني العرب. كان مهيباً صداعاً بالحق، يواجه الظلمة والحكام بذلك. عرض عليه القضاء الأكبر فامتتع. له:   (1) الموسوعة العربية الميسرة. الأعلام 7/ 236، الملل والنحل للشهرستاني، بهامش الفصل لابن حزم 1/ 144 (2) الفوائد البهية 107، فهرس الأزهرية 2/ 45، الأعلام 4/ 347 (3) وفيات الأعيان 1/ 486، أزهار الرياض 3/ 165، الأعلام 7/ 164 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 (كنز الراغبين في شرح منهاج المتقين) و (البدر الطالع في حل جمع الجوامع)، و (الطب النبوي) (1). محمد بن الحسن الشيباني (131 - 189 هـ) : (2) ولد بواسط في العراق. ونشأ بالكوفة فحفظ القرآن. ثم سمع على أئمة الحديث وحضر على الإمام أبي حنيفة، ثم بعده على أبي يوسف. وسمع من مالك والشافعي والأوزاعي والثوري. وكان إماماً في الفقه والعربية. ولي قضاء الرقّة للرشيد. ثم أعفاه منه. فقدم بغداد ولازم الرشيد. فمات بصحبته، ودفن بالرّيّ. له (المبسوط) في فروع الفقه. و (الزيادات) و (الآثار) و (السير). محمد خليل هراس ( ... -1392 هـ؟): فاضل من أهل طنطا بمصر تخرج في الأزهر ودرّس بكلية الشريعة بالرياض. ثم عاد إلى التدريس بكلية أصول الدين بالأزهر، كان سلفي العقيدة، داعية محبّاً للعلم مكرماً لطلبته. له (شرح العقيدة الواسطية) لابن تيمية. وتعليقات على (الخصائص) للسيوطي وغيرها. النحّاس ( ... -338 هـ) (3): هو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس، المرادي المصري، أبو جعفر، نحوي لغوي مفسر أديب وفقيه. رحل إلى بغداد. فأخذ عن المبّرد والأخفش والزجاج وغيرهم ثم عاد إلى مصر فأقام بها إلى أن توفي. من تصانيفه (معاني القرآن) و (أخبار الشعراء) و (الناسخ والمنسوخ) و (تفسير القرآن).   (1) شذرات الذهب 7/ 303، الضوء اللامع 7/ 39 - 41، الأعلام 5/ 230 (2) الفهرست لابن النديم ص 287، ابن خلكان 1/ 574، الفتح المبين 1/ 110 (3) معجم الأدباء 4/ 224، وإنباه الرواة 1/ 101، ومعجم المؤلفين 2/ 82 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288